المعجم فی فقه لغه القرآن و سر بلاغته المجلد 3

اشارة

عنوان و نام پديدآور : المعجم فی فقه لغه القرآن و سر بلاغته/ اعداد قسم القرآن لمجمع البحوث الاسلامیه؛ بارشاد و اشراف محمد واعظ زاده الخراسانی.

مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی، 1419ق. = -1377.

مشخصات ظاهری : ج.

فروست : الموسوعة القرآنیة الکبری.

شابک : دوره 964-444-179-6 : ؛ دوره 978-964-444-179-0: ؛ 1430000 ریال (دوره، چاپ دوم) ؛ 25000 ریال: ج. 1 964-444-180-X : ؛ 30000 ریال: ج. 2 964-444-256-3 : ؛ 32000 ریال: ج. 3 964-444-371-3 : ؛ 67000 ریال (ج. 10) ؛ ج.12 978-964-971-136-2 : ؛ ج.19 978-600-06-0028-0 : ؛ ج.21 978-964-971-484-4 : ؛ ج.28 978-964-971-991-7 : ؛ ج.30 978-600-06-0059-4 : ؛ 1280000 ریال: ج.36 978-600-06-0267-3 : ؛ 950000 ریال: ج.37 978-600-06-0309-0 : ؛ 1050000 ریال: ج.39 978-600-06-0444-8 : ؛ 1000000 ریال: ج.40 978-600-06-0479-0 : ؛ ج.41 978-600-06-0496-7 : ؛ ج.43 978-600-06-0562-9 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : جلد سی و ششم تا چهلم باشراف جعفر سبحانی است.

يادداشت : جلد سی و ششم با تنقیح ناصر النجفی است.

يادداشت : جلد سی و هفتم تا چهل و سوم با تنقیح علیرضا غفرانی و ناصر النجفی است.

يادداشت : مولفان جلد چهل و یکم ناصر نجفی، محمدحسن مومن زاده، سیدعبدالحمید عظیمی، سیدحسین رضویان، علی رضا غفرانی، محمدرضا نوری، ابوالقاسم حسن پور، سیدرضا سیادت، محمد مروی ...

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: 1420ق. = 1378).

يادداشت : ج. 3 (چاپ اول: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج.3 (چاپ دوم: 1429ق. = 1387).

يادداشت : ج. 10 (چاپ اول: 1426ق. = 1384).

يادداشت : ج.21 (چاپ اول: 1441ق.=1399) (فیپا).

يادداشت : ج.36 (چاپ دوم : 1440ق.=1398)(فیپا).

يادداشت : ج.37 (چاپ اول : 1440ق.=1397)(فیپا).

يادداشت : ج.39 (چاپ اول: 1441ق.=1399) ( فیپا).

يادداشت : ج.40 - 41(چاپ اول: 1442ق.= 1399) (فیپا).

يادداشت : جلد دوازدهم تا پانزدهم این کتاب در سال 1398 تجدید چاپ شده است.

يادداشت : ج.19 و 28 و 30 ( چاپ دوم: 1442ق = 1400 ) (فیپا).

يادداشت : ج.21 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.38 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.30 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.29 (چاپ دوم: 1399).

يادداشت : ج.12 (چاپ چهارم: 1399).

يادداشت : ج.32 (چاپ دوم: 1399).

مندرجات : ج.3. ال و - ا ن س

موضوع : قرآن -- واژه نامه ها

Qur'an -- Dictionaries

موضوع : قرآن -- دایره المعارف ها

Qur'an -- Encyclopedias

شناسه افزوده : واعظ زاده خراسانی، محمدِ، 1385-1304.

شناسه افزوده : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

شناسه افزوده : Sobhani Tabrizi, Jafar

شناسه افزوده : نجفی، ناصر، 1322 -

شناسه افزوده : غفرانی، علیرضا

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی. گروه قرآن

شناسه افزوده : بنیاد پژوهش های اسلامی

رده بندی کنگره : BP66/4/م57 1377

رده بندی دیویی : 297/13

شماره کتابشناسی ملی : 582410

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المشاركون في هذا المجلّد

الأستاذ محمّد واعظزاده الخراسانيّ ناصر النّجفيّ قاسم النّوريّ محمّد حسن مؤمن زاده حسين خاك شور السيّد عبد الحميد عظيمى السيّد جواد سيّدى السيّد حسين رضويان علي رضا غفرانى و قد فوّض عرض الآيات و ضبطها إلى أبي الحسن الملكيّ و محمّد الملكوتيّ و مقابلة النّصوص إلى محمّد جواد الحويزيّ و عبد الكريم الرّحيميّ و محمّد رضا النّوريّ و تنضيد الحروف إلى الأستاذ حسين الطّائيّ في قسم الكمبيوتر.

ص: 5

ص: 6

المحتويات

المقدّمة 9

أل و،أل ى 11

إلياس،إلياسين 49

اليسع 74

أمت 85

أمد 93

أمر 103

أمس 235

أمل 243

أمم 249

أمن 433

أمو 705

أنث 715

إنجيل 739

أنس 819

الأعلام و المصادر المنقول عنهم بلا واسطة 879

الأعلام المنقول عنهم بالواسطة 885

ص: 7

إيضاح

لطول جملة من الموادّ و وسعتها فقد رتّبنا فهرسا لمواضيعها تيسيرا للباحث أمر\أمم\أمن\إنجيل

النّصوص اللّغويّة\103\249\433\739

النّصوص التّفسيريّة\115\268\444\742

الأشباه و النّظائر\213\406\675\-

الأصول اللّغويّة\215\409\677\811

الاستعمال القرآنيّ\216\412\679\812

ص: 8

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

المقدّمة

نحمد اللّه تعالى و نشكره على أن وفّقنا لتقديم المجلّد الثّالث من الموسوعة «المعجم في فقه لغة القرآن و سرّ بلاغته»إلى عشّاق علوم القرآن و تفسيره و المختصّين بمعرفة لغاته و أسرار بلاغته و رمز إعجازه.

و اشتمل هذا الجزء على شرح(14)كلمة قرآنية من حرف الألف،ابتداء من (أل و)،و انتهاء ب(أن س).و أوسع الكلمات فيه بحثا:(أم ن)حيث استوعب (270)صفحة.

نسأله تعالى،و نبتهل إليه أن يتمّ علينا نعمته،و يوفّر لنا رحمته،و يساعدنا في استمرار العمل إلى آخر المطاف،إنّه خير معين،و بالإجابة جدير.

محمّد واعظزاده الخراسانيّ مدير قسم القرآن في مجمع البحوث الإسلاميّة

ص: 9

ص: 10

ادامة حرف الالف

أل و-أل ي

اشارة

14 لفظا،356 مرّة:155 مكّيّة،201 مدنيّة

في 70 سورة:45 مكّيّة،25 مدنيّة

يألونكم 1:-1\أولاهما 1:1\أولاء 2:1-1

يأتل 1:-1\أولاهم 2:2\هؤلاء 46:34-12

يؤلون 1:-1\ألو 17:7-10\أولئك 204:79-125

آلاء 34:3-31\أولي 26:10-16\أولئكم 2:1-1

الأولى 17:17\آلات 2:2

النّصوص اللّغويّة

الخليل: الآلاء:النّعم،واحدتها:إلى.

و أليّة:يمين،و منها ألوة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأليّة:محمولة على«فعولة»،و ألوة على«فعلة»، و الفعل:آليت إيلاء.

و تقول:ما ألّيت عن الجهد في حاجتك،و ما ألوتك نصحا.و المصدر:الأليّ و الألوّ،بمنزلة العتيّ و العتوّ،إلاّ أنّ الأليّ أكثر.[ثمّ استشهد بشعر]

و الألوّة:عود يدخّن به و يتبخّر،و يسمّى عود الألوّة،و هو أجود العود.

و ألا يألو،أي لم يدع.[ثمّ استشهد بشعر]

و تقول عن الائتلاء:تألّى،إذا اجترأ على أمر غيب، فحلف عليه.و الائتلاء و الإيلاء واحد.

و الألية:ألية الشّاة،و ألية الإنسان.و كبش أليان، و نعجة أليانة.و يجوز في الشّعر:آلى بوزن«أفعل»و ألياء بوزن«فعلاء».

و ألية الخنصر:اللّحمة الّتي تحتها،و هي ألية اليد.

و المئلاة:خرقة مع النّائحة سوداء تشير بها، و الجمع:المآلي.[ثمّ استشهد بشعر](8:356)

أولاء:يقصر في لغة تميم،و أهل الحجاز يمدّون أولاء، و الهاء في أوّله زيادة للتّنبيه إذا قلت:هؤلاء،و قلّما يقال:

ها أولئك في المخاطبة،و هو جائز في الشّعر.

ألوو أولات:مثل:ذوو،و ذوات في المعنى،و لا يقال إلاّ للجميع من النّاس و ما يشبهه.(8:370)

ص: 11

الكسائيّ: أقبل يضربه لا يأل،يريد لا يألو، فحذف،كما قالوا:لا أدر.(الجوهريّ 6:237)

أبو عمرو الشّيبانيّ:ألّيت،أي أبطأت.

و سألني القاسم بن معن عن بيت الرّبيع بن ضبع الفزاريّ: *و ما ألّى بنيّ و لا أساءوا*

فقلت:أبطئوا.فقال:ما تدع شيئا،و هو«فعّلت»من ألوت،أي:أبطأت.(الأزهريّ 15:432)

آليت:توانيت و أبطأت.[ثمّ استشهد بشعر]

(ابن فارس 1:128)

الفرّاء: يقال:ائتلى الرّجل،إذا حلف،و في كتاب اللّه تعالى: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ النّور:22.

و ربما جمعوا ألوة:ألى.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال لليمين:ألوة و ألوة و إلوة و أليّة.

(ابن فارس 1:128)

ائتليت«افتعلت»من ألوت:قصّرت،فيقول:

لا دريت و لا قصّرت في الطّلب،ليكون أشقى لك.

(الأزهريّ 15:431)

أبو زيد:يقال:كبش آلا،مثل عالا،و أليان، و كباش ألي مثل عمي،و نعجة أليانة و أليانتان و أليانات،و كبش أليان و كباش أليانات،مثل أتان قطوانة و حمار قطوان،إذا لم يكن يسهل السّير.(223)

هما أليان،للأليتين،و إذا أفردت الواحدة قيل:ألية.

[ثمّ استشهد بشعر]

و كذلك:هما خصيان،الواحدة خصية.

(الأزهريّ 15:433)

يقال:ألوت في الشّيء آلو،إذا قصّرت فيه.

(ابن فارس 1:128)

الأصمعيّ: في الحديث:«و مجامرهم الألوّة غير مطرّاة»و هو العود الّذي يتبخّر به،و أراها كلمة فارسيّة عرّبت.(الأزهريّ 15:430)

[لا دريت و لا ائتليت]هو من ألوت الشّيء،إذا استطعته،فيقول:لا دريت و لا استطعت أن تدري.

(الأزهريّ 15:431)

يقال:ما ألوت جهدا،أي لم أدع جهدا.و العامّة تقول:

ما آلوك جهدا،و هو خطأ.(ابن منظور 14:40)

الألية:أصل الإبهام،و الضّرّة:أصل الخنصر.

(الهرويّ 1:79)

الأخفش: آلى من امرأته يؤلي إيلاء،و ظاهر منها ظهارا،كما تقول:قاتل قتالا.(1:369)

اللّحيانيّ: يقال لضرب من العود:ألوّة،و ألوّة و ليّة و لوّة،و تجمع ألوّة:الاوية.(الأزهريّ 15:432)

إنّه لذو أليات،كأنّه جعل كلّ جزء ألية،ثمّ جمع على هذا،و لا تقل:ليّة و لا ألية فإنّهما خطأ.

(ابن منظور 14:42)

أبو عبيد: فيها[الألوّة]لغتان:الألوّة،و الألوّة.

الألوة و الأليّة:اليمين،و الفعل:آلى يؤلي إيلاء،و تألّى يتألّى تألّيا،و ائتلى يأتلى ائتلاء.(الأزهري 15:430)

ابن الأعرابيّ: الألو:التّقصير،و المنع،و الاجتهاد، و الاستطاعة،و العطيّة.[ثمّ استشهد بشعر]

و العرب تقول:أتاني فلان فما ألوت ردّه،أي ما استطعت.و أتاني في حاجة فألوت فيها،أي اجتهدت فيها.(الأزهريّ 15:431)

ص: 12

الألية،بكسر الهمزة:القبل.و جاء في الحديث:

«لا يقام الرّجل من مجلسه حتّى يقوم من ألية نفسه»أي من قبل نفسه.

الأليّ:الرّجل الكثير الأيمان،و الألى:الأيمان.

و الألى،بمعنى الّذين.(الأزهريّ 15:434)

ابن السّكّيت: و المتألّية من النّساء:المسلّبة.

و المؤتلية من المئلاة.(379)

يقال:ألوة و ألوة و إلوة لليمين.

(إصلاح المنطق 117)

هو ألية الشّاة،مفتوحة الألف،و الجمع:أليات.

و لا تقل:ليّة و لا ألية،فإنّهما خطأ.و تقول:كبش أليان و نعجة أليانة،و كبش آلى و نعجة ألياء و كباش ألي و نعاج ألي و تقول:رجل آلى و استه و ستهم،إذا كان عظيم الاست.و لا يقال:أعجز،و امرأة ستهاء و عجزاء.(إصلاح المنطق:163)

قولهم:لا دريت و لا ائتليت،هو«افتعلت»من قولك:ما ألوت هذا،أي ما استطعته،أي و لا استطعت.

و بعضهم يقول:لا دريت و لا أتليت،و قد ذكرناه في «تلا».(الجوهريّ 6:2270)

أبو الهيثم:الألو،من الأضداد،يقال:ألا يألو،إذا فتر و ضعف،و كذلك:ألّى و ائتلى.

و ألا،و ألّى،و تألّى،إذا اجتهد.

(الأزهريّ 15:432)

ابن أبي اليمان:الإيلاء:الحلف،يقال آلى يؤلي إيلاء.(54)

الألو:مصدر ألا الرّجل يألو ألوا،إذا قصّر في أمر، و يقال فيه أيضا:آلى يؤلي تألية (1)،بمعناه.

قال العجّاج: *ألّ و ما في صبرها أليّ*

أي يؤول من جهده يبغي منه شيئا،يقول:صبرها غير آل،على وزن«فاعل»و أليّ«فعيل»معناهما واحد،كقولك:عالم و عليم،و معناهما لا آلوك جهدا،أي لا أدع من جهد شيئا.

قال أبو سعيد:قلت لأعرابيّ:أيّ حمل هذا؟قال:

لا آلوه،أي لا أطيقه.و يقال فيه:مؤتل.(678)

كراع النّمل:الألية:المجاعة.(ابن منظور 14:43)

ابن دريد:الأليّة:اليمين،و الجمع:ألايا،و ربّما قيل:

الألوّة في معنى الأليّة.و يقال:آلى الرّجل يؤلي إيلاء،إذا حلف.

و الألوّة:العود الّذي يتبخّر به،فارسيّ معرّب، و يقال:ألوّة،بالفتح أيضا.

يقال:فلان لا يألو أن يفعل كذا و كذا،أي لا يقصّر.

و في لغة هذيل:لا يألو،أي لا يقدر.

و ألية الشّاة معروفة،و كبش أليان،إذا كان عظيم الألية،و كذلك الرّجل.و لا يقال للمرأة ذلك،و إنّما يقال:

عجزاء.و يقال:هذه ألية و هاتان أليان،و تجمع ألية:

أليات.(1:188)

المآلي،واحدتها:مئلاة،و هي خرقة سوداء تشير به النّائحة.(2:163)

ألية الكبش و كبش أليان و نعجة أليانة،و تجمع ألية:

أليا،و أليات،و ألايا.

و الأليّة:اليمين،و يجمع:ألايا،و في بعض اللّغات:ة.

ص: 13


1- كذا:و الظّاهر ألّى يؤلّي تألية.

ألوّة.(3:178)

القاليّ:الأليّة:اليمين،و فيها أربع لغات،يقال:أليّة و تجمع أليّات و ألايا،و ألوّة و تجمع ألوات،و ألوة و تجمع ألى،و إلوة و تجمع إلى.(2:69)

ما ألوت:ما قصّرت،و ما ألوت:ما استطعت.

(2:206)

الأزهريّ: الآلاء:النّعم،واحدتها:إلي و ألي،و ألو و ألى،و إلى.[ثمّ استشهد بشعر](15:430)

[بعد نقل قول الشّيبانيّ قال:]

و قال غيره:هو من الألوّ،و هو التّقصير.

يقال:هو يألو هذا الأمر،أي يطيقه و يقوى عليه.

و يقال:إنّي لا آلوك نصحا،أي لا أفتر و لا أقصّر.(15:432)

يقال:كبش أليان و نعجة أليانة،بيّنة الألى،مقصور.

و كبش أليان و نعجة أليا،و كباش و نعاج ألي مثل عمي.

[و بعد نقل قول ابن الأعرابيّ قال:]

و قال غيره:قام فلان من ذي ألية،أي من تلقاء نفسه.

و روي عن ابن عمر:أنّه كان يقوم له الرّجل من لية نفسه،بلا ألف.

قلت:كأنّه اسم من ولى يلي مثل الشّية،من وشى يشي.

و من قال:ألية فأصلها:ولية،فقلبت الواو همزة.(15:433)

الألو:يكون جهدا،و يكون تقصيرا،و يكون استطاعة.(الهرويّ 1:76)

«الألى»بمعنى الّذين،و منه قوله:

فإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم

تآسوا،فسنّوا للكرام التّآسيا

و أتى به زياد الأعجم نكرة بغير ألف و لام،في قوله:

فأنتم ألى جئتم مع البقل و الدّبى

فطار،و هذا شخصكم غير طائر

و هذا البيت في باب الهجاء من الحماسة،قال:و قد جاء ممدودا،قال خلف بن حازم:

إلى النّفر البيض الألاء كأنّهم

صفائح،يوم الرّوع،أخلصها الصّقل

و الكسرة الّتي في«ألاء»كسرة بناء لا كسرة إعراب،و على ذلك قول الآخر:

*فإنّ الألاء يعلمونك منهم*

و هذا يدلّ على أنّ«ألا و ألاء»نقلتا من أسماء الإشارة إلى معنى«الّذين»،قال:و لهذا جاء فيهما المدّ و القصر،و بني الممدود على الكسر.

و أمّا قولهم:ذهبت العرب الألى،فهو مقلوب من «الأول»لأنّه جمع أولى مثل أخرى و أخر،و أنشد ابن برّيّ:

رأيت مواليّ الألى يخذلونني

على حدثان الدّهر،إذ يتقلّب

فقوله يخذلونني مفعول ثان أو حال و ليس بصلة، و قال عبيد بن الأبرص:

نحن الألى،فاجمع جمو

عك،ثمّ وجّههم إلينا

و عليه قول أبي تمّام:

ص: 14

من أجل ذلك كانت العرب الألى

يدعون هذا سوددا محدودا

رأيت بخطّ الشّيخ رضيّ الدّين الشّاطبيّ قال:

و للشّريف الرّضيّ يمدح الطّائع:

قد كان جدّك عصمة العرب الألى

فاليوم أنت لهم من الأجذام

و قال ابن الشّجريّ:قوله:«الألى»يحتمل وجهين؛ أحدهما أن يكون اسما ناقصا بمعنى الّذين،أراد:الألى سلفوا،فحذف الصّلة للعلم بها،كما حذفها عبيد بن الأبرص في قوله:

*نحن الألى،فاجمع جموعك*

أراد:نحن الألى عرفتهم،و ذكر (1)ابن سيدة«ألى» في اللاّم و الهمزة و الياء،و قال:ذكرته هنا لأنّ سيبويه قال:ألى بمنزلة هدى،فمثّله بما هو من الياء،و إن كان سيبويه ربّما عامل اللّفظ.(ابن منظور 15:437)

الجصّاص:الإيلاء في اللّغة هو الحلف،يقولون:

آلى يؤلي إيلاء و ألية.[ثمّ استشهد بشعر]

و قد اختصّ في الشّرع بالحلف على ترك الجماع الّذي يكسب الطّلاق،بمضيّ المدّة،حتّى إذا قيل:آلى فلان من امرأته:عقل به ذلك.(1:355)

الصّاحب:و الألاء:شجر ورقه و حمله دباغ،و هو شتاء و صيفا أخضر،و الواحدة:ألاءة.و أرض مألأة.

و أديم مألوء:مدبوغ به،و مأليّ:مثله.

و الإلى:النّعمة،و جمعه:الإلاء و الآلاء.

و الألاء:الخصال الصّالحة،الواحد:إلى و ألى.و كيف ألاء فرسك،أي ما يوليك من جرائه و كفايته.

و الألو:الضّرب و اللّطم،و العطيّة أيضا.

و عود ألوّة:أجود ما يتبخّر به؛و ألوّة:لغة؛و ليّة و لوّة،و ألاوية:جمع ألوّة،و في الحديث:«مجامرهم الألوّة»و«الأليّة»و«الألوة»و«الألوة».

و الأليّة:اليمين،و الألية:مثلها.و آليت إيلاء و ائتليت ائتلاء،و تألّى تألّيا،و هو برّ المؤتلى.و الإيلاء:

أن يحلف الرّجل باللّه لا يقرب امرأته أربعة أشهر.

و أليت عن حاجتي و ألّيت،أي تمكّثت عنها حتّى تكاد تفوت.

و ألّيت تألية:أبطأت،مثل ألوت.

و المؤتلي:المطيق.و المولي:المعوز.

و ما ألوت عن الجهد في حاجتك.و ما ألوت نصحا.

و منه الإليّ و الأليّ و الألوّ،و لا يألوا أليّا و لا يأتلي.

و لا آلو كذا،أي لا أستطيعه،مثل:«فلا تأل أن تتودّد إلى النّاس».و في الدّعاء عليه:«لا دريت و لا ائتليت».

و آلى الرّجل،إذا تمكّث في الأمر.و آل عليه:أشبل و عطف.(10:373)

و يقال من الإيلاء:تألّى و ائتلى،إذا حلف على أمر غيب.

و ألى:في لغة يقصر،و أهل الحجاز يمدّون:ألاء.

و الهاء في أوّله زيادة إذا قال:ها أولئك في المخاطبة، و يقولون:ألالك فعلوا،بمعنى أولئك.و هم اللاّءين فعلوا ذاك و اللاّءون،بمعنى الّذين.

أولو،و المؤنّث أولات،و الواحد:ذو.

و يقولون:«لا آتيك ألوة بن هبيرة»أي أبدا.و ألوة:ا.

ص: 15


1- لعلّ ما ذكر عن ابن سيدة هو:ثانيهما.

اسم رجل.(10:378)

ابن جنّيّ: اعلم أنّ«ألاء»وزنه إذا مثل«فعال» كغراب،و كان حكمه إذا حقّرته على تحقير الأسماء المتمكّنة أن تقول:هذا أليّئ و رأيت أليّئا و مررت بأليّئ،فلمّا صار تقديره أليّئا أرادوا أن يزيدوا في آخره الألف الّتي تكون عوضا من ضمّة أوّله،كما قالوا في ذا:

ذيّا،و في تا:تيّا،و لو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا:أليّئا، فيصير بعد التّحقير مقصورا،و قد كان قبل التّحقير ممدودا،أرادوا أن يقرّوه بعد التّحقير على ما كان عليه قبل التّحقير من مدّه فزادوا الألف قبل الهمزة،فالألف الّتي قبل الهمزة في أليّاء ليست بتلك الّتي كانت قبلها في الأصل،إنّما هي الألف الّتي كان سبيلها أن تلحق آخرا فقدّمت لما ذكرناه.

و أمّا ألف«ألاء»فقد قلبت ياء كما تقلب ألف غلام إذا قلت:غليّم،و هي الياء الثّانية،و الياء الأولى هي ياء التّحقير.(ابن منظور 15:436)

الجوهريّ: ألا الرّجل يألو،أي قصر.و فلان لا يألوك نصحا،فهو آل،و المرأة آلية،و جمعها:أوال.

و في المثل:«إلاّ حظيّة فلا أليّة»و قد فسّرناه في حظيّة...

و يقال أيضا:ألّى يؤلّي تألية،إذا قصّر و أبطأ...

و تقول:آلاه يألوه ألوا:استطاعه.[ثمّ استشهد بشعر]

و الآلاء:النّعم،واحدها:ألا،بالفتح،و قد يكسر و يكتب بالياء،مثاله معى و أمعاء.

و آلى يؤلي إيلاء:حلف،و تألّى و ائتلى مثله فيه.

و يقال أيضا:ائتلى في الأمر،إذا قصّر.

و الأليّة:اليمين،على«فعيلة»و الجمع؛ألايا.[ثمّ استشهد بشعر]

و كذلك الألوة و الألوة و الإلوة.

و أمّا الألوّة بالتّشديد،فهو العود الّذي يتبخّر به.

و فيه لغتان:ألوّة و ألوّة،بضمّ الهمزة و فتحها.

قال الأصمعيّ:هو فارسيّ معرّب.

و المئلاة بالهمز،على وزن المعلاة:الخرقة الّتي تمسكها المرأة عند النّوح و تشير بها؛و الجمع:المآلي.

و الألاء بالفتح:شجر حسن المنظر مرّ الطّعم.[ثمّ استشهد بشعر]

و الألية بالفتح:ألية الشّاة،و لا تقل:ألية و لا ليّة.فإذا ثنّيت قلت:أليان،فلا تلحقه التّاء.[ثمّ استشهد بشعر]

و بائعه:ألاّء على«فعّال».

و كبش آلى على«أفعل»و نعجة أليا،و الجمع:ألي على«فعل».و يقال أيضا:كبش أليان بالتّحريك،و نعجة أليانة،و كباش أليانات.

و رجل آلى،أي عظيم الألية.و امرأة عجزاء، و لا تقل:ألياء،و بعضهم يقوله.و قد ألي الرّجل بالكسر يألى ألى.

و ألية الحافر:مؤخّره.

و الألية:اللّحمة الّتي في أصل الإبهام،و الضّرّة:الّتي تقابلها.(6:2270)

و أمّا«أولو»فجمع لا واحد له من لفظه،واحده:ذو.

و ألات للإناث واحدتها:ذات،تقول:جاءني أولو

ص: 16

الألباب،و أولات الأحمال.

و أمّا«أولى»فهو أيضا جمع لا واحد له من لفظه، واحده:ذا للمذكّر،و ذه للمؤنّث،يمدّ و يقصر.فإن قصرته كتبته بالياء،و إن مددته بنيته على الكسر، و يستوي فيه المذكّر و المؤنّث.

و تصغيره«أليّا».بضمّ الهمزة و تشديد الياء،يمدّ و يقصر،لأنّ تصغير المبهم لا يغيّر أوّله بل يترك على ما هو عليه من فتح أو ضمّ.و تدخل ياء التّصغير ثانية إذا كان على حرفين،و ثالثة إذا كان على ثلاثة أحرف.

و تدخل عليه«ها»للتّنبيه،تقول:هؤلاء.قال أبو زيد:

و من العرب من يقول هؤلاء قومك،فينوّن و يكسر الهمزة.

و تدخل عليه الكاف للخطاب،تقول:أولئك و ألاك.

قال الكسائيّ:من قال:أولئك فواحده:ذلك،و من قال:

أولاك فواحده:ذاك.و ألالك مثل أولئك،و أنشد ابن السّكّيت:

أولالك قومي لم يكونوا أشابة

و هل يعظ الضّلّيل إلاّ أولالكا

و إنّما قالوا:أولئك في غير العقلاء.

قال الشّاعر:

ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

و العيش بعد أولئك الأيّام

و قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً الإسراء:36.

و أمّا«الألى»بوزن العلى،فهو أيضا جمع لا واحد له من لفظه،واحده:الّذي.

و أمّا قولهم:ذهبت العرب الألى،فهو مقلوب من الأول،لأنّه جمع«أولى»مثل أخرى و أخر.(6:2544)

ابن فارس: الهمزة و اللاّم و ما بعدهما-في المعتلّ- أصلان متباعدان:

أحدهما:الاجتهاد و المبالغة،و الآخر:التّقصير؛ و الثّاني:خلاف ذلك الأوّل،قولهم:آلى يؤلي،إذا حلف، أليّة و ألوة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأليّة محمولة على«فعولة»،و ألوة على«فعلة»نحو القدمة.و يقال:يؤلي و يأتلي،و يتألّى في المبالغة.

و تقول في المثل:«إلاّ حظيّة فلا أليّة»يقول:إن أخطأتك الحظوة فلا تتألّ أن تتودّد إلى النّاس.

و ألّى الكلب عن صيده،إذا قصّر،و كذلك البازيّ و نحوه.(1:128)

أبو هلال :الفرق بين الآلاء و النّعم:أنّ الألى واحد الآلاء،و هي النّعمة الّتي تتلو غيرها،من قولك:وليه يليه،إذا قرب منه.و أصله:ولى.

و قيل:واحد الآلاء إلى،و قال بعضهم:الإلى مقلوب من ألى الشّيء،إذا عظم و علا،قال:فهو اسم للنّعمة العظيمة.(159)

الهرويّ: الآلاء:النّعماء،واحدها:إلى و إلي.

و قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ البقرة:226، الإيلاء:اليمين،و هي الأليّة،و قد آلى فلان من امرأته.

و في الحديث:«من يتألّ على اللّه يكذّبه»أي من حكم عليه،فقال:ليدخلنّ اللّه تعالى فلانا النّار، و لينجحنّ اللّه سعي فلان.

و في حديث روته عائشة:«ويل للمتألّين من أمّتي»

ص: 17

تعني الّذين يحكمون على اللّه،فيقولون:فلان في الجنّة، و فلان في النّار.

و في الحديث:«لا دريت و لا تليت»قال أبو بكر:هو غلط،و صوابه أحد وجهين:

[الأوّل:]أن يقال:«لا دريت و لا ائتليت»أي و لا استطعت أن تدري.يقال:ما آلوه،أي ما أستطيعه، و هو«افتعلت»منه.

و الثّاني:«لا دريت و لا أتليت»يدعو عليه بألاّ تتلي إبله،أي لا يكون لها أولاد تتلوها،أي تتّبعها.

يقال:أتلت النّاقة فهي متلية،و تلاها أولادها؛و الوجه الأوّل أجود.

و في الحديث:«لا صام و لا ألّى»هو«فعّل»،من ألوت.يقال:لا صام و لا استطاع أن يصوم،دعا عليه.

و يجوز أن يكون إخبارا،أي لم يصم و لم يقصّر،من قولك:ألوت،أي قصّرت.

و في حديث عمرو:«إنّي و اللّه ما تأبّطتني الإماء و لا حملتني البغايا في غبرات المآلي»،المآلي:هي خرق الحائض الّتي تحتشي بها.يقال:الواحدة:مئلاة.يقول:

لم تلدني بغىّ كانت تزني و هي حائض،فيكون العار لازما لها من جهتين.و المئلاة:الخرقة الّتي تمسكها النّوائح بأيديهنّ.

و في الحديث:«فتفل في عين عليّ و مسحها بألية إبهامه».قال الأصمعيّ:الألية:أصل الإبهام.(1:74)

أبو سهل الهرويّ:هي ألية الكبش لذنبه،و تجمع أليات بفتح اللاّم،و كبش أليان بفتح اللاّم أيضا،أي عظيم الألية،و نعجة أليانة بفتحها أيضا،و رجل آلى على مثال عالى،أي عظيم العجز،و امرأة عجزاء بالمدّ،كذلك كلام العرب،و القياس ألياء.(46)

ابن سيدة :الألية:العجيزة،أو ما ركب العجز من شحم و لحم،الجمع:أليات و ألايا.رجل أليان و آلى، و امرأة أليانة و ألياء:عظيما الألية،و قد ألي يألى ألى.(الإفصاح 1:94)

الألية:هي من الشّاة عجزها،أو ما ولى العجز من شحم و لحم،الجمع:أليات و ألايا.ألي الكبش يألى ألى:

عظمت أليته،و كبش أليان و نعجة أليانة و ألياء:عظيما الألية.(2:776)

الألاّء:الّذي يبيع الألية.(2:1211)

الطّوسيّ: يقال:آلى الرّجل من امرأته يؤلي إيلاء و أليّة و ألوّة،و هو الحلف.[ثمّ استشهد بشعر]

و جمع أليّة:ألايا،و أليّات،كعشيّة و عشايا، و عشيّات.فأمّا جمع ألوّة فألايا،كركوبة و ركائب.

و جمع أليّة:ألاء كصحيفة و صحائف،و منه ائتلى يأتلي ائتلاء،و في التّنزيل: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ النّور:22،و تقول:لا تألو أليّا و ألوّا،نحو العتيّ و العتوّ.و ما ألوت جهدا،و لا ألوته نصحا أو غشّا،و منه قوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً آل عمران:118.

و أصل الباب التّقصير،فمنه لا يألوا جهدا،و منه الأليّة:اليمين،لأنّها لنفي التّقصير.و عود ألوة و ألوة:أجود العود،لأنّه خالص.(2:231)

نحوه الطّبرسيّ.(1:323)

الرّاغب: ألوت في الأمر:قصّرت فيه،هو منه، كأنّه رأى فيه الانتهاء.و ألوت فلانا،أي أوليته تقصيرا،

ص: 18

نحو كسبته،أي أوليته كسبا.و ما ألوته جهدا،أي ما أوليته تقصيرا بحسب الجهد،فقولك:جهدا تمييز،و كذلك ما ألوته نصحا.

و أولاء في قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ آل عمران:119،و قوله:(أولئك)اسم مبهم موضوع للإشارة إلى جمع المذكّر و المؤنّث،و لا واحد له من لفظه، و قد يقصر.[ثمّ استشهد بشعر](22)

الحريريّ: يقولون:ما آليت جهدا في حاجتك، فيخطّئون فيه،لأنّ معنى ما آليت ما حلفت،و تصحيح الكلام فيه أن يقال:ما ألوت،أي ما قصّرت.

و حكى الأصمعيّ قال:إذا قيل لك:ما ألوت في حاجتك،فقل:بلى أشدّ الألو.

و قد أجاز بعضهم أن يقال:ما ألّيت في حاجتك بتشديد اللاّم.[ثمّ استشهد بشعر]

و لفظة«ألوت»لا تستعمل في الواجب البتّة،مثل لفظة:أحد و قطّ و صافر و ديّار،و كمثل لا جرم و لا بدّ.(71)

الميبديّ: التّألّي:الحلف و التّحكّم،يقال:آلى و تألّى و ائتلى،إذا حلف.(6:506)

الزّمخشريّ: يقال:ألا في الأمر يألو،إذا قصّر فيه، ثمّ استعمل معدّى إلى مفعولين،في قولهم:لا آلوك نصحا و لا آلوك جهدا على التّضمين،و المعنى لا أمنعك نصحا و لا أنقصكه.(1:458)

مثله النّيسابوريّ(4:47)،و نحوه البيضاويّ(1:

178).

استجمر بالألوّة،و هي العود.و هو لا يألو،و لا يأتلي أن يفعل كذا.

و يقول الرّجل:ما ألوت عن الجهد في حاجتك، فيقال له:بل أشدّ الألو.

و آلى الرّجل،و ائتلى ليفعلنّ،و تألّى على اللّه،إذا حلف ليغفرنّ اللّه له.و عليّ أليّة في ذلك.

و عجبت من الألى فعلوا كذا.

و كبش أليان،و نعجة أليانة.(أساس البلاغة:9)

الفخر الرّازيّ: آلى يؤلي إيلاء،و تألّى يتألّى تألّيا، و ائتلى يأتلي ائتلاء.و الاسم منه أليّة و ألوّة،كلاهما بالتّشديد.و حكى أبو عبيدة:ألوّة و ألوّة و إلوّة ثلاث لغات.و بالجملة فالأليّة و القسم و اليمين و الحلف،كلّها عبارات عن معنى واحد.

و في الحديث:حكاية عن اللّه تعالى:«آليت أفعل خلاف المقدّرين».[ثمّ استشهد بشعر]

هذا هو معنى اللّفظ بحسب أصل اللّغة،أمّا في عرف الشّرع فهو اليمين على ترك الوطء.(6:85)

ابن الأثير: حديث أنس:«أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم آلى من نسائه شهرا»أي حلف لا يدخل عليهنّ،و إنّما عدّاه ب«من»حملا على المعنى،و هو الامتناع من الدّخول،و هو يتعدّى ب«من».

و منه حديث عليّ رضي اللّه عنه:«ليس في الإصلاح إيلاء»أي أنّ«الإيلاء»إنّما يكون في الضّرار و الغضب لا في الرّضا و النّفع.

و منه:«من صام الدّهر لا صام و لا ألّى»أي لا صام و لا استطاع أن يصوم،و هو«فعّل»منه كأنّه دعا عليه.

و يجوز أن يكون إخبارا،أي لم يصم و لم يقصّر،من

ص: 19

ألوت،إذا قصّرت.

قال الخطّانيّ: رواه إبراهيم بن فراس:و لا آل،بوزن «عال»و فسّر بمعنى و لا رجع.قال:و الصّواب«ألّى» مشدّدا و مخفّفا،يقال:ألّى الرّجل و ألي،إذا قصّر و ترك الجهد.

و منه الحديث:«ما من وال إلاّ و له بطانتان:بطانة تأمره بالمعروف و تنهاه عن المنكر،و بطانة لا تألوه خبالا»أي لا تقصّر في إفساد حاله.

و منه زواج عليّ رضي اللّه عنه،قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لفاطمة:«ما يبكيك فما ألوتك و نفسي،و قد أصبت لك خير أهلي»أي ما قصّرت في أمرك و أمري؛حيث اخترت لك عليّا زوجا.

و فيه:«تفكّروا في آلاء اللّه و لا تتفكّروا في اللّه» الآلاء:النّعم،واحدها«ألا»بالفتح و القصر،و قد تكسر الهمزة،و هي في الحديث كثيرة.

و منه حديث عليّ رضي اللّه عنه:«حتّى أورى قبسا لقابس ألاء اللّه».

و في صفة أهل الجنّة:«و مجامرهم الألوّة»هو العود الّذي يتبخّر به،و تفتح همزته و تضمّ،و همزتها أصليّة، و قيل:زائدة.

و منه حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما:«أنّه كان يستجمر بالألوّة غير مطرّاة».

و منه:«فتفل في عين عليّ و مسحها بألية إبهامه»ألية الإبهام:أصلها،و أصل الخنصر:الضّرّة.

و منه حديث البراء رضي اللّه عنه:«السّجود على أليتي الكفّ»أراد ألية الإبهام و ضرّة الخنصر،فغلّب كالعمرين و القمرين.

في حديث آخر:«كانوا يجتبّون أليات الغنم أحياء» جمع الألية،و هي طرف الشّاة.

و منه الحديث:«لا تقوم السّاعة حتّى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة»ذو الخلصة:بيت كان فيه صنم لدوس،يسمّى الخلصة.

أراد لا تقوم السّاعة حتّى ترجع دوس عن الإسلام، فتطوف نساؤهم بذي الخلصة و تضطرب أعجازهنّ في طوافهنّ،كما كنّ يفعلن في الجاهليّة.(1:62)

ابن منظور :ألى و ألاء:اسم يشار به إلى الجمع، و يدخل عليهما حرف التّنبيه،تكون لما يعقل و لما لا يعقل،و التّصغير أليّا و أليّاء؛قال:

يا ما أميلح غزلانا برزن لنا

من هؤليّائكنّ الضّال و السّمر

(15:436)

الفيّوميّ: الألى مقصور،و تفتح الهمزة و تكسر:

النّعمة،و الجمع:الآلاء على«أفعال»مثل سبب و أسباب، لكن أبدلت الهمزة الّتي هي فاء ألفا،استثقالا لاجتماع همزتين.

و الألية:ألية الشّاة،و الجمع:أليات،مثل سجدة و سجدات،و التّثنية أليان،بحذف الهاء على غير قياس، و بإثباتها في لغة،على القياس.

و ألي الكبش ألى،من باب«تعب»:عظمت أليته، فهو أليان،وزان«سكران»على غير قياس،و سمع آلى على وزان«أعمى»و هو القياس،و نعجة أليانة.و رجل آلى،و امرأة عجزاء.

ص: 20

الأليّة:الحلف،و الجمع:ألايا،مثل عطيّة و عطايا.

و آلى إيلاء مثل آتى إيتاء،إذا حلف،فهو مؤل،و تألّى و ائتلى كذلك.(1:20)

الفيروزآباديّ: الألاء،كسحاب و يقصر:شجر مرّ دائم الخضرة،واحدته:ألاءة،و ألاء أيضا.و سقاء مألوّ و مأليّ:دبغ به.

و ألا ألوا و ألوّا و أليّا و ألّى و اتّلى:قصّر و أبطأ و تكبّر.

«و إلاّ حظيّة فلا أليّة»أي إن لم أحظ فلا أزال أطلب ذلك، و أجهد نفسي فيه.

و ما ألوته:ما استطعته.و الشّيء ألوا و ألوّا:ما تركته.

و الألوة و يثلّث،و الأليّة و الأليّا:اليمين.و آلى و ائتلى و تألّى:أقسم.

و لا دريت و لا ائتليت،أو و لا أليت اتباع،و قيل:

و لا أتليت،أي لا أتلت إبلك.

و الألوّة:الغلوة و السّبغة و العود يتبخّر به،كالألوّة و الألوّ،بضمّتين فيهما.و الإليّة بكسرتين،الجمع:

ألاوية.

و الألو:العطيّة،و بعر الغنم،و قد آلى المكان.

الألية:العجيزة أو ما ركب العجز من شحم و لحم، الجمع:أليات و ألايا.و لا تقل:ألية و لا ليّة.و قد ألي كسمع.

و كبش أليان و يحرّك،و ألى و آل و آلى،و نعجة أليانة و أليا،و كذا الرّجل و المرأة من رجال ألي و نساء ألي و أليانات و ألايا و ألاء.

و الأليّة:اللّحمة في ضرّة الإبهام،و حماة السّاق، و المجاعة،و الشّحمة،و بالكسر:القبل و الجانب.

و الآلاء:النّعم،واحدها:إلي و ألو و ألي و ألى و إلى.

و الأليّ كغنيّ:الكثير الأيمان.

و ألية ماء،و بالضّمّ:بلدان بالمغرب.و أليتان:

هضبتان بالحوأب.(4:302)

الطّريحيّ: آلاء اللّه أي نعمه،واحدها:ألى بالقصر و الفتح،و قد تكسر الهمزة.

و في الغريب:واحدها:ألّى،بالحركات الثّلاث.

و قيل:«الآلاء»هي النّعم الظّاهرة،و«النّعماء»هي النّعم الباطنة.

و منه الحديث:«تفكّروا في آلاء اللّه و لا تتفكّروا في اللّه».

و منه الحديث:«آلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميّت حتّى يبدءوا بحمزة»أي حلفوا.

و قوله: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ النّور:22،هو يفتعل من الأليّة،أي يحلف.

و الأليّة على«فعيلة»:اليمين،و الجمع:ألايا.

و ألى الرّجل،إذا قصّر و ترك الجهد.

و منه قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً آل عمران:

118،أي لا يقصّرون لكم في الفساد.

و ألاه يألوه كغزاه يغزوه:استطاعه،و عليه حمل قول الملكين للميّت عند قول«لا أدري»:«لا دريت و لا ائتليت»أي لا استطعت.

و الألية:ألية الشّاة،و لا تكسر الهمزة،و لا يقال:ليّة، و الجمع:أليات،كسجدة و سجدات،و التّثنية أليان، بحذف التّاء كسكران.

و«إليا»نقل أنّه اسم عليّ[عليه السّلام]بالسّريانيّة،و هي

ص: 21

لغة اليهود.(1:29)

الآلوسيّ: أصل الألو:التّقصير،يقال:ألا كغزا يألوا ألوا،إذا قصّر و فتر و ضعف.[ثمّ استشهد بشعر]

و هو لازم يتعدّى إلى المفعول بالحرف،و قد يستعمل متعدّيا إلى مفعولين في قولهم:«لا آلوك نصحا و لا آلوك جهدا،على تضمين معنى المنع،أي لا أمنعك ذلك.و قد يجعل بمنع التّرك،فيتعدّى إلى واحد.(4:37)

محمّد إسماعيل إبراهيم:ألا في الأمر ألوا:قصّر فيه و أبطأ.و في حديث معاذ:«أجتهد رأيي و لا آلو».آلى إيلاء:حلف،و آلى على نفسه و أقسم،و تألّى و ائتلى:

أقسم و حلف.

و الألو:العطيّة،و الآلاء:النّعم،واحدها:الألى و الإلى.(44)

مجمع اللّغة :ألا في الأمر يألو ألوا و ألوّا و ائتلى:

قصّر فيه و أبطأ،و يقال:لا آلوك نصحا أو جهد،أي لا أقصّر و لا أفتّر.

و الألوة و الألية:الحلف،يقال:آلى يؤلى إيلاء، و ائتلى يأتلي ائتلاء:أقسم.

و خصّ«الإيلاء»في اصطلاح الشّرع أن يحلف الزّوج على أن لا يقرب زوجه أربعة أشهر فأكثر.يقال:

آلى من زوجه يؤلي إيلاء.

الآلاء:النّعم،واحدها:ألو كدلو،أو ألا كرحا،أو إلى كمعى.(1:48)

المصطفويّ:الأصل في هذه المادّة هو التّواني و التّسامح،الموجب إلى التّقصير و التّأخير في العمل، و قضاء الأمر.و من لوازم هذا المعنى:ترك العمل و عدم صرف الاستطاعة في طلبه و تحصيله،و الإبطاء و التّأخير.و ما يقال من معان أخر فهي لليائيّ من هذه المادّة،فخلطوا بينهما.

و الّذي يقوى في النّفس:أنّ«الألو»بمعنى التّواني و التّقصير،و«الألى»بمعنى البلوغ و ظهور القدرة.و هذان المعنيان متقابلان،و لا يبعد أن يكون بين المادّتين اشتقاق أكبر،و يؤخذ أحد المفهومين من الآخر بنسبة التّقابل،ثمّ تفرّعت من المعنيين معان أخر.

فمن مفهوم التّقصير و التّواني:التّأخير،الإبطاء، التّرك،البعد.

و من مفهوم البلوغ:التّصميم،و العهد،و الحلف، و الاستطاعة،و إظهار القدرة،و العطوفة،و النّعمة، و الانتهاء،و الاجتهاد،و الأليّة،و النّعمة.

فظهر أنّ الحلف من متفرّعات البلوغ و التّصميم،فهو عهد جدّيّ و تصميم نهائيّ في العمل و الإقدام على أمر.

و هكذا النّعمة،فهي ترجع إلى إظهار الرّحمة و الانتهاء في العطوفة،و كذلك النّعمة الخاصّة الّتي هي الأليّة في الشّاة.

و كلّ هذه المعاني في قبال التّواني و التّقصير.

و تبيّن أنّ مفهوم«الألى»ليس مرادفا للنّعمة،بل كلّ ما يعدّ من مصاديق الإكمال في الرّحمة،و البلوغ في العطوفة،سواء كان بالأمر أو بالتّقدير أو بالخلق أو بتهيئة الأسباب أو بالنّظم أو بالنّعم العموميّة،ظاهرة أو باطنة، دنيويّة أو أخرويّة.

و هذا المعنى يظهر عند التّدبّر في مصاديق«الآلاء» في سورة الرّحمن: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 17،18.

ص: 22

فمصاديق«الآلاء»في تلك الآيات الكريمة مختلفة جدّا،و الجامع بينهما مفهوم الانتهاء في الإحسان و البلوغ، في إظهار الرّحمة و عدم التّقصير فيه.

و قد يستشكل بأنّ العذاب كيف يكون من النّعم على العباد؟

فيقال:البلوغ في إحقاق الحقّ و الانتهاء في بسط العدل،و إجراء الحكم و القانون و حفظ النّظم؛كلّها من الرّحمة و النّعمة و من الألى.(1:109)

النّصوص التّفسيريّة

يألونكم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً... آل عمران:118

ابن الأعرابيّ: لا يقصّرون في فسادكم.(الأزهري 15:431)

الطّبريّ: لا يستطيعونكم شرّا،من ألوت آلو ألوّا، يقال:ما ألا فلان كذا،أي ما استطاع.(4:60)

الزّجّاج: لا يتّقون في إلقائكم فيما يضرّكم.

(الطّبرسيّ 1:492)

الطّوسيّ: لا يقصّرون في أمركم خبالا،من قولهم:

ما ألوت في الحاجة جهدا و لا آلو الأمر،أي لا أقصّر جهدا.

(2:571)

نحوه الرّاغب(22)،و الميبديّ(2:255)،و أبو رزق(2:253)،و مجمع اللّغة(1:48)،و ابن عطيّة (أبو حيّان 3:39)،و الكاشانيّ(1:344)،و المصطفويّ (1:109).

الطّبرسيّ: أي لا يقصّرون فيما يؤدّي إلى فساد أمركم،و لا يدعون جهدهم في مضرّتكم.(1:492)

الفخر الرّازيّ: أي لا يدعون جهدهم في مضرّتكم و فسادكم،يقال:ما ألوته نصحا،أي ما قصّرت في نصيحته،و ما ألوته شرّا مثله.(8:211)

القرطبيّ: لا يتركون الجهد في فسادكم،يعني أنّهم و إن لم يقاتلوكم في الظّاهر،فإنّهم لا يتركون الجهد في المكر و الخديعة.(4:179)

الآلوسيّ: أصل الألو:التّقصير،يقال:ألا كغزا يألو ألوا،إذا قصّر و فتر و ضعف.و هو لازم يتعدّى إلى المفعول بالحرف.و قد يستعمل متعدّيا إلى مفعولين في قولهم:لا آلوك نصحا و لا ألوك جهدا،على تضمين معنى المنع،أي لا أمنعك ذلك.و قد يجعل بمنع التّرك فيتعدّى إلى واحد.

و معنى الآية على الأوّل:لا يقصّرون لكم في الفساد و الشّرّ،بل يجهدون في مضرّتكم؛و عليه يكون الضّمير المنصوب و الاسم الظّاهر منصوبين بنزع الخافض.و إليه ذهب ابن عطيّة،و جوّز أن يكون الثّاني منصوبا على الحال،أي مخبلين،أو على التّمييز.

و اعترض ذلك بأنّه لا إبهام في نسبة التّقصير إلى الفاعل،و لا يصحّ جعله فاعلا إلاّ على اعتبار الإسناد المجازيّ و النّصب بنزع الخافض؛و وقوع المصدر حالا ليس بقياس إلاّ فيما يكون المصدر نوعا من العامل،نحو أتاني سرعة و بطء،كما نصّ عليه الرّضيّ في بحث المفعول به و الحال-و اعتمده السّيالكوتيّ-،و نقل أبو حيّان أنّ التّمييز هنا محوّل عن المفعول نحو: وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ

ص: 23

عُيُوناً القمر:12،و هو من الغرابة بمكان،لأنّ المفروض أنّ الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحوّل عنه! و ملاحظة تعدّيه إليه بتقدير الحرف قول بالنّصب على نزع الخافض،و قد سمعت ما فيه.

و أجيب بالتزام أحد الأمرين،أو كونه منصوبا على النّزع،مع القول بالسّماع هنا.

و المعنى على الثّاني:لا يمنعونكم خبالا،أي إنّهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد،و لا يبقون عندهم شيئا منه في حقّكم،و هو وجه وجيه.و التّضمين قياسيّ على الصّحيح،و الخلاف فيه واه لا يلتفت إليه، و المعنى و الإعراب على الثّالث ظاهران بعد الإحاطة بما تقدّم.(4:37)

عبد الكريم الخطيب :و في قوله تعالى:

لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً آل عمران:118،إشارة إلى السّبب الدّاعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الّذين يعادون الإسلام و يكيدون له،إنّهم يجهدون كلّ جهدهم في النّيل من المسلمين،لا يقصّرون في أمر فيه نكاية بالمسلمين، و خبالهم،و إضعاف لشأنهم.(2:565)

يؤلون

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ...

البقرة:226

ابن مسعود:هو[الإيلاء]الحلف أن لا يقربها يوما أو أقلّ أو أكثر،ثمّ لا يطأها أربعة أشهر فتبين منه بالإيلاء.

مثله النّخعيّ،و قتادة،و الحكم،و ابن أبي ليلى، و حمّاد بن سليمان،و إسحاق.(أبو حيّان 2:180)

الإمام عليّ عليه السّلام:يكون الحلف على الامتناع من الجماع على وجه الغضب و الضّرار.(الطّبرسيّ 1:324)

ابن عبّاس: هو الحلف أن لا يطأها أبدا.

(أبو حيّان 2:180)

كلّ يمين منعت جماعا فهي إيلاء.

مثله النّخعيّ،و الثّوريّ،و أبو حنيفة،و مالك،و أبو ثور،و أبو عبيد،و ابن المنذر،و القاضي أبو بكر ابن العربيّ.

(أبو حيّان 2:181)

كان إيلاء الجاهليّة السّنة و السّنتين و أكثر من ذلك.

يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة،فوقّت لهم أربعة أشهر،فمن آلى بأقلّ من ذلك فليس بإيلاء حكميّ.

(القرطبيّ 3:103)

ابن المسيّب: يحلفون.(الطّبريّ 2:417)

كان الرّجل لا يريد المرأة و لا يحبّ أن يتزوّجها غيره،فيحلف أن لا يقربها،فكان يتركها بذلك لا أيّما و لا ذات بعل،و الغرض منه مضارّة المرأة.ثمّ إنّ أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضا،فأزال اللّه تعالى ذلك و أمهل للزّوج مدّة حتّى يتروّى و يتأمّل،فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة فعلها،و إن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها.(الفخر الرّازيّ 6:85)

هو في الجماع و غيره من الضّرار،نحو أن يحلف لا يكلّمها.(الطّبرسيّ 1:324)

النّخعيّ: [يكون الحلف]في الغضب و الرّضا.

مثله الشّعبيّ.(الطّبرسيّ 1:324)

الحسن :يكون الحلف على الامتناع من الجماع،

ص: 24

على وجه الغضب و الضّرار.(الطّبرسيّ 1:324)

الثّوريّ: هو الحلف أن لا يطأ أربعة أشهر،و بعد مضيّها يسقط الإيلاء و يكون الطّلاق،و لا تسقط قبل المضيّ إلاّ بالفيء،و هو الجماع في داخل المدّة.

مثله أبو حنيفة.(أبو حيّان 2:181)

ابن قتيبة :يحلفون،يقال:آليت من امرأتي أولي إيلاء،إذا حلف أن لا يجامعها،و الاسم الأليّة.(85)

الطّبريّ: الّذين يقسمون أليّة،و الأليّة:الحلف.

(2:417)

السّجستانيّ: يحلفون على وطء نسائهم،يعني من الأليّة و هي اليمين،يقال:آلوه ألوة و ألوة و أليّة:اليمين.

و كانت العرب في الجاهليّة يكره الرّجل منهم المرأة، و يكره أن يتزوّجها غيره،فيحلف أن لا يطأها أبدا و لا يخلّي سبيلها إضرارا بها،فتكون معلّقة عليه حتّى يموت أحدهما.فأبطل اللّه عزّ و جلّ ذلك من فعلهم، و جعل الوقت الّذي يعرف فيه ما عند الرّجل للمرأة أربعة أشهر.(25)

الطّوسيّ: الإيلاء في الآية،المراد به اعتزال النّساء و ترك جماعهنّ على وجه الإضرار بهنّ.و كأنّه قيل:

للّذين يؤلون أن يعتزلوا نساءهم تربّص أربعة أشهر منهم.

و اليمين الّتي يكون بها الرّجل موليا،هي اليمين باللّه عزّ و جلّ،أو بشيء من صفاته الّتي لا يشركه فيها غيره، على وجه لا يقع موقع اللّغو الّذي لا فائدة فيه،و يكون الحلف على الامتناع من الجماع على جهة الغضب و الضّرار،و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام،و ابن عبّاس، و الحسن.(2:232)

الزّمخشريّ: قرأ عبد اللّه (آلوا من نسائهم) و قرأ ابن عبّاس (يقسمون من نسائهم) .

فإن قلت:كيف عدّي ب(من)و هو معدّى ب«على»

قلت:قد ضمّن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنّه قيل:يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين.

و الإيلاء من المرأة أن يقول:و اللّه لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا؛على التّقييد بالأشهر،أو لا أقربك على الإطلاق.و لا يكون فيما دون أربعة أشهر إلاّ ما يحكى عن إبراهيم النّخعيّ.(1:363)

نحوه البروسويّ.(1:352)

الطّبرسيّ: أي يحلفون،و فيه حذف،أي أن يعتزلوا عن وطء نسائهم،على وجه الإضرار بهنّ.(1:324)

ابن الأنباريّ: (من نسائهم)جارّ و مجرور متعلّق بالظّرف،كما تقول:لك منّي المعونة.و ليست(من)متعلّقة ب(يؤلون)لأنّه يقال:آلى على امرأته.و قول العامّة:آلى من امرأته غلط،و كأنّه لمّا سمع قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ البقرة:226،ظنّ أنّ(من)تتعلّق ب(يؤلون)فجوّز أن يقال:آلى من امرأته،و ليس كذلك.(1:156)

الفخر الرّازيّ:[بعد ذكر الإيلاء بحسب اللّغة قال:]

أمّا في عرف الشّرع فهو اليمين على ترك الوطء،كما إذا قال:و اللّه لا أجامعك،و لا أباضعك و لا أقربك.و من المفسّرين من قال:في الآية حذف،تقديره:للّذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم.إلاّ أنّه حذف لدلالة الباقي عليه.

ص: 25

و أنا أقول:هذا الإضمار إنّما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللّغويّ،أمّا إذا حملناه على المتعارف في الشّرع استغنينا عن هذا الإضمار.

أمّا قوله:(من نسائهم)ففيه سؤال،و هو أنّه يقال:

المتعارف أن يقال:حلف فلان على كذا أو آلى على كذا، فلم أبدلت لفظة«على»هاهنا بلفظة«من»؟

و الجواب من وجهين:

الأوّل:أن يراد لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر، كما يقال:لي منك كذا.

و الثّاني:أنّه ضمّن في هذا القسم معنى البعد،فكأنّه قيل:يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين.(6:85)

نحوه النّيسابوريّ.(2:253)

القرطبيّ: (يؤلون)معناه يحلفون،و المصدر إيلاء و أليّة و ألوة و ألوة.

و قرأ أبيّ،و ابن عبّاس: (للّذين يقسمون) ،و معلوم أن يقسمون تفسير يؤلون.و قرئ (للّذين آلوا) يقال:

آلى يؤلي إيلاء،و تألّى تألّيا،و ائتلى ائتلاء،أي حلف.

و منه: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ النّور:22.

[و فيه بحث طويل في شرائط الإيلاء و كيفيّته فراجع](3:102)

أبو حيّان:قال الجمهور:هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر،فإن حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فليس بمول و كانت يمينا محضا،لو وطئ في هذه المدّة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان.و هذا قول مالك، و الشّافعيّ،و أحمد،و أبي ثور.

و الظّاهر من الآية أنّ«الإيلاء»هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقا،غير مقيّد بزمان.

[و فيه أيضا بحوث مستوفاة،فراجع](2:181)

رشيد رضا :الإيلاء من المرأة أن يحلف الرّجل إنّه لا يقربها،و هو ممّا يكون من الرّجال عند المغاضبة و الغيظ.و فيه امتهان للمرأة و هضم لحقّها و إظهار لعدم المبالاة بها،فترك المقاربة الخاصّة المعلومة ضرارا معصية،و الحلف عليه حلف على ما لا يرضى اللّه تعالى به، لما فيه من ترك التّوادّ و التّراحم بين الزّوجين،و ما يترتّب على ذلك من المفاسد في أنفسهما و في عيالهما و أقاربهما.

و الظّاهر أنّ حكم هذا الإيلاء الحلف يدخل في معنى الآية السّابقة،على الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين أوردناهما،و هو أنّه يجب على المؤلي أن يحنث و يكفّر عن يمينه،و لكنّه إذا لم يفعل هذا الواجب لم يكن آثما في نفسه فقط،فيقال:حسبه ما يلقى من جزاء إثمه،بل يكون بإثمه هاضما لحقّ امرأته،و لا يبيح له العدل هذا الهضم و الظّلم،و لذلك أنزل اللّه فيه هذا الحكم.(2:368)

الطّباطبائيّ: الإيلاء من الألية بمعنى الحلف.

و غلب في الشّرع في حلف الزّوج أن لا يأتي زوجته غضبا و إضرارا،و هو المراد في الآية.

و الظّاهر أنّ تعدية الإيلاء ب(من)لتضمينه معنى الابتعاد و نحوه،فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة،و يشعر به تحديد التّربّص بأربعة أشهر،فإنّها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا.و منه يعلم أنّ المراد بالعزم على الطّلاق مع إيقاعه،و يشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة:227، فإنّ السّمع إنّما يتعلّق بالطّلاق الواقع لا بالعزم

ص: 26

عليه.(2:226)

المصطفويّ: الّذين يظهرون التّواني و يؤخّرون أنفسهم عن أزواجهم فلهم تربّص أربعة أشهر.

(1:110)

ياتل

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ... النّور:22

ابن عبّاس: لا يحلف،بلغة قريش.

(اللّغات في القرآن:36)

لا يقسم.(السّيوطيّ 2:32)

الحسن :لا يحلف أولو الفضل.

(ابن هشام 3:316)

مثله الضّحّاك.(الطّبريّ 18:103)

الفرّاء: الائتلاء:الحلف.و قرأ بعض أهل المدينة (و لا يتالّ اولو الفضل) و هي مخالفة للكتاب،من تألّيت.(2:248)

أبو عبيدة :مجازه و لا يفتعل،من آليت:أقسمت.

و له موضع آخر من ألوت بالواو.(2:65)

يقصّر،من«افتعل»ألوت قصّرت،و منه:

لا يَأْلُونَكُمْ آل عمران:118.(أبو حيّان 6:440)

ابن هشام: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ و لا يأل أولو الفضل منكم.(3:316)

ابن قتيبة :لا يحلف،و هو«يفتعل»من الأليّة، و هي اليمين.و قرئت أيضا(و لا يتألّ)على «يتفعّل».(302)

الطّبريّ: و اختلف القرّاء في قراءة قوله: (وَ لا يَأْتَلِ) ، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار (وَ لا يَأْتَلِ) بمعنى«يفتعل»من الأليّة،و هي القسم باللّه،سوى أبي جعفر و زيد بن أسلم، فإنّه ذكر عنهما أنّهما قرءا ذلك (و لا يتألّ) بمعنى«يتفعّل» من الأليّة.

و الصّواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ (وَ لا يَأْتَلِ) بمعنى«يفتعل»من الأليّة؛و ذلك أنّ ذلك في خطّ المصحف كذلك،و القراءة الأخرى مخالفة خطّ المصحف.فاتّباع المصحف مع قراءة جماعة القرّاء، و صحّة المقروء به،أولى من خلاف ذلك كلّه.

(18:101)

السّجستانيّ: يحلف«يفتعل»من الأليّة،و هي اليمين.و قرئت(يتألّ)على«يتفعّل»من الأليّة أيضا.

و يأتل أيضا«يفتعل»من قولك:ما ألوت جهدا،أي ما قصّرت.(133)

نحوه القرطبيّ(12:208)،و أبو حيّان(6:440)، و الميبديّ(6:506).

الطّوسيّ: الائتلاء:القسم،يقال:آلى يؤلي إيلاء، إذا حلف على أمر من الأمور،و يأتل«يفتعل»من الأليّة على وزن«يقتضي»من القضيّة.و من قرأ (يتألّ) فعلى وزن«يتفعّل»و المعنى لا يحلف أن لا يؤتي.(7:421)

الزّمخشريّ: هو من ائتلى،إذا حلف«افتعال»من الأليّة.و قيل:من قولهم:ما ألوت جهدا،إذا لم تدّخر منه شيئا.

و يشهد للأوّل قراءة الحسن (و لا يتألّ) و المعنى لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقّين للإحسان،أو لا يقصّروا في أن يحسنوا إليهم،و إن كانت بينهم و بينهم

ص: 27

شحناء لجناية اقترفوها،فليعودوا عليهم بالعفو و الصّفح، و ليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل ربّهم مع كثرة خطاياهم و ذنوبهم.(3:56)

الطّبرسيّ:أي لا يحلف أو لا يقصّر و لا يترك.

(4:134)

الفخر الرّازيّ: ذكروا في قوله:(و لا ياتل)وجهين:

الأوّل (1):و هو المشهور أنّه من ائتلى،إذا حلف «افتعل»من الأليّة،و المعنى لا يحلف.قال أبو مسلم:هذا ضعيف لوجهين:

أحدهما:أنّ ظاهر الآية على هذا التّأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء،و هم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء،فهذا المتأوّل قد أقام النّفي مكان الإيجاب،و جعل المنهيّ عنه مأمورا به.

و ثانيهما:أنّه قلّما يوجد في الكلام«افتعلت»مكان «أفعلت»،و هنا آليت من الأليّة«افتعلت»،فلا يقال:

أفعلت،كما لا يقال:من ألزمت التزمت،و من أعطيت اعتطيت.ثمّ قال في(ياتل):إنّ أصله يأتلي،ذهبت الياء للجزم،لأنّه نهي،و هو من قولك:ما ألوت فلانا نصحا، و لم آل في أمري جهدا،أي ما قصّرت-و لا يأل و لا يأتل واحد-فالمراد لا تقصّروا في أن تحسنوا إليهم.و يوجد كثيرا«افتعلت»مكان«فعلت»،تقول:كسبت و اكتسبت،و صنعت و اصطنعت،و رضيت و ارتضيت.

فهذا التّأويل هو الصّحيح دون الأوّل،[و هو:لا يحلف] و يروى هذا التّأويل أيضا عن أبي عبيدة.

أجاب الزّجّاج عن السّؤال الأوّل بأنّ«لا»تحذف في اليمين كثيرا،قال اللّه تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا البقرة:224،يعني أن لا تبرّوا.

و أجابوا عن السّؤال الثّاني أنّ جميع المفسّرين الّذين كانوا قبل أبي مسلم فسّروا اللّفظة باليمين،و قول كلّ واحد منهم حجّة في اللّغة فكيف الكلّ،و يعضده قراءة الحسن (و لا يتألّ) .(23:186)

النّيسابوريّ: (وَ لا يَأْتَلِ) و هو«افتعل»من الأليّة، أي لا يحلف على عدم الإحسان.و حرف النّفي يحذف من جواب القسم كثيرا،فهي كقراءة من قرأ (و لا يتألّ) .

و قيل:هو من قولهم:ما ألوت جهدا،إذا لم يدّخر من الاجتهاد شيئا،أي لا يقصّر في الإحسان إلى المستحقّين.(18:80)

أبو السّعود: أي لا يحلف«افتعال»من الأليّة.

و قيل:لا يقصّر من الألو.و الأوّل هو الأظهر.(4:52)

الآلوسيّ: أي لا يحلف«افتعال»من الأليّة.

و قال أبو عبيدة: و اختاره أبو مسلم،أي لا يقصّر، من الألو بوزن الدّلو،و الألوّ بوزن العتوّ.قيل:و الأوّل أوفق بسبب النّزول.[إلى أن قال:]

و قرأ عبد اللّه بن عبّاس بن ربيعة،و أبو جعفر مولاه، و زيد بن أسلم (يتألّ) مضارع تألّى،بمعنى حلف.

و هذه القراءة تؤيّد المعنى الأوّل ل(يأتل).

(18:125)

الطّباطبائيّ: الائتلاء:التّقصير و التّرك و الحلف.

و كلّ من المعاني الثّلاثة لا يخلو من مناسبة،و المعنى لا يقصّر أولو الفضل منكم.(15:94)ر.

ص: 28


1- قد غفل عن بيان الوجه الثّاني و كأنّه اكتفى بما حكاه عن أبي مسلم في السّؤال الثّاني أنّه بمعنى:لا يقصّر.

عبد الكريم الخطيب: أي و لا يمتنع أو يقصّر.

(9:1253)

آلاء

1- ..فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

الأعراف:69

ابن عبّاس: أي نعم اللّه عليكم.

(الفخر الرّازيّ 14:158)

نحوه قتادة و السّدّيّ،و ابن زيد.(الطّبريّ 8:216)

مثله الطّبرسيّ(2:437)،و الحسن(الطّوسيّ 4:475).

الإمام الصّادق عليه السّلام:هي أعظم نعم اللّه على خلقه، و هي:ولايتنا.(الكاشانيّ 2:211)

أبو عبيدة :أي نعم اللّه،و واحدها في قول بعضهم:

ألى،تقديرها قفا،و في قول بعضهم:إلى،تقديرها معى.

(1:217)

الطّبريّ: «الآلاء»فإنّها جمع،واحدها:إلي،بكسر الألف،في تقدير معي،و يقال:ألى في تقدير قفا،بفتح الألف.و قد حكي سماعا من العرب إلي،مثل حسي.

(8:216)

السّجستانيّ:نعم اللّه واحدها:إلي و ألى و إلى.(11)

القيسيّ: واحد آلاء:إلى أو ألى أو ألي أو إلي،بمنزلة واحد.(1:323)

الطّوسيّ: الآلاء؛في واحدها لغات:«ألا مثل معا، و«ألا»مثل قفا،و«إلي»مثل حسي،و«إلى»مثل دمى.

قال الشّاعر:

أبيض لا يرهب الهزال و لا

يقطع رحما و لا يخون إلاّ

«إلا و ألا»رويا جميعا.

معناه اذكروا نعم اللّه و اشكروه عليها،لكي تفوزوا بثواب الجنّة و النّعيم الدّائم الأبديّ.(4:475)

الواحديّ:واحد الآلاء:إلي و ألو و إلى.نظير الآلاء، الآناء،واحدها:إنا و أني و إني.

(الفخر الرّازيّ 14:158)

الميبديّ: تذكّروا أيادي اللّه الجميلة عليكم.

(3:644)

الزّمخشريّ: في استخلافكم و بسطة أجرامكم، و ما سواهما من عطاياه.و واحد الآلاء:ألى،و نحوه أنى و آناء و ضلع و أضلاع و عنب و أعناب.(3:87)

مثله النّيسابوريّ.(8:160)

الفخر الرّازيّ: لا بدّ في الآية من إضمار،و التّقدير:

و اذكروا آلاء اللّه و اعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لعلّكم تفلحون.(14:158)

أبو السّعود: الّتي أنعم بها عليكم من فنون النّعماء الّتي هذه من جملتها.و هذا تكرير للتّذكير لزيادة التّقرير،و تعميم أثر تخصيص.(2:174)

البروسويّ: جمع إلى،بمعنى النّعمة،و هو تعميم تخصيص.(3:186)

الآلوسيّ: أي نعمه سبحانه و تعالى،و هي جمع إلي، بكسر فسكون،كحمل و أحمال،أو ألي،بضمّ فسكون،

ص: 29

كقفل و أقفال،أو إلى،بكسر ففتح مقصورا،كمعى و أمعاء،أو بفتحتين مقصورا،كقفا و أقفاء.

و هذا تكرير للتّذكير لزيادة التّقرير،و تعميم أثر تخصيص،أي اذكروا الآلاء الّتي من جملتها ما تقدّم.(8:157)

القاسميّ: أي في استخلافكم،و بسطة أجرامكم، و ما سواهما من عطاياه،لتخصّصوه بالعبادة.(7:2771)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ الأعراف:74

2- فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى. النّجم:55

الطّبريّ: فبأيّ نعمات ربّك يا ابن آدم الّتي أنعمها عليك،ترتاب و تشكّ و تجادل؟!

و الآلاء:جمع ألى.و في واحدها لغات ثلاثة:إلي على مثال علي،و إليّ على مثال عليّ،و ألى على مثال على.(27:80)

الطّوسيّ: إنّما قيل بعد تعديد النّعم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى لأنّ النّعم الّتي عدّدت على من ذكر نعم من اللّه علينا،لما لنا في ذلك من اللّطف في الانزجار عن القبيح،مع أنّه نالهم ما نالهم بكفرهم النّعم،فبأيّ نعم ربّك أيّها المخاطب تتمارى حتّى تكون مقارنا لهم في سلوك بعض مسالكهم،أي فما بقيت لك شبهة بعد تلك الأهوال في جحده نعمه.(9:440)

الميبديّ: أي تشكّ و تجادل أيّها الإنسان بما أولاك من النّعم أو بما كفاك من النّقم!و قيل:بأيّ نعم ربّك الدّالّة على وحدانيّته تشكّ؟(9:371)

الزّمخشريّ: قد عدّد نعما و نقما و سمّاها كلّها آلاء،من قبل ما في نقمة من المزاجر و المواعظ للمعتبرين.(4:35)

الطّبرسيّ: قيل:لمّا عدّ اللّه سبحانه ما فعله ممّا يدلّ على وحدانيّته قال:فبأيّ نعم ربّك الّتي تدلّ على وحدانيّته تتشكّك؟و إنّما ذكره بالنّعم بعد تعديد النّقم، لأنّ النّقم الّتي عدّدت هي نعم علينا لما لنا فيها من اللّطف في الانزجار عن القبيح؛إذ نالهم تلك النّقم بكفرانهم المنعم.(5:183)

الفخر الرّازيّ: إن قيل:المذكور من قبل نعم و الآلاء نعم،فكيف قال:آلاء ربّك؟

نقول:لمّا عدّ من قبل النّعم و هو الخلق من النّطفة و نفخ الرّوح الشّريفة فيه و الإغناء و الإقناء،و ذكر أنّ الكافر بنعمه أهلك،قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى فيصيبك مثل ما أصاب الّذين تماروا من قبل،أو تقول:لمّا ذكر الإهلاك،قال للشّاكّ:أنت ما أصابك الّذي أصابهم؛ و ذلك بحفظ اللّه إيّاك فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى النّجم:55 و سنزيده بيانا في قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الرّحمن:13.(29:25)

أبو حيّان: و هو استفهام في معنى الإنكار،أي آلاؤه،و هي النّعم لا يتشكّك فيها سامع.و قد سبق ذكر نعم و نقم،و أطلق عليها كلّها«آلاء»لما في النّقم من الزّجر و الوعظ لمن اعتبر.(8:170)

الآلوسيّ: الاستفهام للإنكار،و الآلاء-جمع إلي-:

النّعم،و المراد بها ما عدّ في الآيات قبل.و سمّي الكلّ بذلك

ص: 30

مع أنّ منه نقما،لما في النّقم من العبر و المواعظ للمعتبرين، و الانتفاع للأنبياء و المؤمنين،فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا.

و قيل:التّعبير بالآلاء للتّغليب.و تعقّب بأنّ المقام غير مناسب له.(27:71)

3- فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ .الرّحمن:13

ابن زيد :الآلاء:القدرة،فبأيّ آلائه تكذّب، خلقكم كذا و كذا،فبأيّ قدرة اللّه تكذّبان؟!

(الطّبريّ 27:124)

ابن قتيبة :أمّا تكرار: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإنّه عدّد في هذه السّورة نعماءه،و أذكر عباده آلاءه،و نبّههم على قدرته و لطفه بخلقه،ثمّ أتبع ذكر كلّ خلّة وصفها بهذه الآية،و جعلها فاصلة بين كلّ نعمتين، ليفهّمهم النّعم و يقرّرهم بها.

و هذا كقولك للرّجل:أجل أحسنت إليه دهرك و تابعت عنده الأيادي،و هو في ذلك ينكرك و يكفرك؛أ لم أبوّئك منزلا و أنت طريد؟أ فتنكر هذا؟و أ لم أحملك و أنت راجل؟أ لم أحجّ بك و أنت صرورة؟أ فتنكر هذا؟

و مثل ذلك تكرار: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ القمر:15، 17،أي هل من معتبر و متّعظ.

(تأويل مشكل القرآن:240)

نحوه الميبديّ(9:409)،و القرطبيّ(17:161).

الحسين بن الفضل: التّكرير طردا للغفلة، و تأكيدا للحجّة.(القرطبي 17:160)

عبد الجبّار: ربما قيل:إنّه تعالى ذكر في أوّل السّورة أنّه: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ الرّحمن:3، 4،فكيف قال:من بعد: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟

و جوابنا:أنّه بعد ذلك ذكر مع الإنس الجنّ،فقال:

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ* وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الرّحمن:14،15،ثمّ عطف على ذلك بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأنّه كلّف تعالى في الأرض الإنس و الجنّ.و إنّما كرّر تعالى في هذه الآيات الكثيرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأنّه ذكر نعمة بعد نعمة فأتبعه ذلك،و هذا ممّا يحسن ممّا يذكر نعمه و أياديه.

فإن قال:ففي جملة الآيات ما ليس فيه نعمة كقوله:

يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الرّحمن:44،إلى غير ذلك.

و جوابنا:أنّ ذلك من النّعم إذا تدبّره المرء و خاف منه،فصار زاجرا له عن المعاصي.(410)

الإسكافيّ: تكريره إحدى و ثلاثين مرّة.

للسّائل أن يسأل عن العدّة الّتي جاءت عليها هذه الآية متكرّرة،و عن فائدتها.

و الجواب أن يقال:نبّه اللّه تعالى على ما خلق من نعم الدّنيا المختلفة في سبع منها،و أفرد سبعا للتّرهيب و الإنذار و التّخويف بالنّار،و فصّل بين السّبع الأوّل و السّبع الآخر بواحدة ثلاث آيات سويّ،فيها بين النّاس كلّهم فيما كتب اللّه من الفناء عليهم؛حيث يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الرّحمن 26،أي من على الأرض،و هذه الفاصلة للتّسوية بين الملائكة و بين الإنس و الجنّ في الافتقار إلى اللّه تعالى،و إلى المسألة و الإشفاق من خشية اللّه،و هي

ص: 31

قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرّحمن:29،و إنّما كانت الأوّل سبعا،لأنّ أمّهات النّعم الّتي خلقها اللّه سبعا سبعا كالسّماوات و الأرضين و معظم الكواكب،و كانت الثّانية سبعا،لأنّها على قسمة أبواب جهنّم لمّا كانت في ذكرها.و بعد هذه السّبع ثمانية في وصف الجنان و أهلها على قسمة أبوابها،و ثمانية أخرى بعدها للجنّتين اللّتين دون الجنّتين الأوليين،لأنّه قال تعالى:في مفتتح الثّمانية المتقدّمة: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ الرّحمن:46،فلمّا استكملت هذه الآية ثماني مرّات قال: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ الرّحمن:62، فمضت ثمانية في وصف الجنّتين و أهلهما،و ثمانية في جنّتين دونهما للثّمانية المتقدّمة إليه،فكان الجميع إحدى و ثلاثين مرّة.

فإن قال قائل:فقد سوّى بين الجنّة و النّار في الاعتدال بالإنعام على الثّقلين بوصفهما،و إنّما النّعمة إحداهما دون الأخرى؟

و الجواب أن يقال:إنّ اللّه تعالى منعم على عباده نعمتين:نعمة الدّنيا و نعمة الدّين،و أعظمهما الأخرى، و اجتهاد الإنسان و رهبته ممّا يؤلمه أكثر من اجتهاده و رغبته فيما ينعمه،فالتّرهيب زجر على المعاصي و بعث على الطّاعات،و هو سبب النّفع الدّائم،فأيّة نعمة أكبر إذا من التّخويف بالضّرر المؤدّي إلى أشرف النّعم،فلمّا جاز عند ذكر ما أنعم به علينا في الدّنيا و عند ذكر ما أعدّه للمطيعين في الأخرى أن يقول: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الرّحمن:13،جاز أن يقول عند ذكر ما يخوّفنا به ممّا يصرفنا عن معصيته إلى طاعته الّتي تكسبنا نعيم جنّته كذلك،لأنّ هذا أشوق إلى تلك الكرامة من وصف ما أعدّ فيهما من النّعمة.

فإن قال:إنّ السّبع الأوّل قد عرفت من ستّ منها نعمة اللّه علينا في البرّ و البحر،و السّابعة هي كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الرّحمن:26،و أيّة نعمة في ذلك حتّى تعدّ من نعمة الدّنيا؟

و الجواب أن يقال:فيه التّسوية بين الصّغير و الكبير، و الأمير و المأمور،و المالك و المملوك،و الظّالم و المظلوم،في الفناء المؤدّي إلى دار البقاء،و مجازاة المحسن و المسيء بحقّه من الجزاء،فالمظلوم يؤخذ حقّه،و الظّالم يقرع فيترك الظّلم له،و سبب الفناء يعلمه الإنسان باضطرار، فلا نعمة إذا أكبر من هذه.(463)

الشّريف المرتضى: أمّا التّكرار في سورة الرّحمن فإنّما حسن للتّقرير بالنّعم المختلفة المعدّدة،فكلّما ذكر نعمة أنعم بها قرّر عليها،و وبّخ على التّكذيب بها،كما يقول الرّجل لغيره:أ لم أحسن إليك بأن خوّلتك الأموال؟أ لم أحسن إليك بأن خلّصتك من المكاره؟أ لم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا و كذا؟فيحسن منه التّكرير لاختلاف ما يقرّره به،و هذا كثير في كلام العرب و أشعارهم.[ثمّ ذكر أشعارا كثيرة إلى أن قال:]

و هذا المعنى أكثر من أن نحصيه،و هذا هو الجواب عن التّكرار في سورة المرسلات،بقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ المرسلات:15،19،24،28،34.

فإن قيل:إذا كان الّذي حسّن التّكرار في سورة الرّحمن ما عدّده من آلائه و نعمه،فقد عدّد في جملة ذلك ما ليس بنعمة،و هو قوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ الرّحمن:35،و قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الرّحمن:43،44،فكيف يحسن أن يقول بعقب هذا: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و ليس هذا من الآلاء و النّعم؟

ص: 32

فإن قيل:إذا كان الّذي حسّن التّكرار في سورة الرّحمن ما عدّده من آلائه و نعمه،فقد عدّد في جملة ذلك ما ليس بنعمة،و هو قوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ الرّحمن:35،و قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الرّحمن:43،44،فكيف يحسن أن يقول بعقب هذا: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و ليس هذا من الآلاء و النّعم؟

قلنا:الوجه في ذلك أنّ فعل العقاب و إن لم يكن نعمة فذكره و وصفه و الإنذار به من أكبر النّعم،لأنّ في ذلك زجرا عمّا يستحقّ به العقاب،و بعثا على ما يستحقّ به الثّواب.فإنّما أشار بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، بعد ذكر جهنّم و العذاب فيها إلى نعمته بوصفها و الإنذار بعقابها،و هذا ممّا لا شبهة في كونه نعمة.

(1:123)

الطّوسيّ: إنّما كرّرت هذه الآية،لأنّه تقرير بالنّعمة عند ذكرها على التّفصيل نعمة نعمة،كأنّه قيل:بأيّ هذه الآلاء تكذّبان.ثمّ ذكرت آلاء أخر فاقتضت من التّذكير و التّقرير بها ما اقتضت الأولى،ليتأمّل كلّ واحد في نفسها و في ما تقتضيه صفتها من حقيقتها الّتي تتفضّل بها من غيرها.(9:468)

الكرمانيّ: كرّر الآية إحدى و ثلاثين مرّة،ثمانية منها ذكرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق اللّه، و بدائع صنعه،و مبدأ الخلق و معادهم،ثمّ سبعة منها عقيب آيات فيها ذكر النّار و شدائدها على عدد أبواب جهنّم.و حسن ذكر الآلاء عقيبها لأنّ صرفها و دفعها نعما توازي النّعم المذكورة،أو لأنّها حلّت بالأعداء،و ذلك يعدّ من أكبر النّعماء.

و بعد هذه السّبعة ثمانية في وصف الجنان و أهلها على عدد أبواب الجنّة،و ثمانية أخرى بعدها للجنّتين اللّتين دونهما.فمن اعتقد الثّمانية الأولى و عمل بموجبها استحقّ كلتا الثّمانيتين من اللّه،و وقاه السّبعة السّابقة،و اللّه تعالى أعلم.(186)

الميبديّ:و اعلم أنّ في بعض هذه السّورة ذكر الشّدائد و العذاب و النّار و النّعمة من وجهين:[ثمّ ذكر نحو الكرمانيّ](9:410)

الفخر الرّازيّ: ما الحكمة في تكرير هذه الآية و كونه إحدى و ثلاثين مرّة؟

نقول:الجواب عنه من وجوه:

الأوّل:إنّ فائدة التّكرير التّقرير،و أمّا هذا العدد الخاصّ فالأعداد توقيفيّة لا يطّلع على تقدير المقدّرات أذهان النّاس.و الأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام اللّه تعالى.

الثّاني:ما قلناه:إنّه تعالى ذكر في السّورة المتقدّمة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ القمر:18،أربع مرّات لبيان ما في ذلك من المعنى،و ثلاث مرّات للتّقرير و التّكرير.و للثّلاث و السّبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى: وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ لقمان:27،فلمّا ذكر العذاب ثلاث مرّات ذكر الآلاء إحدى و ثلاثين مرّة،لبيان ما فيه،من المعنى، و ثلاثين مرّة للتّقرير.و الآلاء مذكورة عشر مرّات أضعاف مرّات ذكر العذاب،إشارة إلى معنى قوله تعالى:

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها الأنعام:160.

الثّالث:إنّ الثّلاثين مرّة تكرير بعد البيان في المرّة

ص: 33

الأولى،لأنّ الخطاب مع الجنّ و الإنس،و النّعم منحصرة في دفع المكروه و تحصيل المقصود،لكن أعظم المكروهات عذاب جهنّم: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ الحجر:

44،و أتمّ المقاصد نعيم الجنّة و لها ثمانية أبواب،فإغلاق الأبواب السّبعة و فتح الأبواب الثّمانية جمعية نعمة و إكرام.فإذا اعتبرت تلك النّعم بالنّسبة إلى جنسي الجنّ و الإنس تبلغ ثلاثين مرّة و هي مرّات التّكرير للتّقرير، و المرّة الأولى لبيان فائدة الكلام.و هذا منقول و هو ضعيف،لأنّ اللّه ذكر نعم الدّنيا و الآخرة،و ما ذكره اقتصار على بيان نعم الآخرة.

الرّابع:هو أنّ أبواب النّار سبعة و اللّه تعالى ذكر سبع آيات تتعلّق بالتّخويف من النّار،من قوله تعالى:

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ الرّحمن:31،إلى قوله تعالى:

يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الرّحمن:44،ثمّ إنّه تعالى ذكر بعد ذلك جنّتين؛حيث قال: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ الرّحمن:46،و لكلّ جنّة ثمانية أبواب تفتح كلّها للمتّقين.و ذكر من أوّل السّورة إلى ما ذكرنا من آيات التّخويف ثماني مرّات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سبع مرّات للتّقرير بالتّكرير،استيفاء للعدد الكثير الّذي هو سبعة.و قد بيّنّا سبب اختصاصه في قوله تعالى: سَبْعَةُ أَبْحُرٍ لقمان:27،و سنعيد منه طرفا إن شاء اللّه تعالى،فصار المجموع ثلاثين مرّة.و المرّة الواحدة الّتي هي عقيب النّعم الكثيرة لبيان المعنى و هو الأصل، و التّكثير تكرار فصار إحدى و ثلاثين مرّة.(29:96)

الرّازيّ: فإن قيل:بعض الجمل المذكورة في هذه السّورة ليست من النّعم،كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الرّحمن:26،و قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ الرّحمن:35،فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟

قلنا:من جملة الآلاء دفع البلاء و تأخير العقاب، فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة،و تأخير العقاب عن العصاة أيضا نعمة،فلهذا امتنّ علينا بذلك.

(مسائل الرّازيّ:332)

الطّوفيّ: فائدة التّكرير إعلامهم بتأكيد استحقاقه لعبادتهم،بتذكيره إيّاهم نعمه عليهم عند كلّ فرد من أفرادها،كما يقول الرّجل لعبده:أ لم أكسك،أ لم أزوّجك؟ أ لم أرحك من التّعب،فبأيّ نعمي تكذّب؟أ لم أفقدك من الجناية الفلانيّة؟أ لم أعطك الضّيعة الفلانيّة؟و يعدّد نعمه عليه،ثمّ يقول:فبأيّ آلاء تكذّب؟و معنى هذا الكلام و قوّته أنّك لا تستطيع تكذيب شيء من ذلك لوضوحه و ظهوره.(الإكسير في علم التّفسير:250)

السّيوطيّ: إنّها و إن تكرّرت نيّفا و ثلاثين مرّة، فكلّ واحدة تتعلّق بما قبلها؛و لذلك زادت على ثلاثة.

و لو كان الجميع عائدا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأنّ التّأكيد لا يزيد عليها،قاله ابن عبد السّلام و غيره.

و إن كان بعضها ليس بنعمة فذكر النّقمة للتّحذير نعمة.و قد سئل:أيّ نعمة في قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الرّحمن:26؟فأجيب بأجوبة،أحسنها:النّقل من دار الهموم إلى دار السّرور،و إراحة المؤمن و البارّ من الفاجر.

(3:226)

البروسويّ:في«بحر العلوم»الآلاء:النّعم الظّاهرة

ص: 34

و الباطنة الواصلة إلى الفريقين،و بهذا يظهر فساد ما قيل:

من أنّ الآلاء هي النّعم الظّاهرة فحسب،و النّعماء هي النّعم الباطنة.

و الصّواب:أنّهما من الألفاظ المترادفة كالأسود و اللّيوث،و الفلك و السّفن.

و في«التّأويلات النّجميّة»الآلاء:هي النّعمة الظّاهرة و النّعماء الباطنة.و الآيات المتوالية تدلّ على هذا،لأنّها نعمة ظاهرة بالنّسبة إلى أهل الظاهر.

و معنى تكذيبهم بالآلاء كفرهم بها.و التّعبير عن الكفر بالتّكذيب لما أنّ دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان و الشّكر شهادة منها بذلك،فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة،أي فإذا كان الأمر كما فصّل فبأيّ فرد من أفراد آلاء مالككما و مربّيكما بتلك الآلاء تكذّبان،مع أنّ كلاّ منها ناطق بالحقّ شاهد بالصّدق، فالاستفهام للتّقرير،أي للحمل على الإقرار بتلك النّعم، و وجوب الشّكر عليها.(9:292)

القاسميّ: في«عروس الأفراح»فإن قلت:إذا كان المراد بكلّ ما قبله فليس ذلك بإطناب،بل هي ألفاظ كلّ أريد به غير ما أريد به الآخر.

قلت:إذا قلنا:العبرة بعموم اللّفظ،فكلّ واحد أريد بالآخرة و لكن كرّر ليكون نصّا فيما يليه،ظاهرا في غيره.

فإن قلت:يلزم التّأكيد؟

قلت:و الأمر كذلك،و لا يرد عليه أنّ التّأكيد لا يزاد به عن ثلاثة،لأنّ ذاك في التّأكيد الّذي هو تابع.أمّا ذكر الشّيء في مقامات متعدّدة أكثر من ثلاثة،فلا يمتنع.

و قال العزّ بن عبد السّلام في آخر كتابه:الإشارة إلى الإيجاز.و أمّا قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيجوز أن تكون مكرّرة على جميع أنعمه و يجوز أن يراد بكلّ واحدة منهنّ ما وقع بينها و بين قبلها من نعمة،و يجوز أن يراد بالأولى ما تقدّمها من النّعم،و بالثّانية ما تقدّمها، و بالثّالثة ما تقدّم على الأولى و الثّانية،و بالرّابعة ما تقدّم على الأولى و الثّانية و الثّالثة،و هكذا إلى آخر السّورة.(15:5636)

الطّباطبائيّ: و الخطاب في الآية لعامّة الثّقلين:

الجنّ و الإنس،و يدلّ على ذلك توجيه الخطاب إليهما صريحا،فيما سيأتي من قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ الرّحمن:31،و قوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الرّحمن:

33،و قوله يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ الرّحمن:

35،فلا يصغى إلى قول من قال:إنّ الخطاب في الآية للذّكر و الأنثى من بني آدم،و لا إلى قول من قال:إنّه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين،و يفيد تكرّر الخطاب نحو يا شرطيّ اضربا عنقه،أي اضرب عنقه اضرب عنقه.

و توجيه الخطاب إلى عالمي الجنّ و الإنس هو المصحّح لعدّ ما سنذكره من شدائد يوم القيامة و عقوبات المجرمين من أهل النّار من آلائه و نعمه تعالى،فإنّ سوق المسيئين و أهل الشّقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم و مجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النّظام العامّ الجاري في الكلّ الحاكم على الجميع،فذلك نعمة بالقياس إلى الكلّ و إن كان نقمة بالنّسبة إلى طائفة خاصّة منهم و هم المجرمون،و هذا نظير ما نجده في السّنن و القوانين الجارية في المجتمعات،فإنّ التّشديد على أهل البغي و الفساد ممّا يتوقّف عليه حياة المجتمع و بقاؤه،

ص: 35

و ليس يتنعّم به أهل الصّلاح خاصّة،كما أنّ إثابة أهل الصّلاح بالثّناء الجميل و الأجر الحسن كذلك.

فما في النّار من عذاب و عقاب لأهلها،و ما في الجنّة من كرامة و ثواب آلاء و نعم على معشر الجنّ و الإنس،كما أنّ الشّمس و القمر و السّماء المرفوعة و الأرض الموضوعة و النّجم و الشّجر و غيرها آلاء و نعم على أهل الدّنيا.(19:98)

أولاء

1- ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ. آل عمران:119 أبو العالية :يعني المنافقين،دليله قوله تعالى:

وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا آل عمران:119.

مثله مقاتل.(القرطبيّ 4:181)

الفرّاء: العرب إذا جاءت إلى اسم مكنّى قد وصف بهذا و هذان و هؤلاء،فرّقوا بين«ها»و بين«ذا»و جعلوا المكنّى بينهما؛و ذلك في جهة التّقريب لا في غيرها، فيقولون:أين أنت؟فيقول القائل:هاأنا ذا،و لا يكادون يقولون:هذا أنا.

و كذلك التّثنية و الجمع،و منه: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ و ربّما أعادوا«ها»فوصلوها بذا و هذان و هؤلاء،فيقولون:ها أنت هذا،و ها أنتم هؤلاء،و قال اللّه تبارك و تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ النّساء:

109.

فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر،جعلوا«ها»موصولة ب«ذا»فيقولون:هذا هو، و هذان هما،إذا كان على خبر يكتفي كلّ واحد بصاحبه بلا فعل.و التّقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه،و أحبّوا أن يفرّقوا بذلك بين معنى التّقريب و بين معنى الاسم الصّحيح.(1:231)

نحوه الطّبريّ.(4:65)

الزّجّاج: قال بعض النّحويّين:العرب إذا جاءت إلى اسم مكنّى قد وصف ب«هذا»جعلته بين«ها»و«ذا»، فيقول القائل:أين أنت؟فيقول المجيب:هاأنا ذا.قال:

و ذلك إذا أرادوا جهة التّقريب،قال:فإنّما فعلوا ذلك ليفصلوا بين التّقريب و غيره.

و معنى التّقريب عنده أنّك لا تقصد الخبر عن هذا الاسم،فتقول:هذا زيد.

و القول في هذا عندنا أنّ الاستعمال في المضمر أكثر فقط،أعني أن يفصل بين«ها»و«ذا»لأنّ التّنبيه أن يلي المضمر أبين.

فإن قال قائل:ها زيد ذا،و هذا زيد،جاز، لا اختلاف بين النّاس في ذلك.

و هذا عندنا على ضربين:جائز أن يكون(أولاء)في معنى الّذين،كأنّه قيل:هأنتم الّذين تحبّونهم و لا يحبّونكم.و جائز أن يكون(تحبّونهم)منصوبة على الحال،و(انتم)ابتداء و(اولاء)الخبر.

المعنى:انظروا إلى أنفسكم محبّين لهم،نهوا في حال محبّتهم إيّاهم.(1:462).

الطّوسيّ: قال الحسن بن عليّ المغربيّ:(أولاء) يعني به المنافقين،كما تقول:ما أنت زيدا تحبّه،و لا يحبّك.

و هذا مليح غير أنّه يحتاج أن يقدّر عامل في(اولاء)

ص: 36

ينصبه،يفسّره قوله:(يحبّونهم)لأنّه مشغول لا يعمل فيما قبله،كقوله: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ يس:39،في من نصبه.

و أولاء للرّجال،و للنّساء أولات،و هو مبنيّ على الكسر.و كان الأصل السّكون و الألف قبلها ساكنة، فحرّك لالتقاء السّاكنين على أصل الكسرة.(2:573)

الزّمخشريّ: (ها)للتّنبيه،و(انتم)مبتدأ،و(اولاء) خبره،أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب.(1:459)

أبو حيّان: تقدّم لنا الكلام على نظير ها أَنْتُمْ أُولاءِ في قوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ آل عمران:

66،قراءة و إعرابا.

و تلخيصه هنا أن يكون(أولاء)خبرا عن(انتم) و(تحبّونهم)مستأنف أو حال،أو صلة على أن يكون (أولاء)موصولا،أو خبرا ل(انتم)و(اولاء)منادى،أو يكون(أولاء)مبتدأ ثانيا و(تحبّونهم)خبر عنه و الجملة خبر عن الأوّل،أو يكون(أولاء)في موضع نصب،نحو:

أنا زيدا ضربته،فيكون من الاشتغال،و اسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه(انتم)لأنّ (انتم)خطاب للمؤمنين،و(اولاء)إشارة إلى الكافرين.

و في الأوجه السّابقة مدلوله و مدلول(انتم)واحد و هو المؤمنون،و على تقدير الاستئناف في(تحبّونهم) لا ينعقد ممّا قبله مبتدأ و خبر،إلاّ بإضمار وصف تقديره:

أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين؛إذ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ بيان لخطئهم في موالاتهم، حيث يبذلون المحبّة لمن يبغضهم.(3:39)

2-قال هم اولاء على اثرى و عجلت اليك ربّ لترضى.طه:84

الطّبريّ: يقول:قومي على أثري يلحقون بي.(16:195)

أبو البقاء: (أولاء)اسم موصول،و(على اثرى) صلته.(إملاء ما منّ به الرّحمن 2:125)

الطّبرسيّ: (هم أولاء)مبتدأ و خبر،و يجوز أن يكون(اولاء)بدلا من(هم)و يكون(على اثرى)في موضع رفع بأنّه خبر المبتدأ.و على الوجه الأوّل يجوز أن يكون(على اثرى)في موضع نصب على الحال،و العامل فيه معنى الإشارة في(اولاء)،و يجوز أن يكون خبرا بعد خبر.(4:23)

القرطبيّ: قال أبو حاتم:قال عيسى:بنو تميم يقولون:«هم أولى»مقصورة مرسلة،و أهل الحجاز يقولون:«أولاء»ممدودة.

و حكى الفرّاء:(هم اولاى على اثري)،و زعم أبو إسحاق الزّجّاج:أنّ هذا لا وجه له.قال النّحّاس:و هو كما قال،لأنّ هذا ليس ممّا يضاف،فيكون مثل هداي.

و لا يخلو من إحدى جهتين:إمّا أن يكون اسما مبهما فإضافته محال،و إمّا أن يكون بمعنى«الّذين» فلا يضاف أيضا،لأنّ ما بعده من تمامه،و هو معرفة.(11:

233)

الآلوسيّ: (اولاء)اسم إشارة كما هو المشهور، مرفوع المحلّ على الخبريّة.(16:242)

هؤلاء

1- ...فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ

ص: 37

صادِقِينَ. البقرة:31

مجاهد :بأسماء هذه الّتي حدّثت بها آدم.

(الطّبريّ 1:218)

الطّبريّ: أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيّتها الملائكة.(1:218)

الطّوسيّ: (هؤلاء):لغة قريش و من جاورهم، بإثبات ألف بين الهاء و الواو،و مدّ الألف الأخيرة.و تميم و بكر و عامّة بني أسد يقصّرون الألف الأخيرة،و بعض العرب يسقط الألف الأولى الّتي بين الهاء و الواو،و يمدّ الأخيرة.[ثمّ استشهد بشعر]

و حقّق الهمزة ابن عامر و أهل الكوفة إذا اتّفقا من كلمتين.

و قرأ أبو عمرو،و أحمد بن صالح عن قالون بتحقيق الأولى فحذف الثّانية.و قرأ ورش،و قنبل،و أبو جعفر، و أويس (1)بتحقيق الأولى و تليين الثّانية.و قرأ ابن كثير إلاّ قنبلا،و نافع إلاّ ورشا،و أحمد بن صالح بسكون الأولى و تحقيق الثّانية في المكسورتين و المضمومتين،و في المفتوحتين بتحقيق الأولى و حذف الثّانية.(1:142)

ابن عطيّة: (هؤلاء)ظاهره حضور اشخاص، و ذلك عند العرض على الملائكة.و ليس في هذه الآية ما يوجب أنّ الاسم أريد به المسمّى،كما ذهب إليه المكّيّ و المهدويّ.

فمن قال:إنّه تعالى عرض على الملائكة أشخاصا استقام له مع لفظ(هؤلاء)،و من قال:إنّه إنّما عرض أسماء فقط،جعل الإشارة ب(هؤلاء)إلى أشخاص الأسماء و هي غائبة؛إذ قد حضر ما هو منها بسبب،و ذلك أسماؤها،و كأنّه قال لهم في كلّ اسم:لأيّ شخص هذا.

و الّذي يظهر أنّ اللّه تعالى علّم آدم الأسماء،و عرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصا،ثمّ عرض تلك على الملائكة و سألهم عن تسمياتها الّتي قد تعلّمها آدم،ثمّ إنّ آدم قال لهم:هذا اسمه كذا،و هذا اسمه كذا.و(هؤلاء)لفظ مبنيّ على الكسر،و القصر فيه لغة تميم،و بعض قيس، و أسد.[ثمّ استشهد بشعر](1:120)

الطّبرسيّ: قرأ أهل المدينة و أهل البصرة(هؤلاء) بمدّة واحدة،و لا يمدّونها إلاّ على قدر خروج الألف، و يمدّون(اولاء)كأنّهم يجعلونه كلمتين.و الباقون يمدّون مدّتين في كلّ القرآن.

فأمّا الهمزتان من كلمتين-نحو: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و نحوها-فأبو جعفر،و نافع برواية ورش، و ابن كثير برواية القوّاس،و يعقوب يهمزون الأولى و يخفّفون الثّانية و يشيرون بالكسرة إليها،و كذلك يفعلون في كلّ همزتين متّفقتين تلتقيان من كلمتين مكسورتين كانتا أو مضمومتين أو مفتوحتين.

فالمكسورتان: عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً النّور:

33،و المضمومتان أَوْلِياءُ أُولئِكَ الأحقاف:32، ليس في القرآن غيره،و المفتوحتان: جاءَ أَحَدَكُمُ الأنعام:61،و شاءَ أَنْشَرَهُ عبس:22.

و أبو عمرو،و البزّيّ بهمزة واحدة فيتركان إحداهما أصلا إذا كانتا متّفقتين،و نافع برواية إسماعيل،و ابن كثيرس.

ص: 38


1- كذا،و الظّاهر:رويس.

برواية ابن فليح بتليين الأولى و تحقيق الثّانية،و إذا اختلفتا فاتّفقوا على همز الأولى و تليين الثّانية نحو:

كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ... البقرة:13، و فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ المائدة:14.

فأمّا ابن عامر،و عاصم،و الكسائي فإنّهم يهمزون همزتين في جميع ذلك،متّفقتين كانتا أو مختلفتين.

أمّا الحذف و التّليين فللتّخفيف،و أمّا الهمز فللحمل على الأصل.(1:75)

أبو حيّان: [بعد الإشارة إلى ما حكيناه عن ابن عطيّة قال:]

و هذا فيه بعد و تكلّف و خروج عن الظّاهر بغير داعية إلى ذلك.(1:146)

2- ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ. البقرة:85

الطّبريّ: يتّجه في قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ وجهان:

أحدهما:أن يكون أريد به:ثمّ أنتم يا هؤلاء،فترك «يا»استغناء بدلالة الكلام عليه،كما قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا يوسف:29،و تأويله:يا يوسف أعرض عن هذا؛فيكون معنى الكلام حينئذ:ثمّ أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الّذي أخذته عليكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم.

و الوجه الآخر:أن يكون معناه ثمّ أنتم قوم تقتلون أنفسكم،فيرجع إلى الخبر عن(انتم)،و قد اعترض بينهم و بين الخبر عنهم ب(هؤلاء)،كما تقول العرب:أنا ذا أقوم،و أنا هذا أجلس.و لو قيل:أنا هذا أجلس كان صحيحا جائزا،كذلك:أنت ذاك تقوم.

و قد زعم بعض البصريّين أنّ قوله:(هؤلاء)في قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تنبيه و توكيد ل(أنتم)،و زعم أنّ (انتم)و إن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين فإنّما جاز أن يؤكّدوا ب(هؤلاء)و أولى،لأنّها كناية عن المخاطبين.

(1:369)

ابن عطيّة: (هؤلاء)دالّة على أنّ المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردّا إلى الأسلاف،قيل:تقدير الكلام:يا هؤلاء،فحذف حرف النّداء.و لا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات،لا تقول:هذا أقبل.

و قيل:تقديره:أعني هؤلاء،و قيل:(هؤلاء)بمعنى «الّذين»فالتّقدير:ثمّ أنتم الّذين تقتلون.(1:174)

الزّمخشريّ: ثمّ أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعنى أنّكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين تنزيلا،لتغيّر الصّفة منزلة تغيّر الذّات،كما تقول:رجعت بغير الوجه الّذي خرجت به.(1:293)

الفخر الرّازي: قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ فيه إشكال،لأنّ قوله:(انتم)للحاضرين و(هؤلاء) للغائبين،فكيف يكون الحاضر نفس الغائب؟

و جوابه من وجوه:

أحدها:تقديره:ثمّ أنتم يا هؤلاء.

ثانيها:تقديره:ثمّ أنتم أعني هؤلاء الحاضرين.

ثالثها:أنّه بمعنى«الّذين»وصلته(تقتلون).و موضع (تقتلون)رفع إذا كان خبرا،و لا موضع له إذا كان صلة.

ص: 39

رابعها:(هؤلاء)تأكيد ل(انتم)و الخبر(تقتلون).

(3:172).

أبو حيّان: هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل و الإجلاء و العدوان،بعد أخذ الميثاق منهم و إقرارهم و شهادتهم.و اختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختار أنّ(أنتم)مبتدأ و(هؤلاء)خبر و(تقتلون)حال.

و قد قالت العرب:ها أنت ذا قائما،و ها أنا ذا قائما.

و قالت أيضا:هذا أنا قائما،و ها هو ذا قائما.و إنّما أخبر عن الضّمير باسم الإشارة في اللّفظ،و كأنّه قال:أنت الحاضر و أنا الحاضر و هو الحاضر،و المقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال،و يدلّ على أنّ الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوبا على الحال فيما قلناه من قولهم:ها أنت ذا قائما،و نحوه.[و بعد نقل قول الزّمخشريّ قال:]

و الظّاهر أنّ المشار إليه بقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ هم المخاطبون أوّلا فليسوا قوما آخرين،أ لا ترى أنّ هذا التّقدير الّذي قدّره الزّمخشريّ من تنزيل تغيّر الصّفة منزلة تغيّر الذّات لا يتأتّى في نحو:ها أنا ذا قائما،و لا في:

ها أنتم أولاء،بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغيّر.

و قال ابن عطيّة: و قال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد شيخنا:(هؤلاء)رفع بالابتداء و(انتم)خبر مقدّم و(تقتلون)حال،بها تمّ المعنى و هي كانت المقصود،فهي غير مستغنى عنها،و إنّما جاءت بعد أن تمّ الكلام في المسند و المسند إليه،كما تقول:هذا زيد منطلقا،و أنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه لا الإخبار بأنّ هذا هو زيد، انتهى ما نقله ابن عطيّة عن شيخه.

و لا أدري ما العلّة في العدول عن جعل(انتم)المبتدأ و(هؤلاء)الخبر إلى عكس هذا،و العامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل،قالوا:و هو حال منه، فيكون إذا ذاك قد اتّحد ذو الحال و العامل فيها.

و ذهب بعض المعربين إلى أنّ(هؤلاء)منادى، محذوف منه حرف النّداء.و هذا لا يجوز عند البصريّين، لأنّ اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النّداء.

و نقل جوازه عن الفرّاء،و خرّج عليه الآية الزّجّاج و غيره جنوحا إلى مذهب الفرّاء،فيكون على هذا القول (يقتلون)خبرا عن(انتم).و فصل بين المبتدإ و الخبر بالنّداء،و الفصل بينهما بالنّداء جائز.

و إنّما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية،لأنّه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب و اسم الإشارة جملة من مبتدإ و خبر.

و ذهب ابن كيسان و غيره إلى أنّ(انتم)مبتدأ و(يقتلون)الخبر و(هؤلاء)تخصيص للمخاطبين،لما نبّهوا على الحال الّتي هم عليها مقيمون،فيكون إذ ذاك منصوبا ب«أعني».

و قد نصّ النّحويّون على أنّ التّخصيص لا يكون بالنّكرات و لا بأسماء الإشارة،و المستقرأ من لسان العرب أنّه يكون«أيّا»نحو:اللّهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة،أو معرّفا بالألف و اللاّم نحو:نحن العرب أقرى النّاس للضّيف،أو بالإضافة نحو:«نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»،و قد يكون علما،كما أنشدوا:

*بنا تميما يكشف الضّباب*

و أكثر ما يأتي بعد ضمير متكلّم كما مثّلناه،و قد جاء

ص: 40

بعد ضمير مخاطب كقولهم:بك اللّه نرجو الفضل.

و ذهب بعضهم إلى أنّ(هؤلاء)موصول بمعنى الّذي، و هو خبر عن(انتم)و يكون(تقتلون)صلة ل(هؤلاء).

و هذا لا يجوز على مذهب البصريّين،و أجاز ذلك الكوفيّون،و هي مسألة خلافيّة مذكورة في علم النّحو.

(1:290)

3- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ...

آل عمران:66

الطّوسيّ: إن قيل:أين خبر أنتم في(ها انتم)؟

قيل:يحتمل أمرين:

أحدهما:(حاججتم)على أن يكون(هؤلاء)تابعا عطف بيان.

و الثّاني:أن يكون الخبر(هؤلاء)على معنى هؤلاء بمعنى«الّذين»و ما بعده صلة.(2:491)

الزّمخشريّ: يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، و بيان حماقتكم و قلّة عقولكم أنّكم جادلتم فيما لكم به علم.(1:435)

ابن عطيّة: (هؤلاء)فيه لغتان:المدّ و القصر،و قد جمعهما في بيت الأعشى في بعض الرّوايات:

هؤلاء ثمّ هؤلاء قد اعطيت

نعالا محذوّة بنعال

و أمّا إعراب ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ فابتداء و خبر، و(حاججتم)في موضع الحال لا يستغنى عنها،و هي بمنزلة قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ البقرة:85، و يحتمل أن يكون(هؤلاء)بدلا أو صفة،و يكون الخبر (حاججتم).(1:450)

أبو حيّان: قرأ الكوفيّون و ابن عامر و البزّيّ (ها انتم)بألف بعد الهاء بعدها همزة(انتم)محقّقة،و قرأ نافع و أبو عمرو و يعقوب بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين،و أبدل أناس هذه الهمزة ألفا محضة لورش(ها)للتّنبيه،لأنّه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة،مفصولا بينها و بين اسم الإشارة،حيث لا استفهام.و أصلها أن تباشر اسم الإشارة لكن اعتني بحرف التّنبيه،فقدّم،و ذلك نحو قول العرب:ها أنا ذا قائما، و ها أنت ذا تصنع كذا،و ها هو ذا قائما.

و لم ينبّه المخاطب هنا على وجود ذاته بل نبّه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به.و تلك الحالة هي أنّهم حاجّوا فيما لا يعلمون،و لم ترد به التّوراة و الإنجيل، فتقول لهم:هب أنّكم تحتجّون فيما تدّعون أن قد ورد به كتب اللّه المتقدّمة فلم تحتجّون فيما ليس كذلك؛و تكون الجملة خبريّة و هو الأصل،لأنّه قد صدرت منهم المحاجّة فيما يعلمون،و لذاك أنكر عليهم بعد المحاجّة فيما ليس لهم به علم.

و على هذا يكون(ها)قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيدا،و تكون في قراءة قنبل قد حذف ألف(ها)كما حذفها من وقف على أَيُّهَ الثَّقَلانِ. الرّحمن:31.

(يا أيّه)بالسّكون،و ليس الحذف فيها بقويّ في القياس.

و قال أبو عمرو ابن العلاء و أبو الحسن الأخفش:

الأصل في (ها أَنْتُمْ) :أ أنتم،فأبدل من الهمزة الأولى الّتي للاستفهام(ها)لأنّها أختها،و استحسنه النّحّاس.و إبدال الهمزة«هاء»مسموع في كلمات و لا ينقاس،و لم يسمع

ص: 41

ذلك في همزة الاستفهام،لا يحفظ من كلامهم:هتضرب زيدا،بمعنى أ تضرب زيدا،إلاّ في بيت نادر جاءت فيه ها بدل همزة الاستفهام و هو

و أتت صواحبها و قلن هذا الّذي

منح المودّة غيرنا و جفانا

ثمّ الفصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام و همزة «أتت»لا يناسب،لأنّه إنّما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين،و هنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء، أ لا ترى أنّهم حذفوا الهمزة في نحو:أريقه؛إذ أصله:

أ أريقه،فلمّا أبدلوها هاء لم يحذفوا بل قالوا:أهريقه.

و قد وجّهوا قراءة قنبل على أنّ«الهاء»بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها.

و على هذا من أثبت الألف فيكون عنده فاصلة بين الهاء و المبدلة من همزة الاستفهام و بين همزة(انتم) أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه،و الاستفهام على هذا معناه«التّعجّب»من حماقتهم،و أمّا من سهّل فلأنّها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إيّاها في«هيئة» و أمّا تحقيقها فهو الأصل،و أمّا إبدالها ألفا فقد تقدّم الكلام في ذلك،في قوله: أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ البقرة:6.

و(انتم)مبتدأ و(هؤلاء)الخبر و(حاججتم)جملة حاليّة،كقول:ها أنت ذا قائما،و هي من الأحوال الّتي ليست يستغنى عنها،كقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ البقرة:85،على أحسن الوجوه في إعرابه.[ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و أضاف:]

و أجازوا أن يكون(هؤلاء)بدلا و عطف بيان، و الخبر(حاججتم)و أجازوا أن يكون(هؤلاء)موصولا، بمعنى«الّذي»و هو خبر المبتدإ و(حاججتم)صلته،و هذا على رأي الكوفيّين.و أجازوا أيضا أن يكون منادى،أي يا هؤلاء،و حذف منه حرف النّداء،و لا يجوز حذف حرف النّداء من المشار على مذهب البصريّين،و يجوز على مذهب الكوفيّين،و قد جاء في الشّعر حذفه و هو قليل،نحو قول رجل من طيء:

إنّ الألى وصفوا قومي لهم فهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا

و قال:

لا يغرّنكم أولاء من القو

م جنوح للسّلم فهو خداع

يريد يا هذا اعتصم و يا أولاء.

(2:485)

اولئك

1- أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. البقرة:5

ابن مسعود: أمّا الّذين يؤمنون بالغيب،فهم المؤمنون من العرب،و الّذين يؤمنون بما أنزل إليك:

المؤمنون من أهل الكتاب،ثمّ جمع الفريقين فقال:

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

مثله ابن عبّاس.(الطّبريّ 1:106)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل فيمن عنى اللّه جلّ ثناؤه بقوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، فقال بعضهم:عنى بذلك أهل الصّفتين المتقدّمتين،أعني المؤمنين بالغيب من العرب و المؤمنين،و بما أنزل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و إلى من قبله من الرّسل،و إيّاهم جميعا وصف

ص: 42

بأنّهم على هدى منه،و أنّهم هم المفلحون.

و قال بعضهم:بل عنى بذلك المتّقين الّذين يؤمنون بالغيب،و هم الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّد،و بما أنزل إلى من قبله من الرّسل.

و قال آخرون:بل عنى بذلك الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و بما أنزل إلى من قبله،و هم مؤمنو أهل الكتاب،الّذين صدّقوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و بما جاء به،و كانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء و الكتب.

و أولى التّأويلات عندي بقوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ما ذكرت من قول ابن مسعود،و ابن عبّاس، و أن تكون(اولئك)إشارة إلى الفريقين،أعني المتّقين وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ البقرة:4،و تكون (اولئك)مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله: عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ و أن تكون(الّذين)الثّانية معطوفة على ما قبل من الكلام،على ما قد بيّنّاه.(1:106)

الزّمخشريّ: في اسم الإشارة الّذي هو(اولئك) إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه، من أجل الخصال الّتي عدّدت لهم.(1:141)

الطّبرسيّ: موضع(اولئك)رفع بالابتداء،و الخبر عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ و هو اسم مبنيّ،و الكاف حرف خطاب لا محلّ له من الإعراب،و كسرت الهمزة فيه لالتقاء السّاكنين.(1:40)

الفخر الرّازيّ: في تكرير(اولئك)تنبيه على أنّهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضا،فقد تميّزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين.

فإن قيل:فلم جاء مع العاطف،و ما الفرق بينه و بين قوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الأعراف:179؟

قلنا:قد اختلف الخبران هنا،فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمّت،فإنّهما متّفقان،لأنّ التّسجيل عليهم بالغفلة و تشبيههم بالبهائم شيء واحد،و كانت الجملة الثّانية مقرّرة لما في الأولى،فهي من العطف بمعزل.

(2:34)

نحوه الآلوسيّ.(1:125)

القرطبيّ: قال النّحّاس:أهل نجد يقولون:ألاك، و بعضهم يقول:ألالك،الكاف للخطاب.

قال الكسائيّ:من قال:أولئك فواحده:ذلك،و من قال:ألاك فواحده:ذاك،و ألالك مثل اولئك.[ثمّ استشهد بشعر]

و ربّما قالوا:أولئك،في غير العقلاء.[ثمّ استشهد بشعر](1:181)

أبو حيّان: (اولئك)اسم إشارة للجمع،يشترك فيه المذكّر و المؤنّث،و المشهور عند أصحابنا أنّه للرّتبة القصوى كأولالك.و قال بعضهم:هو للرّتبة الوسطى، قاسه على«ذا»حين لم يزيدوا في الوسطى عليه حرف الخطاب،بخلاف أولالك.

و يضعّف قوله كون هاء التّنبيه لا تدخل عليه، و كتبوه بالواو فرقا بينه و بين إليك،و بني لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به،و حرّك لالتقاء السّاكنين،و بالكسر على أصل التقائهما.(1:43)

ص: 43

2- فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ. محمّد:22،23

الطّبريّ: هؤلاء الّذين يفعلون هذا،يعني الّذين يفسدون و يقطّعون الأرحام الّذين لعنهم اللّه،فأبعدهم من رحمته.(26:57)

الفخر الرّازيّ: إشارة لمن سبق ذكرهم من المنافقين،أبعدهم اللّه عنه أو عن الخير فأصمّهم، فلا يسمعون الكلام المستبين،و أعماهم فلا يتّبعون الصّراط المستقيم،و فيه ترتيب حسن.(28:64)

أبو حيّان:(اولئك)إشارة إلى مرضى القلوب فأصمّهم عن سماع الموعظة،و أعمى أبصارهم عن طريق الهدى.(8:82)

البروسويّ: إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات، إيذانا بأنّ ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب،و حكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم.و هو مبتدأ، خبره قوله تعالى: اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ. (8:517)

مثله الآلوسيّ.(26:69)

الطّباطبائيّ: الإشارة إلى المفسدين في الأرض المقطّعين للأرحام.و قد وصفهم اللّه بأنّه لعنهم فأصمّهم، و أذهب بسمعهم فلا يسمعون القول الحقّ،و أعمى أبصارهم فلا يرون الرّأي الحقّ.(18:240)

الأصول اللّغويّة

1-لقد لفّق اللّغويّون بين«أ ل و»و«أ ل ي»، و دمجوهما في مادّة«أ ل و»كما فعل الجوهريّ،أو في مادّة «أ ل ي»كما فعل الأزهريّ.أمّا ابن فارس فقد تردّد في لاميهما،كما هو ديدنه في مثل هذه المواضع.

2-و الحقيقة أنّهما مادّتان منفصلتان.فما دلّ على الاجتهاد و التّقصير أو اليمين،فهو واويّ اللاّم،يقال:ألا يألو ألوا،و ألّى يؤلّي تألية،و ائتلى يأتلي ائتلاء،إذا قصّر و اجتهد.و يقال:ما ألوتك نصحا،و ما ألّيت عن الجهد في حاجتك،أي ما قصّرت.

و منه:آلى بمعنى حلف فإنّه جهد في تسجيل المطلوب،يقال:آلى يؤلي إيلاء،و تألّى يتألّى تألّيا:حلف و اجتهد.

و منه أيضا:الألوة-بتثليث الهمزة-و الأليّة،و هي اليمين،لأنّ صاحب اليمين بمثابة المقصّر،فيحلف صادقا أو كاذبا لدرء حالة التّقصير عنه.

و الألوّة-بفتح الهمزة و ضمّها-أي العود الّذي يتبخّر به،غير عربيّ-كما قيل-و لا يعرف في سائر اللّغات السّاميّة أيضا.و لعلّه معرّب اللّفظ الفارسيّ «ألو»،أي لهيب النّار (1)،فتصرّف العرب في لفظه، و تسامحوا في معناه،كما فعلوا ذلك في لفظ«هندسة»؛إذ أنّ أصله في الفارسيّة«أندازه»،أي مقياس الشّيء و مقداره (2).

3-و أمّا ما دلّ على النّعمة و القحط،فهو يائيّ اللاّم، بدليل الاشتقاق،يقال:ألي الرّجل يألى ألى فهو آلى،إذا كان عظيم العجز.و في التّثنية يقال:هما أليان و أليتان.

و الجمع يقال:كباش ألي و أليانات،و يقال أيضا:أليات.

ص: 44


1- راجع معجم دهخدا 8:103 بالفارسيّة.
2- المصدر السّابق 8:343.

و منه:الآلاء،و هي النّعم،واحدها«إلى»مثل معى، و«ألى»مثل قفى،و«إلي»مثل حسي،و«ألي»مثل رمي.

و منه أيضا:الألية،و هي ذنب الشّاة،لأنّها تكتنز عند ما يمرع الجناب (1)،و تكثر الأعشاب.فهي أمارة الخير و الخصب،مثل اللّبن أمارة الغنى و الرّخاء عند العرب.

و قالوا مجازا:ألية الإنسان،أي عجزه،و ألية الإبهام أو الخنصر،أي اللّحمة الّتي تحته،و ألية القدم،أي مؤخّر الموطئ،و ألية السّاق:عضلتها،و ألية الحافر:مؤخّره.

و منه:الألية،و هي المجاعة و الجدب،فهذا نقيض النّعمة في اليائيّ،كالاجتهاد و التّقصير في الواويّ.

4-و من«أ ل ي»أيضا لفظ«ألى»،«الّذين»،كما قرّره ابن سيدة،حذوا لسيبويه،و عليه سائر اللّغويّين.

و أمّا«ألو»و«ألات»و«ألاء»و«هؤلاء» و«أولئك»،فهي من«أ ل و»،كما يرشد إليه اللّفظ.و قد ضبطت بهذا الشّكل في الإملاء الحديث،كما يلاحظ في «لسان العرب»و غيره،إلاّ لفظ«أولئك»،فإنّه مشترك بين رسم الخطّ القديم و الحديث،و لمزيد من التّفصيل لاحظ«أ و ل».

الاستعمال القرآنيّ

1-ورد الألو-الواويّ-ثلاث مرّات في القرآن:

لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً آل عمران:118

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ البقرة:226

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ النّور:22

يلاحظ أوّلا:أنّ معنى هذه الآيات لا يخرج عن نطاق التّقصير،فقد أطبق المفسّرون على أنّ الأولى بمعنى التّقصير،و اتّفقوا اجماعا على أنّ الثّانية بمعنى الحلف، و اختلفوا في الثّالثة؛إذ فسّروها بالحلف تارة،و بالتّقصير تارة أخرى.

ثانيا:و للحدّ من جور المسلمين و تسديدهم،نهاهم اللّه تعالى عن اتّخاذ البطانة من غيرهم في الآية الأولى، لأنّهم لا يألونهم خبالا،أي لا يقصّرون فيهم فسادا، و عن الحلف أو التّقصير في الإنفاق على الأقرباء و المحتاجين في الثّالثة.و حدّد لهم مدّة الإيلاء بأربعة أشهر في الثّانية،كي لا يتجاوز هذه المدّة؛إذ كان إيلاء العرب في الجاهليّة السّنة و السّنتين.

ثالثا:أنّ الحكم في الأولى و الثّانية عامّ نزولا و تشريعا،يسري إلى جميع المكلّفين في كلّ زمان و مكان،أمّا الحكم في الثّالثة فخاصّ نزولا و عامّ تشريعا،فهو و إن نزل بشأن فرد-و هو أبو بكر على رواية-و بشأن جماعة من الصّحابة على رواية أخرى- و يؤيّده صيغة الجمع-غير أنّ الآية تتناول الأمّة إلى يوم القيامة؛و ذلك بأن لا يغتاظ ذو فضل وسعة،فيحلف ألاّ ينفع من هذه صفته غابر الدّهر (2).

2-و جاء الألى-اليائيّ-جمعا(34)مرّة:

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الأعراف:69

ص: 45


1- يمرع الجناب:يخصب المكان.
2- لاحظ القرطبيّ 12:207.

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ الأعراف:74

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى النّجم:55

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الرّحمن:13-77، (31)مرّة.

يلاحظ أوّلا:أنّ الآيات الثّلاث الأول جاءت ضمن سرد حكاية الأقوام الكافرة و إهلاكها،فقد وردت الأولى ضمن قصّه نوح مع قومه،ثمّ إهلاكهم،و إرسال هود إلى عاد،و إهلاكهم أيضا.و جاءت الثّانية خلال قصّة صالح مع قومه ثمود،ثمّ إهلاكهم.و الثّالثة عقب الإخبار بإهلاك قوم نوح و عاد و ثمود و أصحاب المؤتفكة.

و ثانيا:عدّ اللّه تعالى في هذه الثّلاث إهلاك الجيل الّذي سلف نعمة للجيل الّذي خلف،و تتجلّى هذه النّعمة في خلافة الأسلاف في الأرض،و استثمار منافعها،و زيادة علمهم،كما صرّح في آيتي الأعراف(69 و 74)؛إذ قال في الأولى خطابا لقوم عاد: وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، و قال في الثّانية خطابا لقوم ثمود:

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

و لم يذكر الاستخلاف في الأرض في آية النّجم،رغم أنّ مشركي مكّة هم أخلاف عاد و ثمود الّذين كانوا يسكنون أعالي الحجاز،كما أثبتت الحفريّات الأثريّة الحديثة.بيد أنّه ذكر في مواضع أخرى من القرآن،منها قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ* ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يونس:13،14،علما بأنّ اللّه تعالى كلّما منّ على أمّة بخلافة الأرض أهلكها لعصيانها،إلاّ أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و سيأتي تفصيل ذلك في مادّة«خ ل ف».

و ثالثا:تكرّرت الآية الرّابعة(31)مرّة في سورة الرّحمن،و هذا العدد يقارب نصف آيات هذه السّورة.

و قد بحث المفسّرون كثيرا حول هذا التّكرار،كما سبق في النّصوص.و نحن لا نرى هذا التّكرار إلاّ إمعانا في التّوبيخ و التّقريع للإنس و الجنّ،و ليس تعدادا لنعم اللّه عليهما فقط-كما قالوا-إذ سبقت هذه الآية آيات،تنذرهما عذابا،و تعدّهما شرّا،كقوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ الرّحمن:43،و إن تكلّفوا توجيهها- لاحظ النّصوص-و ليس أيضا تناسقا مع رءوس الآي فحسب-كما قيل-إذ التّناسق في رءوس الآي و إن كان موجودا،إلاّ أنّه لا يوجب التّكرار.

و رابعا:أنّ السّور الثّلاث الّتي ورد فيها هذا اللّفظ تتضمّن التّهديد و الوعيد،سوى سورة الرّحمن،فغلب عليها جانب الوعد و الرّحمة؛فسورة الأعراف تغلب عليها العظات و الحكايات و التّرهيب و التّرغيب.و تبدأ سورة النّجم بمدح النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،ثمّ ذمّ المشركين،و تنتهي بالتّهديد و الوعيد.أمّا سورة الرّحمن فتعدّ أوّل الأمر منن اللّه تعالى على الإنسان،و تعقّب ذلك بالتّهديد و الوعيد، ثمّ تنتهي بوصف الجنّة و أهلها.

ص: 46

3-جاء(اولاء)في القرآن مرّتين:

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ آل عمران:119

قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى طه:84

و قد ذكر المفسّرون-كما سبق في النّصوص-لهذه الكلمة وجهين:

الأوّل:أنّها اسم إشارة،ثمّ اختلفوا في المشار إليهم و في إعرابه في الآيتين؛ففي الأولى قيل:إنّ(ها انتم اولاء)مبتدأ،أي أنتم أولئك الخاطئون،و(تحبّونهم)في موضع حال عن(اولاء)أو استئناف،أو خبر عن(انتم) و(أولاء)بدل عن(انتم)،أو هو منادى،و حذف حرف النّداء،لدلالة الكلام عليه،كقوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا يوسف:29،أو مبتدإ ثان،و(تحبّونهم) خبر عنه،و الجملة خبر عن(انتم).هذا كلّه بناء على أنّ المراد ب(أولاء)المؤمنون.

و أمّا لو أريد بها المنافقون،فمحلّه نصب،من قبيل «أنت زيدا تحبّه و لا يحبّك»،فهو منصوب بعامل مقدّر، يفسّره(تحبّونهم)،فيكون من باب الاشتغال،أي أنتم و هؤلاء مختلفون قلبا،فأنتم تحبّونهم،و هم لا يحبّونكم.

و عليه،فيكون(انتم)مبتدأ،و ما بعده جملة خبره.

و كذلك قيل في الآية الثّانية:إنّ(هم اولاء)مبتدأ و خبر،و(على اثرى)حال،و العامل فيه معنى الإشارة، أو خبر بعد خبر.أو(اولاء)بدل عن(هم)،و(على أثرى)خبر عن(هم).

الثّاني:أنّ(اولاء)في الآيتين اسم موصول بمعنى «الّذين»خبر للمبتدإ،و ما بعدها صلة لها.و عليه،فالمراد ب(انتم اولاء):المؤمنون.و هذا هو الأقرب عندنا،لكنّه يحتاج إلى إقامة شواهد من غير القرآن،على أنّ(أولاء) و(هؤلاء)جاءا موصولين.

و جاء(هؤلاء)(26)مرّة في القرآن اسم إشارة إلى الجمع الغائب،منها أربع مرّات في سياق (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) :

1- ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ البقرة:85

2- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ

آل عمران:66

3- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا النّساء:109

4- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ محمّد:38

و قد اختلفت في هذه الآيات كلمة المفسّرين حول موضع(هؤلاء)إعرابا،مع اتّفاقهم على أنّ المراد ب(هؤلاء)نفس المراد ب(انتم)،و هو مبتدأ،و(هؤلاء) تأكيد له،أو منادى بتقدير:يا هؤلاء،فيكون ما بعده خبر المبتدإ،أو بجعل(هؤلاء)موصولا،و ما بعده صلة له، و الجملة خبر.و هناك وجوه أخرى بعيدة عن الذّوق العربيّ،فلاحظ النّصوص.

و القول الأخير أولى بالصّواب لو ثبت مجيء (هؤلاء)موصولا،كما قلنا في(اولاء)،إلاّ أنّه يستشكل عليه بأنّهما لو كانا موصولين،لوجب الإتيان بضمير الغيبة في الصّلة،راجعا إلى الموصول،و الحال أنّ الضّمير في جميع الآيات السّتّ في(اولاء)و(هؤلاء)ضمير خطاب،و ما زال باب البحث مفتوحا.

ص: 47

ص: 48

إلياس،إلياسين

اشارة

لفظان مكّيّان ثلاث مرّات في سورتين مكّيّتين

إلياس 2:2\إلياسين 1:1

النّصوص اللّغويّة

الجوهريّ: إلياس:اسم أعجميّ و قد سمّت العرب به،و هو إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.(3:904)

الجواليقيّ: أسماء الأنبياء كلّها أعجميّة نحو:

إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و إلياس و إدريس و إسرائيل و أيّوب،إلاّ أربعة أسماء،و هي:آدم و صالح و شعيب و محمّد.(61)

ابن الأنباريّ: إلياس،بكسر الهمزة،و جعله موافقا لاسم النّبيّ.و في اشتقاقه أقوال:

منها:أن يكون فعيالا من«الألس»و هي الخديعة.

منها:أنّ«الألس»اختلاط العقل.

منها:أنّه إفعال من قولهم:رجل أ ليس،و هو الشّجاع الّذي لا يفرّ.(السّهيليّ 1:9)

ابن الطّيّب: هو فعيال من«الألس»و هو الخديعة و الخيانة،أو من«الألس»و هو اختلاط العقل.و قيل:هو إفعال من«ليس»يقال:رجل أ ليس،أي شجاع لا يفرّ.

أو أخذوه من ضدّ الرّجاء،و مدّوه.و إلياس بن مضر في التّحتيّة،و هو اسم عبرانيّ.(الزّبيديّ 4:97)

المصطفوي: إنّ كلمة«إيليّا»قد ضبطت في التّوراة العبريّة هكذا أي إليّاهو، و في الفارسيّة بخطّ العبريّ مثلها،و في الفارسية ترجمة فاضل خان هكذا إيلياه،و في العربيّة طبع«1811 م» هكذا إيليا،و في يوحنّا إيلياء،و في أغلب النّسخ المتأخّرة المترجمة هكذا إيليّا.

و أمّا كلمة«إلياس»فالظّاهر أنّها معرّبة من إليّاهو، أو إيلياه أو إيلياء.و حرف السّين تلحق أواخر الأسماء في اليونانيّة كثيرا كما في هرمس،ديوجانس، ديوغانس،هيردوطس،يولياس،طيطوس.

ص: 49

و توجد في الكلمات المعرّبة و غيرها كثيرا،كما في إبليس،برجيس،بلقيس،جرجيس،سندوس، عبدوس،طمروس،طرابلس،طرطوس،طغموس، جرنفس.راجع باب ما آخره السّين من قاموس اللّغة تجد فيها لغات كثيرة من هذا القبيل.

و إلحاق السّين في غالب موارده إمّا للوقف و السّكت كالهاء،و إمّا للدّلالة على العظمة و المبالغة و الكثرة و الزّيادة.(1:113)

النّصوص التّفسيريّة و التّاريخيّة

إلياس

1- وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ .الأنعام:85

ابن مسعود: إدريس هو إلياس،و إسرائيل هو يعقوب.(الطّبريّ 7:261)

كعب: هو الخضر.(الطّبرسيّ 2:33)

الضّحّاك: كان إلياس من ولد إسماعيل.

(القرطبيّ 7:32)

وهب بن منبّه: ابن يرد بن مهلائيل بن أنوش بن قينان بن آدم،و هو جدّ نوح.

مثله ابن اسحاق.(الآلوسيّ 7:214)

ابن اسحاق: هو إلياس بن سناس ابن فنحاص بن العيزار بن عمران.(الخازن 2:128)

الطّبريّ: و اختلفوا في(إلياس)،فكان ابن إسحاق يقول:هو إلياس بن يسّى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران،ابن أخي موسى نبيّ اللّه،و كان غيره يقول:هو إدريس.

و أمّا أهل الأنساب فإنّهم يقولون:إدريس جدّ نوح ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ،و أخنوخ هو إدريس بن يرد بن مهلائيل.

و الّذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصّواب؛و ذلك أنّ اللّه تعالى نسب إلياس في هذه الآية إلى نوح و جعله من ذرّيّته،و نوح ابن إدريس عند أهل العلم فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبا إلاّ أنّه من ذرّيّته.(7:261)

إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.و قال محمّد بن إسحاق:ثمّ إنّ اللّه عزّ و جلّ قبض حزقيل،و عظمت في بني إسرائيل الأحداث، و نسوا ما كان من عهد اللّه إليهم حتّى نصبوا الأوثان و عبدوها من دون اللّه،فبعث اللّه إليهم إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيّا.

و إنّما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التّوراة،فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل،يقال له:«أحاب» (1)و كان اسم امرأته«أزبل» (2)و كان يسمع منه و يصدّقه،و كان إلياس يقيم له أمره،و كان سائر بني إسرائيل قد اتّخذوا

ص: 50


1- و قد جاءت كلمة«أحاب»في الكامل لابن الأثير 1:118،«أخاب»بالخاء المعجمة و في العرائس للثّعلبيّ: 176،«لاجب»و في كشف الأسرار للميبديّ 8:294، «إجب»و في البدء و التّاريخ للمقدسيّ 3:99،«آحب» و في المعارف لابن قتيبة:53،«أحب».
2- و قد جاء في البدء و التّاريخ للمقدسيّ(3:99)و المعارف لابن قتيبة:(97)،«أزبيل».

صنما يعبدونه من دون اللّه،يقال له:بعل.و قال ابن إسحاق:و قد سمعت بعض أهل العلم يقول:ما كان بعل إلاّ امرأة يعبدونها من دون اللّه،يقول اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ... وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الصّافّات:123- 126،فجعل إلياس يدعوهم إلى اللّه عزّ و جلّ،و جعلوا لا يسمعون منه شيئا إلاّ ما كان من ذلك الملك،و الملوك متفرّقة بالشّأم كلّ ملك له ناحية منها يأكل.

فقال ذلك الملك الّذي كان إلياس معه يقوم له بأمره و يراه على هدى من بين أصحابه يوما:يا إلياس و اللّه ما أرى ما تدعو إليه إلاّ باطلا،و اللّه ما أرى فلانا و فلانا يعدّ ملوكا من ملوك بني إسرائيل،قد عبدوا الأوثان من دون اللّه إلاّ على مثل ما نحن عليه،يأكلون و يشربون و يتنعّمون،مملكين ما ينقص دنياهم أمرهم الّذي تزعم أنّه باطل،و ما نرى لنا عليهم من فضل فيزعمون،و اللّه أعلم:أنّ إلياس استرجع و قام شعر رأسه و جلده،ثمّ رفضه و خرج عنه ففعل ذلك الملك فعل أصحابه عبد الأوثان،و صنع ما يصنعون،فقال إلياس:اللّهمّ إنّ بني إسرائيل قد أبوا إلاّ الكفر بك و العبادة لغيرك فغيّر ما بهم من نعمتك.[إلى أن قال:]

إنّه أوحي إليه:إنّا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك و إليك حتّى تكون أنت الّذي تأمر في ذلك،فقال إلياس:اللّهمّ فامسك عنهم المطر،فحبس عنهم ثلاث سنين حتّى هلكت الماشية و الدّوابّ و الهوامّ و الشّجر،و جهد النّاس جهدا شديدا.

و كان إلياس فيما يذكرون حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقا على نفسه منهم و كان حيث ما كان وضع له رزق،فكانوا إذا أوجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا:لقد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه، و لقي أهل ذلك المنزل منهم شرّا.

ثمّ إنّه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له:اليسع بن أخطوب،به ضرّ فآوته و أخفت أمره، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضّرّ الّذي كان به،و أتبع اليسع إلياس فآمن به و صدّقه و لزمه،فكان يذهب معه حيثما ذهب،و كان إلياس قد أسنّ و كبر،و كان اليسع غلاما شابّا.

فيزعمون،و اللّه أعلم:أنّ اللّه أوحى إلى إلياس أنّك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممّن لم يعص سوى بني إسرائيل،ممّن لم أكن أريد هلاكه بخطايا بني إسرائيل، من البهائم و الدّوابّ و الطّير و الهوامّ و الشّجر،بحبس المطر عن بني إسرائيل.

فيزعمون،و اللّه أعلم أنّ إلياس قال:أي ربّ دعني أكن أنا الّذي أدعو لهم به،و أكن أنا الّذي آتيهم بالفرج ممّا هم فيه من البلاء الّذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا و ينزعوا عمّا عليه من عبادة غيرك.قيل له:نعم،فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم:إنّكم قد هلكتم جهدا و هلكت البهائم و الدّوابّ و الطّير و الهوامّ و الشّجر بخطاياكم،و إنّكم على باطل و غرور.[إلى أن قال:]

ثمّ قالوا لإلياس:يا إلياس إنّا قد هلكنا فادع اللّه لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج ممّا هم فيه و أن يسقوا، فخرجت سحابة مثل التّرس بإذن اللّه على ظهر البحر و هم ينظرون ثمّ ترامى إليه السّحاب،ثمّ أدجنت ثمّ

ص: 51

أرسل اللّه المطر فأغاثهم؛فحييت بلادهم و فرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء،فلم ينزعوا و لم يرجعوا،و أقاموا على أخبث ما كانوا عليه.

فلمّا رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربّه أن يقبضه إليه فيريحه منهم،فقال له فيما يزعمون:انظر يوم كذا و كذا،فاخرج فيه إلى بلد كذا و كذا،فما جاءك من شيء فاركبه و لا تهبه،فخرج إلياس و خرج معه اليسع بن أخطوب حتّى إذا كان بالبلد الّذي ذكر له في المكان الّذي أمر به،أقبل فرس من نار حتّى وقف بين يديه فوثب عليه فانطلق به،فناداه اليسع:يا إلياس يا إلياس ما تأمرني،فكان آخر عهدهم به،فكساه اللّه الرّيش و ألبسه النّور و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب،و طار في الملائكة،فكان إنسيّا ملكيّا أرضيّا سمائيّا.

ثمّ قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل اليسع.

(تاريخ الأمم و الملوك 1:325)

المقدسيّ: قصّة إلياس،هو إلياس بن العادر من ولد يوشع بن نون.و كان ابن إسحاق يقول:هو إلياس بن يسّى من ولد هارون بن عمران،يقال له:إلياس و إلياسين و إدرياسين،:هو ذو الكفل بعينه.بعثه اللّه بعد حزقيل إلى ملك ببعلبكّ يقال له:آحب،و له امرأة يقال لها:أزبيل،كان يستخلفها على ملكه إذا غاب،قتّالة للأنبياء عابدة للأصنام،و لهم صنم عظيم اسمه بعل، فكذّبوه و عصوه و نفوه.فأمسك اللّه عنهم السّماء حتّى أجهدهم الجوع،فطلبوا إلياس كلّ مطلب يعنتوه و يراجعوه فيدعو لهم.

و كان اليسع بن أخطوب تلميذ إلياس،فبعثه اللّه إليهم:إن أردتم أن يكشف اللّه عنكم الضّرّ فدعوا عبادة الأصنام،قال:فآمنوا و صدّقوا،فرفع اللّه عنهم البلاء و عاشوا،ثمّ عادوا إلى كفرهم،فدعا إلياس أن يريحه منهم.

ذكر الاختلاف في هذه القصّة:زعموا أنّ إلياس كان سيّاحا يأكل الحشيش الأخضر حتّى يرى ذلك في أمعائه من وراء حجاب أضلاعه،و لمّا كفروا به أوحى اللّه إليه:قد جعلت رزقهم بيدك،فحبس عنهم القطر ثلاث سنين حتّى أكلوا الجيف و الكلاب الميتة،فلمّا عادوا إلى كفرهم بعد إيمانهم به،سأل ربّه أن يرفعه من بينهم،فأتاه فجأة دابّة لونها لون النّار،فوثب عليها فانطلقت به، و ناداه تلميذه:اليسع:بم تأمرني؟قال:بطاعة اللّه و العهد، و كساه اللّه الرّيش،و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب، و جعله أرضيّا سماويّا ملكيّا إنسيّا.

قال الحسن: هو موكّل بالفيافي،و الخضر بالبحار، يجتمعان بالمواسم في كلّ عام.(3:99)

البغويّ: اختلفوا فيه[إلياس]قال ابن مسعود:هو إدريس و له اسمان،مثل يعقوب و إسرائيل.و الصّحيح أنّه غيره،لأنّ اللّه تعالى ذكره من ولد نوح.و إدريس جدّ أبي نوح،و هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران.(2:128)

الميبديّ: قال قوم:إنّ إلياس هو إدريس،و هذا غير صحيح،لأنّ اللّه تعالى نسب إلياس في هذه الآية إلى نوح و عدّه من أبنائه.و المشهور أنّ نوحا من أبناء إدريس،فهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن إدريس،الّذي يقال له:أخنوخ.

ص: 52

القول الصّحيح هو أنّ إلياس من أبناء هارون،و هو إلياس بن بشر بن فينحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.(3:415)

نحوه الخازن.(2:128)

الفخر الرّازي: إن قيل:رعاية التّرتيب واجبة، و التّرتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفضل و الدّرجة و إمّا أن يعتبر بحسب الزّمان و المدّة،و التّرتيب بحسب هذين النّوعين غير معتبر في هذه الآية فما السّبب فيه؟.

قلنا:الحقّ أنّ حرف الواو لا يوجب التّرتيب،و أحد الدّلائل على صحّة هذا المطلوب هذه الآية،فإنّ حرف الواو حاصل هاهنا مع أنّه لا يفيد التّرتيب البتّة، لا بحسب الشّرف و لا بحسب الزّمان.

و أقول:عندي فيه وجه من وجوه التّرتيب،و ذلك لأنّه تعالى خصّ كلّ طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام و الفضل.

فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق:الملك و السّلطان و القدرة،و اللّه تعالى قد أعطى داود و سليمان من هذا الباب نصيبا عظيما.[إلى أن قال:]

و المرتبة الخامسة:الزّهد الشّديد و الإعراض عن الدّنيا،و ترك مخالطة الخلق،و ذلك كما في حقّ زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس،و لهذا السّبب وصفهم بأنّهم من الصّالحين.(13:64)

البيضاويّ: قيل:هو إدريس جدّ نوح عليهما السّلام، فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى.و قيل:هو من أسباط هارون أخي موسى.(1:319)

أبو حيّان: قرن بينهم لاشتراكهم في الزّهد الشّديد و الإعراض عن الدّنيا،و بدأ بزكريّا و يحيى لسبقهما عيسى في الزّمان،و قدّم زكريّا لأنّه والد يحيى،فهو أصل و يحيى فرع.و قرن عيسى و إلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد.و قدّم عيسى،لأنّه صاحب كتاب و دائرة متّسعة.

و تقدّم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء إلاّ إلياس،و هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.و روي عن ابن مسعود:أنّ إدريس هو إلياس، و ردّ ذلك بأنّ إدريس هو جدّ نوح عليهما السّلام،تظافرت بذلك الرّوايات.و قيل:إلياس هو الخضر.و قرأ ابن عبّاس- باختلاف عنه-و الحسن و قتادة بتسهيل همزة إلياس.(4:173)

الفيروزآباديّ: إلياس اسم أعجميّ كسائر أشكاله،لا مجال للعربيّة فيه،و إلياسين المذكور في التّنزيل إشارة إلى إلياس و أتباعه،و الّذي يقرأ (آل ياسين) المراد إلياس و أتباعه أيضا،لأنّ نسبه:إلياس بن ياسين بن عيزار بن هارون بن عمران.

و قيل:(آل ياسين)المراد به آل مصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم و لكن فيه ضعف من حيث المعنى،فإنّه لا مناسبة بينه و بين ما قبله.

و كان إلياس من أنبياء بني إسرائيل،أرسل إلى قوم كانوا ببعلبكّ،و كانوا يعبدون صنما سمّوه بعلا و بلغ قومه في إيذائه و جفائه الغاية،و عاقبهم اللّه تعالى أنواعا من العقوبة.و كانوا يلجئون إلى إلياس،فكان يسأل اللّه لهم العفو فيأتيهم الفرج بدعائه.إلى أن ملّ إلياس من أذاهم و نقض عهدهم،فتضرّع إلى اللّه تعالى و سأله الخلاص

ص: 53

من مقاساتهم،فأذن له في مفارقتهم،و سلبه شهوة الطّعام و الشّراب حتّى يطبّع كطبع الملك،فصار إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا،شرقيّا غربيّا،برّيّا بحريّا،مثل أخيه الخضر.

قد دعاه اللّه تعالى في القرآن بخمسة أسماء:مؤمن:

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الصّافّات:132،محسن:

إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الصّافّات:131، إلياسين: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ الصّافّات:130، إلياس و مرسل: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الصّافّات:123(بصائر ذوي التّمييز:6:78)

المجلسيّ: [بعد نقل روايات بشأن إلياس و إيليا قال:]

لا يبعد اتّحاد إلياس و إليا،لتشابه الاسمين و القصص المشتملة عليهما.(13:400)

الآلوسيّ: قال ابن إسحاق في المبتدإ:هو ابن يس ابن فنحاص بن العيزار بن هارون،أخي موسى بن عمران عليهم السّلام.

و حكى القتيبيّ: أنّه من سبط يوشع،و قيل:من ولد إسماعيل عليه السّلام.

و عن ابن مسعود: أنّه إدريس،و هو-على ما قال ابن إسحاق-ابن يرد بن مهلائيل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم،و هو جدّ نوح،كما أشرنا إليه.و روي ذلك عن وهب بن منبّه.

و في المستدرك عن ابن عبّاس أنّه كان بين نوح و إدريس ألف سنة،و على القول بأنّه قبل نوح يكون البيان مختصّا بمن في الآية الأولى.(7:314)

محمّد إسماعيل ابراهيم: إلياس نبيّ من أنبياء بني إسرائيل من نسل هارون عليه السّلام،أرسله اللّه تبارك و تعالى إلى قومه بني إسرائيل.و يرى بعض المفسّرين أنّه هو ذو الكفل.(44)

المصطفويّ: «المعارف»:إلياس هو من سبط يوشع ابن نون،بعثه اللّه إلى بعلبكّ،و كانوا يعبدون صنما يقال له:بعل،و ملكهم أحب و امرأته أزبيل،و كان يستخلفها على ملكه إذا غاب.

الملوك الأوّل 17:و قال إيليّا التّشبيّ-من مستوطني جلعاد-لأخآب حيّ هو الرّبّ إله إسرائيل الّذي وقفت أمامه،إنّه لا يكون طلّ و لا مطر في هذه السّنين إلاّ عند قولي.

و في 16:29:و ملك آخاب بن عمريّ على اسرائيل في السّامرة اثنتين و عشرين سنة حتّى اتّخذ إيزابل ابنة اثبعل ملك الصّيدونيّين امرأة،و سار و عبد البعل،و سجد له.

و في 19:19:فذهب إيليّا من هناك و وجد اليشع بن شافاط يحرث،و اثني عشر فدّان بقر قدّامه و هو مع الثّاني عشر،فمرّ إيليّا به و طرح رداءه عليه،فترك البقر و ركض وراء إيليّا.

الملوك الثّاني 2:9:و لمّا عبرا قال إيليّا لأليشع:

أطلب ما ذا أفعل لك.و فيما هما يسيران و يتكلّمان،إذا مركبة من نار و خبل من نار ففصل بينهما،فصعد إيليّا في العاصفة إلى السّماء،و كان اليشع يرى و هو يصرخ:

يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل و فرسانها،و لم يره بعد...

يوحنّا 1:19:هذه هي شهادة يوحنّا حين أرسل

ص: 54

اليهود من أورشليم كهنة و لاويّين ليسألوه من أنت؟ فسألوه إذا ما ذا،إيليّا أنت؟فقال:لست أنا،النّبيّ أنت؟ فأجاب لا.

يظهر من هذه الكلمات أنّ كهنة أورشليم كانوا ينتظرون ظهور المسيح،و ظهور إيليّا،و رجعته بعد ما رفع إلى السّماء،و ظهور النّبيّ المطلق،و هو نبيّ الإسلام.

وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ الأنعام:85.

فقد عدّ(الياس)في رديف زكريّا و يحيى و عيسى، اشارة إلى أنّ هدايته و اجتباءه و تفضيله كان من نوع هدايتهم عليهم السّلام،ثمّ قال: وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ الأنعام:86،فذكرهم في رديف واحد.

و هذا المعنى منظور في كلّ مورد ذكرت أسماء الأنبياء عليهم السّلام في مقام ذكر فضلهم و اجتبائهم و هدايتهم، و كيفيّة سلوكهم و العمل برسالتهم.و ليس في الآيات دلالة على تقدّم زمانهم أو تأخّره،فإنّه أمر مادّيّ تاريخيّ لا ربط فيه إلى النّبوّة و الرّسالة و الهداية و التّبليغ.

فيستفاد من الآية الكريمة أنّ إلياس عليه السّلام كان في حال التّجرّد و الانقطاع و التّوجّه التّامّ و التّبتّل الخالص و العبوديّة الكاملة.(1:113)

2- وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الصّافّات:123

ابن مسعود:إنّ إلياس هو إدريس،له اسمان كما ليعقوب اسمان:إسرائيل و يعقوب.(الميبديّ 8:294) مثله قتادة،و محمّد بن إسحاق،و الضّحّاك.

(ابن كثير 6:33)

ابن عبّاس: هو من أنبياء بني إسرائيل،من ولد هارون بن عمران بن عمّ اليسع.

مثله محمّد بن إسحاق.(الطّبرسيّ 4:457)

وهب بن منبّه:أنّه ذو الكفل.

(الطّبرسيّ 4:457)

مثله الكرمانيّ.(الآلوسيّ 23:139)

ابن اسحاق:هو من ولد هارون،و هو اسم نبيّ، و هو أعجميّ،فلذلك لم ينصرف.و لو جعل«إفعالا»من الأليس،و هو الشّجاع الجريء،لجاز.

(الطّوسيّ 8:525)

الفرّاء: ذكر أنّه نبيّ،و أنّ هذا الاسم اسم من أسماء العبرانيّة،كقولهم:إسماعيل و إسحاق،و الألف و اللاّم منه.و لو جعلته عربيّا من الأليس،فتجعله«إفعالا»،مثل الإخراج و الإدخال،،لجرى.

و قد قرأ بعضهم (و إنّ اليأس) يجعل اسمه يأسا، أدخل عليه الألف و اللاّم.(2:391)

ابن حنبل:إنّ إلياس هو إدريس.

خمسة من الأنبياء لهم اسمان:إلياس هو إدريس، و يعقوب هو إسرائيل،و يونس هو ذو النّون،و عيسى هو المسيح،و محمّد و هو أحمد.(البروسويّ 7:481)

أبو زرعة: قرأ ابن عامر (و إنّ إلياس) بغير همز، و قرأ الباقون (و إنّ إلياس) بالهمز،جعلوا أوّل الاسم على هذه القراءة الألف،كأنّه من نفس الكلمة،تقول:إلياس، كما تقول:إسحاق و إبراهيم.و حجّته قوله بعدها: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (609)

الطّوسيّ: كلّهم قرأ (و إنّ إلياس) بقطع الهمزة إلاّ

ص: 55

أنّ أبا عامر،فإنّه فصل الهمزة و أسقطها في الدّرج،فإذا ابتدأ فتحها،قال أبو عليّ النّحويّ:يجوز أن يكون حذف الهمزة حذفا،كما حذفها أبو جعفر في قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ المدّثّر:35،و يحتمل أن تكون الهمزة الّتي تصحب لام التّعريف و هي تسقط في الدّرج،و أصله «ياس».

أخبر اللّه تعالى أنّ(إلياس)من جملة من أرسله اللّه إلى خلقه نبيّا داعيا إلى توحيده و طاعته،حين قال لقومه: أَ لا تَتَّقُونَ الصّافّات:124.(8:524)

الميبديّ: قال عبد اللّه بن مسعود:(إلياس)هو إدريس نفسه،و له اسمان كما ليعقوب اسمان:إسرائيل و يعقوب.و جاء في مصحف ابن مسعود:(و انّ ادريس لمن المرسلين)و به قال عكرمة.

و أمّا جمهور المفسّرين فقد قالوا:إنّه كان من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى،و هو من أبناء هارون،و هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

و قيل:هو ابن عمّ اليسع،و كانت بعثته بعد حزقيل النّبيّ،و لمّا قضى حزقيل نحبه طغى بنو إسرائيل و عاثوا فسادا،فعبد سبط منهم صنما يسمّى«بعلا»في ناحية من نواحي الشّام تدعى«بعل بكّ»و به سمّيت مدينتهم بعلبكّ.و كان طوله عشرون ذراعا،و له أربعة أوجه، و كان يدخل الشّيطان في جوفه و يكلّمهم فيوقعهم في الفتنة مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلا هادِيَ لَهُ الأعراف:186، و كان لهم ملك اسمه أجب،و له امرأة اسمها أزبيل،و كانت قتّالة للأنبياء،يقال:هي الّتي قتلت يحيى بن زكريّا.

و هذا الملك و امرأته و ذلك السّبط من بني إسرائيل الّذي اتّخذ من مدينة بعلبكّ مسكنا له عاكفين على عبادة البعل،فأرسل اللّه تعالى إليهم إلياس النّبيّ فدعاهم إلى توحيد اللّه،و لكن ما زادهم إلاّ نفورا،فتولّوا عنه و أجمعوا على قتله،فهرب إلياس منهم إلى الجبل،و لبث في غار سبع سنوات و كان يأكل حشائش الأرض و نباتها،و كان عيون الملك أجب طيلة هذه المدّة يبحثون عنه في كلّ مكان،و لكنّ اللّه حفظه و نجّاه منهم.

و بعد هذه المدّة خرج من مخبئه و أوى إلى بيت امرأة و هي أمّ يونس بن متّى،و كان يومذاك طفلا رضيعا فآوته تلك المرأة ستّة أشهر و تكفّلت بمعيشته.

و ورد في قصّته:أنّ يونس مات في صغره فجزعت أمّه عليه،و فزعت إلى إلياس قائلة:«أنت نبيّ اللّه و دعاؤك مستجاب فادع حتّى يحييه»فدعا إلياس ربّه فاستجاب اللّه دعاءه و أحيا يونس،و قفل إلياس راجعا إلى الجبل.و كان الملك و قومه يزدادون عتوّا و طغيانا على مرور الأيّام.

و لمّا علم الملك أجب و زوجته أزبيل بمخبإ إلياس، أرسلا إليه خمسين رجلا شجاعا ليلقوا القبض عليه بمكر و خديعة و من ثمّ يقتلوه،فوصل هؤلاء الخمسون إلى سفح الجبل،و نادوا بأعلى أصواتهم:يا أيّها النّبيّ إنّا آمنّا بك و بما أنزل إليك،و قد آمن بك الملك أجب أيضا و قومه و صدّقوك،و هم نادمون على ما بدا منهم،للّه عليك أخرج إلينا لكي نعتذر إليك.

فقال إلياس:اللّهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لي أن أبرز إليهم،و إن كانوا كاذبين فاكفنيهم

ص: 56

و ارمهم بنار تحرقهم.

و ما استتمّ كلامه حتّى نزلت نار من السّماء و أحرقتهم فهلكوا،و بلغ خبر هلاكهم إلى أجب،فما اعتبر و لا رجع عن غيّه و كفره بل ازداد طغيانا و عصيانا،ثمّ دعا إلياس ربّه أن يبتليهم بالقحط و الجوع قائلا:اللّهم احبس عنهم قطر السّماء و بركات الأرض جزاء لما عملوا.

فأوحى اللّه إليه:«يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك و إن كانوا ظالمين،و لكن أعطيك مرادك ثلاث سنين» فلم تمطر السّماء و لم تخضرّ الأرض ثلاث سنين حتّى هلك بعض من النّاس و البهائم و الدّوابّ.

و كان مع إلياس غلام اسمه اليسع بن أخطوب قد آمن به،و كان تابعه يذهب معه أنّى يذهب،ثمّ أوحى اللّه إليه:«يا إلياس إنّك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممّن لم يعص من البهائم و الدّوابّ و الطّيور و الهوامّ».

و بعد ذلك أنزل اللّه عليهم المطر فاخضرّ الجناب و أمرعوا.و لكنّهم ظلّوا مصرّين على كفرهم و شركهم، و أجمعوا على قتل إلياس،فدعا ربّه بأن يخلّصه منهم، فقيل له:اذهب إلى المكان الفلانيّ حتّى ترى فرسا تركب عليه و لا تخف.فجاء إلى الميعاد و رأى اليسع معه فرسا ناريّا،و قيل:لونه كلون النّار،فركب إلياس عليه فرفعه إلى السّماء،و قال اليسع:يا إلياس ما تأمرني؟فرمى إلياس إليه بكسائه من الجوّ،يعني جعلتك خليفتي على بني إسرائيل.[إلى أن قال:]

و قال بعضهم:إلياس موكّل بالفيافي،و الخضر موكّل بالبحار،و هما يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، و يوافيان الموسم في كلّ عام،و هما آخر من يموت من بني آدم؛فذلك قوله عزّ و جلّ:في سورة الصّافّات:123، 124 وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ عذاب اللّه بالإيمان به.(8:294)

الفخر الرّازيّ: قرأ ابن عامر: (و انّ إلياس) بغير همزة على وصل الألف،و الباقون بالهمزة و قطع الألف، قال أبو بكر بن مهران:من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ،و كان أهل الشّام ينكرونه و لا يعرفونه.قال الواحديّ:و له وجهان:

أحدهما:أنّه حذف الهمزة من إلياس حذفا،كما حذفها ابن كثير من قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ

و الآخر:أنّه جعل الهمزة الّتي تصحب اللاّم للتّعريف،كقوله:(و اليسع).(26:161)

أبو حيّان:قال ابن مسعود و قتادة:هو إدريس عليه السّلام.و نقلوا عن ابن مسعود و ابن وثّاب و الأعمش و المنهال بن عمر و الحكم بن عتيبة الكوفيّ أنّهم قرءوا (و انّ ادريس لمن المرسلين) .

و هي محمولة عندي على تفسيره،لأنّ المستفيض عن ابن مسعود أنّه قرأ (و انّ الياس) ،و أيضا تفسيره إلياس بأنّه إدريس لعلّه لا يصحّ عنه،لانّ إدريس في التّاريخ المنقول كان قبل نوح،و في سورة الأنعام ذكر إلياس و أنّه من ذرّية إبراهيم،أو من ذرّية نوح على ما يحتمله قوله تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ الأنعام:

84،و ذكر في جملة هذه الذّرّيّة إلياس.

و قيل:إلياس من أولاد هارون.

و قرأ الجمهور (و إنّ الياس) بهمزة قطع مكسورة،

ص: 57

و قرأ عكرمة و الحسن بخلاف عنهما،و الأعرج و أبو رجاء و ابن عامر و ابن محيصن بوصل الألف،فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع،و احتمل أن يكون اسمه ياسا، و دخلت عليه«ال»كما دخلت على«اليسع».

و في حرف أبيّ و مصحفه (و إنّ ايليس) بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها لام مكسورة بعدها ياء ساكنة و سين مفتوحة.

و قرئ (و إنّ إدراس) لغة في إدريس،كإبراهام في إبراهيم.(7:373)

الآلوسيّ: قال الطّبري:هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السّلام،فهو إسرائيليّ من سبط هارون.و حكى القتيبيّ أنّه من سبط يوشع.و حكى الطّبرسيّ أنّه ابن عمّ اليسع و أنّه بعث بعد حزقيل،و في«العجائب»للكرمانيّ أنّه ذو الكفل،و عن وهب أنّه،عمّر كما عمّر الخضر،و يبقى إلى فناء الدّنيا.

و أخرج ابن عساكر عن الحسن:أنّه موكّل بالفيافي، و الخضر بالبحار و الجزائر،و إنّهما يجتمعان بالموسم في كلّ عام.و حديث اجتماعه مع النّبيّ في بعض الأسفار، و أكله معه من مائدة نزلت عليهما من السّماء-هي خبز و حوت و كرفس-و صلاتهما العصر معا.رواه الحاكم عن أنس،و قال:هذا حديث صحيح الإسناد و كلّ ذلك من التّعمير،و ما بعده لا يعوّل عليه.

و حديث الحاكم ضعّفه البيهقيّ.و قال الذّهبيّ:

موضوع،قبّح اللّه تعالى من وضعه،ثمّ قال:و ما كنت أحسب و لا أجوز أنّ الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحّح هذا.[إلى أن قال:]

و قرئ(إدراس)و هو لغة في إدريس،كإبراهام في إبراهيم.و إذا فسّر إلياس بإدريس على أنّ أحد اللّفظين اسم و الآخر لقب،فإن كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به،و إن كان المراد بهما إدريس المشهور الّذي رفعه اللّه تعالى مكانا عليّا،و هو على ما قيل:أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم.و كان على ما ذكره المؤرّخون قبل نوح،و في«المستدرك»عن ابن عبّاس أنّ بينه و بين نوح ألف سنة،و عن وهب أنّه جدّ نوح،أشكل الأمر في قوله تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ* وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ الأنعام:83-86،لأنّ ضمير ذرّيّته إمّا أن يكون لإبراهيم لأنّ الكلام فيه،و إمّا أن يكون لنوح لأنّه أقرب،و لأنّ يونس و لوطا ليسا من ذرّيّة إبراهيم.و على التّقديرين لا يتسنّى نظم إلياس المراد به إدريس الّذي هو قبل نوح،على ما سمعت في عداد الذّرّيّة،و يرد على القول بالاتّحاد مطلقا أنّه خلاف الظّاهر،فلا تغفل.

(23:139)

القاسميّ: هو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان،أرسله اللّه لمّا انتشرت الوثنيّة في الإسرائيليّين، و ساعد على انتشارها بينهم ملوكهم،و بنوا لها المذابح و عبدوها من دون اللّه تعالى،و نبذوا أحكام التّوراة

ص: 58

ظهريّا.فقام إلياس عليه السّلام يوبّخهم على ضلالهم و يدعوهم إلى التّوحيد.و يسمّى في التّوراة إيليا،و له نبأ فيها كبير.

(14:5059)

محمّد إسماعيل إبراهيم: (إلياس)نبيّ من أنبياء بني إسرائيل من نسل هارون،أرسله اللّه إلى قومه بني إسرائيل،و يرى بعض المفسّرين أنّه ذو الكفل.(44)

هوتسما :هو النّبيّ إيليا المذكور في التّوراة،ورد ذكره مرّتين في القرآن.(2:604)

المصطفويّ: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ* أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ الصّافّات:123-125،هذه الآيات الكريمة في مقام ذكر جمع من المرسلين الّذين أرسلوا إلى النّاس، فيذكرون واحدا واحدا و يذكر ما هو الجالب من جريان رسالته،ثمّ يختم بجملة وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ الصّافّات:129،130.

ففي هذه الآيات أيضا يقول تعالى: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ الصّافّات:129، 130،فيستفاد من نظم الآيات الكريمة أنّ المراد من كلمة إِلْ ياسِينَ هو إلياس المذكور قطعا،و الأقوال الأخر في هذا المورد خلاف نظم الآيات و ظاهرها.(1:116)

ال ياسين

سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. الصّافّات:130

الإمام عليّ عليه السّلام: (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (يس):

محمّد،و نحن آل يس.(البحرانيّ 4:33)

ابن عبّاس: أي على آل محمّد.(أبو زرعة:610)

مثله الكاشانيّ.(4:281)

مجاهد :هو إلياس.(الدّرّ المنثور 5:286)

مثله السّدّيّ.(الطّبريّ 23:96)

الفرّاء: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ جعله بالنّون، و العجميّ من الأسماء قد يفعل به هذا العرب،تقول:

ميكال و ميكائيل و ميكائل و ميكائن بالنّون،و هي في بني أسد،يقولون:هذا إسماعين قد جاء بالنّون و سائر العرب باللاّم.[ثمّ استشهد بشعر]

و إن شئت ذهبت ب(إلياسين)إلى أن تجعله جمعا، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه،كما تقول للقوم رئيسهم المهلّب:قد جاءتكم المهالبة و المهلّبون،فيكون بمنزلة قوله:الأشعرين و السّعدين و شبهه.قال الشّاعر:

*أنا ابن سعد سيّد السّعدينا*

و هو في الاثنين أكثر أن يضمّ أحدهما إلى صاحبه إذا كان أشهر منه اسما،كقول الشّاعر:

جزاني الزّهدمان جزاء سوء

و كنت المرء يجزى بالكرامة

و اسم أحدهما زهدم.

و قد قرأ بعضهم (و انّ اليأس) ،يجعل اسمه«يأسا»، أدخل عليه الألف و اللاّم،ثمّ يقرءون سلام على آل ياسين، جاء التّفسير في تفسير الكلبيّ عَلى إِلْ ياسِينَ :على آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و الأوّل أشبه بالصّواب- و اللّه أعلم-لأنّها في قراءة عبد اللّه (و انّ ادريس لمن المرسلين) (سلام على ادراسين) ،و قد يشهد على صواب هذا قوله: وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ

ص: 59

المؤمنون:20،ثمّ قال في موضع آخر: وَ طُورِ سِينِينَ التّين:2،و هو معنى واحد و موضع واحد،و اللّه أعلم.(2:391)

أبو عبيدة :أي سلام على إلياسين و أهله و أهل دينه،جمعهم بغير إضافة الياء على العدد،فقال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [ثمّ استشهد بشعر إلى أن قال:]

و زعم أنّ أهل المدينة يقولون: (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) أي على أهل آل ياسين.

و قال أصحاب سعد ابن أبي وقّاص و ابن عمر و أهل الشّام:هم قومه و من كان على دينه،و احتجّوا بالقرآن:

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ المؤمن:46،فقال:

هم قومه و من كان على دينه.

و قالت الشّيعة:آل محمّد أهل بيته،و احتجّوا بأنّك تصغّر«آل»فتجعله«أهيل».(2:172)

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة قوله: سلام على ال ياسين فقرأته عامّة قرّاء مكّة و البصرة و الكوفة سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ بكسر الألف من إلياسين،فكان بعضهم يقول:هو اسم«إلياس».و يقول:

إنّه كان يسمّى باسمين:إلياس و إلياسين،مثل إبراهيم و إبراهام،يستشهد على أنّ ذلك كذلك،بأنّ جميع ما في السّورة من قوله:(سلام)فإنّه سلام على النّبيّ الّذي ذكر دون«آله»،فكذلك(إلياسين)إنّما هو سلام على إلياس دون آله.

و كان بعض أهل العربيّة يقول:«إلياس»اسم من أسماء العبرانيّة،كقولهم:إسماعيل و اسحاق،و الألف و اللاّم منه.و يقول:لو جعلته عربيّا من«الألس»فتجعله «إفعالا»،مثل الإخراج و الإدخال،أجري.

و يقول:قال: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ...[و ذكر مثل الفرّاء إلى أن قال:]

و قرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) بقطع(آل)من(ياسين)،فكان بعضهم يتأوّل ذلك بمعنى سلام على آل محمّد.و ذكر عن بعض القرّاء أنّه كان يقرأ قوله: (و انّ اليأس) بترك الهمز في«إلياس»و يجعل الألف و اللاّم داخلتين على«يأس»للتّعريف،و يقول:إنّما كان اسمه«يأس»أدخلت عليه ألف و لام،ثمّ يقرأ على ذلك (سلام على الياسين) .

و الصّواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه سلام على آل ياسين بكسر ألفها،على مثال (إدراسين)لأنّ اللّه تعالى ذكره إنّما أخبر عن كلّ موضع ذكر فيه نبيّا من أنبيائه صلوات اللّه عليهم في هذه السّورة،بأنّ عليه سلاما،لا على آله،فكذلك السّلام في هذا الموضع ينبغي أن يكون على«إلياس»كسلامه على غيره من أنبيائه لا على«آله»على نحو ما بيّنّا من معنى ذلك.

فإن ظنّ ظانّ أنّ إلياسين غير إلياس،فإنّ فيما حكينا من احتجاج من احتجّ بأنّ إلياسين هو إلياس،غنى عن الزّيادة فيه.مع أنّ فيما جاء عن السّدّيّ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قال:إلياس،و في قراءة عبد اللّه بن مسعود:

(سلام على ادراسين) دلالة واضحة على خطأ قول من قال:عنى بذلك سلام على آل محمّد،و فساد قراءة من قرأ وَ إِنَّ إِلْياسَ بوصل النّون من«انّ»بالياس،و توجيه الألف و اللاّم فيه إلى أنّهما أدخلتا تعريفا للاسم الّذي هو

ص: 60

«ياس»؛و ذلك أنّ عبد اللّه كان يقول:إلياس هو إدريس، و يقرأ: (و انّ ادريس لمن المرسلين) ،ثمّ يقرأ على ذلك (سلام على ادراسين) كما قرأ الآخرون سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، فلا وجه على ما ذكرنا من قراءة عبد اللّه،لقراءة من قرأ ذلك (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) بقطع«الآل»من «ياسين».و نظير تسمية إلياس بالياسين: وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ المؤمنون:20،ثمّ قال في موضع آخر: وَ طُورِ سِينِينَ التّين:2،و هو موضع واحد سمّي بذلك.(23:94)

السّجستانيّ: يعني إلياس و أهل دينه،جمعهم بغير إضافة بالياء و النّون على العدد،كأنّ كلّ واحد اسمه «إلياس».و قال بعض العلماء:يجوز أن يكون إلياس و إلياسين بمعنى واحد،كما يقال:ميكال و ميكائيل و يقرأ (عَلى إِلْ ياسِينَ) أي على آل محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(159)

أبو زرعة: قرأ نافع و ابن عامر (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) بفتح الألف و كسر اللاّم.

قال ابن عبّاس: (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) أي على آل محمّد،كما قيل في ياسين:يا محمّد،و آل محمّد،كلّ من آل إليه بحسب أو بقرابة.و قال قوم:آل محمّد كلّ من كان على دينه،و مثله كما قال: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ المؤمن:46،يريد من كان على دينه.

و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:آل محمّد كلّ تقيّ.

و أجمع النّحويّون على أنّ«الآل»أصله«أهل» فقلبوا الهاء همزة و جعلوها مدّة؛لئلاّ تجتمع همزتان.

و فيها وجه آخر:يكون لغتين:«إلياس»و «إلياسين»،كما قالوا:ميكال و ميكائيل،و جبريل و جبرئيل.و حجّة هذه القراءة أنّه ذكره في صدر الآية، فقال في الآية: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ كما ذكر نوحا في صدر الآية،ثمّ قال آخر القصّة: سَلامٌ عَلى نُوحٍ الصّافّات:79،و كذلك إبراهيم و موسى و هارون إنّما قال في آخر قصصهم:سلام على فلان.(610)

القيسيّ: من فتح الهمزة و مدّه،جعله(آل)الّذي أصله«أهل»أضافه إلى(ياسين)،و هي في المصحف منفصلة،فقوي ذلك عنده.

و من كسر الهمزة جعله جمعا منسوبا إلى(إلياسين) و إلياسين جمع إلياس،و هو جمع السّلامة،لكنّ الياء المشدّدة في النّسب حذفت منه،و أصله«إلياسيّ»و تجمع فتقول:إلياسيّين،فالسّلام على من نسب إلى إلياس من أمّته و السّلام في الوجه الأوّل على أهل ياسين.و قد قال اللّه تعالى: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الشّعراء:198، و أصله في النّسب:الأعجميّين،بياء مشدّدة،و لكن حذفت لثقلها و ثقل الجمع.و تحذف أيضا هذه الياء في الجمع المكسّر كما حذفت في المسلّم،قالوا:المسامعة و المهالبة،و واحدهم:مسمعيّ و مهلبيّ.(2:242)

الطّوسيّ: قرأ نافع،و ابن عامر،و يعقوب: (سلام على آل ياسين) على إضافة(آل)إلى(ياسين)،الباقون (على إلياسين) موصولة.من أضاف أراد به على آل محمّد،لأنّ(ياسين)اسم من أسماء محمّد على ما حكيناه.

و قال بعضهم:أراد آل إلياس.و قال الجبّائيّ:أراد أهل القرآن.و من لم يضف أراد إلياس،و قال:(إلياسين)، لأنّ العرب تغيّر الأسماء الأعجميّة بالزّيادة،كما يقولون:

ميكائيل و ميكائين،و ميكال و ميكائل،و في إسماعيل

ص: 61

إسماعين.(8:523)

الميبديّ :قرأ نافع،و ابن عامر،و يعقوب: (آل ياسين) بفتح الهمزة مشبعة و كسر اللاّم مقطوعة على كلمتين،و يؤيّد هذه القراءة أنّها في المصحف مفصولة من ياسين.و قرأ الآخرون:بكسر الهمزة و سكون اللاّم موصولة على كلمة واحدة.فمن قرأ (إِلْ ياسِينَ) مقطوعا، أراد آل محمّد.و يجوز أن يكون اسم ذلك النّبيّ ياسين، لقراءة بعضهم (و انّ إلياس) بهمزة الوصل،فزيدت في آخره الياء و النّون كما زيدت في (الياسين) ؛فعلى هذا يجوز أن يكون (إِلْ ياسِينَ) آل ذلك النّبيّ.و من قرأ (الياسين) بالوصل على كلمة واحدة ففيه قولان:

أحدهما:أنّه لغة في«إلياس»كسيناء و سينين و ميكال و ميكائيل.

و الثّاني:أنّه قد جمع،و المراد:إلياس و أتباعه من المؤمنين،و أصله«إلياسيّين»بياء النّسب،فحذف كما حذف من الأعجمين و الأشعرين.(8:297)

نحوه أبو البركات(2:308)،و أبو حيّان(7:373).

الزّمخشريّ: قرئ(على إلياسين،إدريسين، و إدراسين،و إدريسين)على أنّها لغات في إلياس و إدريس،و لعلّ لزيادة الياء و النّون في السّريانيّة معنى.

و قرئ(على إلياسين)بالوصل على أنّه جمع،يراد به إلياس و قومه،كقولهم:الخبيبون و المهلّبون.

فإن قلت:فهلاّ حملت على هذا(إلياسين)على القطع و أخواته؟

قلت:لو كان جمعا لعرّف بالألف و اللاّم.و أمّا من قرأ (على آل ياسين) فعلى أنّ«ياسين»اسم أبي إلياس، أضيف إليه«الآل».(3:352)

الطّبرسيّ:قرأ ابن عامر و نافع و رويس عن يعقوب (آل ياسين) بفتح الألف و كسر اللاّم المقطوعة من ياسين،و الباقون(إلياسين)بكسر الألف و سكون اللاّم موصولة بياسين.

و في الشّواذّ قراءة ابن مسعود و يحيى و الأعمش و الحكم بن عيينة (و إنّ إدريس سلام على إدراسين) و قراءة ابن محيصن و أبي رجاء (و إنّ إلياس سلام على الياسين) بغير همز.

و قال أبو عليّ: من قرأ (آل ياسين) فحجّته أنّها في المصحف مفصولة من(ياسين)،و في فصلها دلالة على أنّ (آل)هو الّذي تصغيره«أهيل».

و قال الزّجّاج: من قرأ (إلياسين) فإنّه جمع«إلياس» جمع هو و أمّته المؤمنون،و كذلك يجمع ما ينسب إلى الشّيء بلفظ الشّيء،تقول:رأيت المسامعة و المهالبة، تريد بني المسمع و بني المهلّب،و كذلك:رأيت المهلّبين و المسمعين.و فيها وجه آخر،و هو أن يكون لغتان:

إلياس و إلياسين،كما قيل:ميكال و ميكائيل.

و قال أبو عليّ: هذا لا يصحّ،لأنّ ميكال و ميكائيل لغتان في اسم واحد،و ليس أحدهما مفردا و الآخر جمعا كإلياس و إلياسين و إدريس و إدراسين،و مثله:«قدني من نصر الخبيبين قدي»أراد عبد اللّه و من كان على رأيه،فكذلك إلياسين و إدراسين،من كان من شيعته و أهل دينه على إرادة ياء النّسب،التّقدير:إلياسيّين و إدراسيّين،فحذف كما حذف من سائر هذه الكلم الّتي يراد الصّفة،كالأعجمين و الأشعرين.

ص: 62

و من قرأ (إلياسين) أراد إلياس و من اتّبعه.

و قيل:(ياسين)اسم السّورة،فكأنّه قال:سلام على من آمن بكتاب اللّه و القرآن الّذي هو ياسين.(4:456)

الفخر الرّازيّ: قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب: (آل ياسين) على إضافة لفظ(آل)إلى لفظ(ياسين)،الباقون بكسر الألف و جزم اللاّم موصولة بياسين.

أمّا القراءة الأولى ففيها وجوه:

الأوّل:و هو الأقرب أنّا ذكرنا أنّه إلياس بن ياسين، فكان إلياس(آل ياسين).

الثّاني:(آل ياسين)آل محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

الثّالث:أنّ(ياسين)اسم القرآن،كأنّه قيل:سلام اللّه على من آمن بكتاب اللّه الّذي هو ياسين.

و الوجه هو الأوّل،لأنّه أليق بسياق الكلام.

و أمّا القراءة الثّانية ففيها وجهان:

الأوّل:[قول الزّجّاج و قد تقدّم]

الثّاني:قال الفرّاء:هو جمع،و أراد به إلياس و أتباعه من المؤمنين،كقولهم:المهلّبون و السّعدون.(26:162)

نحوه النّيسابوريّ(23:67)،و الخازن(6:30).

القرطبيّ: (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) قراءة الأعرج و شيبة و نافع.و قرأ عكرمة و أبو عمرو و ابن كثير و حمزة و الكسائيّ (سلام على الياسين) بوصل الألف،كأنّها (ياسين)دخلت عليها الألف و اللاّم الّتي للتّعريف، و المراد(إلياس)عليه السّلام.و عليه وقع التّسليم،و لكنّه اسم أعجميّ،و العرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجميّة، و يكثر تغييرهم لها.

قال ابن جنّيّ:العرب تتلاعب بالأسماء الأعجميّة تلاعبا،فياسين و إلياس و إلياسين شيء واحد.

الزّمخشريّ: و كان حمزة إذا وصل نصب،و إذا وقف رفع.

و قرئ(على إلياسين،و إدريسين،و إدرسين و إدراسين)على أنّها لغات في إلياس و إدريس،و لعلّ لزيادة الياء و النّون في السّريانيّة معنى.

النّحّاس: و من قرأ (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) فكأنّه -و اللّه أعلم-جعل اسمه إلياس و ياسين،ثمّ سلّم على آله،أي أهل دينه و من كان على مذهبه.و علم أنّه إذا سلّم على آله من أجله فهو داخل في السّلام،كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى»و قال اللّه تعالى:

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ المؤمن:46.

و من قرأ (إلياسين) فللعلماء فيه غير قول.فروى هارون عن ابن أبي إسحاق قال:(إلياسين)،مثل إبراهيم، يذهب إلى أنّه اسم له.و أبو عبيدة يذهب إلى أنّه جمع جمع التّسليم على أنّه و أهل بيته سلّم عليهم.[ثمّ استشهد بشعر إلى أن قال:]

قال عليّ بن سليمان: فإنّ العرب تسمّي قوم الرّجل باسم الرّجل الجليل منهم،فيقولون:المهالبة على أنّهم سمّوا كلّ رجل منهم بالمهلّب.قال:فعلى هذا سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ سمّي كلّ رجل منهم بإلياس.و قد ذكر سيبويه في كتابه شيئا من هذا،إلاّ أنّه ذكر أنّ العرب تفعل هذا على جهة النّسبة،فيقولون:الأشعرون، يريدون به النّسب.

المهدويّ: و من قرأ (إلياسين) فهو جمع يدخل فيه إلياس،فهو جمع«إلياسيّ»فحذفت ياء النّسبة،كما

ص: 63

حذفت ياء النّسبة في جمع المكسّر،في نحو:المهالبة في جمع مهلّبيّ،كذلك حذفت في المسلّم،فقيل:المهلّبون.

و قد حكى سيبويه:الأشعرون و النّميرون، يريدون الأشعريّين و النّميريّين.

السّهيليّ: و هذا لا يصحّ بل هي لغة في إلياس،و لو أراد ما قالوه لأدخل الألف و اللاّم،كما تدخل في المهالبة و الأشعريّين،فكان يقول: «سلام على الإلياسين» ،لأنّ العلم إذا جمع ينكّر حتّى يعرّف بالألف و اللاّم،لا تقول:

سلام على زيدين،بل على الزّيدين،بالألف و اللاّم.

فإلياس عليه السّلام فيه ثلاث لغات.

النّحّاس: و احتجّ أبو عبيد في قراءته سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ و أنّه اسمه كما أنّ اسمه إلياس،لأنّه ليس في السّورة سلام على(آل)لغيره من الأنبياء،فكما سمّي الأنبياء كذا سمّي هو،هذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو، و هو غير لازم،لأنّا بيّنّا قول أهل اللّغة:أنّه إذا سلّم على آله من أجله فهو سلام عليه.

و القول بأنّ اسمه(إلياسين)يحتاج إلى دليل و رواية، فقد وقع في الأمر إشكال.

قال الماورديّ:و قرأ الحسن (سلام على ياسين) بإسقاط الألف و اللاّم،و فيه وجهان:

أحدهما:أنّهم آل محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم قاله ابن عبّاس.

الثّاني:أنّهم آل ياسين،فعلى هذا في دخول الزّيادة في ياسين وجهان:

أحدهما:أنّها زيدت لتساوي الآي،كما قال في موضع: طُورِ سَيْناءَ المؤمنون:20،و في موضع آخر:

وَ طُورِ سِينِينَ التّين:2،فعلى هذا يكون«السّلام» على أهله دونه،و تكون الإضافة إليه تشريفا له.

الثّاني:أنّها دخلت للجمع،فيكون داخلا في جملتهم،فيكون السّلام عليه و عليهم.

قال السّهيليّ:قال بعض المتكلّمين في معاني القرآن (آل ياسين)آل محمّد عليه السّلام،و نزع إلى قول من قال في تفسير(ياسين)يا محمّد،و هذا القول يبطل من وجوه كثيرة:

أحدها:أنّ سياقة الكلام في قصّة(إلياسين)يلزم أن تكون كما هي في قصّة إبراهيم،و نوح،و موسى،و هارون، و أنّ التّسليم راجع عليهم،و لا معنى للخروج عن مقصود الكلام،لقول قيل في تلك الآية الأخرى،مع ضعف ذلك القول أيضا.فإنّ(يس)و(حم)و(الم)و نحو ذلك،القول فيها واحد،إنّما هي حروف مقطّعة.إمّا مأخوذة من أسماء اللّه تعالى،كما قال ابن عبّاس،و إمّا من صفات القرآن، و إمّا كما قال الشّعبيّ:للّه في كلّ كتاب سرّ،و سرّه في القرآن فواتح القرآن.

و أيضا فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«لي خمسة أسماء» و لم يذكر فيها(يس).

و أيضا فإنّ(يس)جاءت التّلاوة فيها بالسّكون و الوقف،و لو كان اسما للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لقال:«يسن»بالضّمّ، كما قال تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ يوسف:46.

و إذا بطل هذا القول لما ذكرناه ف(إلياسين)هو (إلياس)المذكور،و عليه وقع التّسليم.

و قال أبو عمر و ابن العلاء:هو مثل(إدريس) و(إدراسين)و كذلك هو في مصحف ابن مسعود(و انّ ادريس لمن المرسلين)،ثمّ قال(سلام على ادراسين)

ص: 64

إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الصّافّات:131،132،تقدّم.

(15:118-120)

ابن القيّم:هذه الآية فيها قراءتان:

إحداهما:(إلياسين)،بوزن إسماعيل،و فيه وجهان:

أحدهما:أنّه اسم ثان للنّبيّ إلياس و إلياسين،كميكال و ميكائيل.

و الوجه الثّاني:أنّه جمع،و فيه وجهان:

أحدهما:أنّه جمع إلياس،و أصله«إلياسيّين»بيائين كعبرانيّين،خفّفت إحدى الياءين،فقيل:(إلياسين)، و المراد أتباعه،كما حكى سيبويه:الأشعرون،مثله:

الأعجمون.

و الثّاني:أنّه جمع إلياس،محذوف الياء.

و القراءة الثّانية (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ)، و فيه أوجه:

أحدها:أنّ(ياسين)اسم لأبيه،فأضيف إليه الآل، كما يقال:آل إبراهيم.

و الثّاني:أنّ(آل ياسين)هو إلياس نفسه،فيكون (آل)مضافة إلى(ياسين)،و المراد بالآل:ياسين نفسه، كما ذكر الأوّلون.

و الثّالث:أنّه على حذف ياء النّسب،فيقال:

(ياسين)و أصله«ياسيّين»،كما تقدّم،و آلهم أتباعهم على دينهم.

و الرّابع:أنّ(ياسين)هو القرآن،و آله هم أهل القرآن.

و الخامس:أنّه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و آله:أقاربه و أتباعه،كما سيأتي.و هذه الأقوال كلّها ضعيفة.

و الّذي حمل قائليها عليها استشكالهم إضافة (آل)إلى(ياسين)،و اسمه:إلياس و إلياسين،و رووها في المصحف مفصولة.و قد قرأها بعض القرّاء (آل ياسين).

فقال طائفة منهم:له أسماء:ياسين،و إلياسين، و إلياس.و قالت طائفة:(ياسين)اسم لغيره.

ثمّ اختلفوا،فقال الكلبيّ:ياسين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.و قالت طائفة:هو القرآن.و هذا كلّه تعسّف ظاهر لا حاجة إليه.

و الصّواب-و اللّه أعلم-في ذلك أنّ أصل الكلمة:آل ياسين،كآل إبراهيم،فحذفت الألف و اللاّم من أوّله لاجتماع الأمثال،و دلالة الاسم على موضع المحذوف.

و هذا كثير في كلامهم،إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النّطق بها كلّها،فحذفوا منها ما لا لبس في حذفه،و إن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال،و لهذا يحذفون النّون من إنّي و أنّى و كأنّي و لكنّي،و لا يحذفونها من ليتني.و لمّا كانت اللاّم في لعلّ شبيهة بالنّون حذفوا النّون معها،و لا سيّما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجميّ و تغييرها له،فيقولون:مرّة إلياسين،و مرّة إلياس،و مرّة ياسين،و ربّما قالوا:ياس.

و يكون على إحدى القراءتين قد وقع «السّلام»عليه،و على القراءة الأخرى(على آله).(417)

الآلوسيّ: الكلام فيه كما في نظيره،بيد أنّه يقال هاهنا:إنّ(آل ياسين)لغة في(إلياس)،و كثيرا ما يتصرّفون في الأسماء الغير العربيّة.

و في«الكشّاف»:لعلّ لزيادة الياء و النّون معنى في اللّغة السّريانيّة.

ص: 65

و من هذا الباب«سيناء»و«سينين»،و اختار هذه اللّغة هنا رعاية للفواصل.و قيل:هو جمع(إلياس)على طريق التّغليب بإطلاقه على قومه و أتباعه،كالمهلّبين للمهلّب و قومه.

و ضعّف بما ذكره النّحاة من أنّ العلم إذا جمع أو ثنّي وجب تعريفه باللاّم جبرا،لما فاته من العلميّة،و لا فرق فيه بين ما فيه تغليب و بين غيره كما صرّح به ابن الحاجب في«شرح المفصّل»،لكن هذا غير متّفق عليه.

قال ابن يعيش في«شرح المفصّل»:يجوز استعماله نكرة بعد التّثنية و الجمع،نحو:زيدان كريمان،و زيدون كريمون،و هو مختار الشّيخ عبد القاهر،و قد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصّلات كتب النّحو.ثمّ إنّ هذا البحث إنّما يتأتّى مع من لم يجعل لام(إلياس)للتّعريف،أمّا من جعلها له فلا يتأتّى البحث معه.

و قيل:هو جمع«إلياسيّ»بياء النّسبة،فخفّف لاجتماع الياءات في الجرّ و النّصب،كما قيل:أعجمين في أعجميّين،و أشعرين في أشعريّين،و المراد ب(إلياسين) قوم إلياس المخلصون،فإنّهم الأحقّاء بأن ينسبوا إليه.

و ضعّف بقلّة ذلك و إلباسه بإلياس إذا جمع،و إن قيل:

حذف لام إلياس مزيل،للإلباس،و أيضا هو غير مناسب للسّياق و السّباق؛إذا لم يذكر آل أحد من الأنبياء.

و قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و زيد بن عليّ (آل ياسين) بالإضافة،و كتب في المصحف العثمانيّ منفصلا،ففيه نوع تأييد لهذه القراءة،و خرّجت عن أنّ (ياسين)اسم أبي إلياس،و يحمل«الآل»على(إلياس).

و في الكناية عنه تفخيم له،كما في آل إبراهيم عن نبيّنا.

و جوّز أن يكون«الآل»مقحما على أنّ(ياسين)هو إلياس نفسه.

و قيل:(ياسين)فيها اسم لمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

ف(آل ياسين):آله عليه الصّلاة و السّلام،أخرج ابن أبي حاتم و الطّبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّه قال في (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) :نحن آل محمّد آل ياسين، و هو ظاهر في جعل(ياسين)اسما له،

و قيل:هو اسم للسّورة المعروفة.

و قيل:اسم للقرآن،ف(آل ياسين)هذه الأمّة المحمّديّة أو خواصّها.

و قيل:اسم لغير القرآن من الكتب.و لا يخفى عليك أنّ السّياق و السّباق يأبيان أكثر هذه الأقوال.

و قرأ أبو رجاء و الحسن (على الياسين) بوصل الهمزة و تخريجها يعلم ممّا مرّ.و قرأ ابن مسعود و من قرأ معه فيما سبق إدريس (سلام على ادراسين) ،و عن قتادة (و انّ ادريس) ،و قرأ (على إدريسين) ،و قرأ أبيّ (على إيليس) كما قرأ (و انّ ايليس لمن المرسلين) .(23:141)

المصطفويّ: يستفاد من نظم الآيات الكريمة أنّ المراد من كلمة(إل ياسين)هو إلياس المذكور قطعا، فالأقوال الأخر في هذا المورد خلاف نظم الآيات و ظاهرها.

و التّحقيق أنّ كلمة(إلياسين)كإسرائين كلمة واحدة،و هي لغة في(إلياس)،زيدت فيها الياء و النّون لحفظ النّظم في أواخر الآيات في المورد،و هذا هو الموجب

ص: 66

و المجوّز لانتخاب هذه اللّغة.

و لا يخفى أنّ حرف«س»تزاد عليها ياء و نون في التّلفّظ،فيقال:سين،و هذا المعنى شبيه بمدّ الحرف و تفخيمها و إظهارها،كما أنّ كلمة(يس)تتلفّظ بهذه الصّورة:ياسين.

و الظّاهر أنّ قراءة بعضهم هذه الكلمة بفتح الهمزة و مدّها و كسر اللاّم(آل ياسين)هي الموجبة لكتابتها منفصلة،و لعلّ من هذا المعنى نشأ القول بأنّ اسم أبيه (ياسين)كما أنّ منشأ هذه القراءة هو كلمة(يس) المفسّرة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.و كلّ هذه موهونة ضعيفة.(1:117)

محمّد هادي معرفة: الإسرائيليّات في قصّة إلياس عليه السّلام

و من الإسرائيليّات الّتي اشتملت عليها بعض كتب التّفسير ما ذكروه في قصّة إلياس عليه السّلام عند تفسير قوله تعالى: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ* أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ* اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ* وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ* إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. الصّافّات:123- 132.

فقد روى البغويّ،و الخازن،و صاحب«الدّرّ»، و غيرهم،عن ابن عبّاس،و الحسن،و كعب الأحبار و وهب بن منبّه،مرويّات تتعلّق بإلياس عليه السّلام.

قال صاحب«الدّرّ المنثور»:أخرج ابن عساكر،عن الحسن رضي اللّه عنه في قوله: وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، قال:إنّ اللّه تعالى بعث إلياس إلى بعلبكّ، و كانوا قوما يعبدون الأصنام،و كانت ملوك بني إسرائيل متفرّقة على العامّة،كلّ ملك على ناحية يأكلها،و كان الملك الّذي كان إلياس معه يقوم له أمره،و يقتدي برأيه، و هو على هدى من بين أصحابه،حتّى وقع إليهم قوم من عبدة الأصنام،فقالوا له:ما يدعوك إلاّ إلى الضّلالة و الباطل،و جعلوا يقولون له:اعبد هذه الأوثان الّتي تعبد الملوك،و هم على ما نحن عليه،يأكلون،و يشربون،و هم في ملكهم يتقلّبون،و ما تنقص دنياهم من ربّهم الّذي تزعم أنّه باطل،و ما لنا عليهم من فضل.فاسترجع إلياس،فقام شعر رأسه،و جلده،فخرج عليه إلياس.

قال الحسن:و إنّ الّذي زيّن لذلك الملك امرأته، و كانت قبله تحت ملك جبّار،و كان من الكنعانيّين في طول و جسم و حسن،فمات زوجها فاتّخذت تمثالا على صورة بعلها من الذّهب،و جعلت له حدقتين من ياقوتتين،و توّجته بتاج مكلّل بالدّرّ و الجوهر،ثمّ أقعدته على سرير،تدخل عليه،فتدخّنه،و تطيّبه،و تسجد له، ثمّ تخرج عنه.فتزوّجت بعد ذلك هذا الملك الّذي كان إلياس معه.و كانت فاجرة قد قهرت زوجها،و وضعت البعل في ذلك البيت،و جعلت سبعين سادنا[هو الّذي يقوم بخدمة الأصنام]،فعبدوا البعل.فدعاهم إلياس إلى اللّه فلم يزدهم ذلك إلاّ بعدا،فقال إلياس:اللّهمّ إنّ بني إسرائيل قد أبوا إلاّ الكفر بك،و عبادة غيرك،فغيّر ما بهم من نعمتك.فأوحى اللّه إليه:إنّي قد جعلت أرزاقهم بيدك،فقال:اللّهمّ أمسك عنهم القطر ثلاث سنين،

ص: 67

فأمسك اللّه عنهم القطر.و أرسل إلى الملك فتاه اليسع، فقال:قل له:إنّ إلياس يقول لك:إنّك اخترت عبادة البعل على عبادة اللّه،و اتّبعت هوى امرأتك،فاستعدّ للعذاب و البلاء.فانطلق اليسع،فبلّغ رسالته للملك، فعصمه اللّه تعالى من شرّ الملك،و أمسك اللّه عنهم القطر، حتّى هلكت الماشية و الدّوابّ،و جهد النّاس جهدا شديدا.و خرج إلياس إلى ذروة جبل،فكان اللّه يأتيه برزق،و فجّر له عينا معينا لشرابه و طهوره.حتّى أصاب النّاس الجهد،فأرسل الملك إلى السّبعين،فقال لهم:سلوا البعل أن يفرج ما بنا،فأخرجوا أصنامهم،فقرّبوا لها الذّبائح،و عطفوا عليها،و جعلوا يدعون،حتّى طال ذلك بهم،فقال لهم الملك:إنّ إله إلياس كان أسرع إجابة من هؤلاء.فبعثوا في طلب إلياس،فأتى،فقال:أ تحبّون أن يفرج عنكم؟قالوا:نعم،قال:فأخرجوا أوثانكم.فدعا إلياس عليه السّلام ربّه أن يفرج عنهم،فارتفعت سحابة مثل التّرس[ما يلبسه المحارب]،و هم ينظرون،ثمّ أرسل اللّه عليهم المطر،فتابوا و رجعوا.

قال:و أخرج ابن عساكر،عن كعب،قال:«أربعة أنبياء اليوم أحياء،في الدّنيا:إلياس و الخضر،و اثنان في السّماء:عيسى و إدريس».

قال:و أخرج ابن عساكر،عن وهب،قال:دعا إلياس عليه السّلام ربّه،أن يريحه من قومه،فقيل له:انظر يوم كذا و كذا،فإذا رأيت دابّة لونها مثل لون النّار فاركبها.

فجعل يتوقّع ذلك اليوم،فإذا هو بشيء قد أقبل على صورة فرس،لونه كلون النّار،حتّى وقف بين يديه، فوثب عليه،فانطلق به،فكان آخر العهد به،فكساه اللّه الرّيش،و كساه النّور،و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب، فصار في الملائكة عليهم السّلام.

قال:و أخرج ابن عساكر،عن الحسن رضى اللّه عنه قال:

إلياس عليه السّلام موكّل بالفيافيّ.و الخضر عليه السّلام بالجبال،و قد أعطيا الخلد في الدّنيا إلى الصّيحة الأولى[يعني النّفخة الأولى]،و أنّهما يجتمعان كلّ عام بالموسم.

قال:و أخرج الحاكم عن كعب،قال:كان إلياس صاحب جبال و برّيّة يخلو فيها،يعبد ربّه عزّ و جلّ.و كان ضخم الرّأس،خميص البطن،دقيق السّاقين،في صدره شامة حمراء،و إنّما رفعه اللّه إلى أرض الشّام،لم يصعد به إلى السّماء،و هو الّذي سمّاه اللّه ذا النّون (1).

و كلّ هذا من أخبار بني إسرائيل و تزيّداتهم،و اختلافاتهم،و ما روي منها عن بعض الصّحابة و التّابعين،فمرجعه إلى مسلمة أهل الكتاب ككعب و وهب و غيرهما،و قد رأيت كيف تضارب و تناقض كعب و وهب،فكعب يقول:لم يصعد إلى السّماء،و يزعم أنّه ذو النّون،و وهب يقول:إنّه رفعه إلى السّماء،و صار في عداد الملائكة عليهم السّلام و أنّ بعض الرّوايات تقول:إنّه الخضر،و البعض الآخر يقول:إنّه غير الخضر،إلى غير ذلك من الاضطرابات و الأباطيل،كزعم مختلق الرّوايات الأولى:«أنّ اللّه أوحى إلى إلياس إنّي قد جعلت أرزاقهم بيدك».بينما في بعض الرّوايات الأخرى:أنّ اللّه أبى عليه ذلك مرّتين،و أجابه في الثّالثة،و هكذا الباطل يكون مضطربا لجلجا،و أمّا الحقّ فهو ثابت أبلج.

و لم يقف الأمر عند نقل هذه الإسرائيليّات عمّن1.

ص: 68


1- الدّرّ المنثور 5:280،281.

ذكرنا،بل بلغ الافتراء ببعض الزّنادقة و الكذّابين إلى نسبة ذلك إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كي يؤيّد به أكاذيب بني إسرائيل و خرافاتهم،و كي يعود ذلك بالطّعن على صاحب الرّسالة العامّة الخالدة صلّى اللّه عليه و آله.

قال السّيوطيّ في«الدّرّ»:و أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«الخضر هو إلياس».

و أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في«الدّلائل»و ضعّفه عن أنس رضى اللّه عنه قال:كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر، فنزلنا منزلا،فإذا رجل في الوادي يقول:اللّهمّ اجعلني من أمّة محمّد المرحومة،المغفورة،المثاب لها،فأشرفت على الوادي،فإذا رجل طوله ثلاثمائة ذراع و أكثر،فقال:

من أنت؟قلت:أنس،خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقال:أين هو؟قلت:هو ذا يسمع كلامك،قال:فأته و أقرئه منّي السّلام،و قل له:أخوك إلياس يقرئك السّلام.فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته،فجاء حتّى عانقه،و قعدا يتحدّثان، فقال له:يا رسول اللّه،إنّي إنّما آكل في كلّ سنة يوما،و هذا يوم فطري فكل أنت و أنا،فنزلت عليهما مائدة من السّماء،و خبز و حوت و كرفس،فأكلا،و أطعماني،و صلّيا العصر،ثمّ ودّعني و ودّعته،ثمّ رأيته مرّ على السّحاب نحو السّماء.

قال الحاكم:صحيح الإسناد،و قال الإمام الذّهبيّ:

بل هو موضوع،قبّح اللّه من وضعه،قال-أي الذّهبيّ-:

و ما كنت أحسب و لا أجوّز أنّ الجهل يبلغ بالحاكم أن يصحّح مثل هذا.

و أخلق بهذا أن يكون موضوعا،كما قاله الإمام الحافظ النّاقد الذّهبيّ.

(التّفسير و المفسّرون 2:262-266)

الأصول اللّغويّة

1-تشبّث فريق من العلماء بالقول بأنّ«إلياس» عربيّ مشتقّ من«اليأس»الّذي هو ضدّ الرّجاء،فليّنت همزته ثمّ دخلت عليه الألف و اللاّم.أو مشتقّ من «ألس».بمعنى الخديعة و الخيانة،أو اختلاط العقل،فهو على وزن«فعيال».أو من«ليس»بمعنى الشّجاعة.و منه:

رجل أ ليس،أي شجاع لا يفرّ،فهو«إفعال».

و قال بعضهم:أصله«ياس»اسم لعلم،ثمّ دخلت عليه الألف و اللاّم،كما دخلت على بعض الأعلام، كالحسن،و الحسين،و العبّاس.

2-و كلّ هذه الأقوال ضعيفة،لأنّهم افترضوه مشتقّا من معان لا تنطبق على حاله،فهم راعوا اللّفظ و أهملوا المعنى.و لو كان الألف و اللاّم زائدتين لما كسرت همزته، إضافة إلى ذلك فإنّ وزن«فعيال»لا نظير له في الأوزان العربيّة،و وزن«إفعال»مقصور على المصادر،عدا ستّة أسماء محفوظة،و هي:إعصار و إسكاف و إمخاض و إنشاط و إنسان و إبهام (1).

و لعلّ الباعث الرّئيس لهذه الأقوال هو القراءات غير المشهورة لهذا اللّفظ،و ليس بعيدا أن يكون أصحاب هذه القراءات أنفسهم قد توهّموا هذه المعاني،

ص: 69


1- المزهر للسّيوطيّ 2:105.

فنحوا قراءاتهم نحوها.

3-و الحقيقة أنّه اسم أعجميّ،و الألف و اللاّم فيه أصليّان؛فهو لفظ يونانيّ محرّف«إلياه»أو«إلياهو» العبريّ (1)،انتقل إلى العربيّة بواسطة اللّغة السّريانيّة (2)،كما انتقلت بواسطتها ألفاظ أخرى من اليونانيّة،مثل:إنجيل و أسطوانة و أسقف و ناموس و ميل و إسفنج (3).فقد ورد في اليونانيّة بلفظ«إلياس» بسكون اللاّم،و«إلياس»بكسرها (4).و اللّغة الأولى موافقة لقواعد اللّغة،لتحرّك ثالثه،كما تقدّم في «إسحاق».

الاستعمال القرآنيّ

1-جاء(إلياس)في آيتين مكّيّتين،و ذكر عقب الثّانية(إلياسين)في آية مكّيّة أيضا:

1- وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ الأنعام:85

2- وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ* أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ* اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ* وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ* إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ

الصّافّات:123-132

يلاحظ أوّلا:أنّ(إلياس)جاء ذكره في الموردين ضمن أنبياء بني إسرائيل،ففي الأولى يقول بعد ذكر إبراهيم و إسحاق و يعقوب: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ الأنعام:84،فيسرد الأنبياء من بني إسرائيل -بما فيهم إسماعيل الّذي هو غير إسماعيل بن إبراهيم، و إن كان هو من ذرّيّته أيضا،حسب ما استظهرنا في إسماعيل-ثمّ يأتي على ذكر زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس.و نحن نعلم أنّ اليهود يعدّونه من القدّيسين مثل الخضر،حتّى أنّ الآية الثّانية تفصح عن ذلك؛حيث تقول بعد ذكر إبراهيم و إسحاق: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. الصّافّات:113،ثمّ يذكر موسى و هارون ثمّ إلياس،فذكر هؤلاء كالشّرح لقوله:(و من ذرّيّتهما).

ثانيا:يعلم من قوله: أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ الصّافّات:125،أنّ قوم إلياس كانوا يعبدون بعلا،و هو يحذّرهم منه.و هذا بمثابة مسلك إلى التّعريف به.فمن كان هؤلاء الّذين يعبدون بعلا؟و ليس في القرآن ذكر لبعل إلاّ في هذه الآية فقط.و في أعلام «المنجد»:«بعل اسم أطلق على عدّة آلهة ساميّة، أشهرها معبود فينيقيّ هو إله الخصب و التّناسل،انتشرت عبادته في إسرائيل فقاومها الأنبياء».و هذا يناسب المعنى اللّغويّ للفظة«بعل»؛حيث إنّها بمعنى الزّوج الّذي منه الولد.و عليه فلم تكن عبادة«البعل»في بني إسرائيل مختصّة بقوم إلياس حتّى نعيّن عصره بالذّات،إلاّ أنّه

ص: 70


1- المعجم المقارن للدّكتور محمّد جواد مشكور(1:34)
2- ورد في السّريانيّة بلغات منها:(إليا)و(إيليا)و(إلياس). قاموس سريانيّ عربيّ-لويس كوستاز(403)
3- تاريخ اللغات السّاميّة للدّكتور إسرائيل و لفنسون (169).
4- المعجم المقارن للدّكتور محمّد جواد مشكور(1:34)

يدعم أنّ إلياس من بني إسرائيل.

و في«مجمع البيان 4:457»:«(بعلا)يعني صنما لهم من ذهب كانوا يعبدونه،عن عطاء.و البعل بلغة أهل اليمن هو الرّبّ و السّيّد،عن عكرمة،و مجاهد،و قتادة،و السّدّيّ.فالتّقدير أ تدعون ربّا غير اللّه تعالى؟!».

و في«تفسير الجواهر 18:22»:«هو اسم صنم كان لأهل بكّ بالشّام،و هو البلد الّذي يقال الآن له بعلبكّ.و يطلق البعل على الرّبّ بلغة أهل اليمن،و يصير المعنى أ تدعون بعض البعول؟!».

فيبدو أنّ الصّنم-أيّ صنم كان-يقال له في بني إسرائيل:«بعل»لأنّه كان أعظم صنم في المنطقة قديما.و لا بدّ من ملاحظة أخبار أنبياء بني إسرائيل حتّى نرى من منهم عارض عبدة الأصنام،لاحظ«ب ع ل».

ثالثا:اختلفوا في شخصيّته-حسب ما تقدّم في النّصوص-على أقوال لا دليل عليها،و أقواها قول النّسّابين:هو ابن العازار بن العيزار بن هارون بن عمران،أو هو ابن يسّى بن فينحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

بيد أنّ العيزار المذكور لا يمتّ بصلة تذكر إلى هارون، لأنّ لهذا الأخير أربعة أولاد منهم ألعازار،و هو ثالثهم (1).

و لألعازار ولد واحد هو فيخاص (2)،و لم يكن لفيخاص سوى أبيشوع (3).

و جعلوا لأبي إلياس أيضا أسماء أخرى،منها «يسّى»و هو أبو داود النّبيّ،كما جاء في العهد القديم (4)و الإنجيل (5).و«تشبي»و هو لقب إلياس،نسبة إلى قرية تشبه الّتي ولد فيها (6).و«ياسين»و«نسي»،و لعلّهما تصحيف«يسّى»المارّ الذّكر.و«بشر»و«بشير»و «شير»،و لعلّها تصحيف«أشير»،و هو الولد الثّامن ليعقوب (7)،أو تصحيف«شبر»و هو ابن كالب المذكور في العهد القديم.

و لم يفصح العهد القديم شيئا عن نسبه أيضا سوى تلقيبه ب«التّشبي» (8).و بذلك يبقى«إلياس»مغمورا بين النّاس،و يوكّل أمره إلى الأجيال.إلاّ أنّ القرآن-كما ستعلم-يذكره في عداد أنبياء بني إسرائيل.

رابعا:من أمعن النّظر في الآية الثّانية لا يشكّ في أنّ المراد ب(إلياسين)هو إلياس،لأنّه تعالى كلّما يذكر في هذه الآيات نبيّا من الأنبياء يعقّبه بالقول:(سلام على...) و يذكر اسم ذلك النّبيّ.و حينما يصل إلى(إلياس)يبدأ بوصفه و حكاية دعوته قومه،ثمّ ينتهي بقوله: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، و يكرّر ما جاء في شأن سائر الأنبياء بقوله: إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.

و عليه فليس(إلياسين)شخصا آخر غير إلياس، و ليس جمعا لهذه الكلمة على ما قيل،بل هو إلياس نفسه، و قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ صريح في ذلك، لأنّ ضمير(انّه)يرجع إلى إلياسين.1.

ص: 71


1- الخروج 6:23.
2- الخروج 6:25.
3- أخبار الأيّام الأول 6:4.
4- راعوث 6:23.
5- متّى 1:6.
6- الملوك الأوّل 17:1.
7- التّكوين 35:26.
8- الملوك الأوّل 17:1.

خامسا:أمّا سبب تبديل(الياسين)من(إلياس) فالظّاهر أنّه مرتبط بفصل الآيات و رويّها،فإنّ السّورة تبدأ برويّ الألف إلى(ذكرا)،ثمّ يوازن(لواحد)و (المشارق)و(الكواكب)إلى(طين لازب)من الآية (11).ثمّ يتداخل الرّويّ و يتناوب بين الواو و النّون،و الياء و النّون:(العالمين)،(المرسلين)،(ينظرون)، (يكذبون)،و هذا الأخير يتناسق إلى آخر السّورة.و (إلياسين)على وزان الياء و النّون.

و هناك وجه آخر سيأتي،و هو أنّه محوّل عن أصله اليونانيّ«إلياسون».

سادسا:قرئ(إلياسين)ببضع قراءات،أشهرها قراءتان،الأولى:(إلياسين)بكسر الهمزة و سكون اللاّم، موصولة ب«ياسين»باعتبارها جزء من كلمة واحدة.و الثّانية:(آل ياسين)بمدّ الهمزة و كسر اللاّم،مفصولة عن «ياسين»بعدّها معها كلمتين.

فعلى القراءة الأولى نحتمل أنّه محوّل عن أصله؛ حيث أصله في اليونانيّة«إلياسون»،فأجري مجرى جمع المذكّر السّالم-الرّفع بالواو و النّصب و الجرّ بالياء،فحينما جرّ صار(إلياسين).و لعلّه اسم آخر لإلياس في لغتهم.

أمّا(آل ياسين)على القراءة الثّانية،فنرى«ياسين» كسائر الحروف المقطّعة في أوائل السّور،إلاّ أنّ«الياء»و «السّين»رسمتا هنا بلفظيهما،و حذفت همزة«ياء» للخفّة،كما حذفت من«طا»و«ها»عند تلفّظ«طه».

سابعا:ما جاء في بعض الرّوايات و التّفاسير بأنّ المراد ب(إلياسين)على قراءة(آل ياسين)هم آل محمّد، لا يوافق-حسب علمنا-سياق القرآن كما عرفت،و لا يبعد عن وقوع خلط بين هذا المعنى و بين ما قيل:إنّ «ياسين»بمعنى يا محمّد،فضلا عن ذلك فإنّ آل محمّد ينبغي أن يكون بحسب قولهم:«آل ياسين»دون«آل ياسين»،إلاّ أن يقال:بأنّ هذه الرّوايات هي بمنزلة التّأويل،و التّأويلات كثيرة،و لكنّها لا توافق ظاهر الآيات،و اللّه أعلم.

ص: 72

اليسع

اشارة

لفظ واحد،مرّتان،في سورتين مكّيّتين

النّصوص التّفسيريّة و التّاريخيّة

1- وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. الأنعام:86

2- وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ. ص:48

كعب الأحبار:اليسع هو خضر،و كان معلّما لموسى.(الميبديّ 3:416)

الحسن :كان بعد إلياس اليسع،فمكث ما شاء اللّه أن يمكث يدعوهم إلى اللّه،مستمسكا بمنهاج إلياس و شريعته حتّى قبضه اللّه عزّ و جلّ إليه،ثمّ خلّف فيهم الخلوف و عظمت فيهم الأحداث و الخطايا،و كثرت الجبابرة و قتلوا الأنبياء،و كان فيهم ملك عنيد طاغ، و يقال:إنّه الّذي تكفّل له ذو الكفل،إن هو بات و رجع دخل الجنّة؛فسمّي ذا الكفل.(البداية و النّهاية 2:4)

وهب بن منبّه: و هو تلميذ إلياس.

(الميبديّ 3:416)

هو صاحب إلياس،و كانا قبل زكريّا و يحيى و عيسى.(القرطبيّ 7:33)

زيد بن أسلم: هو يوشع بن نون.

(أبو حيّان 4:174)

الخليل: اسم من أسماء الأنبياء،و الألف و اللاّم زائدتان.(2:203)

الإمام الرّضا عليه السّلام: إنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السّلام مشى على الماء و أحيا الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص،فلم تتّخذه أمّته ربّا.(المجلسيّ 13:401)

الفرّاء: يشدّد أصحاب عبد اللّه اللاّم،و هي أشبه بأسماء العجم من الّذين يقولون:(و اليسع)،لا تكاد العرب تدخل الألف و اللاّم فيما لا يجرى،مثل:يزيد و يعمر،إلاّ في شعر.[ثمّ استشهد بشعر](1:342)

الأخفش: قال بعضهم:(و اليسع)،و قال بعضهم:

ص: 73

(و اللّيسع)،و نقرأ بالخفيفة.(2:496)

الطّبريّ: هو اليسع بن أخطوب بن العجوز.

و اختلف القرّاء في قراءة اسمه،فقرأته عامّة قرّاء الحجاز و العراق(و اليسع)بلام واحدة مخفّفة.و قد زعم قوم أنّه«يفعل»،من قول القائل:وسع يسع،و لا تكاد العرب تدخل الألف و اللاّم على اسم يكون على هذه الصّورة،أعني على«يفعل»لا يقولون:رأيت اليزيد،و لا أتاني التّجيب،و لا مررت باليشكر،إلاّ في ضرورة شعر، و ذلك أيضا إذا تحرّى به المدح كما قال بعضهم:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

فأدخل في«اليزيد»الألف و اللاّم،و ذلك لإدخاله إيّاهما في الوليد،فأتبعه اليزيد بمثل لفظه.

و قرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيّين(و اللّيسع) بلامين و بالتّشديد،و قالوا:إذا قرئ كذلك كان أشبه بأسماء العجم.و أنكروا التّخفيف،و قالوا:لا نعرف في كلام العرب اسما على«يفعل»فيه ألف و لام.

و الصّواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بلام واحدة مخفّفة،لإجماع أهل الأخبار على أنّ ذلك هو المعروف من اسمه دون التّشديد،مع أنّه اسم أعجميّ، فينطق به على ما هو به.و إنّما لا يستقيم دخول الألف و اللاّم فيما جاء من أسماء العرب على«يفعل».و أمّا الاسم الّذي يكون أعجميّا فإنّما ينطق به على ما سمّوا به،فإن غيّر منه شيء إذا تكلّمت العرب به فإنّما يغيّر بتقويم حرف منه،من غير حذف و لا زيادة فيه،و لا نقصان، (و اللّيسع)إذا شدّد لحقته زيادة،لم تكن فيه قبل التّشديد،و أخرى أنّه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنّه قال:اسمه«ليسع»فيكون مشدّدا عند دخول الألف و اللاّم اللّتين تدخلان التّعريف.(7:261)

المقدسيّ:اليسع بن أخطوب،و كان تلميذ إلياس، فنبّأه اللّه بعده.و قد يقال:إنّ اليسع هو ذو الكفل،و قيل:

هو الخضر،و قيل:هو ابن العجوز.

و في كتاب أبي حذيفة أنّ ذا الكفل هو اليسع بن أخطوب تلميذ إلياس،و ليس هو اليسع الّذي ذكره اللّه في القرآن،يرويه عن أبي سمعان،فإن كان هذا حقّا فهما اليسعان.(3:100)

أبو زرعة: قرأ حمزة،و الكسائيّ (و اللّيسع) بلامين.

و حجّتهما في ذلك أنّ(اللّيسع)أشبه بالأسماء الأعجميّة.

و دخول الألف و اللاّم في«اليسع»قبيح،لأنّك لا تقول:

اليزيد و لا اليحيى،و تشديد اللاّم أشبه بالأسماء الأعجميّة.

و قرأ الباقون (و اليسع) بلام واحدة.و حجّتهم ذكرها اليزيديّ عن أبي عمرو،فقال:هو مثل«اليسر».

و إنّما هو يسر و يسع مثل،فردّت الألف و اللاّم فقال:

اليسع،مثل«اليحمد»قبيلة من العرب،و«اليرمع» الحجارة،و الأصل يسع مثل يزيد،و إنّما تدخل الألف و اللاّم عند الفرّاء للمدح.فإن كان عربيّا فوزنه«يفعل» و الأصل«يوسع»مثل يصنع،و إن كان أعجميّا لا اشتقاق له،فوزنه«فعل»تجعل الياء أصليّة.

قال الأصمعيّ:كان الكسائيّ يقرأ (اللّيسع) ،و يقول:

لا يكون اليفعل كما لا يكون اليحيى،قال:فقلت له:

«اليرمع،و اليحمد»حيّ من اليمن،فسكت.

ص: 74

و من قرأ بلامين وزنه«فيعل»اللاّم أصليّة مثل «صيرف»ثمّ أدخلت الألف و اللاّم للتّعريف،فقلت:

(اللّيسع)مثل«الصّيرف»و اللّه أعلم.(259)

القيسيّ: هو اسم أعجميّ معرفة،و الألف و اللاّم فيه زائدتان.

و قيل:هو فعل مستقبل سمّي به و نكّر،فدخله حرفا التّعريف.

و من قرأه بلامين جعله أيضا اسما أعجميّا على فيعل،و نكّره فدخله حرفا التّعريف،و أصله«ليسع» و الأصل في القراءة الأخرى«يسع»أصله على قول من جعله فعلا مستقبلا سمّي به«يوسع»،ثمّ حذفت الواو كما حذفت في«يعد»و لم تعمل الفتحة في السّين،لأنّها فتحة مجتلبة أوجبتها العين،أصلها الكسر،فوقع الحذف على تقدير الأصل.(1:275)

الطّوسيّ: قرأ حمزة،و الكسائيّ،و خلف (اللّيسع) بتشديد اللاّم،و فتحها و سكون الياء هاهنا.[في سورة الأنعام]و في«ص»،الباقون بسكون اللاّم و فتح الياء.

قال الزّجّاج: التّشديد و التّخفيف لغتان.

و قال أبو عليّ: الألف و اللاّم ليستا للتّعريف بل هما زائدتان،و كان الكسائيّ:يستصوب القراءة بلامين و يخطّئ من قرأ بغيرهما،كان الاسم عنده«ليسع»ثمّ يدخل الألف و اللاّم،و قال:لو كانت«يسع»لم يجز أن يدخل الألف و اللاّم،كما لا يدخل في«يزيد و يحيى».

(4:207)

الميبديّ: (اليسع)هو خليفة إلياس في قومه، و قيل:هو ابن عمّ إلياس،و قيل:هو ابن إلياس.

(8:356)

الزّمخشري: (و اليسع)كأنّ حرف التّعريف دخل على يسع،و قرئ(و اللّيسع)كأنّ حرف التّعريف دخل على ليسع«فيعل»من اللّسع.(3:378)

الجواليقيّ: اللّيسع،و لوط اسم النّبيّ أعجميّان معرّبان.(347)

الطّبرسيّ:قرأ أهل الكوفة غير عاصم(و اللّيسع) بتشديد اللام و فتحها و سكون الياء،هاهنا[في سورة الأنعام]و في«ص»،و الباقون(و اليسع)بسكون اللاّم و فتح الياء.

و أمّا من قرأ(اللّيسع)باللاّم فإنّ هذه اللاّم زائدة.

قال أبو عليّ: اعلم أنّ لام المعرفة يدخل الأسماء على ضربين:أحدهما للتّعريف و الآخر زيادة زيدت كما تزاد الحروف،و التّعريف على ضروب[إلى أن قال:]

فأمّا الألف و اللاّم في(اللّيسع)فلا يخلو أن تكون زائدة أو غير زائدة،فإن كانت غير زائدة فلا يخلو أن يكون على حدّ الرّجل إذا أردت به المعهود أو الجنس، نحو إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ العصر:2،أو على حدّ دخولهما في«العبّاس»فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك،فثبت أنّه زيادة.

و ممّا جاءت اللاّم فيه زائدة ما أنشده أحمد بن يحيى:

يا ليت أمّ العمرو كانت صاحبي

مكان من أنشأ على الرّكائب

و ممّا جاءت الألف و اللاّم فيه زائدة«الخمسة العشر درهما»حكاه أبو الحسن الأخفش.أ لا ترى أنّهما اسم

ص: 75

واحد،و لا يجوز أن يعرّف اسم واحد بتعريفين،كما لا يجوز أن يتعرّف بعض الاسم دون بعض.

و ذهب أبو الحسن إلى أنّ اللاّم في اللاّت زائدة،لأنّ اللاّت معرفة،فأمّا العزّى فبمنزلة العبّاس.

و قياس قول أبي الحسن هذا أن يكون اللاّم في (اللّيسع)أيضا زائدة،لأنّه علم،مثل اللاّت،و ليس صفة.

و ممّا جاءت اللاّم فيه زائدة قول الشّاعر:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

فأمّا من قال:(اللّيسع)فأنّه يكون اللاّم على حدّ ما في الحارث.أ لا ترى أنّه على وزن الصّفات إلاّ أنّه و إن كان كذلك فليس له مزيّة على القول الآخر.

أ لا ترى أنّه لم يجئ في الأسماء الأعجميّة المنقولة في حال التّعريف نحو إسماعيل و إسحاق شيء على هذا النّحو،كما لم يجئ فيها شيء فيه لام التّعريف،فإذا كان كذلك كان(اللّيسع)بمنزلة(اليسع)في أنّه خارج عمّا عليه الأسماء الأعجميّة المختصّة المعرّبة.(2:328)

أبو البركات: قرئ بلام واحدة،و قرئ بلامين.فمن قرأ(اليسع)بلام واحدة،جعله اسما أعجميّا،و لهذا لا ينصرف للعجمة و التّعريف.

و قيل:الأصل في(اليسع)بلام واحدة«يسع»و هو فعل مضارع سمّي به و نكّر و أدخل عليه الألف و اللاّم، و الأصل في يسع يوسع،و أصل يوسع يوسع،لأنّه ممّا جاء على فعل يفعل نحو:وطئ يطأ،و أصله يوطئ،إلاّ أنّه فتحت العين لمكان حرف الحلق،و حذفت الواو منه على تقدير الأصل،كما حذفت في«يعد و يزن»،و حذفت في«يحد و يزن»لوقوعها بين ياء و كسرة،و ذلك مستثقل.

و من قرأه(اللّيسع)بلامين جعله اسما أعجميّا و نكّره،و أدخل عليه الألف و اللاّم،و أصله«ليسع» و لا ينصرف أيضا للعجمة و التّعريف.(1:330)

القرطبيّ:قرأ أهل الحرمين،و أبو عمرو،و عاصم (و اليسع)بلام مخفّفة.و قرأ الكوفيّون إلاّ عاصما (و اللّيسع) و كذا قرأ الكسائيّ،و ردّ قراءة من قرأ (و اليسع)،قال:لأنّه لا يقال،اليفعل مثل اليحيى.

قال النّحّاس:و هذا الرّدّ لا يلزم،و العرب تقول:

اليعمل و اليحمد،و لو نكّرت يحيى لقلت اليحيى.

و ردّ أبو حاتم على من قرأ(اللّيسع)و قال:لا يوجد ليسع.

و قال النّحّاس: و هذا الرّدّ لا يلزم،فقد جاء في كلام العرب حيدر و زينب.

و الحقّ في هذا أنّه اسم أعجميّ،و العجمة لا تؤخذ بالقياس إنّما تؤخذ سماعا،و العرب تغيّرها كثيرا،فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين.

قال مكّيّ: من قرأ بلامين فأصل الاسم«ليسع»ثمّ دخلت الألف و اللاّم للتّعريف.و لو كان أصله«يسع» ما دخلته الألف و اللام،إذ لا يدخلان على يزيد و يشكر:

اسمين لرجلين،لأنّهما معرفتان علمان.فأمّا«ليسع»نكرة فتدخله الألف و اللاّم للتّعريف.و القراءة بلام واحدة أحبّ إليّ،لأنّ أكثر القرّاء عليه.

و قال المهدويّ:من قرأ(اليسع)بلام واحدة فالاسم

ص: 76

«يسع»و دخلت الألف و اللاّم زائدتين،كزيادتهما في نحو «الخمسة عشر».[ثم استشهد بشعرين]

قال القشيريّ:قرئ بتخفيف اللاّم و التّشديد، و المعنى واحد في أنّه اسم لنبيّ معروف،مثل إسماعيل و إبراهيم،و لكن خرج عمّا عليه الأسماء الأعجميّة بإدخال الألف و اللاّم.

و توهّم قوم أنّ اليسع هو إلياس،و ليس كذلك لأنّ اللّه تعالى أفرد كلّ واحد بالذّكر.

و قيل:إلياس هو الخضر،و قيل:لا بل اليسع هو الخضر.(7:32)

أبو حيّان: قال زيد بن أسلم:هو يوشع بن نون.

و قال غيره:هو اليسع بن أخطوب بن العجوز.

و قرأ الجمهور (وَ الْيَسَعَ) كأنّ«أل»أدخلت على مضارع«وسع».و قرأ الأخوان (و اللّيسع) على وزن «فيعل»نحو الضّيغم.و اختلف فيه أ هو عربيّ أم عجميّ؟

فأمّا على قراءة الجمهور و قول من قال:إنّه عربيّ، فقال:هو مضارع سمّي به و لا ضير فيه،فأعرب ثمّ نكّر و عرّف بال.

و قيل:سمّي بالفعل كيزيد،ثمّ أدخلت فيه«أل» زائدة شذوذا كاليزيد.[ثمّ استشهد بشعر]و لزمت كما لزمت في الآن.

و من قال:إنّه أعجميّ فقال:زيدت فيه«أل» و لزمت شذوذا.و ممّن نصّ على زيادة«أل»في(اليسع) أبو عليّ الفارسيّ.

و أمّا على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أنّ«أل»فيه كهي في الحارث و العبّاس،لأنّهما من أبنية الصّفات،لكن دخول«أل»فيه شذوذ عمّا عليه الأسماء الأعجميّة؛إذ لم يجئ فيها شيء على هذا الوزن،كما لم يجئ فيها شيء فيه أل للتّعريف.

و قال أبو عبد اللّه ابن مالك الجيّانيّ:ما قارنت«أل» نقله كالمسمّى بالنّضر أو بالنّعمان،أو ارتجاله كاليسع و السّموأل،فإنّ الأغلب ثبوت«أل»فيه،و قد يجوز أن يحذف؛فعلى هذا لا تكون«أل»فيه لازمة.و اتّضح من قوله:إنّ اليسع ليس منقولا من فعل،كما قال بعضهم.

إنّما جمع هؤلاء الأربعة[الأنعام:86]،لأنّهم لم يبق لهم من الخلق أتباع و لا أشياع،فهذه مراتب ستّ:

1-مرتبة الملك و القدرة،ذكر فيها داود و سليمان.

2-مرتبة البلاء الشّديد،ذكر فيها أيّوب.

3-مرتبة الجمع بين البلاء و الوصول إلى الملك،ذكر فيها يوسف.

4-مرتبة قوّة البراهين و المعجزات و القتال و الصّولة،ذكر فيها موسى و هارون.

5-مرتبة الزّهد الشّديد و الانقطاع عن النّاس للعبادة،ذكر فيها زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس.

6-مرتبة عدم الأتباع ذكر فيها إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا.

و هذه الأسماء أعجميّة لا تجرّ بالكسرة و لا تنوّن إلاّ(اليسع)فإنّه يجرّ بها و لا ينوّن.(4:174)

ابن كثير :قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في حرف الياء من تاريخه:(اليسع)و هو الأسباط بن عديّ ابن شوتلم بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم الخليل،و يقال:هو ابن عمّ النّبيّ.

ص: 77

و يقال:كان مستخفيا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبكّ،ثمّ ذهب معه إليها،فلمّا رفع إلياس خلفه اليسع في قومه،و نبّأه اللّه بعده.ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبّه،قال:و قال غيره:و كان بيانياس.

ثمّ ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ(و اليسع) بالتّخفيف و التّشديد.

و من قرأ(و اللّيسع)و هو اسم واحد لنبيّ من الأنبياء.(البداية و النّهاية 2:4)

الفيروزآباديّ: يسع:كيضع،اسم أعجميّ أدخل عليه«أل»و لا يدخل على نظائره كيزيد.و قرئ (و اللّيسع) بلامين.(3:97)

هو اسم أعجميّ ممنوع من الصّرف.

و قيل:عربيّ وزنه«لفع»و كان في الأصل يسعى.

و قيل:وزنه«يعل»و كان في الأصل يوسع.

و قيل:وزنه«فعل»و الياء من أصل الكلمة.

و قيل له:يسع لسعة علمه،أو لسعيه في طلب الحقّ و طاعته.

و يسع كان خليفة إلياس.و لمّا خرج إلياس من بين النّاس و ركب المركب الّذي بعثه اللّه تعالى له كان يسع معه،فلمّا رأى المركب ارتفع في الهواء،علم أنّه آخر عهده به،فقال:يا إلياس بم تأمرني؟و كان معه كساء فطرحه إليه،فعلم أنّه جعله وليّ عهده،فاشتغل بدعوة قوم إلياس،و قام بشرائط شرعه.

و ذكر اللّه تعالى(اليسع)في التّنزيل مع جملة الأنبياء وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ص:48.

(بصائر ذوي التّمييز 6:79)

السّيوطيّ: (اليسع)قال ابن جبير:هو ابن أخطوب بن العجوز.قال:و العامّة تقرؤه بلام واحدة مخفّفة.و قرأ بعضهم (و اللّيسع) بلامين و بالتّشديد.فعلى هذا هو عجميّ،و كذا على الأولى.

و قيل:عربيّ منقول من الفعل،من:وسع يسع.

(4:76)

أبو السّعود: هو ابن أخطوب بن العجوز،استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثمّ استنبئ،و اللاّم فيه حرف تعريف دخل على«يسع»كما في قول من قال:

*رأيت الوليد بن اليزيد مباركا*

و قرئ (و اللّيسع) ،كأنّ أصله:ليسع«فيعل»من اللّسع،دخل عليه حرف التّعريف.

و قيل:هو على القراءتين علم أعجميّ دخل عليه اللاّم،و قيل:هو يوشع.(4:293)

البروسويّ: (و اليسع)ابن أخطوب بن العجوز، و اللاّم زائدة،لأنّه علم أعجميّ.(3:61)

هو ابن أخطوب من العجوز،استخلفه إلياس عليه السّلام على بني إسرائيل ثمّ استنبئ.و دخل اللاّم على العلم لكونه منكّرا بسبب طروّ الاشتراك عليه،فعرّف باللاّم العهديّة على إرادة اليسع الفلانيّ،مثل قول الشّاعر:

*رأيت الوليد بن اليزيد مباركا*

(8:47)

الآلوسيّ: قرأ حمزة و الكسائي (اللّيسع) بوزن «ضيغم»و هو أعجميّ،دخلت عليه اللاّم على خلاف القياس،و قارنت النّقل فجعلت علامة التّعريب،كما قاله التّبريزيّ،و نصّ على أنّ استعماله بدونها خطأ يغفل عنه

ص: 78

النّاس،فليس كاليزيد في قوله:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

من جميع الوجوه،و هو على القراءة الأولى أعجميّ أيضا.

و قيل:إنّه معرّب يوشع.

و قيل:عربيّ منقول من يسع مضارع وسع.

(7:214)

قال ابن جرير: هو ابن أخطوب بن العجوز،و ذكر أنّه استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثمّ استنبئ،و اللاّم فيه زائدة لازمة لمقارنتها للوضع،و لا ينافي كونه غير عربيّ،فإنّها قد لزمت في بعض الأعلام الأعجميّة كالإسكندر.فقد لحّن التّبريزيّ من قال:اسكندر مجرّدا له منها،و الأولى عندي أنّه إذا كان اسما أعجميّا و أل فيه مقارنة للوضع أن لا يقال بزيادتها فيه.

و قيل:هو اسم عربيّ منقول من يسع مضارع وسع.

و قرأ حمزة و الكسائيّ (و اللّيسع) بلامين و التّشديد، كان أصله:ليسع،بوزن«فيعل»من اللّسع،دخل عليه «أل»تشبيها بالمنقول الّذي تدخله للمح أصله.و جزم بعضهم بأنّه على هذه القراءة أيضا علم أعجميّ دخل عليه اللاّم.(23:211)

القاسميّ:خليفة إلياس،و كان خادمه.و يقال له بالعبرانيّة:اليشاع،كما يسمّى إلياس فيها إيليا.و في التّوراة نبأ طويل عن اليسع و نبوّته و معجزاته.

(14:5112)

رشيد رضا :قد ذكر اللّه في هذه الآيات الثّلاث (1)أربعة عشر نبيّا،لم يرتّبهم على حسب تاريخهم و أزمانهم،لأنّه أنزل كتابه هدى و موعظة لا تاريخا،و لا على حسب فضلهم و مناقبهم،لأنّ كتابه ليس كتاب مناقب و مدائح،و إنّما هو كتاب تذكرة و عبرة.

و قد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كلّ قسم منهم:

فالقسم الأوّل:داود و سليمان و أيّوب و يوسف و موسى و هارون.[إلى أن قال:]

و القسم الثّاني:زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس، و هؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السّلام بشدّة الزّهد في الدّنيا.[إلى أن قال:]

و القسم الثّالث:إسماعيل و اليسع و يونس و لوط، و أخّر ذكرهم لعدم الخصوصيّة؛إذ لم يكن لهم من ملك الدّنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأوّل،و لا من المبالغة في الإعراض عن الدّنيا ما كان للقسم الثّاني،و قد قفى على ذكرهم بالتّفضيل على العالمين،الّذي جعله اللّه تعالى لكلّ نبيّ على عالمي زمانه،فمن كان من النّبيّين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق.[إلى أن قال:]

و نذكر هنا من مباحث اللّفظ و القراءات أنّ القرّاء اختلفوا في قراءة اسم(اليسع)،فقرأه الجمهور بلام واحدة بوزن«اليمن»القطر المعروف.و قرأه حمزة، و الكسائيّ بلامين،أدغمت إحداهما في الأخرى بوزن «الضّيغم».

قال بعض المفسّرين:إنّ(اليسع)معرّب الاسم6.

ص: 79


1- الأنعام:84-86.

العبرانيّ«يوشع»،فهو اسم أعجميّ دخلت عليه لام التّعريف على خلاف القياس،و قارنت النّقل فجعلت علامة التّعريب،فلا يجوز مفارقتها له كاليزيد الّذي دخلت عليه في الشّعر.

و قيل:إنّه اسم عربيّ منقول من يسع مضارع وسع.

و أقول:الأقرب أنّه تعريب«اليشع»و هو أحد أنبياء بني إسرائيل،و كان خليفة إلياس«إيليا».و من المعهود في نقل العبريّ إلى العربيّ إبدال الشّين المعجمة بالمهملة.(7:586)

الطّباطبائيّ: (اليسع)بفتحتين كأسد،و قرئ (اللّيسع) كالضّيغم،أحد أنبياء بني إسرائيل،ذكر اللّه اسمه مع إسماعيل عليهما السّلام كما في قوله: وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ص:48.و لم يذكر شيئا من قصّته في كلامه.(7:243)

البستانيّ: (اليشع)نبيّ عبرانيّ ذكرت سيرته في أسفار الملوك،لقيه إيليّا و هو يحرث،و أمامه اثنا عشر فدان بقر فدعاه إلى التّنبّي.و لمّا رفع إيليا عن الأرض أخذ رداءه فرآه بنو الأنبياء الّذين في«أريحا»تجاهه، فقالوا:قد حلّت روح إيليا على اليشع،و جاءوا للقائه و سجدوا له إلى الأرض.

و من أعماله أنّه ضرب مياه الأردن برداء إيليا فانفلقت،و طرح ملحا في ماء أريحا فجعله عذبا صحيحا بعد أن كان رديئا،و لعن صبيان بيت إيل لأنّهم هزءوا به،فخرج دبّتان من الغاب و افترستا منهم«42»صبيّا.

و تنبّأ باستظهار يورام و يوشافاط على الموآبيّين، و مكّن امرأة اضطهدها دائنوها من قضاء دينها و الحصول على ما يكفيها لتعيش هي و ابناها،و ردّ الحياة على ابن امرأة من شونم كانت قد أنزلته بيتها،و شفى نعمان من برصه،و أبطل مقاصد«بنهدد»ملك سوريّة،و ضرب الرّسول الّذي أرسله لإلقاء القبض عليه بالعمي.

و لمّا حصرت السّامرة و أصابتها مجاعة شديدة تنبّأ اليشع بأنّه في مثل ساعة نبوّته من غد يباع مكيال السّميذ بمثقال،و مكيال الشّعير بمثقال،فتمّ ذلك بفرار الجيوش السّوريّة لما لحق بها من الرّعب و الخوف تاركة خيامها مملوءة ذهبا و مؤنا،و أنبأ أيضا بموت بنهدد و بجلوس حزائيل مكانه.

و لمّا مرض اليشع-مرضه الّذي مات فيه-انحدر إليه«يوآش»ملك إسرائيل فوعده أنّه يستظهر على السّوريّين ثلثا.

و قد أجمع المؤرّخون على أنّ وفاته كانت نحو سنة «840 ق م»،و قد أثبت الكنيسة الرّومانيّة قداسته، و جعلت له عيدا يحتفل به في«14»حزيران«جون».

و قد ذكرت في أخبار القدّيسين الرّوايات المتعلّقة به،فاطلبها في اليوم الرّابع عشر من الشّهر المقدّم ذكره.

و في أيّام إبرونيموس كان له قبر معروف بالسّامرة.

و في أيّام يوليانوس نبشت عظامه من لحدها و أحرقت بالنّار.(4:335)

هوتسما :اليسع:أو اليسع بن أخطوب،و اسمه في التّوراة اليشع.ورد ذكره مرّتين في القرآن،الأنعام:86، و ص:48،بعد ذكر إسماعيل.

و جاء في الآية:19،من الإصحاح:16،من سفر الملوك الأوّل أنّ اليشع هو ابن شافاط.و لكنّ المفسّرين

ص: 80

و علماء التّاريخ من المسلمين ذكروا أنّ اليسع هو ابن أخطوب،و يذهب خوندمير إلى أنّه من نسل أفرايم بن يوسف.

و تروى مقابلته الأولى لإلياس على الوجه الآتي:

إنّ إلياس ذهب إلى بيت امرأة فقيرة من بني إسرائيل توفّي عنها زوجها أخطوب،و كان لها ابن صغير به ضرّ اسمه اليسع،فدعا له إلياس فعوفي،و لزمه اليسع في أسفاره منذ ذلك الحين.

و يظهر أنّ هذه القصّة أخذت عمّا ورد في سفر الملوك الأوّل،الإصحاح:17،الآية:9،و ما بعدها.و لو أنّه جاء في الإصحاح التّاسع عشر،الآية العشرين،أنّ والدي اليسع كانا على قيد الحياة عند ما لقيه إلياس لأوّل مرّة.

و يذهب بعض المؤلّفين إلى أنّ اليسع هو النّبيّ الّذي كان يسمّى ابن العجوز.و لكنّ الطّبريّ يقول:إنّ ابن العجوز هو حزقيل،و كان اليسع وصيّ إلياس في نبوّته، و كان في حوزته تابوت العهد الّذي يقول عنه علماء المسلمين:إنّه كان ينتقل من بنى إلى آخر.

و بعد أن دعا اليسع بني إسرائيل إلى الإيمان باللّه، سأل اللّه أن يقبضه إليه ليكون في جوار إلياس.

و استجاب اللّه له،فتوفّاه إليه،و خلّفه ذو الكفل.

و يذكر علماء المسلمين أنّ اليسع كان موجودا قبل الملك شاول،و هذا القول يجعله سابقا على التّاريخ الّذي ذكرت التّوراة أنّه كان موجودا فيه.

و يقول الطّبريّ:إنّ اليسع هو الّذي أصعدته ساحرة عين دور من القبر للملك شاول.

و هنالك اختلاف في تعيين شخصيّة اليسع،و يورد كلّ من الطّبريّ و الثّعلبيّ آراء بعض من ذهبوا إلى أنّ اليسع هو الخضر،بينما يورد خوندمير الرّأي القائل بأنّ اليسع هو ذو الكفل.(2:609)

مستر هاكس: اليشع بن شافاط هو تلميذ إلياس النّبيّ و خليفته،و كان شافاط يسكن آبل محولة.و قد مسحه إلياس بأمر اللّه تعالى،فمرّ عليه يوما و هو يحرث الأرض فطرح عليه رداءه،فترك المحراث،و ذهب مسرعا لوداع أبيه و أمّه،و لحق بإلياس.

و لم يكن لليسع مهمّة خاصّة أو منصب معيّن في حياة إلياس،و حينما نصبه خليفة له و رحل عن الدّنيا، طفق يبلّغ دعوة ربّه و يوصي الملوك بالعدالة و حسن المعاملة مع الرّعيّة.

و كان يسكن مع تلاميذه في المدينة معزّزا مكرّما من قبل النّاس و الحكّام.و قد سأل اللّه أن يمدّه من روح إلياس ضعفه،فاستجاب اللّه دعوته و أصبح وارثا لإرث مولاه المقدّس.

و لليسع معاجز كثيرة،منها:أنّه جعل البركة في زيت المرأة الأرملة،فما كان ينقص منه شيئا،و أحيا ولد شمونيّة بعد ما فارق الحياة،و شفى نعمان من البرص، و حوّله إلى جيحزى،و دعا على الآراميّين فشرّدوا من ديارهم،و ظفر ملك بني إسرائيل بعدوّه،و ذلك قبل موته بقليل.

ثمّ التحق اليسع بالرّفيق الأعلى،و بعد سنة من وفاته دخل بنو إسرائيل في حرب مع مؤابيان.و حدث أن قد دفن بنو إسرائيل أحد موتاهم قرب قبر اليسع، فمسّ جسم الميّت عظامه فأحيا اللّه ذلك الميّت فورا.

ص: 81

و كانت مدّة نبوّة اليسع ستّين عاما.(98)

أبو رزق:هو نبيّ من أنبياء بني إسرائيل،ولد في عين الحلوة من أعمال طوباس«نابلس»و دفن في سبسطيّة.(2:270)

عفيف عبد الفتّاح طبّارة:هو من أنبياء بني إسرائيل لم يذكر القرآن شيئا عن حياته سوى ذكره في مجموعة الأنبياء الّذين يجب الإيمان بهم.

و يقال:إنّه ابن عمّ إلياس،قام بالدّعوة بعد انتقال إلياس إلى جوار ربّه،فقام يدعو إلى اللّه متمسّكا بمنهاج نبيّ اللّه إلياس و شريعته،و قد كثرت في زمانه الأحداث و الخطايا.(مع الأنبياء في القرآن:304)

المصطفويّ: التّحقيق أنّ الألف و اللاّم فيها ليست للتّعريف،بل هي من جوهرة الكلمة.و أصلها«إل»بمعنى اللّه،و أصل الكلمة في العبريّة«اليشاع»،و قد عرّبت بلفظ اليسع.و القراءة الصّحيحة في القرآن الكريم أيضا كذلك.

نعم يجوز حذف الهمزة وصلا للتّخفيف و لكونها شبيهة بهمزة الوصل في لام التّعريف،كما تحذف الهمزة في بعض الأسماء كابن و ابنم و اثنين و ايمن و ابنة و امرئ و امرأة و غيرها في الوصل.

فإن قيل:سقوط الهمزة في الأسماء سماعيّ و لا يقاس عليها.

قلنا:أيّ سماع أقوى من كلام اللّه تعالى،و قد ذكرت موصولة في موردين من القرآن المجيد.

وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ الأنعام:86.

وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ص:48.

فقد استعملت هذه الكلمة في الآيتين و همزتها موصولة ساقطة،و تستفاد من الآيتين الكريمتين أنّ اليسع النّبيّ كان في رديف إسماعيل و يونس و لوط و ذي الكفل من الأنبياء الأخيار،و الّذين فضّلوا على قومهم و أهل زمانهم أجمعين.(1:118)

الأصول اللّغويّة

1-قيل اليسع:إنّه اسم علم عربيّ،منقول من مضارع«وسع»،ثمّ نكّر و أدخلت عليه الألف و اللاّم، فصار«اليسع»مثل:اليعمل.و قيل:إنّه اسم علم أعجميّ،و الألف و اللاّم فيه أصليّان.و سيتّضح لنا مدى جزافة القول الأوّل،و جزالة القول الثّاني من خلال هذا البحث.

2-فلفظ«اليسع»اسم عبريّ،أصله«اليشاع» (1)و هو مركّب من«إل»أو«إلي»أي اللّه (2)،و«يشاع» أي ينجي (3)،أو«شاع»أي يرى (4).

و ورد في السّريانيّة بلفظ«اليشع» (5)،و هو قريب الشّبه باللّفظ العربيّ،و منه عرّب؛بقلب الشّين سينا كما هو المتّبع في الأسماء الأعجميّة،و وصل همزة القطع لكثرة الاستعمال،و حينئذ تسكّن لامه؛لأنّها تكون بمثابة

ص: 82


1- المعجم المقارن للدّكتور مشكور(1:34).
2- قاموس عبريّ-فارسيّ لسليمان حييم(16).
3- المصدر السّابق(197).
4- المصدر السّابق(567).
5- قاموس سريانيّ-عربيّ،لويس كوستاز.

لام التّعريف،ثمّ وجب تحريك الياء؛للتّخلّص من السّاكنين-اللاّم و الياء-و كانت حركتها فتحة للخفّة.

الاستعمال القرآنيّ

1-جاء اليسع مرّتين في آيتين مكّيّتين:

وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ الأنعام:86.

وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ص:48.

و يلاحظ أوّلا:أنّه جاء مسبوقا بإسماعيل في كلتا الآيتين.و ألحق بيونس و لوط في الآية الأولى،و في الثّانية ألحق بذي الكفل.

و ثانيا:قد سبق الآية الأولى ذكر لجملة من الأنبياء:

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ* وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ...

ثمّ قال: وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الأنعام:84 -87

و سبق في الآية الثّانية أيضا ذكر لجملة من الأنبياء:

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ* إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ* وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ... *هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ص:45-49.

و ذكر داود و سليمان و أيّوب قبل هذه الآيات أيضا في آيات من سورة«ص».

و ثالثا:من تدبّر آيات الأنعام لا يرتاب في أنّ (اليسع)من ذرّيّة إبراهيم،بل من ذرّيّة إسحاق و يعقوب،و أنّه من أنبياء بني إسرائيل.فالظّاهر أنّ الضّمير في(و من ذرّيّته)يرجع إلى يعقوب-و هو الأقرب-أو إلى إبراهيم.و ذكره مع إسماعيل ربّما يشعر بأنّ إسماعيل هذا ليس بإسماعيل بن إبراهيم أخي إسحاق،بل هو أيضا رجل من بني إسرائيل،عبّر عنه القرآن بإسماعيل صادق الوعد،لاحظ«إسماعيل».

كما لا يرتاب بأنّ اليسع ليس هو إلياس كما قيل، لأنّ إلياس مذكور معه،و لا هو ذو الكفل كما قيل،لأنّه مذكور بعده في سورة«ص».هذا هو المستفاد من سياق القرآن بشأن اليسع.

2-و الحقّ أنّ(اليسع)من النّاحية التّاريخيّة كصاحبه(الياس)مجهول النّسب،حتّى قيل:هو ابنه،أو ابن عمّه،أو تلميذه،أو خادمه.و قيل:هو يوشع بن نون، و قيل:الخضر،و قيل:ذو الكفل،و قيل:هو ابن إسحاق أبو الرّوم،و قيل:ابن أخطوب ابن العجوز.و في العهد القديم:هو ابن شافاط (1).

3-و لو تتبّعنا الحوادث التّاريخيّة الّتي وقعت في عصره لوجدناها تنحصر في الحقبة الّتي تلت عصر النّبيّ سليمان بن داود عليهما السّلام بقرن من الزّمان أو يزيد قليلا.

ص: 83


1- الملوك الأوّل(19:16).

و طبق رواية العهد القديم فإنّ(اليسع)قد مات في عصر الملك«يوآش» (1)أحد ملوك بني إسرائيل الّذي تولّى الحكم بعد موت سليمان بمدّة تقرب من«130» سنة.

و بهذا تتهافت الرّوايات الّتي ذكرت أنّه ابن إسحاق،أو يوشع بن نون،أو ابن أخطوب؛لأنّ عصر إسحاق يعتبر عصرا متقدّما جدّا بالنّسبة إلى عصره.

و بين عصره و عصر يوشع بن نون بون شاسع؛لأنّ يوشع خليفة موسى عليه السّلام،و لعلّهم نظروا إلى لفظه فتوهّموا أنّه معرّب«اليسع».

و أخطوب في العهد القديم اسم لرجلين عرفا به، أحدهما:أخطوب بن أمريا بن مرايوث،من أحفاد هارون (2)،و كان له ولد يسمّى«صادوق»و هو كاهن كان معاصرا لداود و سليمان (3).

و الثّاني:أخطوب بن فينحاص بن عالي (4)،و له ولد يسمّى«أخيمالك»،و كان كاهنا معاصرا لداود عليه السّلام (5).

و من قال:إنّه الخضر أو ذو الكفل،فقد زاد الطّين بلّة؛لأنّ هذين العلمين غير معروفين،و حولهما خلاف كثير،و قد تقدّم حسب السّياق القرآنيّ أنّه نبيّ آخر غيرهما.).

ص: 84


1- الملوك الثّاني(13:14).
2- الأيّام الأوّل(6:3-7).
3- صموئيل الثّاني(2:35)و(8:17).
4- صموئيل الأوّل(14:3).
5- صموئيل الأوّل(21:1).

أ م ت

اشارة

امتا

لفظ واحد،مرّة واحدة،في سورة مكّيّة.

النّصوص اللّغويّة

الخليل :و الأمت:أن تصبّ في السّقاء ماء فلا تملؤه فينثني و ذلك الثّني هو الأمت،و إذا ملئ و تمدّد فلا أمت فيه.

و هذا شيء مأموت،أي معروف.[ثمّ استشهد بشعر](8:141)

العوج و الأمت بمعنى واحد.(ابن فارس 1:137)

سيبويه :و قالوا:أمت في الحجر لا فيك،أي ليكن الأمت في الحجارة لا فيك،و معناه أبقاك اللّه بعد فناء الحجارة،و هي ممّا يوصف بالخلود و البقاء.[ثمّ استشهد بشعر](ابن منظور 2:5)

أبو عمرو الشّيبانيّ:الأمت،هو التّلال الصّغار.

(الرّازيّ:35)

الأمت:النّباك،و هي التّلال الصّغار،واحدها:

نبك.(القرطبيّ 11:246)

الفرّاء: الأمت:موضع النّبك من الأرض:ما ارتفع منها،و يقال:مسايل الأودية-غير مهموز-ما تسفّل و قد سمعت العرب يقولون:ملأ القربة ملأ لا أمت فيها،إذا لم يكن فيها استرخاء،و يقال:سرنا سيرا لا أمت فيه و لا وهن فيه و لا ضعف.(2:191)

أبو زيد:يقال:ما فيك و لا في ثوبك أمت،أي عيب.

(218)

أمتّ القوم آمتهم أمتا،إذا حرزتهم،و أمتّ الماء أمتا، إذا قدّرت ما بينك و بينه.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:ايمت هذا لي كم هو؟أي احزره كم هو؟و قد أمتّه آمته أمتا.(الأزهريّ 14:341)

ابن الأعرابيّ: الأمت وهدة بين نشوز.يقال:كم أمت ما بينك و بين الكوفة؟أي قدر.

(الأزهريّ 14:341)

الأمت:الطّريقة الحسنة،و الأمت:تخلخل القربة إذا

ص: 85

لم يحكم إفراطها.(الأزهريّ 14:342)

شمر: عن أبي سعيد الخدريّ:أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إنّ اللّه حرّم الخمر فلا أمت فيها و أنا أنهى عن السّكر و المسكر»و أنشدني ابن جابر:

و لا أمت في جمل ليالي ساعفت

بها الدّار إلاّ أنّ جملا إلى بخل

لا أمت فيها،أي لا عيب فيها.

(الأزهريّ 14:342)

ابن أبي اليمان :الأمت:الارتفاع،و الأمت أيضا:

القصد،يقال:أمتّ أمتك،أي قصدت قصدك.(220)

الأمت:الشّقوق في الأرض.(القرطبيّ 11:246)

ثعلب :الأمت:النبك.و ليس في الخمر أمت،أي ليس فيها شكّ أنّها حرام.(ابن منظور 2:5)

الزّجّاج: هو أن يغلظ مكان و يدقّ مكان.

(الآلوسيّ 16:263)

ابن دريد :أمتّ الشّيء آمته أمتا فهو مأموت،إذا قدّرته.و كذلك الماء إذا قدّرت كم بينك و بينه.[ثمّ استشهد بشعر](3:274)

الأزهريّ: [بعد نقل قول شمر قال:]

قلت:معنى قول أبي سعيد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنّ اللّه حرّم الخمر فلا أمت فيه»،معناه غير معنى ما في البيت.

أراد أنّه حرّمها تحريما لا هوادة فيه و لا لين،لكنّه شدّد في تحريمها،و هو من قولك:سرت سيرا لا أمت فيه،أي لا وهن فيه و لا ضعف.و جائز أن يكون المعنى أنّه حرّمها تحريما لا شكّ فيه.و أصله من الأمت بمعنى الحزر و التّقدير،لأنّ الشّكّ يدخلها.[ثمّ استشهد بشعر]

(14:342)

الجوهريّ: الأمت:المكان المرتفع.

و الأمت:النّباك،و هي التّلال الصّغار،و قوله:

لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً طه:107،أي لا انخفاض فيها و لا ارتفاع،و تقول:امتلأ السّقاء فما به أمت.

و أمتّ الشّيء أمتا:قدّرته.يقال:هو إلى أجل مأموت،أي موقوت.[ثمّ استشهد بشعر](1:241)

ابن فارس: الهمزة و الميم و التّاء أصل واحد لا يقاس عليه،و هو الأمت.(1:137)

الزّمخشريّ: الخدريّ رضى اللّه عنه:«إنّ اللّه حرّم الخمر فلا أمت فيها»،أي لا نقص في تحريمها؛يعني أنّه تحريم بليغ،من قولهم:ملأ مزادته حتّى لا أمت فيها أو لا شكّ، من قولهم:بيننا و بين الماء ثلاثة أميال على الأمت،أي على الحزر و التّقدير،لأنّ الحزر ظنّ و شكّ،أو لا لين و لا هوادة من قولهم:سار سيرا لا أمت فيه.

(الفائق 1:57)

استوت الأرض فما بها أمت،و امتلأ السّقاء فلم يبق فيه أمت.(أساس البلاغة:9)

الطّبرسيّ: و الأمت:الأكمّة،يقال:مدّ حبله حتّى ما ترك فيه أمتا،و ملأ سقاءه حتّى ما ترك فيه أمتا،أي انثناء.(4:28)

القرطبيّ: تقول:امتلأ فما به أمت،و ملأت القربة ملأ لا أمت فيه،أي لا استرخاء فيه.

و الأمت في اللّغة:المكان المرتفع.(11:246)

الفيروزآباديّ: أمته يأمته:قدّره و حزره،كأمّته و قصده.

ص: 86

و أجل مأموت:موقّت.

و الأمت:المكان المرتفع،و التّلال الصّغار، و الانخفاض و الارتفاع،و الاختلاف في الشّيء،جمعه:

إمات و أموت.و الضّعف،و الوهن،و الطّريقة الحسنة و العوج و العيب في الفم و في الثّوب،و الحجر.و أن يغلظ مكان و يرقّ مكان.

و المؤمّت:المملوء،و المتّهم بالشّرّ و نحوه.

و الخمر حرّمت لا أمت فيها،أي لا شكّ في حرمتها.(1:147)

مجمع اللّغة:الأمت:الارتفاع و الانخفاض.

(1:49)

محمّد إسماعيل إبراهيم:الأمت:المكان المرتفع قليلا،أو التّلال الصّغار،و هو يعني أيضا:الانخفاض و الارتفاع و الاختلاف في الشّيء.(44)

النّصوص التّفسيريّة

لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً. طه:107

ابن عبّاس: واديا و لا رابية.(الطّبريّ 16:212)

مثله مجاهد.(الطّبرسيّ 4:30)

هي الأرض البيضاء،الملساء الّتي ليس فيها لبنة مرتفعة.(الطّبريّ 16:212)

لا ترى فيها ميلا.و الأمت:الأثر مثل الشّراك.

(الطّبريّ 16:213)

أي ليس فيها منخفض و لا مرتفع.

(الطّبرسيّ 4:30)

مجاهد:يعني ارتفاعا.(1:402)

مثله الجلالين.(2:61)

ارتفاعا و لا انخفاضا.(الطّبريّ 16:212)

نحوه الخازن(4:227)،و الميبديّ(6:178).

الحسن:العوج ما انخفض من الأرض،و الأمت:

ما نشز من الرّوابي.(الميبديّ 6:178)

قتادة:صدعا و لا أكمّة.(الطّبريّ 16:213)

الأمت:الحدب.(الطّبريّ 16:213)

ابن زيد:لا تعادي،الأمت:التّعادي.

(الطّبريّ 16:212)

أبو عبيدة:مجازه لا ربى و لا وطئا،أي لا ارتفاع و لا هبوط،يقال:مدّ حبله حتّى ما ترك فيه أمتا،و ملأ سقاءه حتّى ما ترك فيه أمتا،أي انثناء.(2:29)

الطّبريّ: و اختلف أهل التّأويل في معنى«العوج و الأمت»فقال بعضهم:عنى بالعوج في هذا الموضع:

الأودية،و بالأمت:الرّوابي و النّشوز.

و قال آخرون:بل عنى بالعوج في هذا الموضع:

الصّدوع،و بالأمت:الارتفاع من الآكام و أشباهها.

و قال آخرون:الأمت:المحاني و الأحداب.

و قال آخرون:عنى بالعوج:الميل،و بالأمت:الأثر.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال:عنى بالعوج:الميل،و ذلك أنّ ذلك هو المعروف في كلام العرب [إلى أن قال:]

و أمّا الأمت فإنّه عند العرب الانثناء و الضّعف.

مسموع منهم،مدّ حبله حتّى ما ترك فيه أمتا.[ثمّ استشهد بشعر]

فالواجب إذا كان ذلك معنى الأمت عندهم أن يكون

ص: 87

أصوب الأقوال في تأويله،و لا ارتفاع و لا انخفاض؛لأنّ الانخفاض لم يكن إلاّ عن ارتفاع،فإذ كان ذلك كذلك؛ فتأويل الكلام:لا ترى فيها ميلا عن الاستواء و لا ارتفاعا و لا انخفاضا،و لكنّها مستوية ملساء،كما قال جلّ ثناؤه: قاعاً صَفْصَفاً طه:106.(16:213)

السّجستانيّ:ارتفاعا و هبوطا،و يقال نبكا،النّبك:

الرّوابي من الطّين.(122)

نحوه أبو حيّان.(تحفة الأريب:29)

الهرويّ: أي لا حدب فيها و لا نبك و لا ارتفاع و لا انخفاض،يقال:ملأ مزادته حتّى لا أمت فيها،أي لا غرض فيها و لا تثنّي.(1:79)

الطّوسيّ: أي لا ربى و لا وهاد أي لا ارتفاع فيه و لا هبوط،يقال:مدّ حبله حتّى ما ترك فيه أمتا،و ملأ سقاه حتّى ما ترك فيه أمتا أي انثناء.[ثمّ استشهد بشعر] (7:208)

الزّمخشريّ: النّتوّ اليسير،يقال:مدّ حبله حتّى ما فيه أمت.(2:553)

مثله الفخر الرّازيّ(22:118)،و أبو حيّان(6:

280)،و المراغيّ(16:151)،و النّيسابوريّ(16:

156)،و البيضاويّ(2:61)،و القاسميّ(11:4210)، و أبو السّعود(3:324).

الآلوسي:قيل:الأمت في الآية:العوج في السّماء تجاه الهواء،و العوج في الأرض مختصّ بالأرض.

(16:263)

عزّة دروزة:أمتا:بمعنى النتوء أو البروز.(3:87)

الطّباطبائيّ:قيل:العوج:ما انخفض من الأرض، و الأمت:ما ارتفع منها،و الخطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد كلّ من له أن يرى،و المعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية و لا مرتفعا كالرّوابي و التّلال.(14:211)

أبو رزق:ارتفاعا و هبوطا،و الأمت:التّلال الصّغيرة.(1:84)

المصطفوي:و لا يخفى أنّ الاعوجاج في السّطح هو الانخفاض،و هذا معنى الرّقّة فيها،كما أنّ الغلظة في السّطح هي الارتفاع في نقاطها.و لا يبعد أن يكون العوج في مقابل القاع،و الأمت في مقابل الصّفصف(1:130)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة هو الانخفاض و الانثناء، و هو الأمت،أي المكان المنخفض بين مكان مرتفع؛ يقال:سرنا سيرا لا أمت فيه،أي لا انخفاض و لا انعطاف فيه.و يقال عند صبّ الماء لملء السّقاء:قد ملأ السّقاء ملأ لا أمت فيه،أي لا انثناء و لا استرخاء فيه.

و منه قولهم:ايمت هذا لي كم هو؟أي احزره كم هو؟ و هو من الأمت بمعنى الوهدة و المنخفض؛لأنّ سالكها يجهل ما يكمن فيها،كالحدس أصله الرّمي،ثمّ استعمل في الظّنّ و الوهم؛لأنّه رجم بالغيب.

و منه أيضا:أمتّ الماء أمتا:قدّرت ما بينك و بينه.

و قولهم:كم أمت ما بينك و بين الكوفة؟أي قدر.و أمتّ القوم آمتهم أمتا:حزرتهم.

2-و الأمت يترادف مع الغرض في ملء السّقاء و الانثناء،إلاّ أنّ الغرض يعنى الملء و النّقصان أيضا،فهو من الأضداد؛يقال:غرضت السّقاء،إذا ملأته،و غرضته،

ص: 88

إذا نقصته.

و معنى التّثنّي فيه مستقلّ لا يقترن مع الملء أو النّقصان؛يقال:انغرض الغصن،أي تثنّى و انكسر انكسارا غير بائن،عكس الأمت الّذي يقترن فيه مع الملء.

3-و ربّما هناك علاقة بين(أمت)و(أمّ)و(أمه).ففي (الأمت)معنى الارتفاع و النّتوء و الخلل و الاختلاف،و في (الأمّ)معنى الارتفاع،و في(الأمه)معنى النّسيان.

فيشترك(الأمت)مع(الأمّ)في العلوّ؛لأنّه يأتي بمعنى الرّابية و الأثر و التّلال الصّغار و الطّريقة الحسنة.

و يشترك مع(الأمه)في النّقص؛لأنّ(الأمت)يأتي بمعنى الوادي و الوهدة و تخلخل الماء في القربة و الانثناء و الوهن و العيب في الفم و الثّوب و الحجر.

4-قد يكون(الأمت)من الأضداد،فهو يحمل معنى الارتفاع و الانخفاض باعتبار أنّ كلّ مرتفع يكون مرتفعا بالنسبة إلى غيره،و غيره منخفض بالنّسبة إلى قمّته.

و قد يحمل صفتي الغلظة و الرّقّة.

5-أمّا(أمّت)بمعنى اتّهم فهي تشبه(أمّ)بمعنى ألبس، و تشترك مع(أمت)الّتي تحمل الضّعف و الشّكّ؛إذ قد تكون التّهمة منطبقة مع الواقع أو مخالفة،فلا تحمل الدّليل القطعيّ.

الاستعمال القرآنيّ

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً طه:105-107

1-جاءت كلمة(امتا)مرّة واحدة في وصف الجبال يوم القيامة،و المعنى المحيط بهذه الكلمة مادّيّ لا وجدانيّ.

و قد ذهب المفسّرون في تفسيرها مذاهب شتّى،فمنهم من اعتبر(الأمت)الرّوابي و المرتفعات،و منهم من اعتبرها الآثار و المحاني و الأحداب،و منهم من قال:إنّها الانثناء و الضّعف،و منهم من قال:إنّها مسايل الأودية أو ما انخفض من الأرض.

2-و لو استقرأنا الآيات القرآنيّة السّابقة لقوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً لخرجنا بهذه الاحتمالات:

الأوّل:أنّ الجبال تتحوّل إلى ذرّات تتساوى أمام القدرة الرّبّانيّة خشوعا،أو تستوي هذه الذّرّات فتنسجم انبساطا،فلا نرى فيها ارتفاعا أو انخفاضا.

الثّاني:قد يكون العوج المذكور في القرآن هو الانثناء النّظريّ و الانحراف المنظور بالعين،و الأمت هو الانثناء المادّيّ و الانحراف المحسوس باليد أو الرّجل.و بما أنّ المنظور سبق الملموس،لذا جاء الفعل(لا ترى)متقدّما باعتبار أنّ العوج يرى،و الأمت أقلّ منه،فقد لا يرى و إنّما يحسّ بالمسّ.

و على هذا نستطيع أن نقول إذا صحّ الرّأي:إنّ «العوج»يكون أفقيّا كالتّموّج المرئيّ من اليمين إلى اليسار و بالعكس،و«الأمت»يكون عموديّا كالتموّج المحسوس ارتفاعا و انخفاضا من الأسفل إلى الأعلى و بالعكس.

الثّالث:يحتمل أن يكون«العوج»هو الارتفاع و الانخفاض الملحوظين لوضوحهما و كبرهما.و«الأمت» هو الارتفاع و الانخفاض الدّقيقين اللّذين لا يلاحظان إلاّ

ص: 89

مع التّدقيق لصغرهما و يسرهما كالنّتوء الصّغير الّذي قد لا يستطيع الرّائي رؤيته من مسافة معيّنة.فحين لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً تكون الجبال أرضا ملساء مستوية، ليس فيها أيّ اعوجاج أو انحراف و إن قلّ فكان بمقدار الأمت.و القرآن الكريم قد يذكر الأمت من باب نفي الكثير كما في قوله تعالى: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً النّساء:49 وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ فاطر:13.

و لعلّ سياق الآيات السّابقة ل لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً يبيّن حال الجبال؛حيث دخل عليها النّسف فأصبحت بقدرة اللّه(قاعا)أي ملساء(صفصفا)أي مستوية؛إذ قد يكون الشّيء أملس كالقماش،و لكنّه غير مستو و لا منبسط إذا ألقي على الأرض كيفما اتّفق،إلاّ إذا سحبت جوانبه.

3-قد تتقابل الصّفات في الآيات فينفى العوج عن الذّرّات؛لأنّها أصبحت ملساء ناعمة كالرّمل،و ينفى الأمت عنها أيضا؛لأنّ هذه الذّرّات أصبحت متساوية مع غيرها منبسطة تماما.و إذا صحّت المقابلة بين القاع و عدم العوج،و الصّفصف مع عدم الأمت،كانت الآيات هنا شبيهة لقوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا* مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ عبس:31،32،فالفاكهة لكم و الأبّ -و هو العلف-لأنعامكم.

4-اقترن العوج بالأمت على الرّغم من أنّهما بمعنى واحد؛إذ الأمت هو الانثناء-كما تقدّم-و الانثناء هو العوج.و لكن يمكن أن يقال:إنّ العوج انثناء نحو الدّنوّ، و الأمت انثناء نحو العلوّ أو بالعكس.و قد اختار المفسّرون المعنى الأوّل استيحاء من قول ابن عبّاس:

«لا انخفاضا و لا ارتفاعا»،أو«لا واديا و لا رابية»في قول له آخر.

5-أمّا ما نقل عنه قوله:«هي الأرض البيضاء الملساء»فهو تفسير للنّفي دون المنفيّ؛لأنّها إذا لم يكن فيها ارتفاع و لا انخفاض فهي ملساء مستوية،و هذا ما اختاره الطّبريّ بقوله:لا ترى فيها ميلا عن الاستواء و لا ارتفاعا و لا انخفاضا،و لكنّها مستوية ملساء،كما قال:

قاعاً صَفْصَفاً.

6-سبق و أن نوّهنا بأنّ الألفاظ الوحيدة في القرآن دليل على قلّة استعمالها عند العرب؛بحيث إنّها لا تستعمل إلاّ لضرورة كضرورة القافية في الشّعر و الرّويّ في القرآن،لاحظ«أ ب ب».و هذا محتمل هنا، فإنّ رويّ آيات سورة«طه»يدور حول الألف،نحو:

موسى،هدى،نفعا،إلاّ ما شذّ عن ذلك في بعض الآيات.

و ربّما استعمل(امتا)هنا لعدم وجود لفظ آخر يفيد معناه و يناسب الرّويّ،فلاحظ.

7-وصفت الجبال في القرآن بأنّها عند قيام السّاعة تسير،كما في الكهف:47،و الطّور:10،و النّبأ:20، و التّكوير:3.و بأنّها تدكّ دكّا كما في الحاقّة:14، و تنسف كما في المرسلات:10،و هو القلع أو التّفتيت بحيث تطير،و تبسّ كما في الواقعة:5،و هو تفتيتها كالدّقيق،و تكون كثيبا مهيلا كما في المزّمّل:14،أي رملا سائلا،أو هباء منبثّا كما في الواقعة:6،أي ترابا منتشرا كالغبار،أو سرابا كما في النّبأ:20،أو عهنا كما في المعارج:8،أو عهنا منفوشا كما في القارعة:5،أي صوفا

ص: 90

محلّجا مفرّقا،أو قاعا صفصفا كما في طه:105،أي ملساء مستوية.

و كلّ هذا يمثّل بثّ الجبال كالغبار و الهباء حتّى تصير أجزاؤها متساوية لا تفاوت فيها،بل لا ترى هناك أجزاء،بل غبارا و سرابا.و هذا السّياق يحكي سطوة اللّه تعالى يوم القيامة،و يسلّط الضّوء على المراد بقوله:

لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً؛ لأنّها متساوية مستوية.

ص: 91

ص: 92

أ م د

اشارة

لفظان 4 مرّات:2 مكّيّتان،2 مدنيّتان

في 4 سور:2 مكّيّتين،2 مدنيّتين

الامد 1:-1\امدا 3:2-1

النّصوص اللّغويّة

الخليل:الأمد:منتهى كلّ شيء و آخره.(8:89)

أبو عمرو الشّيبانيّ:يقال للسّفينة إذا كانت مشحونة:عامد و آمد و عامدة و آمدة.

و السّامد:العاقل الآمد المملوء من خير أو شرّ.

و«آمد»بلد معروف.(الأزهريّ 14:222)

الفرّاء: أمد عليه و أبد،إذا غضب.

(الأزهريّ 14:222)

مثله القاليّ.(2:56)

أبو عبيدة:الأمد:الغاية.(1:90)

مثله ابن قتيبة(264)،و ابن أبي اليمان(315)، و الرّازيّ(35).

شمر:الأمد:منتهى الأجل،و للإنسان أمدان:

أحدهما:ابتداء خلقه الّذي يظهر عند مولده،و إيّاه عنى الحجّاج حين سأل الحسن،فقال له:ما أمدك؟فقال:

سنتان من خلافة عمر،أراد أنّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر.

و الأمد الثّاني:الموت،و أمد الخيل في الرّهان:مدافعها في السّباق،و منتهى غايتها الّتي تستبق إليه.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 14:222)

كراع النّمل:الإمّدان:الماء على وجه الأرض.

(ابن منظور 3:74)

الطّبريّ: و الأمد:الغاية الّتي ينتهي إليها.

(3:231)

مثله الطّبرسيّ(1:431)،و الطّباطبائيّ(20:53).

الصّاحب:الأمد:منتهى كلّ شيء و آخره.و ليس لهذا الأمر أمد مأمود:أي منتهى إليه.

و أصبح سقاؤك مؤمّدا:أي ليس فيه جرعة من ماء.

ص: 93

و البقيّة:الأمدة.

و الأمد:المملوء من خير و شرّ،و به سمّي البلد.

و أمد عليه:أي غضب عليه.(9:383)

الجوهريّ: الأمد:الغاية كالمدى،يقال:ما أمدك؟ أي منتهى عمرك.و الأمد أيضا:الغضب.و قد أمد عليه بالكسر،و أبد عليه،أي غضب.و آمد:بلد في الثّغور.

(2:442)

نحوه الفيّوميّ.(1:21)

ابن فارس: الهمزة و الميم و الدّال،الأمد:الغاية، كلمة واحدة لا يقاس عليها.(1:137)

أبو هلال:الفرق بين الأمد و الغاية،أنّ الأمد حقيقة،و الغاية مستعارة على ما ذكرنا،و يكون الأمد ظرفا من الزّمان و المكان،فالزّمان قوله تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الحديد:16،و المكان قوله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران:30.(242)

ابن سيدة:الآمد و الآمدة:السّفينة المشحونة، الجمع:أوامد.(الإفصاح 2:982)

الأمد:الزّمان،عامّ في الغاية و المبدأ.و يعبّر به مجازا عن سائر المدّة.(الإفصاح 2:924)

الإمّدان:الماء النّاقع في السّبخة.و النّزّ.

(الإفصاح 2:969)

الرّاغب: الأمد و الأبد يتقاربان لكنّ الأبد عبارة عن مدّة الزّمان الّتي ليس لها حدّ محدود و لا يتقيّد، لا يقال:أبد كذا.

و الأمد:مدّة لها حدّ مجهول إذا أطلق،و قد ينحصر، نحو أن يقال:أمد كذا،كما يقال:زمان كذا،و الفرق بين الزّمان و الأمد:أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية،و الزّمان عامّ في المبدأ و الغاية،و لذلك قال بعضهم:المدى و الأمد يتقاربان.(24)

الزّمخشريّ: ضرب له أمدا و هو بعيد الآماد.

(أساس البلاغة:9)

الطّبرسيّ:و الأمد:الوقت الممتدّ،و هو و المدّة واحد.(5:237)

ابن الأثير: للإنسان أمدان:مولده و موته.

و الأمد:الغاية.(1:65)

الصّغانيّ:الآمد،على مثال«فاعل»المملوء من خير أو شرّ.

و يقال للسّفينة،إذا كانت مشحونة:غامد (1)و آمد، و غامدة و آمدة.

و أمد تأميدا،أي بيّن الأمد،مثل أجّل تأجيلا،أي بيّن الأجل.

أمد مأمود:منتهى إليه.

و أصبح سقاؤك مؤمّدا،أي ليس فيه جرعة من ماء.

و الأمدة:البقيّة.(2:192)

أبو حيّان:غاية الشّيء و منتهاه،و جمعه:آماد.

(2:416)

الفيروزآباديّ:الأمد،محرّكة:الغاية و المنتهى و الغضب.أمد عليه كفرح.

و الآمد:المملوء من خير أو شرّ،و السّفينة المشحونة.

و آمد بالثّغور.

و التّأميد تبيين الأمد،و سقاء مؤمّد ما فيه جرعة ماء.ن.

ص: 94


1- كذا،و الظّاهر عامد و عامدة مهملتين لا المعجمتين.

و الأمدة بالضّمّ:البقيّة.

و أمد مأمود:منتهى إليه.

و الإمّدان كإسحمان و أضحيان:الماء على وجه الأرض و ما لها رابع.(1:284)

الطريحيّ: الأمد هو نهاية البلوغ،و جمعه:آماد، يقال:بلغ أمده،أي بلغ غايته.

و في حديث وصفه تعالى:«لا أمد لكونه و لا غاية لبقائه»قيل:أي لا أوّل.

و في الدّعاء:«جعلت له أمدا محدودا»أي منتهى ينتهي إليه،و أمد أمدا من باب لعب:غضب.(3:8)

المراغيّ: و الأمد:مدّة لها حدّ و غاية.(15:121)

الحجازيّ: الأمد؛المسافة،و قيل:مدّة من الزّمان قد تنحصر،إذا قلت:أمد كذا.(3:46)

محمّد إسماعيل إبراهيم: الأمد:الزّمن،المسافة، الأجل،الغاية،و منتهى الشّيء.(1:44)

محمود شيت: 1-أ-أمد أمدا:غضب.و يقال:أمد عليه.

ب-أمّده:بيّن أمده.

ج-الآمد:السّفينة المشحونة.

د-الآمدة:السّفينة المشحونة.جمعه:أوامد.

ه-الأمد:الغاية و النّهاية.يقال:ضرب له أمدا.

و يقال:هو بعيد الآماد.جمعه:آماد.

2-أ-الآمد:السّفينة المشحونة،و تستعمل هذه الكلمة في القوّة البحريّة و القوّة النّهريّة.

ب-الآمدة:السّفينة المشحونة،و تستعمل هذه الكلمة في القوّة البحريّة و القوّة النّهريّة.(1:51)

المصطفويّ: الأصل في هذه المادّة هو الغاية و المنتهى من الزّمان.

و أمّا الغضب فهو باعتبار انتهاء الصّبر و الحلم عليه.

(1:131)

النّصوص التّفسيريّة

الامد

...فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ... الحديد:16 ابن عبّاس:الأجل،بلغة هذيل.

(اللّغات في القرآن:46)

مجاهد :الأمد:الدّهر.(الطّبريّ 27:229)

الطّبريّ: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ما بينهم و بين موسى عليه السّلام و ذلك الأمد:الزّمان.(27:229)

الطّوسيّ: يعني المدّة و الوقت،فإنّ أهل الكتاب لمّا طال عليهم مدّة الجزاء على الطّاعات فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ الحديد:16،حتّى عدلوا عن الواجب و عملوا بالباطل.

قيل:معناه طال عليهم الأمد ما بين زمانهم و زمن موسى.

و قيل:طال عليهم الأمد ما بين نبيّهم و زمن موسى عليه السّلام.

و قيل:طال أمد الآخرة.(9:529)

الطّبرسيّ: أي طال الزّمان بينهم و بين أنبيائهم.

و قيل:طال عليهم الأمد للجزاء،أي لم يعاجلوا بالجزاء فاغترّوا بذلك.(5:238)

الفخر الرّازيّ: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فيه مسألتان:المسألة الأولى:ذكروا في تفسير طول الأمد

ص: 95

وجوها:

أحدها:طالت المدّة بينهم و بين أنبياءهم فقست قلوبهم.

و ثانيها:قال ابن عبّاس:مالوا إلى الدّنيا.و أعرضوا عن مواعظ اللّه.

و ثالثها:طالت أعمارهم في الغفلة،فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السّبب.

و رابعها:قال ابن حيّان:الأمد هاهنا:الأمل البعيد، و المعنى على هذا طال عليهم الأمد بطول الأمل،أي لمّا طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم.

و خامسها:قال مقاتل بن سليمان:طال عليهم أمد خروج النّبيّ عليه السّلام.

و سادسها:طال عهدهم بسماع التّوراة و الإنجيل فزال وقعها عن قلوبهم،فلا جرم قست قلوبهم.فكأنّه تعالى نهى المؤمنين عن أن يكونوا كذلك،قاله القرظيّ.

المسألة الثّانية:قرئ (الأمدّ) بالتّشديد،أي الوقت الأطول.(29:229)

البيضاويّ: أي فطال عليهم الزّمان لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم و بين أنبيائهم،فقست قلوبهم.

و قرئ(الامدّ)و هو الوقت الأطول.(2:454)

أبو حيّان: أي انتظار الفتح أو انتظار القيامة.

و قيل:أمد الحياة.و قرأ الجمهور (الْأَمَدُ) مخفّف الدّال، و هي الغاية من الزّمان.و ابن كثير يشدّها؛و هو الزّمان بعينه الأطول.(8:223)

الطّريحيّ: هو نهاية البلوغ،و جمعه:آماد.

(غريب القرآن:184)

القاسميّ:أي الأجل و الإمهال و الاستدراج.

(16:5685)

الحائريّ: أي الأجل و الزّمان أو الأعمار،و زالت عنهم الرّوعة الّتي كانت تأتيهم من التّوراة و الإنجيل إذا سمعوهما.(11:50)

امدا

1- ..وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً... آل عمران:30

الحسن :يسرّ أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا، يكون ذلك مناه،و أمّا في الدّنيا فقد كانت خطيئته يستلذّها.(الطّبريّ 3:231)

السّدّيّ: مكانا بعيدا.(الطّبريّ 3:231)

مقاتل: قيل ما بين المشرق و المغرب.

(الطّبرسيّ 1:431)

مثله الميبديّ.(2:79)

ابن جريج: أجلا.(الطّبريّ 3:231)

الطّبريّ: يعنى غاية بعيدة،فإنّ مصيركم أيّها القوم يومئذ إليه،فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.

(3:231)

الطّوسيّ: الأمد:الغاية الّتي ينتهي إليها.[ثمّ استشهد بشعر](2:437)

البغويّ: و الأمد:الأجل و الغاية الّتي ينتهي إليها.

(1:283)

الزّمخشريّ: و الأمد:المسافة كقوله تعالى: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ الزّخرف:38(1:423)

الطّبرسيّ:أي غاية بعيدة أي تودّ أنّها لم يكن

ص: 96

فعلها.(1:431)

الفخر الرّازيّ: الأمد:الغاية الّتي ينتهي إليها.

و نظيره قوله تعالى: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ الزّخرف:38

و اعلم أنّ المراد من هذا التّمنّي معلوم سواء حملنا لفظ الأمد على الزّمان أو على المكان إذ المقصود تمنّي بعده.(8:17)

مثله النّيسابوريّ.(3:168)

القرطبيّ: و الأمد:الغاية،و جمعه:آماد.و يقال:

استولى على الأمد،أي غلب سابقا.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمد:الغضب يقال:أمد أمدا،إذا غضب غضبا.(4:59)

الخازن :أي مكانا بعيدا،قيل:كما بين المشرق و المغرب.

و الأمد:الأجل و الغاية،و قيل:معناه تودّ أنّها لم تعمله،و يكون بينها و بينه أمد بعيد.(1:283)

أبو حيّان: و معنى(أمدا بعيدا)غاية طويلة.

و قيل:مقدار أجله.و قيل:قدر ما بين المشرق و المغرب.(2:430)

الطّريحيّ: (امدا بعيدا):مسافة واسعة.

(غريب القرآن:184)

الشّربينيّ: أي غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها.

(1:208)

مثله القاسميّ.(4:828)

البروسويّ: أي مسافة واسعة كما بين المشرق و المغرب،و لم تحضر ذلك اليوم أو لم تعمل ذلك السّوء قطّ.(2:21)

الآلوسيّ: و الأمد:غاية الشّيء و منتهاه،و الفرق بينه و بين الأبد:أنّ الأبد مدّة من الزّمان غير محدودة، و الأمد مدّة لها حدّ مجهول.و المراد هنا الغاية الطّويلة.

و قيل:مقدار العمر،و قيل:قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب.

و ذهب بعضهم إلى أنّ المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة،و لعلّه الأظهر.(3:127)

الطّباطبائيّ: و الأمد يفيد معنى الفاصلة الزّمانيّة.

[إلى أن قال:]

و في قوله: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران:30،دلالة على أنّ حضور سيّئ العمل يسوء النّفس،كما يشعر بالمقابلة بأنّ حضور خير العمل يسرّها،و إنّما تودّ الفاصلة الزّمانيّة بينها و بينه دون أن تودّ أنّه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ اللّه، فلا يسعها إلاّ أن تحبّ بعده و عدم حضوره في أشقّ الأحوال و عند أعظم الأهوال،كما يقول لقرين السّوء نظير ذلك.قال تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ الزّخرف:36.[إلى أن قال:] حَتّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ الزّخرف:38.(3:156)

2- ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً.

الكهف:12

ابن عبّاس: بعيدا.(الطّبريّ 15:206)

مجاهد :عددا.(الطّبريّ 15:206)

ص: 97

أبو عبيدة:أي غاية.(1:394)

مثله البغويّ.(4:165)

الطّبريّ: يعنى بالأمد:الغاية،و في نصب قوله:

(امدا)وجهان:

أحدهما:أن يكون منصوبا على التّفسير من قوله:

(احصى)كأنّه قيل:أيّ الحزبين أصوب عددا لقدر لبثهم، و هذا هو أولى الوجهين في ذلك بالصّواب،لأنّ تفسير أهل التّفسير بذلك جاء.

و الآخر:أن يكون منصوبا بوقوع قوله:(لبثوا)عليه، كأنّه قال:أيّ الحزبين أحصى للبثهم غاية.(15:14)

مثله الطّوسيّ.(7:14)

أبو حيّان: (امدا)تمييز و هكذا أعربه من زعم أنّ (احصى)أفعل للتّفضيل،كما تقول:زيد أقطع النّاس سيفا و زيد أقطع للهامّ سيفا،و لم يعربه مفعولا به.[إلى أن قال:]

ذهب الطّبريّ إلى نصب(امدا)ب(لبثوا).قال ابن عطيّة:و هذا غير متّجه انتهى.

و قد يتّجه ذلك أنّ«الأمد»هو الغاية،و يكون عبارة عن المدّة من حيث إنّ للمدّة غاية على أمد المدّة في الحقيقة و(ما)بمعنى الّذي و(امدا)منتصب على إسقاط الحرف،و تقديره:لما لبثوا من أمد،أي مدّة.و يصير من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ«ما لبثوا»كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ البقرة:106،و ما يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فاطر:2،و لمّا سقط الحرف وصل إليه الفعل.

(6:105)

أبو السّعود: و الأمد بمعنى المدى كالغاية في قولهم ابتداء الغاية و انتهاء الغاية،و هو مفعول ل(احصى) و الجار و المجرور حال منه،قدّمت عليه لكونه نكرة.

(3:241)

مثله البروسويّ.(5:220)

الآلوسيّ: و الأمد على ما قال الرّاغب:مدّة لها حدّ، و الفرق بينه و بين الزّمان أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية بخلاف الزّمان،فإنّه عامّ في المبدأ أو الغاية،و لذلك قال بعضهم:المدى و الأمد يتقاربان و ليس اسما للغاية حتّى يكون إطلاقه على المدّة مجازا،كما أطلقت الغاية عليها في قولهم:ابتداء الغاية و انتهاؤها،أي ليعلم أيّهم أحصى مدّة كائنة للبثهم.(15:213)

3- قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً. الجنّ:25

الطّبريّ: غاية معلومة تطول مدّتها.(29:121)

الطّوسيّ: أي غاية ينتهي إليها بعينها أم يؤخّره اللّه تعالى مدّة لا يعلمها بعينها إلاّ اللّه تعالى.

(10:158)

مثله الطّبرسيّ(5:374)،و الطّباطبائيّ(20:53).

البغويّ: أي أجلا و غاية تطول مدّتها،و المعنى أنّ علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلاّ اللّه.(7:136)

نحوه الميبديّ(10:258)،و الفخر الرّازيّ(30:

167)،و القرطبيّ(19:27)،و البيضاويّ(2:512)، و النّسفيّ(4:302)،و الخازن(7:137)،و شبّر(6:

300)،و كذا سائر المفسّرين.

الزّمخشريّ: و الأمد يكون قريبا و بعيدا أ لا ترى

ص: 98

إلى قوله: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران:30.(4:172)

البروسويّ: أي غاية تطول مدّتها.

و الأمد و إن كان يطلق على القريب أيضا إلاّ أنّ المقابلة تخصّصه بالبعيد.

و الفرق بين الزّمان و الأمد أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية،و الزّمان عامّ في المبدأ و الغاية.(10:200)

الآلوسيّ: و المراد بالأمد الزّمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب،و إلاّ فهو-وضعا-شامل لهما؛و لذا وصف ب(بعيدا)في قوله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران:30.

و قيل:إنّ معنى القرب ينبئ عن مشارفة النّهاية فكأنّه قيل:لا أدري أ هو حال متوقّع في كلّ ساعة أم هو مؤجّل ضرب له غاية،و الأوّل أولى و أقرب.

(29:95)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة هو الغاية كما أجمع على ذلك كلّ اللّغويّين و جلّ المفسّرين؛قال الحجّاج للحسن البصريّ:ما أمدك؟قال:سنتان من خلافة عمر.قال شمر:

أراد أنّه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر؛إذ أنّ شمرا جعل للإنسان أجلين:ولادته و وفاته.

و لم يؤثر عن العرب قول في النّثر سواه،و لذا قال ابن فارس:الأمد كلمة واحدة لا يقاس عليها.

2-و الإمّدان-و هو الماء على وجه الأرض-مختلف فيه؛قال الجوهريّ في مادّة«م د د»:ماء إمّدان:شديد الملوحة،و هو«افعلان»بكسر الهمزة.و قال الصّاغانيّ في «م م د»:إمّدان بكسر الهمزة و تشديد الميم على «افعلان»:موضع.و تردّد الفيروزآباديّ فيه،فعدّه مرّة «فعّلان»من«أ م د»و ثانية«افعلان»من«م د د»و ثالثة:

«افعلان»من«م م د».

قال السّيوطيّ في«المزهر(2:54»نقلا عن سيبويه:

«افعلان»قليل في الكلام،لا نعلمه جاء إلاّ إسحمان و هو جبل،و إمّدان،و إربيان،و الصّفة ليلة إضحيان.

3-و أمّا قولهم:أمد عليه:غضب،و سفينة آمد و آمدة:مشحونة،فهو من باب الإبدال؛إذ ميم الأوّل مبدل من الباء،يقال:عبد عليه و أمد و أبد.و همزة الثّاني مبدلة من العين أو الغين؛يقال:سفينة عامد و عامدة، و آمد و آمدة،و غامد و غامدة.

و إبدال الميم باء لغة معروفة عند القبائل القحطانيّة من أهل الجنوب،فهم يسمّون«الكحم»و هو الحصرم «الكحب».و كذلك عند بعض القبائل العدنانيّة من أهل الشّمال كقبيلة مازن شيبان،فعند ما يسألون عن الاسم يقولون:با اسمك؟يريدون ما اسمك؟

و قد ورد العكس-أي قلب الباء ميما-عند قبيلة سعد بن بكر و هي من عدنان.و منه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«أنا أفصح العرب ميد أنّي من قريش،و نشأت في بني سعد بن بكر».أي بيد أنّي.و قال أيضا:«نحن الآخرون السّابقون ميد أنّا أوتينا الكتاب من بعدهم».

4-و لو لا يذودنا في النّثر قولهم:ما أمدك؟و في الشّعر قول النّابغة:

*سبق الجواد إذا استولى على الأمد*

ص: 99

و قول الطّرمّاح:

*و مردّ إذا انقضى أمده*

لقلنا:إنّ ميم الأمد مبدلة من باء،و الأمد لغة في الأبد،و لا سيّما أنّ الأمد لم يرد له ذكر في سائر اللّغات السّاميّة.

الاستعمال القرآنيّ

1-ورد الأمد في القرآن أربع مرّات؛مرّة واحدة معرفة و ثلاث مرّات نكرة:

1- أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الحديد:16

2- يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً

آل عمران:30

3- ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً الكهف:12

4- قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً الجنّ:25

يلاحظ أوّلا:أنّ كلاّ من معاني هذه الآيات الأربع قد قابل بعضها بعضا مقابلة تخالف؛فخشوع القلب قد قابل قسوة القلب في«1»،و عمل الخير قابل عمل السّوء في«2»،و حزب الفتية المؤمنين قابل حزب قومهم الكافرين في«3»،و الوعد القريب قابل وعدا بعيدا مقدّرا في«4».

ثانيا:و هذه المقابلة في الآيات الّتي تضمّ ظروفا لا تكاد تلحظ في القرآن إلاّ مع الأمد و أخيه الأبد.فالأبد قابل الخلود في إحدى عشرة آية بلفظ واحد،و هو قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً الجنّ:23،و هي مقابلة تماثل لا تخالف.[لاحظ«أ ب د»]

ثالثا:يلاحظ أنّ الأمد في الآية الأولى قد استعمل في امتداد الحياة الدّنيا معرّفا،و في الآيات الثّلاث الأخرى قد استعمل في امتداد الحياة بعد الموت منكّرا.فهل في ذلك نكتة بلاغيّة؟

ربّما يخطر بالبال أنّ الحياة الدّنيا مهما طالت فهي محدودة قابلة للتّعيين و التّحديد،فهي معروفة للإنسان أو قابلة للتّعرّف.و أمّا الحياة بعد الموت إلى البعث فلا يعلمها إلاّ اللّه،فلا يليق التّعبير عنها بلفظ المعرفة، و لا غاية لها بعد البعث،فهم فيها مخلّدون إمّا في الجنّة أو في النّار.

2-بعد استقراء التّفاسير الواردة في كلمة الأمد نجد أنّ معنى الكلمة يتغيّر من مورد إلى آخر،و كأنّ المفسّرين أخذوا المعنى العامّ للكلمة ثمّ أضافوا إليها معنى آخر في كلّ سياق جديد.

فقد ذهب بعضهم إلى أنّ الأمد في الثّانية يعني الفاصلة المكانيّة،و ذهب آخرون إلى أنّه يعني الفاصلة الزّمانيّة.و لا نرى كبير فرق بين المعنيين؛لأنّ الفاصلة المكانيّة تتضمّن الفاصلة الزّمانيّة حتّى يحصل التّلاقي، و طيّ المكان يحتاج إلى زمان.بيد أنّ الفاصلة الزّمانيّة أبلغ في المعنى؛لأنّ الفاصلة المكانيّة قد تعني وجود مسافة قد تطوي فينتهي الزّمن بين المتمنّي و ما يتمنّى

ص: 100

فراقه.بينما الفاصلة الزّمانيّة أوفق لأمنيّة المتمنّي؛لأنّها تفصله عمّا يكره زمنا و لا يمكن أن يلتقي ذلك المكروه به،و لأنّ العصر الماضي لا يمكن أن يلتحق بالعصر الحاضر أو القادم.

فالنّفس هنا تتمنّى ألاّ تلتقي بعملها السّيّئ و أنّ بينهما زمنا بعيدا كي لا يصل أحدهما إلى صاحبه؛لأنّها تخشى أن تؤاخذ بما عملت من سوء.و هذه الأمنيّة الّتي تبثّها النّفس هي أمنيّتها يوم القيامة.و كأنّ النّفس تتمنّى أن تكون حاضرة عند ربّها و قد بلغت يوم الدّين،و أنّ عملها السّيّئ ظلّ في الحياة الدّنيا متخلّفا زمنا.و قد تكون الأمنيّة مشتملة على الفاصلتين:الزّمانيّة و المكانيّة؛لأنّ حال النّفس في ذلك اليوم يستدعي ذلك.

أمّا الأمد في الرّابعة فإنّه موصوف بصفة محذوفة تقديرها«بعيدا»؛لأنّ(امدا)قد سبقت بهمزة التّسوية و(ام)المعادلة،فتكون(امدا)بمعنى غاية يطول وقتها، و ذلك مفهوم من سياق الجملة.

و الأمد في الثّالثة يعني غاية الزّمان.و إذا كان ابن عبّاس يرى أنّ هناك صفة محذوفة هي«بعيدا»فإنّ ذلك من جهة أنّ السّياق يدلّ على هذا المعنى؛لأنّ السّنين الّتي مكث فيها أصحاب الكهف كانت طويلة.

و أمّا الأمد في الأولى فهو الدّهر.و يفهم من السّياق أنّ المعنى العامّ للآية هو طال عليهم الأجل حتّى أصبح استدراجا و إمهالا.

ص: 101

ص: 102

أ م ر

اشارة

46 لفظا،248 مرّة:151 مكّيّة،97 مدنيّة

في 62 سورة:45 مكّيّة،17 مدنيّة

امر 7:3-4\يأمرهم 1:1\و امر 4:4

امره 1:1\يامركم 7:-7\الآمرون 1:-1

امرهم 2:1-1\يامرون 7:-7\امّارة 1:1

امركم 1:-1\تامرهم 1:1\امر 38:25-13

امرنا 1:1\تامرك 1:1\الامر 34:18-16

امروا 1:-1\تامرنا 1:1\امرا 17:11-6

امرتهم 1:-1\تامرون 4:2-2\امره 22:13-9

امرتنى 1:-1\تامرونّي 1:1\امرهم 12:9-3

امرتك 1:1\تامروننا 1:1\امرها 3:1-2

امرنا 1:1\تامرين 1:1\امركم 3:3

امروا 3:-3\امره 1:1\امرى 8:8

امرت 2:2\لامرنّهم 2:-2\امرنا 16:13-3

امرت 11:10-1\يؤمرون 2:1-1\الامور 13:5-8

امرنا 1:1\تؤمر 2:2\ياتمرون 1:1

يامر 5:4-1\تؤمرون 2:1-1

و أتمروا 1:-1\امرا 1:1

النّصوص اللّغويّة

الكلبيّ:كانت عاد تسمّي المحرّم مؤتمرا.

(الأزهريّ 15:296)

الخليل: الأمر:نقيض النّهي،و الأمر:واحد من أمور النّاس.و إذا أمرت من الأمر قلت:أؤمر يا هذا، فيمن قرأ: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ طه:132.

لا يقال:أؤمر و لا أؤخذ منه شيئا و لا أؤكل،إنّما يقال:

مر و خذ و كل،في الابتداء بالأمر،استثقالا للضّمّتين.فإذا تقدّم قبل الكلام واو أو فاء قلت:و أمر،فأمر،كما قال عزّ و جلّ: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ.

فأمّا«كل»من أكل يأكل فلا يكاد يدخلون فيه الهمزة مع الفاء و الواو،و يقولون:و كلا و خذا،و ارفعاه

ص: 103

فكلاه،و لا يقولون:فأكلاه.

و هذه أحرف جاءت عن العرب نوادر؛و ذلك أنّ أكثر كلامها في كلّ فعل أوّله همزة مثل:أبل يأبل،و أسر يأسر،أن يكسروا«يفعل»منه،و كذلك أبق يأبق.فإذا كان الفعل الّذي أوّله همزة و يفعل منه مكسورا مردودا إلى الأمر قيل:ائسر يا فلان،ايبق يا غلام،و كأنّ أصله «إئسر»بهمزتين.فكرهوا جمعا بين همزتين،فحوّلوا إحداهما ياء إذ كان ما قبلها مكسورا.

و كان حقّ«الأمر»من أمر يأمر أن يقال:أؤمر، أؤخذ،أؤكل بهمزتين،فتركت الهمزة الثّانية و حوّلت واوا للضّمّة،فاجتمع في الحرف ضمّتان بينهما واو، و الضّمّة من جنس الواو،فاستثقلت العرب جمعا بين ضمّتين و واو،فطرحوا همزة الواو،لأنّه بقي بعد طرحها حرفان،فقالوا:مر فلانا بكذا و كذا،و خذ من فلان و كل، و لم يقولوا:أكل و لا أمر و لا أخذ.

إلاّ أنّهم قالوا في أمر يأمر إذا تقدّم قبل ألف أمره واو أو فاء أو كلام يتّصل به الأمر من أمر يأمر،فقالوا:الق فلانا و أمره،فردّوه إلى أصله.و إنّما فعلوا ذلك،لأنّ ألف الأمر إذا اتّصلت بكلام قبلها سقطت الألف في اللّفظ.و لم يفعلوا ذلك في«كل و خذ»إذا اتّصل الأمر بهما بكلام قبله،فقالوا:الق فلانا و خذ منه كذا،و لم نسمع«و أخذ» كما سمعنا«و أمر».قال اللّه تعالى: وَ كُلا مِنْها رَغَداً البقرة:35،و لم يقل:و أكلا.

فإن قيل:لم ردّوا«مر»إلى أصلها و لم يردّوا«و كلا» و لا«و خذ»؟

قيل:لسعة كلام العرب،ربّما ردّوا الشّيء إلى أصله و ربّما بنوه على ما سبق،و ربّما كتبوا الحرف مهموزا،و ربّما تركوه على ترك الهمزة،و ربّما كتبوه على الإدغام،و كلّ ذلك جائز واسع.

و الأمرة:البركة،و امرأة أمرة،أي مباركة على زوجها.

و أمر الشّيء،أي كثر.

و الإمّرة:الأنثى من الحملان،و الإمّر:الضّعيف من الرّجال.[ثمّ استشهد بشعر]

و الإمرة:الإمارة،و هو أمير مؤمّر.

و الأمار:الموعد.[ثمّ استشهد بشعر]

و أمر ولدها،أي كثر ما في بطنها.و أمر بنو فلان أمارة،أي كثروا و كثرت نعمهم.(8:297)

الكسائيّ: فلان يؤامر نفسيه،أي نفس تأمره بشيء و نفس تأمره بآخر.

إنّه لأمور بالمعروف و نهيّ عن المنكر،من قوم أمر.(ابن فارس 1:137)

أبو عمرو الشّيبانيّ: الأمرات:الأعلام،واحدتها:

أمرة.(الأزهريّ 15:293)

نحوه الفرّاء(الأزهريّ 15:293)،و الأصمعيّ(ابن فارس 1:138).

لا يقال:أمرت بالتّخفيف في معنى كثّرت،و إنّما يقال:

أمّرت و آمرت.(الرّاغب:25)

الفرّاء: تقول العرب:في وجه المال تعرف أمرته،أي زيادته و نماءه.

يقول:في إقبال الأمر تعرف صلاحه.

و الأمرة:الزّيادة و النّماء و البركة.

ص: 104

يقال:لا جعل اللّه فيه أمرة،أي بركة،من قولك:أمر المال،أي كثر.

و وجه الأمر،أوّل ما تراه.(الأزهريّ 15:292)

أبو عبيدة :آمرته بالمدّ،و أمرته،لغتان بمعنى كثّرته.

(الجوهريّ 2:581)

نحوه أبو زيد(ابن السّكّيت:3)،و أبو عبيد(الأزهريّ 15:293)،و الزّجّاج(فعلت و أفعلت:44).

أبو زيد: «مهرة (1)مأمورة»:هي الّتي كثر نسلها.

يقولون:أمر اللّه المهرة،أي كثّر ولدها.

(الأزهريّ 15:292)

يقال:لقد علم تأمورك ذلك،أي قد علمت نفسك ذلك.[ثمّ استشهد بشعر](الزّبيديّ 3:20)

الأصمعيّ: أمر الرّجل إمارة،إذا صار عليهم أميرا.

و أمّر أمارة،إذا صيّر علما.

و يقال:مالك في الإمرة و الإمارة خير،بالكسر.

و أمّر فلان،إذا صيّر أميرا.

و آمرت فلانا،و و امرته،إذا شاورته.

و الأمار:الوقت و العلامة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الإمّر:ولد الضّأن الصّغير،و الإمّرة:الأنثى.

و العرب تقول للرّجل إذا وصفوه بالإعدام:ما له إمّر و لا إمّرة.

و الإمّر أيضا:الرّجل الضّعيف الّذي لا عقل له إلاّ ما أمرته به لحمقه.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 15:292)

سنان مؤمّر،أي محدّد.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 15:296)

يقال:لي عليك أمرة مطاعة،أي لي عليك أن آمرك مرّة واحدة فتطيعني.

يقول العرب:«خير المال سكّة مأبورة،أو مهرة مأمورة»و هي الكثيرة الولد المباركة.

و يقال:أمر اللّه ماله و آمره،و منه«مهرة مأمورة».

و الأمار:أما الطّريق:معالمه،الواحدة:أمارة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمر و اليأمور:العلم أيضا،يقال:جعلت بيني و بينه أمارا و وقتا و موعدا و أجلا،كلّ ذلك أمار.

(ابن فارس 1:138)

الأمار و الأمارة:الوقت و العلامة.

(الجوهريّ 2:582)

نحوه ابن الأعرابيّ.(ابن منظور 4:33)

اللّحيانيّ: رجل إمّر،و إمّرة،أي يستأمر كلّ أحد في أمره.

و رجل أمر،أي مبارك،يقبل عليه المال.

و الإمّر:الخروف،و الإمّرة:الرّخل.

و الخروف ذكر،و الرّخل أنثى.

(الأزهريّ 15:292)

أبو عبيد: «مهرة مأمورة»:إنّها الكثيرة النّتاج و النّسل.(الأزهريّ 15:292)

ابن الأعرابيّ: أمّرت فلانا،أي جعلته أميرا.

و أمرته و آمرته،كلّهنّ بمعنى واحد.

أمر فلان على قومه،إذا صار أميرا.

(ابن فارس 1:137)ر.

ص: 105


1- ولد الفرس الأنثى،و الذّكر:مهر.

ابن السّكّيت: يقال في مثل:في وجه مالك تعرف إمّرته،أي نماءه و كثرته.(3)

مثله القاليّ.(1:104)

الأمر:من الأمور،و الأمر:مصدر أمرت أمرا.

و الإمر:الشّيء العجيب،قال اللّه جلّ ثناؤه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71.(إصلاح المنطق:12)

الأمر:الكثير.

و الأمر:جمع أمرة،و هو علم صغير.

(إصلاح المنطق:101)

تقول:لك عليّ أمرة مطاعة،و لا تقل:إمرة.إنّما الإمرة من الولاية.(إصلاح المنطق:165)

أبو الهيثم:تقول العرب:في وجه المال تعرف أمرته،أي نقصانه.(الأزهريّ 1:293)

شمر: قوله:

*اعلمن أن كلّ مؤتمر*

أي كلّ من عمل برأيه فلا بدّ أن يخطئ الأحيان.

و قوله:و لا يأتمر لمرشد،أي لا يشاوره.

و يقال:ائتمرت فلانا في ذلك الأمر،و ائتمر القوم، إذا تشاوروا.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال العجّاج:

*لمّا رأى تلبيس أمر مؤتمر*

تلبيس أمر،أي تخليط أمر.مؤتمر،أي اتّخذ أمرا.

يقال:بئسما ائتمرت لنفسك.(الأزهريّ 15:295)

في قول عمر:«الرّجال ثلاثة،رجل إذا نزل به أمر ائتمر رأيه»أي شاور نفسه و ارتأى قبل مواقعة الأمر.

(الهرويّ 1:82)

ابن قتيبة: يقال:أمّرت الشّيء و أمرته،أي كثّرته، تقدير:فعّلت و أفعلت،و منه قولهم:«مهرة مأمورة»أي كثيرة النّتاج.و يقال:أمر بنو فلان يأمرون أمرا؛إذا كثروا.

(253)

كراع النّمل:أمره به و أمره.(ابن منظور 4:26)

ابن دريد :أمر يأمر أمرا.و أمر،إذا صار أميرا.و أمر القوم،إذا كثروا.و لك عليّ إمرة مطاعة،و الإمرة:

الإمارة.و الأمارة:العلامة.(3:253)

عبد الرّحمن الهمذانيّ: يقال:إلى فلان حلّ الأمور و عقدها،و رتقها و فتقها،و بسطها و قبضها، و نقضها و إبرامها،و إيرادها و إصدارها،و الأمر و النّهي، و الصّرف و الولاية.

و تقول:قد استفاض الأمر استفاضة،و استطار استطارة،و شاع شيعا.و قال الواسطيّ:شيوعا.(145)

ابن الأنباريّ:يجوز أن يكون الأمار جمع أمارة، و يجوز أن يكونان اسما واحدا،كما تقول:جرّ و جرّة، و قمطر و قمطرة.(الهرويّ 1:84)

الأزهريّ: قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«خير المال سكّة مأبورة، أو مهرة مأمورة».

قال أبو عبيد: إنّها الكثيرة النّتاج و النّسل.

و قال غيره:إنّما هو«مهرة مأمورة»للازدواج،لأنّهم أتبعوها«مأبورة»فلمّا ازدوج اللّفظان جاءوا ب«مأمورة» على وزن«مأبورة»كما قالت العرب:إنّي آتيه بالغدايا و العشايا،و إنّما يجمع«الغداة»غدوات،فجاءوا ب«الغدايا»على لفظ«العشايا»تزويجا للّفظين،و لها نظائر.[و بعد نقل قول الفرّاء و أبي الهيثم قال:]

ص: 106

و الصّواب ما قال الفرّاء في«الأمرة»و أنّه الزّيادة.

و يقال:لك عليّ أمرة مطاعة،بالفتح لا غير.

ابن بزرج:قالوا:في وجه مالك تعرف أمرته،أي يمنه.

و«أمارته»مثله،و«أمرته».

و رجل أمر،و امرأة أمرة،إذا كانا ميمونين.

[و قيل:]الأمر:الحجارة.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال أبو عمرو:الأمرات:الأعلام،واحدتها:أمرة، و قال غيره:و أمارة،مثل«أمرة».[ثمّ استشهد بشعر]

و كلّ علامة تعدّ فهي أمارة.و تقول:هي أمارة ما بيني و بينك،أي علامة.[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل:رجل إمّر:لا رأي له،فهو يأتمر لكلّ أمر و يطيعه.[ثمّ استشهد بشعر]

قال:ابن مقبل:

*و يحذي الكميّ الزّاعبيّ المؤمّرا*

قال خالد:هو المسلّط.

و سمعت العرب تقول:أمّر قناتك،أي اجعل فيها سنانا.(15:291-296)

الجوهريّ: الأمر:واحد الأمور،يقال:أمر فلان مستقيم،و أموره مستقيمة.

و قولهم:«لك عليّ أمرة مطاعة»معناه لك عليّ أمرة أطيعك فيها،و هي المرّة الواحدة من الأمر.و لا تقل:إمرة بالكسر،إنّما الإمرة من الولاية.

و أمرته بكذا أمرا،و الجمع:الأوامر.

و الأمير:ذو الأمر،و قد أمر فلان و أمر أيضا بالضّمّ، أي صار أميرا،و الأنثى بالهاء.[ثمّ استشهد بشعر]

و المصدر:الإمرة،بالكسر.

و الإمارة:الولاية،يقال:فلان أمّر و أمّر عليه،إذ كان واليا و قد كان سوقة،أي أنّه مجرّب.

و يقال أيضا:«في وجه المال تعرف أمرته»أي نماءه و كثرته و نفقته.

و التّأمير:تولية الإمارة،يقال:هو أمير مؤمّر.

و تأمّر عليهم،أي تسلّط.و آمرته في أمري مؤامرة، إذا شاورته.و العامّة تقول:و امرته.

و ائتمر الأمر،أي امتثله.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:ائتمروا به،إذا همّوا به و تشاوروا فيه.

و الائتمار و الاستئمار:المشاورة،و كذلك التّآمر،على وزن«التّفاعل».[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمر بالتّحريك:جمع أمرة،و هي العلم الصّغير من أعلام المفاوز من الحجارة.[ثمّ استشهد بشعر]

و رجل إمّر و إمّرة،أي ضعيف الرّأي يأتمر لكلّ أحد، مثال إمّع و إمّعة.[ثمّ استشهد بشعر](2:580-582)

ابن فارس: الهمزة و الميم و الرّاء أصول خمسة:

الأمر من الأمور،و الأمر ضدّ النهي،و الأمر النّماء و البركة بفتح الميم،و المعلم،و العجب.

فأمّا الواحد من الأمور فقولهم:هذا أمر رضيته، و أمر لا أرضاه.و في المثل:«أمر ما أتى بك».و من ذلك في المثل:«لأمر ما يسوّد من يسود».

و الأمر الّذي هو نقيض النّهي قولك:افعل كذا.

و من هذا الباب الإمّر الّذي لا يزال يستأمر النّاس و ينتهي إلى أمرهم.

و يقول العرب:«من قلّ ذلّ،و من أمر فلّ»أي من

ص: 107

كثر غلب.و تقول:أمر بنو فلان أمرة،أي كثروا و ولدت نعمهم.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمار:أمار الطّريق:معالمه،الواحدة:أمارة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمر و اليأمور:العلم أيضا،يقال:جعلت بيني و بينه أمارا و وقتا و موعدا و أجلا،كلّ ذلك أمار.

(1:138)

أبو هلال :الفرق بين الخبر و الأمر:أنّ الأمر لا يتناول الآمر،لأنّه لا يصحّ أن يأمر الإنسان نفسه، و لا أن يكون فوق نفسه في الرّتبة.فلا يدخل الآمر مع غيره في«الأمر»و يدخل مع غيره في«الخبر»لأنّه لا يمتنع أن يخبر عن نفسه كإخباره عن غيره،و لذلك قال الفقهاء:إنّ أوامر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم تتعدّاه إلى غيره؛من حيث كان لا يجوز أن يختصّ بها.و فصلوا بينها و بين أفعاله بذلك،فقالوا:أفعاله لا تتعدّاه إلاّ بدليل.و قال بعضهم:بل حكمنا و حكمه في فعله سواء،فإذا فعل شيئا فقد صار كأنّه قال لنا:إنّه مباح.قال:و يختصّ العامّ بفعله كما يختصّ بقوله.

و يفرق بينهما أيضا من وجه آخر،و هو أنّ«النّسخ» يصحّ في«الأمر»و لا يصحّ في«الخبر»عند أبي عليّ و أبي هاشم رحمهما اللّه تعالى.

و ذهب أبو عبد اللّه البصريّ رحمه اللّه إلى أنّ «النّسخ»يكون في«الخبر»كما يكون في«الأمر».قال:

و ذلك مثل أن يقول:الصّلاة تلزم المكلّف في المستقبل،ثمّ يقول بعد مدّة:إنّ ذلك لا يلزمه،و هذا أيضا عند القائلين بالقول الأوّل أمر و إن كان لفظه لفظ الخبر.

و أمّا«الخبر»عند حال الشّيء الواحد المعلوم،أنّه لا يجوز خروجه عن تلك الحال،فإنّ«النّسخ»لا يصحّ في ذلك عند الجميع،نحو الخبر عن صفات اللّه بأنّه عالم و قادر.(30)

الفرق بين الدّلالة و الأمارة:أنّ«الدّلالة»عند شيوخنا ما يؤدّي النّظر فيه إلى العلم،و«الأمارة» ما يؤدّي النّظر فيه إلى غلبة الظّنّ،لنحو ما يطلب به من جهة القبلة،و يعرف به جزاء الصّيد و قيم المتلفات.

و«الظّنّ»في الحقيقة ليس يجب عن النّظر في الأمارة لوجوب النّظر عن العلم في الدّلالة،و إنّما يختار ذلك عنده.

ف«الأمارة»في الحقيقة ما يختار عنده الظّنّ،و لهذا جاز اختلاف المجتهدين مع علم كلّ واحد منهم بالوجه الّذي منه خالفه صاحبه،كاختلاف الصّحابة في مسائل الجدّ، و اختلاف آراء ذوي الرّأي في الحروب و غيرها،مع تقاربهم في معرفة الأمور المتعلّقة بذلك،و لهذا تستعمل الأمارة فيما كان عقليّا و شرعيّا.(53)

الفرق بين الأمارة و العلامة:أنّ«الأمارة»هي العلامة الظّاهرة،و يدلّ على ذلك أصل الكلمة و هو «الظّهور»،و منه قيل:أمر الشّيء،إذا كثر.و مع الكثرة ظهور الشّأن،و من ثمّ قيل:الأمارة لظهور الشّأن.و سمّيت «المشورة»أمارا،لأنّ الرّأي يظهر بها.و ائتمر القوم،إذا تشاوروا.[ثمّ استشهد بشعر](55)

الفرق بين العجب و الإمر:أنّ«الإمر»:العجب الظّاهر المكشوف،و الشّاهد أنّ أصل الكلمة«الظّهور» و منه قيل للعلامة:الأمارة،لظهورها.و الإمرة و الإمارة:

ظاهر الحال،و في القرآن لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً

ص: 108

الكهف:71.(213)

الهرويّ: في الحديث:«أميري من الملائكة جبريل»يعني وليّي و صاحب أمري.

و كلّ من فزعت إلى مشاورته و مؤامرته،فهو أميرك.

و أمير المرأة:بعلها.و أمير الأعمى:قائده.[ثمّ استشهد بشعر]

[قيل:]المؤتمر:الّذي يهمّ بالأمر؛يفعله.

يقال:بئس ما ائتمرت لنفسك.و كلّ من عمل برأيه فلا بدّ له من مواقعة الخطأ.

و في حديث:«لا يأتمر رشدا»أي لا يأتي برشد من ذات نفسه.

و يقال لكلّ من فعل فعلا من غير مشاورة:ائتمر.

(1:81)

ابن سيدة :الأمير:الملك و الوالي،الجمع:أمراء، و الأنثى:أميرة.

أمر فلان على القوم يأمر أمرا و إمارة و إمرة و أمر يأمر أمرا و إمارة،و أمر إمارة:صار أميرا.

و أمّره:جعله أميرا،فتأمّر،أي تسلّط.

و الإمارة:منصب الأمير،و جزء من الأرض يحكمه الأمير.(الإفصاح 1:315)

الأمير:هي الأنثى الّتي تبيض النّحال،و النّحال:

تبيض اليماخير.

و قيل:الأمير تبيض الأمراء و النّحال،و تخرج في كلّ بطن يماخير.(الإفصاح 2:901)

الطّوسيّ: «الإمر»مأخوذ من الأمر،لأنّه الفاسد الّذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصّلاح.

و منه رجل إمّر،إذا كان ضعيف الرّأي،لأنّه يحتاج أن يؤمر حتّى يقوّي رأيه.

و منه آمر القوم،إذا كثروا حتّى احتاجوا إلى من يأمرهم و ينهاهم.

و منه الأمر من الأمور،أي الشّيء الّذي من شأنه أن يؤمر فيه،و لهذا لم يكن كلّ شيء أمرا.(7:74)

الرّاغب: الأمر:الشّأن،و جمعه:أمور.و مصدر أمرته،إذا كلّفته أن يفعل شيئا،و هو لفظ عامّ للأفعال و الأقوال كلّها،و على ذلك قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ هود:123،و قال: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ آل عمران:154، وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ البقرة:

275.

و يقال للإبداع:أمر،نحو: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54،و يختصّ ذلك باللّه تعالى دون الخلائق.

و قد حمل على ذلك قوله: وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فصّلت:12،و على ذلك حمل الحكماء قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الإسراء:85،أي من إبداعه،و قوله:

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ النّحل:40،فإشارة إلى إبداعه.

و عبّر عنه بأقصر لفظة،و أبلغ ما يتقدّم فيه فيما بيننا بفعل الشّيء،و على ذلك قوله: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ القمر:50،فعبّر عن سرعة إيجاده بأسرع ما يدركه وهمنا.

و الأمر:التّقدّم بالشّيء سواء كان ذلك بقولهم:افعل و ليفعل،أو كان ذلك بلفظ خبر نحو: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ البقرة:228،أو كان بإشارة أو غير ذلك.أ لا ترى أنّه قد سمّى ما رأى إبراهيم في المنام من ذبح ابنه«أمرا»حيث قال: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ الصّافّات:

ص: 109

و الأمر:التّقدّم بالشّيء سواء كان ذلك بقولهم:افعل و ليفعل،أو كان ذلك بلفظ خبر نحو: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ البقرة:228،أو كان بإشارة أو غير ذلك.أ لا ترى أنّه قد سمّى ما رأى إبراهيم في المنام من ذبح ابنه«أمرا»حيث قال: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ الصّافّات:

102،فسمّى ما رآه في المنام من تعاطي الذّبح أمرا.[إلى أن قال:]

الائتمار:قبول الأمر،و يقال للتّشاور:ائتمار،لقبول بعضهم أمر بعض فيما أشار به،قال تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ القصص:20.[ثمّ استشهد بشعر]

و قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71، أي منكرا،من قولهم:أمر الأمر:أي كبر و كثر،كقولهم:

استفحل الأمر.(24)

الزّمخشريّ: «الائتمار»بمعنى التّآمر كالاشتوار بمعنى التّشاور،يقال:ائتمر القوم و تآمروا،إذا أمر بعضهم بعضا.(4:122)

إنّه لأمور بالمعروف نهوّ عن المنكر.و أمرت فلانا أمره،أي أمرته بما ينبغي له من الخير.[ثمّ استشهد بشعر]

و أمر إمر،أي عجب.

و أتمرت ما أمرتني به:امتثلت.

و فلان مؤتمر:مستبدّ.

يقال:فلان لا يأتمر رشدا،أي لا يأتي برشد من ذات نفسه.[ثمّ استشهد بشعر]

و تقول:أمرته فأتمر.و أبى أن يأتمر،أي استبدّ و لم يمتثل.

و تآمر القوم و أتمروا مثل تشاوروا و اشتوروا.

و مرني بمعنى أشر عليّ.[ثمّ استشهد بشعر]

و تقول:فلان بعيد من المئمر،قريب من المئبر،و هو المشورة«مفعل»من المؤامرة.و المئبر:النّميمة.

و هو أميري،أي مؤامري.و فلانة مطيعة لأميرها، أي لزوجها.

و رجل إمّرة:يقول لكلّ أحد مرني بأمرك.

و أمّر علينا فلان فنعم المؤمّر.و تأمّر علينا فحسنت إمرته.

و لك عليّ أمرة مطاعة،أي تأمرني مرّة واحدة فأطيعك.

و اجعله في تأمورك،و لقد علم تأمورك ذاك،و هو «تفعول»من الأمر،و هو القلب و النّفس،لأنّها الأمّارة.

و ما في الدّار تأمور،أي أحد.

و قلّ بنو فلان بعد ما أمروا،أي كثروا،و أمرهم اللّه تعالى.

و تقول العرب:الشّرّ أمر.و في مثل:«من قلّ ذلّ، و من أمر فلّ».

و تقول:إنّ ماله لأمر،و عهدي به و هو زمر.

و يقولون:ألقى اللّه في مالك الأمرة،و هي البركة و الزّيادة.

و أمّر فلان أمارة،إذا نصب علما.[ثمّ استشهد بشعر]

و من المجاز«مهرة مأمورة»:كثيرة النّتاج،كأنّها أمرت بذلك.و قيل لها:كوني نثورا،فكانت.

و ما في الرّكيّة تأمور،أي ماء،و هذا كما قيل له النّفس.[ثمّ استشهد بشعر](أساس البلاغة:9)

إنّ أميري من الملائكة جبريل.هو«فعيل»من المؤامرة و هي المشاورة.[ثمّ استشهد بشعر]

ص: 110

و مثله العشير و النّزيل،بمعنى المعاشر و المنازل،و هو من الأمر،لأنّ كلّ واحد منهما يباثّ صاحبه أمره،أو يصدر عن رأيه و ما يأمر به،و المراد وليّي و صاحبي الّذي أفزع إليه.(الفائق 1:56)

الطّبرسيّ: الأمر هو قول القائل لمن دونه:«افعل» هذه صيغته،ثمّ يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به.

و صيغة الأمر تستعمل في«الإباحة»نحو قوله:

فَاصْطادُوا المائدة:2،و في«التّهديد»نحو قوله:

اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فصّلت:40،و في«التّحدّي»نحو قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ البقرة:23،و في «التّكوين»كقوله: كُنْ فَيَكُونُ يس:82؛و الأصل في الجميع«الطّلب».(1:69)

نحوه النّيسابوريّ.(1:221)

الائتمار:قبول الأمر و ملاقاته بالتّقبّل.(5:309)

ابن الأثير: و فيه:[الحديث]«آمروا النّساء في أنفسهنّ»أي شاوروهنّ في تزويجهنّ.

و في حديث عليّ رضي اللّه عنه:«أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب ابنه»الإمرة بالكسر:الإمارة.

و في قول موسى للخضر عليهما السّلام: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71،الإمر بالكسر:الأمر العظيم الشّنيع، و قيل:العجب.

و في حديث آدم عليه السّلام:«من يطع إمّرة لا يأكل ثمرة» الإمّرة-بكسر الهمزة و تشديد الميم-تأنيث الإمّر،و هو الأحمق الضّعيف الرّأي الّذي يقول لغيره:مرني بأمرك، أي من يطع امرأة حمقاء يحرم الخير.

و قد تطلق«الإمّرة»على الرّجل،و الهاء للمبالغة،كما يقال:رجل إمّعة.

و الإمّرة أيضا:النّعجة،و كنّي بها عن المرأة كما كنّي عنها بالشّاة.(1:66)

ابن منظور :الأمر:الحادثة،و الجمع:أمور، لا يكسّر على غير ذلك.

و الأمير:الملك لنفاذ أمره،بيّن الإمارة و الأمارة.

و الجمع:أمراء.

و أمر علينا يأمر أمرا،و أمر و أمر كولي.

و التّأمير:تولية الإمارة.و أمير مؤمّر:مملّك.

و أولو الأمر:الرّؤساء،و أهل العلم.

و الأمر:الحجارة،واحدتها:أمرة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمرة:الرّابية،و الجمع:أمر.

و الأمارة و الأمار:الموعد و الوقت المحدود،و هو أمار لكذا،أي علم.

و المؤمّر:المحدّد،و قيل:الموسوم.و المؤمّر أيضا:

المسلّط،و تأمّر عليهم،أي تسلّط.

و أنت أعلم بتامورك؛تاموره:وعاؤه،يريد أنت أعلم بما عندك و بنفسك.

و قيل:التّامور:النّفس و حياتها،و قيل:العقل.

و التّامور أيضا:دم القلب،و حبّته و حياته.و قيل:هو القلب نفسه،و ربّما جعل خمرا،و ربّما جعل صبغا على التّشبيه.

و التّأمور:الولد.و التّامور:وزير الملك.و التّامور:

ناموس الرّاهب.

و التّامورة:عرّيسة الأسد،و قيل:أصل هذه الكلمة

ص: 111

سريانيّة.و التّامورة:الإبريق.[ثمّ استشهد بشعر]

و التّامورة:الحقّة.

و التّاموريّ و التأمريّ و التؤمريّ:الإنسان.

و ما رأيت تامريّا أحسن من هذه المرأة.

و ما بالدّار تأمور،أي ما بها أحد.

و ما بالرّكيّة تامور،يعني الماء.

و التّامور:من دوابّ البحر،و قيل:هي دويبة.

و التّامور:جنس من الأوعال،أو شبيه بها،له قرن واحد متشعّب في وسط رأسه.

و آمر:السّادس من أيّام العجوز،و مؤتمر:السّابع منها.[ثمّ استشهد بشعر](4:26-34)

الفيّوميّ:الأمر بمعنى الحال،جمعه:أمور،و عليه وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود:97.

و الأمر بمعنى الطّلب،جمعه:أوامر،فرقا بينهما.

و جمع الأمر أوامر،هكذا يتكلّم به النّاس.و من الأئمّة من يصحّحه و يقول في تأويله:إنّ الأمر مأمور به، ثمّ حوّل المفعول إلى فاعل،كما قيل:أمر عارف،و أصله معروف،و عيشة راضية و الأصل مرضيّة،إلى غير ذلك، ثمّ جمع«فاعل»على«فواعل»فأوامر جمع مأمور.

و إذا أمرت من هذا الفعل و لم يتقدّمه حرف عطف، حذفت الهمزة على غير قياس،و قلت:مره بكذا، و نظيره:كل و خذ.و إن تقدّمه حرف عطف فالمشهور ردّ الهمزة على القياس،فيقال:و أمر بكذا،و لا يعرف في «كل»و«خذ»إلاّ التّخفيف مطلقا.

و في أمرته لغتان،المشهور في الاستعمال قصر الهمزة،و الثّانية مدّها.

و الإمرة و الإمارة:الولاية بكسر الهمزة،يقال:أمر على القوم يأمر-من باب قتل-فهو أمير،و الجمع:

الأمراء.و يعدّى بالتّضعيف فيقال:أمّرته تأميرا.

و الأمارة:العلامة وزنا و معنى،و لك عليّ أمرة لا أعصيها بالفتح،أي مرّة واحدة.

و أمر الشّيء يأمر-من باب تعب-كثر،و يعدّى بالحركة و الهمزة يقال:أمرته أمرا-من باب قتل- و آمرته.

و الأمر:الحالة،يقال:أمر مستقيم،و الجمع:أمور، مثل فلس و فلوس.

و أمرته فائتمر،أي سمع و أطاع.و ائتمر بالشّيء:همّ به،و ائتمروا:تشاوروا.

و قولهم:أقلّ الأمرين أو أكثر الأمرين،من كذا و كذا،الوجه أن يكون بالواو،لأنّها عاطفة على«من» و نائبة عن تكريرها،و الأصل:من كذا و من كذا،فإنّ من كذا و كذا تفسير ل«الأمرين»مطابق لهما في التّعدّد، موضّح لمعناهما.و لو قيل:من كذا أو من كذا بالألف،لبقي المعنى أقلّ الأمرين،إمّا من هذا و إمّا من هذا،و كان أحدهما لا بعينه مفسّرا للاثنين،و هو ممتنع لما فيه من الإبهام،و لأنّ الواحد لا يكون له أقلّ أو أكثر،إلاّ أن يقال بالمذهب الكوفيّ،و هو إيقاع أو موقع الواو.

(1:21)

الفيروزآباديّ: الأمر:ضدّ النّهي كالإمار و الإيمار، بكسرهما.

و الآمرة على«فاعلة»أمره و به و آمره فأتمر.

و الحادثة.جمعها:أمور.و مصدر أمر علينا مثلّثة،إذا ولي،

ص: 112

و الاسم الإمرة بالكسر،و قول الجوهريّ:مصدر،و هم.

و له عليّ أمرة مطاعة بالفتح للمرّة منه،أي له عليّ أمرة أطيعه فيها.

و الأمير:الملك،و هي بهاء،بيّن الإمارة و يفتح، جمعه:أمراء،و قائد الأعمى،و الجار،و المشاور.

و المؤمّر كمعظّم:المملّك و المحدّد و الموسوم و القناة إذا جعلت فيها سنانا،و المسلّط.

و أولو الأمر:الرّؤساء و العلماء.

و أمر كفرح أمرا و أمرة:كثر و تمّ فهو أمر،و الأمر اشتدّ،و الرّجل كثرت ماشيته.

و آمره اللّه و أمره كنصره لغيّة:كثّر نسله و ماشيته.

و الأمر ككتف:المبارك.

و رجل إمّر كامّع و إمّعة و يفتحان:ضعيف الرّأي، يوافق كلّ أحد على ما يريد من أمره كلّه،و هما الصّغير من أولاد الضّأن.

و الأمرة محرّكة:الحجارة و العلامة و الرّابية،جمع الكلّ:أمر.

و الأمارة و الأمار بفتحهما:الموعد و الوقت و العلم.

و أمر إمر:منكر عجب،و ما بها أمر محرّكة.و تأمور و تؤمور،أي أحد.

و الائتمار:المشاورة كالمؤامرة،و الاستئمار و التّأمّر و الهمّ بالشّيء.

و التّأمور:الوعاء و النّفس و حياتها،و القلب و حبّته و حياته و دمه،أو الدّم و الزّعفران،و الولد و وعاؤه، و وزير الملك،و لعب الجواري أو الصّبيان،و صومعة الرّاهب و ناموسه،و الماء و عرّيسة الأسد،و الخمر و الإبريق و الحقّة،كالتّأمورة في هذه الأربعة،وزنه «تفعول».و هذا موضع ذكره،لا كما توهّم الجوهريّ.

و التّأموريّ و التّأمريّ و التّؤمريّ:الإنسان.

و آمر و مؤتمر:آخر أيّام العجوز.

و المؤتمر و مؤتمر:المحرّم،جمعه:مآمر و مآمير،و إمّرة كامّعة:بلدة و جبل.و وادي الأميّر مصغّرا:موضع،و يوم المأمور:لبني الحرث.

«و خير المال مهرة مأمورة و سكّة مأبورة»أي مهرة كثيرة النّتاج و النّسل.و الأصل:مؤمرة،و إنّما هو للازدواج،أو لغيّة كما سبق.

و تأمّر عليهم:تسلّط.

و اليأمور:دابّة برّيّة،أو جنس من الأوعال.

و التّآمير:الأعلام في المفاوز،الواحد:تؤمور،و بنو عيد بن الآمريّ كعامريّ،نسب إليه النّجائب العيديّة.

(1:379)

الطّريحي: الإمرة بالكسر:الولاية.

و في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين»،و منه سمّي أمير المؤمنين عليه السّلام.

و في الحديث: «هو اسم سمّاه اللّه تعالى به لم يسمّ به أحد قبله،و لم يسمّ بعده،حتّى قائم أهل البيت عليهم السّلام لم يسلّم عليه بذلك بل يقال:السّلام عليك يا بقيّة اللّه».

(3:210)

الزّبيديّ: قد وقع في مصنّفات الأصول الفرق في الجمع،فقالوا:«الأمر»إذا كان بمعنى ضدّ النّهي،فجمعه:

أوامر،و إذا كان بمعنى«الشّأن»فجمعه:أمور؛و عليه أكثر الفقهاء،و هو الجاري في ألسنة الأقوام.

ص: 113

و حقّق شيخنا في بعض الحواشي الأصوليّة ما نصّه:

اختلفوا في واحد«أمور»و«أوامر»فقال الأصوليّون:إنّ «الأمر»بمعنى القول المخصوص،يجمع على أوامر،و بمعنى الفعل أو الشّأن يجمع على أمور.

و لا يعرف من وافقهم إلاّ الجوهريّ في قوله:أمره بكذا أمرا،و جمعه:أوامر.

و أمّا الأزهريّ فإنّه قال:«الأمر»ضدّ النّهي،واحد الأمور.

و في«المحكم»:لا يجمع«الأمر»إلاّ على أمور،و لم يذكر أحد من النّحاة إنّ«فعلا»يجمع على«فواعل»،أو أنّ شيئا من الثّلاثيّات يجمع على«فواعل».(3:17)

محمّد إسماعيل إبراهيم:الأمّار:الكثير الأمر، و مؤنّثه أمّارة.

و الأمر:الحال و الشّأن،و جمعه:أمور،و منه قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ آل عمران:128.

و الإمر،بكسر الهمزة و سكون الميم:العجيب المنكر.

و أولو الأمر:الرّؤساء و العلماء.(1:45)

الطّباطبائيّ: الأمر:يستعمل في معنى الشّأن، و جمعه:أمور،و مصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده،يقال:أمرته بكذا أمرا.و ليس من البعيد أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللّفظ،ثمّ يستعمل«الأمر»اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر،و هو النّظم المستقرّ في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته،فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة،ثمّ يتوسّع فيه فيستعمل بمعنى«الشّأن»في كلّ شيء،فأمر كلّ شيء هو الشّأن الّذي يصلح له وجوده،و ينظم له تفاريق حركاته و سكناته و شتّى أعماله و إرادته.يقال:

أمر العبد إلى مولاه،أي هو يدبّر حياته و معاشه،و أمر المال إلى مالكه،و أمر الإنسان إلى ربّه،أي بيده تدبيره في مسير حياته.(8:151)

العدنانيّ: «قاما أو قاموا بمؤامرة لقتل الحاكم»

و يقولون:قام فلان بمؤامرة لقتل الحاكم،و الصّواب:

قام فلان و فلان...أو أكثر من اثنين،بمؤامرة لقتل الحاكم، لأنّ المؤامرة كما جاء في المعجم الكبير هي:

أ-اتّفاق جنائيّ خاصّ بين شخصين أو أكثر،يكون الغرض منه ارتكاب جريمة من الجرائم المضرّة بسلامة أمن الدّولة.و يعاقب القانون على مجرّد هذا الاتّفاق و لو لم ينفّذ أو يشرع في تنفيذ ما يهدف إليه«محدثة».

ب-المؤامرة في اصطلاح الدّيوان القديم:هي عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة في مدّة أيّام الطّمع،و يوقّع السّلطان في آخره بإجازة ذلك.و قد تعمل المؤامرة في كلّ ديوان تجمع جميع ما يحتاج إليه،من استئمار و استدعاء و توقيع.(26)

محمود شيت: 1-أ-أمر عليهم أمرا و إمارة و إمرة:

صار عليهم أميرا.

و أمر فلانا أمرا و إمارة و آمرة:كلّفه شيئا.و الأمر منه:مر.و يقال:أمره به،و أمره إيّاه.و أمرته أمري:

ما ينبغي لي أن آمره به.

ب-أمر عليهم أمرا و إمارة:صار أميرا.و أمر الأمر:

اشتدّ.

ج-أمّر عليهم أمارة:صار أميرا.

د-آمر فلانا في الأمر مؤامرة:شاوره.

ص: 114

ه-أمّر فلان أمارة:نصب علامة.و أمّر فلانا:صيّره أميرا.و أمّر الشّيء:جعل له حدودا بالعلامات.و أمّر السّنان:حدّده.و أمّر القناة:ركّب فيها سنانا.

و-ائتمر:مطاوع أمره.يقال:أمرته فأتمر.و ائتمر القوم:تشاوروا.و ائتمروا بالشّيء:همّوا به.و ائتمروا بفلان:تشاوروا في إيذائه.و ائتمر كفلان برأيه:استبدّ.

ز-تآمروا:تشاوروا.و تآمروا عليه:تشاوروا في إيذائه.

ح-استأمره:طلب أمره.و استأمره:استشاره.

ط-الأمارة:العلامة.و الأمارة:الموعد و الوقت.

ي-الإمارة:منصب الأمير،و الإمارة:جزء من الأرض يحكمه الأمير.

ك-الأمر:الحال و الشّأن،و منه قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ آل عمران:128،الجمع:أمور.

و الأمر:الطّلب أو المأمور به،أو ما يقتضي تنفيذه.الجمع:

أوامر.و أولو الأمر:الرّؤساء و العلماء.

ل-الإمر؛يقال:أمر إمر:عجيب منكر.

م-الإمرة:الإمارة.

ن-الأمير:من يتولّى الإمارة.الجمع:أمراء.

2-أ-آمر:آمر حضيرة،و آمر فصيل،و آمر رعيل، و آمر سريّة،و آمر بطريّة،و آمر فوج،و آمر كتيبة، و آمر لواء،و آمر جحفل،و آمر المدفعيّة،و آمر الهندسة، و آمر الدّروع،و آمر المشاة،و آمر مدرسة،و آمر كلّيّة، و آمر معمل،و آمر مستشفى.

ب-الأمراء:جمع آمر.و الأمراء:صنف من الضّبّاط ذوي الرّتب العالية:لواء،و فريق،و مهيب،و مشير.

ج-إمرة:عند ما يكون العسكريّ بدون منصب معيّن،يكون بالإمرة.

د-مؤتمر:اجتماع للمشاورة و التّخطيط.

ه-أمارة:علامات الطّريق،و إشارات دالّة على موضع أو موقع أو مكان معيّن.(1:51)

المصطفويّ: الأصل الواحد في هذه المادّة هو:

الطّلب مع الاستعلاء و التّكليف.

ثمّ يطلق على كلّ ما يكون مطلوبا و موردا لتوجّه تكليف من جانب مولى أو من جانب نفسه،صريحا أو مقدّرا.

و أمر بكسر العين،مأخوذ من هذا المعنى أيضا.فإنّ أمر متعدّيا،إذا أريد لزومه تكسر عينه،و يكون الطّلب مع الاستعلاء بمعنى العلوّ و الكبر لازما في نفسه.

و منه يؤخذ معنى المنكر و العجب و النّماء و البركة.

و كذلك العلامة من جهة كونها علامة للطّلب و المطلوب.

فمعنى:الطّلب و الاستعلاء في جميع هذه الموارد محفوظ،فهذه المادّة تطلق على تلك المعاني بهذه الحيثيّة لا مطلقا،و باعتبار هذا القيد يحصل الفرق بين الأمارة و العلامة،و بين الأمر و الشّأن،و بين أمر و كثر،و هكذا بينها و بين العجب و النّماء و البركة.(1:132)

النّصوص التّفسيريّة

اشارة

1- ..وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ...

البقرة:27

الحسن :معناه أمروا بصلة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين،

ص: 115

فقطعوهم.(الطّبرسيّ 1:70)

مثله الأصمّ.(أبو الفتوح الرّازيّ 1:75)

أنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قطعوه بالتّكذيب و العصيان.

(أبو حيّان 1:128)

قتادة :و اللّه ما أمر اللّه به أن يوصل بقطيعة الرّحم و القرابة.(الطّبريّ 1:185)

أمروا بالقول و العمل،فقالوا فلم يعملوا،فلم يصلوا القول بالعمل.(الميبديّ 1:121)

الطّبريّ: الّذي رغب اللّه في وصله،و ذمّ على قطعه في هذه الآية:الرّحم،و قد بيّن ذلك في كتابه،فقال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ محمّد:22،و إنّما عنى بالرّحم:أهل الرّجل الّذين جمعتهم و إيّاه رحم والدة واحدة،و قطّع ذلك ظلمه في ترك أداء ما ألزم اللّه من حقوقها،و أوجب من برّها و وصلها،أداء الواجب لها إليها:من حقوق اللّه الّتي أوجب لها،و التّعطّف عليها بما يحقّ التّعطّف به عليها.

و(ان)الّتي مع(يوصل)في محلّ خفض بمعنى ردّها على موضع الهاء الّتي في(به).و كان معنى الكلام:و يقطعون الّذي أمر اللّه بأن يوصل،و الهاء الّتي في(به)هي كناية عن ذكر(ان يوصل).(1:184)

الميبديّ: و يقطعون ما أمر اللّه باتّصاله من تصديق الأنبياء،و اتّصال تصديق موسى عليه السّلام بتصديق محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و اتّصال تعظيم السّبت بالجمعة،و اتّصال استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة،و اتّصال إطاعة التّوراة و الإنجيل بإطاعة القرآن.

و قيل:يريد بذلك قطع الرّحم،فإنّ قريشا قطعوا رحم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالمعاداة معه.

و قيل:أمروا بتصديق الأنبياء كلّهم فآمنوا بالبعض و كفروا بالبعض،و المؤمنون وصلوا،فقالوا: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ البقرة:285(1:121)

الزّمخشريّ: قطعهم الأرحام و موالاة المؤمنين.

و قيل:قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة و الاتّحاد و الاجتماع على الحقّ،في إيمانهم ببعض و كفرهم ببعض.

فإن قلت:ما الأمر؟قلت:طلب الفعل ممّن هو دونك و بعثه عليه.و به سمّي«الأمر»الّذي هو واحد الأمور، لأنّ الدّاعي الّذي يدعو إليه من يتولاّه،شبّه بآمر يأمره به؛فقيل له:أمر،تسمية للمفعول به بالمصدر،كأنّه مأمور به،كما قيل له:«شأن»،و الشّأن:الطّلب و القصد،يقال:

شأنت شأنه،أي قصدت قصده.(1:269)

الطّبرسيّ: قيل:معناه الأمر بوصل كلّ من أمر اللّه بصلته من أوليائه،و القطع و البراءة من أعدائه.و هذا أقوى،لأنّه أعمّ،و يدخل فيه الجميع.(1:70)

الفخر الرّازيّ:اختلفوا في المراد من قوله تعالى:

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ البقرة:27، فذكروا وجوها:

أحدها:أراد به قطيعة الرّحم و حقوق القرابات الّتي أمر اللّه بوصلها،و هو كقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ محمّد:22،و فيه إشارة إلى أنّهم قطعوا ما بينهم و بين النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من القرابة؛و على هذا التّأويل تكون الآية خاصّة.

و ثانيها:أنّ اللّه تعالى أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل

ص: 116

المؤمنين،فهم انقطعوا عن المؤمنين و اتّصلوا بالكفّار، فذاك هو المراد من قوله: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.

و ثالثها:أنّهم نهوا عن التّنازع و إثارة الفتن،و هم كانوا مشتغلين بذلك.(2:148)

القرطبيّ: قيل:الإشارة إلى دين اللّه،و عبادته في الأرض،و إقامة شرائعه،و حفظ حدوده،فهي عامّة في كلّ ما أمر اللّه تعالى به أن يوصل.هذا قول الجمهور، و الرّحم جزء من هذا.(1:247)

أبو حيّان: فيه خمسة أقوال:

أحدها:أنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قطعوه بالتّكذيب و العصيان،قاله الحسن.و فيه ضعف؛إذ لو كان كما قال، لكان(من)مكان(ما).

الثّاني:القول،أمر اللّه أن يوصل بالعمل فقطعوا بينهما قالوا و لم يعملوا،يشير إلى أنّها نزلت في المنافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

الثّالث:التّصديق بالأنبياء،أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض و تصديق بعض.

الرّابع:الرّحم و القرابة،قاله قتادة.و هذا يدلّ على أنّه أراد كفّار قريش و من أشبههم.

الخامس:أنّه على العموم في كلّ ما أمر اللّه به أن يوصل.و هذا هو الأوجه،لأنّ فيه حمل اللّفظ على مدلوله من العموم،و لا دليل واضح على الخصوص.

و أجاز أبو البقاء أن تكون(ما)نكرة موصوفة.و قد بيّنّا ضعف القول بأنّ(ما)تكون موصوفة خصوصا هنا؛ إذ يصير المعنى:و يقطعون شيئا أمر اللّه به أن يوصل،فهو مطلق،و لا يقع الذّمّ البليغ و الحكم بالفسق و الخسران بفعل مطلق ما،و الأمر هو استدعاء الأعلى الفعل من الأدنى.

قال الزّمخشريّ: و بعثه عليه-و هي نكتة اعتزاليّة لطيفة-قال:و به سمّي«الأمر»الّذي هو واحد الأمور، لأنّ الدّاعي الّذي يدعو إليه من لا يتولاّه،شبّه بآمر يأمره به،فقيل له:أمر،تسمية للمفعول به بالمصدر،كأنّه مأمور به،كما قيل له:«شأن»،و الشّأن:الطّلب و القصد، يقال:شأنت شأنه،أي قصدت قصده.

و أمر يتعدّى إلى اثنين،و الأوّل محذوف لفهم المعنى، أي ما أمر اللّه به.(1:128)

الآلوسيّ: الأمر:القول الطّالب للفعل مع علوّ،عند المعتزلة،أو استعلاء عند أبي الحسين.و يفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون: فَما ذا تَأْمُرُونَ الأعراف:110،و يطلق على التّكلّم بالصّيغة و على نفسها.و في موجبها خلاف،و هذا هو الأمر الطّلبيّ.

و قد نقل إلى الأمر الّذي يصدر عن الشّخص،لأنّه يصدر عن داعية تشبه الأمر،فكأنّه مأمور به،أو لأنّه من شأنه أن يؤمر به،كما سمّي الخطب و الحال العظيمة شأنا.و هو مصدر في الأصل بمعنى القصد،و سمّي به ذلك، لأنّ من شأنه أن يقصد.

و ذهب الفقهاء إلى أنّ«الأمر»مشترك بين القول و الفعل،لأنّه يطلق عليه مثل: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. هود:97.(1:212)

رشيد رضا :هذا الأمر نوعان:أمر تكوين،و هو ما عليه الخلق من النّظام و السّنن المحكمة.و قد سمّى اللّه

ص: 117

تعالى التّكوين أمرا،بما عبّر عنه بقوله:(كن).و أمر تشريع،و هو ما أوحاه إلى أنبيائه،و أمر النّاس بالأخذ به.

و من النّوع الأوّل ترتيب النّتائج على المقدّمات، و وصل الأدلّة بالمدلولات،و إفضاء الأسباب إلى المسبّبات،و معرفة المنافع و المضارّ بالغايات.فمن أنكر نبوّة النّبيّ بعد ما قام الدّليل على صدقه أو أنكر سلطان اللّه على عباده بعد ما شهدت له بها آثاره في خلقه،فقد قطع ما أمر اللّه به أن يوصل،بمقتضى التّكوين الفطريّ.

و كذلك من أنكر شيئا ممّا علم أنّه جاء به الرّسول، لأنّه إن كان من الأصول الاعتقاديّة ففيه القطع بين الدّليل و المدلول.و إن كان من الأحكام العمليّة ففيه القطع بين المبادئ و الغايات،لأنّ كلّ ما أمر الدّين به قطعا فهو نافع،و منفعته تثبتها التّجربة و الدّليل،و كلّ ما نهى عنه حتما فلا بدّ أن تكون عاقبته مضرّة.

فالّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه هم الّذين يقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل بغايته.أمّا بالنّسبة إلى الإيمان باللّه تعالى و بالنّبوّة،فيقطعون ما أمر به بمقتضى التّكوين و النّظام الفطريّ.و أمّا بالنّسبة إلى الأحكام، فيقطعون ما أمر به في كتبه أمر تشريع و تكليف،و صلة الأرحام تدخل في كلّ من القسمين.

إذا كان مشركو العرب قد نقضوا عهد الفطرة و قطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل بمقتضاها،بتكذيبهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و إيذائه،و هو ذو رحم بهم؛فالمكذّبون من أهل الكتابين قد قطعوا صلات الأمرين كما نقضوا العهدين.

فإنّ اللّه تعالى قد بشّرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّه ذكر للمبشّر به صفات و أعمالا و أحوالا تنطبق عليه أتمّ الانطباق،فحرّفوا و أوّلوا و اجتهدوا في صرفها عنه،و هم متعمّدون: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ البقرة:146،و منهم من يحمل تلك الصّفات و العلامات على غيره،و منهم ينتظر مبعوثا آخر يجيء الزّمان به.(1:243)

2- لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. النّساء:114

الزّمخشريّ: إن قلت:كيف قال:(الاّ من أمر)ثمّ قال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ؟

قلت:قد ذكر الآمر بالخير ليدلّ به على فاعله،لأنّه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيّرين كان الفاعل فيهم أدخل.ثمّ قال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فذكر الفاعل و قرن به الوعد بالأجر العظيم.و يجوز أن يراد:و من يأمر بذلك، فعبّر عن«الأمر»بالفعل،كما يعبّر به سائر الأفعال.

(1:563)

مثله الفخر الرّازيّ.(11:42)

الطّباطبائيّ: قد سمّي دعوة النّجوى إلى الخير أمرا،ذلك من قبيل الاستعارة.(5:81)

3- ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ... يوسف:40

الطّوسيّ: الأمر:قول القائل لمن دونه:افعل، و الصّحيح أنّه يقتضي الإيجاب.و قوله: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ، معناه أمر أن تعبدوه،و كره منكم عبادة غيره، لأنّ الأمر لا يتعلّق بأن لا يكون الشّيء،لأنّه إنّما يكون أمرا بإرادة المأمور،و الإرادة لا تتعلّق إلاّ بحدوث الشّيء.

ص: 118

الطّوسيّ: الأمر:قول القائل لمن دونه:افعل، و الصّحيح أنّه يقتضي الإيجاب.و قوله: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ، معناه أمر أن تعبدوه،و كره منكم عبادة غيره، لأنّ الأمر لا يتعلّق بأن لا يكون الشّيء،لأنّه إنّما يكون أمرا بإرادة المأمور،و الإرادة لا تتعلّق إلاّ بحدوث الشّيء.

(6:143)

الرّازيّ: إن قيل:كيف قال تعالى: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ فسّر الأمر بالنّهي أو بما جزؤه النّهي،و هما ضدّان؟

قلنا:فيه إضمار أمر آخر،تقديره:أمر أمرا اقتضى أن لا تعبدوا إلاّ إيّاه،و هو قوله تعالى: فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ العنكبوت:56،فإنّه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر،كما قال في قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ الحمد:4.

الثّاني:أنّ فيه إضمار نهي،تقديره:أمر و نهى،ثمّ فسّر الأمرين بقوله تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ.

الثّالث:أنّ قوله تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا و إن كان مضادّا للأمر من حيث اللّفظ فهو موافق له من حيث المعنى.فلم قلتم إنّ تفسير الشّيء بما يضادّه صورة و يوافقه معنى غير جائز،بيان موافقته معنى من وجهين:

أحدهما:أنّ النّهي عن الشّيء أمر بضدّه،و عبادة اللّه ضدّ لا عبادة اللّه.

الثّاني:أنّ معنى مجموع قوله تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ اعبدوه وحده،فيكون تفسيرا للأمر المطلق بفرد من أفراده،و أنّه جائز.(مسائل الرّازيّ:150)

الآلوسيّ: أي بأن لا تعبدوا أحدا إِلاّ إِيّاهُ حسبما يقتضي به قضيّة العقل أيضا.و الجملة استئناف مبنيّ على سؤال ناشئ من الجملة السّابقة،كأنّه قيل:فما ذا حكم اللّه سبحانه في هذا الشّأن؟فقيل:(امر)إلخ.

و قيل:في موضع التّعليل لمحذوف،كأنّه قيل:حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلاّ له فلا تكون العبادة إلاّ له سبحانه،أو لمن يأمر بعبادته،و هو لا يأمر بذلك و لا يجعله لغيره،لأنّه سبحانه: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ و هو خلاف الظّاهر.

و جوّز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطّرز لسدّ الطّرق في توجيه صحّة عبادة الأصنام عليهم أحكم سدّ،فإنّهم إن قالوا:إنّ اللّه تعالى قد أنزل حجّة في ذلك، ردّوا بقوله: ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يوسف:40، و إن قالوا:حكم لنا بذلك كبراؤنا،ردّوا بقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يوسف:40،و إن قالوا:حيث لم ينزل حجّة في ذلك و لم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفا؛إذ عدم إنزال حجّة على البطلان،ردّوا بقوله: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ. (12:245)

4- وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ... الرّعد:21

ابن عبّاس: هو صله الرّحم.(الطّبرسيّ 3:289)

مثله قتادة.(الآلوسيّ 13:140)

الإيمان بجميع الكتب و الرّسل كلّهم.

مثله سعيد بن جبير.(القرطبيّ 9:310)

الحسن :هو صلة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و مؤازرته و معاونته و الجهاد معه.(الطّبرسيّ 3:289)

الإمام الباقر عليه السّلام: قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«برّ الوالدين و صلة الرّحم يهوّنان الحساب»ثمّ تلا هذه

ص: 119

الآية.(الطّبرسيّ 3:289)

الإمام الصّادق عليه السّلام: [لمّا حضرته الوفاة قال:] أعطوا الحسن بن الحسين بن عليّ بن الحسين-و هو الأفطس-سبعين دينارا.فقالت له أمّ ولد له:أ تعطي رجلا حمل عليك بالشّفرة؟فقال لها:ويحك أ ما تقرئين قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ... (الطّبرسي 3:289)

الإمام الكاظم عليه السّلام: [حول هذه الآية قال:]

صلة آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله معلّقة بالعرش،تقول:اللّهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني،و هي تجري في كلّ رحم.

(الطّبرسيّ 3:289)

الإمام الرّضا عليه السّلام: روى الوليد بن أبان عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال:قلت له:هل على الرّجل في ماله سوى الزّكاة؟قال:نعم،أين ما قال اللّه: وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ... (الطّبرسيّ 3:289)

الجبّائيّ: هو ما يلزم من صلة المؤمنين بأن يتولّوهم و ينصروهم و يذبّوا عنهم،و يدخل فيه صلة الرّحم، و غير ذلك.

مثله أبو مسلم.(الطّبرسيّ 3:289)

الزّمخشريّ: من الأرحام و القرابات،و يدخل فيه وصل قرابة رسول اللّه،و قرابة المؤمنين الثّابتة بسبب الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات:10، بالإحسان إليهم على حسب الطّاقة،و نصرتهم،و الذّبّ عنهم،و الشّفقة عليهم،و النّصيحة لهم،و طرح التّفرقة بين أنفسهم و بينهم،و إفشاء السّلام عليهم،و عيادة مرضاهم،و شهود جنائزهم،و منه مراعاة حقّ الأصحاب و الخدم و الجيران و الرّفقاء في السّفر،و كلّ ما تعلّق منهم بسبب حتّى الهرّة و الدّجاجة.(2:357)

نحوه الفخر الرّازيّ.(19:41)

الطّبرسيّ: المراد به الإيمان بجميع الرّسل و الكتب، كما في قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ البقرة:285.

(3:289)

مثله شبّر.(3:331)

الآلوسيّ:الظّاهر العموم في كلّ ما أمر اللّه تعالى به في كتابه،و على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم.(13:140)

نحوه سيّد قطب.(4:2057)

الطّباطبائيّ: الظّاهر أنّ المراد ب«الأمر»هو الأمر التّشريعيّ النّازل بشهادة ذيل الآية: وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ الرّعد:21،فإنّ الحساب على الأحكام النّازلة في الشّريعة ظاهرا و إن كانت مدركة بالفطرة، كقبح الظّلم و حسن العدل،فإنّ المستضعف الّذي لم يبلغه الحكم الإلهيّ و لم يقصّر لا يحاسب عليه،كما يحاسب غيره.و قد تقدّم في أبحاثنا السّابقة أنّ الحجّة لا تتمّ على الإنسان بمجرّد الإدراك الفطريّ لو لا انضمام طريق الوحي إليه،قال تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ النّساء:165.

و الآية مطلقة،فالمراد به،كلّ صلة أمر اللّه سبحانه بها،و من أشهر مصاديقه صلة الرّحم الّتي أمر اللّه بها و أكّد القول في وجوبها،قال تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ النّساء:1.

و قد أكّد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله:

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ الرّعد:،21،

ص: 120

فأشار إلى أنّ في ترك الصّلة مخالفة لأمر اللّه-فليخش اللّه في ذلك-و عملا سيّئا مكتوبا في صحيفة العمل،محفوظا على الإنسان،يجب أن يخاف من حسابه السّيّئ.

(11:342)

5- أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى .العلق:12

الطّبريّ: أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم هذا الّذي ينهى عن الصّلاة، باتّقاء اللّه،و خوف عقابه.(30:254)

مثله الطّوسيّ.(10:381)

الطّبرسيّ: يعني بالإخلاص و التّوحيد و مخافة اللّه تعالى.و هاهنا حذف أيضا،تقديره:كيف يكون حال من ينهاه عن الصّلاة و يزجره عنها.(5:515)

البروسويّ: أي أمر بالتّقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده.

و هذه الجملة الشّرطيّة بجوابها المحذوف-و هو أ لم يعلم بأنّ اللّه يرى-سدّت مسدّ المفعول الثّاني،فإنّ المفعول الثّاني ل(أ رأيت)لا يكون إلاّ جملة استفهاميّة أو قسميّة.و إنّما حذف جواب هذه الشّرطيّة اكتفاء عنه بجواب الشّرطيّة،لأنّ قوله: إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى العلق:

13،مقابل للشّرط الأوّل،و هو: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى العلق:11،12.

و الآية في الحقيقة تهكّم بالنّاهي،ضرورة أنّه ليس في النّهي عن عبادته تعالى و الأمر بعبادة الأصنام،على هدى البتّة.(10:475)

امرهم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ .التّحريم:6

الطّوسيّ: إنّما أمرهم اللّه بتعذيب أهل النّار على وجه الثّواب لهم،بأن جعل سرورهم و لذّاتهم في تعذيب أهل النّار،كما جعل سرور المؤمنين و لذّاتهم في الجنّة.

(10:51)

مثله الطّبرسيّ.(5:318)

الزّمخشريّ: ما أَمَرَهُمْ في محلّ النّصب على البدل،أي لا يعصون ما أمر اللّه،أي أمره،كقوله تعالى:

أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي طه:93،أو لا يعصونه فيما أمرهم.

فإن قلت:أ ليست الجملتان في معنى واحد؟

قلت:لا،فإنّ معنى الأولى أنّهم يتقبّلون أوامره و يلتزمونها و لا يأبونها و لا ينكرونها،و معنى الثّانية أنّهم يؤدّون ما يؤمرون به،لا يتثاقلون عنه و لا يتوانون فيه.(4:129)

الرّازيّ:إن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ بعد قوله سبحانه: لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ؟

قلنا:قيل:المراد بالأمر الأوّل الأمر بالعبادات و الطّاعات،و بالأمر الثّاني الأمر بتعذيب أهل النّار.

و قيل:هو تأكيد.(مسائل الرّازيّ:350)

البروسويّ:أي أمره في عقوبة الكفّار و غيرها، على أنّه بدل اشتمال من(اللّه)و(ما)مصدريّة،أو فيما أمرهم به،على نزع الخافض و(ما)موصولة،أي

ص: 121

لا يمتنعون من قبول الأمر،و يلتزمونه و يعزمون على إتيانه.فليست هذه الجملة مع الّتي بعدها في معنى واحد.

و قال القاضي:لا يعصون اللّه ما أمرهم فيما مضى، و يستمرّون على فعل ما يؤمرون به في المستقبل.

قال بعضهم:لعلّ التّعبير في«الأمر»أوّلا بالماضي مع نفي«العصيان»بالمستقبل لما أنّ العصيان و عدمه يكونان بعد الأمر،و ثانيا بالمستقبل لما أمرهم بعذاب الأشقياء يكون مرّة بعد مرّة.(10:60)

امركم

...فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ... البقرة:222

ابن عبّاس: من حيث أمركم أن تعتزلوهنّ.

مثله عكرمة و عثمان بن الأسود.(الطّبريّ 2:387)

في الفرج لا تعدوه إلى غيره،فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى.

مثله مجاهد و النّخعيّ.(الطّبريّ 2:387)

و مثله قتادة و الرّبيع.(الطّوسيّ 2:222)

من قبل الطّهر لا من قبل الحيض.

مثله أبو رزين و الضّحّاك.(القرطبيّ 3:91)

مثله السّدّيّ.(الطّوسيّ 2:222)

ابن الحنفيّة: من قبل الحلال،من قبل التّزويج.(الطّبريّ 2:389)

مجاهد :دبر المرأة مثله من الرّجل،ثمّ قرأ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ من حيث أمركم أن تعتزلوهنّ.

(الطّبريّ 2:388)

إذا تطهّرن فأتوهنّ من حيث نهى عنه في المحيض.

مثله قتادة و الرّبيع و أبو رزين و عكرمة.

(الطّبريّ 2:388)

قتادة :طواهر من غير جماع،و من غير حيض،من الوجه الّذي يأتي المحيض،و لا يتعدّى إلى غيره.

(الطّبريّ 2:388)

الإمام الصّادق عليه السّلام: عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها.قال:لا بأس إذا رضيت.

قلت:فأين قول اللّه: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ البقرة:222،قال:هذا في طلب الولد،فاطلبوا الولد من حيث أمركم اللّه،إنّ اللّه تعالى يقول: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ البقرة:223.

(العروسيّ 1:214)

الفرّاء: لو أراد الفرج لقال:في حيث،فلمّا قال:

مِنْ حَيْثُ علمنا أنّه أراد من الجهة الّتي أمركم اللّه بها.

(الطّوسيّ 2:222)

الأصمّ:أي من الوجه الّذي أذن لكم فيه،أي من غير صوم و إحرام و اعتكاف.(القرطبيّ 3:90)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ فقال بعضهم:معنى ذلك فأتوا نساءكم إذا تطهّرن من الوجه الّذي نهيتكم عن إتيانهنّ منه في حال حيضهنّ؛و ذلك الفرج الّذي أمر اللّه بترك جماعهنّ فيه،في حال الحيض.

و قال آخرون:معناه فأتوهنّ من الوجه الّذي أمركم اللّه فيه أن تأتوهنّ منه،و ذلك الوجه هو الطّهر دون

ص: 122

الحيض؛فكان معنى قائل ذلك في الآية:فأتوهنّ من قبل طهرهنّ،لا من قبل حيضهنّ.

و قال آخرون:بل معنى ذلك فأتوا النّساء من قبل النّكاح،لا من قبل الفجور.

و أولى الأقوال بالصّواب في تأويل ذلك عندي قول من قال:معنى ذلك فأتوهنّ من قبل طهرهنّ؛و ذلك أنّ كلّ أمر بمعنى،فنهي عن خلافه و ضدّه،و كذلك النّهي عن الشّيء أمر بضدّه و خلافه.

فلو كان معنى قوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ :فأتوهنّ من قبل مخرج الدّم الّذي نهيتكم أن تأتوهنّ من قبله في حال حيضهنّ،لوجب أن يكون قوله: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ تأويله:و لا تقربوهنّ في مخرج الدّم،دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهنّ في أدبارهنّ.

و في إجماع الجميع على أنّ اللّه تعالى ذكره لم يطلق في حال الحيض من إتيانهنّ في أدبارهنّ شيئا حرّمه في حال الطّهر،و لا حرّم من ذلك في حال الطّهر شيئا أحلّه في حال الحيض،ما يعلم به فساد هذا القول.

و بعد:فلو كان معنى ذلك على ما تأوّله قائلو هذه المقالة،لوجب أن يكون الكلام:فإذا تطهّرن فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه.حتّى يكون معنى الكلام حينئذ على التّأويل الّذي تأوّله،و يكون ذلك أمرا بإتيانهنّ في فروجهنّ،لأنّ الكلام المعروف إذا أريد ذلك أن يقال:أتى فلان زوجته من قبل فرجها،و لا يقال:أتاها من فرجها، إلاّ أن يكون أتاها من قبل فرجها،في مكان غير الفرج.

فإن قال لنا قائل:فإنّ ذلك و إن كان كذلك،فليس معنى الكلام:فأتوهنّ في فروجهنّ،و إنّما معناه فأتوهنّ من قبل قبلهنّ في فروجهنّ،كما يقال:أتيت هذا الأمر من مأتاه.

قيل له:إن كان ذلك كذلك،فلا شكّ أنّ مأتى الأمر و وجهه غيره،و أنّ ذلك مطلبه.

فإن كان ذلك على ما زعمتم،فقد يجب أن يكون معنى قوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ غير الّذي زعمتم أنّه معناه بقولكم:ائتوهن من قبل مخرج الدّم، و من حيث أمرتم باعتزالهنّ.و لكنّ الواجب أن يكون تأويله على ذلك:فأتوهنّ من قبل وجوههنّ في أقبالهنّ، كما كان قول القائل:ائت الأمر من مأتاه،إنّما معناه اطلبه من مطلبه،و مطلب الأمر غير الأمر المطلوب،فكذلك يجب أنّ مأتى الفرج الّذي أمر اللّه في قولهم بإتيانه غير الفرج.

و إذا كان كذلك،و كان معنى الكلام عندهم فأتوهنّ من قبل وجوههنّ في فروجهنّ،وجب أن يكون-على قولهم-محرّما إتيانهنّ في فروجهنّ من قبل أدبارهنّ، و ذلك إن قالوه خرج من قاله من قبل أهل الإسلام، و خالف نصّ كتاب اللّه تعالى ذكره،و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ و ذلك أنّ اللّه يقول: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ البقرة:223،و أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في إتيانهنّ في فروجهنّ من قبل أدبارهنّ.

فقد تبيّن إذن-إذ كان الأمر على ما وصفنا-فساد تأويل من قال ذلك:فأتوهنّ في فروجهنّ حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهنّ،و صحّة القول الّذي قلناه، و هو أنّ معناه:فأتوهنّ في فروجهنّ من الوجه الّذي أذن

ص: 123

اللّه لكم بإتيانهنّ،و ذلك حال طهرهنّ و تطهّرهنّ دون حال حيضهنّ.(2:387-390)

الزّجّاج: يحتمل أن يكون:من حيث أباح اللّه لكم دون ما حرّمه عليكم من إتيانها،و هي صائمة،أو محرمة، أو معتكفة.(الطّوسيّ 2:222)

الطّوسيّ: صورته صورة الأمر،و معناه الإباحة، كقوله: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا المائدة:2، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا الجمعة:10.(2:222)

الفخر الرّازيّ: اختلفوا في المراد بقوله تعالى:

فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ و فيه وجوه:

الأوّل:[هو قول ابن عبّاس المتقدّم]

الثّاني:[هو قول الأصمّ و قد مضى]

الثّالث:[هو قول محمّد بن الحنفيّة و قد سبق ذكره]

و الأقرب هو القول الأوّل،لأنّ لفظة(حيث)حقيقة في المكان،مجاز في غيره.(6:73)

الطّباطبائيّ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ أمر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر،و هو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشّريف من الأدب الإلهيّ البارع.و تقييد الأمر بالإتيان بقوله: أَمَرَكُمُ اللّهُ لتتميم هذا التّأدّب،فإنّ الجماع ممّا يعدّ بحسب بادئ النّظر لغوا و لهوا؛فقيّده بكونه ممّا أمر اللّه به أمرا تكوينيّا، للدّلالة على أنّه ممّا يتمّ به نظام النّوع الإنسانيّ في حياته و بقائه.فلا ينبغي عدّه من اللّغو و اللّهو،بل هو من أصول النّواميس التّكوينيّة.

و هذه الآية،أعني قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ تماثل قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ البقرة:187،و قوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ البقرة:223،من حيث السّياق.

فالظّاهر أنّ المراد بالأمر بالإتيان في الآية،هو الأمر التّكوينيّ المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء و القوى الهادية إلى التّوليد،كما أنّ المراد بالكتابة في قوله تعالى: وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ البقرة:187،أيضا ذلك،و هو ظاهر.و يمكن أن يكون المراد ب«الأمر»هو الإيجاب الكفائيّ المتعلّق بالازدواج و التّناكح،نظير سائر الواجبات الكفائيّة الّتي لا تتمّ حياة النّوع إلاّ به،لكنّه بعيد.

و قد استدلّ بعض المفسّرين بهذه الآية على حرمة إتيان النّساء من أدبارهنّ،و هو من أوهن الاستدلال و أردأه،فإنّه مبنيّ إمّا على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى:

فَأْتُوهُنَّ و هو من مفهوم اللّقب المقطوع عدم حجّيّته، و إمّا على الاستدلال بدلالة الأمر على النّهي عن الضّدّ الخاصّ،و هو مقطوع الضّعف.

على أنّ الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى:

(فأتوهنّ)فهو واقع عقيب الحظر،لا يدلّ على الوجوب، و لو كان بالأمر في قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ، فهو إن كان أمرا تكوينيّا كان خارجا عن الدّلالة اللّفظيّة، و إن كان أمرا تشريعيّا كان للإيجاب الكفائيّ.و الدّلالة على النّهي عن الضّدّ على تقدير التّسليم إنّما هي للأمر الإيجابيّ العينيّ المولويّ.(2:210)

ص: 124

امرنا

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها... الأعراف:28

«راجع مادّة ف ح ش»

امرتك

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ... الأعراف:12

عبد الجبّار: ربّما قيل في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ كيف يصحّ ذلك،و لم يمنع من أن لا يسجد،و إنّما منع من السّجود؟

و جوابنا:أنّ المراد ما منعك أن تسجد،و هو كقوله:

لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الحديد:29،و المراد لكي يعلموا،و كقوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا النّساء:

176،و المراد أن لا تضلّوا.فإذا كان تعالى أمره بالسّجود، كما قال: ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ فقد نبّه(إذ امرتك)على أنّ المراد:ما منعك أن تفعل ما أمرتك؛و ذلك يدلّ على قدرة إبليس على السّجود،كما نقوله،و إن لم يفعله.(143)

القرطبيّ: يدلّ على ما يقوله الفقهاء:من أنّ «الأمر»يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة،لأنّ الذّمّ علّق على ترك الأمر المطلق الّذي هو قوله عزّ و جلّ للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ الأعراف:11،و هذا بيّن.(7:170)

نحوه البيضاويّ(1:343)،و أبو حيّان(4:274).

الطّباطبائيّ: فإن قلت:القول بكون الأمر بالسّجود تكوينيّا ينافي ما تنصّ عليه الآيات من معصية إبليس،فإنّ القابل للمعصية و المخالفة إنّما هو الأمر التّشريعيّ،و أمّا الأمر التّكوينيّ فلا يقبل المعصية و التّمّرد البتّة،فإنّه«كلمة الإيجاد»الّذي لا يتخلّف عنه الوجود،قال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ النّحل:40.

قلت:الّذي ذكرناه آنفا أنّ القصّة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر و الامتثال و التّمرّد و الطّرد و غير ذلك و إن كانت تتشبّه بالقضايا الاجتماعيّة المألوفة فيما بيننا لكنّها تحكي عن جريان تكوينيّ في الرّوابط الحقيقيّة الّتي بين الإنسان و الملائكة و إبليس،فهي في الحقيقة تبيّن ما عليه خلق الملائكة و إبليس و هما مرتبطان بالإنسان، و ما تقتضيه طبائع القبيلين بالنّسبة إلى سعادة الإنسان و شقائه،و هذا غير كون الأمر تكوينيّا.

فالقصّة قصّة تكوينيّة مثّلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدّنيويّة الاجتماعيّة،كملك من الملوك أقبل على واحد من عامّة رعيّته لما تفرّس منه كمال الاستعداد و تمام القابليّة،فاستخلصه لنفسه و خصّه بمزيد عنايته،و جعله خليفته في مملكته،مقدّما له على خاصّته ممّن حوله،فأمرهم بالخضوع لمقامه و العمل بين يديه، فلبّاه في دعوته و امتثال أمره جمع منهم،فرضي عنهم بذلك و أقرّهم على مكانتهم.و استكبر بعضهم فخطّأ الملك في أمره فلم يمتثله،معتلاّ بأنّه أشرف منه جوهرا و أغزر عملا،فغضب عليه و طرده عن نفسه،و ضرب عليه الذّلّة و الصّغار،لأنّ الملك إنّما يطاع لأنّه ملك بيده

ص: 125

زمام الأمر،و إليه إصدار الفرامين (1)و الدّساتير،و ليس يطاع لأنّ ما أمر به يطابق المصلحة الواقعيّة،فإنّما ذلك شأن النّاصح الهادي إلى الخير و الرّشد.[إلى أن قال:]

فإن قلت:رفع اليد عن ظاهر القصّة و حملها على جهة التّكوين المحضة يوجب التّشابه في عامّة كلامه تعالى،و لا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدإ و المعاد بل و القصص و العبر و الشّرائع على الأمثال،و في تجويز ذلك إبطال للدّين.

قلت:إنّما المتّبع هو الدّليل،فربّما دلّ على ثبوتها و على صراحتها و نصوصيّتها كالمعارف الأصليّة، و الاعتقادات الحقّة،و قصص الأنبياء و الأمم في دعواتهم الدّينيّة،و الشّرائع و الأحكام و ما تستتبعه من الثّواب و العقاب،و نظائر ذلك.و ربّما دلّ الدّليل و قامت شواهد على خلاف ذلك،كما في القصّة الّتي نحن فيها،و مثل قصّة الذّرّ و عرض الأمانة و غير ذلك،ممّا لا يستعقب إنكار ضروريّ من ضروريّات الدّين،و لا يخالف آية محكمة، و لا سنّة قائمة،و لا برهانا يقينيّا.(8:27)

امرنا

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. الإسراء:16

ابن مسعود: كنّا نقول في الجاهليّة للحيّ إذا كثروا:

أمر أمر بني فلان.(القرطبيّ 10:233)

ابن عبّاس: بطاعة اللّه،فعصوا.

مثله ابن جبير.(الطّبريّ 15:55)

أكثرنا عددهم.

مثله عكرمة و الحسن و الضّحّاك و قتادة و ابن زيد.

(الطّبريّ 15:56)و مثله أبو زيد و الواحديّ،و نحوه أبو عبيدة.(الفخر الرّازيّ 20:175)

سلّطنا أشرارها،فعصوا فيها،فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب،و هو قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها الأنعام:123.

مثله ربيع بن أنس.(الطّبريّ 15:55)

مثله السّيوطيّ.(2:24) أبو العالية :(امّرنا)مثقّلة:جعلنا عليها مترفيها:

مستكبريها.(الطّبريّ 15:55)

مجاهد :بعثنا.(1:359)

الإمام الباقر عليه السّلام: مشدّدة منصوبة،تفسيرها:

كثّرنا،و لا قرأتها مخفّفة.(العيّاشيّ 2:284)

الفرّاء: قرأ الأعمش و عاصم و رجال من أهل المدينة (أَمَرْنا) خفيفة.حدّثنا محمّد،قال:حدّثنا الفرّاء، قال:حدّثني سفيان بن عيينة عن حميد الأعرج عن مجاهد(امرنا)خفيفة.

و فسّر بعضهم أَمَرْنا مُتْرَفِيها بالطّاعة(ففسقوا) أي إنّ المترف إذا أمر بالطّاعة خالف إلى الفسوق.

و في قراءة أبيّ بن كعب: (بعثنا فيها أكابر مجرميها) .

و قرأ الحسن(آمرنا)،و روي عنه(أمرنا).و لا ندري أنّها حفظت عنه،لأنّا لا نعرف معناها هاهنا.

و معنى(آمرنا)بالمدّ:أكثرنا.

و قرأ أبو العالية الرّياحيّ (أمّرنا مترفيها) و هو موافق لتفسير ابن عبّاس؛و ذلك أنّه قال:سلّطنا رؤساءها

ص: 126


1- فارسيّة،بمعنى عهود السّلاطين للولاة.

ففسقوا فيها.(2:119)

أبو عبيدة :أي أكثرنا مترفيها،و هي من قولهم:قد أمر بنو فلان،أي كثروا،فخرج على تقدير قولهم:علم فلان،و أعلمته أنا ذلك.[ثمّ استشهد بشعر]

و بعضهم يقرؤها: أَمَرْنا مُتْرَفِيها على تقدير أخذنا،و هي في معنى أكثرنا و آمرنا،غير أنّها لغة؛أمرنا:

أكثرنا ترك المدّ،و معناه آمرنا،ثمّ قالوا:مأمورة من هذا.

فإن احتجّ محتجّ فقال:هي من أمرت،فقل:كان ينبغي أن يكون آمرة،و لكنّهم يتركون إحدى الهمزتين، و كان ينبغي أن يكون آمرة.ثمّ طوّلوا ثمّ حذفوا وَ لَآمُرَنَّهُمْ النّساء:119،فلم يمدّوها.[إلى أن قال:]

مجازه:أمرنا و نهينا،في قول بعضهم،و ثقّله بعضهم، فجعل معناه أنّهم جعلوا أمراء.(1:372)

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها؛ فقرأت ذلك عامّة قرّاء الحجاز و العراق (امرنا)بقصر الألف و غير مدّها،و تخفيف الميم و فتحها.

و إذا قرئ ذلك كذلك فإنّ الأغلب من تأويله:أمرنا مترفيها بالطّاعة،ففسقوا فيها بمعصيتهم اللّه،و خلافهم أمره،كذلك تأوّله كثير ممّن قرأه كذلك.

قد يحتمل أيضا إذا قرئ كذلك أن يكون معناه:

جعلناهم أمراء،ففسقوا فيها،لأنّ العرب تقول:هو أمير غير مأمور.

و قد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول:قد يتوجّه معناه إذا قرئ كذلك إلى معنى:

أكثرنا مترفيها،و يحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الّذي روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«خير المال مهرة مأمورة أو سكّة مأبورة»،و يقول:إنّ معنى قوله:مأمورة:كثيرة النّسل.

و كان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيّين ينكر ذلك من قيله،و لا يجيزنا:أمرنا بمعنى أكثرنا،إلاّ بمدّ الألف من أمرنا.و يقول في قوله:«مهرة مأمورة»:إنّما قيل ذلك على الاتباع،لمجيء«مأبورة»بعدها،كما قيل:

«ارجعن مأزورات غير مأجورات».فهمز مأزورات، لهمز مأجورات،و هي من«وزرت»إتباعا لبعض الكلام بعضا.و قرأ ذلك أبو عثمان(أمّرنا)بتشديد الميم،بمعنى الإمارة.

و ذكر عن الحسن البصريّ أنّه قرأ ذلك(آمرنا)بمدّ الألف من«أمرنا»بمعنى أكثرنا فسقتها.و قد وجّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التّأويل جماعة من أهل التّأويل، إلاّ أنّ الّذين حدّثونا لم يميّزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك،و كيف قرأ ذلك المتأوّلون،إلاّ القليل منهم.

و الأمر المصدر،و الاسم الإمر،كما قال اللّه جلّ ثناؤه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71،قال:عظيما، و حكي في مثل شرّ إمر،أي كثير.

و أولى القراءات في ذلك عندي بالصّواب قراءة من قرأ أَمَرْنا مُتْرَفِيها بقصر الألف من(أمرنا)و تخفيف الميم منها،لإجماع الحجّة من القرّاء على تصويبها،دون غيرها.

و إذا كان ذلك هو الأولى بالصّواب بالقراءة،فأولى التّأويلات به تأويل من تأوّله:أمرنا أهلها بالطّاعة، فعصوا و فسقوا فيها؛فحقّ عليهم القول،لأنّ الأغلب من معنى(أمرنا)الأمر الّذي هو خلاف النّهي،دون غيره.

ص: 127

و توجيه معاني كلام اللّه جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه،أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.

(15:54-57)

نحوه الميبديّ.(5:531)

عبد الجبّار: ربّما قيل في قوله تعالى: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها أ ليس ذلك يدلّ على أنّه أراد منهم ذلك الفسق؟

و جوابنا:أنّه تعالى لم يذكر ما أمرهم به،و معلوم أنّه لم يأمرهم بالفسق بل أمرهم بخلافه،فكأنّه قال تعالى:

أَمَرْنا مُتْرَفِيها بالطّاعة فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي الوعيد و الهلاك المعجّل،و لذلك قال بعده:

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ الإسراء:17.

و قد قرئ وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فتأويله أمرناهم بمنعهم عن المعاصي ففسقوا فيها.

و قد قيل:إنّ معنى قوله: وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً، إرادة الطّاعة منهم و العبادة دون الهلاك،فإنّ ذلك قد يستعمل في اللّغة على هذا الوجه،فقد يقال:إذا أراد العليل الهلاك تعاطى التّخليط في المأكل،لا أنّه في الحقيقة يريد الهلاك.و إن أراد التّاجر أن تأتيه البضائع من كلّ جهة فعل كيت و كيت،لا أنّه يريد ذلك في الحقيقة.

و ما قدّمناه أوّلا أقرب إلى المراد،و الّذي يحكى من القراءة الثّانية،و هو قوله تعالى: (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) فالمراد به يقرب ممّا قدّمناه؛إذا المراد كثّرناهم ليطيعوا ففسقوا فيها، و لذلك قال بعده: وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ الإسراء:17،و كلّ ذلك ترغيب في الطّاعة و تخويف من خلافها.[و أيّده بآيات أخر فراجع](227)

الزّمخشريّ: أي أمرناهم بالفسق ففعلوا.و الأمر مجاز،لأنّ حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم:افسقوا، و هذا لا يكون،فبقي أن يكون مجازا.

و وجه المجاز أنّه صبّ عليهم النّعمة صبّا،فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتّباع الشّهوات،فكأنّهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النّعمة فيه.و إنّما خوّلهم إيّاها ليشكروا و يعملوا فيها الخير،و يتمكّنوا من الإحسان و البرّ،كما خلقهم أصحّاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشّرّ،و طلب منهم إيثار الطّاعة على المعصية،فآثروا الفسوق،فلمّا فسقوا حقّ عليهم القول،و هو كلمة العذاب فدمّرهم.

فإن قلت:هلاّ زعمت أنّ معناه:أمرناهم بالطّاعة ففسقوا؟

قلت:لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز،فكيف يحذف ما الدّليل قائم على نقيضه.و ذلك أنّ المأمور به إنّما حذف،لأنّ(فسقوا)يدلّ عليه،و هو كلام مستفيض، يقال:أمرته فقام و أمرته فقرأ،لا يفهم منه إلاّ أنّ المأمور به قيام أو قراءة،و لو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب.و لا يلزم على هذا قولهم:أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري،لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له،و لا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به،فكان محالا أن يقصد أصلا حتّى يجعل دالاّ على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه

ص: 128

و لا منويّ،لأنّ من يتكلّم بهذا الكلام فإنّه لا ينوي لأمره مأمورا به،و كأنّه يقول:كان منّي أمر فلم تكن منه طاعة، كما أنّ من يقول:فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت:هلاّ كان ثبوت العلم بأنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء و إنّما يأمر بالقصد و الخير،دليلا على أنّ المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟

قلت:لا يصحّ ذلك،لأنّ قوله:(ففسقوا)يدافعه، فكأنّك أظهرت شيئا و أنت تدّعي إضمار خلافه،فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه.و نظير أمر«شاء»في أنّ مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه،تقول:

لو شاء لأحسن إليك و لو شاء لأساء إليك،تريد:لو شاء الإحسان و لو شاء الإساءة.فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت،و قلت:قد دلّت حال من أسندت إليه المشيئة أنّه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة،فأترك الظّاهر المنطوق به و أضمر ما دلّت عليه حال صاحب المشيئة، لم تكن على سداد.

و قد فسّر بعضهم(أمرنا)بكثّرنا،و جعل:أمرته فأمر من باب:فعلته ففعل،كثبرته فثبر،و روي:«أنّ رجلا من المشركين قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّي أرى أمرك هذا حقيرا،فقال صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّه سيأمر»،أي سيكثر و سيكبر.

(2:442)

الفخر الرّازيّ: [له بحث مستوفى لخّصه النّيسابوريّ] (20:174)

النّيسابوريّ: للمفسّرين في معنى(أمرنا)قولان:

الأوّل:إنّ المراد به الأمر الّذي هو نقيض النّهي.

و على هذا اختلفوا في المأمور به،فالأكثرون على أنّه الطّاعة و الخير.

و قال في«الكشّاف»:معناه و إذا دنا وقت إهلاك قوم و لم يبق من زمان إمهالهم إلاّ قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا.

و لمّا كان من أصول الاعتزال أنّه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أنّ الأمر بالفسق هاهنا مجاز،و وجهه أنّه صبّ عليهم النّعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتّباع الشّهوات،فكان إيتاء النّعمة سببا لإيثارهم الفسوق على الائتمار،فكأنّهم مأمورون بذلك.

ثمّ إنّه جعل تقدير«أمرناهم بالطّاعة ففسقوا»من قبيل التّكاليف بعلم الغيب،و لم يجوّز أن تكون من قبيل أمرته فعصاني،فإنّه يفهم منه أنّ المأمور به طاعته،و لكنّه حكم بأنّه مثل:أمرته فقام أو أمرته فقرأ،فإنّه لا يفهم منه إلاّ أنّ المأمور به قيام أو قراءة.

و لقائل أن يقول:كما أنّ قوله:أمرته فعصاني،يدلّ على أنّ المأمور به شيء غير المعصية،من حيث إنّ «المعصية»منافية للأمر و مناقضة له،فكذلك قوله:أمرته ففسق يدلّ على أنّ المأمور به شيء غير الفسق،لأنّ «الفسق»عبارة عن الإتيان بضدّ المأمور به،فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به،كما أنّ كونها معصية ينافي كونها مأمورا بها،و هذا ظاهر.فلا أدري لم أصرّ جار اللّه على قوله مع ضعفه،و مخالفته أصله.

القول الثّاني:أنّ معنى أَمَرْنا مُتْرَفِيها أكثرنا فسّاقها.

قال الواحديّ: تقول العرب:أمر القوم،إذا كثروا.

ص: 129

و أمرهم اللّه،إذا كثّرهم،و آمرهم أيضا بالمدّ.

و احتجّ أبو عبيدة على صحّة هذه اللّغة بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:

«خير المال سكّة مأبورة و مهرة مأمورة»فالسّكّة:

النّخيل المصطفّة،و المهر المأمورة:كثيرة النّتاج.

و قد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضدّ النّهي،أي قال اللّه لها:كوني كثيرة النّسل،فكانت.[إلى أن قال:]

قالت الأشاعرة:ظاهر الآية يدلّ على أنّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء،ثمّ توسّل إلى إهلاكهم بهذا الطّريق، و يؤيّده قوله: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الإسراء:16،أي بالكفر ثمّ التّعذيب.

و قال الكعبيّ: إنّ سائر الآيات دلّت على أنّه تعالى لا يبتدئ بالتّعذيب،كقوله: إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ الرّعد:11،و قوله: ما يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ النّساء:147،فتلك الآيات محكمة،و هذه من المتشابهات،فيجب حمل هذه على تلك.

قال في التّفسير الكبير:أحسن النّاس كلاما في تأويل هذه الآية القفّال،فإنّه ذكر وجهين:

الأوّل:أخبر اللّه أنّه لا يعذّب أحدا بما علمه منه ما لم يعمل به،أي لا يجعل علمه حجّة على من علم أنّه إن أمره عصاه،بل يأمره حتّى يظهر عصيانه للنّاس،فحينئذ يعاقبه.و معنى الآية:و إذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم.

الثّاني:أن نقول:و إذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم،بل أمرنا مترفيها بالرّجوع عن تلك المعاصي.

و خصّ المترفين بذلك لأنّ نعمة اللّه عليهم أكثر،فكان الشّكر عليهم أوجب،فإذا لم يرجعوا و أصرّوا صبّ عليهم البلاء صبّا.

و زعم الجبّائيّ:أنّ المراد بالإرادة:الدّنوّ و المشارفة، كقولك:إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدّة،و إذا أراد التّاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلّ جهة.ليس المعنى أنّ المريض يريد أن يموت و التّاجر يريد أن يفتقر، و إنّما عنيت أنّه سيصير إلى ذلك،فمعنى الآية:و إذا قرب وقت إهلاك قرية.و قد نقلنا مثله عن صاحب «الكشّاف»و لا يخفى أنّه عدول عن الظّاهر.(15:17)

القرطبيّ: فيه ثلاث مسائل:

الأولى:أخبر اللّه تعالى في الآية الّتي قبل أنّه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرّسل،لا لأنّه يقبح منه ذلك إن فعل، و لكنّه وعد منه،و لا خلف في وعده.فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق (1)و الظّلم فيها فحقّ عليها القول بالتّدمير.

يعلمك أنّ من هلك فإنّما هلك بإرادته،فهو الّذي يسبّب الأسباب و يسوقها إلى غاياتها ليحقّ القول السّابق من اللّه تعالى.

الثّانية:قوله تعالى: أَمَرْنا قرأ أبو عثمان النّهديّ و أبو رجاء و أبو العالية،و الرّبيع و مجاهد و الحسن«امّرنا» بالتّشديد،و هي قراءة عليّ رضي اللّه عنه؛أي سلّطنا شرارها فعصوا فيها،فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.و قال أبول.

ص: 130


1- المحقّقون على ما قال ابن عبّاس كما في«البحر»: أمرناهم فعصوا و فسقوا و سيأتي.و هذا هو المطابق لقوله تعالى إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أمّا ما ذكره القرطبيّ كالزّمخشريّ فيحتاج إلى تأويل.

عثمان النّهديّ(امّرنا)بتشديد الميم،جعلناهم أمراء مسلّطين؛و قاله ابن عزيز.و تأمّر عليهم:تسلّط عليهم.

و قرأ الحسن أيضا و قتادة و أبو حيوة الشّاميّ و يعقوب و خارجة عن نافع و حمّاد بن سلمة عن ابن كثير و عليّ و ابن عبّاس باختلاف عنهما:(آمرنا)بالمدّ و التّخفيف، أي أكثرنا جبابرتها و أمراءها؛قاله الكسائيّ.و قال أبو عبيدة:آمرته بالمدّ و أمرته،لغتان بمعنى كثّرته؛و منه الحديث«خير المال مهرة مأمورة أو سكّة مأبورة (1)» أي كثيرة النّتاج و النّسل.و كذلك قال ابن عزيز:آمرنا و أمرنا بمعنى واحد؛أي أكثرنا.و عن الحسن أيضا و يحيى بن يعمر«أمرنا»بالقصر و كسر الميم على فعلنا،و رويت عن ابن عبّاس.قال قتادة و الحسن:المعنى أكثرنا؛ و حكى نحوه أبو زيد و أبو عبيد،و أنكره الكسائيّ و قال:

لا يقال من الكثرة إلاّ آمرنا بالمدّ؛قال:و أصلها«أأمرنا» فخفّف،حكاه المهدويّ.و في«الصّحاح»:و قال أبو الحسن أمر ماله(بالكسر)أي أكثره و أمر القوم أي كثروا؛قال الشّاعر:

*أمرون لا يرثون سهم القعدد*

و آمر اللّه ماله(بالمدّ).الثّعلبيّ:و يقال للشّيء الكثير أمر،و الفعل منه:أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا.قال ابن مسعود:كنّا نقول في الجاهليّة للحيّ إذا كثروا:أمر أمر بني فلان؛[ثمّ استشهد بشعر]

قلت:و في حديث هرقل الحديث الصّحيح:«لقد أمر أمر ابن أبي كبشة،ليخافه ملك بني الأصفر»أي كثر.

و كلّه غير متعدّ و لذلك أنكره الكسائيّ،و اللّه أعلم.قال المهدويّ:و من قرأ«أمر»فهي لغة،و وجه تعدية«أمر» أنّه شبّهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة فعدّي كما عدّي عمر.الباقون:«أمرنا»من الأمر؛ أي أمرناهم بالطّاعة إعذارا و إنذارا و تخويفا و وعيدا فَفَسَقُوا أي فخرجوا عن الطّاعة عاصين لنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فوجب عليها الوعيد؛عن ابن عبّاس و قيل:«أمرنا»جعلناهم أمراء؛لأنّ العرب تقول:أمير غير مأمور،أي غير مؤمّر.و قيل:«معناه بعثنا مستكبريها.قال هارون:و هي قراءة أبيّ: (بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا) ذكره الماورديّ.

و حكى النّحّاس: قال هارون و هي قراءة أبيّ:

(و اذا اردنا ان نهلك قرية بعثنا فيها اكابر مجرميها فمكروا فيها فحقّ عليها القول) .و يجوز أن يكون(امرنا)بمعنى أكثرنا؛و منه«خير المال مهرة مأمورة»على ما تقدّم.

و قال قوم:مأمورة إتباع لمأبورة؛كالغدايا و العشايا.

و كقوله:«ارجعن مأزورات غير مأجورات».و على هذا لا يقال:أمرهم اللّه،بمعنى كثّرهم،بل يقال:آمره و أمره.

و اختار أبو عبيد و أبو حاتم قراءة العامّة.قال أبو عبيد:

و إنّما اخترنا«أمرنا»لأنّ المعاني الثّلاثة تجتمع فيها من الأمر و الإمارة و الكثرة.و المترف:المنعّم؛و خصّوا بالأمر لأنّ غيرهم تبع لهم.(10:232)

الآلوسيّ: [بعد نقل كلام الزّمخشريّ قال:] و أجاب في«الكشف»عن ذلك،فقال:الجواب عن الأوّلين منع أن يراد:أمرنا بالطّاعة.و أمّا أن يراد توجيه).

ص: 131


1- السّكّة:الطّريقة المصطفّة من النّخل.و المأبورة:الملقحة؛ يقال:أبرت النّخلة و أبّرتها؛فهي مأبورة و مؤبرة.و قيل: السّكّة سكّة الحرث،و المأبورة المصلحة له.و المراد: خير المال نتاج و زرع.(ابن الأثير).

الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك،بل المانع أنّ تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بيّن الوجه.و كذلك التّقييد بزمان إرادة الإهلاك،فإنّ أمره تعالى في كلّ زمان و لكلّ أحد؛و لظهوره لم يتعرّض له.و عن الثّالث أنّ شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عدّه مقابلا بمعنى العصيان.

على أنّ ما ذكرنا من نبوّ المقام عن الإطلاق قائم في التّقييد بالطّاعة،و فيه قول بسلامة الأمير و نظر بعين الرّضا، و غفلة عن وجه التّخصيص الّذي ذكرناه،و هو بيّن لا غبار عليه،و كذا وجه التّقييد بالزّمان المذكور.

و الحقّ أنّ ما ذكره الزّمخشريّ من الحمل وجه جميل، إلاّ أنّ عدم ارتضائه ما روته الثّقات عن ترجمان القرآن و غيره،من تقدير الطّاعة مع ظهور الدّليل و مساعدة مقام الزّجر عن الضّلال و الحثّ على الاهتداء،لا وجه له، كما لا يخفى على من له قلب[إلى أن قال:]

و قيل:(امرنا)بمعنى ولّيناهم و جعلناهم أمراء، و اللاّزم من ذلك«أمر» (1)بالضّم إلحاقا له بالسّجايا،أي صار أميرا.و المراد به من يؤمر و يؤتمر به،سواء كان ملكا أم لا،على أنّه لا محذور لو أريد به الملك أيضا.خلافا للفارسيّ،لأنّ القرية إذا ملك عليها مترف ففسق ثمّ آخر ففسق و هكذا،كثر الفساد و توالى الكفر و نزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ. (15:43)

الطّباطبائيّ: قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها من المعلوم من كلامه تعالى أنّه لا يأمر بالمعصية أمرا تشريعيّا،فهو القائل: قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ الأعراف:28.

و أمّا الأمر التّكوينيّ فعدم تعلّقه بالمعصية،من حيث إنّها معصية أوضح،لجعله الفعل ضروريّا يبطل معه تعلّقه باختيار الإنسان.و لا معصية مع عدم الاختيار،قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82.

فمتعلّق«الأمر»في قوله:(امرنا)إن كان هو الطّاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التّشريعيّ،و كان هو الأمر الّذي توجّه إليهم بلسان الرّسول الّذي يبلّغهم أمر ربّهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا،و هو الشّأن الّذي يختصّ بالرّسول،كما تقدّمت الإشارة إليه.فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربّهم حقّ عليهم القول،و هو أنّهم معذّبون إن خالفوا فأهلكوا و دمّروا تدميرا.

و إن كان متعلّق«الأمر»هو الفسق و المعصية كان الأمر مرادا به الإكثار من إفاضة النّعم عليهم،و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج،و تقريبهم بذلك من الفسق حتّى يفسقوا،فيحقّ عليهم القول،و ينزل عليهم العذاب.

و هذان وجهان في معنى قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها يجوز توجيهه بكلّ منهما،لكن يبعّد أوّل الوجهين أوّلا:أنّ قولنا:أمرته ففعل و أمرته ففسق، ظاهره تعلّق الأمر بعين ما فرّع عليه.و ثانيا:عدم ظهور وجه لتعلّق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية،و إلاّ لم يهلكوا.[و بعد نقل قول الزّمخشريّ قال:]

هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: أَمَرْناى.

ص: 132


1- -أمر مثلّث،و التّقييد بالضّمّ،لأنّه حينئذ يتعيّن لهذا المعنى.

مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها في كون المأمور به هو الفسق، و أمّا كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل إلاّ ذلك كما يدّعيه، فلا.

فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا:أمرته فعصاني،حيث تكون المعصية،و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطّاعة،و الفسق و المعصية واحد، فإنّ الفسق هو الخروج عن زيّ العبوديّة و الطّاعة،فهو المعصية،و يكون المعنى حينئذ:أمرنا مترفيها بالطّاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه،أو يكون«الأمر»في الآية مستعملا استعمال اللازم،و المعنى توجّه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحقّ أنّ الوجهين لا بأس بكلّ منهما،و إن كان الثّاني لا يخلو من ظهوره.و قد أجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنّهم الرّؤساء السّادة و الأئمّة المتبوعون، و غيرهم أتباعهم،و حكم التّابع تابع لحكم المتبوع، و لا يخلو من سقم.

و ذكر بعضهم في توجيه الآية أنّ قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها إلخ صفة ل(قرية)،و ليس جوابا ل(إذا)، و جواب(إذا)محذوف على حدّ قوله: حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها الزّمر:73،إلى آخر الآية،للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

و ذكر آخرون أنّ في الآية تقديما و تأخيرا،و التّقدير:

و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنّه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقّق سببه و هو الفسق،و هو وجه سخيف كسابقه.

هذا كلّه على القراءة المعروفة(امرنا)بفتح الهمزة ثمّ الميم مخفّفة،من الأمر بمعنى الطّلب،و ربّما أخذ من الأمر بمعنى الإكثار،أي أكثرنا مترفيها مالا و ولدا ففسقوا فيها.

(13:60)

أمرت

1- فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ...

هود:112

ابن عبّاس: ما نزلت آية كان أشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذه الآية،و لهذا قال:«شيّبتني هود و الواقعة و أخواتهما». (1)(الكاشانيّ 2:475)

الضّحّاك: استقم بالجهاد.(أبو حيّان 5:268)

الإمام الصّادق عليه السّلام: أي افتقر إلى اللّه بصحّة العزم.(الكاشانيّ 2:474)

مقاتل: امض على التّوحيد.(أبو حيّان 5:268)

ابن عيينة: معناه استقم على القرآن.

(أبو حيّان 5:268)

مثله الثّوريّ.(الطّبريّ 12:126)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم:فاستقم أنت يا محمّد على أمر ربّك،و الدّين الّذي ابتعثك به، و الدّعاء إليه،كما أمرك ربّك.(12:126)

ابن عطيّة: أمر بالاستقامة و هو عليها،و هو أمر بالدّوام و الثّبوت،و الخطاب للرّسول و أصحابه الّذين تابوا من الكفر و لسائر الأمّة،فالمعنى و(أمرت)،مخاطبة

ص: 133


1- قيل إنّما ذكر«هود»و لم يذكر«الشّورى»مع وجود «استقم كما امرت»فيهما،من أجل وَ مَنْ تابَ مَعَكَ في«هود»دون«الشّورى».

تعظيم.(أبو حيّان 5:268)

الطّبرسيّ: أي استقم على الوعظ و الإنذار و التّمسّك بالطّاعة،و الأمر بها و الدّعاء عليها.

و الاستقامة هو أداء المأمور به و الانتهاء عن المنهيّ عنه، كما أمرت في القرآن.(3:168)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا أطنب في شرح الوعد و الوعيد قال لرسوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ و هذه الكلمة كلمة جامعة في كلّ ما يتعلّق بالعقائد و الأعمال،سواء كان مختصّا به أو كان متعلّقا بتبليغ الوحي و بيان الشّرائع.(18:70)

الآلوسيّ: ذهب بعض المحقّقين إلى كون الكاف في (كما)بمعنى«على»كما في قولهم:كن كما أنت عليه،أي على ما أنت عليه.و من هنا قال ابن عطيّة و جماعة:المعنى استقم على القرآن،و قال مقاتل:امض على التّوحيد، و قال جعفر الصّادق عليه السّلام:استقم على الإخبار عن اللّه تعالى بصحّة العزم.و الأظهر إبقاء(ما)على العموم،أي استقم على جميع ما أمرت به.و الكلام في حذف مثل هذا الضّمير أمر شائع،و قد مرّ التّنبيه عليه.

و مال بعضهم إلى كون الكاف للتّشبيه حسبما هو الظّاهر منها،إلاّ أنّه قال:إنّها في حكم«مثل»في قولهم:

مثلك لا يبخل،فكأنّه قيل:استقم الاستقامة الّتي أمرت بها،فرارا من تشبيه الشّيء بنفسه،و لا يخفى أنّه ليس بلازم.(12:153)

الطّباطبائيّ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي كن ثابتا على الدّين موفيا حقّه طبق ما أمرت بالاستقامة، و قد أمر به في قوله: وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يونس:105،و قوله:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ الرّوم:30.(11:48)

يلاحظ«ق و م»و ما يرتبط بالموضوع.

2- ..وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ..

الشّورى:15.

الطّبرسيّ: أي فاثبت على أمر اللّه و تمسّك به و اعمل بموجبه.و قيل:و استقم على تبليغ الرّسالة.

(5:25)

الفخر الرّازيّ: يعني فلأجل ذلك التّفرّق،و لأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدّين،فادع إلى الاتّفاق على الملّة الحنيفيّة و استقم عليها و على الدّعوة إليها،كما أمرك اللّه،و لا تتّبع أهواءهم المختلفة الباطلة.(27:158)

أبو حيّان: أمره بأن يصرّح أنّه آمن بكلّ كتاب أنزله اللّه،لأنّ الّذين تفرّقوا آمنوا ببعض.(7:513)

امرت

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ* وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. الزّمر:11،12

الزّمخشريّ: بإخلاص الدّين(و امرت)بذلك لأجل«ان اكون اول المسلمين»أي مقدّمهم و سابقهم في الدنيا و الآخرة،و المعنى:أنّ الإخلاص له السّبقة في الدّين،فمن أخلص كان سابقا.

ص: 134

فإن قلت:كيف عطف(أمرت)على(أمرت)و هما واحد؟

قلت:ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما،و ذلك أنّ الأمر بالإخلاص و تكليفه شيء،و الأمر به ليحرز القائم به قصب السّبق في الدّين شيء،و إذا اختلف وجها الشّيء و صفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.و لك أن تجعل اللاّم مزيدة،مثلها في:أردت لأن أفعل،و لا تزاد إلاّ مع«أن»خاصّة دون الاسم الصّريح،كأنّها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه،كما عوّض السّين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الّذي هو «أطوع»،و الدّليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله:

وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يونس:72 وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يونس:104، أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ الأنعام:14.

(3:392)

أبو حيّان: أمره تعالى أن يصدع الكفّار بما أمر به من عبادة اللّه يخلصها من الشّوائب.(و أمرت)أي أمرت بما أمرت لأكون أوّل من أسلم،أي انقاد للّه تعالى،و يعني من أهل عصره أو من قومه،لأنّه أوّل من خالف عبّاد الأصنام،أو أوّل من دعوتهم إلى الإسلام إسلاما،أو أوّل من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره،لأكون مقتدى بي قولا و فعلا،لا كالملوك الّذين يأمرون بما لا يفعلون،أو أن أفعل ما أستحقّ به الأوّليّة من أعمال السّابقين،دلالة السّبب بالمسبّب.(7:420)

امرنا

...وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. الأنعام:71

الزّجّاج: العرب تقول:أمرتك بأن تفعل،و أمرتك لتفعل،و أمرتك أن تفعل.

فمن قال:أمرتك بأن تفعل،فالباء للإلصاق،المعنى:

وقع الأمر بهذا الفعل.

و من قال:أمرتك أن تفعل،فعلى حذف الباء.

و من قال:أمرتك لتفعل،فقد أخبر بالعلّة الّتي لها وقع الأمر،المعنى:أمرنا للإسلام.(2:262)

الزّمخشريّ: إن قلت:ما محلّ(امرنا)؟

قلت:النّصب عطفا على محلّ قوله: إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى الأنعام:71،على أنّهما مقولان،كأنّه قيل:قل:

هذا القول،و قل:أمرنا لنسلم.(2:29)

يامر

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. الأعراف:28

الطّوسيّ: إن قيل:إنّما أنكر اللّه قولهم: وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها و لا يدفع ذلك أن يكون مريدا لها،لأنّ«الأمر» منفصل من الإرادة.

قلنا:الأمر لا يكون أمرا إلاّ بإرادة المأمور به،فما أراده فقد رغّب فيه و دعا إليه،فاشتركا في المعنى.

(4:412)

الفخر الرّازيّ: قولهم: وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها فقد

ص: 135

أجاب عنه بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.

و المعنى:أنّه ثبت على لسان الأنبياء و الرّسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة،فكيف يمكن القول بأنّ اللّه تعالى أمرنا بها؟

و أقول:للمعتزلة أن يحتجّوا بهذه الآية على أنّ الشّيء إنّما يقبح لوجه عائد إليه،ثمّ إنّه تعالى نهى عنه لكونه مشتملا على ذلك الوجه،لأنّ قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ إشارة إلى أنّه لمّا كان ذلك موصوفا في نفسه بكونه من الفحشاء امتنع أن يأمر اللّه به،و هذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه من الفحشاء مغايرا لتعلّق الأمر و النّهي به،و ذلك يفيد المطلوب.

و جوابه:يحتمل أنّه لمّا ثبت بالاستقراء أنّه تعالى لا يأمر إلاّ بما يكون مصلحة للعباد،و لا ينهى إلاّ عمّا يكون مفسدة لهم،فقد صحّ هذا التّعليل لهذا المعنى،و اللّه أعلم.(14:56)

البروسويّ: أي لا يأمر بحبّ الدّنيا و الحرص على جمعها،و إنّما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضّروريّة،لقوام القالب بالقوّة و اللّباس،ليقوم بأداء حقّ العبوديّة.(3:152)

الآلوسيّ: إنّ عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال،و الحثّ على مكارم الخصال،و هو اللاّئق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلّف.(8:16)

يامرهم

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ... الأعراف:157

الزّجّاج: قوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يجوز أن يكون(يأمرهم)مستأنفا.(2:381)

الفارسيّ: (يأمرهم)تفسير لما كتب من ذكره، كقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ آل عمران:59،و لا يجوز أن يكون حالا من الضّمير في(يجدونه)لأنّ الضّمير للذّكر و الاسم،و الاسم و الذّكر لا يأمران.(أبو حيّان 4:403) مثله شبّر.(2:424)

النّيسابوريّ: (يأمرهم)يحتمل أن يكون خبر مبتدإ محذوف،أي هو يأمرهم،و أن يكون نعتا،أي مكتوبا أمرا،أو بدلا من(مكتوبا)أو مفعولا بعد مفعول، أي يجدونه أمرا،أو يكون التّقدير:الأمّيّ الّذي يأمرهم، فيكون كالبدل من الصّلة.(9:58)

نحوه الآلوسيّ.(9:81)

يأمركم

1- ..إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. البقرة:169

الزّمخشريّ: بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه [الشّيطان]و ظهور عداوته،أي لا يأمركم بخير قطّ،إنّما يأمركم بالسّوء.(1:327)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ أمر الشّيطان و وسوسته، عبارة عن هذه الخواطر الّتي نجدها من أنفسنا.و قد اختلف النّاس في هذه الخواطر من وجوه:أحدها:

اختلفوا في ماهيّاتها،فقال بعضهم:إنّها حروف و أصوات خفيّة.و قال الفلاسفة:إنّها تصوّرات الحروف و الأصوات و تخيّلاتها،على مثال الصّور المنطبعة في المرايا،فإنّ تلك

ص: 136

الصّور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه،و إن لم تكن مشابهة لها في كلّ الوجوه.[و للكلام تتمّة،فراجع]

(5:4)

النّيسابوريّ: معنى أمر الشّيطان:وسوسته،و قد سلف في شرح الاستعاذة.

و في التّعبير عن وسوسته بالأمر،رمز إلى أنّكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم،أو قبولكم وساوسه،و إذا كان الآمر المطاع مرجوما مذموما فكيف حال المأمور المطيع؟و في هذا معتبر للبصراء و مزدجر للعقلاء،أعاذنا اللّه بحوله و أيده من مكر الشّيطان و كيده.(2:65)

البيضاويّ: بيان لعداوته و وجوب التّحرّز عن متابعته.و استعير«الأمر»لتزيينه و بعثه لهم على الشّرّ، تسفيها لرأيهم و تحقيرا لشأنهم.(1:95)

نحوه البروسويّ(1:272)،و الآلوسيّ(2:39).

الطّباطبائيّ: الأمر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده،و الأمر من الشّيطان:

وسوسته و تحميله ما يريده من الإنسان عليه،بإخطاره في قلبه،و تزيينه في نظره.(1:417)

2- وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً... آل عمران:80

أبو زرعة: قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة (و لا يأمركم) بالنّصب،و حجّتهم أنّها نسق على قوله:

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتابَ... ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ... آل عمران:79،(و لا ان يامركم).

و قرأ الباقون (و لا يامركم) بالرّفع على وجه الابتداء من اللّه بالخبر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه:لا يأمركم أيّها النّاس أن تتّخذوا من الملائكة و النّبيّين أربابا.(168)

مثله الطّوسيّ.(2:512)

الزّمخشريّ: قرئ (و لا يأمركم) بالنّصب عطفا على(ثمّ يقول)و فيه وجهان:

أحدهما:أن تجعل(لا)مزيدة لتأكيد معنى النّفي في قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ و المعنى ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه،و ينصبه للدّعاء إلى اختصاص اللّه بالعبادة و ترك الأنداد،ثمّ يأمر النّاس بأن يكونوا عبادا له،و يأمركم أن تتّخذوا الملائكة و النّبيّين أربابا كما تقول:ما كان لزيد أن أكرمه ثمّ يهينني و لا يستخفّ بي.

و الثّاني:أن تجعل(لا)غير مزيدة،و المعنى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة،و اليهود و النّصارى عن عبادة عزير و المسيح،فلمّا قالوا له:

أ نتّخذك ربّا؟قيل لهم:ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه ثمّ يأمر النّاس بعبادته و ينهاكم عن عبادة الملائكة و الأنبياء.

و القراءة بالرّفع على ابتداء الكلام أظهر،و تنصرها قراءة عبد اللّه (و لن يأمركم) و الضّمير في (و لا يأمركم) و(أ يأمركم)ل(بشر)،و قيل:ل(اللّه)،و الهمزة في (أ يأمركم)للإنكار.(1:440)

أبو حيّان: قرأ الحرميّان و النّحويّان و الأعشى و البرجميّ برفع الرّاء على القطع،و يختلس أبو عمرو الحركة على أصله،و الفاعل ضمير مستكنّ في(يأمر) عائد على(اللّه)قاله سيبويه و الزّجّاج.

و قال ابن جريج: عائد على(بشر)الموصوف بما

ص: 137

سبق،و هو محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و المعنى على هذه القراءة أنّه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه ربّا فيعبد، و لا هو أيضا يأمر باتّخاذ غيره من ملائكة و أنبياء أربابا، فانتفى أن يدعو لنفسه و لغيره،و إن كان الضّمير عائدا على(اللّه)فيكون إخبارا من اللّه أنّه لم يأمر بذلك،فانتفى أمر اللّه بذلك و أمر أنبيائه.

و قرأ عاصم و ابن عامر و حمزة (و لا يأمركم) بنصب الرّاء،و خرّجه أبو عليّ و غيره على أن يكون المعنى:

و لا له أن يأمركم،فقدّروا(أن)مضمرة بعد(لا)و تكون (لا)مؤكّدة معنى النّفي السّابق،كما تقول:ما كان من زيد إتيان و لا منه قيام.

و قال الطّبريّ: قوله:(و لا يأمركم)بالنّصب معطوف على قوله:(ثمّ يقول).

قال ابن عطيّة: و هذا خطأ لا يلتئم به المعنى،انتهى كلامه.و لم يبيّن جهة الخطأ،و لا عدم التئام المعنى به.

و وجه الخطأ أنّه إذا كان معطوفا على(ثمّ يقول) و كانت(لا)لتأسيس النّفي فلا يمكن إلاّ أن يقدّر العامل قبل(لا)و هو(أن)فينسبك من(أن)و الفعل المنفيّ مصدر منتف،فيصير المعنى:ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء أمره باتّخاذ الملائكة و النّبيّين أربابا،و إذا لم يكن له الانتفاء كان له الثّبوت فصار آمرا باتّخاذهم أربابا،و هو خطأ.

فإذا جعلت(لا)لتأكيد النّفي السّابق كان النّفي منسحبا على المصدرين المقدّر ثبوتهما،فينتفي قوله:

كُونُوا عِباداً لِي و أمره باتّخاذ الملائكة و النّبيّين أربابا.

و يوضّح هذا المعنى وضع«غير»موضع(لا)،فإذا قلت:ما لزيد فقه و لا نحو،كانت(لا)لتأكيد النّفي،و انتفى عنه الوصفان.و لو جعلت(لا)لتأسيس النّفي كانت بمعنى «غير»فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه و ثبوت النّحو له؛إذ لو قلت:ما لزيد فقه و غير نحو،كان في ذلك إثبات النّحو له،كأنّك قلت:ما له غير نحو،أ لا ترى أنّك إذا قلت:

جئت بلا زاد،كان المعنى جئت بغير زاد،و إذا قلت:

ما جئت بغير زاد،معناه أنّك جئت بزاد،لأنّ(لا)هنا لتأسيس النّفي.

فإطلاق ابن عطيّة الخطأ و عدم قيام المعنى إنّما يكون على أحد التّقريرين في(لا)و هي أن يكون لتأسيس النّفي،و أن يكون من عطف المنفيّ ب(لا)على المثبت الدّاخل عليه النّفي،نحو:ما أريد أن تجهل و أن لا تتعلّم،تريد:ما أريد أن لا تتعلّم.(2:507)

تامرنا

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً. الفرقان:60

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة ذلك،فقرأته عامّة قرّاء المدينة و البصرة لِما تَأْمُرُنا بمعنى أ نسجد نحن يا محمّد لما تأمرنا أنت أن نسجد له؟!و قرأته عامّة قرّاء الكوفة(لما يأمرنا)بالياء،بمعنى أ نسجد لما يأمرنا الرّحمن.

و ذكر بعضهم أنّ مسيلمة كان يدعى الرّحمن،فلمّا قال لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:اسجدوا للرّحمن،قالوا:أ نسجد لما يأمرنا رحمان اليمامة؟يعنون مسيلمة،بالسّجود له.

و الصّواب من القول في ذلك:أنّهما قراءتان

ص: 138

مستفيضتان مشهورتان،قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء،فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.(19:28)

الزّمخشريّ: أي للّذي تأمرناه،بمعنى تأمرنا سجوده،على قوله:أمرتك الخير أو لأمرك لنا.و قرئ بالياء كأنّ بعضهم قال لبعض:أ نسجد لما يأمرنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،أو يأمرنا المسمّى بالرّحمن،و لا نعرف ما هو؟(3:98)

مثله الفخر الرّازي.(24:106)

القرطبيّ:(تامرنا)هذه قراءة المدنيّين و البصريّين،أي لما تأمرنا أنت يا محمّد.و اختاره أبو عبيد و أبو حاتم.

و قرأ الأعمش و حمزة و الكسائي (يأمرنا) بالياء، يعنون الرّحمن.كذا تأوّله أبو عبيد،قال:و لو أقرّوا بأنّ الرّحمن أمرهم،ما كانوا كفّارا.فقال النّحّاس:و ليس يجب أن يتأوّل عن الكوفيّين في قراءتهم هذا التّأويل البعيد،و لكنّ الأولى أن يكون التّأويل لهم(أ نسجد لما يأمرنا)النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فتصحّ القراءة على هذا،و إن كانت الأولى أبين و أقرب تناولا.(13:64)

الطّباطبائيّ:في تكرار التّعبير عنه تعالى ب(ما) إصرار على الاستكبار،و التّعبير عن طلبه عنهم السّجدة بالأمر،لا يخلو من تهكّم و استهزاء.(15:234)

تامرون

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ. الأعراف:110

ابن عبّاس: أي تشيرون في أمره.

(الآلوسيّ 9:21)

الطّبريّ: يقول:فأيّ شيء تأمرون أن نفعل في أمره،بأيّ شيء تشيرون فيه.و قيل:فما ذا تأمرون، و الخبر بذلك عن فرعون،و لم يذكر فرعون.و قلّما يجيء مثل ذلك في الكلام؛و ذلك نظير قوله: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ* ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ يوسف:

51،52،فقيل: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ من قول يوسف،و لم يذكر يوسف.و من ذلك أن يقول:قلت لزيد:قم،فإنّي قائم،و هو يريد:فقال زيد:إنّي قائم.

(9:16)

الزّمخشريّ: قولهم: (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من أمرته فأمرني بكذا،إذا شاورته فأشار عليك برأي،و قيل:

(فَما ذا تَأْمُرُونَ) من كلام فرعون.قال للملإ لمّا قالوا له:

إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ الأعراف:

109،110 كأنّه قيل:قال: فَما ذا تَأْمُرُونَ؟ قالوا:أرجئه و أخاه.(2:102)

الطّبرسيّ: قيل:إنّ هذا قول الأشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة،و يحتمل أن يكون قالوا ذلك لفرعون،و إنّما قالوا:(تأمرون)بلفظ الجمع على خطاب الملوك،و يحتمل أيضا أن يكون قول فرعون لقومه، فيكون تقديره:قال فرعون لهم:فما ذا تأمرون،و هو قول الفرّاء و الجبّائي.(2:460)

الفخر الرّازيّ: قوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ فقد ذكر الزّجّاج فيه ثلاثة (1)أوجه:

ص: 139


1- و المذكور في كلام الفخر عن الزّجّاج وجهان!!

الأوّل:أنّ كلام الملإ من قوم فرعون تمّ عند قوله:

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ثمّ عند هذا الكلام قال فرعون مجيبا لهم: فَما ذا تَأْمُرُونَ. و احتجّوا على صحّة هذا القول بوجهين:

أحدهما:أنّ قوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ خطاب للجمع لا للواحد،فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم.أمّا لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد،لا بخطاب الجمع.

و أجيب عنه:بأنّه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيما لشأنه،لأنّ العظيم إنّما يكنّى عنه بكناية الجمع،كما في قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ الحجر:

9، إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً نوح:1، إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر:1.

و الحجّة الثّانية:أنّه تعالى لمّا ذكر قوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ قال بعده: قالُوا أَرْجِهْ. و لا شكّ أنّ هذا كلام القوم،و جعله جوابا عن قولهم: فَما ذا تَأْمُرُونَ، فوجب أن يكون القائل لقوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ غير الّذي قالوا: أَرْجِهْ و ذلك يدلّ على أنّ قوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ كلام لغير الملإ من قوم فرعون.

و أجيب عنه:بأنّه لا يبعد أنّ القوم قالوا: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ثمّ قالوا لفرعون و لأكابر خدمه:

فَما ذا تَأْمُرُونَ ثمّ أتبعوه بقولهم: أَرْجِهْ وَ أَخاهُ فإنّ الخدم و الأتباع يفوّضون الأمر و النّهي إلى المخدوم و المتبوع أوّلا،ثمّ يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة.

و القول الثّاني:أنّ قوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ من بقيّة كلام القوم،و احتجّوا عليه بوجهين:

الأوّل:أنّه منسوق على كلام القوم من غير فاصل، فوجب أن يكون ذلك من بقيّة كلامهم.

و الثّاني:أنّ الرّتبة معتبرة في الأمر،فوجب أن يكون قوله: فَما ذا تَأْمُرُونَ خطابا من الأدنى مع الأعلى، و ذلك يوجب أن يكون هذا من بقيّة كلام فرعون معه.

و أجيب عن هذا الثّاني:بأنّ الرّئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه و رعيّته:ما ذا تأمرون؟و يكون غرضه منه تطييب قلوبهم و إدخال السّرور في صدورهم،و أن يظهر من نفسه كونه معظّما لهم و معتقدا فيهم.ثمّ إنّ القائلين:بأنّ هذا من بقيّة كلام قوم فرعون،ذكروا وجهين:

أحدهما:أنّ المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده،فإنّه يقال للرّئيس المطاع:ما ترون في هذه الواقعة؟أي ما ترى أنت وحدك،و المقصود أنّك وحدك قائم مقام الجماعة.و الغرض منه التّنبيه على كماله و رفعة شأنه و حاله.

و الثّاني:أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون و أكابر دولته و عظماء حضرته،لأنّهم هم المستقلّون بالأمر و النّهي،و اللّه أعلم.(14:197)

أبو حيّان: فَما ذا تَأْمُرُونَ من قول فرعون أو من قول الملإ إمّا لفرعون و أصحابه و إمّا له وحده،كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع،و هو من الأمر.

و قال ابن عبّاس: معناه تشيرون به.

قال الزّمخشري: من أمرته فأمرني بكذا،أي شاورته فأشار عليك برأي.

ص: 140

و قرأ الجمهور (تَأْمُرُونَ) بفتح النّون هنا،و في الشّعراء.

و روى كردم (1)عن نافع بكسر النّون فيهما،و(ما ذا) يحتمل أن تكون كلّها استفهاما،و تكون مفعولا ثانيا ل(تأمرون)على سبيل التّوسّع فيه،بأن حذف منه حرف الجرّ،كما قال:«امرتك الخير».و يكون المفعول الأوّل محذوفا لفهم المعنى،أي أيّ شيء تأمرونني،و أصله:بأيّ شيء.

و يجوز أن تكون(ما)استفهاما مبتدأ و(ذا)بمعنى الّذي،خبر عنه،و(تأمرون)صلة(ذا)،و يكون قد حذف منه مفعولي(تأمرون)الأوّل و هو ضمير المتكلّم، و الثّاني و هو الضّمير العائد على الموصول،و التّقدير:فأيّ شيء الّذي تأمروننيه،أي تأمرونني به.و كلا الإعرابين في(ما ذا)جائز في قراءة من كسر النّون،إلاّ أنّه حذف ياء المتكلّم و أبقى الكسرة دلالة عليها.

و قدّر ابن عطيّة الضّمير العائد على(ذا)إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجرّ،فقال:و في(تأمرون)ضمير عائد على«الّذي»تقديره:تأمرون به،انتهى.

و هذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضّمير إذا كان مجرورا بحرف الجرّ،ذلك الشّرط هو أن لا يكون الضّمير في موضع رفع،و أن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه،و يتّحد المتعلّق به الحرفان لفظا و معنى،و يتّحد معنى الحرف أيضا،لابن عطيّة أنّه قدّره على الأصل،ثمّ اتّسع فيه فتعدّى إليه الفعل بغير واسطة الحروف،ثمّ حذف بعد الاتّساع.(4:359)

الآلوسيّ:قيل:من الأمر المعهود.(9:21)

رشيد رضا: ليس هو المقابل للنّهي،بل هو بمعنى الإدلاء بالرّأي في الشّورى.(9:61)

الطّباطبائيّ:لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك،و إنّما الّذي ذكر محاورة الملإ بعضهم بعضا،كأنّهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضا،و يشير بعضهم إلى ما يراه و يصوّبه آخرون،فيقدّمون ما صوّبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به.فهم لمّا تشاوروا في أمر موسى و ما شاهدوه من آياته المعجزة قالوا: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ الأعراف:109.

و إذا كان ساحرا غير صادق فيما يذكره من رسالة اللّه سبحانه فإنّما يتوسّل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل و استقلالهم في أمرهم ليتأيّد بهم،ثمّ يخرجكم من أرضكم و يذهب بطريقتكم المثلى،فما ذا تأمرون به في إبطال كيده،و إخماد ناره الّتي أوقدها؟أ من الواجب مثلا أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله؟

فاستصوبوا آخر الآراء،و قدّموا إلى فرعون أن أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. الأعراف:111،112

و من ذلك يظهر أنّ قوله تعالى: فَما ذا تَأْمُرُونَ حكاية ما قاله بعض الملإ لبعض،و قوله: قالُوا أَرْجِهْ الخ،حكاية ما قدّموه من رأي الجميع إلى فرعون،و قد اتّفقوا عليه.و قد حكى اللّه سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملأه،قال تعالى: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ* قالُوات.

ص: 141


1- اسم شخص من القرّاء راجع حجّة القراءات.

أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ الشّعراء:34-37.

و يظهر ممّا في الموضعين أنّهم إنّما شاوروا حول ما قاله فرعون ثمّ صوّبوه،و رأوا أن يجيبه بسحر مثل سحره.

و قد حكى اللّه أيضا هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتّى بالّذي أشار إليه الملأ من معارضة سحره بسحر آخر مثله؛إذ قال: قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى* فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ...

طه:57،58.

و لعلّ ذلك محصّل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدّم إلى فرعون ما خاطب به موسى من قبل نفسه.

و للملإ جلسة مشاورة أخرى أيضا بعد قدوم السّحرة إلى فرعون،ناجى فيها بعضهم بعضا بمثل ما في هذه الآيات،قال تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى* قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى طه:62،63.

فتبيّن أنّ أصل الكلام لفرعون،ألقاه إليهم ليتشاوروا فيه،و يروا رأيهم فيما يفعل به فرعون؛ فتشاوروا و صدّقوا قوله و أشاروا بالإرجاء و جمع السّحرة للمعارضة،فقبله.ثمّ ذكره لموسى،ثمّ اجتمعوا للمشاورة و المناجاة ثانيا بعد مجيء السّحرة،و اتّفقوا أن يجتمعوا عليه و يعارضوه بكلّ ما يقدرون عليه من السّحر صفّا واحدا.(8:213)

و بهذا المعنى جاء قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ الشّعراء:35.

تامرونّى

قُلْ أَ فَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.

الزّمر:64

الطّوسيّ: قرأ ابن كثير: تامروني اعبد مشدّدة النّون مفتوح الياء.و قرأ نافع و ابن عامر في رواية الدّاجونيّ خفيفة النّون.و فتح الياء نافع،و لم يفتحها ابن عامر.و قرأ ابن عامر في غير رواية الدّاجونيّ (تامروننى) بنونين،الباقون مشدّدة النّون ساكنة الياء.(9:41)

الزّمخشريّ: تَأْمُرُونِّي اعتراض،و معناه أ فغير اللّه أعبد بأمركم؛و ذلك حين قال له المشركون:استلم بعض آلهتنا و نؤمن بإلهك،أو ينصب بما يدلّ عليه جملة قوله: تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنّه في معنى تعبدونني، و تقولون لي:أعبد،و الأصل:تأمرونني أن أعبد،فحذف (أن)و رفع الفعل.[ثمّ استشهد بشعر].

و قرئ (تأمرونني) على الأصل،و (تأمرونّى) على إدغام النّون،أو حذفها.(3:407)

تؤمر

...قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ. الصّافّات:102.

الطّبريّ: قال إسحاق لأبيه:يا أبت افعل ما يأمرك به ربّك من ذبحي، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ يقول:ستجدني إن شاء اللّه صابرا من الصّابرين لما يأمرنا

ص: 142

به ربّنا،و قال:(افعل ما تؤمر)و لم يقل:ما تؤمر به،لأنّ المعنى افعل الأمر الّذي تؤمره،و ذكر أنّ ذلك في قراءة عبد اللّه: (إنّى أرى فى المنام افعل ما أمرت به) .

(23:79)

الزّمخشريّ: أي ما تؤمر به،فحذف الجارّ كما حذف من قوله:«أمرتك الخير فافعل ما أمرت به»أو «أمرك»على إضافة المصدر إلى المفعول،و تسمية المأمور به أمرا،و قرئ (ما تؤمر به) .(3:348)

الآلوسيّ: أي الّذي تؤمر به،فحذف الجارّ و المجرور دفعة،أو حذف الجارّ أوّلا فعدّي الفعل بنفسه،نحو «أمرتك الخير»ثمّ حذف المجرور بعد أن صار منصوبا ثانيا.و الحذف الأوّل شائع مع الأمر حتّى كاد يعدّ متعدّيا بنفسه،فكأنّه لم يجتمع حذفان.

أو«افعل أمرك»على أنّ(ما)مصدريّة،و المراد بالمصدر:الحاصل بالمصدر،أي المأمور به.و لا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر،بين أن يكون صريحا،و أن يكون مسبوكا.

و إضافته إلى«ضمير»إبراهيم إضافة إلى المفعول، و لا يخفى بعد هذا الوجه.و هذا الكلام يقتضي تقدّم الأمر و هو غير مذكور،فإمّا أن يكون فهم من كلامه عليه السّلام أنّه رأى أنّه يذبحه مأمورا،أو علم أنّ رؤيا الأنبياء حقّ،و أنّ مثل ذلك لا يقدمون عليه إلاّ بأمر،و صيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه.

و فيه إشارة إلى أنّ ما قاله لم يكن إلاّ عن حلم،غير مشوب بجهل بحال المأمور به.

و قيل:للدّلالة على أنّ«الأمر»متعلّق به متوجّه إليه مستمرّ إلى حين الامتثال به،و قيل:لتكرّر الرّؤيا،و قيل:

جيء بها لأنّه لم يكن بعد أمر،و إنّما كانت رؤيا الذّبح فأخبره بها فعلم،لعلمه بمقام أبيه،و أنّه ممّن لا يجد الشّيطان سبيلا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنّه سيكون ذلك،و لا يكون إلاّ بأمر إلهيّ،فقال له:افعل ما تؤمر بعد من الذّبح الّذي رأيته في منامك.

و لمّا كان خطاب الأب(يا بنيّ)على سبيل التّرحّم، قال هو:(يا أبت)على سبيل التّوقير و التّعظيم،و مع ذلك أتى بجواب حكيم،لأنّه فوّض الأمر حيث استشاره، فأجاب بأنّه ليس مجازها،و إنّما الواجب إمضاء الأمر.(23:129)

الطّباطبائيّ: قوله: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ إظهار رضى بالذّبح في صورة الأمر،و قد قال:(افعل ما تؤمر) و لم يقل:اذبحني،إشارة إلى أنّ أباه مأمور بأمر ليس له إلاّ ائتماره و طاعته.(17:152)

تؤمرون

...فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. البقرة:68

الطّبريّ: افعلوا ما آمركم به،تدركوا حاجاتكم و طلباتكم عندي،و اذبحوا البقرة الّتي أمرتكم بذبحها، تصلوا بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها،إلى العلم بقاتل قتيلكم.(1:344)

الزّمخشريّ: أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به،من قوله:أمرتك الخير أو أمركم بمعنى مأموركم،تسمية للمفعول بالمصدر،كضرب الأمير.(1:287)

مثله النّيسابوريّ(1:343)،و البيضاويّ(1:62)

ص: 143

ابن عطيّة: تجديد للأمر و تأكيد،و تنبيه على ترك التعنّت فما تركوه.(1:313)

الطّبرسيّ:أي اذبحوا ما أمرتم بذبحه.(1:135)

القرطبيّ:تجديد للأمر،و تأكيد و تنبيه على ترك التّعنّت فما تركوه.و هذا يدلّ على أنّ مقتضى الأمر الوجوب،كما تقوله الفقهاء.و هو الصّحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه،و على أنّ«الأمر»على الفور،و هو مذهب أكثر الفقهاء أيضا.و يدلّ على صحّة ذلك أنّه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به، فقال: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ. (1:449)

أبو حيّان:أي من ذبح البقرة،و لا تكرّروا السّؤال، و لا تعنّتوا في أمر ما أمرتم بذبحه.و يحتمل أن تكون هذه الجملة من قول اللّه،و يحتمل أن تكون من قول موسى، و هو الأظهر.حرّضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه.

و(ما)موصولة،و العائد محذوف،تقديره:

ما تؤمرونه.و حذف الفاعل للعلم به؛إذ تقدّم(انّ اللّه يأمركم)و لتناسب أواخر الآي،كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات.[ثمّ استشهد بشعر]

و أجاز بعضهم أن تكون(ما)مصدريّة،أي فافعلوا أمركم،و يكون المصدر بمعنى المفعول،أي مأموركم،و فيه بعد.(1:252)

مثله الآلوسيّ.(1:288)

امر اللّه

1- ..وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً. النّساء:47

ابن عبّاس: يريد لا رادّ لحكمه و لا ناقض لأمره.

(الفخر الرّازيّ 10:123)

الجبّائيّ: إنّ كلّ أمر من أمور اللّه من وعد أو وعيد أو مخبر خبر،فإنّه يكون على ما أخبر به.

(الطّوسيّ 3:218)

الطّبريّ: كان جميع ما أمر اللّه أن يكون كائنا مخلوقا موجودا،لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خلقه.و الأمر في هذا الموضع المأمور،سمّي أمر اللّه،لأنّه عن أمره كان، و بأمره،و المعنى و كان ما أمر اللّه مفعولا.(5:125)

الطّوسيّ: قيل:في معناه قولان:

أحدهما:[و ذكر قول الجبّائيّ]

و الثّاني:أنّ معناه وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً أي الّذي يأمر به بقوله:(كن)،و ذلك يدلّ على أنّ كلامه محدث.

و قال البلخيّ:معناه أنّه إذا أراد شيئا من طريق الإجبار و الاضطرار،كان واقعا لا محالة،و لا يدفعه دافع، كقبض الأرواح و قلب الأرض و إرسال الحجارة و المسخ و غير ذلك.فأمّا ما يأمر به على وجه الاختيار،فقد يقع، و قد لا يقع.و لا يكون في ذلك مغالبة له،لأنّه تعالى لو أراد إلجاءه إلى ما أمره به لقدر عليه.(3:217)

نحوه الطّبرسيّ.(2:56)

الفخر الرّازيّ: فيه مسألتان:

قال ابن عبّاس: يريد لا رادّ لحكمه و لا ناقض لأمره،على معنى أنّه لا يتعذّر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشّيء الّذي لا شكّ في حصوله:هذا الأمر مفعول،و إن لم يفعل بعد.و إنّما قال:(و كان)إخبارا عن جريان عادة اللّه في الأنبياء المتقدّمين أنّه مهما أخبرهم بإنزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة،فكأنّه قيل لهم:

ص: 144

أنتم تعلمون أنّه كان تهديد اللّه في الأمم السّالفة واقعا لا محالة،فاحترزوا الآن و كونوا على حذر من هذا الوعيد،و اللّه أعلم.

المسألة الثّانية:احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية على أنّ كلام اللّه محدث فقال:قوله: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقتضي أنّ أمره مفعول،و المخلوق و المصنوع و المفعول واحد؛فدلّ هذا على أنّ أمر اللّه مخلوق مصنوع.و هذا في غاية السّقوط،لأنّ«الأمر»في اللّغة جاء بمعنى الشّأن و الطّريقة و الفعل،قال تعالى: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود:97،و المراد هاهنا ذاك.(10:123)

الرّازيّ: فإن قيل:كيف قال: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً و المفعول مخلوق،و أمر اللّه و قوله غير مخلوق؟

قلنا:ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضدّ للنّهي،بل المراد به ما يحدث من الحوادث،فإنّ الحادثة تسمّى أيضا أمرا،و منه قوله تعالى: لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً الطّلاق:1،و قوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً يونس:

24.(47)

أبو حيّان: «الأمر»هنا واحد الأمور،و اكتفى به، لأنّه دالّ على الجنس،و هو عبارة عن المخلوقات، كالعذاب و اللّعنة و المغفرة.

و قيل:المراد به«المأمور»مصدر وقع موقع المفعول، و المعنى:الّذي أراده أوجده.و قيل:معناه أنّ كلّ أمر أخّر تكوينه فهو كائن لا محالة،و المعنى:أنّه تعالى لا يتعذّر عليه شيء يريد أن يفعله.(3:268)

2- لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ. التّوبة:48

الزّمخشريّ: غلب دينه و علا شرعه.(2:194)

مثله الطّبرسيّ(30:36)،و القاسميّ(8:3170)، و القرطبيّ(8:157)،و الآلوسيّ(10:113)،و البروسويّ (3:443)،و الطّباطبائيّ(9:290).

الفخر الرّازيّ: ظهر أمر اللّه الّذي كان كالمستور، و المراد ب(امر اللّه)الأسباب الّتي أظهرها اللّه تعالى، و جعلها مؤثّرة في قوّة شرع محمّد عليه الصّلاة و السّلام، و هم لها كارهون أي و هم لمجيء هذا الحقّ و ظهور أمر اللّه كارهون.

و فيه تنبيه على أنّه لا أثر لمكرهم و كيدهم و مبالغتهم في إثارة الشّرّ،فإنّهم منذ كانوا في طلب هذا المكر و الكيد،و اللّه تعالى ردّه في نحرهم،و قلّب مرادهم،و أتى بضدّ مقصودهم،فلمّا كان الأمر كذلك في الماضي،فهذا يكون في المستقبل.(16:83)

نحوه رشيد رضا.(10:475)

3- قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. هود:73

الطّبريّ: قالت الرّسل لها:أ تعجبين من أمر أمر اللّه به أن يكون،و قضاء قضاه اللّه فيك و في بعلك.

(12:77)

نحوه القرطبيّ.(9:70)

الزّمخشريّ: (امر اللّه):قدرته و حكمته.

(2:281)

مثله أبو حيّان.(5:244)

ص: 145

البروسوي: أي من شأن اللّه تعالى بإيجاد الولد من كبيرين.

و في«التّأويلات النّجميّة»: مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي من قدرة اللّه تعالى.فإنّ للّه تعالى سنّة و قدرة،فيجري أمر العوامّ بسنّته،و أمر الخواصّ إظهارا للآية،و الإعجاز بقدرته؛فأجرى أمركم بقدرته.و مثلها امرأة عمران و هي«حنّة»كانت عاقرا،لم تلد إلى أن عجزت،أي صارت عجوزا،ثمّ حملت بمريم-و قد سبق في آل عمران-فإذا كان هذا الحمل بقدرة اللّه تعالى خارقا للعادة لم يحتج إلى الحيض،و لا يبعد الحيض أيضا في كبر السّنّ.(4:164)

الطّباطبائيّ: استفهام إنكاريّ أنكرت الملائكة تعجّبها عليها،لأنّ التّعجّب إنّما يكون للجهل بالسّبب و استغراب الأمر،و الأمر المنسوب إلى اللّه سبحانه و هو الّذي يفعل ما يشاء،و هو على كلّ شيء قدير،لا وجه للتّعجّب منه.

على أنّه تعالى خصّ بيت إبراهيم بعنايات عظيمة و مواهب عالية،يتفرّدون بها من بين النّاس،فلا ضير إن ضمّ إلى ما مضى من نعمه النّازلة عليهم نعمة أخرى مختصّة بهم من بين النّاس،و هو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.

و لهذا الّذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجّبها أوّلا: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فأضافوا «الأمر»إلى اللّه،لينقطع بذلك كلّ استعجاب و استغراب، لأنّ ساحة الألوهيّة لا يشقّ شيء عليها،و هو الخالق لكلّ شيء.

و ثانيا: رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فنبّهوها بذلك أنّ اللّه أنزل رحمته و بركاته عليهم أهل البيت،و ألزمهم ذلك،فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولّد مولود من والدين في غير سنّهما العاديّ المألوف لذلك.(10:325)

4- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ... الرّعد:11

ابن عبّاس: يقول:بإذن اللّه،فالمعقّبات هي من أمر اللّه،و هي الملائكة.(الطّبريّ 13:117)

يعني وليّ السّلطان يكون عليه الحرس،يحفظونه من بين يديه و من خلفه.يقول اللّه عزّ و جلّ:يحفظونه من أمري،فإنّي إذا أردت بقوم سوء فلا مردّ له،و ما لهم من دونه من وال.(الطّبريّ 13:118)

يحفظونه ممّا لم يقدّر نزوله،فإذا جاء المقدّر بطل الحفظ.(الطّبرسيّ 3:281)

مِنْ أَمْرِ اللّهِ أي بأمر اللّه.

مثله الحسن و مجاهد و الجبّائيّ.(الطّبرسيّ 3:281)

مجاهد :ما من عبد إلاّ له ملك موكّل يحفظه في نومه و يقظته من الجنّ و الإنس و الهوامّ،فما منهم شيء يأتيه يريده،إلاّ قال:وراءك،إلاّ شيئا يأذن اللّه فيصيبه.

(الطّبريّ 13:119)

مثله كعب الأحبار و أبو أمامة.(القرطبيّ 9:291)، و النّخعيّ(الطّوسيّ 6:228).

الحفظة:هم من أمر اللّه.(الطّبريّ 13:118)

الضّحّاك: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل.

(القرطبيّ 9:293)

ص: 146

الحسن: المعنى بأمر اللّه،كما تقول:جئتك من دعائك إيّاي،أي بدعائك.

مثله قتادة.(الطّوسيّ 6:228)

يحفظون ما تقدّم من عمله و ما تأخّر إلى أن يموت، فيكتبونه.(الطّبرسي 3:281)

الإمام الباقر عليه السّلام: بأمر اللّه من أن يقع في ركيّ (1)، أو يقع عليه حائط،أو يصيبه شيء،حتّى إذا جاء القدر خلّوا بينه و بينه،يدفعونه إلى المقادير.و هما ملكان يحفظانه بالليل،و ملكان بالنّهار يتعاقبانه.

(العروسيّ 2:487)

ابن جريج: يحفظون عليه،من اللّه.

(الطّبريّ 13:119)

الفرّاء: و المعقّبات من أمر اللّه عزّ و جلّ يحفظونه، و ليس يحفظ من أمره إنّما هو تقديم و تأخير-و اللّه أعلم- و يكون(يحفظونه)ذلك الحفظ من أمر اللّه و بأمره و بإذنه عزّ و جلّ،كما تقول للرّجل:أجيئك من دعائك إيّاي و بدعائك إيّاي،و اللّه أعلم بصواب ذلك.(2:60)

الطّبريّ: قال ابن جريج:«يحفظون عليه من اللّه».

يعني ابن جريج بقوله:«يحفظون عليه»:الملائكة الموكّلة بابن آدم،بحفظ حسناته و سيّئاته،و هي المعقّبات عندنا،تحفظ على ابن آدم حسناته و سيّئاته،من أمر اللّه.

و على هذا القول يجب أن يكون معنى قوله: مِنْ أَمْرِ اللّهِ أنّ الحفظة من أمر اللّه،أو تحفظ بأمر اللّه،و يجب أن تكون الهاء الّتي في قوله:(يحفظونه)وحّدت و ذكّرت، و هي مراد بها الحسنات و السّيّئات،لأنّها كناية عن من ذكر[أي قبلها]الّذي هو مستخف باللّيل و سارب بالنّهار،و أن يكون المستخفي باللّيل أقيم ذكره مقام الخبر عن سيّئاته و حسناته،كما قيل: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها يوسف:82.

(13:117-119)

الطّوسيّ: قال قوم:معناه عن أمر اللّه،كما يقال:

أطعمه عن جوع و من جوع.(6:228)

مثله الطّبرسيّ.(3:281)

الزّمخشريّ: هما صفتان (2)جميعا،و ليس مِنْ أَمْرِ اللّهِ بصلة للحفظ،كأنّه قيل:له معقّبات من أمر اللّه، أو يحفظونه من أجل أمر اللّه،أي من أجل أنّ اللّه أمرهم بحفظه-و الدّليل عليه قراءة عليّ رضي اللّه عنه،و ابن عبّاس و زيد بن عليّ و جعفر بن محمّد و عكرمة:

(يحفظونه بامر اللّه)-أو يحفظونه من بأس اللّه و نقمته إذا أذنب بدعائهم له،و مسألتهم ربّهم أن يمهله رجاء أن يتوب و ينيب،كقوله: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ الأنبياء:42.(2:352)

ابن عطيّة: معنى مِنْ أَمْرِ اللّهِ بأمر اللّه،أي يحفظونه بما أمر اللّه،و هذا تحكّم في التّأويل.

(أبو حيّان 5:372)

الفخر الرّازيّ:ما المراد من قوله: مِنْ أَمْرِ اللّهِ؟ و الجواب:ذكر الفرّاء فيه قولين:.)

ص: 147


1- الرّكيّ:البئر
2- هما صفتان:يعود إلى قوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ...)

القول الأوّل:أنّه على التّقديم و التّأخير،و التّقدير:

له معقبات من امر الله يحفظونه.

القول الثّاني:أنّ فيه إضمارا،أي ذلك الحفظ من أمر اللّه،أي ممّا أمر اللّه به،فحذف الاسم و أبقى خبره،كما يكتب على الكيس«ألفان»و المراد:الّذي فيه ألفان.

و القول الثّالث:ذكره ابن الأنباريّ أنّ كلمة(من) معناها الباء،و التّقدير:يحفظونه بأمر اللّه و بإعانته.

و الدّليل على أنّه لا بدّ من المصير إليه أنّه لا قدرة للملائكة و لا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحدا من أمر اللّه،و ممّا قضاه عليه.(19:19)

أبو حيّان: قال ابن عطيّة و قتادة:[و ذكر قول ابن عطيّة ثمّ قال:]

و ليس بتحكّم،و ورود(من)للسّبب ثابت من لسان العرب.

و قيل:يحفظونه من بأس اللّه و نقمته،كقولك:

حرست زيدا من الأسد،و معنى ذلك إذا أذن اللّه لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه و ينيب،كقوله تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ الأنبياء:42،يصير معنى الكلام إلى التّضمين،أي يدعون له بالحفظ من نقمات اللّه رجاء توبته.

و من جعل«المعقّبات»الحرس،و جعلها في رؤساء الكفّار فيحفظونه-معناه في زعمه و توهّمه-من هلاك اللّه،و يدفعون قضاءه،في ظنّه؛و ذلك لجهالته باللّه تعالى، أو يكون ذلك على معنى التّهكّم به.و حقيقة التّهكّم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلا الثّبوت في ذلك الوصف،و في الحقيقة هو[غير]متّصف،و لذلك حمل بعضهم (يحفظونه)على أنّه مراد به:لا يحفظونه،فحذف«لا».

و على هذا التّأويل في(من)تكون متعلّقة-كما ذكرنا- ب(يحفظونه)و هي في موضع نصب.(5:372)

نحوه الآلوسيّ.(13:111)

الطّباطبائيّ: مِنْ أَمْرِ اللّهِ قيل:هو متعلّق بقوله:(معقّبات)،و أنّ قوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و قوله:(يحفظونه)و قوله: مِنْ أَمْرِ اللّهِ ثلاث صفات لمعقّبات،و فيه أنّه خلاف الظّاهر.

و قيل:هو متعلّق بقوله:(يحفظونه)،و(من)بمعنى الباء للسّببيّة أو المصاحبة،و المعنى يحفظونه بسبب أمر اللّه أو بمصاحبة أمر اللّه.

و قيل:متعلّق ب(يحفظونه)،و(من)للابتداء أو للنّشوء،أي يحفظونه مبتدئا ذلك أو ناشئا ذلك من أمر اللّه.

و قيل:هو كذلك،لكن(من)بمعنى(عن)،أي يحفظونه عن أمر اللّه أن يحلّ به و يغشاه.

و فسّروا الحفظ من أمر اللّه بأنّ«الأمر»بمعنى البأس، أي يحفظونه من بأس اللّه بأن يستمهلوا كلّما أذنب، و يسألوا اللّه سبحانه أن يؤخّر عنه المؤاخذة و العقوبة،أو إمضاء شقائه،لعلّه يتوب و يرجع،و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر،غنيّ عن البيان.(11:315)

5- أَتى أَمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ. النّحل:1

ابن عبّاس: المشركون قالوا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:ائتنا بعذاب اللّه إن كنت من الصّادقين،فقال اللّه تعالى: أَتى أَمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ .(الطّوسيّ 6:358)

ص: 148

ابن عبّاس: المشركون قالوا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:ائتنا بعذاب اللّه إن كنت من الصّادقين،فقال اللّه تعالى: أَتى أَمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ .(الطّوسيّ 6:358)

مثله الحسن.(الطّبرسيّ 3:348)

إنّ(امر اللّه)هو يوم القيامة.(الطّبرسيّ 3:348).

مثله الجبّائيّ.(الطّوسيّ 6:358)

خروج محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(الدّرّ المنثور 4:109)

المراد ب«الأمر»نصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ظهوره على الكفّار.(أبو حيّان 5:472)

الضّحّاك: الأحكام و الحدود و الفرائض.

(الطّبريّ 14:75)

الحسن :(امر اللّه)يراد به العذاب.

مثله ابن جريج.(الطّوسيّ 6:358)

ابن جريج:«الأمر»هنا ما وعد اللّه نبيّه من النّصر، و ظفره بأعدائه،و انتقامه منهم بالقتل و السّبي و نهب الأموال،و الاستيلاء على منازلهم و ديارهم.

(أبو حيّان 5:472)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في«الأمر»الّذي أعلم اللّه عباده مجيئه و قربه منهم ما هو؟و أيّ شيء هو؟ فقال بعضهم:هو فرائضه و أحكامه.

و قال آخرون:بل ذلك وعيد من اللّه لأهل الشّرك به،أخبرهم أنّ السّاعة قد قربت،و أنّ عذابهم قد حضر أجله،فدنا.

و أولى القولين في ذلك عندي بالصّواب قول من قال:هو تهديد من اللّه أهل الكفر به و برسوله،و إعلام منه لهم قرب العذاب منهم و الهلاك؛و ذلك أنّه عقّب ذلك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ فدلّ بذلك على تقريعه المشركين،و وعيده لهم.

و بعد،فإنّه لم يبلغنا أنّ أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم،فيقال لهم من أجل ذلك:قد جاءتكم فرائض اللّه فلا تستعجلوها و أمّا مستعجلو العذاب من المشركين، فقد كانوا كثيرا.(14:75)

نحوه أبو حيّان(5:472)،و الآلوسيّ(14:90).

الزّمخشريّ: كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام السّاعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر،استهزاء و تكذيبا بالوعد فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللّهِ، الّذي هو بمنزلة:الآتي الواقع،و إن كان منتظرا لقرب وقوعه.(2:400)

الطّباطبائيّ: ظاهر السّياق أنّ الخطاب للمشركين،لأنّ الآيات التّالية مسوقة احتجاجا عليهم، إلى قوله في الآية الثّانية و العشرين: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.

و وجه الكلام فيها إلى المشركين،و هي جميعا كالمتفرّعة على قوله في ذيل هذه الآية: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ، و مقتضاه أن يكون«الأمر» الّذي أخبر بإتيانه أمرا يطهّر ساحة الرّبوبيّة من شركهم، بحسم مادّته.

و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر،بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر السّاعة و أمر الفتح و أمر نزول العذاب،كما يشير إليه قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ -إلى قوله - وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يونس:50،53،إلى غير ذلك من الآيات.

و على هذا فالمراد ب«الأمر»ما وعد اللّه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله

ص: 149

و الّذين آمنوا،و أوعد المشركين مرّة بعد مرّة في كلامه أنّه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذّبهم،و يظهر دينه بأمر من عنده،كما قال: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ البقرة:109،و إليه يعود أيضا ضمير فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ على ما يفيده السّياق.

أو يكون المراد بإتيان الأمر:إشرافه على التّحقّق، و قربه من الظّهور.و هذا شائع في الكلام،يقال لمن ينتظر ورود الأمير:هذا الأمير جاء،و قد دنا مجيئه،و لم يجئ بعد.[إلى أن قال:]

و كذا ما ذكروه أنّ المراد ب«الأمر»هو يوم القيامة؛ و ذلك أنّ المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضا-كما يدلّ عليه قولهم على ما حكاه اللّه تعالى: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يس:48-لكن سياق الآيات لا يساعد عليه،كما عرفت.

و من العجيب ما استدلّ به جمع منهم على أنّ المراد ب«الأمر»يوم القيامة،أنّه تعالى لمّا قال في آخر سورة الحجر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الحجر:92،و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم،قال في مفتتح هذه السّورة: أَتى أَمْرُ اللّهِ فأخبر بقرب يوم القيامة،و كذا قوله في آخر الحجر: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ و هو مفسّر بالموت،شديد المناسبة بأن يكون المراد ب«الأمر»في هذه السّورة يوم القيامة.و ممّا يؤكّد المناسبة قوله هناك:(يأتيك)و هاهنا:(اتى)،و أمثال هذه الأقاويل الملفّقة ممّا لا ينبغي أن يلتفت إليها.

و نظيره قول بعضهم:إنّ المراد ب«الأمر»واحدة الأوامر،و معناه الحكم،كأنّه يشير به إلى ما في السّورة من أحكام العهد و اليمين و محرّمات الأكل و غيرها.

و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصّة،و هو كما ترى.

(12:204)

6- ...فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ... الحجرات:9

الطّبريّ: حتّى ترجع إلى حكم اللّه الّذي حكم في كتابه بين خلقه.(26:127)

الطّوسيّ: أي حتّى ترجع إلى أمر اللّه و تترك قتال الطّائفة المؤمنة.(9:346)

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: إِلى أَمْرِ اللّهِ يحتمل وجوها:

أحدها:إلى طاعة الرّسول و أولي الأمر،لقوله تعالى:

أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59.

و ثانيها:إلى أمر اللّه،أي إلى الصّلح،فإنّه مأمور به، يدلّ عليه قوله تعالى: وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ الأنفال:1.

و ثالثها:إلى أمر اللّه بالتّقوى،فإنّ من خاف اللّه حقّ الخوف لا يبقى له عداوة إلاّ مع الشّيطان،كما قال تعالى:

إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فاطر:6.

(28:128)

البروسويّ: أي إلى حكمه الّذي حكم به في كتابه العزيز،و هو المصالحة و رفع العداوة،أو إلى ما أمر به و هو الإطاعة المدلول عليها بقوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59؛ف(امر اللّه) على الأوّل واحد الأمور،و على الثّاني واحد الأوامر.(9:75)

ص: 150

البروسويّ: أي إلى حكمه الّذي حكم به في كتابه العزيز،و هو المصالحة و رفع العداوة،أو إلى ما أمر به و هو الإطاعة المدلول عليها بقوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59؛ف(امر اللّه) على الأوّل واحد الأمور،و على الثّاني واحد الأوامر.(9:75)

نحوه الآلوسيّ(26:150)،و سيّد قطب(6:

3343)،و الطّباطبائيّ(18:315).

7- فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ. المؤمن:78

الطّوسي: يعني قيام السّاعة.(9:98)

الزّمخشريّ: وعيد و ردّ،عقيب اقتراح الآيات.

و(امر اللّه):القيامة.(3:438)

مثله الطّبرسيّ.(4:534)،و الفخر الرّازيّ(27:

89).

الميبديّ: أي بالعذاب لهم،و هو القتل ببدر.

(8:497)

امر الرّبّ

1- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ... النّحل:33

مجاهد :يعني يوم القيامة.

مثله قتادة.(الطّوسيّ 6:377)

الزّمخشري: العذاب المستأصل أو القيامة.

(2:408)

مثله الفخر الرّازيّ(20:25)،و القاسميّ(10:

3800).

القرطبيّ: أي بالعذاب من القتل كيوم بدر،أو الزّلزلة و الخسف في الدّنيا.

و قيل:المراد يوم القيامة.و القوم لم ينتظروا هذه الأشياء،لأنّهم ما آمنوا بها،و لكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب،فأضيف ذلك إليهم،أي عاقبتهم العذاب.(10:102)

البروسويّ: أي العذاب الدّنيويّ،و قد أتى يوم بدر.(5:32)

الآلوسيّ:أي القيامة،كما روي عمّن تقدّم [كمجاهد و قتادة].

و قال بعضهم:المراد به العذاب الدّنيويّ دونها،لا لأنّ انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة.فلا يلائمه العطف ب(أو)،لا لأنّها ليست نصّا في العناد؛إذ يجوز أن يعتبر منع الخلوّ،و يراد بإيرادها كفاية كلّ واحد من الأمرين في عذابهم،بل لأنّ قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى: وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ البقرة:57، فأصابهم،الآية صريح في أنّ المراد به ما أصابهم من العذاب الدّنيويّ،و فيه منع ظاهر.و يؤيّد إرادة الأوّل التّعبير ب(يأتي)دون«يأتيهم».[إلى أن قال:]

و لا يخفى ما في التّعبير بالرّبّ و إضافته إلى ضميره صلّى اللّه عليه و سلّم من اللّطف به عليه السّلام.(14:134)

الطّباطبائيّ:و المراد بإتيان أمر الرّبّ تعالى قيام السّاعة و فصل القضاء و الانتقام الإلهيّ منهم.

و أمّا كون المراد باتيان الأمر ما تقدّم في أوّل السّورة من قوله: أَتى أَمْرُ اللّهِ و قد قرّبنا هناك أنّ المراد به مجيء النّصر و ظهور الإسلام على الشّرك،فلا يلائم

ص: 151

اللّحن الشّديد الّذي في الآية تلك الملائمة،و أيضا سيأتي في ذيل الآيات ذكر إنكارهم للبعث و إصرارهم على نفيه و الرّدّ عليهم،و هو يؤيّد كون المراد بإتيان الأمر قيام السّاعة.

و قد أضاف الرّبّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أَمْرُ رَبِّكَ و لم يقل:أمر اللّه أو أمر ربّهم ليدلّ به على أنّ فيه انتصارا له صلّى اللّه عليه و آله و قضاء له عليهم.(12:237)

2- ..أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ.. الأعراف:150

ابن عبّاس: يعني ميعاد ربّكم،فلم تصبروا له.

(الفخر الرّازي 15:11)

الحسن :وعد ربّكم الّذي وعدكم من الأربعين.(الفخر الرّازيّ 15:11)

عطاء:يريد أعجلتم سخط ربّكم.

(الفخر الرّازيّ 15:11)

الكلبيّ: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربّكم.(الفخر الرّازيّ 15:11)

سيّد قطب :أي استعجلتم قضاءه و عقابه،أو ربّما كان يعني استعجلتم موعده و ميقاته.(3:1374)

الطّباطبائيّ: الظّاهر أنّ المراد ب«أمر ربّهم»أمره الّذي لأجله واعد موسى لميقاته،و هو نزول التّوراة.

و ربّما قيل:إنّ معنى أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربّكم.

و قيل:المعنى استعجلتم وعد اللّه و ثوابه على عبادته، فلمّا لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره.

و قيل:المعنى أعجلتم عمّا أمركم به ربّكم،و هو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده،فبنيتم على أنّ الميقات قد بلغ آخره و لم يرجع إليكم،فغيّرتم هذا.

و ما قدّمناه من الوجه أنسب بالسّياق.(8:250)

3- ..إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..

الكهف:50

مجاهد :عصى في السّجود لآدم.

(الطّبريّ 15:262)

الفرّاء: ففسق عن أمر ربّه،أي خرج عن طاعته.(الفخر الرّازيّ 21:137)

مثله الطّبرسيّ(3:475)،و الميبديّ(5:704).

الطّوسيّ: معناه خرج عن أمر ربّه إلى معصيته، بترك السّجود لآدم.(7:57)

مثله الزّمخشريّ.(2:488)

أبو حيّان: الظّاهر أنّ معنى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فخرج عمّا أمره ربّه به من السّجود.[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل:(ففسق)صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربّه الّذي هو قوله: اُسْجُدُوا لِآدَمَ حيث لم يمتثله.

و قيل:و يحتمل أن يكون المعنى ففسق بأمر ربّه،أي بمشيئته و قضائه،لأنّ المشيئة يطلق عليها«أمر»كما تقول:فعلت ذلك عن أمرك،أي بحسب مرادك.

(6:136)

الآلوسيّ: أي فخرج عن طاعته سبحانه،كما قال الفرّاء.[إلى أن قال:]

و كأنّ ما ذكره الفرّاء بيان لحاصل المعنى؛إذ ليس «الأمر»بمعنى الطّاعة أصلا بل هو إمّا بمعنى المأمور به

ص: 152

«و هو السّجود»و خروجه عنه بمعنى عدم اتّصافه به، و إمّا قوله: اُسْجُدُوا و خروجه عنه،مخالفته له.و كون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر.(15:293)

4- وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي...

الإسراء:85

الطّبريّ: إنّه من الأمر الّذي يعلمه اللّه عزّ و جلّ دونكم،فلا تعلمونه،و يعلم ما هو.(15:157)

الطّوسيّ: أي من خلق ربّي و فعله.(6:515)

مثله الطّبرسيّ.(3:437)

الميبديّ: أي من وحي ربّي،و من عنده،كقوله:

أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الشّورى:52.

و قيل:هي الرّوح الّتي يحيا بها البدن،سألوه عن ذلك و عن حقيقته و كيفيّته و موضعه من البدن،و لم يعط علمه أحدا من عباده،فقال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من علم ربّي،و إنّكم لا تعلمونه.(5:614)

الزّمخشريّ: أي من وحيه و كلامه،ليس من كلام البشر.(2:464)

الفخر الرّازيّ: إنّ لفظ«الأمر»قد جاء بمعنى «الفعل»قال تعالى: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود:97، و قال: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا هود:66،أي فعلنا،فقوله:

قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من فعل ربّى.

(21:38)

الطّباطبائيّ: و ظاهر«من»أنّها لتبيين الجنس،كما في نظائرها من الآيات: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ المؤمن:

15، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ النّحل:2 أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الشّورى:52، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ القدر:

4،فالرّوح من سنخ الأمر.ثمّ عرّف أمره في قوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يس:82،83،فبيّن أوّلا أنّ(امره)هو قول للشّيء:(كن)و هو كلمة«الإيجاد» الّتي هي الإيجاد،و الإيجاد هو وجود الشّيء لكن لا من كلّ جهة بل من جهة استناده إليه تعالى و قيامه به؛فقوله:

فعله.

و من الدّليل على أنّ وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه-مع إلغاء الأسباب الوجوديّة الأخر- قوله تعالى: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ القمر:50،حيث شبّه«أمره»بعد عدّه(واحدة)بلمح بالبصر.و هذا النّوع من التّشبيه لنفي التّدريج؛و به يعلم أنّ في الأشياء المكوّنة تدريجيّا الحاصلة بتوسّط الأسباب الكونيّة المنطبقة على الزّمان و المكان جهة،معرّاة عن التّدريج،خارجة عن حيطة الزّمان و المكان،هي من تلك الجهة أمره و قوله و كلمته.

و أمّا الجهة الّتي هي بها تدريجيّة مرتبطة بالأسباب الكونيّة منطبقة على الزّمان و المكان فهي بها من الخلق، قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54، ف(الامر)هو وجود الشّيء من جهة استناده إليه تعالى وحده،و(الخلق)هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسّط الأسباب الكونيّة فيه.

و يستفاد ذلك أيضا من قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل

ص: 153

عمران:59،حيث ذكر أوّلا خلق آدم و ذكر تعلّقه بالتّراب،و هو من الأسباب،ثمّ ذكر وجوده و لم يعلّقه بشيء إلاّ بقوله:(كن)،فافهم ذلك.

و نظيره قوله: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً -إلى أن قال - ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ المؤمنون:13،14،فعدّ إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلّل الأسباب الكونيّة إنشاء خلق آخر.

فظهر بذلك كلّه أنّ«الأمر»هو كلمة الإيجاد السّماويّة و فعله تعالى المختصّ به،الّذي لا تتوسّط فيه الأسباب،و لا يتقدّر بزمان أو مكان،و غير ذلك.

(13:197)

امر فرعون

..فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.

هود:97

الطّوسيّ: الأمر هو قول القائل لمن دونه:افعل.

و فيه إخبار أنّ قوم فرعون اتّبعوه على ما كان يأمرهم به.

ثمّ أخبر تعالى أنّ أمر فرعون لم يكن رشيدا -و الرّشيد هو الّذي يدعو إلى الخير و يهدي إليه-فأمر فرعون بضدّ هذه الحال،لأنّه يدعو إلى الشّرّ،و يصدّ عن الخير.

و استدلّ قوم بهذه الآية على أنّ لفظة«الأمر» مشتركة بين القول و الفعل،لأنّه قال: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يعني و ما فعل فرعون برشيد.و هذا ليس بصحيح،لأنّه يجوز أن يكون أراد بذلك الأمر الّذي هو «القول»،أو يكون مجازا.(6:59)

الطّبرسيّ:[قال مثل الطّوسيّ و أضاف:]

و المراد هاهنا:و ما فعل فرعون برشيد.(3:190)

الفخر الرّازيّ:يحتمل أن يكون المراد أمره إيّاهم بالكفر بموسى و معجزاته،و يحتمل أن يكون المراد من «الأمر»الطّريق و الشّأن.(18:53)

مثله أبو حيّان.(5:258)

الآلوسيّ: أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السّلام من الحقّ،للإيذان بوضوح حاله.فكأنّ كفره و أمر ملئه بذلك أمر متحقّق الوجود غير محتاج إلى الذّكر صريحا، و إنّما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المتردّدين بين هاد إلى الحقّ-و هو موسى عليه السّلام-و داع إلى الضّلال-و هو فرعون-فنعى عليهم سوء اختيارهم.

و إيراد«الفاء»للإشعار بمفاجأتهم في الاتّباع، و مسارعة فرعون إلى الكفر و الأمر به،فكأنّ ذلك لم يتراخ عن الإرسال و التّبليغ.

و جوّز أن يراد من الأمر:الطّريقة و الشّأن.[إلى أن قال:]

و عدل عن أمره إلى أمر فرعون،لدفع توهّم رجوع الضّمير إلى موسى عليه السّلام من أوّل الأمر،و لزيادة تقبيح حال المتّبعين،فإنّ فرعون علم في الفساد و الإفساد، و الضّلال و الإضلال،فاتّباعه لفرط الجهالة و عدم الاستبصار.(12:133)

الطّباطبائيّ:الظّاهر أنّ المراد ب«الأمر»ما هو الأعمّ من القول و الفعل،كما حكى اللّه عن فرعون في

ص: 154

قوله: قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ المؤمن:29،فينطبق على السّنّة و الطّريقة الّتي كان يتّخذها و يأمر بها.و كأنّ الآية محاذاة لقول فرعون هذا،فكذّبه اللّه تعالى بقوله: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. (10:380)

امر المسرفين

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الشّعراء:151

الزّمخشريّ: استعير لامتثال الأمر،و ارتسامه طاعة الآمر المطاع،أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكميّ،و المراد الآمر.و منه قولهم:لك عليّ إمرة مطاعة، و قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا أَمْرِي طه:90.

(3:123)

الآلوسي: نسبة الإطاعة إلى الأمر مجاز،و هي للآمر حقيقة.و في ذلك من المبالغة ما لا يخفى،و كونه لا يناسب المقام،فيه بحث.

و يجوز أن تكون الإطاعة مستعارة للامتثال لما بينهما من الشّبه في الإفضاء إلى فعل ما أمر به،أو مجازا مرسلا عنه للزومه له.

و يحتمل أن يكون هناك استعارة مكنيّة و تخييليّة.

و جوّز عليه أن يكون«الأمر»واحد الأمور،و فيه من البعد ما فيه.(19:113)

الطّباطبائيّ: الظّاهر أنّ المراد ب«الأمر»ما يقابل النّهي،بقرينة النّهي عن طاعته و إن جوّز بعضهم كون «الأمر»بمعنى الشّأن؛و عليه يكون المراد بطاعة أمرهم:

تقليد العامّة و اتّباعهم لهم في أعمالهم،و سلوكهم السّبل الّتي يستحبّون لهم سلوكها.(15:305)

الأمر

1- وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ. آل عمران:152

الفخر الرّازيّ: قوله:(فى الامر)،فيه وجهان:

الأوّل:أنّ(الأمر)هاهنا بمعنى الشّأن و القصّة،أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشّأن.

و الثّاني:أنّه الأمر الّذي يضادّه النّهي،و المعنى و تنازعتم فيما أمركم الرّسول به،من ملازمة ذلك المكان.

(9:36)

البروسويّ: أي في أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال بعض الرّماة:-حين انهزم المشركون و ولّوا هاربين، و المسلمون على أعقابهم قتلا و ضربا-فما موقفنا هذا؟ و قال رئيسهم عبد اللّه بن جبير:لا نخالف أمر الرّسول عليه الصّلاة و السّلام،فثبت مكانه في نفر دون العشرة من أصحابه،و نفر الباقون للنّهب.(2:110)

الآلوسيّ: أي أمر الحرب أو أمره صلّى اللّه عليه و سلّم لكم في سدّ ذلك الثّغر.(4:89)

الطّباطبائيّ: ينطبق على ما صنعه الرّماة؛حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم و اللّحوق بمن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لنيل الغنيمة،ففشلوا و تنازعوا في الأمر، و عصوا أمر النّبيّ بأن لا يتركوا مراكزهم على أيّ حال.(4:43)

ص: 155

2- ..يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا... آل عمران:154

الطّوسيّ: قيل:في معناه قولان:

أحدهما:قال الحسن:أخرجنا كرها،و لو كان الأمر إلينا ما خرجنا،و ذلك من قبل عبد اللّه بن أبيّ بن سلول، و معتّب بن قشير،على قول الزّبير بن العوّام،و ابن جريج.

و الآخر:أي ليس لنا من الظّفر شيء كما وعدنا على وجه التّكذيب.(3:24)

الزّمخشريّ: معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر اللّه نصيب قطّ؟يعنون النّصر و الإظهار على العدوّ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ و لأوليائه المؤمنين،و هو النّصر و الغلبة. كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي المجادلة:21، وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. الصّافّات:173. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ معناه يقولون لك فيما يظهرون: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ سؤال المؤمنين المسترشدين،و هم فيما يبطنون على النّفاق يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض،منكرين لقولك لهم: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ : لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي لو كان الأمر كما قال محمّد[صلّى اللّه عليه و آله:]إنّ الأمر كلّه للّه و لأوليائه و إنّهم الغالبون،لما غلبنا قطّ،و لما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة.(1:472)

الفخر الرّازيّ:[له كلام مستوفى لخّصه النّيسابوريّ كما يأتي](9:47)

النّيسابوريّ: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حكاية شبهة،تمسّك بها أهل النّفاق،فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار.و إنّما يحتمل وجوها:

أحدها:هل لنا من التّدبير من شيء،يعنون رأي عبد اللّه بن أبيّ،و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة و لا يخرج منها،و نظيره ما حكي عنه:

«لو أطاعونا ما قتلوا».

و ثانيها:من عادة العرب أنّه إذا كانت الدّولة لأحد قالوا:له الأمر،و إذا كانت لعدوّه:قالوا عليه الأمر،أي هل لنا من الأمر الّذي كان يعدنا به محمّد و هو النّصر و القدرة شيء؟

و ثالثها:أ نطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ و الغرض منه تعيير المسلمين على التّسديد في الجهاد، فأمره اللّه تعالى أن يجيب عنها بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ.

و الحوادث بأسرها مستندة إلى قضائه و قدره،فإذا كان قدّر الخروج إلى الكفّار و اختصاص جمع من الصّحابة بالشّهادة،فلا مفرّ من ذلك.و إذا أراد إعلاء كلمة الإسلام و إظهار هذا الدّين على الأديان،وقع لا محالة.[إلى أن قال:]

ثمّ لمّا كان سؤالهم ذلك مظنّة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين،أراد أن يكشف عن حالهم و يبيّن مقالهم،كيلا يغترّ به المؤمنون،فقال:

يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي ذلك القول إنّما صدر عنهم في هذه الحالة،فكان لسائل أن يسأل ما الّذي يخفونه في أنفسهم؟فقيل: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا، و قد مرّ تفسيره.

ص: 156

و يحتمل أن يراد:لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل هاهنا،فيكون كالطّعن في قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ.

قال في«التّفسير الكبير»:هذا بعينه هو المناظرة الدّائرة بين السّنّيّ و المعتزليّ،فذاك يقول:الطّاعة و العصيان و الكفر و الإيمان من اللّه،و هذا يقول:الإنسان مختار مستقلّ،إن شاء آمن،و إن شاء كفر،فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أن يجيب عن هذا الاعتقاد؛بأنّ ما قضى اللّه فهو كائن، و الحذر لا يردّ القدر،و التّدبير لا يبطل التّقدير.و إن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء،و هو أن يتميّز الموافق عن المنافق،كما في المثل:لا تكرهوا الفتن فإنّها حصاد المنافقين،و تطهير القلوب عن وساوس الشّبهات، و تبعات المعاصي و السّيّئات.(4:98)

أبو حيّان: ظاهر قوله: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ الاستفهام.فقيل:سألوا الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم هل لهم معاشر المسلمين من النّصر و الظّهور على العدوّ شيء؟ أي نصيب.

و أجيبوا بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ،لِلّهِ و هو النّصر و الغلبة كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي المجادلة:21، وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ الصّافّات:173.

و قيل:المعنى ليس النّصر لنا بل هو للمشركين.

و قال قتادة و ابن جريج:قيل لعبد اللّه بن أبيّ بن سلول:قتل بنو الخزرج،فقال:و هل لنا من الأمر من شيء؟يريد أنّ الرّأي ليس لنا،و لو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا،و لم نخرج و لم يقتل أحد منّا،و هذا منهم قول بأجلين.

و ذكر المهدويّ و ابن فورك أنّ المعنى:لسنا على حقّ في اتّباع محمّد.و يضعف هذا التّأويل الرّدّ عليهم بقوله:

قل فأفهم:أنّ كلامهم إنّما هو في معنى سوء الرّأي في الخروج،و أنّه لو لم يخرج لم يقتل أحد؛و على هذا المعنى و ما قبله من قول قتادة و ابن جريج يكون الاستفهام معناه النّفي.(3:87)

الآلوسيّ: و الجملة قيل:إمّا حال أو خبر إثر خبر، أو صفة إثر صفة،أو مستأنفة مبيّنة لما قبلها،أو بدل من (يظنّون)و هو بدل الكلّ بحسب الصّدق،و بدل الاشتمال بحسب المفهوم.

و استشكل بأنّ قوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنا إلخ تفسير ل(يظنّون)و ترجمة له.و الاستفهام لا يكون ترجمة للخبر، كما لا يصحّ أن تقول:أخبرني زيد قال:لا تذهب،أو أمرني قال:لا تضرب،أو نهاني قال:اضرب،فإنّ المطابقة بين الحكاية و المحكيّ واجبة.

و حاصل الإشكال أنّ متعلّق«الظّنّ»النّسبة التّصديقيّة،فكيف يقع استفهام ترجمة له؟

و أجيب بأنّ الاستفهام طلب علم فيما يشكّ و يظنّ، فجاز أن يكون متعلّق«الظّنّ».و تحقيقه أنّ«الظّنّ»أو «العلم»يتعلّق بما يقال في جواب ذلك الاستفهام،على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب باستفهام.و لا يخفى أنّ هذا إنّما هو على تقدير كون الاستفهام حقيقيّا،و أمّا على تقدير كونه إنكاريّا فلا إشكال،و لا قيل و لا قال،لأنّه خبر،فيتطابق مع ما قبله في الخبريّة.

و بعض من جعله إنكاريّا ذهب إلى أنّ المعنى إنّا منعنا تدبير أنفسنا و تصريفها باختيارنا،فلم يبق لنا من الأمر

ص: 157

شيء.و قد قال ذلك عبد اللّه بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج،ثمّ قال:و اللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.

قيل:و ظنّهم السّوء على هذا،تصويبهم رأي عبد اللّه و من تبعه.

و قيل:الاستفهام على ظاهره،و المعنى هل يزول عنّا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء،و لا يخفى أنّه خلاف الظّاهر.(4:95)

الطّباطبائيّ: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ إلى قوله:«لله»أي ظنّوا باللّه أمرا ليس بحقّ بل هو من ظنون الجاهليّة،فهم يصفونه بوصف ليس بحقّ بل من الأوصاف الّتي كان يصفه بها أهل الجاهليّة.و هذا الظّنّ أيّا ما كان هو شيء يناسبه،و يلازمه قولهم: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، و يكشف عنه ما أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم به،و هو قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ. فظاهر هذا الجواب أنّهم كانوا يظنّون أنّ بعض«الأمر»لهم،و لذا لمّا غلبوا و فشا فيهم القتل،تشكّكوا،فقالوا: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ.

و بذلك يظهر أنّ«الأمر»الّذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظّهور و الغلبة،و إنّما كانوا يظنّونه لأنفسهم من جهة إسلامهم.فهم قد كانوا يظنّون أنّ الدّين الحقّ لا يغلب و لا يغلب المتديّن به،لما أنّ على اللّه أن ينصره من غير قيد و شرط،و قد وعدهم به.[إلى أن قال:]

و لنرجع إلى ما كنّا فيه؛فقول هؤلاء الطّائفة الّذين أهمّتهم أنفسهم: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ تشكّك في حقّيّة الدّين،و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنيّة على ما مرّ بيانه،فأمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم،فقال:

قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ، و قد خاطب نبيّه قبل ذلك بقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فبيّن بذلك أنّ ملّة الفطرة و دين التّوحيد هو الّذي لا يملك فيه الأمر إلاّ اللّه جلّ شأنه،و باقي الأشياء و منها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليست بمؤثّرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب و المسبّبات،و السّنّة الإلهيّة الّتي تؤدّي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان.[إلى أن قال:]

و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدّة من المفسّرين:إنّ المراد بهذه الطّائفة-الّتي تشرح الآية حالها-هم المنافقون،مع ظهور سياق الآيات في أنّها تصف حال المؤمنين.و أمّا المنافقون-أعني أصحاب عبد اللّه بن أبيّ المنخذلين في أوّل الواقعة قبل وقوع القتال- فإنّما يتعرّض لحالهم فيما سيأتي.

اللّهمّ إلاّ أن يريدوا بالمنافقين الضّعفاء الإيمان،الّذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللاّزم إلى إنكار الحقّ قلبا،و الاعتراف به لسانا،و هم الّذين يسمّيهم اللّه:

بالّذين في قلوبهم مرض،قال تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ الأنفال:49،و قال: وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ التّوبة:47، أو يريدوا أنّ جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد اللّه بن أبيّ إلى المدينة.

و أعجب منه قول بعض آخر:إنّ هذه الطّائفة كانوا مؤمنين،و أنّهم كانوا يظنّون أنّ أمر النّصر و الغلبة إليهم، لكونهم على دين اللّه الحقّ لما رأوا من الفتح و الظّفر و نزول الملائكة يوم بدر،فقولهم: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ و قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلخ، اعتراف منهم بأنّ«الأمر»إلى اللّه لا إليهم و إلاّ لم يستأصلهم القتل.

ص: 158

و أعجب منه قول بعض آخر:إنّ هذه الطّائفة كانوا مؤمنين،و أنّهم كانوا يظنّون أنّ أمر النّصر و الغلبة إليهم، لكونهم على دين اللّه الحقّ لما رأوا من الفتح و الظّفر و نزول الملائكة يوم بدر،فقولهم: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ و قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلخ، اعتراف منهم بأنّ«الأمر»إلى اللّه لا إليهم و إلاّ لم يستأصلهم القتل.

و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ،و هو قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ و قوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ آل عمران:154 إلخ،و قد أحسّ بعض هؤلاء بهذا الإشكال،فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه، و قد عرفت ما هو الحقّ من المعنى.(4:47-50)

3- ...وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ... آل عمران:159

الزّمخشريّ: يعني في أمر الحرب و نحوه،ممّا لا ينزل عليك فيه وحي،لتستظهر برأيهم.(1:474)

أبو حيّان:قيل:في أمر الحرب و الدّنيا.و قيل:في الدّين و الدّنيا ما لم يرد نصّ،و لذلك استشار في أسرى بدر.[إلى أن قال:]

و قراءة الجمهور (فِي الْأَمْرِ) ليس على العموم؛إذ لا يشاور في التّحليل و التّحريم.و الأمر:اسم جنس،يقع للكلّ و للبعض.

و قرأ ابن عبّاس (فى بعض الأمر) .(3:98)

رشيد رضا :(الأمر)المعرّف هنا،هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى،الّتي وضعت للحكومة الإسلاميّة في سورة الشّورى المكّيّة،و هي قوله تعالى في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدّين: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشّورى:38،فالمراد ب(الأمر)أمر الأمّة الدّنيويّ الّذي يقوم به الحكّام عادة،لا أمر الدّين المحض الّذي مداره على الوحي دون الرّأي؛إذ لو كانت المسائل الدّينيّة-كالعقائد و العبادات و الحلال و الحرام-ممّا يقرّر بالمشاورة،لكان الدّين من وضع البشر،و إنّما هو وضع إلهيّ ليس لأحد فيه رأي،لا في عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و لا بعده.

و قد روي أنّ الصّحابة عليهم الرّضوان كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في مسائل الدّنيا إلاّ بعد العلم،بأنّه قاله عن رأي لا عن وحي،كما فعلوا يوم بدر؛إذ جاء النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أدنى ماء من بدر فنزل عنده،فقال الحبّاب بن المنذر بن الجموح:يا رسول اللّه أ رأيت هذا المنزل أ منزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه و لا نتأخّر عنه،أم هو الرّأي و الحرب و المكيدة؟فقال:«بل هو الرّأي و الحرب و المكيدة».فقال:يا رسول اللّه ليس هذا بمنزل،فانهض بالنّاس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله،ثمّ نغور ما وراءه إلى آخر ما قال.فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«لقد أشرت بالرّأي»،و عمل برأيه.

(4:200)

4- ..ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ..

يونس:3

الزّمخشريّ: (الامر):أمر الخلق كلّه،و أمر ملكوت السّماوات و الأرض و العرش.

فإن قلت:ما موقع هذه الجملة؟

قلت:قد دلّ بالجملة قبلها على عظمة شأنه و ملكه بخلق السّماوات و الأرض،مع بسطتها و اتّساعها في وقت يسير،و بالاستواء على العرش.و أتبعها هذه الجملة لزيادة الدّلالة على العظمة،و أنّه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه و تقديره.(2:225)

ص: 159

نحوه الفخر الرّازيّ.(7:14)

أبو حيّان: الخلق كلّه علويّة و سفليّة.(5:123)

مثله الآلوسيّ(11:64)،و الكاشانيّ(2:394).

القرطبيّ: الأمر:اسم لجنس الأمور.(8:308)

5- ..وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ.

الأنعام:8

راجع«ق ض ي».

6- أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.

الأعراف:54

راجع«خ ل ق».

7- ..وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ... هود:44

راجع«ق ض ي».

8- ..قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ. يوسف:41

الزّمخشريّ: قطع و تمّ ما تستفتيان فيه من أمركما و شأنكما.

فإن قلت:ما استفتيا في أمر واحد بل في أمرين مختلفين،فما وجه التّوحيد؟

قلت:المراد ب(الامر)ما اتّهم به من سمّ الملك و ما سجنا من أجله،و ظنّا أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنّهما كانا يستفتيانه في الأمر الّذي نزل بهما،أ عاقبته نجاة أم هلاك؟فقال لهما: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي ما يجرّ إليه من العاقبة،و هي هلاك أحدهما و نجاة الآخر.

و قيل:جحدا و قالا:ما رأينا شيئا-على ما روي أنّهما تحالما له-فأخبرهما أنّ ذلك كائن صدقتما أو كذبتما.

(2:322)

الطّبرسيّ: أي فرغ من الأمر الّذي تسألان و تطلبان معرفته،و ما قلته لكما فإنّه نازل بكما،و هو كائن لا محالة.و في هذا دلالة على أنّه كان يقول ذلك على جهة الإخبار عن الغيب بما يوحى إليه،لا كما يعبّر أحدنا الرّؤيا على جهة التّأويل.(3:234)

نحوه أبو حيّان.(5:311)

الآلوسيّ: قيل:المراد ب(الامر)ما اتّهما به،و الكلام حينئذ على حذف مضاف،أي عاقبة ذلك.

و ذهب بعض المحقّقين إلى أنّ المراد به ما رأياه من الرّؤيتين،و نفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما.(12:246)

9- ..لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ... الرّوم:4

الإمام الباقر عليه السّلام: لِلّهِ الْأَمْرُ من قبل أن يأمر، و من بعد أن يقضي بما يشاء.

مثله الإمام العسكريّ عليه السّلام.(الكاشانيّ 4:125)

أبو حيّان: لِلّهِ الْأَمْرُ أي إنفاذ الأحكام، و تصريفها على ما يريد.(7:162)

سيّد قطب :المسارعة بردّ(الامر)كلّه للّه،في هذا الحادث و في سواه،و تقرير هذه الحقيقة الكلّيّة،لتكون ميزان الموقف و ميزان كلّ موقف.

فالنّصر و الهزيمة،و ظهور الدّول و دثورها،و ضعفها

ص: 160

و قوّتها،شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون،من أحداث و من أحوال،مردّه كلّه إلى اللّه،يصرفه كيف شاء،وفق حكمته و وفق مراده.و ما الأحداث و الأحوال إلاّ آثار لهذه الإرادة المطلقة،الّتي ليس لأحد عليها من سلطان،و لا يدري أحد ما وراءها من الحكمة،و لا يعرف مصادرها و مواردها إلاّ اللّه.و إذن فالتّسليم و الاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال و الأحداث الّتي يجريها اللّه،وفق قدر مرسوم.(5:2757)

الطّباطبائيّ: (قبل)و(بعد)مبنيّان على الضّمّ، فهناك مضاف إليه مقدّر،و التّقدير:للّه الأمر من قبل أن غلبت الرّوم و من بعد أن غلبت،يأمر بما يشاء؛فينصر من يشاء،و يخذل من يشاء.

و قيل:المعنى لِلّهِ الْأَمْرُ من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين،و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين،أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين.و المعنى الأوّل أرجح،إن لم يكن راجحا متعيّنا.(16:155)

10- يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ...

السّجدة:5

ابن عبّاس: ينزّل القضاء و القدر.

(القرطبيّ 14:86)

ينفّذ اللّه قضاءه بجميع ما يشاؤه.

مثله مجاهد و قتادة و عكرمة و الضّحّاك.

(أبو حيّان 7:198)

السّدّيّ: الأمر:الوحي.(أبو حيّان 7:198)

مقاتل: القضاء.(أبو حيّان 7:198)

الطّوسيّ: معناه أنّ الّذي خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما في هذه المدّة يدبّر الأمور كلّها،و يقدّرها على حسب إرادته في ما بين السّماء و الأرض،و ينزله مع الملك إلى الأرض.(8:294)

مثله الطّبرسيّ.(4:326)

الزّمخشريّ: المأمور به من الطّاعات و الأعمال الصّالحة،ينزله مدبّرا.(3:241)

الفخر الرّازيّ:لمّا بيّن اللّه تعالى الخلق بيّن الأمر، كما قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54، و العظمة تتبيّن بهما.فإنّ من يملك مماليك كثيرين عظماء تكون له عظمة،ثمّ إذا كان أمره نافذا فيهم يزداد في أعين الخلق،و إن لم يكن له نفاذ أمر،ينقص من عظمته.

(25:172)

أبو حيّان: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ الأمر:واحد الأمور.

و قيل:يدبّر أمر الشّمس في طلوعها من المشرق و غروبها في المغرب،و مدارها في العالم من السّماء إلى الأرض،لأنّها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب، و ترجع إلى موضعها من الطّلوع.(7:198)

11- وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ... الجاثية:17

ابن عبّاس: يعني بيّن لهم من أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه يهاجر من تهامة إلى يثرب،و يكون أنصاره أهل يثرب.(الفخر الرّازيّ 27:265)

الطّبريّ: و أعطينا بني إسرائيل واضحات من أمرنا،بتنزيلنا إليهم التّوراة،فيها تفصيل كلّ

ص: 161

شيء.(25:146)

نحوه أبو حيّان.(8:45)

الزّمخشريّ: من أمر الدّين،فما وقع بينهم الخلاف في الدّين.(3:511)

الطّبرسيّ: أي أعطيناهم دلالات،و براهين واضحات من العلم،بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و ما بيّن لهم من أمره.و قيل:يريد ب(الأمر)أحكام التّوراة.(5:75)

الفخر الرّازيّ: فيه وجوه:

الأوّل:أنّه آتاهم من الأمر،أي أدلّة على أمور الدّنيا.

الثّاني:قال ابن عبّاس:يعني بيّن لهم من أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه يهاجر من تهامة إلى يثرب،و يكون أنصاره أهل يثرب.

الثّالث:المراد وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ، أي معجزات قاهرة على صحّة نبوّتهم،و المراد معجزات موسى عليه السّلام.(27:265)

القرطبيّ:قيل:«بيّنات الأمر»:شرائع واضحات في الحلال و الحرام،و معجزات.(16:163)

12- ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. الجاثية:18

الزّمخشريّ: من أمر الدّين.(3:511)

مثله الفخر الرّازيّ(27:265)،و البروسويّ(8:

444)،و الآلوسيّ(25:149).

ابن العربيّ:«الأمر»يرد في اللّغة بمعنيين:

أحدهما:بمعنى الشّأن،كقوله: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود:97.

و الثّاني:أنّه أحد أقسام الكلام الّذي يقابله النّهي.

و كلاهما يصحّ أن يكون مرادا هاهنا،و تقديره:ثمّ جعلناك على طريقة من الدّين،و هي ملّة الإسلام،كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ النّحل:123.(4:1694)

الطّباطبائيّ: (الامر):أمر الدّين،و المعنى:بعد ما آتينا بني إسرائيل ما آتينا،جعلناك على طريقة خاصّة من أمر الدّين الإلهيّ،و هي الشّريعة الإسلاميّة الّتي خصّ اللّه بها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و أمّته.(18:166)

13- اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ... الطّلاق:12

مجاهد :بحياة بعض و موت بعض،و سلامة هذا و هلاك ذاك مثلا.(الفخر الرّازيّ 30:40)

الحسن :بين كلّ سماءين أرض و أمر.

(القرطبيّ 18:176)

عطاء: يريد الوحي بينهنّ إلى خلقه في كلّ أرض، و في كلّ سماء.(الفخر الرّازيّ 30:40)

قتادة :في كلّ سماء و في كلّ أرض خلق من خلقه، و أمر من أمره،و قضاء من قضائه.

(الزّمخشريّ 4:124)

مقاتل: يعني الوحي من السّماء العليا إلى الأرض السّفلى.(الفخر الرّازيّ 30:40)

الميبديّ: أي بين السّماء و الأرض،يريد:الأمر و النّهي و الرّسل و الوحي.

ص: 162

و قيل:(بينهنّ)أي بين كلّ سماء و سماء و أرض و أرض.

و(الامر):القضاء و القدر.

و قيل:يريد ب(الامر)الوقائع و الحوادث الّتي تحدث،و كلّ واحد منهما أمر و شأن من اللّه،يتنزّل بحكمه و قضائه و علمه.

و قيل:هو ما يدبّر فيهنّ من عجيب تدبيره؛فينزّل المطر و يخرج النّبات،و يأتي باللّيل و النّهار و الشّتاء و الصّيف،و يخلق الحيوان على اختلاف هيأتها و أنواعها، و ينقلهم من حال إلى حال.(10:147)

الزّمخشريّ: أي يجري أمر اللّه و حكمه بينهنّ، و ملكه ينفذ فيهنّ.(4:124)

الطّبرسيّ: إنّما صاحب الأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و هو على وجه الأرض.و إنّما(يتنزّل الامر)من فوق بين السّماوات و الأرضين؛فعلى هذا يكون المعنى تتنزّل الملائكة بأوامره إلى الأنبياء.(5:311)

القرطبيّ: قال مجاهد:يتنزّل الأمر من السّماوات السّبع إلى الأرضين السّبع.

و قال الحسن: بين كلّ سماءين أرض و أمر.

و(الامر)هنا الوحي،في قول مقاتل و غيره؛و عليه فيكون قوله:(بينهنّ)إشارة إلى بين هذه الأرض العليا الّتي هي أدناها و بين السّماء السّابعة الّتي هي أعلاها.

و قيل:الأمر القضاء و القدر.و هو قول الأكثرين.فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى:(بينهنّ)إشارة إلى ما بين الأرض السّفلى الّتي هي أقصاها و بين السّماء السّابعة الّتي هي أعلاها.و قيل: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة بعض و موت بعض و غنى قوم و فقر قوم.و قيل:هو ما يدبّر فيهنّ من عجيب تدبيره؛فينزل المطر و يخرج النّبات و يأتي باللّيل و النّهار،و الصّيف و الشّتاء،و يخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها و هيئاتها؛فينقلهم من حال إلى حال.قال ابن كيسان:و هذا على مجال اللّغة و اتّساعها؛كما يقال للموت:أمر اللّه؛و للرّيح و السّحاب و نحوها.(18:176)

البروسويّ: أي أمر اللّه،و اللاّم عوض عن المضاف إليه.(بينهنّ)أي بين السّماوات السّبع و الأرضين السّبع.

و الظّاهر أنّ الجملة استئنافيّة للإخبار عن شمول جريان حكمه و نفوذ أمره في العلويّات و السّفليّات كلّها.

فالأمر عند الأكثرين القضاء و القدر،بمعنى يجري قضاؤه و ينفذ حكمه بين السّماء السّابعة الّتي هي أعلى السّماوات، و بين الأرض السّابعة الّتي أسفل الأرضين.و لا يقتضي ذلك أن لا يجري في العرش و الكرسيّ،لأنّ المقام اقتضى ذكر ما ذكره،و التّخصيص بالذّكر لا يقتضي التّخصيص بالحكم،كذا قالوا.

يقول الفقير: تحقيق هذا المقام يستدعي تمهيد مقدّمة،و هي أنّه استوى الأمر الإراديّ الإيجاديّ على العرش،كما استوى الأمر التّكليفيّ الإرشاديّ على الشّرع الّذي هو مقلوب العرش،و التّجلّيات الإيجاديّة الأمريّة المتنزّلة بين السّماوات السّبع و الأرضين السّبع موقوفة على استواء أمر تمام حصول الأركان الأربعة على العرش،و تلك الأمور الأربعة هي:الحركة المعنويّة الأسمائيّة،و الحركة النّوريّة الرّوحانيّة،و الحركة الطّبيعيّة المثاليّة،و الحركة الصّوريّة الحسّيّة،و هي حركة العرش.

ص: 163

فالعرش مستوى أمره الإيجاديّ لا مستوى نفسه تعالى عن ذلك.

و منه يتنزّل الأمر الإلهيّ بينهنّ،و هي التّجلّيات الإلهيّة الدّنيويّة و البرزخيّة و الحشريّة و النّيرانيّة و الجنانيّة،و كلّها تجلّيات وجوديّة،أشير إليها بقوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرّحمن:29،و بقوله:

يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها الحديد:4،و أمّا التّجليّات الشّهوديّة فما كانت و تكون في الدّنيا و الآخرة،لقلوب أهل الكمال و أرواحهم و أسرارهم من الأنبياء العظام و الأولياء الكرام.

فمعنى الآية:يتنزّل أمر اللّه بالإيجاد و التّكوين و ترتيب النّظام و التّكميل بين كلّ سماء و أرض،من جانب العرش العظيم أبدا دائما،لأنّ اللّه تعالى لم يزل و لا يزال خالقا في الدّنيا و الآخرة،فيفني و يعدم عوالم و يوجد و يظهر عوالم أخرى لا نهاية لشئونه،فهو كلّ يوم و آن في أمر و شأن،بحسب مقتضيات استعدادات أهل العصر،و موجبات قابليّات أصحاب الزّمان.

(10:46)

الطّباطبائيّ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الظّاهر أنّ الضّمير للسّماوات و الأرض جميعا،و(الامر)هو الأمر الإلهيّ الّذي فسّره بقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82،و هو كلمة«الإيجاد»، و«تنزّله»هو أخذه بالنّزول من مصدر الأمر إلى سماء بعد سماء حتّى ينتهي إلى العالم الأرضيّ،فيتكوّن ما قصد بالأمر من عين أو أثر أو رزق أو موت أو حياة أو عزّة أو ذلّة أو غير ذلك.قال تعالى: وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فصّلت:12،و قال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ السّجدة:5.

و قيل:المراد ب(الامر)الأمر التّشريعيّ،يتنزّل ملائكة الوحي به من السّماء إلى النّبيّ و هو بالأرض،و هو تخصيص من غير مخصّص.و ذيل الآية: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ الطّلاق:12 إلخ،لا يلائمه.(19:326)

امرا

...قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً...

يوسف:18

الزّمخشريّ: أمرا عظيما ارتكبتموه من يوسف، و هوّنته في أعينكم.استدلّ على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم،و بسلامة القميص،أو أوحى إليه بأنّهم قصدوه.(2:308)

البروسويّ: (امرا)من الأمور منكرا لا يوصف و لا يعرف،فصنعتموه بيوسف.(4:227)

مثله الآلوسيّ(12:200)،و أبو السّعود(3:580).

امر

1- فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ...

المائدة:52

ابن عبّاس: هو القتل و سبي الذّراري لبني قريظة، و الإجلاء لبني النّضير.

ص: 164

مثله مقاتل.(الطّبرسيّ 2:207)

الحسن :هو إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتالهم.

مثله الزّجّاج.(الطّبرسيّ 2:207)

السّدّيّ: الأمر:الجزية.(الطّبريّ 6:280)

هو تجديد أمر فيه إذلال المشركين و عزّ للمؤمنين.(الطّوسيّ 3:552)

الكلبيّ: هو إجلاء بني النّضير و أخذ أموالهم، لم يكن للنّاس فيه فعل بل طرح اللّه في قلوبهم الرّعب، فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل و لا ركاب.و قتل قريظة و سبي ذراريهم.

(أبو حيّان 3:508)

ابن قتيبة :الخصب و الرّخاء.(أبو حيّان 3:508)

الجبّائيّ: هو أمر دون الفتح الأعظم،أو موت هذا المنافق.(الطّبرسيّ 2:207)

موت رأس النّفاق.(الآلوسيّ 6:158)

الطّبريّ: قد يحتمل أن يكون«الأمر»الّذي وعد اللّه نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم أن يأتي به هو الجزية،و يحتمل أن يكون غيرها.غير أنّه أيّ ذلك كان،فهو ممّا فيه إدالة المؤمنين،على أهل الكفر باللّه و برسوله،و ممّا يسوء المنافقين و لا يسرّهم؛و ذلك أنّ اللّه تعالى قد أخبر عنهم، أنّ ذلك الأمر إذا جاء أصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين.(6:280)

الفارسيّ: هو أمر دون الفتح الأعظم،أو موت هذا المنافق،لأنّه إذا أتى اللّه المؤمنين ذلك ندم المنافقون و الكفّار على تقويتهم بأنفسهم ذلك،و كذلك إذا ماتوا أو تحقّقوا ما يصيرون إليه من العقاب ندموا على ما فعلوه في الدّنيا من الكفر و النّفاق.(الطّوسيّ 3:552)

الزّمخشريّ: يقطع شأفة اليهود و يجليهم عن بلادهم،فيصبح المنافقون نادمين على ما حدّثوا به أنفسهم؛و ذلك أنّهم كانوا يشكّون في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و يقولون:ما نظنّ أن يتمّ له أمر،و بالحريّ أن تكون الدّولة و الغلبة لهؤلاء.

و قيل: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ أو أن يؤمر النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم بإظهار أسرار المنافقين و قتلهم؛فيندموا على نفاقهم.

و قيل:أو أمر من عند اللّه لا يكون فيه للنّاس فعل، كبني النّضير الّذين طرح اللّه في قلوبهم الرّعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل و لا ركاب.

(1:620)

نحوه البروسويّ.(2:403)

ابن عطيّة: يظهر أنّ هذا التّقسيم (1)إنّما هو،لأنّ الفتح الموعود به هو ما يتركّب على سعي النّبيّ و أصحابه و يسبّبه جدّهم و عملهم؛فوعد اللّه تعالى إمّا بفتح بمقتضى تلك الأفعال،و إمّا بأمر من عنده يهلك أعداء الشّرع،هو أيضا فتح،لا يقع للبشر فيه تسبيب.(3:205)

الفخر الرّازيّ: [قال مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

إن قيل:شرط صحّة التّقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين،و قوله: فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ليس كذلك،لأنّ الإتيان بالفتح داخل في قوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ؟

قلنا:قوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ معناه أو أمر من عنده لا يكون للنّاس فيه فعل البتّة،كبني النّضير الّذين).

ص: 165


1- يعني قوله:(ان ياتى بالفتح او امر من عنده).

طرح اللّه في قلوبهم الرّعب،فأعطوا بأيديهم من غير محاربة و لا عسكر.(12:17)

2- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ...

النّور:62

راجع«ج م ع».

3- فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ. الدّخان:4-5

ابن عبّاس: يحكم اللّه أمر الدّنيا إلى قابل في ليلة القدر،ما كان من حياة أو موت أو رزق.

مثله قتادة و مجاهد و الحسن.(القرطبيّ 16:126)

ابن عمر: يحكم اللّه أمر الدّنيا إلاّ الشّقاء و السّعادة، فإنّهما لا يتغيّران.(القرطبيّ 16:126)

مجاهد :في ليلة القدر كلّ أمر يكون في السّنة إلى السّنة:الحياة و الموت،يقدّر فيها المعايش و المصائب كلّها.

نحوه أبو مالك و قتادة.(الطّبريّ 25:108)

عكرمة :هي ليلة النّصف من شعبان يبرم فيها أمر السّنة،و ينسخ الأحياء من الأموات،و يكتب الحاجّ، فلا يزيد فيهم أحد و لا ينقص منهم أحد.

(الطّبرسيّ 5:61)

الإمام الباقر عليه السّلام: ينزّل فيها كلّ أمر حكيم، و المحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد.فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ،و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطّاغوت.

إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور سنة سنة،يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا و في أمر النّاس كذا و كذا،و أنّه ليحدّث لوليّ الأمر-سوى ذلك- كلّ يوم علم اللّه الخاصّ و المكنون العجيب المخزون،مثل ما ينزّل في تلك اللّيلة من الأمر،ثمّ قرأ: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ... لقمان:27

(الكاشانيّ 4:404)

الطّبريّ: و اختلف أهل العربيّة في وجه نصب قوله:

(امرا)،فقال بعض نحويّي الكوفة:نصب على إنّا أنزلناه امرا و رحمة،على الحال.

و قال بعض نحويّي البصرة:نصب على معنى يفرق كلّ أمر فرقا و أمرا.(25:109)

نحوه الطّوسيّ(9:224)،و الطّبرسيّ(5:61).

النّقّاش: «الأمر»هو القرآن،أنزله اللّه من عنده.

(القرطبيّ 16:128)

الرّمّانيّ: هو ما قضاه اللّه في اللّيلة المباركة من أحوال عباده.(القرطبيّ(16:128)

الزّمخشري: كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ :كلّ شأن ذي حكمة،أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة.و هو من الإسناد المجازيّ،لأنّ«الحكيم»صفة صاحب الأمر على الحقيقة،و وصف«الأمر»به مجاز.

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص،جعل كلّ أمر جزلا فخما،بأن وصفه بالحكيم،ثمّ زاده جزالة و كسبه فخامة بأن قال:أعني بهذا الأمر:أمرا حاصلا من

ص: 166

عندنا كائنا من لدنّا،و كما اقتضاه علمنا و تدبيرنا.

و يجوز أن يراد به الأمر الّذي هو ضدّ النّهي،ثمّ إمّا أن يوضع موضع«فرقانا»الّذي هو مصدر«يفرق»لأنّ معنى الأمر و الفرقان واحد؛من حيث إنّه إذا حكم بالشّيء و كتبه فقد أمر به و أوجبه.أو يكون حالا من أحد الضّميرين في(انزلناه)،إمّا من ضمير الفاعل،أي أنزلناه آمرين أمرا.أو من ضمير المفعول،أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا،بما يجب أن يفعل.

(3:500)

نحوه الفخر الرّازيّ.(27:240)

4- تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. القدر:4

ابن عبّاس: أمر بكلّ أمر قدّره اللّه و قضاه في تلك السّنة إلى قابل.(القرطبيّ 20:133)

قتادة :يقضي فيها ما يكون في السّنة إلى مثلها.فعلى هذا القول منتهي الخبر،و موضع الوقف من كلّ أمر.(الطّبريّ 30:260)

الطّبريّ: من كلّ أمر قضاه اللّه في تلك السّنة،من رزق و أجل و غير ذلك.[إلى أن قال:]

عن ابن عبّاس:أنّه كان يقرأ (من كلّ امرئ سلام) ،و هذه القراءة من قرأ بها وجّه معنى (من كلّ امرئ) من كلّ ملك،كان معناه عنده:تنزّل الملائكة و الرّوح فيها بإذن ربّهم من كلّ ملك يسلّم على المؤمنين و المؤمنات.

و لا أرى القراءة بها جائزة،لإجماع الحجّة من القرّاء على خلافها،و أنّها خلاف لما في مصاحف المسلمين؛ و ذلك أنّه ليس في مصحف من مصاحف المسلمين في قوله:(امر)ياء،و إذا قرئت:(من كلّ امرئ)لحقتها همزة،تصير في الخطّ ياء.

و الصّواب من القول في ذلك،القول الأوّل الّذي ذكرناه قبل،على ما تأوّله قتادة.(30:260)

الطّوسيّ: روي عن ابن عبّاس أنّه قرأ (من كلّ امرئ) بمعنى من الملائكة،الباقون(من كلّ امر)بمعنى الواحد من الأمور.[إلى أن قال:]

أي ما ينزلون به كلّه بأمر اللّه.و يكون الوقف هاهنا تامّا على ما قرأ به القرّاء المشهورون،و على ما حكيناه عن ابن عبّاس-و هو قول عكرمة و الضّحّاك-لا يكون تامّا.(10:384)

الطّبرسيّ: أي بكلّ أمر من الخير و البركة،كقوله:

يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ الرّعد:11،أي بأمر اللّه.و قيل:

بكلّ أمر من أجل و رزق،إلى مثلها من العام القابل؛فعلى هذا يكون الوقف هنا تامّا.(5:520)

الفخر الرّازيّ: معناه تنزّل الملائكة و الرّوح فيها من أجل كلّ أمر،و المعنى أنّ كلّ واحد منهم إنّما نزل لمهمّ آخر،ثمّ ذكروا فيه وجوها:

أحدها:أنّهم كانوا في أشغال كثيرة،فبعضهم للرّكوع و بعضهم للسّجود،و بعضهم بالدّعاء،و كذا القول في التّفكّر و التّعليم و إبلاغ الوحي،و بعضهم لإدراك فضيلة اللّيلة أو ليسلّموا على المؤمنين.

و ثانيها:و هو قول الأكثرين،من أجل كلّ أمر قدّر في تلك السّنة من خير أو شرّ.و فيه إشارة إلى أنّ نزولهم

ص: 167

إنّما كان عبادة،فكأنّهم قالوا:ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا،لكن لأجل كلّ أمر فيه مصلحة المكلّفين.و عمّ لفظ«الأمر»ليعمّ خير الدّنيا و الآخرة،بيانا منه أنّهم ينزلون بما هو صلاح المكلّف في دينه و دنياه،كأنّ السّائل يقول:من أين جئت؟فيقول:مالك و هذا الفضول،و لكن قل:لأيّ أمر جئت،لأنّه حظّك.

و ثالثها:قرأ بعضهم (من كلّ امرئ) أي من أجل كلّ انسان.(32:35)

الآلوسيّ: أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التّقدير في تلك السّنة إلى قابل،و أظهره سبحانه و تعالى لهم،قاله غير واحد.ف(من)بمعنى اللاّم التّعليليّة متعلّقة ب(تنزّل).

قال عصام الدّين:فإن قلت:المقدّرات لا تفعل في تلك اللّيلة بل في تمام السّنة،فلما ذا تنزّل الملائكة عليهم السّلام فيها لأجل تلك الأمور؟

قلت:لعلّ تنزّلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم، و تنزّلهم لأجل كلّ أمر.ليس على معنى تنزّل كلّ واحد لأجل كلّ أمر،و لا تنزّل كلّ واحد لأمر،بل على معنى تنزّل الجميع لأجل جميع الأمور،حتّى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات،انتهى.

و أقول:يمكن أن يكون تنزّلهم لإعداد القوابل لقبول ما أمروا به.و أشار-بما ذكره من التّقسيم-إلى أنّه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدّة أمور،و قولهم:من أجل كلّ أمر تعلّق إلخ قد تقدّم ما فيه من البحث فتذكّر.

و قال أبو حاتم:(من)بمعنى الباء،أي تنزّل بكلّ أمر.

فقيل:أي من الخير و البركة،و قيل:من الخير و الشّرّ.

و جعلت الباء عليه للسّببيّة،فيرجع المعنى إلى نحو ما مرّ.و منهم من جعلها للملابسة،و المراد بملابستهم له ملابستهم للأمر به،فكأنّه قيل:تنزّل الملائكة و هم مأمورون بكلّ أمر يكون في السّنة،و كونهم يتنزّلون و هم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك اللّيلة.

و الظّاهر-على ما قالوا-أنّ المراد ب(الملائكة) المدبّرات؛إذ غيرهم لا تعلّق له في الأمور الّتي تعلّق بها التّقدير ليتنزّلوا لأجلها،على المعنى السّابق،و هو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات،فتدبّر.

و كأنّه لذلك قيل:إنّ(من كلّ أمر)متعلّق بقوله تعالى:(سلام)و هو مصدر بمعنى السّلامة خبر مقدّم، و قوله تعالى:(هى)مبتدأ،أي هي سلام من كلّ أمر مخوف.و تعلّقه بذلك على التّوسّع في الظّرف،و إلاّ فمعمول المصدر لا يتقدّم عليه في المشهور.

و قيل:هو متعلّق بمحذوف مقدّم يفسّره المذكور.

و من وقف على كلام العلاّمة التّفتازانيّ في أوائل«شرح التّلخيص»في مثل ذلك،استغنى عمّا ذكر.

و قيل: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلّق ب(تنزّل)لكن على معنى تنزّل إلى الأرض منفصلة من كلّ أمر لها في السّماء و تاركة له.و فيه إشارة إلى مزيد الاهتمام بالتّنزّل إلى الأرض و فيه من البعد ما فيه.(30:196)

الطّباطبائيّ: (من)في قوله: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قيل:

بمعنى الباء.و قيل:لابتداء الغاية،و تفيد السّببيّة،أي بسبب كلّ أمر إلهيّ.و قيل:للتّعليل بالغاية،أي لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور.

ص: 168

و الحقّ أنّ المراد ب«الأمر»إن كان هو الأمر الإلهيّ المفسّر بقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82،ف(من)للابتداء و تفيد السّببيّة، و المعنى تتنزّل الملائكة و الرّوح في ليلة القدر بإذن ربّهم مبتدأ تنزّلهم و صادرا من كلّ أمر إلهيّ.

و إن كان هو الأمر من الأمور الكونيّة و الحوادث الواقعة ف(من)بمعنى اللاّم التّعليليّة،و المعنى تتنزّل الملائكة و الرّوح في اللّيلة بإذن ربّهم،لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور الكونيّة.(20:332)

امره

...وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ...

البقرة:275

الحسن :أجره على اللّه لقبوله الموعظة.

(أبو حيّان 2:336)

مثله الميبديّ.(1:752)

أبو سليمان الدّمشقيّ: في عفو اللّه عن ما شاء منه.(أبو حيّان 2:336)

الطّبريّ: يعني و أمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربّه و التّحريم،و بعد انتهاء آكله عن أكله،إلى اللّه في عصمته و توفيقه،إن شاء عصمه عن أكله و ثبّته في انتهائه عنه، و إن شاء خذله عن ذلك.(3:104)

نحوه الطّوسيّ(2:361)،و الطّبرسيّ(1:390).

الزّمخشريّ: يحكم في شأنه يوم القيامة،و ليس من أمره إليكم شيء،فلا تطالبوه به.(1:400)

الفخر الرّازيّ: وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ فيه وجوه للمفسّرين،إلاّ أنّ الّذي أقوله:إنّ هذه الآية مختصّة بمن ترك استحلال الرّبا من غير بيان أنّه ترك أكل الرّبا أو لم يترك،و الدّليل عليه مقدّمة الآية و مؤخّرتها.

أمّا مقدّمة الآية فلأنّ قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى ليس فيه بيان؛أنّه انتهى عمّا ذا؟فلا بدّ و أن يصرف ذلك المذكور إلى السّابق.و أقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى اللّه أنّهم قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، فكان قوله:(فانتهى)عائدا إليه،فكان المعنى فانتهى عن هذا القول.

و أمّا مؤخّر الآية فقوله: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و معناه:عاد إلى الكلام المتقدّم،و هو استحلال الرّبا،فأمره إلى اللّه.

ثمّ هذا الإنسان إمّا أن يقال:إنّه كما انتهى عن استحلال الرّبا انتهى أيضا عن أكل الرّبا،أو ليس كذلك.

فإن كان الأوّل كان هذا الشّخص مقرّا بدين اللّه عالما بتكليف اللّه؛فحينئذ يستحقّ المدح و التّعظيم و الإكرام.

لكن قوله:«فامره إلى الله»ليس كذلك،لأنّه يفيد أنّه تعالى إن شاء عذّبه و إن شاء غفر له؛فثبت أنّ هذه الآية لا تليق بالكافر و لا بالمؤمن المطيع،فلم يبق إلاّ أن يكون مختصّا بمن أقرّ بحرمة الرّبا ثمّ أكل الرّبا.فهاهنا أمره للّه إن شاء عذّبه و إن شاء غفر له،و هو كقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ النّساء:48،فيكون ذلك دليلا ظاهرا على صحّة قولنا:

إنّ العفو من اللّه مرجوّ.(7:100)

القرطبيّ:فيه أربع تأويلات:

ص: 169

أحدها:أنّ الضّمير عائد إلى(الرّبا)،بمعنى و أمر الرّبا إلى اللّه في إمرار تحريمه،أو غير ذلك.

و الآخر:أن يكون الضّمير عائدا على(ما سلف)أي أمره إلى اللّه تعالى في العفو عنه،و إسقاط التّبعة فيه.

و الثّالث:أن يكون الضّمير عائدا على«ذي الرّبا» بمعنى أمره إلى اللّه في أن يثبته على الانتهاء،أو يعيده إلى المعصية في الرّبا.

و اختار هذا القول النّحّاس،قال:و هذا قول حسن بيّن،أي و أمره إلى اللّه في المستقبل إن شاء ثبّته على التّحريم و إن شاء أباحه.

و الرّابع:أن يعود الضّمير على«المنتهى»،و لكن بمعنى التّأنيس له و بسط أمله في الخير،كما تقول:و أمره إلى طاعة و خير،و كما تقول:و أمره في نموّ و إقبال إلى اللّه تعالى و إلى طاعته.(3:361)

أبو حيّان:الظّاهر أنّ الضّمير في(امره)عائد على «المنتهى»إذ سياق الكلام معه،و هو بمعنى التّأنيس له و بسط أمله في الخير،كما تقول:أمره إلى طاعة و خير و موضع رجاء.و الأمر هنا ليس في الرّبا خاصّة بل و جملة أموره.

و قيل:في الجزاء و المحاسبة.

و قيل:في العفو و العقوبة.

و قيل: أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ يحكم في شأنه يوم القيامة لا إلى الّذين عاملهم،فلا يطالبونه بشيء.

و قيل:المعنى فأجره على اللّه لقبوله الموعظة،قاله الحسن.

و قيل:الضّمير يعود على(ما سلف)أي في العفو عنه، و إسقاط التّبعة فيه.

و قيل:يعود على«ذي الرّبا»أي في أن يثبّته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية،قاله ابن جبير و مقاتل.

و قيل:يعود على(الرّبا)أي في إمرار تحريمه أو غير ذلك.

و قيل:في عفو اللّه عن ما شاء منه،قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.(2:335)

الطّباطبائيّ: اعلم أنّ أمر الآية عجيب،فإنّ قوله:

فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ إلى آخر الآية-مع ما يشتمل عليه من التّسهيل و التّشديد-حكم غير خاصّ بالرّبا،بل عامّ يشمل جميع الكبائر الموبقة.و القوم قد قصروا في البحث عن معناها،حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الرّبا خاصّة،من حيث العفو عمّا سلف منه،و رجوع الأمر إلى اللّه فيمن انتهى،و خلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة.هذا كلّه مع ما تراه من العموم في الآية.

إذا علمت هذا ظهر لك أنّ قوله: فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ لا يفيد إلاّ معنى مبهما،يتعيّن المعصية الّتي جاء فيها الموعظة،و يختلف باختلافها.فالمعنى:أنّ من انتهى عن موعظة جاءته،فالّذي تقدّم منه من المعصية سواء كان في حقوق اللّه أو في حقوق النّاس فإنّه لا يؤاخذ بعينها،لكنّه لا يوجب تخلّصه من تبعاته أيضا،كما تخلّص من أصله من حيث صدوره،بل أمره فيه إلى اللّه.

إن شاء وضع فيها تبعة،كقضاء الصّلاة الفائتة و الصّوم المنقوض،و موارد الحدود و التّعزيرات،و ردّ المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا و غير ذلك،مع العفو عن أصل الجرائم بالتّوبة و الانتهاء.

ص: 170

و إن شاء عفا عن الذّنب،و لم يضع عليه تبعة بعد التّوبة،كالمشرك إذا تاب عن شركه،و من عصى بنحو شرب الخمر و اللّهو فيما بينه و بين اللّه و نحو ذلك.

فإنّ قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أوّل التّشريع، و غيرهم من التّابعين،و أهل الأعصار اللاّحقة.

(2:417)

امره

...لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ... المائدة:95

راجع«و ب ل».

بامره

1- ...وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ...

الأعراف:54

الطّبريّ: كلّ ذلك بأمره،أمرهنّ اللّه فأطعن أمره.

ألا للّه الخلق كلّه،و الأمر الّذي لا يخالف،و لا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلّها،و دون ما عبده المشركون من الآلهة و الأوثان الّتي لا تضرّ و لا تنفع،و لا تخلق و لا تأمر،تبارك اللّه معبودنا الّذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين.(8:206)

الزّمخشريّ: بمشيئته و تصريفه،و هو متعلّق ب(مسخّرات)أي خلقهنّ جاريات بمقتضى حكمته و تدبيره،و كما يريد أن يصرفها،سمّى ذلك أمرا على التّشبيه،كأنّهنّ مأمورات بذلك.(2:82)

أبو حيّان:قيل:بأمره،أي بنفاذ إرادته؛إذ المقصود تبيين عظيم قدرته،لقوله: اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فصّلت:11،و قوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ... النّحل:

40

و قيل:الأمر هو الكلام.(4:310)

الآلوسيّ:أي خلقهنّ،حال كونهنّ مذلّلات تابعات لتصرّفه سبحانه فيهنّ بما شاء،غير ممتنعات عليه جلّ شأنه،كأنّهنّ مميّزات أمرن فانقدن،فتسمية ذلك أمرا على سبيل التّشبيه و الاستعارة.

و يصحّ حمل«الأمر»على الإرادة كما قيل،أي هذه الأجرام العظيمة و المخلوقات البديعة منقادة لإرادته.

و منهم من حمل«الأمر»على الأمر الكلاميّ،و قال:

إنّه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسّير الدّائم و الحركة المستمرّة على الوجه المخصوص،إلى حيث شاء.

و لا مانع من أن يعطيها اللّه تعالى إدراكا و فهما لذلك، بل ادّعى بعضهم أنّها مدركة مطلقا.و في بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ لبعضها إدراكا لغير ما ذكر.(8:138)

رشيد رضا :الأمر هنا أمر التّكوين،أو هو عبارة عن التّصرّف و التّدبير،و منه(أولو الأمر)،و أصله:الأمر المقابل للنّهي،توسّع فيه،أي و خلق الشّمس و القمر و النّجوم حال كونهنّ مذلّلات خاضعات لتصرّفه، منقادات لمشيئته.

فقد قرأ الجمهور هذه الكلمات بالنّصب،و قرأها ابن عامر بالرّفع على أنّ(الشّمس)مبتدأ باعتبار ما عطف عليها،و(مسخّرات)خبره.و لا فرق بين القراءتين في المعنى المراد من التّسخير بأمره،إلاّ أنّ ظاهر قراءة

ص: 171

الجمهور أن (الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ) غير(السماوات و الأرض)لأنّ العطف يقتضي المغايرة،و سيأتي الكلام على ذلك في الكلام على(السّماوات السّبع)في موضعه.

(8:454)

2- ...فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ... التّوبة:24 ابن عبّاس: هو فتح مكّة.(الزّمخشريّ 2:181)

مثله مجاهد و مقاتل(الآلوسيّ 10:710)،و الطّبريّ (10:99).

مجاهد :بالفتح.(الطّبريّ 10:99)

الحسن :هي عقوبة عاجلة أو آجلة.

(الزّمخشريّ 2:181)

مثله الجبّائيّ(الآلوسيّ 10:71)،و الفخر الرّازيّ (16:19)،و البروسويّ(3:403).

الطّبرسيّ:أي بحكمه فيكم.و قيل:بفتح مكّة،عن مجاهد.

و قال بعضهم:و هذا لا يصحّ،لأنّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكّة.(3:16)

رشيد رضا :وعيدا بهم لتذهب أنفسهم فيه كلّ مذهب،و أقرب ما يفسّر به قوله في وعيد المنافقين،من هذه السّورة: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا التّوبة:52.(10:235)

الطّباطبائيّ: ذكر تعالى أنّهم إن تولّوا أعداء الدّين،و قدّموا حكم هؤلاء الأمور على حبّ اللّه و رسوله و الجهاد في سبيله فليتربّصوا و لينتظروا حتّى يأتي اللّه بأمره و اللّه لا يهدي القوم الفاسقين.

و من المعلوم أنّ الشّرط أعني قوله: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ إلى قوله: فِي سَبِيلِهِ في معنى أن يقال:إن تنتهوا عمّا ينهاكم عنه من اتّخاذ الآباء و الإخوان الكافرين أولياء باتّخاذكم سببا يؤدّي إلى خلاف ما يدعوكم إليه و إهمالكم في أمر غرض الدّين و هو الجهاد في سبيل اللّه.

فقوله في الجزاء: فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ لا محالة إمّا أمر يتدارك به ما عرض على الدّين من ثلمة و سقوط غرض في ظرف مخالفتهم،و إمّا عذاب يأتيهم عن مخالفة أمر اللّه و رسوله،و الإعراض عن الجهاد في سبيله.

غير أنّ قوله تعالى في ذيل الآية: وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعرض لهم أنّهم خارجون حينئذ عن زيّ العبوديّة،فاسقون عن أمر اللّه و رسوله،فهم بمعزل من أن يهديهم اللّه بأعمالهم،و يوفّقهم لنصرة اللّه و رسوله،و إعلاء كلمة الدّين،و إمحاء آثار الشّرك.

فذيل الآية يهدي إلى أنّ المراد بهذا الأمر الّذي يأمرهم اللّه أن يتربّصوا له حتّى يأتي به أمر منه تعالى، متعلّق بنصرة دينه و إعلاء كلمته،فينطبق على مثل قوله تعالى في سورة المائدة-بعد آيات ينهى فيها عن تولّي الكافرين-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ المائدة:54،و الآية بقيودها و خصوصيّاتها

ص: 172

كما ترى تنطبق على ما تفيده الآية الّتي نحن فيها.

فالمراد-و اللّه أعلم-إن اتّخذتم هؤلاء أولياء، و استنكفتم عن إطاعة اللّه و رسوله،و الجهاد في سبيل اللّه؛ فتربّصوا حتّى يأتي اللّه بأمره،و يبعث قوما لا يحبّون إلاّ اللّه،و لا يوالون أعداءه،و يقومون بنصرة الدّين و الجهاد في سبيل اللّه أفضل قيام،فإنّكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدّين،و لا يهدي اللّه شيئا من أعمالكم إلى غرض حقّ، و سعادة مطلوبة.

و ربّما قيل:إنّ المراد بقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ الإشارة إلى فتح مكّة.

و ليس بسديد،فإنّ الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين و الأنصار،و خاصّة المهاجرين،و هؤلاء هم الّذين فتح اللّه مكّة بأيديهم،و لا معنى لأن يخاطبوا و يقال لهم: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ... أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يفتح اللّه مكّة بأيديكم وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ التّوبة:

24،أو فتربّصوا حتّى يفتح اللّه مكّة،و اللّه لا يهديكم لمكان فسقكم،فتأمّل.(9:208)

3- ..وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ... إبراهيم:32

الزّمخشريّ: بقوله:(كن).(2:379)

الطّبرسيّ: أي بأمر اللّه،لأنّها تسير بالرّياح،و اللّه هو المنشئ للرّياح.(3:316)

الفخر الرّازيّ: إنّه تعالى أضاف ذلك التّسخير إلى أمره،لأنّ الملك العظيم قلّما يوصف بأنّه فعل،و إنّما يقال فيه:إنّه أمر بكذا تعظيما لشأنه.و منهم من حمله على ظاهر قوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ النّحل:40،(19:128)

البروسويّ: بإرادته إلى حيث توجّهتم،و انطوى في تسخير الفلك تسخير البخار و تسخير الرّياح.

(4:421)

الآلوسيّ: بمشيئته الّتي بها نيط كلّ شيء.

و تخصيصه بالذّكر على ما ذكره بعض المحقّقين للتّنصيص على أنّ ذلك ليس بمزاولة الأعمال و استعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال،و يندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره،و كذا تسخير الرّياح.(13:224)

الطّباطبائيّ: إسناد جريها في البحر إلى أمره تعالى،مع كونه مستندا إلى الأسباب الطّبيعيّة العاملة كالرّيح و البخار و سائر الأسباب،لكونه تعالى هو السّبب المحيط الّذي إليه ينتهي كلّ سبب.(12:59)

4- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ...

الرّوم:25

الزّمخشريّ: أي بقوله:كونا قائمتين،و المراد بإقامته لهما إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزّوال.

(3:219)

الطّبرسيّ: بلاد عامة تدعمها و لا علاقة تتعلّق بها بأمره لهما بالقيام،كقوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ النّحل:40.

و قيل:(بأمره)أي بفعله و إمساكه،إلاّ أنّ أفعال اللّه عزّ اسمه تضاف إليه بلفظ الأمر،لأنّه أبلغ في الاقتدار،

ص: 173

فإنّ قول القائل:أراد فكان،أو أمر فكان،أبلغ في الدّلالة على الاقتدار من أن يقول:فعل فكان.(4:301)

نحوه الطّباطبائيّ.(16:169)

الفخر الرّازيّ: قوله:(بامره)أي بقوله:«قوما»أو بارادته قيامهما،و ذلك لأنّ الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة،و عندنا ليس كذلك.و لكنّ النّزاع في الأمر الّذي للتّكليف لا في الأمر الّذي للتّكوين،فإنّا لا ننازعهم في أنّ قوله:(كن)و(كونوا)و(يا نار كونى)موافق للإرادة.(25:115).

القرطبيّ: أي قيامها و استمساكها بقدرته بلا عمد.

و قيل:بتدبيره و حكمته،أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق.

و قيل:(بامره):بإذنه،و المعنى واحد.(14:19)

امركم

...فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً... يونس:71

الزّمخشريّ: إن قلت:ما معنى الأمرين:أمرهم الّذي يجمعونه،و أمرهم الّذي لا يكون عليهم غمّة؟

قلت:أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه،يعني فاجمعوا ما تريدون من إهلاكي و احتشدوا فيه،و ابذلوا وسعكم في كيدي.و إنّما قال ذلك إظهارا لقلّة مبالاته و ثقته بما وعده ربّه من كلاءته و عصمته إيّاه،و أنّهم لن يجدوا إليه سبيلا.

و أمّا الثّاني ففيه وجهان:أحدهما:أن يراد مصاحبتهم له،و ما كانوا فيه معه من الحال الشّديدة عليهم المكروهة عندهم،يعني ثمّ أهلكوني لئلاّ يكون عيشكم بسببي غصّة و حالكم عليكم غمّة،أي غمّا و همّا،و الغمّ و الغمّة كالكرب و الكربة.و الثّاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل.(2:245)

أبو البركات: المراد من«الأمر»هنا وجود كيدهم و مكرهم،فالتّقدير:لا تتركوا من أمركم شيئا إلاّ أحضرتموه.(أبو حيّان 5:179)

القاسميّ:أي شأنكم في إهلاكي.(9:3380)

امرى

1- ...وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي... الكهف:82

ابن عبّاس: يريد انكشف لي من اللّه علم فعملت به.(الطّبرسيّ 3:488)

قتادة :كان عبدا مأمورا،فمضى لأمر اللّه.

(الطّبريّ 16:7)

ابن إسحاق :ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي.

(الطّبريّ 16:7)

الطّبريّ: و ما فعلت يا موسى جميع الّذي رأيتني فعلته عن رأيي،و من تلقاء نفسي،و إنّما فعلته عن أمر اللّه إيّاي به.(16:7)

مثله الطّبرسيّ.(3:488)

الزّمخشريّ: عن اجتهادي و رأيي،و إنّما فعلته بأمر اللّه.(2:496)

نحوه الفخر الرّازيّ(21:162)،و أبو حيّان(6:

156)،و البروسويّ(5:287)،و الآلوسيّ(16:14)، و الطّباطبائيّ(13:349).

ص: 174

2- وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. طه:32

الطّبريّ: و اجعله نبيّا مثل ما جعلتني نبيّا،و أرسله معي إلى فرعون.(16:160)

مثله القرطبيّ.(11:194)

الزّمخشريّ: أي اجعله شريكي في الرّسالة حتّى نتعاون على عبادتك و ذكرك،فإنّ التّعاون مهيّج الرّغبات،يتزايد به الخبر و يتكاثر.(2:536)

مثله البروسويّ(5:379)،و الآلوسيّ(16:185)، و المراغيّ(16:107).

الطّبرسيّ: أي اجمع بيني و بينه في النّبوّة،ليكون أحرص على مؤازرتي.لم يقتصر على سؤال الوزارة حتّى سأل أن يكون شريكه في النّبوّة،و لو لا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة.(4:9)

الفخر الرّازيّ: الأمر هاهنا«النّبوّة»و إنّما قال ذلك لأنّه عليه السّلام علم أنّه يشدّ به عضده،و هو أكبر منه سنّا، و أفصح منه لسانا.(22:50)

الطّباطبائيّ: معنى قوله: وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي سؤال الإشراك في أمر كان يخصّه،و هو تبليغ ما بلغه من ربّه بادئ مرّة،فهو الّذي يخصّه و لا يشاركه فيه أحد سواه،و لا له أن يستنيب فيه غيره.

و أمّا تبليغ الدّين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسّط النّبيّ،فليس ممّا يختصّ بالنّبيّ بل هو وظيفة كلّ من آمن به،ممّن يعلم شيئا من الدّين؛و على العالم أن يبلّغ الجاهل،و على الشّاهد أن يبلّغ الغائب.و لا معنى لسؤال اشتراك أخيه معه في أمر لا يخصّه بل يعمّه و أخاه،و كلّ من آمن به من الإرشاد و التّعليم و البيان و التّبليغ.

فتبيّن أنّ معنى إشراكه في أمره:أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربّه عنه و سائر ما يختصّ به من عند اللّه، كافتراض الطّاعة و حجّيّة الكلمة.

و أمّا الاشتراك في النّبوّة خاصّة،بمعنى تلقّي الوحي من اللّه سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التّفرّد في ذلك حتّى يسأل الشّريك،و إنّما كان يخاف التّفرّد في التّبليغ و إدارة الأمور،في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك.و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي القصص:34.

على أنّه صحّ من طرق الفريقين أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا بهذا الدّعاء بألفاظه في حقّ عليّ عليه السّلام،و لم يكن نبيّا.(14:147)

امرنا

1- إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ. التّوبة:50

مجاهد :أي أخذنا حذرنا و احترزنا بالقعود،من قبل هذه المصيبة.(الطّبرسيّ 3:37)

الطّبريّ: أي قد أخذنا حذرنا بتخلّفنا عن محمّد، و ترك اتّباعه إلى عدوّه.(10:149)

الزّمخشريّ: أي أمرنا الّذي نحن متّسمون به من الحذر و التّيقّظ و العمل بالحزم.(2:194)

مثله الفخر الرّازيّ(16:84)،و أبو حيّان(5:51).

ص: 175

الطّبرسيّ: أخذنا أمرنا من مواضع الهلكة،فسلمنا ممّا وقعوا فيه.(3:37)

القرطبي: أي احتطنا لأنفسنا و أخذنا بالحزم،فلم نخرج إلى القتال.(8:159)

مثله رشيد رضا.(10:478)

الآلوسيّ: أي تلا فينا ما يهمّنا من الأمر،يعنون به التّخلّف و القعود عن الحرب و المداراة مع الكفرة،و غير ذلك من أمور الكفر و النّفاق،قولا و فعلا.(10:114)

الطّباطبائيّ: كناية عن الاحتراز عن الشّرّ قبل وقوعه،كأنّ أمرهم كان خارجا من أيديهم فأخذوه و قبضوا و تسلّطوا عليه،فلم يدعوه يفسد و يضيع.

فمعنى الآية أنّ هؤلاء المنافقين هواهم عليك:إن غنمت و ظفرت في وجهك هذا ساءهم ذلك،و إن قتلت أو جرحت أو أصبت بأيّ مصيبة أخرى قالوا:قد احترزنا عن الشّرّ من قبل،و تولّوا و هم فرحون.

(9:306)

2- وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً... هود:58

الطّوسيّ: المعنى و لمّا جاء أمرنا بهلاك عاد.

(6:13)

مثله الطّبرسيّ.(3:171)

الفخر الرّازيّ: أي عذابنا،و ذلك هو ما نزل بهم من الرّيح العقيم عذّبهم اللّه بها سبع ليال و ثمانية أيّام،تدخل في مناخرهم و تخرج من أدبارهم،و تصرعهم على الأرض على وجوههم،حتّى صاروا كأعجاز نخل خاوية.

فان قيل:فهذه الرّيح كيف تؤثّر في إهلاكهم؟

قلنا:يحتمل أن يكون ذلك لشدّة حرّها أو لشدّة بردها أو لشدّة قوّتها،فتخطف الحيوان من الأرض،ثمّ تضربه على الأرض،فكلّ ذلك محتمل.(18:14)

نحوه القرطبيّ(9:81)،و البروسويّ(4:150)، و البيضاويّ(1:472)،و القاسميّ(9:3458).

أبو حيّان: الأمر:واحد الأمور،فيكون كناية عن العذاب أو عن القضاء بهلاكهم،أو مصدر أمر،أي أمرنا للرّيح أو لخزنتها.(5:235)

الآلوسيّ: أي نزل عذابنا على أنّ الأمر واحد الأمور.

و قيل:أو المأمور به،و في التّعبير عنه بذلك مضافا إلى ضمير جلّ جلاله،و عن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التّفخيم و التّهويل.

و جوّز أن يكون واحد الأوامر،أي و ورد أمرنا بالعذاب.و الكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السّلام.و يجوز أن يكون ذلك مجازا عن الوقوع، على سبيل التّمثيل.(12:85)

مثله أبو السّعود.(3:29)

الطّباطبائيّ: المراد بمجيء«الأمر»نزول العذاب، و بوجه أدقّ صدور الأمر الإلهي الّذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرّسول و بين قومه،كما قال تعالى:

وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ المؤمن:78.

(10:304)

ص: 176

3- ...فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ المؤمنون:27.

الطّبريّ: يقول:فإذا جاء قضاؤنا في قومك، بعذابهم و هلاكهم.(18:17)

مثله الطّوسيّ(7:362)،و البروسويّ(6:79)، و القاسميّ(12:4397)،و المراغيّ(18:19).

الفخر الرّازيّ: فاعلم أنّ لفظ«الأمر»كما هو، حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء،فكذا هو حقيقة في الشّأن العظيم.و الدّليل عليه أنّك إذا قلت:

هذا أمر،بقي الذّهن يتردّد بين المفهومين،و ذلك يدلّ على كونه حقيقة فيهما،و تمام تقريره مذكور في كتاب «المحصول»في الأصول.

و من النّاس من قال:إنّما سمّاه«أمرا»على سبيل التّعظيم و التّفخيم،مثل قوله: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فصّلت:11.(23:94)

الآلوسيّ: لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك.

و المراد ب«الأمر»العذاب،كما في قوله تعالى:

لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ هود:43،فهو واحد الأمور،لا الأمر بالرّكوب فهو واحد الأوامر كما قيل.

و المراد بمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره،أي إذا جاء إثر تمام الفلك عذابنا.(18:26)

الطّباطبائيّ: المراد ب«الأمر»-كما قيل-حكمه الفصل بينه و بين قومه،و قضاؤه فيهم بالغرق.

(156:29)

بامرنا

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا... الأنبياء:73

الطّبريّ: يهدون النّاس بأمر اللّه إيّاهم بذلك، و يدعونهم إلى اللّه و إلى عبادته.(17:49)

نحوه القاسميّ.(11:4287)

الطّبرسيّ: يهدون الخلق إلى طريق الحقّ و إلى الدّين المستقيم(بامرنا)،فمن اهتدى بهم في أقوالهم و أفعالهم فالنّعمة لنا عليه.(4:56)

القرطبيّ: أي بما أنزلنا عليهم من الوحي و الأمر و النّهي،فكأنّه قال:يهدون بكتابنا.(11:305)

الطّباطبائيّ: و ظاهر قوله: أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أنّ الهداية بالأمر يجري مجرى المفسّر لمعنى الإمامة،و قد تقدّم الكلام في معنى«هداية الإمام بأمر اللّه في الكلام»على قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124،في الجزء الأوّل من الكتاب.(14:304)

الامور

...وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.

البقرة:210

الطّبريّ: و إلى اللّه يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة،و الحكم بينهم في أمورهم الّتي جرت في الدّنيا.

[إلى أن قال:]

و إنّما أدخل جلّ و عزّ الألف و اللاّم في(الأمور)لأنّه جلّ ثناؤه عنى بها جميع الأمور،و لم يعن بها بعضا دون بعض،فكان ذلك بمعنى قول القائل:يعجبني العسل، و البغل أقوى من الحمار،فيدخل فيه الألف و اللاّم،لأنّه لم يقصد به قصد بعض دون بعض،إنّما يراد به العموم و الجمع.(2:331)

ص: 177

نحوه البروسويّ(1:326)،و المراغيّ(3:116).

الطّبرسيّ: معناه فرغ من الأمر،و هو المحاسبة و إنزال أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار،هذا في الآخرة.و قيل:معناه وجب العذاب،أي عذاب الاستئصال،و هذا في الدّنيا.

وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه تردّ الأمور في سؤاله عنها و مجازاته عليها،و كانت الأمور كلّها له في الابتداء فملك بعضها في الدّنيا غيره،ثمّ يصير كلّها إليه في الحشر،لا يملك أحد هناك شيئا.

و قيل:إليه ترجع أمور الدّنيا و الآخرة.(1:304)

الأمر بالمعروف
امروا

...وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ. الحجّ:41

الحسن :أخذ اللّه الميثاق على الأمراء إذ تمكّنوا في الأرض أن يقيموا الصّلاة و يؤتوا الزّكاة،يأمروا بالمعروف و ينهوا عن المنكر،كما أخذ على العلماء أن يتلوا كتابه و أحكامه فلا يكتموه،في قوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ البقرة:

121،و في قوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آل عمران:187.(الميبديّ 6:380)

التّستريّ: الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر واجب على السّلطان و على العلماء الّذين يأتونه.و ليس على النّاس أن يأمروا السّلطان،لأنّ ذلك لازم له واجب عليه،و لا يأمروا العلماء فإنّ الحجّة قد وجبت عليهم.

(القرطبيّ 12:73)

الطّوسيّ: في ذلك دلالة على أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر واجب،لأنّ ما رغب اللّه فيه فقد أراده، و كلّ ما أراده من العبد فهو واجب إلاّ أن يقوم دليل على ذلك أنّه نقل،لأنّ الاحتياط يقتضي ذلك.

(7:323)

مثله الطّبرسيّ.(4:88)

القشيريّ: يبتدئون في الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر بأنفسهم ثمّ بأغيارهم،فإذا أخذوا في ذلك لم يتفرّغوا من أنفسهم إلى غيرهم.

يقال:الأمر بالمعروف حفظ الحواسّ عن مخالفة أمره،و مراعاة الأنفاس معه إجلالا لقدره.

و يقال:الأمر بالمعروف على نفسك،ثمّ إذا فرغت من ذلك تأخذ في نهيها عن المنكر.و من وجوه المنكر:

الرّياء،و الإعجاب،و المساكنة،و الملاحظة.(4:222)

يأمرون

1- وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. آل عمران:104

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:أنّه سئل و هو على المنبر،من خير النّاس؟قال:آمرهم بالمعروف،و أنهاهم عن المنكر، و أتقاهم للّه،و أوصلهم.(الزّمخشريّ 1:452)

من أمر بالمعروف و نهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في

ص: 178

أرضه و خليفة رسوله،و خليفة كتابه.

(الزّمخشريّ 1:452)

لا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و تعاونوا على البرّ،فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات،و سلّط بعضهم على بعض،و لم يكن لهم ناصر في الأرض،و لا في السّماء.(الكاشانيّ 1:339)

أبو الدّرداء: لتأمرنّ بالمعروف و تنهون عن المنكر، أو ليسلّطنّ اللّه عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم و لا يرحم صغيركم،و تدعو خياركم فلا يستجاب لهم، و تستنصرون فلا تنصرون،و تستغيثون فلا تغاثون، و تستغفرون فلا تغفرون.(الطّبرسيّ 1:484)

حذيفة: يأتي على النّاس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحبّ إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر.(الزّمخشريّ 1:452)

الإمام عليّ عليه السّلام: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و من شنئ الفاسقين و غضب للّه، غضب اللّه له.(الزّمخشريّ 1:452)

و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه،فإنّما أمرتم بالنّهي بعد التّناهي.(الكاشانيّ 1:339)

لعن اللّه الآمرين بالمعروف التّاركين له،و النّاهين عن المنكر العاملين به.(الكاشانيّ 1:339)

الإمام الباقر عليه السّلام: هذه الآية لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و من تابعهم،يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر.(القمّيّ 1:109)

الإمام الصّادق عليه السّلام: في هذه الآية تكفير أهل القبلة بالمعاصي،لأنّه من لم يكن يدعو إلى الخيرات و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من المسلمين فليس من الأمّة الّتي وصفها،لأنّكم تزعمون أنّ جميع المسلمين من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قد بدت هذه الآية و قد وصفت أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالدّعاء إلى الخير،و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و من لم يوجد فيه الصّفة الّتي وصفت فكيف يكون من الأمّة،و هو على خلاف ما شرطه اللّه على الأمّة و وصفها به؟(البحرانيّ 1:308)

سئل عن الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر أ واجب هو على الأمّة جميعا؟فقال:لا.

فقيل:و لم قال:إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضّعفة الّذين لا يهتدون سبيلا إلى أيّ من أيّ يقول من الحقّ إلى الباطل؛و الدّليل على ذلك كتاب اللّه تعالى،قوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فهذا خاصّ غير عامّ،كما قال اللّه تعالى:

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ الأعراف:159،و لم يقل:على أمّة موسى و لا على كلّ قوم،و هم يومئذ أمم مختلفة.

و الأمّة واحد فصاعدا،كما قال اللّه سبحانه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ. النّحل:120،يقول:مطيعا للّه و ليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له و لا عدد و لا طاعة.

(الكاشانيّ 1:339)

نحوه في الكافي.(5:59)

سئل عن الحديث الّذي جاء عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله«أنّ

ص: 179

أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»ما معناه؟قال:

هذا على أن يأمره بعد معرفته،و هو مع ذلك يقبل منه و إلاّ فلا.(الكاشانيّ 1:339)

إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ أو جاهل فيتعلّم،فأمّا صاحب سيف أو سوط فلا.(الكاشانيّ 1:339)

الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى،فمن نصرهما أعزّه اللّه،و من خذلهما خذله اللّه.

(الكاشانيّ 1:339)

الطّبريّ: يأمرون النّاس باتّباع محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و دينه الّذي جاء به من عند اللّه، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني و ينهون عن الكفر باللّه و التّكذيب بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و بما جاء به من عند اللّه،بجهادهم بالأيدي و الجوارح،حتّى ينقادوا لكم بالطّاعة.(4:38)

الجصّاص :قد حوت هذه الآية معنيين:أحدهما:

وجوب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر.و الآخر:أنّه فرض على الكفاية ليس بفرض على كلّ أحد في نفسه إذا قام به غيره،لقوله تعالى: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ، و حقيقته تقتضي البعض دون البعض؛فدلّ على أنّه فرض على الكفاية،إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.

و من النّاس من يقول:هو فرض على كلّ أحد في نفسه،و يجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله:

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ مجازا،كقوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ نوح:4،و معناه ذنوبكم.

و الّذي يدلّ على صحّة هذا القول أنّه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين،كالجهاد،و غسل الموتى، و تكفينهم،و الصّلاة عليهم،و دفنهم.و لو لا أنّه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به.

و قد ذكر اللّه تعالى:الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،في مواضع أخر من كتابه،فقال عزّ و جلّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ آل عمران:110.

و قال فيما حكى عن لقمان: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لقمان:17.

و قال تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ الحجرات:9.

و قال عزّ و جلّ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ المائدة:78،79.

فهذه الآي و نظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و هي على منازل،أوّلها تغييره باليد إذا أمكن،فإن لم يمكن و كان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده،فعليه إنكاره بلسانه،فإن تعذّر ذلك لما وصفنا،فعليه إنكاره بقلبه.[ثمّ ذكر روايات إلى أن قال:]

لمّا ثبت بما قدّمنا ذكره من القرآن و الآثار الواردة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:وجوب فرض الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و بيّنّا أنّه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين،وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البرّ

ص: 180

و الفاجر،لأنّ ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيره،أ لا ترى أنّ تركه للصّلاة لا يسقط عنه فرض الصّوم و سائر العبادات،فكذلك من لم يفعل سائر المعروف و لم ينته عن سائر المناكير،فإنّ فرض الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر غير ساقط عنه.[إلى أن قال:]

و لم يدفع أحد من علماء الأمّة و فقهائها-سلفهم و خلفهم-وجوب ذلك إلاّ قوم من الحشو و جهّال أصحاب الحديث،فإنّهم أنكروا قتال الفئة الباغية، و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر بالسّلاح،و سمّوا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فتنة،إذا احتيج فيه إلى حمل السّلاح و قتال الفئة الباغية،مع ما قد سمعوا فيه من قول اللّه تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ الحجرات:9،و ما يقتضيه اللّفظ من وجوب قتالها بالسّيف و غيره.

و زعموا مع ذلك أنّ السّلطان لا ينكر عليه الظّلم و الجور،و قتل النّفس الّتي حرّم اللّه،و إنّما ينكر على غير السّلطان بالقول أو باليد بغير سلاح؛فصاروا شرّا على الأمّة من أعدائها المخالفين لها،لأنّهم اقعدوا النّاس عن قتال الفئة الباغية،و عن الإنكار على السّلطان الظّلم و الجور،حتّى أدّى ذلك إلى تغلّب الفجّار بل المجوس و أعداء الإسلام،حتّى ذهبت الثّغور و شاع الظّلم و خربت البلاد و ذهب الدّين و الدّنيا،و ظهرت الزّندقة و الغلوّ و مذاهب الثّنويّة و الخرّميّة و المزدكيّة.

و الّذي جلب ذلك كلّه عليهم:ترك الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و الإنكار على السّلطان الجائر،و اللّه المستعان.(2:29-34)

نحوه أبو حيّان.(3:20)

الطّوسيّ: الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر واجبان بلا خلاف،و أكثر المتكلّمين يذهبون إلى أنّه من «فروض الكفايات».و منهم من قال:من«فروض الأعيان»،و هو الصّحيح على ما بيّنّاه.

و اختلفوا،فقال جماعة:إنّ طريق وجوب إنكار المنكر العقل،لأنّه كما تجب كراهته وجب المنع منه،إذا لم يمكن قيام الدّلالة على الكراهة،و إلاّ كان تاركه بمنزلة الرّاضي به.

و قال آخرون،و هو الصّحيح عندنا:إنّ طريق وجوبه السّمع،و أجمعت الأمّة على ذلك،و يكفي المكلّف الدّلالة على كراهته من جهة الخير و ما جرى مجراه.و قد استوفينا ما يتعلّق بذلك في شرح جمل العلم.(2:549)

الزّمخشريّ: (من)للتّبعيض،لأنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر من فروض الكفايات و لأنّه لا يصلح له إلاّ من علم بالمعروف و المنكر،و علم كيف يرتّب الأمر في إقامته و كيف يباشر.

فإنّ الجاهل ربّما نهى عن معروف و أمر بمنكر،و ربّما عرف الحكم في مذهبه و جهله في مذهب صاحبه،فنهاه عن غير منكر.و قد يغلظ في موضع اللّين و يلين في موضع الغلظة،و ينكر على من لا يزيده إنكاره إلاّ تماديا، أو على من الإنكار عليه عبث كالإنكار عن أصحاب المآصر و الجلاّدين و أضرابهم.

و قيل:(من)للتّبيين بمعنى و كونوا أمّة تأمرون،كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ آل

ص: 181

عمران:110.

و الأمر بالمعروف تابع للمأمور به،إن كان واجبا فواجب،و إن كان ندبا فندب.و أمّا النّهي عن المنكر فواجب كلّه،لأنّ جميع المنكر تركه واجب،لاتّصافه بالقبح.

فإن قلت:ما طريق الوجوب؟

قلت:قد اختلف فيه الشّيخان،فعند أبي عليّ (1)السّمع و العقل،و عند أبي هاشم (2)السّمع وحده.

[ثمّ ذكر شرائط الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر]

(1:452)

الطّبرسيّ: و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و عظم موقعهما و محلّهما من الدّين،لأنّه تعالى علّق الفلاح بهما.و أكثر المتكلّمين على أنّهما من فروض الكفايات.و منهم من قال:إنّهما من فروض الأعيان،و اختاره الشّيخ أبو جعفر رحمه اللّه.

و الصّحيح أنّ ذلك إنّما يجب في السّمع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبه،إلاّ إذا كان على سبيل دفع الضّرر.و قال أبو عليّ الجبّائي:يجب عقلا،و السّمع يؤكّده.(1:484)

الفخر الرّازيّ: المسألة الأولى في قوله:(منكم) قولان:

أحدهما:أنّ(من)هاهنا ليست للتّبعيض لدليلين:

الأوّل:أنّ اللّه تعالى أوجب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر على كلّ الأمّة،في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ آل عمران:110.

و الثّاني:هو أنّه لا مكلّف إلاّ و يجب عليه الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،إمّا بيده أو بلسانه أو بقلبه، و يجب على كلّ أحد دفع الضّرر عن النّفس.إذا ثبت هذا فنقول:معنى هذه الآية كونوا أمّة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.

و أمّا كلمة(من)فهي هنا للتّبيين،لا للتّبعيض،كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ الحجّ:30، و يقال أيضا:لفلان من أولاده جند،و للأمير من غلمانه عسكر،يريد بذلك جميع أولاده و غلمانه لا بعضهم،كذا هنا.

ثمّ قالوا:إنّ ذلك و إن كان واجبا على الكلّ،إلاّ أنّه متى قام به قوم سقط التّكليف عن الباقين،و نظيره قوله تعالى: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً التّوبة:41،و قوله: إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً التّوبة:39،فالأمر عامّ،ثمّ إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية،و زال التّكليف عن الباقين.

و القول الثّاني:إنّ(من)هاهنا للتّبعيض،و القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين:

أحدهما:أنّ فائدة كلمة(من)هي أنّ في القوم من لا يقدر على الدّعوة،و لا على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،مثل النّساء و المرضى و العاجزين.

و الثّاني:أنّ هذا التّكليف مختصّ بالعلماء،و يدلّ عليه وجهان:

الأوّل:أنّ هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة1)

ص: 182


1- هو أبو عليّ الجبّائيّ(303)
2- هو أبو هاشم الجبّائيّ(321)

أشياء:الدّعوة إلى الخير،و الأمر بالمعروف،و النّهي عن المنكر،و معلوم أنّ الدّعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير و بالمعروف و بالمنكر،فإنّ الجاهل ربّما دعا إلى الباطل و أمر بالمنكر و نهى عن المعروف،و ربّما عرف الحكم في مذهبه،و جهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر،و قد يغلظ في موضع اللّين و يلين في موضع الغلظة،و ينكر على من لا يزيده إنكاره إلاّ تماديا،فثبت أنّ هذا التّكليف متوجّه على العلماء،و لا شكّ أنّهم بعض الأمّة،و نظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ التّوبة:122.

و الثّاني:أنّا أجمعنا على أنّ ذلك واجب على سبيل الكفاية،بمعنى أنّه متى قام به البعض سقط عن الباقين، و إذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم،فكان في الحقيقة هذا إيجابا على البعض لا على الكلّ،و اللّه أعلم.

و فيه قول رابع و هو قول الضّحّاك:إنّ المراد من هذه الآية أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّهم كانوا يتعلّمون من الرّسول عليه السّلام و يعلّمون النّاس.و التّأويل على هذا الوجه:

كونوا أمّة مجتمعين على حفظ سنن الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و تعلّم الدّين.(8:177)

السّيوطي: (من)للتّبعيض،لأنّ ما ذكر فرض كفاية لا يلزم كلّ الأمّة،و لا يليق بكلّ أحد كالجاهل.

و قيل:زائدة،أي لتكونوا أمّة.(الجلالين 1:175)

الآلوسيّ: (من)هنا قيل:للتّبعيض،و قيل:للتّبيين.

و هي تجريديّة،كما يقال:لفلان من أولاده جند،و للأمير من غلمانه عسكر،يراد بذلك جميع الأولاد و الغلمان.

و منشأ الخلاف في ذلك أنّ العلماء اتّفقوا على أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،من فروض الكفايات.و لم يخالف في ذلك إلاّ النّزر،و منهم الشّيخ أبو جعفر من الإماميّة،قالوا:إنّها من فروض الأعيان.

و اختلفوا في أنّ الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلّفين و يسقط عنهم بفعل بعضهم،أو هو واجب على البعض؟

ذهب الإمام الرّازيّ و أتباعه إلى الثّاني،للاكتفاء بحصوله من البعض،و لو وجب على الكلّ لم يكتف بفعل البعض؛إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلّف بفعل غيره.و ذهب إلى الأوّل الجمهور،و هو ظاهر نصّ الإمام الشّافعيّ في«الأمّ».و استدلّوا على ذلك بإثم الجميع بتركه،و لو لم يكن واجبا عليهم كلّهم لما أثموا بالتّرك.

و أجاب الأوّلون عن هذا:بأنّ إثمهم بالتّرك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم.

و اعترض عليه من طرف الجمهور بأنّ هذا هو الحقيق بالاستبعاد،أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلا كلّفت به.

و الجواب عنه:بأنّه ليس الإسقاط عن غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم،يقال فيه،بل هو أولى لأنّه قد ثبت نظيره شرعا من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو،و لم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر،فيتمّ ما قاله الجمهور.

و اعترض القول:بأنّ هذا هو الحقيق بالاستبعاد، بأنّه إنّما يتأتّى لو ارتبط التّكليف في الظّاهر بتلك الطّائفة الأخرى بعينها وحدها.لكنّه ليس كذلك بل كلتا الطّائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما،و تعلّقه بهما من غير مزيّة لإحداهما على الأخرى،فليس في التّأثيم

ص: 183

المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلّفت به؛إذ كون الأخرى كلّفت به غير معلوم،بل كلتا الطّائفتين متساويتان في احتمال كلّ أن تكون مكلّفة به،فالاستبعاد المذكور ليس في محلّه.

على أنّه إذا قلنا،بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثّاني:من أنّ«البعض»مبهم،آل الحال إلى أنّ المكلّف طائفة،لا بعينها؛فيكون المكلّف:القدر المشترك بين الطّوائف الصّادق بكلّ طائفة.فجميع الطّوائف مستوية في تعلّق الخطاب بها بواسطة تعلّقه بالقدر المشترك المستوي فيها،فلا إشكال في اسم الجميع، و لا يصير النّزاع بهذا بين الطّائفتين لفظيّا؛حيث إنّ الخطاب حينئذ عمّ الجميع على القولين.

و كذا الإثم عند التّرك لما أنّ في أحدهما دعوى التّعليق بكلّ واحد بعينه،و في الآخر دعوى تعلّقه بكلّ، بطريق السّراية من تعلّقه بالمشترك.و ثمرة ذلك:أنّ من شكّ أنّ غيره هل فعل ذلك الواجب؟لا يلزمه على القول بالسّراية و يلزمه على القول بالابتداء،و لا يسقط عنه إلاّ إذا ظنّ فعل الغير.

و من هنا يستغنى عن الجواب عمّا اعترض به من طرف الجمهور،فلا يضرّنا ما قيل فيه.على أنّه يقال على ما قيل:ليس الدّين نظير ما نحن فيه كليّا،لأنّ دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظّاهر،و لا تعلّق له بغيره فلذا صحّ أن يسقط عنه بأداء غيره،و لم يصحّ أن يأثم غيره بترك أدائه.

بخلاف ما نحن فيه،فإنّ نسبة الواجب في الظّاهر إلى كلتا الطّائفتين على السّواء فيه،فجاز أن يأثم كلّ الطائفة بترك غيرها لتعلّق الوجوب بها بحسب الظّاهر، و استوائها مع غيرها في التّعلّق.

و أمّا قولهم:«و لم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر»فهو لا يطابق البحث؛إذ ليس المدّعى تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك،فالمطابق و لم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر.و يتخلّص منه حينئذ بأنّ التّعلّق في الظّاهر مشترك في سائر الطّوائف،فيتمّ ما ذهب إليه الإمام الرّازيّ و أتباعه،و هو مختار ابن السّبكيّ خلافا لأبيه.

إذا تحقّق هذا،فاعلم أنّ القائلين بأنّ المكلّف البعض قالوا:إنّ(من)للتّبعيض،و أنّ القائلين بأنّ المكلّف الكلّ قالوا:إنّها للتّبيين،و أيّدوا ذلك بأنّ اللّه تعالى أثبت الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر لكلّ الأمّة،في قوله سبحانه:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ آل عمران:110،و لا يقتضي ذلك كون الدّعاء فرض عين،فإنّ الجهاد من فروض الكفاية بالإجماع،مع ثبوته بالخطابات العامّة، فتأمّل.(4:21)

رشيد رضا :الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر حفاظ الجامعة و سياج الوحدة.

و قد اختلف المفسّرون في قوله تعالى:(منكم)هل معناه بعضكم،أم(من)بيانيّة؟

ذهب مفسّرنا«الجلال»إلى الأوّل،لأنّ ذلك فرض كفاية،و سبقه إليه«الكشّاف»و غيره.

و قال بعضهم:بالثّاني،قالوا:و المعنى و لتكونوا أمّة تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر.

قال الأستاذ الإمام:و الظّاهر أنّ الكلام على حدّ

ص: 184

«ليكن لي منك صديق»فالأمر عامّ،و يدلّ على العموم قوله تعالى: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ العصر:1-3،فإنّ«التّواصي»هو الأمر و النّهي،و قوله عزّ و جلّ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ المائدة:78،79،و ما قصّ اللّه علينا شيئا من أخبار الأمم السّالفة إلاّ لنعتبر به.

و قد أشار المفسّر«الجلال»إلى الاعتراض،الّذي يرد على القول بالعموم،و هو أنّه يشترط فيمن يأمر و ينهى أن يكون عالما بالمعروف الّذي يأمر به و المنكر الّذي ينهى عنه،و في النّاس جاهلون لا يعرفون الأحكام.

و لكن هذا الكلام لا ينطبق على ما يجب أن يكون عليه المسلم من العلم،فإنّ المفروض الّذي ينبغي أن يحمل عليه خطاب التّنزيل هو أنّ المسلم لا يجهل ما يجب عليه،و هو مأمور بالعلم و التّفرقة بين المعروف و المنكر، على أنّ المعروف عند إطلاقه يراد به ما عرفته العقول و الطّباع السّليمة.و المنكر ضدّه،و هو ما أنكرته العقول و الطّباع السّليمة.و لا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على«الدّرّ»و لا«فتح القدير»و لا«المبسوط».

و إنّما المرشد إليه-مع سلامة الفطرة-كتاب اللّه و سنّة رسوله المنقولة بالتّواتر و العمل،و هو ما لا يسع أحدا جهله،و لا يكون المسلم مسلما إلاّ به.فالّذين منعوا عموم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،جوّزوا أن يكون المسلم جاهلا لا يعرف الخير من الشّرّ،و لا يميّز بين المعروف و المنكر،و هو لا يجوز دينا.

[ثمّ ذكر مراتب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر و شرائطهما،فراجع](4:26-36)

الطّباطبائيّ:التّجربة القطعيّة تدلّ على أنّ المعلومات الّتي يهيّئها الإنسان لنفسه في حياته -و لا يهيّئ و لا يدّخر لنفسه إلاّ ما ينتفع به-من أيّ طريق هيّأها و بأيّ وجه ادّخرها،تزول عنه إذا لم يذكرها و لم يدم على تكرارها بالعمل.

و لا شكّ أن العمل في جميع شئونه يدور مدار العلم، يقوى بقوّته،و يضعف بضعفه،و يصلح بصلاحه،و يفسد بفساده،و قد مثّل اللّه سبحانه حالهما في قوله: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً الأعراف:58.

و لا نشكّ أنّ العلم و العمل متعاكسان في التّأثير، فالعلم أقوى داع إلى العمل،و العمل الواقع المشهود أقوى معلّم يعلّم الإنسان.

و هذا الّذي ذكر هو الّذي يدعوا المجتمع الصّالح الّذي عندهم العلم النّافع و العمل الصّالح أن يتحفّظوا على معرفتهم و ثقافتهم،و أن يردّوا المتخلّف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه،و أن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف-و هو الواقع في مهبط الشّرّ المنكر عندهم -أن يقع في مهلكة الشّرّ و ينهوه عنه.

و هذه هي الدّعوة بالتّعليم و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،و هي الّتي يذكرها اللّه في هذه الآية بقوله:

يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ

ص: 185

اَلْمُنْكَرِ.

و من هنا يظهر السّرّ في تعبيره تعالى عن الخير و من هنا يظهر السّرّ في تعبيره تعالى عن الخير و الشّرّ بالمعروف و المنكر،فإنّ الكلام مبنيّ على ما في الآية السّابقة من قوله: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا آل عمران:103،و من المعلوم أنّ المجتمع الّذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير،و المنكر فيه هو الشّرّ.و لو لا العبرة بهذه النّكتة لكان الوجه في تسمية الخير و الشّرّ بالمعروف و المنكر،كون الخير و الشّرّ معروفا و منكرا،بحسب نظر الدّين،لا بحسب العمل الخارجيّ.

و أمّا قوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ فقد قيل:إنّ(من) للتّبعيض،بناء على أنّ:الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر و كذا الدّعوة،من الواجبات الكفائيّة.

و ربّما قيل:إنّ(من)بيانيّة،و المراد منه:و لتكونوا بهذا الاجتماع الصّالح أمّة يدعون إلى الخير،فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا:ليكن لي منك صديق،أي كن صديقا لي.و الظّاهر أنّ المراد بكون(من)بيانيّة،كونها نشوئيّة ابتدائية.

و الّذي ينبغي أن يقال:إنّ البحث في كون(من) تبعيضيّة أو بيانيّة لا يرجع إلى ثمرة محصّلة،فإنّ الدّعوة و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائيّة؛إذ لا معنى للدّعوة و الأمر و النّهي المذكورات بعد حصول الغرض،فلو رضت الأمّة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر،كان معناه أنّ فيهم من يقوم بهذه الوظائف؛فالأمر قائم بالبعض على أيّ حال،و الخطاب إن كان للبعض فهو ذاك و إن كان للكلّ كان أيضا باعتبار البعض.و بعبارة أخرى المسئول بها الكلّ،و المثاب بها البعض،و لذلك عقّبه بقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

فالظّاهر أنّ(من)تبعيضيّة،و هو الظّاهر من مثل هذا التّركيب في لسان المحاورين،و لا يصار إلى غيره إلاّ بدليل.(3:372)

2- يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... آل عمران:114

الطّوسيّ: قد بيّنّا أنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر واجبان،و أنّه ليس طريق وجوبهما العقل،و إنّما طريق وجوبهما السّمع،و عليه إجماع الأمّة.

و إنّما الواجب بالعقل كراهة المنكر فقط،غير أنّه إذا ثبت بالسّمع وجوبه،فعلينا إزالة المنكر بما يقدر عليه من الأمور الحسنة دون القبيحة،لأنّه لا يجوز إزالة قبيح بقبيح آخر.و ليس لنا أن نترك أحدا يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها،سواء كانت المعصية من أفعال القلوب، مثل إظهار المذاهب الفاسدة،أو من أفعال الجوارح.

ثمّ ننظر،فإن أمكننا إزالته بالقول،فلا نزيد عليه.و إن لم يمكن إلاّ بالمنع من غير إضرار،لم نزد عليه.فإن لم يتمّ إلاّ بالدّفع بالحرب،فعلناه على ما بيّنّاه فيما تقدّم،و إن كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوف على السّلطان أو إذنه في ذلك.

و إنكار المذاهب الفاسدة لا يكون إلاّ بإقامة الحجج و البراهين و الدّعاء إلى الحقّ،و كذلك إنكار أهل الذّمّة.

فأمّا الإنكار باليد،فمقصور على من يفعل شيئا من

ص: 186

معاصي الجوارح،أو يكون باغيا على إمام الحقّ،فإنّه يجب علينا قتاله و دفعه حتّى يفيء إلى الحقّ،و سبيلهم سبيل أهل الحرب،فإنّ الإنكار عليهم باليد و القتال، حتّى يرجعوا إلى الإسلام،أو يدخلوا في الذّمّة.

(2:565)

الفخر الرّازيّ: و اعلم أنّ الغاية القصوى في الكمال أن يكون تامّا و فوق التّمام،فكون الإنسان تامّا ليس إلاّ في كمال قوّته العمليّة و قوّته النّظريّة،و قد تقدّم ذكره.

و كونه فوق التّمام أن يسعى في تكميل النّاقصين،و ذلك بطريقين:إمّا بإرشادهم إلى ما ينبغي و هو الأمر بالمعروف،أو بمنعهم عمّا لا ينبغي و هو النّهي عن المنكر.(8:202)

البروسويّ: تعريض بمداهنتهم في الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال النّاس و صدّهم عن سبيل اللّه،فإنّه أمر بالمنكر و نهي عن المعروف.(2:81)

الآلوسيّ:إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النّفس،و فيه تعريض بالمداهنين الصّادّين عن سبيل اللّه تعالى.(4:34)

3- يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...

التّوبة:71

رشيد رضا :كما أنّ المنافقين يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف،و هاتان الصّفتان من أخصّ صفات المؤمنين الّتي يمتازون بها على المنافقين و على غيرهم من الكفّار،و هما سياج حفظ الفضائل،و منع فشوّ الرّذائل.(10:542)

مثله المراغيّ.(10:160)

تامرون

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.. آل عمران:110

الفخر الرّازيّ: [إن قيل:]لم قدّم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر على الإيمان باللّه في الذّكر،مع أنّ الإيمان باللّه لا بدّ و أن يكون مقدّما على كلّ الطّاعات؟

و الجواب:أنّ الإيمان باللّه أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقّة،ثمّ إنّه تعالى فضّل هذه الأمّة على سائر الأمم المحقّة،فيمتنع أن يكون المؤثّر في حصول هذه الخيريّة هو الإيمان الّذي هو القدر المشترك بين الكلّ،بل المؤثّر في حصول هذه الزّيادة هو كون هذه الأمّة أقوى حالا في الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر من سائر الأمم؛فإذن المؤثّر في حصول هذه الخيريّة هو:الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر.

و أمّا الإيمان باللّه فهو شرط لتأثير هذا المؤثّر في هذا الحكم،لأنّه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطّاعات مؤثّرا في صفة الخيريّة؛فثبت أنّ الموجب لهذه الخيريّة هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.و أمّا إيمانهم فذاك شرط التّأثير،و المؤثّر ألصق بالأثر من شرط التّأثير،فلهذا السّبب قدّم اللّه تعالى ذكر الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،على ذكر الإيمان.(8:190-192)

رشيد رضا :[حكى قول الرّازي في وجه تقديم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر على الإيمان باللّه ثمّ

ص: 187

قال:]

قال الأستاذ الإمام: أمّا تقديم ذكر الأمر و النّهي على الإيمان،فالحكمة فيه أنّ هذه الصّفة-الأمر و النّهي- محمودة في عرف جميع النّاس-مؤمنهم و كافرهم- يعترفون لصاحبها بالفضل.و لمّا كان الكلام في خيريّة هذه الأمّة على جميع الأمم-مؤمنهم و كافرهم-قدّم الوصف المتّفق على حسنه عند المؤمنين و الكافرين.

و هناك حكمة أخرى،و هي أنّ:الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر سياج الإيمان و حفاظه-كما تقدّم بيانه -فكان تقديمه في الذّكر موافقا للمعهود عند النّاس،في جعل سياج كلّ شيء مقدّما عليه.

أقول:كلّ ذلك حسن،و المتبادر عندي أنّ تقديم «الأمر و النّهي»للتّعريض بأهل الكتاب الّذين (1)كانوا يدّعون الإيمان و لا يقدرون على ادّعاء القيام بالأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،لأنّهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه،و ادّعاء ما تكذبه المشاهدة يفضح صاحبه،فقدّم ذكر«الأمر و النّهي»لأنّهم لا مجال لهم في دعوى مشاركة المؤمنين فيه،و أخّر ذكر«الإيمان» الّذي يدّعونه ليرتّب عليه بيان أنّه إيمان غير صحيح، لأنّه لم يأت بثمر الإيمان الصّحيح.(4:63)

و امر

يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ... لقمان:17

راجع«ع ر ف».

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. الأعراف:199

راجع«ع ر ف-ع ر ض».

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ... طه:132

الإمام الباقر عليه السّلام: أمر اللّه نبيّه أن يخصّ أهل بيته و أهله دون النّاس،ليعلم النّاس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست لغيرهم،فأمرهم مع النّاس عامّة،ثمّ أمرهم خاصّة.(الكاشانيّ 3:327)

الزّمخشريّ: أي و أقبل أنت مع أهلك على عبادة اللّه و الصّلاة.(2:560)

سيّد قطب :أوّل واجبات الرّجل المسلم أن يحوّل بيته إلى بيت مسلم،و أن يوجّه أهله إلى أداء الفريضة الّتي تصلهم معه باللّه،فتوحّد اتّجاههم العلويّ في الحياة، و ما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلّهم يتّجهون إلى اللّه!(4:2357)

الآمرون

اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ...

التّوبة:112

«راجع ع ر ف».

اولى الامر

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ

ص: 188


1- في الأصل:الذي.

وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً. النّساء:59

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال:

لمّا أنزل اللّه عزّ و جلّ على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله يا أَيُّهَا الَّذِينَ... قلت:يا رسول اللّه عرفنا اللّه و رسوله،فمن «أولو الأمر»الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟

فقال عليه السّلام:هم خلفائي يا جابر،و أئمّة المسلمين من بعدي.[ثمّ ذكر الأئمّة واحدا بعد واحد،و مثله كثير في روايات أهل البيت عليهم السّلام](العروسيّ 1:499)

نحوه عن الإمام عليّ عليه السّلام.(البحرانيّ 1:386)

على المرء المسلم السّمع و الطّاعة فيما أحبّ و كره إلاّ أن يؤمر بمعصية،فمن أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة.

(الدّرّ المنثور 2:177)

نحوه ابن مسعود.(الطّبريّ 5:150)

أبيّ بن كعب:هم السّلاطين.(الطّبريّ 5:148)

الإمام عليّ عليه السّلام: لا طاعة لمن عصى اللّه،إنّما الطّاعة للّه و لرسوله و لولاة الأمر.و إنّما أمر اللّه تعالى بطاعة الرّسول،لأنّه معصوم مطهّر لا يأمر بمعصية.و إنّما أمر بطاعة أولي الأمر،لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية.(العروسي 1:501)

اعرفوا اللّه باللّه،و الرّسول بالرّسالة،و أولي الأمر بالمعروف و العدل و الإحسان.(العروسيّ 1:501)

أبو هريرة:أمراء المسلمين في عهد الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم و بعده،و يندرج فيهم الخلفاء و السّلاطين و القضاة، و غيرهم.(الآلوسيّ 5:65)

ابن عبّاس: إنّ هذه الآية نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس السّهميّ؛إذ بعثه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في السّريّة.(الطّبريّ 5:148)

مثله ابن جبير.(الفخر الرّازي 10:144)

يعني أهل الفقه و الدّين.(الطّبريّ 5:149)

المراد بهم أهل العلم.

مثله جابر بن عبد اللّه،و مجاهد،و الحسن،و عطاء.

(الآلوسيّ 5:65)

أولو الأمر:هم الأمراء.

مثله أبو هريرة و السّدّيّ،و ابن زيد.

(أبو حيّان 3:278)

جابر بن عبد اللّه: أهل القرآن و العلم.

مثله مجاهد.(القرطبيّ 5:259) أبو العالية :هم أهل العلم،أ لا ترى أنّه يقول:

وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النّساء:83.

(الطّبريّ 5:149)

مجاهد :يعني أولي الفقه في الدّين و العقل.

(1:162)

مثله ابن أبي نجيح.(الطّبريّ 5:149)

أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم أولي الفضل،و الفقه،و دين اللّه.(الطّبريّ 5:149)

الضّحّاك: هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،هم الدّعاة الرّواة.(الدّرّ المنثور 2:177)

الفقهاء و العلماء في الدّين.(القرطبيّ 5:259)

عطاء:الفقهاء و العلماء.(الطّبريّ 5:149)

ص: 189

الإمام الباقر عليه السّلام:[في حديث]...ثمّ قال للنّاس:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إيّانا عنى خاصّة،أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا.(العروسيّ 1:497)

في قول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الأئمّة من ولد عليّ و فاطمة عليهما السّلام إلى أن تقوم السّاعة.

(العروسيّ 1:499)

أبو عبيدة :أي ذوي الأمر،و الدّليل على ذلك،أنّ واحدها«ذو».(1:130)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في(اولى الامر) الّذين أمر اللّه عباده بطاعتهم في هذه الآية:

فقال بعضهم:هم الأمراء.

و قال آخرون:هم أهل العلم و الفقه.

و قال آخرون:هم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

و قال آخرون:هم أبو بكر و عمر،رضي اللّه عنهما.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب،قول من قال:هم الأمراء و الولاة،لصحّة الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالأمر بطاعة الأئمّة و الولاة فيما كان طاعة،و للمسلمين مصلحة.

فإذا كان معلوما أنّه لا طاعة واجبة لأحد،غير اللّه أو رسوله أو إمام عادل،و كان اللّه قد أمر بقوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ بطاعة ذوي أمرنا،كان معلوما أنّ الّذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا،هم الأئمّة،و من ولاّه المسلمون دون غيرهم من النّاس.

و إن كان فرضا القبول من كلّ من أمر بترك معصية اللّه،و دعا إلى طاعة اللّه،و أنّه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر و نهى،فيما لم تقم حجّة وجوبه،إلاّ للأئمّة الّذين ألزم اللّه عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيّتهم،ممّا هو مصلحة لعامّة الرّعيّة،فإنّ على من أمروه بذلك طاعتهم، و كذلك في كلّ ما لم يكن للّه معصية.

و إذ كان ذلك كذلك،كان معلوما بذلك صحّة ما اخترنا من التّأويل،دون غيره.(5:147-150)

ابن كيسان :هم أولو العقل و الرّأي الّذين يدبّرون أمر النّاس.(القرطبيّ 5:260)

القمّيّ:يعني أمير المؤمنين عليه السّلام.(1:141)

الطّوسيّ: [بعد نقل قول ابن عبّاس و جابر و مجاهد و غيرهم،قال:]

و روى أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام:

أنّهم الأئمّة من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله،فلذلك أوجب اللّه تعالى طاعتهم بالإطلاق،كما أوجب طاعة رسوله و طاعة نفسه كذلك.

و لا يجوز إيجاب طاعة أحد مطلقا إلاّ من كان معصوما،مأمونا منه السّهو و الغلط.و ليس ذلك بحاصل في الأمراء،و لا العلماء،و إنّما هو واجب في الأئمّة الّذين دلّت الأدلّة على عصمتهم و طهارتهم.

فأمّا من قال:المراد به العلماء،فقوله بعيد،لأنّ قوله:

وَ أُولِي الْأَمْرِ معناه أطيعوا من له الأمر،و ليس ذلك للعلماء.

فإن قالوا:يجب علينا طاعتهم إذا كانوا محقّين،فإذا عدلوا عن الحقّ،فلا طاعة لهم علينا.

ص: 190

قلنا:هذا تخصيص لعموم إيجاب الطّاعة،لم يدلّ عليه دليل.

و حمل الآية على العموم،فيمن يصحّ ذلك فيه أولى من تخصيص الطّاعة بشيء دون شيء،كما لا يجوز تخصيص وجوب طاعة الرّسول و طاعة اللّه،في شيء دون شيء.(3:236)

نحوه الطّبرسيّ.(2:64)

القشيريّ: «أولو الأمر»على لسان العلم:السّلطان.

و على بيان المعرفة:العارف ذو الأمر على المستأنف.

و الشّيخ أولو الأمر على المريد،و إمام كلّ طائفة ذو الأمر عليهم.

و يقال:الوليّ أولى بالمريد-من المريد-للمريد.

(2:36)

الرّاغب: قيل:عنى الأمراء في زمن النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام.

و قيل:الأئمّة من أهل البيت.

و قيل:الآمرون بالمعروف.

و قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:هم الفقهاء،و أهل الدّين المطيعون للّه.

و كلّ هذه الأقوال صحيحة،و وجه ذلك أنّ(اولى الامر)الّذين بهم يرتدع النّاس أربعة:

الأنبياء،و حكمهم على ظاهر العامّة و الخاصّة،و على بواطنهم.

و الولاة،و حكمهم على ظاهر الكافّة دون باطنهم.

و الحكماء،و حكمهم على باطن الخاصّة دون الظّاهر.

و الوعظة،و حكمهم على بواطن العامّة دون ظواهرهم.(25)

الزّمخشريّ: المراد ب أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أمراء الحقّ،لأنّ أمراء الجور،اللّه و رسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على اللّه و رسوله في وجوب الطّاعة لهم،و إنّما يجمع بين اللّه و رسوله و الأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل،و اختيار الحقّ،و الأمر بهما و النّهي عن أضدادهما، كالخلفاء الرّاشدين و من تبعهم بإحسان.

كان الخلفاء يقولون:أطيعوني ما عدلت فيكم،فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.

و عن أبي حازم أنّ مسلمة بن عبد الملك قال:أ لستم أمرتم بطاعتنا في قوله: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ قال:

أ ليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحقّ بقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ النّساء:59.

و قيل:هم أمراء السّرايا.

و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«من أطاعني فقد أطاع اللّه،و من عصاني فقد عصى اللّه،و من يطع أميري فقد أطاعني، و من يعص أميري فقد عصاني».

و قيل:هم العلماء الدّيّنون الّذين يعلّمون النّاس الدّين،و يأمرونهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر.

(1:535)

نحوه أبو السّعود(1:345)،و البروسويّ(2:228).

ابن شهرآشوب: قالوا:إنّها نزلت في أمراء السّرايا،في ولاية الصّحابة،و عليّ أوّلهم.و قالوا:نزلت في علماء العامّة،و قالوا:نزلت في أئمّة الهدى،و الدّليل على ذلك أنّ ظاهرها يقتضي عموم طاعة(اولى الامر)من حيث عطف تعالى الأمر بطاعتهم على الأمر بطاعته

ص: 191

و طاعة رسوله عليه السّلام.و طاعة أمراء السّرايا و علماء العامّة لا تجب مثل طاعة اللّه و طاعة رسوله،فلم يبق إلاّ أنّ أئمّتنا هم المعنيّون بها.

ثمّ إنّنا قد علمنا اختصاص طاعة الأمراء بمن ولّوا عليه و بما كانوا أمراء فيه،و بالزّمان الّذي اختصّت به ولايتهم؛فطاعتهم خاصّة،و طاعة(اولى الامر)في الآية عامّة من كلّ وجه.و أمّا علماء العامّة فهم مختلفون،و في طاعة بعضهم عصيان بعض،و في فساد القولين صحّة مقالنا.

و قد وصف اللّه تعالى(اولى الامر)بصفة تدلّ على العلم و الإمرة جميعا،قوله: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النّساء:83، فردّ الأمر من الأمن و الخوف و الاستنباط إلى العلماء.

و لا يجتمعان إلاّ لأمير عالم و هم أئمّتنا عليهم السّلام،لأنّ ظاهرها يقتضي طاعة(اولى الأمر)بطاعته و طاعة رسوله،من حيث أطلق الأمر بطاعتهم.و لم يخصّ شيئا من شيء، لأنّه سبحانه لو أراد خاصّا لنبيّه لوقف عليه.و في فقد البيان منه تعالى دليل على إرادة الكلّ،و مطلق الأمر بالطّاعة يقتضي تناوله لكلّ مخاطب في كلّ زمان.

و إذا ثبت ذلك ثبت إمامتهم،لأنّه لا أحد يجب طاعته على ذلك الوجه بعد النّبيّ إلاّ الإمام.و إذا اقتضت وجوب طاعة(أولي الأمر)على العموم لم يكن بدّ من عصمتهم،و إلاّ أدّى أن يكون تعالى قد أمره بالقبيح،لأنّ من ليس بمعصوم لا يؤمن منه وقوع القبيح،فإذا وقع كان الاقتداء به قبيحا.

و إذا ثبت دلالة الآية على العصمة و عموم الطّاعة، ثبت إمامتهم و بطل توجّهها إلى غيرهم،لارتفاع عصمتهم و اختصاص طاعتهم.(2:48)

نحوه شبّر.(2:58)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ قوله: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يدلّ عندنا على أنّ إجماع الأمّة حجّة،و الدّليل على ذلك أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية.

و من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع لا بدّ و أن يكون معصوما عن الخطأ؛إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته،فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ،و الخطأ -لكونه خطأ-منهيّ عنه،فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر و النّهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد،و أنّه محال؛ فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم،و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ؛فثبت قطعا أنّ(اولى الامر)المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوما.

ثمّ نقول:ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمّة أو بعض الأمّة،لا جائز أن يكون بعض الأمّة،لأنّا بيّنّا أنّ اللّه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا، و إيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم و الاستفادة منهم.و نحن نعلم بالضّرورة أنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم،عاجزون عن الوصول إليهم،عاجزون عن استفادة الدّين و العلم منهم،و إذا كان الأمر كذلك علمنا

ص: 192

أنّ المعصوم الّذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمّة،و لا طائفة من طوائفهم.

و لمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الّذي هو المراد بقوله: وَ أُولِي الْأَمْرِ أهل الحلّ و العقد من الأمّة،و ذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الأمّة حجّة.

فإن قيل:المفسّرون ذكروا في(اولى الامر)وجوها أخرى سوى ما ذكرتم:

أحدها:أنّ المراد من(اولى الامر)الخلفاء الرّاشدون.

و الثّاني:المراد أمراء السّرايا.قال سعيد بن جبير:

نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن حذافة السّهميّ؛إذ بعثه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أميرا على سريّة.و عن ابن عبّاس أنّها نزلت في خالد بن الوليد بعثه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أميرا على سريّة و فيها عمّار بن ياسر،فجرى بينهما اختلاف في شيء،فنزلت هذه الآية،و أمر بطاعة(اولى الامر).

و ثالثها:المراد العلماء الّذين يفتون في الأحكام الشّرعيّة،و يعلّمون النّاس دينهم.و هذا رواية الثّعلبيّ عن ابن عبّاس،و قول الحسن و مجاهد و الضّحّاك.

و رابعها:نقل عن الرّوافض أنّ المراد به الأئمّة المعصومون.و لمّا كانت أقوال الأمّة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه،و كان القول الّذي نصرتموه خارجا عنها،كان ذلك بإجماع الأمّة باطلا.

إن قيل:حمل(اولى الامر)على الأمراء و السّلاطين أولى ممّا ذكرتم،و يدلّ عليه وجوه:

الأوّل:أنّ الأمراء و السّلاطين أوامرهم نافذة على الخلق،فهم في الحقيقة أولو الأمر.أمّا أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق،فكان حمل اللّفظ على الأمراء و السّلاطين أولى.

و الثّاني:أنّ أوّل الآية و آخرها يناسب ما ذكرناه.أمّا أوّل الآية فهو أنّه تعالى أمر الحكّام بأداء الأمانات و برعاية العدل،و أمّا آخر الآية فهو أنّه تعالى أمر بالرّدّ إلى الكتاب و السّنّة فيما أشكل،و هذا إنّما يليق بالأمراء، لا بأهل الإجماع.

الثّالث:أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالغ في التّرغيب في طاعة الأمراء،فقال:«من أطاعني فقد أطاع اللّه،و من أطاع أميري فقد أطاعني،و من عصاني فقد عصى اللّه،و من عصى أميري فقد عصاني»فهذا ما يمكن ذكره من السّؤال على الاستدلال الّذي ذكرناه.

و الجواب:أنّه لا نزاع أنّ جماعة من الصّحابة و التّابعين حملوا قوله: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ على العلماء،فإذا قلنا:المراد منه جميع العلماء من أهل العقد و الحلّ لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمّة،بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم،و تصحيحا له بالحجّة القاطعة، فاندفع السّؤال الأوّل.

و أمّا سؤالهم الثّاني فهو مدفوع،لأنّ الوجوه الّتي ذكروها وجوه ضعيفة،و الّذي ذكرناه برهان قاطع، فكان قولنا أولى.

على أنّا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها:

فأحدها:أنّ الأمّة مجمعة على أنّ الأمراء و السّلاطين إنّما يجب طاعتهم فيما علم بالدّليل أنّه حقّ و صواب،و ذلك الدّليل ليس إلاّ الكتاب و السّنّة،فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب و السّنّة،

ص: 193

و عن طاعة اللّه و طاعة رسوله،بل يكون داخلا فيه.كما أنّ وجوب طاعة الزّوجة للزّوج،و الولد للوالدين، و التّلميذ للاستاذ،داخل في طاعة اللّه و طاعة الرّسول.

أمّا إذا حملناه على الإجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها،لأنّه ربّما دلّ الإجماع على حكم،بحيث لا يكون في الكتاب و السّنّة دلالة عليه،فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأوّلين فهذا أولى.

و ثانيها:أنّ حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشّرط في الآية،لأنّ طاعة الأمراء إنّما تجب إذا كانوا مع الحقّ،فإذا حملناه على الإجماع لا يدخل الشّرط في الآية،فكان هذا أولى.

و ثالثها:أنّ قوله من بعد: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ مشعر بإجماع مقدّم،يخالف حكمه حكم هذا التّنازع.

و رابعها:أنّ طاعة اللّه و طاعة رسوله واجبة قطعا، و عندنا أنّ طاعة أهل الإجماع واجبة قطعا.و أمّا طاعة الأمراء و السّلاطين فغير واجبة قطعا،بل الأكثر أنّها تكون محرّمة،لأنّهم لا يأمرون إلاّ بالظّلم،و في الأقلّ تكون واجبة بحسب الظّنّ الضّعيف،فكان حمل الآية على الإجماع أولى،لأنّه أدخل(الرّسول)و(اولى الامر) في لفظ واحد،و هو قوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فكان حمل(اولي الامر)الّذي هو مقرون ب(الرّسول)على المعصوم،أولى من حمله على الفاجر الفاسق.

و خامسها:أنّ أعمال الأمراء و السّلاطين موقوفة على فتاوى العلماء،و العلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ(اولى الامر)عليهم أولى.

و أمّا حمل الآية على الأئمّة المعصومين،على ما تقوله الرّوافض،ففي غاية البعد لوجوه:

أحدها:ما ذكرناه أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم، و قدرة الوصول إليهم.فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق،و لو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم و بمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا.و ظاهر قوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يقتضي الإطلاق.

و أيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال،و ذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة(الرّسول)و طاعة(أولي الامر)في لفظة واحدة،و هو قوله: وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، و اللّفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطابقة و مشروطة معا،فلمّا كانت هذه اللّفظة مطلقة في حقّ الرّسول،وجب أن تكون مطلقة في حقّ(اولى الامر).

و الثّاني:أنّه تعالى أمر بطاعة(أولي الامر)،و أولو الأمر جمع،و عندهم لا يكون في الزّمان إلاّ إمام واحد، و حمل الجمع على الفرد خلاف الظّاهر.

و ثالثها:أنّه قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ و لو كان المراد ب(اولى الامر)الإمام المعصوم،لوجب أن يقال:فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام،فثبت أنّ الحقّ تفسير الآية بما ذكرناه.

(10:144-146)

ابن عربيّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الصّفات أَطِيعُوا اللّهَ بتوحيد الذّات،و الفناء في الجمع. وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ بمراعاة حقوق التّفصيل في

ص: 194

عين الجمع،و ملاحظة ترتيب الصّفات بعد الفناء في الذّات. وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ممّن استحقّ الولاية، و الرّئاسة،كما مرّ في حكاية طالوت.

(1:267)

[و قال في حكاية طالوت:]

طالوت كان رجلا فقيرا لا نسب له و لا مال،فما قبلوه للملك،لأنّ استحقاق الملك و الرّئاسة عند العامّة إنّما هو بالسّعادة الخارجيّة،الّتي هي المال و النّسب.فنبّه نبيّهم على أنّ الاستحقاق إنّما يكون بالسّعادتين الأخريين:

الرّوحانيّة الّتي هي العلم،و البدنيّة الّتي هي زيادة القوى،و شدّة البنية و البسطة،بقوله: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ البقرة:247.و اللّه أعلم بمن يستحقّ الملك فيؤتيه من يشاء، وَ اللّهُ واسِعٌ كثير العطاء، يؤتي المال،كما يؤتي الملك، عَلِيمٌ بمن له الاستحقاق، و ما يحتاج إليه من المال الّذي يعتضد به فيعطيه.

(1:139)

القرطبيّ: قال جابر بن عبد اللّه و مجاهد:«أولو الأمر»أهل القرآن و العلم؛و هو اختيار مالك رحمه اللّه، و نحوه قول الضّحّاك قال:يعني الفقهاء و العلماء في الدّين.

و حكي عن مجاهد أنّهم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم خاصّة.

و حكي عن عكرمة أنّها إشارة إلى أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما خاصّة.[إلى أن قال:]

و قال ابن كيسان:هم أولو العقل و الرّأي الّذين يدبّرون أمر النّاس.

قلت:و أصحّ هذه الأقوال الأوّل و الثّاني،أمّا الأوّل:

فلأنّ أصل الأمر منهم و الحكم إليهم.

[إلى أن قال:]

و أمّا القول الثّاني:فيدلّ على صحّته قوله تعالى:

فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ فأمر تعالى بردّ المتنازع فيه إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و ليس لغير العلماء معرفة كيفيّة الرّدّ إلى الكتاب و السّنّة.

و يدلّ هذا على صحّة كون سؤال العلماء واجبا،و امتثال فتواهم لازما.[إلى أن قال:]

و أمّا القول الثّالث فخاصّ،و أخصّ منه القول الرّابع.

و أمّا الخامس فيأباه ظاهر اللّفظ،و إن كان المعنى صحيحا.فإنّ العقل لكلّ فضيلة أسّ،و لكلّ أدب ينبوع، و هو الّذي جعله اللّه للدّين أصلا و للدّنيا عمادا،فأوجب اللّه التّكليف بكماله،و جعل الدّنيا مدبّرة بأحكامه.

و العاقل أقرب إلى ربّه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل،و روي هذا المعنى عن ابن عبّاس.(5:259)

أبو حيّان:[بعد نقل كثير من الأقوال المتقدّمة قال:]

و الظّاهر أنّه كلّ من ولي أمر شيء ولاية صحيحة، قالوا:حتّى المرأة يجب عليها طاعة زوجها،و العبد مع سيّده،و الولد مع والديه،و اليتيم مع وصيّه،فيما يرضي اللّه و له فيه مصلحة.(3:278)

ابن كثير :يعني العلماء،و الظّاهر-و اللّه أعلم-أنّها عامّة في كلّ أولي الأمر من الأمراء و العلماء.

(2:326)

الآلوسيّ: [بعد نقل كثير من الأقوال،قال:]

و ليس ببعيد على ما يعمّ الجميع لتناول الاسم لهم، لأنّ للأمراء تدبير أمر الجيش و القتال،و للعلماء حفظ

ص: 195

الشّريعة،و ما يجوز ممّا لا يجوز.و استشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فإنّ الخطاب فيه عامّ للمؤمنين مطلقا،«و الشّيء»خاصّ بأمر الدّين بدليل ما بعده،و المعنى فإن تنازعتم أيّها المؤمنون أنتم و أولو الأمر منكم في أمر من أمور الدّين(فردّوه) فراجعوا فيه(الى اللّه)أي إلى كتابه،(و الرّسول)أي إلى سنّته.

و لا شكّ أنّ هذا إنّما يلائم حمل(اولى الامر)على الأمراء دون العلماء،لأنّ للنّاس و العامّة منازعة الأمراء في بعض الأمور و ليس لهم منازعة العلماء؛إذ المراد بهم المجتهدون و النّاس ممّن سواهم،لا ينازعونهم في أحكامهم.(5:66)

رشيد رضا :قال الأستاذ الإمام:

و أمّا«أولو الامر»فقد اختلف فيهم،فقال بعضهم:

هم الأمراء،و اشترطوا فيهم أن لا يأمروا بمحرّم،كما قال مفسّرنا«الجلال»و غيره.و الآية مطلقة،أي و إنّما أخذوا هذا القيد من نصوص أخرى،كحديث«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»،و حديث«إنّما الطّاعة في المعروف».

و بعضهم أطلق في الحكّام فأوجبوا طاعة كلّ حاكم، و غفلوا عن قوله تعالى:(منكم).

و قال بعضهم:إنّهم العلماء،و لكن العلماء يختلفون، فمن يطاع في المسائل الخلافيّة و من يعصى.و حجّة هؤلاء أنّ العلماء هم الّذين يمكنهم أن يستنبطوا الأحكام غير المنصوصة،من الأحكام المنصوصة.

و قالت الشّيعة: إنّهم الأئمّة المعصومون،و هذا مردود؛إذ لا دليل على هذه العصمة،و لو أريد ذلك لصرّحت به الآية.و معنى(اولى الامر)الّذين يناط بهم النّظر في أمر إصلاح النّاس أو مصالح النّاس،و هؤلاء يختلفون أيضا فكيف يؤمر بطاعتهم بدون شرط و لا قيد؟

قال رحمه اللّه تعالى:إنّه فكّر في هذه المسألة من زمن بعيد،فانتهى به الفكر إلى أنّ المراد ب(اولى الأمر)جماعة أهل الحلّ و العقد من المسلمين،و هم الأمراء و الحكّام و العلماء و رؤساء الجند،و سائر الرّؤساء و الزّعماء الّذين يرجع إليهم النّاس في الحاجات و المصالح العامّة.فهؤلاء إذا اتّفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه، بشرط:أن يكونوا منّا،و أن لا يخالفوا أمر اللّه و لا سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم الّتي عرفت بالتّواتر،و أن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر و اتّفاقهم عليه،و أن يكون ما يتّفقون عليه من المصالح العامّة،و هو ما لأولي الأمر سلطة فيه و وقوف عليه.و أمّا العبادات و ما كان من قبيل الاعتقاد الدّينيّ فلا يتعلّق به أمر أهل الحلّ و العقد،بل هو ممّا يؤخذ عن اللّه و رسوله فقط،ليس لأحد رأي فيه إلاّ ما يكون في فهمه.

فأهل الحلّ و العقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمّة ليس فيه نصّ عن الشّارع،مختارين في ذلك غير مكرهين عليه،بقوّة أحد و لا نفوذه،فطاعتهم واجبة،و يصحّ أن يقال:هم معصومون في هذا الإجماع، و لذلك أطلق(الأمر)بطاعتهم بلا شرط،مع اعتبار الوصف و الاتّباع المفهوم من الآية.و ذلك كالدّيوان الّذي أنشأه عمر باستشارة أهل الرّأي من الصّحابة رضي اللّه عنهم،و غيره من المصالح الّتي أحدثها برأي(أولي الأمر)

ص: 196

من الصّحابة،و لم تكن في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و لم يعترض أحد من علمائهم على ذلك.

قال:فأمر اللّه في كتابه و سنّة رسوله الثّابتة القطعيّة الّتي جرى عليها صلّى اللّه عليه و سلّم بالعمل هما الأصل الّذي لا يردّ، و ما لا يوجد فيه نصّ عنهما ينظر فيه أولو الأمر إذا كان من المصالح،لأنّهم هم الّذين يثق بهم النّاس فيها و يتّبعونهم،فيجب أن يتشاوروا في تقرير ما ينبغي العمل به،فإذا اتّفقوا و أجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه،و إن اختلفوا و تنازعوا فقد بيّن الواجب فيما تنازعوا بقوله:

فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ.

النّساء:59،و ذلك بأن يعرض على كتاب اللّه و سنّة رسوله و ما فيهما من القواعد العامّة و السّيرة المطّردة،فما كان موافقا لهما علم أنّه صالح لنا و وجب الأخذ به، و ما كان منافرا علم أنّه غير صالح و وجب تركه،و بذلك يزول التّنازع،و تجتمع الكلمة.

و هذا الرّدّ و استنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الّذي يعبّر عنه ب«القياس»و الأوّل هو الإجماع الّذي يعتدّ به،و قد اشترطوا في«القياس»شروطا بالنّظر إلى العلّة.

و الغرض من هذا الرّدّ أن لا يقع خلاف في الدّين و الشّرع،لأنّه لا خلاف و لا اختلاف في أحكامهما.كذا قال الأستاذ:و المراد أن لا يفضي التّنازع إلى الاختلاف و التّفرّق الّذي يلبس المسلمين شيعا،و يذيق بعضهم بأس بعض-و سيأتي بيان ذلك مفصّلا-و لكنّهم لم يعملوا بالآية،فتفرّقوا و اختلفوا.

[ثمّ نقل كلام الرّازيّ المتقدّم إلى أن قال:]

أقول:إنّ القائلين بالإمام المعصوم يقولون:إنّ فائدة اتّباعه إنقاذ الأمّة من ظلمة الخلاف و ضرر التّنازع و التفرّق،و ظاهر الآية بيان حكم المتنازع فيه مع وجود أولي الأمر و طاعة الأمّة لهم،كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النّوازل و الوقائع.و الخلاف و التّنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به،لأنّه عندهم مثل الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم فلا يكون لهذه الزّيادة فائدة على رأيهم.

و حصر الرّازيّ الأقوال المنقولة في الأربعة الّتي ذكرها غير مسلّم،فقد روي عن مجاهد أنّ(اولى الامر) هم الصّحابة،و في رواية عنه و عن مالك و الضّحّاك، و هي مأثورة عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهما أنّهم أهل القرآن و العلم.فإن كان الرّازيّ يعني ب«أهل الإجماع»المجتهدين على اصطلاح أهل الأصول فهم أهل العلم و القرآن،و إن كان يعني بهم أهل الحلّ و العقد الّذين ينصبون الإمام الأعظم كما يفهم من تعبيره الآخر،فقد يوافق قوله قول ابن كيسان:إنّ(اولى الامر)هم أهل العقل و الرّأي.و قلّما تجد أحدا من المتأخّرين قال قولا إلاّ و تجد لمن قبله قولا بمعناه.و لكنّ القول إذا لم يكن واضحا مفصّلا حيث يحتاج إلى التّفصيل فإنّه يضيع و لا يفهم الجمهور المراد منه.

و هذا الرّازيّ على إسهابه و إطنابه في المسائل لم يحلّ المسألة كما يجب؛إذ عبّر تارة بأهل الإجماع،و المتبادر إلى الذّهن أن المراد بهم المجتهدون في المسائل الفقهيّة، و تارة بأهل الحلّ و العقد،و المتبادر إلى الذّهن أنّهم هم الّذين يختارون الإمام الأعظم.و هذا ما فهمه أو اختاره

ص: 197

النّيسابوريّ،و هو الصّواب و به يكون الرّازيّ قد حقّق مسألة الإجماع أفضل التّحقيق،كما سنبيّنه.

قال السّعد في«شرح المقاصد»: «و تنعقد الإمامة بطرق؛أحدها:بيعة أهل الحلّ و العقد من العلماء و الرّؤساء و وجوه النّاس»إلخ.فأهل الحلّ و العقد الّذين هم خواصّ الأمّة من العلماء و رؤساء الجند و المصالح العامّة هم أولو الامر الّذين تجب طاعتهم فيما يتّفقون عليه،لأنّ عامّة النّاس و دهماءهم يتّبعونهم بارتياح و اطمئنان،و لأنّهم هم العارفون بالمصلحة الّتي يحتاج إلى تقرير الحكم فيها،و لأنّ اجتماعهم و اتّفاقهم ميسور، و لأجل ذلك كان إجماعهم بمعنى إجماع الأمّة برمّتها، و هذه المعاني لا تتحقّق بإجماع المجتهدين في الفقه،إن أمكن أن يعرفوا و أن يجتمعوا،و أن تعلم الأمّة بإجماعهم، و تثق به.(5:180-187)

القاسميّ: يشمل عموم قوله: وَ أُولِي الْأَمْرِ :

العلماء.كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس أنّه يعني أهل الفقه و الدّين،و كذا قال مجاهد و عطاء و الحسن البصريّ و أبو العالية.

و هذا ليس قولا ثانيا في الآية بل هو ممّا يشمله لفظها،فهي عامّة في كلّ(اولى الامر)من الأمراء و العلماء و إن نزلت على سبب خاصّ.و قد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء،قال تعالى: لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ المائدة:

63،و قال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ النّحل:43،و قال تعالى: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النّساء:83.[إلى أن قال:]

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه اللّه تعالى،في كتابه«الحسبة في الإسلام»:و قد أمر اللّه تعالى في كتابه بطاعته و طاعة رسوله و طاعة أولي الأمر من المؤمنين.

و أولو الأمر:أصحاب الأمر و ذووه،و هم الّذين يأمرون النّاس،و ذلك يشترك فيه أهل اليد و القدرة،و أهل العلم و الكلام.فلهذا كان«أولو الأمر»صنفين:العلماء، و الأمراء.فإذا صلحوا صلح النّاس،و إذا فسدوا فسد النّاس.[إلى أن قال:]

و يدخل فيهم الملوك و المشايخ و أهل الدّيوان،و كلّ من كان متبوعا فإنّه من أولي الأمر.

(5:1344)

عزّة دروزة :كلمة(منكم)في الآية تعني أنّ(أولى الامر)الّذين تجب على المسلمين طاعتهم هم الّذين يكونون منهم،أي مسلمين.و ينطوي في هذا عدم جواز طاعة المسلم لحاكم،أو سلطان أو أمير غير مسلم،كما هو المتبادر.

و في هذا ما فيه من تلقين جليل مستمرّ المدى بعدم الرّضا لحكم الأجنبيّ و الخضوع لحكمه و الاستسلام له و حفزه على التّمرّد عليه و التّخلّص من سيطرته،و بذل ما يستطيع من جهد في هذا السّبيل.

و في هذه السّورة آيات مؤيّدة لهذا التّلقين،فيها تنديد بمن يخضع للظّالمين و الحكّام الأجانب،و توجيه لمقاومتهم و إرغامهم بمختلف الوسائل،على ما يأتي شرحه بعد.

و لقد روى المفسّرون أقوالا عن ابن عبّاس و بعض

ص: 198

التّابعين:أنّ(اولى الامر)الّذين يجب طاعتهم،هم أولو العلم و الفقه،كما رووا أقوالا أخرى عن بعض التّابعين أنّهم الولاة و الحكّام.

و قد انتهى الطّبريّ الّذي أورد هذه الأقوال إلى تصويب القول الثّاني دون الأوّل،استئناسا بالأحاديث النّبويّة الّتي رويناها قبل،و استنادا إليها،و هو الحقّ و الصّواب فيما يتبادر لنا.و لا سيّما أنّه لم يكن في زمن النّبيّ من تميّز بعده بمدّة غير قصيرة بالعلم و الفقه، و صاروا يدعون علماء و فقهاء.(9:104)

الطّباطبائيّ: إنّ المراد بالأمر في أُولِي الْأَمْرِ هو الشّأن الرّاجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب،أو دنياهم،على ما يؤيّده قوله تعالى:

وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ آل عمران:159،و قوله في مدح المتّقين: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشّورى:38،و إن كان من الجائز بوجه أن يراد ب(الأمر)ما يقابل النّهي، لكنّه بعيد.

و قد قيّد بقوله:(منكم)و ظاهره كونه ظرفا مستقرّا، أي أولي الأمر كائنين منكم،و هو نظير قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ الجمعة:2،و قوله في دعوة إبراهيم: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ البقرة:129،و قوله: رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي الأعراف:35،و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم:أنّ تقييد(اولى الامر)بقوله:(منكم)يدلّ على أنّ الواحد منهم إنسان عاديّ مثلنا و هم منّا،و نحن مؤمنون من غير مزيّة عصمة إلهيّة.

ثمّ إنّ(اولي الامر)لمّا كان اسم جمع يدلّ على كثرة جمعيّة في هؤلاء المسمّين بأولي الأمر،فهذا لا شكّ فيه، لكن يحتمل في بادئ النّظر أن يكونوا آحادا يلي الأمر، و يتلبّس بافتراض الطّاعة واحد منهم بعد الواحد، فينسب افتراض الطّاعة إلى جميعهم بحسب اللّفظ، و الأخذ بجامع المعنى،كقولنا:صلّ فرائضك و أطع سادتك و كبراء قومك.

و من عجيب الكلام ما ذكره الرّازيّ:أنّ هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد،و هو خلاف الظّاهر.و قد غفل عن أنّ هذا استعمال شائع في اللّغة،و القرآن مليء به،كقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ القلم:8، و قوله: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ الفرقان:52،و قوله:

إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا الأحزاب:67،و قوله:

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الشّعراء:151،و قوله:

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ البقرة:238،و قوله:

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الحجر:88،إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات و النّفي،و الإخبار و الإنشاء.

و الّذي هو خلاف الظّاهر من حمل الجمع على المفرد،هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده،لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحلّ إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الآحاد؛كقولنا:أكرم علماء بلدك، أي أكرم هذا العالم،و أكرم ذاك العالم،و هكذا.

و يحتمل أيضا أن يكون المراد ب(اولى الامر) -هؤلاء الّذين هم متعلّق افتراض الطّاعة-الجمع من حيث هو جمع،أي الهيئة الحاصلة من عدّة معدودة كلّ واحد منهم من أولي الأمر،و هو أن يكون صاحب نفوذ

ص: 199

في النّاس،و ذا تأثير في أمورهم،كرؤساء الجنود و السّرايا و العلماء و أولياء الدّولة،و سراة القوم،بل كما ذكره في«المنار»:هم أهل الحلّ و العقد الّذين تثق بهم الأمّة،من العلماء و الرّؤساء في الجيش و المصالح العامّة، كالتّجارة و الصّناعات و الزّراعة،و كذا رؤساء العمّال و الأحزاب،و مدير و الجرائد المحترمة،و رؤساء تحريرها.

فهذا معنى كون(اولى الامر)هم:أهل الحلّ و العقد،و هم الهيئة الاجتماعيّة من وجوه الأمّة،لكن الشّأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال.

الآية دالّة-كما عرفت-على عصمة(اولى الامر) و قد اضطرّ إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسّرين.

فهل المتّصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة،فيكون كلّ واحد منهم معصوما،فالجميع معصوم؛إذ ليس المجموع إلاّ الآحاد؟لكن من البديهيّ أن لم يمرّ بهذه الأمّة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحلّ و العقد كلّهم معصومون،على إنفاذ أمر من أمور الأمّة،و من المحال أن يأمر اللّه بشيء لا مصداق له في الخارج،أو أنّ هذه العصمة-و هي صفة حقيقيّة-قائمة بتلك الهيئة قيام الصّفة بموصوفها،و إن كانت الأجزاء و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشّرك و المعصية ما يجوز على سائر أفراد النّاس،فالرّأي الّذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ،و أن يكون داعيا إلى الضّلال و المعصية،بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟و هذا أيضا محال، و كيف يتصوّر اتّصاف موضوع اعتباريّ بصفة حقيقيّة، أعني اتّصاف الهيئة الاجتماعيّة بالعصمة.

أو أنّ عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لأفرادها و لا لنفس الهيئة،بل حقيقته أنّ اللّه يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطئ فيه،كما أنّ الخبر المتواتر مصون عن الكذب،و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكلّ واحد من المخبرين و لا للهيئة الاجتماعيّة،بل حقيقته أنّ العادة جارية على امتناع الكذب فيه.و بعبارة أخرى هو تعالى يصون الخبر الّذي هذا شأنه،عن وقوع الخطأ فيه،و تسرّب الكذب عليه؛ فيكون رأي(اولى الامر)ممّا لا يقع فيه الخطأ البتّة، و إن لم يكن آحادهم و لا هيئتهم متّصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطأ.و ليكن هذا معنى العصمة في(اولى الامر)،و الآية لا تدلّ على أزيد من أنّ رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب و السنّة،و هو من عناية اللّه على الأمّة،و قد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«لا تجتمع أمّتي على خطأ».

أمّا الرّواية فهي أجنبيّة عن المورد،فإنّها إن صحّت فإنّما تنفي اجتماع الأمّة على خطأ،و لا تنفي اجتماع أهل الحلّ و العقد منهم على خطأ.و للأمّة معنى و لأهل الحلّ و العقد معنى آخر،و لا دليل على إرادة معنى الثّاني من لفظ الأوّل،و كذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمّة،بل تنفي الاجتماع على خطأ،و بينهما فرق.

و يعود معنى الرّواية إلى أنّ الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الأمّة،بل يكون دائما فيهم من هو على الحقّ:إمّا كلّهم أو بعضهم و لو معصوم واحد،فيوافق ما دلّ من الآيات و الرّوايات على أنّ دين الإسلام و ملّة الحقّ لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم القيامة،قال

ص: 200

تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ الأنعام:89،و قوله: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ الزّخرف:28،و قوله: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ الحجر:9،و قوله: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ فصّلت:41،42،إلى غير ذلك من الآيات.

و ليس يختصّ هذا بأمّة محمّد بل الصّحيح من الرّوايات تدلّ على خلافه،و هي الرّوايات الواردة من طرق شتّى،عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،الدّالّة على افتراق اليهود على إحدى و سبعين فرقة،و النّصارى على اثنتين و سبعين فرقة،و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة،كلّهم هالك إلاّ واحدة.و قد نقلنا الرّواية في المبحث الرّوائيّ الموضوع في ذيل قوله تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً آل عمران:103.

و بالجملة لا كلام على متن الرّواية إن صحّ سندها، فإنّها أجنبيّة عن مورد الكلام،و إنّما الكلام في معنى عصمة أهل الحلّ و العقد من الأمّة،لو كان هو المراد بقوله: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.

ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحلّ و العقد من المسلمين فيما يرونه من الرّأي؟هذه العصابة الّتي شأنها الحلّ و العقد في الأمور غير مختصّة بالأمّة المسلمة،بل كلّ أمّة من الأمم العظام بل الأمم الصّغيرة بل القبائل و العشائر،لا تفقد عدّة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم، ذات قوّة و تأثير في الأمور العامّة.و أنت إذا فحصت التّاريخ في الحوادث الماضية-و ما في عصرنا من الأمم و الأجيال-وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحلّ و العقد منهم في مهامّ الأمور و عزائمها على رأي استصوبوه،ثمّ عقّبوه بالعمل،فربّما أصابوا و ربّما أخطئوا.

فالخطأ و إن كان في الآراء الفرديّة أكثر منه في الآراء الاجتماعيّة،لكنّ الآراء الاجتماعيّة ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا،فهذا التّاريخ و هذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق و موارد كثيرة جدّا.

فلو كان الرّأي الاجتماعيّ من أهل الحلّ و العقد في الإسلام مصونا عن الخطأ،فإنّما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العاديّة،بل عامل من سنخ العوامل و المعجزة الخارقة للعادة.و يكون حينئذ كرامة باهرة تختصّ بها هذه الأمّة تقيم صلبهم،و تحفظ حماهم،و تقيهم من كلّ شرّ يدبّ في جماعتهم و وحدتهم،و بالأخرة سببا معجزا إلهيّا يتلو القرآن الكريم،و يعيش ما عاش القرآن،نسبته إلى حياة الأمّة العمليّة نسبة القرآن إلى حياتهم العلميّة.

فكان من اللاّزم أن يبيّن القرآن حدوده وسعة دائرته،و يمتنّ اللّه به كما امتنّ بالقرآن و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يبيّن لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعيّة كما بيّن لنبيّه ذلك،و أن يوصي به النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّته و لا سيّما أصحابه الكرام،و هم الّذين صاروا بعده أهلا للحلّ و العقد، و تقلّدوا ولاية أمور الأمّة.و أن يبيّن أنّ هذه العصابة المسمّاة ب(أولى الامر)ما حقيقتها،و ما حدّها،و ما سعة دائرة عملها،و هل يتشكّل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الأمور العامّة لجميع الأمّة الإسلاميّة؟ أو تنعقد في كلّ جمعيّة إسلاميّة جمعيّة(اولى الامر) فيحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم؟

و لكان من اللاّزم أن يهتمّ به المسلمون و لا سيّما

ص: 201

الصّحابة،فيسألوا عنه و يبحثوا فيه.و قد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنّسبة إلى هذه المهمّة:كالأهلّة،و ما ذا ينفقون،و الأنفال،قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ البقرة:189،و يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ البقرة:215، و يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الأنفال:1،فما بالهم لم يسألوا؟أو أنّهم سألوا ثمّ لعبت به الأيدي فخفي علينا؟ فليس الأمر ممّا يخالف هوى أكثريّة الأمّة الجارية على هذه الطّريقة،حتّى يقضوا عليه بالإعراض فالتّرك حتّى ينسى.

و لكان من الواجب أن يحتجّ به في الاختلافات و الفتن الواقعة بعد ارتحال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حينا بعد حين،فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين و لا أثر في احتجاجاتهم و مناظراتهم،و قد ضبطها النّقلة بكلماتها و حروفها، و لا توجد في خطاب و لا كتاب؟و لم تظهر بين قدماء المفسّرين من الصّحابة و التّابعين،حتّى ذهب إليه شرذمة من المتأخّرين:الرّازيّ و بعض من بعده!

حتّى أنّ الرّازيّ أورد على هذا الوجه بعد ذكره:بأنّه مخالف للإجماع المركّب،فإنّ الأقوال في معنى(اولى الامر)لا تجاوز أربعة:الخلفاء الرّاشدون،و أمراء السّرايا، و العلماء،و الأئمّة المعصومون؛فالقول الخامس خرق للإجماع،ثمّ أجاب بأنّه في الحقيقة راجع إلى القول الثّالث،فأفسد على نفسه ما كان أصلحه.فهذا كلّه يقضي بأنّ الامر لم يكن بهذه المثابة،و لم يفهم منه أنّه عطيّة شريفة و موهبة عزيزة من معجزات الإسلام و كراماته الخارقة،لأهل الحلّ و العقد من المسلمين.

أو يقال:إنّ العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة،بل الإسلام بنى تربيته العامّة على أصول دقيقة، تنتج هذه النّتيجة:أنّ أهل الحلّ و العقد من الأمّة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه،و لا يعرضهم الخطأ فيما رأوه.

و هذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته للنّاموس العامّ،و هو أنّ إدراك الكلّ هو مجموع إدراكات الأبعاض،و إذا جاز الخطأ على كلّ واحد جاز على الكلّ يرد عليه أنّ رأي(اولى الامر)بهذا المعنى لو اعتمد في صحّته و عصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلّف عن أثره،فإلى أين تنتهي الأباطيل و الفسادات الّتي ملأت العالم الإسلاميّ؟

و كم من منتدى إسلاميّ بعد رحلة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اجتمع فيه أهل الحلّ و العقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه،ثمّ سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم،فلم يزيدوا إلاّ ضلالا،و لم يزد إسعادهم المسلمين إلاّ شقاء، و لم يمكث الاجتماع الدّينيّ بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله دون أن عاد إلى إمبراطوريّة ظالمة حاطمة!فليبحث الباحث النّاقد في الفتن النّاشئة منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما استتبعته من دماء مسفوكة،و أعراض مهتوكة،و أموال منهوبة، و أحكام عطّلت،و حدود أبطلت!ثمّ ليبحث في منشئها و محتدّها،و أصولها و أعراقها،هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلاّ إلى ما رأته أهل الحلّ و العقد من الأمّة،ثمّ حملوا ما رأوه على أكتاف النّاس؟

فهذا حال هذا الرّكن الرّكين الّذي يعتمد عليه بناية الدّين،أعني رأي أهل الحلّ و العقد،لو كان هو المراد ب(اولى الامر)المعصومين في رأيهم.

فلا مناص على القول بأنّ المراد ب(أولي الأمر)أهل

ص: 202

الحلّ و العقد،من أن نقول بجواز خطأهم،و أنّهم على حدّ سائر النّاس يصيبون و يخطئون.غير أنّهم لمّا كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالأمور،مدرّبين مجرّبين يقلّ خطؤهم جدّا،و أنّ الأمر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربما يغلطون و يخطئون من باب المسامحة في موارد الخطأ،نظرا إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم؛فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب و السّنّة،و يطابق ما شخّصوه من مصلحة الأمّة،بتفسير حكم من أحكام الدّين بغير ما كان يفسّر سابقا،أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت،أو طبع الأمّة أو وضع حاضر الدّنيا،كان هو المتّبع.و هو الّذي يرتضيه الدّين،لأنّه لا يريد إلاّ سعادة المجتمع و رقيّه في اجتماعه،كما هو الظّاهر المتراءى من سير الحكومات الإسلاميّة في صدر الإسلام و من دونهم.فلم يمنع حكم من الأحكام الدّائرة في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و لم يقض على سيرة من سيره و سننه إلاّ علّل ذلك بأنّ الحكم السابق يزاحم حقّا من حقوق الأمّة،و أنّ صلاح حال الأمّة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم،أو سنّ سنّة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة.و قد صرّح بعض الباحثين (1)أنّ الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدّين،حفظا لصلاح الأمّة.

و على هذا فيكون حال الملّة الإسلاميّة حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنيّة،في أنّ فيها جمعيّة منتخبة تحكم على قوانين المجتمع،على حسب ما تراه و تشاهده من مقتضيات الأحوال،و موجبات الأوضاع.

و هذا الوجه أو القول-كما ترى-قول من يرى أنّ «الدّين»سنّة اجتماعيّة سبكت في قالب الدّين،و ظهرت في صورته،فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشريّة و هياكلها بالتّطوّر في أطوار الكمال التّدريجيّ، و مثال عال لا ينطبق إلاّ على حياة الإنسان الّذي كان يعيش في عصر النّبوّة،و ما يقاربه.

فهي حلقة مقتضية من حلق هذه السّلسلة المسمّاة بالمجتمع الإنسانيّ،لا ينبغي أن يبحث عنها اليوم إلاّ كما يبحث علماء طبقات الأرض«الجيولوجيا»عن السّلع المستخرجة،من تحت أطباق الأرض.

و الّذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الآية،فإنّ القول يبتني على أصل مؤثّر في جميع الأصول و السّنن المأثورة من الدّين،من معارف أصليّة، و نواميس أخلاقيّة،و أحكام فرعيّة.و لو حمل على هذا ما وقع من الصّحابة في زمن النّبيّ و في مرض موته،ثمّ الاختلافات الّتي صدرت منهم،و ما وقع من تصرّف الخلفاء في بعض الأحكام و بعض سير النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،ثمّ في زمن معاوية و من تلاه من الأمويّين ثمّ العبّاسيّين ثمّ الّذين يلونهم،و الجميع أمور متشابهة أنتجت نتيجة باهتة.

و من أعجب الكلام المتعلّق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلّفين:أنّ قوله تعالى: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لا يدلّ على شيء ممّا ذكره المفسّرون،على اختلاف أقوالهم.

أمّا أوّلا:فلأنّ فرض طاعة(اولى الامر)كائنين من كانوا،لا يدلّ على فضل و مزيّة لهم على غيرهم أصلا،كماه.

ص: 203


1- صاحب«فجر الإسلام»فيه.

أنّ طاعة الجبابرة و الظّلاّم واجبة علينا في حال الاضطرار اتّقاء من شرّهم،و لن يكونوا بذلك أفضل منّا عند اللّه سبحانه.

و أمّا ثانيا:فلأنّ الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام الّتي تتوقّف فعليّتها على تحقّق موضوعاتها،نظير وجوب الإنفاق على الفقير،و حرمة إعانة الظّالم.فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتّى ننفق عليه،أو ظالما حتّى لا نعينه.

و الوجهان اللّذان ذكرهما ظاهرا الفساد،مضافا إلى أنّ هذا القائل قدّر أنّ المراد ب(أولى الامر)في الآية:

الحكّام و السّلاطين،و قد تبيّن فساد هذا الاحتمال.

أمّا الوجه الأوّل،فلأنّه غفل عن أنّ القرآن مملوء من النّهي عن طاعة الظّالمين و المسرفين و الكافرين، و من المحال أن يأمر اللّه مع ذلك بطاعتهم،ثمّ يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه و رسوله.و لو فرض كون هذه الطّاعة طاعة تقيّة لعبّر عنها بإذن و نحو ذلك، كما قال تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً آل عمران:

28،لا بالأمر بطاعتهم صريحا،حتّى يستلزم كلّ محذور شنيع.

و أمّا الوجه الثّاني،فهو مبنيّ على الوجه الأوّل من معنى الآية.أمّا لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدّين فكانوا معصومين لما تقدّم تفصيلا، و محال أن يأمر اللّه بطاعة من لا مصداق له،أو له مصداق اتّفاقيّ في آية تتضمّن أسّ أساس المصالح الدّينيّة و حكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الإسلاميّ أصلا.

و قد عرفت أنّ الحاجة إلى(اولى الامر)عين الحاجة إلى الرّسول،و هي الحاجة إلى ولاية أمر الأمّة،و قد تكلّمنا فيه في بحث المحكم و المتشابه.

و لنرجع إلى أوّل الكلام في الآية:

ظهر لك من جميع ما قدّمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ على جماعة المجمعين من أهل الحلّ و العقد،و هي الهيئة الاجتماعيّة،بأيّ معنى من المعاني فسّرناه فليس إلاّ أنّ المراد ب(أولي الأمر)آحاد من الأمّة،معصومون في أقوالهم،مفترض طاعتهم، فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب اللّه سبحانه من كلامه أو بلسان نبيّه،فينطبق على ما روي من طرق أئمّة أهل البيت عليهم السّلام أنّهم هم.

و أمّا ما قيل:إنّ(اولى الامر)هم الخلفاء الرّاشدون أو أمراء السّرايا أو العلماء المتّبعون في أقوالهم و آرائهم، فيدفع ذلك كلّه أوّلا:أنّ الآية تدلّ على عصمتهم، و لا عصمة في هؤلاء الطّبقات بلا إشكال إلاّ ما تعتقده طائفة من المسلمين في حقّ عليّ عليه السّلام.و ثانيا:أنّ كلاّ من الأقوال الثّلاث قول من غير دليل يدلّ عليه.

و أمّا ما أورد على كون المراد به:أئمّة أهل البيت المعصومين عليهم السّلام:

أوّلا:أنّ ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من اللّه و رسوله،و لو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه:أنّ ذلك منصوص عليه في الكتاب و السّنّة، كآية الولاية و آية التّطهير و غير ذلك-و سيأتي بسط الكلام فيها-و كحديث السّفينة:«مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا،و من تخلّف عنها غرق»

ص: 204

و حديث الثّقلين:«إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا».و قد مرّ في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثّالث من الكتاب،و كأحاديث(اولى الامر)المرويّة من طرق الشّيعة و أهل السّنّة،و سيجيء بعضها في البحث الرّوائيّ التّالي.

و ثانيا:أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم،فإنّها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق،و إذا كانت مشروطة فالآية تدفعه،لأنّها مطلقة.

و فيه:أنّ الإشكال منقلب على المستشكل،فإنّ الطّاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا،و إنّما الفرق أنّ«أهل الحلّ و العقد»يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا، من غير حاجة إلى بيان من اللّه و رسوله،و الإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرّف يعرفه،و لا فرق بين الشّرط و الشّرط في منافاته الآية.

على أنّ المعرفة و إن عدّت شرطا لكنّها ليست من قبيل سائر الشّروط،فإنّها راجعة إلى تحقّق بلوغ التّكليف،فلا تكليف من غير معرفة به و بموضوعه و متعلّقه،و ليست راجعة إلى التّكليف و المكلّف به.و لو كانت المعرفة في عداد سائر الشّرائط كالاستطاعة في الحجّ،و وجدان الماء في الوضوء مثلا،لم يوجد تكليف مطلق أبدا؛إذ لا معنى لتوجّه التّكليف إلى مكلّف،سواء علم به أو لم يعلم.

و ثالثا:أنّا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم و تعلّم العلم و الدّين منه،فلا يكون هو الّذي فرض اللّه طاعته على الأمّة؛إذ لا سبيل إليه.

و فيه:أنّ ذلك مستند إلى نفس الأمّة في سوء فعالها و خيانتها على نفسها،لا إلى اللّه و رسوله؛فالتّكليف غير مرتفع.كما لو قتلت الأمّة نبيّها،ثمّ اعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته.على أنّ الإشكال مقلوب عليه،فإنّا لا نقدر اليوم على أمّة واحدة في الإسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحلّ و العقد منها.

و رابعا:أنّ اللّه تعالى يقول: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ، و لو كان المراد من(اولى الامر)الإمام المعصوم،لوجب أن يقال:فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الإمام.

و فيه:أنّ جوابه تقدّم فيما مرّ من البيان،و المراد بالرّدّ:

الرّدّ إلى الإمام بالتّقريب الّذي تقدّم.

و خامسا:أنّ القائلين ب«الإمام المعصوم»يقولون:

إنّ فائدة اتّباعه إنقاذ الأمّة من ظلمة الخلاف،و ضرر التّنازع و التّفرّق.و ظاهر الآية يبيّن حكم التّنازع مع وجود(اولى الامر)،و طاعة الأمّة لهم،كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النّوازل و الوقائع.و الخلاف و التّنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به،لأنّه عندهم مثل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله،فلا يكون لهذه الزّيادة فائدة على رأيهم.

و فيه:أنّ جوابه ظاهر ممّا تقدّم أيضا،فإنّ التّنازع المذكور في الآية إنّما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب و السّنّة دون أحكام الولاية الصّادرة عن الإمام في الوقائع و الحوادث،و قد تقدّم أن لا حكم إلاّ للّه و رسوله.

فإن تمكّن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب و السّنّة، كان لهم أن يستنبطوه منهما،أو يسألوا الإمام عنه و هو

ص: 205

معصوم في فهمه؛و إن لم يتمكّنوا من ذلك،كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام،و ذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا يتفقّهون فيما يتمكّنون منه،أو يسألون عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و يسألونه فيما لا يتمكّنون من فهمه بالاستنباط.

فحكم(اولى الامر)في الطّاعة حكم الرّسول،على ما تدلّ عليه الآية،و حكم التّنازع هو الّذي ذكره في الآية،سواء في ذلك حضور الرّسول كما تدلّ عليه الآيات التّالية،و غيبته كما يدلّ عليه الأمر في الآية بإطلاقه.فالرّدّ إلى اللّه و الرّسول المذكور في الآية مختصّ بصورة تنازع المؤمنين،كما يدلّ عليه قوله:(تنازعتم)، و لم يقل:فإن تنازع أولو الأمر،و لا قال:فإن تنازعوا، و الرّدّ إلى اللّه و الرّسول عند حضور الرّسول،هو سؤال الرّسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب و السّنّة للمتمكّن منه،و عند غيبته أن يسأل الإمام عنه، أو الاستنباط كما تقدّم بيانه.فلا يكون قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ إلخ زائدا من الكلام،مستغنى عنه،كما ادّعاه المستشكل.

فقد تبيّن من جميع ما تقدّم:أنّ المراد ب(اولى الامر) في الآية:رجال من الأمّة،حكم الواحد منهم في العصمة و افتراض الطّاعة حكم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله،و هذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ(اولى الامر)بحسب اللّغة، و إرادته من اللّفظ.فإنّ قصد مفهوم من المفاهيم من اللّفظ شيء و إرادة المصداق الّذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر،و ذلك كما أنّ مفهوم الرّسول معنى عامّ كلّيّ و هو المراد من اللّفظ في الآية،لكنّ المصداق المقصود هو الرّسول محمّد صلّى اللّه عليه و آله.(4:391-401)

المصطفويّ: (اولى الامر)عطف على(الرّسول) فيكون إطاعة أولي الأمر في مرتبة إطاعة الرّسول و من سنخه.و لازم أن يكون أمرهم موافق أمر الرّسول،كما أنّ إطاعة الرّسول لازم أن لا تخالف إطاعة اللّه بوجه،و إلاّ يلزم التّنافي و التّخالف،و لا تتحقّق الإطاعة.

فتفسير(اولى الامر)بالأمراء و الحكّام في غاية الوهن.(1:133)

مكارم الشّيرازيّ: من هم أولو الأمر؟

للمفسّرين أقوال عديدة حول المعنيّ ب(اولى الامر) نجملها فيما يلي:

1-يذهب جمع من مفسّري أهل السّنّة إلى أنّ(أولي الأمر)هم أهل الحلّ و العقد من الحكّام،في كلّ زمان و مكان،و لم يستثنوا منهم أحدا،لذا ينبغي للمسلمين إطاعة كلّ حكومة مهما كانت،حتّى لو كانت حكومة مغوليّة.

2-و يعتقد بعض آخر من المفسّرين كصاحب تفسير«المنار»و صاحب تفسير«في ظلال القرآن» و غيرهما بأنّ(اولى الامر)هم ولاة جميع الطّبقات،من حكّام و مسئولين و علماء و أصحاب المراكز المرموقة،في جميع مرافق الحياة للشّعب.و لكن ليس بصورة مطلقة و بدون قيد و شرط،بل تشترط إطاعة هؤلاء في حالة عدم مخالفتهم الأحكام و المقرّرات الإسلاميّة.

3-و يعدّ آخرون(اولى الامر)بأنّهم العلماء العادلون،الّذين يحيطون بالكتاب و السّنّة إحاطة كاملة.

4-و يذهب بعض مفسّري الجمهور إلى أنّ هؤلاء

ص: 206

هم الخلفاء الرّاشدون،دون غيرهم؛و عليه فإنّ(أولي الأمر)لا وجود لهم في العصور الأخرى.

5-و فسّر بعض من المفسّرين(اولى الامر)بمعنى أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

6-و يحتمل وجود تفسير آخر ل(اولى الامر)و هم -كما قيل-أمراء الجيوش و السّرايا.

7-و قد أجمع مفسّرو الشّيعة على أنّ المقصود من (اولى الامر)هم الأئمّة المعصومون،الّذين يتولّون القيادة المادّيّة و المعنويّة للمجتمع الإسلاميّ،و الّذين انتدبهم اللّه و الرّسول صلّى اللّه عليه و آله،لتعليم النّاس لما يحتاجونه في جميع شئون الحياة،و لا تشتمل غيرهم و من الطّبيعيّ أنّ من يتولّى مقاليد الحكم في المجتمع الإسلاميّ و ينصب من قبل اللّه و رسوله جدير بوجوب إطاعته،وفق شروط معيّنة،لا لكونه وليّ الأمر بل لأنّه نائب وليّ الأمر.

و الآن نناقش هذه الآراء باختصار.فممّا لا شكّ فيه أنّ الرّأي الأوّل لا يناسب مفهوم الآية و روح التّعاليم الإسلاميّة بأيّ وجه من الوجوه،فلا يمكن اتّباع أيّ حكومة بدون قيد و شرط،مثلما يطاع اللّه و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لذا فإنّ كبار مفسّري أهل السّنّة-فضلا عن مفسّري الشّيعة-قد ردّوا هنا هذا الرّأي.

و أمّا الرّأي الثّاني فإنّه لا ينسجم أيضا مع إطلاق الآية الشّريفة،لأنّ الآية تعدّ إطاعة(أولى الامر)فرضا واجبا،بدون قيد و شرط.

و كذا الأمر في الرّأي الثّالث،فإنّ تفسير(اولى الامر)بالعلماء العدول و المحيطين بالكتاب و السّنّة لا يلائم إطلاق الآية،لأنّ في اتّباع العلماء شروط:منها:أن لا تكون أقوالهم مخالفة للكتاب و السّنّة.و بالنّتيجة فإن أخطأ هؤلاء-لكونهم غير معصومين و معرّضين للخطإ- أو انحرفوا عن جادّة الصّواب،فإنّ إطاعتهم غير لازمة، و الحال أنّ الآية عدّت إطاعة(اولى الامر)كإطاعة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مطلقا.إضافة على أنّ إطاعة العلماء في أحكام استفادوها من الكتاب و السّنّة،و لذا لا يكون هناك إلاّ إطاعة اللّه و النّبيّ،و هذا لا يحتاج إلى تنويه.

و لا يتحقّق مفهوم(اولى الامر)اليوم في الرّأي الرّابع القائل:بانحصارهم بالخلفاء الرّاشدين،علما بعدم وجود أيّ دليل بهذا التّخصيص.و لا يوجد أيّ دليل أيضا بتخصيص(اولى الامر)بالصّحابة و أمراء الجيوش و السّرايا،على الرّأيين الخامس و السّادس.

و قد تبع فريق من مفسّري أهل السّنّة كمحمّد عبده العالم المصريّ المشهور رأي الفخر الرّازيّ المفسّر المعروف،صاحب الرّأي الثّاني القائل بأنّ(اولى الامر) هم ولاة الطّبقات المختلفة للمجتمع الإسلاميّ،كالعلماء و الحكّام و نوّاب الطّبقات الأخرى.و قد قبلوا هذا الرّأي و لكن بشروط و قيود:منها:أن يكونوا مسلمين،كما يستفاد ذلك من لفظ(منكم)الوارد في الآية،و لا يحكمون بخلاف الكتاب و السّنّة،و يكون حكمهم اختيارا لا إجبارا،و موافقا لمصلحة المسلمين،و يجعلون الحقّ نصب أعينهم في جميع المواضيع المطروحة،لا كالعبادات الّتي لها حالات ثابتة و معيّنة في الإسلام،و حينما يبتّون في مسألة يجب أن لا يكون هناك نصّ شرعيّ من الشّرع،إضافة إلى ذلك يكون الاتّفاق هو الأساس.

فيرى هؤلاء إذن أن تتحاش الأمّة أو ولاتها الوقوع

ص: 207

في الخطأ،أو بعبارة أخرى أن تكون الأمّة معصومة من الخطأ،و بهذا الشّرط يلزم إطاعة حكم كهذا بصورة مطلقة،و بدون أيّ قيد أو شرط،كما يطاع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حصيلة هذا الرّأي حجّيّة الإجماع.

و لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا تفسير يرد عليه ما يلي:

أوّلا:أنّ اتّفاق الآراء في الأمور الاجتماعيّة لا يتحقّق إلاّ نادرا،و لذلك تبقى كثير من شئون المسلمين معلّقة دائما.و إن أخذ هؤلاء بنظريّة الأكثريّة فلا محيص من الرّضوخ إلى حقيقة أنّ الأكثريّة ليست بمعزل عن الخطأ أبدا،و لذا لا يلزم إطاعتها بصورة مطلقة.

ثانيا:لقد ثبت في علم الأصول عدم وجود أيّ دليل على عصمة الأمّة إلاّ الإمام المعصوم.

ثالثا:قد ذكر أحد مفسّري هذا الفريق شرطا،و هو أن لا يكون حكم هؤلاء مخالفا للكتاب و السّنّة،و لكن من هم الّذين يبتّون في هذا الموضوع،و يشخّصون مطابقة الحكم مع الكتاب و السّنّة،أو مخالفته؟هم المجتهدون و العلماء طبعا الّذين يحيطون بالكتاب و السّنّة.

و ستكون النّتيجة بالتّالي عدم جواز إطاعة(اولى الامر) بدون أمر من المجتهدين و العلماء،بل إطاعة هؤلاء أولى من إطاعة(اولى الامر)،و هذا يناقض ظاهر الآية الكريمة.

و لا ينكر أنّ العلماء هم جزء من(اولى الامر)أيضا، و لكنّ الحقيقة هي أنّ هذا الرّأي قد عدّ العلماء و المفسّرين بسمة مشرفين و مراجع ذوي مركز أعلى من سائر ولاة الطّبقات،لا كسائر النّاس،لأنّ العلماء يجب أن يشرفوا على أعمال الآخرين،من حيث موافقتها مع الكتاب و السّنّة،فيتبوّءون مركز المرجعيّة، و لذا فإنّ هذا الرّأي مردود لأسباب عديدة.

و يبقى الرّأي الوحيد الّذي لا تكتنفه الشّبهات هو الرّأي السّابع،أي الرّأي الّذي عرّف(اولى الامر)بأنّهم الأئمّة المعصومون،لأنّه الرّأي الّذي يناسب إطلاق وجوب الإطاعة في الآية الكريمة،لأنّ مقام العصمة تصون الإمام من ارتكاب أيّ خطأ و زلل،و لذا فإنّ أمره واجب الإطاعة بدون أيّ قيد و شرط،كأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ينبغي جعل طاعته كطاعة النّبيّ حتّى بدون تكرار لفظ (اطيعوا)معطوفا على(الرّسول).

و من الملفت للنّظر أنّ بعض علماء السّنّة المعروفين قد اعترف بهذه الحقيقة،منهم المفسّر المعروف بالفخر الرّازيّ فقد استهلّ كلامه حول تفسير هذه الآية قائلا:

من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع لا بدّ و أن يكون معصوما عن الخطأ؛إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ،و الخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه،فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر و النّهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد،و أنّه محال.فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة(اولى الامر)على سبيل الجزم،و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ،فثبت قطعا أنّ(اولى الامر)المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوما.

ثمّ يتابع الفخر الرّازيّ حديثه بالقول:

«ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمّة أو بعض الأمّة،

ص: 208

لا جائز أن يكون بعض الأمّة،لأنّا بيّنّا أنّ اللّه تعالى أوجب طاعة(اولى الامر)في هذه الآية قطعا،و إذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الّذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمّة،و لا طائفة من طوائفهم.و لمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الّذي هو المراد بقوله:(اولى الامر)أهل الحلّ و العقد من الأمّة؛و ذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الأمّة حجّة».

فالفخر الرّازيّ على كثرة تشكيكه في المسائل العلميّة المختلفة،سلّم بدلالة الآية على أنّ(اولى الامر) هم أشخاص معصومون كما رأيتم.إلاّ أنّه قاصر عن معرفة فكر أهل البيت عليهم السّلام،و عن معرفة أئمّتهم،و لذا نراه يشرّق و يغرب،فيرفض أن يكونوا أشخاصا معيّنين من الأمّة،فيضطرّ إلى تفسير(أولي الأمر)بمجموع الأمّة أو ولاة جميع طبقات المسلمين.

و الحال أنّ هذا الاحتمال مردود،لأنّه-كما قلنا- يلزم أن يكون(اولى الامر)قادة المجتمع الإسلاميّ،و لهم القدرة على الحلّ و الفصل لمشاكل المسلمين،مع العلم بأنّه لا يمكن تحقّق اتّفاق الآراء في الحكومة الاجتماعيّة، و حتّى بين الولاة،لأنّه لا يمكن في أغلب الأحيان الحصول على اتّفاق آراء جميع الأمّة،أو ولايتهم في المسائل الاجتماعيّة و السّياسيّة و الثّقافيّة و الأخلاقيّة و الاقتصاديّة.

و اتّباع الأكثريّة لا يعدّ اتّباعا ل(اولى الامر)أيضا، و لذا ينبغي على رأي الفخر الرّازيّ و من أخذ به من المعاصرين أن يعطّلوا إطاعة(اولى الامر)،أو يجعلوا هذه القضيّة في حكم الشّاذّ و النّادر جدّا.

و نستنتج ممّا سبق أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ (اولى الامر)هم الأئمّة المعصومون الّذين هم مجموعة من الأمّة.

فإن قيل:

1-إذا كان المقصود من(اولى الامر)الأئمّة المعصومين،فلا يناسب لفظ(أولي)الّذي يعني الجمع، لأنّ الإمام المعصوم يجب أن يكون واحدا في كلّ زمان.

قلنا:صحيح أنّ الإمام المعصوم لا يكون أكثر من واحد في زمان واحد،و لكن يكون أكثر من واحد في الأزمنة المتعدّدة،و من المعلوم أنّ الآية لا تقتصر على زمان واحد.

2-لم يكن هناك وجود ل(اولى الامر)بهذا المعنى في زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فكيف صدر الأمر لإطاعته في هذه الصّورة؟

قلنا:إنّ الآية عامّة لكلّ زمان،و تضع المسلمين أمام مسئوليّتهم في جميع الأعصار و القرون،و بعبارة أخرى فإنّ وليّ الأمر في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو النّبيّ نفسه؛إذ كان له منصبان:منصب الرّسالة المذكور في الآية: أَطِيعُوا الرَّسُولَ، و الثّاني منصب الإمارة و قيادة الأمّة الإسلاميّة،الّذي ذكره القرآن بلفظ(اولى الامر).

و بهذا كان القائد المعصوم في زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو النّبيّ نفسه،إضافة إلى اضطلاعه بمسئوليّة الرّسالة و إبلاغ أحكام الإسلام.و لعلّ عدم تكرار لفظ(اطيعوا) بين لفظي(الرّسول)و(اولى الامر)إشارة إلى هذا المعنى، و بعبارة أخرى فإنّ منصبي الرّسالة و(اولى الامر) منصبان مختلفان،قد اجتمعا في زمان واحد في شخص

ص: 209

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و لكنّهما افترقا في الإمام،فهو يمثّل المنصب الثّاني.

3-إن كان المقصود من(اولى الامر)الأئمّة و القادة المعصومين فلما ذا يبيّن في ذيل الآية مسألة التّنازع و الاختلاف بين المسلمين؛حيث قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً؟ فكما تلاحظ فإنّه لم يأت على ذكر(اولى الامر)،و جعل الفيصل في حلّ الخلافات كتاب اللّه أي القرآن،و النّبيّ أي السّنّة فقط.

قلنا:أوّلا:أنّ هذا الإشكال لا يرد على مفسّري الشّيعة فحسب،بل يشمل جميع المفسّرين،إذا أمعن النّظر فيه قليلا.

ثانيا:لا ريب في أنّ المراد بالاختلاف و التّنازع في الآية أعلاه الاختلاف و التّنازع في الأحكام لا في المسائل المتعلّقة بالحكومة و قيادة المسلمين،لأنّ من المسلّم في هكذا أمور يجب إطاعة(أولي الأمر)بصددها،كما تصرّح به أوّل الآية.

و عليه فإنّ المراد من ذلك،هو الاختلاف في الأحكام الكلّيّة للإسلام و قوانينه،الّتي ينحصر تشريعها باللّه و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،لأنّ الإمام كما هو معروف منفّذ للأحكام لا يسنّ قانونا و لا يلغيه،بل ينصبّ كلّ جهده في أجزاء أحكام اللّه و سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.و لذا لو نرى حديثا من أحاديث أهل البيت عليهم السّلام يخالف كتاب اللّه و سنّة نبيّه نضربه عرض الجدار،محال أن نقول ما يخالف كتاب اللّه و سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و على هذا فإنّ أوّل مرجع لحلّ اختلاف الأمّة في الأحكام و القوانين الإسلاميّة هو اللّه و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله الّذي يوحى إليه،و إن بيّن الأئمّة المعصومون حكما فهو ليس من عند أنفسهم أيضا،بل من كتاب اللّه،أو علم من نبيّه وصل إليهم.

و عليه فإنّ سبب عدم ذكر(اولى الامر)في عداد المراجع في الفصل بين الخلافات في الأحكام،أصبح واضحا للعيان.[ثمّ ذكر أدلّة من السّنّة](3:435)

امّارة

وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي. يوسف:53

راجع«ن ف س».

يأتمرون

وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ... القصص:20

أبو عبيدة :مجازه يهمّون بك و يتآمرون فيك و يتشاورون فيك و يرتئون.[ثمّ استشهد بشعر]

(2:100)

مثله الميبديّ.(7:283)

ابن قتيبة :[بعد نقل قول أبي عبيدة قال:]

هذا غلط بيّن لمن تدبّر،و مضادّة للمعنى.كيف يعدو على المرء ما شاور فيه،و المشاورة بركة و خير؟!و إنّما

ص: 210

أراد:يعدو عليه ما همّ به للنّاس من الشّرّ،و مثله قولهم:

«من حفر حفرة وقع فيها».

إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ أي يهمّون بك.[ثمّ استشهد بشعر]

و ممّا يدلّك على ذلك أيضا قوله عزّ و جلّ:

وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ الطّلاق:6،لم يرد تشاوروا،و إنّما أراد:همّوا به،و اعتزموا عليه.

و قالوا في تفسيره:هو أن لا تضرّ المرأة بزوجها، و لا الزّوج بالمرأة.

و لو أراد المعنى الّذي ذهب إليه أبو عبيدة،لكان أولى به أن يقول:إنّ الملأ يتآمرون فيك،أي يستأمر بعضهم بعضا.(331)

الطّبريّ: يا موسى إنّ أشراف قوم فرعون و رؤساءهم يتآمرون بقتلك،و يتشاورون و يرتئون فيك.[ثمّ استشهد بشعر](20:52)

الطّوسيّ: أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك.

و قيل:يأتمرون،معناه يرتاءون.[ثمّ استشهد بشعر] (8:139)

الزّمخشريّ: الائتمار:التّشاور،يقال:الرّجلان يتآمران و يأتمران،لأنّ كلّ واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر،و المعنى يتشاورون بسببك.

(3:170)

مثله الفخر الرّازيّ(24:237)،و الآلوسيّ(20:

58)،و الكاشانيّ(4:85).

الطّباطبائيّ:الائتمار:المشاورة و النّصيحة،خلاف الخيانة.

و الظّاهر كون قوله: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ قيدا لقوله:(جاء)،فسياق القصّة يعطي أنّ«الائتمار»كان عند فرعون و بأمر منه،و أنّ هذا الرّجل جاء من هناك،و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها،فأخبر موسى بما قصدوه من قتله،و أشار عليه بالخروج من المدينة.

و هذا الاستئناس من الكلام يؤيّد ما تقدّم أنّ قصر فرعون الّذي كان يسكنه كان خارج المدينة،و معنى الآية ظاهر.(16:21)

و أتمروا

...وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى. الطّلاق:6

السّدّيّ: اصنعوا المعروف فيما بينكم.

(الطّبريّ 28:158)

الثّوريّ: حثّ بعضهم على بعض.

(الطّبريّ 28:158)

الكسائيّ: أصله التّشاور،و منه يأتمرون بك،أي يتشاورون.(الطّبرسيّ 5:309)

الفرّاء: لا تضارّ المرأة زوجها،و لا يضرّ بها.

(3:164)

الطّبريّ: ليقبل بعضكم أيّها النّاس من بعض ما أمركم بعضكم به بعضا من معروف.(28:148)

الطّوسيّ: الائتمار:أمر كلّ واحد لصاحبه بفعل من الأفعال،كالائتمار بالمعروف الّذي يصطلحان عليه.

(10:37)

ص: 211

نحوه الطّباطبائيّ.(19:317)

الزّمخشريّ: الائتمار بمعنى التّآمر،كالاشتوار بمعنى التّشاور.يقال:ائتمر القوم و تآمروا،إذا أمر بعضهم بعضا،و المعنى:و ليأمر بعضكم بعضا،و الخطاب للآباء و الأمّهات.(4:122)

نحوه أبو حيّان.(8:258)

الطّبرسيّ: هذا خطاب للرّجل و المرأة،و الائتمار:

قبول الأمر و ملاقاته بالتّقبّل.أمر اللّه تعالى المرضعة و المرضع له بالتّلقّي لأمره عزّ و جلّ،و لأمر صاحبه إذا كان حسنا.

و قيل:معناه و ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد،أي بتراضي الوالد و الوالدة،بعد وقوع الفرقة في الأجرة على الأب،و إرضاع الولد بحيث لا يضرّ بمال الوالد و لا بنفس الولد،و لا يزاد على الأجر المتعارف، و لا ينقص الولد عن الرّضاع المعتاد.

قال الكسائيّ:أصله:التّشاور،و منه يأتمرون بك،أي يتشاورون.

و الأقوى عندي أن يكون المعنى دبّروا بالمعروف بينكم في أمر الولد و مراعاة أمّه،حتّى لا يفوت الولد شفقتها،و غير ذلك.[ثمّ استشهد بشعر](5:309)

القرطبيّ: هو خطاب للأزواج و الزّوجات،أي و ليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل.

و الجميل منها:إرضاع الولد من غير أجرة،و الجميل منه:

توفير الأجرة عليها للإرضاع.(18:169)

امرا

...لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. الكهف:71

مجاهد :منكرا.(الطّبريّ 15:284)

قتادة :أي عجبا نكرا.(الطّبريّ 15:284)

أبو عبيدة :أي داهية نكرا عظيما،و في آية أخرى:

شَيْئاً إِدًّا مريم:89.[ثمّ استشهد بشعر]

(1:409)

الطّبريّ: لقد جئت شيئا عظيما،و فعلت فعلا منكرا.

و الإمر،في كلام العرب:الدّاهية.[ثمّ استشهد بشعر]

و كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول:أصله:

كلّ شيء شديد كثير،و يقول:منه قيل للقوم:قد أمروا:

إذا كثروا،و اشتدّ أمرهم.قال:و المصدر منه:الأمر، و الاسم:الإمر.(15:284)

نحوه الزّمخشريّ.(2:493)

الطّوسيّ: «الإمر»مأخوذ من الأمر،لأنّه الفاسد الّذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصّلاح،و منه:رجل إمّر، إذا كان ضعيف الرّأي،لأنّه يحتاج أن يؤمر حتّى يقوّي رأيه.و منه:آمر القوم،إذا كثروا حتّى احتاجوا إلى من يأمرهم و ينهاهم.و منه:الأمر من الأمور،أي الشّيء الّذي من شأنه أن يؤمر فيه،و لهذا لم يكن كلّ شيء إمرا.

(7:74)

مثله الطّبرسيّ.(3:482)

الآلوسيّ:أي داهيا منكرا من:أمر الأمر،بمعنى كثر، قاله الكسائيّ.فأصله كثير،و العرب كما قال ابن جنّيّ في «سرّ الصّناعة»تصف الدّواهي بالكثرة،و هو عند

ص: 212

بعضهم في الأصل على وزن«كبد»فخفّف.قيل:و لم يقل:أمرا إمرا،مع ما فيه من التّجنيس،لأنّه تكلّف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ.[إلى أن قال:]

و ربّما يقال هنا:إنّه لم يقل ذلك لما ذكر،مع إيهامه خلاف المراد و قصوره عن درجة ما في النّظم الجليل،من زيادة التّفظيع.(15:337)

الطّباطبائيّ:الإمر،بكسر الهمزة:الدّاهية العظيمة.(13:344)

الوجوه و النّظائر

مقاتل:تفسير«الأمر»على وجهين:

فوجه منها:الأمر بالمعروف،يعني بالتّوحيد.و النّهي عن المنكر:يعني الشّرك،فذلك قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ آل عمران:

110،يعني بتوحيد اللّه وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني الشّرك.

و قال: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله: اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني التّوحيد، وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ التّوبة:112،يعني عن الشّرك.

و من وصيّة لقمان لابنه: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ لقمان:17،يعني بالتّوحيد، وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشّرك.

و الوجه الثّاني:الأمر بالمعروف،يعني باتّباع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و التّصديق به،و المنكر:التّكذيب.فذلك قوله عن أهل التّوراة: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ آل عمران:114،يعني عن تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و قال: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني الإيمان بمحمّد، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ التّوبة:71،يعني عن تكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و على آله.(114)

مثله هارون الأعور(93).

الدّامغانيّ: «الأمر»على ستّة عشر وجها:الدّين، القول،العذاب،عيسى،القتل ببدر،فتح بني قريظة،فتح مكّة،القيامة،القضاء،الوحي،الأمر بعينه،الذّنب، النّصر،الشّأن و الفعل،الغرق،الكثرة و الأمر المنكر.

فوجه منها:الأمر يعني الدّين،قوله تعالى: حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ التّوبة:48،يعني دين اللّه الإسلام،كقوله تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ المؤمنون:53،نظيرها وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ الأنبياء:93،يعني فرّقوا دينهم الإسلام الّذي أمروا به، فدخلوا في غيره.

و الوجه الثّاني:الأمر يعني القول،فذلك قوله تعالى:

إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الكهف:21،يعني قولهم فيما بينهم،كقوله: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ طه:62، يعني قولهم فيما بينهم.

و الوجه الثّالث:الأمر يعني العذاب،و ذلك قوله تعالى: وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ ابراهيم:22، يعني لمّا وجب العذاب لأهل النّار،كقوله تعالى:

وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ هود:44،يعني وجب العذاب.

ص: 213

و الوجه الرّابع:الأمر يعني عيسى بن مريم عليه السّلام،قوله تعالى: سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً مريم:35،يعني خلق عيسى، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:47، نظيرها: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً البقرة:117،يعني عيسى عليه السّلام،في عمله أن يكون من غير أب فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:

47.

و الوجه الخامس:الأمر يعني القتل ببدر،قوله تعالى:

فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ المؤمن:78،يعني القتل ببدر.كان هذا بمكّة فجاء اللّه بأمره بالمدينة في قتل أهل مكّة،كقوله تعالى: وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً الأنفال:44،يعني قتل كفّار مكّة ببدر.

و الوجه السّادس:أمر يعني قتل بني قريظة،و جلاء بني النّضير،قوله تعالى: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ البقرة:109،يعني قتل بني قريظة،و جلاء بني النّضير.

و الوجه السّابع:الأمر يعني فتح مكّة،قوله تعالى:

فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ التّوبة:24،يعني فتح مكّة.

و الوجه الثّامن:الأمر يعني القيامة،كقوله تعالى:

أَتى أَمْرُ اللّهِ النّحل:1،يعني القيامة،و قوله تعالى:

وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اللّهِ الحديد:14،يعني القيامة.

و الوجه التّاسع:الأمر يعني القضاء،كقوله تعالى:

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ الرّعد:2،يعني القضاء وحده،كقوله:

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يونس:3،و مثلها قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ الأعراف:54،يعني ألا له الخلق و القضاء.

و الوجه العاشر:الأمر يعني الوحي،قوله تعالى:

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ السّجدة:5، يعني تنزيل الوحي من السّماء إلى الأرض،كقوله تعالى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الطّلاق:12،يعني الوحي.

و الوجه الحادي عشر:الأمر بعينه،قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها

النّساء:58،و نحوه.

و الوجه الثّاني عشر:الأمر يعني الذّنب،كقوله تعالى: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها الطّلاق:9،يعني جزاء ذنبها،و كقوله أيضا: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ المائدة:95، يعني جزاء ذنبه.

و الوجه الثّالث عشر:الأمر يعني النّصر،قوله تعالى:

يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ آل عمران:

154،يعني النّصر،قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ آل عمران:154،يعني النّصر،كقوله تعالى: لِلّهِ الْأَمْرُ يعني النّصر، مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ الرّوم:4.

و الوجه الرّابع عشر:الأمر يعني الفعل و الشّأن، كقوله تعالى: أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ الشّورى:53، يعني الشّئون،و كقوله وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هود:

97،يعني شأن فرعون برشيد.

و الوجه الخامس عشر:الأمر يعني الغرق،كقوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ هود:43،يعني من الغرق.

ص: 214

و الوجه السّادس عشر:(أمرنا)أي كثّرنا،قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها الإسراء:16،أي كثّرنا،و (امّرنا)مشدّدا،أي سلّطنا جبابرتنا.و«الإمر»يعني المنكر،قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي منكرا.(4-9)

الفيروزآباديّ: [ذكر خمسة عشر من المعاني،مثل الدّامغانيّ و أضاف:]

السّادس عشر:بمعنى العلم و الحقيقة: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الإسراء:85.

السّابع عشر:بمعنى مضيّ الحكم: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً يس:82.

الثّامن عشر:بمعنى الحكم و استدعاء الطّاعة: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ النّحل:90.

(بصائر ذوي التّمييز 2:42)

الأصول اللّغويّة

لهذه المادّة سبعة أصول،يمكن إرجاعها إلى أصل واحد،كما يأتي:

1-الطّلب ضدّ النّهي،و الفعل منه أمر يأمر.و هذا هو موضوع البحث في علم الأصول؛إذ يدور فيه حول محورين؛هل الأمر يدلّ على الوجوب أم لا؟

و يجري البحث هناك في مادّة«أ م ر»تارة-و هو ما ذكرناه-و أخرى في صيغة الأمر،أي«افعل»و ما بمعناه.

و قد ذكروا لدلالة«الأمر»على الوجوب شروطا، مثل أن يكون الأمر من العالي إلى الدّاني،و إلاّ فإنّه لا يدلّ على الوجوب،بل يفيد التّوصية و الموعظة.و مثل أن يكون الأمر بصدد الطّلب دون دواع أخرى،مثل الدّعاء.و الفرق بينهما أنّ«الأمر»طلب مع الشّدّة، و«الدّعاء»طلب مع الالتماس و الرّجاء.و من هنا احتمل بعيدا أن يكون بين«أمر»و«مرّ»اشتقاق أكبر،فإنّه بمعنى الشّدّة،يقال:أمررت الحبل:فتلته،فهو ممرّ.و قد فسّر ابن عبّاس قوله: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى النّجم:6،بأنّه «ذو شدّة في أمر اللّه»،فيشترك إمرار الحبل و تكرار إحكامه مع الأمر الّذي يحمل القوّة على إطلاق الطّلب، و توجيهه إلى الآخرين،و تمريره من حالة الرّغبة إلى حالة الصّدع به.

و جمع الأمر-بمعنى الطّلب-أوامر،و المبالغة أمور و أمّار و أمّارة،أي كثير الأمر.و النّفس الأمّارة هي الّتي تتمنّى كثيرا،كأنّها أمير الإنسان.و عكسه«الإمّر»،أي الضّعيف الرّأي الّذي لا يستطيع أن يعمل شيئا إلاّ بأمر من غيره،و لذا يطلق على ولد الضّأن الصّغير،لأنّه عديم الإرادة،يسير حيثما تسير أمّه.

و منه:أولو الأمر،أي من بيده الأمر و النّهي، و سنبحثه مستقلاّ في الاستعمال القرآنيّ.

2-الإمارة،و فعله أمر يأمر،أي صار أميرا و آمرا و ذا أمر على الآخرين.و منه:تأمّر،أي تسلّط،و أمّره:

جعله أميرا.و الإمارة:نفس المنصب،و قد يطلق على الأرض الّتي يحكمها الأمير.و الصّلة بين الإمارة و الطّلب واضح،لأنّ الأمير من له الأمر و النّهي.

3-الشّأن أو الحال أو الحادثة،و هو عامّ يشمل الأفعال و الأقوال،و يفسّر حسب السّياق.و الأصل فيه الشّيء المحسوس،ثمّ ارتقى إلى غير المحسوس.و جمعه:

ص: 215

أمور،و وجه اتّصاله ب«الأمر»بمعنى الطّلب،أنّه ذو شأن يؤمر به،كما يؤمر بالفرائض و الأعمال الّتي لها شأن من الشّئون.فالأمر هنا كأنّه في الأصل مصدر بمعنى المفعول، أو اسم المصدر.

4-المشورة،يقال:آمر و تآمر و ائتمر،أي تشاور.

و وجه مناسبته للطّلب نوع من الاستحسان،فإنّ الإنسان يشاور غيره ليأتمر بأمره.و تآمر،إذا طالت المشاورة،و تعدّدت الآراء و الأوامر،فكلّ يأمره بشيء غير ما يأمره الآخر.فالتّآمر أن يطلب من كلّ واحد أن يطرح رأيه،و الشّأن الّذي ينبغي العمل به،فإذا وصل هذا الشّأن المطلوب إلى مستوى القبول من قبل المؤتمرين،أصبح أمرا ملزما عليهم،يجب تنفيذه.و يؤيّده أنّ«الائتمار»جاء بمعنى التّشاور و امتثال الأمر معا.

و الاستئمار:طلب الأمر و المشاورة معا أيضا.

و منه:المؤتمر،و هو المكان الّذي يتمّ فيه التّشاور، لكي يتّخذ فيه العزم على الأمور اللاّزمة،أو المكان الّذي تدرس فيه الأمور للخروج بأمر ملزم.و يطلق«المؤتمر» في الوقت الحاضر على الاجتماع المنعقد للبحث، و التّشاور حول موضوع مهمّ من قبل الّذين يختصّون به، ليخرجوا فيه بقول فصل،و أخذ هذا المعنى من قوله تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ القصص:20.

و قد اكتسب«التّآمر»في الاستعمال الحديث معنى مستهجنا،و هو حبك الدّسائس،و مثله«المؤامرة»أي اتّخاذ خطّة شرّيرة.

5-الكثرة،و هو من أمر يأمر-من باب فرح يفرح- بمعنى كثر،و منه:آمر القوم،أي كثروا حتّى احتاجوا إلى أمير يأمرهم و ينهاهم،و هذا كأنّه وجه اتّصاله ب«الأمر»بمعنى الطّلب.و آمر:فعل مشترك بين أمر و أمر -فهو من باب الإفعال-بمعنيين:الكثرة،و الإمارة معا.

و هذا أيضا يناسب الفعلين:مرّ و أمرّ-من مادّة«م ر ر»- اللّذين يحملان معنى الكثرة أيضا.و منه:أمر و مأمور، و أمرة و مأمورة،بمعنى النّاقة المباركة،أو الكثيرة الولد.

6-الأمار و الأمارة،بمعنى المعلم أو العلامة أو الوقت المعيّن،يقال:أمر و آمرة و أمرات.و تتّفق هذه المعاني بأنّها إشارة أو علامة مكانيّة أو زمانيّة آمرة،بأنّ هناك شيئا ذا شأن يجب تجنّبه أو الوصول إليه.و لعلّ هذا وجه اتّصاله بمعنى الطّلب أو الشّأن.

7-الإمر بمعنى:العجب،و النّكر،و العظيم،و الدّاهية، أو الإصر الشّديد.و يبدو أنّ فيه معنى الكثرة و الكبر،أو الدّلالة على المنكر.فهو أكبر من الواقع،و أكثر من أن يتحمّل،المطلوب تركه.و من هذا الطّريق يتّصل معناه بمعنى«الطّلب»الّذي رجّحنا أنّه الأصل لكلّ هذه المعاني،و العلم عند اللّه.

الاستعمال القرآنيّ

وردت مشتقّات مادّة«أم ر»في القرآن(248)مرّة بصيغ شتّى،عبر(46)لفظا،في المعاني الآتية:

الأوّل:الطّلب،و قد رجّحنا في الأصول اللّغويّة أنّه المعنى الأصليّ للمادّة،و أنّ غيره من المعاني يحتمل أن تكون راجعة إليه و منشعبة منه،حسب ما سبق.و قد جاء منه الفعل بصيغتي الماضي و المضارع بتصاريفهما(77)

ص: 216

مرّة،و بصيغة الأمر(4)مرّات (1).كما جاء منه اسم الفاعل جمعا مرّة،و صيغة المبالغة مرّة،و هما:

اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ

التّوبة:112

وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ

يوسف:53

و لم يأت الفعل من هذه المادّة في القرآن بغير الطّلب، سوى«الائتمار»مرّتين،و سنتحدّث عنه لاحقا.

و جاء منه المصدر(37)مرّة،و هي:

1- أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ

الأعراف:54

2- فَعَقَرُوا النّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ

الأعراف:77

3- بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ الأعراف:150

4- وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ التّوبة:106

5- قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ

هود:43

6- وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ

هود:59

7- فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ

هود:97

8- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ الرّعد:11

9- فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الكهف:50

10- وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ مريم:64

11- وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الشّعراء:151

12- قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ النّمل:33

13- فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ

الحجرات:9

14- فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ الذّاريات:44

15- ذلِكَ أَمْرُ اللّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ الطّلاق:5

16- وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ الطّلاق:8

17- قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً الكهف:69

18- أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ

الدّخان:5

19- وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا

الأنبياء:73

20- وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا السّجدة:24

21- وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ سبأ:12

22- لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الأنبياء:27

23- فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ النّور:63س.

ص: 217


1- لاحظ الآيات في المعجم المفهرس.

24- وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً الكهف:82

25- وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي

طه:90

26- أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي طه:93

27- وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ الأعراف:54

28- وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ

إبراهيم:32

29- وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ النّحل:12

30- وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ

الأنبياء:81

31- وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ الحجّ:65

32- وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ الرّوم:25

33- وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ

الرّوم:46

34- إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس:82

35- فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ص:36

36- اَللّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ الجاثية:12

يلاحظ أوّلا:أنّ«الأمر»بمعنى الطّلب فعلا و مصدرا مقارن غالبا بالطّاعة و العصيان أو بمعناهما،مثل:الفسوق، و الزّيغ،و الاتّباع،و العمل،و المخالفة،و الهداية، و المعروف،و المنكر،و نحوها.

و ثانيا:جاء«الأمر»بمعنى الطّلب معرّفا باللاّم أو مضافا،سوى الآيتين المرقّمتين(17)و(18)،و هناك رأي يقول:بأنّ كلّ ما جاء«الأمر»كذلك-أي معرّفا أو مضافا-فهو بمعنى الطّلب،و سنبحثه قريبا.

و ثالثا:أنّ الأمر بهذا المعنى نوعان:

1-تشريعيّ:و هو الأكثر و يرتبط بأعمال العباد، و هذا يستوعب الآيات المرقّمة من(1)إلى(26).

2-تكوينيّ:و هو يرتبط بخلق العالم و ما فيه،و يقارن بالتّسخير و الجري و نحوهما،كجري النّجوم في السّماء، و جري الفلك في البحر،و هذا يستوعب سائر الآيات.

و رابعا:هناك آيات جاء فيها«الأمر»محتملا للطّلب و لمعنى آخر،كالشّأن و الفعل و الشّيء،و هي:

1- وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً النّساء:47 و الأحزاب:37

2- حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ

التّوبة:48

3- إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ هود:76

4- لَمّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هود:101

5- وَ لِلّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ هود:123

6- بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً الرّعد:31

7- أَتى أَمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ النّحل:1

8- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ النّحل:33

ص: 218

8- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ النّحل:33

9- وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الإسراء:85

10- وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الأحزاب:

38.

11- فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ المؤمن:78

12- فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ محمّد:21

13- سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ محمّد:26

14- لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ

الحجرات:7

15- وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اللّهِ

الحديد:14

16- يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الطّلاق:12

17- يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ الانفطار:19

18- أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً

يونس:24

19- حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها هود:40

20- وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ هود:58

21- فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها

هود:82

22- فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ هود:66

23- وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ هود:94

24- فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ المؤمنون:27

25- وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ

القمر:50

26- يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ النّحل:2

27- يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ المؤمن:15

28- وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ الطّلاق:3

29- لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ الرّوم:4

30- أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ هود:73

اختلفت آراء المفسّرين-كما تقدّم في النّصوص-في مثل هذه الآيات،أ يراد ب«الأمر»فيها الطّلب أم غيره؟ فقد قال بعضهم،مثلا في قوله: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً :

الأمر فيها بمعنى الطّلب،و أريد به المأمور،أي كلّ ما أمر اللّه به من أمر الخلقة يتحقّق و لا يتخلّف.و قال الفخر الرّازيّ:إنّ«الأمر»هنا جاء في غير معنى الطّلب، كالشّأن و غيره.و قال أبو حيّان:«الأمر»هنا واحد الأمور.

و قالوا في وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ :غلب دينه،و علا شرعه.و قالوا في أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ :من أمر أمر اللّه به،أو من قدرته و كلمته،أو من شأنه تعالى.و في

ص: 219

يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ :من قدر اللّه،أو من بأس اللّه،أو بإذن اللّه.و في قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي :من خلق ربّي، أو من وحي ربّي،أو من فعل ربّي،و هكذا اختلفوا في كثير من غيرها.و في أَتى أَمْرُ اللّهِ و نحوها:القيامة،أو العذاب،أو أمر اللّه بذلك.

و ليس في هذه القائمة من الآيات ما يقطع الخلاف، و يعيّن المعنى و يشخّصه بالذّات،سوى ما قيل-و قد تقدّم -بأنّ«الأمر»إذا جاء معرّفا باللاّم أو مضافا،فهو بمعنى الطّلب،و إذا جاء منكّرا،فهو بمعنى الشّيء.و هذا ليس بشيء،فإنّ في قائمة ما بمعنى الشّيء قوله: وَ ما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ النّحل:77،و يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في آيات كثيرة،بل أكثرها كذلك،و لا توجد فيها نكرة،سوى ما جاء في(12)آية (1).كما أنّه جاء نكرة بمعنى الطّلب في آيتين،هما(17)و(18)،فلاحظ القوائم الثّلاث لآيات الأمر،فستجد أنّ«الأمر المنكّر»في القرآن جاء بمعنى الشّيء غالبا،في حال أنّ«الشّيء»لم يأت في القرآن إلاّ نكرة،لاحظ«ش ي ء».

الثّاني:الشّأن و الشّيء و نحوهما:

1- بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ق:5

2- وَ ما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ النّحل:77

3- ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ الرّعد:2

4- ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ... يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. السّجدة:4،5

5- قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ..... وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يونس:31

6- قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ يوسف:41

7- وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً

الأنفال:42

8- لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً الأنفال:44

9- وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ هود:44

10- وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إبراهيم:22

11- وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ الحجر:66

12- وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ

مريم:39

13- إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ القصص:44

14- وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

البقرة:210

15- وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ

الأنعام:8

16- قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ الأنعام:58

17- وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ الحجر:66

18- وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ البقرة:117

19- إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

آل عمران:470.

ص: 220


1- و هي الأرقام:1،7،8،18 إلى 24،34،40.

20- وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا مريم:21

21- فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ الدّخان:4

22- وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ

القمر:3

23- فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ القمر:12

24- فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الذّاريات:4

25- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ

آل عمران:128

26- يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا

آل عمران:154

27- فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ

المائدة:52

28 و 29- بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً

يوسف:18،83

30- أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ الزّخرف:79

31- لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ الحجّ:67

32- حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ

آل عمران:152

33- وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الأنفال:43

34- وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ النّور:62

35- ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها

الجاثية:18

36- فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ آل عمران:159

37- وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشّورى:38

38- أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59

39- وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النّساء:83

40- أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ النّمل:32

41 و 42- فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً يونس:71

43- وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً

الكهف:16

يلاحظ أوّلا:أنّ ما قارن«الأمر»في هذه الآيات بالتّدبير،أو القضاء،أو الفرق،أو القدر،أو التّقسيم،أو الاستقرار،أو الرّجوع،أو أضيفت إلى السّاعة،و هي تستوعب الأرقام(1)إلى(22)،فكلّها من فعل اللّه تعالى،سوى الآية الأولى فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، فالأمر فيها من فعل العباد.

و ثانيا:أنّ«الأمر»في الأرقام(30)إلى(39)جاء بمعنى الأمور العامّة في هذه الأمّة،و من(40)إلى(43)في أمم أخرى.و يرجع المسلمون في مثل هذه الأمور إلى الرّسول أو من ينوب عنه من بعده،أو من نصب من قبله

ص: 221

في حياته،لتدبير الأمور و ليس للنّاس الاستبداد و الاستقلال بها،و التّنازع فيها،سوى ردّها إليه و إليهم، و عليه ما عليهم من مشاورة النّاس.

و ثالثا:قد عبّر القرآن عن ذلك في الآية المرقّمة(34) ب«الأمر الجامع»،كما نصّ في الرّقم(35)بأنّ مثل هذه الأمور العامّة شريعة من اللّه،يجب على الرّسول اتّباعها.

و في الرّقمين(36)و(37)دعا فيهما الرّسول و المؤمنين إلى الشّورى بينهم،و في الآيات الّتي أمر اللّه فيها بإطاعة الرّسول،تصريح بولاية الرّسول في ذلك،و على النّاس الاتّباع،لاحظ مادّة«ط و ع».

و رابعا:جاءت آيتان في سورة محمّد،أوردناهما في قائمة الآيات الّتي ترد بمعنى يتراوح بين الشّأن و الطّلب، و هما:

فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ

محمّد:21

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ محمّد:26

فإنّ لفظي(صدقوا)و(نطيعكم)يصلحان لمعنى الطّلب.و لقد بدا لنا أنّهما حسب السّياق بمعنى الأمور العامّة للمجتمع،و الّتي نحن الآن بصدد بيانها.فالمراد بالآية الأولى أنّه إذا عزم،و نجز أمر من هذه الأمور، ينبغي للمؤمنين أن يصدّقوا في إيمانهم،و يطبّقوه في عملهم،و لا يتخلّفوا عنه.ثمّ ندّد في آيات تلتهما بالمرتدّين،حاكيا عنهم قولهم للمنافقين الّذين كرهوا ما نزّل اللّه: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ محمّد:26،أي في بعض ما اتّفقتم عليه من أموركم،ضدّ محمّد،و عليه، فلا يصلح اللّفظان المذكوران لحمل الأمر فيهما على الطّلب،فلاحظ.

و خامسا:أمر القرآن بإطاعة أولي الأمر،بعد الأمر بإطاعة الرّسول في الآية رقم(38)،كما أوجب ردّ أمر من الأمن أو الخوف إلى الرّسول و إلى أولي الأمر في الآية (39).و لفظة«أمر»في«أولي الأمر»،و إن احتملت الأمر بمعنى الطّلب،أي الّذين لهم الأمر و النّهي،فيكون خاصّا بالأمراء.إلاّ أنّ ضمّ الآيتين إلى ما قبلهما و ما بينهما من الآيات،يقنعنا بأنّ المراد به أمر النّاس دون الطّلب،و إن استلزمه؛لأنّ من بيده أمر النّاس،فعليهم اتّباع أمره.

و قد سبق في النّصوص عن العلاّمة الطّباطبائيّ صاحب«الميزان»قوله:«إنّ المراد بالأمر في(أولي الأمر) هو الشّأن الرّاجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم،على ما يؤيّده قوله تعالى:

وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ آل عمران:159،و قوله:في مدح المتّقين: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشّورى:38، و إلاّ لكان من الجائز أن يراد بالأمر ما يقابل النّهي،لكنّه بعيد».

و سادسا:لقد كثر الخلاف-كما مرّ في النّصوص-بين المفسّرين و الفقهاء،ابتداء من الصّدر الأوّل،و حتّى هذا العصر،في تعيين(أولي الأمر)،و ذكروا أقوالا،أقواها قول الفخر الرّازيّ و صاحب«المنار»،من أهل السّنّة:

«إنّهم أهل الحلّ و العقد».و قول العلاّمة الطّباطبائيّ و جمهور الإماميّة:«إنّهم الأئمّة المعصومون»،و اشترطوا- حسب معتقدهم-اعتبار«العصمة»في الإمام استلهاما من السّياق؛حيث جاء الأمر بطاعة الرّسول و أولي الأمر

ص: 222

مطلقا غير مقيّد بقيد،و طبقا لما جاء في الرّوايات الكثيرة عندهم.و قد طال البحث حول هذه المسألة في التّفاسير، و لا سيّما في«المنار»و«الميزان»؛حيث ناقشا كلّ ما أورد على القولين؛فخرج كلّ منهما من البحث مثبتا رأيه، و مبطلا رأي غيره،بعد اتّفاقهما على دلالة الآية،على عصمة(أولي الأمر).

و ليس عندنا ما نضيفه إلى ما قالوه،سوى التّنبيه على أمر لم يستوفوه حقّه،بل سكت عنه أكثرهم،و هو أنّه يتراءى لنا من أقوال الباحثين-و لا سيّما الإماميّة منهم- الالتزام بأنّ(أولي الأمر)أولئك الّذين يتصدّون للأمر بعد النّبيّ-و ليس في حياته-و أنّ المراد بهم الأئمّة الّذين يباشرون أمور جميع الأمّة،دون من يتصدّى لبعضها، و كلاهما يستدعي مزيد بحث في الآيتين.

فنقول:هاتان الآيتان جاءتا في سورة النّساء في سياق واحد،بدء بالآية(58): إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، و انتهاء بالآية(84).و قد ركّز القرآن مرّة بعد أخرى خلال هذه الآيات على طاعة اللّه و رسوله،ردعا للمنافقين و ضعفة الإيمان من المؤمنين، لرفضهم طاعتهما،و عدم التزامهم بها،و لا سيّما في أمر القتال.

فالآيات موجّهة إلى هؤلاء الّذين آمنوا و لم يلتزموا بإيمانهم في حياة الرّسول،و تخلّفوا عنه في المعارك.فلا بدّ من أن تعمّ الآية هؤلاء المتخلّفين،و إن لا تختصّ بهم،بل تسري إلى غيرهم من المتخلّفين إلى يوم القيامة،كما هو الشّأن في عامّة خطابات القرآن،سوى ما اختصّت بالرّسول أو بجماعة خاصّة.

و الآية الثّانية كالصّريح في ذلك،فقد سبقتها آيات تحكي حال هؤلاء الّذين قعدوا عن القتال،و رفضوا طاعة الرّسول،مثل: وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ النّساء:75، فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ النّساء:77، وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ النّساء:81،إلى قوله تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ النّساء:83،فالآية خطاب لهؤلاء المذكورين في الآيات قبلها؛حيث أذاعوا ما جاءهم من الأمر،فكلّفوا بدل إذاعته بردّه إلى الرّسول و إلى أولي الأمر منهم،الموجودين-طبعا-بين ظهرانيهم.

و يستفاد من الآية أمور:

1-إنّ«الأمر»هنا ليس حكما شرعيّا- و لا يختصّ به على أقلّ تقدير-و إنّما هو شيء يرتبط بالأمن أو الخوف و نحوهما من الحوادث،فيجب على من اطّلع عليه ملاحظة الموقف،و رعاية المصلحة،بردّه إلى الرّسول القائد،أو من بيده الأمر من قبله.و لذلك اكتفى فيها بالردّ إلى(الرّسول)و إلى(أولى الأمر).و لم يذكر (اللّه)معهم،لأنّ معالجة هذه مفوّضة إلى الّذين بيدهم تدبير الأمور.و بذلك يتبيّن أنّ(أولى الأمر)في هذه الآية ليس من يرجع إليهم في حكم شرعيّ أشكل أمره على النّاس فحسب،بل في معالجة حادثة أيضا،موكول أمرها إلى تدبير منهم،لأنّهم هم الّذين يعلمون كيف المخرج منها بخبرتهم،و استنباطهم طريق معالجتها.و بذلك يعلم أنّ المراد بالاستنباط-و اللّه أعلم-ليس استنباط حكمها من الكتاب و السّنّة،-أو لا يختصّ به-بل هو كشف

ص: 223

علاج الحادثة بالتّدبير،بنحو لا يتجاوز حكم اللّه و الرّسول قهرا.و لعلّ وجه تخصيص علمها بالّذين يستنبطونه منهم،لأنّ كلّ واحد منهم لا يقدر على علاجها،بل هو خاصّ بالّذين عندهم الصّلاحيّة و الخبرة لاستنباط طريق معالجة مثل هذه الحوادث.

2-إنّ(أولي الأمر)هنا هم القادة في أمر من الأمور و ليس المراد بهم من بيده أمور الأمّة كلّها،أي الإمام الأعظم الّذي خلف النّبيّ،لعدم وجود إمام بهذه الصّفات يوم ذاك،سوى الرّسول،و لا يدخل في(أولى الأمر)-كما قيل-لأنّه معطوف على الرّسول و العطف يقتضي المغايرة.نعم يقوم هذا الإمام مقام الرّسول من بعده،كما تدلّ عليه الآية،و ما يدلّ من الدّليل على الخلافة و الإمامة،سوى هاتين الآيتين.و يشترط فيه العصمة عند الإماميّة.

3-إنّه لا يشترط العصمة في مثل هؤلاء القادة بل تكفيهم الخبرة و الثّقة و صحّة العمل،بقدر ما كان عليه القادة في عصر الرّسول،و ما يستجدّه الموقف في كلّ عصر.و نحن نعرف من خلال السّيرة مدى صلاحيّة من ولاّهم الرّسول قيادة الجيوش و أمور البلاد.فربّما صدر عن بعضهم ما لا يرضاه الرّسول،كقتل النّفس المحرّمة، مثل ما أصاب خالد بن الوليد رجالا من بني جذيمة في العام الثّامن من الهجرة،بعد فتح مكّة،فقتل منهم من قتل،بعد أن وضعوا سلاحهم بأمان من خالد.فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللّه،رفع يديه إلى السّماء،ثمّ قال:

«اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد»،ثمّ بعث إليهم عليّا، فودى لهم الدّماء (1).

4-إنّه يجب على النّاس إطاعة هؤلاء القادة فيما يرتبط بمهمّتهم بمنطوق الآية،و لو خصّت الآية بمن يقوم بالأمر بعد الرّسول،فما كان واجب النّاس في حياة الرّسول و بعده حيال هؤلاء القادة؟مع أنّ الأمور لا تتمشّى و لا تستقيم إلاّ بطاعتهم؛إذ لا يتيسّر الرّدّ إلى الرّسول أو من قام مقامه بعده في كلّ حادثة،فلا ينبغي السّكوت عن هذا الأمر الّذي تتطلّبه الحاجة الماسّة حينذاك،و التّعرّض لما لا تحتاج إليه الأمّة إلاّ بعد الرّسول.

و أمّا تفسير:الرّدّ إلى اللّه و الرّسول،بالرّدّ إلى الكتاب و السّنّة-كما جاء في الرّوايات و التّفاسير-فهو راجع إلى بيان الحكم الشّرعيّ لتلك الحوادث إذا أشكلت،دون معالجتها بالتّدبير و الخبرة.

هذا قدر صالح من البحث حول الآية الثّانية،و أمّا الآية الأولى-و هي قوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59،فوحدة السّياق و الخطاب تستدعي القول فيها بنفس ما بيّنّاه في الثّانية، فإنّها جاءت في طليعة هذا السّياق،و قبلها قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ النّساء:58،و تلاها مباشرة قوله في المنافقين: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ... وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً النّساء:60،61،فالآيات الثّلاث مرتبطة بعضها ببعض.

ثمّ تستمرّ في الآيات بعدها إدانة المنافقين و ضعفة73

ص: 224


1- السّيرة النّبويّة 4:72،73

الإيمان،على رفض طاعة الرّسول و تحاكمهم إلى الطّاغوت،و يتكرّر أمرهم بطاعته و الرّضا بما يحكم، و بالقتال في سبيل اللّه،و يتكرّر كذلك وعيد التّاركين له، حتّى ينتهي بقوله: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ... النّساء:83.و تلتها آية صارمة في أمر القتال،و هي قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً النّساء:

84.ثمّ انقطع هذا السّياق في هذه السّورة خلال عدّة آيات،ليرجع من الآية(88)فما بعدها إلى نفس السّياق.

و لم يرد في التّفاسير سبب لنزولها،إلاّ أنّها نزلت قطعا في شأن المنافقين و موقفهم إزاء الرّسول في إحدى الغزوات،كما لا نعرف شيئا من زمان نزول السّورة،سوى أنّها-حسب ترتيب النّزول-رابعة السّور المدنيّة على أشهر الأقوال،و هي:البقرة،و الأنفال،و آل عمران، و النّساء.فينبغي أن يكون نزولها امتدادا لسورة آل عمران،عقيب غزوة«أحد»الّتي وقعت بعد غزوة «بدر»في العام الثّالث بعد الهجرة،و قد جاءت قصّتها مفصّلة في آل عمران،كما جاء ذكر غزوة«بدر»في الأنفال قبلها،و لا زال هناك مجال للبحث حول شأن نزول هذه السّورة.

فإذا ثبت أنّ ولاية أولي الأمر في آية«الأمن و الخوف»تعمّ الأمراء و القادة في عصر الرّسول،فوحدة السّياق تلزمنا بذلك أيضا في قوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59.

و لا يصرفنا عن ذلك سوى ما قاله الرّازيّ و صاحب «المنار»من أهل السّنّة،و صاحب«الميزان»و عامّة الإماميّة:من أنّ إطلاق«الأمر»بطاعة أولي الأمر في عرض الأمر بطاعة اللّه و رسوله،يستلزم أن يكونوا معصومين،فالتزموا بأنّ المراد ب(اولى الامر)الأئمّة المعصومون،أو أهل الحلّ و العقد،مع وجود مناقشات في هذين القولين من قبل الطّرفين،كما سبق في النّصوص.

و لمن أنكر دلالة الآيتين على عصمة(اولى الامر)أن يقول:آيات إطاعة الرّسول وحده أو مقرونة بإطاعة اللّه كثيرة في القرآن،كما في آل عمران و النّساء و الأنفال و التّوبة و النّور و الأحزاب و الفتح و المجادلة و التّغابن، و كلّها مدنيّة،و هي تناسب قيادة الرّسول السّياسيّة في المدينة،و كلّها مطلقة،غير مقيّدة بشيء،لأنّ طاعة اللّه و الرّسول ليست مقيّدة إلاّ بالاستطاعة،فاللّه لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها،لاحظ«ط و ع».

و هذه نموذج منها في سورة النّساء بالذّات:

1- تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ النّساء:13،14

2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ النّساء:59

3- وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ

النّساء:64

4- فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النّساء:65

ص: 225

4- فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النّساء:65

5- وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ النّساء:69

6- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً النّساء:80

7- وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ النّساء:81

8- وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النّساء:83

9- وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً النّساء:115

و الآيات كلّها-كما ترى-مطلقة،سوى آيتين ضمّت فيهما إطاعة(اولى الامر)إلى إطاعة(الرّسول) فجاء فيهما ما يصلح للتّقييد،و هو في الأولى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ النّساء:59، و في الثّانية: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، فقيّدت إطاعة (أولي الأمر)في الأولى بما تنازع النّاس فيما بينهم أو مع أولي الأمر،كما قيّد الرّدّ إلى(اولى الامر)في الثّانية بأنّ الّذين يستنبطونه منهم يعلمه،أي خصّ«العلم»بمن كان من أهل الخبرة و الاستنباط منهم.

و لم تقيّد«الطّاعة»بشيء في سائر آيات إطاعة اللّه و الرّسول،سواء ما جاءت في هذه السّورة،أو في غيرها.

و أمّا ما جاء في التّفاسير،و لا سيّما في«الميزان»-كما سبق-في توجيه هذين القيدين،فهو توجيه لا يرفع صلاحيّتهما لتقييد طاعة أولي الأمر،فلاحظ.و البحث بعد مفتوح للباحثين،و نحن لا نرى ما يوصد باب البحث بتاتا،و تنجيزا في منطوق الآيتين،سوى ما جاء في الرّوايات من تأويل(اولى الامر)بالأئمّة المعصومين عليهم السّلام،القابلة بحملها على بيان أظهر المصاديق،كما جاء في تأويل:المؤمنين،و الرّاسخين، و الّذين أوتوا العلم في مثل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ المؤمنون:1،و وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آل عمران:7، و اَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ النّحل:27،و نحوها-و هي كثيرة-بما لا تنتظم مع سياق القرآن،إلاّ من باب التّركيز على بيان أبرز المصاديق،و اللّه العالم.

و سابعا:جاء«الأمر»بمعنى الشّيء أو الشّأن منكّرا، في ما يقارب(12)مرّة من القائمة الثّالثة في المواضع الآتية:

1-في حالة يكون الأمر فيها محصورا بين عدد قليل، و هو غير معروف أو مفهوم على نطاق واسع،مثل قوله:

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ النّساء:83.

2-ما كان أمرا سرّيّا،مثل: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً الزّخرف:79، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً يوسف:18.

3-بعد«عسى»و«لعلّ»و نحوهما،عند الحديث عن قضيّة مستقبلة،مثل: فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ المائدة:52، وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً الأنفال:42، لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ

ص: 226

ذلِكَ أَمْراً الطّلاق:1.

4-عند الإطلاق و الشّمول: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ البقرة:117، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ النّمل:32، وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ الأحزاب:36.

5-عند وصف(الأمر)بصفة: وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ النّور:62، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ق:5، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ القمر:12.

6-عند الإضافة إليه: وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ القمر:3، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ القدر:4.و المضاف فيها(كلّ)للشّمول.

و ثامنا:الأمر بمعنى الشّيء و الشّأن،يكون مؤوّلا و منزّلا على معناه حسب السّياق،فلهذا اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير الآيات الّتي جاء«الأمر»فيها بهذا المعنى،فلاحظ النّصوص.

و تاسعا:اجتمع لفظا الأمر و الشّيء في آيتين:

1- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ آل عمران:128

2- يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا...

آل عمران:154

و المراد ب«الشّيء»في الموارد الثّلاثة:بعض الأمر، و المراد ب«الأمر»في الآية الأولى:النّصر،كما يساعده سياق الآيات،و قبلها قوله تعالى: وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ آل عمران:126،أي ليس لك شيء من النّصر،بل النّصر كلّه من عند اللّه.

و هذا أصل من أصول التّوحيد و العقيدة،و هو أنّ أزمّة الأمور طرّا بيد اللّه،و ليس للعبد إلاّ التّسليم له، و نظير ذلك قوله: وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الأنفال:10،و في آيات شتّى،و كذلك «الأمر»في الآية الثّانية.فالظّاهر أنّه أمر النّصر و الغلبة في الحروب،كما جاء في التّفاسير،و يساعده سياق الآيات،و لا سيّما قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ آل عمران:154.

و قد يختلج في البال أنّ المراد ب«الأمر»في هذه الآية:

أمر الحرب لا أمر النّصر،و أنّهم أرادوا:لو كان لنا في أمر الحرب رأي مسموع،لبقينا في بيوتنا،كما اقترح عبد اللّه بن أبيّ و أتباعه من الخزرج؛حيث أصرّوا على ذلك.

و كان رأي النّبيّ معهم في ابتداء الأمر،ثمّ انصرف عنهم إلى رأي الآخرين،كما يقول المسعوديّ في«مروج الذّهب».

«فتصدّى لهم منافسوهم من الأوس،و أصرّوا على الخروج،فرجحت كفّتهم كفّة أولئك،و استحسن النّبيّ ذلك،فلبس لأمة الحرب و خرج،فلمّا وقعت النّكسة و الهزيمة،قال جماعة من المنافقين و ضعفة الإيمان:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا؟أي لو تبعوا رأينا، ما قتلوا.فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ...

آل عمران:154».

ص: 227

و يؤيّده ما حكاه اللّه عن هؤلاء المنافقين في هذه السّورة،خلال سرد قصّة«أحد»: اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ آل عمران:168، وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا... آل عمران:156.

و لعلّ اللّه أمر رسوله بعد الهزيمة بأن يشاورهم فيما بعد،كما شاورهم أوّلا،إبطالا لظنّهم أنّ النّبيّ مستبدّ بأمر الحرب، فقال: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ آل عمران:159.

و قد قال ابن اسحاق في تفسير الآية الأولى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ :«أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلاّ ما أمرتك به فيهم (1)».و كأنّه أراد به ما قلناه في الآية الثّانية من أمر الحرب،أي أمرها بيد اللّه يحكم بما يريد،و ليس للنّاس إلاّ التّسليم لحكمه،و للرّسول أن يشاورهم،فإذا عزم على شيء ينجزه،يتوكّل على اللّه، سواء وافقهم فيه أم خالفهم.فللنّاس حقّ المشاركة بتقديم النّصح للنّبيّ إذا شاورهم،ثمّ التّسليم لرأيه.

و عاشرا:جاء(امركم)ثلاث مرّات،و كلّها بمعنى الأمور العامّة للقوم:

1 و 2- يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً...

يونس:71

3- يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً الكهف:16

كما جاء(امرنا)16 مرّة،و المراد بها جميعا أمر اللّه، سوى ثلاث آيات،فهي بمعنى أمر القوم:

1- رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً الكهف:10

2- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا آل عمران:147

3- وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ التّوبة:50

و أمّا ما كان بمعنى«أمر اللّه»فمردّد جميعا بين الطّلب و الشّأن-كما تقدّم في القائمة الثّانية من الآيات-سوى ثلاث آيات هي بمعنى الطّلب بتاتا:

1- وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:73

2- وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا السّجدة:24

3- وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ سبأ:12

و جاء(امره)23 مرّة،أريد بها كلّها أمر اللّه،سوى خمس آيات:

1- فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ البقرة:275

2- أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ

المائدة:95

3- وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ

الأنبياء:81

4- فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ5.

ص: 228


1- السّيرة النّبويّة 3:115.

أَصابَ ص:36

5- وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً

الطّلاق:4

ثمّ إنّ الرّقمين(4)و(5)من هذه الخمس-و كذا كلّ ما أريد به أمر اللّه-جاءتا بمعنى الطّلب،سوى أربع آيات:

1- فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ التّوبة:24

2- وَ اللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ يوسف:21

3- يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ النّحل:2

4- وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ الطّلاق:3

و جاء(امرها)ثلاث مرّات،و كلّها بمعنى الشّأن و الحال،و هي راجعة إلى غير اللّه طبعا:

1- وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فصّلت:12

2 و 3- فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً الطّلاق:9

و جاء(امرهم)12 مرّة،و أريد به أمر القوم و شئونهم العامّة،و ليس شيء منها بمعنى الطّلب.

و جاء(امرى)8 مرّات،و كلّها بمعنى الشّأن و الحال، سوى ثلاث منها،فهي بمعنى الطّلب:

1- وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً الكهف:82

2- وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي

طه:90

3- قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي طه:92،93

الحادي عشر:جاء الأمر جمعا بلفظ(الأمور)13 مرّة،بمعنى الشّيء و الشّأن،و كلّها راجعة إلى اللّه،و أريد بها أمور العالم،مثل: وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ البقرة:210،و ما بمعناها،سوى أربع آيات راجعة إلى النّاس:

1- وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ آل عمران:186

2- وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لقمان:17

3- وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ

الشّورى:43

4- لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ

التّوبة:48

و الأمور في الثّلاث الأولى هي الخصال الحميدة،و قد جاءت في سياق واحد مع الصّبر في صدر الآيات،و مع العزم في ذيلها،ممّا يدلّ على شدّة العلاقة بين الصّبر و العزم،و أنّه لا مجال قبال عزم الأمور إلاّ الصّبر،استعانة بالتّقوى في(1)،و بالغفران في(3)،و هذا السّياق في القرآن خاصّ بهذه الآيات،لاحظ«ع ز م».

و أمّا الآية الأخيرة،فهي الأمور العامّة،كما هو ظاهر.

المعنى الثّالث:الائتمار بمعنى التّشاور،و فيه آيتان:

1- قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ

القصص:20

ص: 229

2- فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى الطّلاق:6

و يلاحظ:أنّ«الائتمار»في الآية الثّانية استعمل في الخير،و قد اتّفقت كلمة المفسّرين على أنّها بمعنى التّشاور،و هو مشتقّ من«الأمر»بمعنى الطّلب،لأخذ بعضهم بأمر بعض،أو أمر بعضهم بعضا،و مآل الوجهين إلى تبادل الآراء،للوصول إلى رأي جماعيّ في تشخيص المعروف الّذي تعلّق الائتمار به،و قوله:(بينكم)كالصّريح في ذلك.

أمّا«الائتمار»في الآية الأولى،فاستعمل في الشّرّ، و هو مفهوم من السّياق،إلاّ أنّ المفسّرين-كما سبق في النّصوص-اختلفوا في استنباط هذا المعنى منها،إذ أنّ أكثرهم أخذوا«الائتمار»بمعنى التّشاور،فقالوا:أي يتشاورون بسببك أو بقتلك.و قد أنكره ابن قتيبة،بحجّة أنّه لو أريد ذلك،لقال تعالى:«يأتمرون فيك»،و لأنّ التّشاور بركة و خير،و لا تأتي في الشّرّ،ثمّ جزم هو بأنّ المعنى:يهمّون بك.و قد جمع أبو عبيدة بين الرّأيين،فقال:

مجازه:يهمّون بك،و يتآمرون فيك،و يتشاورون فيك، و يرتئون.

و نحن نرى أن لا دليل لحصر التّشاور في الخير،و إن كان هو الغالب فيه و أنّه يتعدّى بالباء؛إذ أنّ الائتمار و هو-بمعنى التّشاور-قد تعدّى في الثّانية بالباء أيضا، دون«في»،و لكن فيه تأمّل،لكون الباء في يَأْتَمِرُونَ بِكَ سببيّة،بمعنى بسببك،كما قال الزّمخشريّ،أو بتقدير «بقتلك»،كما عند الطّوسيّ و الطّبرسيّ.

و يخطر بالبال أنّ مثل هذا السّياق الّذي يتعلّق فيه الباء-الوارد بعد فعل الائتمار-بالشّخص دون الفعل، جاء الائتمار بمعنى العزم و الاهتمام الجماعيّ بإيصال الشّرّ إلى هذا الشّخص.و هو سياق قرآنيّ،و ربّما يكون عديم النّظير في كلام العرب،فهو نظير«إدّ»،في قوله تعالى:

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا مريم:89،حيث لحقه مفهوم الذّمّ بعد الإسلام.و قبله كان يستعمل في الخير،و يفتخر به العرب،لاحظ«أ د د».كما أنّه قريب ممّا شاع في العصر الحديث لكلمة«المؤامرة».

المعنى الرّابع:العجيب و المنكر،و فيه آية واحدة:

قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71

و يلاحظ أوّلا:أنّهم قالوا في تفسير«الإمر»:إنّه العجيب،و المنكر،و العظيم،و الدّاهية،و الإصر الشّديد.

و يبدو أنّ فيه معنى الكثرة و الكبر،و هو مشتقّ من:

أمر يأمر،بمعنى كثر،فكأنّه أكبر من أن يتوقّع،و أكثر من أن يتحمّل،لذلك كان عجيبا و منكرا.و أمّا ما اختاره الطّوسيّ،و تبعه الطّبرسيّ-على ما جاء في النّصوص- من«أنّه مأخوذ من الأمر،لأنّه الفاسد الّذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصّلاح،كما يقال:رجل إمّر،لمن كان ضعيف الرّأي،فيحتاج إلى أن يؤمر،ليتقوّى رأيه»،فهو بعيد.و أبعد منه قوله:«و منه:أمر القوم،أي كثروا،و معناه احتاجوا إلى من يأمرهم و ينهاهم»،حيث أرجع معنى «الكثرة»إلى«الأمر»بمعنى الطّلب،فلاحظ.

و ثانيا:أنّ هذا اللّفظ الّذي يبدو أنّه غريب، و لا يستعمل إلاّ نادرا،لضرورة تقتضيه،قد جاء في

ص: 230

القرآن مرّة واحدة،في سورة مكّيّة،رعاية لرويّ الآيات،كما اخترنا ذلك في أمثاله ممّا لم يتكرّر في القرآن؛إذ الرّويّ في سورة الكهف غالبا على وزن «فعل»و«فعل»بتثليث الفاء بالباء و الدّال و الرّاء و نحوها،و رويّ الرّاء بالذّات جاء في(18)آية،و يتركّز أكثرها حول هذه الآية،و جاء قبلها:صبرا و خبرا و أمرا و ذكرا،و بعدها:صبرا و عسرا و نكرا و صبرا و عذرا و أجرا و صبرا،و سنسرد الآيات لاحقا.

و الّذي يلفت النّظر أنّ أربعة من هذه الألفاظ جاءت بلفظ(صبرا)،و كلّها حول قصّة موسى و الخضر الّتي عمادها عنصر الصّبر،و خاتمتها: ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً الكهف:82.

و ثالثا:أنّه قد بدّل(امرا)ب(نكرا)في الآية الثّالثة بعدها قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً الكهف:74،فعبّر القرآن عن قتل النّفس المحترمة ب(شيئا نكرا)،و عن خرق السّفينة ب(شيئا امرا)،لأنّ قتل النّفس ليس أمرا عجيبا؛يرتكبه النّاس كثيرا.أمّا خرق السّفينة فشيء نادر عجيب،و هو خلاف المتوقّع،ناهيك من صدوره عن عاقل حكيم.

و رابعا:قد جاء بدل(امرا)لفظ(ادّا)مرّة واحدة في آية مكّيّة بنفس المعنى أيضا: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا مريم:89.

و قد جمعت الألفاظ الثّلاثة(إمرا)و(نكرا)و(إدّا)في قول الشّاعر:

لقد لقي الأقران منّي نكرا داهية دهياء إدّا إمرا

رواه الطّبرسيّ في«مجمع البيان» (1)،و لم يذكر اسم الشّاعر،و لا ندري أ هو عاش في عصر الإسلام،فأخذها من القرآن،أم هو جاهليّ سبق القرآن باستعمالها؟و قد سبق أن نوّهنا في«أ د د»بأنّه-الإدّ-قد اكتسب بعد نزول القرآن حزازة و قبحا،لم يكن فيه؛حيث كانت العرب تفتخر به من ذي قبل،كما احتملنا ذلك في «الائتمار»سابقا،لاحظ«أ د د»و«ن ك ر».

و خامسا:أنّ كلاّ من هذه الرّويّات تشعر بغلق القصّة و صعوبتها و عسرها،حيث تحتاج إلى صبر مستمرّ من البداية إلى النّهاية،فكرّر الصّبر فيها خمس مرّات،كما تحتاج إلى ذكر و أمر و خبرة و تحمّل المصاعب.

و سادسا:هذه كلّها نكات بلاغيّة،لم يشيروا إليها، و هناك نكتة أخرى ذكرها الآلوسيّ-كما سبق في النّصوص-حيث قال:«إنّه لم يقل:أمرا إمرا،بدل(شيئا امرا)،مع ما فيه من التّجنيس،لأنّه تكلّف،لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ-إلى أن قال-مع إيهامه خلاف المراد،و قصوره عن درجة ما في النّظم الجليل من زيادة التّفظيع».و كأنّه أراد أنّ«أمرا»يشعر بالرّشد و الصّلاح، و المقام مقام التّفظيع و الإنكار،فلا يناسبه هذا اللّفظ.

و نضيف إلى ما قال:أنّ الجمع بين«الأمر»مع هذا الإشعار،و بين«الإمر»مع ما له من المفهوم المنكر، كالجمع بين الضّدّين،مثل وصفك اللّيل بالمظلم المضيء معا،و هذا بخلاف لفظ«شيء»،فإنّه عار من ذلك،بل يحمل الإبهام و عدم الاستئناس إذا جاء منكّرا،كما جاء في الآيتين:83

ص: 231


1- 6:483

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً الكهف:74

و سابعا:أنّ في كسر الحرف الأوّل في(امرا)،و ضمّه في(نكرا)،تناسب السّياق و لطافة التّعبير،لا يشعر به إلاّ من له حسّ مرهف في سرّ فقه القرآن و بلاغته،فإنّ إغراق السّفينة بأهلها يوجب خذلان فاعله،و انحطاط قدره من طبقة العقلاء عند النّاس،كما يبعث على رسوب السّفينة بما تحمله في الماء.أمّا قتل النّفس المحترمة،فيسفر عن اشتهار فاعله بين النّاس بالجناية،و سوقه إلى العدالة،و ربّما يرقى المشنقة قصاصا.

و ثامنا:في اختلاف ألفاظ الرّويّ في هذه القصّة لطائف أيضا،تلفت انتباه من يرومها،فرويّ الآيات في قصّة موسى جاء بلفظ ثلاثيّ،و ليس رباعيّا،كما سبقها في آيتين:

لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً الكهف:58

وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً الكهف:59

و هذا إشعار بانتقال الكلام من سياق إلى سياق آخر.ثمّ الرّويّ في أوّل القصّة إلى قبيل التقاء موسى و فتاه بالخضر-الّذي عبّر القرآن عنه بقوله: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا -جاء متحرّكا،مضموم الوسط في الأولى،و مفتوحا في سائر الآيات:

1- حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً

الكهف:60

2- فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً الكهف:61

3- لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً الكهف:62

4- وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً الكهف:63

5- فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً الكهف:64

ثمّ جاء الرّويّ بعد لقائهما للخضر ساكن الوسط،مع اختلاف حركة الأوّل ضمّا و فتحا و كسرا،حتّى آخر القصّة،في(14)آية.و هذا أيضا إعلام و إشعار بانتقال القصّة إلى سياق آخر،يختلف عمّا قبله،على النّحو التّالي:

1- وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً الكهف:65

2- عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً

الكهف:66

3- إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً الكهف:67

4- وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً

الكهف:68

5- وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً الكهف:69

6- حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً الكهف:70

7- لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً الكهف:71

8- إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً الكهف:72

9- وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً الكهف:73

10- لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً الكهف:74

11- إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً الكهف:75

12- قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً الكهف:76

13- لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً الكهف:77

14- سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً

الكهف:78

15- وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً

الكهف:79

16- فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً

الكهف:80

ص: 232

17- فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً الكهف:81

18- ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً

الكهف:82

إنّ تحرّك الحرف الوسط من الرّويّ قبل قصّة لقاء موسى و فتاه للخضر،و سكونه بعد فراقهما إيّاه،إن دلّ على شيء،فكاد أن يدلّ-و اللّه أعلم بسرّ كتابه-على حالتهما من الحركة،و اجتياب الرّوابي و الوديان،و التّنقّل من مكان إلى مكان،صعودا و نزولا،في طلب الخضر، ليجدوه عند مجمع البحرين،ثمّ السّكون و الهدوء إليه، و التّسليم له،و تجرّع مرارة الصّبر على ما سوف يصدر عنه،ممّا لا يتوقّع صدوره من إنسان عاقل أو صالح،حتّى كرّر-(لن تستطيع)أو(لم تسطع)-(معى صبرا)أو (عليه صبرا)في هذا الشّطر من القصّة خمس مرّات، حكاية عن الخضر،إضافة إلى ذكر«الصّبر»حكاية عن قوله،مستبعدا صبره على ما لم يحط به خبرا،و ذكر (صابرا)حكاية عن موسى،وعدا منه بالصّبر بمشيئة اللّه، في آيتين متواليتين:

وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً

الكهف:68

قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً الكهف:69

هذه نكتة في سرّ حركة الوسط من الرّويّ،في الشّطر الأوّل من القصّة،و سكونه في الشّطر الثّاني منها.

ثمّ هناك نكتة أخرى في سرّ اختلاف حركة الحرف الأوّل منها في الشّطرين،ففي الشّطر الأوّل جاء الرّويّ في الأولى بضمّ الأوّل أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً الكهف:60،إيماء إلى أنّه سوف يواصل السّير إلى أن يصل إلى مجمع البحرين،أو يمضي مسافة طويلة لا يعلم مداها،و هو الحقب،فكأنّه لطول الطّريق و وعثاء السّفر يصعد الجبل بأنفاس متوالية،فيناسب ذلك ضمّ الأوّل.

و أمّا السّياق في الأربع الباقية،ففيه السّير على طريق سويّ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً الكهف:

61،أي مسلكا و عجبا.و هناك استراحا،ليتزوّدا و يأكلا غداءهما،مع ذكر ما عانيا من تعب السّفر الّذي مضى وعثاؤه،و بقيت متعته.

ثمّ ارتدّا إلى مجمع البحرين،للاتّصال بالخضر؛حيث اتّخذ الحوت سبيله في البحر،فجاء الرّويّ في هذه بفتح الأوّل،لأنّ الحركة في هذه الحقبة ليست فيها صعوبة، و ارتفاع و انخفاض كابتدائها.

أمّا في الشّطر الثّاني،حيث ارتفعت الحيرة و وعثاء السّفر،و تبدّلت الحالة إلى السّكون و الهدوء،فزالت الحركة من الوسط،و لكنّها مع ذلك ليست على وتيرة واحدة في سائر فقرات القصّة و عناصرها،فهناك صعوبة تكسّب العلم و الرّشد و الذّكر و الخبر،و فيها ارتفاع و انخفاض في الطّريق*فمن طلب العلى سهر اللّيالي* فجاء(علما)و(ذكرا)في(1)و(6)بكسر الأوّل،و (رشدا)و(خبرا)في(2)و(6)بضمّه،بتعادل،أي اثنين في مقابل اثنين.

و هناك صعوبة في تحمّل العجيب و النّكر و العسر و الرّهق و سماع العذر،أو عمليّة الاعتذار بعد ارتكاب الجناية.فجاء«الإمر»في(7)بكسر الأوّل،و«العسر» و«النّكر»و«العذر»في(9)و(10)و(12)بضمّه،

ص: 233

بتعادل أربع إزاء الأربع المتقدّمة.

ثمّ الفرق بينهما-مع اشتراكها في الصّعوبة-ما سبق من أنّ خرق السّفينة يحطّ مرتكبه عن مقام العقلاء،و فيه تدنّي لمنزلته عند النّاس،فجاء بكسر الأوّل،أمّا الثّلاث الباقية،ففيها العسر و الصّعوبة فقط،دون الانحطاط، فجاءت فيها الضّمّة.كما أنّ سائرها،و هي الصّبر-و هو شريان القصّة-جاء أربع مرّات في(3)و(8)و(11)و (14)،و كذلك أخذ الأجر في(13)،ففيها الهدوء و السّكون،فجاء بالفتح(صبرا)و(اجرا).و بالتّأمّل في سائر آيات الكهف ربّما تنكشف نكات،و تنجلي حقائق أخرى في ألفاظ الرّويّ،تتضمّن غير ما ذكرنا.

و بعد،فهذا باب جديد من بلاغة القرآن،ينبغي لمن يلجه أن لا يتسرّع إلى إبداء الرّأي،و أن يتأنّى في رأيه و تفكيره،مستمدّا من الذّوق اللّغويّ و البلاغيّ، و مستعينا باللّه تعالى،ليهديه السّبيل.

ص: 234

أ م س

اشارة

الامس

لفظ واحد،4 مرّات،في سورتين مكّيّتين

النّصوص اللّغويّة

الخليل :أمس:ظرف مبنيّ على الكسر و ينسب إليه إمسيّ.(7:325)

سيبويه :قد جاء في ضرورة الشّعر:«مذ أمس» بالفتح.[ثمّ استشهد بشعر]

و لا يصغّر أمس كما لا يصغّر غدا،و البارحة،و كيف، و أين،و متى،و أيّ،و ما،و عند،و أسماء الشّهور و الأسبوع،غير الجمعة.(الجوهريّ 3:904)

إنّ من العرب من يجعل«أمس»معدولة في موضع الجرّ بعد«مذ»خاصّة،يشبّهونها ب«مذ»إذا رفعت في قولك:ما رأيته مذ أمس،و لمّا كانت أمس معربة بعد«مذ» الّتي هي اسم،كانت أيضا معربة مع«مذ»الّتي هي حرف،لأنّها بمعناها.

فبان لك بهذا غلط من يقول:إنّ«أمس»في قوله:

*لقد رأيت عجبا مذ أمسا*

مبنيّة على الفتح بل هي معربة،و الفتحة فيها كالفتحة في قولك:مررت بأحمد.و شاهد بناء«أمس»، إذا كانت في موضع نصب،قول زياد الأعجم:

رأيتك أمس خير بني معدّ

و أنت اليوم خير منك أمس

و شاهد بنائها و هي في موضع الجرّ قول عمرو بن الشّريد:

و لقد قتلتكم ثناء و موحدا

و تركت مرّة مثل أمس المدبر

و اعلم أنّك إذا نكّرت«أمس»أو عرّفتها بالألف و اللاّم أو أضفتها أعربتها،فتقول في التّنكير:كلّ غد صائر أمسا،و تقول في الإضافة و مع لام التّعريف:كان أمسنا طيّبا و كان الأمس طيّبا،[ثمّ استشهد بشعر]

و كذلك لو جمعته لأعربته كقول الآخر:

ص: 235

مرّت بنا أوّل من أموس تميس فينا مشية العروس

(ابن منظور 6:9)

الكسائيّ: العرب تقول:كلّمتك أمس،و أعجبني أمس يا هذا.و تقول في النّكرة:أعجبني أمس،و أمس آخر،فإذا أضفته أو نكّرته أو أدخلت عليه الألف و اللاّم للتّعريف أجريته بالإعراب،تقول:كان أمسنا طيّبا، و رأيت أمسنا المبارك.و تقول:مضى الأمس بما فيه.

و أصله الفعل،أخذ من قولك:أمس بخير،ثمّ سمّي به.

(الأزهريّ 13:118)

الفرّاء: من العرب من يخفض الأمس و إن أدخل عليه الألف و اللاّم.[ثمّ استشهد بشعر]

إنّما كسرت[أمس]لأنّ السّين طبعها الكسر.

(الأزهريّ 13:118)

ابن الأعرابيّ: روي«الأمس و الأمس»جرّا و نصبا؛فمن جرّه فعلى الباب فيه،و جعل اللاّم مع الجرّ زائدة،و اللاّم المعرّفة له مرادة فيه و هو نائب عنها و مضمن لها،فكذلك قوله:و الأمس،هذه اللاّم زائدة فيه،و المعرّفة له مرادة فيه محذوفة منه،يدلّ على ذلك بناؤه على الكسر،و هو في موضع نصب،كما يكون مبنيّا إذا لم تظهر اللاّم في لفظه،و أمّا من قال:و الأمس فإنّه لم يضمنه معنى اللاّم فيبنيه،لكنّه عرّفه كما عرّف اليوم بها، و ليست هذه اللاّم في قول من قال:و الأمس فنصب،هي تلك اللاّم الّتي في قول من قال:و الأمس،فجرّ تلك لا تظهر أبدا لأنّها في تلك اللّغة لم تستعمل مظهرة.أ لا ترى أنّ من ينصب غير من يجرّ،فكل منهما لغة،و قياسهما على ما نطق به منهما لا تداخل أختها و لا نسبة في ذلك بينها و بينها.(ابن منظور 6:8)

ابن السّكّيت: تقول:ما رأيته مذ أمس،فإن لم تره يوما قبل ذلك،قلت:ما رأيته مذ أوّل من أمس،فإن لم تره مذ يومين قبل ذلك قلت:ما رأيته مذ أوّل من أوّل من أمس.(الأزهريّ 13:118)

أبو الهيثم: [أمس]السّين لا يلفظ بها إلاّ من كسر الفم ما بين الثّنيّة إلى الضّرس،و كسرت إذ كان مخرجها مكسورا في قول الفرّاء،و أنشد:

*و قافية بين الثّنيّة و الضّرس*

(الأزهريّ 13:118)

الزّجّاج: إذا جمعت«أمس»على أدنى العدد قلت:

ثلاثة آمس،مثل فلس و أفلس،و ثلاثة آماس،مثل فرخ و أفراخ،فإذا كثرت فهي الأموس،مثل فلس و فلوس.(الزّبيديّ 4:98)

ابن كيسان :في«أمس»يقولون إذا نكّروه:كلّ يوم يصير أمساك،و كلّ أمس مضى فلن يعود،و مضى أمس من الأموس.(الأزهريّ 13:118)

ابن الأنباريّ:أدخل الألف و اللاّم على«أمس» و ترك على حاله في الكسر،لأنّ أصل«أمس»عندنا من الإمساء،فسمّي الوقت بالأمر و لم يغيّر لفظه.

(الأزهري 13:118)

الأزهريّ: قال أبو سعيد:تقول جاءني أمس،فإذا نسبت شيئا إليه كسرت الهمزة فقلت:إمسيّ على غير قياس.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال البصريّون:إنّما لم يتمكّن أمس في الإعراب لأنّه ضارع الفعل الماضي و ليس بمعرب.

ص: 236

قال ابن بزرج:قال عرّام:ما رأيته مذ أمس الأحدث.و كذلك قال نجاد.و قال الآخرون بالخفض:مذ أمس الأحدث.

و قال نجاد:عهدي به أمس الأحدث،و أتاني أمس الأحدث.

و تقول:ما رأيته قبل أمس بيوم،تريد:أوّل من أمس،و ما رأيته قبل البارحة بليلة.(13:118)

الصّاحب:أمس:مكسورة،و إذا نسبت إليه قلت:

أمسيّ،و الأموس جمعه.

و المؤمس:الّذي يخالفك أبدا،و قد آمس إيماسا.

(8:409)

ابن جنّيّ: امتنعوا من إظهار الحرف الّذي يعرّف به «أمس»حتّى اضطرّوا بذلك إلى بنائه لتضمّنه معناه،و لو أظهروا ذلك الحرف،فقالوا:مضى الأمس بما فيه،لما كان خلفا و لا خطأ.(ابن منظور 6:8)

الجوهريّ: أمس:اسم حرّك آخره لالتقاء السّاكنين.و اختلفت العرب فيه،فأكثرهم يبنيه على الكسر معرفة،و منهم من يعربه معرفة.و كلّهم يعربه إذا دخل عليه الألف و اللاّم أو صيّره نكرة،أو أضافه.تقول:

مضى الأمس المبارك،و مضى أمسنا،و كلّ غد صائر أمسا.(3:904)

أبو سهل الهرويّ: تقول ما رأيته مذ أوّل من أمس ترفع«أوّل»ب«مذ»،و هو في بعض النّسخ منصوب؛ فتكون«مذ»حينئذ بمنزلة«من»فإن أردت يومين قبل ذلك قلت:ما رأيته مذ أوّل من أوّل من أمس،و لا تجاوز ذلك،أي لا يقال إلاّ ليومين قبل أمس.و«أمس»هو اسم لليوم الّذي قبل يومك،و«أوّل»هاهنا اسم لليوم الّذي قبل أمس،و أمس يتلوه.(94)

الزّمخشريّ: تقول:أصبح سالما و أمس،كأن لم تغن بالأمس.(أساس البلاغة:9)

ابن برّيّ: اعلم أنّ«أمس»مبنيّة على الكسر عند أهل الحجاز،و بنو تميم يوافقونهم في بنائها على الكسر في حال النّصب و الجرّ.فإذا جاءت«أمس»في موضع رفع أعربوها،فقالوا:ذهب أمس بما فيه،و أهل الحجاز يقولون:ذهب أمس بما فيه؛لأنّها مبنيّة لتضمّنها لام التّعريف،و الكسرة فيها لالتقاء السّاكنين.و أمّا بنو تميم فيجعلونها في الرّفع معدولة عن الألف و اللاّم فلا تصرف للتّعريف و العدل،كما لا يصرف«سحر»إذا أردت به وقتا بعينه للتّعريف و العدل.و شاهد قول أهل الحجاز في بنائها على الكسر،و هي في موضع رفع قول أسقف نجران:

اليوم أجهل ما يجيء به و مضى بفصل قضائه أمس فعلى هذا تقول:ما رأيته مذ أمس،في لغة الحجاز جعلت«مذ»اسما أو حرفا،فإن جعلت«مذ»اسما رفعت في قول بني تميم،فقلت:ما رأيته مذ أمس،و إن جعلت«مذ»حرفا وافق بنو تميم أهل الحجاز في بنائها على الكسر فقالوا:ما رأيته مذ أمس.و على ذلك قول الرّاجز يصف إبلا:

ما زال ذا هزيزها مذ أمس

صافحة خدودها للشّمس

ف«مذ»هاهنا حرف خفض على مذهب بني تميم، و أمّا على مذهب أهل الحجاز فيجوز أن يكون«مذ»

ص: 237

اسما و يجوز أن يكون حرفا.(ابن منظور 6:9)

القرطبيّ: «أمس»لليوم الّذي قبل يومك،و هو مبنيّ على الكسر لالتقاء السّاكنين،فإذا دخله الألف و اللاّم أو الإضافة تمكّن؛فأعرب بالرّفع و الفتح عند أكثر النّحويّين.و منهم من يبنيه و فيه الألف و اللاّم.

و حكى سيبويه و غيره:أنّ من العرب من يجري «أمس»مجرى ما لا ينصرف في موضع الرّفع خاصّة، و ربّما اضطرّ الشّاعر ففعل هذا في الخفض و النّصب قال الشّاعر:

*لقد رأيت عجبا مذ أمسا*

فخفض ب«مذ»ما مضى.و اللّغة الجيّدة الرّفع؛ فأجرى«أمس»في الخفض مجراه في الرّفع على اللّغة الثّانية.(13:264)

الفيّوميّ: «أمس»اسم علم على اليوم الّذي قبل يومك،و يستعمل فيما قبله مجازا،و هو مبنيّ على الكسر، و بنو تميم تعربه إعراب ما لا ينصرف؛فتقول:ذهب أمس بما فيه بالرّفع.(1:22)

نحوه مجمع اللّغة.(1:52)

الفيروزآباديّ: أمس:مثلّثة الآخر مبنيّة،اليوم الّذي قبل يومك بليلة يبنى معرفة و يعرب معرفة،فإذا دخلها«أل»فمعرب.و سمع:رأيته أمس،منوّنا،و هي شاذّة.الجمع:آمس و أموس و آماس.(2:205)

الزّبيديّ: آمس الرّجل:خالف،و المأموسة:النّار، في قول ابن الأحمر الباهليّ.و لم يسمع إلاّ في شعره،و هي الإنسيّة و المأنوسة،كما سيأتي.(4:98)

محمّد إسماعيل إبراهيم: أمس:اليوم الّذي قبل يومك،و قد يقصد به مطلق الزّمن الّذي مضى.(1:45)

النّصوص التّفسيريّة

1- أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ .يونس:24

الزّمخشريّ: (الأمس)مثل في الوقت القريب، كأنّه قيل:كأن لم تغن آنفا.(2:233)

نحوه أبو السّعود(2:321)،و البروسويّ(4:34).

الطّبرسيّ:معناه كأن لم تكن و لم توجد من قبل.

(3:103)

النّيسابوريّ: أي في زمان قريب.(11:72)

أبو حيّان: [بعد نقل قول الزّمخشريّ قال:]

و ليس«الأمس»عبارة عن مطلق الوقت،و لا هو مرادف كقوله:«آنفا»،لأنّ«آنفا»معناه السّاعة،و المعنى كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزّمان.و لو لا أنّ قائلا قال في غير القرآن:كأن لم يكن لها وجود السّاعة، لم يصحّ هذا المعنى؛لأنّه لا وجود لها السّاعة فكيف تشبّه و هي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة،إنّما يشبّه ما انتفى وجوده الآن بما قدّر انتفاء وجوده في الزّمان الماضي لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى حالة العدم؛ فكان حالة الوجود ما سبقت له.(5:144)

الكاشانيّ:(الأمس)مثل في الوقت القريب و الممثّل به في الآية مضمون الحكاية،و هو زوال خضرة النّبات فجأة و ذهابه حطاما بعد ما كان غضّا،و التفّ و زيّن الأرض حتّى طمع فيه أهله و ظنّوا أنّه قد سلم من الآفات.(2:399)

ص: 238

الآلوسيّ: أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب،فإنّ الأمس مثل في ذلك،و الجملة التّشبيهيّة جوّز أن تكون في محلّ النّصب على أنّها حال،و أن تكون مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب جوابا لسؤال مقدّر،و الممثّل به في الآية ما يفهم من الكلام و هو زوال خضرة النّبات فجأة و ذهابه حطاما،لم يبق له أثر بعد ما كان غضّا طريّا قد التفّ بعضه ببعض،و ازّيّنت الأرض بألوانه حتّى طمع النّاس و ظنّوا أنّه قد سلم من الجوائح لا الماء.و إن دخلته كاف التّشبيه فإنّه من التّشبيه المركّب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقيّة و أمور مجازيّة،فيها من اللّطافة ما لا يخفى.و عن أبيّ أنّه قرأ: (كان لم تغن بالأمس و ما اهلكناها الاّ بذنوب اهلها) .(11:101)

رشيد رضا :(الامس):الوقت الماضي.

(11:348)

المصطفويّ: و ليعلم أنّ هذه الكلمة قد وردت في القرآن المجيد في أربعة موارد،و كلّها معرّفا و مجرورا بالجارّة(بالامس)،و ظاهره الإعراب.و أمّا أنّ وروده مبنيّا في بعض الحالات في كلماتهم هل هو في حال المعرفة أو في حالة شرائط أخرى،فهي خارجة عن وظيفتنا و لا نبحث عنها.

و الظّاهر أنّ معناه الحقيقيّ هو اليوم الماضي قبل يومك.و إطلاقه على مطلق الزّمان الماضي،إذا فرض ذلك الزّمان قريبا،كأنّه اليوم المتّصل بيومك،فالمعنى هو اليوم المتّصل الماضي ادّعاء.

فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ القصص:18،إمّا اليوم الماضي تحقيقا،أو مطلق الماضي، و التّعبير به للإشارة إلى تغيير حاله في زمان قريب.

و كذلك آية: وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّهَ يَبْسُطُ القصص:82،و هكذا:

حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ يونس:24.أي جعلنا زرعهم كالحصيد فكأنّه لم يكن فيه الغنى في اليوم الماضي.(1:135)

2- فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ... أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ. القصص:18،19.

الآلوسيّ: المراد(بالامس)اليوم الّذي قبل يوم الاستصراخ،و في الحواشي الشّهابيّة:إن كان دخوله عليه السّلام المدينة بين العشاءين فالأمس مجاز عن قرب الزّمان و هو معرب لدخول«أل»عليه،و ذلك الشّائع فيه عند دخولها،و قد بني معها على سبيل النّدرة.

(20:57)

3- وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ.

القصص:82

الميبديّ: العرب تعبّر عن الصّيرورة بأضحى و أمسى و أصبح،تقول:أصبح فلان عالما،أي صار عالما، و ليس هناك من الصّبح شيء،و أمسى فلان حزينا،أي صار حزينا.و معنى الآية:صار الّذين تمنّوا منزلة قارون من المال و الزّينة يتندّمون على ذلك التّمنّي.و لم يرد (بالامس)يوما بعينه إنّما يراد به منذ زمان قريب.

(7:352)

الزّمخشريّ: قد يذكر«الأمس»و لا يراد به اليوم

ص: 239

الّذي قبل يومك،و لكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة.(3:192)

أبو حيّان: (الامس)يحتمل أن يراد به الزّمان الماضي،و يحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف،و هو يوم التّمنّي،و يدلّ عليه العطف بالفاء الّتي تقتضي التّعقيب في قوله:(فخسفنا)فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته.و في ذلك تعجيل العذاب.(7:135)

الآلوسيّ: منذ زمان قريب،و هو مجاز شائع،و جوّز حمله على الحقيقة،و الجار و المجرور متعلّق ب(تمنّوا)أو ب(مكانه)قيل:و العطف بالفاء الّتي تقتضي التّعقيب في (فخسفنا)يدلّ عليه.(20:124)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة هو اليوم الماضي أو الّذي قبله.و ما قيل:إنّه فرع و ليس أصلا برأسه،فهو محمول على أنّه فعل أمر لفعل«أمسى»من مادّة«م س ي»؛إذ زعم بعضهم أنّه أطلق على الوقت دون أن يغيّر لفظه.

و لكن هذا القول مردود؛لوروده مرفوعا و منصوبا أيضا و منوّنا و غير منوّن،كما ورد مجموعا و معرّفا بال.

و كأنّه لم يرق لهم أن يجعلوا الظّرف بابا مستقلاّ، فأمعنوا في الفحص عن لفظ يوافقه لفظا و يضاهيه معنى، فتواطئوا على انتقاء فعل الأمر«أمس»من قول العرب:

أمس بخير.

و قد صدف ابن فارس عن ذكر مادّة«أم س» مستقلّة،أو مشتركة في مادّة«م س ي».

2-و بين«أمس»و«البارحة»تقارب في المعنى، إلاّ أنّ معنى أمس عامّ و معنى البارحة خاصّ.فهما يلتقيان في معنى اللّيلة الماضية،و يفترقان بكون«أمس» يطلق على النّهار أيضا و على اليوم قبل الماضي،و ليس «البارحة»كذلك.فكلّ أمس بارحة و ليس كلّ بارحة أمسا؛يقال:رأيته أمس،إذا كنت رأيته نهارا أو ليلا،و إذا قلت:رأيته البارحة،فقولك لا يعني إلاّ رؤيته في اللّيلة الماضية فحسب.

3-و في أمس ثلاث لغات:

الأولى:كسر السّين مطلقا،و لم يبن على الكسر من الظّروف سواه،و هي لغة أهل الحجاز.

و الثّانية:ضمّ السّين رفعا و فتحها نصبا و جرّا،أي إعرابه إعراب ما لا ينصرف،و هي لغة بعض بني تميم.

و الثّالثة:ضمّ السّين رفعا و كسرها نصبا و جرّا،أي التّلفيق بين اللّغتين السّابقتين،و هي لغة معظم بني تميم.

و أطبق النّحاة على إعرابه إذا ما أريد به يوم ما،أو إذا ما كسّر أو أضيف أو دخلته«أل».و كذا يعرب إذا ما صغّر،و لكن في تصغيره خلاف،فبعضهم لا يسوّغه و دليله السّماع؛لأنّه لم يأت مصغّرا،و هذا قول سيبويه.

و بعضهم يسوّغ ذلك و دليله القياس؛لأنّه ورد مكسّرا، و التّصغير و التّكسير نظيران،و هذا قول المبرّد.

4-و من المسلّم به هو أنّ كلّ اسم نكرة يعرّف بال، إلاّ«أمس»فإنّه مستثنى من هذه القاعدة المطّردة؛إذ قيل:إنّه إن نكّر عرّف و إن عرّف نكّر.فإن قال قائل:

أمس،فإنّه يعني أقرب يوم مضى،و إن قال:الأمس،فإنّه يعني يوما ما من الأيّام الماضية.و هذا من فرائد اللّغة و شواذّها.

ص: 240

5-و إن أريد يوم قبل سابقه يقال:أوّل من أمس، و إن أريد يومان-و هو غاية ذلك-يقال:أوّل من أوّل من أمس.و«الأوّل»هنا اسم لليوم الّذي قبل أمس.

و شاع في الآونة الأخيرة حذف«من»في المثال الأوّل؛يقولون:أوّل أمس،و قد أيّد بعض المجامع اللّغويّة هذا الاستعمال.و لكنّنا نراه مغايرا لما جرت به العربيّة لأمرين:

الأوّل قد يشكل المعنى على السّامع فينصرف ذهنه إلى معنى البداية،كما يقال:أوّل النّهار و آخره،أي بدايته و نهايته.

و الثّاني:ينبغي-على هذا الرّأي-أن يقال في المثال الثّاني:أوّل أوّل أمس،و هذا الضّرب من الكلام غير مستساغ في كلام العرب،و لذا لم يتعرّض له المعاصرون كتّابا و نقّادا،بل سكتوا عنه كلّيّة.

و نرى أنّه لا ضير في الاستعمال العصريّ:أمس الأوّل؛لأنّ«الأوّل»صفة،و«أمس»معرفة كما قلنا آنفا.

الاستعمال القرآنيّ

1-جاء بعض ظروف الزّمان في القرآن معرفة:

كالوقت و المدّة و الدّهر و العصر،و جاء بعضها نكرة:

كالسّنة و الحول و الأبد و الحين و الأحقاب،و جاء بعض معرفة تارة و نكرة تارة أخرى:كالأمد و السّاعة و اليوم و الشّهر و العام و القرن.

و معلوم أنّ الظّرف المعرّف يبيّن ماهيّة الزّمان و يكتنه حقيقته عاجلا؛كقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي المائدة:3،أو آجلا كقوله: اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الأنعام:93.

و أمّا الظّرف المنكّر فيكتنفه الإبهام و الغموض و لا يفصح عن حقيقة الزّمان و ماهيّته عموما،كقوله:

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ البقرة:36، أو خصوصا كقوله: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ الأعراف:34.

2-و أمس خلاف ذلك كما تقدّم في الأصول اللّغويّة، و هذا الأمر يظهر بوضوح في الآيات الأربع:

1- فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ

يونس:24

2- فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ

القصص:18

3- قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ القصص:19

4- وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ القصص:82

و يلاحظ أنّ الآية(1)مثل عامّ لا يختصّ بحادثة معيّنة حتّى يقيّد بزمان أو مكان معيّنين،و إلاّ لبتّ في وقت العذاب دون أن يستعمل أداة التّخيير«أو».

و الأمس في(2)و(3)لا تعني اليوم الّذي يسبق يومه الّذي فيه و هو يوم الاستصراخ؛إذ لا يعقل أن يهمّ موسى بارتكاب قتل إثر قتل في يومين متتاليين، و فرائصه لا زالت ترتعد خوفا من جرّاء قتله للرّجل القبطيّ.

و كذا الآية(4)فإنّ الّذين تمنّوا مكانة قارون لم يتمنّوها بين ليلة و ضحاها،بل كان التّمنّي قبل الخسف

ص: 241

بمدّة متطاولة.

3-و يقابل الأمس الغد،و قد جاء(غدا)أربع مرّات أيضا في القرآن،في أربع آيات مكّيّة كما هو الحال في الأمس و مرّة واحدة(لغد)في سورة الحشر المدنيّة فكأنّ التّناظر في الزّمان الماضي المتمثّل بلفظ(بالامس) و الزّمان المستقبل المتمثّل بلفظ(غدا)ينبئ عن ظهور الإسلام و نشوئه في مكّة المكرّمة بواسطة النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تجديده و إحيائه في مكّة أيضا في الغد القريب،كما تفيد الأخبار و الرّوايات الواردة بشأن المهديّ عليه السّلام في كتب الفريقين.

4-إلاّ أنّ بين اللّفظين رغم اشتراكهما في الظّرفيّة الزّمانيّة فروقا:

1-إنّ(غدا)جاء أربع مرّات نكرة،و كذا(أمس)إلاّ أنّه جاء معرّفا باللاّم و مجرورا بالباء.

2-إنّ(غدا)من مادّة«غ د و»الّتي لها أفعال و مشتقّات أخرى،بخلاف(أمس)كما سبق.و ربّما يستأنس بذلك للقول بأنّ الأمس مأخوذ من«أمسى».

3-إنّ(غدا)جاء أيضا بلفظ(بالغداة)و(غدوّا)، و ليس للفظ(أمس)كذلك.

4-إنّ(أمس)جاء دائما تعبيرا عن الزّمان الماضي دون اليوم الماضي بالذّات،في حين أنّ(غدا)جاء أربع مرّات أيضا مستقبلا للزّمان البعيد مثل(أمس)تماما، و مرّة واحدة لليوم المعيّن،و هو قول إخوة يوسف لأبيهم:

أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يوسف:12.

5-إنّ(أمس)تعبير دائما عن الزّمان الماضي في هذه الدّنيا،في حين أنّ(غدا)جاء ثلاث مرّات في الدّنيا و مرّتين في الآخرة:

1- أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ يوسف:12

2- وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ الكهف:23،24

3- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً

لقمان:34

4- وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ الحشر:18

5- سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ

القمر:26

ص: 242

أ م ل

اشارة

لفظان مرّتان،في سورتين مكّيّتين

الأمل 1:1\أملا 1:1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الأمل:الرّجاء،تقول:أملته آمله،و أمّلته أؤمّله تأميلا.

و التّأمّل:التّثبّت في النّظر.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأميل:حبل من الرّمل معتزل على تقدير «فعيل».قال:

*كالبرق يجتاز أميلا أعرفا*

قال بعضهم:أراد:الأميل،فخفّف.(8:347)

الأصمعيّ: الأميل:حبل من الرّمل يكون عرضه نحوا من ميل.(الأزهريّ 15:395)

في المثل:«قد كان بين الأميلين محلّ»،يراد قد كان في الأرض متّسع.(ابن فارس 1:140)

اللّحيانيّ: و يقال أمل خيره يأمله أملا،و ما أطول إملته من الأمل،أي أمله،و إنّه لطويل الإملة،أي التّأميل،مثل الجلسة و الرّكبة.(ابن منظور 11:27)

ابن الأعرابيّ: الأملة:أعوان الرّجل،واحدهم:

آمل.(الأزهريّ 15:395)

السّجستانيّ: قال لبيد:و طفل لطفلكم يؤمل...

و يؤمل من أملته مخفّفة،و يقال:هو مأمول.و من قال:

أمّلته؛فشدّد الميم،قال:هو مؤمّل.(الأضداد:75)

ابن دريد :و الأميل،و الجمع:أمل،و هو كثيب من الرّمل يستطيل مسيرة أيّام و عرضه ميل.(3:267)

القاليّ: و الأمل جمع أميل،و الأميل:الرّمل المستطيل،يكون ميلا،و أكثر من ذلك.(2:34)

الأزهريّ: [و بعد نقل قول الخليل قال:]

و ليس قول من زعم أنّهم أرادوا ب«الأميل»من الرّمل:الأميل؛فخفّف بشيء و لا نعلم في كلامهم ما يشبه هذا.

و يقال:ما أطول إملته من الأمل.(15:395)

الصّاحب: الأمل:الرّجاء،أمّلته أؤمّله تأميلا،

ص: 243

و أمل يأمل أملا.

و التّأمّل:التّثبّت في النّظر.

و الثّامن من الخيل في الحلبة:المؤمّل.

و الأميل:جبل من الرّمل معتزل عن معظم الرّمل.(10:358)

ابن جنّيّ: و الإمل:الرّجاء.(ابن منظور 11:27)

الجوهريّ: الأمل:الرّجاء،يقال:أمل خيره يأمله أملا،و كذلك التّأميل و قولهم:ما أطول إملته،أي أمله، و هو كالجلسة و الرّكبة.

و تأمّلت الشّيء،أي نظرت إليه مستبينا له.

و الأميل على«فعيل»:حبل من الرّمل يكون عرضه نحوا من ميل،و اسم موضع أيضا.(4:1627)

ابن فارس: الهمزة و الميم و اللاّم أصلان،الأوّل:

التّثبّت و الانتظار،و الثّاني:الحبل من الرّمل.(1:140)

أبو هلال :الفرق بين النّظر و التّأمّل،أنّ النّظر هو ما ذكرناه[طلب معرفته من جهته و غير جهته]و التّأمّل هو النّظر المؤمّل به معرفة ما يطلب،و لا يكون إلاّ في طول مدّة:فكلّ تأمّل نظر و ليس كلّ نظر تأمّلا.(58)

ابن سيدة :الأمل:الرّجاء،و أكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.الجمع:آمال،و أمله يأمله أملا و أملا و أمّله:رجاه و ترقّبه.(الإفصاح 1:156)

نحوه محمّد إسماعيل إبراهيم.(46)

الأميل:حبل من الرّمل،يكون عرضه نحوا من ميل.

و قيل:يكون عرضه ميلا و طوله مسيرة يوم،و قيل:

مسيرة يومين،و قيل:عرضه نصف يوم.

و قيل:الأميل،ما ارتفع من الرّمل من غير أن يحدّ.(ابن منظور 11:27)

الزّمخشريّ: فلان بحر المؤمّل،بدر المتأمّل.

(أساس البلاغة:9)

ابن منظور :الأمل و الأمل و الإمل:الرّجاء، و الجمع:آمال.(11:27)

الفيّوميّ: أملته أملا،من باب طلب:ترقّبته.

و أكثر ما يستعمل«الأمل»فيما يستبعد حصوله.

و من عزم على السّفر إلى بلد بعيد يقول:أملت الوصول،و لا يقول:طمعت،إلاّ إذا قرب منها؛فإنّ الطّمع لا يكون إلاّ فيما قرب حصوله،و الرّجاء بين الأمل و الطّمع،فإنّ الرّاجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله؛و لهذا يستعمل بمعنى الخوف،فإذا قوي الخوف استعمل استعمال الأمل،و إلاّ استعمل بمعنى الطّمع.

فأنا آمل و هو مأمول على«فاعل و مفعول».

و أمّلته تأميلا مبالغة و تكثيرا،و هو أكثر من استعمال المخفّف.

و يقال لما في القلب ممّا ينال من الخير:«أمل»و من الخوف«إيجاس»و لما لا يكون لصاحبه و لا عليه«خطر» و من الشّرّ و ما لا خير فيه«وسواس».

و تأمّلت الشّيء،إذا تدبّرته،و هو إعادتك النّظر فيه مرّة بعد أخرى حتّى تعرفه.(1:23)

الفيروزآباديّ:الأمل كجبل و نجم و شبر:

الرّجاء.جمعه:آمال.

أمله أملا،و أمّله:رجاه.

و ما أطول إملته بالكسر:أمله أو تأميله.

ص: 244

و تأمّل:تلبّث في الأمر و النّظر.

و كأمير:الحبل من الرّمل مسيرة يوم طولا و ميل عرضا،أو المرتفع منه.الجمع:أمل.

و كمعظّم:الثّامن من خيل الحلبة.

و الأملة محرّكة:أعوان الرّجل.(3:341)

الطّريحيّ:الأمل بالتّحريك:الرّجاء،و هو ضدّ اليأس.و منه قوله تعالى: وَ خَيْرٌ أَمَلاً الكهف:46.

و روي أنّ أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر،فبلغ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك،فقال:أ لا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر،إنّ أسامة لطويل الأمل.[إلى أن قال:]و أمل يأمل من باب طلب.

و تأمّل الشّيء:نظر فيه ليعلم عاقبته.(5:310)

الجزائريّ:[ذكر مثل الفيّوميّ و أضاف:]

و قال بعضهم:الأمل يكون في الممكن و المستحيل، و الرّجاء يختصّ بالممكن.

قلت:الصّحيح أنّ هذا الفرق بين التّمنّي و الرّجاء، و أمّا الأمل فلا يكون في المستحيل.(29)

مجمع اللّغة :أمل كنصر يأمل أملا:رجا،و الأمل:

الرّجاء.(1:52)

المصطفويّ: المعنى الحقيقيّ لهذه المادّة:الرّجاء البعيد و التّرقّب لأمر بعيد حصوله،و يقال له بالفارسيّة:

«آرزو»،و الرّجاء يقال له:«أميد».

و أمّا التّأمّل فهو التّظاهر بالأمل و ليس بآمل حقيقة بل يتكلّف و يتظاهر به حتّى يحصل له الرّجاء و الأمل و الطّلب،فالتّأمّل غير التّدبّر و التّفكّر و التّحقيق،و كلّ منها له خصوصيّة.

و أمّا الأميل فكأنّه بمناسبة انتظاره و أمله أن يكون معظم الرّمل.(1:137)

النّصوص التّفسيريّة

الامل

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. الحجر:3

الميبديّ:و يشغلهم الأمانيّ عن الإيمان و التّكثير من الطّاعات و التّزوّد للمعاد.(5:291)

الزّمخشريّ: و يشغلهم أملهم و توقّعهم لطول الأعمار[إلى أن قال:]

و فيه تنبيه على أنّ إيثار التّلذّذ و التّنعّم و ما يؤدّي إليه طول الأمل،و هذه هجّيري أكثر النّاس ليس من أخلاق المؤمنين.(2:386)

الطّبرسيّ: أي و تشغلهم آمالهم الكاذبة عن اتّباع النّبيّ و القرآن.(3:329)

القرطبيّ: حقيقة الأمل الحرص على الدّنيا و الانكباب عليهم و الحبّ لها و الإعراض عن الآخرة.

(10:3)

النّيسابوريّ: يشغلهم الرّجاء عن الإيمان و الطّاعة.(14:7)

الطّريحيّ: و السّبب في طول الأمل كما قيل:حبّ الدّنيا،فإنّ الإنسان إذا أنس بها و بلذّاتها ثقل عليه مفارقتها و أحبّ دوامها،فلا يفتكر بالموت الّذي هو سبب مفارقتها،فإنّ من أحبّ شيئا كره الفكر فيما يزيله و يبطله،فلا زال يمنّي نفسه البقاء في الدّنيا،و يقدّر حصول

ص: 245

ما يحتاج إليه من أهل و مال و أدوات؛فيصير فكره مستغرقا في ذلك،فلا يخطر الموت بخاطره.

و إن خطر بباله التّوبة و الإقبال على الأعمال الأخرويّة أخّر ذلك من يوم إلى يوم و من شهر إلى شهر و من سنة إلى سنة،فيقول:إلى أن أكتهل و يزول سنّ الشّباب عنّي،فإذا اكتهل قال:إلى أن أصير شيخا،فإذا شاخ قال:إلى أن أتمّم عمارة هذه الدّار و أزوّج ولدي، و إلى أن أرجع من هذا السّفر و هكذا يؤخّر التّوبة شهرا بعد شهر،و سنة بعد سنة.

هكذا كلّ ما فرغ من شغل عرض له شغل آخر بل أشغال،حتّى يختطفه الموت،و هو غافل غير مستعدّ، مستغرق القلب في أمور الدّنيا،فتطول في الآخرة حسرته فتكثر ندامته،و ذلك هو الخسران المبين.

(5:310)

الآلوسيّ: و يشغلهم التّوقّع لطول الأعمار و بلوغ الأوطار و استقامة الأحوال،و أن لا يلقوا إلاّ خيرا في العاقبة و المآل عن الإيمان و الطّاعة،أو عن التّفكّر فيما يصيرون إليه.(14:9)

القاسميّ: أي يشغلهم عن التّوبة و التّذكّر،أمل استقامة الحال،و أن لا يلقوا إلاّ خيرا في المآل.

(10:3747)

المراغيّ: تلهيهم الآمال عن الآجال،فيقول الرّجل منهم:غدا سأنال ثروة عظيمة،و أحظى بما أشتهي،و يعلو ذكري،و يكثر ولدي،و أبني القصور، و أكثر الدّور،و أقهر الأعداء و أفاخر الأنداد،إلى نحو ذلك ممّا يغرق فيه من بحار الأمانيّ و الآمال و طلب المحال.

(14:5)

املا

وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً .الكهف:46

الفرّاء: يقول:خير ما يؤمل،و الأمل للعمل الصّالح خير من الأمل للعمل السّيّئ.(2:146)

ابن قتيبة :أي خير ما تؤمّلون.(268)

الطّوسيّ: و الأمل:الرّجاء،و معنى(خير املا)أنّ الرّجاء للعمل الصّالح،و الأمل له خير من الأمل للعمل الطّالح.(7:52)

الطّبرسيّ: أي أفضل ثوابا و أصدق أملا من المال و البنين و سائر زهرات الدّنيا،فإنّ من الآمال كواذب.

و هذا أمل لا يكذب؛لأنّ من عمل الطّاعة وجد ما يعمله عليها من الثّواب.(3:473)

أبو حيّان: أي و خير رجاء،لأنّ صاحبها يأمل في الدّنيا ثواب اللّه.(6:133)

البروسويّ: رجاء حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كلّ ما كان يؤمّله في الدّنيا.و أمّا ما مرّ من المال و البنين فليس لصاحبه أمل يناله.(5:251)

العامليّ: هو بمعنى الرّجاء،و قد شاع استعماله في التّوقّعات و التّمنّيات الدّنيويّة،و هو وارد في سورة الحجر و الكهف،و يأتي في الأولى منها ما يدلّ على أنّه من صفات أعداء الأئمّة و أنّه من يكون فيه هذه ليس بكامل في الدّين مع بعض المؤيّدات.(78)

ص: 246

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة هو الرّجاء؛يقال:أمل خيره أملا.و مثله:أمّله يؤمّله تأميلا.و الأملة:أعوان الرّجل؛لأنّه يأمل خيرهم.و يتفرّع منه قولهم:تأمّلت الشّيء،بمعنى نظرت إليه متثبّتا فيه،أي نظرت إليه طويلا؛لأنّ الأمل يوصف بالتّرقّب الطّويل؛يقال:

ما أطول إملته!أي أمله،كما يوصف العدو بالسّرعة؛ يقال:ما أسرع عدوه!أو أنّ النّظر الطّويل اشتقّ من الأميل،و هو كثيب من الرّمل مستطيل،عرضه ميل أو أكثر،و قيل:مسير نصف يوم،و طوله مسير يوم أو يومين،و قيل:أيّام.و سمّي بهذا الاسم،لأنّ قاطعه يأمل الوصول إلى غايته بعد طول مسير،فهو أميل بمعنى مأمول.و كأنّه أصل المادّة و سائر الفروع منه،و كأنّه مصدر و سائر المشتقّات ترجع إليه،لو لا أنّ«فعيلا» لا يستعمل مصدرا للفعل المتعدّي.

2-و الأمل و الرّجاء واحد،إلاّ أنّ الأمل يستعمل- كما قيل-فيما يستبعد حصوله؛تقول:آمل أن أموت عند ما يشيب أحفادي؛و لذا يقال عند النّظر مليّا في أمر ما:تأمّل فلان المسألة.

و قيل:إنّ الأمل يكون في الممكن و المستحيل؛تقول:

يأمل الإنسان أن يطير في الهواء.و أمّا الرّجاء فلا يكون إلاّ في الممكن.

الاستعمال القرآنيّ

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر:2،3

اَلْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً الكهف:46

1-إنّ(الامل)في الآية الأولى معرّف باللاّم و هي العهد،أي الأمل المعهود في كلّ إنسان؛حيث له آمال دنيويّة،و هي الباعثة على الشّرّ و الإلهاء عن اللّه،فالمراد به«أمل الدّنيا»و هو محدود و معلوم؛فلهذا جاء معرّفا بخلاف«أمل الآخرة»فلا حدّ له؛فجاء نكرة.

2-و عليه فإنّ«أمل الدّنيا»يشغل عن اللّه،كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان:اتّباع الهوى و طول الأمل».و أمّا«أمل الآخرة»فهو داعية إلى اللّه و إلى الصّالحات و الخيرات.

3-و لهذا تقابلت اَلْباقِياتُ الصّالِحاتُ الّتي هي زينة الحياة الآخرة،و فيها يرجى الثّواب و يؤمل.

و اَلْمالُ وَ الْبَنُونَ اللّذان هما زينة الحياة الدّنيا.

4-فالإنسان دائما رهين أملين مرتاب فيهما:أمل دنيويّ عاجل،و أمل أخرويّ آجل،فطوبى لمن رجّح الثّاني على الأوّل.

5-و في قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ إشعار و دلالة على أنّ الإفراط في الأكل و التّمتّع بلذّات الحياة الدّنيا هما الباعث على هذا الأمل الطّويل،و أنّ الإعراض عنهما يزيح هذا الأمل و يخلو الإنسان مع ربّه،فلا يلهيه الأمل بل يسعى للعمل.

6-و جاء(املا)في الثّانية في سياق اليسار و السّعة و مساوقة لكلمة(ثوابا)،و كلاهما تمييز لكلمة(خير).

ص: 247

و التّمييز نكرة يدلّ على عظمة الثّواب و الأمل،أي ثواب و أمل لا يبلغ منتهاهما.فالباقيات الصّالحات خير عند ربّك من حيث الثّواب و من حيث الأمل،فالمراد به أمل الآخرة.

7-و الوجه في هذا الإرداف هو أنّ الثّواب ما يثاب على العمل،و الأمل ما يؤمل منه.و هذا السّياق أبلغ في البعث و التّرغيب في العمل و الأمل،كما أنّ تكرار(خير) يؤكّد هذا البعث.

8-ثمّ لاحظ التّقابل في ذيل الآيتين بين وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و بين خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً، فالأولى الهاء و إيئاس و وعيد،و الثّانية وعد و أمل و رجاء.

ص: 248

أ م م

اشارة

22 لفظا،119 مرّة:77 مكّيّة،42 مدنيّة

في 42 سورة:31 مكّيّة،11 مدنيّة

آمّين 1:-1\أمّهاتكم 7:2-5\إمام 2:2

أمّ 9:7-2\أمّة 49:34-15\إمامهم 1:1

أمّه 10:5-5\أمّتكم 2:2\أئمّة 5:4-1

أمّها 1:1\أمم 10:9-1\الأمّيّ 2:2

أمّك 3:3\الأمم 1:1\أمّيون 1:-1

أمّيّ 1:-1\أمما 2:1-1\الأمّيّين 3:-3

أمّهات 1:-1\أمامه 1:1\---

أمّهاتهم 3:3\إماما 4:2-2\---

النّصوص اللّغويّة

الخليل :اعلم أنّ كلّ شيء يضمّ إليه سائر ما يليه فإنّ العرب تسمّي ذلك الشّيء أمّا،فمن ذلك:أمّ الرّأس و هو الدّماغ،و رجل مأموم،و الشّجّة الآمّة:الّتي تبلغ أمّ الدّماغ.

و الأميم:المأموم،و الأميمة:الحجارة الّتي يشدخ بها الرّأس.[ثمّ استشهد بشعر]

و قولهم:«لا أمّ لك»مدح،و هو في موضع ذمّ.

و أمّ القرى:مكّة،و كلّ مدينة هي أمّ ما حولها من القرى.

و أمّ القرآن:كلّ آية محكمة من آيات الشّرائع و الفرائض و الأحكام،و في الحديث:«إنّ أمّ الكتاب هي فاتحة الكتاب»لأنّها هي المتقدّمة أمام كلّ سورة،في جميع الصّلوات.

و قوله تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ الزّخرف:4،أي في اللّوح المحفوظ.

و أمّ الرّمح:لواؤه،و ما لفّ عليه.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمّة:كلّ قوم في دينهم من أمّتهم،و كذلك تفسير هذه الآية: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ الزّخرف:23،و كذلك قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الأنبياء:92،أي دين واحد.

ص: 249

و كلّ من كان على دين واحد مخالفا لسائر الأديان فهو أمّة على حدة،و كان إبراهيم عليه السّلام أمّة.

و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو أمّة على حدة؛و ذلك أنّه تبرّأ من أديان المشركين،و آمن باللّه قبل مبعث النّبيّ عليه السّلام و كان لا يدري كيف الدّين،و كان يقول:اللّهم إنّيّ أعبدك و أبرأ إليك من كلّ ما عبد دونك،و لا أعلم الّذي يرضيك عنّي فأفعله،حتّى مات على ذلك».

و كلّ قوم نسبوا إلى نبيّ و أضيفوا إليه فهم أمّة.و قد يجيء في بعض الكلام أنّ أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله هم المسلمون خاصّة.و جاء في بعض الحديث:أنّ أمّته من أرسل إليه ممّن آمن به أو كفر به،فهم أمّته في اسم الأمّة لا في الملّة.

و كلّ جيل من النّاس هم أمّة على حدة.

و كلّ جنس من السّباع أمّة،كما جاء في الحديث:

«لو لا أنّ الكلاب أمّة لأمرت بقتلها،فاقتلوا منها كلّ أسود بهيم»،و قول النّابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

و هل يأثمن ذو أمّة و هو طائع

من رفع الألف جعله اقتداء بسنّة ملكه،و من جعل «إمّة»مكسورة الألف،جعله دينا من الائتمام،كقولك:

ائتمّ بفلان إمّة.

و العرب تقول:إنّ بني فلان لطوال الأمم،يعني القامة و الجسم،كأنّهم يتوهّمون بذلك طول الأمم تشبيها.[ثمّ استشهد بشعر]

و الائتمام:مصدر الإمّة،ائتمّ بالإمام إمّة،و فلان أحقّ بإمّة هذا المسجد،أي بإمامته و إماميّته.و كلّ من اقتدى به،و قدّم في الأمور فهو إمام،و النّبيّ عليه السّلام إمام الأمّة،و الخليفة إمام الرّعيّة،و القرآن إمام المسلمين، و المصحف الّذي يوضع في المساجد يسمّى الإمام.

و الإمام:إمام الغلام،و هو ما يتعلّم كلّ يوم،و الجمع:

الأئمّة على زنة«الأعمّة»،إلاّ أنّ من العرب من يطرح الهمزة و يكسر الياء على طلب الهمزة،و منهم من يخفّف يومئذ؛فأمّا في الأئمّة فالتّخفيف قبيح.

و الإمام:الطّريق،قال تعالى: وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الحجر:79.

و الأمام:بمنزلة القدّام،و فلان يؤمّ القوم،أي يقدمهم.

و تقول:صدرك أمامك،و تقول:ترفعه،لأنّك جعلته اسما.و تقول:أخوك أمامك،تنصب،لأنّ أمامك صفة، و هو موضع للأخ،يعنى به ما بين يديك من القرار و الأرض.[ثمّ استشهد بشعر]

و الإمّة:النّعمة.

و تقول:أين أمّتك يا فلان،أي أين تؤمّ.

و الأمم:الشّيء اليسير الهيّن الحقير،تقول:لقد فعلت شيئا ما هو بأمم و دون.

و الأمم:الشّيء القريب.[ثمّ استشهد بشعر]

و أمّ فلان أمرا،أي قصد.و الأمّ:القصد،فعلا و اسما.

(8:426)

الأخفش: الأمّة:في اللّفظ واحد،و في المعنى جمع.(ابن منظور 12:28)

ص: 250

الكسائيّ: أمّة الرّجل:بدنه و وجهه.

(ابن فارس 1:28)

الأمامة:الثّمانون من الإبل.(ابن فارس 1:31)

اللّيث: الأمّ،هي الوالدة،و الجمع:الأمّهات.

يقال:تأمّم فلان أمّا،أي اتّخذها لنفسه أمّا.

و تفسير«الأمّ»في كلّ معانيها:أمّة،لأنّ تأسيسه من حرفين صحيحين و الهاء فيه أصليّة،و لكنّ العرب حذفت تلك الهاء إذا أمنوا اللّبس.

و يقول بعضهم في تصغير«أمّ»:أميمة.و الصّواب:

أميهة،تردّ إلى أصل تأسيسها.و من قال:أميمة،صغّرها على لفظها،و هم الّذين يقولون:أمّات.[ثمّ استشهد بشعر]

من العرب من يحذف ألف«أمّ»كقول عديّ بن زيد: *أيّها العائب عندي مّ زيد*

(الأزهريّ 15:630)

ابن شميّل: الأمّ لكلّ شيء،هي المجمع له و المضمّ.(الأزهريّ 15:633)

الشّافعيّ: العرب تقول للرّجل يلي طعام القوم و خدمتهم:هو أمّهم.(ابن منظور 12:31)

أبو عمرو الشّيبانيّ: العرب تقول للشّيخ إذا كان باقي القوّة:فلان بإمّة،راجع إلى الخير و النّعمة،لأنّ بقاء قوّته من أعظم النّعمة.و أصل هذا الباب كلّه من «القصد»،يقال:أممت إليه،إذا قصدته؛فمعنى الأمّة في الدّين،أنّ مقصدهم مقصد واحد.

و معنى الإمّة في النّعمة،إنّما هو الشّيء الّذي يقصده الخلق و يطلبونه.

و معنى الأمّة في الرّجل:المنفرد الّذي لا نظير له،أنّ قصده منفرد من قصد سائر النّاس.

و معنى الأمّة:القامة،سائر مقصد الجسد.

فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت، أي قصدت.

و يقال:إمامنا هذا حسن الإمّة،أي حسن القيام بإمامته إذا صلّى بنا.(الأزهريّ 15:635)

المؤامّ،بتشديد الميم:المقارب،أخذ من الأمم، و هو القرب.و يقال:هذا أمر مؤامّ،مثل مضارّ،و يقال للشّيء إذا كان مقاربا:هو مؤامّ.

و تأمّمت،أي اتّخذت أمّا.(الجوهريّ 5:1866)

رجل مئمّ،أي يؤمّ البلاد بغير دليل.

(ابن فارس 1:30)

قطرب: الأمّيّة:الغفلة و الجهالة،فالأمّيّ منه؛و ذلك هو قلّة المعرفة،و منه قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ البقرة:78.

(الرّاغب:23)

أبو عبيدة :الإمام:كلّ ما ائتممت و اهتديت به.(1:354)

نحوه ابن قتيبة.(تأويل مشكل القرآن:459)

و الأمّة في اللّغة:النّعمة و الخير.[ثمّ استشهد بشعر]

(الزّجّاج 1:283)

ما كنت أمّا و لقد أممت أمومة.و فلانة تؤمّ فلانا،أي تغذوه،أي تكون له أمّا تغذوه و تربّيه.[ثمّ استشهد بشعر]

و تقول:أمّ و أمّة بالهاء.(ابن فارس 1:22)

ص: 251

الأمم:القريب.(أبو حاتم،الأضداد:85)

الإمّة:لغة في الأمّة،و هي الطّريقة و الدّين.(القرطبيّ 16:74)

مثله أبو زيد.(الجوهريّ 5:1864)

أبو زيد: يقال:إنّه لحسن أمّة الوجه،يعنون سنّته و صورته،و إنّه لقبيح أمّة الوجه.(الأزهريّ 15:633)

هو في إمّة من العيش،و آمّة،أي خصب.

(الأزهريّ 15:635)

الأمّي من الرّجال:العييّ،القليل الكلام،الجافي الجلف.(الأزهريّ 15:636)

أمر أمم:للعظيم و الصّغير.(أبو حاتم،الأضداد:84)

يقال:فلان لا إمّة له،أي لا دين له.و يقال أيضا:

ليس له أمّة،بالضّمّ.(إصلاح المنطق:116)

الأصمعيّ: الأمم:القصد من الأمور.

(أبو حاتم،الأضداد:84)

«أمامها لقيت أمة عملها»،أي حيثما توجّهت وجدت عملا.و يقولون:«أمامك ترى أثرك»،أي ترى ما قدّمت.(ابن فارس 1:29)

إنّ فلانا لحليف اللّسان طويل الأمّة،أي طويل القامة.(القاليّ 2:278)

الترّ:الخيط الّذي يمدّ على البناء فيبنى عليه،و هو عندهم معرّب،و اسمه بالعربيّة:الإمام.[ثمّ استشهد بشعر](ابن دريد 1:40)

اللّحيانيّ: يقال:أمّوا و يمّوا،بمعنى واحد.(الأزهريّ 15:641)

ما أحسن أمّته،أي خلقه.(ابن فارس 1:28)

الإمّة:الهيئة،و الإمّة أيضا:الحال و الشّأن.

(ابن منظور 12:24)

أبو عبيد: التّيمّم:التّعمّد للشّيء،و يقال منه:

أمّمت الشّيء أؤمّه أمّا،و تأمّمته و تيمّمته،و معناه كلّه تعمّدته،و قصدت له.(1:275)

الآمّة،و يقال لها:المأمومة،و هي الّتي تبلغ أمّ الرّأس،يعني الدّماغ.(1:411)

زعم بعض العلماء أنّ قولهم:«لا أبا لك،و لا أب لك» مدح،و أنّ قولهم:«لا أمّ لك»ذمّ،و قد وجدنا قولهم:

«لا أمّ لك»قد وضع موضع المدح،قال كعب الغنويّ:

هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا

و ما ذا يؤدّي اللّيل حين يئوب

(الأزهريّ 15:41)

الأمّيّ في اللّغة:المنسوب إلى ما عليه جبلّة النّاس لا يكتب،فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه.

(ابن فارس 1:28)

مثله الأزهريّ.(15:636)

ابن الأعرابيّ: الأمّ:امرأة الرّجل المسنّة.و الأمّ:

الوالدة من كلّ الحيوان.(الأزهريّ 15:630)

يقال للرّجل العالم:أمّة.و الأمّة:الجماعة.و الأمّة:

الرّجل الجامع للخير.و الأمّة:الطّاعة.

و أمّة الرّجل:وجهه و قامته.و أمّة الرّجل:قومه.

و الإمّة،بالكسر:العيش الرّخيّ.

(الأزهريّ 15:634)

الإمّة:غضارة العيش و النّعمة.

(ابن منظور 12:24)

ص: 252

في امرأة كانت لها عمّة تؤمّها،أي تكون لها كالأمّ.

و تأمّها و استأمّها و تأمّمها:اتّخذها أمّا.

(ابن منظور 12:29)

الأمّة،بالفتح:الشّجّة،أي مقصورا.و الإمّة،بالكسر:

النّعمة.و الأمّة،بالضّمّ:العامّة،و الجمع فيها جميعا:أمم، لا غير.(الفيّوميّ 1:23)

الأمّة:الطّاعة،و الرّجل العالم.(ابن فارس 1:28)

أمّ مرزم:الشّمال.(ابن فارس 1:23)

ابن السّكّيت: الآمّة:و هي أشدّ الشّجاع،فربّما نقشت و ربّما لم تنقش،و صاحبها يصعق كصوت الرّعد و كرغاء البعير،و لا يطيق البروز في الشّمس،و هي الّتي تبلغ أمّ الرّأس،و هي أمّ الدّماغ.و بعض العرب يقول:

مأمومة.(97)

الأمّ:القصد،يقال:أممته أؤمّه أمّا،إذا قصدت له، و قد أممته أمّا،إذا شججته أمّة.

و الأمم:بين القرب و البعد،و يقال:ظلمته ظلما أمما.(إصلاح المنطق:61)

الأمم:بين القريب و البعيد،و هو من المقاربة.

و الأمم:الشّيء اليسير،يقال:ما سألت إلاّ أمما،و لو ظلمت ظلما أمما.(الجوهريّ 5:1866)

أبو حاتم: بعير مأموم،إذا أخرجت من ظهره عظام فذهبت قمعته.(ابن فارس 1:23)

شمر: في الحديث:«اتّقوا الخمر فإنّها أمّ الخبائث»، أمّ الخبائث:الّتي تجمع كلّ خبيث.

و الفصيح في أعراب قيس،إذا قيل:أمّ الشّرّ،فهي تجمع كل شرّ على وجه الأرض،و إذا قيل:أمّ الخير، فهي تجمع كلّ خير.(الأزهريّ 15:632)

آمة،بتخفيف الميم:عيب.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 15:635)

أبو الهيثم: الأمّة:الحين.و الأمّة:الدّين.و الأمّة:

المعلّم.(الأزهريّ 15:634)

[و قال بعد قول أبي عبيد الّذي نقلناه عن الأزهريّ:]

و أين هذا ممّا ذهب إليه أبو عبيد،و إنّما معنى هذا كقولهم:ويح أمّه،ويل أمّه،و هوت أمّه،و الويل لها.

و ليس في هذا من المدح ما ذهب إليه،و ليس يشبه هذا قولهم:«لا أمّ لك»،لأنّ قوله:«لا أمّ لك»،في مذهب:

ليس لك أمّ حرّة،و هذا السّبّ الصّريح؛و ذلك أنّ بني الإماء عند العرب مذمومون لا يلحقون ببني الحرائر.

و لا يقول الرّجل لصاحبه:«لا أمّ لك»إلاّ في غضبه عليه، مقصّرا به شاتما له،و أمّا إذا قال:«لا أبا لك»،فلم يترك من الشّتيمة شيئا.(الأزهريّ 15:641)

ابن أبي اليمان :الأمّ:القصد،يقال أممته أؤمّه أمّا، إذا قصدته.(632)

الحربيّ: في حديث كعب:«ثمّ يؤمر بأمّ الباب على أهل النّار فلا يخرج منهم غمّ أبدا»،أظنّه يقصد إليه فيسدّ عليهم،و إلاّ فلا أعرف وجهه.(الهرويّ 1:92)

المبرّد: أميمها:يريد المأموم بها،يقال:أميم و مأموم،كقولك:قتيل و مقتول،و جريح و مجروح، و يقال للشّجّة الّتي قد وصلت إلى أمّ الدّماغ.و أمّ الدّماغ:جليدة رقيقة تحيط بالدّماغ،فإذا وصل إلى تلك؛فالشّجّة آمّة و مأمومة.(1:65)

ص: 253

إذا خرقت العظم و بلغت أمّ الدّماغ-و هي جليدة قد ألبست الدّماغ-فهي الآمّة،و بعض العرب يسمّيها المأمومة.و اشتقاق ذلك إفضاؤها إلى أمّ الدّماغ، و لا غاية بعدها.(1:285)

الزّجّاج: الأمّة في اللّغة أشياء،فمنها:أنّ الأمّة:

الدّين،و هو هذا.و الأمّة:القامة،يقال:فلان حسن الأمّة، أي حسن القامة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمّة:القرن من النّاس،يقولون:قد مضت أمم،أي قرون.و الأمّة:الرّجل الّذي لا نظير له،و منه قوله عزّ و جلّ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً النّحل:

120.

معنى الأمّة:القامة؛سائر مقصد الجسد.فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت،أي قصدت.

و يقال:إمامنا هذا حسن الأمّة،أي بإمامته بنا في صلاته، و يحسن ذلك.(1:282)

ابن كيسان :يقال:أمّ،و هي الأصل،و منهم من يقول:أمّة،و منهم من يقول:أمّهة.[ثمّ استشهد بشعر]

فأمّا الجمع فأكثر العرب على:أمّهات،و منهم من يقول:أمّات.(الأزهريّ 15:631)

ابن دريد :أمّ يؤمّ أمّا،إذا قصد للشّيء.

و أمّ رأسه بالعصا يؤمّه،إذا أصاب أمّ رأسه،و هي أمّ الدّماغ،و هي مجتمعة،فهو أميم و مأموم.و الشّجّة آمّة، يقال:أممت الرّجل،إذا شججته،و أممته،إذا نصلته.

و الأمة:الوليدة.

و الإمّة:النّعمة،يقال:كان بنو فلان في إمّة،أي في نعمة.

و الأمّة:العيب في الإنسان.

و الأمّ معروفة،و قد سمّت العرب في بعض اللّغات الأمّ«إمّا»،و للنّحويّين فيه كلام ليس هذا موضعه.

و أمّ الكتاب:سورة الحمد،لأنّه يبتدأ بها في كلّ صلاة.

و أمّ القرى:مكّة،سمّيت بذلك لأنّها توسّطت الأرض،زعموا،و اللّه أعلم.

و أمّ النّجوم المجرّة،هكذا جاءت في شعر ذي الرّمّة،لأنّها مجتمع النّجوم.

و أمّ الرّأس:الجلدة الّتي تجتمع الدّماغ.

و أمّ القوم:رئيسهم الّذي يجمع أمرهم.[ثمّ استشهد بشعر]

و سمّيت السّماء أمّ النّجوم،لأنّها تجمع النّجوم.

و قال قوم:يريد المجرّة.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمّة لها مواضع،فالأمّة:القرن من النّاس،من قوله: أُمَّةً وَسَطاً البقرة:143،و قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ النّحل:120،أي إماما.

و الأمّة:الإمام.و الأمّة:قامة الإنسان.و الأمّة:

الطّول،و الأمّة:الملّة: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الأنبياء:92.

و يقال:هذه أمّ مثوى فلان،إذا كانت صاحبة منزله الّذي ينزله.

و أمّ أوعال:هضبة معروفة.

و أمّ خنّور:الضّبع.(1:20)

يقال:يممت الرّجل،إذا قصدته،و سرت أمام الرّجل و أمامته و يمامته.(1:190)

ص: 254

يقال:إمض أمامي و يمامي،و يمامتي و أمامتي.

(3:427)

ابن الأنباريّ: الأميم:الّذي قد شجّ آمّه،و هي الشّجّة الّتي تهجم على أمّ الدّماغ.(109)

معنى قولهم:فلان يؤمّ،أي يتقدّمهم،أخذ من «الأمام»،يقال:فلان إمام القوم،إذا تقدّمهم،و كذلك قولهم:فلان إمام القوم،معناه:هو المتقدّم لهم.

و يكون الإمام رئيسا،كقولك:إمام المسلمين.

و يكون الكتاب،قال اللّه تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71.

و يكون الإمام الطّريق الواضح،قال اللّه تعالى:

وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الحجر:79.

و يكون الإمام المثال.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 15:640)

القفّال: الأمّة:القوم المجتمعون على الشّيء الواحد،يقتدي بعضهم ببعض،و هو مأخوذ من الائتمام.

(الفخر الرّازي 6:11)

الأزهريّ: يقال:ما أمّي و أمّه؟و ما شكلي و شكله؟ أي ما أمري و أمره لبعده منّي،فلم يتعرّض لي؟![ثمّ استشهد بشعر]

و قال ابن بزرج:قالوا:ما أمّك و أمّ ذات عرق؟أي أيّهات منك ذات عرق.

قال المبرّد:الهاء من حروف الزّيادة،و هي مزيدة في الأمّهات،و الأصل؛الأمّ،و هو القصد.

قلت:و هذا هو الصّواب،أنّ«الهاء»مزيدة في الأمّهات.[إلى أن قال:]

و أمّ الرّأس،هي الخريطة الّتي فيها الدّماغ.و أمّ النّجوم:المجرّة.و أمّ الطّريق:معظمها،إذا كان طريقا عظيما و حوله طرق صغار؛فالأعظم:أمّ الطّريق.

و أمّ اللّهيم،هي المنيّة.و أمّ خنّور:الخصب.و أمّ جابر:الخبز.و أمّ صبّار:الحرّة.و أمّ عبيد:هي الصّحراء.

و أمّ عطيّة:الرّحى.و أمّ شملة:الشّمس.و أمّ الخلفف:

الدّاهية.و أمّ ربيق:الحرب.و أمّ ليلى:الخمر،و ليلى:

النّشوة.

و أمّ درز:الدّنيا.و أمّ بحنة:النّخلة.و أمّ سرياح:

الجرادة.و أمّ عامر:المقبرة.و أمّ جابر:السّنبلة.و أمّ طلبة:

العقاب،و كذلك أمّ شعواء.

و أمّ حباب،هي الدّنيا،و هي أمّ وافرة.و أمّ زافرة:

البين.و أمّ سمحة:العنز.

و يقال للقدر:أمّ غياث،و أمّ عقبة،و أمّ بيضاء،و أمّ دسمة،و أمّ العيال.

و أمّ جرذان:النّخلة،و إذا سمّيت رجلا بأمّ جرذان، لم تصرفه.

و أمّ خبيص،و أمّ سويد،و أمّ عقاق،و أمّ عزمة،و أمّ طبيخة،و هي أمّ تسعين.

و أمّ حلس:الأتان.و أمّ عمرو،و أمّ عامر:الضّبع.

[و قال بعد نقل قول اللّيث:]

و قيل:أمّة محمّد،كلّ من أرسل إليه ممّن آمن به أو كفر.

و كلّ جيل من النّاس فهم أمّة على حدة.و قال غيره:كلّ جنس من الحيوان غير بني آدم أمّة على حدة،قال اللّه تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام:38، [و قال بعد نقل قول اللّيث:]

ص: 255

و كلّ جيل من النّاس فهم أمّة على حدة.و قال غيره:كلّ جنس من الحيوان غير بني آدم أمّة على حدة،قال اللّه تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام:38، [و قال بعد نقل قول اللّيث:]

قلت:الإمّة الهيئة في الإمامة و الحالة،يقال:فلان حسن الإمّة،أي حسن الهيئة إذا أمّ النّاس في الصّلاة.

و الإمام:كلّ من ائتمّ به قوم،كانوا على الصّراط المستقيم،أو كانوا ضالّين.

و النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إمام أمّته،و عليهم جميعا الائتمام بسنّته الّتي مضى عليها.و الخليفة:إمام رعيّته.و القرآن:إمام المسلمين.و إمام الغلام في المكتب:ما يتعلّمه كلّ يوم.

و يقال:صدرك أمامك.بالرّفع،إذا جعلته اسما.

و تقول:أخوك أمامك،بالنّصب،لأنّه صفة.

و يقال:أممته أمّا،و تيمّمته تيمّما،و تيمّمته يمامة.

و يقال:أممته و أمّمته،و تأمّمته و تيمّمته،بمعنى واحد، أي توخّيته و قصدته.

و التّيمّم بالصّعيد،مأخوذ من هذا.و صار«التّيمّم» عند عوامّ النّاس المسح بالتّراب،و الأصل فيه:القصد و التّوخّي.(15:630-641)

الجوهريّ: أمّ الشّيء:أصله.و مكّة:أمّ القرى.

و الأمّ:الوالدة،و الجمع:أمّات.و قال:

*فرجت الظّلام بأمّاتكا*

و أصل الأمّ:أمّهة،و لذلك تجمع على أمّهات.

و قال بعضهم:الأمّهات للنّاس،و الأمّات للبهائم.

و يقال:ما كنت أمّا،و لقد أممت أمومة.و تصغيرها:

أميمة،و أميمة اسم امرأة.

و يقال:«يا أمّة لا تفعلي و يا أبة افعل»،يجعلون علامة التّأنيث عوضا من ياء الإضافة،و تقف عليها بالهاء.

و الأمّ:العلم الّذي يتبعه الجيش.و أمّ التّنائف:

المفازة البعيدة.و أمّ مثواك:صاحبة منزلك.و أمّ البيض:

النّعامة.و أمّ الطّريق:معظمه،و يقال:هي الضّبع.و أمّ الدّماغ:الجلدة الّتي تجمع الدّماغ،و يقال:أيضا أمّ الرّأس.

و كلّ جنس من الحيوان أمّة.و في الحديث:«لو لا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها».

و الأمّة:القيامة.

و الأمّة:الطّريقة و الدّين،يقال:فلان لا أمّة له،أي لا دين له،و لا نحلة له.

و قولهم:«و يلمّه»يريدون ويل لأمّه،فحذف لكثرته في الكلام.

و يقال:«لا أمّ لك»،و هو ذمّ،و ربّما وضع موضع المدح.

و يقال:رجل أميم و مأموم،للّذي يهذي من أمّ رأسه.و الأميم:حجر يشدخ به الرّأس.و يقال للبعير العمد المتأكّل السّنام:مأموم.

و أممت القوم في الصّلاة إمامة،و ائتمّ به:اقتدى به.

و أمّت المرأة:صارت أمّا.

و الإمام:خشبة البنّاء الّتي يسوّى عليها البناء.

و الإمام:الصّقع من الأرض،و الطّريق،قال تعالى:

وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الحجر:79.

و الإمام:الّذي يقتدى به،و جمعه:أيمّة،و أصله:

آممة،على«فاعلة»،مثل إناء و آنية و إله و آلهة؛ فأدغمت الميم،فنقلت حركتها إلى ما قبلها،فلمّا

ص: 256

حرّكوها بالكسر جعلوها ياء.و قرئ (فقاتلوا ايمّة الكفر) .

و أمامة:اسم امرأة.

أخذت ذلك من أمم،أي من قرب،و داري أمم داره،أي مقابلتها.(5:1863)

ابن فارس: أمّا الهمزة و الميم فأصل واحد،يتفرّع منه أربعة أبواب و هي:الأصل،و المرجع،و الجماعة و الدّين.و هذه الأربعة متقاربة،و بعد ذلك أصول ثلاثة، و هي:القامة،و الحين،و القصد.

و تقول العرب:«لا أمّ له»في المدح و الذّمّ جميعا.

و تقول العرب للمرأة الّتي ينزل عليها:أمّ مثوى، و للرّجل:أبو مثوى.

و أمّ كلبة:الحمّى،ففيه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لزيد الخيل:

«أبرح فتى إن نجا من أمّ كلبة»،و كذلك أمّ ملدم.

و أمّ النّجوم:السّماء.و أمّ كفات:الأرض.و أمّ القراد:

في مؤخّر الرّسغ فوق الخفّ،و هي الّتي تجتمع فيها القردان كالسّكرّجة.

و أمّ الصّدى هي أمّ الدّماغ.و أمّ عويف:دويبّة و منقّطة إذا رأت الإنسان قامت على ذنبها و نشرت أجنحتها،يضرب بها المثل في الجبن.و أمّ حمارس:

دويبّة سوداء كثيرة القوائم.

و أمّ صبّور:الأمر الملتبس،و يقال:هي الهضبة الّتي ليس لها منفذ.و أمّ غيلان:شجرة كثيرة الشّوك.و أمّ حبين:دابّة.و أمّ وحش:المفازة،و كذلك أمّ الظّباء.

و أمّ عامر:المفازة.و أمّ كليب:شجيرة لها نور أصفر.

و أمّ عريط:العقرب.و أمّ النّدّامة:العجلة.

و أمّ قشعم،و أمّ خشّاف،و أمّ الرّقوب و أمّ الرّقم و أمّ أريق،و أمّ ربيق،و أمّ جندب،و أمّ البليل،و أمّ الرّبيس، و أمّ حبوكرى،و أمّ أدراص،و أمّ نآد،كلّها كنى الدّاهية.

و أمّ فروة:النّعجة.و أمّ سويد،و أمّ عزم:سافلة الإنسان.

و أمّ جابر:إياد.و أمّ شملة:الشّمال الباردة.و أمّ غرس:الرّكيّة.و أمّ خرمان:طريق.و أمّ الهشيمة:شجرة عظيمة من يابس الشّجر.[ثمّ استشهد بشعر]

الأمّ:الرّئيس،يقال:هو أمّهم.(1:21)

الهرويّ: في الحديث:«و إنّ يهود بني عوف أمّة من المؤمنين»،يريد أنّهم بالصّلح الّذي وقع بينهم و بين المؤمنين كأمّة من المؤمنين،كلمتهم و أيديهم واحدة.

و في الحديث:«في الآمّة ثلث الدّية»،و في حديث آخر:«في المأمومة»،و هما الشّجّة الّتي بلغت أمّ الرّأس، يقال:رجل مأموم و أميم.

و منه قوله: اَلنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الأعراف:157،و هو الّذي على خلقة الأمّة الأميّة.

و منه الحديث:«بعثت إلى أمّة أمّيّة»و قيل:هي الّتي على أصل ولادات أمّهاتها،لم تتعلّم الكتاب،فهو على جبلّته الّتي ولد عليها.نسب إلى ما ولدته عليه أمّه، معجزة له صلّى اللّه عليه و سلّم.

و في حديث بعضهم:«كانوا يتأمّمون شرار ثمارهم في الصّدقة»،و يروى:يتيمّمون،أي يتعمّدون.

و في الحديث:«لم تضرّه أمّ الصّبيان»،يعنى الرّيح الّتي تعرض لهم،فربّما يغشى عليهم.(1:89)

أبو سهل الهرويّ:أمّ بيّنة الأمومة،أي ظاهرة

ص: 257

الولادة،و ليست على التّشبيه و المجاز.(32)

ابن سيدة :الإمام:من يأتمّ به النّاس من رئيس أو غيره،الجمع:أئمّة.أمّ فلان القوم و بهم يؤمّهم أمّا و إماما و إمامة:تقدّمهم.(الإفصاح 1:132)

الأمّيّ و الأمّان:من لا يكتب،أو من على خلقة الأمّة،لم يتعلّم الكتاب،و هو باق على جبلّته.(الإفصاح 10:218)

الأمّ و الأمّة:الوالدة،و تطلق على الجدّة.و أمّ الشّيء:أصله،الجمع:أمّهات،لمن يعقل،و أمّات لما لا يعقل.

و أممت،كعلم و نصر،أمومة:صرت أمّا.

و أمّت ولدا تؤمّه:صارت له كالأمّ.و تأمّم الولد المرأة و استأمّها:اتّخذها أمّا.(الإفصاح 1:303)

الأمّة:الجماعة،و كلّ جنس من الحيوان،و الجيل من كلّ حيّ.و قيل:جماعة أرسل إليهم رسول.

(الإفصاح 1:308)

الإمام:الملك،و كلّ من اقتدي به و قدّم.الجمع:

أئمّة.(الإفصاح 1:315)

الآمّة:الشّجّة فوق المفرشة،و هي الّتي تبلغ أمّ الرّأس،و أمّ الرّأس هي الجلدة الّتي تكون على الدّماغ.

و قيل:الآمّة:أشدّ الشّجاج،و هي الّتي تصل إلى الدّماغ،فربّما نقشت،أي استخرجت عظامها،و ربّما لم تنقش،و صاحبها يصعق لصوت الرّعد و رغاء البعير، و لا يطيق البروز للشّمس،و هي شجّة آمّة و مأمومة.أمّ فلانا يؤمّه أمّا:أصاب أمّ رأسه،فهو مأموم و أميم.(الإفصاح 1:531)

الأميم:الشّيء اليسير القريب التّناول،يقال:

ما طلبت إلاّ شيئا أمما.(الإفصاح 2:1372)

الطّوسيّ: الأمّة:الجماعة الّتي يعمّها معنى، و أصله:أمّه يؤمّه،إذا قصده،فالأمّة:الجماعة الّتي على مقصد واحد.(4:420)

مثله الطّبرسيّ.(2:414)

الإمام في اللّغة،هو المقدّم الّذي يتبعه من بعده.

(6:351)

مثله الطّبرسيّ.(3:343)

الأمّة في اللّغة تنقسم خمسة أقسام:

أحدها:الجماعة،الثّاني:القامة،الثّالث:الاستقامة، الرّابع:النّعمة،الخامس:القدوة.

و الأصل في ذلك كلّه القصد،من قولهم:أمّه يؤمّه أمّا،إذا قصده؛فالجماعة سمّيت أمّة لاجتماعها على مقصد واحد؛و الأمّة:القدوة لأنّه تأتمّ به الجماعة.

و الأمّة:النّعمة لأنّها المقصد الّذي هو البغية،و الأمّة:

القامة لاستمرارها في العلوّ على مقصد واحد.

(2:548)

الرّاغب: الأمّ بإزاء الأب،و هي الوالدة القريبة الّتي ولدته،و البعيدة الّتي ولدت من ولدته.

و لهذا قيل لحوّاء:هي أمّنا و إن كان بيننا و بينها وسائط،و يقال لكلّ ما كان أصلا لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه:أمّ.

و قيل:أمّ الأضياف و أمّ المساكين،كقولهم:أبو الأضياف.و يقال للرّئيس:أمّ الجيش،كقول الشّاعر:

*و أمّ عيال قد شهدت نفوسهم*

ص: 258

و قيل لفاتحة الكتاب:أمّ الكتاب،لكونها مبدأ الكتاب،و قوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ القارعة:9،أي مثواه النّار،فجعلها أمّا له.قال:و هو نحو: مَأْواكُمُ النّارُ العنكبوت:25،و سمّى اللّه تعالى أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أمّهات المؤمنين،فقال: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ الأحزاب:6،لما تقدّم في«الأب».و قال: يَا بْنَ أُمَّ طه:94،و كذا قوله:ويل أمّه،و كذا:هوت أمّه.

و الأمّ قيل:أصله أمّهة-لقولهم جمعا:أمّهات- و أميهة.و قيل:أصله من المضاعف،لقولهم:أمّات و أميمة.

قال بعضهم:أكثر ما يقال:«أمّات»في البهائم و نحوها،و«أمّهات»في الإنسان.

و الأمّة:كلّ جماعة يجمعهم أمر ما،إمّا دين واحد، أو زمان واحد،أو مكان واحد،سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا،و جمعها:أمم.و قوله تعالى:

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام:38،أي كلّ نوع منها على طريقة قد سخّرها اللّه عليها بالطّبع،فهي من بين ناسجة كالعنكبوت و بانية كالسّرفة و مدّخرة كالنّمل،و معتمدة على قوت وقته كالعصفور و الحمام إلى غير ذلك من الطّبائع الّتي تخصّص بها كلّ نوع.

و قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً البقرة:

213،أي صنفا واحدا و على طريقة واحدة،في الضّلال و الكفر.

و قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً هود:118،أي في الإيمان.

و قوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ آل عمران:104،أي جماعة يتخيّرون العلم و العمل الصّالح،يكونون أسوة لغيرهم.

و قوله: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22، أي على دين مجتمع.

و قوله تعالى: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،أي حين؛و حقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين.

و قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ النّحل:

120،أي قائما مقام جماعة في عبادة اللّه،نحو قولهم:

فلان في نفسه قبيلة.

و قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ آل عمران:113،أي جماعة.و جعلها الزّجّاج هاهنا للاستقامة،و قال:تقديره:ذو طريقة واحدة، فترك الإضمار.

و الأمّيّ هو الّذي لا يكتب و لا يقرأ من كتاب؛و عليه حمل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ الجمعة:2.

الإمام:المؤتمّ به إنسانا كأن يقتدي بقوله أو فعله، أو كتابا،أو غير ذلك،محقّا كان أو مبطلا،و جمعه:أئمّة.

الأمّ:القصد المستقيم،و هو التّوجّه نحو مقصود؛ و على ذلك آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ المائدة:2.

و قولهم:أمّه:شجّه،فحقيقته إنّما هو أن يصيب أمّ دماغه؛و ذلك على حدّ ما يبنون من إصابة الجارحة لفظ «فعلت»منه،و ذلك نحو رأسته و رجلته و كبدته و بطنته، إذا أصيب هذه الجوارح.(22-24)

ابن القطّاع:الأمّة:الملك.و الأمّة:أتباع الأنبياء.

ص: 259

و الأمّة:الرّجل الجامع للخير.و الأمّة:الأمم.و الأمّة:

الرّجل المنفرد بدينه،لا يشركه فيه أحد.و الأمّة:القامة و الوجه.(ابن منظور 12:27)

الزّمخشريّ: ما لك إلاّ أمّك و إن كانت أمة.و فداه بأمّيه:بأمّه و خالته،أو جدّته.و هو أمّيّ،و فيه أمّيّة.و أمّة محمّد خير الأمم.

و خرجوا يؤمّون البلد.و ذهبوا آمّة مكّة:تلقاءها.

و هو إمامهم،و هم أئمّتهم،و هو أحقّ بإمامة المسجد و بإمّة المسجد.و هو يؤمّ قومه،و هم يأتمّون به.

و ما طلبت إلاّ شيئا أمما.و ما الّذي ركبته بأمم:بشيء هيّن قريب.و أخذته من أمم:من كثب.

و من المجاز:من أمّ مثواك؟و بلغت الشّجّة أمّ الدّماغ،و هي الجلدة الّتي تجمعه.و شجّة آمّة و مأمومة.

و رجل أميم،و قد أممته بالعصا.

و ما أشبه مجلسك بأمّ النّجوم!و هي المجرّة لكثرة كواكبها.و هو من أمّهات الخير:من أصوله و معادنه.

و قوّم البناء على الإمام،و هو الزّيق.[ثمّ استشهد بشعر]

و حفظ الصّبيّ إمامه.و أمّ فلان أمرا حسنا:قصده و أراده.و هو أمّة وحده.(أساس البلاغة:9)

حذيفة رضى اللّه عنه«ما منّا إلاّ رجل به آمّة يبجّسها الظّفر»، هي الشّجّة الّتي تبلغ أمّ الرّأس،و المأمومة مثلها.يقال:

أممت الرّجل بالعصا،إذا ضربت أمّ رأسه،و هي الجلدة الّتي تجمع الدّماغ،كقولك:رأسته،و صدرته،و ظهرته، إذا ضربت منه هذه المواضع؛فالآمّ:الضّارب، و المأمومة:أمّ الرّأس.و إنّما قيل للشّجّة:آمّة و مأمومة، بمعنى ذات أمّ،كقولهم:راضية،و سيل مفعم.

(الفائق 1:57)

الطّبرسيّ: الإمام هو المتقدّم للاتّباع؛فالإمام في الخير مهتد هاد،و في الشّرّ ضالّ مضلّ.(3:10)

الأمّ:القصد،يقال:أممت كذا،إذا قصدته،و يممت بمعناه،و منه الإمام الّذي يقتدى به.

و الأمّة:الدّين،لأنّه يقصد.و الإمّة،بالكسر:النّعمة، لأنّها تقصد.(2:153)

الأمّة:الجماعة تؤمّ أمرا.و الأمّة:المدّة،و هي الجملة من الحين.(3:237)

الأمّيّ:الّذي لا يحسن الكتابة،و إنّما سمّي أمّيّا لأحد وجوه:

أحدها:أنّ الأمّة:الخلقة،فسمّي أمّيّا،لأنّه باق على خلقته.

و ثانيها:أنّه مأخوذ من«الأمّة»الّتي هي الجماعة، أي هو على أصل ما عليه الأمّة في أنّه لا يكتب،لأنّه يستفيد الكتابة بعد أن لم يكن يكتب.

ثالثها:أنّه مأخوذ من«الأمّ»،أي هو على ما ولدته أمّه في أنّه لا يكتب.و قيل:إنّما نسب إلى«أمّه»لأنّ الكتابة إنّما تكون في الرّجال دون النّساء.(1:144)

ابن بريّ: جمل مئمّ:دليل هاد،و ناقة مئمّة:كذلك، و كلّه من القصد،لأنّ الدّليل الهادي قاصد.

(ابن منظور 12:23)

الأصل في«الأمّهات»أن تكون للآدميّين،و ربّما جاء بعكس ذلك،كما قال السّفّاح اليربوعيّ في الأمّهات:لغير الآدميّين:

ص: 260

قوّال معروف و فعّاله

عقّار مثنى أمّهات الرّباع

(ابن منظور 12:29)

الفخر الرّازيّ:الإمام في اللّغة:كلّ من ائتمّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة،فالنّبيّ إمام أمّته،و الخليفة إمام رعيّته،و القرآن إمام المسلمين،و إمام القوم،هو الّذي يقتدى به في الصّلاة.(21:17)

ابن الأثير: في حديث ثمامة:«أنّه أتى أمّ منزله»، أي امرأته،أو من تدبّر أمر بيته من النّساء.

و منه الحديث أنّه قال لزيد الخيل:«نعم فتى إن نجا من أمّ كلبة»،هي الحمّى.

و في حديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أنّه قال لرجل:«لا أمّ لك»هو ذمّ و سبّ،أي أنت لقيط لا تعرف لك أمّ.و قيل:قد يقع مدحا بمعنى التّعجّب منه،و فيه بعد.

في حديث قسّ بن ساعدة:«أنّه يبعث يوم القيامة أمّة وحدة»،الأمّة:الرّجل المنفرد بدين،كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ النّحل:120.

في حديث ابن عمر:«من كانت فترته إلى سنّة فلأمّ ما هو»،أي قصد الطّريق المستقيم،يقال:أمّه يؤمّه أمّا، و تأمّمه و تيمّمه.و يحتمل أن يكون:«الأمّ»أقيم مقام المأموم،أي هو على طريق ينبغي أن يقصد،و إن كانت الرّواية بضمّ الهمزة،فإنّه يرجع إلى أصله ما هو بمعناه.

و في حديث كعب:«ثمّ يؤمر بأمّ الباب على أهل النّار فلا يخرج منهم غمّ أبدا»،أي يقصد إليه فيسدّ عليهم.

و في حديث الحسن:«لا يزال أمر هذه الأمّة أمما ما ثبتت الجيوش في أماكنها»،الأمم:القرب و اليسير.(1:67)

الصّغانيّ: أمر أمم،إذا كان صغيرا،و إذا كان كبيرا.

«لا أمّ له»يكون مدحا و يكون ذمّا.

الأمّة:الواحد الصّالح،و الجماعة.(الأضداد:223)

النّيسابوريّ:الأمّ في اللّغة:الأصل الّذي يتكوّن منه الشّيء.(3:127)

مثله المراغيّ.(3:93)

أبو حيّان: الإمام:القدوة الّذي يؤتمّ به،و منه قيل لخيط البنّاء:إمام،و للطّريق:إمام،و هو مفرد على «فعال»كالإزار للّذي يؤتزر به.و يكون جمع«آمّ» -اسم فاعل من أمّ يؤمّ-كجائع و جياع،و قائم و قيام، و نائم و نيام.(1:372)

الفيّوميّ: أمّه أمّا،من باب قتل:قصده،و أمّمه و تأمّمه أيضا:قصده.

و أمّه و أمّ به إمامة:صلّى به إماما.

و أمّه:شجّه،و الاسم:آمّة بالمدّ،اسم فاعل.و بعض العرب يقول:مأمومة،لأنّ فيها معنى المفعوليّة في الأصل،و جمع الأولى:أوامّ،مثل دابّة و دوابّ،و جمع الثّانية على لفظها:مأمومات،و هي الّتي تصل إلى أمّ الدّماغ،و هي أشدّ الشّجاع.

و قال ابن الأعرابيّ في شرح ديوان عديّ بن زيد العبادي:الأمّة،بالفتح:الشّجّة،أي مقصورا،و الإمّة، بالكسر:النّعمة،و الأمّة،بالضّمّ:العامّة،و الجمع فيها جميعا:أمم،لا غير.

ص: 261

و على هذا فيكون إمّا لغة و إمّا مقصورة من الممدودة،و صاحبها مأموم و أميم.

و أمّ الدّماغ:الجلدة الّتي تجمعه.و أمّ الشّيء:أصله.

و الأمّ:الوالدة،و قيل:أصلها أمّهة؛و لهذا تجمع على أمّهات.و أجيب بزيادة الهاء،و أنّ الأصل:أمّات.

قال ابن جنّي:دعوى الزّيادة أسهل من دعوى الحذف،و كثر في النّاس«أمّهات»،و في غير النّاس «أمّات»للفرق.

و الوجه ما أورده في«البارع»أنّ فيها أربع لغات:

أمّ،بضمّ الهمزة و كسرها،و أمّة و أمّهة؛فالأمّهات و الأمّات لغتان ليست إحداهما أصلا للأخرى، و لا حاجة إلى دعوى حذف و لا زيادة.

و أمّ الكتاب:اللّوح المحفوظ.و يطلق على الفاتحة أمّ الكتاب و أمّ القرآن.

و الأمّة:أتباع النّبيّ،و الجمع:أمم،مثل غرفة و غرف.و تطلق الأمّة على عالم دهره المنفرد بعلمه.

الأمّيّ في كلام العرب:الّذي لا يحسن الكتابة، فقيل:نسبة إلى«الأمّ»،لأنّ الكتابة مكتسبة،فهو على ما ولدته أمّه من الجهل بالكتابة.و قيل:نسبة إلى أمّة العرب،لأنّه كان أكثرهم أمّيّين.

و الإمام:الخليفة.و الإمام:العالم المقتدى به.

و الإمام:من يؤتمّ به في الصّلاة،و يطلق على الذّكر و الأنثى.

قال بعضهم:و ربّما أنّث إمام الصّلاة بالهاء،فقيل:

امرأة إمامة.و قال بعضهم:الهاء فيها خطأ،و الصّواب حذفها،لأنّ«الإمام»اسم لا صفة.

و يقرب من هذا ما حكاه ابن السّكّيت في كتاب المقصور و الممدود،تقول العرب:عاملنا امرأة و أميرنا امرأة،و فلانة وصيّ فلان،و فلانة وكيل فلان،قال:و إنّما ذكّر،لأنّه إنّما يكون في الرّجال أكثر ممّا يكون في النّساء،فلمّا احتاجوا إليه في النّساء أجروه على الأكثر في موضعه،و أنت قائل:مؤذّن بني فلان امرأة،و فلانة شاهد بكذا،لأنّ هذا يكثر في الرّجال و يقلّ في النّساء، و قال تعالى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيراً لِلْبَشَرِ المدّثّر:35،36 فذكّر(نذيرا)و هو(لإحدى)،ثمّ قال:

و ليس بخطإ أن تقول:وصيّة و وكيلة بالتّأنيث،لأنّها صفة المرأة إذا كان لها فيه حظّ؛و على هذا فلا يمتنع أن يقال:امرأة إمامة،لأنّ في الإمام معنى الصّفة.

و جمع الإمام:أئمّة،و الأصل:أأممة،وزان«أمثلة»، فأدغمت الميم في الميم بعد نقل حركتها إلى الهمزة.

فمن القرّاء من يبقي الهمزة محقّقة على الأصل،و منهم من يسهّلها على القياس بين بين،و بعض النّحاة يبدلها ياء للتّخفيف،و بعضهم يعدّه لحنا و يقول:لا وجه له في القياس.

و ائتمّ به:اقتدى به،و اسم الفاعل:مؤتمّ،و اسم المفعول:مؤتمّ به،فالصّلة فارقة.و تكره إمامة الفاسق، أي تقدّمه إماما.

و أمام الشّيء،بالفتح:مستقبله،و هو ظرف،و لهذا يذكّر و قد يؤنّث،على معنى الجهة.و قال الزّجّاج:

و اختلفوا في تذكير«الأمام»و تأنيثه.(1:23)

الجرجانيّ:الإمام:هو الّذي له الرّئاسة العامّة في الدّين و الدّنيا جميعا.(16)

ص: 262

الفيروزآباديّ: أمّة:قصده،كائتمّه و أمّمه و تأمّمه و يمّمه و تيمّمه.

و التّيمّم:التّوضّؤ بالتّراب إبدال،أصله:التّأمّم.

و المئمّ،بكسر الميم:الدّليل الهادي،و الجمل يقدم الجمال،و هي بهاء.

و الإمّة،بالكسر:الحالة و الشّرعة و الدّين و يضمّ، و النّعمة و الهيئة و الشّأن و غضارة العيش و السّنّة و يضمّ،و الطّريقة و الإمامة و الائتمام بالإمام.

و بالضّمّ:الرّجل الجامع للخير،و الإمام،و جماعة أرسل إليهم رسول،و الجيل من كلّ حيّ،و الجنس كالأمّ فيهما،و من هو على الحقّ مخالف لسائر الأديان، و الحين و القامة و الوجه و النّشاط و الطّاعة و العالم،و من الوجه و الطّريق معظمه،و من الرّجل قومه،و للّه تعالى خلقه.

و الأمّ،و قد تكسر:الوالدة و امرأة الرّجل المسنّة و المسكن و خادم القوم.و يقال للأمّ:الأمّة و الأمّهة، الجمع:أمّات و أمّهات،أو هذه لمن يعقل،و أمّات لمن لا يعقل.

و أمّ كلّ شيء:أصله و عماده،و للقوم رئيسهم،و من القرآن الفاتحة،أو كلّ آية محكمة من آيات الشّرائع و الأحكام و الفرائض،و للنّجوم و المجرّة،و للرّأس الدّماغ أو الجلدة الرّقيقة الّتي عليها،و للرّمح اللّواء، و للتّنائف المفازة،و للبيض النّعامة،و كلّ شيء انضمّت إليه أشياء.

و أمّ القرى:مكّة،لأنّها توسّطت الأرض فيما زعموا،أو لأنّها قبلة النّاس يؤمّونها،أو لأنّها أعظم القرى شأنا.

و أمّ الكتاب:أصله،أو اللّوح المحفوظ،أو الفاتحة، أو القرآن جميعه.و ويلمّة،في«و ى ل».

و«لا أمّ لك»ربّما وضع موضع المدح.

و أمّت أمومة:صارت أمّا،و تأمّمها و استأمّها:

اتّخذها أمّا،و ما كنت أمّا فأممت بالكسر،أمومة.

و أمّه أمّا،فهو أميم و مأموم:أصاب أمّ رأسه،و شجّة آمّة و مأمومة:بلغت أمّ الرّأس.

و الأميمة كجهينة:الحجارة تشدخ بها الرّءوس، و تصغير الأمّ،و مطرقة الحدّاد.

و المأموم:جمل ذهب من ظهره وبره،من ضرب أو دبر،و رجل من طيّئ.

و الأمّيّ و الأمّان:من لا يكتب أو من على خلقة الأمّة لم يتعلّم الكتاب و هو باق على جبلّته،و الغبيّ الجلف الجافي القليل الكلام.

و الأمام:نقيض الوراء كقدّام،يكون اسما و ظرفا، و قد يذكّر.

و أمامك:كلمة تحذير،و كثمامة:ثلاثمائة من الإبل.

و الأمم،محرّكة:القرب و اليسير و البيّن من الأمر كالمؤامّ،و القصد الوسط.و المؤامّ:الموافق.

و أمّهم و بهم:تقدّمهم،و هي الإمامة.

و الإمام:ما ائتمّ به من رئيس أو غيره،الجمع:إمام، بلفظ الواحد،و ليس على حدّ عدل،لأنّهم قالوا:إمامان، بل جمع مكسّر،و أيمّة و أئمّة شاذّ.و الخيط يمدّ على البناء فيبنى،و الطّريق،و قيّم الأمر المصلح له،و القرآن، و النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الخليفة،و قائد الجند،و ما يتعلّمه الغلام كلّ

ص: 263

يوم،و ما امتثل عليه المثال،و الدّليل،و الحادي (1)، و تلقاء القبلة،و الوتر،و خشبة يسوّى عليها البناء.

و الجمع:آمّ،كصاحب و صحاب.

و هذا أيمّ منه و أومّ:أحسن إمامة.

و ائتمّ بالشّيء و ائتمى به على البدل،و هما أمّاك، أي أبواك،أو أمّك و خالتك،و كأمير:الحسن القامة.

(4:77)

الطّريحيّ: الأمّ:الوالدة.قيل:أصلها أمّهة،و لهذا تجمع على«أمّهات»،و أنّ الأصل:أمّات.و يقال:إنّ «الأمّهات»للنّاس و«الأمّات»للبهائم،قال في «البارع»نقلا عنه:فيها أربع لغات:أمّ بضمّ الهمزة و كسرها،و أمّة،و أمّهة؛فالأمّات و الأمّهات لغتان،ليس إحداهما أصلا للأخرى.

و الأمّة:الخلق كلّهم.و أمّة كل نبيّ:أتباعه.و من لم يتّبع دينه و إن كان في زمانه،فليس من أمّته.

و قد جاءت الأمّة في غير الكتاب بمعنى القامة، يقال:فلان حسن الأمّة،أي حسن القامة.و بمعنى الأمّ أيضا،يقال:هذه أمّة زيد.

و الأمّة:كلّ جماعة يجمعهم أمر،إمّا دين واحد أو دعوة واحدة،أو طريقة واحدة،أو زمان واحد أو مكان واحد،و منه الحديث:«يبعث عبد المطّلب أمّة وحده، عليه بهاء الملوك و سيماء الأنبياء».

و يقال:لكلّ جنس من الحيوان أمّة.

و أمّ الشّيء أمّا،من باب قتل:قصده،و منه الحديث:

«من أمّ هذا البيت فكذا»،يعني البيت الحرام.

و أمّ الخير:للّتي تجمع كلّ الخير.و أمّ الشّرّ:للّتي تجمع كلّ الشّرّ.و أمّ الصّبيان:ريح تعرض لهم.و قولهم:

«لا أمّ لك»ذمّ و سبّ،أي أنت لقيط لا تعرف لك أمّ.

و قيل:قد يقع مدحا بمعنى التّعجّب منه.

و الآمّة من الشّجاع،و هي بالمدّ:اسم فاعل.و بعض العرب يقول:مأمومة،و هي الشّجّة الّتي بلغت أمّ الرّأس، و هي الشّجّة الّتي تجمع أمّ الدّماغ،و هي أشدّ الشّجاج.

و تجمع الأولى على«أمام»،مثل دابّة على دوابّ، و الثّانية على لفظها«مأمومات».

و الإمام،بالكسر،على«فعال»:للّذي يؤتمّ به، و جمعه:أئمّة.

و في«معاني الأخبار»:سمّي الإمام إماما لأنّه قدوة للنّاس،منصوب من قبل اللّه تعالى،مفترض الطّاعة على العباد.

و أمام الشّيء:مستقبله،و هو ضدّ خلف،و هو ظرف،و لهذا يذكّر و يؤنّث،على معنى الجهة.

و الإمامة هي الرّئاسة العامّة على جميع النّاس،فإذا أخذت لا بشرط شيء تجامع النّبوّة و الرّسالة،و إذا أخذت بشرط شيء،لا تجامعها.(6:11-15)

رشيد رضا :الأمّة:الجماعة الّتي تؤلّف بين أفرادها رابطة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد.

(9:366)

نحوه المراغيّ.(4:21)

المراغيّ: الأمّة:القوم المجتمعون على أمر،ثمّ شاع استعمالها في الدّين.(17:68)

محمّد إسماعيل إبراهيم:أمّ المكان يؤمّه:ل.

ص: 264


1- أي الحادي للإبل.

قصده،و أمّ القوم:تقدّمهم،و كان إماما متقدّما لهم،و منه الإمامة بمعنى الرّئاسة،و الاسم و الجمع:أئمّة.و سمّي الكتاب إماما من هذا المعنى.

و أمام:ظرف بمعنى قدّام،و قد يقصد به الزّمن المستقبل.

و الإمام أيضا:الطّريق الواضحة الّتي ترشد المسافر.

و الأمّ:أصل الشّيء،و الوالدة،و تطلق على الجدّة.

و أمّ الكتاب:اللّوح المحفوظ،و النّسب إليها أمّيّ،و هو الّذي لا يقرأ و لا يكتب،أو الّذي ينتسب إلى الأمّيّين، و هم الّذين لا يدينون بديانة أهل الكتاب.

و الأمّة:القرن من النّاس،و المعلّم،و الرّجل الجامع لخصال الخير،قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً النّحل:120.(1:46)

مجمع اللّغة :1-أممت الشّيء كنصر،أؤمّه أمّا:

قصدته،و اسم الفاعل«آمّ»،و جمعه:آمّون.و سمّي الطّريق إماما،لأنّه يؤمّ و يقصد.

2-و أممت القوم كنصر،و بالقوم أؤمّهم أمّا و إماما و إمامة:تقدّمتهم،و كنت لهم إماما.

و الإمام،للمذكّر و المؤنّث:من يقتدى بقوله أو فعله سواء كان محقّا أو مبطلا.و سمّي الكتاب إماما من هذا المعنى.

3-و الأمّ من الإنسان بإزاء الأب،و تطلق الأمّ على الجدّة،كما تطلق على من أرضعت الإنسان و لم تلده.

و سمّيت نساء النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أمّهات المؤمنين تعظيما لهنّ.

و كلّ شيء يضمّ إليه ما سواه ممّا يليه يسمّى أمّا، و كلّ مدينة هي أمّ ما حولها من القرى.و سمّيت مكّة في القرآن أمّ القرى من هذا.

و يقال لكلّ ما كان أصلا لوجود شيء أو ترتيبه أو إصلاحه:أمّ.

و جمع الأمّ:أمّات و أمّهات،و خصّت الأمّهات بالنّاس دون البهائم.

و يقال للمأوى:أمّ على التّشبيه،لأنّ الأمّ مأوى الولد و مقرّه.

4-و الأمّة:كلّ جماعة يجمعهم أمر ما،و جمعها:

أمم.و الأمّة:الدّين،و الأمّة:الحين.

5-و الأمّيّ:من لا يكتب و لا يقرأ،و جمعه:أمّيّون.

6-و الأمام:القدّام،أي نقيض الوراء.(1:52)

العدنانيّ:يخطّئون من يجمع«أمّ»من يعقل على «أمّات»،و يقولون:إنّ الصّواب هو«أمّهات»فالقرآن الكريم ذكرت فيه«الأمّهات»وحدها إحدى عشرة مرّة،منها قوله تعالى: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ الأحزاب:6.

و ممّن قال:إنّ«الأمّهات»لمن يعقل،و«الأمّات» للبهائم:معجم ألفاظ القرآن الكريم،و التّهذيب و ابن مكّيّ الصّقلّيّ في«تثقيف اللّسان»،و الشّيخ ناصيف اليازجيّ في شرح بيت المتنبّيّ الّذي وصف به الخيل، من قصيدته الّتي مدح بها أبا أيّوب أحمد بن عمران:

العارفين بها كما عرفتهم

و الرّاكبين جدودهم أمّهاتها

و دقائق العربيّة.

و لكن أجاز«الأمّهات،و الأمّات»لمن يعقل و ما لا يعقل كلّ من:أبي حنيفة الدّينوريّ،الّذي أنشد في

ص: 265

كتاب«النّبات»لبعض ملوك اليمن:

و أمّاتنا أكرم بهنّ عجائزا

ورثن العلا عن كابر بعد كابر

و ابن درستويه الّذي قال:إنّ«أمّات»لغة ضعيفة، و ابن جنّي الّذي قال في مخطوطة قونية للفسر،في شرح بيت المتنبّيّ المذكور آنفا:و لم يقل:«أمّهاتها»، لأنّ«الأمّهات»إنّما تطلق على من يعقل،فإن كانت ممّن لا يعقل قلت:«أمّات»،و قد يجوز«أمّهات»فيما لا يعقل،و يجوز«أمّات»فيمن يعقل.

و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و المحكم، و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ،و ابن برّيّ،و المختار، و اللّسان،و المصباح،و القاموس،و التّاج،و المدّ، و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن،و عبد الرّحمن البرقوقيّ في شرح بيت المتنبّيّ المذكور آنفا، و المعجم الكبير الّذي استشهد بقول السّفّاح ابن بكير اليربوعيّ،في«الأمّهات»لغير الآدميّين:

قوّال معروف و فعّاله

عقّار مثنى أمّهات الرّباع

-الرّباع جمع ربع،و هو الفصيل ينتج في الرّبيع-، و المعجم الوسيط.

و الإمّ،و الأمّهة،و الأمّة كالأمّ،أمّا مصغّرها فهو:

أميمة،و أمينة،و أميهة.

و قالت جلّ المعجمات:«و قيل:الأمّهات فيمن يعقل:و الأمّات فيما لا يعقل».

و من معاني الأمّ:

1-الجدّة.

2-أمّ القرآن:فاتحته.

3-أمّ الكتاب:اللّوح المحفوظ.

4-أمّ النّجوم:المجرّة.

5-أمّ المثوى:مدبّرة المنزل.

6-أمّ القرى:مكّة.

7-أمّ الرّأس:الدّماغ.

8-أمّ الخبائث:الخمر.

9-أمّ قشعم:المنيّة.

10-أمّ الطّريق:الطّريق:الطّريق الأعظم بجانبيه طرق أخرى.(29)

محمود شيت: 1-أ-الإمام:من يأتمّ به النّاس من رئيس أو غيره،و منه إمام الصّلاة،الجمع:أئمّة.و الإمام:

الخليفة،و الإمام:قائد الجيش.و الإمام:القرآن للمسلمين،و منه قوله تعالى: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يس:12.و الإمام:الدّليل للمسافرين.

و الإمام:الحادي للإبل.و الإمام:الطّريق الواسع الواضح.

ب-الإمامة:رئاسة المسلمين.و الإمامة:منصب الإمام.

ج-الأمّ:العلم في مقدّمة الجيش.

د-الأمّة:جماعة من النّاس أكثرهم من أصل واحد،

و تجمعهم صفات موروثة،و مصالح و أمانيّ واحدة، أو يجمعهم أمر واحد من دين أو مكان أو زمان.و الأمّة:

كلّ جنس من الحيوان.و الأمّة:الجيل.و الأمّة:الرّجل الجامع لخصال الخير،قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً النّحل:120.و الأمّة:الدّين،قال تعالى:

ص: 266

إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22.و الأمّة:

الطّريقة.و الأمّة:الحين و المدّة،قال تعالى: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ هود:8،الجمع:أمم.

ه-الأمّيّ:نسبة إلى الأمّ أو الأمّة.و الأمّيّ:من لا يقرأ و لا يكتب.و الأمّيّ:العيّ الجافي.

و-الأمّيّة:مؤنّث الأمّيّ،معناه الغفلة أو الجهالة.

ز-الأميمة:مصغّر الأمّ.و الأميمة:مطرقة الحدّاد.

ح-المئمّ:الدّليل الهادي.و المئمّ:الجمل يقدم الجمال.

2-أ-الأمّة في الحرب:الحرب الإجماعيّة،أو الحرب الاعتصابيّة،أو الحرب الشّاملة.

ب-الإمام:كلّ شخص مستخدم في الجيش للقيام بالفروض و الواجبات الدّينيّة.و الإمام:الطّريق الواسع الواضح.

ج-الأمّ:العلم في مقدّمة الجيش.

د-أمّ الطّريق:الطّريق الأعظم بجانبه طرق أخرى، و تستعمل في الجغرافيا العسكريّة.

ه-الأمّيّ:العسكريّ الّذي لا يقرأ و لا يكتب.

و مكافحة الأمّيّة:تعليم القراءة و الكتابة،و الكلمة تستعمل في تهذيب الجيش.و صفّ الأمّيّين:الصّفّ الأوّل للجنود من صفوف التّهذيب.(1:54)

المصطفويّ:الأصل الواحد في هذه المادّة هو القصد المخصوص،أي القصد مع التّوجّه الخاصّ إليه.

و هذا المعنى محفوظ في جميع مشتقّاتها:أمّ،أمّة،إمام، أمام،إمّا،أمّا،أمّ.

أمّ:لا يبعد أن تكون هذه الكلمة في الأصل على وزان«صلب»من أوزان الصّفة المشبّهة،بمعنى ما يكون موردا للقصد و التّوجّه،فإنّ هذه الصّفة إنّما تؤخذ من اللاّزم أصلا أو اعتبارا؛فالأمّ مأخوذ من أمم.ثمّ أطلق على الوالدة،و على الأصل و المبدإ،و ما يرجع إليه.

الأمّة:لا يبعد أن تكون في الأصل على وزان «فعلة»،كاللّقمة بمعنى ما يلقم،و العدّة و العمدة و الحفرة و الجحفة،أي المقدار المعيّن و المحدود من الفعل.

فالأمّة تدلّ على ما يقصد محدودا و يتوجّه إليه مشخّصا، سواء كان متشكّلا من الأفراد،أو من قطعات الزّمان أو من العقيدة و الفكر،أو يكون فردا مشخّصا يتوجّه إليه في مقابل سائر النّاس.

إمام:على وزان«كتاب»،هو في الأصل مصدر،ثمّ أطلق على ما يتوجّه إليه و يقصد،و يكون مصداقا لهذا المعنى و مظهرا تامّا له.و يختلف الإمام باختلاف الموارد و القاصدين و المتوجّهين و الجهات و الاعتبارات، فيقال:إمام الجمعة،إمام الجماعة،إمام الهداية،إمام الضّلالة.

أمام،بالفتح:ظرف بمعنى الجانب الّذي يقابل الخلف.فهذه الجهة ما بين يدي الإنسان و في قبال الوجه؛فتكون موردا للتّوجّه دائما.

الأمّيّ:من ليس له من الفضل و العلم و التّربية و النّظر إلاّ بمقدار ما يؤخذ بالطّبيعة من الأمّ،فبرنامج حياته طبيعيّ،ليس فى قوله و عمله و فكره تصنّع و لا حيلة و لا تكلّف و لا نظر خاصّ.[ثمّ ذكر آيات إلى أن قال:]

ص: 267

فالمعنى الحقيقيّ لهذه المادّة محفوظ في جميع مشتقّاتها.(1:124)

النّصوص التّفسيريّة

امّين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لاَ الْهَدْيَ وَ لاَ الْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ...

المائدة:2

ابن عبّاس: من توجّه حاجّا.(الطّبري 6:59)

الضّحّاك: الحاجّ.(الطّبريّ 6:59)

الرّبيع:الّذين يريدون البيت.(الطّبريّ 6:59)

أبو عبيدة :و لا عامدين،و يقال:أممت،و تقديرها:

هممت،خفيفة.و بعضهم يقول:يممت.[ثمّ استشهد بشعر](1:146)

ابن قتيبة :العامدين إلى البيت،واحدهم آمّ.(139)

الطّبريّ: و لا تحلّوا قاصدين البيت الحرام العامديّة،تقول:منه أممت كذا،إذا قصدته و عمدته.

(6:58)

القمّيّ: الّذين يحجّون البيت الحرام.(1:161)

الهرويّ: أي قاصدين،أي لا تستحلّوا قتلهم، يقال:أمّ و تأمّم و تيمّم و يمّ،بمعنى واحد واقع كلّه.

(1:91)

الطّوسيّ: معناه،و لا تحلّوا قاصدين البيت الحرام، يقال:أممت كذا،إذا قصدته و عمدته.و بعضهم يقول:

يممته.(3:420)

الميبديّ: و لا قاصدين البيت الحرام.و آمّين و حاجّين و قاصدين بمعنى واحد.(3:9)

الزّمخشريّ: آمّوا المسجد الحرام قاصدوه،و هم الحجّاج و العمّار.و لا تحلّوا قوما قاصدين المسجد الحرام.و قرأ عبد اللّه (و لا آمّي البيت الحرام) على الإضافة.(1:591)

نحوه الفخر الرّازيّ.(11:129)

أبو البركات: (و لا امّين):أصله أممين،جمع «آمّ»و هو القاصد،إلاّ أنّه اجتمع حرفان متحرّكان من جنس واحد في كلمة واحدة،فسكّنوا الأوّل و أدغموه في الثّاني.(1:283)

القرطبيّ: يعني القاصدين له،من قولهم:أمّمت كذا،أي قصدته.و قرأ الأعمش (و لا آمّى البيت الحرام) بالإضافة،كقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ المائدة:1، و المعنى لا تمنعوا الكفّار القاصدين البيت الحرام على جهة التّعبّد و القربة؛و عليه فقيل:ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك،أو مراعاة حرمة له بقلادة،أو أمّ البيت، فهو كلّه منسوخ بآية السّيف في قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ التّوبة:5،و قوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا التّوبة:28.

فلا يمكّن المشرك من الحجّ،و لا يؤمّن في الأشهر الحرم و إن أهدى و قلّد و حجّ.

و قال قوم:الآية محكمة لم تنسخ،و هي في المسلمين،و قد نهى اللّه عن إخافة من يقصد بيته من

ص: 268

المسلمين.(6:42)

أبو السّعود: أي لا تحلّوا قوما قاصدين زيارته بأن تصدّوهم عن ذلك بأيّ وجه كان.و قيل:هناك مضاف محذوف،أي قتال قوم أو أذى قوم آمّين.

و قرئ (و لا آمّي البيت الحرام) بالإضافة.(2:3)

نحوه الآلوسيّ.(6:53)

الطّريحيّ: أي عامرين البيت.(6:11)

رشيد رضا :أي قاصديه المتوجّهين إليه،يقال:

أمّمه و يمّمه و تيمّمه،إذا توجّه إليه و عمده و قصد إليه قصدا مستقيما،لا يلوي إلى غيره.(6:126)

الطّباطبائيّ: الآمّين:جمع آمّ،اسم فاعل من أمّ، إذا قصد.و المراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام.

(5:162)

عبد الكريم الخطيب :الّذين يؤمّون البيت الحرام و يقصدونه،فهم ضيوف اللّه و عمّار بيته، و العدوان عليهم اجتراء على اللّه و عدوان على حماه، و من هم في حماه.(3:1026)

فريد وجديّ: أي لا تتعرّضوا الزّائري البيت الحرام بالمقابلة.(المصحف المفسّر:134)

امام

1- ..إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً... البقرة:124

الرّبيع:ليؤتمّ به،و يقتدى به،يقال منه:أممت القوم فأنا أؤمّهم أمّا و إمامة،إذا كنت إمامهم.

(الطّبريّ 1:529)

الفرّاء: يهتدى بهديك و يستنّ بك.(1:76)

الطّبريّ:إنّي مصيّرك للنّاس إماما،يؤتمّ به و يقتدى به.(1:529)

الجصّاص :إنّ الإمام من يؤتمّ به في أمور الدّين من طريق النّبوّة،و كذلك سائر الأنبياء أئمّة عليهم السّلام،لما ألزم اللّه تعالى النّاس من اتّباعهم و الائتمام بهم في أمور دينهم،فالخلفاء أئمّة،لأنّهم رتّبوا في المحلّ الّذي يلزم النّاس اتّباعهم،و قبول قولهم و أحكامهم.و القضاة و الفقهاء أئمّة أيضا،و لهذا المعنى الّذي يصلّي بالنّاس يسمّى إماما،لأنّ من دخل في صلاته لزمه الاتّباع له و الائتمام به.

قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به،فإذا ركع فاركعوا،و إذا سجد فاسجدوا».و قال:«لا تختلفوا على إمامكم»فثبت بذلك أنّ اسم الإمامة مستحقّ لمن يلزم اتّباعه و الاقتداء به في أمور الدّين أو في شيء منها،و قد يسمّى بذلك من يؤتمّ به في الباطل إلاّ أنّ الإطلاق لا يتناوله،قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ القصص:41،فسمّوا أئمّة لأنّهم أنزلوهم بمنزلة من يقتدى بهم في أمور الدّين و إن لم يكونوا أئمّة يجب الاقتداء بهم،كما قال اللّه تعالى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ هود:101،و قال:

وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً طه:97، يعني في زعمك و اعتقادك.و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«أخوف ما أخاف على أمّتي أئمّة مضلّون».

و الإطلاق إنّما يتناول من يجب الائتمام به في دين اللّه تعالى و في الحقّ و الهدى،أ لا ترى أنّ قوله تعالى:

إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قد أفاد ذلك من غير

ص: 269

تقييد،و أنّه لمّا ذكر أئمّة الضّلال قيّده بقوله: يَدْعُونَ إِلَى النّارِ

و إذا ثبت أنّ اسم الإمامة يتناول ما ذكرناه، فالأنبياء عليهم السّلام في أعلى رتبة الإمامة،ثمّ الخلفاء الرّاشدون بعد ذلك،ثمّ العلماء و القضاة العدول،و من ألزم اللّه تعالى الاقتداء بهم،ثمّ الإمامة في الصّلاة و نحوها.فأخبر اللّه تعالى في هذه الآية عن إبراهيم أنّه جاعله للنّاس إماما.(1:68)

الهرويّ: أيّ يأتمّون بك و يتّبعونك،و به سمّي الإمام،لأنّ النّاس يؤمّون أفعاله،أي يقصدونها و يتّبعونها.(1:90)

الزّمخشريّ: الإمام:اسم من يؤتمّ به،على زنة «الإله»كالإزار،لما يؤتزر به،أي يأتمّون بك في دينهم.

(1:309)

نحوه النّسفيّ.(1:73)

الطّبرسيّ: معناه قال اللّه تعالى:إنّي جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك و أقوالك،لأنّ المستفاد من لفظ الإمام أمران:

أحدهما:أنّه المقتدى به في أفعاله و أقواله.

الثّاني:أنّه الّذي يقوم بتدبير الأمّة و سياستها، و القيام بأمورها و تأديب جناتها و تولية ولاتها،و إقامة الحدود على مستحقّيها و محاربة من يكيدها و يعاديها؛ فعلى الوجه الأوّل لا يكون نبيّ من الأنبياء إلاّ و هو إمام، و على الوجه الثّاني لا يجب في كلّ نبيّ أن يكون إماما؛ إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة و محاربة العداة و الدّفاع عن حوزة الدّين و مجاهدة الكافرين.

فلمّا ابتلى اللّه سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمّهنّ،جعله إماما للأنام جزاء له على ذلك،و الدّليل عليه أنّ قوله:

(جاعلك)عمل في قوله:(إماما)،و اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل،و لو قلت:أنا ضارب زيدا أمس،لم يجز،فوجب أن يكون المراد أنّه جعله (اماما)إمّا في الحال أو في الاستقبال.و النّبوّة كانت حاصلة له قبل ذلك.(1:201)

الفخر الرّازيّ: الإمام:اسم من يؤتمّ به،كالإزار لما يؤتزر به،أي يأتمّون بك في دينك.و فيه مسائل:

المسألة الأولى:قال أهل التّحقيق:المراد من «الإمام»هاهنا النّبيّ،و يدلّ عليه وجوه:

أحدها:أنّ قوله:(للنّاس اماما)يدلّ على أنّه تعالى جعله إماما لكلّ النّاس،و الّذي يكون كذلك لا بدّ و أن يكون رسولا من عند اللّه مستقلاّ بالشّرع،لأنّه لو كان تبعا لرسول آخر لكان مأموما لذلك الرّسول لا إماما له، فحينئذ يبطل العموم.

و ثانيها:أنّ اللّفظ يدلّ على أنّه إمام في كلّ شيء، و الّذي يكون كذلك لا بدّ و أن يكون نبيّا.

ثالثها:أنّ الأنبياء عليهم السّلام أئمّة من حيث يجب على الخلق اتّباعهم قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:73،و الخلفاء أيضا أئمّة من حيث يجب على الخلق اتّباعهم.[ثمّ ذكر نحوا ممّا تقدّم عن الجصّاص]

المسألة الثّانية:أنّ اللّه تعالى لمّا وعده بأن يجعله إماما للنّاس،حقّق اللّه تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام السّاعة،فإنّ أهل الأديان على شدّة اختلافها و نهاية

ص: 270

تنافيها،يعظّمون إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام و يتشرّفون بالانتساب إليه،إمّا في النّسب،و إمّا في الدّين و الشّريعة،حتّى أنّ عبدة الأوثان كانوا معظّمين لإبراهيم عليه السّلام،و قال اللّه تعالى في كتابه: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً النّحل:123.

المسألة الثّالثة:القائلون بأنّ الإمام لا يصير إماما إلاّ بالنّصّ،تمسّكوا بهذه الآية،فقالوا:إنّه تعالى بيّن أنّه إنّما صار إماما بسبب التّنصيص على إمامته،و نظيره قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة:30، فبيّن أنّه لا يحصل له منصب الخلافة إلاّ بالتّنصيص عليه،و هذا ضعيف.لأنّا بيّنّا أنّ المراد بالإمامة هاهنا النّبوّة.ثمّ إن سلّمنا أنّ المراد منها مطلق الإمامة،لكنّ الآية تدلّ على أنّ النّصّ طريق الإمامة و ذلك لا نزاع فيه،إنّما النّزاع في أنّه هل تثبت الإمامة بغير النّصّ.

و ليس في هذه الآية تعرّض لهذه المسألة لا بالنّفي و لا بالإثبات.

المسألة الرّابعة:قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً يدلّ على أنّه عليه السّلام كان معصوما عن جميع الذّنوب،لأنّ الإمام هو الّذي يؤتمّ به و يقتدى،فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك،فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية،و ذلك محال،لأنّ كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعا من فعله،و كونه واجبا عبارة عن كونه ممنوعا من تركه،و الجمع بينهما محال.(4:43)

أبو حيّان:المراد بالإمام هنا النّبيّ،أي صاحب شرع متّبع،لأنّه لو كان تبعا لرسول لكان مأموما لذلك الرّسول لا إماما له،و لأنّ لفظ الإمام يدلّ على أنّه إمام في كلّ شيء،و من يكون كذلك لا يكون إلاّ نبيّا،و لأنّ الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتّباعهم هم أئمّة، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:73،و الخلفاء أيضا أئمّة،و كذلك القضاة الفقهاء و المصلّي بالنّاس،و من يؤتمّ به في الباطل.قال تعالى:

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ القصص:41،فلمّا تناول الاسم هؤلاء كلّهم وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب و أعلاها،لأنّه ذكره في معرض الامتنان،فلا بدّ أن يكون أعظم نعمة،و لا شيء أعظم من النّبوّة.(1:376)

الطّريحيّ: أي يأتمّ بك النّاس فيتّبعونك و يأخذون عنك،لأنّ النّاس يؤمّون أفعاله،أي يقصدونها فيتّبعونها.و يقال للطّريق:إمام،لأنّه يؤمّ،أي يقصد و يتّبع.(6:10)

البروسويّ: يأتمّون بك في هذه الخصال و يقتدي بك الصّالحون،فهو نبيّ في عصره و مقتدى لكافّة النّاس إلى قيام السّاعة.(1:223)

الآلوسيّ: الإمام:اسم للقدوة الّذي يؤتمّ به،و منه قيل لخيط البناء:إمام.و هو مفرد على«فعال»،و جعله بعضهم اسم آلة،لأنّ«فعالا»من صيغها كالإزار.

و اعترض بأنّ«الإمام»ما يؤتمّ به،و«الإزار»ما يؤتزر به،فهما مفعولان؛و مفعول الفعل ليس بآلة،لأنّها الواسطة بين الفاعل و المفعول في وصول أثره إليه،و لو كان المفعول آلة،لكان الفاعل كذلك،و ليس فليس.

و يكون جمع«آمّ»اسم فاعل من أمّ يؤمّ،كجائع و جياع و قائم و قيام،و هو بحسب المفهوم و إن كان

ص: 271

شاملا للنّبيّ و الخليفة و إمام الصّلاة،بل كلّ من يقتدى به في شيء و لو باطلا،كما يشير إليه قوله تعالى:

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ القصص:41،إلاّ أنّ المراد به هاهنا النّبيّ المقتدى به،فإنّ من عداه لكونه مأموم النّبيّ،ليست إمامته كإمامته.

و هذه الإمامة إمّا مؤبّدة،كما هو مقتضى تعريف النّاس،و صيغة اسم الفاعل الدّالّ على الاستمرار، و لا يضرّ مجيء الأنبياء بعده،لأنّه لم يبعث نبيّ إلاّ و كان من ذرّيّته و مأمورا باتّباعه في الجملة لا في جميع الأحكام،لعدم اتّفاق الشّرائع الّتي بعده في الكلّ، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده الّتي هي أبعاضه على التّناوب.

و إمّا موقّتة بناء على أنّ ما نسخ-و لو بعضه-لا يقال له مؤبّد،و إلاّ لكانت إمامة كلّ نبيّ مؤبّدة و لم يشع ذلك.

فالمراد من«النّاس»حينئذ أمّته الّذين اتّبعوه.و لك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كلّ نبيّ و لكن في عقائد التّوحيد،و هي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام:90،و عدم الشّيوع غير مسلّم،و لئن سلّم لا يضرّ،و الامتنان على إبراهيم عليه السّلام بذلك دون غيره لخصوصيّة اقتضت ذلك لا تكاد تخفى،فتدبّر.

(1:375)

الطّباطبائيّ: أي مقتدى يقتدي بك النّاس، و يتّبعونك في أقوالك و أفعالك،فالإمام هو الّذي يقتدي و يأتمّ به النّاس،و لذلك ذكر عدّة من المفسّرين أنّ المراد به النّبوّة،لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقتدي به أمّته في دينهم، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ النّساء:63،لكنّه في غاية السّقوط.

أمّا أوّلا:فلأنّ قوله:(إماما)،مفعول ثان لعامله الّذي هو قوله:(جاعلك)و اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي،و إنّما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً وعد له عليه السّلام بالإمامة في ما سيأتي،مع أنّه وحي لا يكون إلاّ مع نبوّته،فقد كان عليه السّلام نبيّا قبل تقلّده الإمامة،فليست الإمامة في الآية بمعنى النّبوّة.ذكره بعض المفسّرين.

و أمّا ثانيا:فلأنّا بيّنّا في صدر الكلام[راجع الطّباطبائي 1:267.]أنّ قصّة الإمامة،إنّما كانت في أواخر عهد إبراهيم عليه السّلام بعد مجيء البشارة له بإسحاق و إسماعيل،و إنّما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط و إهلاكهم،و قد كان إبراهيم حينئذ نبيّا مرسلا،فقد كان نبيّا قبل أن يكون إماما،فإمامته غير نبوّته.

و منشأ هذا التّفسير و ما يشابهه الابتذال الطّارئ على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشّريف في أنظار النّاس،من تكرّر الاستعمال بمرور الزّمن،و من جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة،ففسّره قوم:بالنّبوّة و التّقدّم و المطاعيّة مطلقا،و فسّره آخرون:بمعنى الخلافة أو الوصاية،أو الرّئاسة في أمور الدّين و الدّنيا.و كلّ ذلك لم يكن فإنّ النّبوّة معناها تحمّل النّبأ من جانب اللّه، و الرّسالة معناها تحمّل التّبليغ،و المطاعيّة.و الإطاعة:

قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره،و هو من لوازم النّبوّة و الرّسالة،و الخلافة نحو من النّيابة،و كذلك

ص: 272

الوصاية،و الرّئاسة نحو من المطاعيّة،و هو مصدريّة الحكم في الاجتماع.و كلّ هذه المعاني غير معنى الإمامة الّتي هي كون الإنسان بحيث يقتدي به غيره بأن يطبّق أفعاله و أقواله على أفعاله و أقواله بنحو التّبعيّة، و لا معنى لأن يقال لنبيّ من الأنبياء مفترض الطّاعة:إنّي جاعلك للنّاس نبيّا،أو مطاعا فيما تبلّغه بنبوّتك،أو رئيسا تأمر و تنهى في الدّين،أو وصيّا،أو خليفة في الأرض تقضي بين النّاس في مرافعاتهم بحكم اللّه.

و ليست الإمامة تخالف الكلمات السّابقة و تختصّ بموردها بمجرّد العناية اللّفظيّة فقط؛إذ لا يصحّ أن يقال:

لنبيّ-من لوازم نبوّته كونه مطاعا بعد نبوّته-إنّي جاعلك مطاعا للنّاس بعد ما جعلتك كذلك،و لا يصحّ أن يقال له ما يؤول إليه معناه و إن اختلف بمجرّد عناية لفظيّة،فإنّ المحذور هو المحذور،و هذه المواهب الإلهيّة ليست مقصورة على مجرّد المفاهيم اللّفظيّة،بل دونها حقائق من المعارف الحقيقيّة،فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

و الّذي نجده في كلامه تعالى إنّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرّض التّفسير،قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السّلام: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ* وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:72،73،و قال سبحانه: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ السّجدة:24.فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثمّ قيّدها بالأمر،فبيّن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية الّتي تقع بأمر اللّه،و هذا الأمر هو الّذي بيّن حقيقته في قوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يس:82،83،و قوله: وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ القمر:50،و سنبيّن في الآيتين أنّ الأمر الإلهيّ و هو الّذي تسمّيه الآية المذكورة ب«الملكوت» وجه آخر للخلق،يواجهون به اللّه سبحانه،طاهر مطهّر من قيود الزّمان و المكان خال من التّغيّر و التّبدّل،و هو المراد بكلمة(كن)الّذي ليس إلاّ وجود الشّيء العينيّ، و هو قبال الخلق الّذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء، فيه التّغيّر و التّدريج و الانطباق على قوانين الحركة و الزّمان،فليكن هذا عندك على إجماله حتّى يأتيك تفصيله.

و بالجملة فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتيّ يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للنّاس في أعمالهم، و هدايتها و إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر اللّه،دون مجرّد إراءة الطّريق الّذي هو شأن النّبيّ و الرّسول و كلّ مؤمن يهدي إلى اللّه سبحانه بالنّصح و الموعظة الحسنة، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إبراهيم:4،و قال تعالى في مؤمن آل فرعون: وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ المؤمن:

38،و قال تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ التّوبة:122،و سيتّضح لك هذا المعنى مزيد اتّضاح.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب موهبة الإمامة بقوله: لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ، فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب اللّه-و قد أطلق الصّبر-فهو في كلّ ما يبتلى و يمتحن به عبد في عبوديّته،و كونهم قبل ذلك موقنين.و قد ذكر في جملة قصص إبراهيم عليه السّلام قوله: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ الأنعام:75،و الآية كما ترى تعطي بظاهرها أنّ إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه و يتبيّن به أنّ اليقين لا ينفكّ عن مشاهدة الملكوت،كما هو ظاهر قوله تعالى: كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ التّكاثر:5،6،و قوله تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ*... كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ المطفّفين:14-21.و هذه الآيات تدلّ على أنّ المقرّبين هم الّذين لا يحجبون عن ربّهم بحجاب قلبيّ و هو المعصية و الجهل و الرّيب و الشّكّ،فهم أهل اليقين باللّه،و هم يشهدون علّيّين كما يشهدون الجحيم.

ص: 273

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب موهبة الإمامة بقوله: لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ، فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب اللّه-و قد أطلق الصّبر-فهو في كلّ ما يبتلى و يمتحن به عبد في عبوديّته،و كونهم قبل ذلك موقنين.و قد ذكر في جملة قصص إبراهيم عليه السّلام قوله: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ الأنعام:75،و الآية كما ترى تعطي بظاهرها أنّ إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه و يتبيّن به أنّ اليقين لا ينفكّ عن مشاهدة الملكوت،كما هو ظاهر قوله تعالى: كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ التّكاثر:5،6،و قوله تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ*... كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ المطفّفين:14-21.و هذه الآيات تدلّ على أنّ المقرّبين هم الّذين لا يحجبون عن ربّهم بحجاب قلبيّ و هو المعصية و الجهل و الرّيب و الشّكّ،فهم أهل اليقين باللّه،و هم يشهدون علّيّين كما يشهدون الجحيم.

و بالجملة فالإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت-متحقّقا بكلمات من اللّه سبحانه-و قد مرّ أنّ الملكوت هو الأمر الّذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم،فقوله تعالى: يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يدلّ دلالة واضحة على أنّ كلّ ما يتعلّق به أمر الهداية-و هو القلوب و الأعمال-فللإمام باطنه و حقيقته،و وجهه الأمريّ حاضر عنده غير غائب عنه.

و من المعلوم أنّ القلوب و الأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين،فالإمام يحضر عنده و يلحق به أعمال العباد،خيرها و شرّها،و هو المهيمن على السّبيلين جميعا،سبيل السّعادة و سبيل الشّقاوة،و قال تعالى أيضا: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:

71.و سيجيء تفسيره بالإمام الحقّ دون كتاب الأعمال،على ما يظنّ من ظاهرها؛فالإمام هو الّذي يسوق النّاس إلى اللّه سبحانه يوم تبلى السّرائر،كما أنّه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدّنيا و باطنها.و الآية مع ذلك تفيد أنّ الإمام لا يخلو عنه زمان من الأزمنة، و عصر من الأعصار،لمكان قوله تعالى:(كلّ أناس) على ما سيجيء في تفسير الآية من تقريبه.

ثمّ إنّ هذا المعنى،أعني الإمامة،على شرافته و عظمته،لا يقوم إلاّ بمن كان سعيد الذّات بنفسه؛إذ الّذي ربّما تلبّس ذاته بالظّلم و الشّقاء فإنّما سعادته بهداية من غيره،و قد قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى يونس:

35.و قد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحقّ و بين غير المهتدي إلاّ بغيره،أعني المهتدي بغيره،و هذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحقّ مهتديا بنفسه،و أنّ المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحقّ البتّة.

و يستنتج من هنا أمران:

أحدهما:أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما عن الضّلال و المعصية،و إلاّ كان غير مهتد بنفسه-كما مرّ- كما يدلّ عليه أيضا قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ

ص: 274

اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ الأنبياء:

73،فأفعال الإمام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه،بتأييد إلهيّ و تسديد ربّانيّ، و الدّليل عليه قوله تعالى: (فِعْلَ الْخَيْراتِ) بناء على أنّ المصدر المضاف يدلّ على الوقوع،ففرق بين مثل قولنا:

و أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات،فلا يدلّ على التّحقّق و الوقوع،بخلاف قوله: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ فهو يدلّ على أنّ ما فعلوه من الخيرات إنّما هو بوحي باطنيّ،و تأييد سماويّ.

الثّاني:عكس الأمر الأوّل،و هو أنّ من ليس بمعصوم فلا يكون إماما هاديا إلى الحقّ البتّة.

و بهذا البيان يظهر:أنّ المراد بالظّالمين في قوله تعالى: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ مطلق من صدر عنه ظلم ما،من شرك أو معصية،و إن كان منه في برهة من عمره،ثمّ تاب و صلح.

و قد سئل بعض أساتيذنا رحمة اللّه عليه عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام.

فأجاب:أنّ النّاس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام:من كان ظالما في جميع عمره،و من لم يكن ظالما في جميع عمره،و من هو ظالم في أوّل عمره دون آخره،و من هو بالعكس هذا.و إبراهيم عليه السّلام أجلّ شأنا من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرّابع من ذرّيّته،فبقي قسمان و قد نفى اللّه أحدهما،و هو الّذي يكون ظالما في أوّل عمره دون آخره،فبقي الآخر، و هو الّذي يكون غير ظالم في جميع عمره،انتهى.و قد ظهر ممّا تقدّم من البيان أمور:

الأوّل:أنّ الإمامة لمجعولة.

الثّاني:أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهيّة.

الثّالث:أنّ الأرض و فيها النّاس،لا تخلو عن إمام حقّ.

الرّابع:أنّ الإمام يجب أن يكون مؤيّدا من عند اللّه تعالى.

الخامس:أنّ أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

السّادس:أنّه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه النّاس في أمور معاشهم و معادهم.

السّابع:أنّه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النّفس.

فهذه سبع مسائل هي أمّهات مسائل الإمامة،تعطيها الآية الشّريفة بما ينضمّ إليها من الآيات،و اللّه الهادي.

فإن قلت:لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر اللّه تعالى،و هي الهداية إلى الحقّ الملازم مع الاهتداء بالذّات،كما استفيد من قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ...، كان جميع الأنبياء أئمّة قطعا، لوضوح أنّ نبوّة النّبيّ لا يتمّ إلاّ باهتداء من جانب اللّه تعالى بالوحي،من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد و نحوهما،و حينئذ فموهبة النّبوّة تستلزم موهبة الإمامة،و عاد الإشكال إلى أنفسكم.

قلت:الّذي يتحصّل من البيان السّابق-المستفاد من الآية-أنّ الهداية بالحقّ و هي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحقّ،و أمّا العكس و هو أن يكون كلّ من

ص: 275

اهتدى بالحقّ هاديا لغيره بالحقّ حتّى يكون كلّ نبيّ لاهتدائه بالذّات إماما،فلم يتبيّن بعد،و قد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحقّ من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحقّ في قوله تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ* وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ الأنعام:84-90،و سياق الآيات كما ترى يعطي أنّ هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغيّر و يتخلّف،و أنّ هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول اللّه عن أمّته،بل عن ذرّية إبراهيم عليه السّلام منهم خاصّة،كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الزّخرف:26:-28.فأعلم قومه ببراءته في الحال، و أخبرهم بهدايته في المستقبل،و هي الهداية بأمر اللّه حقّا،لا الهداية الّتي يعطيها النّظر و الاعتبار،فإنّها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي، ثمّ أخبر اللّه أنّه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم،و هذا أحد الموارد الّتي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجيّ دون القول،كقوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها الفتح:26.

و قد تبيّن بما ذكر أنّ الإمامة في ولد إبراهيم بعده، و في قوله تعالى: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ إشارة إلى ذلك،فإنّ إبراهيم عليه السّلام إنّما كان سأل الإمامة لبعض ذرّيّته لا لجميعهم،فأجيب:بنفيها عن الظّالمين من ولده،و ليس جميع ولده ظالمين بالضّرورة حتّى يكون نفيها عن الظّالمين نفيا لها عن الجميع،ففيه إجابة لما سأله مع بيان أنّها عهد،و عهده تعالى لا ينال الظّالمين.(1:270)

عبد الكريم الخطيب :الإمامة و إن تكن نعمة و فضلا من اللّه فهي ابتلاء،لما لها من أعباء،لا يقدر على حملها و الوفاء بها على وجهها إلاّ أولو العزم من النّاس، و قد كان إبراهيم قدوة للنّاس في قيامه على هذه الإمامة،فنوّه اللّه به أكثر من موضع في القرآن الكريم، فقال: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى النّجم:37،أي وفّى الأمانة الّتي أدّاها على وجهها كاملة،و يعضد هذا المعنى الّذي نراه،ارتباطه بما سبقه من الحديث عن أهل الكتاب،و أنّهم حمّلوا أمانات فضيّعوها،و خانوا اللّه و خانوا أنفسهم فيها.(1:139)

2- ...وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً...

هود:17

الزّمخشريّ: كتابا مؤتمّا به في الدّين قدوة

ص: 276

فيه.(2:263)

مثله النّيسابوريّ(12:14)،و أبو حيّان(5:210)، و البروسويّ(4:110).

الفخر الرّازيّ: و اعلم أنّه تعالى وصف كتاب موسى عليه السّلام بكونه(اماما و رحمة)،و معنى كونه(اماما) أنّه كان مقتدى العالمين،و إماما لهم يرجعون إليه في معرفة الدّين و الشّرائع.و أمّا كونه(رحمة)فلأنّه يهدي إلى الحقّ في الدّنيا و الدّين؛و ذلك سبب لحصول الرّحمة و الثّواب.فلمّا كان سببا للرّحمة أطلق اسم الرّحمة عليه إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب.

(17:202)

أبو السّعود: أي مؤتمّا به في الدّين و مقتدى.و في التّعرّض لهذا الوصف بصدد بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلوّ.(3:12)

مثله الآلوسيّ.(12:29)

عبد الكريم الخطيب :أي؛متقدّما في الكتب السّماويّة.(6:1118)

3-.. وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً. الفرقان:74

ابن عبّاس: أئمّة التّقوى،و لأهله يقتدى بنا.(الطّبريّ 19:53)

اجعلنا أئمّة هدى،كما قال تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:73.(القرطبيّ 13:83)

مجاهد :أئمّة نقتدي بمن قبلنا،و نكون أئمّة لمن بعدنا.

اجعلنا مؤتمّين بهم،مقتدين بهم.

(الطّبريّ 19:53)

مكحول:اجعلنا أئمّة في التّقوى،يقتدي بنا المتّقون.(القرطبيّ 13:83)

الإمام الصّادق عليه السّلام: نحن هم أهل البيت.عليّ ابن أبي طالب و الأئمّة عليهم السّلام.

[و في حديث...]إيّانا عنى.

[و في حديث:...]هذه فينا.

(العروسيّ 4:43)

الفرّاء: و لم يقل:أئمّة،و هو واحد يجوز في الكلام أن تقول:أصحاب محمّد أئمّة النّاس و إمام النّاس،كما قال: إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ الشّعراء:16،للاثنين.

و معناه:اجعلنا أئمّة يقتدى بنا.(2:274)

الأخفش: «الإمام»هاهنا جماعة،كما قال:

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي الشّعراء:77،و يكون على الحكاية، كما يقول الرّجل إذا قيل له:من أميركم؟قال:هؤلاء أميرنا.(2:643)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويله،فقال بعضهم:معناه اجعلنا أئمّة يقتدى بنا من بعدنا.

و قال آخرون:بل معناه و اجعلنا للمتّقين إماما نأتمّ بهم،و يأتمّ بنا من بعدنا.

و أولى القولين في ذلك بالصّواب قول من قال:

معناه و اجعلنا للمتّقين الّذين يتّقون معاصيك،و يخافون عقابك،إماما يأتمّون بنا في الخيرات،لأنّهم إنّما سألوا ربّهم أن يجعلهم للمتّقين أئمّة،و لم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما.

و قال: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً و لم يقل:أئمّة،

ص: 277

و قد قالوا:و اجعلنا،و هم جماعة،لأنّ الإمام مصدر من قول القائل:أمّ فلان فلانا إماما،كما يقال:قام فلان قياما،و صام يوم كذا صياما.و من جمع الإمام أئمّة، جعل الإمام اسما،كما يقال:أصحاب محمّد إمام،و أئمّة للنّاس،فمن وحّد قال:يأتمّ بهم النّاس.و هذا القول الّذي قلناه في ذلك قول بعض نحويّ أهل الكوفة.و قال بعض أهل البصرة من أهل العربيّة:الإمام في قوله:

لِلْمُتَّقِينَ إِماماً جماعة،كما تقول:كلّهم عدول.قال:

و يكون على الحكاية،كما يقول القائل؛إذا قيل له:من أميركم؟هؤلاء أميرنا.(19:53)

القفّال:الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحّد، كأنّه قيل:اجعلنا حجّة للمتّقين،و مثله البيّنة،هؤلاء بيّنة فلان.(الفخر الرّازيّ 24:115)

الهرويّ: معنى الإمام هاهنا الأئمّة،أي يأتمّ بنا من بعدنا.(1:91)

الطّوسيّ: أي يسألون اللّه تعالى أن يجعلهم ممّن يقتدى بأفعالهم الطّاعات.و في قراءة أهل البيت:

(و اجعل لنا من المتّقين اماما) ،و إنّما وحّد(اماما)لأنّه مصدر من قولهم:أمّ فلان فلانا إماما،كقولهم:قام قياما و صام صياما.و من جمعه فقال:أئمّة،فلأنّه قد كثر في معنى الصّفة.و قيل:إنّه يجوز أن يكون على الجواب، كقول القائل:من أميركم؟فيقول:هؤلاء أميرنا.

(7:512)

الميبديّ: أي أئمّة يقتدون في الخير بنا.و وحّد (اماما)لأنّه مصدر،كالصّيام و القيام،يقال:أمّ إماما،كما يقال:صام صياما و قام قياما.و قيل:هو جمع آمّ،كراع و رعاء و تاجر و تجار.و قيل:معناه:اجعل كلّ واحد منّا إماما.و قيل:واحد أراد به الجمع،كقوله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً المؤمن:67،أي أطفالا، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي الشّعراء:77،أي أعداء.(7:69)

الزّمخشريّ: أراد أئمّة،فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس و لعدم اللّبس،كقوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً أو أراد:و اجعل كلّ واحد منّا إماما،أو أراد جمع «آمّ»كصائم و صيام،أو أراد:و اجعلنا إماما واحدا لاتّحادنا و اتّفاق كلمتنا.و عن بعضهم:في الآية ما يدلّ على أنّ الرّئاسة في الدّين يجب أن تطلب و يرغب فيها.

(3:102)

نحوه أبو حيّان(6:517)،و البيضاويّ(2:152).

أبو البركات: (اماما)فيه وجهان:

أحدهما:أن يكون إماما واحدا أريد به الجمع،أي أئمّة كثيرا،و اكتفى بالواحد عن الجمع للعلم به،كقولهم:

نزلنا الوادي فصدنا غزالا كثيرا،أي غزلانا،و هذا كثير في كلامهم.

و الثّاني:أن يكون جمع«آمّ»،و أصله:امم،على وزن(فاعل)،و إنّما يدغم لئلاّ يجتمع حرفان متحرّكان من جنس واحد في كلمة واحدة،و(فاعل)يجمع على «فعال»،نحو قائم و قيام،و صاحب و صحاب.

(2:210)

الرّازيّ: إن قيل:كيف قال تعالى: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً و لم يقل:أئمّة؟

قلنا:مراعاة لفواصل الآيات،و قيل:تقديره:

و اجعل كلّ واحد منّا إماما.(مسائل الرّازيّ:247)

ص: 278

القرطبيّ:أي قدوة يقتدى بنا في الخير،و هذا لا يكون إلاّ أن يكون الدّاعي متّقيا قدوة؛و هذا هو قصد الدّاعي.و قال:«إماما»و لم يقل أئمّة على الجمع؛لأنّ الإمام مصدر.يقال:أمّ القوم فلان إماما؛مثل الصّيام و القيام.و قال بعضهم:أراد أئمّة،كما يقول القائل أميرنا هؤلاء،يعني أمراءنا.و قال الشّاعر:

يا عاذلاتى لا تزدن ملامتي

إنّ العواذل لسن لي بأمير

أي أمراء.و كان القشيريّ أبو القاسم شيخ الصّوفيّة يقول:الإمامة بالدّعاء لا بالدّعوى،يعني بتوفيق اللّه و تيسيره و منّته لا بما يدّعيه كلّ أحد لنفسه.و قال إبراهيم النّخعيّ:لم يطلبوا الرّياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدّين.و قال ابن عبّاس:اجعلنا أئمّة هدى،كما قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا و قال مكحول:اجعلنا أئمّة في التّقوى يقتدي بنا المتّقون.

و قيل:هذا من المقلوب؛مجازه:و اجعل المتّقين لنا إماما؛و قاله مجاهد.و القول الأوّل أظهر،و إليه يرجع قول ابن عبّاس و مكحول،و يكون فيه دليل على أنّ طلب الرّياسة في الدّين ندب.و إمام واحد يدلّ على جمع؛لأنّه مصدر كالقيام.قال الأخفش:الإمام جمع آمّ من أمّ يؤمّ جمع على فعال،نحو صاحب و صحاب، و قائم و قيام.(13:83)

أبو السّعود: [قال مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

و أنت خبير بأنّ مدار الكلّ صدور هذا الدّعاء إمّا عن الكلّ بطريق المعيّة،و أنّه محال لاستحالة اجتماعهم في عصر واحد،فما ظنّك باجتماعهم في مجلس واحد و اتّفاقهم على كلمة واحدة.و إمّا عن كلّ واحد بطريق تشريك غيره في استدعاء الإمامة،و أنّه ليس بثابت جزما بل الظّاهر صدوره عنهم بطريق الانفراد.و أنّ عبارة كلّ واحد منهم عند الدّعاء:

و اجعلني للمتّقين إماما،خلا أنّه حكيت عبارات الكلّ بصيغة المتكلّم مع الغير للقصد إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً المؤمنون:51،و أبقى إماما على حاله.

و قيل:الإمام جمع«آمّ»بمعنى قاصد،كصيام جمع صائم،و معناه قاصدين لهم مقتدين بهم.(4:99)

الآلوسيّ: أي اجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدّين بإفاضة العلم و التّوفيق للعمل،و إمام يستعمل مفردا و جمعا كهجان،و المراد به هنا:الجمع ليطابق المفعول الأوّل ل«جعل»،و اختير على أئمّة، لأنّه أوفق بالفواصل السّابقة و اللاّحقة.و قيل:هو مفرد و أفرد مع لزوم المطابقة،لأنّه اسم جنس فيجوز إطلاقه على معنى الجمع مجازا بتجريده من قيد الوحدة،أو لأنّه في الأصل مصدر،و هو لكونه موضوعا للماهيّة شامل للقليل و الكثير وضعا،فإذا نقل لغيره قد يراعى أصله.أو لأنّ المراد و اجعل كلّ واحد منّا،أو لأنّهم كنفس واحدة لاتّحاد طريقتهم و اتّفاق كلمتهم.[و بعد نقل قول أبي السّعود قال:]

و تعقّب بأنّ فيه تكلّفا و تعسّفا مع مخالفته للعربيّة، و أنّه ليس مداره على ذلك بل أنّهم شركوا في الحكاية في لفظ واحد لاتّحاد ما صدر عنهم مع أنّه يجوز اختيار الثّاني،لأنّ التّشريك في الدّعاء أدعى للإجابة،فاعرف

ص: 279

و لا تغفل.

و روي عن مجاهد أنّ(اماما)جمع«آمّ»بمعنى قاصد،كصيام جمع صائم،و المعنى اجعلنا قاصدين للمتّقين مقتدين بهم،و ما ذكر أوّلا أقرب كما لا يخفى.

و ليس في ذلك كما قال النّخعيّ:طلب للرّئاسة بل مجرّد كونهم قدوة في الدّين و علماء عاملين.(19:53)

ابن باديس :«الإمام»هو المتّبع المقتدى به، و أفرد،لأنّ المراد به الجنس،و حسن الإفراد من جهة اللّفظ لوقوعه فاصلة على وزان ما قبلها و ما بعدها.و من جهة المعنى أنّ أئمّة الهدى كنفس واحدة،لاتّحاد طريقهم بالسّير على الصّراط المستقيم،و اتّحاد وجهتهم بالقصد إلى اللّه تعالى وحده.(319)

الطّباطبائيّ: أي متسابقين إلى الخيرات،سابقين إلى رحمتك،فيتبعنا غيرنا من المتّقين،كما قال تعالى:

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ البقرة:148،و قال: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ الحديد:21،قال:

وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ الواقعة:

10،11.و كأنّ المراد أن يكونوا صفّا واحدا متقدّما على غيرهم من المتّقين؛و لذا جيء بالإمام بلفظ الإفراد.

(15:245)

4- ..وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ. يس:12

الإمام عليّ عليه السّلام:أنا و اللّه الإمام المبين،أبيّن الحقّ من الباطل و ورثته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

(القمّيّ 2:212)

مجاهد :أراد اللّوح المحفوظ.

مثله قتادة و ابن زيد.(القرطبيّ 15:13)

و مثله الكاشانيّ(4:247)،و البغويّ(6:4)، و الخازن(6:4)،و الزّمخشريّ(3:317)،و البيضاويّ (2:277)،و النّيسابوريّ(23:10).

في أمّ الكتاب.(الطّبريّ 22:155)

الحسن :أراد به صحائف الأعمال.

(الطّبرسيّ 4:418)

ابن زيد :أمّ الكتاب الّتي عند اللّه فيها الأشياء كلّها هي الإمام المبين.(الطّبريّ 22:155)

القمّيّ:أي في كتاب مبين،و هو محكم.

(2:212)

الطّوسيّ: معناه أحصيناه في كتاب ظاهر،و هو اللّوح المحفوظ.و الوجه في إحصاء ذلك في إمام مبين اعتبار الملائكة به إذا قابلوا به ما يحدث من الأمور، و كان فيه دليل على معلومات اللّه على التّفصيل.

(8:447)

مثله الطّبرسيّ(4:418)

الميبديّ: هو اللّوح المحفوظ،سمّي إماما،لأنّه أصل النّسخ و الألواح و الكتب كلّها.(8:209)

الفخر الرّازيّ:سمّي الكتاب إماما،لأنّ الملائكة يتّبعونه فما كتب فيه من أجل و رزق و إحياء و إماتة اتّبعوه.

و قيل:هو اللّوح المحفوظ.و«إمام»جاء جمعا في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء 71،أي بأئمّتهم.و حينئذ فإمام إذا كان فردا فهو ككتاب و حجاب،و إذا كان جمعا فهو كجبال و حبال.(26:50)

ص: 280

القرطبيّ: الإمام:الكتاب المقتدى به الّذي هو حجّة.(15:13)

البروسويّ: أصل عظيم الشّأن مظهر لجميع الأشياء ممّا كان و ما سيكون،و هو اللّوح المحفوظ سمّي إماما،لأنّه يؤتمّ به و يتّبع.

و في«التّأويلات النّجميّة»،أي أثبتنا آثاره و أنواره في لوح محفوظ قلوب أحبابنا.

و اعلم أنّ قلب الإنسان الكامل إمام مبين و لوح إلهيّ،فيه أنوار الملكوت منتقشة و أسرار الجبروت منطبعة،ممّا كان في حدّ البشر دركه و طوق العقل الكلّيّ كشفه.و إنّما يحصل هذا بعد التّصفية بحيث لم يبق في القلب صورة ذرّة ممّا يتعلّق بالكونين.(7:376)

الآلوسيّ:أصل عظيم الشّأن يؤتمّ و يقتدى به، و يتّبع و لا يخالف.

و فسّر بعضهم«الإمام المبين»بعلمه تعالى الأزليّ، كما فسّر(أمّ الكتاب)في قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ، به و هو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه،كما يلوح به قول الشّافعيّ:

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى و المسنّ

و وصفه بمبين،لأنّه مظهر فقد قالوا:العلم صفة يتجلّى بها المذكور لمن قامت به،أو لأنّ إظهار الأشياء من خزائن العدم يكون بعد تعلّقه،فإنّ القدرة إنّما تتعلّق بالشّيء بعد العلم،فالشّيء يعلم أوّلا ثمّ يراد،ثمّ تتعلّق القدرة بإيجاده فيوجد،و لا يخفى ما في هذا التّفسير من ارتكاب خلاف الظّاهر،و عليه فلا كلام في العموم،نعم في كيفيّة وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محلّه كتب الكلام.

و عن الحسن أنّه أريد به صحف الأعمال،و ليس بذلك.(22:219)

عزّة دروزة :كناية عن علم اللّه الشّامل حيث تحصى على الكفّار أعمالهم إحصاء دقيقا و واضحا.

(2:215)

الطّباطبائيّ: هو اللّوح المحفوظ من التّغيير الّذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كلّ شيء.و قد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة، كاللّوح المحفوظ،و أمّ الكتاب و الكتاب المبين،و الإمام المبين،كلّ منها بعناية خاصّة.

و لعلّ العناية في تسميته«إماما مبينا»أنّه لاشتماله على القضاء المحتوم،متبوع للخلق مقتدى لهم.و كتب الأعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه،قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية:29.

و قيل:المراد ب«الإمام المبين»صحف الأعمال، و ليس بشيء.و قيل:علمه تعالى،و هو كسابقه.نعم لو أريد به العلم الفعليّ كان له وجه.(17:67)

5- فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ.

الحجر:79

ابن عبّاس: بكتاب مبين بلغة قريش.

(اللّغات في القرآن:31)

يعني قريتي قوم لوط،و أصحاب الأيكة لبطريق

ص: 281

يؤمّ و يتّبع و يهتدى به.

مثله مجاهد و الضّحّاك و الحسن.

(الطّوسيّ 6:351)

طريق ظاهر.(الطّبريّ 14:49)

قتادة :طريق واضح.(الطّبريّ 14:49)

مثله القرطبيّ(10:45)،و النّيسابوريّ(14:32)، و أبو رزق(1:81).

الفرّاء: بطريق لهم يمرّون عليها في أسفارهم، فجعل الطّريق إماما،لأنّه يؤمّ و يتّبع.(2:91)

مثله الزّجّاج(الفخر الرّازيّ 19:214)،و نحوه الطّبريّ(14:49).

ابن قتيبة :أي لبطريق واضح بيّن.و قيل للطّريق إمام،لأنّ المسافر يأتمّ به حتّى يصير إلى الموضع الّذي يريده.(239)

نحوه الخازن.(4:59)

الجبّائيّ: و هو الكتاب السّابق الّذي هو اللّوح المحفوظ،ثابت ذلك فيه ظاهر.(الطّوسيّ 6:351)

الهرويّ: إنّ القريتين المهلكتين لبطريق واضح، يراهما من اعتبر.و إنّما قيل للطّريق:إمام،لأنّه يؤمّ فيه للمسالك،أي يقصد.(1:90)

الطّوسيّ: الإمام في اللّغة هو المقدّم الّذي يتبعه من بعده،و إنّما كانا ب(امام مبين)لأنّهما على معنى يجب أن يتّبع فيما يقتضيه و يدلّ عليه،و(المبين):

الظّاهر.(6:351)

الميبديّ: جمهور المفسّرين على أنّ الكناية تعود إلى قريتي قوم لوط و شعيب،أي إنّهما على ممرّ السّابلة.

و الإمام:الطّريق يؤمّه كلّ أحد.و قيل:الكناية ترجع إلى لوط و شعيب،أي إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ طريق من الجنّة واضح.قيل:الخبر بهلاك قوم لوط،و أصحاب الأيكة لمكتوب في إمام مبين،و هو اللّوح المحفوظ.

(5:327)

الزّمخشريّ: لبطريق واضح،و الإمام:اسم لما يؤتمّ به فسمّي به الطّريق و مطمر البناء و اللّوح الّذي يكتب فيه،لأنّهما ممّا يؤتمّ به.(2:396)

مثله أبو السّعود(3:155)،و البيضاويّ(1:545)، و النّسفيّ(2:277)،و الفخر الرّازيّ(19:204).

أبو حيّان: أي بطريق من الحقّ واضح.و الإمام:

الطّريق.و قيل:و(انّهما)أي الخبر بهلاك قوم لوط و أصحاب الأيكة،لفي مكتوب مبين،أي اللّوح المحفوظ.

قال مؤرّج:و الإمام:الكتاب،بلغة حمير.

(5:463)

البروسويّ: لبطريق واضح.و الإمام:اسم ما يؤتمّ به،قال اللّه تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً، أي يؤتمّ و يقتدى بك.

و يسمّى به الكتاب أيضا،لأنّه يؤتمّ بما أحصاه الكتاب.قال اللّه تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، أي بكتابهم.و قال: كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ، يعني في اللّوح المحفوظ،و هو الكتاب، و يسمّى الطّريق إماما،لأنّ المسافر يأتمّ به و يستدلّ به، و يسمّى مطمر البنّاء إماما و هو الزّيج،أي الخيط الّذي يكون مع البنّائين معرّب«زه».(4:482)

ص: 282

الآلوسي: أي لبطريق واضح يتكرّر مع الإخبار عنها آنفا،بأنّها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسّرين و جمع غيرها معها في الإخبار لا يدفع التّكرار بالنّسبة إليها،و كأنّه لهذا قال بعضهم:الضّمير يعود على لوط و شعيب عليهما السّلام،أي و إنّهما لبطريق من الحقّ واضح.

و الإمام:اسم لما يؤتمّ به،و قد سمّي به الطّريق و اللّوح المحفوظ و مطلق اللّوح المعدّ للقراءة،و زيج البنّاء.و يراد به على هذا اللّوح المحفوظ.(14:75)

عبد الكريم الخطيب :الإمام:المقدّم،و الإمام من كلّ شيء:مقدّمه،لأنّه يكون أمامه.و المراد به هنا الهادي و المرشد.(7:256)

6- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ... الإسراء:71.

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:يدعى كلّ قوم بإمام زمانهم،و كتاب اللّه،و سنّة نبيّهم.(العروسيّ 3:190)

الإمام عليّ عليه السّلام:بإمام عصرهم.

(القرطبيّ 10:297)

الإمام الحسين عليه السّلام: إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه،و إمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها،هؤلاء في الجنّة،و هؤلاء في النّار،و هو قوله عزّ و جلّ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ الشّورى:7.

(العروسيّ 3:192)

ابن عبّاس: أي بكتابهم،أي بكتاب كلّ إنسان منهم الّذي فيه عمله،دليله: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الإسراء:71.

مثله الحسن،و قتادة،و الضّحّاك.

(القرطبيّ 10:296)

إمام هدى و إمام ضلالة.(الآلوسيّ 15:120)

(بامامهم)بكتاب أعمالهم،فيقال:يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشّرّ.

مثله أبو العالية،و الرّبيع،و الحسن.

(الآلوسيّ 15:121)

الإمام:ما عمل و أملى،فكتب عليه،فمن بعث متّقيا للّه جعل كتابه بيمينه،فقرأه و استبشر و لم يظلم فتيلا.(الطّبريّ 15:126)

إمامه:كتاب علمه.و روي عنه أيضا أنّ(إمامهم) كتابهم الّذي أنزل اللّه إليهم فيه الحلال و الحرام و الفرائض و الأحكام.(الطّوسيّ 6:504) أبو العالية :بأعمالهم.

مثله الحسن.(الطّبريّ 15:127)

مجاهد :نبيّهم.

مثله قتادة،و ابن أبي بزّة.(الطّبريّ 15:127)

بكتابهم.

مثله الضّحّاك.(الطّبريّ 15:127)

الضّحّاك: معناه بكتابهم الّذي أنزل عليهم من أوامر اللّه و نواهيه،فيقال:يا أهل القرآن و يا أهل التّوراة.

(الطّبرسيّ 3:429)

مثله ابن زيد.(الفخر الرّازيّ 21:17)

الإمام الباقر عليه السّلام: لمّا نزلت هذه الآية،قال المسلمون:يا رسول اللّه أ لست إمام النّاس كلّهم أجمعين؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«أنا رسول اللّه إلى

ص: 283

النّاس أجمعين،و لكن سيكون من بعدي أئمّة على النّاس من اللّه من أهل بيتي،يقومون في النّاس فيكذّبون و تظلمهم أئمّة الكفر و الضّلال و أشياعهم؛فمن والاهم اتّبعهم و صدّقهم فهو منّي و معي و سيلقاني،ألا و من ظلمهم و كذّبهم فليس منّي و لا معي و أنا منه بريء».

[و هناك روايات بهذا المعنى و كلّها تأويلات].(العروسيّ 3:191)

من كان يأتمّون به في الدّنيا و يؤتى بالشّمس و القمر فيقذفان في حميم و من يعبدهما.

(العروسيّ 3:194)

ابن كعب القرظيّ: أي بأمّهاتهم.

(الميبديّ 5:591)

الإمام الصّادق عليه السّلام: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ بإمامه الّذي مات في عصره،فإن انتبه أعطي كتابه بيمينه لقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، فإن أوتي كتابه بيمينه فيقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ الحاقّة:19،20.

و الكتاب:الإمام،فمن نبذه وراء ظهره كان كما قال: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران:187،و من أنكره كان من أصحاب الشّمال الّذين قال اللّه:

ما أَصْحابُ الشِّمالِ* فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ* وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ الواقعة:41-43.(العروسيّ 3:193)

إن كنتم تريدون أن تكونوا معنا يوم القيامة لا يلعن بعضنا بعضا فاتّقوا اللّه و أطيعوا،فإنّ اللّه يقول: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ. (العروسيّ 3:194)

لا تترك الأرض بغير إمام يحلّ حلال اللّه و يحرّم حرام اللّه،و هو قول اللّه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ. (العروسيّ 3:194)

أي من كان اقتدى بمحقّ قبل و زكّي.

(العروسيّ 3:193)

الإمام الرّضا عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة قال اللّه:

أ ليس عدل من ربّكم أن تولّوا كلّ قوم من تولّوا؟قالوا:

بلى،قال:فيقول تميّزوا فيتميّزون.(العروسيّ 3:194)

أبو عبيدة :أي بالّذي اقتدوا به و جعلوه إماما، و يجوز أن يكون بكتابهم.(1:386)

إنّ معناه بمن كانوا يأتمّون به من علمائهم و أئمّتهم.

مثله الجبّائيّ.(الطّبرسيّ 3:429)

ابن الأعرابيّ: قالت طائفة:(بامامهم):

بكتابهم.

و قالت طائفة:دينهم و شرعهم.

و قيل:بكتابهم الّذي أحصى فيه عملهم.

(الأزهريّ 15:638)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في معنى الإمام الّذي ذكر اللّه جلّ ثناؤه أنّه يدعو كلّ أناس به،فقال بعضهم:هو نبيّه،و من كان يقتدي به في الدّنيا و يأتمّ به.

و قال آخرون:بل معنى ذلك أنّه يدعوهم بكتب أعمالهم الّتي عملوها في الدّنيا.

و قال آخرون:بل معناه يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الّذي أنزلت عليهم فيه أمري و نهيي.

و أولى هذه الأقوال عندنا بالصّواب،قول من قال معنى ذلك:يوم ندعو كلّ أناس بامامهم الّذي كانوا يقتدون به،و يأتمّون به في الدّنيا،لأنّ الأغلب من

ص: 284

استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ و اقتدي به،و توجيه معاني كلام اللّه إلى الأشهر أولى،ما لم تثبت حجّة بخلافه يجب التّسليم لها.(15:126)

القمّيّ: ذلك يوم القيامة ينادي مناد ليقم فلان و شيعته و فلان و شيعته و فلان و شيعته و عليّ و شيعته(2:23)

الميبديّ: يعنى بمعبودهم،فيقال:يا عبدة النّيران، يا عبدة الأوثان،يا عبدة الصّلبان،يا عبدة الشّيطان، فيلحق كلّ عابد بمعبوده،و يبقى المؤمنون مع معبودهم.

(5:591)

الزّمخشري: بمن ائتمّوا به من نبيّ أو مقدّم في الدّين،أو كتاب أو دين،فيقال:يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا.و قيل:كتاب أعمالهم،فيقال:

يا أصحاب كتاب الخير و يا أصحاب كتاب الشّرّ.و في قراءة الحسن: (بكتابهم) .

و من بدع التّفاسير أنّ«الإمام»جمع أمّ،و أنّ النّاس يدعون يوم القيامة بأمّهاتهم،و أنّ الحكمة في الدّعاء بالأمّهات دون الآباء رعاية حقّ عيسى عليه السّلام،و إظهار شرف الحسن و الحسين،و أن لا يفتضح أولاد الزّنى.

و ليت شعري أيّهما أبدع أ صحّة لفظه أم بهاء حكمته؟.(2:459)

ابن عطيّة: يحتمل أن يريد باسم إمامهم،و يحتمل أن يريد مع إمامهم،فعلى التّأويل الأوّل:يقال:يا أمّة محمّد،و يا أتباع فرعون،و نحو هذا،و على التّأويل الثّاني:تجيء كلّ أمّة معها إمامها،من هاد أو مضلّ.[ثمّ أشار إلى أقوال المفسّرين](3:473)

الفخر الرّازيّ: [و بعد نقل أقوال رسول اللّه و الضّحّاك،و ابن زيد،و الزّمخشريّ قال:]

و القول الخامس:أقول:في اللّفظ احتمال آخر و هو أنّ أنواع الأخلاق الفاضلة و الفاسدة كثيرة و المستولي على كلّ إنسان نوع من تلك الأخلاق،فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب،و منهم من يكون الغالب عليه شهوة النّقود أو شهوة الضّياع،و منهم من يكون الغالب عليه الحقد و الحسد؛و في جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفّة أو الشّجاعة أو الكرم أو طلب العلم و الزّهد.إذا عرفت هذا فنقول:الدّاعي إلى الأفعال الظّاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن،كالإمام له و الملك المطاع و الرّئيس المتبوع فيوم القيامة إنّما يظهر الثّواب و العقاب بناء على الأفعال النّاشئة من تلك الأخلاق،فهذا هو المراد من قوله:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ. فهذا الاحتمال خطر بالبال،و اللّه أعلم بمراده.(21:17)

البروسويّ: أي بمن ائتمّوا به من نبيّ،فيقال:يا أمّة عيسى و نحو ذلك،أو مقدّم في الدّين فيقال:يا حنفيّ و يا شافعيّ و نحوهما،أو كتاب فيقال:يا أهل القرآن و يا أهل الإنجيل و غيرهما،أو دين فيقال:يا مسلم و يا يهوديّ و يا نصراني و غير ذلك.

و في«التّأويلات النّجميّة»:يشير إلى ما يتبعه كلّ قوم و هو إمامهم.فقوم يتّبعون الدّنيا و زينتها و شهواتها، فيدعون يا أهل الدّنيا.و قوم يتّبعون الآخرة و نعيمها و درجاتها،فيدعون يا أهل الآخرة.و قوم يتّبعون الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم محبّة للّه و طلبا لقربته و معرفته،فيدعون

ص: 285

يا أهل اللّه.(5:187)

الآلوسيّ: الإمام المقتدى به و المتّبع عاقلا كان أو غيره،و الجار و المجرور متعلّق ب(ندعوا)،أي ندعوا كلّ أناس من بني آدم الّذين فعلنا بهم في الدّنيا ما فعلنا من التّكريم،و ما عطف عليه بمن ائتمّوا به من نبيّ أو مقدّم في الدّين أو كتاب أو دين،فيقال:يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا.[و بعد نقل أقوال رسول اللّه،و ابن عبّاس،و أبي العالية قال:]

و قيل:المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم و أفعالهم كالقوّة النّظريّة و العمليّة،و القوّة الغضبيّة و الشّهويّة سواء كانت الشّهوة شهوة النّقود أو الضّياع أو الجاه و الرّئاسة،و لاتّباعهم لها دعيت«إماما»،و هو مع كونه غير مأثور بعيد جدّا،فلا يقتدى بقائله و إن كان إماما.

[ثمّ حكى ما في«الكشّاف»من أنّه جمع جمع الأمّ و أضاف:]و وجه عدم قبوله على ما في«الكشف»،أمّا أوّلا فلأنّ إمام جمع«أمّ»غير شائع و إنّما المعروف الأمّهات.

و أمّا ثانيا فلأنّ رعاية حقّ عيسى عليه السّلام في امتيازه بالدّعاء بالأمّ،فإنّ خلقه من غير أب كرامة له لا غضّ منه ليجبر بأنّ النّاس أسوته في انتسابهم إلى الأمّهات، و إظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتمّ،فإنّ أباهما خير من أمّهما مع أنّ أهل البيت كحلقة مفرغة.

و أمّا افتضاح أولاد الزّنى فلا فضيحة إلاّ للأمّهات و هي حاصلة دعي غيرهم بالأمّهات أو بالآباء و لا ذنب لهم في ذلك حتّى يترتّب عليه الافتضاح انتهى.

و ما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بيّن،و أمّا الطّعن في الحكمة فقد تعقّب فإنّ حاصلها إنّه لو دعي جميع النّاس بآبائهم و دعي عيسى عليه السّلام بأمّه لربّما أشعر بنقص؛فروعي تعظيمه عليه السّلام،و دعي الجميع بالأمّهات، و كذا روعي تعظيم الحسنين رضي اللّه تعالى عنهما لما أنّ في ذلك بيان نسبهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و لو نسبا إلى أبيهما لم يفهم هذا و إن كان هو هو رضي اللّه تعالى عنه، و في ذلك أيضا ستر على الخلق حتّى لا يفتضح أولاد الزّنى،فإنّه لو دعي النّاس بآبائهم و دعوا هم بأمّهاتهم، علم أنّهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم،و فيه تشهير لهم،و لو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدّنيا و إن لم ينسبوا إليهم شرعا كان كذلك،و على هذا يسقط ما في الكشف.و عندي أنّ القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسّك بخبر،لأنّه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها،و لا تكاد تسلم حكمته عن وهن.

و لعلّ الخبر إن كان ليس بالصّحيح و يعارضه ما قدّمناه،غير بعيد من قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم و أسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم» و اللّه تعالى أعلم.و ما ذكر من تعلّق الجارّ بما عنده هو الظّاهر الّذي ذهب إليه الجمهور،و جوّز أن يكون متعلّقا بمحذوف وقع حالا،أي مصحوبين بإمامهم،ثمّ إنّ الدّاعي إمّا اللّه عزّ و جلّ و إمّا الملك و هو الّذي تشعر به الآثار،فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز.(15:120)

عزّة دروزة :(إمامهم)،قيل:إنّها بمعنى رسولهم.

و قيل:إنّها بمعنى كتاب أعمالهم.و قيل:إنّها بمعنى علاماتهم.(3:353)

ص: 286

الطّباطبائيّ: الإمام:المقتدى،و قد سمّى اللّه سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون النّاس بأمر اللّه،كما في قوله: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124،و قوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:73،و أفرادا آخرين يقتدى بهم في الضّلال، كما في قوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ التّوبة:12.

و سمّي به أيضا التّوراة،كما في قوله: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً هود:17،و ربّما استفيد منه أنّ الكتب السّماويّة المشتملة على الشّريعة، ككتاب نوح و إبراهيم و عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله جميعا أئمّة.

و سمّي به أيضا اللّوح المحفوظ،كما هو ظاهر قوله تعالى: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يس:12.

و لمّا كان ظاهر الآية أنّ لكلّ طائفة من النّاس إماما غير ما لغيرها،فإنّه المستفاد من إضافة الإمام إلى الضّمير الرّاجع إلى كلّ أناس،لم يصلح أن يكون المراد بالإمام في الآية اللّوح،لكونه واحدا لا اختصاص له بأناس دون أناس.

و أيضا ظاهر الآية أنّ هذه الدّعوة تعمّ النّاس جميعا من الأوّلين و الآخرين،و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ البقرة:213.أنّ أوّل الكتب السّماويّة المشتملة على الشّريعة هو كتاب نوح عليه السّلام و لا كتاب قبله في هذا الشّأن؛و بذلك يظهر عدم صلاحيّة كون الإمام في الآية مرادا به الكتاب،و إلاّ خرج من قبل نوح من شمول الدّعوة في الآية.

فالمتعيّن أن يكون المراد«بإمام كلّ أناس»من يأتمّون به في سبيلي الحقّ و الباطل،كما تقدّم أنّ القرآن يسمّيهما إمامين أو إمام الحقّ خاصّة،و هو الّذي يجتبيه اللّه سبحانه في كلّ زمان لهداية أهله بأمره،نبيّا كان كإبراهيم و محمّد عليهما السّلام أو غير نبيّ.و قد تقدّم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ... البقرة:124.

لكنّ المستفاد من مثل قوله في فرعون و هو من أئمّة الضّلال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ هود:98،و قوله: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ الأنفال:37،و غيرهما من الآيات و هي كثيرة،أنّ أهل الضّلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة،و لازم ذلك أن يصاحبوهم في الدّعوة و الإحضار.

على أنّ قوله:(بامامهم)مطلق لم يقيّد بالإمام الحقّ الّذي جعله اللّه إماما هاديا بأمره.و قد سمّى مقتدى الضّلال إماما كما سمّى مقتدى الهدى إماما،و سياق ذيل الآية و الآية الثّانية أيضا مشعر بأنّ الإمام المدعوّ به هو الّذي اتّخذه النّاس إماما و اقتدوا به في الدّنيا،لا من اجتباه اللّه للإمامة و نصبه للهداية بأمره سواء اتّبعه النّاس أو رفضوه.

فالظّاهر أنّ المراد ب«إمام كلّ أناس»في الآية من ائتمّوا به سواء كان إمام حقّ أو إمام باطل،و ليس كما يظنّ أنّهم ينادون بأسماء أئمّتهم،فيقال:يا أمّة إبراهيم و يا أمّة محمّد و يا آل فرعون و يا آل فلان،فإنّه لا يلائمه

ص: 287

ما في الآية من التّفريع،أعني قوله: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الإسراء:71، وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى الإسراء:72،إذ لا تفرّع بين الدّعوة بالإمام بهذا المعنى، و بين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.

بل المراد بالدّعوة-على ما يعطيه سياق الذّيل-هو الإحضار،فهم محضرون بإمامهم،ثمّ يأخذ من اقتدى بإمام حقّ كتابه بيمينه،و يظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحقّ في الدّنيا و اتّباعه،هذا ما يعطيه التّدبّر في الآية.

و للمفسّرين في تفسير«الإمام»في الآية مذاهب شتّى مختلفة:

منها:أنّ المراد ب«الإمام»الكتاب الّذي يؤتمّ به كالتّوراة و الإنجيل و القرآن،فينادى يوم القيامة يا أهل التّوراة و يا أهل الإنجيل و يا أهل القرآن،و قد تقدّم بيانه و بيان ما يرد عليه.

و منها:أنّ المراد ب«الإمام»النّبيّ لمن كان على الحقّ،و الشّيطان و إمام الضّلال لمبتغي الباطل،فيقال:

هاتوا متّبعي إبراهيم هاتوا متّبعي موسى هاتوا متّبعي محمّد،فيقوم أهل الحقّ الّذين اتّبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم.ثمّ يقال:هاتوا متّبعي الشّيطان هاتوا متّبعي رؤساء الضّلال.

و فيه أنّه مبنيّ على أخذ الإمام في الآية بمعناه العرفيّ،و هو من يؤتمّ به من العقلاء،و لا سبيل إليه مع وجود معنى خاصّ له في عرف القرآن،و هو الّذي يهدي بأمر اللّه،و المؤتمّ به في الضّلال.

و منها:أنّ المراد كتاب أعمالهم،فيقال:يا أصحاب كتاب الخير و يا أصحاب كتاب الشّرّ.و وجّه كونه إماما بأنّهم متّبعون لما يحكم به من جنّة أو نار.

و فيه أنّه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماما،و هو يتبع عمل الإنسان من خير أو شرّ،فإن يسمّى تابعا أولى به من أن يسمّى متبوعا،و أمّا ما وجّه به أخيرا ففيه أنّ المتّبع من الحكم ما يقضي به اللّه سبحانه بعد نشر الصّحف،و السّؤال،و الوزن،و الشّهادة،و أمّا الكتاب فإنّما يشتمل على متون أعمال الخير و الشّرّ من غير فصل القضاء.

و منه يظهر أنّ ليس المراد ب«الإمام»اللّوح المحفوظ و لا صحيفة عمل الأمّة،و هي الّتي يشير إليها قوله: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الجاثية:28،لعدم ملائمته قوله ذيلا: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الإسراء:

71،الظّاهر في الفرد دون الجماعة.

و منها:أنّ المراد به الأمّهات-بجعل إمام جمعا لأمّ- فيقال:يا ابن فلانة،و لا يقال يا ابن فلان،و قد رووا فيه رواية.

و فيه أنّه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ و لم يقل:ندعو النّاس بإمامهم،أو ندعو كلّ إنسان بأمّه.و لو كان كما قيل لتعيّن أحد التّعبيرين الأخيرين.و ما أشير إليه من الرّواية على تقدير صحّتها و قبولها رواية مستقلّة غير واردة في تفسير الآية.

على أنّ جمع الأمّ بالإمام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى.و قد عدّ في«الكشّاف»هذا القول من بدع التّفاسير.

و منها:أنّ المراد به المقتدى به و المتّبع عاقلا كان

ص: 288

أو غيره،حقّا كان أو باطلا،كالنّبيّ و الوليّ و الشّيطان و رؤساء الضّلال و الأديان الحقّة و الباطلة،و الكتب السّماويّة و كتب الضّلال و السّنن الحسنة و السّيّئة.و لعلّ دعوة كلّ أناس بإمامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كلّ تابع يوم القيامة لمتبوعه،و الباء للمصاحبة.

و فيه ما أوردناه على القول بأنّ المراد به الأنبياء و رؤساء الضّلال،فالحمل على المعنى اللّغويّ إنّما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف،و قد عرفت أنّ الإمام في عرف القرآن هو الّذي يهدي بأمر اللّه أو المقتدى[به]في الضّلال.و من الممكن أن يكون الباء في(بامامهم)للآلة فافهم ذلك.

على أنّ هداية الكتاب و السّنّة و الدّين و غير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الإمام،و كذا النّبيّ إنّما يهدي بما أنّه إمام يهدي بأمر اللّه،و أمّا من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما أرسل به،فإنّما هو نبيّ أو رسول و ليس بإمام،و كذا إضلال المذاهب الباطلة؛ و كتب الضّلال و السّنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسّسيها و المبتدعين بها.(13:165)

ائمّة

1- وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. التّوبة:12

الإمام عليّ عليه السّلام:قال يوم الجمل:ما قاتلت هذه الفئة النّاكثة إلاّ بآية من كتاب اللّه،يقول اللّه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ... فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.

(الكاشانيّ 2:324)

ابن عبّاس: يعني أهل العهد من المشركين، سمّاهم أئمّة الكفر،و هم كذلك.(الطّبريّ 10:88)

(ائمّة الكفر):زعماء قريش.(أبو حيّان 5:14)

مجاهد :أبو سفيان منهم.(الطّبريّ 10:88)

أنّهم فارس و الرّوم.(الآلوسيّ 10:59)

الضّحّاك: يعني رأس المشركين،أهل مكّة.

(الطّبريّ 10:88)

الحسن :سمّوا أئمّة،لأنّهم صاروا بذلك رؤساء متقدّمين على غيرهم،بزعمهم فهم أحقّاء بالقتال و القتل.(الآلوسيّ 10:59)

قتادة :(ائمّة الكفر):أبو سفيان بن حرب،و أميّة بن خلف،و عتبة بن ربيعة،و أبو جهل بن هشام،و سهيل بن عمرو،و هم الّذين نكثوا عهد اللّه،و همّوا بإخراج الرّسول.و ليس و اللّه كما تأوّله أهل الشّبهات و البدع، و الفري على اللّه و على كتابه.(الطّبريّ 10:88)

السّدّيّ:هؤلاء قريش،يقول:إن نكثوا عهدهم الّذي عاهدوا على الإسلام و طعنوا فيه، فقاتلوهم.(الطّبريّ 10:88)

الإمام الصّادق عليه السّلام: دخل عليّ أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزّبير،فقلت لهم:كانا من أئمّة الكفر،إنّ عليّا يوم البصرة لمّا صفّ الخيول قال لأصحابه:لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بيني و بين اللّه تعالى و بينهم،فقام إليهم فقال:يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جورا في حكم؟قالوا:لا،قال:فحيفا في قسمة؟قالوا:لا،قال:فرغبة في دنيا أخذتها لي

ص: 289

و لأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟قالوا:

لا،قال:فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها عن غيركم؟ قالوا:لا،قال:فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث؟!إنّي ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلاّ الكفر أو السّيف،ثمّ ثنى إلى أصحابه فقال:إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ... فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.

ثمّ قال عليه السّلام:و الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة و اصطفى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالنّبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية، و ما قوتلوا منذ نزلت.(الكاشانيّ 2:324)

الزّجّاج: أي رؤساء الكافرين،و قادتهم،لأنّ الإمام متّبع...و قوله:(ائمّة الكفر)فيها عند النّحويّين لغة واحدة:أيمّة،بهمزة و ياء،و القرّاء يقرءون و(أئمّة) بهمزتين،و(ايمّة)بهمزة و ياء.

فأمّا النّحويّون فلا يجيزون اجتماع الهمزتين هاهنا، لأنّهما لا يجتمعان في كلمة،و من قرأ(ائمّة)بهمزتين، فينبغي أن يقرأ(يا بني أأدم)،و الاجتماع أنّ«آدم»فيه همزة واحدة،فالاختلاف راجع إلى الإجماع،إلاّ أنّ النّحويّين يستصعبون هذه المسألة،و لهم فيها غير قول:

يقولون:إذا فضّلنا رجلا في الإمامة:هذا أومّ من هذا،و يقول بعضهم:أيمّ من هذا،فالأصل في اللّغة:

أأممة،لأنّه جمع«إمام»،مثل مثال و أمثلة،و لكنّ الميمين لمّا اجتمعا أدغمت الأولى في الثّانية و ألغيت حركتها على الهمزة،فصار(أئمّة)فأبدل النّحويّون من الهمزة الياء.

و من قال:هذا أيمّ من هذا،جعل هذه الهمزة كلّما تحرّكت أبدل منها ياء.

و الّذي قال:هذا أومّ من هذا كانت عنده أصلها:أأمّ، فلم يمكنه أن يبدل منها ألفا لاجتماع السّاكنين،فجعلها واوا مفتوحة،لأنّه قال:إذا جمعت«آدم»قلت:أوادم.

و هذا هو القياس الّذي جعلها ياء.قد صارت الياء في (أئمّة)بدلا لازما.

و هذا مذهب الأخفش،و الأوّل مذهب المازنيّ.

و أظنّه أقيس الوجهين،أعني:هذا أومّ من هذا.

فأمّا(ائمّة)باجتماع الهمزتين فليس من مذاهب أصحابنا،إلاّ ما يحكى عن ابن إسحاق فإنّه كان يحبّ اجتماعهما،و ليس ذلك عندي جائزا،لأنّ هذا الحرف في(ائمّة)قد وقع فيه التّضعيف و الإدغام،فلمّا أدغم وقعت علّة في الحرف،و طرحت حركته على الهمزة، فكان تركها دليلا على أنّها همزة قد وقع عليها حركة ما بعدها،و على هذا القياس يجوز:هذا أأمّ من هذا.

و الّذي بدأنا به هو الاختيار،من أن لا تجتمع همزتان.(2:434)

الأزهريّ: أي قاتلوا رؤساء الكفّار و قادتهم الّذين ضعفاؤهم تبع لهم.

و قرئ قوله تعالى: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) على حرفين.

فأكثر القرّاء قرءوا(ايمّة)بهمزة واحدة،و قرأ بعضهم (ائمّة)بهمزتين.و كلّ ذلك جائز.(15:638)

أبو زرعة: قرأ ابن عامر و أهل الكوفة فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ بهمزتين،الهمزة الأولى ألف الجمع و الثّانية أصليّة،لأنّها جمع«إمام».و الأصل:أأممة «أفعلة»مثل حمار و أحمرة،و لكنّ الميمين لمّا اجتمعا

ص: 290

نقلوا كسرة الميم إلى الهمزة،فأدغموا الميم في الميم فصارت أئمّة بهمزتين.

قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو(ايمّة)بغير مدّ بهمزة واحدة،كأنّهم كرهوا الجمع بين همزتين في بنية واحدة،و لا اعتبار بكون الأولى زائدة،كما لم يكن بها اعتبار في آدم.(315)

الطّوسيّ: قال أبو عليّ النّحويّ(ائمّة)على وزن «أفعلة».جمع إمام،نحو مثال و أمثلة،فصار أئمّة، و اجتمع همزتان ألف«أفعلة»،و الهمزة الّتي هي فاء الفعل-و الّتي هي فاء الفعل ساكنة-فنقل إليها حركة الّتي بعدها ليمكن النّطق بها.فمن خفّفها أتى بالهمزتين:

الأولى مفتوحة،و الثّانية مكسورة.و من كره ذلك قلب الثّانية ياء و لم يجعلها بين بين،لأنّ همزة بين بين في تقدير التّحقيق؛و ذلك مكروه عندهم.

قال الرّمّانيّ: إنّما جاز اجتماع الهمزتين في كلمة لئلاّ يجتمع على الكلمة تغيير الإدغام و الانقلاب مع خفّة التّحقيق،لأجل ما بعده من السّكون،و هو مذهب ابن أبي إسحاق من البصريّين،و الباقون لا يجيزونه.

ذكره الزّجّاج،قال:لأنّه يلزم عليه أن يقرأ(أأدم) بهمزتين؛و ذلك باطل بالاتّفاق؛و على هذا القول:هذا أأمّ،بهمزتين.

قال:و إنّما قلبت الهمزة في(ائمّة)على حركتها دون حركة ما قبلها،لأنّ الحركة إنّما نقلها إلى الهمزة لبيان زنة الكلمة،فلو ذهبت تقلّبها على ما قبلها لكان مناقضا للغرض فيها.و إذا بنيت من الإمامة:هذا أفعل من هذا،قلت:هذا أومّ من هذا-في قول المازنيّ-لأنّ أصله كان:أأمّ،فلم يمكنه أن يبدّل منها ألفا لاجتماع السّاكنين،فجعلها واوا،كما قالوا في جمع آدم:أوادم.

و قوله: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أمر من اللّه تعالى بقتال أئمّة الكفر،و هم رؤساء الضّلال و الكفّار.و الإمام هو المتقدّم للاتّباع ف(ائمّة الكفر):رؤساء الكفر، و الإمام في الخير مهتد هاد،و في الشّر ضالّ مضلّ،كما قال تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ القصص:41.(5:213)

الكرمانيّ: كلّ كافر إمام نفسه،فالمعنى فقاتلوا كلّ كافر.(أبو حيّان 5:14)

الزّمخشريّ: فقاتلوهم فوضع(ائمّة الكفر)موضع ضميرهم إشعارا بأنّهم إذا نكثوا في حال الشّرك تمرّدا و طغيانا و طرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب،ثمّ آمنوا و أقاموا الصّلاة و آتوا الزّكاة و صاروا إخوانا للمسلمين في الدّين،ثمّ رجعوا فارتدّوا عن الإسلام و نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان و الوفاء بالعهود، و قعدوا يطعنون في دين اللّه،و يقولون:ليس دين محمّد بشيء فهم أئمّة الكفر و ذوو الرّئاسة و التّقدّم فيه، لا يشقّ كافر غبارهم.

فإن قلت:كيف لفظ أئمّة؟

قلت:همزة بعدها همزة بين بين،أي مخرج الهمزة و الياء،و تحقيق الهمزتين قراءة مشهورة و إن لم تكن بمقبولة عند البصريّين.و أمّا التّصريح بالياء فليس بقراءة،و لا يجوز أن تكون قراءة،و من صرّح بها فهو لاحن محرّف.(2:177)

الفخر الرّازيّ:معناه قاتلوا الكفّار بأسرهم إلاّ أنّه

ص: 291

تعالى خصّ الأئمّة و السّادة منهم[با]لذّكر،لأنّهم هم الّذين يحرّضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة.

(15:234)

القرطبيّ: (أئمّة)جمع إمام،و المراد صناديد قريش-في قول بعض العلماء-كأبي جهل و عتبة و شيبة و أميّة بن خلف.و هذا بعيد،فإنّ الآية في سورة «براءة»و حين نزلت و قرئت على النّاس كان اللّه قد استأصل شأفة قريش،فلم يبق إلاّ مسلم أو مسالم، فيحتمل أن يكون المراد فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أي من أقدم على نكث العهد و الطّعن في الدّين-يكون أصلا و رأسا في الكفر-فهو من أئمّة الكفر على هذا.و يحتمل أن يعني به المتقدّمون و الرّؤساء منهم،و أنّ قتالهم قتال لأتباعهم،و أنّهم لا حرمة لهم.(8:85)

أبو حيّان: أي رؤساء الكفر و زعماؤه،و المعنى فقاتلوا الكفّار.و خصّ الأئمّة بالذّكر،لأنّهم هم الّذين يحرّضون الأتباع على البقاء على الكفر.

و قيل:من أقدم على نكث العهد و الطّعن في الدّين صار رأسا في الكفر،فهو من أئمّة الكفر.

و قال ابن عبّاس: (أئمّة الكفر):زعماء قريش.

و قال القرطبيّ:هو بعيد،لأنّ الآية في سورة«براءة» و حين نزلت كان اللّه قد استأصل شأفة قريش،و لم يبق منهم إلاّ مسلم أو مسالم.

و قال قتادة: المراد أبو جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و غيرهم.و هذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال،لأنّ الآية نزلت بعد بدر بكثير.

و روي عن حذيفة أنّه قال:لم يجئ هؤلاء بعد، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبدا و يقاتلون.

و قال ابن عطيّة:أصوب ما في هذا أن يقال:إنّه لا يعني بها معيّن،و إنّما دفع الأمر بقتال أئمّة النّاكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين،و اقتضت حال كفّار العرب و محاربي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يكون الإشارة إليهم أوّلا بقوله:(ائمّة الكفر)و هم حصلوا حينئذ تحت اللّفظة؛إذ الّذي يتولّى قتال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الدّفع في صدر شريعته هو إمام كلّ من يكفر بذلك الشّرع إلى يوم القيامة،ثمّ يأتي في كلّ جيل من الكفّار أئمّة خاصّة بجيل جيل.(5:14)

رشيد رضا : فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فقاتلوهم فهم أئمّة الكفر،أي قادة أهله و حملة لوائه،فوضع الاسم الظّاهر المبيّن لشرّ صفاتهم موضع ضميرهم.

و قيل:إنّ المراد ب(ائمّة الكفر)رؤساء المشركين و صناديدهم الّذين كانوا يغرّونهم بعداوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و يقودونهم لقتاله.و ذكر بعض من قال هذا،منهم:

أبا سفيان و أبا جهل و عتبة و شيبة و أميّة بن خلف،ممّن كان قتل في بدر أو بعدها؛و ذلك من الغفلة بمكان،لأنّ السّورة نزلت بعد غزوة تبوك و بعد فتح مكّة،و في أثنائه أسلم أبو سفيان،و هذه الأحكام إنّما تثبت بعد أربعة أشهر من تاريخ تبليغها،في يوم النّحر،من سنة تسع كما تقدّم.

و حملها بعضهم على الخوارج،و بعضهم على فارس و الرّوم،و بعضهم على المرتدّين؛بجعل الضّمائر فيها راجعة إلى الّذين تابوا و أقاموا الصّلاة إلخ.و اختاره الزّمخشريّ؛إذ قال في تفسير: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ :

فقاتلوهم،فوضع(ائمّة الكفر)موضع ضميرهم،إشعارا

ص: 292

بأنّهم إذا نكثوا في حال الشّرك تمرّدا و طغيانا و طرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب،ثمّ آمنوا و أقاموا الصّلاة و آتوا الزّكاة و صاروا إخوانا للمسلمين في الدّين،ثمّ رجعوا فارتدّوا عن الإسلام و نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان و الوفاء بالعهود،و قعدوا يطعنون في دين اللّه،و يقولون:ليس دين محمّد بشيء،فهم أئمّة الكفر و ذو و الرّئاسة و التّقدّم فيه،لا يشقّ كافر غبارهم.

و قالوا:إذا طعن الذّمّيّ في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله،لأنّ العهد معقود معه على أن لا يطعن،فإذا طعن فقد نكث عهده و خرج من الذّمّة.

و لا أدري ما الّذي حمل هؤلاء المفسّرين على إخراج الآية عن ظاهرها،حتّى أنّهم رووا عن عليّ و حذيفة رضي اللّه عنهما أنّهما قالا:«ما قوتل أهل هذه الآية بعد»،يعنون أنّها نزلت في قوم يأتون بعد،و زعم بعضهم أنّهم الدّجّال و قومه من اليهود.

و الحقّ أنّها صريحة في مشركي العرب أصحاب العهود مع المؤمنين من بقي منهم.و يدخل في حكمها كلّ من كانت حاله مع المؤمنين كحالهم.فكلّ من يجمع بين عداوتهم بنكث عهودهم و الطّعن في دينهم فيجب عدّه من ائمّة الكفر و لهم حكمهم،و من لم يرهم أهلا لعقد العهد معه على قاعدة المساواة فهو أعدى و أظلم ممّن ينكثون الأيمان؛و ذلك ما نشاهده من الجامعين بين الاعتداء على شعوبنا و بلادنا و بثّ الدّعاة فيها للطّعن في ديننا لصدّنا عنه و استبدال دينهم به،أو جعلنا معطّلين لا دين لهم...و قرأ ابن عامر،و عاصم،و حمزة، و الكسائيّ،و روح عن يعقوب:(ائمّة)بتحقيق الهمزتين على الأصل و الباقون بتليين الثّانية.و أمّا قلبها ياء فليس قراءة و لا لغة بل هو لحن لا يجوز كما قالوا.

(10:192)

الطّباطبائيّ: يدلّ السّياق أنّهم غير المشركين الّذين أمر اللّه سبحانه في الآية السّابقة بنقض عهدهم، و ذكر أنّهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلاّ و لا ذمّة، فإنّهم ناكثون للأيمان ناقضون للعهد،فلا يستقيم فيهم الاشتراط الّذي ذكره اللّه سبحانه بقوله: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ.

فهؤلاء قوم آخرون لهم مع وليّ الأمر من المسلمين عهود و أيمان،ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم،أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها،فأمر اللّه سبحانه بقتالهم و ألغى أيمانهم و سمّاهم«أئمّة الكفر»،لأنّهم السّابقون في الكفر بآيات اللّه،يتّبعهم غيرهم ممّن يليهم،يقاتلون جميعا لعلّهم ينتهون عن نكث الأيمان و نقض العهود.(9:159)

عبد الكريم الخطيب :و في العدول عن الضّمير إلى الظّاهر في قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ بدلا من أن يجيء النّظم«فقاتلوهم»في هذا،ما يكشف عن وجه هؤلاء المشركين،ذلك الوجه الّذي لا يستحقّ غير الخزي و الهوان،إنّه يطلّ منه الكفر في أنكر صورة و أبشعها،و إنّه وجه تنعقد على جبينه أمارة الزّعامة و الإمامة،لدولة الكفر و الضّلال.(5:710)

2- وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ. القصص:41

ص: 293

الطّبريّ: و جعلنا فرعون و قومه أئمّة يأتمّ بهم أهل العتوّ على اللّه و الكفر،يدعون النّاس إلى أعمال أهل النّار.(20:79)

أبو مسلم الأصفهانيّ: معنى الإمامة التّقدّم،فلمّا عجّل اللّه تعالى لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من الكافرين.(الفخر الرّازيّ 2:254)

الطّوسيّ: الإمام هو المقدّم للاتّباع يقتدون به، فرؤساء الضّلالة قدّموا في المنزلة لاتّباعهم فيما يدعون إليه من المغالبة،و إنّما دعوهم إلى فعل ما يؤدّي لهم إلى النّار،فكان ذلك كالدّعاء إلى النّار.(8:155)

الزّمخشريّ: إن قلت:ما معنى قوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ.

قلت:معناه و دعوناهم أئمّة دعاة إلى النّار،و قلنا:

إنّهم أئمّة دعاة إلى النّار،كما يدعى خلفاء الحقّ أئمّة دعاة إلى الجنّة،و هو من قولك:جعله بخيلا و فاسقا إذا دعاه،و قال:إنّه بخيل و فاسق.(3:180)

الطّبرسيّ: هذا يحتاج إلى تأويل،لأنّه ظاهره يوجب أنّه تعالى جعلهم أئمّة يدعون إلى النّار،كما جعل الأنبياء أئمّة يدعون إلى الجنّة.و هذا ما لا يقول به أحد، فالمعنى أنّه أخبر عن حالهم بذلك و حكم بأنّهم كذلك، و قد تحصل الإضافة على هذا الوجه بالتّعارف.و يجوز أن يكون أراد بذلك أنّه لمّا أظهر حالهم على لسان أنبيائه حتّى عرفوا فكأنّه جعلهم كذلك.و معنى«دعائهم إلى النّار»أنّهم يدعون إلى الأفعال الّتي يستحقّ بها دخول النّار من الكفر و المعاصي.(4:255)

القرطبيّ: أي جعلناهم زعماء يتّبعون على الكفر؛ فيكون عليهم وزرهم و وزر من اتّبعهم حتّى يكون عقابهم أكثر.

و قيل:جعل اللّه الملأ من قومه رؤساء السّفلة منهم، فهم يدعون إلى جهنّم.

و قيل:أئمّة يأتمّ بهم ذوو العبر،و يتّعظ بهم أهل البصائر.(13:289)

أبو حيّان: «جعل»هنا بمعنى صيّر،أي صيّرناهم أئمّة و قدوة للكفّار يقتدون بهم في ضلالتهم،كما أنّ للخير أئمّة يقتدى بهم،اشتهروا بذلك و بقي حديثهم.

[و بعد نقل قول الزّمخشريّ قال:]

و إنّما فسّر(جعلناهم)بمعنى دعوناهم لا بمعنى صيّرناهم،جريا على مذهبه من الاعتزال،لأنّ في تصييرهم أئمّة خلق ذلك لهم.و على مذهب المعتزلة لا يجوّزون ذلك من اللّه و لا ينسبونه إليه.قال [الزّمخشريّ:]و يجوز خذلناهم حتّى كانوا أئمّة الكفر، و معنى الخذلان منع الألطاف،و إنّما يمنعها من علم أنّه لا ينفع فيه،و هو المصمّم على الكفر الّذي لا تغني عنه الآيات و النّذر انتهى.و هو على طريقة الاعتزال أيضا.(7:120)

الطّباطبائيّ: معنى«جعلهم أئمّة يدعون إلى النّار»تصييرهم سابقين في الضّلال يقتدي بهم اللاّحقون،و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود،و ليس من الإضلال الابتدائيّ في شيء.

و قيل:المراد بجعلهم أئمّة يدعون إلى النّار، تسميتهم بذلك على حدّ قوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ

ص: 294

هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الزّخرف:19.

و فيه أنّ الآية التّالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه.على أنّ كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التّسمية غير مسلّم.(16:38)

عبد الكريم الخطيب :أي أنّ فرعون و جنوده سيكونون أئمّة و قادة يوم القيامة،يقودون قومهم إلى النّار،كما كانوا قادة لهم في الدّنيا فهم يدعون قومهم إلى جهنّم،كما كانوا يدعونهم في الدّنيا إلى الشّرك و الضّلال، و في هذا يقول في فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ هود:98، و يقول سبحانه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71.(10:349)

3- وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ القصص:5

ابن عبّاس: قادة و رؤساء في الخير يقتدى بهم.(الطّبرسيّ 4:239)

مجاهد :دعاة إلى الخير.(الزّمخشريّ 3:165)

الضّحّاك: أنبياء.(أبو حيّان 7:104)

قتادة :أي ولاة الأمر.(الطّبريّ 20:28)

ولاة و ملوكا،دليله قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً المائدة:20.(القرطبيّ 13:249)

الإمام الصّادق عليه السّلام: إنّ رسول اللّه نظر إلى عليّ و الحسن و الحسين عليهم السّلام،فبكى و قال:أنتم المستضعفون بعدي.

قال المفضّل:قلت له:ما معنى ذلك يا ابن رسول اللّه؟قال:معناه أنتم الأئمّة بعدي إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ فهذه الآية فينا جارية إلى يوم القيامة.[و لا ريب أنّه تأويل]

(البحرانيّ 3:217)

الزّمخشريّ: مقدّمين في الدّين و الدّنيا.يطأ النّاس أعقابهم.(3:165)

مثله الفخر الرّازيّ(24:226)،و النّيسابوريّ(20:

26).و نحوه شبّر(5:7)،و أبو حيّان(7:104).

ابو الفتوح :[بعد نقل أقوال ابن عبّاس،و قتادة، و مجاهد قال:]

و روى أصحابنا أنّ الآية نزلت في شأن المهديّ عليه السّلام أنّه و أصحابه كانوا ضعفاء و مستضعفين فمنّ اللّه عليهم.و المراد من الأرض كلّ أرض الدّنيا.

و جعلهم أئمّة في الأرض و الوارثين لها.و هذا القول هو الأرجح،لأنّه موافق للظّاهر من وجوه عديدة:

1-اللاّم في الأرض لتعريف الجنس،و لذا يكون حمله على العموم أولى.

2-أنّ لفظ الإمامة جاء في حقّه عليه السّلام على سبيل الحقيقة،و مع بني إسرائيل فقد جاء على سبيل المجاز.

3-إنّ وراثة المهديّ عليه السّلام هي الأولى من حيث هو آخر الأئمّة،و وارث كلّ السّابقين،و دولته ممتدّة إلى يوم القيامة،و مثله قوله: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ الأنبياء:105.(4:185)

الطّبرسيّ: أي قادة و رؤساء في الخير يقتدى بهم،

ص: 295

عن ابن عبّاس.و قيل:نجعلهم ولاة و ملوكا،عن قتادة.

و هذا القول مثل الأوّل،لأنّ الّذين جعلهم اللّه ملوكا فهم أئمّة،و لا يضاف إلى اللّه سبحانه ملك من يملك النّاس عدوانا و ظلما،و قد قال سبحانه: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً النّساء:54،و الملك من اللّه تعالى هو الّذي يجب أن يطاع،فالأئمّة على هذا ملوك مقدّمون في الدّين و الدّنيا يطأ النّاس أعقابهم.(4:239)

القرطبيّ: قال ابن عبّاس:قادة في الخير.

مجاهد:دعاة إلى الخير.قتادة:ولاة و ملوكا،دليله قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً المائدة:20.

قلت:و هذا أعمّ فإنّ الملك إمام،يؤتمّ به و يقتدى به.(13:249)

عبد الكريم الخطيب :الأئمّة:القادة الّذين يكونون إمام غيرهم.(10:310)

4- وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا... السّجدة:24

قتادة :رؤساء في الخير.(الطّبريّ 21:113)

الطّبريّ: و هي جمع إمام،و الإمام الّذي يؤتمّ به في خير أو شرّ،و أريد بذلك في هذا الموضع أنّه جعل منهم قادة في الخير يؤتمّ بهم و يهتدى بهديهم.

(21:113)

النّحّاس: [أئمّة]و هو لحن عند جميع النّحويّين، لأنّه جمع بين همزتين في كلمة واحدة،و هو من دقيق النّحو.

و شرحه:أنّ الأصل«أأممة»،ثمّ ألقيت حركة الميم على الهمزة،و أدغمت الميم،و خفّفت الهمزة الثّانية لئلاّ يجتمع همزتان.و الجمع بين همزتين في حرفين بعيد، فأمّا في حرف واحد فلا يجوز إلاّ تخفيف الثّانية،نحو قولك:آدم و آخر.و يقال:هذا أومّ من هذا و أيمّ،بالواو و الياء.و قد مضى هذا في«براءة»،و اللّه أعلم.

(القرطبيّ 14:109)

قاضي عبد الجبّار: المراد به جعلناهم أنبياء و علماء يقتدى بهم لأجل صبرهم.(331)

القرطبيّ: أي قادة و قدوة يقتدى بهم في دينهم.

و الكوفيّون يقرءون (أئمّة) .(14:109)

امامه

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. القيامة:5

ابن عبّاس: يمضي قدما.

يعنى الأمل،يقول الإنسان أعمل ثمّ أتوب قبل يوم القيامة.(الطّبريّ 29:177)

الكافر يكذّب بالحساب.(الطّبريّ 29:178)

سعيد بن جبير: سوف أتوب.

(الطّبريّ 29:177)

مجاهد :يمضي أمامه راكبا رأسه.

(الطّبريّ 29:177)

عكرمة :قدما لا ينزع عن فجور.

(الطّبريّ 29:177)

الضّحّاك: هو الأمل يؤمّل الإنسان،أعيش و أصيب من الدّنيا كذا،و أصيب كذا،و لا يذكر الموت.(الطّبريّ 29:177)

ص: 296

الحسن: قدما في المعاصي.(الطّبريّ 29:177)

لا تلقى ابن آدم إلاّ تنزع نفسه إلى معصية اللّه قدما، إلاّ من قد عصم اللّه.(الطّبريّ 29:177)

الكلبيّ: يكثر الذّنوب،و يؤخّر التّوبة.

(الفرّاء 3:208)

ابن زيد :يكذّب بما أمامه يوم القيامة و الحساب.(الطّبريّ 29:178)

الطّبريّ: يريد أن يمضي أمامه قدما في معاصي اللّه،لا يثنيه عنها شيء،و لا يتوب منها أبدا،و يسوّف التّوبة.

و قال آخرون:بل معنى ذلك أنّه يركب رأسه في طلب الدّنيا دائبا،و لا يذكر الموت.

و قال آخرون:بل معنى ذلك:بل يريد الإنسان الكافر ليكذب بيوم القيامة.

و قال آخرون:بل معنى ذلك،بل يريد الإنسان ليكفر بالحقّ بين يدي القيامة،و الهاء على هذا القول في قوله:(امامه)من ذكر القيامة.(29:177-178)

الزّجّاج: معناه أنّه يسوّف بالتّوبة،و يقدّم الأعمال السّيّئة،و يجوز-و اللّه أعلم-أن يكون معناه ليكفر بما قدّامه.و دليل ذلك قوله: يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ القيمة:6.(5:252)

ابن الأنباريّ: يريد أن يفجر ما امتدّ عمره،و ليس في نيّته أن يرجع عن ذنب يرتكبه.

(الطّبرسيّ 5:395)

الزّمخشريّ: ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات،و فيما يستقبله من الزّمان،لا ينزع منه.

(4:190)

الطّبرسيّ: و المراد أنّه يتعجّل المعصية ثمّ يسوّف التّوبة،يقول غدا و بعد غد.(5:395)

الفخر الرّازيّ: فيه قولان:

الأوّل:[هو قول الزّمخشري و سعيد بن جبير و قد تقدّم.]

القول الثّاني: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ، أي ليكذّب بما أمامه من البعث و الحساب،لأنّ من كذّب حقّا كان كاذبا و فاجرا؛و الدّليل عليه قوله: يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ، فالمعنى يريد الإنسان ليفجر أمامه،أي ليكذّب بيوم القيامة،و هو أمامه،فهو يسأل أيّان يوم القيامة؟متى يكون ذلك تكذيبا له؟(30:218)

أبو حيّان: الأمام:ظرف مكان استعير هنا للزّمان، أي ليفجر فيما بين يديه،و يستقبله من زمان حياته.(8:385)

نحوه البروسويّ.(10:245)

الآلوسيّ: أي بل أريد،جيء به زيادة إنكار في إرادته هذه،و تنبيها على أنّها أفظع من الأوّل،للدّلالة على أنّ ذلك الحسبان بمجرّده إرادة الفجور،كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد:أ يحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتملّكوا فيه.لم تقل هذا إلاّ و أنت مترقّ في الإنكار،منزّل عبثهم منزلة إرادة التّملّك، و عدم العبء بمكان الأمير.و إلى هذين الوجهين أشار جار اللّه على ما قرّر في«الكشف».و الوجه الأوّل أبلغ، لأنّ هذا على التّرقّي،و الأوّل إضراب عن الإنكار، و إيهام أنّ الأمر أطمّ من ذلك و أطمّ.و فيهما إيماء إلى أنّ

ص: 297

ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر،و لكنّه متغاب،و اعتبر الدّوام في(ليفجر)لأنّه خبر عن حال الفاجر،بأنّه يريد ليفجر في المستقبل،على أنّ«حسبانه و إرادته»هما عين الفجور.

و قيل:لأنّ(امامه)ظرف مكان استعير هنا للزّمان المستقبل،فيفيد الاستمرار،و في إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التّهديد و النّعي على قبيح ما ارتكبه،و أنّ الإنسانيّة تأبى الحسبان و الإرادة،و عود ضمير(أمامه) على هذا المظهر هو الأظهر.و عن ابن عبّاس ما يقتضي عوده على يوم القيامة.و الأوّل هو الّذي يقتضيه كلام كثير من السّلف،لكنّه ظاهر في عموم الفجور.

قال مجاهد،و الحسن،و عكرمة،و ابن جبير، و الضّحّاك،و السّدّيّ:في الآية أنّ الإنسان إنّما يريد شهواته و معاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه و مطيعا أمله و مسوّفا لتوبته،و هو حسن لا يأبى ذلك الإضراب.و فيه إشارة إلى أنّ مفعول(يريد)محذوف، دلّ عليه(ليفجر).(29:138)

عزّة دروزة :بمعنى أنّ الإنسان الجاحد يرغب في الاستمرار على الفجور،فينكر الآخرة،و لا يخشى عواقبها.(2:5)

الطّباطبائيّ:«أمام»ظرف مكان استعير لمستقبل الزّمان،و المراد من«فجوره أمامه»فجوره مدى عمره و ما دام حيّا،و ضمير(امامه)ل(الإنسان).

(20:104)

امّة

1- رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ... البقرة:128

الإمام الصّادق عليه السّلام:أنّ المراد ب«الأمّة» بنو هاشم خاصّة.(العروسيّ 1:129)

عن أبي عمرو الزّبيريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:

قلت:أخبرني عن أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله من هم؟قال:أمّة محمّد،بنو هاشم خاصّة.قلت:فما الحجّة في أمّة محمّد أنّهم أهل بيته الّذين ذكرت دون غيرهم؟قال:قول اللّه:

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ البقرة:127،128.

فلمّا أجاب اللّه إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذرّيّتهما أمّة مسلمة،و بعث فيها رسولا منها-يعني من تلك الأمّة-يتلو عليهم آياته و يزكّيهم و يعلّمهم الكتاب و الحكمة،و ردف إبراهيم و إسماعيل دعوته الأولى بدعوته الأخرى و سأل تطهيرا من الشّرك و من عبادة الأصنام ليصحّ أمره فيهم و لا يتّبعوا غيرهم،فقال:

وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إبراهيم:35،36،فهذه دلالة أنّه لا يكون الأئمّة و الأمّة المسلمة الّتي بعث فيها محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ من ذرّيّة إبراهيم لقوله: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ .(العروسيّ 1:129)

هم أهل البيت الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس

ص: 298

و طهّرهم تطهيرا.(الكاشانيّ 1:173)

الطّبريّ: أمّا الأمّة في هذا الموضع،فإنّه يعني بها الجماعة من النّاس،من قول اللّه: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ الأعراف:159.(1:553)

البغويّ:(امّة):جماعة،و الأمّة:أتباع الأنبياء.

(1:94)

الميبديّ: إن قلت:ما الحكمة في أنّ إبراهيم عليه السّلام خصّ بعض ولده بالدّعاء؛إذ قال: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، و لم يدع على العموم؟

قلت:إنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يكون في كلّ الدّهر قوم يشتغلون في طلب العلم و العمل،و قوم يشتغلون بالدّنيا،و إلاّ خربت الدّنيا،و لذا قالوا:«لو لا الحمقى لخربت الدّنيا»،و اللّه أمرهم بعمارة الدّنيا وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها هود:61.

و هذه العمارة بثلاثة أشياء:1-الزّراعة و غرس الأشجار.2-الحرب.3-سير القوافل من المدينة إلى المدينة.

و من المعلوم أنّ هذا العمل ليس من شأن الأنبياء و لا بدّ أن يشتغلوا في عمل أشرف و أعظم من هذا العمل.

و لذا لم يدع الخليل على سبيل العموم.(1:359)

الطّبرسيّ:أي جماعة موحّدة منقادة لك،يعني أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،بدلالة قوله: وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ البقرة:129.(1:210)

القرطبيّ: الأمّة:الجماعة هنا،و تكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير،و منه قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ. و قال صلّى اللّه عليه و سلّم في زيد بن عمرو بن نفيل:«يبعث أمّة وحده»لأنّه لم يشرك في دينه غيره، و اللّه أعلم.

و قد يطلق لفظ«الأمّة»على غير هذا المعنى،و منه قوله تعالى: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22، أي على دين و ملّة،و منه قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الأنبياء:92.

و قد تكون بمعنى الحين و الزّمان،و منه قوله تعالى:

وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،أي بعد حين و زمان.

و يقال:هذه أمّة زيد،أي أمّ زيد.

و الأمّة أيضا:القامة،يقال:فلان حسن الأمّة،أي حسن القامة.(2:127)

الكاشانيّ: جماعة يؤمّون،أي يقصدون و يقتدى بهم.(1:172)

الآلوسيّ: و المراد من«الأمّة»الجماعة أو الجيل، و خصّها بعضهم بأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و حمل التّنكير على التّنويع،و استدلّ على ذلك بقوله تعالى: وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ البقرة:129.و لا يخفى أنّه صرف اللّفظ عن ظاهره،و استدلال بما لا يدلّ.

و جوّز أبو البقاء أن يكون(أمّة)المفعول الأوّل (و من ذرّيّتنا)حال،لأنّه نعت نكرة تقدّم عليها، و(مسلمة)المفعول الثّاني،و كان الأصل:و اجعل أمّة من ذرّيّتنا مسلمة لك.فالواو داخلة في الأصل على(أمّة)، و قد فصل بينهما بالجارّ و المجرور،و(من)عند بعضهم على هذا بيانيّة على حدّ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ النّور:55.

و نظر فيه أبو حيّان بأنّ أبا عليّ و غيره منعوا أن

ص: 299

يفصل بين حرف العطف و المعطوف بالظّرف،و الفصل بالحال أبعد من الفصل بالظّرف.و جعلوا ما ورد من ذلك ضرورة،و بأنّ كون(من)للتّبيين ممّا يأباه الأصحاب، و يتأوّلون ما فهم ذلك من ظاهره.و لا يخفى أنّ المسألة خلافيّة،و ما ذكره مذهب البعض و هو لا يقوم حجّة على البعض الآخر.(1:385)

2- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ. البقرة:134

الطّبريّ: إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و ولدهم.يقول لليهود و النّصارى:يا معشر اليهود و النّصارى دعوا ذكر إبراهيم،و إسماعيل،و إسحاق، و يعقوب،و المسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، و لا تنحلوهم كفر اليهوديّة و النّصرانيّة فتضيفوها إليهم،فإنّهم أمّة.و يعني بالأمّة في هذا الموضع الجماعة، و القرن من النّاس.(1:563)

الهرويّ: أي صنف قد مضى.(1:87)

الطّوسيّ: الأمّة المراد بها هاهنا الجماعة،و الأمّة:

على ستّة أقسام:

الجماعة.

و الأمّة:الحين،لقوله: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:

45،أي بعد حين.

و الأمّة:القدوة و الإمام،لقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً النّحل:120.

و الأمّة:العامّة و جمعها:أمم.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأمّة:الاستقامة في الدّين و الدّنيا.

و الأمّة:أهل الملّة الواحدة،كقولهم:أمّة موسى، و أمّة عيسى،و أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.و أصل الباب:القصد،من أمّه يؤمّه،إذا قصده.(1:477)

مثله الطّبرسيّ.(1:215)

الفخر الرّازيّ: إشارة إلى من ذكرهم اللّه تعالى في الآية المتقدّمة،و هم:إبراهيم،و إسماعيل،و إسحاق، و يعقوب،و بنوه الموحّدون.

و الأمّة:الصّنف.(4:87)

مثله النّيسابوريّ.(1:463)

القرطبيّ: (تلك)مبتدأ،و(أمّة)خبر،(قد خلت) نعت ل(امّة).و إن شئت كانت خبر المبتدإ،و تكون (امّة)بدلا من(تلك).(2:139)

البيضاويّ: الأمّة في الأصل:المقصود،و سمّي بها الجماعة،لأنّ الفرق تؤمّها.(1:84)

نحوه أبو السّعود(1:128)،و البروسويّ(1:240).

الآلوسيّ: الإشارة إلى إبراهيم و أولاده.و الأمّة أتت بمعان،و المراد بها هنا الجماعة،من أمّ،بمعنى قصد.

و سمّيت كلّ جماعة يجمعهم أمر ما،إمّا دين واحد أو زمان واحد أو مكان بذلك،لأنّهم يؤمّ بعضهم بعضا، و يقصده.(1:391)

خليل ياسين: [قال مثل الطّوسيّ و أضاف:]

و الأمّة هنا في هذه الآية المقصود منها الملّة و الدّين،أي كان النّاس أهل ملّة واحدة،-على حذف مضاف-و كان دينهم الكفر،بين آدم و نوح،و مدّة ذلك عشرة قرون.(1:101)

3- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ... البقرة:141

ص: 300

قتادة: إبراهيم عليه السّلام و من ذكر معه.

(الطّوسيّ 1:490)

مثله الرّبيع.(الطّوسيّ 1:491)

الجبّائيّ: من سلف من آبائهم الّذين كانوا على ملّتهم اليهوديّة و النّصرانيّة.(الطّوسيّ 1:491)

الطّوسيّ: قيل في تكرار قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ قولان:

أحدهما:أنّه عنى بالأوّل إبراهيم و من ذكر معه من الأنبياء.و بالثّاني عنى به أسلافهم آباءهم الّذين هم على ملّتهم.

و القول الثّاني أنّ الجواب إذا اختلفت أوقاته فكان الثّاني في غير موطن الأوّل،و كان بعد مدّة من وقوع الأوّل بحسب ما اقتضاه الحال،لم يكن ذلك معيبا عند أهل اللّغة،و لا عند العقلاء.و الاعتراض عليهم بقوله:

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أنّه إذا لم تشكّوا أن يكون فرضهم غير فرض الأمّة الّتي قد خلت قبلكم،و لا تحتجّوا بأنّه لا يجوز أن يخالفوا عليه،و لو سلّم لكم أنّهم كانوا على ما تذكرونه ما جاز لكم أن تتركوا ما نقل لكم اللّه عنه على لسان رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله؛إذ للّه تعالى أن ينسخ من الشّريعة ما شاء على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة، و عموم المصلحة.

و قيل:إنّ ذلك ورد مورد الوعظ لهم بأنّه إذا كان لا يؤخذ الإنسان إلاّ بعمله فينبغي أن تحذروا على أنفسكم،و تبادروا بما يلزمكم،و لا تتّكلوا على فضائل الآباء و الأجداد،فإنّ ذلك لا ينفعكم إذا خالفتم أمر اللّه، فيما أوجب عليكم.[و بعد نقل أقوال قتادة،و الرّبيع، و الجبّائي قال:]

و قد بيّنّا فيما مضى أنّ الأمّة:الجماعة الّتي تؤمّ جهة واحدة كأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الّتي تؤمّ العمل على ما دعا إليه، و كذلك أمم سائر الأنبياء.(1:491)

نحوه الطّبرسيّ.(1:222)

الرّاغب: إعادة هذه الآية من أجل أنّ العادة مستحكمة في النّاس،صالحهم و طالحهم أن يفتخروا بآبائهم و يقتدوا بهم في متحرّياتهم سيّما في أمور دينهم،و لهذا حكى عن الكفّار قولهم: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ الزّخرف:22، فأكّد اللّه تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطّريقة.و ذكر في أثر ما حكى من وصيّة إبراهيم و يعقوب و بنيه بذلك، تنبيها أنّ الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن،فليس لكم ثواب فعلهم و لا عليكم عقابه.و في الثّاني لمّا ذكر ادّعاءهم اليهوديّة و النّصرانيّة لآبائهم،أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الإسراء:13،و قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ البقرة:286.،و قوله:

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى الأنعام:164،و لمّا جرت به عادتهم و تفرّدت به معرفتهم:«كلّ شاة تناط برجليها».(القاسميّ 2:280)

الفخر الرّازيّ:فإن قيل:لم كرّرت الآية؟

قلنا فيه قولان:

أحدهما:أنّه عنى بالآية الأولى إبراهيم و من ذكر معه.

و الثّانية:أسلاف اليهود.

ص: 301

قال الجبّائيّ: قال القاضي:هذا بعيد،لأنّ أسلاف اليهود و النّصارى لم يجر لهم ذكر مصرّح؛و موضع الشّبهة في هذا القول أنّ القوم لمّا قالوا في إبراهيم و بنيه:

إنّهم كانوا هودا،فكأنّهم قالوا:إنّهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود،فصار سلفهم في حكم المذكورين؛فجاز أن يقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ و يعنيهم.و لكن ذلك كالتّعسّف،بل المذكور السّابق هو إبراهيم و بنوه،فقوله:(تلك امّة)يجب أن يكون عائدا إليهم.

و القول الثّاني:أنّه متى اختلفت الأوقات و الأحوال و المواطن،لم يكن التّكرار عبثا،فكأنّه تعالى قال:

ما هذا إِلاّ بَشَرٌ المؤمنون:24،فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدّين لا يسوغ التّقليد في هذا الجنس،فعليكم بترك الكلام في تلك الأمّة فلها ما كسبت،و انظروا فيما دعاكم إليه محمّد عليه السّلام فإنّ ذلك أنفع لكم،و أعود عليكم،و لا تسألون إلاّ عن عملكم.(4:100)

القرطبيّ: كرّرها،لأنّها تضمّنت معنى التّهديد و التّخويف،أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم و فضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى،فوجب التّأكيد، فلذلك كرّرها.(2:147)

النّيسابوريّ: (تلك امّة)إشارة إلى إبراهيم و بنيه كما مرّ،و إنّما أعيدت الآية هاهنا لغرض آخر،و هو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السّالفة من الدّين،فإنّ أديانهم لا تنفع إلاّ إيّاهم،لاندراس آثارها، و انطماس أنوارها.(1:473)

أبو حيّان: و تضمّنت[هذه الجمل]معنى التّخويف و التّهديد،و ليس ذلك بتكرار،لأنّ ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره،و إذا كان كذلك فقد اختلف السّياق فلا تكرار.

بيان ذلك أنّ الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء ف (تلك)إشارة إليهم،و هذه وردت عقب أسلاف اليهود و النّصارى فالمشار إليه«هم»،فقد اختلف المخبر عنه و السّياق،و المعنى أنّه إذا كان الأنبياء على فضلهم و تقدّمهم يجازون بما كسبوا فأنتم أحقّ بذلك.

و قيل:الإشارة ب(تلك)إلى إبراهيم و من ذكر معه.

و استبعد أن يراد بذلك أسلاف اليهود و النّصارى،لأنّه لم يجر لهم ذكر مصرّح بهم،و إذا كانت الإشارة ب(تلك) إلى إبراهيم و من معه،فالتّكرار حسن لاختلاف الأقوال و السّياق.(1:416)

أبو السّعود: تكرير للمبالغة في الزّجر عمّا هم عليه من الافتخار بالآباء و الاتّكال على أعمالهم.

و قيل:الخطاب السّابق لهم و هذا لنا،تحذيرا عن الاقتداء بهم.

و قيل:المراد بالأمّة الأولى الأنبياء عليهم السّلام،و بالثّانية أسلاف اليهود.(1:132)

مثله البروسويّ.(1:245)

الآلوسيّ: تكرير لما تقدّم للمبالغة في التّحذير عمّا استحكم في الطّباع من الافتخار بالآباء و الاتّكال عليهم،كما يقال:اتّق اللّه اتّق اللّه،أو تأكيد و تقرير للوعيد،يعني أنّ اللّه تعالى يجازيكم على أعمالكم و لا تنفعكم آباؤكم،و لا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم

ص: 302

بل عن أعمال أنفسكم.

و قيل:الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب،و في هذه الآية لنا،تحذيرا عن الاقتداء بهم.

و قيل:المراد بالأمّة في الأوّل الأنبياء،و في الثّاني أسلاف اليهود،لأنّ القوم لمّا قالوا في إبراهيم و بنيه:إنّهم كانوا ما كانوا،فكأنّهم قالوا:إنّهم على مثل طريقة أسلافنا،فصار سلفهم في حكم المذكورين،فجاز أن يعنوا بالآية.و لا يخفى ما في ذلك من التّعسّف الظّاهر.(1:401)

المراغيّ: أي أنّ جماعة الأنبياء قد مضت بالموت،و لها ما كسبت من الأعمال،و لكم ما كسبتم منها،و لا يسأل أحد عن عمل غيره،بل يسأل عن عمل نفسه و يجازى به،فلا يضرّه و لا ينفعه سواه.و هذه قاعدة أقرّتها الأديان جميعا و أيّدها العقل،كما قال: أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى النّجم:38.(1:230)

الطّباطبائيّ: أي أنّ الغور في الأشخاص،و أنّهم ممّن كانوا لا ينفع حالكم،و لا يضرّكم السّكوت عن المحاجّة و المجادلة فيهم،و الواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه،و تكرار الآية مرّتين لكونهم يفرّطون في هذه المحاجّة الّتي لا تنفع لحالهم شيئا و خصوصا مع علمهم بأنّ إبراهيم كان قبل اليهوديّة و النّصرانيّة،و إلاّ فالبحث عن حال الأنبياء و الرّسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم و فضائل نفوسهم الشّريفة ممّا ندب إليه القرآن؛حيث يقصّ قصصهم و يأمر بالتّدبّر فيها.(1:314)

4- وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ... يوسف:45

ابن عبّاس: بعد حين.

مثله أبو رزين،و الحسن،و أبو بكر ابن عيّاش، و مجاهد،و ابن كثير،و السّدّيّ.

(الطّبريّ 12:227،228)

بعد نسيان.

مثله عكرمة،و قتادة،و الضّحّاك.

(الطّبريّ 12:228،229)

بعد سنين.(الطّبريّ 12:228)

عكرمة :أي بعد حقبة من الدّهر.

(الطّبريّ 12:228)

الأخفش: هو في اللّفظ واحد،و في المعنى جمع، و كلّ جنس من الحيوان أمّة.و في الحديث:«لو لا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها».

(القرطبيّ 9:201)

الطّبريّ: يعني بعد حين.

و هذا التّأويل على قراءة من قرأ(بعد أمّة)بضمّ الألف،و تشديد الميم،و هي قراءة القرّاء في أمصار الإسلام.

و قد روي عن جماعة من المتقدّمين أنّهم قرءوا ذلك (بعد امه) بفتح الألف و تخفيف الميم و فتحها، بمعنى بعد نسيان.و ذكر بعضهم أنّ العرب تقول من ذلك:

أمه الرّجل يأمه أمها،إذا نسي،و كذلك تأوّله من قرأ ذلك كذلك.

و قد ذكر فيها قراءة ثالثة،عن مجاهد (و ادّكر بعد

ص: 303

امه) مجزومة الميم مخفّفة،و كأنّ قارئ ذلك كذلك،أراد به المصدر من قولهم:أمه يأمه أمها،و تأويل هذه القراءة،نظير تأويل من فتح الألف و الميم.(12:227)

الزّجّاج: أي بعد حين،و قرأ ابن عبّاس: (و ادّكر بعد أمه) و الأمه:النّسيان.يقال:أمه يأمه أمها.هذا الصّحيح بفتح الميم،و روى بعضهم عن أبي عبيدة:

(أمه)بسكون الميم،و ليس ذلك بصحيح عنه،لأنّ المصدر أمه يأمه أمه،لا غير.(3:113)

الطّوسيّ: الأمّة المذكورة هي الجملة من الحين، و أصله:الجماعة من الحين،و سمّيت الجماعة الكثير من النّاس أمّة،لاجتماعها على مقصد في أمرها.

(6:147)

الميبديّ:أي تذكّر بعد زمان.(5:76)

الزّمخشريّ: بعد مدّة طويلة؛و ذلك أنّه حين أستثنى الملك في رؤياه و أعضل على الملأ تأويلها تذكّر النّاجي يوسف و تأويله رؤيا صاحبه،و طلبه إليه أن يذكره عند الملك.

و قرأ الأشهب العقيليّ بعد(إمّة)بكسر الهمزة، و الإمّة:النّعمة،أي بعد ما أنعم عليه بالنّجاة.

و قرئ (بعد أمه) :بعد نسيان،يقال:أمه يأمه أمها،إذا نسي.و من قرأ بسكون الميم فقد خطئ.(2:324)

ابن عطيّة: المراد بعد نعمة أنعم اللّه تعالى بها على يوسف.(الآلوسيّ 12:253)

الفخر الرّازيّ: الأمّة فيه وجوه:

الأوّل:(بعد أمّة)أي بعد حين؛و ذلك لأنّ الحين إنّما يحصل عند اجتماع الأيّام الكثيرة،كما أنّ الأمّة إنّما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم.فالحين كان أمّة من الأيّام و السّاعات.

و الثّاني:قرأ الأشهب العقيليّ (بعد إمّة) بكسر الهمزة.و الإمّة:النّعمة،و المعنى بعد ما أنعم عليه بالنّجاة.

و الثّالث:قرئ (بعد أمّة) أي بعد نسيان،يقال:أمه يأمه أمها،إذا نسي.و الصّحيح أنّها بفتح الميم،و ذكره أبو عبيدة بسكون الميم.و حاصل الكلام أنّه إمّا أن يكون المراد و ادّكر بعد مضيّ الأوقات الكثيرة من الوقت الّذي أوصاه يوسف عليه السّلام بذكره عند الملك،أو المراد و ادّكر بعد وجدان النّعمة عند ذلك الملك،أو المراد و ادّكر بعد النّسيان.(18:148)

الطّباطبائيّ: الأمّة:الجماعة الّتي تقصد لشأن، و يغلب استعمالها في الإنسان.و المراد هاهنا الجماعة من السّنين،و هي المدّة الّتي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربّه،و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشّيطان ذكر ربّه،فلبث يوسف في السّجن بضع سنين.

و المعنى:و قال الّذي نجا من السّجن من صاحبي يوسف فيه و ادّكر بعد جماعة من السّنين حين أوّل رؤياه:أنا أنبّئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السّجن حتّى أخبركم بتأويل ذلك.(11:188)

عبد الكريم الخطيب :الأمّة:الجماعة من كلّ شيء،و المراد بها هنا كتلة من الزّمن،أي زمن طويل، و منه قوله تعالى: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22،أي على مجموعة متضخّمة من العادات

ص: 304

و المعتقدات.(6:1279)

5- ...أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ...

النّحل:92

ابن عبّاس: يقول:ناس أكثر من ناس.

(الطّبريّ 14:167)

مجاهد :كانوا يحالفون الحلفاء،فيجدون أكثر منهم و أعزّ،فينقضون حلف هؤلاء،و يحالفون هؤلاء الّذين هم أعزّ منهم،فنهوا عن ذلك.

(الطّبريّ 14:167)

قتادة :أن يكون قوم أعزّ و أكثر من قوم.

(الطّبريّ 14:167)

ابن قتيبة :أن تكون أمّة،أي فريق منكم أغنى من فريق.(248)

الزّمخشريّ: يعني جماعة قريش هي أزيد عددا و أوفر مالا من جماعة المؤمنين.(2:426)

مثله النّيسابوريّ(14:114)،و القاسميّ(10:

3853)

الطّباطبائيّ: إنّما يفعلون ذلك لتكون أمّة،-و هم الحالفون-أربى و أزيد سهما من زخارف الدّنيا من أمّة، و هم المحلوف لهم.(12:335)

6- ...وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ. فاطر:24

الزّمخشريّ: الجماعة الكثيرة،قال اللّه تعالى:

وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ القصص:23،و يقال لأهل عصر:أمّة.و في حدود المتكلّمين الأمّة هم المصدّقون بالرّسول دون المبعوث إليهم،و هم الّذين يعتبر إجماعهم،و المراد هاهنا أهل العصر.(3:306)

الآلوسيّ: أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر و أمّة من الأمم الدّارجة في الأزمنة الماضية.(22:188)

7- بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. الزّخرف:22

ابن عبّاس: أي على ملّة و طريقة.

و مثله مجاهد،و قتادة،و السّدّيّ.

(الطّبرسيّ 5:44)

وجدنا آباءنا على دين.(الطّبريّ 25:60)

مجاهد :على ملّة.(الطّبريّ 25:60)

مثله قطرب.(أبو حيّان 8:11)

على دين،على ملّة.

مثله قطرب.(القرطبيّ 16:75)

الأخفش: على استقامة.(القرطبيّ 16:75)

الفرّاء: قرأ القرّاء بضمّ الألف من«أمّة»،و كسرها مجاهد،و عمر بن عبد العزيز.و كأنّ الإمّة مثل السّنّة و الملّة،و كأنّ الإمّة الطّريقة؛و المصدر من أممت القوم.

فإنّ العرب تقول:ما أحسن إمّته و عمّته و جلسته،إذا كان مصدرا.و الإمّة أيضا الملك و النّعيم.[ثمّ استشهد بشعر](3:30)

على ملّة:على قبلة.القرطبيّ 16:75)

أبو عبيدة :على ملّة و استقامة.2:203)

الجبّائيّ: على جماعة،أي كانوا مجتمعين موافقين على ما نحن عليه.(الطّبرسيّ 5:44)

ص: 305

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (عَلى أُمَّةٍ) فقرأته عامّة قرّاء الأمصار (عَلى أُمَّةٍ) بضمّ الألف، بالمعنى الّذي وصفت،من الدّين و الملّة و السّنّة.و ذكر عن مجاهد،و عمر بن عبد العزيز أنّهما قرءاه(على امّة) بكسر الألف.

و قد اختلف في معناها إذا كسرت ألفها،فكان بعضهم يوجّه تأويلها-إذا كسرت-على أنّها الطّريقة، و أنّها مصدر من قول القائل:أممت القوم فأنا أؤمّهم إمّة.

و ذكر عن العرب سماعا:ما أحسن عمّته و إمّته و جلسته، إذا كان مصدرا.

و وجّه بعضهم-إذا كسرت ألفها-إلى أنّها الإمّة الّتي بمعنى النّعيم و الملك.

و قال بعضهم:الأمّة بالضّمّ،و الإمّة بالكسر بمعنى واحد.

و الصّواب من القراءة في ذلك،الّذي لا أستجيز غيره:الضّمّ في الألف،لإجماع الحجّة من قرّاء الأمصار عليه.و أمّا الّذين كسروها فإنّي لا أراهم قصدوا بكسرها إلاّ معنى الطّريقة و المنهاج،على ما ذكرناه قبل،لا النّعمة و الملك،لأنّه لا وجه لأن يقال:إنّا وجدنا آباءنا على نعمة،و نحن لهم متّبعون في ذلك،لأنّ الاتّباع إنّما يكون في الملل و الأديان و ما أشبه ذلك،لا في الملك و النّعمة، لأنّ الاتّباع في الملك،ليس بالأمر الّذي يصل إليه كلّ من أراده.(25:60)

الهرويّ: أي على دين و مذهب.(1:87)

الزّمخشريّ: على دين.و قرئ على(إمّة) بالكسر،و كلتاهما من«الأمّ»و هو القصد؛فالأمّة:

الطّريقة الّتي تؤمّ،أي تقصد،كالرّحلة للمرحول إليه.

و الأمّة:الحالة الّتي يكون عليها الآمّ،و هو القاصد.

و قيل:على نعمة و حالة حسنة.(3:484)

نحوه البيضاويّ(2:365)،و النّسفيّ(4:116)

النّيسابوريّ: الدّين و الطّريقة الّتي تؤمّ،أي تقصد.(25:46)

مثله البروسويّ(8:361)،و الطّباطبائيّ(18:93).

أبو حيّان: (على أمّة)،أي طريقة و دين و عادة، فقد سلكنا مسلكهم و نحن مهتدون في اتّباع آثارهم.(8:11)

الحجازيّ: الأمّة لها معان،و المراد هنا الطّريقة و المذهب.(25:34)

المصطفويّ: على برنامج و مقصد محدود.

(1:127)

8- وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا. الجاثية:28

القرطبيّ: الأمّة هنا:أهل كلّ ملّة.(16:174)

البروسويّ: كرّر(كلّ امّة)لأنّه موضع الإغلاظ و الوعيد.(8:453)

امّة وسطا

1- وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ... البقرة:143

الإمام عليّ عليه السّلام:إنّ اللّه تعالى إيّانا عنى بقوله:

ص: 306

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ، فرسول اللّه شاهد علينا و نحن شهداء اللّه على خلقه و حجّته في أرضه، و نحن الّذين قال اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. (الطّبرسيّ 1:225)

[و بهذا المعنى وردت روايات عن أهل البيت عليهم السّلام و كلّها تأويل.]

ابن عبّاس: أُمَّةً وَسَطاً :عدلا.

مثله مجاهد،و قتادة،و الرّبيع.(الطّوسيّ 2:6)

المؤرّج:أي وسط بين النّاس و بين أنبيائهم.

(الطّوسيّ 2:6)

الفرّاء: يعني عدلا، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ، يقال:إنّ كلّ نبيّ يأتي يوم القيامة فيقول بلّغت،فتقول أمّته:لا،فيكذّبون الأنبياء،ثمّ يجاء بأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم فيصدّقون الأنبياء و نبيّهم،ثمّ يأتي النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فيصدّق أمّته،فذلك قوله تبارك و تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، و منه قول اللّه: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً النّساء:41.(1:83)

الطّبريّ: الأمّة هي القرن من النّاس،و الصّنف منهم،و غيرهم.(2:6)

الزّجّاج: معنى الأمّة:الجماعة،أيّ جماعة كانت.

إلاّ أنّ هذه الجماعة وصفت بأنّها وسط.و في أُمَّةً وَسَطاً قولان:قال بعضهم:(وسطا):عدلا،و قال بعضهم:أخيارا،و اللّفظان مختلفان،و المعنى واحد،لأنّ العدل خير و الخير عدل.

و قيل في صفة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّه من أوسط قومه جنسا، أي من خيارها،و العرب تصف الفاضل النّسب بأنّه:من أوسط قومه،و هذا يعرف حقيقته أهل اللّغة،لأنّ العرب تستعمل التّمثيل كثيرا،فتمثّل القبيلة بالوادي و القاع و ما أشبهه؛فخير الوادي وسطه،فيقال:هذا من وسط قومه،و من وسط الوادي،و سرر الوادي و سرارة الوادي و سرّ الوادي،و معناه كلّه:من خير مكان فيه،فكذلك النّبيّ من خير مكان في نسب العرب،و كذلك جعلت أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا.(1:219)

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى أنّه جعل أمّة نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله وسطا،أي سمّاها بذلك و حكم لها به.

و الوسط:العدل.و قيل:الخيار،و معناهما واحد.و قيل:

إنّه مأخوذ من المكان الّذي تعدل المسافة منه إلى أطرافه.و قيل:بل أخذ الوسط من التّوسّط بين المقصّر و المغالي.(2:6)

الزّمخشريّ: خيارا،و هي صفة بالاسم الّذي هو وسط الشّيء،و لذلك استوى فيه الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث.[إلى أن قال:]

أو عدولا،لأنّ الوسط عدل بين الأطراف،ليس إلى بعضها أقرب من بعض.(1:317)

ابن عطيّة: (امّة)مفعول ثان،و(وسطا)نعت، و الأمّة:القرن من النّاس،و وسطا:معناه عدلا،و روي ذلك عن رسول اللّه و تظاهرت به عبارة المفسّرين.

(1:437)

الطّبرسيّ: بيّن سبحانه فضل هذه الأمّة على سائر الأمم،فقال سبحانه: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً و قد ذكرنا وجه تعلّق الكاف المضاف إلى ذلك بما تقدّم:

ص: 307

أخبر عزّ اسمه أنّه جعل أمّة نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله عدلا و واسطة بين الرّسول و النّاس.

و متى قيل:إذا كان في الأمّة من ليس هذه صفته فكيف وصف جماعتهم بذلك؟

فالجواب أنّ المراد به من كان بتلك الصّفة،و لأنّ كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم.(1:224)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه إذا كان الوسط اسما حرّكت الوسط،كقوله: أُمَّةً وَسَطاً و الظّرف مخفّف، تقول:جلست وسط القوم.و اختلفوا في تفسير «الوسط»و ذكروا أمورا:

أحدها:أنّ الوسط هو العدل،و الدّليل عليه الآية، و الخبر،و الشّعر،و النّقل،و المعنى.

أمّا الآية فقوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ القلم:28، أي أعدلهم.

و أمّا الخبر فما روى القفّال عن الثّوريّ عن أبي سعيد الخدريّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: أُمَّةً وَسَطاً قال:عدلا.

و قال عليه الصّلاة و السّلام:«خير الأمور أوسطها»،أي أعدلها.و قيل:كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أوسط قريش نسبا.و قال عليه الصّلاة و السّلام:«عليكم بالنّمط الأوسط».

و أمّا الشّعر فقول زهير:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى اللّيالي العظائم

و أمّا النّقل فقال الجوهريّ في الصّحاح: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي عدلا.و هو الّذي قاله الأخفش،و الخليل،و قطرب.

و أمّا المعنى فمن وجوه:

أحدها:أنّ الوسط حقيقة في البعد عن الطّرفين، و لا شكّ أنّ طرفي الإفراط و التّفريط رديئان،فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيدا عن الطّرفين،فكان معتدلا فاضلا.

و ثانيها:إنّما سمّي العدل وسطا لأنّه لا يميل إلى أحد الخصمين،و العدل هو المعتدل الّذي لا يميل إلى أحد الطّرفين.

و ثالثها:لا شكّ أنّ المراد بقوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً طريقة المدح لهم،لأنّه لا يجوز أن يذكر اللّه وصفا و يجعله كالعلّة في أن جعلهم شهودا له،ثمّ يعطف على ذلك شهادة الرّسول؛إلاّ و ذلك مدح،فثبت أنّ المراد بقوله:(وسطا)ما يتعلّق بالمدح في باب الدّين، و لا يجوز أن يمدح اللّه الشّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهودا إلاّ بكونهم عدولا؛فوجب أن يكون المراد من الوسط:العدالة.

و رابعها:أنّ أعدل بقاع الشّيء وسطه،لأنّ حكمه مع سائر أطرافه على سواء و على اعتدال،و الأطراف يتسارع إليها الخلل و الفساد،و الأوساط محميّة محوّطة،فلمّا صحّ ذلك في الوسط صار كأنّه عبارة عن المعتدل الّذي لا يميل إلى جهة دون جهة.

الثّاني:أنّ الوسط من كلّ شيء خياره،قالوا:و هذا التّفسير أولى من الأوّل لوجوه:

الأوّل:أنّ لفظ الوسط يستعمل في الجمادات،قال صاحب«الكشّاف»:اكتريت جملا من أعرابيّ بمكّة للحجّ،فقال:أعطني من سطاتهنّ،أراد من خيار الدّنانير، و وصف العدالة لا يوجد في الجمادات،فكان هذا

ص: 308

التّفسير أولى.

الثّاني:أنّه مطابق لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ آل عمران:110.

الثّالث:أنّ الرّجل إذا قال:فلان أوسطنا نسبا فالمعنى أنّه أكثر فضلا،و هذا وسط فيهم كواسطة القلادة.و أصل هذا أنّ الأتباع يحتوشون الرّئيس فهو في وسطهم و هم حوله،فقيل:وسط لهذا المعنى.

الرّابع:يجوز أن يكونوا(وسطا)على معنى أنّهم متوسّطون في الدّين بين المفرط و المفرّط،و المغالي و المقصّر في الأشياء،لأنّهم لم يغلوا كما غلت النّصارى فجعلوا ابنا و إلها،و لا قصّروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء و تبديل الكتب،و غير ذلك ممّا قصّروا فيه.

و اعلم أنّ هذه الأقوال متقاربة غير متنافية.

(4:108)

نحوه النّيسابوريّ.(2:9)

القرطبيّ: المعنى:و كما أنّ الكعبة وسط الأرض كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي جعلناكم دون الأنبياء و فوق الأمم.و الوسط:العدل،و أصل هذا أنّ أحمد الأشياء أوسطها.

و وسط الوادي:خير موضع فيه و أكثره كلأ و ماء.

و لمّا كان الوسط مجانبا للغلوّ و التّقصير كان محمودا،أي هذه الأمّة لم تغل غلوّ النّصارى في أنبيائهم،و لا قصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم.

و فلان من أوسط قومه،و إنّه لواسطة قومه و وسط قومه،أي من خيارهم و أهل الحسب منهم.و قد وسط وساطة و وسطة،و ليس من الوسط الّذي بين شيئين في شيء.(2:153)

أبو حيّان: اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك،فقيل:المعنى أنّه شبّه جعلهم أُمَّةً وَسَطاً بهدايته إيّاهم إلى الصّراط المستقيم،أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمّة وسطا،مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصّراط المستقيم؛فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدّالّ عليه«يهدي»أي جعلناكم أمّة خيارا مثل ما هديناكم باتّباع محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما جاء به من الحقّ.

و قيل:المعنى أنّه شبّه جعلهم أُمَّةً وَسَطاً بجعلهم على الصّراط المستقيم،أي جعلناكم أمّة وسطا مثل ذلك الجعل الغريب الّذي فيه اختصاصكم بالهداية، لأنّه قال:يهدي من يشاء.فلا تقع الهداية إلاّ لمن شاء اللّه تعالى.

و قيل:المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل جعلناكم خير الأمم.

و قيل:المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة بين المشرق و المغرب جعلناكم أمّة وسطا.

و قيل:المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمّة وسطا دون الأنبياء و فوق الأمم.و أبعد من ذهب إلى أنّ ذلك إشارة إلى قوله تعالى: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا البقرة:130،أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمّة وسطا،و معنى(وسطا)عدولا، روي ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد تظاهرت به عبارة المفسّرين،و إذا صحّ ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وجب المصير في تفسير الوسط إليه.

و قيل:خيارا،و قيل:متوسّطين في الدّين بين

ص: 309

المفرط و المقصّر لم يتّخذوا واحدا من الأنبياء إلها كما فعلت النّصارى،و لا قتلوه كما فعلت اليهود.

و احتجّ جمهور المعتزلة بهذه الآية على أنّ إجماع الأمّة حجّة،فقالوا:أخبر اللّه عن عدالة هذه الأمّة و عن خيرتهم،فلو أقدموا على شيء وجب أن يكون قولهم حجّة.(1:421)

الآلوسيّ: و معنى(وسطا)خيارا أو عدولا،و هو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كالمركز، ثمّ استعير للخصال المحمودة البشريّة لكونها أوساطا للخصال الذّميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط و التّفريط،كالجود بين الإسراف و البخل،و الشّجاعة بين الجبن و التّهوّر و الحكمة بين الجربزة و البلادة،ثمّ أطلق على المتّصف بها إطلاق الحال على المحلّ.

و استوى فيه الواحد و غيره،لأنّه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته.و قد يراعى فيه ذلك،و ليس هذا الإطلاق مطّردا كما يظنّ من قولهم:«خير الأمور الوسط»إذ يعارضه قولهم:على الذّم«أثقل من مغن وسط»،لأنّه كما قال الجاحظ:يختم على القلب و يأخذ بالأنفاس،و ليس بجيّد فيطرب و لا برديء فيضحك.و قولهم:«أخو الدّون الوسط»بل هو وصف مدح في مقامين في النّسب،لأنّ أوسط القبيلة أعرقها و صميمها،و في الشّهادة كما هنا،لأنّه العدالة الّتي هي كمال القوّة العقليّة و الشّهويّة و الغضبيّة فيما ينبغي على ما ينبغي،و لمّا كان علم العباد لم يعط إلاّ بالظّاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر و عدم الإصرار على الصّغائر مقام ذلك،و سمّوه عدالة في إحياء الحقوق، فليحفظ.[ثمّ ذكر وجوه الاستدلال على حجّيّة الإجماع و ردّه.](2:4)

رشيد رضا :و هو تصريح بما فهم من قوله:

وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي على هذا النّحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطا.

قالوا:إنّ الوسط هو العدل و الخيار؛و ذلك أنّ الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط،و النّقص عنه تفريط و تقصير،و كلّ من الإفراط و التّفريط ميل عن الجادّة القويمة فهو شرّ و مذموم،فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر،أي المتوسّط بينهما.

قال الأستاذ الإمام بعد إيراد هذا:و لكن يقال:لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار مع أنّ هذا هو المقصود و الأوّل إنّما يدلّ عليه بالالتزام؟

و الجواب من وجهين:

أحدهما:أنّ وجه الاختيار هو التّمهيد للتّعليل الآتي فإنّ الشّاهد على الشّيء لا بدّ أن يكون عارفا به، و من كان متوسّطا بين شيئين فإنّه يرى أحدهما من جانب و ثانيهما من الجانب الآخر،و أمّا من كان في أحد الطّرفين،فلا يعرف حقيقة حال الطّرف الآخر و لا حال الوسط أيضا.

و ثانيهما:أنّ في لفظ الوسط إشعارا بالسّببيّة فكأنّه دليل على نفسه،أي أنّ المسلمين خيار و عدول لأنّهم وسط،ليسوا من أرباب الغلوّ في الدّين المفرطين،و لا من أرباب التّعطيل المفرّطين،فهم كذلك في العقائد و الأخلاق و الأعمال.

ذلك أنّ النّاس كانوا قبل ظهور الإسلام على

ص: 310

قسمين:

قسم تقضي عليه تقاليده بالمادّيّة المحضة فلا همّ له إلاّ الحظوظ الجسديّة كاليهود و المشركين.و قسم تحكم عليه تقاليده بالرّوحانيّة الخالصة،و ترك الدّنيا و ما فيها من اللّذّات الجسمانيّة،كالنّصارى و الصّابئين و طوائف من وثنيّي الهند أصحاب الرّياضيّات.

و أمّا الأمّة الإسلاميّة فقد جمع اللّه لها في دينها بين الحقّين حقّ الرّوح و حقّ الجسد،فهي روحانيّة جثمانيّة،و إن شئت قلت:إنّه أعطاها جميع حقوق الإنسانيّة،فإنّ الإنسان جسم و روح،حيوان و ملك.

فكأنّه قال: جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً تعرفون الحقّين و تبلغون الكمالين.(2:4)

المراغيّ:أي و قد جعلنا المسلمين خيارا و عدولا،لأنّهم وسط،فليسوا من أرباب الغلوّ في الدّين المفرطين،و لا من أرباب التّعطيل المفرّطين.(2:6)

الطّباطبائيّ:الظّاهر أنّ المراد كما سنحوّل القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمّة وسطا.و قيل:إنّ المعنى و مثل هذا الجعل العجيب جعلناكم أمّة وسطا،و هو كما ترى.

و أمّا المراد بكونهم«أمّة وسطا شهداء على النّاس» فالوسط هو المتخلّل بين الطّرفين لا إلى هذا الطّرف و لا إلى ذاك الطّرف،و هذه الأمّة بالنّسبة إلى النّاس-و هم أهل الكتاب و المشركون-على هذا الوصف فإنّ بعضهم -و هم المشركون و الوثنيّون-إلى تقوية جانب الجسم محضا،لا يريدون إلاّ الحياة الدّنيا و الاستكمال بملاذّها و زخارفها و زينتها،لا يرجون بعثا و لا نشورا،و لا يعبئون بشيء من الفضائل المعنويّة و الرّوحيّة،و بعضهم- كالنّصارى-إلى تقوية جانب الرّوح لا يدعون إلاّ إلى الرّهبانيّة و رفض الكمالات الجسميّة الّتي أظهرها اللّه تعالى في مظاهر هذه النّشأة المادّيّة،لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان؛فهؤلاء أصحاب الرّوح أبطلوا النّتيجة بإبطال سببها،و أولئك أصحاب الجسم أبطلوا النّتيجة بالوقوف على سببها و الجمود عليها،لكن اللّه سبحانه جعل هذه الأمّة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطّريق،وسط الطّرفين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء بل يقوّي كلاّ من الجانبين-جانب الجسم و جانب الرّوح-على ما يليق به،و يندب إلى جمع الفضيلتين،فإنّ الإنسان مجموع الرّوح و الجسم لا روح محضا و لا جسم محضا،و محتاج في حياته السّعيدة إلى جمع كلا الكمالين و السّعادتين الماديّة و المعنويّة؛فهذه الأمّة هي الوسط العدل الّذي به يقاس و يوزن كلّ من طرفي الإفراط و التّفريط،فهي الشّهيدة على سائر النّاس الواقعة في الأطراف، و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو المثال الأكمل من هذه الأمّة،هو شهيد على نفس الأمّة،فهو صلّى اللّه عليه و آله ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمّة،و الأمّة ميزان يوزن به حال النّاس،و مرجع يرجع إليه طرفا الإفراط و التّفريط.هذا ما قرّره بعض المفسّرين في معنى الآية،و هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقّة،إلاّ أنّه غير منطبق على لفظ الآية،فإنّ كون«الأمّة وسطا»إنّما يصحّح كونها مرجعا يرجع إليه الطّرفان،و ميزانا يوزن به الجانبان،لا كونها شاهدة تشهد على الطّرفين،أو يشاهد الطّرفين فلا تناسب بين

ص: 311

الوسطيّة بذلك المعنى و الشّهادة و هو ظاهر.على أنّه لا وجه حينئذ للتّعرّض بكون رسول اللّه شهيدا على الأمّة؛إذ لا يترتّب شهادة الرّسول على الأمّة على جعل الأمّة وسطا،كما يترتّب الغاية على المغيّى و الغرض على ذيه.[و هناك أبحاث أخرى راجع«ش ه د» و«و س ط»]

(1:319)

2- مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ .المائدة:66

راجع«ق ص د»(مقتصدة).

امّة واحدة

1- كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. البقرة:213

أبيّ بن كعب: كانوا أمّة واحدة حيث عرضوا على آدم،ففطرهم يومئذ على الإسلام،و أقرّوا له بالعبوديّة، و كانوا أمّة واحدة مسلمين كلّهم.(الطّبريّ 2:335)

ابن عبّاس: كان بين نوح و آدم عشرة قرون،كلّهم على شريعة من الحقّ،فاختلفوا،فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين و منذرين.(الطّبريّ 2:334)

كان النّاس أمّة واحدة على الكفر قبل إبراهيم عليه السّلام، فبعثه اللّه تعالى.(أبو الفتوح 1:349)

يقول:كانوا كفّارا.(ابن كثير 1:443)

الضّحّاك: كانوا على الحقّ،فاختلفوا.

مثله قتادة.(الطّوسيّ 2:193)

الحسن :كان النّاس من عهد آدم إلى زمان نوح عليه السّلام على امّة و طريقة واحدة.

مثله عطاء.(أبو الفتوح 1:349)

الإمام الباقر عليه السّلام: كانوا قبل نوح أمّة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلاّلا فبعث اللّه النّبيّين.(الطّبرسيّ 1:307)

قتادة :كانوا على الهدى جميعا.

(ابن كثير 1:443)

السّدّيّ: دينا واحدا على دين آدم،فاختلفوا، فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين و منذرين،و كان الدّين الّذي كانوا عليه دين الحقّ.(الطّبريّ 2:336)

الكلبيّ: هم أهل سفينة نوح،و كانوا فرقة تدين بالإسلام الحنيف،ثمّ بعد وفاة نوح اختلفوا.

(الميبديّ 1:565)

الإمام الصّادق عليه السّلام: عن يعقوب بن شعيب قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً.

قال:كان هذا قبل نوح أمّة واحدة،فبدا للّه فأرسل الرّسل قبل نوح.

قلت:أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟

قال:كانوا على ضلالة،قال:بل كانوا ضلالا لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين.(العروسيّ 1:208)

ص: 312

كان ذلك قبل نوح،قيل:فعلى هدى كانوا؟

قال:لا،كانوا ضلالا؛و ذلك بأنّه لمّا انقرض آدم عليه السّلام و صالح ذرّيّته بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللّه الّذي كان عليه آدم و صالح ذرّيّته؛ و ذلك أنّ قابيل توعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل،فسار فيهم بالتّقيّة و الكتمان،فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لم يبق على الأرض معهم إلاّ من هو سلف،و لحق الوصيّ بجزيرة في البحر يعبد اللّه،فبدا للّه تبارك و تعالى أن يبعث الرّسل،و لو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا:قد فرغ من الأمر،فكذبوا،إنّما هو شيء يحكم به اللّه في كلّ عام، ثمّ قرأ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ الدّخان:4،فيحكم اللّه تبارك و تعالى ما يكون في تلك السّنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك.

قلت:أ فضلاّل كانوا قبل النّبيّين أم على هدى؟

قال:لم يكونوا على هدى،كانوا على فطرة اللّه الّتي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللّه،و لم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم اللّه؛أ ما تسمع يقول إبراهيم:

لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ الأنعام:77،أي ناسيا للميثاق.(العروسيّ 1:208)

ابن زيد :حين أخرجهم من ظهر آدم،لم يكونوا أمّة واحدة قطّ غير لك اليوم،فبعث اللّه النّبيّين،هذا حين تفرّقت الأمم.(الطّبريّ 2:336)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في معنى«الأمّة» في هذا الموضع،و في«النّاس»الّذين وصفهم اللّه بأنّهم كانوا أمّة واحدة،فقال بعضهم:هم الّذين كانوا بين آدم و نوح،و هم عشرة قرون،كلّهم كانوا على شريعة من الحقّ،فاختلفوا بعد ذلك.

فتأويل«الأمّة»-على هذا القول الّذي ذكرناه عن ابن عبّاس-:الدّين،كما قال النّابغة الذّبيانيّ:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

و هل يأثمن ذو أمّة و هو طائع

يعني ذا الدّين،فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء:كان النّاس أمّة مجتمعة على ملّة واحدة و دين واحد،فاختلفوا،فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين و منذرين.

و أصل الأمّة:الجماعة،تجتمع على دين واحد،ثمّ يكتفي بالخبر عن الأمّة من الخبر عن الدّين،لدلالتها عليه،كما قال جلّ ثناؤه: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً المائدة:48،يراد به أهل دين واحد و ملّة واحدة،فوجه ابن عبّاس في تأويله قوله: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً إلى أنّ النّاس كانوا أهل دين واحد حتّى اختلفوا.

و قال آخرون:بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إماما لذرّيّته،فبعث اللّه النّبيّين في ولده،و وجّهوا معنى «الأمّة»إلى الطّاعة للّه و الدّعاء إلى توحيده و اتّباع أمره،من قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً النّحل:120،يعني بقوله:(امّة)إماما في الخير يقتدى به،و يتّبع عليه.

قال مجاهد: آدم أمّة واحدة،و كأنّ من قال هذا القول استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة،لاجتماع أخلاق الخير الّذي يكون في الجماعة المفرّقة فيمن سمّاه بالأمّة،كما يقال:فلان أمّة واحدة،يقوم مقام الأمّة.و قد يجوز أن يكون سمّاه بذلك لأنّه سبب

ص: 313

لاجتماع الأسباب من النّاس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير،فلمّا كان آدم عليه السّلام سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم،سمّاه بذلك أمّة.

و قال آخرون:معنى ذلك كان النّاس أمّة واحدة، على دين واحد،يوم استخرج ذرّيّة آدم من صلبه، فعرضهم على آدم.

و تأويل الآية على هذا القول نظير تأويل قول من قال بقول ابن عبّاس:إنّ النّاس كانوا على دين واحد فيما بين آدم و نوح.و قد بيّنّا معناه هنالك،إلاّ أنّ الوقت الّذي كان فيه النّاس أمّة واحدة مخالف الوقت الّذي وقّته ابن عبّاس.

و قال آخرون:بخلاف ذلك كلّه في ذلك،و قالوا:

إنّما معنى قوله: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً على دين واحد،فبعث اللّه النّبيّين.

و أولى التّأويلات في هذه الآية بالصّواب أن يقال:

إنّ اللّه عزّ و جلّ أخبر عباده أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة على دين واحد و ملّة واحدة.

و قد يجوز أن يكون ذلك الوقت الّذي كانوا فيه (امّة واحدة)من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السّلام،كما روى عكرمة عن ابن عبّاس،و كما قاله قتادة.و جائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه.و جائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك.

و لا دلالة من كتاب اللّه و لا خبر يثبت به الحجّة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك،فغير جائز أن نقول فيه إلاّ ما قال اللّه عزّ و جلّ:من أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة، فبعث اللّه فيهم-لمّا اختلفوا-الأنبياء و الرّسل.

و لا يضرّنا الجهل بوقت ذلك،كما لا ينفعنا العلم به،إذا لم يكن العلم به للّه طاعة.

غير أنّه أيّ ذلك كان،فإنّ دليل القرآن واضح، على أنّ الّذين أخبر اللّه عنهم أنّهم كانوا أمّة واحدة،إنّما كانوا أمّة واحدة على الإيمان و دين الحقّ،دون الكفر باللّه و الشّرك به؛و ذلك أنّ اللّه جلّ و عزّ قال في السّورة الّتي يذكر فيها يونس: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يونس:19،فتوعّد جلّ ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع،و لا على كونهم أمّة واحدة،و لو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر،ثمّ كان الاختلاف بعد ذلك،لم يكن إلاّ بانتقال بعضهم إلى الإيمان،و لو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جلّ ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد، لأنّها حال إنابة بعضهم إلى طاعته،و محال أن يتوعّد في حال التّوبة و الإنابة،و يترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر و الشّرك.(2:334-337)

أبو مسلم الأصفهانيّ:إنّ النّاس كانوا أمّة واحدة في التّمسّك بالشّرائع العقليّة،و هي الاعتراف بوجود الصّانع و صفاته،و الاشتغال بخدمته و شكر نعمته، و الاجتناب عن القبائح العقليّة،كالظّلم و الكذب، و الجهل،و العبث و أمثالها.(الفخر الرّازيّ 6:14)

القمّيّ:قبل نوح على مذهب واحد فاختلفوا.

(1:71)

الطّوسيّ: أهل ملّة واحدة.[ثمّ استشهد بشعر]

ص: 314

و اختلفوا في الدّين الّذي كانوا عليه،فقال ابن عبّاس،و الحسن،و اختاره الجبّائيّ:إنّهم كانوا على الكفر.و قال قتادة،و الضّحّاك:كانوا على الحقّ، فاختلفوا.

فإن قيل:إذا كان الزّمان لا يخلو من حجّة كيف يجوز أن يجتمعوا كلّهم على الكفر؟

قلنا:يجوز أن يقال ذلك على التّغليب،لأنّ الحجّة إذا كان واحدا أو جماعة يسيرة لا يظهرون خوفا و تقيّة، فيكون ظاهر النّاس كلّهم الكفر باللّه،فلذلك جاز الإخبار به على الغالب من الحال،و لا يعتدّ بالعدّة القليلة.(3:194)

الطّبرسيّ: [بعد نقل قول الإمام الباقر عليه السّلام قال:]

و على هذا فالمعنى أنّهم كانوا متعبّدين بما في عقولهم غير مهتدين إلى نبوّة و لا شريعة،ثمّ بعث اللّه النّبيّين بالشّرائع لمّا علم أنّ مصالحهم فيها فَبَعَثَ اللّهُ، أي أرسل اللّه النّبيّين.(1:307)

أبو الفتوح: [بعد نقل قول الحسن،و عطاء، و الكلبيّ،و ابن عبّاس قال:]

و جميع ما تقدّم ينحصر في ثلاثة أقوال:

الأوّل:كان النّاس على ملّة واحدة من الكفر، و الكفر على اختلاف أنواعه ملّة واحدة.

الثّاني:كان النّاس على ملّة واحدة من معرفة اللّه و الإسلام،و ما كان بينهم خلاف.

الثّالث:كان النّاس غير مكلّفين،فبعث اللّه النّبيّين.(1:349)

الفخر الرّازيّ: [له بحث مستوفى لخّصه النّيسابوريّ كما سيأتي](6:11)

البيضاويّ: متّفقين على الحقّ فيما بين آدم و إدريس أو نوح أو بعد الطّوفان،أو متّفقين على الجهالة و الكفر في فترة إدريس أو نوح.(1:113)

النّيسابوريّ:الآية فيه إشارة إلى أنّ التّباغي و التّحاسد و التّنازع في طلب الدّنيا و طيّباتها لا يختصّ بهذا الزّمان،و إنّما ذلك داء قديم في الإنسان.

ثمّ«الأمّة الواحدة»كانوا على الحقّ أو على الباطل،فيه للمفسّرين أقوال:

الأوّل:أنّهم كانوا على الحقّ،و اختاره المحقّقون لوجوه:

منها قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ و هذا يدلّ على أنّ النّبيّين عليهم السّلام بعثوا حين الاختلاف و صيرورة بعضهم مبطلا،و لو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى.

و منها النّقل المتواتر:أنّ آدم و أولاده كانوا مسلمين مطيعين للّه تعالى،إلى أن قتل قابيل هابيل حسدا و بغيا.

و منها أنّ وقت الطّوفان لم يبق إلاّ أهل السّفينة، و كلّهم كانوا على الحقّ و الدّين الصّحيح،فلعلّ(النّاس) إشارة إليهم.

و منها أنّ الدّين الحقّ يتوقّف على النّظر، و النّظريّات مستندة بالآخرة إلى مقدّمات تعلم صحّتها بضرورة العقل،و إلى ترتيب كذلك.فالعقل السّليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج،فالصّواب له بالذّات و الخطأ بالعرض،و ما بالذّات أقدم ممّا بالعرض،

ص: 315

بحسب الاستحقاق،و بحسب الزّمان أيضا.

فالأولى:أن يقال:كان النّاس على الحقّ ثمّ اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي و الحسد،و يؤيّده قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:

«كلّ مولود على الفطرة فأبواه يهوّدانه،و ينصّرانه، و يمجّسانه».

الثّاني:و هو مرويّ عن ابن عبّاس،و الحسن، و عطاء أنّهم كانوا على الباطل،لأنّ بعثة الأنبياء مترتّبة على ذلك،و لو كانوا على الحقّ لم يحتجّ إلى بعثتهم.

و لو قيل:إنّ تقدير الآية:فاختلفوا فبعث اللّه،كما قرأ به ابن مسعود،فالأصل عدم الإضمار،و القراءة الشّاذّة لا يعتدّ بها.

و متى كان النّاس متّفقين على الكفر؟قالوا:من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السّلام كانوا كفّارا بحكم الأغلب و إن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل و شيث و إدريس، كما يقال:«دار الكفر»و إن كان فيها مسلمون.

الثّالث:عن أبي مسلم و القاضي أبي بكر أنّهم كانوا أمّة واحدة في التّمسّك بالشّرائع العقليّة،و هي الاعتراف بوجود الصّانع و صفاته،و الاشتغال بخدمته و شكر نعمته،و الاجتناب عن القبائح العقليّة كالظّلم و الكذب و العبث.

و احتجّا بأنّ لفظ(النّبيّين)جمع معرّف فيفيد العموم و«الفاء»توجب التّعقيب،فيعلم من ذلك أنّ تلك الواحدة متقدّمة على جميع الشّرائع،فلا تكون إلاّ مستفادة من العقل.

ثمّ سأل القاضي نفسه فقال:أو ليس أوّل النّاس آدم و إنّه كان نبيّا مبعوثا؟و أجاب بأنّه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسّكين بالشّرائع العقليّة أوّلا،ثمّ إنّ اللّه تعالى بعثه إلى أولاده.و يحتمل أنّ شريعته قد صارت مندرسة ثمّ رجع النّاس إلى الشّرائع العقليّة.

الرّابع:التّوقّف،فلا دلالة في الآية على أنّهم كانوا محقّين أو مبطلين.

الخامس:أنّ المراد من(النّاس)أهل الكتاب الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام ثمّ اختلفوا بسبب البغي و الحسد فبعث اللّه النّبيّين و معهم الكتب،كما بعث داود و معه الزّبور،و عيسى و معه الإنجيل،و محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و معه الفرقان،لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء الّتي اختلفوا فيها.و هذا القول يوافق قول من قال:إنّ الخطاب في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ البقرة:208،لأهل الكتاب،فيراد ب(النّاس)إذن ناس معهودون.(2:212)

أبو حيّان: [و بعد نقله(12)قولا في(النّاس) قال:]

و أمّا في التّوحيد فخمسة أقوال:إمّا في الإيمان، و إمّا في الكفر،و إمّا في الخلقة على الفطرة،و إمّا في الخلوّ عن الشّرائع،و إمّا في كونهم من جوهر واحد و هو الأب.

و قد رجّح كونهم أمّة واحدة في الإيمان بقوله:

فَبَعَثَ اللّهُ و إنّما بعثوا حين الاختلاف،و يؤكّده قراءة عبد اللّه (أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) ،و بقوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فهذا يدلّ على أنّ الاتّفاق كان حصل قبل البعث و الإنزال،و بدلالة العقول إذ النّظر المستقيم يؤدّي إلى الحقّ،و يكون آدم بعث إلى أولاده

ص: 316

و كانوا مسلمين،و بالولادة على الفطرة،و بأنّ أهل السّفينة كانوا على الحقّ و بإقرارهم في يوم الذّرّ.

و يظهر أنّ هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد اللّه و للتّصريح بهذا المحذوف في آية أخرى،و هو قوله تعالى: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يونس:19،و القرآن يفسّر بعضه بعضا،و تقدّم شرح (امّة)في قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ البقرة:

128.

و في قراءة أبيّ (كان البشر) إشارة إلى أنّه لا يراد ب(النّاس)معهودون.

و من جعل الاتّحاد في الإيمان قدّر:فاختلفوا فبعث اللّه،و من جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التّقدير؛ إذ كانت بعثة النّبيّين إليهم.و أوّل الرّسل على ما ورد في الصّحيح في حديث الشّفاعة نوح على نبيّنا و آله و عليه السّلام،يقول النّاس له:أنت أوّل الرّسل المعنى إلى قوم كفّار،لأنّ آدم قبله و هو مرسل إلى بنيه يعلّمهم الدّين و الإيمان.(2:135)

رشيد رضا :«يقول المؤلّف محمّد رشيد رضا:

كتب في تفسير هذه الآية الأستاذ الإمام[الشّيخ محمّد عبده]باقتراح منّي و أنا الّذي وضعت الأرقام للسّور و الآيات في شواهد ما كتبه و هذا نصّه»

تطلق«الأمّة»في كتاب اللّه تعالى بمعنى الملّة أي العقائد و أصول الشّريعة كما في قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء:92، بعد ما ذكر من شأن جماعة الأنبياء صلوات اللّه عليهم و كما قال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ المؤمنون:51،52،رجّح كثير من المفسّرين أنّ المراد من الأمّة في الآيتين الملّة، أي العقائد و أصول الشّرائع،أي أنّ جميع الأنبياء و رسل اللّه على ملّة واحدة و دين واحد كما قال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ آل عمران:19،و قال كثير منهم:إنّ «الأمّة»في هذه الآية بمعنى الجماعة كما هي في قوله تعالى: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ الأعراف:181،أي جماعة و كما في قوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ آل عمران:104 و لا تكون بمعنى الجماعة مطلقا و إنّما هي بمعنى الجماعة الّذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدا،و تسوّغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمّة،و تكون بمعنى السّنين كما في قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ هود:8،و في قوله: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،و بمعنى الإمام الّذي يقتدى به كما في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ النّحل:120، و بمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ آل عمران:110،و هذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة على ما ذكرنا و إنّما خصّصه العرف تخصيصا.

و قد حمل جمهور من المفسّرين لفظ«الأمّة»في هذه الآية على الملّة ثمّ اختلفوا فيم كانت الملّة،فقال جمهورهم:إنّها ملّة الهدى و الدّين القويم،فيكون معنى الآية في رأيهم: كانَ النّاسُ أُمَّةً أي ملّة واحِدَةً

ص: 317

قيّمة الدّين صحيحة العقائد جارية في أعمالها على أحكام الشّرائع فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ البقرة:213،و لمّا وجدوا أنّ المعنى لا يكون قويما،لأنّه لا معنى لإرسال الرّسل إلى الأمم الصّالحة المهتدية ليحكموا بينهم فيما يختلفون فيه،إذ لا يتأتّى الاختلاف الّذي يحتاج في رفعه إلى رسالة الرّسل مع استقامة العمل و الوقوف عند حدود الشّرائع، قالوا:لا بدّ من تقدير في العبارة فيكون الكلام:كان النّاس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين و منذرين،و القرينة على هذه القضيّة المقدّرة قوله فيما بعد: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ البقرة:213.

و أنت ترى أنّ هذا بمنزلة أن تقول:كان زيد عالما فبعثت إليه من يعلّمه ما كان نسيه من معلوماته،أو كان عاملا فأرسلت إليه من يعظه في العود إلى ما ترك من عمله،و تقول:إنّ كلامي على تقدير كان عالما فنسي أو كان عاملا فترك العمل فبعثت إليه أو أرسلت إليه إلخ و هو ممّا لا يقبله ذوق عربيّ،فإذا كنت لا تراه لائقا بكلامك فكيف تجده لائقا بكلام اللّه أبلغ الكلام! و أولى قول[من]يملك العقول و الأفهام.

و ممّا استدلّوا به على صحّة قولهم أنّ آدم عليه السّلام كان نبيّا و كان أولاده على ملّته هادين مهتدين إلى أن وقع التّحاسد بين ولديه و كان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف،و أنّ الإنسان يولد على الفطرة السّليمة و الدّين الحقّ،و إنّما يعرض له ما ينحرف به عن الفطرة من تحكّم الأهواء،و إغواء الشّهوات،و رين الشّبهات،و نحو ذلك،فلا ريب يكون للإنسان طور أوّل كان فيه خيّرا عادلا واقفا عند الحقّ فيما يعتقد و ما يعمل،ثمّ يعرض عليه ما يعرض من الميل إلى الشّرّ و القبيح من الأعمال.

و لكن هذه الأدلّة لا تغيّر شيئا ممّا ذكرناه مختصّا بتأليف الكلام،على أنّه قد عرض على أولاد آدم من بعده أطوار كثيرة بلغ بهم الجهل في بعضها أن كانوا ملّة واحدة في الكفر و فساد الأعمال،كما كانت الحال لعهد نوح و عهد إبراهيم من بعده،و الآية لم تحدّد زمن كان النّاس أمّة واحدة،و غاية ما في الأمر أن يكون النّبيّون المبعوثون مخصوصين بغير آدم أو نوح مثلا إذا حملت الأمّة الواحدة على أمّة الضّلال،و ملّة الفساد و الاعتلال.

و لذلك ذهبت طائفة أخرى و في مقدّمتهم ابن عبّاس،و عطاء،و الحسن إلى أنّ«الأمّة الواحدة»أمّة الضّلال،الّتي لا تهتدي بحقّ و لا تقف في أعمالها عند حدّ شريعة،و احتجّوا على قولهم بهذا التّعقّب في الآية بأنّه جعل بعثة الرّسل تابعة لوحدة الأمّة،و لا تكون كذلك حتّى تكون تلك الوحدة قاضية بالحاجة إلى إرسالهم ليحكموا بينهم في الاختلاف الّذي يقع فيهم بسبب الفساد في العقائد،و الذّهاب مع الأهواء الضّالّة في الأعمال،و اعتداء بعضهم على بعض لذلك، و انتهاكهم حرمة ما أمر اللّه برعاية حرمته،فيجب أن تكون وحدة الأمّة وحدة في الباطل حتّى يرد الحقّ عليه فيزهقه،و أمّا لو كانت الأمّة واحدة في الهدى و اتّباع الحقّ فلا معنى لجعل بعثة الرّسل مترتّبة عليها كما هو ظاهر.

ص: 318

و دفعوا ما يقال:من أنّ آدم كان نبيّا و كان من أولاده من بقي على شريعته فكيف يقال:إنّ النّاس كانوا أمّة واحدة على الباطل دفعوه بأنّ الحكم على الغالب، فقد كان النّاس لعهد نوح كفّارا إلاّ القليل منهم،و من المعروف أنّه يقال:«دار كفر»لمن كان أغلب سكّانها كفّارا و إن كان فيها مسلمون.و قد يجاب بما تقدّم ذكره من تخصيص النّبيّين بما بعد آدم و نوح من إبراهيم و من بعده،و لكنّ المعنى كما تراه ليس ممّا تطمئنّ إليه النّفس بعد النّظر إلى آدم و رسالته،و من بقي من أولاده على ملّته.

و قال أبو مسلم،و القاضي أبو بكر:إنّ وحدة الأمّة كانت فيما هو من مقتضى أصل الفطرة من الأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد و العمل،فكان النّاس يهتدون بعقولهم،و النّظر المحض في الآيات الدّالّة على وجود الصّانع و وجوب شكره،ثمّ كانوا يميزون الحسن من القبيح،و الباطل من الصّحيح،بالنّظر في المنافع و المضارّ،أو الاتّفاق مع ما يليق باللّه على حسب ما يرشد إليه العقل أو مالا يليق.

و لا ريب أنّ استسلام النّاس إلى عقولهم بدون هداية إلهيّة ممّا يدعو إلى الاختلاف،بل كثيرا ما حالت الأوهام،دون الوصول إلى المراد من العقائد و الأحكام، فيكون الاختلاف مفهوما من معنى الوحدة على هذا التّأويل و ما سبقه و لهذا رتّب عليها بعثة الأنبياء ليحكموا بما أنزل اللّه فيما اختلف فيه النّاس.

و قد أورد القاضي على نفسه مسألة آدم و رسالته و أجاب عنها بأنّه من الجائز أن يكون آدم و أولاده قد بدأ أمرهم على سنّة الفطرة فكانوا من أهل النّظر،ثمّ بعد أن كثر أولاده و ظهر أنّ هداية العقل وحده لا تكفي في حفظ سلامة القلوب و لإصلاح الأعمال،أرسله اللّه إليهم بهداية إلهيّة من عنده،و أنّه من المحتمل بل يكاد يكون من المحقّق أنّه طرأ على نسل آدم ما أنساهم شرعه فعادوا إلى استعمال عقولهم وحدها فعادت إليهم الوحدة فيما يؤدّي إلى الاختلاف فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ... البقرة:213.

و توقّف قوم في معنى«الأمّة»و قالوا:لا حاجة إلى البحث في أنّها كانت أمّة هداية أو أمّة ضلال أو أمّة عقل.و هو قول غاية في الغرابة،لأنّه ذهاب إلى ترك فهم الآية الكريمة،و معنى ترتيب بعثة الأنبياء على وحدة الأمّة،اللّهمّ إلاّ أن يكون القائل قد أراد ما سيأتي لنا ذكره إن شاء اللّه تعالى.

و أغرب من هذا القول قول بعض المفسّرين،و نقل عن مجاهد أنّ النّاس هم آدم وحده،و أنّه كان أمّة يقتدى به،و لا ندري ما ذا يقول أصحاب هذا القول في تفسير بقيّة الآية؟نعوذ باللّه من الخذلان.

و يزعم آخرون أنّ المراد من الآية أهل الكتاب الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام ثمّ اختلفوا بغيا بينهم،فأرسلت إليهم الرّسل بكتب تهذّبهم كما أرسل داود بزبوره و عيسى بإنجيله ليردّوهم إلى الحقّ فيما اختلفوا فيه، و هو تخصيص للنّاس و للنّبيّين بما لا دليل عليه البتّة كما لا يخفى.

قال ابن العادل نقلا عن القرطبيّ:و لفظة(كان)على هذه الأقوال على بابها من المضيّ و يحتمل أن تكون

ص: 319

للثّبوت،و المراد الإخبار عن النّاس الّذين هم الجنس كلّه أنّهم أمّة واحدة في خلوّهم عن الشّرائع و جهلهم بالحقائق لو لا أنّ اللّه منّ عليهم بالرّسل تفضّلا منه فلا تختصّ بالمضيّ فقط بل يكون معناها كقوله: وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً النّساء:96.

و قد قارب الصّواب في هذا الاحتمال الثّاني و هو الّذي كان يذهب الذّهن إليه لأوّل الأمر لو لا ما يشتغل به من النّظر في تلك الضّروب من التّأويل،فتفرّق به السّبل و يكاد يضلّ السّبيل،و نحن ذاكرون لك إن شاء اللّه ما يجلي المعنى في الآية مقتفين أثر ابن العادل و القرطبيّ فيما قالاه في معنى(كان)و أنّها للثّبوت لا للمضيّ،غير أنّا نقدّم لك ما جاء في كتاب اللّه من وصف الأمّة بالواحدة،و المعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة،ليكون في ذلك توضيح لما نقصد، و سند لنا فيما إليه نعمد،و اللّه الموفّق.

ورد وصف الأمّة بالواحدة في قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ* وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ الأنبياء:92،93، جاءت هذه الآية الكريمة: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ... بعد ذكر جمع من الأنبياء صلوات اللّه عليهم و ذكر ما كان من شأنهم مع قومهم،و الخطاب فيها للأنبياء كما يفسّره قوله تعالى في سورة«المؤمنون»بعد ما ذكر من أحوال الأنبياء و المرسلين و ما كان من أقوامهم معهم: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ المؤمنون:51-53.

و قد جاء لفظ(امّة)بالنّصب في الآيتين على الحال و الخبر قد تمّ في قوله: وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي هذا الجمع من الأنبياء و المرسلين أمّتكم،أي جماعتكم حال أنّها أمّة واحدة،أي ليس جمعا تربطه الرّوابط البعيدة،كما يقال:أمّة الهند،على اختلاف مللها و تفرّق كلمتها،بل هي أمّة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور اللّه و الدّعوة إلى توحيده،و القيام على شرعه و حمل النّاس على اتّباع أحكامه،فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدّد فيه هو الحقّ و العدل،فهي جديرة بأن تكون أمّة واحدة.

و إن شئت قلت كما قالوا:إنّ الأمّة بمعنى الملّة في الآيتين،يراد بذلك أنّ اللّه يخبر المرسلين بأنّ هذا الّذي سبق في الكلام من السّير في النّاس بهداية اللّه و المثابرة على ذلك و عدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تثريب أو تعذيب،هذه هي ملّتكم و دينكم و هو أمر واحد لا تعدّد فيه،يأتي به السّابق،و يتبعه عليه اللاّحق، لا يختلف فيه نبيّ،عن نبيّ و لا يناكر فيه مرسل مرسلا.

هذا المعنى من الوحدة هو الّذي جاء في قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ هود:118،119،و في قوله: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ الشّورى:8.

أي لو شاء ربّك لخلق النّاس على غريزة تميل إلى

ص: 320

الحقّ،و فطرة يسطع فيها نور الهداية إليه بدون حجاب من الهوى و الشّهوة أو ظلمة الفكر و ستر الغواية،فكانوا جميعا على مثال الأنبياء و المرسلين و من تبعهم بإحسان،و كانوا بذلك من أهل السّعادة و سكّان دار النّعيم،و لكن قضى ربّك أن يخلق الإنسان إنسانا يكله إلى فكره،و يدعه إلى سعيه و كسبه،فلا يزال يتخبّط في الاختلاف،و سيجرّهم الاختلاف إلى دار الشّقاء،بعد الخزي في دار الفناء،إلاّ اولئك الّذين رحمهم ربّك من هداة العالمين،و قادة النّاس إلى خير الدّارين،و من وفّقه اللّه لاستجابة دعوتهم و الاهتداء بسنّتهم، فأدخلهم في رحمته،بعد ما شمل الظّالمين بسخطه و نقمته.

و يفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أنّ النّاس لم يكونوا أمّة واحدة قطّ لا بمعنى أنّهم كانوا جميعا على الخير و الهدى،لأنّ اللّه خلق الإنسان على غريزة تبعد به عن الاتّحاد على الحقّ و الاتّفاق على العدل، و لا بمعنى أنّهم كانوا جميعا على الضّلال كما تراه من صريح النّسق الشّريف،فكان النّاس و لا يزالون منهم المحسن و المسيء،و المهتدي و الضّالّ،سنّة اللّه في هذا الخلق.

لكنّك تجد في سورة يونس نصّا صريحا في أنّ اللّه تعالى شاء أن يكون النّاس أمّة واحدة،قال تعالى:

وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يونس:

19،و لا يمكنك أن تحمل(كان)على معناها من المضيّ،لأنّ الحصر يبعّد ذلك بالمرّة،فالمراد منه أنّ النّاس كانوا و لا يزالون أمّة واحدة و نشأ عن هذه الوحدة نفسها اختلافهم،و كان اللّه سبحانه يقضي في الخلاف بإهلاك من ينحرف منهم عن سبيل الفطرة السّليمة فلا يبقى من النّاس إلاّ من استقام عليها،و لكن سبقت كلمته و ثبت في علمه و تمّ في مشيئته أن يكون النّاس في أمرهم كاسبين لسعيهم،مكلّفين بالنظر فيما بين أيديهم من الآيات،و أن يكون منهم الضّالّ و المهتدي و العادل و المعتدي حتّى يوفّي كلاّ جزاءه في الدّار الأخرى.و لهذا بعث فيهم الرّسل عليهم الصّلاة و السّلام ليكونوا لهم أئمّة في الإيمان و أسوة في العمل الصّالح.

فهل يمكنك مع هذا أن تحمل وحدة الأمّة على وحدة العقيدة و العمل،كما حملتها على ذلك في الآيات الأخر؟ليس ذلك بممكن لأنّ النّاس ليسوا أمّة واحدة بذلك المعنى بل هم مختلفون،فلا ريب أنّه يجب حمل وحدة الأمّة على معنى آخر،و هو ذلك الّذي نختاره في الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها.

خلق اللّه الإنسان أمّة واحدة أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش،لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدّنيا إلى الأجل الّذي قدّره اللّه لهم إلاّ مجتمعين يعاون بعضهم بعضا،و لا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض،فكلّ واحد منهم يعيش و يحيا بشيء من عمله،لكن قواه النّفسيّة و البدنيّة قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه،فلا بدّ من انضمام قوى الآخرين إلى قوّته،فيستعين بهم في بعض شأنه كما يستعينون به في بعض شأنهم،و هذا الّذي يعبّرون عنه بقولهم:

«الإنسان مدنيّ بالطّبع»يريدون بذلك أنّه لم يوهب من

ص: 321

القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته،بل قدّر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن،لا يقوم البدن إلاّ بعمل الأعضاء كما لا تؤدّي الأعضاء وظائفها إلاّ بسلامة البدن.

فلمّا كان النّاس أمّة واحدة و لا يمكن أن يكونوا بمقتضى فطرهم إلاّ كذلك و هم إنّما يعملون بمقتضى آرائهم،و ينحون في أعمالهم نحو المنافع الّتي يرونها لازمة لقوام معيشتهم،و لم يمنحوا من قوّة الإلهام ما يعرف كلاّ منهم وجه المصلحة في حفظ حقّ غيره، لتوفير المنفعة بذلك لنفسه-لمّا كانوا كذلك كان لا بدّ لهم من الاختلاف،و كان من رحمة اللّه بهم أن يرسل إليهم الرّسل مبشّرين و منذرين،و ترتيب بعثة الرّسل على وحدة الأمّة في الآية الّتي نفسّرها يكون على هذا المعنى.

إنّ النّاس أمّة واحدة لا بدّ لهم أن يعيشوا تحت نظام واحد يكفل لهم ما يحتاجون إليه مدّة بقائهم في هذه الحياة الدّنيا،و يضمن لهم ما به يسعدون في الحياة الأخرى،و لا يمكنهم في هذه الوحدة و مع تلك الوصلة اللاّزمة بمقتضى الضّرورة أن يتّفقوا على تحديد ذلك النّظام مع اختلاف الفطر و تفاوت العقول و حرمانهم من الإلهام الهادي لكلّ منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه-لمّا كانوا كذلك كان من لطف اللّه و رحمته بهم أن يرسل إليهم الرّسل مبشّرين و منذرين،يبشّرونهم بالخير و السّعادة في الدّنيا و الآخرة إذا لزم كلّ واحد منهم ما حدّد له و اكتفى بماله من الحقّ،و لم يعتد على حقّ غيره،و ينذرونهم بخيبة الأمل و حبوط العمل و عذاب الآخرة إذا اتّبعوا شهواتهم الحاضرة و لم ينظروا في العاقبة.

هذه الآية الكريمة جاءت بمنزلة بيان الحكمة فيما سبقها من الأوامر الإلهيّة و الأخبار السّماويّة.أمر اللّه الّذين آمنوا بنبيّه و كتابه بأن يدخلوا في السّلم كافّة، و هو على أحد الوجوه«السّلام»و على أحدهما «الإسلام»،و السّلام هو الوفاق الّذي ليس معه نزاع، و لا يليق بمن جاءته الهداية من ربّه تبيّن له الطّريق الّذي يسلكه في معاملة إخوانه و من يرتبط معه برابطة بعيدة أو قريبة من النّاس أن ينحو في عمله نحو ما يدعو إلى الخلاف و يثير النّزاع،بل الواجب عليه أن يقف عند ما حدّدته هداية الكتاب الإلهيّ و السّنن النّبويّ.

و الإسلام كذلك يدعو إلى السّلام.

ثمّ بيّن سبب ما يقع من الاختلاف بين النّاس و يحرمهم حيطة النّظام،فقال: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا البقرة:212 أي أنّ جاحد الحقّ و المعرض عن هداية اللّه له الّتي يسوقها إليه على أيدي رسله إنّما ينظر في عمله إلى ما يوفّر عليه لذّاته في هذه الحياة الدّنيا،فهو لا يسعى إلاّ إلى لذّة عاجلة،و لا ينظر إلى عاقبة آجلة،و من كان هذا شأنه كان أمره اختلافا و شقاقا،و رياء و نفاقا.

ثمّ أراد اللّه تعالى أن يقيم الدّليل على أنّ الاهتداء بهدي الأنبياء ضروريّ للبشر،و أنّه لا غنى لهم عنه مهما بلغوا من كمال العقل،فقال:إنّ اللّه قضى أن يكون النّاس أمّة واحدة يرتبط بعضهم ببعض،و لا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم

ص: 322

و دفع المضارّ عنهم،فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين و منذرين، و أيّدهم بالدّلائل القاطعة على صدقهم،و على أنّ ما يأتون به إنّما هو من عند اللّه تعالى القادر على إثابتهم و عقوبتهم،العالم بما يخطر في ضمائرهم،الّذي لا تخفى عليه خافية من سرائرهم.(2:276-283)

الطّباطبائيّ: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً النّاس معروف و هو الأفراد المجتمعون من الإنسان،و الأمّة هي الجماعة من النّاس،و ربّما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ النّحل:

120،و ربّما يطلق على زمان معتدّ به كقوله تعالى:

وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،أي بعد سنين،و قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ هود:8،و ربّما يطلق على الملّة و الدّين كما قال بعضهم في قوله تعالى: وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ المؤمنون:52،و في قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء:92.

و أصل الكلمة من أمّ يؤمّ،إذا قصد؛فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كلّ جماعة،بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد و بغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها،و هو المصحّح لإطلاقها على الواحد و على سائر معانيها إذا أطلقت.

و كيف كان فظاهر الآية يدلّ على أنّ هذا النّوع قد مرّ عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتّحاد و الاتّفاق، و على السّذاجة و البساطة،لا اختلاف بينهم بالمشاجرة و المدافعة في أمور الحياة،و لا اختلاف في المذاهب و الآراء.و الدّليل على نفي الاختلاف قوله تعالى:

فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ البقرة:213،فقد رتّب بعثة الأنبياء و حكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمّة واحدة،فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتّحاد و الوحدة،و الدّليل على نفي الاختلاف الثّاني قوله تعالى:«و ما اختلف فيه الا الذين اوتوه بغيا بينهم»فالاختلاف في الدّين إنّما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.

و هذا هو الّذي يساعد عليه الاعتبار،فإنّا نشاهد النّوع الإنسانيّ لا يزال يرقى في العلم و الفكر،و يتقدّم في طريق المعرفة و الثّقافة،عاما بعد عام،و جيلا بعد جيل؛و بذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، و يقوم على رفع دقائق الاحتياج،و المقاومة قبال مزاحمات الطّبيعة،و الاستفادة من مزايا الحياة،و كلّما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقلّ عرفانا برموز الحياة،و أسرار الطّبيعة،و ينتهي بنا هذا السّلوك إلى الإنسان الأوّليّ الّذي لا يوجد عنده إلاّ النّزر القليل من المعرفة بشئون الحياة و حدود العيش،كأنّهم ليس عندهم إلاّ البديهيّات و يسير من النّظريّات الفكريّة الّتي تهيّئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون،كالتّغذّي بالنّبات أو شيء من الصّيد،و الإيواء إلى الكهوف و الدّفاع بالحجارة و الأخشاب و نحو ذلك،فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده.و من المعلوم أنّ قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتدّ به، و لا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثّرا،كالقطيع من الغنم لا همّ لأفراده إلاّ الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر،

ص: 323

و التّجمّع في المسكن و المعلف و المشرب.

غير أنّ الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه-كما أشرنا إليه فيما مرّ-لا يحبسه هذا الاجتماع القهريّ من حيث التّعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف و التّغالب و التّغلّب،و هو كلّ يوم يزداد علما و قوّة على طرق الاستفادة،و يتنبّه بمزايا جديدة و يتيقّظ لطرق دقيقة في الانتفاع،و فيهم الأقوياء و أولو السّطوة و أرباب القدرة،و فيهم الضّعفاء و من في رتبتهم، و هو منشأ ظهور الاختلاف،الاختلاف الفطريّ الّذي دعت إليه قريحة الاستخدام،كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع و المدنيّة.

و لا ضير في تزاحم حكمين فطريّين،إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما،يعدل أمرهما،و يصلح شأنهما،و ذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، و يؤدّي ذلك إلى التّزاحم،كما أنّ جاذبة التّغذّي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة و لا تسعه المعدة،و هناك عقل يعدل بينهما،و يقضي لكلّ بما يناسبه،و يقدر فعل كلّ واحدة من هذه القوى الفعّالة بما لا يزاحم الأخرى في فعلها.

و التّنافي بين حكمين فطريّين فيما نحن فيه من هذا القبيل،فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنيّة ثمّ سلوكها إلى الاختلاف يؤدّيان إلى التّنافي،و لكنّ اللّه يرفع التّنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتّبشير و الإنذار،و إنزال الكتاب الحاكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه.

و بهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم:أنّ المراد بالآية أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة على الهداية،لأنّ الاختلاف إنّما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم،و البغي من حملة الكتاب،و قد غفل هذا القائل عن أنّ الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا-و قد مرّ بيانه- و عن أنّ النّاس لو كانوا على الهداية فإنّها واحدة من غير اختلاف،فما هو الموجب بل ما هو المجوّز لبعث الأنبياء و إنزال الكتاب و حملهم على البغي بالاختلاف،و إشاعة الفساد،و إثارة غرائز الكفر و الفجور و مهلكات الأخلاق مع استبطانها.

و يظهر به أيضا:فساد ما ذكره آخرون أنّ المراد بها أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة على الضّلالة؛إذ لولاها لم يكن وجه لترتّب قوله تعالى: فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ إلخ.

و قد غفل هذا القائل عن أنّ اللّه سبحانه يذكر أنّ هذا الضّلال الّذي ذكره و هو الّذي أشار إليه بقوله سبحانه:

فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ البقرة:213،إنّما نشأ عن سوء سريرة حملة الكتاب و علماء الدّين بعد نزول الكتاب،و بيان آياته للنّاس،فلو كانوا على الضّلالة قبل البعث و الإنزال و هي ضلالة الكفر و النّفاق و الفجور و المعاصي فما المصحّح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب و علماء الدّين؟

و يظهر به أيضا ما في قول آخرين:أنّ المراد بالنّاس بنو إسرائيل؛حيث إنّ اللّه يذكر أنّهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم،قال تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الجاثية:17،و ذلك أنّه تفسير من غير دليل،و مجرّد اتّصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.

ص: 324

و أفسد من ذلك قول من قال:إنّ المراد ب(النّاس) في الآية هو آدم عليه السّلام،و المعنى أنّ آدم عليه السّلام كان أمّة واحدة على الهداية ثمّ اختلف ذرّيّته،فبعث اللّه النّبيّين إلخ،و الآية بجملها لا تطابق هذا القول،لا كلّه و لا بعضه.

و يظهر به أيضا فساد قول بعضهم:إنّ(كان)في الآية منسلخ عن الدّلالة على الزّمان كما في قوله تعالى:

وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً الفتح:7،فهو دالّ على الثّبوت،و المعنى أنّ النّاس أمّة واحدة من حيث كونهم مدنيّين طبعا،فإنّ الإنسان مدنيّ بالطّبع لا يتمّ حياة الفرد الواحد منه وحده،لكثرة حوائجه و الوجوديّة،و اتّساع دائرة لوازم حياته؛بحيث لا يتمّ له الكمال إلاّ بالاجتماع و التّعاون بين الأفراد و المبادلة في المساعي،فيأخذ كلّ من نتائج عمله ما يستحقّه من هذه النّتيجة و يعطي الباقي غيره،و يأخذ بدله بقيّة ما يحتاج إليه و يستحقّه في وجوده،فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع و التّعاون وقتا من الأوقات،يدلّ عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النّوع الاجتماعيّ المدنيّ، و كونه اجتماعيّا مدنيّا لم يزل على ذلك،فهو مقتضى فطرته و خلقته غير أنّ ذلك يؤدّي إلى الاختلاف، و اختلال نظام الاجتماع،فشرع اللّه سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف،و بلّغها إليهم ببعث النّبيّين مبشّرين و منذرين،و إنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.

فمحصّل المعنى أنّ النّاس أمّة واحدة مدنيّة بالطّبع لا غنى لهم عن الاجتماع،و هو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث اللّه الأنبياء و أنزل الكتاب.

و يرد عليه أوّلا:أنّه أخذ المدنيّة طبعا أوّليّا للإنسان،و الاجتماع و الاشتراك في الحياة لازما ذاتيّا لهذا النّوع،و قد عرفت فيما مرّ أنّ الأمر ليس كذلك،بل أمر تصالحيّ اضطراريّ،و إنّ القرآن أيضا يدلّ على خلافه.

و ثانيا:أنّ تفريع بعث الأنبياء و إنزال الكتب على مجرّد كون الإنسان مدنيّا بالطّبع غير مستقيم إلاّ بعد تقييد هذه المدنيّة بالطّبع بكونها مؤدّية إلى الاختلاف و ظهور الفساد،فيحتاج الكلام إلى التّقدير و هو خلاف الظّاهر،و القائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.

و ثالثا:أنّه مبنيّ على أخذ الاختلاف الّذي تذكره الآية و تتعرّض به اختلافا واحدا،و الآية كالنّصّ في كون الاختلاف اختلافين اثنين؛حيث تقول: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فهو اختلاف سابق على الكتاب،و المختلفون بهذا الاختلاف هم النّاس،ثمّ تقول: وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ، أي في الكتاب إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ أي عملوا الكتاب و حملوه بغيا بينهم.و هذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخّر عن نزوله،و المختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب و حملته دون جميع النّاس،فأحد الاختلافين غير الآخر:أحدهما اختلاف عن بغي و علم،و الآخر بخلافه.(2:123-127)

عبد الكريم الخطيب :أي أصلا واحدا من طبيعة واحدة هي الفطرة الّتي فطر اللّه النّاس عليها ثمّ تناسلوا، و كثروا و تفرّقوا في وجوه الأرض،و خضعوا لمؤثرات

ص: 325

الحياة و وقعت بينهم منازعات و مشاحنات،و جرى بينهم البغي و العدوان،و ولدت لهم مدركاتهم مواليد من الضّلال،و البهتان،ففسدت طبيعتهم،و عطبت فطرتهم، فغاثهم اللّه برحمته،و بعث فيهم رسله،بكلماته الشّافيات،و آياته البيّنات،ليصحّحوا معتقداتهم، و يسلكوا بهم مسالك الحقّ و يقيموهم على الطّريق السّويّ.(1:235)

2- وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. يونس:19

أبيّ بن كعب:على الإسلام حتّى اختلفوا.

مثله ابن عبّاس.(الماورديّ 2:428)

ابن عبّاس: على الكفر حتّى بعث اللّه تعالى الرّسل.(الماورديّ 2:428)

إنّ النّاس كانوا أمّة واحدة مجتمعة على الشّرك و الكفر.

مثله الحسن و الكلبيّ.(الطّبرسيّ 3:99)

الضّحّاك: على دين واحد.(الماورديّ 2:428)

المراد أصحاب سفينة نوح،اتّفقوا على الحنيفيّة و دين الإسلام.(أبو حيّان 5:134)

من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم.

(أبو حيّان 5:134)

الطّبريّ: و ما كان النّاس إلاّ أهل دين واحد و ملّة واحدة فاختلفوا في دينهم،فافترقت بهم السّبل في ذلك.(11:98)

الزّجّاج: أي ولدوا على الفطرة،و اختلفوا بعد الفطرة.(3:12)

الأصمّ:هم الأطفال المولودون على الفطرة، فاختلفوا بعد البلوغ.(أبو حيّان 5:134)

الماورديّ: في قوله تعالى: إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً ثلاثة أوجه:

أحدها:على الإسلام حتّى اختلفوا،قاله ابن عبّاس و أبيّ بن كعب.

الثّانيّ:على الكفر حتّى بعث اللّه تعالى الرّسل،و هذا قول قد روي عن ابن عبّاس أيضا.

الثّالث:على دين واحد،قاله الضّحّاك.(2:428)

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى في هذه الآية أنّه لم يكن النّاس فيما مضى إلاّ أمّة واحدة،و الأمّة:الجماعة الّتي على معنى واحد في خلق،أو ما يستمرّ على عبادته بالظّاهر،فعلى هذا النّاس أمّة و الطّير أمّة،و المراد هاهنا أنّها كانت على دين واحد.

و اختلفوا في«الدّين»الّذي كانوا مجتمعين عليه قبل حدوث الاختلاف بينهم على قولين:

فقال الحسن: كانوا على الشّرك،كما قال تعالى:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ البقرة:213.

و قال الزّجّاج: أراد بذلك العرب الّذين كانوا قبل مبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّهم كانوا مشركين،فلمّا بعث النّبيّ آمن به قوم و كفر به آخرون.

و قال الجبّائيّ: إنّهم كانوا على الإسلام،في عهد آدم و ولده،و أنكر الأوّل،قال:لأنّ اللّه تعالى قال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً النّساء:41.فلو كانوا كلّهم على الكفر لما كان فيهم شهيدا أصلا.

ص: 326

و قال الجبّائيّ: إنّهم كانوا على الإسلام،في عهد آدم و ولده،و أنكر الأوّل،قال:لأنّ اللّه تعالى قال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً النّساء:41.فلو كانوا كلّهم على الكفر لما كان فيهم شهيدا أصلا.

و قال الرّمّاني: لا يمتنع أن يكون الأمر على ما قال الحسن،و يكون المراد التّغليب،كأنّ المسلمين كانوا قليلين،فلا يعتدّ بهم،فيجوز أن يقال فيهم:أنّهم أمّة مشركة،كما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«إنّ اللّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب».

و قال مجاهد: فاختلفوا حين قتل ابن آدم أخاه.(5:408)

البغويّ: أي على الإسلام.(3:148)

الميبديّ: الأمّة هاهنا:الدّين،و تقديره:و ما كان النّاس إلاّ ذوي أمّة واحدة،أي دين واحد و هو الإسلام، و قيل:هو الشّرك.(4:265)

الزّمخشريّ: حنفاء متّفقين على ملّة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم،و ذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل،و قيل:بعد الطّوفان حين لم يذر اللّه من الكافرين ديّارا.(2:230)

ابن عطيّة: قالت فرقة:المراد آدم كان أمّة واحدة،ثمّ اختلف النّاس بعد أمر ابنيه.

و قالت فرقة:المراد نسم بنيه إذ استخرجهم اللّه من ظهره و أشهدهم على أنفسهم.

و قالت فرقة:المراد آدم و بنوه،من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر.

و قالت فرقة:المراد وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً في الضّلالة و الجهل باللّه،فاختلفوا فرقا في ذلك بحسب الجهالة.

و يحتمل أن يكون المعنى كان النّاس صنفا واحدا معدّا للاهتداء.(3:111)

الطّبرسيّ: فيه أقوال:

أحدها:أنّ النّاس كانوا جميعا على الحقّ و على دين واحد فاختلفوا في الدّين الّذي كانوا مجتمعين عليه،ثمّ قيل:إنّهم اختلفوا على عهد آدم و ولده،عن ابن عبّاس،و السّدّيّ،و مجاهد،و الجبّائيّ،و أبي مسلم.

و متى اختلفوا؟قيل:عند قتل أحد ابنيه أخاه.

و قيل:اختلفوا بعد موت آدم عليه السّلام لأنّهم كانوا على شرع واحد و دين واحد إلى زمن نوح،و كانوا عشرة قرون ثمّ اختلفوا،عن أبي روق.و قيل:كانوا على ملّة الإسلام من لدن إبراهيم عليه السّلام إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ،و هو أوّل من غيّر دين إبراهيم و عبد الصّنم في العرب،عن عطاء، و يدلّ على صحّة هذه الأقوال قراءة عبد اللّه (و ما كان النّاس إلاّ أمّة واحدة على هدى فاختلفوا عنه) .

و ثانيها:أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة مجتمعة على الشّرك و الكفر،عن ابن عبّاس و الحسن و الكلبيّ و جماعة،ثمّ اختلف هؤلاء فقيل:كانت أمّة كافرة على عهد إبراهيم،ثمّ اختلفوا فتفرّقوا فمنهم مؤمن و منهم كافر،عن الكلبيّ.و قيل:كانت كذلك منذ وفاة آدم إلى زمن نوح،عن الحسن.و قيل:أراد به العرب الّذين كانوا قبل مبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّهم كانوا مشركين إلى أن بعث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فآمن به قوم و بقي آخرون على الشّرك.

و سئل عليّ عليه السّلام عن هذا،فقيل:كيف يجوز أن

ص: 327

يطبق أهل عصر على الكفر حتّى لا يوجد مؤمن يشهد عليهم و اللّه تعالى يقول: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ النّساء:41.و أجيبوا عن ذلك بأنّه يجوز أن يكون أهل كلّ عصر،و إن لم يخل عن مؤمنين يشهدون عليهم،فربّما يقلّون في عصر،و إنّما يتبع الاسم الأعمّ، و على هذا يقال:دار الإسلام و دار الكفر،و في تفسير الحسن:ما كان النّاس إلى مبعث نوح إلاّ ملّة واحدة كافرة إلاّ الخاصّة،فإنّ الأرض لا تخلو من أن يكون للّه تعالى فيها حجّة.

و ثالثها:أنّ النّاس خلقوا على فطرة الإسلام،ثمّ اختلفوا في الأديان.(3:99)

ابن الجوزيّ: و أحسن الأقوال أنّهم كانوا على دين واحد موحّدين فاختلفوا و عبدوا الأصنام،فكان أوّل من بعث إليهم نوح عليه السّلام.(4:16)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا أقام الدّلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام،بيّن السّبب في كيفيّة حدوث هذا المذهب الفاسد،و المقالة الباطلة، فقال: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً. و اعلم أنّ ظاهر قوله: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً لا يدلّ على أنّهم«أمّة واحدة»فيما ذا؟و فيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل:أنّهم كانوا جميعا على الدّين الحقّ، و هو دين الإسلام،و احتجّوا عليه بأمور:[منها]

أنّ المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلا، و تزييف طريق عبادة الأصنام،و تقرير أنّ الإسلام هو الدّين الفاضل،فوجب أن يكون المراد من قوله: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً هو أنّهم كانوا أمّة واحدة،إمّا في الإسلام و إمّا في الكفر.و لا يجوز أن يقال:إنّهم كانوا أمّة واحدة في الكفر،فبقي أنّهم كانوا أمّة واحدة في الإسلام.

إنّما قلنا:إنّه لا يجوز أن يقال:إنّهم كانوا أمّة واحدة في الكفر،لوجوه:

الأوّل:قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ النّساء:41.و شهيد اللّه لا بدّ و أن يكون مؤمنا عدلا؛فثبت أنّه ما خلت أمّة من الأمم إلاّ و فيهم مؤمن.

الثّاني:أنّ الأحاديث وردت بأنّ الأرض لا تخلو عمّن يعبد اللّه تعالى،و عن أقوام بهم يمطر أهل الأرض و بهم يرزقون.

الثّالث:أنّه لمّا كانت الحكمة الأصليّة في الخلق هو العبوديّة،فيبعد خلوّ أهل الأرض بالكلّيّة عن هذا المقصود.

روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلاّ بقيّة من أهل الكتاب».و هذا يدلّ على قوم تمسّكوا بالإيمان قبل مجيء الرّسول عليه الصّلاة و السّلام،فكيف يقال:إنّهم كانوا أمّة واحدة في الكفر؟!و إذا ثبت أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة إمّا في الكفر و إمّا في الإيمان،و أنّهم ما كانوا أمّة واحدة في الكفر،ثبت أنّهم كانوا أمّة واحدة في الإيمان.

ثمّ اختلف القائلون بهذا القول أنّهم متى كانوا كذلك؟فقال ابن عبّاس و مجاهد:كانوا على دين الإسلام في عهد آدم و في عهد ولده،و اختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الثّاني.

ص: 328

و قال قوم:إنّهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح،و كانوا عشرة قرون،ثمّ اختلفوا على عهد نوح، فبعث اللّه تعالى إليهم نوحا.

و قال آخرون:كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق،إلى أن ظهر الكفر فيهم.

و قال آخرون:كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السّلام إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ.و هذا القائل قال:المراد من(النّاس)في قوله تعالى: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا :العرب خاصّة.

إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول:إنّه تعالى لمّا بيّن فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدّليل الّذي قرّرناه،بيّن في هذه الآية أنّ هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أوّل الأمر،بل كانوا على دين الإسلام،و نفي عبادة الأصنام،ثمّ حذف هذا المذهب الفاسد فيهم.

و الغرض منه أنّ العرب إذا علموا أنّ هذا المذهب ما كان أصليّا فيهم،و أنّه إنّما حدث بعد أن لم يكن،لم يتعصّبوا لنصرته،و لم يتأذّوا من تزييف هذا المذهب،و لم تنفر طباعهم من إبطاله.و ممّا يقوّي هذا القول وجهان:

الأوّل:أنّه تعالى قال: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ يونس:18،ثمّ بالغ في إبطاله بالدّليل،ثمّ قال عقيبه: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً. فلو كان المراد منه بيان أنّ هذا الكفر كان حاصلا فيهم من الزّمان القديم،لم يصحّ جعل هذا الكلام دليلا على إبطال تلك المقالة.أمّا لو حملناه على أنّ النّاس في أوّل الأمر كانوا مسلمين،و هذا الكفر إنّما حدث فيهم من زمان،أمكن التّوسّل به إلى تزييف اعتقاد الكفّار في هذه المقالة، و في تقبيح صورتها عندهم،فوجب حمل اللّفظ عليه تحصيلا لهذا الغرض.

الثّاني:أنّه تعالى قال: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ و لا شكّ أنّ هذا وعيد،و صرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى،و الأقرب هو ذكر الاختلاف،فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف،لا إلى ما سبق من كون النّاس أمّة واحدة.و إذا كان كذلك،وجب أن يقال:كانوا أمّة واحدة في الإسلام لا في الكفر،لأنّهم لو كانوا أمّة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان،و لا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سببا لحصول الوعيد.أمّا لو كانوا أمّة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر، و حينئذ يصحّ جعل ذلك الاختلاف سببا للوعيد.

القول الثّاني:قول من يقول:المراد كانوا أمّة واحدة في الكفر،و هذا القول منقول عن طائفة من المفسّرين، قالوا:و على هذا التّقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنّه تعالى بيّن للرّسول عليه الصّلاة و السّلام، أنّه لا تطمع في أن يصير كلّ من تدعوه إلى الدّين مجيبا لك،قابلا لدينك.فإنّ النّاس كلّهم كانوا على الكفر،و إنّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك،فكيف تطمع في اتّفاق الكلّ على الإيمان؟

القول الثّالث:قول من يقول:المراد إنّهم كانوا أمّة واحدة في أنّهم خلقوا على فطرة الإسلام،ثمّ اختلفوا في الأديان،و إليه الإشارة بقوله عليه الصّلاة و السّلام:

ص: 329

«كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».و منهم من يقول:المراد كانوا أمّة واحدة في الشّرائع العقليّة،و حاصلها يرجع إلى أمرين:التّعظيم لأمر اللّه تعالى و الشّفقة على خلق اللّه.و إليه الإشارة بقوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الأنعام:151، و اعلم أنّ هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة،فلنكتف بهذا القدر هاهنا.(17:61)

أبو حيّان: لمّا ذكر تعالى الدّلالة على فساد عبادة الأصنام ذكر الحامل على ذلك،و هو الاختلاف الحادث بين النّاس،و الظّاهر عموم النّاس و يتصوّر في آدم و بنيه إلى أن وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر،و قاله أبيّ بن كعب.

و قال الضّحّاك: المراد أصحاب سفينة نوح اتّفقوا على الحنيفيّة و دين الإسلام.و عن ابن عبّاس:من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم،و ردّ بأنّه عبد في زمان نوح عليه السّلام الأصنام كودّ و سواع.و حكى ابن القشيريّ أنّ النّاس:قوم إبراهيم إلى أن غيّر الدّين عمرو ابن لحيّ.

و قال ابن زيد: هم الّذين أخذ عليهم الميثاق يوم أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ الأعراف:172،لم يكونوا أمّة واحدة غير ذلك اليوم.و قال الأصمّ:هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ،و أبعد من ذهب إلى أنّ المراد ب(النّاس)هنا آدم وحده،و هو مرويّ عن مجاهد و السّدّيّ،و عبّر عنه بالأمّة لأنّه جامع لأنواع الخير.

و هذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمّة واحدة في الإسلام و الإيمان،و قيل:في الشّرك،و أريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر،فآمن بعضهم و استمرّ بعضهم على الكفر،أو من كان قبل البعث من العرب و أهل الكتاب كانوا على الكفر و التّبديل و التّحريف حتّى بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فآمن بعضهم،أو العرب خاصّة أقوال، ثالثها للزّجّاج.

و الظّاهر أنّ المراد بقوله:أمّة واحدة في الإسلام، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام فلا يناسب أن يقوّي عبّاد الأصنام،فإنّ النّاس كانوا على ملّة الكفر.إنّما المناسب أن يقال:إنّهم كانوا على الإسلام،حتّى تحصل النّفرة من اتّباع غير ما كان النّاس عليه،و أيضا فقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ يونس:19،هو وعيد،فصرفه إلى أقرب مذكور-و هو الاختلاف-هو الوجه،و الاختلاف بسبب الكفر هو المقتضي للوعيد لا الاختلاف الّذي هو بسبب الإيمان؛إذ لا يصلح أن يكون سببا للوعيد.

و قد تقدّم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً و لكن أعدنا الكلام فيه لبعده.

(5:134)

الشّربينيّ: و لمّا أقام تعالى الدّلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السّبب في كيفيّة حدوث هذا المذهب الفاسد بقوله: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً أي جميعا على الدّين الحقّ و هو دين الإسلام، و قيل:على الضّلال في فترة الرّسل.

و اختلف القائلون بالأوّل أنّهم متى كانوا كذلك،

ص: 330

فقال ابن عبّاس و مجاهد:كانوا على دين الاسلام من لدن آدم إلى أن قتل قابيل هابيل.

و قال قوم:إلى زمن نوح،و كانوا عشرة قرون،ثمّ اختلفوا في عهد نوح فبعث اللّه تعالى إليهم نوحا.

و قال آخرون:كانوا على دين الإسلام من زمن نوح بعد الغرق؛حيث لم يذر اللّه على الأرض من الكافرين ديّارا إلى أن ظهر الكفر فيهم.

و قال آخرون:من عهد إبراهيم عليه السّلام إلى زمن عمرو ابن لحيّ،و هذا القائل قال:المراد من(النّاس)في قوله تعالى: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً العرب خاصّة.

(2:12)

أبو السّعود: بيان لأنّ التّوحيد و الإسلام ملّة قديمة أجمعت عليها النّاس قاطبة فطرة و تشريعا،و أنّ الشّرك و فروعه جهالات ابتدعها الغواة،خلافا للجمهور و شقّا لعصا الجماعة.و أمّا حمل اتّحادهم على الاتّفاق على الضّلال عند الفترة و اختلافهم على ما كان منهم من الاتّباع و الإصرار،فممّا لا احتمال له،أي و ما كان النّاس كافّة من أوّل الأمر إلاّ متّفقين على الحقّ و التّوحيد من غير اختلاف،و ذلك من عهد آدم عليه الصّلاة و السّلام إلى أن قتل قابيل هابيل.و قيل:إلى زمن إدريس عليه السّلام و قيل:إلى زمن نوح عليه السّلام و قيل:من حين الطّوفان حين لم يذر اللّه من الكافرين ديّارا إلى أن ظهر فيما بينهم الكفر،و قيل:من لدن إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام إلى أن أظهر عمرو بن لحيّ عبادة الأصنام.

فالمراد ب(النّاس)العرب خاصّة،و هو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكي عنهم من الهنات،و تنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك.(2:318)

البروسويّ: أي على ملّة واحدة في عهد آدم عليه السّلام إلى أن قتل قابيل هابيل،أو في زمن نوح بعد الطّوفان حين لم يبق من الكافرين ديّارا،فإنّ النّاس كانوا متّفقين على الدّين الحقّ.(4:26)

الآلوسيّ: أي و ما كان النّاس كافّة من أوّل الأمر إلاّ متّفقين على الحقّ و التّوحيد من غير اختلاف،و روي هذا عن ابن عبّاس،و السّدّيّ،و مجاهد،و الجبّائيّ و أبي مسلم.و يؤيّده قراءة ابن مسعود رضى اللّه عنه (و ما كان النّاس الاّ امّة واحدة على هدى) ،و ذلك من عهد آدم عليه الصّلاة و السّلام إلى أن قتل قابيل هابيل.

و قيل:إلى زمن إدريس عليه الصّلاة و السّلام و قيل:إلى زمن نوح عليه الصّلاة و السّلام،و كانوا عشرة قرون،و قيل:كانوا كذلك في زمنه عليه الصّلاة و السّلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديّار إلى أن ظهر بينهم الكفر،و قيل:من لدن إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام إلى أن أظهر عمرو بن لحيّ عبادة الأصنام،و هو المرويّ عن عطاء.

و عليه فالمراد من(النّاس)العرب خاصّة،و هو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكي منهم من الهنات،و تنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك.

فَاخْتَلَفُوا بأن كفر بعضهم و ثبت الآخرون على ما هم عليه،فخالف كلّ من الفريقين الآخر،و الفاء للتّعقيب،و هي لا تنافي امتداد زمان الاتّفاق؛إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدّة الاتّفاق لا عقيب حدوثه وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير

ص: 331

القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنّه يوم الفصل و الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتّباع الحقّ و رفع الاختلاف،أو بأن يهلك المبطل و يبقي المحقّ،و صيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية و الدّلالة على الاستمرار.

و وجه ارتباط الآية بما قبلها أنّها كالتّأكيد لما أشار إليه من أنّ«التّوحيد»هو الدّين الحقّ؛حيث أفادت أنّه ملّة قديمة اجتمعت عليها الأمم قاطبة،و أنّ الشّرك و فروعه جهالات ابتدعها الغواة،خلافا للجمهور و شقّا لعصا الجماعة.

و قيل:وجه ذلك أنّه سبحانه بيّن فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام،و بيّن في هذه أنّ هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أوّل الأمر بل كانوا على الدّين الحقّ الخالي عن عبادة الأصنام،و إنّما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشّياطين.

قيل:و الغرض من ذلك أنّ العرب إذا علموا أنّ ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم و إنّما حدث بعد أن لم يكن،لم يتعصّبوا لنصرته و لم يتأذّوا من تزييفه و إبطاله.

و عن الكلبيّ أنّ معنى كونهم(أمّة واحدة)اتّفاقهم على الكفر،و ذلك في زمن إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام، و روي مثله عن الحسن،إلاّ أنّه قال:كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السّلام،ثمّ آمن من آمن و بقي من بقي على الكفر.

و فائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلّى اللّه عليه و سلّم كأنّه قيل:لا تطمع في أن يصير كلّ من تدعوه إلى الإيمان و التّوحيد مجيبا لك قابلا لدينك،فإنّ النّاس كلّهم كانوا على الكفر،و إنّما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك،فكيف تطمع في اتّفاق الكلّ عليه.

و اعترض بأنّه يلزم على هذا خلوّ الأرض في عصر عن مؤمن باللّه تعالى عارف به،و قد قالوا:إنّ الأرض في كلّ وقت لا تخلو عن ذلك.

و أجيب بأنّ عدم الخلوّ في حيّز المنع،فقد ورد في بعض الآثار أنّ النّاس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول:اللّه اللّه،و على تقدير التّسليم المراد بالاتّفاق على الكفر اتّفاق الأكثر.

و الحقّ أنّ هذا القول في حدّ ذاته ضعيف،فلا ينبغي التزام دفع ما يرد عليه،و أضعف منه بل لا يكاد يصحّ كون المراد أنّهم كانوا أمّة واحدة فاختلفوا بأن أحدث كلّ منهم ملّة على حدة من ملل الكفر،مخالفة لملّة الآخر،لأنّ الكلام ليس في ذلك الاختلاف؛إذ كلّ من الفريقين مبطل حينئذ،فلا يتصوّر أن يقضي بينهما بإبقاء المحقّ و إهلاك المبطل،أو بإلجاء أحدهما إلى اتّباع الحقّ ليرتفع الاختلاف،كما لا يخفى هذا.(11:89)

القاسميّ:أي حنفاء متّفقين على ملّة واحدة، و هي فطرة الإسلام و التّوحيد الّتي فطر عليها كلّ أحد.(9:3335)

رشيد رضا :قيل:إنّ المراد ب(النّاس)هنا العرب، فإنّهم كانوا حنفاء على ملّة إبراهيم إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحيّ الّذي ابتدع لهم عبادة غير اللّه و صنع لهم الأصنام-كما ثبت في صحيح البخاريّ-فاختلفوا بأن أشرك بعضهم و ثبت على الحنيفيّة آخرون.

ص: 332

و قيل-و هو المختار-:إنّ المراد الجنس البشريّ في جملته،فإنّهم كانوا أمّة واحدة على الفطرة؛إذ كانوا يعيشون عيشة السّذاجة و الوحدة كأسرة واحدة،حتّى كثروا و تفرّقوا،فصاروا عشائر فقبائل فشعوبا،تختلف حاجاتها و تتعارض منافعها،فتتعادى و تتقاتل في التّنازع فيها،فبعث اللّه فيهم النّبيّين و المرسلين لهدايتهم،و إزالة الاختلاف بكتاب اللّه و وحيه،ثمّ اختلفوا في الكتاب نفسه أيضا بغيا بينهم و اتّباعا لأهوائهم.(11:328)

عزّة دروزة :تعدّدت الأقوال في معنى الأمّة الواحدة و اختلاف النّاس.فهناك من أوّل«الأمّة»بالملّة على معنى الدّين،و قال:إنّ النّاس قد فطروا على فطرة واحدة هي الإسلام للّه و التّوحيد،ابتداء من آدم.فمنهم من يستقيم على هذه الفطرة و منهم من ينحرف عنها، و هذا هو معنى اختلافهم.و في القرآن آيات قد تؤيّد ذلك،منها آية سورة الرّوم هذه فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ الرّوم:30.

و الحنيف هو الموحّد المستقيم على التّوحيد،و هو الوصف الّذي وصف به إبراهيم عليه السّلام في آيات كثيرة، منها هذه الآية ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ آل عمران:67

و قد وصف«ملّة الأنبياء»بالأمّة الواحدة،كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء:92،بعد سلسلة ذكر فيها طائفة من الأنبياء،و نوّه بما كان من إخلاصهم و إسلامهم أنفسهم للّه.

و جاء بعد هذه الآية آية تشير إلى اختلاف النّاس في الطّريقة الدّينيّة بعد كلّ نبيّ و هي هذه وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ الأنبياء:93.

و في سورة«المؤمنون»آيات مماثلة جاءت أعقاب سلسلة مماثلة،و هي وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ المؤمنون:52،53.

و من المفسّرين من أوّل ذلك أيضا بالملّة الدّينيّة مع تحديد ملّة إبراهيم عليه السّلام الحنيفيّة،و قال:إنّ العرب كانوا في الأصل على هذه الملّة فانحرفوا عنها إلى الشّرك و الوثنيّة،و هو معنى الاختلاف.

و منهم من أوّل معنى الأمّة الواحدة و اختلاف النّاس،بفطرة ارتباط النّاس ببعضهم و حياتهم الاجتماعيّة،فهم من هذه النّاحية أمّة واحدة، و اختلافهم في مختلف الشّئون الدّينيّة و غير الدينيّة طبيعيّ تبعا لما بينهم من تفاوت في القوى العقليّة و الدّينيّة.و استشهد على ذلك بآية سورة البقرة هذه كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ إلخ البقرة:213،مع أنّ الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في«الدّين»على ما تلهمه روحها.

و مهما يكن من أمر فالّذي يتبادر لنا أنّ في الآية تسلية للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن موقف الكفّار الجحوديّ التّعجيزيّ

ص: 333

الّذي حكته الآيات السّابقة،فموقفهم هذا ليس بدعا، فقد كان ممّن قبلهم تجاه رسلهم أيضا،و اللّه قادر على الانتقام منهم لو لا أنّ حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معيّن عنده.و قد تكرّر مثل هذا الأسلوب من التّسلية في مواقف مماثلة عديدة،مرّت أمثلة منه.

على أنّ من المحتمل مع ذلك أن تكون الآية نزلت ردّا على استغراب بدا من الكفّار في سياق الجدل و النّقاش؛حيث يمكن أن يكونوا قالوا:إنّه كان في إمكان اللّه تعالى إذا صحّت دعوى النّبيّ أن يجعل النّاس جميعا على طريقة واحدة لا يختلفون فيها،فأريد بها تقرير أنّ ذلك في نطاق قدرة اللّه حقّا،و أنّ النّاس يفطرون على فطرة واحدة أو كانوا على فطرة واحدة، و أنّ اختلافهم إنّما طرأ طروءا نتيجة لتباينهم في الأفكار و الأخلاق و القوى،و أنّ حكمة اللّه تعالى اقتضت أن يتركوا أحرارا في التّفكير و الاختيار بعد أن يبيّن لهم رسله طريق الهدى و طريق الضّلال،و يدعوهم إلى سلوك الأولى و اجتناب الأخرى،ليستحقّ كلّ منهم ما يستحقّه بعدل و حقّ،و أن يؤجّل قضاءه فيهم إلى أجل معيّن في علمه،و أنّ ذلك هو سبب استمرار اختلافهم.

و قد تكرّر تقرير هذا بأساليب متنوّعة،مرّت أمثلة منها في مناسبات مماثلة.

و بناء على ذلك فإنّنا نميل إلى ترجيح كون المقصود من التّعبير ب«الأمّة الواحدة»هي الملّة الدّينيّة الواحدة،أو الفطرة السّليمة الّتي فطر اللّه النّاس عليها، و هي توحيد اللّه و إسلامهم أنفسهم إليه.و روح الآية و سياقها يؤيّدان ذلك،و يدعم ذلك حديث رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه،كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء،هل تحسّون فيها من جدعاء»ثمّ يقول أبو هريرة:و اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ الرّوم:30.

هذا،و واضح من كلّ ما تقدّم أنّ الآية متّصلة بالسّياق السّابق اتّصال تعقيب و استطراد و ردّ.و واو العطف الّذي بدأت به ممّا يؤيّد ذلك،فضلا عن مضمونها وصلته بموقف الكفّار المحكيّ في الآيات السّابقة لها.(4:15)

الطّباطبائيّ: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قد تقدّم في تفسير قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ إلخ البقرة:213،أنّ الآية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين النّاس.

أحدهما:الاختلاف من حيث المعاش،و هو الّذي يرجع إلى الدّعاوي،و ينقسم به النّاس إلى:مدّع و مدّعى عليه،و ظالم و مظلوم،و متعدّ و متعدّى عليه، و آخذ بحقّه و ضائع حقّه.و هذا هو الّذي رفعه اللّه سبحانه بوضع الدّين و بعث النّبيّين و إنزال الكتاب معهم ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه،و يعلّمهم معارف الدّين و يواجههم بالإنذار و التّبشير.

و ثانيهما:الاختلاف في نفس الدّين و ما تضمّنه الكتاب الإلهيّ من المعارف الحقّة من الأصول و الفروع.

و قد صرّح القرآن في مواضع من آياته أنّ هذا النّوع من

ص: 334

الاختلاف ينتهي إلى علماء الكتاب بغيا بينهم،و ليس ممّا يقتضيه طباع الإنسان كالقسم الأوّل،و بذلك ينقسم الطّريق إلى طريقي الهداية و الضّلال،فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ.و قد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه-بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف- أنّه لو لا قضاء من اللّه سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، و لكن يؤخّرهم إلى أجل،قال تعالى: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ الشّورى:14،إلى غير ذلك من الآيات.

و سياق الآية السّابقة،أعني قوله تعالى:

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ إلخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلاّ الاختلاف الثّاني،و هو الاختلاف في نفس الدّين،لأنّها تذكر ركوب النّاس طريق الضّلال بعبادتهم ما لا يضرّهم و لا ينفعهم،و اتّخاذهم شفعاء عند اللّه.و مقتضى ذلك أن يكون المراد من كون النّاس سابقا أمّة واحدة كونهم على دين واحد و هو دين التّوحيد،ثمّ اختلفوا فتفرّقوا فريقين:موحّد،و مشرك.

فذكر اللّه فيها أنّ اختلافهم كان يقضي أن يحكم اللّه بينهم بإظهار الحقّ على الباطل،و فيه هلاك المبطلين و إنجاء المحقّين،لكنّ السّابق من الكلمة الإلهيّة منعت من القضاء بينهم،و الكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الإنسان إلى الدّنيا: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ البقرة:36.

و للمفسّرين في الآية أقوال عجيبة،منها:أنّ المراد ب(النّاس)هم العرب،كانوا على دين واحد حقّ و هو دين إبراهيم عليه السّلام إلى زمن عمرو بن لحيّ الّذي روّج بينهم الوثنيّة،فانقسموا إلى:حنفاء مسلمين،و عبدة أصنام مشركين.و أنت خبير أنّه لا دليل عليه من جهة اللّفظ البتّة.

و منها:أنّ المراد ب(النّاس)جميعهم،و المراد من كونهم(أمّة واحدة)كونهم على فطرة الإسلام و إن كانوا مختلفين دائما،فلفظة«كان»منسلخ الزّمان.و الآية تحكي عمّا عليه النّاس بحسب الطّبع و هو«التّوحيد»، و ما هم عليه بحسب الفعليّة و هو«الاختلاف»،فليس النّاس بحسب الطّبع الفطريّ إلاّ أمّة واحدة موحّدين، لكنّهم اختلفوا على خلاف فطرتهم.

و فيه أنّه خلاف ظاهر الآية،و الآية الّتي في سورة البقرة،و كذا ظاهر سائر الآيات كقوله: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الشّورى:14، و قوله: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ آل عمران:19،على أنّ القول بوجود الاختلاف الدّائم بين النّاس مع عدم رجوعه إلى الفطرة ممّا لا يجتمعان.

و منها:أنّ المراد:أنّ النّاس جميعا كانوا على ملّة واحدة هي الكفر و الشّرك،ثمّ اختلفوا فكان مسلم و كافر.

و هذا أسخف الأقوال في الآية،فإنّه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر الآيات،فإنّ ظاهرها أنّ ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغي النّاس من بعد ما جاءهم العلم،أي ظهور الكفر و الشّرك عن بغي كان

ص: 335

هو المقتضي للحكم بينهم و القضاء عليهم بنزول العذاب و الهلاك،فإذا كانوا جميعا على الكفر و الشّرك من غير سابقة هدى و إيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغي عن علم؟و ما معنى خلق الجميع و وجود المقتضي لإهلاكهم جميعا إلاّ انتقاض الغرض الإلهيّ؟

و هذا القول أشبه بما قالته النّصارى في مسألة التّفدية:إنّ اللّه خلق الإنسان ليطعمه فيسكنه الجنّة دائما،لكنّه عصاه و نقض بذلك غرض الخلقة،فتداركه اللّه بتفدية المسيح.(10:31،33)

عبد الكريم الخطيب :مناسبة هذه الآية لما قبلها و عطفها عليها،أنّها تكشف عن جناية هؤلاء المشركين على الإنسانيّة،و أنّهم هم الدّاء الّذي تسلّط على الإنسانيّة قديما و حديثا،فأدخل على كيانها هذا الفساد،الّذي يتمثّل من وجودهم في الجسد الإنسانيّ.

فالنّاس-في أصلهم-فطرة سليمة،مستعدّة للتّهدّي إلى الإيمان باللّه،و الاستقامة على الخير و الحقّ،كما يقول الرّسول الكريم:«ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة،فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».

و كما تعرض العلل للجسم السّليم،كذلك تعرض الآفات و العلل للمجتمع الإنسانيّ،فيظهر فيه المنحرفون الّذين يخرجون عن سواء الفطرة،و سرعان ما يسري هذا الدّاء،و تنتشر عدواه في المجتمع.

و من هنا يكون النّاس على أشكال مختلفة، و أنماطا شتّى،كلّ يركب طريقا،و يأخذ اتّجاها.

و من هنا أيضا يختلف النّاس،و تختلف بهم الموارد و المشارب،و إذا كلّ جماعة على مورد،و كلّ أمّة على مشرب وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ هود:118،119.

و قد كان جديرا بهؤلاء الضّالّين أن ينظروا إلى أنفسهم،و إلى موقفهم المنحرف الّذي خرجوا به على الفطرة الإنسانيّة،فركبوا طريق الكفر و الضّلال و كان من شأنهم أن يكونوا مع النّاس أمّة واحدة مؤمنة باللّه.

(6:976)

3- ...وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ... المائدة:48

ابن عبّاس: و لو شاء اللّه لجمعكم على ملّة واحدة في دعوة جميع الأنبياء،لا تبدّل شريعة منها و لا تنسخ.(الطبرسيّ 2:203)

الحسن :أي لو شاء اللّه لجمعكم على الحقّ،كما قال: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها السّجدة:13.

مثله قتادة.(الطّبرسيّ 2:203)

الطّبريّ: و لو شاء ربّكم لجعل شرائعكم واحدة، و لم يجعل لكلّ أمّة شريعة و منهاجا غير شرائع الأمم الأخر،و منهاجهم،فكنتم تكونون أمّة واحدة،لا تختلف شرائعكم و منهاجكم،و لكنّه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم،ليختبركم فيعرف المطيع منكم من العاصي،و العامل بما أمره في الكتاب-الّذي أنزله إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم-من المخالف.(6:272)

الطّوسيّ: قيل في معناه أقوال:

أحدها:قال الحسن و الجبّائيّ:إنّه إخبار عن القدرة،كما قال: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها

ص: 336

السّجدة:13.

الثّاني:قال البلخيّ:معناه لو شاء اللّه لفعل ما يختارون عنده الكفر،لكنّه لا يفعله،لأنّه مناف للحكمة،و لا يلزم على ذلك أن يكون في مقدوره ما يؤمنون عنده فلا يفعله،لأنّ ذلك لو كان مقدورا لوجب أن يفعله ما لم يناف التّكليف.

الثّالث:قال قوم:لو شاء اللّه لجمعهم على ملّة واحدة في دعوة جميع الأنبياء.و الأوّل أصحّ لأنّ دعوة الأنبياء تابعة للمصالح،فلا يمكن جمع النّاس على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح.

الرّابع:قال الحسين بن عليّ المغربيّ:معناه لو شاء اللّه ألاّ يبعث إليهم نبيّا،فيكونون متعبّدين بما في العقل، و يكونون أمّة واحدة.و أقوى الوجوه أوّلها.(3:546)

البغويّ:أي على ملّة واحدة.(2:50)

الزّمخشريّ: جماعة متّفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمّة واحدة،أي دين واحد لا اختلاف فيه.

(1:618)

الفخر الرّازيّ: [مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

قال الأصحاب: هذا يدلّ على أنّ الكلّ بمشيئة اللّه تعالى،و المعتزلة حملوه على مشيئة الإلجاء.

(12:13)

القرطبيّ: أي لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحقّ،فبيّن أنّه أراد بالاختلاف:إيمان قوم و كفر قوم.

(6:211)

أبو حيّان: أي و لو شاء اللّه أن يجعلكم أمّة واحدة لجعلكموها،أي جماعة متّفقة على شريعة واحدة في الضّلال،و قيل:لجعلكم أمّة واحدة على الحقّ.

(3:503)

الشّربينيّ: أي متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار،من غير نسخ و تحويل.(1:379)

نحوه البروسويّ.(2:400)

أبو السّعود: متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار،من غير اختلاف بينكم و بين من قبلكم من الأمم،في شيء من الأحكام الدّينيّة،و لا نسخ و لا تحويل.

و مفعول المشيئة محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه،أي و لو شاء اللّه أن يجعلكم أمّة واحدة لجعلكم إلخ.و قيل:المعنى لو شاء اللّه اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه.(2:34)

نحوه الآلوسيّ.(6:154)

رشيد رضا :أي لو شاء تعالى أن يجعلكم أيّها النّاس أمّة واحدة ذات شريعة واحدة و منهاج واحد في سلوكها و العمل بها لفعل،بأن خلقكم على استعداد واحد،و ألزمكم حالة واحدة في أخلاقكم و أطوار معيشتكم؛بحيث تصلح لها شريعة واحدة في كلّ زمن.

و حينئذ تكونون كسائر أنواع الخلق الّتي يقف استعدادها عند حدّ معيّن،كالطّير أو النّمل أو النّحل.

وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي و لكن لم يشأ ذلك بل جعلكم نوعا ممتازا يرتقي في أطوار الحياة بالتّدريج و على سنّة الارتقاء،فلا تصلح له شريعة واحدة في كلّ طور من أطوار حياته،في جميع أقوامه و جماعاته،و آتاكم من الشّرائع و المناهج في الفهم

ص: 337

و الهداية في طور طفوليّة النّوع و غلبة المادّيّة عليه ما يصلح له-و في طور تمييزه و غلبة الوجدانات النّفسيّة عليه ما يصلح له-حتّى إذا ما بلغ النّوع سنّ الرّشد و مستوى استقلال العقل،بظهور ذلك في بعض الأقوام بالقوّة و في بعضها بالفعل،ختم له الشّرائع و المناهج بالشّريعة المحمّديّة المبنيّة على أصل الاجتهاد، و جعل أمره في القضاء و السّياسة و الاجتماع شورى بين أولي الأمر،من أهل المكانة و العلم و الرّأي، (ليبلوكم)أي ليعاملكم بذلك معاملة المختبر لاستعدادكم،(فيما اتاكم)أي أعطاكم من الشّرائع و المناهج،فتظهر حكمته في تمييزكم على غيركم،من أنواع الخلق في أرضكم،و هو كونكم جامعين بين الحيوانيّة و الملكيّة.

يظهر مثال ما حقّقناه في الشّرائع و المناهج الأخيرة -اليهوديّة و النّصرانيّة و الإسلاميّة-فاليهوديّة شريعة مبنيّة على الشّدّة في تربية قوم ألفوا العبوديّة و الذّلّ،و فقدوا الاستقلال في الإرادة و الرّأي،فهي مادّيّة جسديّة شديدة،ليس لأهلها فيها رأي و لا اجتهاد،فالقائم بتنفيذها كالمربّي للطّفل العارم الشّكس.

و المسيحيّة يهوديّة من جهة و روحانيّة شديدة من جهة أخرى،فهي تأمر أهلها بأن يسلّموا أمورهم الجسديّة و الاجتماعيّة للمتغلّبين من أهل السّلطة و الحكم،مهما كانوا عليه من الفساد و الظّلم،و أن يقبلوا كلّ ما يسامون به من الخسف و الذّلّ؛و يجعلوا عنايتهم كلّها بالأمور الرّوحيّة،و تربية العواطف و الوجدانات النّفسيّة،فهي تربية للنّوع في طور التّمييز عند ما كان، كالغلام اليافع الّذي تؤثّر في نفسه الخطابيّات و الشّعريّات.

و أمّا الإسلاميّة فهي القائمة على أساس العقل و الاستقلال،المحقّقة لمعنى الإنسانيّة بالجمع بين مصالح الرّوح و الجسد،و بهذا يصدق عليها قوله تعالى:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ البقرة:143،و قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ آل عمران:110،فهي مبنيّة على أساس الاستقلال البشريّ اللاّئق بسنّ الرّشد،و طور ارتقاء العقل،و لذلك كانت الأحكام الدّنيويّة في كتابها قليلة، و فرض فيها الاجتهاد،لأنّ الرّاشد يفوّض إليه أمر نفسه، فلا يقيّد إلاّ بما يمكن أن يعقله من الأصول القطعيّة، و من مقوّمات أمّته الملّيّة،الّتي لا تختلف باختلاف الزّمان و المكان.

و من أحبّ زيادة التّفصيل في هذا البحث فليرجع إلى تفسير قوله: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ البقرة:213،و تفسير وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الزّخرف:33،في«ص 276 ج 2،ص 827 م 15»من«المنار»و إلى فصل«الدّين الإسلامي أو الإسلام»من«رسالة التّوحيد»لشيخنا الأستاذ الإمام.

و من فقه ما حقّقناه علم أنّ حجّة اللّه تعالى بإكمال اللّه الدّين بالقرآن و ختمه النّبوّة بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و جعل شريعته عامّة دائمة-لا تظهر إلاّ ببناء هذا الدّين على أساس العقل،و بناء هذه الشّريعة على أساس الاجتهاد

ص: 338

و طاعة أولي الأمر،الّذين هم جماعة أهل الحلّ و العقد.

فمن منع الاجتهاد فقد منع حجّة اللّه تعالى و أبطل مزيّة هذه الشّريعة على غيرها،و جعلها غير صالحة لكلّ النّاس في كلّ زمان.فما أشدّ جناية هؤلاء الجهّال على الإسلام،على أنّهم يسمّون أنفسهم علماء الإسلام.

(6:418)

الطّباطبائيّ: بيان لسبب اختلاف الشّرائع،و ليس المراد بجعلهم أمّة واحدة:الجعل التّكوينيّ،بمعنى النّوعيّة الواحدة،فإنّ النّاس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد،كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ الزّخرف:33.

بل المراد أخذهم بحسب الاعتبار أمّة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد و التّهيّؤ،حتّى تشرع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة،فقوله:

وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً من قبيل وضع علّة الشّرط موضع الشّرط ليتّضح باستحضارها معنى الجزاء،أعني قوله: وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليمتحنكم فيما أعطاكم و أنعم عليكم.

و لا محالة هذه العطايا المشار إليها في الآية مختلفة في الأمم،و ليست هي الاختلافات بحسب المساكن و الألسنة و الألوان،فإنّ اللّه لم يشرع شريعتين أو أكثر في زمان واحد قطّ بل هي الاختلافات بحسب مرور الزّمان،و ارتقاء الإنسان في مدارج الاستعداد و التّهيّؤ، و ليست التّكاليف الإلهيّة و الأحكام المشرّعة إلاّ امتحانا إلهيّا للإنسان في مختلف مواقف الحياة،و إن شئت فقل:

إخراجا له من القوّة إلى الفعل في جانبي السّعادة و الشّقاوة،و إن شئت فقل:تمييزا لحزب الرّحمن و عباده،من حزب الشّيطان.

فقد اختلف التّعبير عنه في الكتاب العزيز،و مآل الجميع إلى معنى واحد،قال تعالى جريا على مسلك الامتحان: وَ تِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ* وَ لِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصّابِرِينَ آل عمران:

140-142،إلى غير ذلك من الآيات.

و قال جريا على المسلك الثّاني: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى* وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى طه:123،124.

و قال جريا على المسلك الثّالث: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً إلى أن قال: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ* وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الحجر:28-43،إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة لمّا كانت العطايا الإلهيّة لنوع الإنسان من الاستعداد و التّهيّؤ مختلفة باختلاف الأزمان،و كانت الشّريعة و السّنّة الإلهيّة الواجب إجراؤها بينهم لتتميم

ص: 339

سعادة حياتهم-و هي الامتحانات الإلهيّة-تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات و تنوّعها،أنتج ذلك لزوم اختلاف الشّرائع،و لذلك علّل تعالى ما ذكره من اختلاف الشّرعة و المنهاج بأنّ إرادته تعلّقت ببلائكم و امتحانكم فيما أنعم عليكم،فقال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ.

فمعنى الآية-و اللّه أعلم-لكلّ أمّة جعلنا منكم جعلا تشريعيّا شرعة و منهاجا،و لو شاء اللّه لأخذكم أمّة واحدة و شرع لكم شريعة واحدة،و لكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما آتاكم من النّعم المختلفة.

و اختلاف النّعم كان يستدعي اختلاف الامتحان الّذي هو عنوان التّكاليف و الأحكام المجعولة،فلا محالة ألقى الاختلاف بين الشّرائع.

و هذه الأمم المختلفة هي أمم نوح،و إبراهيم، و موسى،و عيسى،و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و عليهم كما يدلّ عليه ما يمتنّ اللّه به على هذه الأمّة بقوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى الشّورى:13.(5:352)

4- وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. هود:118

ابن عبّاس: مجتمعين على الدّين الحقّ؛بحيث لا يقع من أحدهم كفر.لكنّه لم يشأ سبحانه ذلك،فلم يكونوا مجتمعين على الدّين الحقّ،و نظير ذلك قوله سبحانه: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها السّجدة:13.

مثله قتادة.(الآلوسيّ 12:164)

سعيد بن جبير: على ملّة الإسلام وحدها.

(القرطبيّ 9:114)

الضّحّاك: أهل دين واحد،أهل ضلالة أو أهل هدى.(القرطبيّ 9:114)

قتادة :أي على ملّة واحدة و دين واحد،فيكونون مسلمين صالحين.(الطّبرسيّ 3:203)

أبو مسلم الأصفهانيّ: معناه لو شاء ربّك لجعلهم أمّة واحدة في الجنّة على سبيل التّفضّل،لكنّه اختار لهم أعلى الدّرجتين،فكلّفهم ليستحقّوا الثّواب.

(الطّبرسيّ 3:203)

الزّمخشريّ: يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة،أي ملّة واحدة،و هي ملّة الإسلام كقوله:

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الأنبياء:92.و هذا الكلام يتضمّن نفي الاضطرار،و أنّه لم يضطرّهم إلى الاتّفاق على دين الحقّ،و لكنّه مكّنهم من الاختيار الّذي هو أساس التّكليف،فاختار بعضهم الحقّ و بعضهم الباطل.(2:298)

5- وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ... النّحل:93

القشيري: لو شاء اللّه سعادتهم لرحمهم،و عن المعاصي عصمهم،و بدوام الذّكر-بدل الغفلة-ألهمهم، و لكن سبقت القسمة في ذلك.(3:317)

الميبديّ: على ملّة واحدة و دين واحد.

(5:444)

ص: 340

مثله القرطبيّ.(10:172)

الزّمخشريّ: حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء و الاضطرار،و هو قادر على ذلك.(2:426)

الطّبرسيّ: أي لجعلكم مهتدين به،يعني به مشيئة القدرة كما قال: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى الأنعام:35.(3:382)

أبو حيّان: هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السّنّة،ابتلى النّاس بالأمر و النّهي ليذهب كلّ إلى ما يسّر له،و ذلك لحقّ الملك لا يسأل عمّا يفعل،و لو شاء لكانوا كلّهم على طريق واحد إمّا هدى و إمّا ضلالة، و لكنّه فرّق،فناس للسّعادة و ناس للشّقاوة.فخلق الهدى و الضّلال و توعّد بالسّؤال عن العمل،و هو سؤال توبيخ لا سؤال تفهّم،و سؤال التّفهّم هو المنفيّ في آيات.

و مذهب المعتزلة أنّ هذه المشيئة مشيئة قهر.

قال العسكريّ: المراد أنّه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهرا فلم يفعل ذلك،و خلقكم ليعذّب من يشاء على معصيته،و يثيب من يشاء على طاعته، و لا يشاء شيئا من ذلك إلاّ أن يستحقّه.و يجوز أن يكون المعنى أنّه:لو شاء خلقكم في الجنّة،و لكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم و يعذّب العصاة.(5:531)

الشّربينيّ: أي متّفقة على أمر واحد،و هو دين الإسلام.(2:259)

نحوه أبو السّعود(3:191)،و البروسويّ(5:75)، و الآلوسيّ(14:222).

سيّد قطب :و لو شاء اللّه لخلق النّاس باستعداد واحد،و لكنّه خلقهم باستعدادات متفاوتة،نسخا غير مكرّرة و لا معادة،و جعل نواميس للهدى و الضّلال، تمضي بها مشيئته في النّاس،و كلّ مسئول عمّا يعمل.

فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود،فالاختلاف له أسبابه المتعلّقة بمشيئة اللّه، و العهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات.و هذه قمّة في نظافة التّعامل و السّماحة الدّينيّة،لم يحقّقها في واقع الحياة إلاّ الإسلام في ظلّ هذا القرآن.(4:2192)

الطّباطبائيّ: لمّا انجرّ الكلام إلى ذكر اختلافهم عقّب ذلك ببيان أنّ اختلافهم ليس بناقض للغرض الإلهيّ في خلقهم و لا أنّهم معجزون له سبحانه،و لو شاء لجعلهم امّة واحدة لا اختلاف بينهم،و لكنّ اللّه سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية و الإضلال،فهدى قوما و أضلّ آخرين.

و ذلك أنّه تعالى وضع سعادة الإنسان و شقاءه على أساس الاختيار،و عرّفهم الطّاعة المفضية إلى غاية السّعادة،و المعصية المؤدّية إلى غاية الشّقاء.فمن سلك مسلك المعصية و اجتاز للضّلال جازاه اللّه ذلك،و من ركب سبيل الطّاعة و اختار الهدى جازاه اللّه ذلك، و سيسألهم جميعا عمّا عملوا و اختاروا.

و بما تقدّم يظهر أنّ المراد ب«جعلهم أمّة واحدة» رفع الاختلاف من بينهم و حملهم على الهدى و السّعادة، و ب«الإضلال و الهداية»ما هو على سبيل المجازاة، لا الضّلال و الهدى الابتدائيّان.فإنّ الجميع على هدى فطريّ،فالّذي يشاء اللّه ضلاله فيضلّه هو،من اختار المعصية على الطّاعة من غير رجوع و لا ندم،و الّذي

ص: 341

شاء اللّه هداه فهداه هو،من بقي على هداه الفطريّ و جرى على الطّاعة،أو تاب و رجع عن المعصية صراطا مستقيما و سنّة إلهيّة و لن تجد لسنّة اللّه تبديلا،و لن تجد لسنّة اللّه تحويلا.(12:336)

6- إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.

الأنبياء:92

ابن عبّاس: دينكم دين واحد.(الطّبريّ 17:85)

مثله مجاهد(الطّبريّ 17:85)،و الحسن(الطّوسيّ (7:277).

الطّبريّ: إنّ هذه ملّتكم ملّة واحدة[إلى أن قال:]

و نصبت الأمّة الثّانية على القطع.و بالنّصب قرأه جماعة قرّاء الأمصار،و هو الصّواب عندنا،لأنّ الأمّة الثّانية نكرة،و الأولى معرفة.و إذا كان ذلك كذلك،و كان الخبر قبل مجيء النّكرة مستغنيا عنها،كان وجه الكلام النّصب،هذا مع إجماع الحجّة من القرّاء عليه.و قد ذكر عن عبد اللّه بن أبي إسحاق رفع ذلك،أنّه قرأه (أمّة واحدة) بنيّة تكرير الكلام،كأنّه أراد:إنّ هذه أمّتكم هذه أمّة واحدة.(17:85)

الطّوسيّ: أصل الأمّة:الجماعة الّتي على مقصد واحد،فجعلت الشّريعة أمّة،لاجتماعهم بها على مقصد واحد.و قيل:معناه جماعة واحدة في أنّها مخلوقة مملوكة للّه.و نصب(أمّة)على الحال،و يسمّيه الكوفيّون قطعا.(7:277)

مثله البغويّ(4:260)،و الطّبرسيّ(4:62).

الزّمخشريّ: الأمّة:الملّة،و هذا إشارة إلى ملّة الإسلام،أي إنّ ملّة الإسلام هي ملّتكم الّتي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها،يشار إليها ملّة واحدة غير مختلفة.(2:583)

الطّبرسيّ: قيل:معناه هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم من الأنبياء فريقكم الّذي يلزمكم الاقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحقّ،كما يقال:هؤلاء أمّتنا،أي فريقنا و موافقونا على مذهبنا.(4:62)

البروسويّ: نصب على الحاليّة من أمّتكم،أي غير مختلفة فيما بين الأنبياء فإنّهم متّفقون في الأصول و إن كانوا مختلفين في الفروع بحسب الأمم و الأعصار.

قال في«القاموس»:الأمّة:جماعة أرسل إليهم رسول انتهى.فأصلها:القوم الّذي يجتمعون على دين واحد،ثمّ اتّسع فيها فأطلقت على ما اجتمعوا عليه من الدّين و الملّة.و اشتقاقها من«أمّ»بمعنى قصد،فالقوم هم الجماعة القاصدة،و ما اجتمعوا عليه هو الملّة المقصودة.(5:521)

الآلوسيّ: الأمّة على ما قاله صاحب«المطلع»:

أصلها القوم الّذي يجتمعون على دين واحد،ثمّ اتّسع فيها حتّى أطلقت على نفس الدّين،و الأشهر أنّها النّاس المجتمعون على أمر أو في زمان،و إطلاقها على نفس الدّين مجاز.و ظاهر كلام الرّاغب أنّه حقيقة أيضا،و هو المراد هنا.و أريد بالجملة الخبريّة الأمر بالمحافظة على تلك الملّة و مراعاة حقوقها،و المعنى أنّ ملّة الإسلام ملّتكم الّتي يجب أن تحافظوا على حدودها و تراعوا حقوقها فافعلوا ذلك،و قوله تعالى: (أُمَّةً واحِدَةً) نصب على الحال من(امّة)،و العامل فيها اسم الإشارة، و يجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في

ص: 342

صاحبها و إن كان الأكثر الاتّحاد كما في«شرح التّسهيل»لأبي حيّان.و قيل:بدل من(هذه)و معنى وحدتها اتّفاق الأنبياء عليهم السّلام عليها،أي إنّ هذه أمّتكم أمّة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السّلام بل أجمعوا كلّهم عليها فلم تتبدّل في عصر من الأعصار كما تبدّلت الفروع.و قيل:معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها،و هو الشّرك لها في القبول و صحّة الاتّباع.

و جوّز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السّلام،و المراد بها التّوحيد أيضا.و قيل:هي إشارة إلى طريقة إبراهيم،و الكلام متّصل بقصّته و هو بعيد جدّا.و أبعد منه بمراحل ما قيل:إنّها إشارة إلى ملّة عيسى عليه السّلام،و الكلام متّصل بما عنده كأنّه قيل:

وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ الأنبياء:91،قائلين لهم إنّ هذه،أي الملّة الّتي بعث بها عيسى أمّتكم إلخ،بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا.و قيل:إنّ(هذه)إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السّلام و الأمّة بمعنى الجماعة، أي إنّ هؤلاء جماعتكم الّتي يلزمكم الاقتداء بهم مجتمعين على الحقّ غير مختلفين،و فيه جهة حسن كما لا يخفى،و الأوّل أحسن و عليه جمهور المفسّرين، و هو المرويّ عن ابن عبّاس و مجاهد،و قتادة.و جوّز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافّة.و جعله الطّيّبيّ للمعاندين خاصّة؛حيث قال في وجه ترتيب النّظم الكريم:إنّ هذه السّورة نازلة في بيان النّبوّة و ما يتعلّق بها و المخاطبون المعاندون من أمّة محمّد،فلمّا فرغ من بيان النّبوّة و تكريره تقريرا،و من ذكر الأنبياء عليهم السّلام مسلّيا،عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ إلخ،أي هذه الملّة الّتي كرّرتها عليكم ملّة واحدة أختارها لكم لتتمسّكوا بها و بعبادة اللّه تعالى و القول بالتّوحيد،و هي الّتي أدعوكم إليها لتعضّوا عليها بالنّواجذ،لأنّ سائر الكتب نازلة في شأنها،و الأنبياء كلّهم مبعوثون للدّعوة إليها و متّفقون عليها،ثمّ لمّا علم إصرارهم قيل: وَ تَقَطَّعُوا إلخ،و حاصل المعنى الملّة واحدة و الرّبّ واحد و الأنبياء عليهم السّلام متّفقون عليها، و هؤلاء البعداء جعلوا أمر الدّين الواحد فيما بينهم قطعا كما يتوزّع الجماعة الشّيء الواحد.انتهى.و الأظهر العموم،و أمر النّظم عليه يؤخذ من كلام الطّيّبيّ بأدنى التفات.

و قرأ الحسن (أمّتكم) بالنّصب على أنّه بدل من هذه أو عطف بيان عليه و(امّة واحدة)بالرّفع على أنّه خبر (انّ).و قرأ هو أيضا و ابن إسحاق،و الأشهب العقيليّ، و أبو حياة،و ابن أبي عبلة،و الجعفي،و هارون،عن أبي عمرو،و الزّعفرانيّ برفعهما على أنّهما خبرا(انّ).و قيل:

الأوّل خبر،و الثّاني بدل منه بدل نكرة من معرفة،أو هو خبر مبتدإ محذوف،أي هي أمّة واحدة.(17:89)

القاسميّ: إنّ الأمّة هنا بمعنى الملّة،و هو الدّين المجتمع عليه،كما في قوله: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:23،أي على دين يجتمع عليه.و الأمّة بهذا المعنى هو ما رجّحه كثير من المفسّرين في هذه الآية،و في آية: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ المؤمنون:51-52.

(11:4307)

ص: 343

الطّباطبائيّ: الأمّة:جماعة يجمعها مقصد واحد، و الخطاب في الآية-على ما يشهد به سياق الآيات- خطاب عامّ يشمل جميع الأفراد المكلّفين من الإنسان، و المراد بالأمّة النّوع الإنسانيّ الّذي هو نوع واحد، و تأنيث الإشارة في قوله: هذِهِ أُمَّتُكُمْ لتأنيث الخبر.

و المعنى:أنّ هذا النّوع الإنسانيّ أمّتكم معشر البشر، و هي أمّة واحدة و أنا اللّه الواحد عزّ اسمه ربّكم إذ ملكتكم و دبّرت أمركم فاعبدوني لا غير.

و في قوله:(امّة واحدة)إشارة إلى حجّة الخطاب بالعبادة للّه سبحانه،فإنّ النّوع الإنسانيّ لمّا كان نوعا واحدا و أمّة واحدة ذات مقصد واحد و هو سعادة الحياة الإنسانيّة لم يكن له إلاّ ربّ واحد؛إذ الرّبوبيّة و الألوهيّة ليست من المناصب التّشريفيّة الوضعيّة حتّى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء و كم يشاء و كيف يشاء بل هي مبدئيّة تكوينيّة لتدبير أمره،و الإنسان حقيقة نوعيّة واحدة،و النّظام الجاري في تدبيره أمره نظام واحد متّصل مرتبط بعض أجزائه ببعض،و نظام التّدبير الواحد لا يقوم به إلاّ مدبّر واحد،فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الرّبوبيّة فيتّخذ بعضهم ربّا غير ما يتّخذه الآخر، أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون، فالإنسان نوع واحد يجب أن يتّخذ ربّا واحدا هو ربّ بحقيقة الرّبوبيّة،و هو اللّه عزّ اسمه.

و قيل:المراد بالأمّة الدّين،و الإشارة بهذه إلى دين الإسلام الّذي كان دين الأنبياء،و المراد بكونه(أمّة واحدة)اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه،و المعنى أنّ ملّة الإسلام ملّتكم الّتي يجب أن تحافظوا على حدودها،و هي ملّة اتّفقت الأنبياء عليهم السّلام عليها.

و هو بعيد فإنّ استعمال الأمّة في الدّين لو جاز لكان تجوّزا لا يصار إليه إلاّ بقرينة صارفة،و لا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقيّ بعد صحّته و استقامته و تأيّده بسائر كلامه تعالى،كقوله: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يونس:19،و هو-كما ترى- يتضمّن إجمال ما تتضمّنه هذه الآية و الآية الّتي تليها.(14:322)

عبد الكريم الخطيب :بعد أن ذكر اللّه سبحانه و تعالى أولئك المصطفين من رسله و أنبيائه و عباده الصّالحين-من نوح الّذي يعدّ الأب الثّاني للإنسانيّة بعد آدم،إلى إدريس،الّذي يقال:إنّه كان من ذرّية نوح الأقربين،إلى إبراهيم أبي الأنبياء إلى مريم أمّ آخر نبيّ في بني إسرائيل،بعد ذكر اللّه سبحانه و تعالى هؤلاء المكرمين من عباده،من ذكور و إناث،و من بعيد عهده و قريبه-عقّب على ذلك بقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ إشارة إلى أنّ هذا هو المجتمع الإنسانيّ،و تلك هي الأمّة الإنسانيّة،الّتي يبعث اللّه فيها رسله،و يصطفي منها من يشاء من عباده،فهذه في الأمّ الّتي ينتسب إليها كلّ إنسان،و فيها هذه الوجوه المشرقة الّتي عرضتها الآيات السّابقة،و الّتي ينبغي أن يقيم النّاس وجوههم عليهم،و أن يقتدوا بهم،فهم جميعا من طينة واحدة، و إنّما يكون التّفاوت بينهم بالجهد الّذي يبذله الإنسان منهم لإعلاء إنسانيّته و رفعها عن هذا الطّين.

و في قوله تعالى: أُمَّةً واحِدَةً إشارة إلى تلك الوحدة الّتي تجمع النّاس جميعا و تجعل منهم مجتمعا

ص: 344

واحدا،و إن اختلفوا ألسنة،و تباينوا ألوانا،و تناءوا ديارا و أوطانا.(9:950)

و بهذا المعنى جاءت كلمة(امّة)في الآية«52» المؤمنون،و الآية«23»القصص.

أمّة يدعون إلى الخير

1- وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

آل عمران:104

الضّحّاك: هم خاصّة الصّحابة و خاصّة الرّواة، يعني المجاهدين و العلماء.(ابن كثير 2:86)

الإمام الباقر عليه السّلام: هذه الآية لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و من تابعهم يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر.(القمّيّ 1:109)

الإمام الصّادق عليه السّلام: أخبر عن هذه الأمّة و ممّن هي،و إنّها من ذرّيّة إبراهيم و من ذرّيّة إسماعيل،من سكّان الحرم ممّن لم يعبدوا غير اللّه قطّ،الّذين وجبت لهم الدّعوة دعوة إبراهيم و إسماعيل،من أهل المسجد الّذين أخبر عنهم في كتابه:أنّه أذهب عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا،الّذين وصفناهم قبل هذا في صفة أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،الّذين عناهم اللّه تعالى في قوله: أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي يوسف:108، يعني أوّل من اتّبعه على الإيمان به و التّصديق له،و بما جاء به من عند اللّه تعالى من الأمّة الّتي بعث فيها و منها و إليها قبل الخلق،ممّن لم يشرك باللّه قطّ،و لم يلبس إيمانه بظلم،و هو الشّرك.(العروسيّ 1:380)

الميبديّ: الدّعاة إلى الخير:العلماء و المؤذّنون.

(2:235)

أبو حيّان: الأمر متوجّه لمن يتوجّه الخطاب عليهم.و قيل:و هم الأوس و الخزرج على ما ذكره الجمهور،و أمره لهم بذلك أمر لجميع المؤمنين و من تابعهم إلى يوم القيامة،فهو من الخطاب الخاصّ الّذي يراد به العموم.و يحتمل أن يكون الخطاب عامّا فيدخل فيه الأوس و الخزرج.(3:20)

البروسويّ: جماعة داعية إلى الخير،أي إلى ما فيه صلاح دينيّ و دنيويّ.(2:73)

الآلوسيّ: الجمهور على إسكان لام الأمر.و قرئ بكسرها على الأصل،و(تكن)إمّا من كان التّامّة فتكون (امّة)فاعلا و جملة(يدعون)صفته،و(منكم)متعلّق ب(تكن)أو بمحذوف،على أن يكون صفة ل(أمّة)قدّم عليها فصار حالا.و إمّا من كان النّاقصة فتكون(امّة) اسمها،و(يدعون)خبرها و(منكم)إمّا حال من(امّة)أو متعلّق بكان النّاقصة.و الأمّة:الجماعة الّتي تؤمّ،أي تقصد لأمر ما،و تطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد و على القدوة،و منه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً النّحل:120،و على الدّين و الملّة،و منه: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22،و على الزّمان، و منه وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،إلى غير ذلك من معانيها.(4:20)

القاسمي:أي جماعة،سمّيت بذلك لأنّها يؤمّها فرق النّاس،أي يقصدونها و يقتدون بها.(4:920)

المراغيّ:أي و لتكن منكم طائفة متميّزة تقوم

ص: 345

بالدّعوة و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر.(4:22)

2- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... آل عمران:110

ابن عبّاس: هم الّذين خرجوا معه من مكّة.(الطّبريّ 4:43)

عكرمة :نزلت في ابن مسعود،و سالم مولى أبي حذيفة،و أبيّ بن كعب،و معاذ بن جبل.

(الطّبريّ 4:43)

الضّحّاك: هم أصحاب رسول اللّه خاصّة،يعني و كانوا هم الرّواة الدّعاة،الّذين أمر اللّه المسلمين بطاعتهم.(الطّبريّ 4:44)

الإمام الصّادق عليه السّلام: في قراءة عليّ (كنتم خير ائمّة اخرجت للنّاس) قال:هم آل محمّد.[صلّى اللّه عليه و آله](الكاشانيّ 1:342)

[و في معناها روايات أخرى و كلّها تأويل.]

و عنه عليه السّلام: يعني الأمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم فهم الأمّة الّتي بعث اللّه فيها و منها و إليها،و هم الأمّة الوسطى،و هم خير أمّة أخرجت للنّاس.

(الكاشانيّ 1:343)

الأخفش: يريد أهل أمّة،أي خير أهل دين.

(القرطبيّ 4:170)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ فقال بعضهم:هم الّذين هاجروا مع رسول اللّه من مكّة إلى المدينة،خاصّة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

و قال آخرون:معنى ذلك كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس؛إذ كنتم بهذه الشّروط الّتي وصفهم جلّ ثناؤه بها، فكان تأويل ذلك عندهم:كنتم خير أمّة تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر،و تؤمنون باللّه،أخرجوا للنّاس في زمانكم.

و قال بعضهم:عنى بذلك أنّهم كانوا خير أمّة أخرجت للنّاس.

و أولى هذه الأقوال بتأويل الآية:ما قال الحسن؛ و ذلك لمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ألا إنّكم وفّيتم سبعين أمّة،أنتم آخرها و أكرمها على اللّه».(4:43)

الزّجّاج: يعني به أمّة محمّد.و قيل في معنى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ :كنتم عند اللّه في اللّوح المحفوظ.

و قيل:كنتم منذ آمنتم خير أمّة.و قال بعضهم:معنى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هذا الخطاب أصله أنّه خوطب به أصحاب النّبيّ،و هو يعمّ سائر أمّة محمّد،و الشّريطة في الخيريّة ما هو في الكلام،و هو قوله عزّ و جلّ:

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. (1:456)

القفّال: أصل الأمّة:الطّائفة المجتمعة على الشّيء الواحد،فأمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به،و الإقرار بنبوّته.و قد يقال لكلّ من جمعتهم دعوته:

إنّهم أمّته،إلاّ أنّ لفظ الأمّة إذا أطلقت وحدها وقع على الأوّل،أ لا ترى أنّه إذا قيل:أجمعت الأمّة على كذا،فهم منه الأوّل،و قال عليه الصّلاة و السّلام:«أمّتي لا تجتمع على ضلالة»و روي أنّه عليه الصّلاة و السّلام يقول يوم القيامة:«أمّتي أمّتي»فلفظ الأمّة في هذه المواضع

ص: 346

و أشباهها يفهم منه المقرّون بنبوّته.فأمّا أهل دعوته فإنّه إنّما يقال لهم:إنّهم أمّة الدّعوة،و لا يطلق عليهم إلاّ لفظ الأمّة بهذا الشّرط.(الفخر الرّازيّ 8:191).

أبو حيّان: قال عكرمة،و مقاتل:نزلت في ابن مسعود،و أبيّ بن كعب،و سالم مولى أبي حذيفة،و معاذ بن جبل،و قد قال لهم بعض اليهود:ديننا خير ممّا تدعوننا إليه و نحن خير و أفضل.و قيل:نزلت في المهاجرين.

و الّذي يظهر أنّها من تمام الخطاب الأوّل في قوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ و توالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر و نواه،و كان قد استطرد من ذلك لذكر من يبيضّ وجهه و يسودّ،و شيء من أحوالهم في الآخرة،ثمّ عاد إلى الخطاب الأوّل فقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تحريضا بهذا الإخبار على الانقياد و الطّواغية.

و الظّاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أوّلا، و هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فتكون الإشارة بقوله:

(امّة)،إلى أمّة معيّنة،و هي أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فالصّحابة هم خيرها.

قال الحسن،و مجاهد و جماعة: الخطاب لجميع الأمّة بأنّهم خير الأمم.و يؤيّد هذا التّأويل كونهم شهداء على النّاس،و قوله:نحن الآخرون السّابقون الحديث.

و قوله:نحن نكمّل يوم القيامة سبعين أمّة نحن آخرها و خيرها.(3:27)

نحوه الآلوسيّ(4:27)

ابن كثير :[بعد نقل قول ابن عبّاس قال:]

و الصّحيح أنّ هذه الآية عامّة في الأمّة كلّ قرن بحسبه،و خير قرونهم الّذين بعث فيهم رسول اللّه ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم،كما قال في الآية الأخرى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي خيارا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ البقرة:143.(2:89)

النّهاونديّ: لا ريب أنّ المراد من الأمّة في الآية ليس جميعهم إلى يوم القيامة و لا جميع الحاضرين في زمان الخطاب من الصّحابة،للقطع بفسق كثير منهم، كأبي سفيان،و معاوية.و لا دليل على تعيين خصوص المهاجرين بعد القطع بعدم إرادة المعنى الحقيقيّ و هو العموم،فلا بدّ من حملها على المتيقّن،و هو أمير المؤمنين و من يحذو حذوه.(1:250)

الطّباطبائيّ: الأمّة:إنّما تطلق على الجماعة و الفرد لكونهم ذوي هدف و مقصد يؤمرونه و يقصدونه.

فمعنى الآية أنّكم-معاشر المسلمين-خير أمّة أظهرها اللّه للنّاس بهدايتها،لأنّكم على الجماعة تؤمنون باللّه و تأتون بفريضتي الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر.و من المعلوم أنّ انبساط هذا التّشريف على جميع الأمّة لكون البعض متّصفين بحقيقة الإيمان و القيام بحقّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،هذا محصّل ما ذكروه في المقام.(3:376)

3- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ. آل عمران:113

ابن مسعود: لا يستوي أهل الكتاب،و أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.(الطّبريّ 4:53)

ص: 347

ابن عبّاس: جماعة ثابتة على الحقّ.

(الطّبريّ 4:53)

قتادة :ليس كلّ القوم هلك،قد كان للّه فيهم بقيّة.(الطّبريّ 4:53)

ابن جريج:عبد اللّه بن سلام،و ثعلبة بن سلام أخوه،و سعية و مبشّر،و أسيد و أسد ابنا كعب.

(الطّبريّ 4:53)

الأخفش: التّقدير:من أهل الكتاب ذو أمّة،أي ذو طريقة حسنة.(القرطبيّ 4:175)

الفرّاء: ذكر(امّة)و لم يذكر بعدها«أخرى» و الكلام مبنيّ على«أخرى»يراد،لأنّ(سواء)لا بدّ لها من اثنين فما زاد.

و رفع الأمّة على وجهين،أحدهما:أنّك تكرّه على (سواء)كأنّك قلت:لا تستوي أمّة صالحة و أخرى كافرة منها أمّة كذا و أمّة كذا،و قد تستجيز العرب إضمار أحد الشّيئين إذا كان في الكلام دليل عليه.(1:230)

الطّبريّ: (أمّة قائمة)مرفوعة بقوله:(من اهل الكتاب).

و قد توهّم جماعة من نحويّي الكوفة و البصرة و المقدّمين منهم في صناعتهم،أنّ ما بعد(سواء)في هذا الموضع من قوله:(أمّة قائمة)ترجمة عن(سواء) و تفسير عنه،بمعنى لا يستوي من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات اللّه آناء اللّيل،و أخرى كافرة.

و زعموا أنّ ذكر الفرقة الأخرى ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين،و هي«الأمّة القائمة».[و بعد نقل أقوال المفسّرين قال:]

فأجازوا:ما أبالي أقمت،و هم يريدون:ما أبالي أقمت أم قعدت،لاكتفاء ما أبالي بواحد،و كذلك في ما أدري،و أبو الإجازة في(سواء)من أجل نقصانه، و أنّه غير مكتف بواحد،فأغفلوا في توجيههم قوله:

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ على ما حكينا عنهم إلى ما وجّهوه إليه،مذاهبهم في العربيّة؛إذ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع(سواء)،فأخطئوا تأويل الآية،ف(سواء)في هذا الموضع بمعنى التّمام و الاكتفاء،لا بالمعنى الّذي تأوّله من حكينا قوله.

و قد ذكر أنّ قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ الآيات الثّلاث،نزلت في جماعة من اليهود أسلموا، فحسن إسلامهم.

و قال آخرون:معنى ذلك ليس أهل الكتاب،و أمّة محمّد القائمة بحقّ اللّه سواء عند اللّه.

و قد بيّنّا أنّ أولى القولين بالصّواب في ذلك قول من قال:قد تمّت القصّة عند قوله: (لَيْسُوا سَواءً) ،عن إخبار اللّه بأمر مؤمني أهل الكتاب،و أهل الكفر منهم،و أنّ قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ خبر مبتدإ عن مدح مؤمنيهم،و وصفهم بصفتهم،على ما قاله ابن عبّاس،و قتادة،و ابن جريج،و يعني جلّ ثناؤه بقوله:

(أُمَّةٌ قائِمَةٌ) جماعة ثابتة على الحقّ.(4:51)

القرطبيّ: [بعد نقله قول الأخفش قال:]

و قيل:في الكلام حذف،و التّقدير:من أهل الكتاب أمّة قائمة و أخرى غير قائمة،فترك الأخرى اكتفاء بالأولى.(4:176)

ص: 348

4- وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ .الأعراف:159

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هي أمّتي بالحقّ يأخذون،و بالحقّ يعطون،و قد أعطى القوم بين أيديكم مثلها: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ .(العروسيّ 2:86)

الإمام عليّ عليه السّلام: [في حديث]عن أبي الصّهبان البكريّ قال:سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام دعا رأس الجالوت و أسقف النّصارى،فقال:إنّي سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما،يا رأس الجالوت بالّذي أنزل التّوراة على موسى،و أطعمكم المنّ و السّلوى،و ضرب لكم في البحر طريقا يبسا و فجّر لكم من الحجر الطّور اثني عشر عينا لكلّ سبط من بني إسرائيل عينا،إلاّ ما أخبرتني على كم افترقت بنو اسرائيل بعد موسى عليه السّلام؟فقال:و لا إلاّ فرقة واحدة.فقال:كذبت و الّذي لا إله غيره،لقد افترقت على إحدى و سبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ واحدة،فإنّ اللّه يقول: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ. (العروسيّ 2:85)

ابن عبّاس: إنّهم قوم من وراء الصّين،و بينهم و بين الصّين واد جار من الرّمل لم يغيّروا و لم يبدّلوا.و ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون باللّيل و يضحون بالنّهار و يزرعون،لا يصل إليهم منّا أحد و لا منهم إلينا، و هم على الحقّ.

مثله السّدّيّ،و الرّبيع،و الضّحّاك،و عطاء.

(الطّبرسيّ 2:489)

الإمام الباقر عليه السّلام: هم قوم خلف الرّمل لم يغيّروا و لم يبدّلوا.(الطّوسي 5:6)

السّدّيّ: إنّ بني إسرائيل لمّا كفروا و قتلوا الأنبياء، بقي سبط في جملة الاثني عشر فما صنعوا،و سألوا اللّه أن ينقذهم منهم،ففتح اللّه لهم نفقا في الأرض،فساروا فيه حتّى خرجوا من وراء الصّين.

(الفخر الرّازيّ 15:31)

نحوه ابن جريج.(الآلوسيّ 4:84)

الكلبيّ: هم قوم من أهل الكتاب آمنوا بنبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم، كعبد اللّه بن سلام و أصحابه.(أبو حيّان 4:406)

الإمام الصّادق عليه السّلام: قوم موسى عليه السّلام هم أهل الإسلام.(العروسيّ 2:85)

إذا قام قائم آل محمّد استخرج من ظهر الكوفة سبعة و عشرين رجلا،خمسة عشر من قوم موسى الّذين يقضون بالحقّ و به يعدلون،و سبعة من أصحاب الكهف و يوشع وصيّ موسى،و مؤمن آل فرعون،و سلمان الفارسيّ،و أبا دجانة الأنصاريّ،و مالك الأشتر.(العروسيّ 2:85)

الجبّائيّ: يحتمل ذلك وجهين:

أحدهما:إنّهم كانوا قوما متمسّكين بالحقّ،في وقت ضلالتهم بقتل أنبيائهم.

و الآخر:إنّهم الّذين آمنوا بالنّبيّ،مثل ابن سلام و ابن صوريا،و غيرهما.(الطّوسيّ 5:6)

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى أنّ من قوم موسى أمّة يهدون بالحقّ و به يعدلون.

قال ابن عبّاس،و السّدّيّ:قوم وراء الصّين.

و أنكر الجبّائيّ قول ابن عبّاس،و قال:شرع

ص: 349

موسى عليه السّلام منسوخ بشرع عيسى عليه السّلام و شرع محمّد صلّى اللّه عليه و آله،فلو كانوا باقين لكفروا بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و هذا ليس بشيء،لأنّه لا يمتنع أن يكون قوم لم تبلغهم الدّعوة من النّبيّ،فلا نحكم بكفرهم.[و بعد نقل قول الجبّائيّ قال:]

و تقدير الكلام في معنى الآية إذا:كان من قوم موسى أمّة يهدون بالحقّ و به يعدلون،قد مدحوا بذلك و عظّموا،فعلى كلّ أمّة أن يكونوا كهذه الأمّة الكريمة في هذا المعنى.

و ليس في الآية ما يدلّ على أنّ في كلّ عصر أمّة هادية من قوم موسى،لأنّ بعد نبوّة نبيّنا لم يبق أحد يجب اتّباعه في شرع موسى عليه السّلام،و كذلك قوله تعالى:

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ الأعراف:181،و لا دلالة في ذلك على أنّ تلك الأمّة الموجودة في كلّ عصر،بل لو لم توجد هذه الأمّة إلاّ في وقت واحد هادية بالحقّ عادلة به،صحّ معنى الآية، على أنّ عندنا في كلّ عصر لا يخلون من قوم بهذا الوصف،و هم حجج اللّه على خلقه،المعصومون الّذين لا يجوز عليهم الخطأ و الزّلل،فقد قلنا بموجب الآية.(5:6)

الميبديّ: هي الفرقة النّاجية من الإحدى و السّبعين؛و ذلك فيما روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:تفرّقت أمّة موسى على إحدى و سبعين ملّة،سبعون منها في النّار و واحدة في الجنّة،و كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام إذا حدّث بهذا الحديث قرأ: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ الأعراف:159،هؤلاء نفس القوم الّذين ذكرهم اللّه في كتابه: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ آل عمران:113،و هو عبد اللّه سلام،و ابن صوريا،و أصحابه.(3:770)

الزّمخشريّ: هم المؤمنون التّائبون من بني إسرائيل،لمّا ذكر الّذين تزلزلوا منهم في الدّين و ارتابوا حتّى أقدموا على العظيمتين:عبادة العجل و استجازة رؤية اللّه تعالى،ذكر أنّ منهم أمّة موقنين ثابتين يهدون النّاس بكلمة الحقّ و يدلّونهم على الاستقامة و يرشدونهم،و بالحقّ يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون،أو أراد الّذين وصفهم ممّن أدرك النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و آمن به من أعقابهم.(2:123)

ابن عطيّة: يحتمل أن يريد به الجماعة الّتي آمنت بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم.

(أبو حيّان 4:406)

الطّبرسيّ: و اختلف في هذه الأمّة،من هم؟على أقوال:

الأوّل:[قول ابن عبّاس و قد تقدّم]

ثانيها:[قول الجبّائيّ و ردّه،كما تقدّم من الطّوسيّ]

و ثالثها:أنّهم الّذين آمنوا بالنّبيّ مثل عبد اللّه بن سلام و ابن صوريا و غيرهما.

و في حديث أبي حمزة الثّماليّ و الحكم بن ظهير:

أنّ موسى عليه السّلام لمّا أخذ الألواح قال:ربّ إنّي لأجد في الألواح أمّة هي خير أمّة أخرجت للنّاس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر فاجعلهم أمّتي.قال:تلك أمّة أحمد.

قال:ربّ إنّي لأجد في الألواح أمّة هم الآخرون في

ص: 350

الخلق السّابقون في دخول الجنّة فاجعلهم أمّتي.قال:

تلك أمّة أحمد.

قال:ربّ إنّي لأجد في الألواح أمّة كتبهم في صدورهم يقرءونها فاجعلهم أمّتي.قال:تلك أمّة أحمد.

قال:ربّ إنّي لأجد في الألواح أمّة يؤمنون بالكتاب الأوّل و بالكتاب الآخر و يقاتلون الأعور الكذّاب فاجعلهم أمّتي.قال:تلك أمّة أحمد.

قال:ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة،و إن عملها كتبت له عشرة أمثالها.و إن همّ بسيّئة و لم يعملها لم يكتب عليه،و إن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة،فاجعلهم أمّتي.قال:تلك أمّة أحمد صلّى اللّه عليه و آله.

قال:ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هم الشّافعون و هم المشفوع لهم فاجعلهم أمّتي.قال:تلك أمّة أحمد.

قال موسى:ربّ اجعلني من أمّة أحمد.

قال أبو حمزة:فأعطي موسى آيتين لم يعطوها، يعني أمّة أحمد.

قال اللّه: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي الأعراف:144،و قال: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ الأعراف:

159.

قال:فرضي موسى عليه السّلام كلّ الرّضا.(2:489)

الفخر الرّازيّ: و اختلفوا في أنّ هذه الأمّة متى حصلت،و في أيّ زمان كانت؟فقيل:هم اليهود الّذين كانوا في زمان الرّسول عليه الصّلاة و السّلام و أسلموا، مثل عبد اللّه بن سلام،و ابن صوريا.و الاعتراض عليه بأنّهم كانوا قليلين في العدد،و لفظ الأمّة يقتضي الكثرة.

يمكن الجواب عنه بأنّه لمّا كانوا مختلفين في الدّين، جاز إطلاق لفظ الأمّة عليهم،كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً النّحل:120.و قيل:إنّهم قوم مشوا على الدّين الحقّ الّذي جاء به موسى و دعوا النّاس إليه و صانوه عن التّحريف و التّبديل،في زمن تفرّق بني إسرائيل و إحداثهم البدع.و يجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه،و يجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك.[و بعد نقل قول السّدّيّ و جماعة قال:]

ثمّ هؤلاء اختلفوا،منهم من قال:إنّهم بقوا متمسّكين بدين اليهوديّة إلى الآن.و منهم من قال:إنّهم الآن على دين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم يستقبلون الكعبة،و تركوا السّبت و تمسّكوا بالجمعة،لا يتظالمون و لا يتحاسدون، و لا يصل إليهم منّا أحد،و لا إلينا منهم أحد.

و قال بعض المحقّقين:هذا القول ضعيف،لأنّه إمّا أن يقال:وصل إليهم خبر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،أو ما وصل إليهم هذا الخبر.

فإن قلنا:وصل خبره إليهم،ثمّ إنّهم أصرّوا على اليهوديّة فهم كفّار،فكيف يجوز وصفهم بكونهم أمّة يهدون بالحقّ و به يعدلون؟و إن قلنا:بأنّهم لم يصل إليهم خبر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم فهذا بعيد،لأنّه لما وصل خبرهم إلينا،مع أنّ الدّواعي لا تتوفّر على نقل أخبارهم،فكيف يعقل أن لا يصل إليهم خبر محمّد عليه الصّلاة و السّلام مع أنّ الدّنيا قد امتلأت من خبره و ذكره.(15:31)

البيضاويّ: المراد بها الثّابتون على الإيمان،

ص: 351

القائمون بالحقّ من أهل زمانه،أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن،تنبيها على أنّ تعارض الخير و الشرّ و تزاحم أهل الحقّ و الباطل أمر مستمرّ.

و قيل:مؤمنو أهل الكتاب.(1:373)

أبو حيّان: لمّا أمر بالإيمان باللّه و رسوله و أمر باتّباعه ذكر أنّ من قوم موسى من وفّق للهداية و عدل و لم يجر و لم تكن له هداية إلاّ باتّباع شريعة موسى قبل مبعث رسول اللّه،و باتّباع شريعة رسول اللّه بعد مبعثه.

فهذا إخبار عن من كان من قوم موسى بهذه الأوصاف، فكان المعنى أنّهم كلّهم لم يكونوا ضلاّلا بل كان منهم مهتدون.(4:406)

الآلوسيّ: اختلف في المراد منهم،فقيل:أناس كانوا كذلك على عهد موسى عليه السّلام،و الكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرّحمة و التّقوى و الإيمان بالآيات بمتّبعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السّلام من كلّ خير و بيان،أنّ كلّهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت و كيت.و صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.

و اختار هذا شيخ الإسلام.و لا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السّلام في قوله: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا الأعراف:155،فيه تنصيص على أنّ من القوم من لم يفعل.

و قيل:أناس وجدوا على عهد نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم موصوفون بذلك،كعبد اللّه بن سلام و أضرابه.و رجّحه الطّيّبيّ بأنّه أقرب الوجوه؛و ذلك أنّه تعالى لمّا أجاب عن دعاء موسى عليه السّلام بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها الأعراف:156، إلى قوله سبحانه: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الأعراف:157،ثمّ أمر رسول اللّه أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود و تنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السّلام مع إظهار النّصفة،و ذلك بقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ الأعراف:158،و قوله سبحانه:

(فامنوا)،عقّب ذلك بقوله عزّ شأنه: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى إلخ،و المعنى أنّ بعض هؤلاء الّذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا و أنصفوا من أنفسهم يهدون النّاس إلى أنّه عليه الصّلاة و السّلام الرّسول الموعود،و يقولون لهم:هذا الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي نجده مكتوبا عندنا في التّوراة و الإنجيل و يعدلون في الحكم و لا يجورون، و لكنّ أكثرهم ما أنصفوا و لبسوا الحقّ بالباطل و كتموه و جاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر.

و اعترض بأنّ الّذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانوا قليلين.و لفظ أمّة يدلّ على الكثرة، و أيضا إنّ هؤلاء قد مرّ ذكرهم فيما سلف.

و أجيب بأنّ لفظ«الأمّة»قد يطلق على القليل لا سيّما إذا كان له شأن،بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك،كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً النّحل:120،و بأنّ ذكرهم هنا لما أشير إليه من النّكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النّكتة،و تكرار الشّيء الواحد لاختلاف الأغراض سنّة مشهورة في الكتاب،على أنّه قد قيل:إنّهم فيما تقدّم قد وصفوا بما

ص: 352

هو ظاهر في أنّهم مهتدون،و هنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنّهم هادون،فيحصل من الذّكرين أنّهم موصوفون بالوصفين.نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل،و لعلّها لا تخفى على المتدبّر.

و قيل:هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى و نبيّنا محمّد عليهما السّلام،و هم الآن موجودون أيضا.[و بعد نقل قول ابن جريج قال:]

و إليهم الإشارة كما قال ابن عبّاس بقوله تعالى:

وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً الإسراء:104،و فسّر (وعد الآخرة)بنزول عيسى عليه السّلام،و قال:إنّهم ساروا في السّرب سنة و نصفا.

و ذكر مقاتل كما روى أبو الشّيخ:أنّ اللّه أجرى معهم نهرا و جعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم،و أنّ أرضهم الّتي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوامّ و البهائم و السّباع مختلطين،و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أتاهم ليلة المعراج و معه جبريل عليه السّلام،فآمنوا به و علّمهم الصّلاة.و عن الكلبيّ،و الضّحّاك،و الرّبيع أنّه عليه الصّلاة و السّلام علّمهم الزّكاة و عشر سور من القرآن نزلت بمكّة، و أمرهم أن يجمعوا و يتركوا السّبت و أقرءوه سلام موسى عليه السّلام،فردّ النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام السّلام.

و أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ أنّه قال:بينكم و بينهم نهر من رمل يجري.

و ضعّف هذه الحكاية ابن الخازن،و أنا لا أراها شيئا، و لا أظنّك تجد لها سندا يعوّل عليه،و لو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلّما في السّماء.(9:83)

رشيد رضا: أي و من قوم موسى أيضا جماعة عظيمة يهدون النّاس بالحقّ الّذي جاءهم به من عند اللّه تعالى،و يعدلون به دون غيره إذا حكموا بين النّاس، لا يتّبعون فيه الهوى،و لا يأكلون السّحت و الرّشا، فالظّاهر المتبادر أنّ هؤلاء ممّن كانوا في عصره و بعد عصره حتّى بعد ما كان من ضياع أصل التّوراة،ثمّ وجود النّسخة المحرّفة بعد السّبي،فإنّ الأمم العظيمة لا تخلو من أهل الحقّ و العدل.و هذا من بيان القرآن للحقائق، و عدله في الحكم على الأمم،كقوله: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً...

آل عمران:75.

و قيل:في وجه التّناسب و الاتّصال إنّه ذكر هؤلاء من قومه في مقابل متّخذي العجل للدّلالة على أنّهم كانوا بعض قومه لا كلّهم،و هو جائز على بعد يقدّر بقدر بعد هذه الآية عن قصّة العجل،و ما قلناه أظهر.

فإن قيل:إنّ قوله:(يهدون)و(يعدلون)للحال المفيد للاستمرار.

قلنا:إنّ أمثاله ممّا حكي فيه حال الغابرين وحدهم بصيغة المضارع كثير،و وجهه أنّ التّعبير لتصوير الماضي في صورة الحاضر،و ما هنا يشمل أهل الحقّ من قوم موسى إلى زمن نزول هذه السّورة ممّن لم تكن بلغتهم دعوة النّبيّ الأمّي خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و سلّم،و هم الّذين كانوا كلّما بلغت أحدا منهم الدّعوة قبلها و أسلم.و قد ورد في وصفهم آيات صريحة.و حمل بعضهم هذه الآية الّتي نفسّرها عليهم وحدهم.

ص: 353

قالوا:إنّ المراد بهؤلاء الأمّة من آمن بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من علماء أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و أضرابه.

و نقول:إنّه نزل في هؤلاء آيات صريحة،كقوله:

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ آل عمران:199.و هذه الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها ليست صريحة في هذا بل السّياق ينافيه،لأنّها جاءت بعد بيان حال الّذين يؤمنون به صلّى اللّه عليه و سلّم، فالمتبادر فيها أنّها في خواصّ قوم موسى في عهد موسى و بعد عهده،و منهم النّبيّون و الرّبّانيّون و القضاة العادلون،كما يعلم بالقطع من آيات أخرى.

فالآيات في الخيار من أهل الكتاب ثلاثة أنواع:

1-الصّريحة في الّذين أدركوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و آمنوا قبل إيمانهم أو بعده،كقوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ البقرة:121.

و قوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ القصص:52-54،و مثلهنّ في سورة الأنعام،و الرّعد، و الإسراء،و القصص،و العنكبوت إلخ.

2-الصّريحة في الّذين كانوا في عهد موسى عليه السّلام و استقاموا معه ثمّ في عهد من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامّة قبل بلوغ دعوتها،كالآية الّتي نحن بصدد تفسيرها.

3-المحتملة للقسمين،كقوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آل عمران:113.

و في تفسير«الأمّة»هنا خرافات إسرائيليّة ذكر بعضها ابن جرير عن ابن جريج أنّه قال:بلغني كذا، و ذكر أنّ سبطا من بني إسرائيل ساروا في نفق من الأرض فخرجوا من وراء الصّين إلخ.و ذكر عن ابن عبّاس ما يؤيّد هذا بدون سند.

و ابن جريج على سعة علمه و روايته و عبادته شرّ المدلّسين تدليسا،لأنّه لا يدلّس عن ثقة.و أئمّة الجرح و التّعديل لا يعتدّون بشيء يرويه بغير تحديث،و نقل هذه الخرافة كثيرون و زادوا فيها ما عزّوه إلى غيره أيضا،و بحثوا فيها مباحث،و لا يستحقّ شيء من ذلك أن يحكى.(9:363)

الطّباطبائيّ: هذا من نصفة القرآن مدح من يستحقّ المدح،و حمد صالح أعمالهم بعد ما قرّعهم بما صدر عنهم من السّيّئات،فالمراد أنّهم ليسوا جميعا على ما وصفنا من مخالفة اللّه و رسوله،و التزام الضّلال و الظّلم،بل منهم أمّة يهدون النّاس بالحقّ و يعدلون فيما بينهم.فالباء في قوله:(بالحقّ)للآلة،و تحتمل الملابسة.

و على هذا فالآية من الموارد الّتي نسبت الهداية فيها إلى غيره تعالى و غير الأنبياء و الأئمّة،كما في قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون و لم يكن بنبيّ ظاهرا:

وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ المؤمن:38.

و لا يبعد أن يكون المراد بهذه«الأمّة»-من قوم موسى عليه السّلام-الأنبياء و الأئمّة الّذين نشئوا فيهم بعد موسى.و قد وصفهم اللّه في كلامه بالهداية،كقوله تعالى:

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ السّجدة:24،و غيره من الآيات؛ و ذلك أنّ الآية،أعني قوله: أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ

ص: 354

يَعْدِلُونَ لو حملت على حقيقة معناها من الهداية بالحقّ و العدل بالحقّ لم يتيسّر لغير النّبيّ و الإمام أن يتلبّس بذلك.(8:284)

عبد الكريم الخطيب: هو تحريض لليهود على متابعة النّبيّ و الاستجابة له،و الانتصار لدعوته؛و ذلك أنّ هؤلاء القوم-و إن كانوا كما عرفتهم الحياة،و كما سيكشف القرآن الّذي سينزل فيهم بعد هذا،كثيرا من وجوه بغيهم و ضلالهم-فإنّ فيهم قلّة قليلة تحتفظ في كيانها بمعالم الإنسانيّة السّليمة،قد عرفت الحقّ و استقامت عليه،و حكمت به حكما عادلا بعيدا عن الهوى.

و المراد بهؤلاء،هم بعض علماء اليهود و النّصارى و أحبارهم و رهبانهم،و قد دخل كثير منهم في الإسلام و أصبحوا في عداد المسلمين.

و إذا عرفنا أنّ هذه السّورة مكّيّة،و أنّ النّبيّ صلوات اللّه و سلامه عليه،لم يكن قد واجه اليهود بعد، و لم يكن بينه و بينهم لقاء مباشر بدعوته،إذا عرفنا هذا أدركنا سرّ هذه الإشارات البعيدة الّتي كان يشير بها القرآن إلى اليهود؛حيث كانت هذه الإشارات إرصاصا بالمواجهة الصّريحة الّتي ستكون بين النّبيّ و اليهود،بعد أن يهاجر النّبيّ إلى المدينة،و يلتقي باليهود،و يقع بينه و بينهم هذا الصّراع العنيف الّذي عرضه القرآن الكريم، و الّذي انتهى بإجلاء اليهود من المدينة في عهد النّبيّ ثمّ بإجلائهم من الجزيرة العربيّة كلّها في خلافة عمر بن الخطّاب.(5:498)

5- وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ. الأعراف:181

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هي لأمّتي بالحقّ يأخذون و بالحقّ يعطون،و قد أعطى لقوم بين أيديكم.و مثله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ الأعراف:

159.(البحرانيّ 2:53)

الإمام عليّ عليه السّلام: و الّذي نفسي بيده لتفرقنّ هذه الأمّة على ثلاث و سبعين فرقة،كلّها في النّار إلاّ فرقة:

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فهذه الّتي تنجو من هذه الأمّة.(الكاشانيّ 2:255)

و عنه عليه السّلام: يعني أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

(الكاشانيّ 2:256)

ابن عبّاس: هم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

(أبو حيّان 4:430)

قتادة :هم مؤمنو أهل الكتاب.

مثله الكلبيّ،و ابن جريج.(أبو حيّان 4:430)

القمّيّ: هذه الآية لآل محمّد عليهم السّلام،و أتباعهم.

(الكاشانيّ 2:255)

[و بهذا المعنى روايات عن أهل البيت عليهم السّلام]

الطّبرسيّ: أخبر سبحانه أنّ من جملة من خلقه جماعة و عصبة يدعون النّاس إلى توحيد اللّه تعالى و إلى دينه و هو الحقّ يرشدونهم إليه.(2:503)

القرطبيّ: في الخبر أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:هم هذه الأمّة،و روي أنّه قال:هذه لكم و قد أعطى اللّه قوم موسى مثلها،و قرأ هذه الآية،و قال:إنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم،فدلّت الآية على

ص: 355

أنّ اللّه عزّ و جلّ لا يخلي الدّنيا-في وقت من الأوقات- من داع يدعو إلى الحقّ.(7:329)

أبو حيّان: قيل:هم العلماء و الدّعاة إلى الدّين.

و قيل:هم المهاجرون و الأنصار و التّابعون لهم بإحسان.[و بعد نقل قول ابن عبّاس قال:]

و عليه أكثر المفسّرين،و روي في ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا قرأها قال:هذه لكم و قد أعطى القوم بين أيديكم مثلها و من قوم موسى.و عنه صلّى اللّه عليه و سلّم:أنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم.

و الظّاهر أنّ هذه الجملة أخبر فيها أنّ ممّن خلق أمّة موصوفون بكذا فلا يدلّ على تعيين،لا في أشخاص و لا في أزمان،و صلحت لكلّ هاد بالحقّ من هذه الأمّة و غيرهم،و في زمان الرّسول و غيره.كما أنّ مقابلها في قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ الأعراف:179،لا يدلّ على تعيين أشخاص و لا زمان و إنّما هذا تقسيم للمخلوق للنّار و المخلوق للجنّة؛و لذلك قيل:إنّ في الكلام محذوفا،تقديره:و ممّن خلقنا للجنّة،يدلّ عليه إثبات مقابله في قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ.

و قال الجبّائيّ:هذه الآية تدلّ على أن لا يخلو زمان البتّة ممّن يقوم بالحقّ و يعمل به و يهدي إليه،و إنّهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل.انتهى.

و الآية لا تدلّ على ما زعم الجبّائيّ،و ما قاله مخالف لما روي من أنّه لا تقوم السّاعة إلاّ على شرار الخلق، و لا تقوم السّاعة حتّى لا يقال في الأرض:اللّه اللّه، و لا تقوم السّاعة حتّى يسري على كتاب اللّه،فلا يبقى منه حرف.(4:430)

6- إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. النّحل:120

ابن مسعود: الأمّة:معلّم الخير.

(الطّبريّ 14:191)

ابن عبّاس: يعني إماما يقتدون به،بلغة قريش.(اللّغات في القرآن:32)

كان عنده من الخير ما كان عند أمّة.

(أبو حيّان 5:547)

مجاهد :لأنّه انفرد في دهره بالتّوحيد،فكان مؤمنا وحده،و النّاس كفّارا.(الطّبرسيّ 3:391)

الإمام الباقر عليه السّلام: ذلك أنّه على دين لم يكن عليه أحد غيره فكان أمّة واحدة.(العروسيّ 3:94)

قتادة :كان إمام هدى مطيعا،تتّبع سنّته و ملّته.(الطّبريّ 14:192)

الإمام الصّادق عليه السّلام: الأمّة:واحدة فصاعدا،كما قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً النّحل:120،يقول:مطيعا للّه.(العروسيّ 3:93)

شيء فضّله اللّه به.(الكاشانيّ 3:161)

الإمام الكاظم عليه السّلام: لقد كانت الدّنيا و ما فيها إلاّ واحد يعبد اللّه،و لو كان معه غيره إذا لأضافه إليه؛حيث يقول: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً فصبر بذلك ما شاء اللّه،ثمّ إنّ اللّه آنسه بإسماعيل و إسحاق فصاروا ثلاثة.(الكاشانيّ 3:161)

الفرّاء: معلما للخير.(2:114)

الطّبريّ: إنّ إبراهيم خليل اللّه كان معلّم خير،يأتمّ به أهل الهدى.(14:190)

ص: 356

الزّجّاج: جاء في التّفسير أنّه كان آمن وحده،و في أكثر التّفسير أنّه كان معلّما للخير.(3:222)

ابن الأنباريّ: هذا مثل قول العرب:فلان رحمة و علاّمة و نسّابة،يقصدون بالتّأنيث التّناهي في المعنى الموصوف به.(أبو حيّان 5:547)

ابن فارس: أي إماما يهتدى به،و هو سبب الاجتماع.(1:27)

الطّوسيّ: قيل:جعل(أمّة)لقيام الأمّة به.

(6:437)

الميبديّ: يعني معلّما للخير،يأتمّ به أهل الدّنيا.

و في الخبر أنّه كان يقول:زمانئذ اللّهم إنّك واحد في السّماء و أنا واحد في الأرض أعبدك.

و قيل:الأمّة:الإمام يؤتمّ به.

كان إبراهيم هادي الشّريعة،و قدوة الخليقة،فسمّاه (أمّة)لاجتماع خصال الخير فيه،يعني أنّه يعدل أمّة، تتّصف بالطّاعة و العبادة و الخصال الحميدة،فاجتمعت فيه وحده،و لذا سمّاه(أمّة).

و قيل:سمّي أمّة،لأنّه انفرد في دهره بالتّوحيد.(5:466)

الزّمخشريّ: فيه وجهان:

أحدهما:أنّه كان وحده أمّة من الأمم،لكماله في جميع صفات الخير.

و الثّاني:أن يكون(أمّة)بمعنى مأموم،أي يؤمّه النّاس ليأخذوا منه الخير،أو بمعنى مؤتمّ به كالرّحلة و النّخبة و ما أشبه ذلك.ممّا جاء من«فعلة»بمعنى «مفعول»فيكون مثل قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً. (2:433)

الطّبرسيّ: قيل:سمّاه(أمّة)لأنّ قوام الأمّة كان به.

و قيل:لأنّه قام بعمل أمّته.(3:391)

الفخر الرّازيّ: و في تفسيره وجوه:

الأوّل:[قول الزّمخشريّ و قد تقدّم]

الثّاني:[قول مجاهد]

الثّالث:[أيضا قول الزّمخشريّ و قد تقدّم]

الرّابع:أنّه عليه السّلام هو السّبب الّذي لأجله جعلت أمّته ممتازين عمّن سواهم بالتّوحيد و الدّين الحقّ،و لمّا جرى مجرى السّبب لحصول تلك الأمّة سمّاه اللّه تعالى بالأمّة إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب.و عن شهر بن حوشب:لم تبق أرض إلاّ و فيها أربعة عشر يدفع اللّه بهم عن أهل الأرض إلاّ زمن إبراهيم عليه السّلام،فإنّه كان وحده.(20:134)

القرطبيّ: دعا عليه السّلام مشركي العرب إلى ملّة إبراهيم؛إذ كان أباهم و باني البيت الّذي به عزّهم.

و الأمّة:الرّجل الجامع للخير.(10:197)

أبو حيّان: في«البخاريّ»أنّه قال لسارة:ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري و غيرك.و الأمّة:لفظ مشترك بين معان،منها:الجمع الكثير من النّاس،ثمّ يشبه به الرّجل الصّائم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده عن النّاس،فسمّي أمّة.

و قيل:الأمّة:الإمام الّذي يقتدى به من أمّ يؤمّ، و المفعول قد يبنى للكثرة على«فعلة».(5:547)

البروسويّ:أمّة على حدة،لحيازته من الفضائل البشريّة ما لا يكاد يوجد إلاّ متفرّقا في أمّة جمّة.

ص: 357

و يقال:أمّة بمعنى مأموم،أي يؤمّه النّاس و يقصدونه ليأخذوا منه الخير.و معلّم الخير إمام في الدّين،و هو عليه السّلام رئيس أهل التّوحيد و قدوة أصحاب التّحقيق،جادل أهل الشّرك و ألقمهم الحجر ببيّنات باهرة،و أبطل مذاهبهم بالبراهين القاطعة.(5:93)

الآلوسيّ: ذكر في«القاموس»أنّ من معاني الأمّة من هو على الحقّ مخالف لسائر الأديان.و الظّاهر أنّه مجاز بجعله،كأنّه جميع ذلك العصر،لأنّ الكفرة بمنزلة العدم.(14:249)

الطّباطبائيّ: قيل:إنّه كان أمّة منحصرة في واحد مدّة من الزّمان،لم يكن على الأرض موحّد يوحّد اللّه غيره.(12:368)

أمّة معدودة

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ...

هود:8

ابن عبّاس: إلى أجل محدود.

مثله قتادة.(الطّبريّ 12:6)

الأمّة:الحين،كما قال سبحانه: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45.(الطّبرسيّ 3:144)

مثله مجاهد.(الطّبريّ 12:6)

الإمام الباقر عليه السّلام: أصحاب القائم الثّلاثمائة و البضعة عشر رجلا هم و اللّه الأمّة المعدودة الّتي قال اللّه في كتابه-و تلا هذه الآية-قال:يجتمعون و اللّه في ساعة واحدة قزعا كقزع الخريف.(الكاشانيّ 2:433)

الإمام الصّادق عليه السّلام: هو القائم و أصحابه.(الكاشانيّ 2:433)

(الى امّة معدودة)يعني عدّة كعدّة بدر.

(الكاشانيّ 2:433)

الجبّائيّ: معناه إلى أمّة بعد هؤلاء نكلّفهم فيعصون،فتقتضي الحكمة إهلاكهم،و إقامة القيامة.(الطّبرسيّ 3:144)

الطّبريّ: و لئن أخّرنا عن هؤلاء المشركين من قومك يا محمّد العذاب،فلم نعجّله لهم،و أنسأنا في آجالهم إلى أمّة معدودة،و وقت محدود،و سنين معلومة.

و أصل الأمّة:ما قد بيّنّا فيما مضى من كتابنا هذا، أنّها الجماعة من النّاس،تجتمع على مذهب و دين،ثمّ تستعمل في معان كثيرة،ترجع إلى معنى الأصل الّذي ذكرت.و إنّما قيل للسّنين المعدودة و الحين في هذا الموضع و نحوه أمّة،لأنّ فيها تكون الأمّة.و إنّما معنى الكلام:و لئن أخّرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمّة، و انقراض أخرى قبلها.(12:6)

الزّجّاج: معناه إلى أجل و حين معلوم،كما قال اللّه تعالى: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حين.(3:40)

الرّمّانيّ: (الى امّة)أي إلى جماعة يتعاقبون فيصرّون على الكفر،و لا يكون فيهم من يؤمن،كما فعلنا بقوم نوح.(الطّبرسيّ 3:144)

البغويّ: إلى أجل محدود.و أصل الأمّة:الجماعة، فكأنّه قال:إلى انقراض أمّة و مجيء أمّة أخرى.

(3:180)

الطّبرسيّ:معناه و لئن أخّر عن هؤلاء الكفّار

ص: 358

عذاب الاستئصال إلى أجل مسمّى و وقت معلوم.

(3:144)

الفخر الرّازيّ: ما المراد بقوله:(الى امّة معدودة)؟ الجواب من وجهين:

الأوّل:أنّ الأصل في الأمّة:هم النّاس و الفرقة.فإذا قلت:جاءني أمّة من النّاس،فالمراد طائفة مجتمعة،قال تعالى: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ القصص:

23،و قوله: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،أي بعد انقضاء أمّة و فنائها فكذا هاهنا قوله: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى حين تنقضي أمّة من النّاس،انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول،لقالوا:ما ذا يحبسه عنّا و قد انقرض من النّاس الّذين كانوا متوعّدين بهذا الوعيد؟و تسمية الشّيء باسم ما يحصل فيه، كقولك:كنت عند فلان صلاة العصر،أي في ذلك الحين.

الثّاني:أنّ اشتقاق الأمّة من الأمّ،و هو القصد،كأنّه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه.

(17:189)

ابن كثير :و لئن أخّرنا العذاب و المؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود و أمد محصور، و أوعدناهم إلى مدّة مضروبة،ليقولنّ تكذيبا و استعجالا؛(ما يحبسه)،أي يؤخّر هذا العذاب عنّا.فإنّ سجاياهم قد ألفت التّكذيب و الشّكّ،فلم يبق لهم محيص عنه و لا محيد.

و الأمّة تستعمل في القرآن و السّنّة في معان متعدّدة،فيراد بها الأمة،كقوله في هذه الآية.

(3:539)

البروسويّ: إلى طائفة من الأيّام قليلة،لأنّ ما يحصره العدّ قليل.(4:101)

مثله الآلوسيّ.(12:14)

رشيد رضا :الأمّة هنا:الطّائفة أو المدّة من الزّمن، و مثله في سورة يوسف: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، و أصلها:

الجماعة من جنس أو نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد.

و تطلق على الدّين و الملّة الخاصّة و الزّمن الخاصّ، أي و لئن أخّرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزّمن معدودة في علمنا،و محدودة في نظام تقديرنا،و سنّتنا في خلقنا،المبيّن في قولنا: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ الرّعد:

38،أو إلى أمّة قليلة من الزّمن تعدّ بالسّنوات،أو ما دونها من الشّهور أو الأيّام،ليقولنّ:

(ما يَحْبِسُهُ...) (12:26)

الطّباطبائيّ: الأمّة:الحين و الوقت،كما في قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:

45،أي بعد حين و وقت.

و ربّما أمكن أن يراد بالأمّة الجماعة،فقد وعد اللّه سبحانه أن يؤيّد هذا الدّين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا و يمكّن عند ذلك للمؤمنين دينهم الّذي ارتضى لهم،قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ المائدة:

54،و قال: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى

ص: 359

لَهُمْ -إلى أن قال- يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً النّور:55،و هذا وجه لا بأس به.

و قيل:إنّ المراد بالأمّة الجماعة،و هم قوم يأتي اللّه بهم بعد هؤلاء،فيصرّون على الكفر فيعذّبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح،أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرّون على معصية اللّه،فتقوم عليهم القيامة.

و الوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذّبين غير هؤلاء المستهزئين من الكفّار.و ظاهر قوله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ إلخ هود:8،أنّ المعذّبين هم المستهزءون بقولهم:(ما يحبسه).(10:155)

امم

1- وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ... الأنعام:38

مجاهد :أصناف مصنّفة تعرف بأسمائها.

(الطّبريّ 7:187)

قتادة :الطّير أمّة،و الإنس أمّة،و الجنّ أمّة.(الطّبريّ 7:188)

السّدّيّ: إلاّ خلق أمثالكم.(الطّبريّ 7:188)

الفرّاء: يقال:إنّ كلّ صنف من البهائم أمّة.و جاء في الحديث:«لو لا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها»فجعل الكلاب أمّة.(الفخر الرّازيّ 12:213)

أبو عبيدة :مجازه إلاّ أجناس يعبدون اللّه و يعرفونه و ملك.(1:191)

الهرويّ: أي أصناف أمثالكم في الخلق و الموت و البعث.(1:88)

عبد الجبّار: ربّما قيل في قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أ ليس يوجب ذلك أنّ كلّ حيّ مكلّف؟

و جوابنا:أنّ المراد بقوله:أمم:جماعة،فكأنّه قال:

ما من دابّة و لا طائر إلاّ و هم جماعة من الجنس الواحد.

فأمّا أن يريد بذلك أنّهم مكلّفون فمحال،لأنّا إذا كنّا نعلم أنّ الصّبيّ قبل البلوغ لا يكلّف لفقد العقل فالبهائم و الطّير أولى بذلك.(130)

الطّوسيّ: أي هم أجناس و أصناف كلّ صنف يشتمل على العدد الكثير و الأنواع المختلفة،و أنّ اللّه خالقها و رازقها،و أنّه يعدل عليها فيما يفعله،كما خلقكم و رزقكم و عدل عليكم،و أنّ جميعها دالّة و شاهدة على مدبّرها و خالقها،و أنتم بعد ذلك تموتون و إلى ربّكم تحشرون.(4:136)

الزّمخشريّ: إن قلت:كيف قيل:إلاّ أمم،مع إفراد الدّابّة و الطّائر؟

قلت:لمّا كان قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ دالاّ على معنى الاستغراق،و مغنيا عن أن يقال:و ما من دوابّ و لا طير،حمل قوله:(الاّ امم)على المعنى.(2:17)

مثله الفخر الرّازيّ(12:213)،و النّيسابوريّ(7:

102)

البيضاويّ:جمع الأمم للحمل على المعنى.

(1:309)

أبو السّعود:أي طوائف متخالفة.و الجمع باعتبار

ص: 360

المعنى،كأنّه قيل:و ما من دوابّ و لا طير إلاّ أمم أمثالكم.(2:97)

رشيد رضا :الأمم:جمع أمّة،و هي الجيل أو الجنس من الأحياء.و هذا أحد معاني اللفظ.(7:391)

المصطفويّ:أي كلّ منها متشعّبة و متشكّلة و منقسمة إلى طوائف و أمم معيّنة.(1:127)

2- قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ... الأعراف:38

الطّبريّ: إنّما يعني بالأمم:الأحزاب،و أهل الملل الكافرة.(8:173)

الطّوسيّ: هذا حكاية عن قول اللّه تعالى للكفّار يوم القيامة و أمره لهم بالدّخول في جملة الأمم الّذين تبعوا من قبلهم من جملة الجنّ و الإنس،و هم في النّار.

و يجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعله إيّاهم في جملة أولئك في النّار،من غير أن يكون هناك قول،كما قال:

كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ البقرة:65،و المراد أنّه جعلهم كذلك.(4:426)

الزّمخشريّ: (فى امم)في موضع الحال،أي كائنين في جملة أمم و في غمارهم مصاحبين لهم،أي ادخلوا في النّار مع أمم قد خلت من قبلكم.(2:78)

الطّبرسيّ: أي في جملة أقوام و جماعات قد مضت.(2:417)

الفخر الرّازيّ: أمّا قوله تعالى: اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ ففيه وجهان:

الوجه الأوّل:التّقدير:ادخلوا في النّار مع أمم، و على هذا القول ففي الآية إضمار و مجاز.أمّا الإضمار فلأنّا أضمرنا فيها قولنا:في النّار.و أمّا المجاز،فلأنّا حملنا كلمة(فى)على«مع»لأنّا قلنا معنى قوله:(فى امم)،أي مع أمم.

و الوجه الثّاني:أن لا يلتزم الإضمار و لا يلتزم المجاز،و التّقدير:ادخلوا في أمم في النّار،و معنى الدّخول في الأمم الدّخول فيما بينهم.(14:73)

القرطبيّ:أي مع أمم،ف(في)بمعنى مع،و هذا لا يمتنع،لأنّ قولك:زيد في القوم،أي مع القوم.و قيل:

هي على بابها،أي ادخلوا في جملتهم.(7:204)

أبو حيّان: يتعلّق(فى امم)في الظّاهر ب(ادخلوا)، و المعنى في جملة أمم.و يحتمل أن يتعلّق بمحذوف فيكون في موضع الحال.(4:295)

الطّباطبائيّ: الخطاب من اللّه سبحانه دون الملائكة،و إن كانوا في وسائط في التّوفّي و غيره.

و المخاطبون بحسب سياق اللّفظ هم بعض الكفّار،و هم الّذين توفّيت قبلهم أمم من الجنّ و الإنس.إلاّ أنّ الخطاب في معنى ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم و لاحقوكم.و إنّما نظم الكلام هذا النّظم ليتخلّص به إلى ذكر التّخاصم الّذي يقع بين متقدّميهم و متأخّريهم،و قد قال تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ ص:64.

و في الآية دلالة على أنّ من الجنّ أمما يموتون بآجال خاصّة قبل انتهاء أمد الدّنيا،على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم.(8:112)

عبد الكريم الخطيب :إشارة إلى الرّحلة الجديدة الّتي سيأخذ فيها هؤلاء الظّالمون طريقهم إلى

ص: 361

جهنّم،فمنذ اللّحظة الّتي تنتزع فيها أرواحهم يدخلون في عالم جديد،و يأخذون مكانهم بين من سبقهم من الظّالمين،من الجنّ و الإنس.

و هذه الأمم من ظلمة الجنّ و الإنس،يعيش بعضها مع بعض في شقاق و اختلاف؛إذ لا تفاهم بينها،لما اشتملت عليه نفوسهم من أمراض خبيثة تزعج أصحابها،و تزعج من يتّصل بها.(4:397)

3- قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ هود:48

ابن كعب القرظيّ:دخل في ذلك السّلام كلّ مؤمن و مؤمنة إلى يوم القيامة،و دخل في ذلك العذاب و المتاع كلّ كافر و كافرة إلى يوم القيامة.

(الطّبريّ 12:55)

ابن جريج:يعني ممّن لم يولد،قد قضى البركات لمن سبق له في علم اللّه و قضائه السّعادة. وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ من سبق له في علم اللّه و قضائه الشّقاوة.

(الطّبري 12:55)

الفرّاء: يعني ذرّيّة من معه من أهل السّعادة،ثمّ قال:(و امم)من أهل الشّقاء(سنمتّعهم)،و لو كانت و امما سنمتّعهم نصبا،لجاز:[أن]توقع عليهم (سنمتّعهم)كما قال: فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ الأعراف:30.

الأخفش الأوسط: (و امم سنمتّعهم)رفع على الابتداء،نحو قولك:ضربت زيدا و عمرو لقيته،على الابتداء.(2:578)

الطّبريّ: قرون و جماعات.(12:55)

الطّوسيّ: الأمّة:الجماعة الكثيرة على ملّة واحدة متّفقة،لأنّه من:أمّه يؤمّه أمّا،إذا قصده.أو الاتّفاق في المنطق على نحو منطق الطّير و المأكل و المشرب و المنكح،حتّى قيل:إنّ الكلاب أمّة.

و قيل في معناه هنا قولان:

أحدهما:أنّه أراد الأمم الّذين كانوا معه في السّفينة، فأخرج اللّه أمما من نسلهم،و جعل فيهم البركة.

و الثّاني:قال قوم يعني بذلك الأمم من سائر الحيوان الّذين كانوا معه،لأنّ اللّه تعالى جعل فيها البركة،و تفضّل عليها بالسّلامة حتّى كان منها نسل العالم.

و قوله: وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ معناه أنّه يكون من نسلهم أمم سيمتّعهم اللّه في الدّنيا بضروب من النّعم،فيكفرون نعمه و يجحدون ربوبيّته؛فيهلكهم اللّه،ثمّ يمسّهم بعد ذلك عذاب مؤلم موجع.و إنّما رفع(امم)لأنّه استأنف الأخبار عنهم.

(5:57)

مثله الطّبرسيّ.(3:168)

الزّمخشريّ: يحتمل أن تكون(من)للبيان،فيرد الأمم الّذين كانوا معه في السّفينة،لأنّهم كانوا جماعات.

أو قيل لهم:أمم،لأنّ الأمم تتشعّب منهم،و أن تكون لابتداء الغاية،أي على أمم ناشئة ممّن معك،و هي الأمم إلى آخر الدّهر،و هو الوجه.و قوله:(و امم)رفع بالابتداء(و سنمتّعهم)صفة،و الخبر محذوف تقديره:

و ممّن معك أمم سنمتّعهم،و إنّما حذف،لأنّ قوله:(ممّن

ص: 362

معك)يدلّ عليه.

و المعنى أنّ السّلام منّا و البركات عليك و على أمم مؤمنين ينشئون ممّن معك،و ممّن معك أمم ممتّعون بالدّنيا منقلبون إلى النّار.و كان نوح عليه السّلام أبا الأنبياء و الخلق بعد الطّوفان منه و ممّن كان معه في السّفينة.

و قيل:المراد بالأمم الممتّعة قوم هود،و صالح، و لوط،و شعيب.(2:274)

نحوه النّيسابوريّ 12:33)،و البيضاويّ(1:470)

الفخر الرّازيّ:اختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال:

منهم من حمله على أولئك الأقوام الّذين نجوا معه و جعلهم أمما و جماعات،لأنّه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلاّ هم،فلهذا السّبب جعلهم أمما.

و منهم من قال:بل المراد ممّن معك نسلا و تولّدا، قالوا:و دليل ذلك أنّه ما كان معه إلاّ الّذين آمنوا،و قد حكم اللّه تعالى عليهم بالقلّة في قوله تعالى: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ هود:40.

و منهم من قال:المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الّذين سيولدون بعد ذلك،و المختار هو القول الثّاني.

و«من»في قوله: (مِمَّنْ مَعَكَ) لابتداء الغاية، و المعنى و على أمم ناشئة من الّذين معك.

و اعلم أنّه تعالى جعل تلك الأمم النّاشئة من الّذين معه،على قسمين:

أحدهما:الّذين عطفهم على نوح في وصول سلام اللّه و بركاته إليهم،و هم أهل الإيمان.

و الثّاني:(أمم)وصفهم بأنّه تعالى سيمتّعهم مدّة في الدّنيا ثمّ في الآخرة يمسّهم عذاب أليم.فحكم تعالى بأنّ الأمم النّاشئة من الّذين كانوا مع نوح عليه السّلام،لا بدّ و أن ينقسموا إلى مؤمن،و إلى كافر.(18:7)

أبو البقاء: (امم)معطوف على الضّمير في(اهبط) تقديره:اهبط أنت و أمم،و كان الفصل بينهما مغنيا عن التّأكيد(و سنمتّعهم)نعت ل(أمم).(أبو حيّان 5:231)

القرطبيّ: (وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ،ارتفع(و امم)على معنى:و تكون أمم.و أجاز الفرّاء في غير القراءة(و امما)، و تقديره:و نمتّع أمما.(9:48)

أبو حيّان:الظّاهر أنّ(من)لابتداء الغاية،أي ناشئة من الّذين معك،و هم الأمم المؤمنون إلى آخر الدّهر.

قال الزّمخشريّ: و يحتمل أن تكون للبيان،فتراد الأمم الّذين كانوا معه في السّفينة،لأنّهم كانوا جماعات.

و قيل لهم:أمم،لأنّ الأمم تشعّبت منهم.انتهى.

و هذا فيه بعد و تكلّف؛إذ يصير التّقدير:و على أمم هم من معك.و لو أريد هذا المعنى لأغنى عنه و على أمم معك أو على من معك،فكان يكون أخصر و أقرب إلى الفهم و أبعد عن اللّبس.و ارتفع(امم)على الابتداء.

[و بعد نقل قول الزّمخشريّ قال:]

و يجوز أن يكون(امم)مبتدأ و محذوف الصّفة، و هي المسوّغة لجواز الابتداء بالنّكرة،و التّقدير:و أمم منهم،أي ممّن معك،أي ناشئة ممّن معك،و(سنمتّعهم) هو الخبر،كما قالوا:السّمن منوان بدرهم،أي منوان منه فحذف«منه»و هو صفة لمنوان،و لذلك جاز الابتداء

ص: 363

بمنوان و هو نكرة.و يجوز أن يقدّر مبتدأ و لا يقدّر صفة الخبر(سنمتّعهم)و مسوّغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل.

و قال القرطبيّ: ارتفعت(و أمم)على معنى و يكون أمم.انتهى.

فإن كان أراد تفسير معنى فحسن،و إن أراد الإعراب ليس بجيّد،لأنّ هذا ليس من مواضع إضمار «يكون».

و قال الأخفش: هذا كما تقول:كلّمت زيدا و عمرو جالس.انتهى.

فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل،و احتمل أن تكون الواو للحال،و تكون حالا مقدّرة،لأنّه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.[و بعد نقل قول أبي البقاء قال:]

و هذا التّقدير و المعنى لا يصلحان،لأنّ الّذين كانوا مع نوح في السّفينة إنّما كانوا مؤمنين،لقوله: وَ مَنْ آمَنَ هود:40،و لم يكونوا قسمين:كفّارا،و مؤمنين، فيكون الكفّار مأمورين بالهبوط مع نوح،إلاّ أن قدّر أنّ من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط،و أخبر عنهم بالحالة الّتي يؤلون إليها فيمكن على بعد.و الّذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ«من معه»ينشأ منهم مؤمنون و كافرون.(5:231)

البروسويّ: المراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممّن معه من أولاده إلى يوم القيامة،فهو من إطلاق العامّ و إرادة الخاصّ.هذا على رواية من قال:كان معه في السّفينة أولاده و غيرهم-مع الاختلاف في العدد- فمات غير الأولاد،أي بعد الهبوط و لم ينسل و هو الأرجح.

و أمّا على رواية من قال:ما كان معه في السّفينة إلاّ أولاده و نساؤهم،على أن يكون المجموع ثمانية، فلا يحتاج إلى التّأويل.(4:141)

الآلوسيّ: و سمّوا أمما لأنّهم أمم متحزّبة و جماعات متفرّقة أو لأنّ جميع الأمم إنّما تشعّبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعض الأمم المتشعّبة منهم و هي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.(12:74)

الطّباطبائيّ: تنكير(امم)يدلّ على تبعيضهم،لأنّ من الأمم من يذكره تعالى بعد في قوله: وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ [إلى أن قال:]

و هذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأوّل موجّه إلى نوح عليه السّلام و من معه من المؤمنين، -و إليهم ينتهي نسل البشر اليوم-متعلّق بهم و بمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة،و هو يتضمّن تقدير حياتهم الأرضيّة،و الإذن في نزولهم إليها و استقرارهم فيها و إيوائهم إيّاها.

و قد قسّم اللّه هؤلاء المأذون لهم قسمين،فعبّر عن إذنه لطائفة منهم بالسّلام و البركات،و هم نوح عليه السّلام و أمم ممّن معه،و لطائفة أخرى بالتّمتيع،و عقّب التّمتيع بمسّ العذاب لهم كما أنّ كلمتي«السّلام»و«البركات» لا تخلوان من بشرى الخير و السّعادة بالنّسبة إلى من تعلّقتا به.

ص: 364

فقد بان من ذلك أنّ الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام و بركات و تمتيع موجّه إلى عامّة البشر،من حين هبوط أصحاب السّفينة إلى يوم القيامة،و وزانه وزان خطاب الهبوط الموجّه إلى آدم و زوجته عليهما السّلام.و في هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضيّة و وعد لمن أطاع اللّه سبحانه و وعيد لمن عصاه،كما أنّ في ذلك الخطاب طابق النّعل بالنّعل.

و ظهر بذلك أنّ المراد بقوله: وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ الأمم الصّالحون من أصحاب السّفينة و من سيظهر من نسلهم من الصّالحين.و الظّاهر على هذا أن يكون(من)في قوله: (مِمَّنْ مَعَكَ) ابتدائيّة لا بيانيّة، و المعنى و على أمم يبتدئ تكوّنهم ممّن معك،و هم أصحاب السّفينة و الصّالحون من نسلهم.

و ظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السّفينة كلّهم سعداء،ناجين،و الاعتبار يساعد ذلك فإنّهم قد محّصوا بالبلاء تمحيصا و آثروا ما عند اللّه من زلفى.و قد صدّق اللّه سبحانه إيمانهم مرّتين في أثناء القصّة؛حيث قال عزّ من قائل: إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ هود:36،و قال: وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ هود:40.

و قوله: وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ كأنّه مبتدأ لخبر محذوف،و التّقدير:و ممّن معك أمم،أو و هناك أمم سنمتّعهم.

و قد أخرجهم اللّه سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل:و متاع لأمم آخرين سيعذّبون طردا لهم من موقف الكرامة،فأخبر أنّ هناك أمما آخرين سنمتّعهم ثمّ نعذّبهم،و هم غير مأذون لهم في التّصرّف في أمتعة الحياة،إذن كرامة و زلفى.

(10:239)

عبد الكريم الخطيب :في قوله تعالى: وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى أنّ مواليد هؤلاء الّذين كانوا مع نوح ستنشأ أمم كثيرة،و أنّ هذه الأمم الّتي ستنشأ من ذرّيّة هؤلاء القوم المؤمنين، لن يكونوا على شاكلة واحدة،بل سيكون منهم المؤمنون الّذين يمسّهم السّلام،و تحفّهم البركة من اللّه، و هم أمم؛و يكون منهم الّذين يتخلّون عن نصيبهم من السّلام،و يتعرّون عن حظّهم من البركة،فيكفرون باللّه، فيمتّعهم اللّه في الدّنيا هذا المتاع القليل،ثمّ يلقون العذاب الأليم في الآخرة،جزاء كفرهم باللّه،و هم أمم أيضا.[إلى أن قال:]

هذا،و من إعجاز الصّياغة في النّظم القرآنيّ،أنّك تقرأ قوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ فتجد هذا النّغم الموسيقي الهادر،في وقار و سكينة و جلال،أشبه بأنفاس الموج،و قد أخذت تهدأ بعد انحسار العاصفة.

ففي الآية الكريمة سبعة عشر ميما،موزّعة بين حروفها،هذا التّوزيع الّذي يقيم منها ذلك النّغم الرّائع، الّذي يصحب السّفينة في دعوتها إلى موطن السّلامة و الأمن،كأنّه أهازيج النّصر،ينشدها العائدون من أرض المعركة،بعد قتال ضارّ مرير.6:1149)

ص: 365

4- وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ... فاطر:42

الطّبريّ: ليكوننّ أسلك لطريق الحقّ،و أشدّ قبولا لما يأتيهم به النّذير من عند اللّه،من إحدى الأمم الّتي خلت من قبلهم.(22:145)

الزّجّاج: أي من اليهود و النّصارى.(4:274)

الطّوسيّ: الماضية،و أسبق إلى اتّباعه.(8:438)

الزّمخشري: في(احدى الامم)وجهان:

أحدهما:من بعض الأمم،و من واحدة من الأمم، من اليهود و النّصارى و غيرهم.

و الثّاني:من الأمّة الّتي يقال لها:(احدى الامم) تفضيلا لها على غيرها في الهدى و الاستقامة.

(3:312)

الطّبرسيّ: من إحدى الأمم الماضية،يعني اليهود و النّصارى و الصّابئين.(4:412)

الفخر الرّازيّ: في(الأمم)وجهان:

أحدهما:أن يكون المراد أي أهدى من أيّ إحدى الأمم،و فيه تعريض.

و ثانيهما:أن يكون المراد تعريف العهد،أي أمّة محمّد و موسى و عيسى و من كان في زمانهم.

(26:34)

القرطبيّ: يعني ممّن كذّب الرّسل من أهل الكتاب.

و كانت العرب تتمنّى أن يكون منهم رسول كما كانت الرّسل من بني إسرائيل،فلمّا جاءهم ما تمنّوه، و هو النّذير من أنفسهم،نفروا عنه،و لم يؤمنوا به.

(14:358)

هناك أبحاث أخرى سبقت في(إحدى)،فراجع.

الامّىّ

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ... الأعراف:157

ابن عبّاس: هو نبيّكم كان أمّيّا لا يكتب و لا يقرأ و لا يحسب.(البغويّ 2:244)

الإمام الباقر عليه السّلام: (الامّىّ):المنسوب إلى أمّ القرى،و هي مكّة.(الكاشانيّ 2:242)

الإمام الجواد عليه السّلام: إنّه سئل عن ذلك فقال:

ما يقول النّاس؟قيل:يزعمون أنّه إنّما سمّي الأمّيّ،لأنّه لم يحسن أن يكتب،فقال:كذبوا-عليهم لعنة اللّه-أنّى ذلك،و اللّه يقول: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ... الجمعة:2،فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن؟!و اللّه لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرأ و يكتب باثنين و سبعين،أو قال:بثلاث و سبعين لسانا،و إنّما سمّي الأمّيّ لأنّه كان من أهل مكّة،و مكّة من أمّهات القرى؛و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها الشّورى:7.(الكاشانيّ 2:242)

الزّجّاج: (الامّىّ)هو على خلقة الأمّة،لم يتعلّم الكتاب،فهو على جبلّته.(2:381)

السّجستانيّ: هو منسوب إلى الأمّة الأمّيّة،الّتي هي على أصل ولادتها،لم تتعلّم الكتابة و لا قراءتها.(القرطبيّ 7:298)

ص: 366

الطّوسيّ: يعني محمّدا صلّى اللّه عليه و آله الأمّيّ الّذي لا يكتب.

و قيل:إنّه منسوب إلى الأمّة،و المعنى أنّه على جبلّة الأمّة قبل استفادة الكتابة.

و قيل:إنّه منسوب إلى الأمّ،و معناه أنّه على ما ولدته أمّه قبل تعلّم الكتابة.

قيل:إنّه نسب إلى العرب،لأنّها لم تكن تحسن الكتابة.(4:593)

مثله الطّبرسيّ.(2:487)

البغويّ: هو منسوب إلى الأمّ،أي هو على ما ولدته أمّه،و قيل:هو منسوب إلى أمّته.أصله أمّتي،و سقطت التّاء في النّسبة،كما سقطت في المكّيّ و المدنيّ.

(2:244)

الفخر الرّازيّ: كونه أمّيّا،قال الزّجّاج:معنى الأمّيّ الّذي هو على صفة أمّة العرب.قال عليه الصّلاة و السّلام:«إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب و لا نحسب»فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون و لا يقرءون،و النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام كان كذلك؛فلهذا السّبب وصفه بكونه أمّيّا.

قال أهل التّحقيق:و كونه أمّيّا بهذا التّفسير،كان من جملة معجزاته و بيانه من وجوه:

الأوّل:أنّه عليه الصّلاة و السّلام كان يقرأ عليهم كتاب اللّه تعالى منظوما مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه و لا تغيير كلماته.و الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثمّ أعادها فإنّه لا بدّ و أن يزيد فيها و أن ينقص عنها بالقليل و الكثير،ثمّ إنّه عليه الصّلاة و السّلام مع أنّه ما كان يكتب و ما كان يقرأ يتلو كتاب اللّه من غير زيادة و لا نقصان و لا تغيير؛فكان ذلك من المعجزات.و إليه الإشارة بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى الأعلى:

6.

و الثّاني:أنّه لو كان يحسن الخطّ و القراءة لصار متّهما في أنّه ربّما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة،فلمّا أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلّم و لا مطالعة،كان ذلك من المعجزات.و هذا هو المراد من قوله: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ العنكبوت:48.

و الثّالث:أنّ تعلّم الخطّ شيء سهل فإنّ أقلّ النّاس ذكاء و فطنة يتعلّمون الخطّ بأدنى سعي،فعدم تعلّمه يدلّ على نقصان عظيم في الفهم،ثمّ إنّه تعالى آتاه علوم الأوّلين و الآخرين،و أعطاه من العلوم و الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر،و مع تلك القوّة العظيمة في العقل و الفهم جعله بحيث لم يتعلّم الخطّ الّذي يسهل تعلّمه على أقلّ الخلق عقلا و فهما،فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادّتين جاريا مجرى الجمع بين الضّدّين؛و ذلك من الأمور الخارقة للعادة،و جار مجرى المعجزات.(15:23)

البيضاويّ: (الامّىّ):الّذي لا يكتب و لا يقرأ، وصفه به تنبيها على أنّ كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته.(1:372)

أبو حيّان: روي عن يعقوب و غيره أنّه قرأ (الأمّيّ)بفتح الهمزة،و خرج على أنّه من تغيير النّسب، و الأصل الضّمّ كما قيل في النّسب إلى أميّة:أمويّ بالفتح،أو على أنّه نسب إلى المصدر من«أمّ»و معناه

ص: 367

المقصود،أي لأنّ هذا النّبيّ مقصد للنّاس و موضع أمّ.

قال أبو الفضل الرّازيّ:و ذلك مكّة فهو منسوب إليها،لكنّها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع.(4:403)

الآلوسيّ: (الامّىّ)أي الّذي لا يكتب و لا يقرأ.

[إلى أن قال:]

و اختلف في أنّه عليه الصّلاة و السّلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟فقيل:نعم صدرت عنه عام الحديبيّة فكتب الصّلح،و هي معجزة أيضا له.و ظاهر الحديث يقتضيه.و قيل:لم يصدر عنه أصلا،و إنّما أسندت إليه في الحديث مجازا.

و جاء عن بعض أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم أنّه كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها،و لم أر لذلك سندا يعوّل عليه،و هو صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم فوق ذلك.

نعم أخرج أبو الشّيخ من طريق مجاهد قال:حدّثني عون بن عبد اللّه بن عتبة عن أبيه قال:«ما مات النّبيّ صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم حتّى قرأ و كتب»، فذكرت هذا الحديث للشّعبيّ،فقال:«صدق،سمعت أصحابنا يقولون ذلك».

و قيل:(الأمّىّ)نسبة إلى«الأمّ»بفتح الهمزة؛بمعنى القصد لأنّه المقصود،و ضمّ الهمزة من تغيير النّسب.

و يؤيّده قراءة يعقوب(الأمّىّ)بالفتح،و إن احتملت أن تكون من تغيير النّسب أيضا.(9:79)

(الأمّىّ)نسبة إلى الأمّ،لكن على حدّ أحمريّ.

و قيل:للنّبيّ صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم ذلك لأنّه أمّ الموجودات و أصل المكنونات.و اختير هذا اللّفظ لما فيه من الإشارة إلى الرّحمة و الشّفقة،و هو الّذي جاء رحمة للعالمين،و إنّه عليه الصّلاة و السّلام لأشفق على الخلق من الأمّ بولدها؛إذ له صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم الحظّ الأوفر من التّخلّق بأخلاق اللّه تعالى و هو سبحانه أرحم الرّاحمين.(9:87)

القاسميّ: (الأمّىّ)،أي الّذي لم يحصل علما من بشر.(7:2869)

رشيد رضا :(الامّىّ)نسبة إلى الأمّ،و المراد به الّذي لا يقرأ و لا يكتب.و كان أهل الكتاب يسمّون العرب بالأمّيّين،و لعلّه كان لقبا لأهل الحجاز و من جاورهم دون أهل اليمن،لكن ظاهر قوله تعالى في الخونة من اليهود: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران:75،العموم و ليس بنصّ فيه.و قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ و لم ينقل أنّ اللّه تعالى بعث نبيّا أمّيّا غير نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم،فهو وصف خاصّ لا يشارك محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فيه أحد من النّبيّين.

و الأمّيّة آية من أكبر آيات نبوّته فإنّه جاء بعد النّبوّة بأعلى العلوم النّافعة،و هي ما يصلح ما فسد من عقائد البشر و أخلاقهم و آدابهم و أعمالهم و أحكامهم و عمل بها،فكان لها من التّأثير في العالم ما لم يكن و لن يكون لغيره من خلق اللّه.و تعريف الرّسول و النّبيّ الموصوف بالأمّيّة كلاهما للعهد،كما يعلم ممّا سنبيّنه من بشارات الأنبياء بنبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم.(9:224)

حسنين محمّد مخلوف: الّذي لا يكتب و لا يقرأ، نسبة إلى أمّة العرب،لأنّ الغالب عليهم ذلك؛أو إلى

ص: 368

الأمّ،كأنّ الّذي لا يكتب و لا يقرأ باق على حالته الّتي ولد عليها.

و في وصفه صلّى اللّه عليه و سلّم بالأمّيّة إشارة إلى أنّ كمال علمه مع ذلك إحدى معجزاته،فإنّه عليه الصّلاة و السّلام لم يتّفق له مطالعة كتاب،و لا مصاحبة معلّم،لأنّ مكّة لم تكن بلدة العلماء،و لا غاب عنها غيبة طويلة يمكن التّعلّم فيها،و مع ذلك فتح اللّه عليه أبواب العلم،و علّمه ما لم يكن يعلم من سائر العلوم و الفنون الّتي اشتملت عليها أحاديثه،و تعلّمها النّاس منه،و كانوا بها أئمّة العلماء، و قادة المفكّرين.

فما من شيء يحتاج إليه الفرد أو الأمّة في الحياتين إلاّ للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم هدي فيه،و قول سديد و بيان شاف، فأكرم بأمّيّة تضاءل عندها علم العلماء في كلّ العصور، و أعظم بها و هي الهدى و الأسوة و النّور؟(1:282)

خليل ياسين: هل يستفاد من هذه الآية أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب أم لا؟

لا يستفاد ذلك،بل معنى الأمّي أنّه منسوب إلى أمّ القرى،و هي مكّة،و قد روي ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام،و قد شرحنا هذا مفصّلا في كتابنا«محمّد عند علماء الغرب»صفحة«71»و هناك بحث شيّق حريّ بالمراجعة.(1:244)

المصطفويّ: (الأمّىّ):من ليس له من الفضل و العلم و التّربية و النّظر إلاّ بمقدار ما يؤخذ بالطّبيعة من الأمّ،فبرنامج حياته طبيعيّ،ليس في قوله و عمله و فكره تصنّع و لا حيلة و لا تكلّف و لا نظر خاصّ.

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي ليس له فضل خارجيّ و لون آخر و علوم مكتسبة غير مقام النّبوّة و الرّسالة الإلهيّة،فجميع الحيثيّات المادّيّة ملغاة له و عنده.(1:125)

الشّهيد المطهّريّ: إنّ إحدى السّمات الشّاخصة في حياة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي أنّه لم يدرس كتابا،و لم يأخذ عن أحد،و ما كان يحسن الكتابة،أو يعهد الكتاب، و ما ادّعى أحد من مؤرّخي المسلمين و غيرهم بأنّه تعلّم القراءة و الكتابة في طفولته أو شبابه أو كهولته و شيخوخته؛إذ لم يكن العرب يكترثون بهما.

و قد اعترف بضعة من المستشرقين بهذه الحقيقة، مثل:كارليل،و ول دورانت،و جان ديون بورت، و كونستن و رغيل غيورغيو،و غوستاف لوبون.و ليس ذكر أقوالهم هنا شاهدا على ما نقول؛إذ شهادة المؤرّخين المسلمين تغني عن قولهم،بل دأب هؤلاء أنّهم لو يعثرون على قشّة حول ذلك،لتشبّثوا بها،و سلّطوا الأضواء عليها،كما فعلوا ذلك في موضوع لقائه صلّى اللّه عليه و آله لبحيرى الرّاهب.

و لتوضيح هذا الموضوع ينبغي بحثه خلال حقبتين:

1-عصر ما قبل البعثة.

2-عصر البعثة.

اتّفق المؤالف و المخالف على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان يجيد القراءة و الكتابة،و قلّ من كان يجيدهما آنذاك في شبه الجزيرة العربيّة.إلاّ أنّه اختلف في عصر البعثة حول أمرين جديرين بالبحث:1-الكتابة،2-القراءة، و لا سيّما في المدينة.

يستفاد من القرائن المتوفّرة أنّه ما كان يحسن

ص: 369

القراءة و الكتابة،إلاّ أنّ علماء الإسلام-شيعة و سنّة- ليسوا على وفاق في هذا المجال؛إذ استبعد بعض أنّ الملك لم يعلّمه القراءة و الكتابة،و كان قد أطلعه على كلّ شيء.

و رويت بضع روايات بطرق شيعيّة تنبئ بأنّه كان في عصر البعثة يقرأ،و لكنّه ما كان يكتب،منها ما رواه الشّيخ الصّدوق في كتاب«علل الشّرائع»،و هي تدلّ على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ كتاب عمّه العبّاس،حين أخبره فيه بمسير أبي سفيان إلى«أحد».و لكن جاء في سيرة «زيني دحلان»أنّه دفع الكتاب إلى أبيّ بن كعب ليقرأه.

و يرى بعض كالسّيّد المرتضى أنّه كان في عصر البعثة يقرأ و يكتب،و استدلّ بحديث«ايتوني بقلم و قرطاس».و هذا ليس بحجّة،لأنّه لا يصرّح بكونه يريد الكتابة بنفسه،بل يريد أن يملي على رءوس الأشهاد،ثمّ يختمه بختمه.

ثمّ إنّ بعضا طلب منه أن يكتب له حديثا،فلم يذكر أحد أنّه كتبه بنفسه،بل كان كتّاب الوحي أو الرّسائل يكتبونه،ثمّ يختمه بختمه.و لو بقي من خطّه شيء، لتعهّده المسلمون،و اعتنوا به،كما احتفظوا بخطوط أهل البيت عليهم السّلام،و اعتنوا بها،كما قال ابن النّديم.و على هذا، فإنّ دعوى كتابة الرّسول في عصر البعثة باطلة.

بيد أنّه لا يمكن نفي قراءته بتاتا،و إن كنّا نعجز عن إيراد أدلّة كافية لذلك.و من الأدلّة على أمّيّته صلح الحديبيّة؛إذ كتب عليّ عليه السّلام أوّل ذي بدء«محمّد رسول اللّه»،فاعترض المشركون عليه،و عندئذ أمر عليّا كاتب وثيقة الصّلح بأن يمحو«رسول اللّه»،و لكنّ عليّا أبى ذلك؛إذ لم تطاوعه نفسه على حذف«رسول اللّه»من اسم محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و استنادا إلى بعض الرّوايات،أنّه أمره أن يريه «رسول اللّه»،فلمّا أراه إيّاه،محاه بيده،و كتب عليّ مكانه«ابن عبد اللّه».و جاء في بعض المصادر أنّ النّبيّ كتب«ابن عبد اللّه»بنفسه،و هذا يعضد حجّة من يقول:

إنّ النّبيّ يمكنه أن يكتب متى شاء،و إن كان الأمر كما يقولون،فلا شكّ أنّه يعتبر أمرا استثنائيّا.

و وردت حكاية أخرى في«أسد الغابة»تحكي أنّ قبيلة ثقيف كتبت عهدا بخطّ خالد بن سعيد بن العاص، و عرضه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و ممّا كتبه أنّ«الرّبا و الزّنى مباحان لهم»فقال له النّبيّ:ضع يدي عليهما،فمحاهما و تلا عليهم آيات الرّبا و الزّنى.

و ممّا يثير العجب أنّ الدّكتور السّيّد عبد اللّطيف، رئيس معهد البحوث الثّقافيّة في الهند و الشّرق الأدنى، و رئيس أكاديميّة البحوث الإسلاميّة في حيدرآباد،ذكر في أحد المؤتمرات أنّ النّبيّ كان قبل البعثة يحسن القراءة و الكتابة،و استشهد بأدلّة واهية،منها:

1-إنّ منشأ القول بأنّه لم يقرأ و يكتب خطأ،وقع فيه المفسّرون عند تفسير لفظ«الأمّي»الّذي ورد في الآيتين(156)و(157)من سورة الأعراف.

2-وردت آيات أخرى في القرآن تنطق بصراحة بأنّه كان يقرأ و يكتب.

3-تدلّ بعض الأحاديث المعتبرة و النّصوص التّاريخيّة صراحة على إتقانه القراءة و الكتابة.

و لكنّ هذه حجّة داحضة،مدحوضة بما يلي:

ص: 370

1-إنّ تاريخ العرب عامّة و مكّة خاصّة يدلّ بما لا مرية فيه على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند فجر الإسلام لم يتعلّم قطّ،كما أوضحنا ذلك آنفا.

2-وردت آية في القرآن،لا تقلّ صراحة عن آيتي الأعراف،و هي قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ العنكبوت:48،و قد فسّرها المفسّرون قاطبة بهذا المعنى.بيد أنّ الدّكتور عبد اللّطيف يقول:إنّ هذا التّفسير خطأ أيضا،لأنّ لفظ«كتاب»إشارة إلى الكتب المقدّسة الّتي جهلها النّبيّ،لأنّها لم تكن باللّغة العربيّة.

و هذه الدّعوى سقيمة،لأنّ لفظ«الكتاب»يعني مطلق الكتابة في لغة العرب،سواء أريد به رسالة أم قرطاس مقدّس أو غير مقدّس،و قد جاء في القرآن بهذا المعنى الوسيع مرّات عديدة،مثل: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ النّمل:29، 30،و وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ النّور:33.

و جاء أحيانا في مورد ألواح الغيب،مثل:

وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ الأنعام:59، و أضيف لفظ«أهل»إلى«الكتاب»أحيانا أخرى،و أريد به اليهود و النّصارى،و أريد ب«الكتاب»التّوراة و الإنجيل.

إضافة إلى ذلك فإنّ عبارة لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ قرينة تنطق بأنّ المراد هو أنّك ما قرأت و ما كتبت،و لو كان المراد بها أنّك ما قرأت الكتاب المقدّس و ما كتبته، فالمعنى ليس بصواب؛إذ كان هذا كافيا لاتّهامه بقراءة تلك الكتب فقط،أمّا كتابتها فليست ذا بال.

غير أنّ لفظ تَتْلُوا في الآية من التّلاوة،و هو كما قال الرّاغب في«المفردات»:مختصّ باتّباع كتب اللّه المنزّلة،خلافا للفظ«القراءة»،فهو أعمّ منه.و أمّا سرّ استعمال(تتلوا)،فهو أنّ البحث هنا حول القرآن،و جاء التّلاوة بدل القراءة مشاكلة للقرآن.

و هناك آية أخرى تشعر بأمّيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و هي قوله: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ الشّورى:52،و قد غفل الدّكتور عبد اللّطيف عن ذكرها،و قال المفسّرون بأنّ المراد من هذه الآية هو القرآن.

3-لم يكن المفسّرون على وفاق قطّ حول مفهوم «الأمّيّ»،إلاّ أنّهم كانوا متّفقين دائما على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما درس كتابا،و ما تعلّم قبل البعثة،و هذا يصلح أن يكون دليلا على أنّ منشأ آرائهم-كما قال الدّكتور عبد اللّطيف-لم يكن لفظ«الأمّيّ».

و لكن من هو الأمّيّ؟أ هو الّذي لا يقرأ و لا يكتب،أم هو المنسوب إلى أمّ القرى؟

إنّ الاحتمال الثّاني رغم كونه مدعوما بأحاديث عن طريق الشّيعة،إلاّ أنّه مردود بما يلي:

1-إنّ«أمّ القرى»ليس اسما يختصّ بمكّة فحسب،بل صفة عامّة تعني مركز القرية،بدليل قوله:

وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً القصص:59.

2-أطلق لفظ«الأمّيّ»في مواضع على أناس ما كانوا من أهل مكّة،كقوله: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ آل عمران:20،كما أطلق «الأمّيّ»أيضا على عوامّ اليهود: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ البقرة:78.

ص: 371

2-أطلق لفظ«الأمّيّ»في مواضع على أناس ما كانوا من أهل مكّة،كقوله: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ آل عمران:20،كما أطلق «الأمّيّ»أيضا على عوامّ اليهود: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ البقرة:78.

3-إنّ النّسبة إلى«أمّ القرى»قياسا هي«أمّ القرائيّ»،مثل:تميميّ،نسبة إلى بني تميم،و أمثال ذلك.

و هناك احتمال ثالث في معنى«الأمّيّ»،و هو من لا يتبع كتابا سماويّا،كما قال بعض المفسّرين و الصّحابة.و هو مردود أيضا،لأنّ هذا المعنى لا يفترق عن المعنى الأوّل،أي لا يطلق لفظ«الأمّيّ»على من لا يتبع كتابا سماويّا،و إن كان متعلّما،و يتقن القراءة و الكتابة،بل أطلق هذا اللّفظ على مشركي العرب، لأنّهم كانوا لا يحسنون القراءة و الكتابة،و ليس أنّهم يجهلون أحد الكتب السّماويّة،و لهذا أطلق لفظ «الأمّيّين»على المشركين بصيغة الجمع.

بيد أنّه جاء هناك مفردا،و المعنيّ به النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و لم يقل أحد من المفسّرين:بأنّ المراد به أنّه ما كان يتبع أحد الكتب السّماويّة،بل ذكروا احتمالين لذلك،الأوّل:

عدم إلمامه بالقراءة و الكتابة،و الثّاني:كونه من أهل مكّة،و هو مردود كما بيّنّا.فالنّبيّ الأمّيّ إذا كان يجيد القراءة،إلاّ أنّه لم يكن متعلّما،و ما كان يكتب قطّ.

و يرى الدّكتور عبد اللّطيف أنّ المفسّرين تشبّثوا بمعنى واحد للفظ«الأمّيّ»رغم اختلاف معانيه،و هو الوليد.و لكن لم يذكر أحد أنّ«الأمّيّ»مشتقّ من الوليد؛ إذ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«نحن أمّة أمّيّة،لا نقرأ و لا نكتب»، و لنعم ما قال الشّاعر الإيرانيّ النّظاميّ:ما ترجمته:

ضرع الحجا متطامنا لمحمّد

و لعالما جبروته لمحمّد

حصر اليراع مفوّه و لطالما

لعلوم آدم و المسيح يمهّد

متعهّد متقوّم متقسّط

هو آخر النّبيّين مجدّد

و استدلّ الدّكتور عبد اللّطيف لإثبات مدّعاه بقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ آل عمران:164،و قال:إنّ واجب النّبيّ تعليم القرآن، و أدنى ما يجدر عمله لتعليم كتاب هو أنّ المعلّم يقدر أن يكتب،أو يقرأ الكتابة.

و هذا استدلال عجيب،إذ أقصى ما يستدلّ به-كما قال السّيّد المرتضى و مفسّرون آخرون-أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ و يكتب في عصر البعثة،و لكنّ الدّكتور عبد اللّطيف يريد أن يثبت خلاف ما اتّفق عليه المسلمون.

وهب أنّ الآية تثبت ذلك،فإنّها تخصّ عصر البعثة.ثمّ إنّ إتقان الكتابة يلزم من لا يسدّد بإلهام من اللّه،و يفتقر إلى القلم و القرطاس،و لم يكن النّبيّ كذلك.و أنّ سبب تسمية حكماء المشّائين بهذا الاسم هو أنّ المعلّم كان يلقي العلم أثناء المشي،دون الاعتماد على كتاب.

و قد أكّد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله تعليم الكتابة للصّبيان،كما أكّد اللّه تعالى كتابة الدّين في الآية(282)من سورة البقرة، و شجّع على الكتابة بالقلم في بداية الوحي في سورة القلم.

ص: 372

و قال الدّكتور عبد اللّطيف:إنّ من يرغّب في الكتابة بإلحاح و إصرار لا يمكن أن يكون جاهلا بها.

و الجواب:أنّه لم يكن بحاجة إلى القراءة و الكتابة، و لكنّ سائر النّاس محتاجون إليهما،و عليه فإنّ قوله بأنّ النّبيّ كان سبّاقا في تنفيذ جميع الأوامر الصّادرة عن اللّه،فكيف تلقّى هذا الأمر و لم يعمل به؟لا يعتدّ به،لأنّه ينبغي أن نقول:إنّ الطّبيب الّذي يصف الدّواء للمريض ينبغي له أن يتعاطاه قبل المريض،إلاّ أنّه يتعاطاه إذا احتاج إليه،و إلاّ فلا يقدم على ذلك.

و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوّل من يمتثل الأوامر الأخلاقيّة، إلاّ أنّ موضوع الكتابة ليس كذلك؛إذ لم يكن بحاجة إليها،و كان الوحي معلّمه،و التّدبّر في أسرار الخليقة دليله،و هذا بذاته معجزته.(النّبيّ الأمّيّ:5-70)

امّيّون

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ...

البقرة:78

ابن عبّاس: الأمّيّون:قوم لم يصدّقوا رسولا أرسله اللّه،و لا كتابا أنزله اللّه،فكتبوا كتابا بأيديهم،ثمّ قالوا لقوم سفلة جهّال:هذا من عند اللّه.و قد أخبر أنّهم يكتبون بأيديهم،ثمّ سمّاهم أمّيّين لجحودهم كتب اللّه و رسله.(الطّبريّ 1:373)

أي غير عالمين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا و تلاوة لا رعاية و دراية و فهما لما فيه.

مثله قتادة.(الطّبرسيّ 1:145)

النّخعيّ: منهم من لا يحسن أن يكتب.

(الطّبريّ 1:373)

مجاهد :الأمّيّون الّذين وصفهم اللّه بما وصفهم به في هذه الآية أنّهم لا يفقهون من الكتاب الّذي أنزله اللّه على موسى شيئا،و لكنّهم يتخرّصون الكذب،و يتقوّلون الأباطيل كذبا و زورا.(1:81)

أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، و كانوا يتكلّمون بالظّنّ بغير ما في كتاب اللّه،يقولون:هو من الكتاب،يتمنّونها.(1:81)

ابن زيد :أمّيّون لا يقرءون الكتاب من اليهود.(الطّبريّ 1:373)

أبو عبيدة :الأمّيّون هم الأمم الّذين لم ينزل عليهم كتاب.(الطّبرسيّ 1:145)

الطّبريّ: يعني بالأمّيّين الّذين لا يكتبون و لا يقرءون،و منه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب و لا نحسب»،يقال منه:رجل أمّيّ،أي بيّن الأمّيّة.[و بعد نقل قول ابن عبّاس قال:]

و هذا التّأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم؛و ذلك أنّ الأمّيّ عند العرب هو الّذي لا يكتب.

و أرى أنّه قيل للأمّيّ:أمّيّ نسبة له بأنّه لا يكتب إلى أمّه،لأنّ الكتاب كان في الرّجال دون النّساء،فنسب من لا يكتب و لا يخطّ من الرّجال إلى أمّه في جهله بالكتابة دون أبيه،كما ذكرنا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.[آنفا]،و كما قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ

ص: 373

الجمعة:2،فإذا كان معنى الأمّيّ في كلام العرب ما وصفنا،فالّذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النّخعيّ من أنّ معنى قوله: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ و منهم من لا يحسن أن يكتب.(1:373)

الطّوسيّ: قال أكثر المفسّرين:سمّوا أمّيّين،لأنّهم لا يحسنون الكتابة،و لا القراءة،يقال منه:رجل أمّيّ بيّن الأمّيّة.و منه قوله عليه السّلام:«إنّا أمّة أمّيّون لا يكتب و لا يحسب».

و إنّما سمّي من لا يحسن الكتابة أمّيّا،لأحد أمور:

قال قوم:هو مأخوذ من الأمّة،أي هو على أصل ما عليه الأمّة من أنّه لا يكتب و لا يستفيد الكتابة بعد؛إذ لم يكن يكتب.

الثّاني:إنّ الأمّة الخلقة،فسمّي أمّيّا لأنّه باق على خلقته.

و الثّالث:إنّه مأخوذ من«الأمّ»و إنّما أخذ منه،لأحد أمرين:

أحدهما:لأنّه على ما ولدته أمّه من أنّه لا يكتب.

و الثّاني:نسب إلى أمّه،لأنّ الكتابة كانت في الرّجال دون النّساء،فنسب من لا يكتب من الرّجال إلى أمّه،لجهلها دون أبيه.(1:317)

ابن عطيّة: (امّيّون)هنا عبارة عن جهلهم بالتّوراة.

قال أبو العالية و مجاهد و غيرهما:المعنى و من هؤلاء اليهود المذكورين.فالآية منبّهة على عامّتهم و أتباعهم، أي أنّهم ممّا لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضّلال.

و قيل:المراد هنا بالأمّيّين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أمّيّين.

و قال عكرمة و الضّحّاك:هم في الآية نصارى العرب.و قيل عن عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه أنّه قال:هم المجوس.و الضّمير في(منهم)على هذه الأقوال هو للكفّار أجمعين.و قول أبي العالية،و مجاهد أوجه هذه الأقوال.

و قرأ أبو حيوة،و ابن أبي عبلة(اميّون)بتخفيف الميم.

و الأمّيّ في اللّغة:الّذي لا يكتب و لا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأمّ،إمّا لأنّه بحال أمّه من عدم الكتاب لا بحال أبيه؛إذ النّساء ليس من شغلهنّ الكتاب،قاله الطّبريّ.و إمّا لأنّه بحال ولدته أمّه فيها لم ينتقل عنها.

و قيل:نسب إلى الأمّة،و هي القامة و الخلقة،كأنّه ليس له من الآدميّين إلاّ ذلك.

و قيل:نسب إلى الأمّة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف،فإنّها لا تقرأ و لا تكتب.و لذلك قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:

«إنّا أمّة أمّيّة لا نحسب و لا نكتب».(1:169)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ المراد بقوله: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ اليهود،لأنّه تعالى لمّا وصفهم بالعناد و أزال الطّمع عن إيمانهم و بيّن فرقهم،فالفرقة الأولى:هي الفرقة الضّالّة المضلّة،و هم الّذين يحرّفون الكلم عن مواضعه،و الفرقة الثّانية:المنافقون،و الفرقة الثّالثة:

الّذين يجادلون المنافقين،و الفرقة الرّابعة:هم المذكورون في هذه الآية،و هم العامّة الأمّيّون الّذين لا معرفة عندهم بقراءة و لا كتابة،و طريقتهم التّقليد و قبول ما يقال لهم.فبيّن اللّه تعالى أنّ الّذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحدا بل لكلّ

ص: 374

قسم منهم سبب آخر.

و من تأمّل ما ذكره اللّه تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمّة،فإنّ فيهم من يعاند الحقّ و يسعى في إضلال الغير،و فيهم من يكون متوسّطا،و فيهم من يكون عاميّا محضا مقلّدا.

و اختلفوا في«الأمّيّ»فقال بعضهم:هو من لا يقرّ بكتاب و لا برسول،و قال آخرون:من لا يحسن الكتابة و القراءة.و هذا الثّانيّ أصوب،لأنّ الآية في اليهود و كانوا مقرّين بالكتاب و الرّسول،و لأنّه عليه الصّلاة و السّلام قال:«نحن أمّة أمّيّة لا نكتب و لا نحسب»و ذلك يدلّ على هذا القول،و لأنّ قوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ لا يليق إلاّ بذلك.(3:138)

أبو حيّان: الأمّيّ:الّذي لا يقرأ في كتاب و لا يكتب،نسب إلى الأمّ،لأنّه ليس من شغل النّساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب،أو لأنّه بحال ولدته أمّه لم ينتقل عنها،أو نسب إلى الأمّة و هي القامة و الخلقة،أو إلى الأمّة؛إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف.

(1:269)

البروسويّ: لا يحسنون الكتب و لا يقدرون على القراءة.و الأمّيّ منسوب إلى أمّة العرب،و هي الأمّة الخالية عن العلم و القراءة فاستعير لمن لا يعرف الكتابة و القراءة.(1:167)

عزّة دروزة :(امّيّون)هنا بمعنى الّذين لا يحسنون القراءة و الكتابة على ما قاله المفسّرون.و هو قول وجيه متّسق مع روح الآيات.

و الكلمة وردت في سورة الأعراف وصفا للنّبيّ اَلنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الأعراف:157،و قصد فيها غير الكتابيّ أو المنسوب إلى أمّة غير كتابيّة.

و وردت في سورة آل عمران بمعنى غير اليهود مرّة،كما جاء في هذه الجملة: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران:75،و بمعنى غير الكتابيّين مرّة كما جاء في هذه الجملة: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ آل عمران:20.

و وردت في سورة الجمعة في صدد الإشارة إلى العرب،كما جاء في هذه الجملة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ الجمعة:2.

و تعدّدت الأقوال في نسبتها،فهناك من ينسبها إلى «أمّ»و هناك من ينسبها إلى«أمّة»،و قد كان اليهود يسمّون غيرهم الأمم«جوييم»من باب التّعالي،لأنّهم زعموا أنّهم شعب اللّه المختار.فلا يبعد أن يكون هذا المعنى من أصول معنى الكلمة العربيّة.(7:197)

الطّباطبائيّ: الأمّيّ:من لا يقرأ و لا يكتب منسوب إلى الأمّ،لأنّ عطوفة الأمّ و شفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلّم و تسلّمه إلى تربيته،فكان يكتفي بتربية الأمّ.فمحصّل المعنى،أنّهم بين من يقرأ الكتاب و يكتبه فيحرّفه و بين من لا يقرأ و لا يكتب و لا يعلم من الكتاب إلاّ أكاذيب المحرّفين.(1:215)

عبد الكريم الخطيب :القوم فريقان:عامّة و خاصّة،أو أمّيّون و علماء.و الأمّيّون-شأنهم في كلّ أمّة-مقودون لمقولات العلماء و أصحاب الفتيا فيهم، فإن ضلّ العلماء أو انحرف المفتون،عظم البلاء و عمّ الخطب،فشمل الأمّة كلّها،و لهذا أخذ اللّه الميثاق على

ص: 375

العلماء أن يؤدّوا أمانة ما حملوا من علم،فيفتحوا للنّاس طرق الهداية،و يكشفوا لهم سبل الرّشاد: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ... آل عمران:187.(1:101)

الحجازيّ:(امّيّون)عوام.(1:41)

الامّيّين

1- ...وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا... آل عمران:20

ابن عبّاس: الّذين لا يكتبون.(الطّبريّ 3:215)

أي الّذين لا كتاب لهم.(الطّبرسيّ 1:422)

نحوه الطّبريّ.(3:215)

أبو عبيدة :الّذين لم يأتهم الأنبياء بالكتب.

(1:90)

الطّبرسيّ: هم مشركو العرب.(1:422)

الفخر الرّازيّ: إنّما وصف مشركي العرب بأنّهم أمّيّون لوجهين:

الأوّل:أنّهم لمّا لم يدعوا الكتاب الإلهيّ وصفوا بأنّهم أمّيّون تشبيها بمن لا يقرأ و لا يكتب.

و الثّانيّ:أن يكون المراد أنّهم ليسوا من أهل القراءة و الكتابة،فهذه كانت صفة عامّتهم،و إن كان فيهم من يكتب،فنادر من بينهم.(7:227)

البيضاويّ: الّذين لا كتاب لهم كمشركي العرب.(1:153)

أبو حيّان: هم مشركو العرب،و دخل في ذلك كلّ من لا كتاب له.(2:413)

مثله القاسميّ.(4:814)

رشيد رضا :أي لليهود و النّصارى و مشركي العرب،و كانوا ينسبون إلى الأمّ لجهلهم-كما تقدّم في تفسير سورة البقرة و خصّ هؤلاء بالذّكر-و البعثة عامّة -لأنّهم هم الّذين خاطبهم الرّسول بالدّعوة بلا واسطة.

(3:260)

محمّد عزّة دروزة: (الامّيّين)هنا:كناية عن غير الكتابيّين،و الرّاجح أنّ المقصودين هم العرب المشركون.(8:85)

الطّباطبائيّ: المراد بالأمّيّين المشركين،سمّوا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم ب«أهل الكتاب»، و كذا كان أهل الكتاب يسمّونهم كما حكاه تعالى من قوله: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران:75.

(3:122)

2- ..قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. آل عمران:75.

ابن عبّاس: ذلك أنّ أهل الكتاب كانوا يقولون:

ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء،لأنّهم أمّيّون، فذلك قوله: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.

(الطّبريّ 3:319)

قتادة :قالت اليهود:ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل.(الطّبريّ 3:318)

السّدّيّ: ليس علينا حرج في أموال العرب،قد أحلّها اللّه لنا.(الطّبريّ 3:318)

الزّمخشريّ: أي لا يتطرّق علينا عتاب و ذمّ في

ص: 376

شأن الأمّيّين،يعنون الّذين ليسوا من أهل الكتاب.

(1:438)

الكاشانيّ: أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب،و لم يكونوا على ديننا عقاب و ذمّ.

(1:323)

محمّد عزّة دروزة: (الامّيّين)هنا بمعنى الأمم الأخرى كما تلهمه روح الآيات،و هي نسبة إلى الأمّة.

(8:114)

عبد الكريم الخطيب :أي لا حرج علينا، و لا حائل من خلق أو دين يحول بيننا و بين أن نستغلّ الامّيّين،بشتّى الصّور و مختلف الأساليب.و الأمّيّون هم غير اليهود،و هم العرب خاصّة؛إذ كانوا و لا كتاب لهم.(2:501)

3- هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ... الجمعة:2.

ابن عبّاس: الأمّيّون:العرب كلّهم،من كتب منهم و من لم يكتب،لأنّهم لم يكونوا أهل كتاب.

(القرطبيّ 18:91)

مجاهد :العرب.(الطّبريّ 28:94)

يعني العرب،و كانت أمّة أمّيّة لا تكتب و لا تقرأ،و لم يبعث إليهم نبيّ.

مثله قتادة.(الطّبرسيّ 5:284)

قتادة :كان هذا الحيّ من أمّة أمّيّة،ليس فيها كتاب يقرءونه،فبعث اللّه نبيّه محمّدا رحمة و هدى يهديهم به.

(الطّبريّ 28:94)

ابن زيد:إنّما سمّيت أمّة محمّد الأمّيّين،لأنّه لم ينزل عليهم كتابا.(الطّبريّ 28:94)

الزّجّاج: الّذين لا يكتبون،الّذين هم على ما خلقت عليه الأمّة قبل تعلّم الكتاب،و الكتاب لا يكون إلاّ بتعلّم.و قولهم في الّذي لا يعرف الكلام و لا القراءة:هو يقرأ بالسّليقيّة،أي لم يتعلّم القرآن معربا إنّما يقرأ على ما سمع الكلام على سليقته (1).

و قيل:أوّل ما بدأ الكتاب في العرب بدأ من أهل الطّائف،و ذكر أهل الطّائف أنّهم تعلّموا الكتابة من أهل الحيرة،و ذكر أهل الحيرة أنّهم تعلّموا الكتابة من أهل الأنبار.(5:169)

الميبديّ: أي في العرب،و سمّي العرب أمّيّين، لأنّه لم يكن لهم كتاب قبل القرآن،لذلك سمّي اليهود و النّصارى أهل الكتاب،ليمازّوا عنهم.و قيل:سمّيت العرب أمّيّين،لأنّهم كانوا على نعت أمّيّتهم مذ كانت بلا خطّ و لا كتاب،نسبوا إلى ما ولدوا عليه من أمّهاتهم، لأنّ الخطّ و القراءات بالتّعليم دون ما جبل الخلق عليه، و من يحسن الكتابة من العرب فإنّه أيضا أمّيّ،لأنّه لم يكن لهم في الأصل خطّ و كتابة إلاّ في«ثقيف»أهل الطّائف،تعلّموه من أهل الحيرة.(10:95)

الزّمخشريّ: الأمّيّ منسوب إلى أمّة العرب،لأنّهم كانوا لا يكتبون و لا يقرءون من بين الأمم.

و معنى بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ :بعث رجلا أمّيّا في قوم أمّيّين،كما جاء في حديث شعياء «إنّي أبعث أعمى في عميان و أمّيّ في أمّيّين».و قرئة.

ص: 377


1- 1-السّليقة:الطّبيعة.

(فى الامّين)بحذف ياءي النّسب.(4:102)

البروسويّ: جمع أمّيّ منسوب إلى أمّة العرب، و هم قسمان:فعرب الحجاز من عدنان و ترجع إلى إسماعيل عليه السّلام،و عرب اليمن ترجع إلى قحطان،و كلّ منهم قبائل كثيرة.

و المشهور عند أهل التّفسير أن الأمّيّ من لا يكتب و لا يقرأ من كتاب،و عند أهل الفقه من لا يعلم شيئا من القرآن،كأنّه بقي على ما تعلّمه من أمّه،من الكلام الّذي يتعلّمه الإنسان بالضّرورة عند المعاشرة.و النّبيّ الأمّيّ منسوب إلى الأمّة الّذين لم يكتبوا،لكونه على عادتهم، كقولك:عامّيّ،لكونه على عادة العامّة.

و قيل:سمّي بذلك،لأنّه لم يكتب و لم يقرأ من كتاب؛و ذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه،و اعتماده على ضمان اللّه له عنه،بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى الأعلى:6.(9:513)

الميلانيّ: اعلم أنّه يقع الكلام في هذه الآية من وجوه خمسة:

الأوّل:ارتباط هذه الآية بالآية السّابقة.

الثّاني:وجه البعث و سببه،و تحقيق معنى اللّطف.

الثّالث:تحقيق معنى الأمّيّ و ما فيه.

الرّابع:علّة البعث في الأمّيّين دون غيرهم.

الخامس:سبب كون الرّسول منهم دون غيرهم.[ثمّ بيّن وجه الأوّل و الثّاني]

أمّا الوجه الثّالث أعني معنى الأمّيّ و ما قيل فيه، فنقول:ذهب جماعة إلى أنّ معنى الأمّيّ من لا يكتب و لا يقرأ نسبة إلى الأمّ،لأنّه كيوم ولادته من أمّه،فإنّ العرب كانوا أمّة أمّيّين،و هذا المعنى هو الشّائع في الألسن في معنى الأمّيّ.

و ذهب آخرون إلى أنّ المراد المنسوبون إلى مكّة، أي بعث في أهل مكّة،لأنّ مكّة تسمّى«أمّ القرى»، و في النّسبة يحذف جزؤه الثّاني.

و روى القمّيّ عن الصّادق عليه السّلام(فى الأمّيّين) قال عليه السّلام:كانوا يكتبون و لكن لم يكن معهم كتاب من عند اللّه و لا بعث إليهم رسول،فنسبهم اللّه إلى الأمّيّين.

و هذا معنى ثالث للأمّيّ.

و أمّا الوجه الرّابع،أي علّة البعث في الأمّيّين دون غيرهم،يمكن أن يقال:إن أخذ الأمّيّ بالمعنى الأوّل، فمن لا يقرأ و لا يكتب هو أحوج إلى المرشد و الهادي ممّن يقرأ و يكتب،لأنّه يمكن الهداية في حقّه و لو إجمالا بقراءة الكتب السّماويّة و العمل بها،بخلاف من لا يقرأ و لا يكتب فإنّه بعيد عن الهداية غاية البعد.

و يمكن أن يكون من علله إظهار لطفه تعالى بأنّه لطيف غاية اللّطف،لملاحظة حال الجهّال،فكيف بالعلماء.

و إن أخذ بالمعنى الثّاني،أي المنسوبون إلى«أمّ القرى»و هم أهل مكّة،فالعلّة أوضح،لأنّ مكّة كانت مرجعا للخلائق يقصدونه و يأتون من كلّ فجّ عميق و مكان بعيد،فكون الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فيها أقرب إلى انتشار الأحكام من كونه في بلد بعيد،ليس معبرا و لا مقصدا.

و ممّا ذكر ظهر علّة البعث فيهم إن أخذ بالمعنى الثّالث،أعني ما تضمّنه الحديث في معنى الأمّيّ.

و أمّا الوجه الخامس،و هو سبب كون الرّسول صلّى اللّه عليه و آله

ص: 378

منهم؛حيث إنّ الضّمير لوحظ فيه معنى الأمّيّة،لأنّ المراد كونه من جنس البشر لبعده عن توهّم استعانته على ما أتى من الشّرائع و الإعجاز،بالكتب السّابقة،لأنّه لو لم يكن منهم لأمكن أن يقولوا بأنّ أخباره عن الأمم الخالية و السّنين الماضية مأخوذة عن الكتب السّماويّة، فكونه منهم أدلّ دليل و برهان و معجزة،بأنّه مبعوث من قبل اللّه تعالى،لظهور أنّ الأمّيّ على جميع التّفاسير السّابقة سواء أخذ بمعنى من لا يقرأ و لا يكتب أو المنسوب إلى أمّ القرى،أو الّذي لم يكن معه كتاب من عند اللّه و لا بعث إليه رسول،لا يقدر على خوارق العادة من الفصاحة البالغة حدّ النّهاية و القوانين المتقنة غاية الإتقان،و الإخبار عن الأمم السّالفة.

أمّا إن أخذ الأمّيّ بالمعنى الأوّل،أي غير العارف بالقراءة و الكتابة فظاهر كما مرّ من أنّ غير القارئ لا يتمكّن من قراءة الكتب السّالفة حتّى تعينه على الإخبار عن الأمم السّابقة و القرون الماضية،و غير الكاتب لا يقدر على المكاتبة إلى البلدان العلميّة ليستفيد منها الأخبار.

و لا يخفى أنّه لا منافاة بين كونه صلّى اللّه عليه و آله أمّيّا بمعنى عدم عرفانه للقراءة و الكتابة،و بين الرّواية المرويّة في«العلل»عن الجواد عليه السّلام المتضمّنة لتكذيب من قال:

بأنّ سبب تسمية النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّيّا أنّه لم يحسن أن يكتب،لأنّ المراد بالأوّل أنّه لا يعرف الكتابة و القراءة عن منشأ التّعلّم بالأسباب الظّاهريّة،فيكون من حيث عدم التّعلّم بالأسباب الظّاهريّة كيوم ولدته أمّه.

و الرّواية متضمّنة لقدرته حالا،عن أيّ سبب كان، لأنّه عليه السّلام في مقام ردّ من قال بعدم قدرته صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يحسن الكتابة كما عرفت.و تسميته بالأمّيّ بالمعنى الثّاني لكونه من أهل مكّة،المتعرّض له في الحديث أيضا غير مناف،لأنّه مقابل للأمّيّ بمعنى عدم القدرة و عدم التّعلّم بالأسباب الظّاهريّة.

و أمّا القدرة على ما ذكر من الإعجاز و غيره إن أخذ بمعنى المنسوب إلى«أمّ القرى»فلأنّ أهل مكّة كانوا في غاية الجهل و الضّلالة في ذلك الزّمان،فلا يمكن أن يكون أحدهم عالما بهذه المثابة الخارجة عن قدرة البشر و عن طرق العلماء فكيف بالجهلاء،إلاّ أن يكون مربوطا بالعالم العلويّ.

و أمّا إن أخذ بالمعنى الثّالث فظاهر من المعنى الثّاني،فإنّ كونه في مكّة مستلزم لعدم العلم مع الحالة الّتي عليها أهلها.و قد ظهر من هذه الوجوه وجه ارتباط الآية بما قبلها،فإنّ من يفعل مثل هذه الآية هو الحكيم المطلق و غيره لا يقدر على مثلها،فتكون هذه الآية بمنزلة البرهان الإنّيّ للآية المتقدّمة،كما هو ظاهر و لا يخفى لطفه.

(تفسير سورتي الجمعة و التّغابن:20-31)

الطّباطبائيّ: الأمّيّون:جمع أمّيّ،و هو الّذي لا يقرأ و لا يكتب،و المراد بهم-كما قيل-العرب لقلّة من كان منهم يقرأ و يكتب.و قد كان الرّسول منهم أي من جنسهم،و هو غير كونه مرسلا إليهم،فقد كان منهم و كان مرسلا إلى النّاس كافّة.

و احتمل أن يكون المراد ب(الأمّيّين)غير أهل الكتاب،كما قال اليهود-على ما حكى اللّه عنهم-:

ص: 379

لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران:75.

و فيه أنّه لا يناسب قوله في ذيل الآية: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ فإنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يخصّ غير العرب و غير أهل الكتاب بشيء من الدّعوة لم يلقه إليهم.

و احتمل أن يكون المراد ب(الامّيّين)أهل مكّة لكونهم يسمّونها أمّ القرى.

و فيه أنّه لا يناسب كون السّورة مدنيّة لإيهامه كون ضمير: يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ... راجعا إلى المهاجرين و من أسلم من أهل مكّة بعد الفتح و أخلافهم،و هو بعيد من مذاق القرآن.

و لا منافاة بين كونه صلّى اللّه عليه و آله من الأمّيّين مبعوثا فيهم، و بين كونه مبعوثا إليهم و إلى غيرهم و هو ظاهر،و تلاوته عليهم آياته و تزكيته و تعليمه لهم الكتاب و الحكمة لنزوله بلغتهم،و هو أوّل مراحل دعوته.و لذا لمّا استقرّت الدّعوة بعض الاستقرار أخذ صلّى اللّه عليه و آله يدعو اليهود و النّصارى و المجوس،و كاتب العظماء و الملوك.

(19:264)

خليل ياسين: سؤال:من المعلوم أنّ النّبيّ أمّيّ، فكيف يعلّمهم ما لم يحسن؟

جواب:النّبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله ليس أمّيّا بالمعنى المزعوم،أي أنّه لا يقرأ و لا يكتب،فلقد أسندوا تلك الأمّيّة إلى أساس مغلوط،و هو أنّه ورد في القرآن الكريم تسميته اَلنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الأعراف:156،و قد فاتهم أنّ القرآن أخذ هذه الصّفة هنا لا بمعناها اللّغوي بل بمعناها الاصطلاحيّ الّذي أشاعه اليهود في مهاجرهم و الحجاز،فكلّ من عداهم من النّاس أمّيّون، أي من الأمم الّذين لا كتاب لهم منزل،فالعرب كتابيّون و أمّيّون.

وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ آل عمران:20،و الرّسول أمّيّ،لأنّه منهم،على أنّ في نسبة الأمّيّة إليه بالمعنى المزعوم نسبة النّقص و الجهل إليه.و هذا عيب لا يجوز أن يكون في الرّسول،لأنّه يجب أن يكون أكمل البشر،بل هناك أحاديث تثبت أنّه كان يقرأ و يكتب.و قد ذكرناها مع تحقيق مهمّ في هذا الموضوع في كتابنا المطبوع«محمّد عند علماء الغرب» فليراجع.(2:253)

عبد الكريم الخطيب :الأمّيّون هم العرب، و سمّوا أمّيّين،لأنّه لم يكن لهم كتاب سماويّ،و كان اليهود يطلقون على جميع الأمم لفظ الأمّيّين بالإضافة إليهم هم يريدون بهذا أن يمتازوا على النّاس،بأنّهم هم الّذين خاطبتهم السّماء،و بعثت فيهم الرّسل،و أنزلت عليهم الكتب.أمّا غيرهم من سائر الأمم فلم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا من اللّه،و أن يتلقّوا رسالاته؛و بهذا صحّ في زعمهم أن يدّعوا هذه الدّعوة الضّالّة،و هي أنّهم شعب اللّه المختار.

فلقد كانت هذه الدّعوى شؤما و بلاء عليهم؛إذ عزلتهم عن المجتمع الإنسانيّ،و أقامتهم في الحياة الإنسانيّة مقاما مضطربا،لا يلقاهم النّاس،و لا يلقون هم النّاس،إلاّ على عداوة و جفاء.

ففي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ امتنان على الأمّة العربيّة بهذا الفضل الّذي ساقه اللّه سبحانه و تعالى إليهم،و ردّ على اليهود،

ص: 380

و إبطال لدعواهم بأنّ اللّه اختارهم على العالمين، و اختصّهم بفضله و إحسانه.

فالأمّيّة الّتي وصف بها العرب هنا هي أمّيّة من نوع خاصّ،و هي أمّيّة من لا كتاب لهم من عند اللّه،و إن كان هذا لا يمنع من تفشّي الأمّيّة فيهم،و هي أمّيّة الجهل بالكتابة و القراءة؛و ذلك أنّ الدّين كان هو الباعث الأوّل على العلم،و على تعلّم القراءة و الكتابة،و أنّ أصحاب الكتب السّماويّة هم الّذين كانوا يقبلون على العلم، و على مدارسة الكتب السّماويّة و ما يتّصل بها.

(14:942)

امّ الكتاب

1- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ...

آل عمران:7

يحيى بن يعمر: هنّ اللاّتي فيهنّ الفرائض و الحدود و عماد الدّين،[مثل]:أمّ القرى:مكّة،و أمّ خراسان:مرو،و أمّ المسافرين:الّذي يجعلون إليه أمرهم،و يعني بهم في سفرهم،فذاك أمّهم.

(الطّبريّ 3:175)

الإمام الصّادق عليه السّلام: أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام.

(العروسيّ 1:312)

و هذا تأويل لقوله: آياتٌ مُحْكَماتٌ و مثله روايات أخرى في تأويل أُمُّ الْكِتابِ

ابن زيد :هنّ جمّاع الكتاب.(الطّبريّ 3:176)

الأخفش: قال: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ و لم يقل:

أمّهات،كما تقول للرّجل:ما لي نصير،فيقول:نحن نصيرك،و هو يشبه«دعني من تمرتان».(1:394)

أبو فاختة: (أمّ الكتاب):فواتح السّور،منها يستخرج القرآن.(الطّبريّ 3:176)

الطّبريّ: وصف جلّ ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات،بأنّهنّ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني بذلك أنّهنّ أصل الكتاب الّذي فيه عماد الدّين و الفرائض و الحدود،و سائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، و ما كلّفوا من الفرائض في عاجلهم و آجلهم.

و إنّما سمّاهنّ(أمّ الكتاب)لأنّهنّ معظم الكتاب، و موضع مفزع أهله عند الحاجة إليه،و كذلك تفعل العرب،تسمّي الجامع معظم الشّيء أمّا له،فيسمّى راية القوم الّتي تجمعهم في العساكر أمّهم،و المدبّر معظم أمر القرية و البلدة أمّها.و قد بيّنّا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

و وحّد(أمّ الكتاب)و لم يجمع،فيقول:هنّ أمّهات الكتاب.و قد قال:(هنّ)لأنّه أراد جميع الآيات المحكمات أمّ الكتاب،لا أنّ كلّ آية منهنّ أمّ الكتاب، و لو كان معنى ذلك أنّ كلّ آية منهنّ أمّ الكتاب،لكان لا شكّ قد قيل:هنّ أمّهات الكتاب،و نظير قول اللّه عزّ و جلّ: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ على التّأويل الّذي قلنا في توحيد الأمّ،و هي خبر ل(هنّ)،قوله تعالى ذكره:

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً المؤمنون:50،و لم يقل:

آيتين،لأنّ معناه و جعلنا جميعهما آية؛إذ كان المعنى و إحداثهما جعلنا فيه للخلق عبرة.و لو كان مراده الخبر عن كلّ واحد منهما على انفراده،بأنّه جعل للخلق

ص: 381

عبرة،لقيل:و جعلنا ابن مريم و أمّه آيتين،لأنّه قد كان في كلّ واحد منهما لهم عبرة؛و ذلك أنّ مريم ولدت من غير رجل،و نطق ابنها،فتكلّم في المهد صبيّا،فكان في كلّ واحد منهما للنّاس آية.

و قد قال بعض نحويّي البصرة:إنّما قيل:(هنّ أمّ الكتاب)و لم يقل:هنّ أمّهات الكتاب،على وجه الحكاية،كما يقول الرّجل:ما لي أنصار،فتقول:أنا أنصارك،أو ما لي نظير،فتقول:نحن نظيرك.قال:و هو شبيه«دعني من تمرتان».[ثمّ استشهد بشعر]

(3:170)

الجصّاص :الأمّ هي الّتي منها ابتداؤه و إليها مرجعه،فسمّاها أمّا،فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها، و ردّه إليها.(2:3)

الهرويّ: أي معظمه،يقال لمعظم الطّريق:أمّ الطّريق.و أمّ الرّمح:لواؤه.

قال ابن عرفة: سمّيت فاتحة الكتاب«أمّ الكتاب»، لأنّه إليها تضاف السّور،و لا تضاف هي إلى شيء من السّور.(1:86)

الطّوسيّ: معناه أصل الكتاب الّذي يستدلّ به على المتشابه،و غيره من أمور الدّين.

و قيل في توحيد(أمّ الكتاب)قولان:

أحدهما:أنّه قدّر تقدير الجواب على وجه الحكاية،كأنّه قيل:ما أمّ الكتاب؟فقيل:هنّ أمّ الكتاب، كما يقال:من نظير زيد؟فيقال:نحن نظيره.

الثّاني:أن يكون ذلك مثل قوله: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً المؤمنون:50،بمعنى الجميع آية.و لو أريد أنّ كلّ واحد منهما آية على التّفصيل،لقيل:آيتين.

(2:395)

الشّريف الرّضيّ: كيف جمع سبحانه بين قوله:

(هنّ)و هو ضمير لجمع،و بين قوله:(امّ الكتاب)و هو اسم لواحد،فجعل الواحد صفة للجمع؟و هذا فتّ في عضد البلاغة و ثلم في جانب الفصاحة.

فالجواب:أنّ المراد بذلك كون هذه الآيات باجتماعها،و انضمام بعضها إلى بعض إنزالها أمّا للكتاب، و ليست كلّ واحدة أمّا بانفرادها.فلمّا كان الأمر على ما قلنا جاز وصف الجمع بالواحد؛إذ كان في تعلّق بعضه ببعض و أخذ بعضه برقاب بعض بمنزلة الواحد؛و لأنّه سبحانه لو قال:هنّ أمّهات الكتاب،لذهب ظنّ السّامع إلى أنّ كلّ واحدة من الآيات أمّ لجميع الكتاب،و ليس المراد ذلك،بل المراد ما قدّمنا القول فيه من كون الآيات بأجمعها أمّا للكتاب دون بعضها،لأنّ المراد بكونها أمّا للكتاب أنّ بها يعلم ما هو المقصود بالكتاب من بيان معالم الدّين،و ذلك لا يرجع إلى كلّ واحدة من الآيات بل يرجع إلى جميعها،فالأمّ هاهنا بمعنى الأصل الّذي يرجع إليه و يعتمد عليه،لأنّ المحكم أصل للمتشابه يقدح به فيظهر مكنونه و يستشير دفينه؛و على ذلك سمّيت والدة الإنسان أمّا،لأنّها أصله الّذي منه طلع و عنه تفرّع،و لذلك سمّيت مكّة أمّ القرى،لأنّ القرى مضافة إليها،و هي المتقدّمة عليها و المذكورة قبلها.

و كان القياس أن يقولوا في جمع أمّ:أمّات،و لكنّهم قالوا:أمّهات،لأنّه قد جاء في الشّعر الفصيح«أمّهة» فصحّ الجمع على أمّهات.قال قصيّ بن كلاب:

ص: 382

*أمّهتي خندف و إلياس أبي*

و قال بعضهم:يقال:أمّهات في جمع ما يعقل، و أمّات في جمع ما لا يعقل.

و أمّا وصفهم«فاتحة الكتاب»بأنّها أمّ الكتاب،فهو راجع أيضا إلى المعنى الّذي ذكرناه،لأنّهم إنّما وصفوها بذلك من حيث كانت أصلا يبنى عليها غيرها من القرآن في صلاة المصلّي،و عند تلاوة التّالي إذا بدأ بقراءة الكتاب،فقد صارت إذن متقدّمة و بواقي السّور لا حقة بها و موجفة خلفها.و كذلك الآيات المحكمات هنّ أصول للمتشابهات تردّ إليها و تعطف عليها،فقد بان:أنّ المعنى واحد و المراد متّفق في وصفهم الآيات المحكمات بأنّها أمّ،و فاتحة الكتاب بأنّها أمّ.

(حقائق التّأويل:121)

الميبديّ: الأمّ هي معظم الشّيء،و به قوامه،و هي من الدّابّة رأسها،و كذا الإنسان،لأنّ به بقاءه،و قالوا:

(هنّ أمّ الكتاب)أي أمّ كلّ كتاب أنزله اللّه على كلّ نبيّ فيهنّ كلّ ما أحلّ و كلّ ما حرّم.(2:17)

الزّمخشريّ: أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها و تردّ إليها،و مثال ذلك لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الأنعام:103، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ القيمة:23، لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ الأعراف:28، أَمَرْنا مُتْرَفِيها الإسراء:

16.(1:412)

الفخر الرّازيّ: ما معنى كون المحكم أمّا للمتشابه؟

الجواب:الأمّ في حقيقة اللّغة الأصل الّذي منه يكون الشّيء،فلمّا كانت المحكمات مفهومة بذواتها، و المتشابهات إنّما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لا جرم صارت المحكمات كالأمّ للمتشابهات.

(7:185)

الآلوسيّ: أي أصله،و العمدة فيه يرد إليها غيرها.

و العرب تسمّي كلّ جامع يكون مرجعا أمّا،و الجملة إمّا صفة لما قبلها أو مستأنفة.و إنّما أفرد«الأمّ»مع أنّ الآيات متعدّدة لما أنّ المراد بيان أصليّة كلّ واحد منها، أو بيان أنّ الكلّ بمنزلة آية واحدة.(3:80)

رشيد رضا :كون المحكمات هنّ أمّ الكتاب معناه أنّهنّ أصله و عماده أو معظمه.و هذا ظاهر لكنّه لا ينطبق إلاّ على بعض الأقوال.و قال الأستاذ الإمام:إنّ معنى ذلك أنّها هي الأصل الّذي دعي النّاس إليه و يمكنهم أن يفهموها و يهتدوا بها،و عنها يتفرّع غيرها و إليها يرجع، فإن اشتبه علينا شيء نردّه إليها.و ليس المراد بالرّدّ أن نؤوّله بل أن نؤمن بأنّه من عند اللّه،و أنّه لا ينافي الأصل المحكم الّذي هو أمّ الكتاب و أساس الدّين الّذي أمرنا أن نأخذ به على ظاهره الّذي لا يحتمل غيره إلاّ احتمالا مرجوحا.(3:165)

أبو زهرة: التّعبير ب(أمّ الكتاب)تعبير مجازيّ بالاستعارة،لأنّ الأمّ هي الأصل و هي الّتي تقوم على أولادها،و يرجعون إليها في غذائهم و عواطفهم،فشبّهت بها الآيات المحكمات الّتي هي أصل الدّين و مرجعه، و إذا كانت متشابهات،فهي تفسّر بالرّجوع إلى هذا الأصل،و هو المحكمات.(278)

عزّة دروزة :(أمّ الكتاب)هنا بمعنى أسسه و جوهره و أهدافه.(8:75)

ص: 383

الطّباطبائيّ: قد وصف المحكمات بأنّها أمّ الكتاب،و الأمّ بحسب أصل معناه:ما يرجع إليه الشّيء، و ليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها،فالبعض من الكتاب و هي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر و هي المحكمات.و من هنا يظهر أنّ الإضافة في قوله:(أمّ الكتاب)ليست لاميّة كقولنا:أمّ الأطفال،بل هي بمعنى «من»كقولنا:نساء القوم و قدماء الفقهاء و نحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أمّ آيات أخر،و في إفراد كلمة«الأمّ»من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متّفقة مؤتلفة.

(3:20)

2- يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.

الرّعد:39

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:هما كتابان:كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت،و أمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء.(الكاشانيّ 3:75)

ابن عبّاس: و جملة ذلك عنده في أمّ الكتاب:

النّاسخ و المنسوخ،و ما يبدّل،و ما يثبت،كلّ ذلك في كتاب.(الطّبريّ 13:171)

علم اللّه ما هو خالق،و ما خلقه عاملون،فقال لعلمه:

كن كتابا،و لا تبديل في علم اللّه.(القرطبيّ 9:333)

الذّكر.(الطّبريّ 13:171)

الضّحّاك: جملة الكتاب و علمه،يعني بذلك ما ينسخ منه و ما يثبت.(الطّبريّ 13:171)

كتاب عند ربّ العالمين.(الطّبريّ 13:171)

الحسن: [قال مالك بن دينار:سألت الحسن عن أمّ الكتاب قال:]

الحلال و الحرام،قال:قلت:فما الحمد للّه ربّ العالمين؟قال:هذه أمّ القرآن.(الطّبريّ 13:171)

قتادة :جملة الكتاب و أصله.(الطّبريّ 13:171)

الطّبريّ: [بعد نقله أقوال المفسّرين قال:]

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال:

و عنده أصل الكتاب و جملته؛و ذلك أنّه تعالى ذكره أخبر أنّه يمحو ما يشاء،و يثبت ما يشاء،ثمّ عقّب ذلك بقوله: وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فكان بيّنا أنّ معناه و عنده أصل المثبت منه و الممحوّ،و جملته في كتاب لديه.(13:171)

الميبديّ: يعني اللّوح المحفوظ يمحو منه ما يشاء و يثبت منه ما يشاء.قيل:اللّوح المحفوظ أصل الكتب و أساس النّسخ عنده تعالى،يمحو و يثبت كما يشاء.

(5:211)

الزّمخشري: أصل كلّ كتاب و هو اللّوح المحفوظ،لأنّ كلّ كائن مكتوب فيه.(2:363)

ابن عطيّة: أصوب ما يفسّر به(أمّ الكتاب)إنّه ديوان الأمور المحدثة الّتي قد سبق في القضاء أن تبدّل و تمحى أو تثبت.(أبو حيّان 5:399)

الطّبرسيّ: (أمّ الكتاب)هو اللّوح المحفوظ الّذي لا يغيّر و لا يبدّل،لأنّ الكتب المنزلة انتسخت منه، فالمحو و الإثبات إنّما يقع في الكتب المنتسخة لا في أصل الكتاب.

و قيل:إنّما سمّي(أمّ الكتاب)لأنّه الأصل،كتب فيه

ص: 384

أوّلا سيكون كذا و كذا لكلّ ما يكون،فاذا وقع كتب أنّه قد كان أنّه سيكون.(3:298)

الفخر الرّازيّ: المراد أصل الكتاب،و العرب تسمّي كلّ ما يجري مجرى الأصل للشّيء أمّا له،و منه أمّ الرّأس للدّماغ،و أمّ القرى لمكّة،و كلّ مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى،فكذلك(أمّ الكتاب)هو الّذي يكون أصلا لجميع الكتب،و فيه قولان:

الأوّل:أنّ(أمّ الكتاب)هو اللّوح المحفوظ،و جميع حوادث العالم العلويّ و العالم السّفليّ مثبت فيه.عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«كان اللّه و لا شيء معه،ثمّ خلق اللّوح و أثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام السّاعة».

قال المتكلّمون:الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالما بجميع المعلومات على سبيل التّفصيل،و على هذا التّقدير،فعند اللّه كتابان:

أحدهما:الكتاب الّذي يكتبه الملائكة على الخلق، و ذلك الكتاب محلّ المحو و الإثبات،و الكتاب الثّاني:

هو اللّوح المحفوظ،و هو الكتاب المشتمل على تعيّن جميع الأحوال العلويّة و السّفليّة،و هو الباقي.[إلى أن قال:]

الثّاني:أنّ(أمّ الكتاب)هو علم اللّه تعالى،فإنّه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات و المعدومات و إن تغيّرت،إلاّ أنّ علم اللّه تعالى بها باق منزّه عن التّغيّر، فالمراد ب(أمّ الكتاب)هو ذاك.(19:66)

نحوه النّيسابوريّ.(13:95)

القرطبيّ: أي أصل ما كتب من الآجال و غيرها.

و قيل:(أمّ الكتاب):اللّوح المحفوظ الّذي لا يبدّل و لا يغيّر.و قد قيل:إنّه يجري فيه التّبديل.و قيل:إنّما يجري في الجرائد الأخر.(9:332)

أبو حيّان: [بعد نقله أقوال ابن عبّاس،و الحسن، و الزّمخشريّ قال:]

و ما جرى مجرى الأصل للشّيء تسمّيه العرب «أمّا»كقولهم:أمّ الرّأس للدّماغ،و أمّ القرى مكّة.

(5:399)

البروسويّ: العرب تسمّي كلّ ما يجري مجرى الأصل أمّا،و منه أمّ الرّأس للدّماغ،و أمّ القرى لمكّة،أي أصله الّذي لا يتغيّر منه شيء،و هو ما كتبه في الأزل، و هو العلم الأزليّ الأبديّ السّرمديّ القائم بذاته.و قد أحاط بكلّ شيء علما بلا زيادة و لا نقصان،و كلّ شيء عنده بمقدار،و هو لوح القضاء السّابق.فإنّ الألواح أربعة:لوح القضاء السّابق الخالي عن المحو و الإثبات، و هو لوح العقل الأوّل.و لوح القدر،أي لوح النّفوس النّاطقة الكلّيّة الّتي يفصل فيها كلّيّات اللّوح الأوّل و يتعلّق بأسبابها،و هو المسمّى باللّوح المحفوظ.و لوح النّفوس الجزئيّة السّماويّة الّتي ينتقش فيها كلّ ما في هذا العالم بشكله و هيئته و مقداره،و هو المسمّى بالسّماء الدّنيا،و هو بمثابة خيال العالم،كما أنّ الأوّل بمثابة روحه و الثّاني بمثابة قلبه.ثمّ لوح الهيولى القابل للصّور في عالم الشّهادة.(4:387)

الآلوسيّ: (امّ الكتاب)هو العلم،لأنّ جميع ما يكتب في صحف الملائكة و غيرها لا يقع حيثما يقع إلاّ موافقا لما ثبت فيه فهو أمّ لذلك،أي أصل له.فكأنّه قيل:يمحو ما يشاء محوه و يثبت ما يشاء إثباته ممّا سطر

ص: 385

في الكتب،و ثابت عنده العلم الأزليّ الّذي لا يكون شيء إلاّ على وفق ما فيه.

و تفسير(امّ الكتاب)بعلم اللّه تعالى ممّا رواه عبد الرّزّاق،و ابن جرير عن كعب رضي اللّه تعالى عنه، و المشهور أنّها اللّوح المحفوظ،قالوا:و هو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذّاهب و الثّابت إلاّ و هو مكتوب فيه كما هو.[إلى أن قال:]

و قد ذهب بعضهم إلى تفسير(أمّ الكتاب)بما هو المشهور،و التزم القول بأنّ ما فيه لا يتغيّر،و إنّما التّغيّر لما في الكتب غيره،و هذا قائل بعدم تغيّر ما في العلم لما علمت.(13:170)

أبو زهرة: التّعبير مجازيّ بالاستعارة،و المراد ب«الأمّ»الأصل،و هو الشّريعة المتّفقة في كلّ الدّيانات، فينسخ اللّه تعالى و يثبت.و لكن أصل هذه الشّرائع لا يتغيّر،و هو الّذي بيّنه اللّه تعالى في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ... الشّورى:13.(278)

المراغيّ: هو علم اللّه،و جميع ما يكتب في صحف الملائكة،لا يقع حيثما يقع إلاّ موافقا لما يثبت فيه،فهو أمّ لذلك.فكأنّه قيل:يمحو ما يشاء محوه و يثبت ما يشاء،و هو ثابت عنده في علمه الأزليّ الّذي لا يكون شيء إلاّ وفق ما فيه.(13:116)

الطّباطبائيّ: أي أصله،فإنّ«الأمّ»هي الأصل الّذي ينشأ منه الشّيء و يرجع إليه،و هو دفع للدّخل و إبانة لحقيقة الأمر،فإنّ اختلاف حال الكتاب المكتوب لأجل بالمحو و الإثبات،أي تغيّر الحكم المكتوب و القول المقضيّ به حينا بعد حين،ربّما أوهم أنّ الأمور و القضايا ليس لها عند اللّه سبحانه صورة ثابتة و إنّما يتبع حكمه العلل و العوامل الموجبة له من خارج، كأحكامنا و قضايانا معاشر ذوي الشّعور من الخلق،أو أنّ حكمه جزافي لا تعيّن له في نفسه و لا مؤثّر في تعيّنه من خارج كما ربّما يتوهّم أرباب العقول البسيطة أنّ الّذي له ملك-بكسر اللاّم-مطلق و سلطنة مطلقة،له أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد على حرّيّة مطلقة من رعاية أيّ قيد و شرط،و سلوك أيّ نظام،أو لا نظام،أو لا نظام في عمله فلا صورة ثابتة لشيء من أفعاله و قضاياه عنده.و قد قال تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ق:29،و قال: وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ الرّعد:8،إلى غير ذلك من الآيات.

فدفع هذا الدّخل بقوله: وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل جنس الكتاب و الأمر الثّابت الّذي يرجع إليه هذه الكتب الّتي تمحي و تثبت بحسب الأوقات و الآجال و لو كان هو نفسه تقبل المحو و الإثبات،لكان مثلها لا أصلا لها،و لو لم يكن من أصله كان المحو و الإثبات في أفعاله تعالى إمّا تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك، فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل و الأسباب الخارجيّة مثلنا، وَ اللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ الرّعد:41.

و إمّا غير تابع لشيء أصلا و هو الجزاف الّذي يختلّ به نظام الخلقة و التّدبير العامّ الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض،جلّت عنه ساحته،قال تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ الدّخان:38،39.

فالملخّص من مضمون الآية:أنّ للّه سبحانه في كلّ

ص: 386

وقت و أجل كتابا،أي حكما و قضاء،و أنّه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الأحكام و الأقضية و يثبت ما يشاء،أي يغيّر القضاء الثّابت في وقت فيضع في الوقت الثّاني مكانه قضاء آخر.لكن عنده بالنّسبة إلى كلّ وقت قضاء لا يتغيّر و لا يقبل المحو و الإثبات،و هو الأصل الّذي يرجع إليه الأقضية الأخر و تنشأ منه،فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو.(11:376)

3- وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.

الزّخرف:4

ابن عبّاس: (امّ الكتاب):القرآن،من أوّله إلى آخره.(الأزهريّ 15:632)

أوّل ما خلق اللّه القلم،فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق،و الكتاب عنده وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. (الطّبريّ 25:48)

عكرمة :(أمّ الكتاب):القرآن.(الطّبريّ 25:48)

العوفيّ: يعني القرآن(في أمّ الكتاب)الّذي عند اللّه منه نسخ.(الطّبريّ 25:48)

قتادة :أي جملة الكتاب،أي أصل الكتاب.(الطّبريّ 25:48)

السّدّيّ: في الكتاب الّذي عند اللّه في الأصل.(الطّبريّ 25:48)

نحوه ابن قتيبة.(395)

الطّبريّ: إنّ هذا الكتاب،أصل الكتاب الّذي منه نسخ هذا الكتاب عندنا.(25:48)

الزّجّاج: (امّ الكتاب):أصل الكتاب.و أصل كلّ شيء أمّه،و القرآن مثبت عند اللّه في اللّوح المحفوظ، و الدّليل على ذلك قوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج:21،22.(4:405)

الطّوسيّ: يعني اللّوح المحفوظ الّذي كتب اللّه فيه ما يكون إلى يوم القيامة،لما فيه من مصلحة ملائكته بالنّظر فيه،و للخلق فيه من اللّطف بالإخبار عنه.(و أمّ الكتاب):أصله،لأنّ أصل كلّ شيء أمّه.(9:180)

الزّمخشريّ: قرئ(امّ الكتاب)بالكسر،و هو اللّوح،كقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج:21،22،سمّي ب(امّ الكتاب)لأنّه الأصل الّذي أثبتت فيه الكتب،منه تنقل و تستنسخ.(3:477)

نحوه النّسفيّ(4:113)،و البروسويّ(8:350).

ابن عطيّة: و اختلف المتأوّلون كيف هو في أُمُّ الْكِتابِ، فقال عكرمة،و قتادة،و السدّيّ،و عطيّة بن سعيد:القرآن بأجمعه فيه منسوخ،و منه كان جبريل عليه السّلام ينزل،و هنالك هو عليّ حكيم.و قال جمهور النّاس:إنّما في اللّوح المحفوظ ذكره و درجته و مكانته من العلوّ و الحكمة.

و قرأ جمهور النّاس: (فى أمّ) بضمّ الهمزة،و قرأها بكسر الهمزة يوسف والي العراق و عيسى بن عمر.

(5:45)

الطّبرسيّ: هو الكتاب الّذي كتب اللّه فيه ما يكون إلى يوم القيامة،لما رأى في ذلك من صلاح ملائكته بالنّظر فيه،و علم فيه من لطف المكلّفين بالإخبار عنه.(5:39)

ص: 387

الفخر الرّازيّ: اختلفوا في المراد ب(امّ الكتاب) على قولين:

الأوّل:أنّه اللّوح المحفوظ،لقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.

و اعلم أنّه على هذا التّقدير فالصّفات المذكورة هاهنا كلّها صفات اللّوح المحفوظ.

الصّفة الأولى:أنّه أمّ الكتاب،و السّبب فيه أنّ أصل كلّ شيء أمّه،و القرآن مثبت عند اللّه في اللّوح المحفوظ،ثمّ نقل إلى سماء الدّنيا ثمّ أنزل حالا بحسب المصلحة،عن ابن عبّاس:«إنّ أوّل ما خلق اللّه القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق (1)»فالكتاب عنده.

فإن قيل:و ما الحكمة في خلق هذا اللّوح المحفوظ مع أنّه تعالى علاّم الغيوب،و يستحيل عليه السّهو و النّسيان؟

قلنا:إنّه تعالى لمّا أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات،ثمّ إنّ الملائكة يشاهدون أنّ جميع الحوادث إنّما تحدث على موافقة ذلك المكتوب، استدلّوا بذلك على كمال حكمة اللّه و علمه.[إلى أن قال:]

القول الثّاني في تفسير أمّ الكتاب:أنّه الآيات المحكمة،لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ آل عمران:7، و معناه أنّ سورة«حم»واقعة في الآيات المحكمة الّتي هي الأصل و الأمّ.(27:194)

أبو حيّان: قرأ الجمهور في(أمّ)بضمّ الهمزة و الأخوان (2)بكسرها،و عزاها ابن عطيّة إلى يوسف والي العراق و عيسى بن عمر،و لم يعزها للأخوين غفلة منه.يقال:ضرب عن كذا و أضرب عنه،إذا أعرض عنه.

(8:5)

الجرجانيّ: (أمّ الكتاب):هو العقل الأوّل.(16)

السّيوطيّ: قال بعضهم:حقيقة الاستعارة أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها،و حكمة ذلك إظهار الخفيّ،و إيضاح الظّاهر الّذي ليس بجليّ،أو حصول المبالغة أو المجموع.مثال إظهار الخفيّ: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ فإنّ حقيقته:و إنّه في أصل الكتاب،فاستعير لفظ«الأمّ»للأصل،لأنّ الأولاد تنشأ من الأمّ كما تنشأ الفروع من الأصول.و حكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئيّ حتّى يصير مرئيّا،فينتقل السّامع من حدّ السّماع إلى حدّ العيان؛و ذلك أبلغ في البيان.(3:149)

البروسويّ: أي في اللّوح المحفوظ فإنّه أصل الكتاب،أي جنس الكتب السّماويّة فإنّ جميعها مثبتة فيه على ما هي عليه عند الأنبياء،و مأخوذة مستنسخة منه.(8:350)

الآلوسيّ: أي في اللّوح المحفوظ-على ما ذهب إليه جمع-فإنّه أمّ الكتب السّماويّة،أي أصلها،لأنّها كلّها منقولة منه.

و قيل:(امّ الكتاب):العلم الأزليّ،و قيل:الآيات المحكمات.و الضّمير ل(حم)أو للكتاب بمعنى السّورة، أي أنّها واقعة في الآيات المحكمات الّتي هي الأمّ،ّ.

ص: 388


1- هكذا في الأصل،و العبارة مضطربة و يظهر أنّ بها سقطا.
2- هما:حمزة و الكسائيّ.

و هو كما ترى.

و قرأ الأخوان(إمّ)بكسر الهمزة،لإتباع الميم أو الكتاب،فلا تكسر في عدم الوصل.(25:64)

عزّة دروزة :جمهور المفسّرين على أنّ تعبير(أمّ الكتاب)هو اللّوح المحفوظ.غير أنّ الّذي يتبادر لنا أنّه بمعنى مصدر التّنزيل،على سبيل توكيد كون القرآن صادرا عن اللّه تعالى.و لعلّ هذا التّوكيد متّصل بما حكته آيات سورة«فصّلت»ثمّ آيات سورة«الشّورى» السّابقتين لهذه السّورة لما كان يحتجّ به الكفّار في معرض الإنكار باختلاف لغة القرآن عن لغة الكتب السّماويّة الأولى.فالقرآن صادر عن اللّه تعالى الّذي صدرت عنه هذه الكتب.و إذا كانت لغته عربيّة فإنّ ذلك بقصد أن يفهمه المخاطبون و لا يحتجّوا بعجمته،كما احتجّوا بعجمة الكتب السّماويّة الأولى ممّا انطوى في آية سورة«الأنعام»هذه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ الأنعام:156،على أنّ هذا التّأويل لا يتعارض مع مفهوم اللّوح المحفوظ الّذي شرحناه في تفسير سورة البروج.(5:200)

الطّباطبائيّ: تأكيد و تبيين لما تدلّ عليه الآية السّابقة أنّ الكتاب في موطنه الأصليّ وراء تعقّل العقول.

و الضّمير للكتاب،و المراد ب(امّ الكتاب)اللّوح المحفوظ،كما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج:21،22،و تسميته ب(امّ الكتاب)لكونه أصل الكتب السّماويّة،يستنسخ منه غيره.و التّقييد ب(امّ الكتاب)و(لدينا)للتّوضيح لا للاحتراز،و المعنى أنّه حال كونه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا حالا لازمة لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، و سيجيء في أواخر سورة الجاثية كلام في(أمّ الكتاب)إن شاء اللّه (1).(18:84)

ابن امّ

1- ...قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي... الأعراف:150

الحسن :كان أخاه لأبيه و أمّه،و العرب تقول ذلك على وجه الاستعطاف بالرّحم.(الطّوسيّ 4:582)

الإمام الصّادق عليه السّلام: لم يقل:يا ابن أبي،لأنّ بني الأب إذا كانت أمّهاتهم شتّى،لم يستبعد العداوة بينهم إلاّ من عصمه اللّه منهم،و إنّما يستبعد بين بني أمّ واحدة.(الكاشانيّ 2:240)

الطّبريّ: اختلفت القرّاء في قراءة قوله:يا(بن أمّ) فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة و بعض أهل البصرة يا(بن امّ)بفتح الميم من الأمّ.و قرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة يا(بن امّ)بكسر الميم من الأمّ.

و اختلف أهل العربيّة في فتح ذلك و كسره،مع إجماع جميعهم على أنّهما لغتان مستعملتان في العرب.

فقال بعض نحويّ البصرة:قيل ذلك بالفتح على أنّهما اسمان جعلا اسما واحدا،كما قيل:يا ابن عمّ.

و قال:هذا شاذّ لا يقاس عليه.و قال:من قرأ ذلك يا(بن

ص: 389


1- راجع«ن س خ».

امّ)،فهو على لغة الّذين يقولون:هذا غلام قد جاء،جعله اسما واحدا آخره مكسور،مثل قوله:«خازباز».

و قال بعض نحويّ الكوفة:قيل:يا ابن أمّ و يا ابن عمّ، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات،فيقال:

يا حسرتا،يا ويلتا.قال:فكأنّهم قالوا:يا أمّاه يا عمّاه، و لم يقولوا ذلك في أخ،و لو قيل ذلك لكان صوابا.

قال:و الّذين خفضوا ذلك فإنّه كثر في كلامهم حتّى حذفوا الياء.قال:و لا تكاد العرب تحذف الياء إلاّ من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه،إلاّ قولهم:

يا ابن امّ،و يا ابن عمّ؛و ذلك أنّهما يكثر استعمالهما في كلامهم،فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا:يا ابن أبي،و يا ابن أختي و أخي،و يا ابن خالتي،و يا ابن خالي.

و الصّواب من القول في ذلك أن يقال:إذا فتحت الميم من«ابن أمّ»،فمراد به النّدبة:يا ابن امّاه،و كذلك من«ابن عمّ»،فإذا كسرت،فمراد به الإضافة،ثمّ حذفت الياء الّتي هي كناية اسم المخبر عن نفسه،و كأنّ بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا كسر،ككسر الزّاي من«خازباز»،لأنّ«خازباز»لا يعرف الثّاني إلاّ بالأوّل، و لا الأوّل إلاّ بالثّاني،فصار كالأصوات.

و حكي عن يونس النّحوي تأنيث«أمّ»و تأنيث «عمّ»،و قال:لا يجعل اسما واحدا إلاّ مع ابن المذكّر.

قالوا:و أمّا اللّغة الجيّدة و القياس الصّحيح،فلغة من قال:يا ابن أمّي بإثبات الياء،كما قال أبو زبيد:

يا بن أمّي و يا شقيّق نفسي

أنت خلّفتني لدهر شديد

و كما قال الآخر:

يا ابن أمّي و لو شهدتك إذ

تدعو تميما و أنت غير مجاب

و إنّما أثبت هؤلاء الياء في«الأمّ»،لأنّها غير مناداة، و إنّما المنادى هو«الابن»دونها،و إنّما تسقط العرب الياء من المنادى إذا أضافته إلى نفسها،لا إذا أضافته إلى غير نفسها،كما قد بيّنّا.

و قيل:إنّ هارون إنّما قال لموسى عليه السّلام:يا(بن امّ)، و لم يقل:يا ابن أبي،و هما لأب واحد و أمّ واحدة، استعطافا له على نفسه برحم الأمّ.(9:67)

الزّجّاج: قال:(ابن أمّ)بالفتح،و إن شئت(ابن امّ) بالكسر.فمن قال:(ابن امّ)بالفتح،فإنّه إنّما فتحوا في:

(ابن امّ)و«ابن عمّ»،لكثرة استعمالهم هذا الاسم،و أنّ النّداء كلام محتمل للحذف،فجعلوا«ابن»و«امّ» واحدا،نحو خمسة عشر.و من قال:(ابن امّ)بالكسر، فإنّه أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسما واحدا.

(2:378)

القيسيّ: من فتح الميم جعل الاسمين اسما واحدا،مثل:خمسة عشر،و الفتحة في(ابن)بناء، و ليست بإعراب،كالتّاء من«خمسة عشر»و كالفتحة في«رويدك»إذا أردت الأمر بمعنى أرود.

و قيل:الأصل«ابن امّا»ثمّ حذفت الألف،و ذلك بعيد،لأنّ الألف عوض من ياء،و حذف الياء إنّما يكون في النّداء،و ليس(امّ)نداء.

و من كسر الميم أضاف(ابن)إلى(امّ)و فتحة(ابن) فتحة إعراب هنا،لأنّه منادى مضاف.(1:331)

الطّوسيّ: حكاية عمّا قال هارون لموسى حين

ص: 390

أخذ برأسه خوفا من أن يدخل الشّبهة على جهّال قومه، فيظنّون أنّ موسى فعل ذلك على وجه الاستخفاف به و الإنكار عليه.[ثمّ قال مثل قول الزّجّاج في كلمة أمّ](4:582)

الميبديّ: قرأ الكوفيّون(ابن امّ)بكسر الميم.

و أصله:ابن أمّي فحذف ياء الإضافة،لأنّ مبنى النّداء على الحذف،و بقيت الكسرة في الميم لتدلّ على الإضافة،كقوله تعالى: يا عِبادِ الزّمر:10،و قرأ الباقون(ابن امّ)بفتح الميم،يعني يا ابن أمّاه،فحذف الألف مقصورا على نيّة التّرخيم.

و كان هارون و موسى لأب و أمّ،و لكنّه ذكر أمّه ليرقّقه عليه.قيل:إنّ موسى كان يجلّ أمّه و يبرّها كثيرا، و يحسن إليها و يصلها.و بلغ من حبّه لها حدّا أنّه إن كان غضبان و ذكرت أمّه سكن غضبه و ارتاحت نفسه.

و قيل:الأمّ جنّة،و لا غضب و لا امتعاض في الجنّة، و لذا ذكر هارون أمّه عنده في غضبه و غيظه.(3:745)

الزّمخشريّ: قرئ بالفتح تشبيها بخمسة عشر، و بالكسر على طرح ياء الإضافة،و(ابن امّي)بالياء، و(ابن امّ)بكسر الهمزة و الميم.

و قيل:كان أخاه لأبيه و أمّه،فإن صحّ فإنّما أضافه إلى الأمّ إشارة إلى أنّهما من بطن واحد؛و ذلك أدعى إلى العطف و الرّقّة و أعظم للحقّ الواجب،و لأنّها كانت مؤمنة فاعتدّ بنسبها،و لأنّها هي الّتي قاست فيه المخاوف و الشّدائد،فذكره بحقّها.(2:119)

القرطبيّ: كان ابن أمّه و أبيه.و لكنّها كلمة لين و عطف.قال الزّجّاج:قيل:كان هارون أخا موسى لأمّه لا لأبيه.

و قرئ بفتح الميم و كسرها،فمن فتح جعل(ابن امّ) اسما واحدا كخمسة عشر،فصار كقولك:يا خمسة عشر أقبلوا.و من كسر الميم جعله مضافا إلى ضمير المتكلّم ثمّ حذف ياء الإضافة،لأنّ مبنى النّداء على الحذف، و أبقى الكسرة في الميم لتدلّ على الإضافة،كقوله:

(يا عباد).يدلّ عليه قراءة ابن السّميقع يا(بن امّى) بإثبات الياء على الأصل.

و قال الكسائيّ و الفرّاء و أبو عبيد:يا(بن امّ)بالفتح، تقديره:يا ابن أمّاه.و قال البصريّون:هذا القول خطأ،لأنّ الألف خفيفة لا تحذف،و لكن جعل الاسمين اسما واحدا.

و قال الأخفش و أبو حاتم:يا(بن امّ)بالكسر،كما تقول:يا غلام غلام أقبل،و هي لغة شاذّة،و القراءة بها بعيدة.و إنّما هذا فيما يكون مضافا إليك،فأمّا المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول:يا غلام غلامي،و يا ابن أخي.

و جوّزوا يا ابن أمّ،يا ابن عمّ،لكثرتها في الكلام.قال الزّجّاج و النّحّاس:و لكن لها وجه حسن جيّد،يجعل الابن مع الأمّ و مع العمّ اسما واحدا،بمنزلة قولك:

يا خمسة عشر أقبلوا،فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام.(7:290)

أبو حيّان:قرأ الحرميّان و أبو عمرو و حفص(ابن أمّ)بفتح الميم.فقال الكوفيّون:أصله:يا ابن أمّاه، فحذفت الألف تخفيفا كما حذفت في يا غلام،و أصله:

يا غلاما،و سقطت هاء السّكت،لأنّه درج،فعلى هذا

ص: 391

الاسم معرب؛إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلّم فهو مضاف إليه(ابن).و قال سيبويه:هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر و نحوه،فعلى قوله:

ليس مضافا إليه(ابن)و الحركة حركة بناء.

و قرأ باقي السّبعة بكسر الميم،فقياس قول الكوفيّين إنّه معرب،و حذفت ياء المتكلّم،و اجتزئ بالكسرة عنها كما اجتزءوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلّم.و قال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلّم،كما قالوا:يا أحد عشر أقبلوا،و حذفت الياء و اجتزءوا بالكسرة عنها،كما اجتزءوا في(يا قوم)و لو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء،لأنّ الاسم ليس بمنادى و لكنّه مضاف إليه المنادى،فلا يجوز حذف الياء منه.و قرئ بإثبات ياء الإضافة.

و أجود اللّغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة، ثمّ قلب الياء ألفا و الكسرة قبلها فتحة،ثمّ حذف التّاء و فتح الميم،ثمّ إثبات التّاء مفتوحة أو ساكنة.و هذه اللّغات جائزة في:ابنة أمّي و في ابن عمّي و ابنة عمّي.

و قرئ يا(بن امّى)بإثبات الياء و(ابن امّ)بكسر الهمزة و الميم.و معمول القول المنادى.(4:396)

الآلوسيّ: تخصيص«الأمّ»بالذّكر مع كونهما شقيقين على الأصحّ للتّرقيق.و قيل:لأنّها قامت بتربيته و قاست في تخليصه المخاوف و الشّدائد.و قيل:إنّ هارون عليه السّلام كانت آثار الجمال و الرّحمة فيه ظاهرة كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا مريم:53،و كان مورده و مصدره ذلك، و لذا كان يلهج بذكر ما يدلّ على الرّحمة.أ لا ترى كيف تلطّف بالقوم لمّا قدموا على ما قدموا،فقال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ طه:90!و من هنا ذكر «الأمّ»و نسب إليها لأنّ الرّحمة فيها أتمّ،و لولاها ما قدرت على تربية الولد و تحمّل المشاقّ فيها.و هو منزع صوفيّ كما لا يخفى.

و اختلف في اسم أمّهما عليهما السّلام،فقيل:محيانة بنت يصهر بن لاوي،و قيل:يوحانذ،و قيل:يارخا،و قيل:

يازخت،و قيل غير ذلك.(9:68)

عبد الكريم الخطيب :هو استعطاف من هارون لأخيه الّذي ثار عليه ثورته تلك،و أخذه من ناصيته يجرّه إليه.

و في نسبته إليه بأمّه زيادة في الاستعطاف؛إذ يذكر موسى بهذا النّسب،فترة الطّفولة الّتي كانت تضمّه هو و هارون تحت جناح أمّهما،فيرقّ له و تأخذه الشّفقة به.

(5:486)

المصطفويّ: التّعبير بها إشارة إلى وحدة مقصدهما و فكرهما و توجّههما؛و لتحريك العطوفة و المحبّة.(1:126)

2- قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي...

طه:94

أبو عبيدة :فتح بعضهم الميم،لأنّهم جعلوه اسمين بمنزلة«خمسة عشر»لأنّهما اسمان فأجروهما مجرى اسم واحد،كقولهم:هو جاري بيت بيت،و لقيته كفّة كفّة.

و كسر بعضهم الميم فقال:(يا ابن امّ)بغير ياء

ص: 392

و لا تنوين،كما فعلوا ذلك بقولهم:يا زيد،بغير تنوين.

و أطلق بعضهم ياء الإضافة،لأنّه جعل النّداء في «ابن»فقال:(يا ابن أمّي)لأنّه يجعل النّداء في«ابن»كما جعله في«زيد»ثمّ أظهر في الاسم الثّاني ياء الإضافة.(2:25)

الطّوسيّ: قرأ (يا ابن امّ) بفتح الميم،ابن كثير،و أبو عمرو،و عاصم،في رواية حفص.الباقون بكسر الميم.

من فتح الميم جعل(ابن امّ)اسما واحدا و بناهما على الفتح،مثل«خمسة عشر»إلاّ أنّ«خمسة عشر» تضمّن معنى الواو،و تقديره:خمسة و عشرة،و(ابن امّ) بمعنى اللاّم،و تقديره:لأمّي،و كلاهما على تقدير الاتّصال بالحرف على جهة الحذف،و يجوز(يا ابن امّ) على الإضافة.

و لم يجئ هذا البناء إلاّ في:يا ابن أمّ و يا ابن عمّ،لأنّه كثر حتّى صار يقال:للأجنبيّ،فلمّا عدل بمعناه عدل بلفظه.[ثمّ استشهد بشعر]

و يحتمل أن يكون أراد«يا ابن امّاه»فرخّم.

و يحتمل أن يكون أراد«يا ابن امّاه»فخفّف.و من كسر أراد«يا ابن أمّي»لأنّ العرب تقول:يا ابن أمّا،بمعنى يا ابن أميّ،و يا ربّا،بمعنى يا ربّي.فمن كسر أراد:يا ابن أمّي، فحذف الياء و أبقى الكسرة تدلّ عليها.(7:200)

البروسويّ:الأمّ بإزاء الأب و هي الوالدة القريبة الّتي ولدته و البعيدة الّتي ولدت من ولدته-و يقال لكلّ ما كان أصلا لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه:

أمّ-و أصله:يا ابن أمّي،أبدل الياء ألفا،فقيل:يا ابن أمّا،ثمّ حذف الألف و اكتفى بالفتحة لكثرة الاستعمال،و طول اللّفظ،و ثقل التّضعيف.

و قرئ (يا ابن امّ) بالكسر،بحذف الياء و الاكتفاء بالكسرة.و خصّ الأمّ بالإضافة استعظاما لحقّها و ترقيقا لقلبه و اعتدادا لنسبها و إشارة إلى أنّهما من بطن واحد، و إلاّ فالجمهور على أنّهما لأب و أمّ.

قال بعض الكبار:كانت نبوّة هارون من حضرة الرّحمة،كما قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا مريم:53،و لذا ناداه بأمّه؛إذ كانت الرّحمة للأمّ أوفر،و لذا صبرت على مباشرة التّربية.

و في«التّأويلات النّجميّة»:لمّا رأى هارون موسى رجع من تلك الحضرة سكران الشّوق ملآن الذّوق، و فيه نخوة القربة و الاصطفاء و المكالمة ما وسعه إلاّ التّواضع و الخشوع،فقال:(يا ابن امّ).(5:419)

الطّباطبائيّ:(يا ابن امّ)أصله:يا ابن أمّي،و هي كلمة استرحام و استرآف،قالها لإسكات غضب موسى.

(14:193)

امّ القرى

1- وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها... الأنعام:92

ابن عبّاس: يعني ب(امّ القرى)مكّة و من حولها من القرى،إلى المشرق و المغرب.(الطّبريّ 7:271)

مثله قتادة.(الطّوسيّ 4:217)

سمّيت بذلك،لأنّ الأرضين دحيت من تحتها و من حولها.(الفخر الرّازيّ 13:81)

قتادة :كنّا نحدّث أنّ(امّ القرى)مكّة،و كنّا نحدّث

ص: 393

أنّ منها دحيت الأرض.(الطّبريّ 7:272)

السّدّيّ: (امّ القرى)هي مكّة،و إنّما سمّيت أمّ القرى،لأنّها أوّل بيت وضع بها.(الطّبريّ 7:272)

ابن قتيبة :(أمّ القرى):مكّة،لأنّها أقدمها.(156)

الطّبريّ: هي مكّة،و من حولها شرقا و غربا.

(7:271)

الزّجّاج: و معنى(أمّ القرى)،أي أهل أمّ القرى، (و من حولها)،عطف عليهم.

(امّ القرى):مكّة،سمّيت أمّ القرى،لأنّها كانت أعظم القرى شأنا.(2:271)

القمّيّ: يعني مكّة.و إنّما سمّيت أمّ القرى،لأنّها أوّل بقعة خلقت.(1:210)

الهرويّ: سمّيت فاتحة الكتاب أمّ الكتاب،لأنّها أوّله و أصله.و به سمّيت مكّة أمّ القرى،لأنّها أوّل الأرض و أصلها،و منها دحيت.(1:85)

الشّريف الرّضيّ:هذه استعارة،و المراد ب(امّ القرى)مكّة،و إنّما سمّاها سبحانه بذلك،لأنّها كالأصل للقرى،فكلّ قرية فإنّما هي طارئة عليها،و مضافة إليها.

و قد روي في تقدّم اختطاطها ما لا يحتمل كتابنا هذا ذكره.(تلخيص البيان:137)

الطّوسيّ: إنّما خصّ أهل مكّة بذلك،لأنّها أعظم قدرا،لأنّ فيها الكعبة،و لأنّ النّاس يقصدونها بالحجّ و العمرة من جميع الآفاق.

و قيل:سمّيت مكّة أمّ القرى،لأنّها أوّل موضع سكن في الأرض.و قيل:إنّ الأرض كلّها دحيت من تحتها فكانت أمّا لها.(4:217)

البغويّ:(امّ القرى)يعني مكّة،سمّيت أمّ القرى، لأنّ الأرض دحيت من تحتها فهي أصل الأرض كلّها، كالأمّ أصل النّسل.و أراد أهل أمّ القرى.(2:131)

الزّمخشريّ: سمّيت مكّة أمّ القرى،لأنّها مكان أوّل بيت وضع للنّاس،و لأنّها قبلة أهل القرى كلّها و محجّهم،و لأنّها أعظم القرى شأنا.(2:35)

نحوه البيضاويّ(1:321)،و فريد و جدي (المصحف المفسّر:177)،و المراغيّ(7:187).

الفخر الرّازيّ: اتّفقوا على أنّ هاهنا محذوفا، و التّقدير:و لتنذر أهل أمّ القرى.و اتّفقوا على أنّ(امّ القرى)هي مكّة،و اختلفوا في السّبب الّذي لأجله سمّيت مكّة بهذا الاسم.

فقال ابن عبّاس:سمّيت بذلك،لأنّ الأرضين دحيت من تحتها و من حولها.و قال أبو بكر الأصمّ:

سمّيت بذلك،لأنّها قبلة أهل الدّنيا،فصارت هي كالأصل و سائر البلاد و القرى تابعة لها،و أيضا من أصول عبادات أهل الدّنيا الحجّ و هو إنّما يحصل في تلك البلدة،فلهذا السّبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأمّ،و أيضا فلمّا كان أهل الدّنيا يجتمعون هناك بسبب الحجّ،لا جرم يحصل هناك أنواع من التّجارات و المنافع ما لا يحصل في سائر البلاد،و لا شكّ أنّ الكسب و التّجارة من أصول المعيشة،فلهذا السّبب سمّيت مكّة أمّ القرى.و قيل:إنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّ الكعبة أوّل بيت وضع للنّاس،و قيل أيضا:إنّ مكّة أوّل بلدة سكنت في الأرض.

إذا عرفت هذا فنقول:قوله:(و من حولها)دخل فيه

ص: 394

سائر البلدان و القرى.

زعمت طائفة من اليهود أنّ محمّدا عليه الصّلاة و السّلام كان رسولا إلى العرب فقط.و احتجّوا على صحّة قولهم بهذه الآية،و قالوا:إنّه تعالى بيّن أنّه إنّما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكّة و إلى القرى المحيطة بها،و المراد منها جزيرة العرب،و لو كان مبعوثا إلى كلّ العالمين لكان التّقييد بقوله: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها باطلا.

و الجواب:أنّ تخصيص هذه المواضع بالذّكر لا يدلّ على انتفاء الحكم فيما سواها إلاّ بدلالة المفهوم و هي ضعيفة،لا سيّما و قد ثبت بالتّواتر الظّاهر،المقطوع به من دين محمّد عليه الصّلاة و السّلام أنّه كان يدعى كونه رسولا إلى كلّ العالمين،و أيضا قوله:(و من حولها) يتناول جميع البلاد و القرى المحيطة بها،و بهذا التّقدير فيدخل فيه جميع بلاد العالم.(13:81)

نحوه النّيسابوريّ(7:160)،و أبو حيّان(4:179).

البروسويّ: قال: (1)في«التّأويلات النّجميّة»(أمّ القرى)هي الذّرّة المودعة في القلب الّتي هي المخاطب في الميثاق،و قد دحيت جميع أرض القالب من تحتها و من حولها من الجوارح و الأعضاء و السّمع و البصر و الفؤاد و الصّفات و الأخلاق،بأن يتنوّروا بأنواره و ينتفعوا بأسراره و يتخلّقوا بأخلاقه.(3:64)

خليل ياسين: أي و لتنذر أهل أمّ القرى،أراد بها مكّة.

س-بم كانت مكّة أمّ القرى؟

ج-لأنّها مكان أوّل بيت وضع للنّاس،و لأنّها قبلة أهل القرى كلّهم و محجّهم،و لأنّها أعظم القرى شأنا، و لأنّها مقرّ الرّسول و ملتقى القبائل:تجارة و اجتماعا و منادمة في الأدب و غير ذلك.(1:225)

عبد الكريم الخطيب :(أمّ القرى)هي مكّة، و هي منارة الإسلام،و متوجّه كلّ مسلم في صلاته و حجّه،و هي بهذه المثابة أمّ بلاد الإسلام كلّها،و مركز دائرتها،و هكذا تكون على هذا الوصف أبدا.(4:238)

2- وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ الشّورى:7

السّدّيّ:مكّة.(الطّبريّ 25:8)

الفرّاء: (أمّ القرى):مكّة،و من حولها من العرب.(3:22)

المبرّد: كانت العرب تسمّي مكّة أمّ القرى، وَ مَنْ حَوْلَها :و من يطيف بها.(الطّوسيّ 9:145)

الطّبريّ: هي مكّة.(25:8)

مثله الزّجّاج.(4:394)

الطّوسيّ: قال السّدّيّ:(أمّ القرى):مكّة،و التّقدير:

لتنذر أهل أمّ القرى(و من حولها):من سائر النّاس.

و سمّيت(أمّ القرى)لأنّه روي أنّ اللّه تعالى دحا الأرض من تحت الكعبة.(9:145)

القشيريّ: أنزلنا عليك قرآنا يتلى بلغة العرب، لتخوّف به أهل مكّة و الّذين حولها.و جميع العالم محدق بالكعبة و مكّة،لأنّها سرّة الأرض.(5:343)

البغويّ:مكّة،يعني أهلها.(6:98))

ص: 395


1- القائل:نجم الدّين داية(م 654 ه)

مثله الخازن.(6:98)

الميبديّ: يعني لتنذر أهل مكّة و لتنذر من حولها، يعني قرى الأرض كلّها،و سمّيت مكّة(أمّ القرى)لأنّها أشرف البلاد لكون الحرم و بيت اللّه العتيق فيها،و لأنّ الأرض دحيت من تحتها،فمحلّ القرى منها محلّ البنات من الأمّهات.(9:7)

نحوه البروسويّ.(8:289)

الزّمخشريّ: أهل أمّ القرى،كقوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:82.(3:461)

ابن عطيّة: (أمّ القرى):مكّة،و المراد أهل مكّة.(5:27)

نحوه ابن الجوزيّ(7:273)،و الطّبرسيّ(5:22).

الفخر الرّازيّ: أي لتنذر أهل أمّ القرى،لأنّ البلد لا تعقل،و هو كقوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:82.

و(أمّ القرى)أصل القرى و هي مكّة،و سمّيت بهذا الاسم إجلالا لها،لأنّ فيها البيت و مقام إبراهيم.و العرب تسمّي أصل كلّ شيء أمّة،حتّى يقال:هذه القصيدة من أمّهات قصائد فلان.

(و من حولها):من أهل البدو و الحضر و أهل المدر، و الإنذار:التّخويف.

فإن قيل:فظاهر اللّفظ يقتضي أنّ اللّه تعالى إنّما أوحى إليه لينذر أهل مكّة و أهل القرى المحيطة بمكّة، و هذا يقتضي أن يكون رسولا إليهم فقط،و أن لا يكون رسولا إلى كلّ العالمين.

و الجواب:أنّ التّخصيص بالذّكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا سواه،فهذه الآية تدلّ على كونه رسولا إلى هؤلاء خاصّة،و قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ سبأ:28،يدلّ على كونه رسولا إلى كلّ العالمين.و أيضا لمّا ثبت كونه رسولا إلى أهل مكّة وجب كونه صادقا، ثمّ إنّه نقل إلينا بالتّواتر أنّه كان يدّعي أنّه رسول إلى كلّ العالمين،و الصّادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه؛فثبت أنّه رسول إلى كلّ العالمين.(27:147)

القرطبيّ:يعني مكّة،و قيل لمكّة:(أمّ القرى)لأنّ الأرض دحيت من تحتها.(16:6)

الشّربينيّ: أي أهل مكّة الّتي هي أمّ الأرض و أصلها،منها دحيت،أو لشرفها،أوقع الفعل عليها عدّا لها عداد العقلاء،أو غير ذلك؛إذ ما عليك إلاّ البلاغ.

(3:528)

الآلوسيّ: أي أهل أمّ القرى،على التّجوّز في النّسبة،أو بتقدير المضاف،و المراد ب(أمّ القرى)مكّة.

و سمّيت بذلك على ما قال الرّاغب:لما روي أنّه دحيت الدّنيا من تحتها،فهي كالأصل لها،و الأمّ تقال لكلّ ما كان أصلا لشيء.و قد يقال:هي أمّ لما حولها من القرى،لأنّها حدثت قبلها-لا كلّ قرى الدّنيا-و قد يقال لبلد:هي أمّ البلاد،باعتبار احتياج أهالي البلاد إليها.(25:13)

سيّد قطب :و(أمّ القرى):مكّة المكرّمة،المكرّمة ببيت اللّه العتيق فيها.و قد اختار اللّه أن تكون هي و ما حولها من القرى موضع هذه الرّسالة الأخيرة،و أنزل القرآن بلغتها العربيّة لأمر يعلمه و يريده.(5:3142)

عزّة دروزة :(أمّ القرى)كناية عن مكّة.

(5:160)

ص: 396

الطّباطبائيّ: الإشارة إلى الوحي المفهوم من سابق السّياق،و(أمّ القرى)هي مكّة المشرّفة،و المراد بإنذار أمّ القرى:إنذار أهلها،و المراد بمن حولها:سائر أهل الجزيرة ممّن هو خارج مكّة،كما يؤيّده توصيف القرآن بالعربيّة.(18:18)

عبد الكريم الخطيب :أي أهل مكّة،و وصف مكّة بأنّها(أمّ القرى)إشارة إلى أنّها ستكون قبلة المسلمين في صلاتهم،و مجتمعهم في حجّهم.

(13:20)

امّه

1- وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ... لقمان:14

الزّمخشريّ: إن قلت:قوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ كيف اعترض به بين المفسّر و المفسّر؟

قلت:لمّا وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأمّ و تعانيه من المشاقّ و المتاعب في حمله و فصاله هذه المدّة المتطاولة،إيجابا للتّوصية بالوالدة خصوصا، و تذكيرا بحقّها العظيم مفردا،و من ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لمن قال له:من أبرّ؟«أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك،ثمّ قال بعد ذلك:ثمّ أباك».(3:232)

الفخر الرّازيّ: إن قال قائل:وصّى اللّه بالوالدين و ذكر السّبب في حقّ الأمّ.

فنقول:خصّ الأمّ بالذّكر و في الأب ما وجد في الأمّ،فإنّ الأب حمله في صلبه سنين و ربّاه بكسبه سنين فهو أبلغ.(25:147)

القرطبيّ: لمّا خصّ تعالى الأمّ بدرجة ذكر الحمل و بدرجة ذكر الرّضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، و للأب واحدة،و أشبه ذلك قوله صلّى اللّه عليه و سلّم حين قال له رجل:

من أبرّ؟قال:أمّك،قال:ثمّ من؟قال:أمّك،قال:ثمّ من؟ قال:أمّك،قال:ثمّ من؟قال:أبوك.فجعل له الرّبع من المبرّة،كما في هذه الآية.(14:64)

نحوه أبو حيّان.(7:187)

الطّباطبائيّ: ذكر بعض ما تحمّلته أمّه من المحنة و الأذى في حمله و تربيته،ليكون داعيا له إلى شكرهما و خاصّة الأمّ.(16:216)

2- وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ.

القارعة:8،9

ابن عبّاس: هو مثلها،و إنّما جعل النّار أمّه،لأنّها صارت مأواه،كما تؤوي المرأة ابنها،فجعلها إذ لم يكن له مأوى غيرها،بمنزلة أمّ له.(الطّبريّ 30:283)

عكرمة :إنّ المعنى فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنّم، لأنّه يطرح فيها منكوسا.

مثله قتادة،و الكلبيّ.(أبو السّعود 5:282)

قتادة :يهوي في النّار على رأسه.

(الطّبريّ 30:283)

مصيره إلى النّار،هي الهاوية.(الطّبريّ 30:282)

ابن زيد :الهاوية:النّار هي أمّه و مأواه الّتي يرجع إليها،و يأوي إليها.(الطّبريّ 30:283)

الفرّاء: صارت مأواه،كما تؤوي المرأة ابنها،

ص: 397

فجعلها-إذ لا مأوى له غيرها-أمّا له.(3:287)

ابن قتيبة :لمّا كانت الأمّ كافلة الولد و غاذيته، و مأواه و مربّيته،و كانت النّار للكافر كذلك؛جعلها أمّه.

(تأويل مشكل القرآن:104)

مثله خليل ياسين.(2:339)

ابن خالويه :إنّما سمّيت جهنّم أمّا للكافر؛إذ كان مصيره إليها و مأواه.و كلّ شيء جمع شيئا و ضمّه إليه فهو أمّ له.[إلى أن قال:]

فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ الفاء جواب الشّرط،و(امّه)رفع بالابتداء،و(هاوية)خبر الابتداء.

فإن قيل لك:هل يجوز أن تكسر الهمزة و تقول:

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)، كما قرئ (و انّه فى امّ الكتاب) ؟

فقل:لا تجوز الكسرة إلاّ إذا تقدّمتها كسرة أو ياء عند النّحويّين.و ذكر ابن دريد أنّ الكسرة لغة،و أراه غلطا.(163)

الطّوسيّ: أي مأواه هاوية،يعني جهنّم.و إنّما سمّاها أمّه،لأنّه يأوي إليها كما يأوي الولد إلى أمّه.(10:400)

البغويّ: مسكنه النّار،سمّي المسكن أمّا،لأنّ الأصل في السّكون الأمّهات.(7:237)

الميبديّ: مسكنه و مأواه النّار،سمّيت أمّه،لأنّه يأوي إليها كما يأوي الولد إلى أمّه.و«الهاوية»اسم من أسماء جهنّم،هي أمّ الإنسان الكافر،لازمة له و أولى به.

و قيل: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي أمّ رأسه هاوية،منحدرة منكوسة في النّار،من أعلى إلى أسفل.و قيل: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ مثل قول العرب:هوت أمّه.و هي كلمة تستعمل عند عظم المكروه و شدّة المصيبة،كما يقال ثكلته أمّه.(10:592)

قيل:الأمّ:الأصل.و«الهاوية»:من أسماء النّار، لأنّها نار عتيقة،و المعنى منزله و مأواه الّذي يأوي إليه هو النّار،و يؤيّد هذا الوجه قوله:(ما هيه)،أي ما الهاوية؟ هذا هو الظّاهر.(30:165)

البروسويّ: في«التّأويلات النّجميّة»:و أمّا من خفّت موازينه بالأخلاق السّيّئة و الأوصاف القبيحة الخبيثة فأصله المجبول عليه هاوية الحجاب من الأزل إلى الأبد،و هي نار حامية بنار الجهل و العمى و حطب النّفس و الهوى،و نفخ الشّيطان و الدّنيا.(10:500)

الآلوسيّ: عبّر عن المأوى بالأمّ على التّشبيه بها فالأمّ مفزع الولد و مأواه،و فيه تهكّم به.

و قيل:شبّه النّار بالأمّ في أنّها تحيط به إحاطة رحم الأمّ بالولد.(30:222)

القاسميّ: أي فمأواه و مسكنه الهاوية الّتي يهوي فيها على رأسه في جهنّم.

قال الشّهاب: فسمّي المأوى أمّا على التّشبيه تهكّما،لأنّ أمّ الولد مأواه و مقرّه.

و في«التّأويلات»:قيل:المراد أمّ رأسه،أي يلقى في النّار منكوسا على رأسه.

و الأوّل هو الموافق لقوله: وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ القارعة:10،11،فإنّه تقرير لها بعد إبهامها،و الإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتّهويل.(17:6244)

سيّد قطب :الأمّ هي مرجع الطّفل و ملاذه.فمرجع

ص: 398

القوم و ملاذهم يومئذ هو الهاوية.و في التّعبير إناقة ظاهرة،و تنسيق خاصّ.و فيه كذلك غموض يمهّد لإيضاح بعده،يزيد في عمق الأثر المقصود.

(6:3961)

امّها

وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً... القصص:59

الحسن :في أوائلها.(القرطبيّ 13:302)

قتادة :أمّ القرى:مكّة.(الطّبريّ 20:95)

أبو عبيدة :أمّ القرى:مكّة،و أمّ الأرضين في قول العرب.و في آية أخرى (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) .(2:108)

ابن قتيبة :أي في أعظمها.(334)

مثله الهرويّ.(1:85)

الطّبريّ: حتّى يبعث في مكّة رسولا،و هي أمّ القرى.(20:95)

الطّوسيّ: قيل في معنى(أمّها)قولان:

أحدهما:في أمّ القرى،و هي مكّة.

و الآخر:في معظم القرى في سائر الدّنيا.

(8:166)

مثله الطّبرسيّ.(4:261)

الزّمخشريّ: أي أصلها و قصبتها الّتي هي أعمالها و توابعها.(رسولا)لإلزام الحجّة و قطع المعذرة،مع علمه أنّهم لا يؤمنون،أو و ما كان في حكم اللّه و سابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتّى يبعث في أمّ القرى:يعني مكّة(رسولا)و هو محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم خاتم الأنبياء.

و قرئ(امّها)بضمّ الهمزة و كسرها لإتباع الجرّ.

(3:186)

مثله الفخر الرّازيّ.(25:5)

القرطبيّ: قرئ بضمّ الهمزة و كسرها لإتباع الجرّ، يعني مكّة.و قيل:(في امّها)يعني في أعظمها.و قال الحسن:في أوائلها.

قلت:و مكّة أعظم القرى لحرمتها و أوّلها،لقوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ آل عمران:96، و خصّت بالأعظم لبعثة الرّسول فيها،لأنّ الرّسل تبعث إلى الأشراف و هم يسكنون المدائن،و هي أمّ ما حولها.(13:301)

أبو حيّان: الظّاهر أنّ(القرى)عامّة في القرى الّتي هلكت،فالمعنى أنّه تعالى لا يهلكها في كلّ وقت حتّى يبعث في أمّ تلك القرى،أي كبيرتها الّتي ترجع تلك القرى إليها.و منها يمتارون و فيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى،حتّى يبعث في أمّها رسولا لإلزام الحجّة و قطع المعذرة.و يحتمل أن يراد ب(القرى)القرى الّتي في عصر الرّسول،فيكون«أمّ القرى»مكّة،و يكون «الرّسول»محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم خاتم الأنبياء.(7:127)

البروسويّ: أي في أصلها و أعظمها الّتي تلك القرى سوادها و أتباعها.و خصّ الأصل و الأعظم لكون أهلها أفطن و أشرف،و الرّسل إنّما بعثت غالبا إلى الأشراف،و هم غالبا يسكنون المدن و القصبات.

(6:418)

عزّة دروزة :عاصمتها،و أمّ القرى:عاصمة القرى و مركزها.و الاكتفاء بذكر إرسال الرّسل إلى أمّ القرى

ص: 399

يعلّل بأنّ القرى مرتبطة بمركزها ارتباطا وثيقا،و بأنّ هذا المركز هو قدوتها و إمامها.(3:198)

الطّباطبائيّ: أمّ القرى هي أصلها و كبيرتها الّتي ترجع إليها.و في الآية بيان السّنّة الإلهيّة في عذاب القرى بالاستئصال،و هو أنّ عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلاّ بعد إتمام الحجّة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات اللّه،و إلاّ بعد كون المعذّبين ظالمين بالكفر بآيات اللّه و تكذيب رسوله.

و في تعقيب الآية السّابقة بهذه الآية الشّارحة لسنّته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكّة المشركين بالإيماء إلى أنّهم لو أصرّوا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب،لأنّ اللّه قد بعث في أمّ قراهم و هي مكّة رسولا يتلو عليهم آياته،و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.(16:62)

امّهاتكم

1- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ... النّساء:23

ابن عبّاس: حرّم من النّسب سبع،و من الصّهر سبع،ثمّ قرأ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ.

(الطّبريّ 4:320)

الطّبريّ: حرّم عليكم نكاح أمّهاتكم،فترك ذكر النّكاح اكتفاء بدلالة الكلام عليه.(4:320)

الطّبرسيّ: لا بدّ فيه من محذوف،لأنّ التّحريم لا يتعلّق بالأعيان و إنّما يتعلّق بأفعال المكلّف،ثمّ يختلف باختلاف ما أضيف إليه.فإذا أضيف إلى مأكول نحو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ المائدة:3، فالمراد الأكل،و إذا أضيف إلى النّساء فالمراد العقد، فالتّقدير:حرّم عليكم نكاح أمّهاتكم،فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه لدلالة مفهوم الكلام عليه.

و كلّ امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمّك-بإناث رجعت إليها أو بذكور-فهي أمّك.

(2:28)

الفخر الرّازيّ: كلّ امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمّك بدرجة أو بدرجات- بإناث رجعت إليها أو بذكور-فهي أمّك.

ثمّ هاهنا بحث،و هو أنّ لفظ«الأمّ»لا شكّ أنّه حقيقة في الأمّ الأصليّة.فأمّا في الجدّات فإمّا أن يكون حقيقة أو مجازا.

فإن كان لفظ«الأمّ»حقيقة في الأمّ الأصليّة و في الجدّات،فإمّا أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا،فإن كان لفظا متواطئا،أعني أن يكون لفظ الأمّ موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأمّ الأصليّة و بين سائر الجدّات، فعلى هذا التّقدير يكون قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ نصّا في تحريم الأمّ الأصليّة و في تحريم جميع الجدّات.

و أمّا إن كان لفظ«الأمّ»مشتركا في الأمّ الأصليّة و في الجدّات،فهذا يتفرّع على أنّ اللّفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟فمن جوّزه حمل اللّفظ هاهنا على الكلّ،و حينئذ يكون تحريم الجدّات منصوصا عليه،و من قال:لا يجوز،فالقائلون

ص: 400

بذلك لهم طريقان في هذا الموضع:

أحدهما:أنّ لفظ«الأمّ»لا شكّ أنّه أريد به هاهنا الأمّ الأصليّة،فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه، و أمّا تحريم نكاح الجدّات فغير مستفاد من هذا النّصّ، بل من الإجماع.

و الثّاني:أنّه تعالى تكلّم بهذه الآية مرّتين،يريد في كلّ مرة مفهوما آخر.

أمّا إذا قلنا:لفظ الأمّ حقيقة في الأمّ الأصليّة،مجاز في الجدّات،فقد ثبت أنّه لا يجوز استعمال اللّفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته و مجازه معا،و حينئذ يرجع الطّريقان اللّذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأمّ حقيقة في الأمّ الأصليّة،و في الجدّات.(10:27)

نحوه النّيسابوريّ.(5:6)

القرطبيّ: الأمّهات:جمع أمّهة،يقال:أمّ و أمّهة بمعنى واحد،و جاء القرآن بهما.

و قيل:إنّ أصل أمّ:أمّهة،على وزن«فعّلة»مثل قبّرة و حمّرة لطيرين،فسقطت و عادت في الجمع.

و قيل أصل الأمّ:أمّة.

فالأمّ اسم لكلّ أنثى لها عليك ولادة،فيدخل في ذلك الأمّ دنية،و أمّهاتها و جدّاتها و أمّ الأب و جدّاته و إن علون.(5:107)

أبو حيّان: لفظ«الأمّ»حقيقة في الّتي ولدتك نفسها،و دلالة لفظ الأمّ على الجدّة إن كان بالتّواطؤ أو بالاشتراك.و جاز حمله على المشتركين كان حقيقة، و تناولها النّصّ و إن كان بالمجاز.و جاز حمله على الحقيقة و المجاز فكذلك،و إلاّ فيستفاد تحريم الجدّات من الإجماع أو من نصّ آخر.(3:210)

الآلوسيّ: (امّهاتكم)تعمّ الجدّات كيف كنّ؛إذ الأمّ هي الأصل في الأصل،كأمّ الكتاب و أمّ القرى، فتثبت حرمة الجدّات بموضوع اللفظ و حقيقته،لأنّ الأمّ على هذا من قبيل المشكّك.

و ذهب بعضهم إلى أنّ إطلاق الأمّ على الجدّة مجاز، و أنّ إثبات حرمة الجدّات بالإجماع.و التّحقيق أنّ الأمّ مراد به الأصل على كلّ حال،لأنّه إن استعمل فيه حقيقة فظاهر،و إلاّ فيجب أن يحكم بإرادته مجازا، فتدخل الجدّات في عموم المجاز و المعرف لإرادة ذلك في النّصّ الإجماع على حرمتهنّ.(4:249)

أحمد بدويّ:اختار القرآن عند عدّ المحرّمات كلمة«امّهات»؛إذ قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ، و آثر كلمة«الوالدات»في قوله سبحانه: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ البقرة:233،لما أنّ كلمة الأمّ تبعث في النّفس إحساسا بالقداسة،و تصوّرا مشخّصا محاطا بهالة من الإجلال،حتّى تشمئزّ النّفس و تنفر أن يمسّ بما يشين هذه القداسة و ذلك الإجلال، و تنفر من ذلك أشدّ النّفور،فكانت أنسب كلمة تذكر عند ذكر المحرّمات،و كذلك تجد كلّ كلمة في هذه المحرّمات مشيرة معنى يؤيّد التّحريم،و يدفع إليه.و أمّا كلمة«الوالدات»فتوحي إلى النّفس بأنّ من الظّلم أن ينزع من الوالدة ما ولدته و أن يصبح فؤادها فارغا.

و من هنا كانت كلّ كلمة منهما موجبة في موضعها؛ آخذة خير مكان تستطيع أن تحتلّه.

(من بلاغة القرآن:68)

ص: 401

2- وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً. النّحل:78

الزّمخشريّ: قرئ(امّهاتكم)بضمّ الهمزة و كسرها.و الهاء مزيدة في«أمّات»كما زيدت في «أراق»فقيل:أهراق،و شذّت زيادتها في الواحدة.

(2:422)

نحوه الفخر الرّازيّ(20:89)،و أبو السّعود (3:187)،و البروسويّ(5:62)،و الآلوسيّ (14:200).

القرطبيّ: قرأ الأعمش و ابن وثّاب و حمزة (امّهاتكم)هنا،و في النّور و الزّمر و النّجم بكسر الهمزة و الميم.و أمّا الكسائيّ فكسر الهمزة و فتح الميم-و إنّما كان هذا للإتباع-الباقون بضمّ الهمزة و فتح الميم على الأصل.

و أصل الأمّهات:أمّات،فزيدت الهاء تأكيدا،كما زادوا هاء في أهرقت الماء،و أصله:أرقت.

(10:151)

امّهاتهم

1- اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ... الأحزاب:6

الإمام الباقر عليه السّلام:أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحرمة مثل أمّهاتهم.(الكاشانيّ 4:167)

قتادة :يعظّم بذلك حقّهنّ.(الطّبريّ 21:122)

ابن زيد :محرّمات عليهم.(الطّبريّ 21:122)

الطّبريّ: حرمة أزواجه حرمة أمّهاتهم عليهم،في أنّهنّ يحرم عليهنّ نكاحهنّ من بعد وفاته،كما يحرم عليهم نكاح أمّهاتهم.(21:122)

الطّوسيّ: المعنى أنّهنّ كالأمّهات في الحرمة، و تحريم العقد عليهنّ.(8:317)

نحوه ابن الشّجريّ.(1:157)

الطّبرسيّ: المعنى إنّهنّ للمؤمنين كالأمّهات في الحرمة و تحريم النّكاح،و لسن أمّهات لهم على الحقيقة؛إذ لو كنّ كذلك لكانت بناته أخوات المؤمنين على الحقيقة،فكان لا يحلّ للمؤمن التّزويج بهنّ.فثبت أنّ المراد به يعود إلى حرمة العقد عليهنّ لا غير،لأنّه لم يثبت شيء من أحكام الأمومة بين المؤمنين و بينهنّ سوى هذه الواحدة.

أ لا ترى أنّه لا يحلّ للمؤمنين رؤيتهنّ و لا يرثن المؤمنين و لا يرثونهنّ!و لهذا قال الشّافعيّ:و أزواجه أمّهاتهم فى معنى دون معنى،و هو إنّهنّ محرّمات على التّأبيد،و ما كنّ محارم في الخلوة و المسافرة.و هذا معنى ما رواه مسروق عن عائشة:أنّ امرأة قالت لها:يا أمّه، فقالت:لست لك بأمّ إنّما أنا أمّ رجالكم،فعلى هذا لا يجوز أن يقال لإخوانهنّ و أخواتهنّ:أخوال المؤمنين و خالات المؤمنين.قال الشّافعيّ تزوّج الزّبير أسماء بنت أبي بكر و لم يقل:هي خالة المؤمنين.(4:338)

الفخر الرّازيّ:تقرير آخر[لصحّة ما صدر منه عليه الصّلاة و السّلام من التّزوّج بزينب]و ذلك لأنّ زوجة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ما جعلها اللّه تعالى في حكم الأمّ إلاّ لقطع نظر الأمّة عمّا تعلّق به غرض النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام،فإذا تعلّق خاطره بامرأة شاركت الزّوجات في

ص: 402

التّعلّق فحرّمت مثل ما حرّمت أزواجه على غيره.

فلو قال قائل:كيف قال: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ، و قال من قبل: وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ الأحزاب:4،إشارة إلى أنّ غير من ولدت لا تصير أمّا بوجه،و لذلك قال تعالى في موضع آخر: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ المجادلة:2؟

فنقول:قوله تعالى في الآية المتقدّمة وَ اللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ الأحزاب:4،جواب عن هذا،معناه أنّ الشّرع مثل الحقيقة،و لهذا يرجع العاقل عند تعذّر اعتبار الحقيقة إلى الشّريعة،كما أنّ امرأتين إذا ادّعت كلّ واحدة ولدا بعينه و لم يكن لهما بيّنة، و حلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد،و إن تبيّن أنّ الّتي حلفت دون البلوغ أو بكر ببيّنة لا يحكم لها بالولد،فعلم أنّ عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشّرع،لا،بل في بعض المواضع على النّدور تغلب الشّريعة الحقيقة،فإنّ الزّاني لا يجعل أبا لولد الزّنى.

إذا ثبت هذا فالشّارع له الحكم،فقول القائل:هذه أمّي،قول يفهم لا عن حقيقة و لا يترتّب عليه حقيقة.

و أمّا قول الشّارع فهو حقّ،و الّذي يؤيّده هو أنّ الشّارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرّف فيها،أ لا ترى أنّ الأمّ ما صارت أمّا إلاّ بخلق اللّه الولد في رحمها،و لو خلقه في جوف غيرها لكانت الأمّ غيرها،فإذا كان هو الّذي يجعل الأمّ الحقيقيّة أمّا فله أن يسمّي امرأة أمّا و يعطيها حكم الأمومة.

و المعقول في جعل أزواجه أمّهاتنا،هو أنّ اللّه تعالى جعل زوجة الأب محرّمة على الابن،لأنّ الزّوجة محلّ الغيرة و التّنازع فيها،فإن تزوّج الابن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرّحم و العقوق،لكن النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام أشرف و أعلى درجة من الأب و أولى بالإرضاء،فإنّ الأب يربّي في الدّنيا فحسب، و النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام يربّي في الدّنيا و الآخرة، فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء.

فإن قال قائل:فلم لم يقل:إنّ النّبيّ أبوكم و يحصل هذا المعنى،أو لم يقل:إنّ أزواجه أزواج أبيكم؟

فنقول:لحكمة،و هي أنّ النّبيّ لمّا بيّنّا أنّه إذا أراد زوجة واحد من الأمّة وجب عليه تركها ليتزوّج بها النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام،فلو قال:أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التّأبيد،و لأنّه لما جعله أولى بهم من أنفسهم،و النّفس مقدّم على الأب،لقوله عليه الصّلاة و السّلام:«ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول» و لذلك فإنّ المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب،و يجب عليه صرفه إلى النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام،ثمّ إنّ أزواجه لهم حكم زوجات الأب حتّى لا تحرم أولادهنّ على المؤمنين و لا أخواتهنّ و لا أمّهاتهنّ،و إن كان الكلّ يحرمن في الأمّ الحقيقيّة و الرّضاعيّة.(25:195)

القرطبيّ: شرّف اللّه تعالى أزواج نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأن جعلهنّ أمّهات المؤمنين،أي في وجوب التّعظيم و المبرّة و الإجلال و حرمة النّكاح على الرّجال، و حجبهنّ رضي اللّه تعالى عنهنّ بخلاف الأمّهات.

و قيل:لمّا كانت شفقتهنّ عليهم كشفقة الأمّهات أنزلن منزلة الأمّهات،ثمّ هذه الأمومة لا توجب ميراثا

ص: 403

كأمومة التّبنّي.و جاز تزويج بناتهنّ،و لا يجعلن أخوات للنّاس.

و اختلف النّاس هل هنّ أمّهات الرّجال و النّساء أم أمّهات الرّجال خاصّة،على قولين:فروى الشّعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ امرأة قالت لها:

يا أمّه،فقالت لها:لست لك بأمّ،إنّما أنا أمّ رجالكم.قال ابن العربي:و هو الصّحيح.

قلت:لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرّجال دون النّساء،و الّذي يظهر لي أنّهنّ أمّهات الرّجال و النّساء،تعظيما لحقّهنّ على الرّجال و النّساء، يدلّ عليه صدر الآية: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ و هذا يشمل الرّجال و النّساء ضرورة.و يدلّ على ذلك حديث أبي هريرة و جابر؛فيكون قوله:

(وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) عائدا إلى الجميع.ثمّ إنّ في مصحف أبيّ بن كعب (و ازواجه أمّهاتهم و هو اب لهم) و قرأ ابن عبّاس (من انفسهم و هو اب لهم و ازواجه امّهاتهم) و هذا كلّه يوهن ما رواه مسروق إن صحّ من جهة التّرجيح،و إن لم يصحّ فيسقط الاستدلال به في التّخصيص،و بقينا على الأصل الّذي هو العموم الّذي يسبق إلى المفهوم.(14:123)

أبو حيّان: أي مثل أمّهاتهم في التّوقير و الاحترام، و في بعض الأحكام من تحريم نكاحهنّ،و غير ذلك ممّا جرين فيه مجرى الأجانب.(7:212)

البروسويّ: أي منزّلات منازلهنّ في وجوب التّعظيم و الاحترام و تحريم النّكاح،كما قال تعالى:

وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً الأحزاب:

53،و أمّا فيما عدا ذلك من النّظر إليهنّ و الخلوة بهنّ و المسافرة معهنّ و الميراث فهنّ كالأجنبيّات فلا يحلّ رؤيتهنّ،كما قال تعالى: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ الأحزاب:53،و لا الخلوة و المسافرة و لا يرثن المؤمنين و لا يرثونهنّ.

و عن أبي حنيفة رحمه اللّه: كان النّاس لعائشة رضي اللّه عنها محرما فمع أيّهم سافرت فقد سافرت مع محرم، و ليس غيرها من النّساء كذلك.انتهى.

و قد سبق وجهه في سورة النّور في قصّة الإفك، فبان أنّ معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهنّ فقط،و لهذا قالت عائشة رضي اللّه عنها:لسنا أمّهات النّساء،أي بل أمّهات الرّجال.و ضعّف ما قال بعض المفسّرين من أنّهنّ أمّهات المؤمنين و المؤمنات جميعا.[إلى أن قال:]

ثمّ إنّ حرمة نكاحهنّ من احترام النّبيّ عليه السّلام و احترامه واجب،و كذا احترام ورثته الكمّل،و لذا قال بعض الكبار:لا ينكح المريد امرأة شيخه إن طلّقها أو مات عنها.و قس عليه حال كلّ معلّم مع تلميذه،و هذا لأنّه ليس في هذا النّكاح يمن أصلا،لا في الدّنيا و لا في الآخرة و إن كان رخصة في الفتوى،و لكنّ التّقوى فوق أمر الفتوى فاعرف هذا.(7:139)

الطّباطبائيّ: جعل تشريعيّ،أي إنّهنّ منهم بمنزلة أمّهاتهم في وجوب تعظيمهنّ،و حرمة نكاحهنّ بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،كما سيأتي التّصريح به في قوله: وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً الأحزاب:53.

فالتّنزيل إنّما هو في بعض آثار الأمومة لا في جميع الآثار،كالتّوارث بينهنّ و بين المؤمنين،و النّظر في

ص: 404

وجوههنّ كالأمّهات،و حرمة بناتهنّ على المؤمنين لصيرورتهنّ أخوات لهم،و كصيرورة آبائهنّ و أمّهاتهنّ أجدادا و جدّات،و إخوتهنّ و أخواتهنّ أخوالا و خالات للمؤمنين.(16:277)

خليل ياسين: س-بأيّ شيء كان النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم،و ما المراد من تنزيل أزواج النّبيّ منزلة الأمّهات؟

ج-إنّ النّبيّ أولى بهم في الدّعوة،فإذا دعاهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى شيء كانت طاعته أولى بهم من طاعة أنفسهم.و المقصود من التّنزيل حرمة نكاح نساء النّبيّ، و لسن أمّهات بكلّ ما للأمّ من حكم،كجواز النّظر إليها و توريثها و كون أختها خالة يحرم التّزويج منها،بل ليس المراد إلاّ أنّ أزواج النّبيّ يحرم على الرّجال التّزويج بهنّ احتراما للرّسول،و تقديسا لشخصيّته.(2:116)

2- اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ... المجادلة:2

الفرّاء: الأمّهات في موضع نصب،لمّا ألقيت منها الباء نصبت،كما قال: ما هذا بَشَراً يوسف:31،إنّما كانت في كلام أهل الحجاز:(ما هذا ببشر)،فلمّا ألقيت الباء ترك فيها أثر سقوط الباء.و هي في قراءة عبد اللّه (ما هنّ بامّهاتهم) ،و أهل نجد إذا ألقوا الباء رفعوا،فقالوا (ما هذا بشر)،(ما هنّ امّهاتهم).(3:139)

الميبديّ: قراءة العامّة بخفض التّاء على خبر(ما) محلّه نصب،كقوله: ما هذا بَشَراً. و قيل تقديره:

ما هنّ بأمّهاتهم،أي ما صرن معهم في محلّ الأمّهات.(10:6)

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ فيه مسألتان:

المسألة الأولى:قرأ عاصم في رواية المفضّل (امّهاتهم)بالرّفع،و الباقون بالنّصب على لفظ الخفض، وجه الرّفع أنّه لغة تميم.قال سيبويه:و هو أقيس الوجهين؛و ذلك أنّ النّفي كالاستفهام،فكما لا يغيّر الاستفهام الكلام عمّا كان عليه،فكذا ينبغي أن لا يغيّر النّفي الكلام عمّا كان عليه.

و وجه النّصب أنّه لغة أهل الحجاز،و الأخذ في التّنزيل بلغتهم أولى،و عليها جاء قوله: ما هذا بَشَراً، و وجهه من القياس أنّ(ما)تشبه«ليس»في أمرين:

أحدهما:أنّ«ما»تدخل على المبتدإ و الخبر،كما أنّ«ليس»تدخل عليهما.

الثّاني:أنّ«ما»تنفي ما في الحال،كما أنّ«ليس» تنفي ما في الحال،و إذا حصلت المشابهة من وجهين وجب حصول المساواة في سائر الأحكام،إلاّ ما خصّ بالدّليل،قياسا على باب ما لا ينصرف.

المسألة الثّانية:في الآية إشكال،و هو أنّ من قال لامرأته:أنت عليّ كظهر أمّي،فهو شبّه الزّوجة بالأمّ،و لم يقل:إنّها أمّ،فكيف يليق أن يقال على سبيل الإبطال لقوله: (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ؟و كيف يليق أن يقال: وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً المجادلة:2؟

و الجواب:أمّا الكذب إنّما لزم لأنّ قوله:أنت عليّ كظهر أمّي،إمّا أن يجعله إخبارا أو إنشاء،و على التّقدير الأوّل أنّه كذب،لأنّ الزّوجة محلّلة و الأمّ محرّمة،

ص: 405

و تشبيه المحلّلة بالمحرّمة في وصف الحلّ و الحرمة كذب.و إن جعلناه إنشاء معناه أنّ الشّرع جعله سببا في حصول الحرمة،فلمّا لم يرد الشّرع بهذا التّشبيه،كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم يكون كذبا و زورا.

و قال بعضهم:إنّه تعالى إنّما وصفه بكونه مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً، لأنّ الأمّ محرّمة تحريما مؤبّدا، و الزّوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبّدا، فلا جرم كان ذلك منكرا من القول و زورا.

و هذا الوجه ضعيف،لأنّ تشبيه الشّيء بالشّيء لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما من كلّ الوجوه،فلا يلزم من تشبيه الزّوجة بالأمّ في الحرمة تشبيها بها في كون الحرمة مؤبّدة،لأنّ مسمّى الحرمة أعمّ من الحرمة المؤبّدة و المؤقّتة.(29:254)

الطّباطبائيّ:أي بحسب اعتبار الشّرع بأن يلحقن شرعا بهنّ بسبب الظّهار فيحرمن عليهم أبدا،ثمّ أكّده بقوله: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ، أي ليس أمّهات أزواجهنّ إلاّ النّساء اللاّتي ولدنهم.(19:178)

الوجوه و النّظائر
الامّ

الدّامغاني: أمّ على خمسة أوجه:

1-الأصل: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ آل عمران:7،أي أصل الكتاب.مثلها: وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى الأنعام:92، يعني مكّة أصل القرى.

2-المرجع و المصير: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ القارعة:9، يعني مرجعه و مصيره.

3-الأمّ:الوالدة بعينها: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ طه:

40،أي إلى والدتك.

4-يعني المرضع: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ النّساء:23،يعني حرّمت عليكم مرضعتكم في الحولين.

5-أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ الأحزاب:6.(32)

الفيروزآباديّ: قد ورد في النّصّ على ثمانية أوجه.[ذكر مثل الدّامغانيّ و أضاف:]

السّادس:بمعنى اللّوح المحفوظ: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ الزّخرف:4.

السّابع:بمعنى مكّة،شرّفها اللّه تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى الشّورى:7،سمّيت بها لأنّ الأرض دحيت من تحتها.(بصائر ذوي التّمييز 2:111)

امّيّ

الفيروزآباديّ: قد ورد في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأوّل:بمعنى العرب،و هم الّذين لم يكن لهم كتاب من قبل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً الجمعة:

2،أي في العرب.

الثّاني:بمعنى اليهود الّذين لا يعلمون معنى التّوراة:

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ. البقرة:78.

الثّالث:بمعنى النّبيّ المصطفى صلّى اللّه عليه و سلّم: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الأعراف:157.

ص: 406

قيل:هو منسوب إلى الأمّة الّذين لم يكتبوا،لكونه على عادتهم،كقولك:عامّيّ،لكونه على عادة العامّة.

و قيل:سمّي بذلك،لأنّه لم يكن يكتب و لا يقرأ من كتاب؛و ذلك فضيلة له،لاستغنائه بحفظه،و اعتماده على ضمان اللّه منه بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى الأعلى:6.و قيل:سمّي لنسبته إلى أمّ القرى.

(بصائر ذوي التّمييز 2:159)

امّة

هارون الأعور: تفسير(امّة)على ثمانية وجوه:

فوجه منها:يعني عصبة،فذلك قوله عزّ و جلّ:

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ البقرة:128،يعني عصبة مسلمة لك.و قوله عزّ و جلّ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ البقرة:141،و قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ آل عمران:

113،يقول:عصبة.و قوله: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ المائدة:66،يعني عصبة: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ الأعراف:159،يعني عصبة.

الوجه الثّاني:أمّة يعني ملّة،فذلك قوله: كانَ النّاسُ على عهد آدم و أهل سفينة نوح عليه السّلام أُمَّةً واحِدَةً البقرة:213،يعني ملّة واحدة،يعني ملّة الإسلام وحدها،و قال: وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً المؤمنون:52،يعني ملّتكم ملّة الإسلام ملّة واحدة -نظيرها في الأنبياء الآية:92-و قال: وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً النّحل:93،يعني ملّة الإسلام وحدها.

الوجه الثّالث:أمّة يعني سنين،فذلك قوله: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ هود:8،نظيرها:

وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،يعني بعد سنين،ليس في غيرهما.

الوجه الرّابع:أمّة[يعني]قوم،فذلك قوله عزّ و جلّ:

أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ النّحل:92،يقول:

أن يكون قوم أكرم من قوم.قال: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الحجّ:34،يقول:لكلّ قوم.

الوجه الخامس:أمّة يعني الإمام،فذلك قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً النّحل:120،يعني إماما يقتدى به في الخير.

الوجه السّادس:أمّة يعني الأمم الخالية و غيرهم من الكفّار،فذلك قوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ يونس:

47،يعني الأمم الخالية،و كذلك هذه الأمّة.و قال:

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها الحجر:5،يعني الأمم الخالية،و كذلك في هذه الأمّة.و قال: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر:24،يعني الأمم الخالية.

الوجه السّابع:يعني أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،المسلمين خاصّة،فذلك قوله عزّ و جلّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ آل عمران:110،يعني المسلمين خاصّة.

الوجه الثّامن:يعني أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،الكفّار منهم خاصّة،فذلك قوله: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ الرّعد:30،يعني الكفّار خاصّة.(64)

الطّوسيّ: «الأمّة»على ستّة أقسام:

الجماعة: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ البقرة:134.

ص: 407

الأمّة:الحين،لقوله: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45 أي بعد حين.

الأمّة:القدوة و الإمام،لقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً النّحل:120.

الأمّة:العامّة،و جمعها:أمم.

الأمّة:الاستقامة في الدّين و الدّنيا.

الأمّة:أهل الملّة الواحدة:كقولهم:أمّة موسى،و أمّة عيسى،و أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أصل الباب:

القصد من أمّه يؤمّه إذا قصده.(1:477)

القرطبيّ:«الأمّة»اسم مشترك،يقال على ثمانية أوجه:

فالأمّة تكون الجماعة،كقوله تعالى: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ القصص:23.

و الأمّة أيضا أتباع الأنبياء عليهم السّلام.

و الأمّة:الرّجل الجامع للخير الّذي يقتدى به،كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً النّحل:

120.

و الأمّة:الدّين و الملّة،كقوله تعالى: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22.

و الأمّة:الحين و الزّمان،كقوله تعالى: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ هود:8،و كذلك قوله تعالى: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45.

و الأمّة:القامة،و هو طول الإنسان و ارتفاعه،يقال من ذلك:فلان حسن الأمّة،أي القامة.

و الأمّة:الرّجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد، قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمّة واحدة».

و الأمّة:الأمّ،يقال:هذه أمّة زيد،يعني أمّ زيد.

(9:10)

الفيروزآباديّ:قد ورد في نصّ القرآن على عشرة أوجه:

الأوّل:بمعنى الصّفّ المصفوف: وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام:38،أي صفوف.

الثّاني:بمعنى السّنين الخالية: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45،أي بعد سنين.

الثّالث:بمعنى الرّجل الجامع للخير: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً النّحل:120.

الرّابع:بمعنى الدّين و الملّة: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الأنبياء:92، إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22.

الخامس:بمعنى الأمم السّالفة،و القرون الماضية:

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ الرّعد:30.

السّادس:بمعنى القوم بلا عدد: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها الأعراف:38.

السّابع:بمعنى القوم المعدود: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ القصص:23، وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الأعراف:164،أي أربعين رجلا.

الثّامن:بمعنى الزّمان الطّويل: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ هود:8.

التّاسع:بمعنى الكفّار خاصّة: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ الرّعد:30.

العاشر:بمعنى أهل الإسلام: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ آل عمران:110،و قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً البقرة:213،أي صنفا واحدا، و على طريقة واحدة في الضّلال و الكفر: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً هود:118،أي في الإيمان: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ آل عمران:104،أي جماعة يتخيّرون العلم و العمل الصّالح،أي يكونون أسوة لغيرهم.

ص: 408

العاشر:بمعنى أهل الإسلام: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ آل عمران:110،و قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً البقرة:213،أي صنفا واحدا، و على طريقة واحدة في الضّلال و الكفر: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً هود:118،أي في الإيمان: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ آل عمران:104،أي جماعة يتخيّرون العلم و العمل الصّالح،أي يكونون أسوة لغيرهم.

(بصائر ذوي التّمييز 2:79)

خليل ياسين: [مثل الطّوسيّ إلاّ أنّه قال مكان الوجه الثّالث:الثّالث:القامة](1:101)

امام

هارون الأعور: تفسير«إمام»على خمسة وجوه:

فوجه منها:إمام:قائد في الخير،فذلك قوله عزّ و جلّ لإبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:

124،يعني قائدا في الخير يقتدى بسنّتك و هديك.

و قال: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً الفرقان:74،يعني قادة في الخير يقتدى بنا.

الوجه الثّاني:إمام:كتاب أعمال بني آدم،فذلك قوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71، يعني بكتابهم الّذي عملوا في الدّنيا.

الوجه الثّالث:يعني اللّوح المحفوظ،فذلك قوله عزّ و جلّ: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يس:12، يعني اللّوح المحفوظ.

و الوجه الرّابع:الإمام يعني التّوراة،فذلك قوله عزّ و جلّ: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً هود:17، يقتدى به(و رحمة)لمن آمن به.

الوجه الخامس: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الحجر:79،يعني و إنّهما لبطريق مبين واضح.(63)

الفيروزآباديّ: قد ورد في النّصّ على خمسة أوجه:

الأوّل:بمعنى مقدّم القوم و قائد الخيرات: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124،قائدا لهم.

الثّاني:بمعنى اللّوح المحفوظ المشتمل على جملة الأقوال و الأفعال و الأحوال: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يس:12.

الثّالث:بمعنى الرّاحة و الرّحمة: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ \مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً هود:17.

الرّابع:بمعنى الطّريق الواضح: وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الحجر:79،طريق واضح.

الخامس:بمعنى الكتاب،كالتّوراة،و الإنجيل، و الصّحف،و الزّبور،و الفرقان: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71.(بصائر ذوي التّمييز 2:110)

الأصول اللّغويّة

1-إنّ مردّ جميع هذه التّصريفات و الاشتقاقات إلى الهمزة و الميم المشدّدة،على أساس ثلاثيّة الجذور في العربيّة؛فهو«أمّ»،و تبقي حركة الهمزة.و إذا ما تحدّدت الحركة تحدّد الأصل المعنويّ الّذي ستنبثق منه سائر المعاني.فإذا كان الأصل الفتحة،فيكون «الأمّ»بمعنى القصد هو الأساس،و الأصل لسائر الدّلالات.و إذا كان الأصل الضّمّة،فتكون«الأمّ»هي

ص: 409

أساس ذلك.و إذا كان الأصل هو الكسر،فتكون«الإمّة» بمعنى الحالة و الطّريقة و النّعمة،هي الأساس.

2-و لا يمكننا ضبط هذه الحركة اعتمادا على الرّوايات اللّغويّة و معجمات اللّغة،لأنّها لا تنظر إلى المنحى التّاريخيّ لتطوّر الأصوات،من حركات و حروف.لذلك نعود إلى النّظرة القائلة:بأنّ اللّغة تتطوّر من المحسوس الملموس إلى المعنويّ العقليّ.ثمّ ننظر في دلالات كلّ من«أمّ»بفتح الهمزة،و«أمّ»بضمّها، و«إمّ»بكسرها،فنجد أنّ دلالات الفتح و الكسر دلالات معنويّة،تحتاج إلى شيء من التّطوّر الحضاريّ العقليّ،كي يستطاع الوصول إليها.فأمّا«الأمّ»بضمّ الهمزة،فممّا لا يمكن أن تكون الحياة بدونه،و خذ الطّفل علامة على ذلك،فإنّ اللّفظة الدّالّة على«الأمّ» من أوّليّات تعلّمه النّطقيّ.

3-هذا من ناحية،و من ناحية أخرى،يسعفنا في تحديد أوّليّة الألفاظ-ما أمكن ذلك-النّظريّة القائلة:

بأنّ أوّل ما نشأ من التّركيب اللّغوي في العربيّة و سائر اللّغات السّاميّة هو ما نعرفه اليوم بفعل الأمر،مثل:ق، ذر،دع،الّذي كان يدلّ في البدء على أزمنة الفعل المختلفة.و إذا ما عدنا إلى الفعل الأمر من هذا الجذر، وجدناه بضمّ الهمزة،على الأكثر الأشيع دلالة على القصد،و غيره من المعاني.

4-فالتقى سببان يدعوان إلى الأخذ بأنّ«الضّمّة» هي الأصل في هذا الجذر،و على ذلك تكون«الأمّ» بدلالتها على الوالدة هي الأساس الّذي ستنبثق منه سائر المعاني.

5-و ممّا يسند هذا الرّأي أهمّيّة«الأمّ»في الحياة و عبر التّاريخ.و يذهب العلماء إلى أنّ البشريّة في تطوّرها قد مرّت بمراحل حضاريّة متعدّدة،و يعدّون من أقدم تلك المراحل و أكثرها بدائيّة عصر سيادة الأمّ؛حيث كان للمرأة-بحسب الأعراف الاجتماعيّة البائدة-سلوكيّات،هي سلوكيّات الرّجل اليوم،فقد كان لها تعدّد الأزواج،و كان لها السّعي وراء القوت، على حين كان الرّجال يقومون بما تعارفنا على اليوم بواجبات المرأة العرفيّة و الشّرعيّة.

6-و هذه النّظرة الاجتماعيّة لا تنافي سنن التّاريخ الواردة في القرآن الكريم،و ما الرّسالات و الرّسل و الأنبياء إلاّ لتصحيح المسار و العودة بالأمور إلى نصابها الطّبيعيّ،بحسب القوانين الإلهيّة المودعة في الطّبيعة.

و لم تتناقص أهمّيّة«الأمّ»بعد ذلك،لكنّها أطّرت بالإطار السّليم لسلامة الحضارة الإنسانيّة.

7-إنّ مرور الإنسانيّة بعصر سيطرة الأمّ يبيّن لنا مدى أهمّيّة الأمّ في مسار التّاريخ البشريّ،هذه الأهمّيّة الّتي أولتها الأديان السّماويّة عناية عظيمة بضمن قانون جديد ينظّم العلاقات الاجتماعيّة.و خير مصداق على ذلك ما حفل به الإسلام العظيم من حثّ على العناية الفائقة،بالأمّ،بما تحفل به السّنّة و كتب الحديث الشّريف.

8-و بناء على كلّ هذا ستكون لفظة«أمّ»بضمّ الهمزة،هي الأساس الّذي تبنى عليه تطوّرات معاني هذا الجذر،و دلالاته على هذه التّطبيقات في الضّمّ و الفتح و الكسر:

ص: 410

أ-الأمّ:باعتبارها أصل الوليد،إليها نسب في فترة تاريخيّة قديمة،بل ظلّ ينسب إليها أحيانا إلى زمن ظهور الإسلام و بعيد ظهوره.و قد أحصى بعض القدماء أسماء من نسب إلى أمّه من الشّعراء.

و بالنّظر إلى معنى الأصل فيها استعملت اللّفظة مضافة ما يحوج إلى إظهار أصله لغرض بلاغيّ،مثل ما جاء في الحديث الشّريف«الخمرة أمّ الكبائر»لأنّها أصل تلك الكبائر،فكأنّها قد ولدتها.و كذا أمّ الرّمح:

لواؤه،و هو أوّل ما يظهر منه لنظر الأعداء،فكأنّه الأصل الّذي سيكبر و يتضخّم بالاقتراب من العدوّ،حتّى يظهر تمام الرّمح،فكأنّه الأصل الّذي برز الرّمح عنه.و مثله:

أمّ الرّأس،و هي أعلاه،و قيل:القشرة الّتي تغطّيه.و كيفما يكن الأمر،فإنّ«أمّ الرّأس»هو أوّل ما يظهر من الوليد حين تتمّ ولادته بالشّكل الطّبيعيّ،إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة الّتي حفلت بها كتب اللّغة،و قد سبق ذكرها في النّصوص اللّغويّة.

و يتفرّع عليه الأمّة،و هي الّتي يعود إليها المرء نسبا و حسبا،ثمّ يتوسّع المعنى.

ب-القصد:الأمّ.

لا نشكّ في أنّ القصد يدلّ على التّوجّه الكامل إلى المقصود،فأنت تقصد بيت اللّه الحرام مثلا،بمعنى أنّك تتوجّه إليه توجّها كاملا،حتّى لتنسى أغراضك الأخرى،فكأنّك أنزلته منك منزلة الأمّ من وليدها الّذي يتوجّه إليها بكامل مشاعره و أحاسيسه و حبّه.و هذا التّوجّه من ناحية الطّفل إلى أمّه هو أبرز حالاته النّفسيّة، و عواطفه الرّوحيّة،بل الجسديّة أيضا،حيث يلازمها، و يأوي إليها،و يدور حولها دائما.فحبّذا التّعبير عنه ب«أمّ»فقيل:«أمّ أمّه»،ثمّ توسّع و شمل كلّ توجّه و التفات كامل مثله.

و يتفرّع من هذا«الإمام»،فتقول:تأمّمت فلانا، بمعنى أنّك جعلته إمامك،أي قصدك الّذي تقصده، فتوقّف عليه توجّهك و حبّك.و كذلك يتفرّع منه «الأمام»،للجهة الّتي تقصدها،و تتوجّه إليها.

و قد تخفّف الهمزة،فينتقل اللّفظ إلى«تيمّمت»، فتقول:تيمّمت فلانا،أي توجّهت إليه و قصدته.

ج-النّعمة و الحالة و الطّريقة:الإمّة

و هي أمور يقصد المرء إليها قصدا،فيلتقي الكسر و الفتح في معنى القصد،ثمّ يكون الكسر أشدّ غموضا في القصد؛من حيث إنّ«الأمّ»بالفتح،لن يتحقّق ما لم يكن هناك مأموم و مؤتمّ،أي قاصد و متوجّه.فأمّا النّعمة و الحالة و الطّريقة فموجودة،سواء قصد إليها أم لم يقصد،غير أنّها تتحقّق و تتجسّد حين يتوفّر القصد.

9-و على هذا تتفرّع المشتقّات،لتلتقي في تحليلها اللّغويّ بأصل واحد،هو«الأمّ»بضمّ الهمزة،التقاء لفظيّا و دلاليّا.

10-و لكن لا مشاحّة لو جعلنا«الأمّ»بمعنى «القصد»مع توجّه خاصّ،كما اختاره المصطفويّ،أو بمعنى«الأصل»كما فعل ابن فارس و غيره-أصلا، و سائر المعاني تنشعب منه،مثل«الأمّ»،باعتبارها المقصودة للطّفل،و سمّيت بهذا الاسم،لأنّها أصل لوجود الإنسان،و كذلك هي أوّل ما يتوجّه إليه الطّفل.

بيد أنّ الرّأي الأوّل-أي كون الأمّ أصلا-هو الأنسب

ص: 411

لتطوّر اللّغة.

الاستعمال القرآنيّ

1-تتجمّع الاستعمالات القرآنيّة لهذه المادّة في ستّ صيغ،هي:الأمّ،و الأمّيّ،و الأمّة،و الإمام-مفردا و جمعا لكلّ منها-و الأمام،و آمّين:

أ-الأمّ:مفردا و جمعا:

ورد هذا اللّفظ 35 مرّة،مضافا إلى الاسم بعده في سبعة مواضع،و إلى الضّمير المقدّر في موضعين،و إلى الضّمائر البارزة في ستّة و عشرين موضعا،دالاّ-في كلّ تلك المواضع-على أحد معنيين:

الأوّل:الأمّ الحقيقيّة،أي الوالدة،أو من نزّلت منزلتها شرعا،فجاءت(28)مرّة،منها(17)مرّة مفردة:

1- وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ لقمان:14

2- وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً الأحقاف:15

3- يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ

عبس:34،35

4- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ النّساء:11

5- فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ

النّساء:11

6- إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى طه:38

7- فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ طه:40

8- وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ

القصص:7

9- وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً القصص:10

10- فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ

القصص:13

11- قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي الأعراف:150

12- قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي

طه:94

13- يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا مريم:28

14- وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً المؤمنون:50

15- مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ المائدة:75

16- قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ المائدة:17

17- وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ

المائدة:116

و يلاحظ،أوّلا:أنّ«الأمّ»في الثّلاث الأولى أريد بها أمّ الإنسان،في قبال أبيه،و ذكرت مع الأب بلفظ «الوالدين»في الأوليين بشأن ابتداء خلقة الإنسان في الحياة الدّنيا المرتبطة بالوالدين،و ذكرت مع الأب و الأخ في الحياة الآخرة في الثّالثة،من دون ذكر «الوالدين»لأنّ النّسبة إليهما لا تلحظ يومئذ،كما قال

ص: 412

تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ المؤمنون:101.

و كذلك في الرّقم(4)و(5)،فقد ذكرت مع الأبوين و الإخوة بشأن الميراث في دار الدّنيا،بعد انتقال الرّجل إلى الدّار الآخرة،احتفاظا بالأنساب لمن يرثه في هذه الحياة.

و لفظ«الأمّ»في هذه الآيات الخمس عامّ،في حين أنّه في سائر الآيات خاصّ.

فلقد أريد به في الأرقام(6)إلى(12)أمّ موسى، و أريد به في(13)إلى(17)أمّ عيسى،فما هو السّرّ في اختصاص هذين النّبيّين العظيمين بذكر أمّيهما،سبع مرّات لموسى،و خمس مرّات لعيسى؟

أمّا عيسى،فلا يكاد يخفى هذا السّرّ فيه،لأنّه لا ينسب إلاّ إلى أمّه؛إذ لم يكن له والد،فنسب فيها إلى الأمّ بألفاظ:أمّك،و أمّه،و ابن مريم،و عيسى بن مريم، و أيضا كانت أمّه شريكة معه في كونه آية: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً المؤمنون:50،كما اشتركت معه في نسبة الألوهيّة إليهما: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ، فحريّ-من جهات-بأن يذكر عيسى مع أمّه.و قد جاء لفظ«عيسى بن مريم» و«ابن مريم»في القرآن(23)مرّة،و«عيسى»مفردا (8)مرّات،أكثرها في سياق سرد الأنبياء،بل القرآن يصرّح بأنّ اسمه عيسى بن مريم: إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

آل عمران:45.

و الّذي يتطلّب تدبّرا و إمعانا هو ذكر موسى عليه السّلام مع أمّه(7)مرّات،أي أكثر من عيسى مرّتين،و لم يذكر والده حتّى مرّة واحدة،رغم مجيء اسم«موسى»في القرآن(136)مرّة،و هو أكثر ورودا فيه من سائر أسماء الأنبياء،حتّى من إبراهيم شيخ الأنبياء عليه و عليهم السّلام،كما ذكرنا في«إبراهيم».

نعم،جاء(آل عمران)مرّة،و(مريم بنت عمران) مرّة،في آيتين:

إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ آل عمران:33.

وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها

التّحريم:12.

و قد اختلفت الأقوال في الأولى حول كون المراد به والد موسى،أو والد مريم.و أمّا في الثّانية،فعمران هو والد مريم،قولا واحدا لا غير،إذ تلا الآية الأولى قوله:

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً آل عمران:35،و هي أمّ مريم.و هذا السّياق يرجّح كفّة من قال:إنّ(عمران)في الأولى هو عمران والد مريم أيضا،لاحظ«عمران».

و كيف ما كان،فالسّرّ في ذكر أمّ موسى(7)مرّات هو دورها المؤثّر في حياته،و وقايته بنفسها من الأعداء،مثل أمّ عيسى بل أشدّ و أقوى منها،و لم يكن لوالده دور سوى إنجابه.

فالآيات رقم(6)إلى(10)تصرّح بدور أمّ موسى في إنجائه من الذّبح بيد فرعون و عمّاله بوحي من اللّه تعالى.لاحظ الآيات من رقم(38)إلى(40)من سورة

ص: 413

طه،و رقم(7)إلى(13)من سورة القصص؛إذ كيف صوّرت حبّها له و تعلّقه بها.أمّا الآيتان رقم(11) و(12)،فتصوّران علاقة هارون بموسى من ناحية أمّهما؛حيث يستعطف هارون أخاه موسى بذكر أيّام طفولتهما في رحاب أمّهما،و حنينها عليهما معا.

هذا إضافة إلى ما يقال:إنّ الانتساب إلى الأمّ عند اليهود أقوى و أشدّ من الأب،فاختار هارون في خطابه لأخيه ما هو أشدّ و أقوى في بعث العاطفة و إثارتها.

و هذه الآيات بشأن أمّ موسى و عيسى تبيّن لنا بدورها دور الأمّهات في رعاية الأنبياء خاصّة،و في تربية النّاس عامّة.

و ثانيا:أنّ اللّه أكرم أمّ موسى و شرّفها بأن أوحى إليها -و الوحي مقام رفيع خاصّ بالأنبياء-صيانة له من شرّ الأعداء؛إذ جاء حديث الوحي مرّتين:

وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى* إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي طه:37-39

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ القصص:7،8

فأوحى إليها في آية القصص: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ من دون بيان،سوى تسكين روعها،و تخفيف حزنها،و تطييب خاطرها، بردّه إليها،و جعله من المرسلين.

أمّا في آية طه،فبيّن طريقة إنقاذه،بأن تقذفه في التّابوت،و تقذف التّابوت في اليمّ،و أنّ اليمّ سوف يلقيه بالسّاحل،ثمّ ذكر التقاط فرعون له في السّورتين، و بسط فيها دور أخت موسى في ردّه إلى أمّه،مبيّنا حنينها إليه بقوله:

فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ

طه:40

وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص:10

هذه قصّة الوحي إلى أمّ موسى،و أمّا أمّ عيسى فلم يوح إليها إلاّ في حديث الملائكة معها في موضعين:

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ

آل عمران:42،43

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ* قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:45- 47.

لقد كان الخطاب في هذين الموضعين موجّها من الملائكة إلى مريم،و لكنّ مريم وجّهت خطابها في الآية الأخيرة إلى اللّه: رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ؟فأجابها:

ص: 414

كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ...، و ليس فيها ذكر عن الملائكة،و هذا يعتبر وحيا مباشرا من اللّه إليها.

و هناك موضع ثالث،جرت فيه محادثة بين مريم و رسول الرّبّ بشأن حملها بعيسى:

فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ... مريم:17-21

و جاءت الأمّ الحقيقيّة جمعا(11)مرّة:

1- إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ النّجم:32

2- يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ الزّمر:6

3- وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً النّحل:78

4- وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ النّور:61

5 و 6 و 7- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ... وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ... وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ .النّساء:23

8- اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ الأحزاب:6

9- وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ الأحزاب:4

10 و 11- اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ المجادلة:2

يلاحظ أوّلا:أنّ«الأمّ»جمع على«أمّهات»،و هو الجمع المعروف فيه،غير أنّ القياس يقتضي أن تكون «أمّات»بلا هاء.و يبدو أنّ هذه اللّفظة القياسيّة«أمّات» ندر استعمالها في فصيح اللّغة،حتّى عدّها بعضهم خاصّة بالحيوانات.فأمّا«الأمّهات»،فيظهر أنّ الهاء قد لحقتها للتّخفيف اللّفظيّ،و لاستراحة جهاز النّطق إلى الهاء بين ميم مشدّدة و ألف ساكنة.و لا ننسى أنّ هذه «الهاء»قد ظهرت في بعض مواضع استعمالات المفرد، كما في«يا أمّه»و«يا ابه»،و خرّجت على أنّها هاء السّكت،و هي الهاء الّتي يستريح إليها النّطق.

و ثانيا:أنّ«الأمّهات»جاءت في الجميع بمعنى الأمّهات الحقيقيّة،أي الوالدات إلاّ في أربع آيات، فالمراد بها الأمّهات التّشريعيّة،و هنّ اللاّتي ألحقن بالوالدات في الشّريعة،من جهة حرمة نكاحهنّ على الرّجل،فجاءت إثباتا في آيتين:

وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ النّساء:23

اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ الأحزاب:6

فمعلوم أنّ الأمّ المرضعة،و كذلك أزواج النّبيّ لسن أمّهات حقيقيّة،بل هنّ أمّهات تشريعيّة،بمعنى أنّ الشّرع جعلهنّ بمنزلة الأمّ في حرمة النّكاح،كما أنّ الأخوات من الرّضاعة حرّم نكاحهنّ،مثل الأخوات الحقيقيّة،و ألحقن بهنّ حكما في الشّريعة.

و جاءت نفيا في آيتين أيضا بشأن النّساء اللاّتي

ص: 415

يظاهرون منهنّ،فإنّ العرب المشركين كانوا يجعلونهنّ في تقاليدهم كالأمّهات في حرمة النّكاح،فرفضه القرآن في آيتي الأحزاب و المجادلة السّابقتين.

الثّاني:الأمّ المجازيّة،بمعنى أصل الشّيء، و ما يعود إليه،و قد جاءت مفردة فقط(7)مرّات:

1- مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ آل عمران:7

2- يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ

الرّعد:39

3- وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ

الزّخرف:4

4- وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها الأنعام:92

5- لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها الشّورى:7

6- وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً القصص:59

7- وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ

القارعة:8،9

يلاحظ أوّلا:أنّ«أمّ»أضيفت في الثّلاث الأولى إلى الكتاب،و المراد بالكتاب في(1)القرآن،أي أنّ الآيات المحكمات هنّ المرجع لفهم الكتاب، و المتشابهات ترجع إليها،فالمحكمات منزلتها في الكتاب منزلة الأمّ للإنسان،في كونها مرجعا له يرجع إليها.و هذا هو الظّاهر من سياق الآية؛حيث جعلت المتشابهات عدلا للمحكمات،و أنّ الّذين في قلوبهم زيغ هم الّذين يتّبعون المتشابهات،ابتغاء تأويلها،أي من دون إرجاعها إلى المحكمات.

و قد سبق في النّصوص قول الجصّاص:«الأمّ هي الّتي منها ابتداؤه،و إليها مرجعه،فسمّاها أمّا، فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها،و ردّه إليها».

و قول الفخر الرّازي:«فلمّا كانت المحكمات مفهومة بذواتها،و المتشابهات إنّما تصير مفهومة بإعانة المحكمات،لا جرم صارت المحكمات كالأمّ للمتشابهات».و في قوله مسامحة في التّعبير،فإنّ المحكمات: (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) كلّه،دون المتشابهات فقط،و الأمر سهل.

و قد سمّيت سورة الفاتحة(امّ الكتاب)لكونها أصلا في صلاة المصلّي،و سائر السّور و الآيات تابعة لها،أو لاحتوائها على كلّ ما في الكتاب بالإجمال،لاحظ المنار(1:49).

و قيل:إنّ«الأمّ»هنا بمعنى معظم الشّيء،و ما به قوامه،و هي من الإنسان رأسه،لأنّ به بقاءه.

فالمحكمات هي معظم الكتاب و عماده،و قد فسّره ابن زيد-كما سبق في النّصوص-بقوله:«هنّ جمّاع الكتاب».

و ثانيا:بحث المفسّرون كثيرا-كما في النّصوص- في وجه مجيء(امّ الكتاب)مفردا،و هو خبر(هنّ)،فلم يقل:«هنّ أمّهات الكتاب».و خير ما قيل فيه:إنّ المحكمات بأجمعها أمّ الكتاب،لا كلّ واحدة بمفردها.

و هذا يتطلّب تفسير القرآن بعضه ببعض،باستيفاء الآيات في كلّ موضوع،دون الرّجوع إلى بعضها،فإنّه لا يشفي الغليل،لأنّ فهم القرآن فقه،و الفقيه لا يفتي بشيء إلاّ بعد الرّجوع إلى كلّ ما له دخل فيه،و لذا عرّفوا

ص: 416

الاجتهاد بأنّه«استفراغ الوسع لاستنباط الأحكام»، فلا تكفي مراجعة بعض الأدلّة.و كذلك لا يصحّ البتّ بمفهوم آية إلاّ بعد الرّجوع إلى سواها من الآيات، و كذلك إلى السّنّة-باعتبارها شارحة للكتاب-و إلى آراء الآخرين،اعتبارا بفهمهم و تدبّرهم للكتاب و السّنّة.

و ثالثا:المراد ب(امّ الكتاب)في الآيتين(2)و(3) حسب أشهر الأقوال و أسدّها هو اللّوح المحفوظ،أي العلم الأزليّ للحقّ تعالى الّذي لا يتغيّر و لا يتحوّل،و هو محجوب عن الخلق،حتّى عن الأنبياء و الملائكة،و إنّما مصدر علمهم هو لوح،يتبدّل ما فيه حسب مشيئة اللّه، و لكن ينتهي الأمر إلى ما ثبت في اللّوح المحفوظ و لا يخالفه.و قوله تعالى: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الرّعد:39،إشارة إلى هذين اللّوحين،و هذا التّبدّل هو الّذي عبّر عنه أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ب«البداء»و قالوا:إنّ البداء ليس عن جهل أو تغيير رأي للّه،و إنّ للّه علمين:علم لا يعلمه إلاّ هو، لا تبديل فيه و هو«اللّوح المحفوظ»و علم علّمه الملائكة و الأنبياء،فيه التّبديل،ناشئا عمّا ثبت في الأوّل،و يعبّر عنه ب«لوح المحو و الإثبات»،و هو بإزاء «اللّوح المحفوظ»،و في هذا المجال قالوا:البداء في التّكوينيّات كالنّسخ في الشّرعيّات.لاحظ النّصوص، و شروح كتاب«الكافي»للشّيخ الكلينيّ المتوفّى (329 ه)في الجزء الأوّل باب البداء.

و قد فسّر كثير منهم(امّ الكتاب)في هذه الآية بما ثبت من القرآن عند اللّه،و«المحو و الإثبات»بالنّاسخ و المنسوخ،احتجاجا بقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج:21،22،و ليس هذا بعيدا عن سياق الآيتين(2)و(3)،بملاحظة أنّ قبلهما ذكرا للقرآن:

حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ

الزّخرف:1-4

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ* وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الرّعد:37-39

و قد وصف اللّه القرآن في الأولى ب قُرْآناً عَرَبِيًّا، و في الثّانية ب حُكْماً عَرَبِيًّا، و وصف أُمِّ الْكِتابِ في الأولى بقوله: لَدَيْنا، و في الثّانية بقوله:«عنده»،فالسّياق في الآيتين واحد،يشابه قوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج:21،22،فوصف القرآن ب مَجِيدٌ في هذه، و ب لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ في آية الزّخرف.

و لك أن تجمع بين القولين بأنّ«القرآن»مثله مثل سائر ما في العالم،فلكلّ شيء صورة ثابتة عند اللّه، و صور متبدّلة عند النّاس،يعلمها الملائكة و الأنبياء عليهم السّلام،و هذا الحكم يعمّ القرآن و غيره.و لهذا البحث دخل في المسألة المتنازع فيها:«قدم كلام اللّه أو حدوثه»،أو«القرآن مخلوق أو غير مخلوق».و ليس هنا مجال للخوض فيها.لاحظ«ق ر أ».(قرآن)

ص: 417

و رابعا:أضيف(امّ)إلى(القرى)في الآيتين رقم (4)و(5)،و أريد بها مكّة،و إلى ضمير«ها»في(6)، و أريد بها«أمّ القرى»عامّة،أي قصبتها.و سمّيت بذلك لأنّها رأس القرى و مرجعها،ترجع إليها أمورها،و هي المعبّر عنها اليوم عند العرب ب«النّاحية».

و خصّ الإنذار في الآيتين بمكّة،لأنّهما نزلتا يوم كان نطاق رسالة النّبيّ مكّة،و ما حولها،فلا دلالة فيهما على اختصاص رسالته بأمّ القرى و ما حولها،لأنّ طبيعة رسالته قد عمّت العالمين بالضّرورة من الدّين،و بالنّظر إلى آي من الذّكر الحكيم:

1- وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً

سبأ:28

2- وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يوسف:104

3- وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ

الأنبياء:107

4- تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الفرقان:1

5- إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ

ص:87،و التّكوير:27

6- وَ ما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ القلم:52

7- هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ إبراهيم:52، و نظيرها آيات اخرى.

و كلّ هذه الآيات مكّيّة،فالقرآن أعلن رسالته العامّة منذ اليوم الأوّل من نزوله.

إلاّ أنّ أداء هذه الرّسالة العامّة تحقّق تدريجيّا حسب الظّروف المستجدّة للرّسول عليه السّلام،فبدأت بدعوة عشيرته الأقربين،ثمّ توسّعت إلى أمّ القرى و ما حولها، ثمّ إلى العرب الأمّيّين جميعا،ثمّ إلى كلّ من بلغته الدّعوة من أهل العالم،و قد تصدّى القرآن لبيان تلك المراحل في آيات:

1- وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الشّعراء:214

2- لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها الشّورى:7

3- وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها الأنعام:92

4- لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ يس:6،و نظيره القصص:46،و السّجدة:3 و غيرها.

5- هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ... وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ

الجمعة:2 و 3

6- وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ الأنعام:19

فظهر أنّ إنذار أهل أمّ القرى و من حولها كانت مرحلة من مراحل أداء دعوة الرّسول،و لا تختصّ دعوته بهؤلاء،بل تعدّدت إلى الأعراب و الأمّيّين عامّة، ثمّ الآخرين الّذين لمّا يلحقوا بهم،حين نزول سورة الجمعة.و قد أعلن القرآن في قوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ، أنّ أداء هذه الرّسالة يكمل بمن بلغه هذا القرآن، أي أنّ من لم يبلغه القرآن لم تتحقّق فيه شروط الأداء؛ إذ لم تتمّ الحجّة عليه.

و خامسا:اختلف المفسّرون في قوله في الآية رقم (7): فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، فقالوا:مأواه و مسكنه،أو ملاذه و مرجعه،تشبيها للنّار بالأمّ في أنّها مفزع الولد؛أو أنّها،

ص: 418

أي النّار تحيط به إحاطة رحم الأمّ بالولد قبل الولادة، أو إحاطة حجرها به بعد الولادة.و على هذا،فإنّ فيه تهكّما بالمعذّب في النّار،كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الدّخان:49،و مثله كثير في القرآن.و قد تقدّم في النّصوص قول سيّد قطب:«و في التّعبير إناقة ظاهرة، و تنسيق خاصّ،و فيه كذلك غموض،يمهّد لإيضاح بعده،يزيد في عمق الأثر المقصود».

و قيل:المراد أمّ رأسه،أي يلقى في النّار منكوسا على رأسه،و هو بعيد.

و قيل:هو من قولهم:هوت أمّه،أي ثكلته؛و على هذا الأخير فهو حقيقة،لا مجاز،و في سائر الآيات مجاز،أو حقيقة بمعنى الأصل،لو جعلناه المعنى الحقيقيّ للكلمة،لاحظ النّصوص.

و سادسا:في ختام الملاحظات لكلمة«أمّ»بمعانيها الحقيقيّة و المجازيّة،نلفت الأنظار إلى الفرق البيّن في القرآن بين لفظي«الأمّ»و«الأب»،فالأمّ رغم دورها البارز،و أثرها البالغ في وجود الإنسان جسما و روحا و قلبا و قالبا،فقد جاء في القرآن بجميع معانيه(35) مرّة،و«الأب»بكلّ معانيه(117)مرّة،أي أكثر من ثلاثة أضعاف الأمّ،بملاحظة ما هو الواقع في المجتمعات البشريّة قديما و حديثا،و فيما تعرّض له القرآن بالذّات من القصص،و فيما شرّعه من الأحكام، من دور الرّجل،و تفوّقه على المرأة بمراحل.

ب-الأمّيّ:ورد هذا اللّفظ(6)مرّات:مرّتين بصيغة المفرد،في وصف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و أربع مرّات بصيغة الجمع:ثلاث مرّات في وصف من بعث الرّسول إليهم،و مرّة واحدة بشأن جماعة من بني إسرائيل:

1- اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ

الأعراف:157

2- فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ

الأعراف:158

3- وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ آل عمران:20

4- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران:75

5- هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ الجمعة:2

6- وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ البقرة:78

يلاحظ أوّلا:أنّ ظاهر اللّفظ منسوب إلى«الأمّ»، و علّلوه بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا يقرأ و لا يكتب،فصحّت نسبته إلى«الأمّ»،باعتبار أنّ الأغلب عليها عدم القراءة و الكتابة،أو أنّه بقي على ما كان عليه حين ولدته أمّه من الجهل بالكتابة،و الافتقار إلى المعرفة.و قد أنكر بعض الدّارسين هذا قديما و حديثا،كما سبق في النّصوص.

ثانيا:نعتقد أنّ الأظهر الأصوب أنّ النّسبة إلى «الأمّ»لم تتمّ بهذا الطّريق المباشر،و سبب التّعليل المذكور،ذلك أنّ القرآن العزيز يحدّد لنا الأمّيّين؛إذ يقول: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ، و يقول: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ.

فالأمّيّون قد وقعت فى مقابل أهل الكتاب.

ص: 419

و(الكتاب)هنا لا يعني الكتابة،و إنّما يعني الكتاب السّماويّ.و قد انقسم المجتمع آنذاك إلى أهل كتاب، و غير أهل كتاب،و هؤلاء هم الّذين عرفوا بالأمّيين، لا نسبة مباشرة إلى الأمّ،و إنّما عن طريق نسبتهم إلى الأمّة الّتي لا تعرف الكتب السّماويّة.و الرّاجح في الظّنّ أنّ اليهود هم الّذين نبزوا العرب بلقب الأمّيّين،تحقيرا لهم،و إكراما لأنفسهم.و كان بمثابة تعبير الأمم الرّاقية عن الأمم المتخلّفة ب«بربر».

و صحّ وصف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بهذا الوصف،لا لأنّه لا يعرف القراءة و الكتابة،و إنّما لأنّه لم يطّلع على الكتب السّماويّة الّتي كان اليهود و النّصارى قد حرّفوها و قصروها على أتباعهم و أممهم.

ثالثا:و بناء على هذا نقول:إنّ الأمّة قد اشتقّت من الأمّ،باعتبار أنّ الأمّة تعود إليها و تنتسب،كما أنّ الأمّيّ قد نسب إلى الأمّة على غير قياس؛إذ أنّ تلك الأمّة تتوحّد في كونها تجمّعا أمّيّا،أي لم يطّلع على الكتب السّماويّة الّتي بأيدي غير الأمّيّين،و هم اليهود و النّصارى.و لك أن تقول:إنّ«الأمّة»لم تنحصر بالعرب كالأمّيّة،و هذا يستبعد اشتقاق الأمّة من«الأمّ»، كاشتقاق الأمّيّ منه،فلاحظ.

ج-الأمّة:جاءت في القرآن(64)مرّة:(51)مرّة مفردا،و(13)مرّة جمعا،فكان استعمال المفرد يمثّل الجمع مضروبا في الرّقم أربعة تقريبا،و الأربعة تساوي الصّيغ الواردة فيها،و هي امّة،امّتكم،امم،امما:

1- رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ البقرة:128

2 و 3- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ البقرة:134 و 141

4- وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً البقرة:143

5- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ

آل عمران:110

6- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ

النّساء:41

7- كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ الأنعام:108

8- وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الأعراف:34

9- كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها الأعراف:38

10- وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ يونس:47

11- لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يونس:49

12- ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ

الحجر:5

13- وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً النّحل:36

14- وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً النّحل:84

15- وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً النّحل:89

16- وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الحجّ:34

17- لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الحجّ:67

18- ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ

المؤمنون:43

19- كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ

المؤمنون:44

20- وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً النّمل:83

21- وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً القصص:75

22- وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر:24

ص: 420

23- وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ

المؤمن:5

24- وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً الجاثية:28

25- كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الجاثية:28

26- وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ

الأنعام:42

27- قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ

الأعراف:38

28- قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ هود:48

29- وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ هود:48

30- تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ

النّحل:63

31- وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ العنكبوت:18

32- لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فاطر:42

33- وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ فصّلت:25

34- أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الأحقاف:18

35- إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ النّحل:120

36- وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ آل عمران:104

37- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آل عمران:113

38- مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ المائدة:66

39- وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ

الأعراف:159

40- وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً الأعراف:160

41- وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً

الأعراف:168

42- وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ الأعراف:164

43- وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ

الأعراف:181

44- كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ الرّعد:30

45- تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ النّحل:92

46- وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ القصص:23

47- إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ الزّخرف:22

48- إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ الزّخرف:23

49- وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام:38

50- وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ هود:8

ص: 421

51- وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف:45

52- كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ

البقرة:213

53- وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا

يونس:19

54 و 55- وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً

المائدة:48 و النّحل:93

56- وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً

هود:118

57- وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً

الشّورى:8

58- وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الزّخرف:33

59- وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ المؤمنون:52

60- إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء:92

يلاحظ أوّلا:أنّ القرآن أطلق لفظ«الأمّة»على النّاس الّذين يتجمّعون في العقيدة و المشاعر و المبادئ و الغايات؛بحيث يكوّنون كتلة متراصّة متماسكة، فيصلح أن يطلق عليهم هذا اللّفظ،كأن نقول:الأمّة الإسلاميّة،و ما إليها.و هذا هو الأصل فيه،و قد جاء بهذا المعنى مفردا و جمعا في الآيات من رقم(1)إلى رقم (34).و جاء بمعان أخرى،كما سيأتي.

و ثانيا:أطلق القرآن-و هو أوّل من فعل ذلك-لفظ «الأمّة»على شخص فرد،هو إبراهيم عليه السّلام في الرّقم (35): إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً، أي أنّه كان وحده في صلابته و تفرّده بالإيمان عن مجموع قومه،و في كونه أبا الأنبياء القادمين من بعده،فصحّ كونه أمّة.و قد تقدّمت في النّصوص وجوه أخر،منها أنّه كان معلما للخير، و يقال للمعلم:الأمّة.أو الأمّة بمعنى الإمام و القدوة.

و كذلك أطلق هذا اللّفظ مفردا و جمعا على جماعة مهتدية من إحدى الأمم،كما جاء في الرّقم(36):

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، بشأن أمّة الإسلام،ثمّ إلى رقم(43)،و أكثرها في بني إسرائيل مثل: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ... أو على جماعة غير متديّنة بدين،كما في الرّقم(44): كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ. أو على جماعة من النّاس، كما في الرّقمين(45)و(46): أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ و وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ. أو على دين،كما في الرّقمين(47)و(48): إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ.

فنقول:أمّا الجماعة المهتدية من كلّ أمّة،فهي الباقية على الاتّباع للأنبياء الّذين كانوا ملاك وجود الأمّة،فإطلاق الأمّة عليها طبق الأصل،و على بقيّة الأفراد بالتّبع.و في مثل: أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ بإطلاق الأمّة على المشركين باعتبار المستقبل،مثل:

«من قتل قتيلا»،أو باعتبار اعتناقهم الشّرك،و اتّباعهم لآبائهم،و مثلها: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ.

و أمّا في: أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ، و وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ فلأنّ اهتمامهم بأمر خاصّ، و اجتماعهم لهدف واحد،اعتبر كونهم أمّة.

ص: 422

و أمّا في: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ فجاءت (امّة)بمعنى الملّة و الدّين.و في قراءة(امّة)بكسر الهمزة-بمعنى الطّريقة أو الملك و النّعيم-فهي مصدر من:أممت القوم.

و ثالثا:و تطلق الأمّة أيضا باعتبار الجنس- لا باعتبار الفكر و المبادئ و العقائد-على غير بني البشر،كقوله تعالى في رقم(49): وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ، قيل:باعتبار الجنس،و قيل:باعتبار التّسبيح،و قيل غير ذلك.

و الاحتمال الأقوى أنّ ذلك منظور فيه ما سبق ذكره من شروط الأمّة،و بخاصّة أنّ القرآن الكريم قد حدّد الأمّة في قوله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ؛ حيث إنّ قوم موسى ليسوا أمّة واحدة،بل أمم شتّى.فأمّا أتباعه الحقيقيّون المتمسّكون بتعاليمه فهم أمّة،و لا نرى فصل المعنى القرآنيّ للفظة عن ذلك المعنى المستمرّ في كلّ القرآن،حتّى يقوم دليل حاسم على ذلك الفصل.

و رابعا:لقد استعمل القرآن لفظ«الأمّة»دلالة على التّجمّع في غير النّاس على جماعة السّنين،كما في رقم (51): وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، و رقم(50): إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ. و قد صحّ وصف قسم من الزّمان بأمّة لأنّه متشابه في خصائص معيّنة خاصّة به،مثل تعاقب اللّيل و النّهار.و أيضا وحدة الحدث الّذي وقع فيه،ففي قوله تعالى: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، أي فترة من الزّمن لم يكن فيها مدّكرا،فكأنّ عدم الادّكار قد وحّد هذه الفترة من الزّمن،فجعلها بمثابة الأمّة من النّاس الّذين يتوحّدون بصفات محدّدة.و كذلك إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ؛ حيث إنّها تمتاز بأنّ العذاب مؤخّر إليها.

و خامسا:أبان القرآن في الآيتين رقم(52)و(53) أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة،فاختلفوا بعد بعثة الأنبياء، و في الآيات(54)إلى(57)أنّ اللّه لو شاء لجعل النّاس أمّة واحدة،و في الآية رقم(58): وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ...، و في الآيتين(59)و(60): إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.

و ينبغي الوقوف عند هذه الآيات،لنعرف المراد بالأمّة الواحدة فيها:

1-أمّا قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ... ،فقد طال البحث فيها،و جمعت الآراء الّتي دارت حولها-و قد سبق ذكرها في النّصوص-من قبل إمامين كبيرين،أحدهما:الإمام الشّيخ محمّد عبده، فإنّه بعد أن ناقش الآراء،اختار أنّ المراد ب«الأمّة الواحدة»هو ما عليه النّاس في كونهم مدنيّين بالطّبع و اجتماعيّين بالفطرة،فيتعايشون و يتعاملون في حاجاتهم.و هذه مثار الاختلاف،فبعث اللّه النّبيّين لعلاج ما وقع و يقع بينهم من الاختلاف.و هو يصرّح بأنّ(كان) هنا للثّبوت دون الماضي،مثل: وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً، أي أنّ النّاس بمقتضى طبيعتهم دائما كذلك، فهم يحتاجون إلى الأنبياء دائما.و استدلّ على ذلك بآية أخرى،و هو قوله: وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا، حيث إنّ مفادها أمر ثابت،و لا يختصّ بزمان دون زمان.

ص: 423

و ثانيهما:العلاّمة الطّباطبائيّ،حيث انتقد هذه الآراء،و بضمنها رأي الإمام عبده لكونه أوّلا:اعتبر المدنيّة طبعا أوّليّا للإنسان،مع أنّها ليس كذلك-على ما سبق منه في التّفسير-بل هي أمر تصالحيّ،اضطرّ إليها الإنسان.

و ثانيا:أنّ تفريع بعث الأنبياء و إنزال الكتب بمجرّد كون الإنسان مدنيّا بالطّبع،غير مستقيم،إلاّ بعد تقييده بكونه مؤدّيا إلى الاختلاف،فلا بدّ من تقدير الاختلاف، و هذا ما نفاه الإمام عبده،لأنّه لم ير حاجة إلى تقديره، و قال:إنّه خلاف الظّاهر.

و ثالثا:أنّه مبنيّ على كون الاختلاف واحدا،مع أنّ الآية تفيد اختلافين:اختلافا قبل بعثة الأنبياء،و اختلافا بعدها.و اختار هو في معناها أنّ النّاس كانوا أمّة واحدة في بدء نشوء البشريّة؛حيث كانت الحياة ساذجة،فلم يكن بينهم اختلاف.

فالآية دالّة على أنّه قد مرّ على نوع الإنسان في حياته زمان كانوا على الوفاق في الرّأي،و السّذاجة و البساطة في العيش،لا اختلاف بينهم،لا في أمور الحياة،و لا في المذاهب و الآراء،ثمّ اختلفوا،فبعث اللّه النّبيّين لرفع الاختلاف.و هذا اختلاف قبل البعثة، و هناك اختلاف آخر بعد البعثة،نصّت عليه الآيتان.

و نقول:قد سبقه في ما ذكره محمّد رشيد رضا في تفسير وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا كما تقدّم في النّصوص:333.

و عندنا أنّ هذين الرّأيين ينشئان عن مصدر واحد، و يصبّان في مصبّ واحد،و هو سبق وحدة البشر،إمّا لسذاجة الحياة البدائيّة ثمّ توسّعت،أو لكونهم مدنيّين دائما.و كلاهما مثار الاختلاف،فبعث اللّه الأنبياء لرفعه.

فهناك وحدة قبل البعثة،و هناك اختلاف يتطلّب البعثة، و هذا أمر مشترك بينهما.أمّا وجود الاختلاف بعد البعثة، فقد نصّ عليه الطّباطبائيّ،و لم ينكره عبده،و البحث فى أنّ مدنيّة الإنسان طبيعيّة أو تصالحيّة خارج عن جوهر الموضوع.و ربّما ما قاله الطّباطبائيّ لا ينكره عبده، و كذلك استمرار هذه الخصلة في الإنسان،سواء كانت طبيعيّة أو تصالحيّة،لا ينكره الطّباطبائيّ.

2-و أمّا ما دلّت من الآيات على أنّ اللّه لو شاء لجعل النّاس أمّة واحدة،فالتّدبّر فيها يقودنا إلى أنّها مختلفة المغزى،فآية المائدة جاء قبلها ما يوضّح المراد؛حيث ذكر اللّه نزول التّوراة و الإنجيل،و أنّ أتباع كلّ منهما يجب أن يحكموا بما في كتابهم،ثمّ أنزل القرآن على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و أنّه يجب أن يحكم بما فيه،و لا يتّبع الآخرين،فقال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ... المائدة:48 و 49.

فهاتان الآيتان لو دلّتا على شيء،لدلّتا على تعدّديّة الأديان الإلهيّة،كما ينادى بها الآن،و أنّ اللّه جعل لكلّ من اليهود و النّصارى و المسلمين شريعة و منهاجا،تلزم كلّ ملّة العمل بها،و لو شاء لجعلهم أمّة واحدة ذات شريعة و منهاج واحد،و لكنّه جعلهم على شرائع ليبلوهم،و ليتسابقوا إلى الخيرات.و لا دلالة فيها

ص: 424

على أنّ اللّه لو شاء لأجبرهم على الوحدة،بل تدلّ على أنّه لو شاء لجعل لهم جميعا شريعة واحدة و منهاجا واحدا.

و أمّا الآيات الثّلاث الأخر،فمؤدّاها أنّ اللّه خيّر النّاس في الهداية و الضّلالة،فهم الّذين يختارون أحد الطّريقين،فيختلفون في المصير،فريق في الجنّة، و فريق في السّعير،و لو شاء اللّه لجعلهم جبرا أمّة واحدة مهتدية،فلاحظ الآيات:

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ* وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ... هود:117-119.

إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ النّحل:92،93.

فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ* وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ الشّورى:7،8

فسياق الآيات التّركيز على حرّيّة الإنسان في تعيين مصيره من أجل تحقّق الابتلاء و المسئوليّة، فلا وجه لحمل قوله: وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، و قوله: وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ على الجبر،فإنّ لهذه و أمثالها-و هي كثيرة في القرآن-بحثا طويلا،و ليس هنا موضعه.و الحقّ أنّ إضلال اللّه و هدايته تابعان لعمل العبد و اختياره،و هما عبارة عن شرح صدر العبد أو تضييقه،كما قال: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً... الأنعام:125، و هذا يعدّ جزاء أو عقوبة للعبد عقيب عمله.

3-و أمّا آية الزّخرف،فمغزاها أنّ اللّه هو الّذي قسم الأرزاق بين النّاس باختلاف،و لو شاء لسوّى بينهم، و لا دخل لها باختلاف الشّريعة و المنهاج،و لا بالهداية و الضّلالة،فلاحظ ما قبلها و ما بعدها من قوله: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ -إلى - وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ الزّخرف:32- 35.

4-و أمّا قوله: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً في آيتين،ففيها خلاف من جهات:

أوّلا:هل هي خطاب لأمّة الإسلام بأنّها أمّة واحدة إلى جانب سائر الأمم،يجب عليهم اتّباع دينهم أو خطاب لمن ذكر قبلها من الأنبياء أو أممهم،أي أنّكم جميعا أمّة واحدة موحّدة؟و عليه فتدلّ على وحدة الأديان السّماويّة في مادّتها،كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... الشّورى:13،و غيرها من الآيات.

أو خطاب إلى النّوع الإنسانيّ بأنّكم معشر البشر أمّة واحدة،و أنا ربّكم فاعبدوني و اتّقوني،و أنّ الأمّة الواحدة تتطلّب ربّا واحدا،لا أربابا متعدّدة.

و ثانيا:هل الأمّة جاءت هنا بمعناها المعروف،أي الجماعة التّابعة لدين و مسلك؟أو هي بمعنى الملّة

ص: 425

و الطّريقة،مثل: إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ؟ أي إنّكم أيّها المسلمون-أو أنتم أيّها الأنبياء،أو أتباع الأنبياء- على ملّة و طريقة واحدة،و دين واحد،هو التّوحيد و التّسليم للّه ربّ العالمين.

و ثالثا:اختلفوا في قراءة (أُمَّةً واحِدَةً) بالنّصب،كما هو المجمع عليه على رأي الطّبريّ،و هو حال من (امّتكم)،أو بالرّفع بدل منه.و هناك قراءة بنصب (امّتكم)بدلا،أو عطف بيان ل(هذه)،و رفع(امّة واحدة)خبر(انّ)،لاحظ النّصوص.

و نحن نفضّل النّظر إلى كلّ من الآيتين على حدة وصولا إلى اختيار ما هو أمسّ بسياقهما،فآية «المؤمنون»جاءت تلو آيات متوالية تحكي حال الرّسل عموما مع أممهم،إلى أن ذكر بعث موسى و هارون إلى فرعون و ملئه فاستكبروا،ثمّ قال:

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ* يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ* فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ المؤمنون:49-54.فيبدو لأوّل وهلة أنّ خطاب وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ لهؤلاء الرّسل في يا أَيُّهَا الرُّسُلُ، لكن قوله: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، لا يصلح في شأن الرّسل إلاّ باعتبار رجوع ضمير الجمع إلى أممهم المذكورة قبلها،و هذا بعيد عن السّياق،ثمّ قوله بعدها: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ، خطاب للنّبيّ،و هذا يرجّح كفّة من قال بأنّ(هذه امّتكم)خطاب لأمّة الإسلام دون الرّسل أو أممهم.

و أمّا آية الأنبياء،فجاءت عقيب حكاية جملة من الأنبياء مع أممهم،بدء بإبراهيم و لوط،و رجوعا إلى نوح،و انتهاء بداود و سليمان و أيّوب و إسماعيل و إدريس و ذي الكفل و ذي النّون و زكريّا و يحيى ثمّ مريم،فقال: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ* إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ* وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ الأنبياء:91- 94.

و ليس هنا خطاب للرّسل يرجّح رجوع إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ إليهم،فرجوعها إلى أمّة الإسلام أظهر،و لا سيّما أنّه يعقّبها قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ، الظّاهر في المؤمنين من هذه الأمّة،و كذلك وحدة السّياق في الآيتين،و مع ذلك ليس هناك ما يقطع الاحتمال و الخلاف.

و نقول:بناء على إرادة أمّة الإسلام في الآيتين، فسوف تسفر عن هويّة اسلاميّة وحدة الشّعب الإسلاميّ-الّذي يتكوّن من قوميّات مختلفة-إلى جانب الطّوائف الدّينيّة و الملل الأخرى الّتي ورد ذكرها في القرآن.و هذا-أي الهويّة الإسلاميّة الواحدة و وحدة الشّعوب الإسلاميّة-ما أكّد عليه الإسلام،فعبّر عنه في آيات ب(المؤمنين)إلى جانب غيرهم،منه قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ البقرة:62،و نظيره المائدة:69،الحجّ:17، و فيها: وَ الصّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ....

ص: 426

و نقول:بناء على إرادة أمّة الإسلام في الآيتين، فسوف تسفر عن هويّة اسلاميّة وحدة الشّعب الإسلاميّ-الّذي يتكوّن من قوميّات مختلفة-إلى جانب الطّوائف الدّينيّة و الملل الأخرى الّتي ورد ذكرها في القرآن.و هذا-أي الهويّة الإسلاميّة الواحدة و وحدة الشّعوب الإسلاميّة-ما أكّد عليه الإسلام،فعبّر عنه في آيات ب(المؤمنين)إلى جانب غيرهم،منه قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ البقرة:62،و نظيره المائدة:69،الحجّ:17، و فيها: وَ الصّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ....

و قد أعلن النّبيّ عليه السّلام لدى هجرته إلى المدينة في كتاب كتبه للمهاجرين و الأنصار«أنّهم-أي المسلمون و من معهم-أمّة واحدة من دون النّاس (1)».و هذا يرجّح حمل«الأمّة الواحدة»في الآيتين على أمّة الإسلام، و هذه الأمّة تضمن وحدتهم.بالهويّة الإسلاميّة،و هي فوق القوميّة و القبليّة و الجنسيّة و الحزبيّة،و غيرها ممّا يوجب الاختلاف و الشّقاق.فيجب على الأمّة الإسلاميّة تعهّدها،و صيانتها ممّا يشينها،كأن تطغى عليها القوميّة الّتي شاعت-مع الأسف-في هذا العصر عند كثير من الشّعوب المسلمة،متأثّرة بما ألقاه إليها المستعمرون،و هذا عندنا أحد أحابيل الاستعمار،ليوقع بين المسلمين،و يفرط به عقد وحدتهم،و يؤدّي إلى تفرّقهم،فيسهل عليه إذ ذاك التّغلّب عليهم،و نهب ثرواتهم.

و سادسا:لم يترك القرآن«الأمّة»هملا،بل بيّن أهمّ خصائصها و سماتها،و هي:

أ-وحدة الدّين و المعتقد:

أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ البقرة:128

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ

آل عمران:104،و غيرها.

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء:92

ب-وحدة الحساب:

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ

البقرة:134،و غيرها.

ج-المنزلة بين النّاس:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً البقرة:143،بما يشعر بوجود أمم في منازل أخرى.

د-تتحقّق الأمّة بمشيئة اللّه:

وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً المائدة:48

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً

هود:118

ه-وحدة الموقف:

كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ الأنعام:108

و-أجل محدّد:

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الأعراف:34

ز-الأمم أخوات:

كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها الأعراف:38

ح-وحدة الأمم:

وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا

يونس:19

ط-وجود الرّسول:

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ يونس:47

وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ فاطر:24

ي-لكلّ أمّة زمان:

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ

الرّعد:30

ك-في كلّ أمّة شهيد عليها:7.

ص: 427


1- 1-سيرة ابن هشام 2:147.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً النّحل:84

ل-وجود المناسك:

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً الحجّ:34

م-تكذيب الرّسل:

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ المؤمنون:44

وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ المؤمن:5

ن-في كلّ أمّة مكذّبون:

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا النّمل:83

س-وحدة العمل:

أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ القصص:23

ع-وحدة السّلوك:

إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الزّخرف:22

سابعا:هناك ترابط وثيق بين«الإمام»و«الأمّة» ناشئة عن اشتراك اللّفظين في معنى القصد بجدّ،فالإمام -و هو بمعنى المأموم،كالكتاب و المكتوب-هو المقصود بالطّاعة،و الأمّة هي القاصدة لإمامها،التّابعة له.فقد أخذ في«الأمّة»معنى الاتّباع و الطّاعة و التّسليم للإمام،و هذا سرّ وحدتها،فلكلّ أمّة إمام،و لكلّ إمام أمّة.

و من شدّة التّرابط بين اللّفظين،ربّما جاءت الأمّة بمعنى الإمام،كما سبق.

د-الإمام:جاء في القرآن(12)مرّة:(7)مرّات مفردا،و(5)مرّات جمعا:

1- قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً البقرة:124

2- وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً الفرقان:74

3- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71

4- وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الحجر:79

5- وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ

يس:12

6 و 7- وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً

هود:17،و الأحقاف:12

8- وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ

القصص:5

9- وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا

السّجدة:24

10- وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا الأنبياء:73

11- وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ

القصص:41

12- فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ التّوبة:12

يلاحظ أوّلا:أنّ لفظ«الإمام»الدّالّ على الشّخص المتّخذ قدوة-و الّذي يستعمل في المذكّر و المؤنّث على السّواء-مأخوذ من«أمّ»أي قصد،من حيث إنّه مقصود من قبل النّاس،و من حيث كونه«أمامهم»،سواء كان«الأمام»هاهنا مادّيّا مبصرا،كما في صلاة الجماعة،أم معنويّا معقولا،كأن تقول:إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إمام الأئمّة.

و قد يكون شخص«أمام»غيره،لكنّه ليس«إماما» له،لأنّ المعوّل هنا على الشّخص المؤتمّ،أي المأموم، و الّذي جوهر مشاعره تجاه ذلك الّذي هو أمامه،فإذا عدّه أسوته و محلّ محبّته و توجّهه،و عزم على اتّباعه، فقد جعله إماما له،وعدا ذلك لا يكون الإمام إماما،حتّى

ص: 428

لو كان أمام النّاس.

و ثانيا:ما دام مردّ الأمر إلى اعتبارات المأموم، فلا مانع من أن يكون الإمام إماما في الخير أو في الشّرّ، كما قال تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، و هم الأشخاص الّذين يحتذيهم الأشرار،فيقصدونهم و يجعلونهم قبلة أحلامهم و أفكارهم.

و ثالثا:كما أنّ«الإمام»-و هو المقصود بالاتّباع- قد يطلق على الكتاب بنفس المعنى.

و رابعا:جاء جمع الإمام على«أئمّة»في القرآن، و هو المتداول فيه،و للصّرفيّين قول في أنّ أصله «أأممة»،و أنّ بضعة تغيّرات طرأت عليه،حتّى صار «أئمّة».و يبدو أنّ القضيّة تعود إلى العادات النّطقيّة،فإنّ «أأممة»ثقيل على اللّسان،فسهّل و ليّن،حتّى صار «أئمّة».و هناك من يتوسّع به أكثر،فيقول:«أيمّة»، مكتفيا بهمزة واحدة.

و خامسا:قيل في«الإمام»:إنّه مصدر-كصيام و قيام-من:أمّ إماما،مثل:صام صياما،و قام قياما.

و قيل:إنّه اسم بمعنى المؤتمّ به،ككتاب بمعنى المكتوب.و قد جمع بهذا المعنى دون الأوّل،لأنّ المصدر لا يجمع.

و سادسا:بعد الحديث حول الأصل في«الإمام» و«الأئمّة»،نرجع إلى الآيات حسب أرقامها:

1-إنّ المراد بالأولى إبراهيم عليه السّلام.و اختلفت الأقوال في تفسير إمامته:هل هي رسالته عامّة،أو قيادته السّياسيّة خاصّة؟و هي الّتي وهبت له بعد أن بعث بالرّسالة،و هي الإمامة الّتي يقول بها الشّيعة، مستدلّين بهذه الآية و ما شابهها من الآيات و الرّوايات، و قد أنكرها الجمهور.

و إذا أمعنت النّظر في النّصوص الواردة في تفسير هذه الآية،وجدت فرقا بيّنا بين الفريقين،في تبيين إمامة إبراهيم عليه السّلام.فآراء الجمهور تتردّد بين كونها مطلق رسالته،أو كون إبراهيم من أولي العزم و صاحب شريعة،لا يتّبع غيره من الأنبياء،أو وجوب إطاعته في أمر الدّين و الدّنيا،فتعمّ الخلفاء و القضاة و أئمّة الجمعة و الجماعات،و كلّ مطاع في أمر من أمور الدّين.بينما نجد رأي الإماميّة يتمحور و يرتكز على أنّ المراد بها الإمامة العامّة في أمور الدّين و الدّنيا،و هي خارجة عن إطار النّبوّة،مجعولة من قبل اللّه لبعض الأنبياء و الأوصياء و غيرهم،و لأئمّة أهل البيت بالذّات،و لا تعمّ الخلفاء و القضاة و غيرهم.

و زاد العلاّمة الطّباطبائيّ على هذا،اتّكالا على ترتيب ما نزل من الآيات بشأن إبراهيم،و أنّ هذه الإمامة وهبت لإبراهيم في أواخر عهده،بعد البشارة له بإسحاق و إسماعيل،و بعد أن كان نبيّا ينزل عليه الوحي قبل ذلك بأمد بعيد،و بعد أن أعطي اليقين بإراءته الملكوت،كما قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ الأنعام:75،و يستنتج من كلامه المسترسل حول الإمامة«أنّ الإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين، مكشوفا له عالم الملكوت،متحقّقا بكلمات من اللّه سبحانه...».و هذا الّذي ذكره يزيد على ما يقوله المتكلّمون من الإماميّة في تعريف الإمام و شروط

ص: 429

الإمامة،و هو أشبه بما عند العرفاء في معنى الولاية الإلهيّة العظمى،و كذلك يستنتج من بحثه اشتراط أمور سبعة في الإمام،فلاحظ النّصّ.

2-قالوا في: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً -كما سبق في النّصوص-:جاء المفرد مكان الجمع،فلم يقل:

«أئمّة»،لأنّ«الإمام»مصدر من قول القائل:أمّ فلان فلانا إماما،كما يقال:قام قياما،و صام صياما.أو أنّه على الحكاية،يقال للرّجل:من أميركم؟فيقول:هؤلاء أميرنا،و مثله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي الشّعراء:77،و إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ الشّعراء:16.أو أنّ«الإمام»إذا ذهب مذهب الاسم وحّد.أو معناه و اجعل كلّ واحد منّا إماما،أو اجعلنا إماما واحدا،لاتّحادنا و اتّفاق كلمتنا.أو أنّه اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس،و لعدم اللّبس، كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً الحجّ:5.أو وحّد رعاية لفواصل الآيات،فالرّويّ قبلها:متابا،كراما، عميانا،و بعدها:سلاما،مقاما،لزاما.أو أنّه جمع«آمّ» كصائم و صيام.و كلّ هذه الوجوه بين يديك،فاختر منها ما شئت.و عندنا أنّ لرعاية الفواصل دخلا في ذلك،مهما اخترنا شيئا منها.

3-قالوا في: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71،أي بمن يأتمّون به من إمام هدى أو ضلالة،أو بنبيّهم،أو بكتابهم الّذي أنزل إليهم،أو بكتاب أعمالهم،أو بأعمالهم المكتوبة،أو بإمام زمانهم-عند الإماميّة-أو بأمّهاتهم،رعاية لحقّ عيسى،و إظهارا لشرف الحسنين عليهما السّلام،و سترا لأولاد الزّنى،و قد عدّه الزّمخشريّ من بدع التّفاسير.و عليه فالإمام جمع«أمّ» مثل:خفّ و خفاف،و قفّ و قفاف،و جلّ و جلال.

و نرى أنّ من هذه الوجوه صحيفة الأعمال أمسّ بسياق الآية:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً الإسراء:71،حيث فرّعت فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ على ما قبلها،و كذا«الباء»في(بامامهم)،بمعنى«مع»، و النّاس يومئذ يحشرون مع كتاب أعمالهم،لا مع كتاب ربّهم،أو مع نبيّهم،أو إمامهم،أو أمّهاتهم.اللّهمّ إلاّ أن تقول: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي ندعوا كلّ فرقة باسم إمامهم،فينادى أتباع موسى و عيسى و محمّد و غيرهم من الأنبياء،أو أتباع أئمّة الهداية و الضّلالة،كلّ باسم إمامهم،فيقال لك:نعم.هذا ظاهر صدرها إلاّ أنّ ذيل الآية يصرفنا عن ذلك،فلاحظ.

4-قالوا في وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ :الإمام بمعنى الكتاب على لغة قريش أو حمير،أي أنّ قصّة قوم لوط و شعيب المذكورتين قبلها مكتوبتان في كتاب مبين،هو اللّوح المحفوظ،أو الإمام بمعنى الطّريق السّويّ؛إذ يؤمّه كلّ أحد،أي أنّ لوطا و شعيبا هما على طريق واضح،هو طريق الجنّة،أو قريتيهما وقعتا في طريق واضح،تمرّون عليهما،كقوله تعالى في قوم لوط: ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ* وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ الصّافّات:136،137،و الأخير هو الأظهر،لأنّ تسجيل قصّتيهما في اللّوح المحفوظ لا تجدي القارئ شيئا.و على أيّ من هذه الأقوال،فلرعاية الفواصل دخل في هذا السّياق فقبلها:للمتوسّمين،لبسبيل مقيم،

ص: 430

للمؤمنين،و بعدها:المرسلين،امنين،و سياقها سياق قوله: وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الحجر:76،فلاحظ.

5-جاء(إمام)في الآيات المرقّمة(5)و(6)و(7) بمعنى الكتاب،أمّا في: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً الأحقاف:12،فهو بهذا المعنى قولا واحدا.

و أمّا في: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يس:

12،فأكثرهم فسّره باللّوح المحفوظ،باعتبار أنّه قدوة للملائكة،يقابلون به ما يحدث من الأمور في العالم.

و فسّره بعضهم بالمحكم من الكتاب،أو بالإمام الحقّ- كما في تأويلات الشّيعة-أو بصحائف الأعمال،كما عن الحسن،و هو أمسّ بسياق الآية: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ. يس:12.

6-هذا كلّه في ما جاء(امام)فيه مفردا،و أمّا في ما جاء جمعا-كما في الأرقام(8)إلى(12)-فالأئمّة في الثّلاث الأولى هم أئمّة الهدى،يهدون بأمر اللّه،و قد جعلهم الوارثين،و في الأخيرتين هم أئمّة الضّلالة و الكفر،يدعون إلى النّار.

ه-الأمام:جاء مرّة واحدة في سورة مكّيّة:

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ القيمة:5.

و يلاحظ أوّلا:أنّ العلاقة بين«أمام»و«إمام» وثيقة،فالإمام موضعه أمام النّاس الّذين اجتمعوا إليه، ليأتمّوا به في الصّلاة،أو يقتدوا به في الدّين،و هذا القيد -أي الاقتداء-غير ملحوظ في«أمام»كما سبق.

و ارتباطه ب«أمّ»بمعنى القصد،من جهة أنّ«الأمام»هو مقصد المرء،سواء كان ذلك«الأمام»مادّيّا دالاّ على مكان محدّد،أو كان معنويّا،كأن تقول:القيامة أمامنا.

و بهذا المعنى جاء في الآية،أي يكذّب بما أمامه يوم القيامة،و نظيره قولهم:بل يريد الإنسان ليكفر بالحقّ بين يدي القيامة،أو يكفر بما قدّامه،و دليله قوله بعدها:

يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ القيمة:6،أو يريد أن يفجر ما امتدّ عمره في المستقبل،و ليس في نيّته أن يرجع من ذنب.أو ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، و فيما يستقبله من الزّمان،لا ينزع عنه،إلى غيرها ممّا سبق في النّصوص.

و ثانيا:قال أبو حيّان:«الأمام»ظرف مكان،استعير هنا للزّمان،أي ليفجر فيما بين يديه و يستقبله من زمان حياته.و لئن وافقناه في الأصل،فلا نوافقه في الاستعمال الشّائع،فإنّه يستعمل في المكان و الزّمان معا بكثرة،و عكسه«قبل»و«بعد»فإنّهما في الأصل للزّمان،و لكن يستعملان في المحاورات فيهما معا.

و ثالثا:لك أن تسأل:ما هو وجه مجيئه مرّة واحدة في القرآن؟فهل هو مجرّد اتّفاق،أو كان استعماله نادرا، فجاء هنا رعاية لرويّ الآيات من أوّل السّورة إلى ستّ آيات،آخرها يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ، كما اخترنا في أمثاله،و لا سيّما أنّه تغيّر عن موضعه الأصليّ،و هو المكان؟فلك الخيار في ذلك.

و-آمّين:جاء في القرآن مرّة واحدة:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ... وَ لاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً المائدة:2.

و يلاحظ أوّلا:أنّه جمع«آمّ»،و هو اسم فاعل،

ص: 431

أصله«آمم»،و جمعه على أصله آممون،فأدغمت الميم في الميم.و آمّين،و حاجّين،و قاصدين بمعنى واحد، كما جاء في النّصوص،و هم-على رأي الزّمخشريّ- الحجّاج و العمّار،فهم أعمّ من الحجّاج.و لعلّه من أجل ذلك عبّر به بدل الحاجّين و ما بمعناه،ليعمّ الفريقين.

و ربّما يخطر بالبال أنّ التّعبير به تمثيل لحالتهم النّفسيّة؛ حيث إنّهم يقصدون بيت اللّه،فهم يعيشون أحسن الحالات،و يحلّون أشرف المقامات.و هذا يتجلّى لنا لو التفتنا إلى أنّ«أمّ»ليس مطلق القصد،بل قصد تمركز في المقصود،و قد سبق.

و ثانيا:أنّه اللّفظ الوحيد الّذي جاء في القرآن من مادّة«أم م»بمعنى القصد،رغم أنّه المعنى الأصليّ للكلمة عند بعضهم،كما سبق.و القرآن قد أعطى الأولويّة لغيره من المعاني،و هي حسب عدد مجيئها في القرآن:الأمّة،و الأمّ،و الإمام،و الأمّيّ،و الأمام، و آمّين.فما هو الوجه في ذلك؟لعلّه من أجل شيوع لفظ آخر،مثل«قصد»و«رام»مكان«أمّ»يوم ذاك في مكّة، أو هو دليل على أصالة غيره في هذه المادّة،كالأمّ أو الأمّة،حسب المختار عندنا.

و ثالثا:جاءت هذه الكلمة مثل«أمام»أيضا مرّة واحدة في القرآن،و لم تتكرّر،من دون ضرورة تقتضيها«الفواصل»الّتي علّلنا بها ما جاء من الكلمات مرّة واحدة،إذ هي جاءت وسط الآية دون آخرها،فما هو تخريج ذلك؟لعلّه ما سبق من تجسيم و تمثيل حالتهم الرّوحيّة.

و رابعا:(امّين)عطف على ما قبلها من(شعائر) و(الشّهر الحرام)و(الهدى)و(القلائد)،فيتعلّق به (لا تحلّوا).و معنى إحلالها التّعدّي عليها،و هتك حرمتها، و تضييعها.و عليه،فإحلال قاصدي البيت الحرام التّجاوز و التّعدّي عليهم قتلا و إيذاء و سخريّة و نحوها.

و هذا تمثيل آخر لشرف هؤلاء أيضا؛حيث عدّوا من جملة شعائر اللّه الّتي يجب تعظيمها،كما قال تعالى:

وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الحجّ:32،و أنّ اللّه قد جعل الصّفا و المروة و البدن و غيرها من شعائر اللّه،و هي أشياء ليس لها روح، فكيف بأناس يحملون في قلوبهم الإيمان مع قصد بيت اللّه الحرام؟!

ص: 432

أ م ن

اشارة

68 لفاظا،879 مرّة:358 مكّيّة،521 مدنيّة

في 77 سورة:53 مكّيّة،24 مدنيّة

أمن 4:3-1 مأمون 1:1

أمنوا 2:2 أمين 11:11

أمنتم 6:4-2 الأمين 3:3

أمنتكم 1:1 مأمنه 1:-1

يأمن 1:1 أمانته 1:-1

يأمنوا 1:-1 الأمانة 1:-1

يأمنوكم 1:-1 أماناتهم 2:2

تأمنه 2:-2 أماناتكم 1:-1

تأمنّا 1:1 الأمانات 1:-1

آمنكم 1:1 أمنا 2:-2

آمنا 6:4-2 أمنة 2:-2

آمنون 2:2 الأمن 3:2-1

آمنين 7:6-1 آمن 33:16-17

الآمنين 1:1 آمنهم 1:1

آمنة 1:1 آمنوا 258:72-186

آمنت 5:4-1 لنؤمننّ 1:1

آمنتم 10:6-4 آمن 1:1

آمنت 3:3 آمنوا 18:3-15

آمنّا 33:12-21 مؤمن 14:7-7

يؤمن 28:14-14 المؤمن 1:-1

ليؤمننّ 1:-1 مؤمنا 7:2-5

يؤمنون 87:60-27 مؤمنين 1:1

يؤمنوا 18:13-5 مؤمنون 6:3-3

ليؤمننّ 1:1 المؤمنون 29:4-25

يؤمنّ 2:-2 مؤمنين 39:22-17

تؤمن 3:1-2 المؤمنين 105:39-66

تؤمنون 8:1-7 مؤمنة 6:-6

تؤمنوا 12:3-9 مؤمنات 3:-3

لتؤمننّ 1:-1 المؤمنات 19:2-17

نؤمن 13:6-7 إيمان 1:1

ص: 433

الإيمان 17:4-13 إيمانهم 7:4-3

إيمانا 7:1-6 إيمانهنّ 1:-1

إيمانه 2:2 إيمانكم 7:-7

إيمانها 3:3 اؤتمن 1:-1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الأمن:ضدّ الخوف،و الفعل منه:أمن يأمن أمنا.و المأمن:موضع الأمن.

و الأمنة من الأمن:اسم موضوع من أمنت.و الأمان:

إعطاء الأمنة.

و الأمانة:نقيض الخيانة،و المفعول:مأمون و أمين، و مؤتمن من(ائتمنه).

و الإيمان:التّصديق نفسه،و قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق.

و التّأمين من قولك:آمين،و هو اسم من أسماء اللّه.

و ناقة أمون:و هي الأمينة الوثيقة،و هذا فعول جاء في معنى المفعول.و مثله:ناقة عضوب،يعضب فخذها حين تحلب حتّى تدرّ.(8:388)

أبو زيد: قالوا:ما أمنت أن أجد صحابة إيمانا،أي ما وثقت أن أجد صحابة إيمانا،و الإيمان:الثّقة.

و قال أبو الصّقر: ما أمنت أن أجد صحابة إيمانا،فمعناه ما كدت أجد صحابة.(193)

نحوه اللّحيانيّ.(الأزهريّ 15:516)

الأصمعيّ: الأمين:المؤتمن و المؤتمن.[ثمّ استشهد بشعر](الأضداد:51)

مثله أبو حاتم،و ابن السّكّيت،و الصّاغانيّ (الأضداد:103،204،223).

اللّحيانيّ: أمن فلان يأمن أمنا،و أمنا و أمانا و أمنة، فهو آمن،قال اللّه تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ الأنفال:11.

رجل أمنة:للّذي يأمنه النّاس و لا يخافون غائلته.

و يقال:رجل أمنة،بالفتح،للّذي يصدّق بكلّ ما يسمع و لا يكذّب بشيء.و رجل أمنة أيضا،إذا كان يطمئنّ إلى كلّ أحد.

و سمعت أبا زياد يقول:أنت في أمن من ذاك،أي في أمان.

و يقال:آمن فلان العدوّ إيمانا،فأمن يأمن،و العدوّ مؤمن.

و يقال:ما كان فلان أمينا،و لقد أمن يأمن أمانة.

و إنّه لرجل أمّان،أي له دين.[ثمّ استشهد بشعر]

رجل أمن و أمين،بمعنى واحد،و منه قول اللّه تعالى:

وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ التّين:3،تأويله:الآمن.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 15:510)

ابن الأعرابيّ: الأمن:المستجير ليأمن على نفسه.(ابن منظور 13:22)

أبو نصر الباهليّ: التّاجر الأمّان هو الأمين.(الأزهريّ 15:511)

ابن السّكّيت: المأمونة:المستراد لمثلها.(331)

ابن قتيبة :الأمنة:الأمن،يقال:وقعت الأمنة في الأرض،و منه يقال:أعطيته أمانا،أي عهدا يأمن به.(114)

ثعلب :الأمانة و الأمنة:نقيض الخيانة،لأنّه يؤمن

ص: 434

أذاه،و قد أمنه و أمّنه و أتمنه و اتّمنه.(ابن منظور 13:22)

إذا دعوت قلت:أمين،بقصر الألف،و إن شئت طوّلت،و هو إيجاب:ربّ افعل.(الأزهريّ 15:513)

الزّجّاج: في قول القارئ بعد الفراغ من قراءة فاتحة الكتاب:آمين:فيه لغتان:

تقول العرب:أمين بقصر الألف،و آمين بالمدّ.[ثمّ استشهد بشعر]و معناهما:اللّهمّ استجب.و هما موضوعان في موضع اسم الاستجابة،كما أنّ«صه» موضوع موضع«سكوتا».و حقّهما من الإعراب الوقف، لأنّهما بمنزلة الأصوات؛إذ كانا غير مشتقّين من فعل،إلاّ أنّ النّون فتحت لالتقاء السّاكنين،و لم تكسر النّون لثقل الكسرة بعد الياء،كما فتحوا:أين،و كيف.

(الأزهريّ 15:512)

نحوه أبو سهل الهرويّ.(86)

ابن الأنباريّ: في الحديث:«أمين خاتم ربّ العالمين»فيه لغتان:آمين،مطوّلة الألف،مخفّفة الميم.

و أمين على مثال«فعيل»،معناه أنّه طابع اللّه على عباده، لأنّه يدفع به الآفات و البلايا،فكان كخاتم الكتاب الّذي يصونه و يمنع من إفساده و إظهار ما فيه.

و في حديث آخر:«أمين درجة في الجنّة»،معناه أنّه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنّة.

و في الحديث:«نهران مؤمنان و نهران كافران»، جعلهما مؤمنين،على التّشبيه،لأنّهما يفيضان على الأرض،فيسقيان الحرث بلا مئونة.و جعلهما كافرين، لأنّهما لا ينفعان و لا يسقيان.فهذان في الخير و النّفع كالمؤمنين،و هذان في قلّة النّفع كالكافرين.

(الهرويّ 1:92)

الأزهريّ: «التّاجر الأمّان»هو الأمين.و قال بعضهم:الأمّان:الّذي لا يكتب،لأنّه أمّيّ.و قال بعضهم:

الأمّان:الزرّاع.[ثمّ استشهد بشعر]

و قرأت في نوادر الأعراب:أعطيت فلانا من أمن مالي،و لم يفسّر.كأنّ معناه من خالص مالي،و من خالص دواء المشي.[ثمّ استشهد بشعر](15:511)

روي عن عدّة طرق أنّ«الأمين»اسم من أسماء اللّه تعالى.(15:513)

يقال:أمّن الإمام و الدّاعي تأمينا،إذا قال بعد الفراغ من أمّ الكتاب:آمين.(15:516)

الجوهريّ: الأمان و الأمانة بمعنى.و قد أمنت فأنا آمن.و آمنت غيري،من الأمن و الأمان.و الإيمان:

التّصديق.

و اللّه تعالى المؤمن،لأنّه آمن عباده من أن يظلمهم.

و أصل«آمن»أأمن بهمزتين،ليّنت الثّانية.و منه المهيمن،و أصله«مؤأمن»ليّنت الثّانية و قلبت ياء، و قلبت الأولى هاء.

و الأمن:ضدّ الخوف.و الأمنة بالتّحريك:الأمن، و منه قوله عزّ و جلّ: أَمَنَةً نُعاساً آل عمران:154.

و الأمنة أيضا:الّذي يثق بكلّ أحد،و كذلك الأمنة مثال الهمزة.

و أمنته على كذا و أتمنته بمعنى.و قرئ: ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ يوسف:11،بين الإدغام و بين الإظهار.

قال الأخفش:و الإدغام أحسن.

ص: 435

و تقول:اؤتمن فلان،على ما لم يسمّ فاعله،فإن ابتدأت به صيّرت الهمزة الثّانية واوا،لأنّ كلّ كلمة اجتمع في أوّلها همزتان و كانت الأخرى منهما ساكنة فلك أن تصيّرها واوا إن كانت الأولى مضمومة،أو ياء إن كانت الأولى مكسورة نحو ائتمنه،أو ألفا إن كانت الأولى مفتوحة نحو آمن.

و استأمن إليه،أي دخل في أمانه.و قوله تعالى:

وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ التّين:3،قال الأخفش:يريد الآمن،و هو من الأمن.و قد يقال:الأمين:المأمون.

و الأمّان بالضّمّ و التّشديد:الأمين.

و الأمون:النّاقة الموثّقة الخلق،الّتي أمنت أن تكون ضعيفة.

و آمين في الدّعاء يمدّ و يقصّر،و تشديد الميم خطأ.

و يقال:معناه كذلك فليكن،و هو مبنيّ على الفتح مثل «أين»و«كيف»لاجتماع السّاكنين و تقول منه:أمّن فلان تأمينا.(5:2071)

ابن فارس: الهمزة و الميم و النّون أصلان متقاربان:

أحدهما:الأمانة الّتي هي ضدّ الخيانة،و معناها سكون القلب،و الآخر:التّصديق.و المعنيان-كما قلنا-متدانيان.

يقال:أمنت الرّجل أمنا و أمنة و أمانا،و آمنني يؤمنني إيمانا.

و العرب تقول:رجل أمّان،إذا كان أمينا.و بيت آمن:

ذو أمن،قال اللّه تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35.

أمّا قولهم:أعطيت فلانا من آمن مالي،فقالوا:معناه من أعزّه عليّ.و هذا و إن كان كذا فالمعنى معنى الباب كلّه،لأنّه إذا كان من أعزّه عليه فهو الّذي تسكن نفسه.

و في المثل:«من مأمنه يؤتى الحذر»و يقولون:

«البلويّ أخوك و لا تأمنه»يراد به التّحذير.

و أمّا التّصديق فقول اللّه تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي مصدّق لنا.

و قال بعض أهل العلم:إنّ«المؤمن»في صفات اللّه تعالى هو أن يصدق ما وعد عبده من الثّواب.

و قال آخرون:هو مؤمن لأوليائه يؤمنهم عذابه و لا يظلمهم،فهذا قد عاد إلى المعنى الأوّل.

و من الباب الثّاني-و اللّه أعلم-قولنا في الدّعاء:

«آمين»قالوا:تفسيره اللّهمّ افعل،و يقال:هو اسم من أسماء اللّه تعالى.[ثمّ استشهد بشعر](1:133)

أبو هلال :الفرق بين الأمين و المأمون:أنّ الأمين الثّقة في نفسه،و المأمون الّذي يأمنه غيره.(189)

الفرق بين التّقيّ و المتّقيّ و المؤمن:أنّ الصّفة بالتّقيّ أمدح من الصّفة بالمتّقيّ،لأنّه عدل عن الصّفة الجارية على الفعل للمبالغة؛و المتّقيّ أمدح من المؤمن،لأنّ المؤمن يطلق بظاهر الحال و المتّقيّ لا يطلق إلاّ بعد الخبرة،و هذا من جهة الشّريعة،و الأوّل من جهة دلالة اللّغة؛و الإيمان:

نقيض الكفر و الفسق جميعا،لأنّه لا يجوز أن يكون الفعل إيمانا فسقا كما لا يجوز أن يكون إيمانا كفرا إلاّ أنّ تقابل النّقيض في اللّفظ بين الإيمان و الكفر أظهر.(183)

الهرويّ: و في الحديث:«الأمانة غنى»أي سبب الغنى.المعنى أنّ الرّجل إذا عرف بها كثر معاملوه،فصار ذلك سببا لغناه.

و في حديث عقبة بن عامر:«أسلم النّاس و آمن

ص: 436

عمرو بن العاص»كأنّ هذا إشارة إلى جماعة آمنوا معه خوفا من السّيف و نافقوا،و أنّ عمرا كان مخلصا في إيمانه.

و هذا من العامّ الّذي يراد به الخاصّ.(1:94)

ابن سيدة :ما أحسن أمنتك و إمنك،أي دينك و خلقك.(ابن منظور 13:23)

الأمون:النّاقة أمنت أن تكون ضعيفة،هي ناقة أمون.(الإفصاح 2:730)

الطّوسيّ: الأمن:سكون النّفس إلى الحال المنافية لانزعاجها.

و الأمن و الثّقة و الطّمأنينة،نظائر في اللّغة.و ضدّ الأمن الخوف،و ضدّ الثّقة الرّيبة،و ضدّ الطّمأنينة الانزعاج.

و الأمن:الثّقة بالسّلامة من الخوف.(4:510)

مثله الطّبرسيّ.(2:452)

الأمن:هو اطمئنان النّفس إلى السّلامة من الخوف.

و الأمن:علم بسلامة النّفس من الضّرر،يقال:أمن يأمن أمنا،و أمنه يؤمنه إيمانا و أمانا.(10:66)

نحوه الطّبرسيّ.(3:247)

الرّاغب: أصل الأمن:طمأنينة النّفس و زوال الخوف.و الأمن و الأمانة و الأمان في الأصل مصادر، و يجعل الأمان تارة اسما للحالة الّتي يكون عليها الإنسان في الأمن،و تارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان، نحو قوله: وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ الأنفال:27،أي ما ائتمنتم عليه.

و«آمن»إنّما يقال على وجهين:أحدهما:متعدّيا بنفسه،يقال:آمنته،أي جعلت له الأمن.و منه قيل للّه:

مؤمن.و الثّاني:غير متعدّ،و معناه صار ذا أمن.

و يقال:رجل أمنة و أمنة:يثق بكلّ أحد،و أمين و أمان:يؤمن به.

و الأمون:النّاقة يؤمن فتورها و عثورها.(25)

الزّمخشريّ: أمنته و آمننيه غيري،و هو في أمن منه و أمنة،و هو مؤتمن على كذا،و قد ائتمنته عليه فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ البقرة:283،و بلّغه مأمنه.

و استأمن الحربيّ:استجار و دخل دار الإسلام مستأمنا،و هؤلاء قوم مستأمنة.

و يقول الأمير للخائف:لك الأمان،أي قد أمنتك.

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق.

و ما أومن بشيء ممّا يقول،أي ما أصدّق و ما أثق.

و ما أومن أن أجد صحابة،يقوله ناوي السّفر،أي ما أثق أن أظفر بمن أرافقه.

و فلان أمنة،أي يأمن كلّ أحد و يثق به،و يأمنه النّاس و لا يخافون غائلته.و أمّن على دعائه.

و تقول:رأيت جماعة مؤمنين:داعين لك مؤمّنين.

و من المجاز:فرس أمين القوى،و ناقة أمون:قويّة مأمون فتورها،جعل الأمن لها و هو لصاحبها،كقولهم:

ضبوث و حلوب.

و أعطيت فلانا من آمن مالي،أي من أعزّه عليّ و أنفسه،لأنّه إذا عزّ عليه لم يعقره،فهو في أمن منه أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً العنكبوت:67،ذا أمن.

(أساس البلاغة:10)

ابن الأثير: في أسماء اللّه تعالى«المؤمن»هو الّذي يصدق عباده وعده،فهو من الإيمان التّصديق.أو يؤمّنهم

ص: 437

في القيامة من عذابه،فهو من الأمان،و الأمن:ضدّ الخوف.

و منه الحديث:«لا يزني الزّاني و هو مؤمن»قيل:

معناه النّهي و إن كان في صورة الخبر.و الأصل حذف الياء من«يزني»أي لا يزن المؤمن و لا يسرق و لا يشرب،فإنّ هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين.

و قيل:هو وعيد يقصد به الرّدع،كقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا إيمان لمن لا أمانة له»،«و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده».

و قيل:معناه لا يزني و هو كامل الإيمان.

و قيل:معناه إنّ الهوى يغطّي الإيمان،فصاحب الهوى لا يرى إلاّ هواه،و لا ينظر إلى إيمانه النّاهي له عن ارتكاب الفاحشة،فكأنّ الإيمان في تلك الحالة قد انعدم.

و قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:«الإيمان نزه فإذا أذنب العبد فارقه».

و منه الحديث الآخر:«إذا زنى الرّجل خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظّلّة،فإذا أقلع رجع إليه الإيمان».و كلّ هذا محمول على المجاز،و نفي الكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان و إبطاله.

و في الحديث:«النّجوم أمنة السّماء،فإذا ذهبت النّجوم أتى السّماء ما توعد،و أنا أمنة لأصحابي،فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون،و أصحابي أمنة لأمّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما توعد».

أراد بوعد السّماء:انشقاقها و ذهابها يوم القيامة.

و ذهاب النّجوم:تكويرها و انكدارها و إعدامها.و أراد بوعد أصحابه:ما وقع بينهم من الفتن.و كذلك أراد بوعد الأمّة.

و الإشارة في الجملة إلى مجيء الشّرّ عند ذهاب أهل الخير،فإنّه لمّا كان بين أظهرهم كان يبيّن لهم ما يختلفون فيه،فلمّا توفّي جالت الآراء و اختلفت الأهواء،فكان الصّحابة رضي اللّه عنهم يسندون الأمر إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في قول أو فعل أو دلالة حال،فلمّا فقد قلّت الأنوار و قويت الظّلم،و كذلك حال السّماء عند ذهاب النّجوم.

«و الأمنة»في هذا الحديث جمع«أمين»و هو الحافظ.

و في حديث نزول المسيح عليه السّلام:«و تقع الأمنة في الأرض»الأمنة هاهنا:الأمن،كقوله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ الأنفال:11،يريد أنّ الأرض تمتلئ بالأمن،فلا يخاف أحد من النّاس و الحيوان.

و في الحديث:«المؤذّن مؤتمن»مؤتمن (1)القوم:الّذي يثقون إليه و يتّخذونه أمينا حافظا،يقال:اؤتمن الرّجل فهو مؤتمن،يعني أنّ المؤذّن أمين النّاس على صلاتهم و صيامهم.

و فيه:«المجالس بالأمانة»هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قول أو فعل،فكأنّ ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه.و«الأمانة»تقع على الطّاعة و العبادة و الوديعة و الثّقة و الأمان،و قد جاء في كلّ منها حديث.

و في حديث أشراط السّاعة:«و الأمانة مغنما»أي يرى من في يده أمانة أنّ الخيانة فيها غنيمة قد غنمها.

و فيه:«الزّرع أمانة و التّاجر فاجر»جعل الزّرع أمانة لسلامته من الآفات الّتي تقع في التّجارة،من التّزيّد في القول و الحلف و غير ذلك.2.

ص: 438


1- الزّيادة في اللّسان 13:22.

و فيه:«أستودع اللّه دينك و أمانتك»أي أهلك و من تخلّفه بعدك منهم،و ما لك الّذي تودعه و تستحفظه أمينك و وكيلك.[و فيه أحاديث أخر فراجع](1:69)

الفيّوميّ: أمن زيد الأسد أمنا،و أمن منه،مثل سلم منه،وزنا و معنى.و الأصل أن يستعمل في سكون القلب، يتعدّى بنفسه و بالحرف.و يعدّى إلى ثان بالهمزة،فيقال:

آمنته منه.و أمنته عليه بالكسر،و أتمنته عليه فهو أمين.

و أمن البلد:اطمأنّ به أهله،فهو آمن و أمين.و هو مأمون الغائلة،أي ليس له غور و لا مكر يخشى.

و آمنت الأسير،بالمدّ:أعطيته الأمان فأمن هو، بالكسر.

و آمنت باللّه إيمانا:أسلمت له.

و أمن بالكسر أمانة فهو أمين،ثمّ استعمل المصدر في الأعيان مجازا فقيل:الوديعة:أمانة و نحوه،و الجمع:

أمانات.

و«أمين»بالقصر في لغة الحجاز و بالمدّ في لغة بني عامر،و المدّ إشباع بدليل أنّه لا يوجد في العربيّة كلمة على«فاعيل»و معناه اللّهمّ استجب.و قال أبو حاتم:

معناه كذلك يكون.و عن الحسن البصريّ:أنّه اسم من أسماء اللّه تعالى.

و الموجود في مشاهير الأصول المعتمدة أنّ التّشديد خطأ.و قال بعض أهل العلم:التّشديد لغة،و هو وهم قديم؛و ذلك أنّ أبا العبّاس أحمد بن يحيى قال:و آمين مثال عاصين لغة،فتوهّم أنّ المراد صيغة الجمع،لأنّه قابله بالجمع،و هو مردود بقول ابن جنّيّ و غيره؛أنّ المراد موازنة اللّفظ لا غير.قال ابن جنّيّ:و ليس المراد حقيقة الجمع،و يؤيّده قول صاحب«التّمثيل»في الفصيح:و التّشديد خطأ،ثمّ المعنى غير مستقيم على التّشديد،لأنّ التّقدير:و لا الضّالّين قاصدين إليك،و هذا لا يرتبط بما قبله،فافهمه.

و أمّنت على الدّعاء تأمينا:قلت عنده:آمين.

و استأمنه:طلب منه الأمان،و استأمن إليه:دخل في أمانه.(24)

الفيروزآباديّ: الأمن و الآمن كصاحب:ضدّ الخوف.

أمن كفرح أمنا و أمانا بفتحهما،و أمنا و أمنة محرّكتين، و أمنا بالكسر،فهو أمن و أمين كفرح و أمير.

و رجل أمنة كهمزة و يحرّك:يأمنه كلّ أحد في كلّ شيء،و قد آمنه و أمّنه.

و الأمن ككتف:المستجير ليأمن على نفسه.

و الأمانة و الأمنة:ضدّ الخيانة.و قد أمنه كسمع،أمّنه تأمينا و ائتمنه و استأمنه،و قد أمن ككرم،فهو أمين.

و أمّان كرمّان:مأمون به ثقة.

و ما أحسن أمنك،و يحرّك:دينك و خلقك.

و آمن به إيمانا:صدّقه،و الإيمان:الثّقة،و إظهار الخضوع،و قبول الشّريعة.و الأمين:القويّ،و المؤتمن و المؤتمن:ضدّ،و صفة اللّه تعالى.

و ناقة أمون:وثيقة الخلق،جمعه ككتب.

و أعطيته من آمن مالي:من خالصه و شريفه.

و ما أمن أن يجد صحابة:ما وثق أو ما كاد.

و آمين،بالمدّ و القصر و قد يشدّد الممدود و يمال أيضا عن الواحديّ في«البسيط»:اسم من أسماء اللّه تعالى،

ص: 439

و معناه اللّهمّ استجب،أو كذلك فليكن،أو كذلك فافعل.

و الأمّان كرمّان:من لا يكتب لأنّه أمّيّ،و الزرّاع.

و إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الأحزاب:72،أي الفرائض المفروضة،أو النّيّة الّتي يعتقدها فيما يظهره باللّسان من الإيمان و يؤدّيه من جميع الفرائض في الظّاهر، لأنّ اللّه تعالى ائتمنه عليها و لم يظهرها لأحد من خلقه.

فمن أضمر من التّوحيد مثل ما أظهر،فقد أدّى الأمانة.(4:199)

الطّريحيّ: أمنته على كذا و ائتمنته بمعنى.[إلى أن قال:]

و في الدّعاء«و أخرجني من الدّنيا آمنا»أي من الذّنوب الّتي بيني و بينك،بأن توفّقني للتّوبة منها قبل الموت،و من الّتي بيني و بين خلقك،بأن توفّقني للخلاص منها.

و فيه:«لا تؤمنّي مكرك»قيل فيه:كالاستدراج و نحوه.

و فيه:«المجالس بالأمانة و ليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلاّ أن يكون للّه أو ذاكرا له بخير».

فقوله:«بالأمانة»أي كالوديعة الّتي يجب حفظها.

و في«المجمع»في قوله:«المجالس بالأمانة»إلاّ ثلاثة؛ كما إذا سمع في المجلس قائلا يقول:أريد أقتل فلانا،و أريد الزّنى بفلانة،أو آخذ ماله،فإنّه لا يستره.

و في حديث أبي عبد اللّه عليه السّلام:«المجلس بالأمانة و ليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلاّ بإذنه إلاّ أن يكون ثقة أو ذاكرا له بخير».

و في حديث الرّضا عليه السّلام مع الرّشيد:«المجالس بالأمانة،و خاصّة مجلسك،فقال:لا بأس عليك».

و الأمين:المؤتمن على الشّيء،و منه محمّد صلّى اللّه عليه و آله أمين اللّه على رسالته.

و في الحديث:«المؤذّنون أمناء المسلمين على صلاتهم و صيامهم و لحومهم و دمائهم»أي ممّن يصدّقونهم و يأتمنونهم على ذلك كلّه.

قيل في شرح الحديث:أمّا في الصّلاة و الصّيام فظاهر،و أمّا في اللّحوم و الدّماء فقيل فيه:إنّ من صدر منه ذلك جاز استحلال لحمه الّذي يؤخذ منه،و لحم يؤخذ من بلد هو فيه،و أمّا في الدّماء فمعناه أنّ من صدر منه إهراق دم جاز استحلاله،و مثله:«العلماء أمناء ما لم يدخلوا في الدّنيا».

و الأمان:عدم الخوف.

و في حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«كساه اللّه من حلل الأمان».

قال بعض الشّارحين:المراد أمان أمّته من النّار،فإنّ اللّه تعالى قال له: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى الضّحى:5،و هو صلّى اللّه عليه و آله لا يرضى بدخول أحد من أمّته إلى النّار،كما ورد في الحديث.

و حلل الأمان:استعارة و ذكر الكسوة ترشيح.

و آمين بالمدّ و القصر لغة،بمعنى اللّهمّ استجب،و عند بعضهم:فليكن كذلك.

و أمّنت على الدّعاء تأمينا:قلت:عنده آمين.و منه:

«فلان يدعو و فلان يؤمّن على دعائه».

و الرّجل المأمون:المتّصف بالأمانة،و كذا الحائض المأمونة.(6:203-206)

محمّد إسماعيل إبراهيم:أمن:وثق و اطمأنّ

ص: 440

و صدق،و آمن به:وثق به و ركن إليه فهو آمن،و أمنه و ائتمنه:اتّخذه أمينا،و آمن إيمانا:أذعن و صدّق.

و الأمن:ضدّ الخوف.

و الأمانة:ضدّ الخيانة،و هي أيضا الوديعة،و هي الحقوق الّتي تجب مراعاتها و المحافظة عليها،من أمور الدّين أو الدّنيا.

و الإيمان:الإذعان و التّصديق المطلق بالقلب، و الإقرار باللّسان،و هو نقيض الكفر.

و الأمين و المأمون:الموثوق به،و المأمن:موضع الأمن.

و المؤمن:من أسماء اللّه الحسنى،بمعنى واهب الأمن، أو أنّه سبحانه المؤمن بعزّته و جلاله.(47)

مجمع اللّغة :1-أمن صاحبه كفهم،و أمنه على ماله و أمنه بماله:وثق به.و مصدره الأمانة:ضدّ الخيانة.

2-أمن أمنا و أمنة:لم يخف،فهو آمن و هي آمنة و هم آمنون.

3-آمنه:جعل له الأمن.

4-آمن يؤمن إيمانا:أذعن و صدّق،و معاني المادّة كلّها ترجع إلى الاطمئنان.

5-ائتمنه على حقّه:وثق به و جعله أمينا،حافظا له.

6-و الآمن:اسم فاعل و مؤنّثه آمنة،و هو المطمئنّ غير الخائف،أو هو الآمن أصحابه،أو المنسوب إلى الأمن.و جمع آمن:آمنون.

7-و الأمانة:مصدر أمنه أمانة،و أطلقت«الأمانة» على الحقوق المرعيّة الّتي يجب المحافظة عليها و أداؤها.

و جمع الأمانة:أمانات.

8-و الأمن و الأمنة:عدم الخوف.

9-و الأمين:هو الثّقة المؤتمن،و قد يكون الأمين بمعنى الآمن أو المأمون.

10-و الإيمان:هو الإذعان و التّصديق.

11-المأمن:هو مكان الأمن.

12-و مأمون:اسم مفعول.و جاء من أمنه،بمعنى وثق به و اطمأنّ إليه.

13-و مؤمن:اسم فاعل من آمن يؤمن،بمعنى أذعن و صدّق.و جمعه:مؤمنون،و مؤنّثه مؤمنة،و جمعها:

مؤمنات.و المؤمن من أسماء اللّه،و لم يجئ إلاّ في قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الحشر:23.(1:55)

محمود شيت:1-أ-أمن أمنا و أمانا،و أمانة،و أمنا، و إمنا،و أمنة:اطمأنّ و لم يخف،فهو آمن و أمن و أمين.

يقال:لك الأمان،أي قد آمنتك.و أمن البلد:اطمأنّ فيه أهله.و أمن الشّرّ و منه:سلم.

ب-أمن أمانة:كان أمينا.

ج-آمن إيمانا:صار ذا أمن.و آمن به:وثق به، و صدّق.و آمن فلانا:جعله يأمن.

د-أمّن على دعائه:قال:آمين.و أمّن على الشّيء:

دفع مالا منجّما لينال هو أو ورثته قدرا من المال متّفقا عليه،أو تعويضا عمّا فقد،يقال:أمّن على حياته أو على داره أو سيّارته.و أمّن فلانا:جعله في أمن.

ه-ائتمن فلانا:أمنه،و ائتمن فلانا على الشّيء:

جعله أمينا عليه.

و-استأمن إليه:استجاره و طلب حمايته،و يقال:

ص: 441

استأمن الحربيّ:استجار و دخل دار الإسلام مستأمنا.

و استأمن فلانا:طلب منه الأمان.

ز-الأمانة:الوديعة،و الأمانة:ضدّ الخيانة.

ح-الأمنة و الأمنة:من يؤمن بكلّ ما يسمع، و يطمئنّ إلى كلّ أحد،و الّذي يأمنه كلّ أحد في كلّ شيء.

ط-الأمنة:الّذي يأمنه كلّ أحد في كلّ شيء.

ي-الأمون:المطيّة المأمونة لا تعثر و لا تفتر،جمعه:

أمن.

ك-أمين:آمين.

ل-الأمين:الحافظ الحارس،و الأمين:المأمون،و من يتولّى رقابة شيء أو المحافظة عليه،جمعه:أمناء.

م-الإيمان:التّصديق،و الإيمان شرعا:التّصديق بالقلب و الإقرار باللّسان.

2-أ-الأمن:حماية الجيش من عدوّه،و كتمان أسراره و نيّاته.و الأمن:مبدأ من مبادئ الحرب،و هو توفير الحماية للجيش و لخطوط مواصلاته من المباغتة، و منع العدوّ من الحصول على المعلومات عنه.و الأمن:

دائرة للشّرطة مسئولة عن مراقبة المشبوهين من الشّعب و من الأجانب.و حضيرة الأمن:مسئولة عن حماية القطعات من مباغتة العدوّ لها،و مكافحة الجواسيس و المخرّبين.

ب-تأمين السّلاح:تفريغه من عتاده أو قفله بصمّامات الأمان.

ج-الأمان،مسمار الأمان:هو قفل السّلاح لجعله أمينا.و مسمار الأمان:هو مسمار متحرّك مثبت في الأسلحة الخفيفة،يمكن تأمين السّلاح به؛و ذلك يمنع تقدّم«الأقسام»ليحدث فعل الرّمي.

كلاّب الأمان:كلاّب يستخدم في المدافع و الأسلحة الثّقيلة،يمكن تأمين السّلاح به؛و ذلك بمنع إبرة الرّمي من التّقدّم ليحدث فعل الرّمي.

منطقة الأمان:هي المنطقة الّتي تكون خارج منطقة انتشار القنابل و منطقة المدفع.

صمّام الأمان:سلك من معدن خاصّ موجود على بدن الصّمّامة من الدّاخل ملفوف بعكس دوران القنبلة بعد خروجها من المدفع،يبدأ بالتّحرّر نتيجة دوران القنبلة،فإذا ما تمّ تحرّره أصبحت القنبلة جاهزة للانفلاق بعد اصطدامها بجسم صلب.

قفل الأمان:قفل موجود في صمّامات التّوقيت، و خاصّة في الصّمّامة )7.T( الرّوسيّة،و الّذي يمنع الغطّاس الموجود بداخل الصّمّامة من الحركة إلى مسمار الرّمي داخل الصّمّامة قبل الرّمي.

عامل الأمان:يستخدم عند الرّمي تجاه الذّروات المحتلّة و غير المحتلّة،و يحدّد بالنّسبة لنوع المدفع؛حيث يقوم ضابط الموضع بإضافة هذا العامل إلى المدى.

المسافة الأمينة:هي عبارة عن مقدار التّصحيحات الّتي يستطيع الرّاصد إعطاءها على شكل«زيّد أو نقّص» أو«اذهب يمينا أو اذهب يسارا»في الأهداف القريبة.

المدى الأصغري الأمين:هو المدى الّذي يستخرجه ضابط الموضع باستعمال معلومات:زاوية النّظر،و مدى الذّروة،و المدى إلى الهدف.و بمقارنة هذه المعلومات بما جاء في القسم الأوّل من جدول الرّمي،يستخرج المدى الأصغري الأمين.و يتحدّد ضابط الموضع بهذا المدى؛

ص: 442

حيث لا يمكن رمي أي هدف يقع باتّجاه هذه الذّروة بأقلّ من هذا المدى.(1:55)

العدنانيّ:أمّنت فلانا و آمنته.

و يخطّئون من يقول:آمنت فلانا:جعلته في أمن، و يقولون:إنّ الصّواب هو:أمّنته.و كلا الفعلين صحيح، و ثانيهما أكثر دورانا على الألسنة.

فمن الّذين ذكروا الفعل«آمنته»:القرآن الكريم؛إذ جاء في الآية الرّابعة من سورة قريش: اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:4.

و ممّن ذكروا الفعل«آمنته»أيضا:معجم ألفاظ القرآن الكريم،و التّهذيب،و الصّحاح،و المحكم، و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ،و الأساس،و المختار، و اللّسان و المصباح،و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن،و المعجم الكبير، و الوسيط.

و أمّا الفعل«أمّنه»فقد ذكرته جميع المعجمات،و في الحديث:«كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لبني قنان ابن يزيد الحارثيّين أنّ لهم مذودا (1)و سواقيه ما أقاموا الصّلاة و آتوا الزّكاة،و فارقوا المشركين،و أمّنوا السّبيل، و اشهدوا على إسلامهم».

الأمين:و يخطّئون من يستعمل«الأمين»بمعنى الفاعل:المؤتمن،و يقولون:إنّها لا تأتي إلاّ بمعنى المفعول:

المؤتمن،اعتمادا على قول ابن السّكّيت،و التّهذيب، و القاموس.

و لكن:فسّر الأخفش قوله تعالى في الآية الثّالثة من سورة التّين: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ بقوله:يريد الآمن، و هو من الأمن.و قد يقال:الأمين:المأمون.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال ابن الأنباريّ في كتابه«الأضداد»:الأمين من حروف الأضداد،يقال:فلان أميني،أي مؤتمني،و فلان أميني:مؤتمني الّذي آتمنه على أمري.

قال أبو الطّيّب اللّغوي في«أضداده»،و ابن فارس في «معجم مقاييس اللّغة»:تستعمل الأمين بمعنى الفاعل، و بمعنى المفعول.ثمّ استشهدا بقول حسّان:

و أمين حدّثته سرّ نفسي

فوعاه حفظ الأمين الأمينا

و قالا:الأوّل بمعنى المفعول،و الثّاني بمعنى الفاعل، كأنّه قال:كما حفظ المؤتمن مؤتمنه.

و علّق مؤلّف«التّضادّ»على ذلك بقوله:و يلاحظ أنّ الأمين الأولى هي فعيل بمعنى مفعول،مشتقّة من«أمن» المتعدّيّ،كقتيل بمعنى مقتول،و أنّ الأمين الثّانية هي صفة مشبّهة باسم الفاعل،مشتقّة من«أمن»اللاّزم،يقال:

أمن يأمن فهو آمن و أمن و أمين.

و قال الصّحاح و المحكم:إنّ الأمين تعني المأمون و المؤتمن كليهما.

و قال متن اللّغة:الأمين:حافظ الأمانة،جمعه:أمناء.

و الأمين:القويّ المؤتمن:المؤتمن،ضدّ.

و قال المعجم الكبير:الأمين:من يتولّى رعاية الشّيء و المحافظة عليه،و استشهد ببيت حسّان.و الأمين:

الآمن،و استشهد بالآية الكريمة المذكورة: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ التّين:3،و الأمين:القويّ.و الجمع:أمناء و أمنة،ل.

ص: 443


1- المذود:جبل،أو موضع فيه نخل.

و في الحديث:«النّجوم أمنة السّماء».

لذا استعمل الأمين بمعنى:

أ-الآمن أو المؤتمن.

ب-المأمون أو المؤتمن.(28)

المصطفويّ:الأصل الواحد في هذه المادّة هو الأمن و السّكون و رفع الخوف و الوحشة و الاضطراب.

يقال:أمن يأمن أمنا،أي اطمأنّ و زال عنه الخوف،فهو آمن،و ذاك مأمون،و مأمون منه.

و الأمانة:مصدر،و يطلق على العين الخارجيّ الّذي يتعلّق به الأمن،كالوديعة فهي مورد الأمن و المأمون عليها.

و الآمن:هو المطمئنّ،و بلدة آمنة،إذا لم تكن فيها خوف و لا وحشة.

و الائتمان:هو أخذه أمينا.

و الإيمان:جعل نفسه أو غيره في الأمن و السّكون.

و الإيمان به:حصول السّكون و الطّمأنينة به.

آمن باللّه:حصل له الاطمئنان و السّكون باللّه المتعال،،فهو مؤمن،أي مطمئنّ.و في هذا المورد يذكر المتعلّق بحرف الباء،و قد يحذف المتعلّق إذا كان معلوما وَ أَمّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً الكهف:88، وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ هود:40، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ البقرة:277، إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأنعام:99، وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ البقرة:221،و مثلها إذا ذكر بحرف اللاّم فإنّ المتعلّق فيه محذوف فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ يونس:83، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26، أي آمن باللّه لدعوة موسى عليه السّلام.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ المؤمنون:8،الظّاهر أنّ الأمانة و العهد بمعناهما الاسميّ، و يمكن أن يراد منهما معناهما المصدريّ.

إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الأحزاب:72،بالمعنى المصدريّ و هو الطّمأنينة و السّكون و عدم الوحشة و الاضطراب في قبال الحوادث و التّكاليف التّكوينيّة و التّشريعيّة و الإطاعة و التّسليم.

و من الطّمأنينة و الاستقرار في قبال التّكاليف التّكوينيّة:

حمل النّبوّة،و قبول الخلافة،و الاستعداد للولاية، و الأهليّة لتوارد الفيوضات،و التّجلّيات الإلهيّة.

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً آل عمران:154،مصدر كالغلبة،و هي بزيادة مبناها على الأمن،تدلّ على كثرة الأمن.

و أمّا«آمين»لا يبعد أن تكون هذه الكلمة مأخوذة من«آمن»بصيغة الأمر،من باب الإفعال،و معناه صدّق و أمّن،و اجعل في الأمن.و لا يخفى أنّ هذه المادّة في العبريّة أيضا قريبة منها لفظا و معنى.(1:138)

النّصوص التّفسيريّة

امن

1- وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ... البقرة:283

الطّوسيّ: معناه إن ائتمنه فلم يقبض منه رهنا، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني الّذي عليه الدّين.

ص: 444

[إلى أن قال:]

و دلّ قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً على أنّ الإشهاد و الكتابة في المداينة ليس بواجب،و إنّما هو على جهة الاحتياط.(2:381)

الزّمخشريّ: فإن أمن بعض الدّائنين بعض المديونين لحسن ظنّه به.

و قرأ أبيّ (فإن أومن) أي آمنه النّاس،و وصفوا المديون بالأمانة و الوفاء و الاستغناء عن الارتهان من مثله.(1:405)

نحوه النّيسابوريّ(3:95)،و الآلوسيّ(3:62)، و البروسويّ(1:443)،و أبو السّعود(1:206).

الطّبرسيّ:فإن أمن صاحب الحقّ الّذي عليه الحقّ و وثق به و ائتمنه على حقّه و لم يستوثق منه بصكّ و لا رهن.(1:400)

الفخر الرّازيّ: أمن فلان غيره،إذا لم يكن خائفا منه،قال تعالى: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف:64،فقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لم يخف خيانته و جحوده.(7:130)

أبو حيّان: أي إن وثق ربّ الدّين بأمانة الغريم فدفع إليه ماله بغير كتاب و لا إشهاد و لا رهن فليؤدّ الغريم أمانته،أي ما ائتمنه عليه ربّ المال.(2:356)

2- أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ* أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ. الأعراف:97،98

الطّوسيّ: و قوله: أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى إنّما قال هاهنا بالواو،و في الآية الأولى بالفاء،لأنّ الفاء تدلّ على أنّ الثّاني أدّى إليه الأوّل،كأنّه قيل:أ فأمنوا أن يأتيهم بأس اللّه من أجل ما هم عليه من تضييع أمر اللّه،لأنّه يشبه الجواب،و ليس كذلك الواو بل هي لمجرّد العطف، و إنّما دخلت ألف الاستفهام عليها للإنكار على ما بيّنّاه.

و الواو مفتوحة في(أ و امن)لأنّها واو العطف دخل عليها حرف الاستفهام،و إنّما فتحت لأنّها أخفّ الحركات، و لمثل ذلك فتحت ألف الاستفهام و كسرت باء الإضافة و لامها،لأنّهما حرفان لازمان لعمل الجرّ.

و من قرأ هذه القراءة قال:لأنّها أشبه بما قبلها، و ما بعدها،لأنّه قال قبلها:(أ فأمن)و قال بعدها: أَ وَ لَمْ يَهْدِ الأعراف:100،و من سكّن الواو أراد الإضراب عن الأوّل من غير أن يبطل الأوّل،لكن كقوله: الم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ... السّجدة:1-3،فجاء هذا على معنى أمنوا هذه الضّروب من معاقبتهم و الأخذ لهم،و إن شئت جعلته مثل«أو»الّتي في قولك:ضربت زيدا أو عمروا، كأنّك أردت أ فأمنوا إحدى هذه العقوبات.

و«أو»حرف يستعمل على ضربين:

أحدهما:بمعنى أحد الشّيئين،كقولك:جاءني زيد أو عمرو،كما تقول:جاءني أحدهما،و من ذلك قولهم:

جالس الحسن أو ابن سيرين،لأنّه مخيّر في مجالسة أيّهما شاء.

و الثّاني:أن يكون بمعنى الإضراب بعد الخبر كقولك:

أنا أخرج،ثمّ تقول:أو أقيم.فتضرب عن الخروج و تثبت الإقامة،كأنّك قلت:لا،بل أقيم.و من ثمّ قال سيبويه في قوله: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً الدّهر:24،لو

ص: 445

قلت:و لا تطع كفورا انقلب المعنى.و إنّما كان ينقلب المعنى،لأنّه لو كان للإضراب لجاز أن يطيع الآثم،و ذلك خلاف المراد،لأنّ الغرض لا تطع هذا الضّرب،و لا تطع هؤلاء.(4:510)

نحوه الطّبرسيّ(2:452)،و الفخر الرّازيّ(14:

185)،و القرطبيّ(7:253).

الزّمخشريّ و الفاء و الواو في(أ فأمن)و(أ و امن) حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار.

فإن قلت:ما المعطوف عليه،و لم عطفت الأولى بالفاء و الثّانية بالواو؟

قلت:المعطوف عليه قوله: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً الأعراف:95،و قوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى -إلى - يَكْسِبُونَ الأعراف:96،وقع اعتراضا بين المعطوف و المعطوف عليه.و إنّما عطف بالفاء،لأنّ المعنى فعلوا و صنعوا فأخذناهم بغتة،أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا و أمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى.و قرئ (أو امن) على العطف بأو.

فإن قلت:فلم رجع فعطف بالفاء قوله: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ الأعراف:99.

قلت:هو تكرير لقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الأعراف:97.(2:98)

نحوه النّسفيّ.(2:66)

أبو حيّان: الهمزة دخلت على(أ من)للاستفهام، على جهة التّوقيف و التّوبيخ و الإنكار،و الوعيد للكافرين المعاصرين للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك،و الفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها.[ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و قال:]

و هذا الّذي ذكره الزّمخشريّ من أنّ حرف العطف الّذي بعد همزة الاستفهام و هو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل،رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك،و تخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية:أنّه يقدّر محذوف بين الهمزة و حرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه،و أنّ الهمزة و حرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التّقدير،و أنّه قدّم الاستفهام اعتناء لأنّه له صدر الكلام.و قد تقدّم كلامنا معه على هذه المسألة.[إلى أن قال:]

و قرأ نافع و الابنان (1)(او امن) بسكون الواو،جعل (او)عاطفة،و معناها التّنويع لا أنّ معناها الإباحة أو التّخيير،خلافا لمن ذهب إلى ذلك.و حذف ورش همزة (أمن)و نقل حركتها إلى الواو السّاكنة،و الباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف.

و تكرّر لفظ(اهل القرى)لما في ذلك من التّسميع و الإبلاغ و التّهديد و الوعيد بالسّامع،ما لا يكون في الضّمير لو جاء(أو أمنوا)فإنّه متى قصد التّفخيم و التّعظيم و التّهويل جيء بالاسم الظّاهر.(4:348)

الآلوسيّ: الهمزة لإنكار الواقع و استقباحه،و قيل:

لإنكار الوقوع و نفيه،و تعقّب بأنّ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ الأعراف:97 يأباه،و الفاء للتّعقيب مع السّبب.[إلى أن قال:]

أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى إنكار بعد إنكار للمبالغة فير.

ص: 446


1- ابن عامر،و ابن كثير.

التّوبيخ و التّشديد،و لم يقصد التّرتيب بينهما،فلذا لم يؤت بالفاء.

و قرأ نافع و ابن كثير(او)بسكون الواو و هي لأحد الشّيئين،و المراد التّرديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا، و ما دلّ عليه قوله سبحانه: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى الأعراف:98،أي ضحوة النّهار.(9:11)

امنتم

1- ...فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ... البقرة:196

ابن عبّاس: من خوفكم من العدوّ المحصر.

مثله قتادة.(القرطبيّ 2:386)

الرّبيع:إذا أمن من خوفه،و برأ من مرضه.(الطّبريّ 2:243)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في معنى ذلك،فقال بعضهم:معناه فإذا برأتم من مرضكم الّذي أحصركم عن حجّكم أو عمرتكم.

و قال آخرون:معنى ذلك فإذا أمنتم من وجع خوفكم.

و عن الرّبيع: إذا أمن من خوفه و برأ من مرضه.و هذا القول أشبه بتأويل الآية،لأنّ«الأمن»هو خلاف الخوف،لا خلاف المرض،إلاّ أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك،فيقال:فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض و شدّته،و ذلك معنى بعيد.

و إنّما قلنا:إنّ معناه الخوف من العدوّ،لأنّ هذه الآيات نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أيّام الحديبيّة و أصحابه من العدوّ خائفون،فعرّفهم اللّه بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوّهم عن الحجّ،و ما الّذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك،فزال عنهم خوفهم.(2:243)

الطّوسيّ: معناه أمنتم أن يحصركم العدوّ أو أمنتم المرض.(2:158)

الطّبرسيّ: فإذا أمنتم الموانع من العدوّ و المرض و كلّ مانع.(1:291)

نحوه الطّباطبائيّ.(2:76)

الفخر الرّازيّ: لفظ«الأمن»إنّما يستعمل في الخوف من العدوّ لا في المرض،فإنّه يقال في المرض:شفى و عفا، و لا يقال:أمن.

فإن قيل:لا نسلّم أنّ لفظ«الأمن»لا يستعمل إلاّ في الخوف،فإنّه يقال:أمن المريض من الهلاك،و أيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوّلها.

قلنا:لفظ«الأمن»إذا كان مطلقا غير مقيّد فإنّه لا يفيد إلاّ الأمن من العدوّ.

و قوله:خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أوّلها، قلنا:بل يوجب،لأنّ قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ ليس فيه بيان أنّه حصل الأمن ممّا ذا،فلا بدّ و أن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدّم ذكره،و الّذي تقدّم ذكره هو الإحصار،فصار التّقدير:فإذا أمنتم من ذلك الإحصار.

و لمّا ثبت أنّ لفظ«الأمن»لا يطلق إلاّ في حقّ العدوّ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار منع العدوّ،فثبت بهذه الدّلائل أنّ الإحصار المذكور في الآية هو منع العدوّ فقط.(5:161)

القرطبيّ: قيل:معناه برأتم من المرض.و قيل:من

ص: 447

خوفكم من العدوّ المحصر،قاله ابن عبّاس،و قتادة.و هو أشبه باللّفظ،إلاّ أن يتخيّل الخوف من المرض،فيكون الأمن منه.(2:386)

الآلوسيّ: من الأمن ضدّ الخوف،أو الأمنة زواله، فعلى الأوّل معناه فإذا كنتم في أمن وسعة و لم تكونوا خائفين،و على الثّاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار.

و يفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق الدّلالة، و الفاء للعطف على(احصرتم)مفيدة للتّعقيب سواء أريد حصر العدوّ أو كلّ منع في الوجود،و يقال للمريض إذا زال مرضه و برئ:آمن،كما روي ذلك عن ابن مسعود، و ابن عبّاس.(2:82)

2- ...فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. البقرة:239

مجاهد :خرجتم من دار السّفر إلى دار الإقامة.(الطّبري 2:577)

الطّبريّ: و تأويل ذلك:فإذا أمنتم أيّها المؤمنون من عدوّكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم الّتي فرضها عليكم،و من غيره ممّن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم،فاطمأننتم،فاذكروا اللّه في صلاتكم و في غيرها،بالشّكر له،و الحمد و الثّناء عليه، على ما أنعم به عليكم...

عن مجاهد: فَإِذا أَمِنْتُمْ خرجتم من دار السّفر إلى دار الإقامة.

و هذا القول الّذي ذكرنا عن مجاهد قول غيره أولى بالصّواب منه،لإجماع الجميع على أنّ الخوف متى زال فواجب على المصلّي المكتوبة و إن كان في سفر،أداءها بركوعها و سجودها و حدودها،و قائما بالأرض غير ماش و لا راكب،كالّذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره و بلده،إلاّ ما أبيح له من القصر فيها في سفره،و لم يجر في هذه الآية للسّفر ذكر،فيتوجّه قوله:

فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ البقرة:239،إليه.

و إنّما جرى ذكر الصّلاة في حال الأمن و حال شدّة الخوف،فعرّف اللّه سبحانه و تعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصّلاة فيهما،ثمّ قال:فإذا أمنتم فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم و ذكري فيها و في غيرها،مثل الّذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف و بعده.

فلو كان جرى للسّفر ذكر ثمّ أراد اللّه تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصّلاة بعد مقامهم لقال:فإذا أقمتم فاذكروا اللّه كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون،و لم يقل:فإذا أمنتم.و في قوله تعالى ذكره: فَإِذا أَمِنْتُمْ الدّلالة الواضحة على صحّة قول من وجّه تأويل ذلك إلى الّذي قلنا فيه،و إلى خلاف قول مجاهد.

(2:577)

أبو حيّان: قال مجاهد:أي خرجتم من السّفر إلى دار الإقامة،و ردّه الطّبريّ.

قيل:و لا ينبغي ردّه لأنّه شرح الأمن بمحلّ الأمن، لأنّ الإنسان إذا رجع من سفره و حلّ دار إقامته أمن، فكان السّفر مظنّة الخوف،كما أنّ دار الإقامة محلّ الأمن.

و قيل:معنى فَإِذا أَمِنْتُمْ أي زال خوفكم الّذي ألجأكم إلى هذه الصّلاة.

و قيل:فإذا كنتم آمنين،أي متى كنتم على أمن قبل

ص: 448

أو بعد.(2:244)

الطّباطبائيّ: و الفاء في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ للتّفريع أي أنّ المحافظة على الصّلاة أمر غير ساقط من أصله،بل إن لم تخافوا شيئا و أمكنت لكم وجبت عليكم، و إن تعسّر عليكم فقدّروها ما يمكن لكم،و إن زال عنكم الخوف بتجدّد الأمن ثانيا عاد الوجوب و وجب عليكم ذكر اللّه سبحانه.(2:246)

تامنه

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...

آل عمران:75

الطّبريّ: و هذا خبر من اللّه عزّ و جلّ،أنّ من أهل الكتاب-و هم اليهود من بني إسرائيل-أهل أمانة يؤدّونها و لا يخونونها،و منهم الخائن أمانته،الفاجر في يمينه المستحلّ.

فإن قال قائل:و ما وجه إخبار اللّه عزّ و جلّ بذلك نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد علمت أنّ النّاس لم يزالوا كذلك،منهم المؤدّي أمانته،و الخائن لها؟

قيل:إنّما أراد جلّ و عزّ-بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بيّنه في كتابه بهذه الآيات-تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم،و تخويفهم الاغترار بهم،لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين.

فتأويل الكلام:و من أهل الكتاب الّذي إن تأمنه يا محمّد على عظيم من المال كثير،يؤدّه إليك و لا يخنك فيه،و منعهم الّذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه،فلا يؤدّه إليك إلاّ أن تلحّ عليه بالتّقاضي و المطالبة.و الباء في قوله:

(بدينار)و(على)يتعاقبان في هذا الموضع،كما يقال:

مررت به و مررت عليه.(3:317)

الشّريف الرّضيّ: كيف خصّ تعالى أهل الكتاب بهذه الصّفة و قد علمنا أنّ في غيرهم أيضا الخائن و الأمين و الثّقة و الظّنين؟

فالجواب:أنّه سبحانه إنّما أخبرنا عن أهل الكتاب بما أخبرنا به،لنحذرهم على أموالنا و لا نغترّ بظاهر إحسانهم لنا و تقرّبهم إلينا،ثمّ أعلمنا مع ذلك أنّ فيهم من يؤدّي الأمانة و لو في الشّيء الكثير،كما أنّ منهم من يخونها و لو في الشّيء القليل،لئلاّ يبخسهم تعالى حقّا يجب لهم،على كفرهم به و إلحادهم في دينه،و هو الشّهادة بما يعلمه اللّه من بعضهم:من أداء الأمانة و البعد عن الخيانة،و لنعتقد ذلك فيهم أيضا،فلا تمنعنا المشاقّة لهم و الانحراف عنهم، من أن نشهد أنّ فيهم الثّقة و إن كانت الظّنة أغلب عليهم، و أنّ فيهم الأمين و إن كانت الخيانة أشبه بطرائقهم.و بيّن تعالى تأويلهم في خيانة أماناتهم،فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران:75، يعنون:العرب الّذين أسلموا،أي لا حرج علينا في الذّهاب بأموالهم و انتهاك حرماتهم،لخلافهم علينا و مباينة دينهم لديننا.(حقائق التّأويل:244)

الطّوسيّ: و الفرق بين(تامنه بقنطار).و تأمنه على قنطار:أنّ معنى«الباء»إلصاق الأمانة،و معنى«على» استعلاء الأمانة،و هما يتعاقبان في هذا الموضع،لتقارب المعنى،كما يقال:مررت به،و مررت عليه.[ثمّ قال:نحو الشّريف الرّضيّ](2:504)

ص: 449

نحوه الطّبرسيّ.(1:462)

الفخر الرّازيّ: الآية دالّة على انقسامهم إلى قسمين:بعضهم أهل الأمانة،و بعضهم أهل الخيانة،و فيه أقوال:

الأوّل:أنّ أهل الأمانة منهم هم الّذين أسلموا،أمّا الّذين بقوا على اليهوديّة فهم مصرّون على الخيانة،لأنّ مذهبهم أنّه يحلّ لهم قتل كلّ من خالفهم في الدّين و أخذ أموالهم.و نظير هذه الآية قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ آل عمران:113،مع قوله: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ آل عمران:110.

الثّاني:أنّ أهل الأمانة هم النّصارى،و أهل الخيانة هم اليهود،و الدّليل عليه ما ذكرنا أنّ مذهب اليهود أنّه يحلّ قتل المخالف،و يحلّ أخذ ماله بأيّ طريق كان.

الثّالث:قال ابن عبّاس:أودع رجل عبد اللّه بن سلام ألفا و مائتي أوقية من ذهب فأدّى إليه،و أودع آخر فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه،فنزلت الآية.

و يقال:أمنته بكذا و على كذا،كما يقال:مررت به و عليه،فمعنى«الباء»إلصاق الأمانة،و معنى«على» استعلاء الأمانة،فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشّيء في معنى الملتصق به،لقربه منه و اتّصاله بحفظه و حياطته،و أيضا صار المودّع كالمستعلي على تلك الأمانة و المستولي عليها،فلهذا حسن التّعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين.

و قيل:إنّ معنى قولك:أمنتك بدينار،أي وثقت بك فيه.و قولك:أمنتك عليه،أي جعلتك أمينا عليه و حافظا له.(8:106)

نحوه المراغيّ.(3:189)

القرطبيّ: قرأ ابن وثّاب،و الأشهب العقيليّ (من ان تيمنه) على لغة من قرأ(نستعين)و هي لغة بكر و تميم.

(4:115)

النّيسابوريّ:[نحو الفخر الرّازيّ و أضاف:]

و قال أهل الحقيقة:هي فيمن يؤتى كثيرا من الدّنيا، فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه،و قطع النّظر عنه؛ ثقة باللّه و توكّلا عليه و اكتفاء به،و فيمن يمتحن بالدّنيا فيكون همّه مقصورا عليها معرضا عمّا سواها،غير مؤدّ حقوقها.(3:228)

أبو حيّان: قرأ أبيّ بن كعب(تئمنه)في الحرفين و(تئمنّا)في يوسف:11.و قرأ ابن مسعود و الأشهب العقيليّ و ابن وثّاب(تيمنه)بتاء مكسورة و ياء ساكنة بعدها.قال الدّانيّ:و هي لغة تميم،و أمّا إبدال الهمزة ياء في (تئمنه)فلكسرة ما قبلها،كما أبدلوها في بئر.

و قال ابن عطيّة،حين ذكر قراءة أبيّ:و ما أراها إلاّ لغة قرشيّة و هي كسر نون الجماعة ك«نستعين»و ألف المتكلّم كقول ابن عمر«لا إخاله»و تاء المخاطب كهذه الآية،و لا يكسرون الياء في الغائب،و بها قرأ أبيّ في (تئمنه)انتهى.و لم يبيّن ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلّيّ،و ما ظنّه من أنّها لغة قرشيّة ليس كما ظنّ، و قد بيّنّا ذلك في نستعين.[إلى أن قال:]

و الباء في(بقنطار)و في(بدينار)قيل:للإلصاق، و قيل:بمعنى«على»إذ الأصل أن تتعدّى ب«على»كما قال: ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ يوسف:11،و قال:

ص: 450

هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف:

64،و قيل:بمعنى«في»أي في حفظ قنطار و في حفظ دينار.(2:499،500)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ -إلى قوله«-من سبيل» إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات و العهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي التّضادّ،و أنّ هذا و إن كان في نفسه رذيلة قوميّة ضارّة إلاّ أنّه ناشئ بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة أخرى اعتقاديّة،و هي ما يشتمل عليه قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فإنّهم كانوا يسمّون أنفسهم بأهل الكتاب،و غيرهم بالأمّيّين، فقولهم: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ معناه نفي أن يكون لغير إسرائيليّ على إسرائيليّ سبيل،و قد أسندوا الكلمة إلى«الدّين»،و الدّليل عليه قوله تعالى:

وَ يَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ إلخ.

فقد كانوا يزعمون-كما أنّهم اليوم على زعمهم- أنّهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهيّة لا تعدوهم إلى غيرهم،بما أنّ اللّه سبحانه جعل فيهم نبوّة و كتابا و ملكا، فلهم السّيادة و التّقدّم على غيرهم،و استنتجوا من ذلك أنّ الحقوق المشرّعة عندهم اللاّزمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الرّبا و أكل مال الغير،و هضم حقوق النّاس، إنّما هي بينهم معاشر أهل الكتاب؛فالمحرّم هو أكل مال الإسرائيليّ على مثله،و المحظور هضم حقوق يهوديّ على أهل ملّته.و بالجملة إنّما«السّبيل»على أهل الكتاب لأهل الكتاب،و أمّا غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب،فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا، و يفعلوا في من دونهم ما أرادوا،و هذا يؤدّي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائنا من كان.

و هذا و إن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتّوراة و غيرها،لكنّه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلّدوهم فيه،ثمّ لمّا كان الدّين الموسويّ لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسيّة بينهم، و تولّد من ذلك أنّ هذه الكرامة و السّؤدد أمر جنسيّ خصّ بذلك بنو إسرائيل خاصة.فالانتساب الإسرائيليّ هو مادّة الشّرف و عنصر السّؤدد،و المنتسب إلى إسرائيل له التّقدّم المطلق على غيره.و هذه الرّوح الباغية إذا دبّت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض و إماتة روح الإنسانيّة و آثارها الحاكمة في الجامعة البشريّة.

نعم أصل هذه الكلمة-و هو سلب الحقوق العامّة عن بعض الأفراد و الجوامع-ممّا لا مناص عنه في الجامعة الإنسانيّة،لكن الّذي يعتبره المجتمع الإنسانيّ الصّالح:هو سلب الحقوق عمّن يريد إبطال الحقوق و هدم المجتمع،و الّذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحقّ:هو دين التّوحيد من الإسلام أو الذّمّة.فمن لا إسلام له و لا ذمّة، فلا حقّ له من الحياة،و هو الّذي ينطبق على النّاموس الفطريّ الّذي سمعت أنّه المعتبر إجمالا،عند المجتمع الإنسانيّ.(3:261)

تامنّا

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ...

يوسف:11

ص: 451

الزّجّاج:قرئت على أربعة أوجه:على إشمام الميم الضّمّ (1)(تأمننّا)،و على الإدغام و ترك الإشمام(تامنّا)، و قرئت(تأمننا)بنونين و ضمّة بينهما،و قرأ يحيى بن وثّاب(تيمنّا).و قراءة يحيى تخالف المصحف،و هي في العربيّة جائزة بكسر التّاء في كلّ ما ماضيه على«فعل» نحو أمن.و الإدغام،لأنّ الحرفين من جنس واحد.

و الإشمام يدلّ على الضّمّة المحذوفة،و ترك الإشمام جيّد،لأنّ الميم مفتوحة فلا تغيّر.و الإظهار في(تأمننا) جيّد،لأنّ النّونين من كلمتين.(3:94)

نحوه القرطبيّ.(9:138)

الطّوسيّ: كلّهم قرأ (تَأْمَنّا) بفتح الميم و إدغام النّون الأولى في الثّانية،و الإشارة إلى إعراب النّون المدغمة بالضّمّ اتّفاقا.

قال أبو عليّ: وجه ذلك أنّ الحرف المدغم بمنزلة الموقوف عليه من حيث جمعهما السّكون،فمن حيث أشمّوا الحرف الموقوف عليه إذا كان مرفوعا في الإدراج أشمّوا النّون المدغمة في(تأمنّا)و ليس ذلك بصوت خارج إلى اللّفظ،و إنّما هي هيئة العضو لإخراج ذلك الصّوت به، ليعلم بذلك أنّه يريد ذلك المتهيّأ له.(6:104)

الميبديّ: أي لم تخافنا عليه فلا تخرجه معنا إلى الصّحراء.قرأ عامّتهم (لا تأمنّا) بإشمام نون المدغمة الضّمّ للإشعار بالأصل،لأنّ الأصل(لا تأمننا)بنونين،الأولى مرفوعة،فأدغمت في الثّانية لتماثلهما طلبا للخفّة،و أشمّت الضّمّ ليعلم أنّ محلّ الكلمة رفع على الخبر،و ليس بجزم على النّهي.(5:17)

نحوه الزّمخشريّ(2:305)،و أبو البركات(2:34).

ابن عطيّة: قرأ الزّهريّ و أبو جعفر (لا تأمنّا) بالإدغام دون إشمام،و رواها الحلوانيّ عن قالون.

و قرأ السّبعة بالإشمام للضّمّ،و قرأ طلحة بن مصرّف (لا تامننا) ،و قرأ ابن وثّاب و الأعمش (لا تيمنّا) بكسر تاء العلامة.(3:223)

الطّبرسيّ:[نحو ابن عطيّة في اختلاف القراءة و أضاف:]

أي مالك لا تثق بنا و لا تعتمدنا في أمر يوسف.

(3:214)

النّسفيّ: أي لم تخافنا عليه و نحن نريد له الخير و نشفق عليه،و أرادوا بذلك لمّا عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه و عادته في حفظه منهم.و فيه دليل على أنّه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه.

(2:213)

أبو حيّان: و في قولهم: ما لَكَ لا تَأْمَنّا دليل على أنّهم تقدّم منهم سؤال في أن يخرج معهم،و ذكروا سبب الأمن و هو النّصح،أي لم لا تأمنّا عليه و حالتنا هذه و النّصح دليل على الأمانة؟و لهذا قرأنا في قوله: ناصِحٌ أَمِينٌ الأعراف:68،و كان قد أحسّ منهم قبل ما أوجب أن لا يأمنهم عليه.و (لا تَأْمَنّا) جملة حاليّة، و هذا الاستفهام صحبه التّعجّب.[ثمّ ذكر اختلاف القراءة كما تقدّم](5:285)

الطّريحيّ: و قرأ مالك (لا تامننا على يوسف) بين الإدغام و الإظهار،و عن الأخفش:الإدغام أحسن.(6:203)ن.

ص: 452


1- لعلّه إشمام النّون.

البروسويّ: أي أيّ عذر لك في ترك الأمن،أي في الخوف على يوسف...

قوله: (لا تَأْمَنّا) حال من معنى الفعل في(مالك)كما تقول:ما لك قائما،بمعنى ما تصنع قائما.(4:221)

الآلوسيّ: لا تجعلنا أمناء...

قرأ الجمهور (لا تَأْمَنّا) بالإدغام و الإشمام،و فسّر بضمّ الشّفتين مع انفراج بينهما إشارة إلى الحركة،مع الإدغام الصّريح كما يكون في الوقف،و هو المعروف عندهم،و فيه عسر هنا،و يطلق على إشراب الكسرة شيئا من الضّمّة كما قالوا في«قيل»،و على إشمام أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما قالوا في«الصّراط».

و قرأ زيد بن عليّ رضي اللّه تعالى عنهما،و أبو جعفر، و الزّهريّ،و عمرو بن عبيد بالإدغام من غير إشمام، و إرادة النّفي ظاهرة.

و قرأ ابن هرمز بضمّ الميم مع الإدغام،و هذه الضّمّة منقولة إلى الميم من النّون الأولى بعد سلب حركتها.

و قرأ أبيّ،و الحسن،و طلحة بن مصرّف،و الأعمش (لا تامننا) بالإظهار و ضمّ النّون على الأصل،و هو خلاف خطّ المصحف،لأنّه بنون واحدة.

و قرأ ابن وثّاب،و أبو رزين (لا تيمنّا) بكسر حرف المضارعة على لغة تميم.و سهّل الهمزة بعد الكسرة ابن وثّاب،و لم يسهّل أبو رزين.

و أخرج ابن المنذر،و أبو الشّيخ عن عاصم أنّه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة،فقال له:لحنت،فقال أبو رزين:ما لحن من قرأ بلغة قومه.(12:193)

الطّباطبائيّ: أصل(لا تامنّا)لا تأمننا،ثمّ أدغم بالإدغام الكبير.(11:97)

آمنا

1- وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ... البقرة:126

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:إنّ اللّه تعالى حرّم مكّة يوم خلق السّماوات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم السّاعة، لم تحلّ لأحد قبلي و لا تحلّ لأحد من بعدي،و لم تحلّ لي إلاّ ساعة من النّهار.(الطّبرسيّ 1:206)

ابن عبّاس: يريد حراما محرّما لا يصاد طيره و لا يقطع شجره و لا يختلى خلاؤه.(الطّبرسيّ 1:206)

الإمام الصّادق عليه السّلام:من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه عزّ و جلّ،و من دخله من الوحش و الطّير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم.(الطّبرسيّ 1:206)

الطّبريّ: يعني بقوله:(آمنا)آمنا من الجبابرة و غيرهم أن يسلّطوا عليه،و من عقوبة اللّه أن تناله،كما تنال سائر البلدان من خسف و انتقال و غرق،و غير ذلك من سخط اللّه و مثلاته الّتي تصيب سائر البلاد غيره.[إلى أن قال:]

فإن قال لنا قائل:أو ما كان الحرم آمنا إلاّ بعد أن سأل إبراهيم ربّه له الأمان؟

قيل له:لقد اختلف في ذلك،فقال بعضهم:لم يزل الحرم آمنا من عقوبة اللّه و عقوبة جبابرة خلقه،منذ خلقت السّماوات و الأرض.

و قال آخرون:كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره،و إنّما صار حراما بتحريم إبراهيم إيّاه،

ص: 453

كما كانت مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حلالا قبل تحريم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إيّاها.

و الصّواب من القول في ذلك عندنا:أنّ اللّه تعالى ذكره جعل مكّة حرما حين خلقها و أنشأها،كما أخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:أنّه حرّمها يوم خلق السّماوات و الأرض بغير تحريم منه لها،على لسان أحد من أنبيائه و رسله.(الطّبريّ 1:541)

القفّال:معناه مأمونا فيه،و كانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن حتّى أنّ أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّيّة لا يتعرّض إليه عند ما يعلم أنّه من سكّان الحرم.(أبو حيّان 1:383)

الطّوسيّ: فإن قيل:هل كان الحرم آمنا قبل دعوة إبراهيم عليه السّلام؟قيل:فيه خلاف:

قال مجاهد عن ابن عبّاس،و أبو شريح الخزاعيّ:

كان آمنا لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين فتح مكّة:«هذه حرم حرّمها اللّه يوم خلق السّماوات و الأرض»و هو الظّاهر في رواياتنا.

و قال قوم:كانت قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد، و إنّما صارت حرما بعد دعوته عليه السّلام كما صارت المدينة،لما روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:«إنّ إبراهيم عليه السّلام حرّم مكّة، و إنّي حرّمت المدينة».

و قال بعضهم:كانت حراما،و الدّعوة بوجه غير الوجه الّذي صارت به حراما بعد الدّعوة.

و الأوّل:بمنع اللّه إيّاها من الاصطلام،و الانتقام،كما لحق غيرها من البلاد،و بما جعل في النّفوس من تعظيمها، و الهيبة لها.

و الوجه الثّاني:بالأمر على ألسنة الرّسل فأجابه اللّه إلى ما سأل.و إنّما سأل أن يجعلها آمنا من الجدب، و القحط،لأنّه أسكن أهله بواد غير ذي زرع و لا ضرع، و لم يسأله أمنه من انتقال و خسف،لأنّه كان آمنا من ذلك.

و قال قوم:سأله الأمرين على أن يديمهما له و إن كان أحدهما مستأنفا،و الآخر كان قبل.

و معنى قوله: بَلَداً آمِناً أي يأمنون فيه،كما يقال:

ليل نائم،أي النّوم فيه.(1:456)

نحوه الطّبرسيّ.(1:206)

الزّمخشريّ: ذا أمن،كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ القارعة:7،أو آمنا من فيه،كقوله:ليل نائم.(1:310)

ابن عطيّة: معناه من الجبابرة و المسلّطين،و العدوّ المستأصل و المثلات الّتي تحلّ بالبلاد.و كانت مكّة و ما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه و لا نبات،فبارك اللّه فيما حولها كالطّائف و غيره،و نبتت فيها أنواع الثّمرات.

و روي أنّ اللّه تعالى لمّا دعاه إبراهيم أمر جبرئيل صلوات اللّه عليه فاقتلع فلسطين،و قيل:قطعة من الأردن،فطاف بها حول البيت سبعا و أنزلها بوجّ؛ فسمّيت الطّائف بسبب ذلك الطّواف.

و اختلف في تحريم مكّة متى كان؟

فقالت فرقة:جعلها اللّه حراما يوم خلق السّماوات و الأرض.

و قالت فرقة:حرّمها إبراهيم.

و الأوّل قاله النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في خطبته ثاني يوم الفتح، و الثّاني قاله أيضا النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،ففي«الصّحيح»عنه:«اللّهمّ

ص: 454

إنّ إبراهيم حرّم مكّة،و إنّي حرّمت المدينة،ما بين لابتيها حرام».

و لا تعارض بين الحديثين،لأنّ الأوّل إخبار بسابق علم اللّه فيها و قضائه،و كون الحرمة مدّة آدم و أوقات عمارة القطر بإيمان،و الثّاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها و إظهاره ذلك بعد الدّثور.

و كلّ مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظّم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين،بإسناد التّحريم إلى اللّه تعالى،و ذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالا لنفسه،و لا محالة أنّ تحريم المدينة هو أيضا من قبل اللّه تعالى،و من نافذ قضائه و سابق علمه.(1:209)

الفخر الرّازيّ:هاهنا مسائل:

المسألة الأولى:المراد من الآية دعاء إبراهيم للمؤمنين من سكّان مكّة بالأمن و التّوسعة بما يجلب إلى مكّة،لأنّها بلد لا زرع و لا غرس فيه،فلو لا الأمن لم يجلب إليها من النّواهي و تعذّر العيش فيها،ثمّ إنّ اللّه تعالى أجاب دعاءه و جعله آمنا من الآفات،فلم يصل إليه جبّار إلاّ قصمه اللّه،كما فعل بأصحاب الفيل.

و هاهنا سؤالان:

السّؤال الأوّل:أ ليس أنّ الحجّاج حارب ابن الزّبير و خرّب الكعبة،و قصد أهلها بكلّ سوء و تمّ له ذلك؟

الجواب:لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها،بل كان مقصوده شيئا آخر.

السّؤال الثّاني:المطلوب من اللّه تعالى هو أن يجعل البلد آمنا كثير الخصب،و هذا ممّا يتعلّق بمنافع الدّنيا، فكيف يليق بالرّسول المعظّم طلبها؟

و الجواب عنه من وجوه:

أحدها:أنّ الدّنيا إذا طلبت ليتقوّى بها على الدّين، كان ذلك من أعظم أركان الدّين،فإذا كان البلد آمنا و حصل فيه الخصب تفرّغ أهله لطاعة اللّه تعالى،و إذا كان البلد على ضدّ ذلك،كانوا على ضدّ ذلك.

و ثانيها:أنّه تعالى جعله مثابة للنّاس،و النّاس إنّما يمكنهم الذّهاب إليه إذا كانت الطّرق آمنة و الأقوات هناك رخيصة.

و ثالثها:لا يبعد أن يكون الأمن و الخصب ممّا يدعو الإنسان إلى الذّهاب إلى تلك البلدة،فحينئذ يشاهد المشاعر المعظّمة،و المواقف المكرّمة،فيكون الأمن و الخصب سبب اتّصاله في تلك الطّاعة.

المسألة الثّانية: بَلَداً آمِناً يحتمل وجهين:

أحدهما:مأمون فيه،كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ القارعة:7،أي مرضيّة.

و الثّاني:أن يكون المراد أهل البلد،كقوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:82،أي أهلها و هو مجاز،لأنّ الأمن و الخوف لا يلحقان البلد.

المسألة الثّالثة:اختلفوا في«الأمن المسئول»في هذه الآية على وجوه:

أحدها:سأله الأمن من القحط،لأنّه أسكن أهله بواد غير ذي زرع و لا ضرع.

و ثانيها:سأله الأمن من الخسف و المسخ.

و ثالثها:سأله الأمن من القتل،و هو قول أبي بكر الرّازيّ.

و احتجّ عليه بأنّه عليه السّلام سأله الأمن أوّلا،ثمّ سأله

ص: 455

الرّزق ثانيا،و لو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرّزق بعده تكرارا،فقال في هذه الآية:

رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ البقرة:126،و قال في آية أخرى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35،ثمّ قال في آخر القصّة: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ -إلى قوله - وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ إبراهيم:37.

و اعلم أنّ هذه الحجّة ضعيفة فإنّ لقائل أن يقول:

لعلّ«الأمن المسئول»هو الأمن من الخسف و المسخ،أو لعلّه الأمن من القحط،ثمّ الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية،و قد يكون بالتّوسعة فيها.فهو بالسّؤال الأوّل طلب إزالة القحط،و بالسّؤال الثّاني طلب التّوسعة العظيمة.

المسألة الرّابعة:اختلفوا في أنّ مكّة هل كانت آمنة محرّمة قبل دعوة إبراهيم عليه السّلام أو إنّما صارت كذلك بدعوته؟

فقال قائلون:إنّها كانت كذلك أبدا لقوله عليه السّلام:«إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السّماوات و الأرض»،و أيضا قال إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إبراهيم:37،و هذا يقتضي أنّها كانت محرّمة قبل ذلك،ثمّ إنّ إبراهيم عليه السّلام أكّده بهذا الدّعاء.

و قال آخرون:إنّها إنّما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم عليه السّلام،و قبله كانت كسائر البلاد،و الدّليل عليه قوله عليه السّلام:«اللّهمّ إنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة».

و القول الثّالث:إنّها كانت حراما قبل الدّعوة بوجه غير الوجه الّذي صارت به حراما بعد الدّعوة،فالأوّل:

بمنع اللّه تعالى من الاصطلام و بما جعل في النّفوس من التّعظيم،و الثّاني:بالأمر على ألسنة الرّسل.

المسألة الخامسة:إنّما قال في هذه السّورة: بَلَداً آمِناً على التّنكير،و قال في سورة إبراهيم: هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35،على التّعريف لوجهين:

الأوّل:أنّ الدّعوة الأولى وقعت و لم يكن المكان قد جعل بلدا،كأنّه قال:اجعل هذا الوادي بلدا آمنا،لأنّه تعالى حكى عنه أنّه قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إبراهيم:37،فقال هاهنا:اجعل هذا الوادي بلدا آمنا.و الدّعوة الثّانية وقعت و قد جعل بلدا،فكأنّه قال:اجعل هذا المكان الّذي صيّرته بلدا ذا أمن و سلامة،كقولك:جعلت هذا الرّجل آمنا.

الثّاني:أن تكون الدّعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلدا،فقوله: اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً البقرة:126، تقديره:اجعل هذا البلد بلدا آمنا،كقولك:كان اليوم يوما حارّا.و هذا إنّما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة،لأنّ التّنكير يدلّ على المبالغة،فقوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً معناه اجعله من البلدان الكاملة في الأمن.و أمّا قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35،فليس فيه إلاّ طلب الأمن لا طلب المبالغة.(4:59)

نحوه النّيسابوريّ(1:445)،و القرطبيّ(2:117).

الرّازيّ:فإن قيل:كيف قال هنا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً و قال في سورة إبراهيم:35،صلوات اللّه عليه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟

ص: 456

قلنا:في الدّعوة الأولى كان مكانا قفرا فطلب منه أن يجعله بلدا و آمنا،و في الدّعوة الثّانية كان بلدا غير آمن فعرّفه و طلب له الأمن،أو كان بلدا آمنا فطلب له ثبات الأمن و دوامه.و كون هذه السّورة مدنيّة و سورة إبراهيم مكّيّة لا ينافي هذا،لأنّ الواقع من إبراهيم صلوات اللّه عليه بلغته على التّرتيب الّذي قلنا، و الإخبار عنه في القرآن على غير ذلك التّرتيب،أو أنّ المكّيّ منه ما نزل قبل الهجرة فيكون المدنيّ متأخّرا عنه، و منه ما نزل بعد فتح مكّة فيكون متأخّرا عن المدنيّ،فلم قلتم:إنّ سورة إبراهيم عليه السّلام من المكّيّ الّذي نزل قبل الهجرة؟(8)

الآلوسيّ:الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى:

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ... إبراهيم:37،أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعوّ به البلديّة مع الأمن،و هذا بخلاف ما في سورة إبراهيم:35، رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً و لعلّ السّؤال متكرّر،و ما في تلك السّورة كان بعد.

و الأمن المسئول فيها إمّا هو الأوّل،و أعاد سؤاله دون البلديّة رغبة في استمراره،لأنّه المقصد الأصليّ؛أو لأنّ المعتاد في البلديّة الاستمرار بعد التّحقّق بخلافه.

و إمّا غيره بأن يكون المسئول أوّلا مجرّد الأمن المصحّح للسّكنى،و ثانيا الأمن المعهود.

و لك أن تجعل(هذا البلد)في تلك السّورة إشارة إلى أمر مقدّر في الذّهن،كما يدلّ عليه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ... إبراهيم:37،فتطابق الدّعوتان حينئذ،و إن جعلت الإشارة هنا إلى(البلد) تكون الدّعوة بعد صيرورته بلدا.و المطلوب كونه آمنا على طبق ما في السّورة من غير تكلّف إلاّ أنّه يفيد المبالغة،أي بلدا كاملا في الأمن،كأنّه قيل:اجعله بلدا معلوم الاتّصاف بالأمن مشهورا به،كقولك:كان هذا اليوم يوما حارّا.

و الوصف ب(آمنا)إمّا على معنى النّسب،أي ذا أمن على حدّ ما قيل: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ الحاقّة:21،و إمّا على الاتّساع و الإسناد المجازيّ،و الأصل:آمنا أهله، فأسند ما للحالّ للمحلّ،لأنّ الأمن و الخوف من صفات ذوي الإدراك.

و هل الدّعاء بأن يجعله آمنا من الجبابرة و المتغلّبين، أو من أن يعود حرمه حلالا،أو من أن يخلو من أهله أو من الخسف و القذف،أو من القحط و الجدب أو من دخول الدّجّال،أو من دخول أصحاب الفيل؟أقوال، و الواقع يردّ بعضها،فإنّ الجبابرة دخلته و قتلوا فيه- كعمرو بن لحيّ الجرهميّ و الحجّاج الثّقفيّ و القرامطة و غيرهم-و كون البعض لم يدخله للتّخريب بل كان غرضه شيئا آخر،لا يجدي نفعا،كالقول بأنّه ما آذى أهله جبّار إلاّ قصمه اللّه تعالى،ففي المثل:

*إذا متّ عطشانا فلا نزل القطر*

(1:381)

القاسميّ:(آمنا)أي من الخوف،أي لا يرعب أهله.

و قد أجاب اللّه دعاءه،كقوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، و قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ العنكبوت:67،إلى غير ذلك من الآيات.و صحّت أحاديث متعدّدة بتحريم القتال فيه.

ص: 457

و في صحيح مسلم عن جابر:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«لا يحلّ لأحد أن يحمل بمكّة السّلاح»فهو آمن من الآفات،لم يصل إليه جبّار إلاّ قصمه اللّه،كما فعل بأصحاب الفيل.

و قوله تعالى في سورة إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35،بتعريف(البلد)مع جعله صفة ل(هذا)،خلاف ما هنا:إمّا أن يحمل على تعدّد السّؤال، بأن تكون الدّعوة الأولى المذكورة هنا وقعت و لم يكن المكان قد جعل بلدا،كأنّه قال:اجعل هذا الوادي بلدا آمنا،لأنّه تعالى حكى عنه أنّه قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فقال هاهنا:

اجعل هذا الوادي بلدا آمنا.و الدّعوة الثّانية وقعت و قد جعل بلدا،فكأنّه قال:اجعل هذا المكان الّذي صيّرته بلدا ذا أمن و سلامة.

و إمّا أن يحمل على وحدة السّؤال و تكرّر الحكاية، كما هو المتبادر.

فالظّاهر أنّ المسئول كلا الأمرين.و قد حكى ذلك هنا،و اقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن،اكتفاء عن حكاية سؤال البلديّة،بحكاية سؤال:اجعل أفئدة[من] النّاس تهوي إليه،هذا خلاصة ما حقّقوه.

و عندي أنّ السّؤال و المسئول واحد،إلاّ أنّه تفنّن في الموضعين،فحذف من كلّ ما أثبته في الآخر احتباكا، و الأصل:ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا.و به تتطابق الدّعوتان على أبدع وجه و أخلصه من التّكلّف،على ما فيه من إفادة المبالغة،أي بلدا كاملا في الأمن،كأنّه قيل:اجعله بلدا معلوم الاتّصاف بالأمن،مشهورا به، كقولك:كان هذا اليوم يوما حارّا.(2:253)

رشيد رضا :هذه الآية معطوفة على ما قبلها، مسوقة لبيان منّة أو منن أخرى على أهل الحرم،و هي ما تضمّنه دعاء إبراهيم من جعل البلد آمنا في نفسه،و هو غير ما سبقت به المنّة من جعل البيت آمنا.

و قد فسّر«الجلال»(آمنا)بقوله:ذا أمن،مع أنّ المعنى ظاهر،و هو أن يكون محفوظا من الأعداء الّذين يقصدونه بالسّوء،و هو غير معنى كونه ذا أمن،أي إنّ من يكون فيه يكون آمنا ممّن يسطو عليه فيظلمه أو ينتقم منه.

و قد استجاب اللّه دعاء إبراهيم في ذلك،و من تعدّى على البيت لم يطل زمن تعدّيه؛بحيث يقال:إنّه قد مرّ زمن طويل لم يكن البيت فيه آمنا،بل لم ينجح أحد تعدّى عليه لذاته،و إنّما كان التّعدّي القصير هو التّعدّي العارض على بعض من اعتصم فيه.(1:463)

الصّابونيّ:من مزايا البيت العتيق،ذلك الأمن الّذي جعله اللّه فيه،و ذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السّلام؛ حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً و قد كان النّاس يتخطّفون من أطراف الأرض و أهل مكّة في أمن و استقرار،و قد امتنّ اللّه تعالى عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ العنكبوت:67.(1:410)

2- وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. إبراهيم:35

الطّبريّ: يعني الحرم بلدا آمنا أهله و سكّانه.

(13:228)

ص: 458

عبد الجبّار: كيف يصحّ أن يسأل ربّه هذين الأمرين ثمّ يوجد خلاف ذلك،فإنّا نجد البلد يجري فيه الخوف العظيم،و نجد في أولاده من يعبد الأصنام؟

و جوابنا:أنّ قوله:(آمنا)لا يدلّ على كلّ شيء،فقد يكون آمنا من ضروب الخوف غير آمن من سواه، و معلوم ما يحصل بمكّة من الأمن.و يحتمل أنّه دعا ربّه أن يجعله آمنا في أيّامه حتّى يؤمن بعضهم و يتألّفوا على طاعته.و المراد بقوله: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ من هو موجود منهم...(210)

الطّوسيّ: (آمنا)يعني يأمن النّاس فيه على نفوسهم و أموالهم.(6:298)

الزّمخشريّ: ذا أمن.فإن قلت:أيّ فرق بين قوله:

اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً البقرة:126،و بين قوله اِجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟ إبراهيم:35.

قلت:قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد الّتي يأمن أهلها و لا يخافون،و في الثّاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدّها من الأمن،كأنّه قال:هو بلد مخوف فاجعله آمنا.(2:379)

مثله البيضاويّ.(1:532)

ابن عطيّة: معناه فيه أمن،فوصفه بالأمن تجوّزا، كما قال: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ إبراهيم:18.[ثمّ استشهد بشعر](3:340)

الفخر الرّازي:[ذكر مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

المسألة الثّانية:لقائل أن يقول:الإشكال على هذه الآية من وجوه:

أحدها:أنّ إبراهيم عليه السّلام دعا ربّه أن يجعل مكّة آمنا، و ما قبل اللّه دعاءه،لأنّ جماعة خرّبوا الكعبة و أغاروا على مكّة...

و الجواب من وجهين:

الأوّل:أنّه نقل أنّه عليه السّلام لمّا فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدّعاء،و المراد منه جعل تلك البلدة آمنة من الخراب.

و الثّاني:أنّ المراد جعل أهلها آمنين،كقوله: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف:82،أي أهل القرية،و هذا الوجه عليه أكثر المفسّرين،و على هذا التّقدير فالجواب من وجهين:

الوجه الأوّل:ما اختصّت به مكّة من حصول مزيد في الأمن،و هو أنّ الخائف كان إذا التجأ إلى مكّة أمن، و كان النّاس مع شدّة العداوة بينهم يتلاقون بمكّة فلا يخاف بعضهم بعضا.و من ذلك أمن الوحش،فإنّهم يقربون من النّاس إذا كانوا بمكّة،و يكونون مستوحشين عن النّاس خارج مكّة،فهذا النّوع من الأمن حاصل في مكّة؛فوجب حمل الدّعاء عليه.

و الوجه الثّاني:أن يكون المراد من قوله: اِجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً أي بالأمر و الحكم بجعله آمنا،و ذلك الأمر و الحكم حاصل لا محالة.(19:131)

النّيسابوريّ: إنّما قدّم طلب الأمن على سائر المطالب،لأنّه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمّات الدّين و الدّنيا،و من هنا جاز التّلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه.

و سئل بعض الحكماء أنّ الأمن أفضل أم الصّحّة؟

فقال:الأمن.دليله أنّ شاة لو انكسرت رجلها فإنّها تصحّ بعد زمان،ثمّ إنّها تقبل على الرّعي و الأكل،و إنّها لو

ص: 459

ربطت في موضع و ربط بالقرب منها ذئب،فإنّها تمسك عن العلف و لا تتناول شيئا إلى أن تموت؛فدلّ ذلك على أنّ الضّرر الحاصل من الخوف أشدّ من الألم الحاصل للجسد.(13:133)

البروسويّ: (آمنا)أهله بحيث لا يخاف فيه من المخاوف و المكاره كالقتل و الغارة و الأمراض المنفّرة،من البرص و الجذام و نحوهما.

فإسناد الأمن إلى البلد مجاز لوقوع الأمن فيه،و إنّما الآمن في الحقيقة أهل البلد.(4:424)

الآلوسيّ: أي ذا أمن،فصيغة«فاعل»للنّسب ك«لابن و تامر»،لأنّ«الآمن»في الحقيقة:أهل البلد.

و يجوز أن يكون الإسناد مجازيّا من اسناد ما للحالّ إلى المحلّ كنهر جار.[و بعد نقله قول الزّمخشريّ قال:]

و تحقيقه أنّك إذا قلت:اجعل هذا خاتما حسنا،فقد أشرت إلى المادّة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن.و إذا قلت:اجعل هذا الخاتم حسنا،فقد قصدت الحسن دون الخاتميّة؛و ذلك لأنّ محطّ الفائدة هو المفعول الثّاني لأنّه بمنزلة الخبر.و إلى هذا يرجع ما قيل في الفرق:إنّ في الأوّل سؤال أمرين:البلديّة و الأمن،و هاهنا سؤال أمر واحد و هو الأمن.

و استشكل هذا التّفسير بأنّه يقتضي أن يكون سؤال البلديّة سابقا على السّؤال المحكيّ في هذه السّورة، و أنّه يلزم أن تكون الدّعوة الأولى غير مستجابة.

قال في«الكشف»:و التّفصّي عن ذلك إمّا بأنّ المسئول أوّلا صلوحه للسّكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمرّ في البلاد،فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصّة،و ثانيا:إزالة خوف عرض،كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا.و إمّا بالحمل على الاستدامة و تنزيله منزلة العاري عنه مبالغة،أو بأنّ أحدهما أمن الدّنيا و الآخر أمن الآخرة،أو أنّ الدّعاء الثّاني صدر قبل استجابة الأوّل.و ذكر بهذه العبارة إيماء إلى أنّ المسئول الحقيقيّ هو الأمن.و البلديّة توطئة،لا أنّه بعد الاستجابة عراه خوف.و كأنّه بنى الكلام على التّرقّي،فطلب أوّلا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد الّتي هي كذلك،ثمّ لتأكيد الطّلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن،لأنّ دعاء المضطرّ أقرب إلى الإجابة،و لذا ذيّله عليه السّلام بقوله: إِنِّي أَسْكَنْتُ...

إبراهيم:37.انتهى.

و هو مبنيّ على تعدّد السّؤال و إن حمل على وحدته و تكرير الحكاية كما استظهره بعضهم،و استظهر آخرون الأوّل لتغاير التّعبير في المحلّين.فالظّاهر أنّ المسئول كلا الأمرين و قد حكى أوّلا و اقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن،لأنّ سؤال البلديّة قد حكي بقوله:

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إبراهيم:37،إذ المسئول هويها إليهم للمساكنة-كما روي عن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما-لا للحجّ فقط،و هو عين سؤال البلديّة و قد حكي بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلّة،أو لأنّ نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشّكر،فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله، على ما قيل.(13:233)

الطّباطبائيّ: قد حكى اللّه سبحانه نظير هذا الدّعاء على اختصار فيه عن إبراهيم عليه السّلام في موضع آخر

ص: 460

بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ البقرة:126.

و من الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيّين في التّعبير،أعني قوله: اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً و قوله:

اِجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35،أنّهما دعاءان دعا عليه السّلام بهما في زمانين مختلفين،و أنّه بعد ما أسكن إسماعيل و أمّه أرض مكّة و رجع إلى أرض فلسطين ثمّ عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما، سرّ بذلك،فدعا عند ذلك مشيرا إلى مكانهم: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، فسأل ربّه أن يجعل المكان بلدا و لم يكن به،و أن يرزق أهله المؤمنين من الثّمرات،ثمّ لمّا عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدا فسأل ربّه أن يجعل البلد آمنا.

و ممّا يؤيّد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة،ففي آية البقرة الدّعاء لأهل البلد بالرّزق من الثّمرات،و في الآيات المبحوث عنها الدّعاء بذلك لذرّيّته خاصّة مع أمور أخرى دعا بها لهم.

و على هذا يكون هذا الدّعاء المحكيّ عن إبراهيم عليه السّلام في هذه الآيات آخر ما أورده اللّه تعالى في كتابه من كلام إبراهيم عليه السّلام و دعائه،و قد دعا به بعد ما أسكن إسماعيل و أمّه بها و جاورتهما قبيلة جرهم،و بنى البيت الحرام، و بنيت بلدة مكّة بأيدي القاطنين هناك،كما تدلّ عليه فقرات الآيات.

و على تقدير أن يكون المحكيّان دعاء واحدا يكون قوله: رَبِّ اجْعَلْ... تقديره:ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا،و قد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه و في الأخرى الموصوف اختصارا.

و المراد ب«الأمن»الّذي سأله عليه السّلام الأمن التّشريعيّ دون التّكوينيّ-كما تقدّم في تفسير آية البقرة-فهو يسأل ربّه أن يشرّع لأرض مكّة حكم الحرمة و الأمن، و هو-على خلاف ما ربّما يتوهّم-من أعظم النّعم الّتي أنعم اللّه بها على عباده.فإنّا لو تأمّلنا هذا الحكم الإلهيّ الّذي شرّعه إبراهيم عليه السّلام بإذن ربّه،أعني حكم الحرمة و الأمن،و أمعنّا فيما يعتقده النّاس من تقديس هذا البيت العتيق و ما أحاط به من حرم اللّه الآمن-و قد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتّى اليوم-وجدنا ما لا يحصى من الخيرات و البركات الدّينيّة و الدّنيويّة عائدة إلى أهلها و إلى سائر أهل الحقّ ممّن يحنّ إليهم و يتعلّق قلبه بهم.و قد ضبط التّاريخ من ذلك شيئا كثيرا و ما لم يضبط أكثر،فجعله تعالى مكّة بلدا آمنا من النّعم العظيمة الّتي أنعم اللّه بها على عباده.(12:68)

مكارم الشّيرازيّ: أمن البلد الأمين«مكّة».

ما يسترعي الانتباه أنّ أوّل ما طلبه إبراهيم من اللّه في هذه الأرض هو الأمن،و هذا يدلّ على أنّ نعمة الأمن أوّل شرط لحياة الإنسان و سكناه في صقع من الأصقاع، و لأيّ عمران و حضارة و تطوّر و تقدّم،و هو كذلك حقّا.

و إن لم يكن المكان ذا أمن،فلا يمكن المقام به،و إن كان ممرعا مخصبا،إذ المدينة أو الدّيار أو البلاد الّتي لا تنعم بالأمن سوف لا تتمتّع بأيّ نعمة من النّعم.

و ينبغي الالتفات هنا إلى هذا الأمر أيضا،و هو أنّ اللّه قد استجاب دعوة إبراهيم حول أمن«مكّة»في جانبين:

الأمن التّكوينيّ،لأنّها أصبحت مدينة قلّما شهدت

ص: 461

طيلة تاريخها حوادث أخلّت بأمنها.

و الأمن التّشريعيّ،أي أنّ اللّه قضى أن يكون جميع النّاس و الحيوان أيضا بأمن في هذه الأرض؛فيمنع صيد حيواناتها،و لا يجوز تعقيب من يلوذ بالحرم من المجرمين، إلاّ أنّه يمكن قطع المئونة عنهم،لكي يخرجوا و يستسلموا و تنفّذ العدالة في حقّهم.(10:366)

3- فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً... آل عمران:97

ابن عبّاس: من أحدث حدثا في غير الحرم،ثمّ لجأ إلى الحرم،لم يعرض له و لم يبايع و لم يكلّم و لم يؤو،حتّى يخرج من الحرم،فإذا خرج من الحرم،أخذ فأقيم عليه الحدّ.

و من أحدث في الحرم حدثا أقيم عليه الحدّ.

مثله الشّعبيّ.(الطّبريّ 4:12)

نحوه عطاء،و مجاهد،و الحسن،و قتادة.(الطّبريّ 4:

12)،و هو المرويّ عن الإمام الباقر عليه السّلام.

(الكاشانيّ 1:333)

مجاهد :قال ابن عبّاس:إذا أصاب الرّجل الحدّ قتل أو سرق،فدخل الحرم لم يبايع،و لم يؤو حتّى يتبرّم، فيخرج من الحرم،فيقام عليه الحدّ.

فقلت لابن عبّاس:و لكنّي لا أرى ذلك،أرى أن يؤخذ برمّته،ثمّ يخرج من الحرم،فيقام عليه الحدّ،فإنّ الحرم لا يزيده إلاّ شدّة.

نحوه ابن الزّبير.(الطّبريّ 4:12)

قتادة :هذا كان في الجاهليّة،كان الرّجل لو جرّ كلّ جريرة على نفسه،ثمّ لجأ إلى حرم اللّه،لم يتناول،و لم يطلب.فأمّا في الإسلام،فإنّه لا يمنع من حدود اللّه،من سرق فيه قطع،و من زنى فيه أقيم عليه الحدّ،و من قتل فيه قتل.(الطّبريّ 4:12)

الإمام الباقر عليه السّلام: عن محمّد بن مسلم قال:سألته عن قوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً؟ قال:يأمن فيه كلّ خائف ما لم يكن عليه حدّ من حدود اللّه،ينبغي أن يؤخذ به.قال:و سألته عن طائر يدخل الحرم؟قال:لا يؤاخذ و لا يمسّ،لأنّ اللّه يقول: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً. (العروسيّ 1:368)

إنّ من دخله عارفا بجميع ما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب الدّائم.(الكاشانيّ 1:333)

السّدّيّ:فلو أنّ رجلا قتل رجلا،ثمّ أتى الكعبة فعاذ بها،ثمّ لقيه أخو المقتول،لم يحلّ له أبدا أن يقتله.(الطّبريّ 4:14)

الإمام الصّادق عليه السّلام: في«العلل»:أنّه قال لأبي حنيفة:أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أين ذلك من الأرض؟قال:الكعبة،قال:أ فتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزّبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها؟قال:فسكت،فسأله عن الجواب،فقال:من بايع قائمنا و دخل معه و مسح على يده و دخل في عقدة أصحابه كان آمنا.(الكاشانيّ 1:332)

من دخله و هو عارف بحقّنا كما هو عارف به خرج من ذنوبه و كفي همّ الدّنيا و الآخرة.(الكاشانيّ 1:332)

من دفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر من برّ النّاس و فاجرهم.(الكاشانيّ 1:333)

قال عبد اللّه بن سنان:سمعته يقول:فيما أدخل الحرم

ص: 462

ممّا صيد في الحلّ،قال:إذا دخل الحرم فلا يذبح إنّ اللّه يقول: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً. (البحرانيّ 1:301)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم:تأويله:الخبر عن أنّ كلّ من جرّ في الجاهليّة جريرة ثمّ عاذ بالبيت،لم يكن بها مأخوذا.

و قال آخرون:معنى ذلك:و من يدخله يكن آمنا بها،بمعنى الجزاء،كنحو قول القائل:من قام لي أكرمته، بمعنى:من يقم لي أكرمه.و قالوا:هذا أمر كان في الجاهليّة، كان الحرم مفزع كلّ خائف،و ملجأ كلّ جان،لأنّه لم يكن يهاج به ذو جريرة،و لا يعرض الرّجل فيه لقاتل أبيه و ابنه بسوء.قالوا:و كذلك هو في الإسلام،لأنّ الإسلام زاده تعظيما و تكريما.

و قال آخرون:معنى ذلك:و من دخله يكن آمنا من النّار.

و أولى الأقوال في ذلك عندنا بالصّواب قول ابن الزّبير،و مجاهد،و الحسن،و من قال:معنى ذلك و من دخله من غيره،ممّن لجأ إليه عائذا به،كان آمنا ما كان فيه،و لكنّه يخرج منه،فيقام عليه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره،ثمّ لجأ إليه،و إن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه.

فتأويل الآية إذن:فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم و من يدخله من النّاس مستجيرا به،يكن آمنا ممّا استجار منه ما كان فيه،حتّى يخرج منه.(4:11-14)

الشّريف الرّضيّ: و اختلف النّاس في قوله تعالى:

وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فبعض العلماء ذهب إلى أنّه أمان كان و انقطع،و بعضهم ذهب إلى أنّه أمن مستمرّ غير منقطع.

ثمّ اختلفوا؛فمنهم من يقول:إنّه أمان على الخصوص، و منهم من يقول:أمان على العموم،و منهم من جعله من جملة الآيات و تفسيرا لما أحمله تعالى من قوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، و منهم من جعله ابتداء حكم.

و اختلفوا بعد ذلك:فمنهم من جعله خبرا،و منهم من جعله تعبّدا و أمرا.

فمن قال:إنّ هذا«الأمان»إنّما كان في الجاهليّة دون الإسلام،فإنّما عنى به دفع اللّه سبحانه عن ساكنه و داخله ظلم الظّالمين و اعتداء الجبّارين،و ما وقص (1)تعالى من رقاب البغاة دونه،و جذّ من أيدي الظّلمة عنه،حتّى أنّ ذلك كالعادة المستمرّة:تجري على اتّساق،و تسري بلا انقطاع،و تستبطأ إذا تأخّرت بعض التّأخّر،ثقة بأنّها جارية على أذلالها و واقعة على عاداتها،لا شكّ في ذلك و إن أبطأت يسيرا و جنحت قليلا.

و قال أيضا صاحب هذا القول:«إنّ اللّه سبحانه جعل أمن من دخله-على ذلك العهد-من الإنس و الوحش،آية لإبراهيم عليه السّلام عند قومه،ليزدادوا إيمانا به و تعظيما للبيت الحرام من أجله،و إنّه في ذلك مباين لبيت المقدّس و غيره،لأنّ هذا المعنى من الأمن لا يحصل فيه».

و قد ذكرنا في ما تقدّم:أنّ هذا النّظام اختلّ في الإسلام للعلل الّتي أومأنا إليها و هتفنا ببعضها،فصار هذا الأمان-على قول صاحب هذا القول-ممّا كان فانقطع لا ممّا دام و استمرّ.ا.

ص: 463


1- وقص رقبته:كسرها.

و من قال منهم:«إنّه أمان مستمرّ غير منقطع في الجاهليّة و الإسلام»فإنّما عنى به أنّ من دخله-و هو خائف على نفسه من ظلم ظالم أو غشم غاشم-أمن على نفسه لما يجب من تعظيم الحرم و إيجاب حرمته و تكريم بقعته و ترك ترويع من لجأ إلى ظلّه و اعتصم بحبله،و هذا من طريق الحكم و الأمر و التّمييز لبقعته من بقاع الأرض.و أمّا من جنى الجنايات و استوجب البوار و القصاص،فإنّ أمانه فيه غير مطلق،بل هو بشروط و قيود،و على أوصاف و حدود،نحن بمشيئة اللّه نشير إليها و نذكر طرفا منها.

و من قال:«إنّه أمان على الخصوص»،فإنّه يذهب إلى أنّ ظاهر قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً الخبر، لأنّه كالوصف،و هو الغرض المقصود،دون تعريف الأحكام و الشّروط.و إذا كان كذلك-و لم يمكن أن يكون قوله تعالى: كانَ آمِناً محمولا على كلّ آمن، لأنّ المتعالم فيمن دخله أنّه لا يأمن من الظّلم و لا يأمن من قبل اللّه تعالى البلوى بالشّدائد و الفقر و إنزال الأمراض و الموت إلى غير ذلك-فالمراد به إذن أمن مخصوص،و هو دفاع اللّه عنه من يريد انتهاك حرمته و إخفار ذمّته و إبطال ما خصّه اللّه تعالى به من التّعظيم لقدره و الإشادة بذكره،إذ يقول عزّ من قائل: وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ الحجّ:25.

و من قال:«إنّه أمان عامّ للنّاس و غيرهم»فإنّما جوّز أن يدخل في صفة الأمن به الوحش و الطّير أيضا،لأنّ لفظة(من)إذا أريد بها ما يعقل و ما لا يعقل صحّ أن يعبّر بها عن الجنسين جميعا،إذا جاز دخولهما تحتها،كما ذكرنا في ما مضى من كلامنا،و ذلك قوله تعالى: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ النّور:45، فقال:(منهم)و هي عبارة عمّا يعقل،ثمّ قال: يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ و عَلى أَرْبَعٍ، و هما صفتان لما لا يعقل.

و قد أتى فيهما ب(من)،و إنّما جاز ذلك لتغليب ما يعقل على ما لا يعقل عند الاشتراك في الصّفات،فإنّه سبحانه لمّا قال:(فمنهم)و هي كناية عمّا يعقل،جاز أن يعبّر ب(من)عمّا لا يعقل،لوقوع الاشتراك.و هذا يدلّك أيضا على قوّة غلبة صفات ما يعقل لصفات ما لا يعقل في كلامهم،و إن كان جنس ما يعقل في اللّفظ المذكور أقلّ من جنس ما لا يعقل؛أ لا ترى أنّه تعالى في هذه الآية جاء بثلاث صفات:واحدة منها يختصّ بها ما يعقل،و اثنتان يختصّ بهما ما لا يعقل.

و في النّاس أيضا من ذهب في هذا«الأمن»إلى العموم من وجه آخر،و هو أنّه حمل قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً على البيت خصوصا،لا على المسجد و الحرم،و حرّم أن يقام الحدّ عليه في نفس البيت.فحمل الكلام على عمومه في كلّ جان إذا اعتصم به و لجأ إليه.

و قال قاضي القضاة أبو الحسن:قد ظنّ بعضهم أنّ قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً لا يجوز أن يكون خبرا،لأنّه لو كان كذلك لوجب ألاّ يوجد مخبره على خلافه،فأوجب من هذا الوجه أن يكون تعبّدا و أمرا.

و هذا بعيد،لأنّ الخبر قد يجوز أن يختصّ-كما يجوز ذلك في الأمر و قد يدخله الشّرط-فما الّذي يمنع أن يجعل ذلك خبرا!إلاّ أن يثبت بالدّليل خلافه.و ممّا يبيّن أنّه

ص: 464

لا ظاهر لذلك أنّ العبد لا يخلو من خوف،فلا يصحّ أن يوصف بأنّه آمن على الإطلاق،و ما هذه حاله من الأوصاف لا بدّ أن يكون في حكم المجمل المحتاج إلى البيان.

و قال بعض العلماء:لمّا كانت الآيات المذكورة عقيب قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ آل عمران:

96،موجودة في جميع الحرم،ثمّ قال سبحانه: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وجب أن يكون مراده بذلك جميع الحرم،و استدلّ على ذلك بقوله تعالى: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ القصص:57، و بقوله سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ العنكبوت:67،و هذا نصّ على أمان الحرم كلّه.

و معنى قوله تعالى:(آمنا)،أي يؤمن فيه،لأنّ الحرم نفسه يستحيل أن يوصف بالخوف أو الأمن،و إنّما يأمن أهله و يخافون.و هذا كثير في كلامهم،كما قالوا:ليل نائم، أي ينام فيه،و يوم ساكن،أي يسكن فيه،و عيش غافل، أي يغفل فيه،و شباب أبله،أي يتبلّه صاحبه فيه ذهولا في سكرته و رسوبا في غمرته،قال الرّاجز:

لما رأتني خلق المموّه برّاق أصلاد الجبين الأجله

بعد غدانيّ الشّباب الأبله

و إلى قريب من هذا المعنى ذهب بعض المفسّرين في قوله تعالى: وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الإسراء:60،فقال المراد بذلك الملعون آكلها،لأنّ (الشّجرة)نفسها يستحيل أن تلعن و تذمّ.و هذا من غرائب التّفسير،و إن كان كثير من العلماء على خلافه؛إذ حملوا اللّفظ على غير ظاهره،فيتأوّلون(الشّجرة)هاهنا على أنّها كناية عن بني أميّة،بأخبار كثيرة ينصّونها إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله،و قد يعبّر ب(الشّجرة)عن جماع القوم و مجتمع أصلهم و جمهور نسبهم و قبيلتهم،كما يقال:

شجرة بني فلان،إذا أرادوا بها ذلك؛فكأنّه تعالى قال:

و القبيلة الملعونة،فيكون«اللّعن»حينئذ متوجّها إلى من يجوز أن يستحقّه.

و قال صاحب القول الّذي ذكرناه:إنّ قوله تعالى:

وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يقتضي أمنه على نفسه،سواء كان جانيا قبل دخوله،أو جنى بعد دخوله،إلاّ أنّ الفقهاء متّفقون على أنّه مأخوذ بجنايته في الحرم في النّفس و ما دونها؛و معلوم أنّ قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هو أمر،و إن كان في صورة الخبر،كأنّه قال سبحانه:هو آمن في حكم اللّه و فيما أمر به،فكان في ذلك أمر لنا بإيمانه،و حظر دمه في مكانه؛أ لا ترى إلى قوله تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ البقرة:191، فأخبر بجواز وقوع القتل فيه،و أمرنا بقتل المشركين إذا قاتلونا عنده.

قال:و لو كان قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً خبرا،لما جاز ألاّ يوجد مخبره على ما أخبر به؛فثبت بذلك أنّ قوله سبحانه: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هو أمر لنا بحقن دمه،و نهي لنا عن قتله.

و لا يخلو ذلك من أن يكون أمرا لنا بأن نؤمنه من الظّلم و القتل اللّذين لا يستحقّهما،أو أن نؤمنه من قتل يستحقّه بجناية جناها.فلمّا كان حمله على الإيمان من قتل

ص: 465

غير مستحقّ بل بفعل على وجه العدوان و الظّلم يسقط فائدة تخصيص الحرم-لأنّ الحرم و غيره في ذلك سواء؛ إذا كانت الأماكن و البقاع كلّها لا تختلف في ذلك أحكامها،و نحن متعبّدون بالمنع من إيقاع الظّلم في جميعها،من قبلنا و قبل غيرنا،إذا كان ذلك ممكنا لنا- علمنا أنّ المراد بذلك الأمر بإيمانه من قتل مستحقّ.

و الظّاهر يقتضي أن نؤمنه من القتل المستحقّ بجنايته في الحرم و في غيره،إلاّ أنّ الدّلالة قد قامت باتّفاق العلماء على أنّه إذا قتل في الحرم قتل،و قال تعالى:

وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ البقرة:191،ففرّق تعالى بين الجاني في الحرم،و بين الجاني في غيره إذا لجأ إليه و اعتصم به.

فصل:حكم الجاني خارج الحرم:

و قد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم ثمّ لجأ إليه،فقال أهل العراق-أبو حنيفة،و أصحابه أبو يوسف، و محمّد بن الحسن،و زفر،و الحسن بن زياد اللّؤلؤيّ-:إذا قتل في غير الحرم ثمّ دخل الحرم لم يقتصّ منه ما دام فيه، و لكنّه لا يبايع و لا يشارى و لا يطعم و لا يسقى،إلى أن يخرج من هناك فيقتصّ منه،و إن قتل في الحرم قتل فيه، و إن جنى فيما دون النّفس في الحرم أو في غيره ثمّ دخله، اقتصّ منه فيه.

و قال أهل المدينة-مالك،و الشّافعيّ-:يقتصّ منه في الحرم في ذلك كلّه.

و أهل العراق يعتمدون-فيما يذهبون إليه:من ترك قتل من جنى في غير الحرم ثمّ لجأ إليه-على ما روي عن ابن عبّاس،و ابن عمر،و عبيد بن عمير،و سعيد بن جبير،و عطاء،و طاوس،و الشّعبيّ،فيمن قتل ثمّ لجأ إلى الحرم أنّه لا يقتل.

قال ابن عبّاس: «و لكنّه لا يجالس و لا يؤوى، و لا يبايع و لا يشارى،حتّى يخرج من الحرم،فيقتل؛فإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ فيه».و لم يختلف السّلف و من بعدهم من الفقهاء،في أنّه إذا جنى في الحرم كان مأخوذا بجنايته،و يقام عليه الحدّ فيما يستحقّه من قتل أو غيره.

و أمّا الجناية فيما دون النّفس و أخذ الجاني بها-و إن لجأ إلى الحرم-فإنّهم يقيسونها على الدّين يكون عليه، فيقولون:أ لا ترى أنّه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به،و الحبس في الدّين عقوبة،لقوله عليه السّلام:«ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته»،و فسّر إحلال العرض هاهنا:باستحلال ذمّه،و العقوبة بالحبس له؛فجعل عليه السّلام الحبس عقوبة،و هو فيما دون النّفس.فكلّ حقّ وجب عليه فيما دون النّفس أخذ به و إن لجأ إلى الحرم،قياسا على الحبس في الدّين،و في ما ذكرناه من ذلك كاف بحمد اللّه تعالى.(حقائق التّأويل:307)

الطّوسيّ: قيل فيه قولان:

أحدهما:الدّلالة على ما عطف عليه قلوب العرب في الجاهليّة،من أمر من جنى جناية ثمّ لاذ بالحرم،و من تبعة تلحقه أو مكروه ينزل به.فأمّا في الإسلام فمن جنى فيه جناية أقيم عليه الحدّ إلاّ القاتل،فإنّه يخرج منه، فيقتل في قول الحسن،و قتادة.و عندنا أنّه إذا قتل في الحرم قتل فيه.

ص: 466

الثّاني:أنّه خبر،و المراد به الأمر،و معناه أنّ من وجب عليه حدّ فلاذ بالحرم و التجأ إليه،فلا يبايع و لا يشارى و لا يعامل حتّى يخرج من الحرم،فيقام عليه الحدّ-في قول ابن عبّاس،و ابن عمر-و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه و أبي جعفر عليهما السّلام.

و أجمعت الصّحابة على أنّ من كانت له جناية في غيره ثمّ عاذ به أنّه لا يؤاخذ بتلك الجناية فيه.و أجمعوا أيضا أنّ من أصاب الحدّ فيه أنّه يقام عليه الحدّ فيه،و إنّما اختلفوا فيما به يخرج ليقام عليه الحدّ.

و روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: من دخله عارفا بجميع ما أوجب اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من أليم العقاب الدّائم.(2:537)

نحوه الطّبرسيّ.(1:478)

الرّاغب: أي آمنا من النّار،و قيل:من بلايا الدّنيا الّتي تصيب من قال فيهم: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التّوبة:55،و منهم من قال:لفظه خبر و معناه أمر،و قيل:يأمن الاصطلام،و قيل:آمن في حكم اللّه؛و ذلك كقولك«هذا حلال و هذا حرام»أي في حكم اللّه،و المعنى لا يجب أن يقتصّ منه و لا يقتل فيه إلاّ أن يخرج.و على هذه الوجوه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً العنكبوت:67،و قال: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً البقرة:125،و قوله: أَمَنَةً نُعاساً آل عمران:154،أي أمنا.(26)

ابن عطيّة: و اختلف النّاس في معنى قوله: كانَ آمِناً، فقال الحسن،و قتادة،و عطاء،و مجاهد و غيرهم:

هذه وصف حال كانت في الجاهليّة أنّ الّذي يجرّ جريرة ثمّ يدخل الحرم،فإنّه كان لا يتناول و لا يطلب.فأمّا في الإسلام و أمن جميع الأقطار،فإنّ الحرم لا يمنع من حدّ من حدود اللّه،من سرق فيه قطع،و من زنى رجم،و من قتل قتل.و استحسن كثير ممّن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحلّ فيقتل هنالك.

و قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:«من أحدث حدثا ثمّ استجار بالبيت فهو آمن،و إنّ الأمن في الإسلام كما كان في الجاهليّة،و الإسلام زاد البيت شرفا و توقيرا، فلا يعرض أحد بمكّة لقاتل وليّه،إلاّ أنّه يجب على المسلمين ألاّ يبايعوا ذلك الجاني و لا يكلّموه و لا يؤووه حتّى يتبرّم،فيخرج من الحرم فيقام عليه الحدّ.و قال بمثل هذا عبيد بن عمير،و الشّعبيّ،و عطاء بن أبي رباح، و السّدّيّ و غيرهم،إلاّ أنّ أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثمّ يعوذ بالحرم،فأمّا من يقتل في الحرم،فإنّه يقام عليه الحدّ في الحرم.

و إذا تؤمّل أمر هذا الّذي لا يكلّم و لا يبايع،فليس بآمن.

و قال يحيى بن جعدة:معنى الآية و من دخل البيت كان آمنا من النّار.و حكى النّقّاش عن بعض العبّاد قال:

كنت أطوف حول الكعبة ليلا فقلت:يا ربّ إنّك قلت:

وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فمن ما ذا هو آمن يا ربّ؟ فسمعت مكلّما يكلّمني و هو يقول:من النّار،فنظرت و تأمّلت فما كان في المكان أحد.(1:476)

ابن العربيّ:و فيه من الآيات أنّ من دخله خائفا عاد آمنا؛فإنّ اللّه سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته،و صرف الأيدي عن إذايته،

ص: 467

و جمعها على تعظيم اللّه تعالى و حرمته.

و هذا خبر عمّا كان،و ليس فيه إثبات حكم،و إنّما هو تنبيه على آيات،و تقرير نعم متعدّدات،مقصودها و فائدتها و تمام النّعمة فيه بعثه محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم؛فمن لم يشهد هذه الآيات و يرى ما فيها من شرف المقدّمات لحرمة من ظهر من تلك البقعة،فهو من الأموات.

المسألة الخامسة:قال أبو حنيفة:إنّ من اقترف ذنبا و استوجب به حدّا،ثمّ لجأ إلى الحرم عصمه؛لقوله تعالى:

وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً. فأوجب اللّه سبحانه الأمن لمن دخله،و روي ذلك عن جماعة من السّلف،منهم ابن عبّاس و غيره من النّاس.

و كلّ من قال هذا فقد وهم من وجهين:

أحدهما:أنّه لم يفهم معنى الآية أنّه خبر عمّا مضى، و لم يقصد بها إثبات حكم مستقبل.

الثّاني:أنّه لم يعلم أنّ ذلك الأمن قد ذهب،و أنّ القتل و القتال قد وقع بعد ذلك فيها،و خبر اللّه سبحانه لا يقع بخلاف مخبره؛فدلّ على أنّه في الماضي.

هذا،و قد ناقض أبو حنيفة فقال:إنّه لا يطعم و لا يسقى و لا يعامل و لا يكلّم حتّى يخرج،فاضطراره إلى الخروج ليس يصحّ معه أمن.

و روي عنه أنّه قال:يقع القصاص في الأطراف في الحرم،و لا أمن أيضا مع هذا،و قد مهّدناه في مسائل الخلاف.

المسألة السّادسة:قال بعضهم:من دخله كان آمنا من النّار؛و لا يصحّ هذا على عمومه،و لكنّه من حجّ فلم يرفث و لم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه،و الحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة.قال ذلك كلّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛فيكون تفسيرا للمقصود،و بيانا لخصوص العموم،إن كان هذا القصد صحيحا.

هذا،و الصّحيح ما قدّمناه من أنّه قصد به تعديد النّعم على من كان بها جاهلا و لها منكرا من العرب،كما قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ العنكبوت:67.(1:284)

الفخر الرّازي: لهذه الآية نظائر:منها قوله تعالى:

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً البقرة:125، و قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً العنكبوت:

67،و قال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً البقرة:

126،و قال تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:4.

قال أبو بكر الرّازيّ: لمّا كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ آل عمران:

96،موجودة في الحرم،ثمّ قال: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آل عمران:97،وجب أن يكون مراده جميع الحرم.

و أجمعوا على أنّه لو قتل في الحرم،فإنّه يستوفى القصاص منه في الحرم،و أجمعوا على أنّ الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النّفس.إنّما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم،فالتجأ إلى الحرم،فهل يستوفى منه القصاص في الحرم؟قال الشّافعيّ:يستوفى و قال أبو حنيفة:لا يستوفى،بل يمنع منه الطّعام و الشّراب و البيع و الشّراء و الكلام حتّى يخرج،ثمّ يستوفى منه القصاص.

و الكلام في هذه المسألة قد تقدّم في تفسير قوله: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً البقرة:125.

ص: 468

و الكلام في هذه المسألة قد تقدّم في تفسير قوله: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً البقرة:125.

و احتجّ أبو حنيفة رضي اللّه عنه بهذه الآية،فقال:

ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمنا،و لكن لا يمكن حمله عليه؛إذ قد يصير آمنا فيقع الخلف في الخبر،فوجب حمله على الأمر و ترك العمل به في الجنايات الّتي دون النّفس،لأنّ الضّرر فيها أخفّ من الضّرر في القتل،و فيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم،لأنّه هو الّذي هتك حرمة الحرم،فيبقى في محلّ الخلاف،على مقتضى ظاهر الآية.

و الجواب:أنّ قوله: كانَ آمِناً إثبات لمسمّى الأمن،و يكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه،و نحن نقول به،و بيانه من وجوه:

الأوّل:أنّ من دخله للنّسك تقرّبا إلى اللّه تعالى كان آمنا من النّار يوم القيامة،قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا»،و قال أيضا:«من صبر على حرّ مكّة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنّم مسيرة مائتي عام»،و قال:«من حجّ و لم يرفث و لم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».

و الثّاني:يحتمل أن يكون المراد:ما أودع اللّه في قلوب الخلق من الشّفقة على كلّ من التجأ إليه و دفع المكروه عنه.و لمّا كان الأمر واقعا على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا،و هذا أولى ممّا قالوه لوجهين:

الأوّل:أنّا على هذا التّقدير لا نجعل الخبر قائما مقام الأمر،و هم جعلوه قائما مقام الأمر.

و الثّانيّ:أنّه تعالى إنّما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت؛ و ذلك إنّما يحصل بشيء كان معلوما للقوم،حتّى يصير ذلك حجّة على فضيلة البيت.فأمّا الحكم الّذي بيّنه اللّه في شرع محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنّه لا يصير ذلك حجّة على اليهود و النّصارى في إثبات فضيلة الكعبة.

الوجه الثّالث:في تأويل الآية:أنّ المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان آمنا،لأنّه تعالى قال:

لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ الفتح:

27.

الرّابع:قال الضّحّاك:من حجّ حجّة كان آمنا من الذّنوب الّتي اكتسبها قبل ذلك.

و اعلم أنّ طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد،و هو أنّ قوله: كانَ آمِناً حكم بثبوت الأمن؛ و ذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد و في صورة واحدة.فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه،فقد عملنا بمقتضى هذا النّصّ فلا يبقى للنّصّ دلالة على ما قالوه،ثمّ يتأكّد ذلك بأنّ حمل النّصّ على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النّصوص الدّالّة على وجوب القصاص،و حمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك،فكان قولنا أولى.(8:161)

نحوه القرطبيّ.(4:140)

أبو حيّان: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً الضّمير في وَ مَنْ دَخَلَهُ عائد على البيت إذ هو المحدّث عنه و المقيّد بتلك القيود من البركة و الهدى و الآيات البيّنات من مقام إبراهيم و غيره،و لا يمكن أن يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر.

و ظاهر الآية و سياق الكلام أنّ هذه الجملة هي

ص: 469

مفسّرة لبعض آيات البيت،و مذكّرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهليّة من احترام هذا البيت،و أمن من دخله من ذوي الجرائم.و كانت العرب يغير بعضها على بعض و يتخطّف النّاس بالقتل و أخذ الأموال و أنواع الظّلم إلاّ في الحرم،كقوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ و ذلك بدعوة إبراهيم عليه السّلام رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً.

فأمّا في الإسلام فمن أصاب حدّا فإنّ الحرم لا يعيده، و إلى هذا ذهب عطاء،و مجاهد،و الحسن،و قتادة و غيره:

فمن زنى أو سرق أو قتل أقيم عليه الحدّ.و استحسن كثير ممّن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحلّ فيقتل فيه.

و قال ابن عبّاس: من أحدث حدثا و استجار بالبيت فهو آمن،و الأمر في الإسلام على ما كان في الجاهليّة فلا يعرض أحد لقاتل وليّه إلاّ أنّه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه و لا يكلّموه و لا يؤووه حتّى يتبرّم،فيخرج من الحرم فيقام عليه الحدّ.

و قال بمثل هذا عطاء أيضا و الشّعبيّ،و عبيد بن عمير،و السّدّيّ،و ابن جبير و غيرهم،إلاّ أنّ أكثرهم قالوا:هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثمّ يعوذ بالحرم،أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحدّ فيه.

و اختلف فقهاء الأمصار إذا جنى في غير الحرم ثمّ التجأ إليه،فقال أبو حنيفة،و أبو يوسف،و محمّد،و زفر، و الحسن بن زياد،و أحمد في رواية حنبل عنه:إن كانت الجناية في النّفس لم يقتصّ منه و لا يخالط،أو ما فيما دون النّفس اقتصّ منه في الحرم.

و قال مالك في رواية: لا يقتصّ منه فيه لا بقتل و لا فيما دون النّفس و لا يخالط.قالوا:و انعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن،لأنّه هتك حرمة الحرم و ردّ الأمان،فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجا منه ثمّ التجأ إليه.و قالوا هذا خبر معناه الأمر،أي و من دخله فأمّنوه، و هو عامّ فيمن جنى فيه أو في غيره ثمّ دخله.لكن صدّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه،و بقي حكم الآية مختصّا بمن جنى خارجا منه ثمّ دخله.

و قال يحيى بن جعدة في آخرين: آمنّا من النّار، و لا بدّ من قيد في وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أي و من دخله حاجّا أو من دخله مخلصا في دخوله.

و قيل:المعنى و من دخله عام عمرة القضاء مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ الفتح:27.

و قال جعفر الصّادق: «من دخله و رقى على الصّفا أمن أمن الأنبياء».و ظاهر الآية ما بدأنا به أوّلا،و كلّ هذه الأقوال سواه متكلّفات و ينبو اللّفظ عنها،و يخالف بعضها ظواهر الآيات و قواعد الشّريعة.(3:9)

الفاضل المقداد: قوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ليس معطوفا على(مقام)ليكونا عطف بيان لما عرفت من ضعفه،بل هو عطف على ما سبق من كونه(هدى) و(فيه آيات بيّنات)و شرف آخر له و هو كونه:أمنا لمن دخله.و حينئذ يحتمل أن يكون خبرا عن إجابة دعاء إبراهيم في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً، فإنّ اللّه تعالى ألان قلوب العرب لحصول هذا الغرض،حتّى أنّ الرّجل منهم لو جنى أيّ جناية في غير الحرم ثمّ التجأ

ص: 470

إلى الحرم لم يطلب.

و يحتمل أن يكون أمرا،أي من دخله فليكن آمنا، و ذلك أيضا لا يخرجه عن الشّرف،لأنّ هذا الأمر معلّل بشرف ذلك المكان،و لذلك حكم أصحابنا بأنّ من وجب عليه حدّ أو تعزير أو قتل ثمّ التجأ إلى الحرم لم يتعرّض،بل يضيّق عليه مطعما و مشربا حتّى يخرج، و به قال أبو حنيفة خلافا للشّافعيّ.

و عن الباقر عليه السّلام:«من دخله عارفا بجميع ما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب الدّائم».

(كنز العرفان 1:262)

الطّريحيّ: أي من العقاب إذا قام بحقوق اللّه تعالى، و قيل:آمنا من القتل،و قيل:إنّ مكّة كانت أمنا قبل دعوة إبراهيم عليه السّلام من لدن آدم عليه السّلام من الخسف و الزّلازل و الطّوفان و غيرها من أنواع المهلكات،و إنّما تأكّد ذلك بدعائه عليه السّلام،و قيل:الأمان للصّيد.(6:203)

الطّباطبائيّ: الحقّ أنّ قوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً مسوق لبيان حكم تشريعيّ لا خاصّة تكوينيّة، غير أنّ الظّاهر أن تكون الجملة إخباريّة يخبر بها عن تشريع سابق للأمن،كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم و البقرة،و قد كان هذا الحقّ محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهليّة، و يتّصل بزمن إبراهيم عليه السّلام.

و أمّا كون المراد من«حديث الأمن»هو الإخبار بأنّ الفتن و الحوادث العظام لا تقع و لا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب و المقاتلات و اختلال الأمن فيه،و خاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية،و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ العنكبوت:67،لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن و استمراره في الحرم،و ليس ذلك إلاّ لما يراه النّاس من حرمة هذا البيت،و وجوب تعظيمه الثّابت في شريعة إبراهيم عليه السّلام،و ينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه و تشريعه.

و كذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكيّ في قوله تعالى:

رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35 و قوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً البقرة:126،حيث سأل الأمن لبلد مكّة،فأجابه اللّه بتشريع الأمن و سوق النّاس سوقا قلبيّا إلى تسليم ذلك،و قبوله زمانا بعد زمان.(3:354)

4- ...أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.

القصص:57.

الطّوسيّ: قيل في وجه جعله الحرم آمنا وجهان:

أحدهما:بما طبع النّفوس عليه من السّكون إليه بترك النّفور ممّا ينفرّ عنه في غيره،كالغزال مع الكلب، و الحمام مع النّاس،و غيرهم.

و الوجه الآخر:بما حكم به على العباد و أمرهم أن يؤمّنوا من يدخله و يلوذ به،و لا يتعرّض له.

و فائدة الآية إنّا جعلنا الحرم آمنا لحرمة البيت مع أنّهم كفّار يعبدون الأصنام حتّى أمنوا على نفوسهم و أموالهم،فلو آمنوا لكان أحرى بأن يؤمّنهم اللّه،و أولى بأن يمكّنهم من مراداتهم.(8:165)

نحوه الطّبرسيّ.(4:258)

الفخر الرّازيّ: أي أعطيناكم مسكنا لا خوف لكم

ص: 471

فيه،إمّا لأنّ العرب كانوا يحترمون الحرم و ما كانوا يتعرّضون البتّة لسكّانه،فإنّه يروى أنّ العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنّهب و الغارة،و ما كانوا يتعرّضون البتّة لسكّان الحرم،أو لقوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً .(25:3)

القرطبيّ: أي ذا أمن؛و ذلك أنّ العرب كانت في الجاهليّة يغير بعضهم على بعض،و يقتل بعضهم بعضا، و أهل مكّة آمنون حيث كانوا بحرمة الحرم،فأخبر أنّه قد أمّنهم بحرمة البيت،و منع عنهم عدوّهم،فلا يخافون أن تستحلّ العرب حرمة في قتالهم.(13:300)

نحوه البروسويّ.(6:417)

أبو حيّان: و وصف الحرم بالأمن مجاز؛إذ الآمنون فيه هم ساكنوه.(7:126)

مثله الطّباطبائيّ.(16:60)

الآلوسيّ: أي أ لم نعصمهم و نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه تتاجر العرب حوله و هم آمنون فيه،فالعطف على محذوف و(نمكّن)مضمّن معنى الجعل،و لذا نصب(حرما)و(آمنا)للنّسب ك(لابن و تامر).

و جعل أبو حيّان الإسناد فيه مجازيّا،لأنّ الآمن حقيقة ساكنوه،فيستغني عن جعله للنّسب،و هو وجه حسن.(20:97)

امنين

1- فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ. يوسف:99 أبو العالية :آمنين من فرعون.(الماورديّ 3:81)

السّدّيّ:آمنين من القحط و الجدب.

(الماورديّ 3:81)

الطّبريّ: ممّا كنتم فيه في باديتكم من الجدب و القحط.(13:67)

الطّوسيّ: الأمن:سكون النّفس إلى الأمر، و الخوف:انزعاج النّفس من الأمر.و الأمن التّامّ:الأمن من كلّ جهة،فأمّا الأمن من جهة دون جهة فهو أمن ناقص.(6:196)

الطّبرسيّ: الاستثناء يعود إلى الأمن،و إنّما قال:

(آمنين)لأنّهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر و لا يدخلونها إلاّ بجوازهم.(3:264)

الفخر الرّازيّ: معنى قوله:(امنين)يعني على أنفسكم و أموالكم و أهليكم لا تخافون أحدا،و كانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر.و قيل:آمنين من القحط و الشّدّة و الفاقة،و قيل:آمنين من أن يضرّهم يوسف بالجرم السّالف.(18:211)

نحوه النّيسابوريّ.(13:48)

القرطبيّ:من القحط،أو من فرعون،و كانوا لا يدخلونها إلاّ بجوازه.(9:263)

البروسويّ: من الجوع و الخوف و سائر المكاره قاطبة،لأنّهم كانوا قبل ولاية يوسف يخافون ملوك مصر و لا يدخلونها إلاّ بإجازتهم لكونهم جبابرة.

و المشيئة متعلّقة بالدّخول و الأمن معا كقولك للغازي:

ارجع سالما غانما إن شاء اللّه.فالمشيئة متعلّقة بالسّلامة

ص: 472

و الغنم معا،و التّقدير:ادخلوا مصر آمنين،و ذو الحال هو فاعل(ادخلوا).(4:320)

نحوه الآلوسيّ.(13:57)

الطّباطبائيّ: و قد أبدع عليه السّلام في قوله: إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ حيث أعطاهم الأمن و أصدر لهم حكمه على سنّة الملوك،و قيّد ذلك بمشيئة اللّه سبحانه،للدّلالة على أنّ المشيئة الإنسانيّة لا تؤثّر أثرها كسائر الأسباب إلاّ إذا وافقت المشيئة الإلهيّة على ما هو مقتضى التّوحيد الخالص.و ظاهر هذا السّياق أنّه لم يكن لهم الدّخول و الاستقرار في مصر إلاّ بجواز من ناحية الملك،و لذا أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر.(11:246)

2- اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. الحجر:46

الطّبريّ: من عقاب اللّه،أو أن تسلبوا نعمة أنعمها اللّه عليكم،و كرامة أكرمكم بها.(14:36)

الطّوسيّ: و معنى(امنين)أي ساكني النّفس إلى انتفاء الضّرر،و الأمانة:الثّقة بالسّلامة من الخيانة.

(6:339)

نحوه الطّبرسيّ.(3:338)

الميبديّ: من المرض و الموت فيها و الخروج منها.(5:320)

الفخر الرّازيّ: المراد أدخلوا الجنّة مع السّلامة من كلّ الآفات في الحال،و مع القطع ببقاء هذه السّلامة، و الأمن من زوالها.(19:192)

القرطبيّ: أي من الموت و العذاب و العزل و الزّوال.

(10:32)

3- وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ.

الحجر:82

الفرّاء: أن تخرّ عليهم،و يقال:آمنين للموت.

(2:91)

الطّبريّ: من عذاب اللّه.و قيل:آمنين من الخراب أن تخرب بيوتهم الّتي نحتوها من الجبال،و قيل:آمنين من الموت.(14:50)

مثله الطّوسيّ(6:351)،و الميبديّ(5:328)، و الطّبرسيّ(3:344)،و القرطبيّ(10:53).

الزّمخشريّ: لوثاقة البيوت و استحكامها من أن تتهدّم و يتداعى بنيانها،و من نقب اللّصوص و من الأعداء و حوادث الدّهر،أو آمنين من عذاب اللّه، يحسبون أنّ الجبال تحميمهم منه.(2:396)

نحوه البيضاويّ(1:546)،و النّيسابوريّ(14:

33).

ابن عطيّة: قيل:معناه من انهدامها،و قيل:من حوادث الدّنيا،و قيل:من الموت لاغترارهم بطول الأعمال.

و هذا كلّه ضعيف،و أصحّ ما يظهر في ذلك أنّهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة.فكانوا لا يعملون بحسبها،بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها.(3:372)

أبو حيّان: قيل:من الانهدام،و قيل:من حوادث الدّنيا.و قيل:من الموت لاغترارهم بطول الأعمار،و قيل:

من نقب اللّصوص و من الأعداء،و قيل:من عذاب اللّه، يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه.(5:464)

ص: 473

الطّباطبائيّ: أي كانوا يسكنون الغيران و الكهوف المنحوتة من الحجارة،آمنين من الحوادث الأرضيّة و السّماويّة بزعمهم.(12:186)

4- ...سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ. سبأ:18

الطّوسيّ: لا تخافون جوعا و لا عطشا و لا ظلما من أحد،كأنّه قيل لهم:سيروا كذا.(8:389)

نحوه الميبديّ.(8:129)

الفخر الرّازيّ: و قوله:(امنين)إشارة إلى كثرة العمارة،فإنّ خوف قطّاع الطّريق و الانقطاع عن الرّفيق لا يكون في مثل هذه الأماكن.(25:252)

البروسويّ: أصل الأمن:طمأنينة النّفس و زوال الخوف،أي آمنين من كلّ ما تكرهونه من الأعداء و اللّصوص و السّباع بسبب كثرة الخلق،و من الجوع و العطش بسبب عمارة المواضع،لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات.أو سيروا فيها آمنين و إن تطاولت مدّة سفركم و امتدّت ليالي و أيّاما كثيرة.أو سيروا فيها ليالي أعماركم و أيّامها لا تلقون فيها إلاّ الأمن،لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السّير المذكور و تسوية مباديه و أسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك.(7:285).

نحوه الآلوسيّ.(22:130)

5- يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ. الدّخان:55.

قتادة :أمنوا من الموت و الأوصاب و الشّيطان.(الطّبريّ 25:137)

الطّبريّ: من انقطاع ذلك عنهم و نفاده و فنائه، و من غائلة أذاه و مكروهه،يقول:ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدّنيا الّتي نأكلها،و هم يخافون مكروه عاقبتها،و غبّ أذاها،مع نفادها من عندهم،و عدمها في بعض الأزمنة و الأوقات.(25:137)

نحوه القرطبيّ.(16:154)

الميبديّ: من الزّوال و الانقطاع و تولّد ضرر من الإكثار.(9:114)

الطّبرسيّ: أي يستدعون فيها،أيّ ثمرة شاءوا و اشتهوا غير خائفين فوتها،آمنين من نفادها و مضرّتها، و قيل:آمنين من التّخم و الأسقام و الأوجاع.(5:69)

امين

1- أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ. الأعراف:68

الضّحّاك: أي ثقة مأمون في تأدية الرّسالة فلا أكذب و لا أغيّر.

مثله الجبّائيّ.(الطّبرسيّ 2:437)

الكلبيّ: معناه كنت مأمونا فيكم فكيف تكذّبونني؟

(الطّبرسيّ 2:437)

الطّبريّ: أمين على وحي اللّه،و على ما ائتمنني اللّه عليه من الرّسالة،لا أكذب فيه،و لا أزيد و لا أبدّل،بل أبلّغ ما أمرت به كما أمرت.(8:216)

الطّوسيّ: الأمين:المأمون من أن يكون منه تغيير له أو تبديل.و في الآية دلالة على أنّه يجوز للإنسان أن يزكّي نفسه عند الحاجة إليه.(4:474)

ص: 474

ابن عطيّة: قوله:(امين)يحتمل أن يريد على الوحي و الذّكر النّازل من قبل اللّه عزّ و جلّ.و يحتمل أن يريد أنّه أمين عليهم و على غيبهم و على إرادة الخير بهم، و العرب تقول:فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب.

و يحتمل أن يريد به أمين من الأمن،أي جهتي ذات أمن من الكذب و الغشّ.(2:417)

الفخر الرّازيّ: [الفرق في هذه الآية أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ مع قوله: وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ الأعراف:62]هو أنّ نوحا عليه السّلام قال: وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ الأعراف:62،و هودا وصف نفسه بكونه أمينا،فالفرق أنّ نوحا عليه السّلام كان أعلى شأنا و أعظم منصبا في النّبوّة من هود،فلم يبعد أن يقال:إنّ نوحا كان يعلم من أسرار حكم اللّه و حكمته ما لم يصل إليه هود،فلهذا السّبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة،و اقتصر على أن وصف نفسه بكونه أمينا؛و مقصود منه أمور:

أحدها:الرّدّ عليهم في قولهم: وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ الأعراف:66.

و ثانيها:أنّ مدار أمر الرّسالة و التّبليغ عن اللّه على الأمانة،فوصف نفسه بكونه أمينا تقريرا للرّسالة و النّبوّة.

و ثالثها:كأنّه قال لهم:كنت قبل هذه الدّعوى أمينا فيكم،ما وجدتم منّي غدرا و لا مكرا و لا كذبا،و اعترفتم لي بكوني أمينا،فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟

و اعلم أنّ الأمين هو الثّقة،و هو«فعيل»من أمن يأمن أمنا فهو آمن و أمين،بمعنى واحد.(14:156)

نحوه النّيسابوريّ.(8:159)

النّسفيّ: و إنّما قال هنا: وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ لقولهم: وَ إِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ الأعراف:66، أي ليقابل الاسم الاسم،و في إجابة الأنبياء عليهم السّلام من ينسبهم إلى الضّلالة و السّفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصّادر عن الحلم و الإغضاء و ترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ النّاس و أسفههم،أدب حسن و خلق عظيم،و إخبار اللّه تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السّفهاء و كيف يغضّون و يسلبون أذيالهم على ما يكون منهم.(2:59)

الآلوسيّ: معروف بالنّصح و الأمانة،مشهور بين النّاس بذلك،فما حقّي أن أتّهم بشيء ممّا ذكرتموه،و على هذا لا يقدّر للوصفين متعلّق،و يحتمل تقديرهما:أي ناصح لكم فيما أدعوكم إليه،أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه،و على الأوّل-كما قال الطّيّبيّ-فالجملة مستأنفة وقعت معترضة،و على الثّاني حاليّة،و في العدول عن الفعليّة إلى الاسميّة ما لا يخفى.و لعلّ التّعبير بها هنا و بالفعليّة فيما تقدّم لتجديد النّصح من نوح دون هود عليهما السّلام.(8:156)

2- إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. الشّعراء:106،107

الطّبريّ: أمين على وحيه إليّ،برسالته إيّاي إليكم.

(19:90)

الطّوسيّ: الأمين:الّذي يؤدّي الأمانة،و ضدّه الخائن،و قد أدّى نوح الأمانة في أداء الرّسالة و النّصيحة لهم،فلذلك وصفه اللّه بأنّه(امين).(8:39)

الزّمخشريّ: كان أمينا فيهم مشهورا بالأمانة

ص: 475

كمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم في قريش.(3:120)

نحوه الفخر الرّازيّ(24:154)،و النّيسابوريّ(19:

61).

القرطبيّ: أي صادق فيما أبلّغكم عن اللّه تعالى.

و قيل:(امين)فيما بينكم،فإنّهم كانوا عرفوا أمانته و صدقه من قبل،كمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم في قريش.(13:119)

المراغيّ: أي إنّي رسول من اللّه إليكم،أمين فيما بعثني به،أبلّغكم رسالاته،لا أزيد فيه و لا أنقص منها.(19:82)

3- إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. الشّعراء:142،143

الطّوسيّ: الأمين:هو الّذي استودع الشّيء على من أمن منه الخيانة،فالرّسول بهذه الصّفة،لأنّه يؤدّي الرّسالة كما حملها من غير تغيير لها،و لا زيادة و لا نقصان.

(8:48)

4- إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. الشّعراء:161،162

الطّوسيّ: إخباره عن نفسه بأنّه رسول أمين،مدح له،و ذلك جائز في الرّسول كما يجوز أن يخبر عن نفسه بأنّه رسول اللّه.و إنّما جاز أن يخبر بذلك لقيام الدّلالة على عصمته من القبائح،و غيره لا يجوز أن يخبر بذلك عن نفسه،لجواز الخطأ عليه.(8:53)

5- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. الدّخان:51

قتادة:إي و اللّه،أمين من الشّيطان و الأنصاب و الأحزان.(الطّبريّ 25:135)

الهرويّ: أي أمنوا فيه العذاب و الغير.(1:92)

الطّوسيّ: وصفه بأنّهم فِي مَقامٍ أَمِينٍ من كلّ ما يخاف.و ليس هذا في الدّنيا،لأنّه لا يخلو منها أحد من موقف خوف،من مرض أو أذى أو غير ذلك.

(9:241)

الزّمخشريّ: الأمين من قولك:أمن الرّجل أمانة فهو أمين،و هو ضدّ الخائن،فوصف به المكان استعارة، لأنّ المكان المخيف كأنّما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.(3:507)

مثله الفخر الرّازيّ.(27:253)

ابن عطيّة: و(امين)يؤمن فيه الغير،فكأنّه «فعيل»بمعنى«مفعول»أي مأمون فيه.(5:77)

النّيسابوريّ: و المقام الأمين ذو الأمن،أو أصله من الأمانة،لأنّ المكان المخيف كأنّما يخوّف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.(25:70)

ابن القيّم: الأمين:الآمن من كلّ سوء و آفة و مكروه،و هو الّذي قد جمع صفات الأمن كلّها،فهو آمن من الزّوال و الخراب،و أنواع النّقص،و أهله آمنون فيه من الخروج و النّقص و النّكد،و البلد الأمين الّذي قد أمن أهله فيه ممّا يخاف منه سواهم.

و تأمّل كيف ذكر سبحانه«الأمن»في قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ الدّخان:51،و في قوله تعالى:

يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ الدّخان:55،فجمع لهم بين أمن المكان و أمن الطّعام،فلا يخافون انقطاع

ص: 476

الفاكهة،و لا سواء عاقبتها و مضرّتها،و أمن الخروج منها، فلا يخافون ذلك،و أمن الموت،فلا يخافون فيها موتا.(434)

البروسويّ: يأمن صاحبه الآفات و الانتقال عنه، على أنّ وصف«المقام»بالأمن من المجاز في الإسناد،كما في قولهم:جرى النّهر؛فالأمن ضدّ الخوف،و الأمين بمعنى ذي الأمن.

و أشار الزّمخشريّ إلى وجه آخر و هو أنّ«الأمين» من الأمانة الّتي هي ضدّ الخيانة،و هي في الحقيقة صفة صاحب المكان،لكن وصف به المكان بطريق الاستعارة التّخييليّة،كأنّ المكان المخيف يحزن صاحبه و نازله بما يلقي فيه من المكاره،أو كناية لأنّ الوصف إذا أثبت في مكان الرّجل فقد أثبت له،لقولهم:المجد بين ثوبيه و الكرم بين برديه،كما في«بحر العلوم».

و في الآية إشارة إلى أنّ من اتّقى باللّه عمّا سواه يكون مقامه مقام الوحدة آمنا من خوف الاثنينيّة،و إلى أنّ من كان في الدّنيا على خوف العذاب و وجل الفراق كان في الآخرة على أمن و أمان.

و قال بعضهم: المقام الأمين:مجالسة الأنبياء و الأولياء و الصّدّيقين و الشّهداء.

يقول الفقير: أمّا مجالستهم يوم الحشر فظاهرة،لأنّ فيها الأمن من الوقوع في العذاب؛إذ هم شفعاء عند اللّه.

و أمّا مجالستهم في الدّنيا فلأنّ فيها الأمن من الشّقاوة؛إذ لا يشقى بهم جليسهم.و في الآية إشارة أخرى لائحة للبال و هي أنّ«المقام الأمين»هو مقام القلب و هي جنّة الوصلة،و من دخله كان آمنا من شرّ الوسواس الخنّاس، لأنّه لا يدخل الكعبة الّتي هي إشارة إلى مقام الذّات،كما لا يقدر على الوسوسة حال السّجدة الّتي هي إشارة إلى الفناء في الذّات الأحديّة.

قال أهل السّنّة: كلّ من اتّقى الشّرك صدق عليه أنّه متّق،فيدخل الفسّاق في هذا الوعد.

يقول الفقير: الظّاهر أنّ المطلق مصروف على الكامل بقرينة أنّ المقام مقام الامتنان،و الكامل هو المؤمن المطيع،كما أشرنا إليه في عنوان الآية،نعم يدخل العصاة فيه انتهاء و تبعيّة لا ابتداء و أصالة،كما يدلّ عليه الوعيد الوارد في حقّهم و إلاّ لاستوى المطيع و العاصي، و قد قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ... ص:

28.(8:428)

نحوه الآلوسيّ.(25:134)

الطّباطبائيّ: الأمين:صفة من الأمن،بمعنى عدم إصابة المكروه،و المعنى إنّ المتّقين يوم القيامة ثابتون في محلّ ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا.

و بذلك يظهر أنّ نسبة«الأمن»إلى«المقام»بتوصيف المقام بالأمين من المجاز في النّسبة.(18:149)

الامين

1- قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. القصص:26

ابن عبّاس: فأحفظته الغيرة أن قال:و ما يدريك ما قوّته و أمانته؟

قالت:أمّا قوّته،فما رأيت منه حين سقى لنا،لم أر رجلا قطّ أقوى في ذلك السّقي منه.و أمّا أمانته،فإنّه نظر

ص: 477

حين أقبلت إليه،و شخصت له،فلمّا علم أنّي امرأة، صوّب رأسه فلم يرفعه،و لم ينظر إليّ حتّى بلّغته رسالتك، ثمّ قال:امشي خلفي،و انعتي لي الطّريق.و لم يفعل ذلك إلاّ و هو أمين،فسرّي عن أبيها،و صدّقها،و ظنّ به الّذي قالت.(الطّبريّ 20:63)

مجاهد :غضّ طرفه عنهما.(الطّبريّ 20:63)

قتادة :أمّا أمانته فإنّه أمرها أن تمشي خلفه.

نحوه السّدّيّ.(الطّبريّ 20:64)

ابن زيد :فقال لها:و ما علمك بقوّته و أمانته؟

فقالت:أمّا قوّته فإنّه كشف الصّخرة الّتي على بئر آل فلان،و كان لا يكشفها دون سبعة نفر.و أمّا أمانته فإنّي لمّا جئت أدعوه،قال:كوني خلف ظهري،و أشيري لي إلى منزلك،فعرفت أنّ ذلك منه أمانة.

(الطّبريّ 20:64)

الإمام الكاظم عليه السّلام: و في«الفقيه»قال:قال لها شعيب:يا بنيّة هذا قويّ قد عرفته برفع الصّخرة، و الأمين من أين عرفتيه؟

قالت:يا أبت إنّي مشيت قدّامه،فقال:امشي من خلفي،فإن ضللت فارشديني إلى الطّريق،فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النّساء.(الكاشانيّ 4:87)

مثله القمّيّ.(2:138)

الفرّاء: فقوّته إخراجه الدّلو وحده،و أمانته أنّ إحدى الجاريتين قالت:إنّ أبي يدعوك،فقام معها فمرّت بين يديه،فطارت الرّيح بثيابها فألصقتها بجسدها،فقال لها:تأخّري فإن ضللت فدلّيني.فمشت خلفه،فتلك أمانته.(2:305)

الطّبريّ: الأمين:الّذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه.و قيل:إنّها لمّا قالت ذلك لأبيها،استنكر أبوها ذلك من وصفها إيّاه،فقال لها:و ما علمك بذلك،فقالت:أمّا قوّته فما رأيت من علاجه ما عالج عند السّقي على البئر، و أمّا الأمانة فما رأيت من غضّ البصر عنّي.(20:63)

الطّوسيّ: الأمانة خاصّة للتّأدية على ما يلزم فيها، و هي ضدّ الخيانة،و الثّقة مثل الأمانة.(8:145)

الزّمخشريّ: و قولها: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ كلام حكيم جامع لا يزاد عليه،لأنّه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان،أعني الكفاية و الأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك و تمّ مرادك.و قد استغنت بإرسال هذا الكلام الّذي سياقه سياق المثل،و الحكمة أن تقول:استأجره لقوّته و أمانته.(3:172)

نحوه النّيسابوريّ(20:39)،و أبو حيّان(7:114).

الفخر الرّازيّ: أمّا قوله: قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ... ففيه مسائل:

المسألة الأولى:وصفته بالقوّة لما شاهدت من كيفيّة السّقي،و بالأمانة لما حكينا من غضّ بصره حال ذودهما الماشية،و حال سقيه لهما،و حال مشيه بين يديها إلى أبيها.

المسألة الثّانية:إنّما جعل خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ اسما و اَلْقَوِيُّ الْأَمِينُ خبرا مع أنّ العكس أولى،لأنّ العناية هي سبب التّقديم.

المسألة الثّالثة:القوّة و الأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضمّ إليهما الفطنة و الكياسة،فلم أهمل أمر الكياسة؟و يمكن أن يقال:إنّها داخلة في الأمانة.

ص: 478

(24:242)

البروسويّ: روي أنّ شعيبا قال لها:و ما أعلمك بقوّته و أمانته؟فذكرت له ما شاهدت منه:من إقلال الحجر عن رأس البئر،و نزع الدّلو الكبير،و إنّه خفض رأسه عند الدّعوة و لم ينظر إلى وجهها تورّعا حتّى بلّغته رسالته،و أنّه أمرها بالمشي خلفه؛فخصّت هاتين الخصلتين بالذّكر لأنّها كانت تحتاج إليهما من ذلك الوقت،أمّا القوّة فلسقي الماء.و أمّا الأمانة فلحفظ البصر و صيانة النّفس عنها،كما قال يوسف عليه السّلام: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف:55،لأنّ الحفظ و العلم كان محتاجا إليهما، أمّا الحفظ فلأجل ما في خزانة الملك،و أمّا العلم فلمعرفة ضبط الدّخل و الخرج.(6:397)

الطّباطبائيّ: و في حكمها بأنّه قويّ أمين دلالة على أنّها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلّت به على قوّته،و كذا من ظهور عفّته في تكليمهما و سقي أغنامهما،ثمّ في صحبته لهما عند ما انطلق إلى شعيب حتّى أتاه ما استدلّت به على أمانته.

(16:26)

2- وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. التّين:3.

ابن عبّاس: البلد الأمين:مكّة.

مثله مجاهد،و قتادة،و ابن زيد،و النّخعيّ.

(الطّوسيّ 10:376)

عكرمة :البلد الحرام.

مثله الحسن.(الطّبريّ 30:242)

ابن زيد :المسجد الحرام.(الطّبريّ 30:242)

الفرّاء: مكّة،يريد:الآمن،و العرب تقول للآمن:

الأمين.[ثمّ استشهد بشعر](3:276)

نحوه الطّوسيّ.(10:376)

الهرويّ: يعني مكّة،كان قبل مبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم آمنا، لا يغار عليه،كما كانت العرب يغير بعضها على بعض.(1:92)

الميبديّ: يعني و هذا البلد الآمن أهله و هو مكّة، كقوله: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آل عمران:97،يأمن فيه النّاس في الجاهليّة و الإسلام،و قيل في معنى (الامين):أي مأمون على ما أودعه اللّه من معالم دينه.(10:542)

الزّمخشريّ: (الأمين)من أمن الرّجل أمانة فهو أمين،و قيل:أمّان كما قيل:كرّام في كريم.و أمانته أنّه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.و يجوز أن يكون«فعيلا»بمعنى«مفعول»من أمنه،لأنّه مأمون الغوائل،كما وصف بالأمن في قوله تعالى: حَرَماً آمِناً القصص:57،بمعنى ذي أمن.(4:268)

مثله النّسفيّ(4:366)،و النّيسابوريّ(30:128)، و أبو حيّان(8:490)،و البروسويّ(10:467).

أبو البركات: فيه وجهان:

أحدهما:أن يكون(الامين)من الأمن فيكون «فعيلا»بمعنى«فاعل»كعليم بمعنى عالم.

و الثّاني:أن يكون(الامين)بمعنى المؤمن،أي يؤمن من يدخله على ما قال تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آل عمران:97،فيكون«فعيل»بمعنى«مفعل»كحكيم بمعنى محكم،و سميع بمعنى مسمع.[ثمّ استشهد بشعر]

(2:521)

ص: 479

الفخر الرّازيّ: ذكروا في كونه أمينا وجوها:

أحدها:أنّ اللّه تعالى حفظه عن الفيل،على ما يأتيك شرحه إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيها:أنّها تحفظ لك جميع الأشياء فمباح الدّم عند الالتجاء إليها،آمن من السّباع و الصّيود،تستفيد منها الحفظ عند الالتجاء إليها.

و ثالثها:ما روي أنّ عمر كان يقبّل الحجر،و يقول:

إنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع و لو لا أنّي رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقبّلك ما قبّلتك،فقال له عليّ عليه السّلام:أما أنّه يضرّ و ينفع إنّ اللّه تعالى لمّا أخذ على ذرّيّة آدم الميثاق كتبه في رقّ أبيض،و كان لهذا الرّكن يومئذ لسان و شفتان و عينان، فقال:افتح فاك فألقمه ذلك الرّق،و قال:تشهد لمن وافاك بالموافاة إلى يوم القيامة،فقال عمر:لا بقيت في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.(32:10)

الآلوسيّ: أقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه كثير،فأمّا(البلد الامين)فمكّة حماها اللّه تعالى بلا خلاف.و جاء في حديث مرفوع:و هو مكان البيت الّذي هو هدى للعالمين و مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و مبعثه.

و(الامين)فعيل،إمّا بمعنى«فاعل»أي الآمن من أمن الرّجل بضمّ الميم أمانة فهو أمين،و جاء أمّان أيضا، كما جاء كريم و كرّام.و لم يسمع«آمن»اسم فاعل و سمع على معنى النّسب،كما في قوله تعالى: حَرَماً آمِناً القصص:57،بمعنى ذي أمن.و أمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه،ففيه تشبيه بالرّجل الأمين.

و إمّا بمعنى«مفعول»أي المأمون من«أمنه»أي لم يخفه،و نسبته إلى(البلد)مجازيّة،و المأمون حقيقة «النّاس»أي لا تخاف غوائلهم فيه،أو الكلام على الحذف و الإيصال،أي المأمون فيه من الغوائل.(30:173)

الطّباطبائيّ: المراد ب هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ مكّة المشرّفة،لأنّ الأمن خاصّة مشرّعة للحرم و هي فيه، قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً العنكبوت:

67،و في دعاء إبراهيم عليه السّلام على ما حكى اللّه عنه: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً البقرة:126،و في دعائه ثانيا:

رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35.

و في الإشارة:ب(هذا)إلى(البلد)تثبيت التّشريف عليه بالتّشخيص،و توصيفه ب(الأمين)إمّا لكونه «فعيلا»بمعنى«الفاعل»و يفيد معنى النّسبة،و المعنى ذي الأمن ك(اللاّبن و التّامر)،و إمّا لكونه«فعيلا»بمعنى «المفعول»و المراد البلد الّذي يؤمّن النّاس فيه،أي لا يخاف فيه من غوائلهم.ففي نسبة«الأمن»إلى البلد نوع تجوّز.(20:319)

الامانة

إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً. الأحزاب:72

أبيّ بن كعب: من الأمانة:أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها.(الطّبريّ 22:55)

ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع و غيرها.و روي عنه:أنّها في كلّ الفرائض،و أشدّها أمانة المال.(القرطبيّ 14:254)

ص: 480

الأمانة أداء الصّلاة،و إيتاء الزّكاة،و صوم رمضان و حجّ البيت،و صدق الحديث،و قضاء الدّين،و العدل في المكيال و الميزان،و أشدّ من هذا كلّه الودائع.

(البغويّ 5:229)

أبو الدّرداء: غسل الجنابة أمانة،و أنّ اللّه تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها.

(القرطبيّ 14:254)

الإمام عليّ عليه السّلام: [في حديث]أنّ عليّا عليه السّلام إذا حضر وقت الصّلاة يتململ و يتزلزل و يتلوّن،فيقال له:

ما لك يا أمير المؤمنين؟فيقول:جاء وقت الصّلاة،وقت أمانة عرضها اللّه على السّماوات و الأرض فأبين أن يحملنها و أشفقن منها.(العروسيّ 4:313)

في حديث طويل يقول فيه عليه السّلام لبعض الزّنادقة و قد قال،و أجده يقول: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً الأحزاب:

72،فما هذه الأمانة و من هذا الإنسان؟و ليس من صفة العزيز الحكيم التّلبيس على عباده؟

و أمّا الأمانة الّتي ذكرتها فهي الأمانة الّتي لا تجب و لا تجوز أن تكون إلاّ في الأنبياء و أوصيائهم،لأنّ اللّه تبارك و تعالى ائتمنهم على خلقه و جعلهم حججا في أرضه،فبالسّامريّ و من اجتمع معه و أعانه من الكفّار على عبادة العجل عند غيبة موسى عليه السّلام ما تمّ انتحال مجلس موسى من الطّعام،و الاحتمال لتلك الأمانة الّتي لا ينبغي إلاّ لطاهر من الرّجس فاحتمل وزرها و وزر من سلك سبيله من الظّالمين و أعوانهم،و لذلك قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من استنّ سنّة حقّ كان له أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة،و من استنّ سنّة باطل كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

(العروسيّ 4:313)

و هناك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام فيها تأويل الأمانة بالولاية لهم،راجع(العروسيّ 4:313).

ابن عبّاس: الفرائض الّتي افترضها اللّه على عباده.

(الطّبريّ 22:54)

مثله مجاهد(الطّبرسيّ 4:373)،و سعيد بن جبير (الطّبريّ 22:54).

معنى الأمانة:الطّاعة للّه.(الطّوسيّ 8:367)

مثله الحسن.(الهرويّ 1:94) أبو العالية :هي ما أمر اللّه به من طاعته،و نهى عنه عن معصيته.(الطّبرسيّ 4:373)

الضّحّاك: هي أمانات النّاس و الوفاء بالعهود، فأوّلها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله و ولده حين أراد التّوجّه إلى مكّة عن أمر ربّه،فخان قابيل إذ قتل هابيل.

مثله السّدّيّ.(الطّبرسيّ 4:373)

قتادة :يعني به الدّين و الفرائض و الحدود.

(الطّبريّ 22:55)

زيد بن أسلم: الأمانة هنا:سرائر الطّاعات و خفايا الشّرع الّتي لم يطّلع عليها الخلق،كالنّيّات في الأعمال،و الطّهارة في الصّلاة،و تحسين الصّلاة في الخلوة، و كالصّيام و الغسل من الجنابة.(الميبديّ 8:93)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في معنى ذلك،فقال

ص: 481

بعضهم:معناه إنّ اللّه عرض طاعته و فرائضه على السّماوات و الأرض و الجبال،على أنّها إن أحسنت أثيبت و جوزيت،و إن ضيّعت عوقبت،فأبت حملها،شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها،و حملها آدم.

و قال آخرون:بل عني:ب(الامانة)في هذا الموضع:

أمانات النّاس.

و قال آخرون:بل ذلك إنّما عني به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله و ولده،و خيانة قابيل أباه في قتله أخاه.

و أولى الأقوال في ذلك بالصّواب ما قاله الّذين قالوا:

إنّه عني ب(الامانة)في هذا الموضع:جميع معاني الأمانات في الدّين،و أمانات النّاس؛و ذلك أنّ اللّه لم يخصّ بقوله:

عَرَضْنَا الْأَمانَةَ بعض معاني الأمانات،لما وصفنا.(22:53-57)

القمّيّ: (الامانة)هي الإمامة و الأمر و النّهي، و الدّليل على أنّ(الأمانة)هي الإمامة،قوله عزّ و جلّ في الأئمّة: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النّساء:58،يعني الإمامة،فالأمانة هي الإمامة عرضت على السّماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها،قال:

أبين أن يدّعوها أو يغصبوها أهلها.(2:198)

الأزهريّ: (الأمانة)هاهنا:النّيّة الّتي يعتقدها الإنسان،لأنّ اللّه ائتمنه عليها و لم يظهر عليها أحدا من خلقه،فمن أضمر من التّوحيد و التّصديق مثل ما أظهر، فقد أدّى الأمانة؛و من أضمر التّكذيب و هو مصدّق باللّسان في الظّاهر،فقد حمل الأمانة و لم يؤدّها،و كلّ من خان فيما اوتمن عليه فهو حامل.(15:516)

مثله الفيروزآباديّ.(4:199)

الطّوسيّ: (الامانة)هي العقد الّذي يلزم الوفاء به ممّا من شأنه أن يؤتمن على صاحبه،و قد عظّم اللّه شأن الأمانة في هذه الآية و أمر بالوفاء بها،و هو الّذي أمر به في أوّل سورة المائدة،و عناه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة:1.[إلى أن قال:]

و قال ابن عبّاس: معنى(الامانة)الطّاعة للّه،و قيل لها:أمانة،لأنّ العبد اؤتمن عليها بالتّمكين منها و من تركها، و قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً هود:7، فرغّب في الأحسن،و زهّد في تركه.

و قيل:من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها، و الرّجل على فرجه أن يحفظاهما من الفاحشة.

و قيل:(الامانة)ما خلق اللّه تعالى في هذه الأشياء من الدّلائل على ربوبيّته و ظهور ذلك منها،كأنّهم أظهروها،و الإنسان جحد ذلك و كفر به.و فائدة هذا العرض إظهار ما يجب من حفظها،و عظم المعصية في تضييعها.(8:367)

الرّاغب: قيل:هي كلمة التّوحيد،و قيل:العدالة، و قيل:حروف التّهجّي،و قيل:العقل،و هو صحيح فإنّ العقل هو الّذي لحصوله يتحصّل معرفة التّوحيد و تجري العدالة و تعلم حروف التّهجّي،بل لحصوله تعلّم كلّ ما في طوق البشر تعلّمه و فعل ما في طوقهم من الجميل فعله و به فضّل على كثير ممّن خلقه.(25)

الفخر الرّازيّ: لمّا أرشد اللّه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق و أدّب النّبيّ عليه السّلام بأحسن الآداب،و بيّن أنّ التّكليف الّذي وجّهه اللّه إلى الإنسان أمر عظيم،فقال:

إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ... الأحزاب:72،أي التّكليف،

ص: 482

و هو الأمر بخلاف ما في الطّبيعة.

و اعلم أنّ هذا النّوع من التّكليف ليس في السّماوات و لا في الأرض،لأنّ الأرض و الجبل و السّماء كلّها على ما خلقت عليه،الجبل لا يطلب منه السّير و الأرض لا يطلب منها الصّعود و لا من السّماء الهبوط،و لا في الملائكة،لأنّ الملائكة و إن كانوا مأمورين منهيّين عن أشياء لكن ذلك لهم كالأكل و الشّرب لنا،فيسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون،كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه،و في الآية مسائل:

الأولى:في(الامانة)وجوه كثيرة،منها من قال:هو التّكليف،و سمّي أمانة لأنّ من قصّر فيه فعليه الغرامة و من وفّر فله الكرامة.و منهم من قال:هو قول لا إله إلاّ اللّه،و هو بعيد،فإنّ السّماوات و الأرض و الجبال بألسنتها ناطقة،بأنّ اللّه واحد لا إله إلاّ هو.و منهم من قال:

الأعضاء،فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها،و الأذن كذلك، و اليد كذلك،و الرّجل و الفرج و اللّسان.و منهم من قال:

معرفة اللّه بما فيها.(25:234)

أبو حيّان: لمّا أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى و اتّقاء اللّه و سداد القول،و رتّب على الطّاعة ما رتّب،بيّن أنّ ما كلّفه الإنسان أمر عظيم،فقال: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ تعظيما لأمر التّكليف.و(الامانة)الظّاهر أنّها كلّ ما يؤتمن عليه من أمر و نهي و شأن دين و دنيا، و الشّرع كلّه أمانة،و هذا قول الجمهور.(7:253)

أبو السّعود: لمّا بيّن عظم شأن طاعة اللّه و رسوله ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم و منال المراعين لها من الفوز العظيم عقّب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التّكاليف الشّرعيّة و صعوبة أمرها، بطريق التّمثيل مع الإيذان،بأنّ ما صدر عنهم من الطّاعة و تركها صدر عنهم بعد القبول و الالتزام.و عبّر عنها ب(الامانة)تنبيها على أنّها حقوق مرعيّة أودعها اللّه تعالى المكلّفين و ائتمنهم عليها،و أوجب عليهم تلقّيها بحسن الطّاعة و الانقياد،و أمرهم بمراعاتها و المحافظة عليها و أدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها.(4:221)

مثله الآلوسيّ(22:96)،و المراغيّ(22:45).

الطّريحيّ: قيل:المراد بالأمانة الطّاعة،و قيل:

العبادة.

روي أنّ عليّا عليه السّلام كان إذا حضر وقت الصّلاة يتململ و يتزلزل،فيقال له:ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول:«جاء وقت الصّلاة وقت أمانة عرضها اللّه على السّماوات و الأرض فأبين أن يحملنها و أشفقن منها» و عرضها على الجمادات.و إباؤها و إشفاقها:مجاز.

(6:202)

الكاشانيّ: ما قيل في تفسير هذه الآية في مقام التّعميم إنّ المراد بالأمانة:التّكليف،و بعرضها عليهنّ:

النّظر إلى استعدادهنّ،و بإبائهنّ:الإباء الطّبيعيّ الّذي هو عدم اللّياقة و الاستعداد،و بحمل الإنسان:قابليّته و استعداده لها،و كونه ظلوما جهولا:لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة و الشّهويّة،و هو وصف للجنس باعتبار الأغلب.و كلّ ما ورد في تأويلها في مقام التّخصيص يرجع إلى هذا المعنى كما يظهر بالتّدبّر.[ثمّ أتى بروايات دلّت على أنّ الأمانة هي الولاية و الإمامة،و قال:]

ص: 483

و يدلّ على أنّ تخصيص(الامانة)بالولاية و الإمامة اللّتين مرجعهما واحد،و الإنسان بالأوّل في هذه الأخبار، لا ينافي صحّة إرادة عمومها لكلّ أمانة و تكليف،و شمول الإنسان كلّ مكلّف لما عرفت في مقدّمات الكتاب من تعميم المعاني و إرادة الحقائق.و في«نهج البلاغة»في جملة وصاياه للمسلمين:ثمّ«أداء الأمانة»فقد خاب من ليس أهلها،أنّها عرضت على السّماوات المبنيّة و الأرض المدحوّة و الجبال ذات الطّول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها،و لو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن،و لكن أشفقن من العقوبة و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ و هو الإنسان إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً [و ذكر رواية تدلّ على أنّ المراد ب(الامانة)الصّلاة،ثمّ قال:]

لا منافاة بين هذه الأخبار حيث خصّصت(الأمانة) تارة بالولاية و الأخرى بما يعمّ كلّ أمانة و تكليف،لما عرفت في مقدّمات الكتاب،من جواز تعميم اللّفظ بحيث يشمل المعاني المحتملة كلّها بإرادة الحقائق تارة و التّخصيص بواحد واحد أخرى.ثمّ أقول ما يقال في تأويل هذه الآية في مقام التّعميم:إنّ المراد ب(الامانة) التّكليف بالعبوديّة للّه على وجهها،و التّقرّب بها إلى اللّه سبحانه،كما ينبغي لكلّ عبد بحسب استعداده لها، و أعظمها الخلافة الإلهيّة لأهلها،ثمّ تسليم من لم يكن من أهلها لأهلها،و عدم إدّعاء منزلتها لنفسه،ثمّ سائر التّكاليف.(4:206)

البروسويّ: الأمانة ضدّ الخيانة،و المراد هنا ما ائتمن عليها،و هي على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى:أنّها التّكاليف الشّرعيّة و الأمور الدّينيّة المرعيّة،و لذا سمّيت«أمانة»لأنّها لازمة الوجود، كما أنّ الأمانة لازمة الأداء.

و في«الإرشاد»عبّر عن التّكاليف الشّرعيّة بالأمانة،لأنّها حقوق مرعيّة أودعها اللّه المكلّفين و ائتمنهم عليها،و أوجب عليهم تلقّيها بحسن الطّاعة و الانقياد،و أمرهم بمراعاتها و المحافظة عليها و أدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها انتهى.

و تلك الأمانة هي العقل أوّلا فإنّ به يحصل تعلّم كلّ ما في طوق البشر تعلّمه و فعل ما في طوقهم فعله من الجميل،و به فضّل الإنسان على كثير من الخلائق،ثمّ التّوحيد و الإيمان باليوم الآخر و الصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ و الجهاد و صدق الحديث و حفظ اللّسان من الفضول و حفظ الودائع،و أشدّها كتم الأسرار و قضاء الدّين و العدالة في المكيال و الميزان و الغسل من الجنابة و النّيّة في الأعمال و الطّهارة في الصّلاة و تحسين الصّلاة في الخلوة و الصّبر على البلاء و الشّكر لدى النّعماء و الوفاء بالعهود و القيام بالحدود و حفظ الفرج الّذي هو أوّل ما خلق اللّه من الإنسان،و قال له:هذه أمانة استودعتكها،و الأذن و العين و اليد و الرّجل و حروف التّهجّي-كما نقله الرّاغب في المفردات-و ترك الخيانة في قليل و كثير لمؤمن و معاهد و غير ذلك ممّا أمر به الشّرع و أوجبه،و هي بعينها المواثيق و العهود الّتي أخذت من الأرواح في عالمها و وضعت أمانة في الجوهر الجماديّ صورة المسمّى بالحجر الأسود لسيادته بين الجواهر، و ألقمه الحقّ تلك المواثيق و هو أمين اللّه لتلك الأمانة.

ص: 484

و المرتبة الثّانية:أنّها المحبّة و العشق و الانجذاب الإلهيّ الّتي هي ثمرة الأمانة الأولى و نتيجتها،و بها فضّل الإنسان على الملائكة؛إذ الملائكة و إن حصل لهم المحبّة في الجملة لكن محبّتهم ليست بمبنيّة على المحن و البلايا و التّكاليف الشّاقّة الّتي تعطي التّرقّي؛إذ التّرقي ليس إلاّ للإنسان،فليس المحنة و البلوى إلاّ له.[ثمّ استشهد بشعر]

و المرتبة الثّالثة:أنّها الفيض الإلهيّ بلا واسطة،و لهذا سمّاه ب(الامانة)لأنّه من صفات الحقّ تعالى فلا يتملّكه أحد،و هذا الفيض إنّما يحصل بالخروج عن الحجب الوجوديّة المشار إليها بالظّلوميّة و الجهوليّة؛و ذلك بالفناء في وجود الهويّة و البقاء ببقاء الرّبوبيّة،و هذه المرتبة نتيجة المرتبة الثّانية و غايتها،فإنّ العشق من مقام المحبّة الصّفاتيّة و هذا الفيض و الفناء من مقام المحبوبيّة الذّاتيّة.

و في هذا المقام يتولّد من القلب طفل خليفة اللّه في الأرض و هو الحامل للأمانة،فالمرتبة الأولى للعوامّ و الثّانية للخواصّ و الثّالثة لأخصّ الخواصّ،و الأولى طريق الثّانية و هي طريق الثّالثة،و لم يجد سرّ هذه الأمانة إلاّ من أتى البيت من الباب.

و كلّ وجه ذكره المفسّرون في معنى(الامانة)حقّ، لكن لمّا كان في المرتبة الأولى كان ظرفا و وعاء للأمانة و لبّه ما في المرتبة الثّانية و لبّ اللّبّ ما في المرتبة الثّالثة، و من اللّه الهداية إلى هذه المراتب،و العناية في الوصول إلى جميع المطالب.(7:249)

الطّباطبائيّ:الأمانة أيّا ما كانت:شيء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثمّ يردّه إلى من أودعه،فهذه الأمانة المذكورة في الآية شيء ائتمن اللّه الإنسان عليه ليحفظ على سلامته و استقامته،ثمّ يردّه إليه سبحانه كما أودعه.

و يستفاد من قوله: لِيُعَذِّبَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ الأحزاب:73،أنّه أمر يترتّب على حمله النّفاق و الشّرك و الإيمان،فينقسم حاملوه باختلاف كيفيّة حملهم إلى منافق و مشرك و مؤمن.فهو لا محالة أمر مرتبط بالدّين الحقّ الّذي يحصل بالتّلبّس به و عدم التّلبّس به،النّفاق و الشّرك و الإيمان.

فهل هو الاعتقاد الحقّ و الشّهادة على توحّده تعالى، أو مجموع الاعتقاد و العمل بمعنى أخذ الدّين الحقّ بتفاصيله مع الغضّ عن العمل به،أو التّلبّس بالعمل به، أو الكمال الحاصل للإنسان من جهة التّلبّس بواحد من هذه الأمور؟

و ليست هي الأوّل،أعني التّوحيد،فإنّ السّماوات و الأرض و غيرهما من شيء توحّده تعالى و تسبّح بحمده،و قد قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ الإسراء:44،و الآية تصرّح بإبائها عنه.

و ليست هي الثّاني،أعني الدّين الحقّ بتفاصيله،فإنّ الآية تصرّح بحمل الإنسان كائنا من كان من مؤمن و غيره له.و من البيّن أنّ أكثر من لا يؤمن لا يحمله و لا علم له به،و بهذا يظهر أنّها ليست بالثّالث و هو التّلبّس بالعمل بالدّين الحقّ تفصيلا.

و ليست هي الكمال الحاصل له بالتّلبّس بالتّوحيد، فإنّ السّماوات و الأرض و غيرهما ناطقة بالتّوحيد فعلا متلبّسة به.

و ليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحقّ

ص: 485

و العلم به؛إذ لا يترتّب على نفس الاعتقاد الحقّ و العلم بالتّكاليف الدّينيّة نفاق و لا شرك و لا إيمان،و لا يستعقب سعادة و لا شقاء و إنّما يترتّب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحقّ و التّلبّس بالعمل.

فبقي أنّها الكمال الحاصل له من جهة التّلبّس بالاعتقاد و العمل الصّالح،و سلوك سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادّة إلى أوج الإخلاص الّذي هو أن يخلصه اللّه لنفسه فلا يشاركه فيه غيره،فيتولّى هو سبحانه تدبير أمره،و هو الولاية الإلهيّة.

فالمراد ب(الامانة)الولاية الإلهيّة،و بعرضها على هذه الأشياء:اعتبارها مقيسة إليها،و المراد بحملها و الإباء عنه:وجود استعدادها و صلاحيّة التّلبّس بها و عدمه.و هذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية، فالسّماوات و الأرض و الجبال على ما فيها من العظمة و الشّدّة و القوّة فاقدة لاستعداد حصولها فيها،و هو المراد بإبائهنّ عن حملها و إشفاقهنّ منها.

لكن الإنسان الظّلوم الجهول لم يأب و لم يشفق من ثقلها و عظم خطرها،فحملها على ما بها من الثّقل و عظم الخطر،فتعقّب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة و عدمه بالخيانة إلى منافق و مشرك و مؤمن، بخلاف السّماوات و الأرض و الجبال،فما منها إلاّ مؤمن مطيع.

فإن قلت:ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظّلوم الجهول حملا لا يتحمّله لثقله و عظم خطره السّماوات و الأرض و الجبال،على عظمتها و شدّتها و قوّتها،و هو يعلم أنّه أضعف من أن يطيق حمله،و إنّما حمله على قبولها ظلمه و جهله،و أجرأه عليه غروره و غفلته عن عواقب الأمور،فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلما و جهلا إلاّ كتقليد مجنون ولاية عامّة يأبى قبولها العقلاء و يشفقون منها،يستدعيها المجنون لفساد عقله و عدم استقامة فكره؟

قلت:الظّلم و الجهل في الإنسان و إن كانا بوجه ملاك اللّوم و العتاب فهما بعينهما مصحّح حمله الأمانة و الولاية الإلهيّة،فإنّ الظّلم و الجهل إنّما يتّصف بهما من كان من شأنه الاتّصاف بالعدل و العلم،فالجبال مثلا لا تتّصف بالظّلم و الجهل،فلا يقال:جبل ظالم أو جاهل لعدم صحّة اتّصافه بالعدل و العلم،و كذلك السّماوات و الأرض لا يحمل عليها الظّلم و الجهل لعدم صحّة اتّصافها بالعدل و العلم،بخلاف الإنسان.

و(الامانة)المذكورة في الآية-و هي الولاية الإلهيّة و كمال صفة العبوديّة-إنّما تتحصّل بالعلم باللّه و العمل الصّالح الّذي هو العدل،و إنّما يتّصف بهذين الوصفين، أعني العلم و العدل الموضوع القابل للجهل و الظّلم،فكون الإنسان في حدّ نفسه و بحسب طبعه(ظلوما جهولا)هو المصحّح لحمل الأمانة الإلهيّة،فافهم ذلك.

فمعنى الآيتين (1)يناظر بوجه معنى قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا... التّين:6،[إلى أن قال:]

فان قلت:ما هو المانع من جعل(الامانة)بمعنى التّكليف و هو الدّين الحقّ،و كون الحمل بمعنى الاستعداد و الصّلاحيّة،و الإباء هو فقده،و العرض هو اعتبارب.

ص: 486


1- 72،73 من الأحزاب.

القياس،فيجري فيه حينئذ جميع ما تقدّم في بيان الانطباق على الآية؟

قلت:نعم لكن التّكليف إنّما هو مطلوب لكونه مقدّمة لحصول الولاية الإلهيّة و تحقّق صفة العبوديّة الكاملة،فهي المعروضة بالحقيقة و المطلوبة لنفسها.[ثمّ قال:]

و لهم في تفسير(الامانة)المذكورة في الآية أقوال مختلفة:

فقيل:المراد بها التّكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنّة،و معصيتها دخول النّار،و المراد بعرضها على السّماوات و الأرض و الجبال اعتبارها بالنّسبة إلى استعدادها،و إباؤهنّ عن حملها و إشفاقهنّ منها عدم استعدادهنّ لها،و حمل الإنسان لها استعداده.و الكلام جار مجرى التّمثيل.

و قيل:المراد بها العقل الّذي هو ملاك التّكليف و مناط الثّواب و العقاب.

و قيل:هي قول:لا إله إلاّ اللّه.

و قيل:هي الأعضاء،فالعين أمانة من اللّه يجب حفظها و عدم استعمالها إلاّ فيما يرتضيه اللّه تعالى،و كذلك السّمع و اليد و الرّجل و الفرج و اللّسان.

و قيل:المراد بها أمانات النّاس،و الوفاء بالعهود.

و قيل:المراد بها معرفة اللّه بما فيها،و هذا أقرب الأقوال من الحقّ،يرجع بتقريب ما إلى ما قدّمناه.

و بالمراجعة إلى ما قدّمناه يظهر ما في كلّ من هذه الأقوال من جهات الضّعف و الوهن فلا تغفل.

(16:348-352)

المصطفويّ: (الامانة)بالمعنى المصدريّ و هو الطّمأنينة و السّكون و عدم الوحشة و الاضطراب،في قبال الحوادث و التّكاليف التّكوينيّة و التّشريعيّة و الإطاعة و التّسليم،و من الطّمأنينة و الاستقرار في قبال التّكاليف التّكوينيّة:حمل النّبوّة و قبول الخلافة، و الاستعداد للولاية،و الأهليّة لتوارد الفيوضات و التّجلّيات الإلهيّة.(1:139)

اماناتهم

1- وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ. المؤمنون:8

الطّبريّ: اختلف القرّاء في قراءة ذلك،فقرأته عامّة قرّاء الأمصار إلاّ ابن كثير وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ على الجمع،و قرأ ذلك ابن كثير (لامانتهم) على الواحدة.

و الصّواب من القراءة في ذلك عندنا (لامانتهم) لإجماع الحجّة من القرّاء عليها.(18:5)

نحوه الطّوسيّ.(7:350)

الميبديّ:قرأ ابن كثير (لامانتهم) على التّوحيد هاهنا و في المعارج،لقوله:(و عهدهم).و قرأ الباقون (لاماناتهم)بالجمع،لقوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ النّساء:58.

و اعلم أنّ الأمانة ثلاث:أوليها الطّاعة و الدّين،و هو قوله: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الأحزاب:72،و الأمانة:

ما ائتمنت عليه من مال أو حديث،و في الحديث عن النّبيّ أنّه قال:«إذا حدّثك الرّجل بحديث فالتفت فهو أمانة، و النّساء عند الرّجال أمانة»،و في الخبر:«أخذتموهنّ

ص: 487

بأمانة اللّه».(6:417)

الزّمخشريّ: قرئ (لامناتهم) سمّي الشّيء المؤتمن عليه و المعاهد عليه أمانة و عهدا،و منه قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النّساء:58، و قال: وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ الأنفال:27،و إنّما تؤدّى العيون لا المعاني،و يخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها.(3:27)

مثله النّسفيّ.(3:114)

الطّبرسيّ: الأمانات ضربان:أمانات اللّه تعالى، و أمانات العباد.فالأمانات الّتي بين اللّه تعالى و بين عباده هي العبادات كالصّيام و الصّلاة و الاغتسال،و أمانات العباد هي مثل الودائع و العواري و البياعات و الشّهادات و غيرها.(4:99)

أبو البركات: إنّما جمع(امانات)جمع أمانة،و هو مصدر.و المصادر لا تجمع،لأنّها تدلّ على الجنس إلاّ أن تختلف أنواعها،فيجوز تثنيتها و جمعها.و الأمانة هاهنا مختلفة،لأنّها تشتمل على سائر العبادات و غيرها من المأمورات.(2:181)

الفخر الرّازيّ: [مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

و اعلم أنّ«الأمانة»تتناول كلّ ما تركه يكون داخلا في الخيانة،و قد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ الأنفال:27،فمن ذلك العبادات الّتي[يكون]المرء مؤتمن عليها،و كلّ العبادات تدخل في ذلك،لأنّها إمّا أن تخفى أصلا كالصّوم و غسل الجنابة و إسباغ الوضوء،أو تخفى كيفيّة إتيانه لها،و قال عليه السّلام:«أعظم النّاس خيانة من لم يتمّ صلاته».

و عن ابن مسعود رضي اللّه عنه: «أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة و آخر ما تفقدون الصّلاة».و من جملة ذلك ما يلتزمه بفعل أو قول فيلزمه الوفاء به كالودائع و العقود و ما يتّصل بهما،و من ذلك الأقوال الّتي يحرم بها العبيد و النّساء لأنّه مؤتمن في ذلك،و من ذلك أن يراعى أمانته فلا يفسدها بغصب أو غيرها.(23:81)

القرطبيّ: قرأ الجمهور: (لِأَماناتِهِمْ) بالجمع،و ابن كثير بالإفراد.و الأمانة و العهد يجمع كلّ ما يحمله الإنسان من أمر دينه و دنياه قولا و فعلا.و هذا يعمّ معاشرة النّاس و المواعيد و غير ذلك،و غاية ذلك حفظه و القيام به.

و الأمانة أعمّ من العهد،و كلّ عهد فهو أمانة فيما تقدّم فيه قول أو فعل أو معتقد.(12:107)

نحوه أبو حيّان.(6:397)

البروسويّ: الأمانة:اسم لما يؤتمن عليه الإنسان.

و في«التّأويلات النّجميّة»:الأمانة الّتي حملها الإنسان و هي الفيض الإلهيّ بلا واسطة في القبول،و ذلك الّذي يختصّ الإنسان بكرامة حمله.[إلى أن قال:]

قال محمّد بن فضل: جوارحك كلّها أمانات عندك أمرت في كلّ واحدة منها بأمر،فأمانة العين:الغضّ عن المحارم و النّظر بالاعتبار،و أمانة السّمع:صيانتها عن اللّغو و الرّفث و إحضارها مجالس الذّكر،و أمانة اللّسان:

اجتناب الغيبة و البهتان و مداومة الذّكر،و أمانة الرّجل:

المشي إلى الطّاعات و التّباعد عن المعاصي،و أمانة الفم:

أن لا يتناول به إلاّ حلالا،و أمانة اليد:أن لا يمدّها إلى حرام و لا يمسكها عن المعروف،و أمانة القلب:مراعاة الحقّ على دوام الأوقات حتّى لا يطالع سواه و لا يشهد

ص: 488

غيره و لا يسكن إلاّ إليه.(6:69)

الآلوسيّ: الأمانات:جمع أمانة،و هي في الأصل مصدر،لكن أريد بها هنا ما ائتمن عليه؛إذ الحفظ للعين لا للمعنى.و أمّا جمعها فلا يعيّن ذلك؛إذ المصادر قد تجمع كما قدّمنا غير بعيد،و كذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك.و الآية عند أكثر المفسّرين عامّة في كلّ ما ائتمنوا عليه و عوهدوا من جهة اللّه تعالى و من جهة النّاس،كالتّكاليف الشّرعيّة و الأموال المودعة و الأيمان و النّذور و العقود و نحوها.

و جمعت الأمانة دون العهد،قيل:لأنّها متنوّعة متعدّدة جدّا بالنّسبة إلى كلّ مكلّف من جهته تعالى، و لا يكاد يخلو مكلّف من ذلك،و لا كذلك العهد.

و جوّز بعض المفسّرين كونها خاصّة فيما ائتمنوا عليه و عوهدوا من جهة النّاس،و ليس بذاك.و يجوز عندي:أن يراد ب«الأمانات»ما ائتمنهم اللّه تعالى عليه من الأعضاء و القوى.[إلى أن قال:]

و يجوز أن تعمّم«الأمانات»بحيث تشمل الأموال و نحوها،و جمعها لما فيها لمن التّعدّد المحسوس المشاهد.(18:11)

نحوه الطّباطبائيّ.(15:11)

المصطفويّ: الظّاهر أنّ الأمانة و العهد بمعناهما الاسميّ،و يمكن أن يراد منهما معناهما المصدريّ.

(1:139)

2- وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ.

المعارج:32

السّدّيّ: إنّ حقوق الشّرع كلّها أمانات قد قبلها المؤمن،و ضمن أداءها بقبول الإيمان.

(الآلوسيّ 29:63)

الكلبيّ: كلّ أحد مؤتمن على ما افترض عليه من العقائد و الأقوال و الأحوال و الأفعال،و من الحقوق في الأموال،و حقوق الأهل و العيال و سائر الأقارب، و المملوكين و الجار و سائر المسلمين.(الآلوسيّ 29:63)

الطّوسيّ: الأمانة:المعاقدة بالطّمأنينة على حفظ ما تدعو إليه الحكمة.

و قيل:الأمانة:معاقدة بالثّقة على ما تدعو إليه الحكمة.و قد عظّم اللّه أمر الأمانة بقوله: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ الأحزاب:

72،و من وحّد لفظ الأمانة،فلأنّها للجنس تقع على القليل و الكثير،و من جمع أراد اختلاف ضروبها.

و قال قوم:المراد بالأمانة الإيمان،و ما أخذه اللّه على عباده من التّصديق بما أوجب عليهم،و العمل بما يجب عليهم العمل به،و يدخل في ذلك الإيمان و غيره.

(10:125)

نحوه الطّبرسيّ.(5:356)

النّسفيّ: (لاماناتهم)مكّيّ،و هي تتناول أمانات الشّرع و أمانات العباد.و قيل:الأمانات:ما تدلّ عليه العقول،و العهد:ما أتى به الرّسول.(4:292)

البروسويّ: الأمانة:اسم لجنس ما يؤتمن عليه الإنسان،سواء من جهة الباري تعالى و هي أمانات الدّين الّتي هي الشّرائع و الأحكام،أو من جهة الخلق و هي الودائع و نحوها،و الجمع بالنّظر إلى اختلاف الأنواع.

و كذا العهد شامل لعهد اللّه و عهد النّاس،و هو ما عقده

ص: 489

الإنسان على نفسه للّه أو لعباده،و هو يضاف إلى المعاهد و المعاهد،فيجوز هنا الإضافة إلى الفاعل و المفعول.

و قال الجنيد قدّس سرّه: الأمانة:المحافظة على الجوارح،و العهد:حفظ القلب مع اللّه على التّوحيد، و الرّعاية:القيام على الشّيء بحفظه و إصلاحه.و قد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الخيانة عند ائتمان،و الكذب عند التّحديث، و الغدر عند المعاهدة،و الفجور عند المخاصمة من خصال المنافق.

قال بعض الكبار: كلّ من اتّصف بالأمانة و كتم الأسرار،سمع كلام الموتى و عذابهم و نعيمهم،كما سمعت البهائم عذاب أهل القبور لعدم النّطق،و كذلك يسمع من اتّصف بالأمانة كلام أعضائه له في دار الدّنيا،لأنّها حيّة ناطقة و لذلك تستشهد يوم القيامة فتشهد و لا يشهد إلاّ عدل مرضيّ بلا شكّ.

و في«التّأويلات النّجميّة»: يشير إلى الأمانة المعروضة على السّماوات و الأرض و الجبال و هي كمال المظهريّة و تمام المضاهاة الإلهيّة،و إلى عهد ميثاق أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الأعراف:172،و رعاية ذلك العهد أن لا يخالفه بالمخالفات الشّرعيّة و الموافقات الطّبيعيّة.

و قال بعضهم:و الّذين هم لأماناتهم الّتي استودعوها بحسب الفطرة من المعارف العقليّة،و عهدهم الّذي أخذ اللّه ميثاقه منهم في الأزل راعون،بأن لم يدنسوا الفطرة بالغواشي الطّبيعيّة و الأهواء النّفسانيّة.(10:166)

الآلوسيّ: كلّ ما أعطاه تعالى للعبد من الأعضاء و غيرها أمانة عنده،فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله و أذن سبحانه له به فقد خان الأمانة،و الخيانة فيها،و كذا الغدر بالعهد من الكبائر،على ما نصّ غير واحد.(29:63)

اماناتكم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الأنفال:27

ابن عبّاس: الأمانة:الأعمال الّتي أمن اللّه عليها العباد،يعني الفريضة.(الطّبريّ 9:223)

ابن زيد :دينكم.(الطّبريّ 9:223)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في معنى الأمانة الّتي ذكرها اللّه في قوله: وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ، فقال بعضهم:

هي ما يخفى عن أعين النّاس من فرائض اللّه.

و قال آخرون:معنى الأمانات هاهنا الدّين.

فتأويل الكلام إذن:يا أيّها الّذين آمنوا لا تنقصوا اللّه حقوقه عليكم من فرائضه،و لا رسوله من واجب طاعته عليكم،و لكن أطيعوهما فيما أمراكم به و نهياكم عنه، لا تنقصوهما،و تخونوا أماناتكم،و تنقصوا أديانكم، و واجب أعمالكم و لازمها لكم،و أنتم تعلمون أنّها لازمة عليكم،و واجبة بالحجج الّتي قد ثبتت للّه عليكم.

(9:223)

الماورديّ: فيه ثلاثة أوجه:

أحدها:فيما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم.

الثّاني:فيما ائتمن اللّه العباد عليه من الفرائض

ص: 490

و الأحكام أن تؤدّوها بحقّها و لا تخونوها بتركها.

و الثّالث:أنّه على العموم في كلّ أمانة أن تؤدّى و لا تخان.(2:310)

الطّوسيّ: الأمانة مأخوذة من«الأمن»بمنع الحقّ، و هي حال يؤمن معها منع الحقّ الّذي تجب فيه التّأدية.(5:124)

الزّمخشريّ: (اماناتكم)فيما بينكم بأن لا تحفظوها.

[إلى أن قال:]

و قيل:(اماناتكم)ما ائتمنكم اللّه عليه من فرائضه و حدوده.و قرأ مجاهد: (و تخونوا امانتكم) على التّوحيد.(2:153)

القرطبيّ: الأمانات:الأعمال الّتي ائتمن اللّه عليها العباد.و سمّيت أمانة لأنّها يؤمن معها من منع الحقّ، مأخوذة من«الأمن».(7:395)

رشيد رضا : وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ أي و لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم و بين أولياء أموركم،من الشّئون السّياسيّة و لا سيّما الحربيّة،و فيما بينكم بعضكم مع بعض من المعاملات الماليّة و غيرها،حتّى الاجتماعيّة و الأدبيّة،فقد ورد في الحديث:«المجالس بالأمانة».رواه الخطيب من حديث عليّ و حسّنوه،و أبو داود عن جابر بزيادة«إلاّ ثلاثة مجالس:سفك دم حرام،أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ»،و هو حسن أيضا.و روى أحمد و أبو داود و التّرمذيّ و حسّنه و الضّياء من حديث جابر أيضا:«إذا حدّث الرّجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة» و رواه أبو يعلى عن أنس،و أشار في«الجامع الصّغير»إلى صحّته.

فإفشاء السّرّ خيانة محرّمة،و يكفي في العلم بكونه سرّا القرينة القوليّة،كقول محدّثك:هل يسمعنا أحد،أو الفعليّة كالالتفات لرؤية من عساه يجيء.و آكد أمانات السّرّ و أحقّها بالحفظ ما يكون بين الزّوجين.

الخيانة من صفات المنافقين،و الأمانة من صفات المؤمنين،و قال أنس بن مالك:قلّما خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ قال:«لا إيمان لمن لا عهد له،و لا دين لمن لا عهد له» رواه أحمد و ابن حبّان في صحيحه.و روى الشّيخان و غيرهما عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«آية المنافق ثلاث:إذا حدّث كذب،و إذا وعد أخلف،و إذا ائتمن خان»زاد مسلم«و إن صام و صلّى و زعم أنّه مسلم».

و قد ورد في الأحاديث إطلاق«الأمانة»على:

الطّاعة و العبادة و الوديعة و الثّقة و الأمان،و ليس المراد بهذا الحصر،بل كلّ ما يجب حفظه فهو أمانة،و كلّ حقّ مادّيّ أو معنويّ يجب عليك أداؤه إلى أهله فهو أمانة.

قال اللّه تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ البقرة:283،و قال:

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النّساء:

58.

و قد أوردنا في تفسير آية النّساء هذه مباحث نفيسة في الأمانات و العدل،منها:«المسألة الثّالثة»في أنواع الأمانة«و المسألة السّادسة»في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة.و أوردنا في هذه ما قاله حكيم الشّرق السّيّد جمال الدّين الأفغانيّ:في بيان كون الأمانة من الصّفات الدّينيّة الّتي قام عليها بناء المدنيّة و بها حفظ العمران، و لا صلاح لحال أمّة و لا بقاء لدولة بدونها،لأنّ عليها

ص: 491

مدار الثّقة في جميع المعاملات،و ناهيكم بما عظّم اللّه من أمر الأمانة في قوله: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً الأحزاب:72.

(9:643)

المراغيّ: الأمانة:كلّ حقّ مادّيّ أو معنويّ يجب عليك أداؤه إلى أهله.قال تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ... البقرة:283.

(9:192)

نحوه الحجازيّ.(9:67)

الامانات

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ... النّساء:58

أبيّ بن كعب: إنّها في كلّ من ائتمن أمانة من الأمانات.و أمانات اللّه:أوامره و نواهيه،و أمانات عباده:

فيما يأتمن بعضهم بعضا من المال و غيره.

مثله ابن مسعود،و ابن عبّاس،و الحسن،و قتادة، و هو المرويّ عن أبي جعفر،و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

(الطّبرسيّ 2:93)

شهر بن حوشب: أنّ المراد به ولاة الأمر،أمرهم اللّه أن يقوموا برعاية الرّعيّة،و حملهم على موجب الدّين و الشّريعة.

مثله مكحول،و زيد بن أسلم،و الجبّائيّ.

(الطّبرسيّ 2:63)

الإمام الباقر عليه السّلام: إنّ أداء الصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ من الأمانة.(العروسيّ 1:497)

عن بريد العجليّ قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النّساء:58،قال:إيّانا عنى أن يؤدّي الأوّل إلى الإمام الّذي بعده الكتب و العلم و السّلاح، وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الّذي في أيديكم، ثمّ قال للنّاس: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ النّساء:59،إيّانا عنى خاصّة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا.

(العروسيّ 1:497)

و في معناها روايات أخرى عن أهل البيت عليهم السّلام تؤول الأمانات إليهم.

ابن جريج: إنّه خطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة،حين قبض منه المفتاح يوم فتح و أراد أن يدفعه إلى العبّاس،لتكون له الحجابة و السّقاية.

(الطّبرسيّ 2:63)

الميبديّ: (الامانات)في القرآن و السّنّة على ثلاثة أوجه:

الأوّل:الطّاعة و الدّين،كقوله: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الأحزاب:72.

و الثّاني:النّساء أمانة عند الرّجال،كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم «أخذتموهنّ بأمانة اللّه و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه».

و الثّالث:المال المؤتمن أو السّرّ الّذي ائتمنت به غيرك،و ذلك قوله تعالى: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ البقرة:283.(2:560)

الفخر الرّازيّ:اعلم أنّ معاملة الإنسان إمّا أن

ص: 492

تكون مع ربّه،أو مع سائر العباد،أو مع نفسه،و لا بدّ من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثّلاثة.

أمّا رعاية الأمانة مع الرّبّ:فهي في فعل المأمورات و ترك المنهيّات،و هذا بحر لا ساحل له.

قال ابن مسعود: الأمانة في كلّ شيء لازمة،في الوضوء و الجنابة و الصّلاة و الزّكاة و الصّوم.

و قال ابن عمر رضي اللّه عنهما: إنّه تعالى خلق فرج الإنسان و قال:هذا أمانة خبّأتها عندك فاحفظها إلاّ بحقّها.

و اعلم أنّ هذا باب واسع،فأمانة اللّسان أن لا يستعمله في الكذب و الغيبة و النّميمة و الكفر و البدعة و الفحش و غيرها،و أمانة العين أن لا يستعملها في النّظر إلى الحرام،و أمانة السّمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي و المناهي و سماع الفحش و الأكاذيب و غيرها،و كذا القول في جميع الأعضاء.

و أمّا القسم الثّاني:و هو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها ردّ الودائع،و يدخل فيه ترك التّطفيف في الكيل و الوزن،و يدخل فيه أن لا يفشي على النّاس عيوبهم،و يدخل فيه عدل الأمراء مع رعيّتهم، و عدل العلماء مع العوامّ بأن لا يحملوهم على التّعصّبات الباطلة،بل يرشدونهم إلى اعتقادات و أعمال تنفعهم في دنياهم و أخراهم،و يدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و نهيهم عن قولهم للكفّار:إنّ ما أنتم عليه أفضل من دين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و يدخل فيه أمر الرّسول عليه الصّلاة و السّلام بردّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة،و يدخل فيه أمانة الزّوجة للزّوج في حفظ فرجها،و في أن لا تلحق بالزّوج ولدا يولد من غيره،و في إخبارها عن انقضاء عدّتها.

و أمّا القسم الثّالث:و هو أمانة الإنسان مع نفسه،فهو أن لا يختار لنفسه إلاّ ما هو الأنفع و الأصلح له في الدّين و الدّنيا،و أن لا يقدم بسبب الشّهوة و الغضب على ما يضرّه في الآخرة،و لهذا قال عليه الصّلاة و السّلام:

«كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته»فقوله:

يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النّساء:58، يدخل فيه الكلّ.و قد عظّم اللّه أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه،فقال: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها الأحزاب:72،و قال: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ المؤمنون:8،و قال: وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ الأنفال:27،و قال عليه السّلام:«لا إيمان لمن لا أمانة له».

و قال ميمون بن مهران: ثلاثة يؤدّين إلى البرّ و الفاجر:الأمانة،و العهد،و صلة الرّحم.

و قال القاضي: لفظ«الأمانة»و إن كان متناولا للكلّ إلاّ أنّه تعالى قال في هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال،لأنّها هي الّتي يمكن أداؤها إلى الغير.

و الأمانة مصدر سمّي به المفعول،و لذلك جمع،فإنّه جعل اسما خالصا.قال صاحب«الكشّاف»:قرئ (الامانة)على التّوحيد.[إلى أن قال:]

اعلم أنّ الأمانة عبارة عمّا إذا وجب لغيرك عليك حقّ فأدّيت ذلك الحقّ إليه فهذا هو الأمانة.و الحكم

ص: 493

بالحقّ عبارة عمّا إذا وجب لإنسان على غيره حقّ فأمرت من وجب عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى من له ذلك الحقّ،و لمّا كان التّرتيب الصّحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع و دفع المضارّ ثمّ يشتغل بغيره، لا جرم أنّه تعالى ذكر الأمر بالأمانة أوّلا،ثمّ بعده ذكر الأمر بالحكم بالحقّ،فما أحسن هذا التّرتيب،لأنّ أكثر لطائف القرآن مودعة في التّرتيبات و الرّوابط.

(10:138)

نحوه النّيسابوريّ(5:64)،و البروسويّ(2:227).

محمّد عبده: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فالكلام متّصل بما قبله بمناسبة قويّة،تجعل السّياق كعقد من الجوهر متناسب اللآلي،فسواء صحّ ما ذكر من حكاية مفتاح الكعبة أو لم يصحّ فإنّ صحّته لا تضرّ بالتئام السّياق و لا بعموم الحكم؛إذ السّبب الخاصّ لا ينافي عموم الحكم.

و الأمانة حقّ عند المكلّف يتعلّق به حقّ غيره، و يودعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير كالمال و العلم، سواء كان المودع عنده ذلك الحقّ قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قوليّ خاصّ صرّح فيه،بأنّه يجب على المودع عنده أن يؤدّي كذا إلى فلان مثلا أم لم يكن كذلك،فإنّ ما جرى عليه التّعامل بين النّاس في الأمور العامّة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الأمور الخاصّة، فالّذي يتعلّم العلم قد أودع أمانة و أخذ عليه العهد بالتّعامل،و العرف بأن يؤدّي هذه الأمانة و يفيد النّاس و يرشدهم بهذا العلم.

و قد أخذ اللّه العهد العامّ على النّاس بهذا التّعامل المتعارف بينهم شرعا و عرفا،بنصّ قوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ آل عمران:187.و لذلك عدّ علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فيجب على العالم أن يؤدّي أمانة العلم إلى النّاس كما يجب على من أودع المال أن يردّه إلى صاحبه.

و يتوقّف أداء أمانة العلم على تعرّف الطّرق الّتي توصل إلى ذلك،فيجب أن تعرف هذه الطّرق لأجل السّير فيها.و إعراض العلماء عن معرفة الطّرق الّتي تتأدّى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الّذي أمروا به،و إخفاء الحقّ بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحقّ.فإذا رأينا الجهل بالحقّ و الخير فاشيا بين النّاس و استبدلت به الشّرور و البدع و رأينا أنّ العلماء لم يعلّموهم ما يجب في ذلك،فيمكننا أن نجزم بأنّ هؤلاء العلماء لم يؤدّوا الأمانة،و هي ما استحفظوا عليه من كتاب اللّه.و لا عذر لهم في ترك استبانة الطّريق الموصل إلى ذلك بسهولة و قرب،فهم خونة النّاس و ليسوا بالأمناء.(رشيد رضا 5:170)

رشيد رضا :الأمانة:ما يؤمن عليه الإنسان من «الأمن»و هو طمأنينة النّفس و عدم الخوف،يقال:أمنته كسمعته على الشّيء هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف:64،و يقال:أمنه بكذا وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ آل عمران:

75،و يقال:ائتمن فلانا،أي عدّه أو اتّخذه أمينا،و ائتمنه على الشّيء كأمنه عليه فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ البقرة:283،و كلّ أمانة يجب حفظها،و منها ما يحفظ فقط

ص: 494

كالسّرّ.

و في الحديث المرفوع:«إذا حدّث الرّجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة»،رواه أحمد،و أبو داود،و التّرمذيّ، و الضّياء عن جابر و أبو يعلى في مسنده عن أنس،و أشار السّيوطيّ في«الجامع الصّغير»إلى صحّته.و منه يعلم أنّ كلّ ما يدلّ على الائتمان من قول و عمل و عرف و قرينة يجب اعتباره و العمل به،و تقدّم تصريح الأستاذ الإمام بذلك،و منها-أي الأمانة-يحفظ ليؤدّى إلى صاحبه سواء كان هو الّذي ائتمنك عليه أو غيره لأجله.

و يسمّى من يحفظ الأمانة و يؤدّيها:حفيظا و أمينا و وفيّا،و يسمّى من لا يحفظها أو لا يؤدّيها:خائنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الأنفال:27،فمن خان عالما عامدا كان من العصاة،و وجب عليه الضّمان.[إلى أن قال:]

الأمانة على أنواع،و لذلك جمعت في الآية و في سورة الأنفال:27،بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ و سورة المؤمنون:8، و المعارج:32،بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ، و قد ذكرنا عن الأستاذ الإمام أمانة العلم و أمانة المال،و جعلها بعضهم ثلاثا.[ثمّ ذكر مثل الفخر الرّازيّ،و فيه مباحث أخرى فلاحظ](5:173)

نحوه أبو حيّان(3:277)،و المراغيّ(5:69).

الطّباطبائيّ: الفقرة الثّانية من الآية: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ظاهرة الارتباط بالآيات السّابقة عليها،فإنّ البيان الإلهيّ فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنّهم أهدى سبيلا من المؤمنين،و قد وصفهم اللّه تعالى في أوّل بيانه بأنّهم أوتوا نصيبا من الكتاب،و الّذي في الكتاب هو تبيين آيات اللّه و المعارف الإلهيّة،و هي أمانات مأخوذة عليها الميثاق أن تبيّن للنّاس،و لا تكتم عن أهله.

و هذا الّذي ذكر من القرائن يؤيّد أن يكون المراد ب(الامانات)ما يعمّ الأمانات الماليّة و غيرها من المعنويّات،كالعلوم و المعارف الحقّة الّتي من حقّها أن يبلغها حاملوها أهلها من النّاس.

و بالجملة لمّا خانت اليهود الأمانات الإلهيّة المودعة عندهم من العلم بمعارف التّوحيد و آيات نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،فكتموها و لم يظهروها في واجب وقتها،ثمّ لم يقنعوا بذلك حتّى جاروا في الحكم بين المؤمنين و المشركين،فحكموا للوثنيّة على التّوحيد،فآل أمرهم فيه إلى اللّعن الإلهيّ،و جرّ ذلك إيّاهم إلى عذاب السّعير.

فلمّا كان من أمرهم ما كان،غيّر سبحانه سياق الكلام من التّكلّم إلى الغيبة،فأمر النّاس بتأدية الأمانات إلى أهلها و بالعدل في الحكم فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها....

و الّذي وسّعنا به معنى تأدية الأمانات و العدل في الحكم هو الّذي يقضي به السّياق على ما عرفت،فلا يرد عليه أنّه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة و الحكم،فإنّ المتبادر في مرحلة التّشريع من مضمون الآية وجوب ردّ الأمانة الماليّة إلى صاحبها،و عدل القاضي و هو الحكم في مورد القضاء الشّرعيّ؛و ذلك أنّ التّشريع المطلق لا يتقيّد بما يتقيّد به موضوعات الأحكام الفرعيّة في الفقه،بل القرآن مثلا يبيّن وجوب ردّ الأمانة على

ص: 495

الإطلاق،و وجوب العدل في الحكم على الإطلاق،فما كان من ذلك راجعا إلى الفقه من الأمانة الماليّة،و القضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه،و ما كان غير ذلك استفاد منه فنّ أصول المعارف،و هكذا.(4:378)

الحجازيّ: الأمانات:جمع أمانة،و هي ما يؤتمن عليها الشّخص،و تعمّ جميع الحقوق المتعلّقة بذممهم،من حقوق عند الشّخص للّه،أو للنّاس،أو لنفسه.(5:27)

أمنا

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى... البقرة:125

مجاهد :تحريمه،لا يخاف فيه من دخله.

(الطّبريّ 1:534)

الرّبيع: أمنا من العدوّ أن يحمل فيه السّلاح،و قد كان في الجاهليّة يتخطّف النّاس من حولهم،و هم آمنون لا يسبون.(الطّبريّ 1:534)

ابن زيد :من أمّ إليه فهو آمن،كان الرّجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.(الطّبريّ 1:534)

الطّبريّ: الأمن:مصدر من قول القائل:أمن يأمن أمنا.و إنّما سمّاه اللّه أمنا،لأنّه كان في الجاهليّة معاذا لمن استعاذ به،و كان الرّجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه و لم يعرض له حتّى يخرج منه،و كان كما قال اللّه جلّ ثناؤه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً العنكبوت:67.(1:534)

نحوه الطّوسيّ.(1:452)

الماورديّ:(و أمنا)فيه قولان:

أحدهما:لأمنه في الجاهليّة من مغازي العرب لقوله:

وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:4.

و الثّاني:لأمن الجناة فيه من إقامة الحدود عليهم حتّى يخرجوا منه.(1:186)

الزّمخشريّ: موضع أمن،كقوله: حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ العنكبوت:67،و لأنّ الجاني يأوي إليه فلا يتعرّض له حتّى يخرج.(1:310)

ابن عطيّة: معناه أنّ النّاس يغيرون و يقتتلون حول مكّة،و هي آمنة من ذلك،يلقى الرّجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه،لأنّ اللّه تعالى جعل لها في النّفوس حرمة، و جعلها أمنا للنّاس و الطّير و الوحوش،و خصّص الشّرع من ذلك الخمس الفواسق على لسان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.

(1:207)

الفخر الرّازيّ: أمّا قوله تعالى: وَ أَمْناً أي موضع أمن،ثمّ لا شكّ أنّ قوله: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً البقرة:125،خبر.فتارة نتركه على ظاهره و نقول:إنّه خبر،و تارة نصرفه عن ظاهره و نقول:إنّه أمر.

أمّا القول الأوّل:فهو أن يكون المراد أنّه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط و الجدب،على ما قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً العنكبوت:67،و قوله:

أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ القصص:57،و لا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم،لأنّا نشاهد أنّ القتل الحرام قد يقع فيه،و أيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه،قال اللّه تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ البقرة:

ص: 496

أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ القصص:57،و لا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم،لأنّا نشاهد أنّ القتل الحرام قد يقع فيه،و أيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه،قال اللّه تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ البقرة:

191،فأخبر عن وقوع القتل فيه.

القول الثّاني:أن نحمله على الأمر على سبيل التّأويل،و المعنى أنّ اللّه تعالى أمر النّاس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنا من الغارة و القتل،فكان البيت محترما بحكم اللّه تعالى،و كانت الجاهليّة متمسّكين بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه،و كانوا يسمّون قريشا:أهل اللّه، تعظيما له،ثمّ اعتبر فيه أمر الصّيد.حتّى أنّ الكلب ليهمّ بالظّبي خارج الحرم،فيفرّ الظّبي منه،فيتبعه الكلب،فإذا دخل الظّبي الحرم لم يتبعه الكلب.و رويت الأخبار في تحريم مكّة،قال عليه الصّلاة و السّلام:«إنّ اللّه حرّم مكّة و إنّها لم تحلّ لأحد قبلي و لا تحلّ لأحد بعدي،و إنّما أحلّت لي ساعة من نهار و قد عادت حرمتها كما كانت».

فذهب الشّافعيّ رضي اللّه عنه إلى أنّ المعنى أنّها لم تحلّ لأحد بأن ينصب الحرب عليها،و أنّ ذلك أحلّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

فأمّا من دخل البيت من الّذين تجب عليهم الحدود، فقال الشّافعيّ رضي اللّه عنه:إنّ الإمام يأمر بالتّضييق عليه بما يؤدّي إلى خروجه من الحرم،فإذا خرج أقيم عليه الحدّ في الحلّ،فإن لم يخرج حتّى قتل في الحرم جاز، و كذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه.

و قال أبو حنيفة رحمه اللّه:لا يجوز.

و احتجّ الشّافعيّ رحمه اللّه بأنّه عليه الصّلاة و السّلام أمر عند ما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح و خبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكّة غيلة إن قدر عليه.

قال الشّافعيّ رحمه اللّه:و هذا في الوقت الّذي كانت مكّة فيه محرّمة،فدلّ أنّها لا تمنع أحدا من شيء وجب عليه،و أنّها إنّما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها،و احتجّ أبو حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية.

و الجواب عنه:أنّ قوله:(و أمنا)ليس فيه بيان أنّه جعله أمنا فيما ذا،فيمكن أن يكون أمنا من القحط،و أن يكون أمنا من نصب الحروب،و أن يكون أمنا من إقامة الحدود.و ليس اللفظ من باب العموم حتّى يحمل على الكلّ،بل حمله على الأمن من القحط و الآفات أولى،لأنّا على هذا التّفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر،و في سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك،فكان قول الشّافعي رحمه اللّه أولى.(4:52)

البيضاويّ: و موضع أمن لا يتعرّض لأهله،كقوله تعالى: حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ العنكبوت:67،أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة،من حيث إنّ الحجّ يجبّ ما قبله.أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتّى يخرج،و هو مذهب أبي حنيفة رضي اللّه عنه.(1:81)

نحوه الآلوسيّ.(1:378)

أبو حيّان: و الأمن مصدر جعل البيت إيّاه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن،أو على حذف مضاف،أي ذا أمن،أو على أنّه أطلق على اسم الفاعل مجازا،أي آمنا،كما قال تعالى: اِجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إبراهيم:35.

و جعله آمنا اختلفوا هل ذلك في الدّنيا أو في الآخرة؟

ص: 497

فمن قال:إنّه في الدّنيا،فقيل:معناه أنّ النّاس كانوا يقتتلون و يغير بعضهم على بعض حول مكّة،و هي آمنة من ذلك،و يلقى الرّجل قاتل أبيه فلا يهيجه لأنّه تعالى جعل لها في النّفوس حرمة،و جعلها أمنا للنّاس و الطّير و الوحش إلاّ الخمس الفواسق،فخصّصت من ذلك على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

و أمّا من أحدث حدثا خارج الحرم ثمّ أتى الحرم ففي أمنه من أن يهاج فيه،خلاف مذكور في الفقه.

و قيل:معناه إنّه آمن لأهله يسافر أحدهم الأماكن البعيدة فلا يروعه أحد.

و قيل:معناه إنّه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه و بين من قصده.

و من قال:هذا الأمن في الآخرة،قيل:من المكر عند الموت،و قيل:من عذاب النّار،و قيل:من بخس ثواب من قصده.

قال قوم:و هذا الأمن مختصّ بالبيت،و قيل:يشمل البيت و الحرم.

و قال في«ريّ الظّمآن»:معناه ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكّان البوادي و سائر بلدان العرب.

و الظّاهر أنّ قوله:(و أمنا)معطوف على قوله:

(مثابة)و يفسّر«الأمن»بما تقدّم ذكره.

و ذهب بعضهم إلى أنّ المعنى:على الأمر،التّقدير:

و اجعلوه آمنا،أي جعلناه مثابة للنّاس فاجعلوه آمنا لا يتعدّى فيه أحد على أحد،فمعناه أنّ اللّه أمر النّاس أن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة و القتل،و كان البيت محرّما بحكم اللّه.

و ربّما يؤيّد هذا التّأويل بقراءة من قرأ(و اتّخذوا) على الأمر،فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمريّة على جملة خبريّة،و على القول الظّاهر يكون من عطف المفردات.(1:380)

رشيد رضا :و المعنى و اذكر أيّها الرّسول-أو أيّها النّاس-إذ جعلنا البيت الحرام مثابة للنّاس و أمنا أي ذا أمن،بأن خلقنا-بما لنا من القدرة-في قلوب النّاس من الميل إلى حجّه،و الرّحلة إليه المرّة بعد المرّة،من كلّ فجّ و صوب ما كان به مثابة لهم،و من احترامه و تعظيمه و عدم سفك دم فيه ما كان به أمنا.و لفظ(البيت)من الأعلام الغالبة على بيت اللّه الحرام بمكّة كالنّجم على الثّريّا،كان كلّ عربيّ يفهم هذا من إطلاق الكلمة.

يذكّر اللّه تعالى العرب بهذه النّعمة أو النّعم العظيمة، و هي جعل البيت الحرام مرجعا للنّاس يقصدونه ثمّ يثوبون إليه،و مأمنا لهم في تلك البلاد،بلاد المخاوف الّتي يتخطّف النّاس فيها من كلّ جانب،و بدعوة إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام للبيت و أهله المؤمنين.و في هذا التّذكير ما فيه من الفائدة في تقرير دعوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و بيان بنائها على أصول ملّة إبراهيم،الّذي تحترمه قريش و غيرها من العرب.

و قد اختار«المثابة»على نحو القصد و المزار،لأنّ لفظ المثابة يتضمّن هذا و زيادة،فإنّه لا يقال:ثاب المرء إلى الشّيء إلاّ إذا كان قصده أوّلا ثمّ رجع إليه.و لمّا كان البيت معبدا و شعارا عامّا كان النّاس الّذين يدينون بزيارته و القصد إليه للعبادة يشتاقون الرّجوع إليه،فمن

ص: 498

سهل عليه أن يثوب إليه فعل،و من لم يتمكّن من الرّجوع إليه بجثمانه،رجع إليه بقلبه و وجدانه.

و كونه(مثابة للنّاس)أمر معروف في الجاهليّة و الإسلام،و هو يصدق برجوع بعض زائريه إليه،و حنين غيرهم و تمنّيهم له عند عجزهم عنه.و كذلك جعله(أمنا) معروف عندهم،فقد كان الرّجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يزعجه،على ما هو معروف عندهم من حبّ الانتقام و التّفاخر بأخذ الثّأر.

الأستاذ الإمام:قد يقال:ما وجه المنّة على العرب عامّة بكون البيت أمنا للنّاس،و الفائدة فيه إنّما هي للجناة،و الضّعفاء الّذين لا يقدرون على المدافعة عن أنفسهم؟

و الجواب عن هذا:أنّه ما من قويّ إلاّ و يوشك أن يضطرّ في يوم من الأيّام إلى مفزع يلجأ إليه لدفع عدوّ أقوى منه،أو لهدنة يصطلح في غضونها مع خصم يرى سلمه خيرا من حربه،و ولاءه أولى من عدائه؛فبلاد كلّها أخطار و مخاوف لا راحة فيها لأحد.و قد بيّن اللّه المنّة على العرب إذ جعل لهم مكانا آمنا بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...

العنكبوت:67.(1:460)

امنة

1- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ... آل عمران:154

ابن قتيبة :الأمن،يقال:وقعت الأمنة في الأرض، و منه يقال:أعطيته أمانا،أي عهدا يأمن به.(114)

الطّبريّ:و هي الأمان على أهل الإخلاص منكم، و اليقين دون أهل النّفاق و الشّكّ.ثمّ بيّن جلّ ثناؤه عن الأمنة الّتي أنزلها عليهم ما هي؟فقال:نعاسا،بنصب النّعاس على الإبدال من الأمنة.(4:139)

الزّجّاج: أي أعقبكم بما نالكم من الرّعب أن أمنكم أمنا تنامون معه،لأنّ الشّديد الخوف لا يكاد ينام.

و(امنة):اسم،تقول:أمن الرّجل أمنا و أمنة،إذا ينله خوف.(1:479)

الطّوسيّ: و(امنة)منصوب،لأنّه مفعول به، و(نعاسا)بدل منه،و النّعاس هو الأمنة.

و هذه«الأمنة»الّتي ذكرها اللّه في هذه الآية نزلت يوم أحد،في قول عبد الرّحمن بن عوف،و أبي طلحة، و الزّبير بن العوامّ،و قتادة،و الرّبيع.

و كان السّبب في ذلك توعّد المشركين لهم بالرّجوع،

فكانوا تحت الجحف متهيّئين للقتال،فأنزل اللّه تعالى«الأمنة»على المؤمنين،فناموا،دون المنافقين الّذين أزعجهم الخوف،بأن يرجع الكفّار عليهم أو يغيروا على المدينة لسوء الظّنّ،فطيّر عنهم النّوم،على ما ذكره ابن إسحاق،و ابن زيد،و قتادة،و الرّبيع.

(3:23)

الواحديّ:الأمنة:مصدر كالأمن،و مثله من المصادر:العظمة و الغلبة،و قال الجبّائيّ:يقال:أمن فلان يأمن أمنا و أمنة و أمانا.(الفخر الرّازيّ 9:44)

الرّاغب: أي أمنا،و قيل:هي جمع كالكتبة.و في حديث نزول المسيح:و تقع الأمنة في الأرض.(26)

الزّمخشريّ: الأمنة:الأمن،و قرئ(أمنة)بسكون

ص: 499

الميم،كأنّها المرّة من الأمن،و(نعاسا)بدل من(أمنة).

و يجوز أن يكون هو المفعول و(أمنة)حالا منه مقدّمة عليه،كقوله:رأيت راكبا رجلا،أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة.و يجوز أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة، أو على أنّه جمع«آمن»كبارّ و بررة.(1:471)

مثله البيضاويّ(1:187)،و نحوه النّيسابوريّ(4:

96).

القرطبيّ:الأمنة و الأمن سواء.و قيل:الأمنة إنّما تكون مع أسباب الخوف،و الأمن مع عدمه،و هي منصوبة ب(انزل)،و(نعاسا)بدل منها.و قيل:نصب على المفعول له،كأنّه قال:أنزل عليكم للأمنة نعاسا.و قرأ ابن محيصن(امنة)بسكون الميم.(4:241)

نحوه أبو حيّان.(3:85)

الطّريحيّ:الأمنة:الأمن:مصدر أمنت.

و الأمنة أيضا:الّذي يثق بكلّ شيء،و كذلك الأمنة كهمزة.و الأمن:الأمان.(6:204)

الآلوسيّ:(امنة)مصدر كالمنعة،و هو مفعول(انزل) أي ثمّ أنزل عليكم أمنا.(نعاسا)بدل اشتمال منها،و قيل:

عطف بيان.و جوّز أن يكون(نعاسا)منصوبا على المفعوليّة و(امنة)حال منه،و المراد ذا أمنة.

و لا يضرّ كونها من النّكرة لتقدّمها،أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف،أي ذوي أمنة،أو على أنّه جمع آمن،كبارّ و بررة.

و قيل:إنّ(امنة)مفعول له ل(نعاسا).

و اعترض بأنّه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه،و إن التزم تقدير فعل،أي نعستم أمنة.

و ردّ أنّه ليس للفعل موقع حسن،و قيل:إنّه مفعول له ل(انزل).

و اعترض بأنّه فاسد،لاختلال شرطه و هو اتّحاد الفاعل؛إذ فاعل(انزل)هو اللّه تعالى و فاعل الأمنة هو المنزل عليهم.

و ردّ بأنّ الأمنة كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقعه،و المراد هنا الثّاني،كأنّه قيل:

أنزل عليكم النّعاس ليؤمنكم به،و حينئذ لا شبهة في اتّحاد الفاعل.

و قرئ بسكون الميم كأنّها لوقوعها في زمن يسير مرّة من الأمن،فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن.

و تقديم الظّرفين على المفعول الصّريح للاعتناء بشأن المقدّم و التّشويق إلى المؤخّر.(4:93)

الطّباطبائيّ:الأمنة بالتّحريك:الأمن،و النّعاس:

ما يتقدّم النّوم من الفتور،و هو نوم خفيف.و(نعاسا)بدل من(امنة)للملازمة عادة و ربّما احتمل أن يكون(امنة) جمع آمن،كطالب و طلبة،و هو حينئذ حال من ضمير (عليكم)و(نعاسا)مفعول قوله:(انزل).(4:46)

المصطفويّ:مصدر كالغلبة،و هي بزيادة مبناها على«الأمن»تدلّ على كثرة الأمن.(1:139)

2- إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ... الأنفال:11

مجاهد :أمانا من اللّه عزّ و جلّ.(الطّبريّ 9:194)

أبو عبيدة :و هي مصدر بمنزلة:أمنت أمنة و أمانا و أمنا،كلّهنّ سواء.(1:242)

الطّبريّ: يقول:أمانا من اللّه لكم من عدوّكم أن

ص: 500

يغلبكم،و كذلك النّعاس في الحرب أمنة من اللّه عزّ و جلّ.

و الأمنة:مصدر من قول القائل:أمنت من كذا أمنة و أمانا و أمنا،و كلّ ذلك بمعنى واحد.(9:192)

نحوه القرطبيّ.(7:372)

الزّجّاج: و(امنة)منصوب مفعول له،كقولك:فعلت ذلك حذر الشّرّ.

و التّأويل أنّ اللّه أمّنهم أمنا حتّى غشيهم النّعاس لما وعدهم من النّصر،يقال:قد آمنت آمن أمنا-بفتح الألف-و أمانا و أمنة.(2:403)

الماورديّ:يعني به الدّعة و سكون النّفس من الخوف،و فيه وجهان:

أحدهما:أمنة من العدوّ.

الثّاني:أمنة من اللّه سبحانه و تعالى.(2:300)

الطّوسيّ: و الأمنة:الدّعة الّتي تنافي المخافة:تقول:

أمن أمنا و أمانا و أمنة.و انتصب(امنة)بأنّه المفعول له، و العامل فيه(يغشّى).(5:102)

الزّمخشريّ: و قرئ(يغشّيكم)بالتّخفيف و التّشديد،و نصب(النّعاس)،و الضّمير للّه عزّ و جلّ، و(امنة)مفعول له.

فإن قلت:أ ما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلّل و العلّة واحدا؟

قلت:بلى،و لكن لمّا كان معنى (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) تنعسون،انتصب(امنة)على أنّ النّعاس و الأمنة لهم.

و المعنى إذ تنعسون أمنة،بمعنى أمنا أي لأمنكم.و(منه) صفة لها،أي أمنة حاصلة لكم من اللّه عزّ و جلّ.

فإن قلت:فعلى غير هذه القراءة؟

قلت:يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان،أي ينعسكم إيمانا منه،أو على (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) فتنعسون أمنا.

فإن قلت:هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنّعاس الّذي هو فاعل(يغشاكم)أي يغشاكم النّعاس لأمنه،على أنّ إسناد«الأمن»إلى النّعاس إسناد مجازيّ، و هو لأصحاب النّعاس على الحقيقة،أو على أنّه:أنامكم في وقت كان من حقّ النّعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم،و إنّما غشيكم أمنة حاصلة من اللّه،لولاها لم يغشكم،على طريقة التّمثيل و التّخييل؟

قلت:لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله،و له فيه نظائر،و قد ألمّ به من قال:

يهاب النّوم أن يغشى عيونا

تهابك فهو نفّار شرود.

و قرئ(أمنة)بسكون الميم،و نظير أمن أمنة:حيي حياة،و نحو أمن أمنة:رحم رحمة.

و المعنى أنّ ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النّوم،فلمّا طمأن اللّه قلوبهم و أمّنهم رقدوا.(2:146)

نحوه الفخر الرّازيّ(15:132)،و البيضاويّ(1:

387)،و أبو حيّان(4:467)،و النّيسابوريّ(9:130).

ابن عطيّة: (أمنة)مصدر من أمن الرّجل يأمن أمنا و أمنة و أمانا،و الهاء فيها لتأنيث المصدر،كما هي في المساءة و المشقّة.و قرأ ابن محيصن:(أمنة)بسكون الميم.

و روي عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: النّعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدوّ و هو من اللّه،و هو في الصّلاة من الشّيطان.(2:506)

ص: 501

الطّبرسيّ: أي أمانا منه،أي من العدوّ،و قيل:من اللّه.فإنّ الإنسان لا يأخذه النّوم في حال الخوف،فآمنهم اللّه تعالى بزوال الرّعب عن قلوبهم،كما يقال:الخوف مسهر و الأمن منيم.

و الأمنة:الدّعة الّتي تنافي المخافة،و أيضا فإنّه قوّاهم بالاستراحة على القتال من العدوّ.(2:526)

البروسويّ: منصوب على العلّيّة بفعل مترتّب على الفعل المذكور،أي يغشّيكم النّعاس فتنعسون أمنا كائنا من اللّه تعالى لا كلالا و إعياء،فيتّحد الفاعلان،لأنّ «الأمن»فعل النّعاس.

قال في«التّأويلات النّجميّة»: يشير إلى النّعاس في المعركة عند مواجهة العدوّ و الأمن منه بدل الخوف إنّما هو من تقليب الحال إلى ضدّه بأمر التّكوين،كما قال تعالى للنّار: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ الأنبياء:

69،فكانت كذلك،قال للخوف:كن أمنا على محمّد و أصحابه فكان،انتهى.(3:320)

الآلوسيّ: أَمَنَةً مِنْهُ نصب على أنّه مفعول له، و هو مصدر بمعنى«الأمن»كالمنعة،و إن كان قد يكون جمعا و صفة بمعنى«آمنين»كما ذكره الرّاغب.

و استشكل بأنّ شرط النّصب الّذي هو اتّحاد فاعله و فاعل الفعل العامل فيه مفقود؛إذ فاعله هم الصّحابة الآمنون رضي اللّه تعالى عنهم،و فاعل الآخر هو اللّه على القراءتين الأوليين،و النّعاس على الأخرى.

و أجيب بأنّه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي،فإنّ (يغشاكم النّعاس)يلزمه تنعسون و(يغشّيكم)بمعناه، فيتّحد الفاعلان؛إذ فاعل كلّ حينئذ الصّحابة.

و قال بعض المدقّقين:إنّه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبا على العلّيّة لفعل مترتّب على الفعل المذكور،أي يغشّيكم النّعاس فتنعسون أمنا،أو على أنّه مصدر لفعل آخر كذلك،أي فتأمنون أمنا،و على القراءة الأخيرة منصوب على العلّيّة ب(يغشاكم)باعتبار المعنى،فإنّه في حكم تنعسون،أو على أنّه مصدر لفعل مترتّب عليه كما علمت،و ما تقدّم أقلّ انتشارا.

و جوّز أن يراد ب«الأمنة»الإيمان بمعناه اللّغويّ،و هو جعل الغير آمنا،فيكون مصدر«آمنه»و هو على بعده إنّما يتمشّى في القراءتين الأوليين،لأنّ فاعل التّغشية و الأمان هو اللّه تعالى،و أمّا على القراءة الأخرى فلا، و يحتاج إلى ما مرّ.

و من النّاس من جوّز فيها أن يجعل«الأمن»فعل النّعاس على الإسناد المجازيّ لكونه من ملابسات أصحاب الأمن،و الإسناد في ذلك مقدّر و ليس المراد به النّسبة الّتي بين الفعل و المفعول له،أي يغشاكم النّعاس لأمنه،أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن و الخوف،و أنّه حصل له من اللّه تعالى الأمان من الكفّار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشّاكم و أنامكم، فيكون الكلام تمثيلا و تخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس.

و القطب جعل في الكلام استعارة بالكناية؛حيث ذكر أنّه شبّه النّعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنّه لا يأتيهم في وقت الخوف و إذا أمن أتاهم،ثمّ ذكر النّعاس و أراد ذلك الشّخص،و القرينة ذكر«الأمنة»لأنّها من لوازم المشبّه به،و قد وصف الزّمخشريّ النّوم بنحو ذلك

ص: 502

في قوله:

يهاب النّوم أن يغشى عيونا

تهابك فهو نفّار شرود

و ما يقال:إنّ مثل هذا إنّما يليق بالشّعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلّم.

و ذكر ابن المنير في توجيه اتّحاد الفاعل على القراءتين:أنّ لقائل أن يقول:فاعل تغشية النّعاس إيّاهم هو اللّه تعالى و هو فاعل الأمنة أيضا،لأنّه خالقها، فحينئذ يتّحد فاعل الفعل و العلّة،فيرتفع السّؤال و يزول الإشكال على قواعد أهل السّنّة،الّتي تقتضي نسبة أفعال الخلق إلى اللّه تعالى،على أنّه خالقها و مبدعها.و تعقّبه بأنّ للمورد أن يقول:المعتبر الفاعل اللّغويّ و هو المتّصف بالفعل،و هو هنا ليس إلاّ العبد؛إذ لا يقال للّه سبحانه و تعالى:آمن،و إن كان هو الخالق،و حينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف.

و الجارّ و المجرور متعلّق بمحذوف وقع صفة ل(امنة) أي أمنة كائنة منه تعالى لكم،و لعلّ مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام،فقد قالوا:إنّ ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن،و لذلك قدّمه سبحانه و تعالى و بسط الكلام فيه،كما لا يخفى على من تأمّل في السّياق.و السّياق بخلافه هنا،لأنّه في مقام تعداد النّعم، فلذا جيء بالقصّة مختصرة للرّمز.

و قرئ(امنة)بالسّكون،و هو لغة فيه.(1:169)

تعدية الإيمان باللاّم

آمن له

1- فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. العنكبوت:26

ابن عبّاس: أي فصدّق لوط.

مثله قتادة،و ابن زيد.(الطّبريّ 20:142)

البروسويّ:آمن له و آمن به متقارب في المعنى، و المعنى صدّقه في جميع مقالاته لا في نبوّته و ما دعا إليه من التّوحيد فقط،فإنّه كان منزّها عن الكفر.و ما قيل:

إنّه آمن له حين رأى النّار لم تحرقه ينبغي أن يحمل على ما ذكرنا،أو على أنّه يراد ب«الإيمان»الرّتبة العالية منه، و هي الّتي لا ترتقي إليها إلاّ همم الأفراد،و هو أوّل من آمن به.(6:463)

مثله الآلوسيّ.(20:152)

الطّباطبائيّ: أي آمن به لوط.و الإيمان يتعدّى باللاّم كما يتعدّى بالباء،و المعنى واحد.(16:121)

امنتم له

2- قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ... طه:71

الطّبريّ: و قال فرعون للسّحرة:أ صدّقتم و أقررتم لموسى بما دعاكم إليه من قبل أن أطلق ذلك لكم.

(16:188)

الإسكافيّ: قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ الأعراف:123،و قال في سورة طه:71 و الشّعراء:49 قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ.

للسّائل أن يسأل عن موضعين من هذه الآية:

ص: 503

أحدهما:إظهاره اسم فرعون لعنه اللّه في سورة الأعراف في هذا اللّفظ،و إضماره له في مثله من سورتي «طه و الشّعراء».

و الثّاني:قوله آمَنْتُمْ بِهِ، و قال في الموضعين الآخرين: آمَنْتُمْ لَهُ و وجه اختلافهما.

و الجواب عن الموضع الأوّل،و هو إظهار الاسم في سورة الأعراف و إضماره فيما سواها:أنّ الذّكر العائد إلى فرعون بعد في سورة الأعراف،لأنّه جاء في الآية العاشرة من الآية الّتي أضمر فيها ذكره،و هي قوله:

قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ الأعراف:114، و جاء في الآية العاشرة من هذه السّورة: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ الأعراف:123،و لم يبعد هذا الذّكر في الآيتين اللّتين في سورة طه و الشّعراء:لأنّ فرعون مذكور في سورة طه في جملة قومه الّذين أخبر عنهم بقوله: قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى طه:57، و بعده: فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى* قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ طه:60،61،و هذا خطابه لفرعون و قومه،و ضميرهم منطو على ضميره إلى قوله: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا طه:64،و الذّكر في قوله: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ إنّما هو في السّابع من الآي الّتي جرى ذكره فيها،و كذلك في سورة الشّعراء لم يبعد الذّكر بعده في سورة الأعراف، أ لا ترى أنّ آخر ما ذكر فيما اتّصل بهذه الآية قوله تعالى:

قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ الأعراف:114، و ذكره بعد ذلك في الآية الثّامنة من الآية الّتي جرى ذكره فيها.فلمّا بعد الذّكر في سورة الأعراف خلاف بعده في السّورتين-إذ كان في إحداهما في السّابعة و في الأخرى في الثّامنة و هي في الأعراف في العاشرة-أعيد ذكره، الظّاهر لذلك.

و الجواب عن السّؤال الثّاني و هو قوله: (آمَنْتُمْ بِهِ) في سورة الأعراف و (آمَنْتُمْ لَهُ) في السّورتين الأخريين،و هو أنّ الهاء في (آمَنْتُمْ بِهِ) غير الهاء في (آمَنْتُمْ لَهُ) و كلّ واحدة تعود إلى غير ما تعود إليه الأخرى.فالّتي في (آمَنْتُمْ بِهِ) لربّ العالمين،لأنّه تعالى حكى عنهم: قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ الأعراف:21،و هو الّذي دعا إليه موسى عليه السّلام.و أمّا الهاء في (آمَنْتُمْ لَهُ) فلموسى عليه السّلام، و الدّليل على ذلك أنّها جاءت في السّورتين،و بعدها في كلّ واحدة منهما: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فالهاء في(انّه)هي الّتي في (آمَنْتُمْ لَهُ) ،و لا خلاف أنّ هذه لموسى عليه السّلام،و الّذي جاء بعد قوله: (آمَنْتُمْ بِهِ) قوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ الأعراف:123،أي إظهاركم ما أظهرتم من الإيمان بربّ العالمين وقع على تواطؤ منكم أخفيتموه لتستولوا على العباد و البلاد.

و يجوز أن يكون الهاء في (آمَنْتُمْ بِهِ) ضمير موسى عليه السّلام،لأنّه يجوز أن يقال:آمن بالرّسول،أي أظهرتم تصديقه و أقدمتم على خلافي قبل أن آذنت لكم فيه،و هذا المكر[مكر]مكرتموه و سرّ أسررتموه لتقلّبوا النّاس عليّ،فاقتضى هذا الموضع الّذي ذكر فيه المكر إنكار الإيمان به.

فأمّا الإيمان له في الموضعين الآخرين،فاللاّم تفيد معنى الإيمان من أجله و من أجل ما أتى به من الآيات، فكأنّه قال:آمنتم بربّ العالمين لأجل ما ظهر لكم على

ص: 504

يدي موسى عليه السّلام من آياته،و في الموضع الّذي ذكر فيه من أجله و عبّر عنه باللاّم و هو الموضع الّذي قصد فيه إلى الإخبار بأنّه كبيركم الّذي علّمكم السّحر،فلذلك خصّ باللاّم،و الأوّل خصّ بالباء.و قد تدلّ اللاّم على الاتّباع،فيكون المعنى اتّبعتموه لأنّه كبيركم في عمل السّحر،و قد يؤمن بالخبر من لا يعمل عليه و لا يتّبع الدّاعي إليه.(175)

الطّوسيّ: قرأ ابن كثير،و حفص،و ورش(آمنتم) على لفظ الخبر،و قرأ أهل الكوفة إلاّ حفصا بهمزتين، الباقون بهمزة واحدة بعدها مدّة.

قال أبو عليّ: من قرأ على الخبر فوجهه أنّه قرّعهم على تقدّمهم بين يديه،و على استبدارهم بما كان منهم من الإيمان بغير إذنه و أمره،و الاستفهام يؤول إلى هذا المعنى.

و وجه قراءة أبي عمرو أنّه أتى بهمزة الاستفهام و همزة الوصل و قلب الثّانية مدّة،كراهيّة اجتماع الهمزتين.و قد مضى شرح ذلك فيما مضى.

حكى اللّه تعالى ما قال فرعون للسّحرة حين آمنوا بموسى و هارون (آمَنْتُمْ لَهُ) أي صدّقتموه و اتّبعتموه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ. و قال في موضع آخر: (آمَنْتُمْ بِهِ) .

و قيل في الفرق بينهما:إنّ (آمَنْتُمْ لَهُ) يفيد الاتّباع و ليس كذلك (آمَنْتُمْ بِهِ) ،لأنّه قد يوقن بالخبر من غير اتّباع له فيما دعا إليه،إلاّ أنّه إذا قبل قول الدّاعي إلى أمر أخذ به.و من قرأ(آمنتم)على الخبر كأنّ فرعون أخبر بذلك.و من قرأ على لفظ الاستفهام كأنّه استفهم عن إيمانهم على وجه التّقريع لهم.(7:189)

الميبديّ: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى،يقال:

آمنت له و آمنت به،و قيل:اللاّم يتضمّن معنى الاتّباع و التّصديق،و الباء يتضمّن التّصديق دون الاتّباع.

(6:148)

الزّمخشريّ: و اللاّم مع الإيمان في كتاب اللّه لغير اللّه تعالى،كقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ التّوبة:61،و فيه نفاجة (1)باقتداره و قهره و ما ألفه و ضرى به من تعذيب النّاس بأنواع العذاب،و توضيع لموسى عليه السّلام و استضعاف له مع الهزء به،لأنّ موسى لم يكن قطّ من التّعذيب في شيء.(2:546)

نحوه البيضاويّ(2:55)،و القاسميّ(11:4193).

الطّبرسيّ: الفرق بين (آمَنْتُمْ بِهِ) و (آمَنْتُمْ لَهُ) أنّ (آمَنْتُمْ بِهِ) بالباء هو من الإيمان الّذي هو ضدّ الكفر و (آمَنْتُمْ لَهُ) بمعنى التّصديق.(4:20)

أبو حيّان: و تقدّم الخلاف في قراءة(آمنتم)في الأعراف،و جاء هناك (آمَنْتُمْ بِهِ) و هنا(له)،و آمن يوصل بالباء إذا كان باللّه و باللاّم لغيره في الأكثر،نحو فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ يونس:83، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى البقرة:55، وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26،و احتمل الضّمير في (به)أن يعود على موسى و أن يعود على الرّبّ.

(6:261)

البروسويّ: قال فرعون للسّحرة بطريق التّوبيخ (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى،و اللاّم لتضمين الفعل معنى الاتّباع، و اللاّم مع الإيمان في كتاب اللّه لغيره.و في«بحر العلوم» (له)أي لربّهما،على أنّ اللاّم بمعنى الباء،و الدّليل القاطعه.

ص: 505


1- الفخر بما ليس عنده.

عليه قوله: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ الأعراف:123،و(آمنتم)بالمدّ على الإخبار،أي فعلتم هذا الفعل توبيخا لهم.(5:405)

الآلوسيّ: و«الإيمان»في الأصل متعدّ بنفسه،ثمّ شاع تعدّيه بالباء لما فيه من التّصديق حتّى صار حقيقة.

و إنّما عدّي هنا باللاّم لتضمينه معنى الانقياد،و هو يعدّى بها،يقال:انقاد له لا الاتّباع كما قيل،لأنّه متعدّ بنفسه، يقال:اتّبعه،و لا يقال:اتّبع له.

و في«البحر»:إنّ«آمن»يوصل بالباء إذا كان متعلّقه «اللّه»عزّ اسمه،و باللاّم إن كان متعلّقه غيره تعالى في الأكثر،نحو يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ التّوبة:61، فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ يونس:83، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ.. البقرة:55، وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:

17، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26.

و جوّز أن تكون اللاّم تعليليّة،و التّقدير:آمنتم باللّه تعالى لأجل موسى و ما شاهدتم منه.و اختاره بعضهم، و لا تفكيك فيه كما توهّم.

و قيل:يحتمل أن يكون ضمير(له)للرّبّ عزّ و جلّ، و في الآية حينئذ تفكيك ظاهر.

و قرأ الأكثر (أ آمنتم) على الاستفهام التّوبيخيّ، و التّوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضا لإفادة الخبر،أو لازمها.(16:231)

يؤمن به و يؤمن له

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. التّوبة:61

ابن عبّاس: و يصدّق المؤمنين.(الطّوسيّ 5:288)

ابن قتيبة :أي يصدّق اللّه و يصدّق المؤمنين، لا أنتم،و الباء و اللاّم زائدتان.

(تأويل مشكل القرآن:183)

الطّبريّ: أمّا قوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ فإنّه يقول:

يصدّق باللّه وحده لا شريك له،و قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول:و يصدّق المؤمنين لا الكافرين و لا المنافقين.

و هذا تكذيب من اللّه للمنافقين الّذين قالوا:محمّد أذن،يقول جلّ ثناؤه:إنّما محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم مستمع خير،يصدّق باللّه و بما جاءه من عنده،و يصدّق المؤمنين،لا أهل النّفاق و الكفر باللّه.

و قيل: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ معناه و يؤمن المؤمنين، لأنّ العرب تقول فيما ذكر لنا عنها:آمنت له و آمنته،بمعنى صدّقته،كما قيل: رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ النّمل:72،و معناه ردفكم،و كما قال: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الأعراف:154،و معناه للّذين هم ربّهم يرهبون.(10:169)

الطّوسيّ: قيل:دخلت اللاّم كما دخلت في قوله:

رَدِفَ لَكُمْ النّمل:72،و تقديره:ردفكم،و اللاّم مقحمة،و مثله لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الأعراف:153، و معناه يرهبون ربّهم،و اللاّم مقحمة.

و قال قوم:دخلت اللاّم للفرق بين إيمان التّصديق و إيمان الأمان.(5:288)

الزّمخشريّ: فإن قلت:لم عدّي فعل الإيمان بالباء إلى اللّه تعالى و إلى المؤمنين باللاّم؟

ص: 506

قلت:لأنّه قصد التّصديق باللّه الّذي هو نقيض الكفر به فعدّي بالباء،و قصد السّماع من المؤمنين و أن يسلم لهم ما يقولونه و يصدّقه لكونهم صادقين عنده فعدّي باللاّم،أ لا ترى إلى قوله: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17،ما أنبأه عن الباء،و نحوه فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ يونس:83، أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الشّعراء:111، آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ الشّعراء:49.(2:199)

نحوه النّسفيّ.(2:132)

ابن عطيّة: يُؤْمِنُ بِاللّهِ معناه يصدّق باللّه وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ قيل:معناه و يصدّق المؤمنين، و اللاّم زائدة كما هي في قوله: رَدِفَ لَكُمْ النّمل:72.

و قال المبرّد:هي متعلّقة بمصدر مقدّر من الفعل، كأنّه قال:و إيمانه للمؤمنين،أي تصديقه.

و يقال:آمنت لك،بمعنى صدّقتك،و منه قوله تعالى:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17.

و عندي أنّ هذه الّتي معها اللاّم في ضمنها«باء» فالمعنى و يصدّق للمؤمنين بما يخبرونه،و كذلك:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بما نقوله لك،و اللّه المستعان.

(3:53)

الطّبرسيّ: معناه أنّه لا يضرّه كونه أذنا فإنّه أذن خير فلا يقبل إلاّ الخبر الصّادق من اللّه و يصدّق المؤمنين أيضا فيما يخبرونه و يقبل منهم دون المنافقين،عن ابن عبّاس،فإيمانه للمؤمنين تصديقه لهم،على هذا القول.

و قيل: يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يؤمنهم فيما يلقى إليهم من الأمان،و لا يؤمن للمنافقين بل يكونون على خوف و إن حلفوا.(3:45)

الفخر الرّازيّ: بيّن كونه (أُذُنُ خَيْرٍ) بقوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جعل تعالى هذه الثّلاثة كالموجبة لكونه عليه الصّلاة و السّلام (أُذُنُ خَيْرٍ) ،فلنبيّن كيفيّة اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيريّة.

أمّا الأوّل:و هو قوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ فلأنّ كلّ من آمن باللّه كان خائفا من اللّه،و الخائف من اللّه لا يقدم على الإيذاء بالباطل.

و أمّا الثّاني:و هو قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فالمعنى أنّه يسلم للمؤمنين قولهم،و المعنى أنّهم إذا توافقوا على قول واحد،سلم لهم ذلك القول،و هذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار.[ثمّ ذكر مثل الزّمخشريّ]

(16:116)

نحوه النّيسابوريّ.(10:120)

الرّازيّ: [قال نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و قال ابن قتيبة في الجواب عن أصل السّؤال:إنّ الباء و اللاّم زائدتان،و المراد ب«الإيمان»التّصديق،فمعناه يصدّق اللّه و يصدّق المؤمنين.(مسائل الرّازيّ:117)

القرطبيّ: المعنى يصدّق باللّه و يصدّق المؤمنين، فاللاّم زائدة في قول الكوفيّين.و مثله: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الأعراف:154،أي يرهبون ربّهم،و قال أبو عليّ:كقوله:

رَدِفَ لَكُمْ النّمل:72،و هي عند المبرّد متعلّقة بمصدر دلّ عليه الفعل،التّقدير:إيمانه للمؤمنين،أي تصديقه للمؤمنين لا للكفّار.

أو يكون محمولا على المعنى فإنّ معنى يؤمن يصدّق،

ص: 507

فعدّي باللاّم،كما عدّي في قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ البقرة:97.(8:193)

البيضاويّ: يصدّق به لما قام عنده من الأدلّة وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و يصدّقهم لما علم من خلوصهم، و اللاّم مزيدة للتّفرقة بين إيمان التّصديق فإنّه بمعنى التّسليم،و إيمان الأمان.(1:421)

أبو حيّان: وصفه تعالى بأنّه يُؤْمِنُ بِاللّهِ و من آمن باللّه كان خائفا منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل، وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يسمع من المؤمنين و يسلم لهم ما يقولون و يصدّقهم لكونهم مؤمنين فهم صادقون، وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ و خصّ المؤمنين و إن كان رحمة للعالمين،لأنّ ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرّسول يحصل لغيرهم،و خصّوا هنا بالذّكر و إن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيّتهم.و هذه الأوصاف الثّلاثة مبيّنة جهة الخيريّة و مظهرة كونه صلّى اللّه عليه و سلّم (أُذُنُ خَيْرٍ) و تعدية(يؤمن)أوّلا بالباء و ثانيا باللاّم.

قال ابن قتيبة: هما زائدتان،و المعنى يصدّق اللّه و يصدّق المؤمنين.

و قيل:معناه و يصدّق المؤمنين،و اللاّم زائدة كما هي في رَدِفَ لَكُمْ النّمل:72.

و قال المبرّد: هي متعلّقة بمصدر مقدّر من الفعل، كأنّه قال:و إيمانه للمؤمنين،أي و تصديقه.

و قيل:يقال:آمنت لك،بمعنى صدّقتك،و منه قوله:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17.

و عندي أنّ هذه الّتي معها اللاّم في ضمنها باء، فالمعنى و يصدّق للمؤمنين فيما يخبرونه به،و كذلك وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بما نقوله لك،انتهى.(5:63)

البروسويّ: يُؤْمِنُ بِاللّهِ تفسير لكونه أذن خير لهم،أي يقرّبه لما قام عنده من الأدلّة الموجبة له،فيسمع جميع ما جاء من عنده و يقبله،و كون ذلك خيرا للمخاطبين كما أنّه خير للعالمين ممّا لا يخفى. وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يسلم لهم قولهم و يصدّقهم فيما أخبروا به لما علم من خلوصهم و صدقهم.و لا شكّ أنّ ما أخبر به المؤمنون الخلّص يكون حقّا،فمن استمعه و قبله يكون أذن خير.

و اللاّم مزيدة للتّفرقة بين الإيمان المشهور،و هو إيمان الأمان من الخلود في النّار الّذي هو نقيض الكفر باللّه، فإنّه يعدّى بالباء حملا للنّقيض على النّقيض،فيقال:آمن باللّه و يؤمنون بالغيب؛و بين الإيمان بمعنى التّصديق و التّسليم و القبول،فإنّه يعدّى باللاّم مثل وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق.(3:456)

الآلوسيّ: و الإيمان في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللّهِ بمعنى الاعتراف و التّصديق كما أشرنا إليه،و لذا عدّي بالباء،و أمّا في قوله سبحانه: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فهو بمعنى جعلهم في أمان من التّكذيب،فاللاّم فيه مزيدة للتّقوية،لأنّه بذلك المعنى متعدّ بنفسه كذا قيل،و فيه أنّ الزّيادة لتقوية الفعل المتقدّم على معموله قليلة.

و قال الزّمخشريّ: إنّه قصد من«الإيمان»في الأوّل التّصديق باللّه تعالى الّذي هو نقيض الكفر،فعدّي بالباء الّذي يتعدّى بها الكفر،حملا للنّقيض على النّقيض.

و قصد من«الإيمان»في الثّاني السّماع من المؤمنين و أن يسلم لهم ما يقولونه و صدّقهم لكونهم صادقين عنده،

ص: 508

فعدّي باللاّم.أ لا ترى إلى قوله سبحانه: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17،حيث عدّي الإيمان فيه باللاّم،بمعنى التّسليم لهم.

و ظاهر هذا أنّ اللاّم ليست مزيدة للتّقوية كما في الأوّل،و كلام بعضهم يشعر ظاهره بزيادتها.

(10:127)

رشيد رضا :أي يصدّق باللّه تعالى و ما يوحيه إليه من خبركم و خبر غيركم،و هو الخبر القطعيّ الصّدق الّذي لا يحوم حوله الشّكّ،لأنّه برهانيّ وجدانيّ عيانيّ له بما كشفه اللّه له من عالم الغيب،و إيمانه به أثبت و أرسخ في اليقين من تصديق غيره بما قامت عليه الأدلّة العقليّة القطعيّة،و يصدّق في الدّرجة الثّانية تصديق ائتمان و جنوح للمؤمنين الصّادقي الإيمان من المهاجرين و الأنصار،الّذين برهنوا على صدقهم بجهادهم معه في سبيل اللّه بأموالهم و أنفسهم،فهو يصدّق أخبارهم لا لذاتها بمجرّد سماعها،بل لما علمه من آيات إيمانهم الّذي يوجب عليهم الصّدق و لا سيّما الصّدق بما يحدّثونه به،و لما يجده في أخبارهم من أماراته و آياته.

و يتضمّن هذا أنّه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم و ائتمان،و لا يصدّقهم في أخبارهم و إن وكّدوها بالأيمان، كما ظنّ من قال منهم: (هُوَ أُذُنٌ) اغترارا بلطفه و أدبه صلّى اللّه عليه و سلّم إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره،و بمعاملته إيّاهم كما يعامل أمثالهم من عامّة أصحابه.[إلى أن قال:]

و نكتة تعدية الإيمان بالباء في(اللّه)تعالى و باللاّم في (المؤمنين)أنّ الأوّل على الأصل في آمن به:ضدّ كفر به، و صدّق به:ضدّ كذّب به.

و أمّا الثّاني:فقد ضمّن معنى الميل و الائتمان و الجنوح للمؤمنين به،و في معناه آيات،كقوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26،و قوله: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ يونس:83،و قوله إخبارا عن قول إخوة يوسف لأبيهم: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:

17،و قوله في جدال قوم نوح له: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الشّعراء:111،ففي كلّ هذا معنى التّصديق المتضمّن للائتمان و التّسليم و الميل عن جانب إلى جانب.

و إنّما يكون هذا في إيمان النّاس بعضهم لبعض لا في الإيمان باللّه عزّ و جلّ.و بهذا يعلم كذبهم في زعمهم تصديقه صلّى اللّه عليه و سلّم لهم فيما يعتذرون له،فهو لا يصدّقهم و إن حلفوا،لأنّه إنّما يؤمن للمؤمنين الصّادقين دون المنافقين الكاذبين.

(10:518)

الطّباطبائيّ: و قد ذكر متعلّق«الإيمان»في قوله:

يُؤْمِنُ بِاللّهِ، و أمّا قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فلم يذكر متعلّقه و إنّما ذكر أنّ هذا التّصديق لنفع المؤمنين لمكان اللاّم.و التّصديق الّذي يكون فيه نفع المؤمنين -حتّى في الخبر الّذي يتضمّن ما يضرّهم-إنّما هو التّصديق بمعنى إعطاء الصّدق الخبريّ دون الخبريّ،أي فرض أنّ المخبر صادق بمعنى أنّه معتقد بصدق خبره،و إن كان كاذبا لا يطابق الواقع.

و هذا كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ المنافقون:1،فاللّه سبحانه يكذّب المنافقين لا من حيث خبرهم برسالة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل من حيث إخبارهم بخلاف ما يعتقدونه،

ص: 509

و هذا بخلاف قول المؤمنين فيما حكى اللّه سبحانه: وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ الأحزاب:22،فهم يصدّقون اللّه و رسوله في الخبر لا في الاعتقاد.

و بالجملة ظاهر قوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أنّه يصدّق اللّه فيما أخبره به من الوحي، و يصدّق لنفع المؤمنين كلّ من ألقى إليه منهم خبرا بحمل فعله على الصّحّة و عدم رميه بالكذب و سوء النّيّة،من غير أن يرتّب أثرا على كلّ ما يسمعه و يستمع إليه و إلاّ لم يكن تصديقه لنفع المؤمنين و اختلّ الأمر،و هذا المعنى كما ترى يؤيّد الوجه الثّاني المذكور.

و كأنّ المراد ب«المؤمنين»المجتمع المنسوب إليهم و إن اشتمل على أفراد من غيرهم كالمنافقين،و على هذا كان المراد بالّذين آمنوا منهم،المؤمنون من قومهم حقّا،فمعنى الكلام أنّه يصدّق ربّه و يصدّق كلّ فرد من أفراد مجتمعكم احتراما لظاهر حاله من الانتساب إلى المؤمنين،و هو رحمة للّذين آمنوا منكم حقّا،لأنّه يهديهم إلى الصّراط المستقيم.

و إن كان المراد من الّذين آمنوا،هم الّذين آمنوا في أوّل البعثة قبل الفتح-كما تقدّم سابقا أنّ(الّذين آمنوا) اسم تشريفيّ في القرآن للمؤمنين الأوّلين في الإسلام- كان المراد ب«المؤمنين»في قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ المؤمنون منهم حقّا،كما أطلق بهذا المعنى في قوله: وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ الأحزاب:22.

و ربّما قيل:إنّ اللاّم في قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ للتّعدية كما في قوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ فالإيمان يتعدّى بالحرفين جميعا،كما في قوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26،و قوله: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ يونس:83،و قوله: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الشّعراء:111.

و ربّما قيل:إنّ اللّفظ جار على طريقة التّضمين، بتضمين الإيمان معنى الجنوح المتعدّي باللاّم،و المعنى يجنح للمؤمنين مؤمنا بهم،أو يؤمن جانحا لهم.

و الوجهان و إن كانا لا بأس بهما في نفسهما،لكن يبعّد ذلك لزوم التّفكيك في قوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ بين(يؤمن)الأوّل و الثّاني من غير نكتة ظاهرة،إلاّ أن يحمل على التّفنّن في التّعبير،و مع ذلك فالنّتيجة هي النّتيجة السّابقة،فإنّ إيمانه بالمؤمنين لا يختصّ بالمخبرين خاصّة حتّى يصدّق خبرهم و يؤاخذ آخرين إذا أخبر بما يضرّهم،بل إيمان يعمّ جميع المؤمنين؛ فيصدّق المخبر في خبره،بمعنى إعطاء الصّدق المخبريّ؛ و يصدّق المخبر عنه بحمل فعله على الصّحّة،فافهم ذلك.(9:314)

تؤمنوا له-لي

1- وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ... آل عمران:73

الطّبريّ: و لا تصدّقوا إلاّ من تبع دينكم،فكان يهوديّا.و هذا خبر من اللّه عن قول الطّائفة الّذين قالوا لإخوانهم من اليهود: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ آل عمران:72،و اللاّم الّتي في قوله:

لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ نظيرة اللاّم الّتي في قوله: عَسى أَنْ

ص: 510

يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ النّمل:72،بمعنى ردفكم بعض الّذي تستعجلون.(3:313)

نحوه البغويّ.(1:307)

الطّوسيّ: و في دخول اللاّم في قوله: إِلاّ لِمَنْ قيل:قولان:

أحدهما:أن تكون زائدة كاللاّم في قوله: رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم،بمعنى لا تصدّقوا إلاّ من تبع دينكم.

قال المبرّد: إنّما يسوغ ذلك على تقدير المصدر بعد تمام الكلام،فأمّا:قام لزيد بمعنى قام زيد،فلا يجوز،لأنّه لا يحمل على التّأويل إلاّ بعد التّمام.

و القول الآخر:لا تعترفوا بالحقّ إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فتدخل للتّعدية.

و قال أبو علي الفارسيّ: لا يجوز أن يتعلّق اللاّم في قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ بقوله: وَ لا تُؤْمِنُوا لأنّه قد تعلّق به حرف الجرّ في قوله:ب(ان يؤتى)كما لا يتعلّق مفعولان بفعل واحد.(2:501)

الميبديّ: أي لا تصدّقوا و لا تقرّوا.(2:167)

الزّمخشريّ: وَ لا تُؤْمِنُوا متعلّق بقوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ و ما بينهما اعتراض،أي و لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاّ لأهل دينكم دون غيرهم.(1:437)

الفخر الرّازيّ: اتّفق المفسّرون،على أنّ هذا بقيّة كلام اليهود،و فيه وجهان:

الأوّل:المعنى،و لا تصدّقوا إلاّ نبيّا يقرّر شرائع التّوراة،فأمّا من جاء بتغيير شيء من أحكام التّوراة فلا تصدّقوه،و هذا هو مذهب اليهود إلى اليوم.و على هذا التّفسير تكون اللاّم في قوله: إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ صلة زائدة، فإنّه يقال:صدّقت فلانا،و لا يقال:صدّقت لفلان.و كون هذه اللاّم صلة زائدة جائز،كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ و المراد ردفكم.

و الثّاني:أنّه ذكر قبل هذه الآية قوله: آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ آل عمران:72،ثمّ قال في هذه الآية: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلاّ لأجل من تبع دينكم،كأنّهم قالوا:ليس الغرض من الإتيان بذلك التّلبيس إلاّ بقاء أتباعكم على دينكم.(8:101)

نحوه النّيسابوريّ.(4:224)

القرطبيّ: قيل:إنّ اللاّم ليست بزائدة،و(تؤمنوا) محمول على تقرّوا.

و قيل:المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ لمن تبع دينكم،لئلاّ يكون طريقا إلى عبدة الأوثان إلى تصديقه.(4:113)

البيضاويّ: و لا تقرّوا عن تصديق قلب إلاّ لأهل دينكم،أو لا تظهروا إيمانكم وجه النّهار إلاّ لمن كان على دينكم،فإنّ رجوعهم أرجى و أهمّ.(1:166)

أبو حيّان: اللاّم في(لمن)قيل:زائدة للتّأكيد،كقوله:

عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ النّمل:72،أي ردفكم.

[ثمّ استشهد بشعر]

و الأجود أن لا تكون اللاّم زائدة بل ضمّن«آمن» معنى أقرّ و اعترف،فعدّي باللاّم.

و قال أبو عليّ: و قد تعدّى«آمن»باللاّم في قوله:

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ يونس:83، آمَنْتُمْ لَهُ

ص: 511

الشّعراء:49، يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ التّوبة:

61،انتهى.

و الأجود ما ذكرناه من أنّه ضمّن معنى الاعتراف، و المؤمن به محذوف.و ظاهر قوله: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أنّه من جملة قول طائفة اليهود،لأنّه معطوف على كلامهم،و لذلك قال ابن عطيّة:لا خلاف بين أهل التّأويل أنّ هذا القول من كلام الطّائفة،انتهى.

و ليس كذلك،بل من المفسّرين من ذهب إلى أنّ ذلك من كلام اللّه يثبّت به قلوب المؤمنين لئلاّ يشكّوا عند تلبيس اليهود و تزويرهم،فأمّا إذا كان من كلام طائفة اليهود فالظّاهر أنّه انقطع كلامهم؛إذ لا خلاف و لا شكّ أنّ قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللّهِ آل عمران:73،من كلام اللّه،و مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما بعده يظهر أنّه من كلام اللّه،و أنّه من جملة قوله لنبيّه.(2:494)

رشيد رضا :هذا من قول الكائدين من أهل الكتاب.و آمن له:صدّقه و سلّم له ما يقول،قال تعالى:

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26،و قال حكاية عن إخوة يوسف: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17.

و قال الأستاذ الإمام: إنّ الإيمان يتعدّى باللاّم إذا أريد بالتّصديق الثّقة و الرّكون،كقوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ التّوبة:61،أي فيكون تصديقا خاصّا تضمّن معنى زائدا.(3:334)

الطّباطبائيّ: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ الّذي يعطيه السّياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمّة لقولهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا و كذا قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ و يكون قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللّهِ جملة معترضة هو جواب اللّه سبحانه عن مجموع ما تقدّم من كلامهم،أعني قولهم:

«آمنوا بما انزل»-إلى قوله -«دينكم»على ما يفيده تغيير السّياق،و كذا قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ جوابه تعالى عن قولهم: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ آل عمران:73،إلى آخره،هذا هو الّذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام و اتّساق المعاني في الآيتين أوّلا،و ما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال و الكيد ثانيا.

و المعنى-و اللّه أعلم-أنّ طائفة من أهل الكتاب -و هم اليهود-قالت،أي قال بعضهم لبعض:صدّقوا النّبيّ و المؤمنين في صلاتهم وجه النّهار إلى بيت المقدس، و لا تصدّقوهم في صلاتهم إلى الكعبة آخر النّهار، و لا تثقوا في الحديث بغيركم،فيخبروا المؤمنين،أنّ من شواهد نبوّة النّبيّ الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة،فإنّ في تصديقكم أمر الكعبة و إفشائكم ما تعلمونه من كونها من أمارات صدق الدّعوة،محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما أوتيتم من القبلة،فيذهب به سؤددكم و يبطل تقدّمكم في أمر القبلة،و محذور أن يقيموا عليكم الحجّة عند ربّكم أنّكم كنتم عالمين بأمر القبلة الجديدة،شاهدين على حقّيّته،ثمّ لم تؤمنوا.

فأجاب اللّه تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النّهار و الكفر في آخره،و أمرهم بكتمان أمر القبلة لئلاّ يهتدي المؤمنون إلى الحقّ،بأنّ الهدى الّذي يحتاج إليه المؤمنون-الّذي هو حقّ الهدى-إنّما هو هدى اللّه دون

ص: 512

هداكم.فالمؤمنون في غنى عن ذلك،فإن شئتم فاتّبعوا، و إن شئتم فاكفروا،و إن شئتم فأفشوا،و إن شئتم فاكتموا.

و أجاب تعالى عمّا ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا،أو يحاجّوهم عند ربّهم بأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء لا بيدكم،حتّى تحبسوه لأنفسكم و تمنعوا منه غيركم.

و أمّا حديث الكتمان مخافة المحاجّة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه،كما فعل كذلك في قوله في هذا المعنى بعينه: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ* أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ البقرة:76،77،فقوله: (أَ وَ لا يَعْلَمُونَ) ،إيذان بأنّ هذا القول بعد ما علموا أنّ اللّه لا يتفاوت فيه السّرّ و العلانية كلام منهم،لا يستوي على تعقّل صحيح،و ليس جوابا لمكان الواو في قوله: (أَ وَ لا يَعْلَمُونَ) .

و على ما مرّ من المعنى فقوله تعالى: وَ لا تُؤْمِنُوا معناه لا تثقوا و لا تصدّقوا لهم الوثاقة و حفظ السّرّ،على حدّ قوله تعالى: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ التّوبة:61، و المراد بقوله: (لِمَنْ تَبِعَ) اليهود.

و المراد بالجملة:النّهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقّيّة تحويل القبلة إلى الكعبة،كما مرّ في قوله تعالى:

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ البقرة:144، إلى أن قال: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ إلى أن قال: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ البقرة:146.

و في معنى الآية أقوال شتّى دائرة بين المفسّرين، كقول بعضهم:إنّ قوله تعالى: وَ لا تُؤْمِنُوا إلى آخر الآية:كلام للّه تعالى لا لليهود،و خطاب الجمع في قوله:

وَ لا تُؤْمِنُوا و قوله: ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ جميعا للمؤمنين،و خطاب الإفراد في قوله:(قل) في الموضعين للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و قول آخرين بمثله،إلاّ أنّ خطاب الجمع في قوله: أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لليهود،في الكلام عتاب و تقريع.و قول آخرين إنّ قوله: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من كلام اليهود،و قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ كلام للّه تعالى جوابا عمّا قالته اليهود،و كذا الخلاف في معنى(الفضل)أنّ المراد به:الدّين أو النّعمة الدّنيويّة أو الغلبة أو غير ذلك.

و هذه الأقوال على كثرتها بعيدة عمّا يعطيه السّياق، كما قدّمنا الإشارة إليه،و لذا لم نشتغل بها فضل اشتغال.

(3:257)

2- وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ. الدّخان:21

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول نبيّه موسى عليه السّلام لفرعون و قومه:و إن أنتم أيّها القوم، لم تصدّقوني على ما جئتكم به من عند ربّي، فاعتزلون.(25:120)

مثله الميبديّ(9:99)،و النّيسابوريّ(25:67)، و المراغيّ(25:126).

الطّوسيّ: أي لم تؤمنوا بي،فاللاّم بمعنى الباء،

ص: 513

و معناه و إن لم تصدّقوني في أنّي رسول إليكم و أنّ ما أدعوكم إليه حقّ يجب عليكم العمل به،فلا أقلّ من أن تعتزلون بصرف أذاكم عنّي،لأنّكم إن لم تجازوا الإحسان بالإحسان فلا إساءة.(9:230)

الفخر الرّازيّ: أي إن لم تصدّقوني و لم تؤمنوا باللّه لأجل ما أتيتكم به من الحجّة-فاللاّم في(لى)لام الأجل -فاعتزلون.(27:245)

القرطبيّ: أي إن لم تصدّقوني و لم تؤمنوا باللّه لأجل برهاني،فاللاّم في(لي)لام أجل.

و قيل:أي و إن لم تؤمنوا بي،كقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26،أي به.(16:135)

البروسويّ: الإيمان يتعدّى باللاّم باعتبار معنى الإذعان و القبول،و الباء باعتبار معنى الاعتراف.

و حقيقة آمن به:أمن المخبر من التّكذيب و المخالفة.

و قال ابن الشّيخ:اللاّم للأجل بمعنى لأجل ما أتيت به من الحجّة،و المعنى و إن كابرتم مقتضى العقل و لم تصدّقوني فكونوا بمعزل منّي لا عليّ و لا لي،و لا تتعرّضوا لي بشرّ و لا أذى لا باليد و لا باللّسان،فليس ذلك من جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم.(8:41)

نؤمن لك-لكم

1- وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً...

البقرة:55

الطّبريّ: و اذكروا أيضا إذ قلتم يا موسى لن نصدّقك،و لن نقرّ بما جئتنا به حتّى نرى اللّه جهرة عيانا.(1:289)

الطّوسيّ: تعلّق بما يخبرهم به من صفات اللّه عزّ و جلّ،لأنّهم قالوا:لن نؤمن لك بما تخبرنا به من صفاته،و ما يجوز عليه حتّى نراه.

و قيل:إنّه لمّا جاءهم بالألواح و فيها التّوراة قالوا:لن نؤمن بأنّ هذا من عند اللّه حتّى نراه جهرة.[ثمّ استشهد بشعر]

و إنّما دعاهم إلى أن قالوا:لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه شكّهم،و حيرتهم فيما دعاهم إليه موسى عليه السّلام،من توحيد اللّه عزّ و جلّ،و لو كانوا عارفين لكان دعاهم إليه العناد لموسى،و معلوم أنّهم لم يكونوا معاندين له عليه السّلام.

(1:252)

مثله الطّبرسيّ.(1:114)

الفخر الرّازيّ: فمعناه لا نصدّقك و لا نعترف بنبوّتك حتّى نرى اللّه جهرة،أي عيانا.(3:84)

نحوه رشيد رضا.(1:321)

البيضاويّ: لأجل قولك،أو لن نقرّ لك.(1:57)

أبو حيّان: قيل:معناه لن نصدّقك فيما جئت به من التّوراة،و لم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم:(لك)و لم يقولوا«بك»نحو وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17، أي بمصدّق.

و قيل:معناه لن نقرّ لك،فعبّر عن الإقرار بالإيمان و عدّاه باللاّم،و قد جاء: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا آل عمران:81،فيكون المعنى لن نقرّ لك بأنّ التّوراة من عند اللّه.

و قيل:يجوز أن تكون اللاّم للعلّة،أي لن نؤمن

ص: 514

لأجل قولك بالتّوراة.

و قيل:يجوز أن يراد نفي الكمال،أي لا يكمل إيماننا لك،كما قيل في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه و أهله و النّاس أجمعين».(1:210)

البروسويّ: لن نصدّقك لأجل قولك و دعوتك على أنّ هذا كتاب اللّه،و أنّك سمعت كلامه،و أنّ اللّه تعالى أمرنا بقبوله و العمل به.(1:139)

الآلوسيّ: و اللاّم من(لك)إمّا لام الأجل أو للتّعدية بتضمين معنى الإقرار،على أنّ موسى مقرّ له و المقرّ به محذوف،و هو أنّ اللّه تعالى أعطاه التّوراة،أو أنّ اللّه تعالى كلّمه فأمره و نهاه.و قد كان هؤلاء مؤمنين من قبل بموسى عليه السّلام،إلاّ أنّهم نفوا هذا الإيمان المعيّن و الإقرار الخاصّ.

و قيل:أرادوا نفي الكمال،أي لا يكمل إيماننا لك،كما قيل في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه المؤمن ما يحبّ لنفسه»و القول إنّهم لم يكونوا مؤمنين أصلا،لم نره لأحد من أئمّة التّفسير.(1:261)

2- يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ... التّوبة:94

الميبديّ:لن نصدّقكم أنّ لكم عذرا.(4:193)

مثله القرطبيّ(8:230)،و البيضاويّ(1:428)، و البروسويّ(3:487).

الزّمخشريّ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ علّة للنّهي عن الاعتذار،لأنّ غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به، فإذا علم أنّه مكذّب وجب عليه الإخلال.(2:208)

مثله أبو حيّان.(5:88)

سيّد قطب: وفّروا عليكم معاذيركم فلن نطمئنّ إليكم،و لن نصدّقكم،و لن نأخذ بظاهر إسلامكم،كما كنّا نفعل؛ذلك أنّ اللّه قد كشف لنا حقيقتكم،و ما تنطوي عليه صدوركم،و قصّ علينا دوافع أعمالكم،و حدّثنا عن حالكم،فلم تعد مستورة لا نرى إلاّ ظاهرها،كما كنّا من قبل معكم.

و التّعبير عن عدم التّصديق و الثّقة و الائتمان و الاطمئنان بقوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ذو دلالة خاصّة.فالإيمان:تصديق و ثقة و ائتمان و اطمئنان:

تصديق بالقول،و ائتمان بالعقل،و اطمئنان بالقلب،و ثقة من المؤمن بربّه،و ثقة متبادلة بينه و بين المؤمنين معه.

و للتّعبير القرآنيّ دائما دلالته و إيحاؤه.(3:1695)

الطّباطبائيّ: أي لن نصدّقكم على ما تعتذرون به، بناء على تعدية«الإيمان»باللاّم كالباء،أو لن نصدّق تصديقا ينفعكم،بناء على كون اللاّم للنّفع،و الجملة تعليل لقوله: لا تَعْتَذِرُوا كما أنّ قوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ التّوبة:94،تعليل لهذه الجملة.

(9:363)

نؤمننّ لك

...لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ... الأعراف:134

الطّبرسيّ:أي نصدّقك في أنّك نبيّ أرسلك اللّه.(2:470)

مثله القرطبيّ.(7:271)

أبو حيّان: و في قولهم: لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ دلالة على أنّه طلب منهم الإيمان،كما أنّه طلب منهم إرسال بني

ص: 515

إسرائيل.و قدّموا«الإيمان»لأنّه المقصود الأعظم النّاشئ منه الطّواعية.(4:374)

مؤمن لنا

...وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ...

يوسف:17

الهرويّ: أي بمصدّق.يقال:آمن به،و آمن له.

(1:93)

الرّاغب: قيل:معناه بمصدّق لنا،إلاّ أنّ«الإيمان»هو التّصديق الّذي معه أمن.(26)

أبو حيّان: أي بمصدّق لنا الآن و لو كنّا صادقين،أو لست مصدّقا لنا على كلّ حال حتّى في حالة الصّدق لما غلب عليك من تهمتنا و كراهتنا في يوسف،و إنّا نرتاد له الغوائل و نكيد له المكائد.(5:288)

الطّباطبائيّ: أي بمصدّق لقولنا.و الإيمان يتعدّى باللاّم كما يتعدّى بالباء،قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26.[إلى أن قال:]

و قولهم: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب و انسدّت عليه طرق الحيلة،للدّلالة على أنّ كلامه غير موجّه عند من يعتذر إليه،و عذره غير مسموع،و هو يعلم بذلك لكنّه مع ذلك مضطرّ أن يخبر بالحقّ و يكشف عن الصّدق و إن كان غير مصدّق فيه،فهو كناية عن الصّدق في المقال.

(11:102)

آمن به

1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ...

البقرة:62.

الطّبريّ: من صدّق و أقرّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة و عمل صالحا فأطاع اللّه،فلهم أجرهم عند ربّهم، يعني بقوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ البقرة:62،فلهم ثواب عملهم الصّالح عند ربّهم.

فإن قال لنا قائل:فأين تمام قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا؟

قيل:تمامه جملة قوله: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ لأنّ معناه من آمن منهم باللّه و اليوم الآخر.

فترك ذكر«منهم»لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عمّا ترك ذكره.

فإن قال:و ما معنى هذا الكلام؟

قيل:إنّ معناه إنّ الّذين آمنوا و الّذين هادوا و النّصارى و الصّابئين من يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربّهم.

فإن قال:و كيف يؤمن المؤمن؟

قيل:ليس المعنى في المؤمن المعنى الّذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهوديّ و النّصرانيّ إلى الإيمان،و إن كان قد قيل:إنّ الّذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى،و بما جاء به حتّى أدرك محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم فآمن به و صدّقه،فقيل لأولئك الّذين كانوا مؤمنين بعيسى و بما جاء به،إذ أدركوا محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم:

آمنوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و بما جاء به.و لكن معنى إيمان المؤمن في

ص: 516

هذا الموضع ثباته على إيمانه و تركه تبديله.

و أمّا إيمان اليهود و النّصارى و الصّابئين،فالتّصديق بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و بما جاء به،فمن يؤمن منهم بمحمّد و بما جاء به و اليوم الآخر و يعمل صالحا فلم يبدّل و لم يغيّر،حتّى توفّي على ذلك،فله ثواب عمله و أجره عند ربّه،كما وصف جلّ ثناؤه.(1:320)

الطّوسيّ: و قوله: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ في النّاس من قال:هو خبر عن اَلَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ لأنّ الّذين آمنوا كانوا مؤمنين، فلا معنى حينئذ أن يقول: (مَنْ آمَنَ) ،و هو نفسهم.

و منهم من قال:هو راجع إلى الكلّ،و يكون رجوعه على اَلَّذِينَ آمَنُوا على وجه الثّبات على الإيمان و الاستدامة،و ترك التّبديل و الاستبدال به.

و في اَلَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ استئناف إيمان بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و ما جاء به.

و قوله: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ فوحّد الفعل ثمّ قال:

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) لأنّ لفظة(من)و إن كانت واحدة، فمعناها يكون للواحد و الجمع و الأنثى و الذّكر.فإن ذهب إلى اللّفظ وحّد،و إن ذهب إلى المعنى جمع،كما قال:

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ يونس:43،فجمع مرّة مع الفعل لمعناه، و وحّد أخرى على اللّفظ.

قال السّدّيّ: نزلت في سلمان الفارسيّ،و أصحابه النّصارى الّذين كان قد تنصّر على أيديهم قبل مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.و كانوا قد أخبروه بأنّه سيبعث،و أنّهم يؤمنون به إن أدركوه.

و روي عن ابن عبّاس: أنّها منسوخة بقوله تعالى:

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آل عمران:85،و هذا بعيد،لأنّ النّسخ لا يجوز أن يدخل في الخبر الّذي يتضمّن الوعيد،و إنّما يجوز دخوله فيما طريقه الأحكام الشّرعيّة الّتي يجوز تغييرها.

و قال قوم:إنّ حكمها ثابت،و المراد بها:إنّ الّذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم من المنافقين،هم اليهود،و النّصارى،و الصّابئين إذا آمنوا بعد النّفاق، و أسلموا عند العناد،كان لهم أجرهم عند ربّهم،كمن آمن في أوّل الإسلام من غير نفاق،و لا عناد،لأنّ قوما من المسلمين قالوا:إنّ من أسلم بعد نفاقه و عناده،كان أجره أقلّ و ثوابه أنقص.و أخبر اللّه بهذه الآية أنّهم سواء في الأجر و الثّواب.

و أولى الأقاويل ما قدّمنا ذكره،و هو المحكيّ عن مجاهد و السّدّيّ:إنّ الّذين أمنوا من هذه الأمّة،و الّذين هادوا،و النّصارى،و الصّابئين من آمن من اليهود و النّصارى،و الصّابئين،باللّه و اليوم الآخر،فلهم أجرهم عند ربّهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون،لأنّ هذا أشبه بعموم اللّفظ،و التّخصيص ليس عليه دليل.

و قد استدلّت المرجئة بهذه الآية على أنّ العمل الصّالح ليس من الإيمان،لأنّ اللّه تعالى أخبرهم عنهم بأنّهم آمنوا،ثمّ عطف على كونهم مؤمنين؛أنّهم إذا عملوا الصّالحات ما حكمها؟قالوا:و من حمل ذلك على التّأكيد أو الفضل،فقد ترك الظّاهر.و كلّ شيء يذكرونه ممّا ذكر بعد دخوله في الأوّل ممّا ورد به القرآن نحو قوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ الرّحمن:68،و نحو قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الأحزاب:

ص: 517

و قد استدلّت المرجئة بهذه الآية على أنّ العمل الصّالح ليس من الإيمان،لأنّ اللّه تعالى أخبرهم عنهم بأنّهم آمنوا،ثمّ عطف على كونهم مؤمنين؛أنّهم إذا عملوا الصّالحات ما حكمها؟قالوا:و من حمل ذلك على التّأكيد أو الفضل،فقد ترك الظّاهر.و كلّ شيء يذكرونه ممّا ذكر بعد دخوله في الأوّل ممّا ورد به القرآن نحو قوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ الرّحمن:68،و نحو قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الأحزاب:

7،و نحو قوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التّغابن:

94،و قوله: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ محمّد:1،قالوا:جميع ذلك مجاز.و لو خلّينا و الظّاهر،لقلنا:

إنّه ليس بداخل في الأوّل.

فإن قالوا:أ ليس الإقرار و التّصديق من العمل الصّالح،فلا بدّ لكم من مثل ما قلناه؟

قلنا:عنه جوابان:

أحدهما:أنّ العمل لا يطلق إلاّ على أفعال الجوارح، لأنّهم لا يقولون:عملت بقلبي،و إنّما يقولون:عملت بيدي أو برجلي.

و الثّاني:أنّ ذلك مجاز،و تحمل عليه الضّرورة، و كلامنا مع الإطلاق.(1:283)

مثله الطّبرسيّ(1:126)،و نحوه القرطبيّ(1:

435).

البيضاوي: من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدّقا بقلبه بالمبدإ و المعاد،عاملا بمقتضى شرعه.

و قيل:من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا، و دخل في الإسلام دخولا صادقا.(1:60)

الطّباطبائي: تكرار«الإيمان»ثانيا-و هو الاتّصاف بحقيقته كما يعطيه السّياق-يفيد أنّ المراد ب اَلَّذِينَ آمَنُوا في صدر الآية هم المتّصفون بالإيمان ظاهرا المتّسمون بهذا الاسم،فيكون محصّل المعنى أنّ الأسماء و التّسمّي بها مثل المؤمنين و اليهود و النّصارى و الصّابئين لا يوجب عند اللّه تعالى أجرا و لا أمنا من العذاب،كقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى البقرة:111،و إنّما ملاك الأمر و سبب الكرامة و السّعادة حقيقة الإيمان باللّه و اليوم الآخر و العمل الصّالح،و لذلك لم يقل:من آمن منهم،بإرجاع الضّمير إلى الموصول اللاّزم في الصّلة،لئلاّ يكون تقريرا للفائدة في التّسمّي على ما يعطيه النّظم كما لا يخفى.

و هذا ممّا تكرّرت فيه آيات القرآن أنّ السّعادة و الكرامة تدور مدار العبوديّة،فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسمّيه شيئا،و لا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه و ينجيه إلاّ مع لزوم العبوديّة-الأنبياء و من دونهم فيه سواء-فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكلّ وصف جميل: وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام:88،و قال تعالى في أصحاب نبيّه و من آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم و علوّ قدرهم: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً الفتح:29،فأتى بكلمة(منهم)و قال في غيرهم ممّن أوتي آيات اللّه تعالى: وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ الأعراف:176، إلى غير ذلك من الآيات النّاصّة على أنّ الكرامة بالحقيقة دون الظّاهر.(1:192)

2- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ. المائدة:69

الزّجّاج: يعني الّذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم،و هم المنافقون.(الطّوسيّ 3:592)

عبد الجبّار:ربّما قيل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ كيف يصحّ ذلك،

ص: 518

فكأنّه قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) من آمن منهم؟

و جوابنا:أنّ قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ يرجع إلى الّذين هادوا[و]إلى الصّابئين و النّصارى دون المؤمنين، فالكلام مستقيم،فكأنّه قال:إنّ الّذين آمنوا و من آمن من اليهود و النّصارى و الصّابئين و عمل صالحا،و بعد فلو رجع إلى الكلّ لكان المراد الإيمان في المستقبل،فكأنّه قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) :من ثبت على إيمانه في المستقبل و استمرّ عليه و عمل صالحا،فيستقيم الكلام.(121)

الطّوسيّ: من دام على الإيمان و الإخلاص و لم يرتدّ عن الإسلام.(3:592)

الزّمخشريّ: فإن قلت:كيف قال: (الَّذِينَ آمَنُوا) ثمّ قال: (مَنْ آمَنَ) ؟

قلت:فيه وجهان:

أحدهما:أن يراد (الَّذِينَ آمَنُوا) الّذين آمنوا بألسنتهم،و هم المنافقون.و أن يراد ب (مَنْ آمَنَ) من ثبت على الإيمان و استقام،و لم يخالجه ريبة فيه.

فإن قلت:ما محلّ (مَنْ آمَنَ) ؟

قلت:إمّا الرّفع على الابتداء،و خبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ و الفاء لتضمّن المبتدإ معنى الشّرط،ثمّ الجملة كما هي خبر(انّ)و إمّا النّصب على البدل من اسم(انّ) و ما عطف عليه أو من المعطوف عليه.

فإن قلت:فأين الرّاجع إلى اسم(انّ)؟

قلت:هو محذوف،تقديره:من آمن منهم،كما جاء في موضع آخر.(1:632)

الفخر الرّازيّ: إنّه تعالى قال في أوّل الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثمّ قال في آخر الآية: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ، و في هذا التّكرير فائدتان:

الأولى:أنّ المنافقين كانوا يزعمون أنّهم مؤمنون، فالفائدة في هذا التّكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف و عدم الحزن.

الفائدة الثّانية:أنّه تعالى أطلق لفظ«الإيمان» و الإيمان يدخل تحته أقسام،و أشرفها الإيمان باللّه و اليوم الآخر.فكانت الفائدة في الإعادة التّنبيه على أنّ هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان،و قد ذكرنا وجوها كثيرة في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا النّساء:136،و كلّها صالحة لهذا الموضع.(12:54)

مثله الخازن.(2:630)

الآلوسيّ: المعنى-كما قال غير واحد-على تقدير كون المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنين بألسنتهم،و هم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطّوائف إيمانا خالصا بالمبدإ و المعاد على الوجه اللاّئق،لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنّه بمعزل عن ذلك،و عمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفّار العقاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصّرون على تضييع العمر و تفويت الثّواب.و المراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرّت الإشارة إليه غير مرّة.

و أمّا على تقدير كون المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) المتديّنين بدين النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مخلصين كانوا أو منافقين،فالمراد ب (مَنْ آمَنَ) من اتّصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان بطريق الثّبات و الدّوام-كما في المخلصين-أو بطريق الإحداث و الإنشاء-كما هو حال

ص: 519

من عداهم من المنافقين و سائر الطّوائف-و ليس هناك الجمع بين الحقيقة و المجاز كما لا يخفى،لأنّ الثّبات على الإيمان و الإحداث فردان من مطلق الإيمان،إلاّ أنّ في هذا الوجه ضمّ المخلصين إلى الكفرة،و فيه إخلال بتكريمهم.

و ربّما يقال:إنّ فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أنّ تأخّرهم في الاتّصاف به غير مخلّ بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام.(6:203)

3- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ... البقرة:177

الفخر الرّازيّ:المسألة السّابعة:اعلم أنّ اللّه تعالى اعتبر في تحقّق ماهيّة البرّ أمورا:

الأوّل:الإيمان بأمور خمسة:

أوّلها:الإيمان باللّه،و لن يحصل العلم باللّه إلاّ عند العلم بذاته المخصوصة،و العلم بما يجب،و يجوز، و يستحيل عليه.و لن يحصل العلم بهذه الأمور إلاّ عند العلم بالدّلائل الدّالّة عليها،فيدخل فيه العلم بحدوث العالم،و العلم بالأصول الّتي عليها يتفرّع حدوث العالم.

و يدخل في العلم بما يجب له من الصّفات:العلم بوجوده و قدمه و بقائه،و كونه عالما بكلّ المعلومات،قادرا على كلّ الممكنات حيّا مريدا سميعا بصيرا متكلّما.و يدخل في العلم بما يستحيل عليه:العلم بكونه منزّها عن الحالّيّة و المحلّية و التّحيّز و العرضيّة.و يدخل في العلم بما يجوز عليه:اقتداره على الخلق و الإيجاد و بعثة الرّسل.

و ثانيها:الإيمان باليوم الآخر،و هذا الإيمان مفرّع على الأوّل،لأنّا ما لم نعلم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات،و لم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحّة الحشر و النّشر.

و ثالثها:الإيمان بالملائكة.

و رابعها:الإيمان بالكتب.

و خامسها:الإيمان بالرّسل،و هاهنا سؤالات:

السّؤال الأوّل:أنّه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة،و لا إلى العلم بصدق الكتب،إلاّ بواسطة صدق الرّسل،فإذا كان قول الرّسل كالأصل في معرفة الملائكة و الكتب،فلم قدّم الملائكة و الكتب في الذّكر على الرّسل؟

الجواب:أنّ الأمر و إن كان كما ذكرتموه في عقولنا و أفكارنا،إلاّ أنّ ترتيب الوجود على العكس من ذلك، لأنّ الملك يوجد أوّلا،ثمّ يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب،ثمّ يصل ذلك الكتاب إلى الرّسول.فالمراعى في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجيّ،لا ترتيب الاعتبار الذّهنيّ.

السّؤال الثّانيّ:لم خصّ الإيمان بهذه الأمور الخمسة؟

الجواب:لأنّه دخل تحتها كلّ ما يلزم أن يصدّق به، فقد دخل تحت الإيمان باللّه:معرفته بتوحيده و عدله و حكمته،و دخل تحت اليوم الآخر:المعرفة بما يلزم من أحكام الثّواب و العقاب و المعاد إلى سائر ما يتّصل بذلك، و دخلت تحت الملائكة:ما يتّصل بأدائهم الرّسالة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ليؤدّيها إلينا،إلى غير ذلك ممّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة،و دخل تحت الكتاب:القرآن و جميع ما أنزل اللّه على أنبيائه،و دخل تحت النّبيّين:الإيمان بنبوّتهم،و صحّة شرائعهم؛فثبت أنّه لم يبق شيء ممّا

ص: 520

يجب الإيمان به إلاّ دخل تحت هذه الآية.

و تقرير آخر:و هو أنّ للمكلّف مبدأ و وسطا و نهاية.

و معرفة المبدإ و المنتهى هو المقصود بالذّات،و هو المراد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر.و أمّا معرفة مصالح الوسط فلا تتمّ إلاّ بالرّسالة،و هي لا تتمّ إلاّ بأمور ثلاثة:الملائكة الآتين بالوحي،و نفس ذلك الوحي و هو الكتاب، و الموحى إليه و هو الرّسول.

السّؤال الثّالث:لم قدّم هذا الإيمان على أفعال الجوارح،و هو إيتاء المال،و الصّلاة،و الزّكاة؟

الجواب:للتّنبيه على أنّ أعمال القلوب أشرف عند اللّه من أعمال الجوارح.(5:43)

أبو حيّان: و قدّم الإيمان باللّه و اليوم الآخر على الإيمان بالملائكة و الكتب و الرّسل،لأنّ المكلّف له مبدأ و وسط و منتهى،و معرفة المبدإ و المنتهى هو المقصود بالذّات،و هو المراد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر.و أمّا معرفة مصالح الوسط فلا تتمّ إلاّ بالرّسالة و هي لا تتمّ إلاّ بأمور ثلاثة:الملائكة الآتين بالوحي،و الموحى به و هو الكتاب،و الموحى إليه و هو الرّسول.

و قدّم الإيمان على أفعال الجوارح،و هو إيتاء المال و الصّلاة و الزّكاة،لأنّ أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح،و لأنّ أعمال الجوارح النّافعة عند اللّه تعالى إنّما تنشأ عن الإيمان؛و بهذه الخمسة الّتي هي متعلّق الإيمان حصلت حقيقة الإيمان،لأنّ الإيمان باللّه يستدعي الإيمان بوجوده و قدمه و بقائه و علمه بكلّ المعلومات،و تعلّق قدرته بكلّ الممكنات و إرادته،و كونه سميعا و بصيرا متكلّما،و كونه منزّها عن الحالّيّة و المحلّيّة و التّحيّز و العرضيّة.

و الإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم من أحكام المعاد و الثّواب و العقاب و ما يتّصل بذلك.

و الإيمان بالملائكة يستدعي صحّة أدائهم الرّسالة إلى الأنبياء،و غير ذلك من أحوال الملائكة.

و الإيمان بالكتاب تقتضي التّصديق بكتب اللّه المنزلة.

و الإيمان بالنّبيّين يقتضي التّصديق بصحّة نبوّتهم و شرائعهم.(2:4)

البروسويّ: (آمَنَ بِاللّهِ) وحده إيمانا بريئا من شائبة الإشراك،لا كإيمان اليهود و النّصارى المشركين بقولهم:

عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ التّوبة:30،و قولهم: اَلْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ التّوبة:30.

و قدّم الإيمان باللّه في الذّكر،لأنّه أصل لجميع الكمالات العلميّة و العمليّة.(1:281)

نحوه الآلوسيّ.(2:45)

رشيد رضا :ابتدأ بذكر الإيمان باللّه و اليوم الآخر لأنّه أساس كلّ برّ،و مبدأ كلّ خير.و لا يكون الإيمان أصلا للبرّ إلاّ إذا كان متمكّنا من النّفس بالبرهان، مصحوبا بالخضوع و الإذعان.فمن نشأ بين قوم و سمع منهم اسم اللّه في حلفهم،و اسم الآخرة في حوارهم، و قبل منهم بالتّسليم أنّ له إلها،و أنّ هناك يوما آخر يسمّى يوم القيامة،و أنّ أهل دينه هم خير من أهل سائر الأديان؛فإنّ ذلك لا يكون باعثا له على البرّ و إن زادت معارفه بهذه الألفاظ الملمّة،فحفظ الصّفات العشرين الّتي حدّد بعض المتكلّمين بها ما يجب إثباته للّه تعالى

ص: 521

عقلا،و أضدادها الّتي تستحيل عليه عقلا،و إن حفظ العقيدة السّنوسيّة المسمّاة ب«أمّ البراهين»أيضا.

و لقد كان أهل الكتاب الّذين تبيّن لهم الآية خطأهم في فهم مقاصد الدّين يؤمنون باللّه و اليوم الآخر،و لكنّهم كانوا بمعزل عن الإذعان و القيام بحقوق هذا الإيمان،من الأعمال و الأوصاف المذكورة في الآية.

الإيمان المطلوب:معرفة حقيقة تملك العقل بالبرهان، و النّفس بالإذعان،حتّى يكون اللّه و رسوله أحبّ إلى المؤمن من كلّ شيء،و يؤثر أمرهما على كلّ شيء قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ التّوبة:24،و إيمان التّقليد قد يفضّل صاحبه حبّ كلّ واحد من هذه الأمور على حبّ اللّه و رسوله.

الإيمان المطلوب:معرفة تطمئنّ بها القلوب،و تحيا بها النّفوس،و تخنس معها الوساوس،و تبعد بها عن النّفس الهواجس،فلا تبطر صاحبها النّعمة،و لا تؤيسه النّقمة اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الرّعد:28، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ الحديد:23،و إيمان التّقليد لا يفتأ صاحبه مضطرب القلب،ميّت النّفس،إذا مسّه الخير فهو فرح فخور،و إذا مسّه الشّرّ فهو يئوس كفور.

الإيمان المطلوب:معرفة تتمثّل للمؤمن إذا عرضت له دواعي الشّرّ و أسباب المعاصي فتحول دونها،فإذا نسي فأصاب الذّنب بادر إلى التّوبة و الإنابة.فالمؤمنون هم الّذين وصفوا بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ آل عمران:135،و هم اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الأنفال:2،و إيمان التّقليد:يصرّ صاحبه على العصيان،و يقترف الفواحش عامدا عالما،لا يستحي من اللّه و لا يوجل قلبه إذا ذكره،و لا يخافه إذا عصاه.

الإيمان المطلوب:هو الّذي إذا علم صاحبه بأنّ الإيمان أصيب بمصيبة كانت مصيبته في دينه أشدّ عليه من المصيبة في نفسه و ماله و ولده،و كان انبعاثه إلى تلافيها أعظم من انبعاثه إلى دفع الأذى عن حقيقته، و جلب الرّزق إلى نفسه و أهله و عشيرته،و إيمان المقلّد:

لا غيرة معه على الدّين و لا على الإيمان وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ النّور:48،49.

يذكر القرآن الإيمان باللّه و اليوم الآخر كثيرا،و إنّما المراد به ما له مثل هذه الآثار الّتي شرحها في آيات كثيرة،من أجمعها هذه الآية الّتي نفسّرها الآن.و لكن أهل التّقليد-الّذين لا أثر للإيمان في قلوبهم و لا في أعمالهم إلاّ ما جرت به عادة قومهم من الإتيان ببعض الرّسوم- يؤوّلون كلّ هذه الآيات بجعلهم الإيمان قسمين:

قسما كاملا و هو الّذي يصف القرآن أهله بما يصفهم به،و قسما ناقصا و هو إيمانهم الّذي يجامع ما وصف اللّه تعالى به الكافرين و المنافقين.و يرون أنّ الإيمان

ص: 522

النّاقص كاف لنيل سعادة الآخرة،و لا سيّما إذا صحبه بعض الرّسوم الدّينيّة.

و لكنّ اللّه تعالى يرشدنا في مثل هذه الآية إلى أنّ الرّسوم ليست من البرّ في شيء،و إنّما البرّ هو الإيمان، و ما يظهر من آثاره في النّفس و العمل،كما ترى في الآية.

و أساس ذلك:الإيمان باللّه،و اليوم الآخر،و الملائكة، و الكتاب،و النّبيّين.

فالإيمان باللّه يرفع النّفوس عن الخضوع و الاستعباد للرّؤساء الّذين استذلّوا البشر بالسّلطة الدّينيّة،و هي دعوى القداسة و الوساطة عند اللّه،و دعوى التّشريع و القول على اللّه بدون إذن اللّه.أو السّلطة الدّنيويّة و هي سلطة الملك و الاستبداد،فإنّ العبوديّة لغير اللّه تعالى تهبط بالبشر إلى دركة الحيوان المسخّر أو الزّرع المستنبت،و الإيمان باليوم الآخر و بالملائكة يعلم الإنسان أنّ له حياة في عالم غيبيّ أعلى من هذا العالم،فلا يرضى لنفسه أن يكون سعيه و عمله لأجل خدمة هذا الجسد خاصّة،لأنّ ذلك يجعله لا يبالي إلاّ بالأمور البهيميّة، و لا يرضى لنفسه بالأولى أن يكون عبدا ذليلا لبشر مثله، للقلب دينيّ أو دنيويّ و قد أعزّه اللّه بالإيمان،و إنّما أئمّة الدّين عنده مبلّغون لما شرع اللّه،و أئمّة الدّنيا منفّذون لأحكام اللّه.و إنّما الخضوع الدّينيّ للّه و لشرعه لا لشخوصهم و ألقابهم.

ثمّ إنّ الإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي،لأنّ ملك الوحي روح عاقل عالم،يفيض العلم بإذن اللّه على روح النّبيّ،بما هو موضوع الدّين،و لذلك قدّم ذكر (الملائكة)على ذكر الكتاب و النّبيّين،فهم الّذين يؤتون النّبيّين الكتاب تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ القدر:4، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشّعراء:193-195،فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي و النّبوّة و إنكار الأرواح،و ذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر.و من أنكر اليوم الآخر يكون أكبر همّه لذّات الدّنيا و شهواتها و حظوظها؛و ذلك أصل لشقاء الدّنيا قبل شقاء الآخرة.و الملائكة خلق روحانيّ عاقل قائم بنفسه،و هم من عالم الغيب،فلا نبحث عن حقيقتهم،كما تقدّم غير مرّة.

و اختير لفظ(الكتاب)على الكتب للإيماء إلى أنّ كلاّ من اليهود و النّصارى لو صحّ إيمانهم بكتابهم و أذعنوا له لكان في ذلك هداية لهم،و إن جهلوا وحدة الدّين،فلم يعرفوا حقّيّة جميع الكتب الإلهيّة.

على أنّ المقصود لازمه و هو أنّهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بكتابهم؛إذ لا يعملون بما يرشد إليه و لو كان إيمانهم صحيحا لقارنه الإذعان،الباعث على العمل بقدر الإمكان،فإنّ كثيرا من المؤمنين بالتّسليم و التّقليد كانوا كمن نزل فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ الحجرات:14،15.

فهذا الإيمان الّذي حصر اللّه الصّدق في أصحابه كان قد فقد من أكثر أهل الكتاب،كما هو حال مجموع

ص: 523

المسلمين في هذا العصر،فإنّ الّذي تصدق عليه هذه الأوصاف صار نادرا جدّا.و لذلك حرم المسلمون ما وعد اللّه المؤمنين من العزّة و النّصر،و الاستخلاف في الأرض، و لن يعود لهم شيء من ذلك حتّى يعودوا إلى التّحقّق بما ميّز اللّه به المؤمنين من النّعوت و الأوصاف.

فالإيمان ب(الكتاب)يستلزم العمل به،فإنّ المؤمن الموقن بأنّ هذا الشّيء قبيح ضارّ لا تتوجّه إرادته إلى إتيانه،و المؤمن الموقن بأنّ هذا الشّيء حسن نافع لا بدّ أن تتوجّه إليه نفسه عند عدم المانع.

فما بال مدّعي الإيمان بالكتاب قد أعرضوا عن امتثال أمره و نهيه حتّى صاروا يعدّون حفظه و قراءته من موانع الجهاد في سبيل اللّه بالمال و النّفس،فكان من قوانينهم أنّ حافظ القرآن لا يطالب بتعلّم فنون الحرب و الجهاد لأنّه حافظ،و صار حملة الكتاب لا يطالبون ببذل شيء من ما لهم في سبيل اللّه،حتّى إذا ما طولب أحدهم ببذل شيء لإعانة المنكوبين أو لبناء مسجد و نحو ذلك،اعتذر بأنّه من العلماء أو الحفّاظ لكتاب اللّه تعالى،بخل القرّاء و المتفقّهة بفضل اللّه تعالى فجازاهم اللّه تعالى على بخلهم، و وفاهم ما يستحقّون على سوء ظنّهم بربّهم،حتّى صاروا في الغالب أذلّ النّاس،لأنّهم عالة على جميع النّاس.

و الإيمان ب(النّبيّين)يقتضي الاهتداء بهديهم، و التّخلّق بأخلاقهم،و التّأدّب بآدابهم،و يتوقّف هذا على معرفة سيرتهم و العلم بسنّتهم.و أبعد النّاس عن الإيمان بهم من رغبوا عن معرفة ما ذكر أو الاهتداء به،و لا عذر لهم بما يزعمون من الاستغناء عن السّنّة بالاقتداء بالأئمّة و الفقهاء،فإنّه لا معنى للاقتداء بشخص إلاّ الاستقامة على طريقته.و إنّما طريقة الأئمّة المهتدين البحث عن السّنّة و تقديمها بعد كتاب اللّه تعالى،على كلّ هداية و إرشاد،و لا يغني عن كتاب اللّه و سنّة رسوله شيء أبدا، فإنّ اللّه يقول: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ الأحزاب:21.

فمن استغنى عن التّأسّي بالرّسول فقد استغنى عن الإيمان باللّه و اليوم الآخر؛إذ لا ينفعه هذا الإيمان إلاّ بهذا التّأسّي.على أنّ الاقتداء بالأئمّة يقضي على صاحبه بأن يعرف سيرتهم،و طريقة أخذهم عن ربّهم و نبيّهم، و أصول استدلالهم.و هؤلاء المقلّدون لا يعرفون ذلك،بل يندر أن يعرف أحد منهم كلام من يدّعي اتّباعه و تقليده، بل جعلوا بينهم و بين أئمّتهم عدّة وسائط من المقلّدين، فهم يقلّدونهم دونه،بناء على أنّهم أعلم منهم بمراده،كما أنّه أعلم بمراد اللّه و رسوله.(2:111)

الطّباطبائيّ:و قوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ تعريف للأبرار و بيان لحقيقة حالهم،و قد عرّفهم أوّلا في جميع المراتب الثّلاث من الاعتقاد و الأعمال و الأخلاق بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ و ثانيا بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا و ثالثا بقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ البقرة:177.

فأمّا ما عرّفهم به أوّلا فابتدأ فيه بقوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ و هذا جامع لجميع المعارف الحقّة الّتي يريد اللّه سبحانه من عباده الإيمان بها.و المراد بهذا الإيمان الإيمان التّامّ الّذي لا يتخلّف عنه أثره،لا في القلب بعروض شكّ أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شيء ممّا يصيبه ممّا

ص: 524

لا ترتضيه النّفس،و لا في خلق و لا في عمل.و الدّليل على أنّ المراد به ذلك قوله في ذيل الآية: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فقد أطلق الصّدق و لم يقيّده بشيء من أعمال القلب و الجوارح،فهم مؤمنون حقّا صادقون في إيمانهم، كما قال تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً النّساء:65،و حينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الرّابعة من مراتب الإيمان الّتي مرّ بيانها في ذيل قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ البقرة:131.

(1:428)

4- آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ...

البقرة:285

الميبديّ:تعظيما للرّسول و تشريفا له حين المشاهدة قال: آمَنَ الرَّسُولُ و لم يقل:آمنت،كما هو الحال عند خطاب الملوك و العظماء على وجه التّعظيم.(1:787)

أبو البركات: و قال:(امن)بالإفراد و لم يقل:آمنوا بالجمع،حملا على لفظ(كلّ)لأنّ«كلاّ»فيه إفراد لفظيّ و جمع معنويّ،و لهذا يجوز أن نقول:كلّ القوم ضربته حملا على اللفظ،و كلّ القوم ضربتهم حملا على المعنى.(1:187)

الفخر الرّازيّ: المسألة الثّانية:أمّا قوله تعالى:

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فالمعنى أنّه عرف بالدّلائل القاهرة و المعجزات الباهرة أنّ هذا القرآن و جملة ما فيه من الشّرائع و الأحكام،نزل من عند اللّه تعالى،و ليس ذلك من باب إلقاء الشّياطين،و لا من نوع السّحر و الكهانة و الشّعبذة.و إنّما عرف الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل صلّى اللّه عليه و سلّم.

فأمّا قوله:(و المؤمنون)ففيه احتمالان:

أحدهما:أن يتمّ الكلام عند قوله:(و المؤمنون) فيكون المعنى آمن الرّسول و المؤمنون بما أنزل إليه من ربّه،ثمّ ابتدأ بعد ذلك بقوله:(كلّ آمن باللّه)و المعنى كلّ واحد من المذكورين فيما تقدّم،و هم الرّسول و المؤمنون، آمن باللّه.

و الاحتمال الثّاني:أن يتمّ الكلام عند قوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ثمّ يبتدئ من قوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ و يكون المعنى أنّ الرّسول آمن بكلّ ما أنزل إليه من ربّه.و أمّا المؤمنون فإنّهم آمنوا باللّه و ملائكته و كتبه و رسله.

فالوجه الأوّل يشعر بأنّه عليه الصّلاة و السّلام ما كان مؤمنا بربّه ثمّ صار مؤمنا بربّه،و يحمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال.و على الوجه الثّاني يشعر اللّفظ بأنّ الّذي حدث هو إيمانه بالشّرائع الّتي أنزلت عليه،كما قال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ الشّورى:52.

و أمّا الإيمان باللّه و ملائكته و كتبه و رسله على الإجمال،فقد كان حاصلا منذ خلقه اللّه من أوّل الأمر، و كيف يستبعد ذلك مع أنّ عيسى عليه السّلام حين انفصل عن أمّه قال: إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ مريم:30،فإذا لم يبعد أنّ عيسى عليه السّلام رسولا من عند اللّه حين كان طفلا فكيف يستبعد أن يقال:إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم كان عارفا بربّه من

ص: 525

أوّل ما خلق كامل العقل.

المسألة الثّالثة:دلّت الآية على أنّ الرّسول آمن بما أنزل إليه من ربّه،و المؤمنون آمنوا باللّه و ملائكته و كتبه و رسله.و إنّما خصّ الرّسول بذلك،لأنّ الّذي أنزل إليه من ربّه قد يكون كلاما متلوّا يسمعه الغير و يعرفه، و يمكنه أن يؤمن به.و قد يكون وحيا لا يعلمه سواه، فيكون هو صلّى اللّه عليه و سلّم مختصّا بالإيمان به،و لا يتمكّن غيره من الإيمان به،فلهذا السّبب كان الرّسول مختصّا في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.

ثمّ قال اللّه تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ و فيه مسائل:

المسألة الأولى:اعلم أنّ هذه الآية دلّت على أنّ معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان.

فالمرتبة الأولى:هي الإيمان باللّه سبحانه و تعالى؛ و ذلك لأنّه ما لم يثبت أنّ للعالم صانعا قادرا على جميع المقدورات،عالما بجميع المعلومات،غنيّا عن كلّ الحاجات،لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام،فكانت معرفة اللّه تعالى هي الأصل،فلذلك قدّم اللّه تعالى هذه المرتبة في الذّكر.

و المرتبة الثّانية:أنّه سبحانه و تعالى إنّما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام بواسطة الملائكة،فقال:

يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ النّحل:2،و قال: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ الشّورى:51،و قال: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ البقرة:97،و قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ الشّعراء:193،194 و قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى النّجم:5،فإذا ثبت أنّ وحي اللّه تعالى إنّما يصل إلى البشر بواسطة الملائكة،فالملائكة يكونون كالواسطة بين اللّه تعالى و بين البشر،فلهذا السّبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثّانية،و لهذا السّرّ قال أيضا: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ آل عمران:18.

و المرتبة الثّالثة:الكتب،و هو الوحي الّذي يتلقّاه الملك من اللّه تعالى و يوصله إلى البشر،و ذلك في ضرب المثال:يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشّمس، فذات الملك كالقمر،و ذات الوحي كاستنارة القمر،فكما أنّ ذات القمر مقدّمة في الرّتبة على استنارته،فكذلك ذات الملك متقدّم على حصول ذلك الوحي المعبّر عنه بهذه الكتب،فلهذا السّبب كانت الكتب متأخّرة في الرّتبة عن الملائكة،فلا جرم أخّر اللّه تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة.

و المرتبة الرّابعة:الرّسل،و هم الّذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة،فيكونون متأخّرين في الدّرجة عن الكتب،فلهذا السّبب جعل اللّه تعالى ذكر الرّسل في المرتبة الرّابعة.

و اعلم أنّ في ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرارا غامضة،و حكما عظيمة،لا يحسن إيداعها في الكتب،و القدر الّذي ذكرناه كاف في التّشريف.

المسألة الثّانية:المراد ب«الإيمان باللّه»عبارة عن الإيمان بوجوده،و بصفاته،و بأفعاله،و بأحكامه، و بأسمائه.

ص: 526

أمّا الإيمان ب(وجوده)فهو أن يعلم أنّ وراء المتحيّزات موجودا خالقا لها،و على هذا التّقدير فالمجسّم لا يكون مقرّا بوجود الإله تعالى،لأنّه لا يثبت ما وراء المتحيّزات شيئا آخر.فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات اللّه تعالى.أمّا الفلاسفة و المعتزلة فإنّهم مقرّون بإثبات موجود سوى المتحيّزات موجد لها،فيكون الخلاف معهم لا في الذّات بل في الصّفات.

و أمّا(الإيمان بصفاته)فالصّفات إمّا سلبيّة،و إمّا ثبوتيّة.

فأمّا السّلبيّة:فهي أن يعلم أنّه فرد منزّه عن جميع جهات التّركيب،فإنّ كلّ مركّب مفتقر إلى كلّ واحد من أجزائه،و كلّ واحد من أجزائه غيره فهو مركّب،فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته؛فإذن كلّ مركّب فهو ممكن لذاته،و كلّ ما ليس ممكنا لذاته بل كان واجبا لذاته،امتنع أن يكون مركّبا بوجه من الوجوه،بل كان فردا مطلقا.

و إذا كان فردا في ذاته لزم أن لا يكون متحيّزا، و لا جسما،و لا جوهرا،و لا في مكان،و لا حالاّ،و لا في محلّ،و لا متغيّرا،و لا محتاجا بوجه من الوجوه البتّة.

و أمّا الصّفات الثّبوتيّة:فبأن يعلم أنّ الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي،فلمّا رأينا أنّ هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال،علمنا أنّ المؤثّر فيها قادر مختار لا موجب بالذّات،ثمّ يستدلّ بما في أفعاله من الإحكام و الإتقان على كمال علمه،فحينئذ يعرفه قادرا عالما حيّا سميعا بصيرا موصوفا منعوتا بالجلال و صفات الكمال، و قد استقصينا ذلك في تفسير قوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ البقرة:255.

و أمّا الإيمان ب«أفعاله»فبأن تعلم أنّ كلّ ما سواه فهو ممكن محدث،و تعلم ببديهة عقلك أنّ الممكن المحدث لا يوجد بذاته،بل لا بدّ له من موجد يوجده،و هو القديم.

و هذا الدّليل يحملك على أن تجزم بأنّ كلّ ما سواه فإنّما حصل بتخليقه و إيجاده و تكوينه،إلاّ أنّه وقع في البين عقدة،و هي الحوادث الّتي هي الأفعال الاختياريّة للحيوانات.فالحكم الأوّل-و هو أنّها ممكنة محدثة،فلا بدّ من إسنادها إلى واجب الوجود-مطّرد فيها.

فإن قلت:إنّي أجد من نفسي أنّي إن شئت أن أتحرّك تحرّكت،و إن شئت أن لا أتحرّك لم أتحرّك،فكانت حركاتي و سكناتي بي لا بغيري.

فنقول:قد علّقت حركتك بمشيئتك لحركتك، و سكونك بمشيئتك لسكونك،فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرّك،و قبل حصول مشيئة السّكون لا تسكن،و عند حصول مشيئة الحركة لا بدّ و أن تتحرّك.

إذا ثبت هذا فنقول:هذه المشيئة كيف حدثت،فإنّ حدوثها إمّا أن يكون لا بمحدث أصلا أو يكون بمحدث، ثمّ ذلك المحدث إمّا أن يكون هو العبد أو اللّه تعالى.فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصّانع،و إن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى و لزم التّسلسل، فثبت أنّ محدثها هو اللّه سبحانه و تعالى.

إذا ثبت هذا فنقول:لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة،و بعد حدوثها فلا اختيار له في ترتّب الفعل عليها إلاّ المشيئة به،و لا حصول الفعل بعد المشيئة، فالإنسان مضطرّ في صورة مختار،فهذا كلام قاهر قويّ،

ص: 527

و في معارضته إشكالان:

أحدهما:كيف يليق بكمال حكمة اللّه تعالى إيجاد هذه القبائح و الفواحش من الكفر و الفسق؟

و الثّاني:أنّه لو كان الكلّ بتخليقه فكيف توجّه الأمر و النّهي،و المدح و الذّمّ،و الثّواب و العقاب على العبد؟ فهذا هو الحرف المعوّل عليه من جانب الخصم،إلاّ أنّه وارد عليه أيضا في العلم،على ما قرّرناه في مواضع عدّة.

و أمّا المرتبة الرّابعة في الإيمان باللّه فهي«معرفة أحكامه»و يجب أن يعلم في أحكامه أمورا أربعة:

أحدها:أنّها غير معلّلة بعلّة أصلا،لأنّ كلّ ما كان معلّلا بعلّة كان صاحبه ناقصا بذاته،كاملا بغيره،و ذلك على الحقّ سبحانه محال.

و ثانيها:أن يعلم أنّ المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحقّ،فإنّه منزّه عن جلب المنافع،و دفع المضارّ.

و ثالثها:أن يعلم أنّ له الإلزام و الحكم في الدّنيا كيف شاء و أراد.

و رابعها:أن يعلم أنّه لا يجب لأحد على الحقّ بسبب أعماله و أفعاله شيء،و أنّه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله،و يعذّب من يشاء بعدله،و أنّه لا يقبح منه شيء،و لا يجب عليه شيء،لأنّ الكلّ ملكه و المملوك المجازيّ لا حقّ له على المالك المجازيّ،فكيف المملوك الحقيقيّ مع المالك الحقيقيّ؟

و أمّا المرتبة الخامسة في الإيمان باللّه ف«معرفة أسمائه»قال في الأعراف:180، وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و قال في الإسراء:110، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و قال في طه:8، اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و قال في الحشر:24، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ. و الأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب اللّه المنزلة على ألسنة أنبيائه المعصومين،و هذه الإشارة إلى معاقد الإيمان باللّه.

و أمّا«الإيمان بالملائكة»فهو من أربعة أوجه:

أوّلها:الإيمان بوجودها،و البحث عن أنّها روحانيّة محضة،أو جسمانيّة،أو مركّبة من القسمين.و بتقدير كونها جسمانيّة فهي أجسام لطيفة أو كثيفة،فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانيّة أو هوائيّة،و إن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوّة إلى الغاية القصوى،فذاك مقام العلماء الرّاسخين في علوم الحكمة القرآنيّة و البرهانيّة.

و المرتبة الثّانية في الإيمان بالملائكة:العلم بأنّهم معصومون مطهّرون،يخافون ربّهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون،لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون، فإنّ لذّتهم بذكر اللّه،و أنسهم بعبادة اللّه،و كما أنّ حياة كلّ واحد منّا بنفسه الّذي هو عبارة عن استنشاق الهواء، فكذلك حياتهم بذكر اللّه تعالى،و معرفته و طاعته.

و المرتبة الثّالثة:أنّهم وسائط بين اللّه و بين البشر، فكلّ قسم منهم متوكّل على قسم من أقسام هذا العالم، كما قال سبحانه: وَ الصَّافّاتِ صَفًّا* فَالزّاجِراتِ زَجْراً الصّافّات:1،2،و قال: وَ الذّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً الذّاريات:1،2،و قال:

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً المرسلات:

1،2،و قال: وَ النّازِعاتِ غَرْقاً* وَ النّاشِطاتِ نَشْطاً

ص: 528

النّازعات:1،2،و لقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسرارا مخفيّة،إذا طالعها الرّاسخون في العلم وقفوا عليها.

و المرتبة الرّابعة:أنّ كتب اللّه المنزلة إنّما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة،قال اللّه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ التّكوير:19،20،فهذه المراتب لا بدّ منها في حصول الإيمان بالملائكة،فكلّما كان غوص العقل في هذه المراتب أشدّ،كان إيمانه بالملائكة أتمّ.

و أمّا«الإيمان بالكتب»فلا بدّ فيه من أمور أربعة:

أوّلها:أن يعلم أنّ هذه الكتب وحي من اللّه تعالى إلى رسوله،و أنّها ليست من باب الكهانة،و لا من باب السّحر،و لا من باب إلقاء الشّياطين و الأرواح الخبيثة.

و ثانيها:أن يعلم أنّ الوحي بهذه الكتب و إن كان من قبل الملائكة المطهّرين،فاللّه تعالى لم يمكّن أحدا من الشّياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطّاهر،و عند هذا يعلم أنّ من قال:إنّ الشّيطان ألقى قوله:«تلك الغرانيق العلى»في أثناء الوحي،فقد قال قولا عظيما،و طرق الطّعن و التّهمة إلى القرآن.

و المرتبة الثّالثة:أنّ هذا القرآن لم يغيّر و لم يحرّف.

و دخل فيه فساد قول من قال:إنّ ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي اللّه عنه،فإنّ من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجّة.

و المرتبة الرّابعة:أن يعلم أنّ القرآن مشتمل على المحكم و المتشابه،و أنّ محكمه يكشف عن متشابهه.

و أمّا«الإيمان بالرّسل»فلا بدّ فيه من أمور أربعة:

المرتبة الأولى:أن يعلم كونهم معصومين من الذّنوب،و قد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله:

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ البقرة:36،و جميع الآيات الّتي يتمسّك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التّفسير،بعون اللّه سبحانه و تعالى.

و المرتبة الثّانية من مراتب الإيمان بهم:أن يعلم أنّ النّبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ،و من الصّوفية من ينازع في هذا الباب.

المرتبة الثّالثة:قال بعضهم:إنّهم أفضل من الملائكة، و قال كثير من العلماء:إنّ الملائكة السّماويّة أفضل منهم، و هم أفضل من الملائكة الأرضيّة و قد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ البقرة:34،و لأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة.

المرتبة الرّابعة:أن يعلم أنّ بعضهم أفضل من البعض، و قد بيّنّا ذلك في تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ البقرة:253،و منهم من أنكر ذلك و تمسّك بقوله تعالى له في هذه الآية: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ البقرة:285.

و أجاب العلماء عنه بأنّ المقصود من هذا الكلام شيء آخر،و هو أنّ الطّريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم،فإذا كان هذا هو الطّريق،وجب في حقّ كلّ من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقا،و إن لم يصحّ هذا الطّريق وجب أن لا يدلّ في حقّ أحد منهم على صحّة رسالته.

ص: 529

فأمّا أن يدلّ على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض،و الغرض منه تزييف طريقة اليهود و النّصارى الّذين يقرّون بنبوّة موسى و عيسى، و يكذّبون بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.فهذا هو المقصود من قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ البقرة:285، لا ما ذكرتم من أنّه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض،فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان:باللّه، و ملائكته،و كتبه،و رسله.(7:138)

الرّازيّ:فإن قيل:أيّ شرف للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في مدحه بالإيمان مع أنّه في رتبة الرّسالة و درجتها،و هي أعلى من درجة الإيمان،فما فائدة قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ) ؟

قلنا:فائدته أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان؛ حيث مدح به خواصّه و رسله،و نظيره في سورة الصّافّات قوله تعالى في خاتمة ذكر كلّ نبيّ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الصّافّات:81.(24)

الطّباطبائيّ: تصديق لإيمان الرّسول و المؤمنين، و إنّما أفرد رسول اللّه عنهم بالإيمان بما أنزل إليه من ربّه ثمّ ألحقهم به تشريفا له،و هذا دأب القرآن في الموارد الّتي تناسب التّشريف أن يكرم النّبيّ بإفراده و تقديم ذكره،ثمّ إتباع ذلك بذكر المؤمنين،كقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الفتح:26، و قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا التّحريم:8.(2:441)

5- وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ. البقرة:126.

الطّبريّ: هذه مسألة من إبراهيم ربّه أن يرزق مؤمني أهل مكّة من الثّمرات دون كافريهم،و خصّ بمسألته ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه اللّه عند مسألته إيّاه أن يجعل من ذرّيّته أئمّة يقتدى بهم:أنّ منهم الكافر الّذي لا ينال عهده،و الظّالم الّذي لا يدرك ولايته.

فلمّا أن علم أنّ من ذرّيّته الظّالم و الكافر خصّ بمسألته ربّه أن يرزق من الثّمرات من سكّان مكّة المؤمن منهم دون الكافر،و قال اللّه له:إنّي قد أجبت دعاءك و سأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم فأمتّعه به قليلا.

(1:544)

الميبديّ: خصّ هنا إبراهيم المؤمنين دون غيرهم بطلب الرّزق الحلال؛إذ قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، و دعا الهداية لعموم ولده،و قال:[في آية أخرى] وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي فأورد اللّه تخصيصا من تعميم.و قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ البقرة:124،فاستثنى المؤمنين في دعائه و ميّزهم عن الكافرين،فعمّم اللّه التّخصيص، و قال: وَ مَنْ كَفَرَ، لأنّ نعمة الدّنيا عامّة تشمل القريب و البعيد فالكلّ يأخذ نصيبه،ثمّ فرّق في الآخرة بين المؤمن و الكافر إذ قال: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً.

(1:356)

نحوه رشيد رضا(1:464)،و المراغيّ(1:212).

الزّمخشريّ: و مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من (أَهْلَهُ) يعني و ارزق المؤمنين من أهله خاصّة.

فإن قلت:لم خصّ إبراهيم صلوات اللّه عليه المؤمنين حتّى ردّ عليه؟

ص: 530

قلت:قاس الرّزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما، لأنّ الاستخلاف استرعاء يختصّ بمن ينصح للمرعى، و أبعد النّاس عن نصيحة الظّالم،بخلاف الرّزق فإنّه قد يكون استدراجا للمرزوق و إلزاما للحجّة له.(1:310)

نحوه الفخر الرّازيّ(4:61)،و النّيسابوريّ(1:

446)و أبو حيّان(1:383).

الآلوسيّ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من (أَهْلَهُ) بدل البعض،و هو مخصّص لما دلّ عليه المبدل منه،و اقتصر في متعلّق الإيمان بذكر المبدإ و المعاد لتضمّن الإيمان بهما، الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به.(1:382)

الطّباطبائيّ: لمّا سئل عليه السّلام لبلد مكّة الأمن،ثمّ سئل لأهله أن يرزقوا من الثّمرات،استشعر أنّ الأهل سيكون منهم مؤمنون و كافرون،و دعاؤه للأهل بالرّزق يعمّ الكافر و المؤمن،و قد تبرّأ من الكافرين و ما يعبدونه، قال تعالى: فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ التّوبة:

114،فشهد تعالى له بالبراءة و التّبرّيّ عن كلّ عدوّ للّه حتّى أبيه،و لذلك لمّا استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيّدها بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ و هو يعلم أنّ رزقهم من الثّمرات لا يتمّ من دون شركة الكافرين، على ما يحكم به ناموس الحياة الدّنيويّة الاجتماعيّة،غير أنّه خصّ مسألته،و اللّه أعلم بما يحكم لسائر عباده، و يريد في حقّهم،فأجيب عليه السّلام بما يشمل المؤمن و الكافر.

و هي بيان أنّ المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة و قانون الطّبيعة من غير خرق للعادة،و إبطال لظاهر حكم الطّبيعة و لم يقل:و ارزق من آمن من أهله من الثّمرات،لأنّ المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرّم،و لا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع وقع فيه البيت،و لو لا ذلك لم يعمر البلد،و لا وجد أهلا يسكنونه.(1:281)

6- إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ...

التّوبة:18

الطّوسيّ: و ذكر قوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ بعد ذكر قوله: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يدلّ على أنّ«الإيمان»لا يقع على أفعال الجوارح،لأنّه لو كان«الإيمان»متناولا لذلك أجمع،لما جاز عطف ما دخل فيه عليه.و من حمل ذلك على أنّ المراد به التّفضّل و زيادة البيان فيما يشتمل على الإيمان، تارك للظّاهر.(5:222)

الزّمخشري:فإن قلت:هلاّ ذكر الإيمان برسول اللّه؟

قلت:لمّا علم و شهر أنّ الإيمان باللّه تعالى قرينته الإيمان بالرّسول عليه الصّلاة و السّلام،لاشتمال كلمة الشّهادة و الأذان و الإقامة و غيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنّهما شيء واحد غير منفكّ أحدهما عن صاحبه،انطوى تحت ذكر الإيمان باللّه تعالى الإيمان بالرّسول عليه الصّلاة و السّلام.

و قيل:دلّ عليه بذكر إقامة الصّلاة و إيتاء الزّكاة.(2:180)

نحوه القرطبيّ(8:90)،و البيضاويّ(1:409)، و النّسفيّ(2:120)،و أبو حيّان(5:19)،و البروسويّ (3:398)و رشيد رضا(10:212).

ص: 531

الفخر الرّازيّ: ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن أنّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد،بيّن أنّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفا بصفات أربع:

الصّفة الأولى:قوله: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ التّوبة:18،و إنّما قلنا:إنّه لا بدّ من الإيمان باللّه،لأنّ المسجد عبارة عن الموضع الّذي يعبد اللّه فيه،فما لم يكن مؤمنا باللّه امتنع أن يبنى موضعا يعبد اللّه فيه.و إنّما قلنا:إنّه لا بدّ أن يكون مؤمنا باللّه و اليوم الآخر،لأنّ الاشتغال بعبادة اللّه تعالى إنّما تفيد في القيامة،فمن أنكر القيامة لم يعبد اللّه،و من لم يعبد اللّه لم يبن بناء لعبادة اللّه تعالى.

فإن قيل:لم لم يذكر الإيمان برسول اللّه؟قلنا:فيه وجوه:

الأوّل:أنّ المشركين كانوا يقولون:إنّ محمّدا إنّما ادّعى رسالة اللّه طلبا للرّئاسة و الملك،فهاهنا ذكر الإيمان باللّه و اليوم الآخر،و ترك النّبوّة،كأنّه يقول:

مطلوبي من تبليغ الرّسالة ليس إلاّ الإيمان بالمبدإ و المعاد، فذكر المقصود الأصلي و حذف ذكر النّبوّة تنبيها للكفّار، على أنّه لا مطلوب له من الرّسالة إلاّ هذا القدر.

الثّاني:أنّه لمّا ذكر(الصّلوة)و الصّلاة لا تتمّ إلاّ بالأذان و الإقامة و التّشهّد،و هذه الأشياء مشتملة على ذكر النّبوّة كان ذلك كافيا.

الثّالث:أنّه ذكر(الصّلوة)و المفرد المحلّى بالألف و اللاّم ينصرف إلى المعهود السّابق،ثمّ المعهود السّابق من الصّلاة من المسلمين ليس إلاّ الأعمال الّتي كان أتى بها محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان ذكر(الصّلوة)دليلا على النّبوّة من هذا الوجه.(16:9)

الآلوسيّ: [نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

و قيل:إنّما لم يذكر عليه الصّلاة و السّلام،لأنّ المراد ب(من)هو صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم و أصحابه،أي المستحقّ لعمارة المساجد من هذه صفته كائنا من كان، و ليس الكلام في إثبات نبوّته عليه الصّلاة و السّلام و الإيمان به،بل فيه نفسه و عمارته المسجد و استحقاقه لها،فالآية على حدّ قوله سبحانه: إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً إلى قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ الأعراف:

158.(10:65)

7- وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. هود:36

الزّمخشريّ: إلاّ من قد وجد منه ما كان يتوقّع من إيمانه.(2:268)

مثله أبو حيّان.(5:220)

البروسوي: إلاّ من قد وجد منه ما كان يتوقّع من إيمانه،و(قد)للتّوقّع،و قد أصابت محزّها.

و قال المولى أبو السّعود رحمه اللّه: هذا الاستثناء على طريقة قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ النّساء:23.

قال سعدي المفتى: إن قيل: مَنْ قَدْ آمَنَ لا يحدث الإيمان بل يستمرّ عليه،فكيف صحّ اتّصال الاستثناء؟

قلنا:قد تقرّر أنّ لدوام الأمور المستمرّة حكم الابتداء،و لهذا لو حلف:لا ألبس هذا الثّوب و هو لابسه فلم ينزعه في الحال،يحنث.و مبنى الإيمان على العرف.

و قال القطب العلاّمة: إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ قد استعدّ

ص: 532

للإيمان و توقّع منه،و لا يراد الإيمان بالفعل،و إلاّ لكان التّقدير:إلاّ من قد آمن فإنّه يؤمن.(4:122)

الآلوسيّ: و المراد ب(من آمن)قيل:من استمرّ على الإيمان و لدوام حكم الحدوث،و لذا لو حلف:لا يلبس هذا الثّوب و هو لابسه فلم ينزعه في الحال،حنث.

و قيل:المراد إلاّ من قد استعدّ للإيمان و توقّع منه، و لا يراد ظاهره،و إلاّ كان المعنى:إلاّ من آمن فإنّه يؤمن.

و أورد عليه أنّه مع بعده يقتضي أنّ من القوم من آمن بعد ذلك،و هو ينافي تقنيطه من إيمانهم.

و قد يقال:المراد ما هو الظّاهر و الاستثناء على حدّ الاستثناء في قوله تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ النّساء:23،على ما قاله غير واحد،فيفيد الكلام الإقناط على أتمّ وجه و أبلغه،أي لن يحدث من قومك إيمانا و يحصله بعد إلاّ من قد أحدثه و حصّله قبل، و ذلك ممّا لا يمكن،لما فيه من تحصيل الحاصل و إحداث المحدث،فإحداث الإيمان و تحصيله بعد ممّا لا يكون أصلا.

و في«الحواشي الشّهابيّة»لو قيل:إنّ الاستثناء منقطع،و أنّ المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء، لكان معنى بليغا،فتدبّر.(12:48)

8- حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ. هود:40

الطّباطبائيّ: في قوله: وَ ما آمَنَ مَعَهُ دون أن يقال:و ما آمن به،تلويح إلى أنّ المعنى و ما آمن باللّه مع نوح إلاّ قليل،و ذلك أنسب بالمقام،و هو مقام ذكر من أنجاه اللّه من عذاب الغرق،و الملاك فيه هو الإيمان باللّه و الخضوع لربوبيّته.و كذا في قوله:(الاّ قليل)دون أن يقال:إلاّ قليل منهم،بلوغا في استقلالهم أنّ من آمن كان قليلا في نفسه لا بالقياس إلى القوم،فقد كانوا في نهاية القلّة.(10:227)

9- إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. مريم:60

الفخر الرّازيّ: و احتجّ أصحابنا بها في أنّ الإيمان غير العمل،لأنّه تعالى قال: وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فعطف العمل على الإيمان و المعطوف غير المعطوف عليه.

أجاب الكعبيّ عنه:بأنّه تعالى فرّق بين التّوبة و الإيمان،و التّوبة من الإيمان،فكذلك العمل الصّالح يكون من الإيمان و إن فرّق بينهما.

و هذا الجواب ضعيف،لأنّ عطف الإيمان على التّوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما،لأنّ التّوبة عزم على التّرك، و الإيمان إقرار باللّه تعالى و هما متغايران،فكذا في هذه الصّورة.(21:235)

الآلوسي: استثناء منقطع عند الزّجّاج.و قال في «البحر»:ظاهره الاتّصال.و أيّد بذكر الإيمان كون الآية في الكفرة أو عامّة لهم و لغيرهم،لأنّ من آمن لا يقال إلاّ لمن كان كافرا إلاّ بحسب التّغليظ،و حمل الإيمان على الكامل خلاف الظّاهر،و كذا كون المراد إلاّ من جمع التّوبة و الإيمان.

و قيل:المراد من«الإيمان»الصّلاة،كما في قوله تعالى:

وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143،و يكون ذكره في مقابلة إضاعة الصّلاة،و ذكر العمل الصّالح في

ص: 533

مقابلة اتّباع الشّهوات.(16:110)

آمنوا

1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ... البقرة:62

ابن عبّاس: الّذين آمنوا قبل مبعث محمّد بعيسى عليهما السّلام،مع البراءة عن أباطيل اليهود و النّصارى.(الفخر الرّازيّ 3:104)

السّدّيّ: أنّهم الحنيفيّون ممّن لم يلحق الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم كزيد بن عمرو بن نفيل،و قسّ بن ساعدة،و ورقة بن نوفل و من لحقه كأبي ذرّ و بحيرى،و وفد النّجاشيّ الّذين كانوا ينتظرون البعثة.(الآلوسيّ 1:278)

أنّهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السّلام فآمنوا به.(الآلوسيّ 1:278)

هو سلمان الفارسيّ و أصحابه النّصارى الّذين كان قد تنصّر على أيديهم قبل مبعث رسول اللّه،و كانوا قد أخبروه بأنّه سيبعث،و أنّهم يؤمنون به إن أدركوه.(الطّبرسيّ 1:126)

الثّوريّ: هم الّذين يؤمنون باللّسان دون القلب و هم المنافقون.فذكر المنافقين ثمّ اليهود و النّصارى و الصّابئين،فكأنّه تعالى قال:هؤلاء المبطلون كلّ من أتى منهم بالإيمان الحقيقيّ صار من المؤمنين عند اللّه.(الفخر الرّازيّ 3:104)

الطّوسيّ: هم المصدّقون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما آتاهم من الحقّ من عند اللّه.(1:280)

نحوه القرطبيّ(1:432)،و رشيد رضا(1:335).

الزّمخشريّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب و هم المنافقون.(1:285)

مثله النّسفيّ.(1:52)

الطّبرسيّ: اختلف في هؤلاء المؤمنين من هم؟

فقال قوم:هم الّذين آمنوا بعيسى ثمّ لم يتهوّدوا و لم يتنصّروا و لم يصبئوا،و انتظروا خروج محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل:هم طلاّب الدّين،منهم حبيب النّجّار و...

و قيل:هم مؤمنو الأمم الماضية.

و قيل:هم المؤمنون من هذه الأمّة.(1:126)

الفخر الرّازيّ: اختلف المفسّرون في المراد منه، و سبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ البقرة:62،فإنّ ذلك يقتضي أن يكون المراد من«الإيمان»في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا غير المراد منه في قوله: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ .و نظيره في الإشكال قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا النّساء:136،فلأجل هذا الإشكال ذكروا وجوها:

أحدها و ثانيها:[قول ابن عبّاس،و الثّوريّ و قد تقدّم]

و ثالثها:المراد من قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هم المؤمنون بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم في الحقيقة،و هو عائد إلى الماضي،ثمّ قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ يقتضي المستقبل،فالمراد:

الّذين آمنوا في الماضي و ثبتوا على ذلك،و استمرّوا عليه في المستقبل،و هو قول المتكلّمين.(3:104)

الآلوسيّ:و في المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا أقوال:

و المرويّ عن سفيان الثّوريّ أنّهم المؤمنون بألسنتهم،

ص: 534

و هم المنافقون،بدليل انتظامهم في سلك الكفرة.و التّعبير عنهم بذلك دون عنوان النّفاق للتّصريح بأنّ تلك المرتبة و إن عبّر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا و لا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا.[ثمّ ذكر قول السّدّيّ،إلى أن قال:]

و قيل:إنّهم المتديّنون بدين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم مخلصين أو منافقين-و اختاره القاضي-و كأنّ سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد: (مَنْ آمَنَ) فإنّ ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر،و أقلّ الأقوال مئونة أوّلها.(1:278)

و هنا أبحاث أخرى تقدّم في«آمن»فراجع.

2- وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ البقرة:82

ابن عبّاس: و المراد ب(الّذين آمنوا)أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و مؤمنو الأمم قبله.(أبو حيّان 1:279)

ابن زيد :هو خاصّ بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أمّته.

(أبو حيّان 1:279)

3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ. البقرة:104

ابن عبّاس: حيث جاء هذا الخطاب فالمراد به أهل المدينة،و حيث ورد(يا أيّها النّاس)فالمراد أهل مكّة.(أبو حيّان 1:338)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ اللّه تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في ثمانية و ثمانين موضعا من القرآن.قال ابن عبّاس:و كان يخاطب في التّوراة بقوله:«يا أيّها المساكين»فكأنّه سبحانه و تعالى لمّا خاطبهم أوّلا بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخرا، حيث قال: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ البقرة:61،و هذا يدلّ على أنّه تعالى لمّا خاطب هذه الأمّة بالإيمان أوّلا فإنّه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النّيران يوم القيامة،و أيضا فاسم«المؤمن»أشرف الأسماء و الصّفات،فإذا كان يخاطبنا في الدّنيا بأشرف الأسماء و الصّفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات.(3:223)

النّيسابوريّ: [مثل الفخر الرّازيّ و أضاف:]

و قيل:آمنوا على الغيبة نظرا إلى المظهر و هو(الّذين) و لو قيل:آمنتم نظرا إلى النّداء جاز من حيث العربيّة.(1:396)

أبو حيّان: هذا أوّل خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السّورة بالنّداء الدّالّ على الإقبال عليهم؛و ذلك أنّ أوّل نداء جاء أتى عامّا يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ البقرة:21،و ثاني نداء أتى خاصّا يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا البقرة:40،و هي الطّائفة العظيمة الّتي اشتملت على الملّتين اليهوديّة و النّصرانيّة،و ثالث نداء لأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.فكان أوّل نداء عامّا أمروا فيه بأصل الإسلام، و هو عبادة اللّه.و ثاني نداء ذكّروا فيه بالنّعم الجزيلة؛ و تعبّدوا بالتّكاليف الجليلة و خوّفوا من حلول النّقم الوبيلة.و ثالث نداء علّموا فيه أدبا من آداب الشّريعة مع نبيّهم إذ قد حصلت لهم عبادة اللّه و التّذكير بالنّعم و التّخويف من النّقم و الاتّعاظ بمن سبق من الأمم،فلم يبق إلاّ ما أمروا به على سبيل التّكميل،من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه و التّبجيل.

ص: 535

و الخطاب ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا متوجّه إلى من بالمدينة من المؤمنين.قيل:و يحتمل أن يكون إلى كلّ مؤمن في عصره.(1:338)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أوّل مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و هو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة و ثمانين موضعا،و التّعبير عن المؤمنين بلفظة (الَّذِينَ آمَنُوا) بنحو الخطاب أو بغير الخطاب ممّا يختصّ بهذه الأمّة،و أمّا الأمم السّابقة فيعبّر عنهم بلفظة القوم،كقوله: قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ هود:89،و قوله:

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ هود:88، و قوله: أَصْحابِ مَدْيَنَ التّوبة:70، وَ أَصْحابَ الرَّسِّ الفرقان:38، بَنِي إِسْرائِيلَ البقرة:83، و يا بَنِي إِسْرائِيلَ البقرة:40،فالتّعبير بلفظه: (الَّذِينَ آمَنُوا) ممّا يختصّ التّشرّف به بهذه الأمّة،غير أنّ التّدبّر في كلامه تعالى يعطي أنّ التّعبير بلفظة (الَّذِينَ آمَنُوا) يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين،كقوله تعالى:

وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ النّور:31، بحسب المصداق،قال تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المؤمن:7،8،فجعل استغفار الملائكة و حملة العرش أوّلا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ثمّ بدّله ثانيا من قوله: لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا و التّوبة هي الرّجوع،ثمّ علّق دعاءهم با(لّذين آمنوا)و عطف عليهم (آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ) .

و لو كان هؤلاء المحكيّ عنهم ب(الذين آمنوا)هم أهل الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف ما كانوا،كان(الذين آمنوا) شاملا للجميع من الآباء و الأبناء و الأزواج،و لم يبق للعطف و التّفرقة محلّ،و كان الجميع في عرض واحد و وقعوا في صفّ واحد.

و يستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ الطّور:21،فلو كان ذرّيّتهم الّذين اتّبعوهم بإيمان مصداقا للّذين آمنوا في كلامه تعالى،لم يبق للإلحاق وجه.و لو كان قوله: وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ قرينة على إرادة أشخاص خاصّة من الّذين آمنوا-و هم كلّ جمع من المؤمنين بالنّسبة إلى ذرّيّتهم المؤمنين-لم يبق للإلحاق أيضا وجه،و لا لقوله: وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وجه صحيح إلاّ في الطّبقة الأخيرة الّتي لا ذرّيّة بعدهم يتّبعونهم بإيمان،فهم يلحقون بآبائهم.

و هذا و إن كان معنى معقولا إلاّ أنّ سياق الآية و هو سياق التّشريف يأبى ذلك،لعود المعنى على ذلك التّقدير إلى مثل معنى قولنا:المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض،و هم جميعا في صفّ واحد من غير شرافة للبعض على البعض و لا للمتقدّم على المتأخّر،فإنّ الملاك هو«الإيمان»و هو في الجميع واحد،و هذا مخالف لسياق الآية الدّالّ على نوع كرامة و تشريف للسّابق بإلحاق ذرّيّته به،فقوله: وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ قرينة

ص: 536

على إرادة أشخاص خاصّة بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) و هم السّابقون الأوّلون في الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المهاجرين و الأنصار في يوم العسرة.فكلمة (الَّذِينَ آمَنُوا) كلمة تشريف يراد بها هؤلاء،و يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ... وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ الحشر:8-10،فلو كان مصداق قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) عين مصداق قوله: اَلَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ كان من وضع الظّاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.

و يشعر بما مرّ أيضا قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ... وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً الفتح:

29.

فقد تحصّل أنّ الكلمة كلمة تشريف تختصّ بالسّابقين الأوّلين من المؤمنين،و لا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة (الَّذِينَ كَفَرُوا) فيراد به السّابقون في الكفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مشركي مكّة و أترابهم،كما يشعر به أمثال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ... البقرة:6.

فإن قلت:فعلى ما مرّ يختصّ الخطاب ب (الَّذِينَ آمَنُوا) بعدّة خاصّة من الحاضرين في زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،مع أنّ القوم ذكروا أنّ هذه خطابات عامّة لزمان الحضور و غيره،و الحاضرين الموجودين في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و غيرهم و خاصّة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضيّة الحقيقيّة؟

قلت:نعم هو خطاب تشريفيّ يختصّ بالبعض،لكن ذلك لا يوجب اختصاص التّكاليف المتضمّن لها الخطاب بهم،فإنّ لسعة التّكليف و ضيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب و ضيقة من الأسباب،كما أنّ التّكاليف المجرّدة عن الخطاب عامّة وسيعة من غير خطاب؛فعلى هذا يكون تصدير بعض التّكاليف بخطاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ و يا أَيُّهَا الرَّسُولُ مبنيّا على التّشريف،و التّكليف عامّ،و المراد وسيع.و مع هذا كلّه لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التّشريفيّ عدم إطلاق لفظة (الَّذِينَ آمَنُوا) على غير هؤلاء المختصّين بالتّشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدلّ على ذلك، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ النّساء:

137،و قوله تعالى:حكاية عن نوح: وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ هود:29.(1:245)

4- وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَ كانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيماً. النّساء:39

الطّبريّ: يعني بذلك جلّ ثناؤه:أيّ شيء على هؤلاء الّذين ينفقون أموالهم رئاء النّاس و لا يؤمنون باللّه و لا باليوم الآخر،لو آمنوا باللّه و اليوم الآخر؟لو صدّقوا بأنّ اللّه واحد لا شريك له،و أخلصوا له التّوحيد و أيقنوا بالبعث بعد الممات،و صدّقوا بأنّ اللّه مجازيهم بأعمالهم يوم القيامة.(5:88)

ص: 537

الطّوسيّ: معنى قوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ..

الاحتجاج على المتخلّفين عن الإيمان باللّه و اليوم الآخر بما عليهم فيه و لهم،و ذلك أنّه يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه فيما عليه و له،فإذا ظهر له ما عليه في فعل المعصية من استحقاق العقاب اجتنبها،و ما له في تركها من استحقاق الثّواب عمل في ذلك من الاختيار له،أو الانصراف عنه.

و في ذلك دلالة على بطلان قول المجبّرة:في أنّ الكافر لا يقدر على الإيمان،لأنّ الآية نزلت على أنّه لا عذر للكفّار في ترك الإيمان،و لو كانوا غير قادرين لكان فيه أوضح العذر لهم،و لما جاز أن يقال: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ لأنّهم لا يقدرون عليه،كما لا يجوز أن يقال لأهل النّار:ما ذا عليهم لو خرجوا منها إلى الجنّة،من حيث لا يقدرون عليه،و لا يجدون السّبيل إليه،و لذلك لا يجوز أن يقال للعاجز:ما ذا عليه لو كان صحيحا، و لا للفقير:ما ذا عليه لو كان غنيّا.

و موضع(ذا)يحتمل من الإعراب وجهين:

أحدهما:أن يكون رفعا،لأنّه في موضع«الّذي» و تقديره:ما الّذي عليهم لو آمنوا.

الثّاني:لا موضع له،لأنّه مع(ما)بمنزلة اسم واحد، و تقديره:و أيّ شيء عليهم لو آمنوا باللّه.

ففي الآية تقريع على ترك الإيمان باللّه و اليوم الآخر،

و توبيخ على الإنفاق ممّا رزقهم اللّه في غير أبواب البرّ و سبيل الخير،على وجه الإخلاص دون الرّياء.

(3:198)

الزّمخشريّ: و أيّ تبعة و وبال عليهم في الإيمان و الإنفاق في سبيل اللّه؟و المراد الذّمّ و التّوبيخ،و إلاّ فكلّ منفعة و مفلحة في ذلك،و هذا كما يقال للمنتقم:ما ضرّك لو عفوت؟و للعاقّ:ما كان يرزؤك لو كنت بارّا؟و قد علم أنّه لا مضرّة و لا مرزأة في العفو و البرّ،و لكنّه ذمّ و توبيخ، و تجهيل بمكان المنفعة.(1:527)

مثله النّسفيّ.(1:225)

ابن عطيّة: و كأنّ هذا الكلام يقتضي أنّ«الإيمان» متعلّق بقدرتهم و من فعلهم،و لا يقال لأحد:ما عليك لو فعلت،إلاّ فيما هو مقدور له.و هذه شبهة للمعتزلة، و الانفصال عنها أنّ المطلوب إنّما هو تكسّبهم و اجتهادهم و إقبالهم على الإيمان،و أمّا الاختراع فاللّه المنفرد به.و في هذا الكلام تفجّع ما عليهم،و استدعاء جميل،يقتضي حيطة و إشفاقا.(2:53)

الطّبرسيّ: أي أيّ شيء عليهم لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ، قطع اللّه سبحانه بهذا عذر الكفّار في العدول عن الإيمان،و أبطل به قول من قال:إنّهم لا يقدرون على الإيمان،لأنّه لا يحسن أن يقال للعاجز عن الشّيء:ما ذا عليك لو فعلت كذا؟ فلا يقال للقصير:ما ذا عليك لو كنت طويلا؟و للأعمى:

ما ذا عليك لو كنت بصيرا؟

و قيل:معناه:ما ذا عليهم لو جمعوا إلى إنفاقهم الإيمان باللّه لينفعهم الإنفاق.(2:47)

الفخر الرّازيّ: احتجّ القائلون بأنّ«الإيمان»يصحّ على سبيل التّقليد بهذه الآية،فقالوا:إنّ قوله تعالى:

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مشعر بأنّ الإتيان بالإيمان في غاية السّهولة،و لو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية

ص: 538

الصّعوبة،فإنّا نرى المستدلّين تفرغ أعمارهم و لا يتمّ استدلالهم،فدلّ هذا على أنّ التّقليد كاف.

أجاب المتكلّمون بأنّ الصّعوبة في التّفاصيل،فأمّا الدّلائل على سبيل الجملة فهي سهلة،و اعلم أنّ في هذا البحث غورا.

احتجّ جمهور المعتزلة بهذه الآية،و ضربوا له أمثلة.

قال الجبّائي:و لو كانوا غير قادرين،لم يجز أن يقول اللّه ذلك،كما لا يقال لمن هو في النّار معذّب:ما ذا عليهم لو خرجوا منها و صاروا إلى الجنّة،و كما لا يقال للجائع الّذي لا يقدر على الطّعام:ما ذا عليه لو أكل.

و قال الكعبيّ: لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثمّ يقول:

ما ذا عليه لو آمن،كما لا يقال لمن أمرضه:ما ذا عليه لو كان صحيحا،و لا يقال للمرأة:ما ذا عليها لو كانت رجلا، و للقبيح:ما ذا عليه لو كان جميلا.و كما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من اللّه تعالى،فبطل بهذا ما يقال:

إنّه و إن قبح من غيره،لكنّه يحسن منه،لأنّ الملك ملكه.

و قال القاضي عبد الجبّار: إنّه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتّصرّف في الضّيعة،و يحبسه من حيث لا يتمكّن من مفارقة الحبس،ثمّ يقول له:ما ذا عليك لو تصرّفت في الضّيعة،و إذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دلّ على أنّ ذلك غير جائز على اللّه تعالى،فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة.

و اعلم أنّ التّمسّك بطريقة المدح و الذّمّ و الثّواب و العقاب قد كثر للمعتزلة،و معارضتهم بمسألتي العلم و الدّاعي قد كثرت،فلا حاجة إلى الإعادة.(10:100)

نحوه النّيسابوريّ.(5:41)

القرطبيّ: أي صدّقوا بواجب الوجود،و بما جاء به الرّسول من تفاصيل الآخرة.(5:194)

البيضاويّ: أي و ما الّذي عليهم،أو أيّ تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان و الإنفاق في سبيل اللّه،و هو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة،و الاعتقاد في الشّيء على خلاف ما هو عليه،و تحريض على الفكر لطلب الجواب لعلّه يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة و العوائد الجميلة،و تنبيه على أنّ المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا،فكيف إذا تضمّن المنافع.

و إنّما قدّم«الإيمان»هاهنا و أخّره في الآية الأخرى [النّساء:38]لأنّ القصد بذكره إلى«التّحضيض»هاهنا، و«التّعليل»ثمّ.(1:220)

نحوه البروسويّ.(2:208)

أبو حيّان: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ ظاهر هذا الكلام أنّه ملتحم لحمة واحدة،و المراد بذلك ذمّهم و توبيخهم و تجهيلهم بمكان سعادتهم،و إلاّ فكلّ الفلاح و المنفعة في اتّصافهم بما ذكر تعالى.

فعلى هذا الظّاهر يحتمل أن يكون الكلام جملتين، و تكون(لو)على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره،و التّقدير:و ما ذا عليهم في الإيمان باللّه و اليوم الآخر و الإنفاق في سبيل اللّه،لو آمنوا باللّه و اليوم الآخر و أنفقوا ممّا رزقهم اللّه،لحصلت لهم السّعادة، و يحتمل أن يكون جملة واحدة و ذلك على مذهب من يثبت أنّ(لو)تكون مصدريّة في معنى«أن»كأنّه قيل:

ص: 539

و ما ذا عليهم أن آمنوا،أي في الإيمان باللّه،و لا جواب لها إذ ذاك،فيكون كقوله:

و ما ذا عليه أن ذكرت أو انسا

كغزلان رمل في محاريب أقيال

قالوا:و يجوز أن يكون قوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ مستقلاّ لا تعلّق له بما بعده،بل ما بعده مستأنف،أي و ما ذا عليهم يوم القيامة من الوبال و النّكال باتّصافهم بالبخل و تلك الأوصاف المذمومة،ثمّ استأنف و قال:(لو آمنوا) و حذف جواب(لو).و قال ابن عطيّة:و جواب(لو)في قوله:(ما ذا)فهو جواب مقدّم،انتهى.

فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقا لكلام النّحويّين،لأنّ الاستفهام لا يقع جواب(لو)و لأنّ قولهم:

أكرمتك لو قال زيد،إن ثبت أنّه من كلام العرب حمل على أنّ«أكرمتك»دالّ على الجواب لا جواب،كما قالوا في قولهم:أنت ظالم إن فعلت،و إن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله.

(و ما ذا)يحتمل أن تكون كلّها استفهاما و الخبر في (عليهم)و يحتمل أن يكون(ما)هو الاستفهام و(ذا)بمعنى الّذي و هو الخبر،و(عليهم)صلة(ذا).و إذا كان لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ من متعلّقات قوله: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ كان في ذلك تفجّع عليهم و احتياط و شفقة، و قد تعلّقت المعتزلة بذلك.

قال أبو بكر الرّازيّ: تدلّ على بطلان مذهب الجهميّة أهل الجبر،لأنّهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان باللّه و الإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم،لأنّ عذرهم واضح و هو أنّهم غير متمكّنين ممّا دعوا إليه و لا قادرين،كما لا يقال للأعمى:ما ذا عليه لو أبصر،و لا يقال للمريض:

ما ذا عليه لو كان صحيحا.و في ذلك أوضح دليل على أنّ اللّه قد قطع عذرهم في فعل ما كلّفهم من الإيمان و سائر الطّاعات،و أنّهم متمكّنون من فعلها،انتهى كلامه.

و هو قول المعتزلة.و المذاهب في هذا أربعة كما تقرّر:

الجبريّة،و القدريّة،و المعتزلة،و أهل السّنّة.

قال ابن عطيّة: و الانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنّما هو تكسّبهم و اجتهادهم و إقبالهم على الإيمان،و أمّا الاختراع فاللّه المنفرد به،انتهى.

و لمّا وصفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه التّرقّي من وصف قبيح إلى أقبح منه،فبدأ أوّلا بالبخل ثمّ بالأمر به ثمّ بكتمان فضل اللّه ثمّ بالإنفاق رياء ثمّ بالكفر باللّه و باليوم الآخر،و لمّا وبّخهم و تلطّف في استدعائهم بدأ بالإيمان باللّه و اليوم الآخر؛إذ بذلك تحصل السّعادة الأبديّة،ثمّ عطف عليه«الإنفاق»أي في سبيل اللّه؛إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل و الأمر به، و كتمان فضل اللّه و الإنفاق رئاء النّاس.(3:249)

أبو السّعود: [ذكر مثل البيضاويّ و أضاف:]

و تقديم الإيمان بهما[باللّه و اليوم الآخر]لأهمّيّته في نفسه،و لعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه.و أمّا تقديم إنفاقهم رئاء النّاس على عدم إيمانهم بهما[النّساء:38]مع كون المؤخّر أقبح من المقدّم،فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك و بين ما قبله من بخلهم،و أمرهم للنّاس به.

(1:341)

الآلوسيّ: [ذكر مثل البيضاويّ و أضاف:]

و في الكلام ردّ على الجبريّة،إذ لا يقال مثل ذلك لمن

ص: 540

لا اختيار له و لا تأثير أصلا في الفعل،أ لا ترى أنّ من قال للأعمى:ما ذا عليك لو كنت بصير؟و للقصير:ما ذا عليك لو كنت طويلا؟نسب إلى ما يكره.

و استدلّ به القائلون بجواز إيمان المقلّد أيضا،لأنّه مشعر بأنّ الإيمان في غاية السّهولة،و لو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصّعوبة.

و أجيب بعد تسليم الإشعار بأنّ الصّعوبة في التّفاصيل-و ليست واجبة-و أمّا الدّلائل على سبيل الإجمال فسهلة و هي الواجبة.و(لو)إمّا على بابها، و الكلام محمول على المعنى،أي لو آمنوا لم يضرّهم.و إمّا بمعنى أن المصدريّة-كما قال أبو البقاء-و على الوجهين لا استئناف.

و جوّز أن تكون الجملة مستأنفة و جوابها مقدّر،أي حصلت لهم السّعادة و نحوه.

و إنّما قدّم«الإيمان»هاهنا و أخّر في الآية المتقدّمة [النّساء:38]لأنّه ثمّة ذكر لتعليل ما قبله،من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلّها،و هنا للتّحريض، فينبغي أن يبدأ فيه بالأهمّ فالأهمّ.

و لو قيل:أخّر«الإيمان»هناك و قدّم«الإنفاق»لأنّ ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الّذي هو عديل البخل، فأخّر الإيمان لئلاّ يكون فاصلا بين العديلين،لكان له وجه لا سيّما إذا قلنا بالعطف.(5:31)

رشيد رضا : وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ... قال الأستاذ الإمام،ما مثاله مع زيادة و إيضاح:أي ما الّذي كان يصيبهم من الضّرر لو آمنوا و أنفقوا.و هذا الكلام موجّه إلى جميع المكلّفين المخاطبين بالقرآن.و كان أكثر العرب يؤمنون قبل البعثة باللّه تعالى،و كونه هو الّذي خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما،و منهم من كان يؤمن بحياة أخرى بعد الموت،و كانوا مع ذلك مشركين، و إيمانهم على غير الوجه الصّحيح،و كذلك أهل الكتاب كانوا يؤمنون باللّه و باليوم الآخر و لكنّ الشّرك كان قد تغلغل فيهم أيضا؛فالمراد الإيمان الصّحيح مع الإذعان الّذي يظهر أثره في العمل.

و«لو»على معناها،و جوابها محذوف دلّ عليه ما قبله من الاستفهام،و الكلام مسوق مساق التّعجّب من حالهم في إنفاق المال و عمل الإحسان لوجه اللّه عزّ و جلّ، و ابتغاء رضوانه و ثوابه في الآخرة،و المراد من التّعجّب إثارة عجب النّاس من حالهم؛إذ لو أخلصوا لما فاتهم منفعة الدّنيا،و لفازوا مع ذلك بسعادة العقبى.و كثيرا ما يفوت المرائيّ غرضه من التّقرّب إلى النّاس و امتلاك قلوبهم و تسخيرهم لخدمته أو الثّناء عليه،و يفوز بذلك المخلص الّذي يخفي العمل من حيث لا يطلبه و لا يحتسبه، ففي هذه الحالة يكون للمخلص سعادة الدّارين،و يرجع المرائيّ بخفّي حنين،بل يكون قد خسر الدّنيا و الآخرة، و ذلك هو الخسران المبين.

فجهل المرائين جدير بأن يتعجّب منه،لأنّه جهل باللّه و جهل بأحوال النّاس،و لو آمنوا و أخلصوا و أحسنوا و وثقوا بوعد اللّه و وعيده لكان هذا الإيمان كنز سعادة لهم،فإنّ من يحسن موقنا أنّ المال و الجاه من فضل اللّه على العبد و أنّه ينبغي أن يتقرّب بهما إليه تعلو همّته فتهون عليه المصاعب و النّوائب،و يكون هذا الإيمان الصّحيح عوضا له من كلّ فائت،و سلوى في كلّ مصاب،

ص: 541

و فاقد الإيمان الحقيقيّ عرضة للغمّ و اليأس من كلّ خير عند ما يرى خيبة أمله و كذب ظنّه في النّاس،فإذا وقع في مصاب عظيم كفقد المال-و لا سيّما إذا ذهب كلّ ماله و أمسى فقيرا و لم ينقذه النّاس و لا بالوا به-فإنّ الغمّ و القهر ربّما أماتاه جزعا لا صبرا،و ربّما بخع نفسه و انتحر بيده،و لذلك يكثر الانتحار من فاقدي الإيمان.

و أمّا المؤمن فإن أقلّ ما يؤتاه في المصائب هو الصّبر و السّلوى فيكون وقع المصيبة على نفسه أخفّ،و ثواء الحزن في قلبه أقلّ،و أكثره أن تكون المصيبة في حقّه رحمة،و تتحوّل النّقمة فيها نعمة،بما يستفيد فيها من الاختبار و التّمحيص،و كمال العبرة و التّهذيب-أقول:

و قد بيّنّا هذا في تفسير آيات من سورة آل عمران و لا سيّما قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ آل عمران:137-141،فتراجع من ص 137-152، من جزء التّفسير الرّابع مع ما في معناها.و قال بعضهم في تفسير: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً لقمان:

20،أنّ النّعم الباطنة هي المصائب الّتي يستفيد منها المؤمن زيادة الإيمان و الاعتبار-على أنّ المؤمنين المحسنين المخلصين يكونون أبعد عن النّوائب و المصائب من غيرهم،و قد يبتلي اللّه المؤمن و يمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرّجاء باللّه تعالى ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتّى تغلبها أحيانا،و إنّ من النّاس من يعظم رجاؤه باللّه و صبره على حكمه و رضاه بقضائه، و اعتقاده أنّه ما ابتلاه إلاّ ليربّيه و يعظم أجره،حتّى أنّه ليأنس بالمصيبة و يتلذّذ بها،و هذا قليل نادر،و لكنّه واقع.(5:102)

نحوه المراغيّ.(5:40)

الطّباطبائيّ: استفهام للتّأسّف أو التّعجّب،و في الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل اللّه ناشئ عن فقدان التّلبّس بالإيمان باللّه و اليوم الآخر حقيقة،و إن تلبّس به ظاهرا.(4:355)

5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ... النّساء:136 أبو العالية :هذا خطاب للمؤمنين يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا أي أقيموا و أثبتوا على الإيمان،كما يقال للقائم:قم حتّى أرجع إليك،أي أثبت قائما.(البغويّ 1:508)

مجاهد :أراد بهم المنافقين،يقول:يا أيّها الّذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب.(البغويّ 1:508)

الحسن :معناه يا أيّها الّذين آمنوا داوموا على إيمانكم و يكون هذا خطابا للمؤمنين.

(الماورديّ 1:536)

الطّبريّ: يعني بذلك جلّ ثناؤه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمّد من الأنبياء و الرّسل،و صدّقوا بما جاءوهم به من عند اللّه (آمِنُوا بِاللّهِ...) يقول:صدّقوا باللّه و بمحمّد رسوله،أنّه للّه رسول مرسل إليكم،و إلى سائر الأمم قبلكم...

فإن قال قائل:و ما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان باللّه و رسوله و كتبه و قد سمّاهم مؤمنين؟

قيل:إنّه جلّ ثناؤه لم يسمّهم مؤمنين،و إنّما وصفهم

ص: 542

بأنّهم آمنوا؛و ذلك وصف لهم بخصوص من التّصديق، و ذلك أنّهم كانوا صنفين:أهل توراة مصدّقين بها و بمن جاء بها،و هم مكذّبون بالإنجيل و القرآن و عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و صنف أهل إنجيل،و هم مصدّقون به و بالتّوراة و سائر الكتب،مكذّبون بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و الفرقان، فقال جلّ ثناؤه لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بما هم به مؤمنون من الكتب و الرّسل آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ فإنّكم قد علمتم أنّ محمّدا رسول اللّه تجدون صفته في كتبكم، وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الّذين تزعمون أنّكم به مؤمنون.فإنّكم لن تكونوا به مؤمنين،و أنتم بمحمّد مكذّبون،لأنّ كتابكم يأمركم بالتّصديق به و بما جاءكم به،فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمّدا،و إلاّ فأنتم به كافرون.فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.

(5:326)

الزّجّاج: قيل فيه قولان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أقيموا على الإيمان باللّه،كما قال عزّ و جلّ: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً الفتح:29،أي وعد من أقام على الإيمان من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الّذين ذكروا في هذه القصّة مغفرة و أجرا عظيما.

و قيل:يعنى بهذا المنافقون الّذين أظهروا التّصديق و أسرّوا التّكذيب،فقيل:يا أيّها الّذين أظهروا الإيمان:

آمنوا باللّه و رسوله،أي أبطنوا مثل ما أظهرتم،و التّأويل الأوّل أشبه.(2:119)

الماورديّ: فإن قيل:كيف قيل لهم(آمنوا)و حكي عنهم أنّهم آمنوا؟فعن ذلك ثلاثة أجوبة:

أحدها:يا أيّها الّذين آمنوا بمن قبل محمّد من الأنبياء، آمنوا باللّه و رسوله،و يكون ذلك خطابا لليهود و النّصارى.

الثّاني:معناه يا أيّها الّذين آمنوا بأفواههم آمنوا بقلوبكم،و تكون خطابا للمنافقين.

و الثّالث:[قول الحسن و قد تقدّم](1:536)

نحوه النّسفيّ(1:256)،و البيضاويّ(1:250).

الطّوسيّ: قيل في تأويل أمر من آمن-آمن يؤمن- باللّه و رسوله ثلاثة أقوال:

أحدها:و هو المعتمد عليه عندنا و اللاّئق بمذهبنا أنّ المعنى:يا أيّها الّذين آمنوا في الظّاهر بالإقرار باللّه و رسوله،و صدّقوهما،آمنوا باللّه و رسوله في الباطن، ليطابق باطنكم ظاهركم،و يكون الخطاب خاصّا بالمنافقين الّذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون.

وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ هو القرآن أمرهم بالتّصديق به، وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، يعني التّوراة و الإنجيل أمرهم بالتّصديق بهما،و أنّهما من عند اللّه.

و الثّاني:ما اختاره الجبّائيّ،و الزّجّاج،و البلخيّ أن يكون ذلك خطابا لجميع المؤمنين الّذين هم مؤمنون على الحقيقة ظاهرا أو باطنا،أمرهم اللّه تعالى أن يؤمنوا به في المستقبل بأن يستديموا الإيمان،و لا ينتقلوا عنه،لأنّ الإيمان الّذي هو التّصديق لا يبقى و إنّما يستمرّ بأن يجده الإنسان حالا بعد حال،و هذا وجه جيّد.

ص: 543

الثّالث:ما اختاره الطّبريّ...[و قد تقدّم](3:357)

مثله الطّبرسيّ(2:124)،و نحوه ابن عطيّة(2:

124).

الزّمخشريّ: خطاب للمسلمين،و معنى(آمنوا) أثبتوا على الإيمان و دوموا عليه و ازدادوه، وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب،و الدّليل عليه قوله:(و كتبه).و قرئ:

(و كتابه) على إرادة الجنس.و قرئ:(نزل)و(أنزل)على البناء للفاعل.

و قيل:الخطاب لأهل الكتاب لأنّهم آمنوا ببعض الكتب و الرّسل و كفروا ببعض،و روي أنّه لعبد اللّه بن سلام و أسد و أسيد ابني كعب و ثعلبة بن قيس و سلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام و سلمة ابن أخيه و يامين بن يامين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قالوا:يا رسول اللّه إنّا نؤمن بك و بكتابك و موسى و التّوراة و عزير،و نكفر بما سواه من الكتب و الرّسل،فقال عليه الصّلاة و السّلام:«بل آمنوا باللّه و رسوله محمّد و كتابه القرآن و بكلّ كتاب كان قبله»،فقالوا:لا نفعل،فنزلت،فآمنوا كلّهم.

و قيل:هو للمنافقين،كأنّه قيل:يا أيّها الّذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا.

فإن قلت:كيف قيل لأهل الكتاب وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ و كانوا مؤمنين بالتّوراة و الإنجيل؟

قلت:كانوا مؤمنين بهما فحسب،و ما كانوا مؤمنين بكلّ ما أنزل من الكتب،فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كلّه، و لأنّ إيمانهم ببعض الكتب لا يصحّ إيمانا به،لأنّ طريق الإيمان به هو المعجزة،و لا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض،فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كلّه،فحين آمنوا ببعضه علم أنّهم لم يعتبروا المعجزة فلم يكن إيمانهم إيمانا،و هذا الّذي أراد عزّ و جلّ في قوله: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا النّساء:150،151.(1:571)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ ظاهر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ مشعر بأنّه أمر بتحصيل الحاصل،لا شكّ أنّه محال،فلهذا السّبب ذكر المفسّرون فيه وجوها،و هي منحصرة في قولين.

الأوّل:أنّ المراد بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا المسلمون،ثمّ في تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه:

الأوّل:أنّ المراد منه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا دوموا على الإيمان و أثبتوا عليه،و حاصله يرجع إلى هذا المعنى يا أيّها الّذين آمنوا في الماضي و الحاضر آمنوا في المستقبل.و نظيره قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ محمّد:19،مع أنّه كان عالما بذلك.

و ثانيها:يا أيّها الّذين آمنوا على سبيل التّقليد آمنوا على سبيل الاستدلال.

و ثالثها:يا أيّها الّذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجمليّة آمنوا بحسب الدّلائل التّفصيليّة.

و رابعها يا أيّها الّذي آمنوا بالدّلائل التّفصيليّة باللّه و ملائكته و كتبه و رسله آمنوا بأنّ كنه عظمة اللّه لا تنتهي إليه عقولكم،و كذلك أحوال الملائكة و أسرار الكتب و صفات الرّسل لا تنتهي إليها-على سبيل التّفصيل-

ص: 544

عقولنا.

و خامسها:روي أنّ جماعة من أحبار اليهود جاءوا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و قالوا:يا رسول اللّه،إنّا نؤمن بك و بكتابك و بموسى و التّوراة و عزير،و نكفر بما سواه من الكتب و الرّسل.فقال صلّى اللّه عليه و سلّم:بل آمنوا باللّه و برسله و بمحمّد و بكتابه القرآن،و بكلّ كتاب كان قبله.فقالوا:لا نفعل فنزلت هذه الآية،فكلّهم آمنوا.

القول الثّاني:أنّ المخاطبين بقوله:(آمنوا)ليس هم المسلمون،و في تفسير الآية-تفريعا على هذا القول- وجوه:

الأوّل أنّ الخطاب مع اليهود و النّصارى،و التّقدير:

يا أيّها الّذين آمنوا بموسى و التّوراة و عيسى و الإنجيل آمنوا بمحمّد و القرآن.

و ثانيها:أنّ الخطاب مع المنافقين،و التّقدير:يا أيّها الّذين آمنوا باللّسان آمنوا بالقلب،و يتأكّد هذا بقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. المائدة:41.

و ثالثها:أنّه خطاب مع الّذين آمنوا وجه النّهار و كفروا آخره،و التّقدير يا أيّها الّذين آمنوا وجه النّهار أمنوا أيضا آخره.

و رابعها:أنّه خطاب للمشركين،تقديره:يا أيّها الّذين آمنوا باللاّت و العزّى آمنوا باللّه.

و أكثر العلماء رجّحوا القول الأوّل،لأنّ لفظ «المؤمن»لا يتناول عند الإطلاق إلاّ المسلمين.[إلى أن قال:]

اعلم أنّه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء:

أوّلها:باللّه،و ثانيها:برسوله،و ثالثها:بالكتاب الّذي نزّل على رسوله،و رابعها:بالكتاب الّذي أنزل من قبل،و ذكر في الكفر أمورا خمسة:فأوّلها:الكفر باللّه،و ثانيها:الكفر بملائكته،و ثالثها:الكفر بكتبه،و رابعها:الكفر برسله، و خامسها:الكفر باليوم الآخر.

و في الآية سؤالات:

الأوّل:لم قدّم في مراتب الإيمان ذكر الرّسول على ذكر الكتاب،و في مراتب الكفر قلب القضيّة؟

الجواب:لأنّ في مرتبة النّزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدّما على الرّسول،و في مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرّسول مقدّما على الكتاب.

الثّاني:لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة:الإيمان باللّه و بالرّسل و بالكتب،و ذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة:الكفر باللّه و بالملائكة و بالكتب و بالرّسل و باليوم الآخر؟

و الجواب:أنّ الإيمان باللّه و بالرّسل و بالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة و اليوم الآخر لا محالة؛ إذ ربّما ادّعى الإنسان أنّه يؤمن باللّه و بالرّسل و بالكتب، ثمّ إنّه ينكر الملائكة و ينكر اليوم الآخر،و يزعم أنّه يجعل الآيات الواردة في الملائكة و في اليوم الآخر محمولة على التّأويل،فلمّا كان هذا الاحتمال قائما لا جرم نصّ أنّ منكر الملائكة و منكر القيامة كافر باللّه.

كيف قيل لأهل الكتب: وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ مع أنّهم ما كانوا كافرين بالتّوراة و الإنجيل بل مؤمنين بهما؟

ص: 545

الجواب:عنه من وجهين:

الأوّل:أنّهم كانوا مؤمنين بهما فقط،و ما كانوا مؤمنين بكلّ ما أنزل من الكتب،فأمروا أن يؤمنوا بكلّ الكتب المنزّلة.

الثّاني:أنّ إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصحّ، لأنّ طريق الإيمان هو المعجزة،فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكلّ كان ترك الإيمان بالبعض طعنا في المعجزة،و إذا حصل الطّعن في المعجزة امتنع التّصديق بشيء منها،و هذا هو المراد بقوله تعالى: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا النّساء:150، 151.(11:75)

مثله النّيسابوريّ(5:164)،و نحوه القرطبيّ(5:

415)،و الخازن(1:518)،و أبو حيّان(3:371).

البروسويّ: خطاب لكافّة المسلمين آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي... أي أثبتوا على الإيمان بذلك و دوموا عليه و ازدادوا فيه طمأنينة و يقينا،أو آمنوا بما ذكر مفصّلا بناء على أنّ إيمان بعضهم إجماليّ.

فإن قلت:لم قيل: نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ و أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ؟

قلت:لأنّ القرآن نزل منجّما مفرّقا بخلاف الكتب قبله.

فالمراد بالكتاب الأوّل القرآن،و بالثّاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السّماويّة،لقوله تعالى:(و كتبه) و بالإيمان به:الإيمان بأنّ كلّ كتاب من تلك الكتب منزّل منه على رسول معيّن لإرشاد أمّته إلى ما شرع لهم من الدّين بالأوامر و النّواهي،لكن لا على أن يراد الإيمان بكلّ واحد من تلك الكتب،بل خصوصيّة ذلك الكتاب، و لا على أنّ أحكام تلك الكتب و شرائعها باقية بالكلّيّة، و لا على أنّ الباقي منها معتبر بالإضافة إليها،بل على أنّ الإيمان بالكلّ مندرج تحت الإيمان بالكتاب المنزّل على رسوله،و أنّ أحكام كلّ منها كانت حقّة ثابتة إلى ورود نسخها،و أنّ ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشّرائع و الأحكام ثابتة من حيث إنّها من أحكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النّسخ و التّبديل.

و قيل:الخطاب للمنافقين،كأنّه قيل:يا أيّها الّذين آمنوا نفاقا و هو ما كان بالألسنة فقط آمنوا إخلاصا و هو ما كان بها و بالقلوب.

و قيل:الخطاب لمؤمني أهل الكتاب،إذ روي أنّ ابن سلاّم و أصحابه قالوا:يا رسول اللّه:إنّا نؤمن بك و بكتابك و بموسى و التّوراة و عزير و نكفر بما سواه،فنزلت.فالمعنى حينئذ آمنوا إيمانا عامّا شاملا يعمّ الكتب و الرّسل،فإنّ الإيمان بالبعض كلا إيمان.[ثمّ ذكر مراتب الإيمان فلاحظ]

(2:302)

نحوه الآلوسيّ.(5:170)

الطّباطبائيّ: أمر المؤمنين بالإيمان ثانيا بقرينة التّفصيل في متعلّق الإيمان الثّاني،أعني قوله: بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ، و أيضا بقرينة الإيعاد و التّهديد على ترك الإيمان بكلّ واحد من هذه التّفاصيل،إنّما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق،فإنّها معارف مرتبطة بعضها ببعض،مستلزمة بعضها لبعض،فاللّه سبحانه لا إله إلاّ هو له الأسماء

ص: 546

الحسنى و الصّفات العليا،و هي الموجبة لأن يخلق خلقا و يهديهم إلى ما يرشدهم و يسعدهم ثمّ يبعثهم ليوم الجزاء،و لا يتمّ ذلك إلاّ بإرسال رسل مبشّرين و منذرين، و إنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه و تبيّن لهم معارف المبدإ و المعاد،و أصول الشّرائع و الأحكام.

فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتمّ إلاّ مع الإيمان بجميعها من غير استثناء،و الرّدّ لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو أظهر،و نفاق لو كنتم و أخفي.و من النّفاق أن يتّخذ المؤمن مسيرا ينتهي به إلى ردّ بعض ذلك،كأن يفارق مجتمع المؤمنين و يتقرّب إلى مجتمع الكفّار و يواليهم،و يصدّقهم في بعض ما يرمون به الإيمان و أهله،أو يعترضون،أو يستهزءون به الحقّ و خاصّته، و لذلك عقّب تعالى هذه الآية بالتّعرّض لحال المنافقين، و وعيدهم بالعذاب الأليم.

و ما ذكرناه من المعنى هو الّذي يقضي به ظاهر الآية، و هو أوجه ممّا ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا يا أيّها الّذين آمنوا في الظّاهر بالإقرار باللّه و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم.و كذا ما ذكره بعضهم أنّ معنى(آمنوا) اثبتوا على إيمانكم،و كذا ما ذكره آخرون أنّ الخطاب لمؤمني أهل الكتاب،أي يا أيّها الّذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا باللّه و رسوله و الكتاب الّذي نزّل على رسوله،و هو القرآن.

و هذه المعاني و إن كانت في نفسها صحيحة لكنّ القرائن الكلاميّة ناهضة على خلافها،و أردأ الوجوه آخرها.(5:111)

6- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ... النّساء:137

ابن عبّاس: دخل في هذه الآية كلّ منافق كان في عهد النّبيّ في البحر و البرّ.(الطّبرسيّ 2:126)

إنّ الآية في المتردّدين،فإنّ المؤمن إذا ارتدّ ثمّ آمن قبلت توبته إلى الثّلاث،ثمّ لا يقبل توبته،و يحكم عليه بالنّار.(أبو حيّان 3:372) أبو العالية :هم اليهود و النّصارى أذنبوا في شركهم ثمّ تابوا،فلم تقبل توبتهم،و لو تابوا من الشّرك لقبل منهم.(الطّبريّ 5:327)

مجاهد :إنّ المراد به المنافقون،آمنوا ثمّ ارتدّوا،ثمّ آمنوا ثمّ ارتدّوا،ثمّ ماتوا على كفرهم.

(الطّبرسيّ 2:126)

مثله ابن زيد.(الطّبري 5:327)

الحسن :عني به طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك نفر من أصحاب رسول اللّه فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم،ثمّ يقولون:قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون،ثمّ ازدادوا كفرا بالثّبات عليه إلى الموت.(الطّبرسيّ 2:126)

قتادة :عني بذلك الّذين آمنوا بموسى،ثمّ كفروا بأن عبدوا العجل،ثمّ آمنوا-يعني النّصارى بعيسى-ثمّ كفروا به،ثمّ ازدادوا كفرا بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

(الطّوسيّ 3:359)

الفرّاء: هم الّذين آمنوا بموسى،ثمّ كفروا من بعده بعزير،ثمّ آمنوا بعزير و كفروا بعيسى،و آمنت اليهود

ص: 547

بموسى و كفرت بعيسى.(1:292)

مثله الزّجّاج.(الطّوسيّ 3:359)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم تأويله:إنّ الّذين آمنوا بموسى ثمّ كفروا به، ثمّ آمنوا-يعني النّصارى بعيسى-ثمّ كفروا به،ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد.

و قال آخرون:بل عني بذلك أهل النّفاق أنّهم آمنوا ثمّ ارتدّوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدّوا،ثمّ ازدادوا كفرا،بموتهم على كفرهم.

و قال آخرون:بل هم أهل الكتابين:التّوراة و الإنجيل أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا،فلم تقبل منهم التّوبة فيها،مع إقامتهم على كفرهم.

و أولى هذه الأقوال بتأويل الآية،قول من قال:عني بذلك أهل الكتاب الّذين أقرّوا بحكم التّوراة،ثمّ كذّبوا بخلافهم،إيّاه،ثمّ أقرّ من أقرّ منهم بعيسى و الإنجيل،ثمّ كذّب به بخلافه إيّاه،ثمّ كذّب بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و الفرقان، فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.

و إنّما قلنا ذلك أولى بالصّواب في تأويل هذه الآية، لأنّ الآية قبلها في قصص أهل الكتابين،أعني قوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ النّساء:136، و لا دلالة تدلّ على أنّ قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا منقطع معناه من معنى ما قبله،فإلحاقه بما قبله أولى،حتّى تأتي دلالة دالّة على انقطاعه منه.(5:327)

الطّوسيّ: [و بعد نقل قول قتادة،و الزّجّاج،و أبو العالية،و مجاهد قال:]

و أقوى الأقوال عندنا قول مجاهد،لأنّ المؤمن على الحقيقة عندنا لا يجوز أن يكفر،لأنّ الإيمان يستحقّ عليه الثّواب الدّائم،و الكفر يستحقّ عليه العقاب الدّائم، بلا خلاف فيهما،و الاحتياط عندنا باطل.فلو أجزنا الارتداد بعد الإيمان الحقيقيّ لأدّى إلى اجتماع استحقاق الثّواب الدّائم و العقاب الدّائم،و الإجماع بخلافه.

(3:359)

الفخر الرّازي: و اعلم أنّ فيها أقوالا كثيرة:

الأوّل:أنّ المراد منه الّذين يتكرّر منهم الكفر بعد الإيمان مرّات و كرّات،فإنّ ذلك يدلّ على أنّه لا وقع للإيمان في قلوبهم،إذ لو كان للإيمان وقع و رتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب،و من لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظّاهر أنّه لا يؤمن باللّه إيمانا صحيحا معتبرا،فهذا هو المراد بقوله: لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ النّساء:137، و ليس المراد أنّه لو أتى بالإيمان الصّحيح لم يكن معتبرا، بل المراد منه الاستبعاد و الاستغراب على الوجه الّذي ذكرناه.و كذلك نرى الفاسق الّذي يتوب ثمّ يرجع ثمّ يتوب ثمّ يرجع فإنّه لا يكاد يرجى منه الثّبات،و الغالب أنّه يموت على الفسق،فكذا هاهنا.

الثّاني:قال بعضهم:اليهود آمنوا بالتّوراة و بموسى ثمّ كفروا بعزير،ثمّ آمنوا بداود،ثمّ كفروا بعيسى،ثمّ ازدادوا كفرا عند مقدم محمّد عليه الصّلاة و السّلام.

الثّالث:قال آخرون:المراد المنافقون،فالإيمان الأوّل إظهارهم الإسلام،و كفرهم بعد ذلك هو نفاقهم،و كون باطنهم على خلاف ظاهرهم.و الإيمان الثّاني هو أنّهم كلّما لقوا جمعا من المسلمين قالوا:إنّا مؤمنون،و الكفر الثّاني هو أنّهم إذا دخلوا على شياطينهم قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ البقرة:14،و ازديادهم في الكفر هو جدّهم و اجتهادهم في استخراج أنواع المكر و الكيد في حقّ المسلمين.و إظهار الإيمان قد يسمّى إيمانا، قال تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ البقرة:221.

ص: 548

الثّالث:قال آخرون:المراد المنافقون،فالإيمان الأوّل إظهارهم الإسلام،و كفرهم بعد ذلك هو نفاقهم،و كون باطنهم على خلاف ظاهرهم.و الإيمان الثّاني هو أنّهم كلّما لقوا جمعا من المسلمين قالوا:إنّا مؤمنون،و الكفر الثّاني هو أنّهم إذا دخلوا على شياطينهم قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ البقرة:14،و ازديادهم في الكفر هو جدّهم و اجتهادهم في استخراج أنواع المكر و الكيد في حقّ المسلمين.و إظهار الإيمان قد يسمّى إيمانا، قال تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ البقرة:221.

قال القفّال رحمة اللّه عليه: و ليس المراد بيان هذا العدد،بل المراد تردّدهم،كما قال: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ النّساء:143،قال:و الّذي يدلّ عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً النّساء:138.

الرّابع:[قول الحسن،و قد تقدّم](11:78)

مثله النّيسابوريّ(5:166)،و نحوه القرطبيّ(5:

415)،و أبو حيّان(3:372).

الآلوسيّ: [بعد نقل قول الفرّاء و الزّجّاج قال:]

و أجيب بأنّه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس،و يحصل التّبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عدّ ما صدر من بعضهم،كأنّه صدر من كلّهم،و الّذي يميل القلب إليه أنّ المراد قوم تكرّر منهم الارتداد أعمّ من أن يكونوا منافقين أو غيرهم،و يؤيّده ما أخرجه ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه أنّه قال في المرتدّ:إن كنت لمستتيبه ثلاثا،ثمّ قرأ هذه الآية.و إلى رأي الإمام كرّم اللّه تعالى وجهه ذهب بعض الأئمّة فقال:

يقتل المرتدّ في الرّابعة و لا يستتاب،و كأنّه أراد أنّه لا فائدة في الاستتابة؛إذ لا منفعة.(5:171)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى:لو أخذت وحدها منقطعة عمّا قبلها و ما بعدها كانت دالّة على ما يجازي به اللّه تعالى أهل الرّدّة إذا تكرّرت منهم الرّدّة،بأن آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفرا،فاللّه سبحانه يوعّدهم-و حالهم هذا الحال-بأنّه لا يغفر لهم، و لا يهديهم سبيلا،و ليس من المرجوّ منه المتوقّع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان،و جعلهم أمر اللّه ملعبة يلعبون بها،و من كان هذا حاله لم يثبت بالطّبع على إيمان جدّي يقبل منه،و إن كانوا لو آمنوا إيمانا جدّيّا شملتهم المغفرة و الهداية.فإنّ التّوبة بالإيمان باللّه حقيقة ممّا لا يردّه اللّه في حال على ما وعد اللّه تعالى عباده،و قد تقدّم الكلام فيه،في قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ النّساء:17،في الجزء الرّابع من هذا الكتاب.

فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطّبع و العادة،و لا تأبى الاستثناء لو اتّفق إيمان و استقامة عليه من هذه الطّائفة نادرا،كما يستفاد من نظير الآية،قال تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ -إلى أن قال:- إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ آل عمران:86-90.

و الآيات-كما ترى-تستثني ممّن كفر بعد إيمانه، و قوبل بنفي المغفرة و الهداية،و هي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفرا بعد الإيمان،صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان و الشّهادة بحقّيّة الرّسول و ظهور الآيات البيّنات،فهو ردّة عنادا و لجاجا،و الازدياد فيه لا يكون إلاّ مع استقرار العناد و العتوّ في قلوبهم،و تمكّن الطّغيان

ص: 549

و الاستكبار في نفوسهم،و لا يتحقّق الرّجوع و التّوبة ممّن هذا حاله عادة.

هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أخذت وحدها كما تقدّم،لكن الآيات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متّصلا بعضها ببعض،و على هذا التّقدير يكون قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، في مقام التّعليل لقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ -إلى قوله -فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً و تكون الآيتان ذواتي مصداق واحد،أي إنّ من يكفر باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر هو الّذي آمن ثمّ كفر ثمّ آمن ثمّ كفر ثمّ ازداد كفرا،و يكون أيضا هو من المنافقين الّذين تعرّض تعالى لهم في قوله بعد: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً النّساء:138،إلى آخر الآيات.

و على هذا يختلف المعنى المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا إلى آخر الآيات بحسب ما فسّر به قوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النّساء:136، على ما تقدّم من تفاسيره المختلفة.

فإن فسّر بأنّ آمنوا باللّه و رسوله في الباطن كما آمنتم به في الظّاهر،كان معنى الإيمان ثمّ الكفر ثمّ الإيمان ثمّ الكفر ما يبتلي به المنافقون من اختلاف الحال دائما،إذا لقوا المؤمنين و إذا لقوا الكفّار.

و إن فسّر بأن أثبتوا على الإيمان الّذي تلبّستم به، كان المراد من الإيمان ثمّ الكفر و هكذا هو الرّدّة بعد الرّدّة المعروفة.

و إن فسّر بأنّ المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان باللّه و رسوله،كان المراد بالإيمان ثمّ الكفر و هكذا الإيمان بموسى ثمّ الكفر به بعبادة العجل،ثمّ الإيمان بعزير أو بعيسى ثمّ الكفر به ثمّ الازدياد فيه بالكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به من عند ربّه،كما قيل.

و إنّ فسّر بأن ابسطوا إجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه،كان قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد المفسّرين بقوله: اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ النّساء:139،فإنّ من اتّصل بالكفّار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم و الاستئناس بهم،و الشّركة في محاوراتهم، و التّصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الّذي لا يرتضيه اللّه سبحانه،و ينسبونه إلى الدّين و أوليائه من المطاعن و المساوئ،و يستهزءون و يسخرون به.

فهو كلّما لقي المؤمنين و اشترك معهم في شيء من شعائر الدّين آمن به،و كلّما لقي الكفّار و أمضى بعض ما يتقوّلونه كفر،فلا يزال يؤمن زمانا و يكفر زمانا حتّى إذا استحكم فيه هذه السّجيّة كان ذلك منه ازديادا في الكفر،و اللّه أعلم.(5:113)

7- أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ* اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ. يونس:62،63

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:الّذين صدّقوا اللّه و رسوله،و ما جاء به من عند اللّه،و كانوا يتّقون اللّه بأداء فرائضه،و اجتناب معاصيه،و قوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا من نعت الأولياء،و معنى الكلام:ألا إنّ أولياء اللّه الّذين آمنوا و كانوا يتّقون،لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

ص: 550

فإن قال قائل:فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك،أ في موضع رفع اَلَّذِينَ آمَنُوا أم في موضع نصب؟

قيل:في موضع رفع،و إنّما كان كذلك و إن كان من نعت الأولياء،لمجيئه بعد خبر الأولياء.و العرب كذلك تفعل،خاصّة في«إنّ»،إذا جاء نعت الاسم الّذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه،فقالوا:إنّ أخاك قائم الظّريف، كما قال اللّه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ سبأ:48،و كما قال: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ ص:64.

و قد اختلف أهل العربيّة في العلّة الّتي من أجلها قيل ذلك كذلك،مع أنّ إجماع جميعهم على أنّ ما قلناه هو الصّحيح من كلام العرب،و ليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل الّتي من أجلها قيل ذلك كذلك.(11:133)

نحوه ابن عطيّة.(3:128)

الطّوسيّ: يحتمل موضع(الّذين)ثلاثة أوجه من الإعراب:

أحدهما:أن يكون نصبا بأن يكون صفة للأولياء.

الثّاني:أن يكون رفعا على المدح.

الثّالث:أن يكون رفعا بالابتداء و خبره لَهُمُ الْبُشْرى.

أخبر اللّه تعالى أنّ الّذين آمنوا هم الّذين يصدّقون اللّه و يعترفون بوحدانيّته،و هم مع ذلك يتّقون معاصيه.

و الفرق بين الإيمان و التّقوى:أنّ التّقوى مضمّن باتّقاء المعاصي مع منازعة النّفس إليها،و الإيمان من الأمن بالعمل من عائد الضّرر.

و الفرق بين الإيمان باللّه و الطّاعة له:أنّ الطّاعة من الانطياع بجاذب الأمر و الإرادة المرغّبة في الفعل، و الإيمان هو الأمن المنافي لانزعاج القلب.(5:462)

الطّبرسيّ: أي صدّقوا باللّه و اعترفوا بوحدانيّته.(3:120)

الفخر الرّازيّ: لاحظ«و ل ي».(17:125)

النّسفيّ: اَلَّذِينَ آمَنُوا منصوب بإضمار«أعني» أو لأنّه صفة لأولياء،أو مرفوع على أنّه خبر مبتدإ محذوف،أي هم الّذين آمنوا.(2:169)

البروسويّ: استئناف مبنيّ على السّؤال،و محلّ الموصول الرّفع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف،كأنّه قيل:

من أولئك و ما سبب فوزهم بتلك الكرامة؟فقيل:هم الّذين جمعوا بين الإيمان بكلّ ما جاء من عند اللّه و التّقوى المفضيين إلى كلّ خير،المنجيين عن كلّ شرّ.(4:59)

الآلوسيّ: أي بكلّ ما جاء من عند اللّه تعالى وَ كانُوا يَتَّقُونَ عمّا يحقّ الاتّقاء منه من الأفعال و التّروك اتّقاء دائما،حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي و المستقبل.

و الموصول في محلّ الرّفع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف، و الجملة استئناف بيانيّ،كأنّه قيل:من أولئك و ما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السّابق؟فقيل:هم الّذين جمعوا بين الإيمان و التّقوى المفضيين إلى كلّ خير المجنبين عن كلّ شرّ.

و لك أن تقصر في السّؤال على من أولئك؟فيكون ذلك بيانا و تفسيرا للمراد من«الأولياء»فقط،و على الأوّل،هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا ما نالوا.

ص: 551

و قيل:محلّه النّصب أو الرّفع على المدح،أو على أنّه وصف للأولياء.

و ردّ بأنّ في ذلك الفصل بين الصّفة و الموصوف بالخبر،و قد أباه النّحاة.نعم جوّزه الحفيد،و جوّز فيه البدليّة أيضا.(11:147)

رشيد رضا :فهذا استئناف لبيان حال هؤلاء الأولياء النّفسيّة و العلميّة و العمليّة،أي هم الّذين جمعوا بين الإيمان الصّحيح باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر،و ملكة التّقوى له عزّ و جلّ،و ما تقتضيه من عمل.

و عبّر عن«إيمانهم»بالفعل الماضي،لبيان أنّه كان كاملا باليقين،لم يزلزله شكّ و لم يحصل بالتّدريج،و عن «تقواهم»بالفعل الّذي يدلّ على الحال و الاستقبال،لأنّ التّقوى تتجدّد دائما بحسب متعلّقاتها،من كسب و حرب و شهوة و غضب.(11:416)

الطّباطبائيّ: فيه أبحاث لاحظ«و ل ي».

(10:89)

8- مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ...

الطّور:20 و 21

الزّمخشريّ: وَ الَّذِينَ آمَنُوا معطوف على بِحُورٍ عِينٍ أي قرنّاهم بالحور و بالّذين آمنوا،أي بالرّفقاء و الجلساء منهم،كقوله تعالى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ الحجر:47،فيتمتّعون تارة بملاعبة الحور و تارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين.(4:24)

الفخر الرّازي: قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على ما ذا؟

نقول:على قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ الطّور:17.

و إذا كان كذلك فلم أعاد لفظ وَ الَّذِينَ آمَنُوا و كان المقصود يحصل بقوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ بعد قوله: وَ زَوَّجْناهُمْ الطّور:20،و كان يصير التّقدير:و زوّجناهم و ألحقنا بهم؟

نقول:فيه فائدة و هو أنّ المتّقين هم الّذين اتّقوا الشّرك و المعصية،و هم: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ الرّعد:29،و قال هاهنا: اَلَّذِينَ آمَنُوا، أي بوجود الإيمان يصير ولده من أهل الجنّة،ثمّ إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة،على صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد،و ربّما يدخل الجنّة الابن قبل الأب.و فيه لطيفة معنويّة،و هو أنّه ورد في الأخبار أنّ الولد الصّغير يشفع لأبيه،و ذلك إشارة إلى الجزاء.

هل يجوز غير ذاك؟

نقول:نعم،يجوز أن يكون قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا عطفا على بِحُورٍ عِينٍ الطّور:20،تقديره:

زوّجناهم بحور عين،أي قرنّاهم بهنّ.و اَلَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى قوله تعالى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ الحجر:47،أي جمعنا شملهم بالأزواج و الإخوان و الأولاد بقوله تعالى: وَ اتَّبَعَتْهُمْ و هذا الوجه ذكره الزّمخشريّ،و الأوّل أحسن و أصحّ.

فإن قيل:كيف يصحّ على هذا الوجه الإخبار بلفظ الماضي مع أنّه سبحانه و تعالى بعد ما قرن بينهم؟

قلنا:صحّ في زَوَّجْناهُمْ على ما ذكر اللّه تعالى من تزويجهنّ منّا من يوم خلقهنّ،و إن تأخّر زمان

ص: 552

الاقتران.(28:251)

9- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الجمعة:9

الطّوسيّ: و ظاهر الآية متوجّه إلى المؤمنين،و إنّما يدخل فيه الفاسق على التّغليب،كما يغلب المذكّر على المؤنّث،هذا على قول من يقول:إنّ الفاسق ليس بمؤمن.

فأمّا من قال:إنّه مؤمن مع كونه فاسقا،فالآية متوجّهة إليهم كلّهم.(10:8)

الميلانيّ: سبب تخصيص الخطاب بالمؤمنين مع أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع،الموجب لتوجّه الخطاب إليهم كون المؤمنين محلّ الابتلاء دونهم،و عدم لزوم توجّه الخطاب إلى الكفّار و لو كانوا مكلّفين.و أنّ الكفّار معاقبون على الفروع كعقابهم على الأصول،لأنّ الخطابات المطلقة كنحو: يا أَيُّهَا النّاسُ و المتوجّه إليهم كمثل: يا أَهْلَ الْكِتابِ كاف في عقابهم على الفروع،فإنّهم لو آمنوا لشملهم الخطاب،و بتركهم له كانوا عاصين معاقبين،فكذا مع عدم إيمانهم،لأنّهم تعمّدوا ترك الامتثال بتعمّد عدم الإيمان،فإنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ عبد ترك أمر المولى بالنّسبة إلى فعل معيّن لتركه المجيء عنده،للأمر الّذي كان مأمورا به، و لا محلّ لاعتراضه على المولى بأنّك خاطبت الحاضرين و لم أكن معهم.(تفسير سورتي الجمعة و التّغابن:63)

10- وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ. العصر:1-3

الطّوسيّ: استثناء من جملة النّاس المؤمنين المصدّقين بتوحيد اللّه بإخلاص عبادته،العاملين بالطّاعات.(10:405)

مثله الطّبرسيّ.(5:536)

عزّة دروزة :و في تقديم«الإيمان»على«العمل الصّالح»إشارة إلى انبثاق العمل الصّالح من الإيمان؛ فالإيمان هو الّذي يدفع صاحبه إلى الخير و يزعه عن الشّرّ.و في ربط«الإيمان»بالعمل الصّالح إشارة إلى وجوب تلازمهما،و اعتبار«العمل الصّالح»عنوانا أو مظهرا للإيمان،و هذا التّلازم بين ذكر الإيمان و العمل الصّالح يلحظ في جلّ الآيات القرآنيّة ممّا يمكن أن يدلّ على قصد الإشارة إلى شدّة الارتباط و اللّحمة و التّوافق بينهما و توكيده.و إذا لوحظ أنّ«الإيمان»شيء داخليّ أو ذاتيّ في أعماق النّفس لا يمكن أن يدلّ على نفسه بنفسه، و لا يمكن أن يدلّ عليه إلاّ«العمل الصّالح»بأنّ له وجه الحقّ في ذلك.

و الحكمة في هذا ظاهرة قويّة،ف«الإيمان»يمنح صاحبه طمأنينة و استقرار نفس يجعلانه يصدر في أعماله و أهدافه عن يقين و قصد و تثبّت و اندفاع و صبر، و يتحمّل في سبيل ذلك ما قد يلاقيه من مصاعب و ما تمسّ الحاجة إليه من تضحيات.و الإيمان باللّه يجعل صاحبه يقبل على الخير و العمل الصّالح و ينقبض عن الشّرّ و الإثم و السّيّئات،ابتغاء لوجه اللّه و اتّقاء لغضبه و اكتسابا لرضائه و رضوانه،دون أن يكون هناك حافز من منفعة عاجلة أو دون أن يكون ذلك ممّا لا بدّ منه

ص: 553

على الأقلّ.

أمّا العمل الّذي لا يصدر عن إيمان فإنّه يكون معرّضا في الأغلب للانقطاع و التّردّد و التّأثّر بالمؤثّرات و الاعتبارات الشّخصيّة و النّفعيّة و الظّرفيّة،و كثيرا ما ينصرف المرء عنه حينما يلقى المصاعب و المشاكل،أو حينما يتطلّب منه التّضحيات،أو حينما لا يكون من ورائه جلب خير أو دفع شرّ عاجل.

و«العمل الصّالح»من الجهة الأخرى لا يكون فيه حيويّة و يقين و تثبّت و استمرار إذا لم يكن منبثقا عن إيمان يجعله لازما حيّا قويّا بذاته و بصرف النّظر عن أيّ اعتبار،و يجعل صاحبه لا ينصرف عنه مهما لاقى في سبيله من مصاعب،و اقتضى منه من تضحية و عناء،و استنفد من قوّة و جهد.

و إذا أراد قائل أن يقول:إنّ هناك من يفعل الخير لذاته نتيجة للتّربية الخليقة الرّاسخة،فليذكر هذا القائل أنّ هذا النّوع من النّدرة،بحيث لا يمكن أن يورد على ما قرّرناه آنفا،و أنّ المجتمع في حاجة دائمة إلى حافز مشترك،يشمل بتأثيره أكبر عدد ممكن من البشر، و ليس هذا الحافز إلاّ الإيمان.و هذا فضلا عن أنّ التّديّن الرّاسخ في أعماق الطّبيعة الإنسانيّة يمهّد السّبيل لقوّة هذا الحافز و تأثيره و شموله.

و إذا أراد قائل أن يقول:إنّ كثيرا من المؤمنين باللّه و اليوم الآخر لا يفعلون الخير أو لا يفعلونه إلاّ إذا رجوا مقابلة عاجلة عليه.

فالجواب على هذا هو أنّ إيمان هؤلاء ليس هو الإيمان الصّحيح،فهم مسلمون أكثر منهم مؤمنون،و قد فرّق القرآن بين الفئتين و نبّه،لمدى و أثر الإيمان الصّحيح في صاحبه،في آيات سورة الحجرات هذه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ... 14،على أنّ الوازع للخير يظلّ دائما أقوى في المؤمنين على كلّ حال منه في غير المؤمنين،على ما هو المشاهد المحسوس في كلّ وقت.

(1:172)

الطّباطبائيّ: قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسر،و المستثنون هم الأفراد المتلبّسون بالإيمان و الأعمال الصّالحة،فهم آمنون من الخسر.

و ذلك أنّ كتاب اللّه يبيّن أنّ للإنسان حياة خالدة مؤبّدة لا تنقطع بالموت،و إنّما الموت انتقال من دار إلى دار، كما تقدّم في تفسير قوله تعالى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ الواقعة:61،و يبيّن أنّ شطرا من هذه الحياة-و هي الحياة الدّنيا-حياة امتحانيّة تتعيّن بها صفة الشّطر الأخير الّذي هو الحياة الآخرة المؤبّدة من سعادة و شقاء،قال تعالى: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ مَتاعٌ الرّعد:26،و قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً الأنبياء:35.

و يبيّن أنّ مقدّميّة هذه الحياة لتلك الحياة إنّما هي بمظاهرها من الاعتقاد و العمل،فالاعتقاد الحقّ و العمل الصّالح ملاك السّعادة الأخرويّة،و الكفر و الفسوق ملاك الشّقاء فيها،قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى* وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى* ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى النّجم:39-41،و قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ الرّوم:44، و قال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها فصّلت:46،و قد سمّى اللّه تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء و أجرا في آيات كثيرة.

ص: 554

و يبيّن أنّ مقدّميّة هذه الحياة لتلك الحياة إنّما هي بمظاهرها من الاعتقاد و العمل،فالاعتقاد الحقّ و العمل الصّالح ملاك السّعادة الأخرويّة،و الكفر و الفسوق ملاك الشّقاء فيها،قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى* وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى* ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى النّجم:39-41،و قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ الرّوم:44، و قال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها فصّلت:46،و قد سمّى اللّه تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء و أجرا في آيات كثيرة.

و يتبيّن بذلك كلّه أنّ الحياة رأس مال للإنسان، يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة،فإن اتّبع الحقّ في العقد و العمل فقد ربحت تجارته و بورك في مكسبه و أمن الشّرّ في مستقبله،و إن اتّبع الباطل و أعرض عن الإيمان و العمل الصّالح فقد خسرت تجارته و حرم الخير في عقباه،و هو قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ.

و المراد بالإيمان:الإيمان باللّه،و من الإيمان باللّه:

الإيمان بجميع رسله و الإيمان باليوم الآخر،فقد نصّ تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله أو باليوم الآخر أنّه غير مؤمن باللّه.(20:356)

بنت الشّاطئ:الإيمان نقيض الكفر،و في دلالته اللّغويّة الأصليّة حسّ الأمن و الأمانة.و الصّلاح ضدّ الفساد،و تستعمل الصّالحات في المجال الدّينيّ،نقيضا للسّيّئات.

و واضح هنا أنّ على الإنسان مسئوليّته فردا بالإيمان و عمل الصّالحات،و مسئوليّته نحو الجماعة بالتّواصي بالحقّ و التّواصي بالصّبر.

و يقترن العمل الصّالح بالإيمان في القرآن الكريم نحو خمس و سبعين مرّة،مع الوعد و البشرى بأنّ من يؤمن باللّه و يعمل صالحا فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً طه:

112، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ الأنبياء:94، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى الكهف:88،و حَياةً طَيِّبَةً النّحل:97، و اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ النّور:62،و يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ الكهف:2، وَ قَلِيلٌ ما هُمْ ص:24، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ المائدة:69، لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى طه:75،و فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ البقرة:62، أَجْرٍ كَرِيمٍ الحديد:11، عَظِيمٌ المائدة:

9، كَبِيرٌ فاطر:7، غَيْرُ مَمْنُونٍ الانشقاق:25، و لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ الحجّ:50،و لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ النّور:55، وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ النّساء:

173،و سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا مريم:96،و هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة:7،و أَصْحابُ الْجَنَّةِ البقرة:

82، طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ الرّعد:29.

و يأتي العمل الصّالح مسندا إلى الأنبياء و الرّسل،كما يأتي الصّالحون مع النّبيّين و الشّهداء في آيات النّساء:

69،و الأنبياء:72،86،و تتكرّر في دعاء يوسف:101، و إبراهيم:الشّعراء:83،و سليمان،النّمل:19.

و عطف عدم الشّرك على العمل الصّالح في آية الكهف:110، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً كما جاء مقابلا للكفر في آية الرّوم:44، مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

و في هذا الاستقراء إيذان صريح بأنّ عمل الصّالحات قرين الإيمان،و منه نقول في آية العصر:إنّ الإيمان باللّه ينبغي أن يقترن بعمل الصّالحات،لكي ينجو الإنسان من الخسر.

لكن من المفسّرين من لم يأخذوها بمثل هذه

ص: 555

البساطة و اليسر،بل أثاروا فيها عددا من المسائل،منها ما هو جدليّ لا يعنينا هنا في تفسيرنا البيانيّ،كالّذي ثار بين المعتزلة و الأشعريّة من خلاف حول تسمية «الأعمال»بالصّالحات،هل لكونها في نفسها مشتملة على وجوه الصّلاح؟أو لأنّ اللّه سبحانه أمر بها؟

و منها ما يتّصل بموضوعنا في أسرار التّعبير، كالوقوف عند عطف«عمل الصّالحات»على الإيمان، احتجّ به من قال:بأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان باللّه؛إذ لو كان داخلا فيه لكان تكريرا و لا يمكن أن يقال:

إنّ هذا التّكرير واقع في القرآن،و لا يحتجّ له بمثل قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الأحزاب:7،و قوله سبحانه: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ البقرة:98،لأنّ هذا حسن فيه- على قولهم-إعادة ما هو أشرف أنواع الكلّيّ،و عمل الصّالحات ليس أشرف أنواع الإيمان،فبطل هذا التّأويل.

و ردّ عليهم بما في سورة العصر نفسها من عطف التّواصي بالحقّ و بالصّبر على عمل الصّالحات،فكان جوابهم لا نمنع ورود التّكرير لأجل التّأكيد،لكنّ الأصل عدمه.

و نتدبّر القرآن الكريم فيهدينا استقراء آياته المحكمات-على ما قدّمنا-إلى أنّه كثيرا ما يعطف«العمل الصّالح»على الإيمان،فلا يكون هذا تكريرا للتّأكيد،بقدر ما هو إيذان بأنّ«الإيمان»يقترن بالعمل الصّالح.

فعمل الصّالحات في آية العصر،إذا عدّه بعضهم داخلا في الإيمان-و آية الرّوم تؤنس إليه-فليس العطف تكريرا لمجرد التّأكيد،و هو مألوف في العربيّة.و إنّما يكون فيه تنبيه إلى قيمة عمل الصّالحات و موضعها من الإيمان، فكأنّه من التّخصيص بعد التّعميم.

و ليس لقائل أن يقول في البيان المعجز:«لا نمنع التّكرير للتّأكيد و لكنّ الأصل عدمه»إذ أنّ هذا القرآن هو الأصل و الحجّة.

و بالإيمان و عمل الصّالحات تتحدّد مسئوليّة الإنسان فردا،ثمّ تأتي مسئوليّته نحو الجماعة.

(التّفسير البياني للقرآن الكريم 2:88)

شوقي ضيف: الإيمان من الأمن،و هو طمأنينة النّفس و سكينتها،و قد جاءت الكلمة،و مشتقّاتها في القرآن بهذا المعنى اللّغويّ و ما يقرب منه و هو التّصديق، في مثل آية سورة يوسف:17، وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ و جاءت بمعنى الاعتقاد مطلقا حتّى عند المشركين في مثل آية سورة النّساء:51 يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ و جاءت بمعنى الإقرار باللّسان دون تصديق القلب في مثل آية سورة المنافقون:3، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا و جاءت بمعنى الشّريعة المحمّديّة في مثل آية سورة البقرة:14 وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي الّذين اتّبعوا شريعة الإسلام و أقرّوا بنبوّة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم و رسالته،و هي بذلك تدلّ دلالة مطابقة على ركني الإسلام،من العقيدة و العمل.

و استخدمها القرآن في الدّلالة على ركن العقيدة الإسلاميّة وحده دون ركن العمل،على نحو ما نقرأ في آية سورة البقرة:177،أيضا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ و يكثر دوران كلمة«الإيمان»في القرآن دالّة على هذا الرّكن، حين تقترن بكلمة«العمل الصّالح»أو قل:بركن العمل، كما في آية العصر الّتي نحن بصددها،و قد تكرّر اقترانهما في الذّكر الحكيم أكثر من ستّين مرّة.

ص: 556

و استخدمها القرآن في الدّلالة على ركن العقيدة الإسلاميّة وحده دون ركن العمل،على نحو ما نقرأ في آية سورة البقرة:177،أيضا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ و يكثر دوران كلمة«الإيمان»في القرآن دالّة على هذا الرّكن، حين تقترن بكلمة«العمل الصّالح»أو قل:بركن العمل، كما في آية العصر الّتي نحن بصددها،و قد تكرّر اقترانهما في الذّكر الحكيم أكثر من ستّين مرّة.

فالإيمان في الآية هو الإيمان بالعقيدة إيمانا ينطوي على تصديق القلب و إذعان النّفس في السّرّ و العلن،أو بعبارة أخرى هو صدق الاعتقاد في اللّه و المعاد و الملائكة و الرّسل و الكتب السّماويّة،و انطباع ذلك في القلب انطباعا أساسه اليقين الكامل.

(سورة الرّحمن و سور قصار:347)

امنتم

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ...

الأعراف:123

البيضاويّ: باللّه أو بموسى،و الاستفهام فيه للإنكار.

و قرأ حمزة و الكسائيّ و أبو بكر عن عاصم و روح عن يعقوب و هشام بتحقيق الهمزتين على الأصل،و قرأ حفص (امنتم به) على الإخبار.(1:363)

أبو حيّان: قرأ حفص (امنتم) على الخبر في كلّ القرآن،أي فعلتم هذا الفعل الشّنيع،وبّخهم بذلك و قرعهم.

و قرأ العربيّان و نافع و البزّيّ بهمزة استفهام و مدّة بعدها مطوّلة في تقدير ألفين،إلاّ ورشا فإنّه يسهّل الثّانية،و لم يدخل أحد ألفا بين المحقّقة و المليّنة،و كذلك في طه و الشّعراء.

و قرأ حمزة و الكسائيّ و أبو بكر فيهنّ بالاستفهام، و حقّقا الهمزة و بعدها الألف.

و قرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واوا لضمّة نون فرعون،و تحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه.و قرأ في طه مثل حفص،و في الشّعراء مثل البزّيّ.

هذا الاستفهام معناه الإنكار و الاستبعاد،و الضّمير في(به)عائد على اللّه تعالى،لقولهم: قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ الأعراف:121.

و قيل:يحتمل أن يعود على موسى،و في طه:71، و الشّعراء:49،يعود في قوله:(له)على موسى،لقوله:

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ. و قيل:آمنت به و آمنت له واحد،و في قوله: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ دليل على وهن أمره،لأنّه إنّما جعل ذنبهم بمفارقة الإذن،و لم يجعله نفس الإيمان إلاّ بشرط.(4:365)

رشيد رضا :[ذكر مثل أبي حيّان و أضاف:]

و في سورة طه:71 قالَ آمَنْتُمْ لَهُ و الضّمير فيه لموسى قطعا،لأنّ تعدية الإيمان باللاّم تضمين يفيد معنى الاتّباع و الخضوع،و المعنى و أ آمنتم به متّبعين له إذعانا لرسالته قبل أن آذن لكم.و لذلك يتعيّن استعمال هذا التّضمين في الإيمان بالرّسل و الاتّباع لهم،كقوله تعالى حكاية عن فرعون: أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ المؤمنون:47،[ثمّ استشهد بشعر]و مثل قوله تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السّلام أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الشّعراء:111،و قوله حكاية عن

ص: 557

كفّار قريش: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الإسراء:90،و ليس منه قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،بل هذه لام التّقوية،أي و ما أنت بمصدّق لنا.

(9:71)

امنت

...حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

يونس:90

ابن عبّاس: لم يقبل اللّه إيمانه عند نزول العذاب به، و قد كان في مهل.(الخازن 3:168)

الطّبريّ: يقول:أقررت أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ.

و اختلفت القرّاء في قراءة ذلك،فقرأ بعضهم و هو قراءة عامّة المدينة و البصرة(انّه)بفتح الألف من(أنّه) على إعمال(امنت)فيها و نصبها به.

و قرأ آخرون: (امنت انّه) بكسر الألف من أنّه على ابتداء الخبر،و هي قراءة عامّة الكوفيّين.

و القول في ذلك عندي أنّهما قراءتان متقاربتا المعنى، و بأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.(11:162)

الزّمخشريّ: و قرئ(انّه)بالفتح على حذف الباء الّتي هي صلة الإيمان،و(انّه)بالكسر على الاستئناف بدلا من(امنت).

كرّر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرّات في ثلاث عبارات حرصا على القبول،ثمّ لم يقبل منه حيث أخطأ وقته،و قاله حين لم يبق له اختيار قطّ،و كانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار و عند بقاء التّكليف.

[إلى أن قال:]

و الّذي يحكى أنّه حين قال:(امنت)أخذ جبريل من حال (1)البحر فدسّه فيه،فللغضب للّه على الكافر،في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه.

و أمّا ما يضمّ إليه من قولهم:خشية أن تدركه رحمة اللّه،فمن زيادات الباهتين للّه و ملائكته،و فيه جهالتان:

إحداهما:أنّ الإيمان يصحّ بالقلب كإيمان الأخرس،فحال البحر لا يمنعه.و الأخرى:أنّ من كره إيمان الكافر و أحبّ بقاءه على الكفر فهو كافر،لأنّ الرّضا بالكفر كفر.

(2:251)

نحوه النّسفيّ.(2:174)

الفخر الرّازيّ: و هاهنا سؤالان:

السّؤال الأوّل:أنّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفّظ بهذا اللّفظ،فكيف حكى اللّه تعالى عنه أنّه ذكر ذلك؟

و الجواب من وجهين:

الأوّل أنّ مذهبنا أنّ الكلام الحقيقيّ هو كلام النّفس لا كلام اللّسان،فهو إنّما ذكر هذا الكلام بالنّفس،لا بكلام اللّسان.و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية على إثبات كلام النّفس،لأنّه تعالى حكى عنه أنّه قال هذا الكلام،و ثبت بالدّليل أنّه ما قاله باللّسان،فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللّسان،و هو المطلوب.

الثّاني:أن يكون المراد من الغرق مقدّماته.

ص: 558


1- التّراب اللّين الّذي يقال له السّهلة.(ابن منظور 11:190)

السّؤال الثّاني:أنّه آمن ثلاث مرّات:أوّلها قوله:

(امنت)،و ثانيها قوله: لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، و ثالثها قوله: وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فما السّبب في عدم القبول و اللّه تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ و حقد حتّى يقال:إنّه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار؟

و الجواب:العلماء ذكروا فيه وجوها:

الوجه الأوّل:أنّه إنّما آمن عند نزول العذاب.

و الإيمان في هذا الوقت غير مقبول،لأنّ عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء،و في هذا الحال لا تكون التّوبة مقبولة،و لهذا السّبب قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا المؤمن:85.

الوجه الثّاني:هو أنّه إنّما ذكر هذه الكلمة ليتوسّل بها إلى دفع تلك البليّة الحاضرة و المحنة النّاجزة،فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانيّة اللّه تعالى و الاعتراف بعزّة الرّبوبيّة و ذلّة العبوديّة،و على هذا التّقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقرونا بالإخلاص فلهذا السّبب ما كان مقبولا.

الوجه الثّالث:هو أنّ ذلك الإقرار كان مبنيّا على محض التّقليد،أ لا ترى أنّه قال: لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ. فكأنّه اعترف بأنّه لا يعرف اللّه،إلاّ أنّه سمع من بني إسرائيل أنّ للعالم إلها،فهو أقرّ بذلك الإله الّذي سمع من بني إسرائيل أنّهم أقرّوا بوجوده.فكان هذا محض التّقليد،فلهذا السّبب لم تصر الكلمة مقبولة منه.

و مزيد التّحقيق فيه:أنّ فرعون على ما بيّنّاه في سورة(طه)كان من الدّهريّة،و كان من المنكرين لوجود الصّانع تعالى.

و مثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته،إلاّ بنور الحجج القطعيّة،و الدّلائل اليقينيّة.و أمّا بالتّقليد المحض فهو لا يفيد،لأنّه يكون ضمّا لظلمة التّقليد إلى ظلمة الجهل السّابق.

الوجه الرّابع:رأيت في بعض الكتب أنّ بعض أقوام من بني إسرائيل لمّا جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل، فلمّا قال فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ انصرف ذلك إلى العجل الّذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت،فكانت هذه الكلمة في حقّه سببا لزيادة الكفر.

الوجه الخامس:أنّ اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التّشبيه و التّجسيم،و لهذا السّبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنّهم أنّه تعالى حلّ في جسد ذلك العجل و نزل فيه،فلمّا كان الأمر كذلك و قال فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فكأنّه آمن بالإله الموصوف بالجسميّة و الحلول و النّزول،و كلّ من اعتقد ذلك كان كافرا،فلهذا السّبب ما صحّ إيمان فرعون.

الوجه السّادس:لعلّ الإيمان إنّما كان يتمّ بالإقرار بوحدانيّة اللّه تعالى،و الإقرار بنبوّة موسى عليه السّلام،فهاهنا لمّا أقرّ فرعون بالوحدانيّة و لم يقرّ بالنّبوّة لا جرم لم يصحّ إيمانه.و نظيره أنّ الواحد من الكفّار لو قال ألف مرّة:

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه،فإنّه لا يصحّ إيمانه إلاّ إذا قال معه:

و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه،فكذا هاهنا.(17:154)

نحوه النّيسابوريّ(11:112)،و الشّربينيّ(2:35).

ص: 559

القرطبيّ: أي صدّقت.(انّه)أي بأنّه لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ. فلمّا حذف الخافض تعدّى الفعل فنصب.و قرئ بالكسر،أي صرت مؤمنا،ثمّ استأنف.

و زعم أبو حاتم أنّ القول محذوف،أي آمنت فقلت:

إنّه.و الإيمان لا ينفع حينئذ،و التّوبة مقبولة قبل رؤية البأس.و أمّا بعدها و بعد المخالطة فلا تقبل،حسب ما تقدّم في النّساء بيانه.(8:377)

الآلوسيّ: قالَ آمَنْتُ إلخ،و من النّاس من أبقى الإدراك على ظاهره و حمل القول على النّفسيّ،و زعم أنّ الآية دليل على ثبوت الكلام النّفسيّ.

و نظر فيه بأنّ قيام الاحتمال يبطل صحّة الاستدلال، و أيّا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق-كما قيل- بل إنشاء إيمان: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ أي بأنّه.و قدّر الجارّ لأنّ الإيمان و كذا الكفر متعدّ بالباء،و محلّ مدخوله بعد حذفه الجرّ أو النّصب فيه خلاف شهير،و جعله متعدّيا بنفسه فلا تقدير،لأنّه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه.

و قرأ حمزة و الكسائيّ(انّه)بالكسر على إضمار القول،أي و قال إنّه،أو على الاستئناف لبيان إيمانه،أو الإبدال من جملة(امنت)؛و الجملة الاسميّة يجوز إبدالها من الفعليّة،و الاستئناف على البدليّة باعتبار المحكيّ لا الحكاية،لأنّ الكلام في الأوّل،و الجملة الأولى في كلامه مستأنفة و المبدل من المستأنف مستأنف،و الضّمير للشّأن.

و عبّر عنه تعالى بالموصول،و جعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى،و لم يقل كما قال السّحرة: آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ الشّعراء:47،48، للإشعار برجوعه عن الاستعصاء،و اتّباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول و الانتظام معهم في سلك النّجاة وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي الّذين أسلموا نفوسهم للّه تعالى،أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه،و أراد بهم إمّا بني إسرائيل خاصّة و إمّا الجنس و هم إذ ذاك داخلون دخولا أوّليّا.

و الظّاهر أنّ الجملة على التّقديرين معطوفة على جملة(امنت)و إيثار الاسميّة لادّعاء الدّوام و الاستمرار.

و قيل:إنّها على الأوّل معطوفة،و على الثّاني تحتمل الحاليّة أيضا من ضمير المتكلّم،أي آمنت مخلصا للّه تعالى،منتظما في سلك الرّاسخين في ذلك.و لقد كرّر المعنى الواحد بثلاث عبارات و بالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضي للنّجاة.و ليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان و ذلك قبل اليأس،فإنّ إيمان اليأس غير مقبول، كما عليه الأئمّة الفحول.(11:181)

رشيد رضا :أي قال قبل أن يغرق،و هو يدلّ على أنّ البحر لم يطبق عليه دفعة واحدة:آمنت أنّه لا إله بالحقّ إلاّ الرّبّ الّذي آمنت به جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي و أنا فرد من جماعة المذعنين له المنقادين لأمره،بعد ما كان من كفر الجحود بآياته و العناد لرسوله،يعني أنّه جمع بين الإيمان الّذي هو التّصديق بالقلب،و الإسلام الّذي هو الإذعان و الخضوع بالفعل،بدون امتياز لعظمة الملك.

و كان من قبل جاحدا،أي مصدّقا غير مذعن

ص: 560

و لا خاضع،بدليل قوله تعالى فيه و في آله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ النّمل:14،يعني آيات موسى.

و هذه هي العاقبة،و قد أجيب فيها فرعون عن دعواه بقوله تعالى الّذي يعرف بلسان الحال أو بقول جبريل عليه السّلام.(11:475)

الطّباطبائيّ: أي آمنت بأنّه.و قد وصف اللّه ب اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم،و هو مجاوزة البحر و الأمان من الغرق،و لذلك أيضا جمع بين الإيمان و الإسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصرّ عليه من المعصية،و هو الشّرك باللّه و الاستكبار على اللّه.(10:117)

آمنّا

1- وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. البقرة:8

الزّمخشريّ: فإن قلت:لم اختصّ بالذّكر الإيمان باللّه و الإيمان باليوم الآخر؟

قلت:اختصاصها بالذّكر كشف عن إفراطهم في الخبث و تماديهم في الدّعارة،لأنّ القوم كانوا يهودا،و إيمان اليهود باللّه ليس بإيمان لقولهم:عزير ابن اللّه،و كذلك إيمانهم باليوم الآخر،لأنّهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم: آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ خبثا مضاعفا و كفرا موجّها،لأنّ قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النّفاق-و عقيدتهم عقيدتهم-فهو كفر لا إيمان.فإذا قالوه على وجه النّفاق خديعة للمسلمين و استهزاء بهم و أروهم أنّهم مثلهم في الإيمان الحقيقيّ كان خبثا إلى خبث و كفرا إلى كفر.و أيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنّهم اختاروا الإيمان من جانبيه و اكتنفوه من قطريه و أحاطوا بأوّله و آخره.و في تكرير«الباء»أنّهم ادّعوا كلّ واحد من الإيمانين على صفة الصّحّة و الاستحكام.

فإن قلت:كيف طابق قوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قولهم: آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ و الأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل،و الثّاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟

قلت:القصد إلى إنكار ما ادّعوه و نفيه،فسلك في ذلك طريقا أدّى إلى الغرض المطلوب،و فيه من التّوكيد و المبالغة ما ليس في غيره.و هو إخراج ذواتهم و أنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين لما علم من حالهم المنافية لحال الدّاخلين في الإيمان،و إذا شهد عليهم بأنّهم في أنفسهم على هذه الصّفة فقد انطوى تحت الشّهادة عليهم بذلك نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البتّ و القطع.و نحوه قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها المائدة:37،هو أبلغ من قولك:و ما يخرجون منها.

فإن قلت:فلم جاء«الإيمان»مطلقا في الثّاني،و هو مقيّد في الأوّل؟

قلت:يحتمل أن يراد التّقييد و يترك لدلالة المذكور عليه،و أن يراد بالإطلاق أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء قطّ،لا من الإيمان باللّه و باليوم الآخر،و لا من الإيمان بغيرهما.(1:169)

نحوه خليل ياسين(1:23)،و النّسفيّ(1:18).

ابن عطيّة: رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع

ص: 561

بحسب لفظ(من)و معناها،و حسن ذلك،لأنّ الواحد قبل الجمع في الرّتبة،و لا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد،لو قلت:و من النّاس من يقولون و يتكلّم،يجز.(1:90)

نحوه الفخر الرّازيّ.(2:61)

الآلوسيّ: و في قوله تعالى:(يقول)و(آمنّا)مراعاة للفظ(من)و معناها،و لو راعى الأوّل فقط لقال:آمنت، أو الثّاني فقط لقال:يقولون،و لمّا روعيا جميعا حسن مراعاة اللّفظ أوّلا؛إذ هو في الخارج قبل المعنى و الواحد قبل الجمع،و لو عكس جاز.و زعم ابن عطيّة أنّه لا يجوز الرّجوع من جمع إلى توحيد،و يردّه قول الشّاعر.[ثمّ استشهد بشعر]

و اقتصر من متعلّق الإيمان على(اللّه)و(اليوم الآخر)مع أنّهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّهما المقصود الأعظم من الإيمان؛إذ من آمن باللّه تعالى-على ما يليق بجلال ذاته-آمن بكتبه و رسله و شرائعه،و من علم أنّه إليه المصير استعدّ لذلك بالأعمال الصّالحة.و في ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه:المبدأ و المعاد و ما طريقه العقل و السّمع،و يتضمّن ذلك الإيمان بالنّبوّة.

أو أنّ تخصيص ذلك بالذّكر للإيذان بأنّهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة،لأنّ القوم في المشهور كانوا يهودا و هم مخلصون في أصل الإيمان باللّه و اليوم الآخر على ظنّهم،و مع ذلك ينافقون في كيفيّة الإيمان بهما،و يرون المؤمنين أنّ إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النّفاق المحض و ليسوا مؤمنين به أصلا كنبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن،أو أنّهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التّعرّض بعدم الإيمان بخاتم الرّسل صلّى اللّه عليه و سلّم و ما بلّغه.ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم،و هذا لو قصد حقيقة حينئذ لم يكن إيمانا،لأنّه لا بدّ من الإقرار بما جاء به صلّى اللّه عليه و سلّم فكيف و هو مخادعة و تلبيس!

و قيل:إنّه لمّا كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنّهم تركوا عقائدهم الّتي كانوا عليها في المبدإ و المعاد و اعترفوا أنّهم كانوا في ضلال خصّوا إيمانهم بذلك،لأنّهم كانوا قائلين بسائر الأصول،و أمّا النّبوّة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك،و أيضا ترك الرّاسخ في القلب ممّا عليه الآباء بترك الإيمان به صلّى اللّه عليه و سلّم من المسلّمات،فكأنّهم لم يتعرّضوا له،للإشارة إلى أنّه ممّا لا شبهة في أنّهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشدّ منه عليهم-و حمل بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ على القسم منهم على الإيمان-سمج باللّه،و أسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون«الباء»صلة الإيمان،و كرّرت مبالغة في الخديعة و التّلبيس،بإظهار أنّ إيمانهم تفصيليّ مؤكّد قويّ.(1:144)

2- وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ... البقرة:14

الزّمخشريّ: فإن قلت:لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعليّة و شياطينهم بالاسميّة محقّقة ب«انّ»؟

قلت:ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين و أوكدهما،لأنّهما في ادّعاء حدوث الإيمان منهم و نشئه من قبلهم،لا في ادّعاء أنّهم أوحديّون في

ص: 562

الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم؛و ذلك إمّا لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه؛إذ ليس لهم من عقائدهم باعث و محرّك،و هكذا كلّ قول لم يصدر عن أريحيّة و صدق رغبة و اعتقاد،و إمّا لأنّه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التّوكيد و المبالغة،و كيف يقولونه و يطمعون في رواجه و هم بين ظهرانيّ المهاجرين و الأنصار الّذين مثلهم في التّوراة و الإنجيل؟!أ لا ترى إلى حكاية اللّه قول المؤمنين:

رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا آل عمران:16.

و أمّا مخاطبة إخوانهم فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثّبات على اليهوديّة و القرار على اعتقاد الكفر و البعد من أن يزلّوا عنه على صدق رغبة و وفور نشاط و ارتياح للتّكلّم به،و ما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبّل منهم،فكان مظنّة للتّحقيق و مئنّة للتّوكيد.

(1:185)

نحوه البيضاويّ(1:25)،و النّسفيّ(1:21)، و النّيسابوريّ(1:177).

الفخر الرّازيّ: أمّا قوله: قالُوا آمَنّا فالمراد أخلصنا بالقلب،و الدّليل عليه وجهان:

الأوّل:أنّ الإقرار باللّسان كان معلوما منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه،إنّما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب،فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك.

الثّاني:أنّ قولهم للمؤمنين:(آمنّا)يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم،و إذا كانوا يظهرون لهم التّكذيب بالقلب،فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التّصديق بالقلب.(2:68)

أبو حيّان: و قولهم لمن لقوا من المؤمنين:(آمنّا)بلفظ مطلق الفعل غير مؤكّد بشيء تورية منهم و إيهاما، فيحتمل أن يريدوا به الإيمان بموسى و بما جاء به دون غيره؛و ذلك من خبثهم و بهتهم.و يحتمل أن يريدوا به الإيمان المقيّد في قولهم:آمنّا باللّه و باليوم الآخر،و ليسوا بصادقين في ذلك،و يحتمل أن يريدوا بذلك ما أظهروه بألسنتهم من الإيمان و من اعترافهم حين اللّقاء.و سمّوا ذلك إيمانا و قلوبهم عن ذلك صارفة معرضة.[إلى أن قال:]

و قد اختلف القولان منهم،فقالوا للمؤمنين:(آمنّا) و لشياطينهم: إِنّا مَعَكُمْ فانظر إلى تفاوت القولين فحين لقوا المؤمنين قالوا:(آمنّا)أخبروا بالمطلق كما تقدّم من غير توكيد،لأنّ مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك و نشئه من قبلهم لا في ادّعاء أنّهم أوحديّون فيه،أو لأنّه لا تطوع بذلك ألسنتهم،لأنّه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة،أو لأنّه لو أكّدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلق الإيمان؛و ذلك خلاف ما أخبر اللّه عن المؤمنين بقوله: رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا آل عمران:16،و حين لقوا شياطينهم أو خلوا إليهم قالوا:(انّا معكم)فأخبروا أنّهم موافقوهم،و أخرجوا الإخبار في جملة اسميّة مؤكّدة ب«إنّ»ليدلّوا بذلك على ثباتهم في دينهم.(1:68)

الآلوسي:بيان لدأب المنافقين و أنّهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم:(آمنّا)استهزاء، فلا يتوهّم أنّه مكرّر مع أوّل القصّة،لأنّه إبداء لخبثهم و مكرهم،و كشف عن إفراطهم في الدّعارة،و ادّعاء أنّهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقيّ،و أنّهم أحاطوه من جانبيه.على أنّه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهّم تكرار

ص: 563

أيضا،لأنّ المعنى:و من النّاس من يتفوّه بالإيمان نفاقا للخداع،و ذلك التّفوّه عند لقاء المؤمنين،و ليس هذا من التّكرار بشيء لما فيه من التّقييد و زيادة البيان،و أنّهم ضمّوا إلى الخداع الاستهزاء،و أنّهم لا يتفوّهون بذلك إلاّ عند الحاجة.

و القول بأنّ المراد ب(آمنّا)أوّلا الإخبار عن إحداث الإيمان و هنا عن إحداث إخلاص الإيمان ممّا ارتضاه الإمام[أي الفخر الرّازيّ]-و لا أقتدي به-و تأييده له بأنّ الإقرار اللّسانيّ كان معلوما منهم غير محتاج للبيان، و إنّما المشكوك الإخلاص القلبيّ-فيجب إرادته-يدفعه النّظر من ذي ذوق فيما حرّرناه.(1:156)

3- قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ... آل عمران:84

الطّبريّ: يعني به قل لهم يا محمّد:صدّقنا باللّه أنّه ربّنا و إلهنا،لا إله غيره،و لا نعبد أحدا سواه.(3:338)

الطّوسيّ: قيل في تأويل هذه الآية قولان:

أحدهما:أنّ معناها الإنكار على الكفّار ما ذهبوا إليه من الإيمان ببعض النّبيّين دون بعض،فأمر اللّه تعالى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين أن يقولوا:إنّا نؤمن بجميع النّبيّين، و لا نفرّق بين أحد منهم.

الثّاني:أنّ معناها موافقة ما تقدّم الوعد به،من إيمان النّبيّ الأمّيّ بجميع من تقدّم من النّبيّين على التّفصيل.

و قال له في أوّل الآية:(قل)خطابا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،فجرى الكلام على التّوحيد،و ما بعده على الجمع.

و قيل في ذلك قولان:

أحدهما:أنّ المتكلّم قد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع للتّفخيم،كما قال تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الأعراف:11.

و الثّاني:أنّه أراد دخول الأمّة في الخطاب الأوّل، و الأمر بالإقرار.و يجوز أن يقال في الواحد المتكلّم:فعلنا، و لا يجوز للواحد المخاطب:فعلتم.و الفرق بينهما:أنّ الكلام بالجملة الواحدة يصحّ بجماعة مخاطبين،و لا يصحّ الكلام بالجملة الواحدة بجماعة متكلّمين،فلذلك جاز في «فعلنا»في الواحد للتّفخيم،لأنّه لا يصحّ أن يكون خطابا للجماعة،فلم يصرف عنهم بغير قرينة لما يدخله من الإلباس في مفهوم العبارة.(2:519)

الزّمخشريّ: أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأن يخبر عن نفسه و عمّن معه بالإيمان،فلذلك وحّد الضّمير في(قل)و جمع في(آمنّا).و يجوز أن يؤمر بأن يتكلّم عن نفسه كما يتكلّم الملوك إجلالا من اللّه لقدر نبيّه.(1:442)

مثله النّسفيّ.(1:167)،و نحوه البروسويّ(2:58).

الطّبرسيّ: خطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و أمر له بأن يقول عن نفسه و عن أمّته: آمَنّا بِاللّهِ و ب ما أُنْزِلَ عَلَيْنا الآية،كما يخاطب رئيس القوم بأن يقول عن نفسه و عن رعيّته.

فإن قيل:ما معنى قوله: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بعد ما سبق من الإقرار بالإيمان على التّفصيل؟

قلنا:معناه و نحن له مسلمون بالطّاعة و الانقياد في جميع ما أمر به و نهى عنه،و أيضا فإنّ أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا يقرّون كلّهم بالإيمان و لكن لم يقرّوا بلفظ الإسلام،فلهذا قال: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. (1:470)

الفخر الرّازيّ:اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية

ص: 564

المتقدّمة أنّه إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرّسول الّذي يأتي مصدّقا لما معهم،بيّن في هذه الآية أنّ من صفة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم كونه مصدّقا لما معهم،فقال: قُلْ آمَنّا بِاللّهِ إلى آخر الآية،و هاهنا مسائل:

المسألة الأولى:وحّد الضّمير في(قل)و جمع في (آمنّا)و فيه وجوه:

الأوّل:أنّه تعالى حين خاطبه،إنّما خاطبه بلفظ الوحدان،و علّمه أنّه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التّعظيم و التّفخيم،مثل ما يتكلّم الملوك و العظماء.

و الثّاني:أنّه خاطبه أوّلا بخطاب الوحدان ليدلّ هذا الكلام على أنّه لا مبلغ لهذا التّكليف من اللّه إلى الخلق إلاّ هو،ثمّ قال:(آمنّا)تنبيها على أنّه حين يقول هذا القول فإنّ أصحابه يوافقونه عليه.

الثّالث:أنّه تعالى عيّنه في هذا التّكليف بقوله:(قل) ليظهر به كونه مصدّقا لما معهم،ثمّ قال:(آمنّا)تنبيها على أنّ هذا التّكليف ليس من خواصّه بل هو لازم لكلّ المؤمنين،كما قال: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ البقرة:285.

المسألة الثّانية:قدّم الإيمان باللّه على الإيمان بالأنبياء، لأنّ الإيمان باللّه أصل الإيمان بالنّبوّة.و في المرتبة الثّانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه،لأنّ كتب سائر الأنبياء حرّفوها و بدّلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلاّ بما أنزله اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان ما أنزل على محمّد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء،فلهذا قدّمه عليه.و في المرتبة الثّالثة ذكر بعض الأنبياء،و هم الأنبياء الّذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم،و يختلفون في نبوّتهم.[إلى أن قال:]

و إنّما أوجب اللّه تعالى الإقرار بنبوّة كلّ الأنبياء عليهم السّلام لفوائد:

إحداها:إثبات كونه عليه السّلام مصدّقا لجميع الأنبياء،لأنّ هذا الشّرط كان معتبرا في أخذ الميثاق.

و ثانيها:التّنبيه على أنّ مذاهب أهل الكتاب متناقضة،و ذلك لأنّهم إنّما يصدّقون النّبيّ الّذي يصدّقونه لمكان ظهور المعجزة عليه،و هذا يقتضي أنّ كلّ من ظهرت المعجزة عليه كان نبيّا،و على هذا يكون تخصيص البعض بالتّصديق و البعض بالتّكذيب متناقضا،بل الحقّ تصديق الكلّ و الاعتراف بنبوّة الكلّ.

و ثالثها:أنّه قال قبل هذه الآية: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ آل عمران:83،و هذا تنبيه على أنّ إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين اللّه و منازعة مع اللّه،فهاهنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء،ليزول عنه و عن أمّته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة اللّه في الحكم و التّكليف.

و رابعها:أنّ في الآية الأولى ذكر أنّه أخذ الميثاق على جميع النّبيّين،أن يؤمنوا بكلّ من يأتي بعدهم من الرّسل.

و هاهنا أخذ الميثاق على محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،بأن يؤمن بكلّ من أتى قبله من الرّسل،و لم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرّسل،فكانت هذه الآية دالّة من هذا الوجه على أنّه لا نبيّ بعده البتّة.[إلى أن قال:]

و اختلف العلماء في أنّ الإيمان بهؤلاء الأنبياء الّذين

ص: 565

تقدّموا و نسخت شرائعهم كيف يكون؟و حقيقة الخلاف أنّ شرعه لمّا صار منسوخا فهل تصير نبوّته منسوخة؟

فمن قال:إنّها تصير منسوخة،قال:نؤمن أنّهم كانوا أنبياء و رسلا،و لا نؤمن بأنّهم الآن أنبياء و رسل.

و من قال:إنّ نسخ الشّريعة لا يقتضي نسخ النّبوّة، قال:نؤمن أنّهم أنبياء و رسل في الحال،فتنبّه لهذا الموضع.

(8:131)

أبو حيّان: نقول:الظّاهر في(قل)أنّه خطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،أمر أن يخبر عن نفسه و عن أمّته بقوله:«آمنّا به»،و يقوى أنّه إخبار عنه و عن أمّته قوله أخيرا:

وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.

و أفرده بالخطاب بقوله:(قل)لأنّه تقدّم ذكره في أخذ الميثاق في قوله: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ آل عمران:

81،فعيّنه في هذا التّكليف ليظهر فيه كونه مصدّقا لما مع الأنبياء الّذين أخذ عليهم الميثاق،و قال:(آمنّا)تنبيها على أنّ هذا التّكليف ليس من خواصّه بل هو لازم لكلّ المؤمنين،قال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ بعد قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ البقرة:

285.

قال الزّمخشريّ: و يجوز أن يؤمر بأن يتكلّم عن نفسه كما يتكلّم الملوك إجلالا من اللّه لقدر نبيّه.

و قال ابن عطيّة: المعنى قل يا محمّد أنت و أمّتك:

آمَنّا بِاللّهِ فيظهر من كلام ابن عطيّة أنّ ثمّ معطوفا حذف،و أنّ ثمّ الأمر متوجّه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أمّته.

(2:516)

الآلوسيّ: أمر للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يخبر عن نفسه و المؤمنين بالإيمان بما ذكر،فضمير(آمنّا)للنّبيّ صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم و الأمّة.

و قال المولى عبد الباقي: لمّا أخذ اللّه تعالى الميثاق من النّبيّين أنفسهم[أي في الآية:81]أن يؤمنوا بمحمّد عليه الصّلاة و السّلام و ينصروه،أمر محمّدا أيضا صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به و بكتبهم، فيكون(آمنّا)في موضع آمنت،لتعظيم نبيّنا عليه أفضل الصّلاة و أكمل السّلام.أو لما عهد مع النّبيّين و أممهم أن يؤمنوا أمر محمّدا عليه الصّلاة و السّلام و أمّته أن يؤمنوا بهم و بكتبهم.

و الحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة.و لم يتعرّض هنا لحكمة الأنبياء السّالفين، [كما قال: مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ البقرة:81]إمّا لأنّ الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة،أو للإشارة إلى أنّ شريعتهم منسوخة في زمن هذا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و كلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشّريعة،و لم يتعرّض لنصرته عليه الصّلاة و السّلام لهم؛ إذ لا مجال بوجه لنصرة السّلف.

و يؤيّد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرّزّاق و غيره عن طاوس أنّه قال:أخذ اللّه تعالى ميثاق النّبيّين أن يصدّق بعضهم بعضا.(3:214)

القاسميّ: نكتة الجمع في قوله:(آمنّا)بعد الإفراد في (قل)كون الأمر عامّا،و الإفراد لتشريفه عليه الصّلاة و السّلام،و الإيذان بأنّه أصل في ذلك.أو الأمر خاصّ بالإخبار عن نفسه الزّكيّة خاصّة،و الجمع لإظهار جلالة قدره و رفعة محلّه بأمره،بأن يتكلّم عن نفسه على ديدن

ص: 566

الملوك.(4:879)

رشيد رضا :أي آمنت أنا و من معي بوجود اللّه و وحدانيّته و كماله.[إلى أن قال:]

و قدّم الإيمان باللّه على الإيمان بإنزال الوحي،لأنّه الأصل الأوّل المقصود بالذّات،و الوحي فرع له؛إذ هو وحيه تعالى إلى رسله.(3:356)

الطّباطبائيّ: أمر النّبيّ أن يجري على الميثاق الّذي أخذ منه و من غيره،فيقول عن نفسه و عن المؤمنين من أمّته: آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا إلخ.(3:336)

4- وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ. المائدة:111

الفخر الرّازيّ: ذكر تعالى أنّه لمّا ألقى ذلك الوحي في قلوبهم آمنوا و أسلموا.

و إنّما قدّم ذكر الإيمان على الإسلام،لأنّ الإيمان صفة القلب،و الإسلام عبارة عن الانقياد و الخضوع في الظّاهر،يعني آمنوا بقلوبهم و انقادوا بظواهرهم.

(12:128)

أبو حيّان: تقدّم تفسير نظير هذه الجملة في آل عمران:52،إلاّ أنّ هناك آمَنّا بِاللّهِ، لأنّه تقدّم ذكر اللّه فقط في قوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ آل عمران:52،و هنا جاء قالُوا آمَنّا فلم يتقيّد بلفظ الجلالة إذ قد تقدّم أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي و جاء هناك وَ اشْهَدْ بِأَنّا و هنا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا و هذا هو الأصل؛إذ(أن)محذوف منه النّون لاجتماع الأمثال.(4:52)

5- وَ يَقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.

النّور:47

الطّوسيّ: قيل:إنّها نزلت في صفة المنافقين،لأنّهم يقولون:بألسنتهم:آمنّا باللّه و صدّقنا رسوله،فإذا انصرفوا إلى أصحابهم قالوا خلاف ذلك،فأخبر اللّه تعالى أنّ هؤلاء ليسوا بمؤمنين على الحقيقة.(7:450)

الطّبرسيّ: أي صدّقنا بتوحيد اللّه...و في هذه الآية دلالة على أنّ القول المجرّد لا يكون إيمانا؛إذ لو كان ذلك كذلك لما صحّ النّفي بعد الإثبات.(4:150)

الفخر الرّازيّ: قوله: وَ يَقُولُونَ آمَنّا -إلى قوله - وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يدلّ على أنّ الإيمان لا يكون بالقول؛إذ لو كان به لما صحّ أن ينفي كونهم مؤمنين،و قد فعلوا ما هو إيمان في الحقيقة.

فإن قيل:إنّه تعالى حكى عن كلّهم أنّهم يقولون:

آمنّا،ثمّ حكى عن فريق منهم التّولّي،فكيف يصحّ أن يقول في جميعهم: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ مع أنّ الّذي تولّى منهم هو البعض؟

قلنا:إنّ قوله: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ راجع إلى الّذين تولّوا لا إلى الجملة الأولى،و أيضا فلو رجع إلى الأوّل يصحّ،و يكون معنى قوله: ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يرجع هذا الفريق إلى الباقين منهم،فيظهر بعضهم لبعض الرّجوع عمّا أظهروه.(24:20)

الطّباطبائيّ: بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطّاعة أوّلا ثمّ تولّوا ثانيا؛فالإيمان باللّه

ص: 567

هو العقد على توحيده و ما شرع من الدّين،و الإيمان بالرّسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربّه، أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه،من غير أن يكون له من الأمر شيء.و طاعة اللّه هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرّسول الائتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه،و قبول ما حكم به،و قضى عليه.

فالإيمان باللّه و طاعته موردهما نفس الدّين و التّشرّع به،و الإيمان بالرّسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرّسول من الدّين بما أنّه يخبر به،و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات،و الانقياد له في ذلك كلّه.

فبين الإيمانين و الطّاعتين فرق ما،من حيث سعة المورد و ضيقه.و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التّفصيل؛حيث قيل: آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالرَّسُولِ النّور:47، فأشير إلى تعدّد الإيمان و الطّاعة،و لم يقل:آمنّا باللّه و الرّسول بحذف الباء.و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر،قال تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَ رُسُلِهِ النّساء:150.(15:145)

يؤمن

1- ...ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ... البقرة:232

الطّوسيّ: و إنّما خصّ المؤمن بالوعظ لأحد ثلاثة أقوال:

أحدها:لأنّهم المشفقون بالوعظ،فنسب إليهم،كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2،و إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها النّازعات:45.

و الثّاني:لأنّهم أولى بالاتّعاض.

و الثّالث:إنّما يلزمه الوعظ بعد قبوله الإيمان و اعترافه باللّه تعالى.(2:254)

مثله الطّبرسيّ.(1:333)

الفخر الرّازيّ:لم خصّص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم؟

الجواب لوجوه:

أحدها:لمّا كان المؤمن هو المنتفع به،حسن تخصيصه به،كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2،و هو هدى للكلّ، كما قال: هُدىً لِلنّاسِ البقرة:185،و قال: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها النّازعات:45، إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يس:11،مع أنّه كان منذرا للكلّ،كما قال: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الفرقان:1.

و ثانيها:احتجّ بعضهم بهذه الآية على أنّ الكفّار ليسوا مخاطبين بفروع الدّين،قالوا:و الدّليل عليه أنّ قوله:(ذلك)إشارة إلى ما تقدّم ذكره من بيان الأحكام، فلمّا خصّص ذلك بالمؤمنين دلّ على أنّ التّكليف بفروع الشّرائع غير حاصل إلاّ في حقّ المؤمنين و هذا ضعيف، لأنّه ثبت أنّ ذلك التّكليف عامّ،قال تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ آل عمران:97.

و ثالثها:أنّ بيان الأحكام و إن كان عامّا في حقّ المكلّفين إلاّ أنّ كون ذلك البيان وعظا مختصّ بالمؤمنين، لأنّ هذه التّكاليف إنّما توجب على الكفّار على سبيل إثباتها،بالدّليل القاهر الملزم المعجز،أمّا المؤمن الّذي يقرّ بحقيقتها فإنّها إنّما تذكر له و تشرح له على سبيل التّنبيه و التّحذير.(6:123)

ص: 568

أبو حيّان: و ذكر الإيمان(باللّه)لأنّه تعالى هو المكلّف لعباده،النّاهي لهم و الآمر،(و اليوم الآخر)لأنّه هو الّذي يحصل به التّخويف و تجنى فيه ثمرة مخالفة النّهي.

و خصّ المؤمنين لأنّه لا ينتفع بالوعظ إلاّ المؤمن؛إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الأنعام:36،و سلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى،إنّما يتذكّر أولو الألباب.(2:211)

رشيد رضا :أي ذلك الّذي تقدّم من الأحكام و الحدود المقرونة بالحكم و التّرغيب و التّرهيب،يوعظ به أهل الإيمان باللّه و الجزاء على الأعمال في الآخرة،فإنّ هؤلاء هم الّذين يتقبّلونه و يتّعظون به،فتخشع له قلوبهم،و يتحرّون العمل به قبولا لتأديب ربّهم،و طلبا للانتفاع به في الدّنيا،و رجاء في مثوبته و رضوانه في الأخرى.

و أمّا الّذين لا يؤمنون بما ذكر حقّ الإيمان كالمعطّلين و المقلّدين الّذين يقولون:آمنّا بأفواههم،لأنّهم سمعوا قومهم يقولون ذلك و لم تؤمن قلوبهم،لأنّهم لم يتلقّوا أصول الإيمان بالبرهان،الّذي يملك من القلب مواقع التّأثير و مسالك الوجدان،فإنّ وعظهم به عبث لا ينفع، و قول لا يسمع،لأنّهم يتّبعون في معاملة النّساء أهواءهم، و يقلّدون ما وجدوا عليه آباءهم و عشراءهم.

و الآية تدلّ على أنّ الإيمان الصّحيح يقتضي العمل، و قد غفل عن هذا الأكثرون،و قرّره الأئمّة المحقّقون، كحجّة الإسلام الغزاليّ،و شيخ الإسلام ابن تيميّة، و المحقّق الشّاطبيّ،و الأستاذ الإمام رحمهم اللّه تعالى.

قال شيخنا هنا:كأنّه يقول:«من كان مؤمنا فلا شكّ أنّه يتّعظ بهذا».يشير إلى أنّ من لم يتّعظ و يعمل بها فليس بمؤمن.و تدلّ على أنّ أحكام الدّين حتّى المعاملات منها ينبغي أن تساق إلى النّاس مساق الوعظ المحرّك للقلوب،لا أن تسرد سردا جافّا كما ترى في كتب الفقه.(2:404)

الطّباطبائيّ:و إنّما خصّ الموردان من بين الموارد بالتّقييد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر و هو«التّوحيد»لأنّ دين التّوحيد يدعو إلى الاتّحاد دون الافتراق،و يقضي بالوصل دون الفصل.(2:238)

2- ...وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ... التّغابن:9

الطّوسيّ: أي من يصدّق باللّه،و يعترف بوحدانيّته و إخلاص العبادة له،و يقرّ بنبوّة نبيّه،و يضيف إلى ذلك أفعال الطّاعات.(10:22)

الفخر الرّازيّ: قال تعالى في الإيمان: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ... بلفظ المستقبل،و في الكفر وَ الَّذِينَ كَفَرُوا... التّغابن:10،بلفظ الماضي،فنقول:تقدير الكلام:و من يؤمن باللّه من الّذين كفروا و كذّبوا بآياتنا يدخله جنّات و من لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النّار.

و قال تعالى: وَ مَنْ يُؤْمِنْ... بلفظ الواحد و خالِدِينَ فِيها... التّغابن:9،بلفظ الجمع،نقول:

ذلك بحسب اللّفظ،و هذا بحسب المعنى.(30:25)

يؤمنون

1- اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ... البقرة:3

ص: 569

ابن مسعود: الإيمان:التّصديق.

(الطّبريّ 1:101)

ابن عبّاس: الّذين يصدّقون بالغيب.

الّذين يخشون بالغيب.(الطّوسيّ 1:55)

الزّهريّ: الإيمان:العمل.(الطّبريّ 1:101)

الرّبيع: معناه يطيعون اللّه في السّرّ و العلانية.(الطّوسيّ 1:55)

ابن قتيبة :أي يصدّقون بإخبار اللّه-عزّ و جلّ- عن الجنّة و النّار،و الحساب و القيامة،و أشباه ذلك.(39)

الطّبريّ: و معنى«الإيمان»عند العرب:التّصديق، فيدعى المصدّق بالشّيء قولا:مؤمنا به،و يدعى المصدّق قوله بفعله:مؤمنا،و من ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17، أي و ما أنت بمصدّق لنا في قولنا،و قد تدخل«الخشية للّه» في معنى الإيمان الّذي هو تصديق القول بالعمل.

و«الإيمان»كلمة جامعة للإقرار باللّه و كتبه و رسله، و تصديق الإقرار بالفعل.و إذا كان ذلك كذلك فالّذي هو أولى بتأويل الآية و أشبه بصفة القوم أن يكونوا موصوفين بالتّصديق بالغيب قولا،و اعتقادا،و عملا؛إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى،بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيء من معانيه،أخرجه من صفتهم بخبر و لا عقل.(1:101)

الزّجّاج: معناه يصدّقون،و كلّ مؤمن بشيء فهو مصدّق به،فإذا ذكرت مؤمنا و لم تقل:هو مؤمن بكذا و كذا،فهو الّذي لا يصلح إلاّ في اللّه عزّ و جلّ.(1:70)

الماورديّ: في أصل«الإيمان»ثلاثة أقوال:

أحدها:أنّ أصله:التّصديق،و منه قوله تعالى:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق لنا.

و الثّاني:أنّ أصله:الأمان،فالمؤمن يؤمّن نفسه من عذاب اللّه،و اللّه المؤمن لأوليائه من عقابه.

و الثّالث:أنّ أصله:الطّمأنينة،فقيل للمصدّق بالخبر:

مؤمن،لأنّه مطمئنّ.

و في الإيمان ثلاثة أقاويل:

أحدها:أنّ الإيمان اجتناب الكبائر.

و الثّاني:أنّ كلّ خصلة من الفرائض إيمان.

و الثّالث:أنّ كلّ طاعة إيمان.(1:68)

الطّوسيّ: و يُؤْمِنُونَ رفع،لأنّه فعل مستقبل، و الواو و النّون في موضع رفع،لأنّه كناية عن الفاعل، و النّون الأخيرة مفتوحة لأنّها نون الجمع.

و الإيمان في اللّغة هو التّصديق،و منه قوله:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق لنا، و قال: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ النّساء:51، و كذلك هو في الشّرع عند أكثر المرجئة،و المراد بذلك التّصديق بجميع ما أوجب اللّه أو ندبه أو أباحه،و هو المحكيّ عن ابن عبّاس في هذه الآية،لأنّه قال:الّذين يصدّقون بالغيب.

و حكي[عن]الرّبيع بن أنس أنّه قال:الّذين يخشون بالغيب،و قال:معناه يطيعون اللّه في السّرّ و العلانية.

و قيل:إنّ الإيمان مشتقّ من«الأمان»و المؤمن من يؤمّن نفسه من عذاب اللّه،و اللّه المؤمن لأوليائه من

ص: 570

عذابه،و ذلك مرويّ في أخبارنا.

و قالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطّاعة، و منهم من اعتبر فرائضها و نوافلها،و منهم من اعتبر الواجب منها لا غير،و اعتبروا اجتناب الكبائر من جملتها.(1:55)

الزّمخشريّ: الإيمان«إفعال»من الأمن،يقال:

أمنته و آمننيه غيري،ثمّ يقال:آمنه،إذا صدّقه.

و حقيقته:آمنه التّكذيب و المخالفة.و أمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ و اعترف.

و أمّا ما حكى أبو زيد عن العرب:ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت،فحقيقته:صرت ذا أمن به،أي ذا سكون و طمأنينة.و كلا الوجهين حسن في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يعترفون به،أو يثقون بأنّه حقّ.

و يجوز أن لا يكون(بالغيب)صلة للإيمان،و أن يكون في موضع الحال،أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به و حقيقته متلبّسين بالغيب،كقوله: اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ الأنبياء:49، لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ يوسف:52،و يعضده ما روي أنّ أصحاب عبد اللّه ذكروا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و إيمانهم،فقال ابن مسعود:إنّ أمر محمّد كان بيّنا لمن رآه،و الّذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب،ثمّ قرأ هذه الآية.(1:126)

نحوه البيضاويّ(1:16)،و النّسفيّ(1:13)، و النّيسابوريّ(1:145)،و الآلوسيّ(1:110).

ابن عطيّة: معناه يصدّقون.و يتعدّى بالباء،و قد يتعدّى باللاّم كما قال تعالى: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ آل عمران:73،و كما قال: فَما آمَنَ لِمُوسى يونس:83،و بين التّعديتين فرق،و ذلك أنّ التّعدية باللاّم في ضمنها تعدّ بالباء،يفهم من المعنى.

و اختلف القرّاء في همز يُؤْمِنُونَ فكان ابن كثير، و نافع،و عاصم،و ابن عامر،و حمزة،و الكسائيّ يهمزون يُؤْمِنُونَ و ما أشبهه مثل يأكلون،و يأمرون،و يؤتون، و كذلك مع تحرّك الهمزة مثل يُؤَخِّرَكُمْ إبراهيم:10، و يَؤُدُهُ البقرة:255،إلاّ أنّ حمزة كان يستحبّ ترك الهمز إذا وقف،و الباقون يقفون بالهمز.

و روى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك،و قد روي عن عاصم أنّه لم يكن يهمز الهمزة السّاكنة.و كان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصّلاة لم يهمز كلّ همزة ساكنة،إلاّ أنّه كان يهمز حروفا من السّواكن بأعيانها،ستذكر في مواضعها إن شاء اللّه.

و إذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل«ننسأها» وَ هَيِّئْ لَنا... الكهف:10، و ما أشبهه.(1:84)

الطّبرسيّ: [قال نحو ابن عطيّة و أضاف:]

و يُؤْمِنُونَ معناه يصدّقون،و الواو في موضع الرّفع بكونه ضمير الفاعلين،و النّون علامة الرّفع.

و الأصل في«يفعل»«يؤفعل»و لكنّ الهمزة حذفت، لأنّك إذا أنبأت عن نفسك قلت:أنا«ءأفعل»فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا،فحذفت الهمزة الثّانية،فقيل:

«أفعل»ثمّ حذفت من الصّيغ الأخر(نفعل و تفعل و يفعل).

كما أنّ باب«يعد»حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء و كسرة؛إذ الأصل«يوعد»ثمّ حذفت في(تعد و أعد

ص: 571

و نعد)ليجري الباب على سنن واحد.(1:37)

أبو البركات: و أصله:يؤأمنون،بهمزتين،فحذفت إحداهما استثقالا لاجتماع همزتين،و كان حذف الأولى أولى،لأنّها زائدة لا لمعنى،و الثّانية أصليّة.فلمّا وجب حذف إحداهما كان حذف الزّائدة أولى من حذف الأصليّة،لأنّ الزّائدة أضعف و الأصليّة أقوى،و حذف الأضعف أولى من حذف الأقوى،فبقي يُؤْمِنُونَ بهمزة ساكنة.

و يجوز أن تقلب واوا لسكونها و انضمام ما قبلها،كما تقلب في«جؤنة،و سؤل»قال اللّه تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى طه:36.

إلاّ أنّ هذا القلب مع الياء و التّاء و النّون جائز نحو:

يؤمن،و تومن،و نومن،و مع الهمزة واجب نحو:أومن، و ذلك لأنّ أصله:أأأمن،بثلاث همزات.فاستثقلوا اجتماع ثلاث همزات،لأنّهم إذا استثقلوا اجتماع همزتين فلأن يستثقلوا اجتماع ثلاث همزات أولى،فحذفوا الثّانية، و كان حذفها أولى من الأولى و الثّالثة.

أمّا الأولى فلأنّها أبعد من الطّرف،و أمّا الثّالثة فإنّهم لو حذفوها لا فتقروا إلى تسكين الثّانية و قلبها واوا، فيؤدّي إلى تغييرين.و إذا حذفوا الثّانية لم يفتقروا إلاّ إلى قلبها واوا فقط،لأنّها ساكنة فيؤدّي إلى تغيير واحد، و المصير إلى ما يؤدّي إلى تغيير واحد أولى من المصير إلى ما يؤدّي إلى تغييرين،و إذا جاز القلب في(يؤمن) و ما أشبهه و إن لم يجتمع فيه همزتان،وجب في نحو (أأأمن)لوجود اجتماع ثلاث همزات؛إذ ليس بعد الجواز إلاّ الوجوب.(1:47)

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ اعلم أنّ فيه مسائل:

المسألة الأولى:قال صاحب«الكشّاف»: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إمّا موصول ب(المتّقين)على أنّه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع،بتقدير أعني الّذين يؤمنون، أو هم الّذين.و إمّا منقطع عن(المتّقين)مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب أُولئِكَ عَلى هُدىً فإذا كان موصولا كان الوقف على(المتّقين)حسنا غير تامّ،و إذا كان منقطعا كان وقفا تامّا.

المسألة الثّانية:قال بعضهم: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يحتمل أن يكون كالتّفسير لكونهم متّقين،و ذلك لأنّ المتّقي هو الّذي يكون فاعلا للحسنات و تاركا للسّيّئات.

أمّا«الفعل»فإمّا أن يكون فعل القلب و هو قوله:

اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ و إمّا أن يكون فعل الجوارح، و أساسه الصّلاة و الزّكاة و الصّدقة،لأنّ العبادة إمّا أن تكون بدنيّة و أجلّها الصّلاة،أو ماليّة و أجلّها الزّكاة؛ و لهذا سمّى الرّسول عليه السّلام:«الصّلاة عماد الدّين، و الزّكاة قنطرة الإسلام».

و أمّا«التّرك»فهو داخل في الصّلاة،لقوله تعالى:

إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ العنكبوت:

45 و الأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيرا لكونهم متّقين؛و ذلك لأنّ كمال السّعادة لا يحصل إلاّ بترك ما لا ينبغي و فعل ما ينبغي،فالتّرك هو التّقوى.و«الفعل» إمّا فعل القلب،و هو الإيمان،أو فعل الجوارح،و هو

ص: 572

الصّلاة و الزّكاة.

و إنّما قدّم«التّقوى»الّذي هو التّرك على«الفعل» الّذي هو الإيمان و الصّلاة و الزّكاة،لأنّ القلب كاللّوح القابل لنقوش العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة،و اللّوح يجب تطهيره أوّلا عن النّقوش الفاسدة،حتّى يمكن إثبات النّقوش الجيّدة فيه،و كذا القول في الأخلاق،فلهذا السّبب قدّم التّقوى و هو ترك ما لا ينبغي،ثمّ ذكر بعده فعل ما ينبغي.(2:23)

القرطبيّ: يصدّقون.و الإيمان في اللّغة:التّصديق، و في التّنزيل: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق.و يتعدّى بالباء و اللاّم كما قال: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ آل عمران:73، فَما آمَنَ لِمُوسى يونس:83.(1:162

أبو حيّان: الإيمان:التّصديق وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا و أصله من«الأمن»أو«الأمانة»و معناهما الطّمأنينة أمنه:صدّقه و أمن به:وثق به،و الهمزة في «آمن»للصّيرورة كأعشب،أو لمطاوعة«فعل»كأكبّ، و ضمّن معنى الاعتراف أو الوثوق،فعدّي بالباء،و هو يتعدّى بالباء و اللاّم فَما آمَنَ لِمُوسى يونس:83، و التّعدية باللاّم في ضمنها تعدّ بالباء؛فهذا فرق ما بين التّعديتين.(1:38)

البروسويّ: الجملة صفة مقيّدة(للمتّقين)إن فسّر التّقوى بترك ما لا ينبغي...و موضحة إن فسّر بما يعمّ فعل الطّاعة و ترك المعصية...

و الإيمان هو التّصديق بالقلب،لأنّ المصدّق يؤمّن المصدّق،أي يجعله آمنا من التّكذيب،أو يؤمن نفسه من العذاب بفعله.و اللّه تعالى مؤمن،لأنّه يؤمّن عباده من عذابه بفضله.

و استعماله بالباء هاهنا لتضمّنه معنى الاعتراف،و قد يطلق على الوثوق،فإنّ الواثق يصير ذا أمن و طمأنينة.(1:31)

رشيد رضا :الإيمان هو التّصديق الجازم المقترن بإذعان النّفس و قبولها و استسلامها،و آيته العمل بما يقتضيه الإيمان عند عدم الصّارف الّذي يختلف باختلاف درجات المؤمنين في اليقين.[إلى أن قال:]

و الإيمان بالغيب هو الاعتقاد بموجود وراء المحسوس،و قد كتب الأستاذ الإمام في صاحبه ما نصّه:

و صاحب هذا الاعتقاد واقف على طريق الرّشاد و قائم على أوّل النّهج،لا يحتاج إلاّ إلى من يدلّه على المسلك،و يأخذ بيده إلى الغاية.فإنّ من يعتقد بأنّ وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل،و إن كانت لا يأتي عليها الحسّ،إذا أقمت له الدّليل على وجود فاطر السّماوات و الأرض المستعلي عن المادّة و لواحقها، المتّصف بما وصف به نفسه على ألسنة رسله،سهل عليه التّصديق و خفّ عليه النّظر في جليّ المقدّمات و خفيّها.

و إذا جاء الرّسول بوصف اليوم الآخر أو بذكر عالم من العوالم الّتي استأثر اللّه بعلمها،كعالم الملائكة مثلا،لم يشقّ على نفسه تصديق ما جاء به الخبر بعد ثبوت النّبوّة،لهذا جعل اللّه سبحانه هذا الوصف في مقدّمة أوصاف المتّقين الّذين يجدون في القرآن هدى لهم.

و أمّا من لا يعرف من الموجود إلاّ المحسوس و يظنّ أن لا شيء وراء المحسوسات و ما اشتملت عليه،فنفسه تنفر

ص: 573

عن ذكر ما وراء مشهوده أو يشبه مشهوده،و قلّما تجد السّبيل إلى قلبه إذا بدأته بدعواك،نعم قد توصلك المجاهدة بعد مرور الزّمان في إيراد المقدّمات البعيدة، و الأخذ به في الطّرق المختلفة إلى تقريبه ممّا تطلب،و لكن هيهات أن ينصرك الصّبر أو يخضعه القهر حتّى يتمّ لك منه الأمر.فمثل هذا إذا عرض عليه القرآن نبا عنه سمعه، و لم يجمل من نفسه وقعه،فكيف يجد فيه هداية،أو منقذا من غواية!

و لمّا كان الإيمان بالغيب يطلق عند النّاس على ذلك الاستسلام التّقليديّ الّذي لم يأخذ من النّفس إلاّ ما أخذ اللّفظ من اللّسان،و ليس له أثر في الأفعال،لأنّه لم يقع تحت نظر العقل،و لم يلحظه وجدان القلب بل أغلقت عليه خزانة الوهم،و مثل هذا الّذي يسمّونه إيمانا لا يفيد في إعداد القلب للاهتداء بالقرآن.لمّا كان هذا شأنهم منّ اللّه علينا ببيان يشعر بحقيقة ما أراده تعالى من معنى الإيمان.(1:127)

نحوه المراغيّ.(1:41)

الطّباطبائيّ: الإيمان:تمكّن الاعتقاد في القلب مأخوذ من«الأمن»كأنّ المؤمن يعطي لما أمن به الأمن من الرّيب و الشّكّ،و هو آفة الاعتقاد.و الإيمان كما مرّ معنى ذو مراتب؛إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشّيء نفسه فيترتّب عليه أثره فقط،و ربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه،و ربّما يتعلّق بجميع لوازمه فيستنتج منه أنّ للمؤمنين طبقات،على حسب طبقات الإيمان.[إلى أن قال:]

فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي.

و الإيقان بالآخرة،هو الإيمان باللّه تعالى ليتمّ بذلك الإيمان بالأصول الثّلاثة للدّين.و القرآن يؤكّد القول على عدم القصر على الحسّ فقط،و يحرص على اتّباع سليم العقل و خالص اللّبّ.(1:45)

2- وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. البقرة:4

ابن مسعود: هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب.(الطّبريّ 1:102)

ابن عبّاس: المراد بالمؤمنين هنا من يؤمنون بالنّبيّ و القرآن من أهل الكتاب،و بالمؤمنين فيما قبلها من يؤمنون من مشركي العرب.(المراغي 1:43) أبو العالية :إنّ المؤمنين في الآيتين قسم واحد، و هو كلّ مؤمن،و إنّما تعدّد ما يؤمنون به.

مثله مجاهد،و قتادة،و الرّبيع.

(رشيد رضا 1:131)

مجاهد :أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين،و آيتان في نعت الكافرين،و ثلاث عشرة في المنافقين.(الطّبريّ 1:103)

الطّبري: اختلف أهل التّأويل في أعيان القوم الّذين أنزل اللّه جلّ ثناؤه هاتين الآيتين من أوّل هذه السّورة فيهم،و في نعتهم و صفتهم الّتي وصفهم بها من إيمانهم بالغيب،و سائر المعاني الّتي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره.

فقال بعضهم:هم مؤمنو العرب خاصّة،دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب،و استدلّوا على صحّة قولهم

ص: 574

ذلك،و حقيقة تأويلهم بالآية الّتي تتلو هاتين الآيتين، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ...

البقرة:4،قالوا:فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الّذي أنزله اللّه عزّ و جلّ على محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم تدين بتصديقه و الإقرار و العمل به،و إنّما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها.قالوا:فلمّا قصّ اللّه عزّ و جلّ نبأ الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّد،و ما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب،علمنا أنّ كلّ صنف منهم غير الصّنف الآخر،و أنّ المؤمنين بالغيب نوع غير النّوع المصدّق بالكتابين اللّذين أحدهما منزل على محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و الآخر منهما على من قبله من رسل اللّه تعالى ذكره.قالوا:و إذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا:من أنّ تأويل قول اللّه تعالى:

اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إنّما هم الّذين يؤمنون بما غاب عنهم:من الجنّة و النّار و الثّواب و العقاب و البعث و التّصديق باللّه و ملائكته و كتبه و رسله،و جميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليّتها،بما أوجب اللّه جلّ ثناؤه على عباده الدّينونة به دون غيرهم.

و قال بعضهم:بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصّة،لإيمانهم بالقرآن عند إخبار اللّه جلّ ثناؤه إيّاهم فيه عن الغيوب الّتي كانوا يخفونها بينهم و يسرّونها،فعلموا عند إظهار اللّه جلّ ثناؤه نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم على ذلك منهم في تنزيله أنّه من عند اللّه جلّ و عزّ،فآمنوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و صدّقوا بالقرآن و ما فيه من الإخبار عن الغيوب الّتي لا علم لهم بها،لما استقرّ عندهم بالحجّة الّتي احتجّ اللّه تبارك و تعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عمّا كانوا يكتمونه من ضمائرهم،أنّ جميع ذلك من عند اللّه.

و قال بعضهم:بل الآيات الأربع-من أوّل هذه السّورة-أنزلت على محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم بوصف جميع المؤمنين الّذين ذلك صفتهم من العرب و العجم و أهل الكتابين سواهم،و إنّما هذه صفة صنف من النّاس،و المؤمن بما أنزل اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب.

[إلى أن قال:]

و أولى القولين عندي بالصّواب و أشبههما بتأويل الكتاب،القول الأوّل،و هو أنّ الّذين وصفهم اللّه تعالى ذكره بالإيمان بالغيب،و ما وصفهم به جلّ ثناؤه في الآيتين الأولتين غير الّذين وصفهم بالإيمان بالّذي أنزل على محمّد،و الّذي أنزل إلى من قبله من الرّسل،لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك.و ممّا يدلّ أيضا مع ذلك على صحّة هذا القول أنّه جنس بعد وصف المؤمنين بالصّفتين اللّتين وصف،و بعد تصنيفه إلى كلّ صنف منهما على ما صنّف الكفّار جنسين فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه، مختوما عليه مأيوسا من إيمانه،و الآخر منافقا يرائي بإظهار الإيمان في الظّاهر،و يستسرّ النّفاق في الباطن، فصيّر الكفّار جنسين كما صيّر المؤمنين في أوّل السّورة جنسين.(1:102)

الطّوسيّ: قالوا:و لم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الّذي أنزله اللّه على نبيّه تدين بتصديقه،و إنّما الكتاب لأهل الكتابين.و هذا غير صحيح،لأنّه لا يمنع أن تكون الآية الاولى عامّة في جميع المؤمنين المصدّقين بالغيب و إن كانت الآية الثّانية خاصّة في قوم،لأنّ تخصيص الثّانية لا يقتضي تخصيص الأولى.

ص: 575

و قال قوم:إنّهما مع الآيتين اللّتين بعدهما أربع آيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب،لأنّه ذكرهم في بعضها.

و قال قوم:إنّ الأربع آيات من أوّل السّورة نزلت في جميع المؤمنين،و اثنتان نزلتا في نعت الكافرين،و ثلاثة عشر في المنافقين.

و هذا أقوى الوجوه،لأنّه حمل على عمومه.

(1:55)

الزّمخشريّ: فإن قلت: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟و إنّما وسط العاطف كما يوسط بين الصّفات،في قولك:هو الشّجاع و الجواد.[ثمّ استشهد بشعر]

قلت:يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب [إلى أن قال:]

فيكون المعطوف غير المعطوف عليه.

و يحتمل أن يراد وصف الأوّلين،و وسط العاطف على معنى أنّهم الجامعون بين تلك الصّفات و هذه.

فإن قلت:فإن أريد بهؤلاء غير أولئك فهل يدخلون في جملة المتّقين أم لا؟

قلت:إن عطفتهم على اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ دخلوا،و كانت صفة التّقوى مشتملة على الزّمرتين من مؤمني أهل الكتاب و غيرهم،و إن عطفتهم على المتّقين لم يدخلوا،و كأنّه قيل:هدى للمتّقين و هدى للّذين يؤمنون بما أنزل إليك.(1:135)

نحوه البيضاويّ(1:18)،و النّسفيّ(1:14).

ابن عطيّة: اختلف المتأوّلون فيمن المراد بهذه الآية و بالّتي قبلها:

فقال قوم:الآيتان جميعا في جميع المؤمنين.

و قال آخرون:هما في مؤمني أهل الكتاب.

و قال آخرون:الآية الأولى في مؤمني العرب، و الثّانية في مؤمني أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و فيه نزلت.

فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب(و الّذين) خفض على العطف،و يصحّ أن يكون رفعا على الاستئناف،أي و هم الّذين.و من جعل الآيتين في صنفين،فإعراب(الّذين)رفع على الابتداء،و خبره أُولئِكَ عَلى هُدىً و يحتمل أن يكون عطفا.(1:85)

مثله القرطبيّ.(1:180)

الفخر الرّازيّ: لا نزاع بين أصحابنا و بين المعتزلة في أنّ«الإيمان»إذا عدّي بالباء فالمراد منه التّصديق.فإذا قلنا:فلان آمن بكذا،فالمراد أنّه صدّق به،و لا يكون المراد أنّه صام و صلّى؛فالمراد ب«الإيمان»هاهنا التّصديق بالاتّفاق،لكن لا بدّ معه من المعرفة،لأنّ«الإيمان»هاهنا خرج مخرج المدح،و المصدّق مع الشّكّ لا يأمن أن يكون كاذبا،فهو إلى الذّمّ أقرب.(2:32)

الآلوسيّ: عطف على الموصول الأوّل مفصولا و موصولا.و المرويّ عن ابن عبّاس،و ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنهم:أنّهم مؤمنو أهل الكتاب،و حيث أنّ المتبادر من«العطف»أنّ الإيمان بكلّ من المنزلين على طريق الاستقلال اختصّ ذلك بهم،لأنّ إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنّما هو على طريق الإجمال،و التّبع للإيمان بالقرآن لا سيّما في مقام المدح،و قد دلّت الآيات و الأحاديث على أنّ لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك،

ص: 576

و بهذا غايروا من قبلهم.

و قيل:التّغاير باعتبار أنّ الإيمان الأوّل بالعقل،و هذا بالنّقل،أو بأنّ ذلك بالغيب،و هذا بما عرفوه،كما يعرفون أبناءهم ف أُولئِكَ عَلى هُدىً البقرة:5،حينئذ إشارة إلى الطّائفة الأولى،لأنّ إيمانهم بمحض الهداية الرّبّانيّة.

[و فيه بحث مستوفى فراجع]

(1:119)

3- ...قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. الأنعام:109

أبو زرعة: قرأ حمزة و ابن عامر (اذا جاءت لا تؤمنون) بالتّاء،و حجّتهما قوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ. قال مجاهد:قوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ خطاب للمشركين الّذين أقسموا،فقال جلّ و عزّ:و ما يدريكم انّكم تؤمنون.

و قرأ الباقون:بالياء،إخبارا عنهم،و حجّتهم قوله:

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ الأنعام:110،و لم يقل:

أفئدتكم.(267)

الطّوسيّ: و من قرأ(يؤمنون)بالياء فلأنّ قوله:

(و اقسموا)إنّما يراد به قوم مخصوصون بدلالة: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ... الأنعام:111،و ليس كلّ النّاس بهذا الوصف،فالمعنى و ما يشعركم أيّها المؤمنون لعلّهم إذا جاءت الآيات الّتي اقترحوها لم يؤمنوا.

و من قرأ بالتّاء فإنّه انصرف من الغيبة إلى الخطاب، و يكون المراد بالمخاطبين في(يؤمنون)هم القوم المقسمون الّذين أخبر اللّه عنهم أنّهم لا يؤمنون،و مثله قوله:

اَلْحَمْدُ لِلّهِ ثمّ قال: إِيّاكَ نَعْبُدُ و نحو ذلك ممّا ينصرف فيه إلى خطاب بعد الغيبة.(4:255)

الفخر الرّازيّ: اختلف القرّاء في قوله:(لا يؤمنون) فقرأ بعضهم بالياء و هو الوجه،لأنّ قوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ إنّما يراد به قوم مخصوصون،و الدّليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الأنعام:111،و ليس كلّ النّاس بهذا الوصف،و المعنى و ما يشعركم أيّها المؤمنون،لعلّهم إذا جاءتهم الآية الّتي اقترحوها لم يؤمنوا فالوجه الياء.

و قرأ حمزة و ابن عامر بالتّاء و هو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب،و المراد بالمخاطبين في(تؤمنون)هم الغائبون المقسمون الّذين أخبر اللّه عنهم أنّهم لا يؤمنون، و ذهب مجاهد و ابن زيد إلى أنّ الخطاب في قوله:

وَ ما يُشْعِرُكُمْ للكفّار الّذين أقسموا.

قال مجاهد: و ما يدريكم أنّكم تؤمنون إذا جاءت.

و هذا يقوّي قراءة من قرأ(تؤمنون)بالتّاء،على ما ذكرنا أوّلا:الخطاب في قوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ للكفّار الّذين أقسموا.و على ما ذكرنا ثانيا:الخطاب في قوله:

وَ ما يُشْعِرُكُمْ للمؤمنين و ذلك لأنّهم تمنّوا نزول الآية ليؤمن المشركون و هو الوجه،كأنّه قيل للمؤمنين:

تتمنّون ذلك و ما يدريكم أنّهم يؤمنون.(13:145)

الطّباطبائيّ: قرئ(لا يؤمنون)بياء الغيبة و تاء الخطاب جميعا،و الخطاب على القراءة الأولى للمؤمنين بنوع من الالتفات،و على القراءة الثّانية للمشركين، و الكلام من تتمّة قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و هو ظاهر.

(7:319)

ص: 577

4- ..إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

الأعراف:188

الطّوسيّ: فيصدّقون بما أقول.و خصّهم بذلك لأنّهم الّذين ينتفعون بإنذاره و بشارته دون من لا يصدّق به،كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2.(5:59)

نحوه الطّبرسيّ.(2:507)

الزّمخشريّ: يجوز أن يتعلّق بالنّذير و البشير جميعا،لأنّ النّذارة و البشارة إنّما تنفعان فيهم،أو يتعلّق بالبشير وحده،و يكون المتعلّق بالنّذير محذوفا،أي إلاّ نذير للكافرين و بشير لقوم يؤمنون.(2:136)

مثله النّسفيّ(2:89)،و النّيسابوريّ(9:100)، و نحوه الفخر الرّازيّ(15:85)،و الآلوسيّ(9:137).

ابن عطيّة: يحتمل معنيين:

أحدهما:أن يريد أنّه نذير و بشير لقوم يطلب منهم الإيمان و يدعون إليه،و هؤلاء النّاس أجمع.

و الثّاني:أن يخبر أنّه نذير و يتمّ الكلام،ثمّ يبتدئ يخبر أنّه بشير للمؤمنين به،ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه.(2:485)

الرّازيّ:فإن قيل:كيف قال: إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و هو صلّى اللّه عليه و سلّم كان بشيرا و نذيرا للنّاس كافّة،كما قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً سبأ:28؟

قلنا:المراد بقوله: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لقوم كتب عليهم في الأزل أنّهم يؤمنون.و إنّما خصّهم بالذّكر لأنّهم هم المنتفعون بالإنذار و البشارة دون غيرهم،فكأنّه نذير و بشير لهم خاصّة،كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها النّازعات:45.

و يجوز أن يكون متعلّق«النّذير»محذوفا،تقديره:إن أنا إلاّ نذير للكافرين و بشير لقوم يؤمنون،فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر كما استغنى بالجملة عن التّفصيل في تلك الآية،لأنّ المعنى و ما أرسلناك إلاّ كافّة بشيرا للمؤمنين و نذيرا للكافرين.(102)

أبو حيّان: لمّا نفى عن نفسه علم الغيب أخبر بما بعث به من النّذارة و متعلّقها المخوفات،و البشارة و متعلّقها المحبوبات.و الظّاهر تعلّقهما بالمؤمنين،لأنّ منفعتهما معا و جدواهما لا يحصل إلاّ لهم،و قال تعالى: وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يونس:101.

و قيل:معنى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يطلب منهم الإيمان و يدعون إليه،و هؤلاء النّاس أجمع.

و قيل:أخبر أنّه نذير،و تمّ الكلام،و معناه أنّه نذير للعالم كلّهم،ثمّ أخبر أنّه بشير للمؤمنين به،فهو وعد لمن حصل له الإيمان.

و قيل:حذف متعلّق النّذارة و دلّ على حذفه إثبات مقابله،و التّقدير:نذير للكافرين و بشير لقوم يؤمنون، كما حذف المعطوف في قوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ النّحل:81،أي و البرد.(4:437)

رشيد رضا :قال بعض المفسّرين:إنّ قوله تعالى:

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ متعلّق بالوصفين[الإنذار و التّبشير] على معنى أنّ المؤمنين هم الّذين ينتفعون بإنذاره فيزيدهم خشية للّه و اتّقاء لما يسخطه،و بتبشيره فيزدادون شكرا له بعبادته و إقامة سننه.

و قال بعضهم:إنّه متعلّق بالثّاني المتّصل به و يدلّ

ص: 578

على حذف مقابله فيما قبله،و التّقدير:ما أنا إلاّ نذير للكافرين و بشير للمؤمنين.و وجهه أنّ المقام مقام التّبليغ،و هنالك وجه ثالث،و هو أنّ البشارة للمؤمنين خاصّة،لاتّصالها بهم،و الإنذار عامّ لهم و لغيرهم،و قد عرف وجهه ممّا فصّلناه.(9:515)

5- اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ... المؤمن:7

الطّبريّ: و يقرّون باللّه أنّه لا إله لهم سواه، و يشهدون بذلك لا يستكبرون عن عبادته.(24:44)

الطّوسيّ: أي و يصدّقون به و يعترفون بوحدانيّته.

(9:57)

مثله الطّبرسيّ.(4:515)

الزّمخشريّ: فإن قلت:ما فائدة قوله: وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ و لا يخفى على أحد أنّ حملة العرش و من حوله من الملائكة الّذين يسبّحون بحمد ربّهم مؤمنون؟

قلت:فائدته إظهار شرف الإيمان و فضله و التّرغيب فيه،كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصّلاح لذلك،و كما عقّب أعمال الخير بقوله تعالى:

ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا البلد:17،فأبان بذلك فضل الإيمان.

و فائدة أخرى و هي التّنبيه على أنّ الأمر لو كان كما تقول المجسّمة لكان حملة العرش و من حوله مشاهدين معاينين،و لما وصفوا بالإيمان،لأنّه إنّما يوصف بالإيمان الغائب؛فلمّا وصفوا به على سبيل الثّناء عليهم علم أنّ إيمانهم و إيمان من في الأرض و كلّ من غاب عن ذلك المقام سواء،في أنّ إيمان الجميع بطريق النّظر و الاستدلال لا غير،و أنّه لا طريق إلى معرفته إلاّ هذا،و أنّه منزّه عن صفات الأجرام.

و قد روعي التّناسب في قوله: وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا المؤمن:7،كأنّه قيل:

و يؤمنون و يستغفرون لمن في مثل حالهم و صفتهم،و فيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النّصيحة و أبعثه على إمحاض الشّفقة و إن تفاوتت الأجناس و تباعدت الأماكن،فإنّه لا تجانس بين ملك و إنسان،و لا بين سماويّ و أرضيّ قطّ.ثمّ لمّا جاء جامع الإيمان جاء معه التّجانس الكلّيّ و التّناسب الحقيقيّ حتّى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض،قال اللّه تعالى: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ الشّورى:5،أي يقولون:ربّنا،و هذا المضمر يحتمل أن يكون بيانا ل(يستغفرون)مرفوع المحلّ مثله،و أن يكون حالا.

(3:415)

مثله الفخر الرّازيّ(27:32)،و النّسفيّ(4:71)، و أبو حيّان(7:451)،و الشّربينيّ(3:470).

النّيسابوريّ: [ذكر قول الزّمخشريّ، و الفخر الرّازيّ و أضاف:]و أنا أقول:لا نسلّم أنّ الإيمان لا يكون إلاّ بالغائب،و إلاّ لم يكن الإيمان بالنّبيّ وقت تحدّيه بالقرآن،و إن شئت فتأمّل قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ البقرة:3،فلو لم يكن إيمان بالشّهادة لم يكن لقوله:(بالغيب)فائدة،على أنّه يحتمل أن يشاهد الرّبّ و ينكر كونه إلها،و يمكن أن يكون محمول الشّيء محجوبا عن ذلك الشّيء،فمن أين يلزم تكذيب المجسّمة؟

ص: 579

و قال بعضهم في الجواب:أراد أنّهم يسبّحون تسبيح تلفّظ لا تسبيح دلالة.(24:27)

البروسويّ: و التّصريح به مع غناء ما قبله عن ذكره لإظهار فضيلة الإيمان و إبراز شرف أهله،و قد قيل:

أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف.

يقول الفقير: أشار ب«الإيمان»إلى أنّهم في مرتبة الإدراك بالبصائر،محجوبون عن إدراكه تعالى بالأبصار، كحال البشر ما داموا في موطن الدّنيا.و أمّا في الجنّة فقيل:

لا يراه الملائكة،و قيل:يراه منهم جبريل خاصّة مرّة واحدة،و يراه المؤمنون من البشر في الدّنيا بالبصائر و في الآخرة بالأبصار،لأنّ قوله لا تدركه الأبصار قد استثنى منه المؤمنون،فبقي على عمومه في الملائكة و الجنّ؛و ذلك لأنّ استعداد الرّؤية إنّما هو لمؤمني البشر لكمالهم الجامع.

(8:156)

الآلوسيّ: إيمانا حقيقيّا كاملا.و التّصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأسا،لإظهار فضيلة الإيمان،و إبراز شرف أهله،و الإشعار بعلّة دعائهم للمؤمنين،حسبما ينطق به قوله تعالى: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فإنّ المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات و أتمّها،و أدعى الدّواعي إلى النّصح و الشّفقة،و إن تخالف الأجناس و تباعدت الأماكن.

و فيه-على ما قيل-إشعار بأنّ حملة العرش و سكّان الفرش سواء في الإيمان بالغيب؛إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة،أو على أنّ العرش جسم شفّاف لا يمنع الإبصار البتّة لم يقل:

يؤمنون،لأنّ الإيمان هو التّصديق القلبيّ،أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف،و إنّما يكون في الخبر، و مضمونه من معتقد علميّ أو ظنّي ناشئ من البرهان أو قول الصّادق،كأنّه اعترف بصدق المخبر أو البرهان.و أمّا العيان فيغني عن البيان...(24:46)

الطّباطبائيّ: إيمانهم به-و الحال هذه الحال عرش الملك و التّدبير للّه و هم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقّي الأوامر و ينزّهونه عن كلّ نقص و يحمدونه على أفعاله- معناه الإيمان بوحدانيّته في ربوبيّته و ألوهيّته،ففي ذكر العرش و نسبة التّنزيه و التّحميد و الإيمان إلى الملائكة ردّ للمشركين؛حيث يعدّون الملائكة المقرّبين شركاء للّه في ربوبيّته و ألوهيّته،و يتّخذونهم أربابا آلهة يعبدونهم.(17:308)

يؤمنوا

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. البقرة:186

الإمام الصّادق عليه السّلام: أي و ليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوا.(الطّوسيّ 2:131)

أبو حيّان: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي معطوف على فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي و معناه الأمر بالإيمان باللّه.و حمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بعد،لأنّ صدر الآية يقتضي أنّهم مؤمنون،فلذلك يؤول على الدّيمومة أو على إخلاص الدّين و الدّعوة و العمل،أو في الثّواب على الاستجابة لي بالطّاعة أو بالإيمان و توابعه،أو بالإيمان في«إنّي أجيب دعاءهم»خمسة أقوال،آخرها لأبي رجاء

ص: 580

الخراسانيّ.(2:47)

رشيد رضا :قال المفسّرون:في الأمر بالإيمان هنا أنّه أمر بالمداومة عليه،لأنّ الخطاب للمؤمنين.

و ذهب الأستاذ الإمام إلى أنّ الخطاب عامّ و أنّ حظّ من استجاب للّه و للرّسول منه أن يحاسب نفسه و يطالبها، بأن تكون أعماله الظّاهرة الّتي عدّ بها مسلما صادرة عن الإيمان اليقينيّ و الاحتساب و الإخلاص للّه تعالى،ففي ذكر الإيمان بعد الاستجابة إشارة إلى أنّ من النّاس من يستجيب إلى الأعمال و يقوم بها،و هو خلوّ من روح الإيمان. قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14.

(2:172)

تؤمن

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي... البقرة:260

الطّوسيّ: و الألف في قوله: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ ألف إيجاب،قال الشّاعر:

أ لستم خير من ركب المطايا

و أندى العالمين بطون راح

أي قد آمنت لا محالة،فلم تسأل ذا،فقال: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. (2:327)

مثله الطّبرسيّ.(1:372)

الزّمخشريّ: فإن قلت:كيف قال له: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ و قد علم أنّه أثبت النّاس إيمانا؟

قلت:ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسّامعين.(1:391)

مثله الرّازيّ(20)،و النّسفيّ(1:132).

الفخر الرّازيّ: فيه وجهان:

أحدهما:أنّه استفهام بمعنى التّقرير.[ثمّ استشهد بشعر]

و الثّاني:المقصود من هذا السّؤال أن يجيب بما أجاب به،ليعلم السّامعون أنّه عليه السّلام كان مؤمنا بذلك عارفا به، و أنّ المقصود من هذا السّؤال شيء آخر.(7:42)

القرطبيّ:و ليست الألف في قوله: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ ألف استفهام،و إنّما هي ألف إيجاب و تقرير.[ثمّ استشهد بشعر]

و الواو واو الحال،و تُؤْمِنْ معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى.(3:300)

أبو السّعود: عطف على مقدّر،أي أ لم تعلم و لم تؤمن بأنّي قادر على الإحياء كيف أشاء حتّى تسألني إراءته؟قاله عزّ و علا و هو أعلم بأنّه عليه السّلام أثبت النّاس إيمانا و أقواهم يقينا،ليجيب بما أجاب به،فيكون ذلك لطفا للسّامعين.(1:194)

البروسويّ: أي أ لم تعلم يقينا و لم تؤمن بأنّي قادر على الإحياء بإعادة التّركيب و الحياة؟قاله عزّ و علا مع علمه بأنّه أعرف النّاس بالإيمان،ليظهر إيمانه لكلّ سامع بقوله(بلى)فيعلم السّامعون غرضه من هذا القول،و هو الوصول إلى العيان.(1:415)

المراغيّ:أي قال:أ لم تعلم ذلك و تؤمن بأنّي قادر على الإحياء كيف أشاء حتّى تسألني إراءته؟!

قال:(بلى)علمت ذلك و صدقت بالخبر،و لكن

ص: 581

تاقت نفسي للخبر و الوقوف على كيفيّة هذا السّرّ، ليطمئنّ قلبي بالعيان بعد خبر الوحي.

و في قوله تعالى لإبراهيم: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ و هو العليم بإيمانه و يقينه،تنبيه و إرشاد إلى ما ينبغي أن يقف عنده الإنسان و لا يعدوه،فإنّ الإيمان بهذا السّرّ الإلهيّ و التّسليم فيه لخبر الوحي،هو غاية ما يطلب من البشر، و لو كان وراء ذلك سبيل آخر لبيّنه اللّه تعالى.(3:26)

الطّباطبائيّ: و قد قال تعالى: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ و لم يقل:أ لم تؤمن،للإشعار بأنّ للسّؤال و الطّلب محلاّ لكنّه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء.و لو قيل:«أ لم تؤمن»دلّ على أنّ المتكلّم تلقّى السّؤال منبعثا عن عدم الإيمان فكان عتابا و ردعا عن مثل هذا السّؤال؛و ذلك أنّ الواو للجميع،فكان الاستفهام معه استفهاما عن أنّ هذا السّؤال هل يقارنه عدم الإيمان،لا استفهاما عن وجه السّؤال حتّى ينتج عتابا و ردعا.

و الإيمان مطلق في كلامه تعالى،و فيه دلالة على أنّ الإيمان باللّه سبحانه لا يتحقّق مع الشّكّ في أمر الإحياء و البعث،و لا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء،لأنّ المورد لا يوجب تخصيص عموم اللّفظ و لا تقييد إطلاقه.

و كذا قوله تعالى حكاية عنه عليه السّلام لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مطلق يدلّ على كون مطلوبه عليه السّلام من هذا السّؤال حصول الاطمئنان المطلق و قطع منابت كلّ خطور قلبيّ و أعراقه،فإنّ الوهم في إدراكاتها الجزئيّة و أحكامها لمّا كانت معتكفة على باب الحسّ و كان جلّ أحكامها و تصديقاتها في المدركات الّتي تتلقّاها من طريق الحواسّ،فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدّقه العقل و إن كانت النّفس مؤمنة موقنة به،كما في الأحكام الكلّيّة العقليّة الحقّة من الأمور الخارجة عن المادّة الغائبة عن الحسّ،فإنّها تستنكف عن قبولها و إن سلمت مقدّماتها المنتجة لها،فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها،ثمّ تثير الأحوال النّفسانيّة المناسبة لاستنكافها فتقوى و تتأيّد بذلك في تأثيرها المخالف.و إن كانت النّفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلا تضرّها إلاّ أذى،كما أنّ من بات في دار مظلمة فيها جسد ميّت فإنّه يعلم أنّ الميّت جماد من غير شعور و إرادة فلا يضرّ شيئا،لكنّ الوهم تستنكف عن هذه النّتيجة و تستدعي من المتخيّلة أن تصوّر للنّفس صورا هائلة موحشة من أمر الميّت،ثمّ تهيج صفة الخوف فتتسلّط على النّفس،و ربّما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النّفس.

فقد ظهر أنّ وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينيّة لا ينافي الإيمان و التّصديق دائما،غير أنّها تؤذي النّفس،و تسلب السّكون و القرار منها.و لا يزول وجود هذه الخواطر إلاّ بالحسّ أو المشاهدة،و لذلك قيل:إنّ للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم،و قد أخبر اللّه تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل،فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتّى إذا جاءهم و شاهدهم و عاين أمرهم غضب و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجرّه إليه.

و قد ظهر من هنا و ممّا مرّ سابقا أنّ إبراهيم عليه السّلام ما كان يسأل المشاهدة بالحسّ الّذي يتعلّق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها،بل إنّما كان يسأل مشاهدة فعل اللّه سبحانه و أمره في إحياء الموتى،و ليس ذلك بمحسوس و إن كان لا ينفكّ عن الأمر المحسوس الّذي هو قبول

ص: 582

الأجزاء المادّيّة للحياة بالاجتماع و التّصوّر بصورة الحيّ، فهو عليه السّلام إنّما كان يسأل حقّ اليقين.(2:373)

تؤمنون

1- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ... آل عمران:110

الطّبريّ: يعني تصدّقون باللّه،فتخلصون له التّوحيد و العبادة.(4:45)

الزّجّاج: أي توحّدون اللّه بالإيمان برسوله،لأنّ من كفر بالنّبيّ لم يوحّد اللّه،و ذلك أنّه يزعم أنّ الآيات المعجزات الّتي آتى بها النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من ذات نفسه،فجعل غير اللّه يفعل فعل اللّه.و آيات الأنبياء لا يقدر عليها إلاّ اللّه عزّ و جلّ.

و يدلّ على أنّ قوله: تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ تقرّون أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم نبيّ اللّه،قوله عزّ و جلّ: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فأهل الكتاب كفروا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فصاروا كفّارا باللّه،فأعلم اللّه أنّ بعضهم و هو القليل منهم آمن باللّه،فقال: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ .آل عمران:110(1:456)

الزّمخشريّ: جعل الإيمان بكلّ ما يجب الإيمان به إيمانا باللّه،لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه،فكأنّه غير مؤمن باللّه وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا النّساء:150،151،و الدّليل عليه قوله تعالى: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع إيمانهم باللّه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الإيمان خيرا لهم ممّا هم عليه،لأنّهم إنّما آثروا دينهم على دين الإسلام حبّا للرّئاسة و استتباع العوامّ، و لو آمنوا لكان لهم من الرّئاسة و الأتباع و حظوظ الدّنيا ما هو خير ممّا آثروا دين الباطل لأجله،مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرّتين.(1:454)

الفخر الرّازيّ:لم اكتفى بذكر الإيمان باللّه و لم يذكر الإيمان بالنّبوّة مع أنّه لا بدّ منه؟

و الجواب:الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالنّبوّة،لأنّ الإيمان باللّه لا يحصل إلاّ إذا حصل الإيمان بكونه صادقا، و الإيمان بكونه صادقا لا يحصل إلاّ إذا كان الّذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقا،لأنّ المعجز قائم مقام التّصديق بالقول،فلمّا شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم كان من ضرورة الإيمان باللّه الإيمان بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم فكان الاقتصار على ذكر الإيمان باللّه تنبيها على هذه الدّقيقة.(8:192)

البيضاويّ: يتضمّن الإيمان بكلّ ما يجب أن يؤمن به،لأنّ الإيمان به إنّما يحقّ و يعتدّ به إذا حصل الإيمان بكلّ ما أمر أن يؤمن به،و إنّما أخّره-و حقّه أن يقدّم-لأنّه قصد بذكره الدّلالة على أنّهم أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر،إيمانا باللّه و تصديقا به و إظهارا لدينه.(1:176)

مثله الشّربينيّ.(1:239)

أبو السّعود: أي إيمانا متعلّقا بكلّ ما يجب أن يؤمن به من رسول و كتاب و حساب و جزاء.و إنّما لم يصرّح به تفصيلا لظهور أنّه الّذي يؤمن به المؤمنون،و للإيذان بأنّه

ص: 583

هو الإيمان باللّه تعالى حقيقة،و أنّ ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى في شيء،قال تعالى: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا... النّساء:150،151.

و إنّما أخّر ذلك عن الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر مع تقدّمه عليهما وجودا و رتبة،لأنّ دلالتهما على خيريّتهم للنّاس أظهر من دلالته عليها.(1:261)

الآلوسيّ: أريد بالإيمان به سبحانه:الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به،لأنّ الإيمان إنّما يعتدّ به و يستأهل أن يقال له:إيمان إذا آمن باللّه تعالى على الحقيقة.و حقيقة الإيمان باللّه تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به، فلو أخلّ بشيء منه لم يكن من الإيمان باللّه تعالى في شيء.و المقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب، و أنّهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به،كما يشعر بذلك التّعقيب بنفي الإيمان عنهم،مع العلم بأنّهم مؤمنون في الجملة.

و أيضا المقام مقام مدح المؤمنين بكونهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ آل عمران:110،و هذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلّل للخيريّة،فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا،فلا يصلح للتّعليل،و العطف يقتضيه.و إنّما أخّر الإيمان عن الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر-مع تقدّمه عليهما وجودا و رتبة كما هو الظّاهر-لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر،فهما أظهر في الدّلالة على الخيريّة.(4:28)

الطّباطبائيّ: المراد ب«الإيمان»هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل اللّه،و عدم التّفرّق فيه في مقابل الكفر به،على ما يدلّ عليه قوله قبل: أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ آل عمران:106،و كذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضا فيؤول المعنى إلى أنّكم معاشر أمّة الإسلام كنتم في أوّل ما تكوّنتم و ظهرتم للنّاس خير أمّة ظهرت،لكونكم تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تعتصمون بحبل باللّه،متّفقين متّحدين كنفس واحدة.

و لو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضا لكان خيرا لهم،لكنّهم اختلفوا منهم أمّة مؤمنون،و أكثرهم فاسقون.

(3:377)

2- اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ... النّور:2

مجاهد :إن كنتم تصدّقون باللّه و تقرّون بالبعث و النّشور،فلا تأخذكم بهما رحمة تمنعكم من إقامة الحدود عليهما فتعطّلوا الحدود.

مثله عطاء.(الطّبرسيّ 4:124)

و مثله الطّوسيّ.(7:406)

الطّبريّ: إن كنتم تصدّقون باللّه ربّكم و باليوم الآخر،و أنّكم فيه مبعوثون لحشر القيامة،و للثّواب و العقاب،فإنّ من كان بذلك مصدّقا فإنّه لا يخالف اللّه في أمره و نهيه،خوف عقابه على معاصيه.(18:68)

الزّمخشريّ: من باب التّهييج و إلهاب الغضب للّه و لدينه.(3:47)

مثله الفخر الرّازيّ(23:148)،و النّسفيّ(3:131)،

ص: 584

و أبو السّعود(4:45)و البروسويّ(6:115).

القرطبيّ: قرّرهم على معنى التّثبيت و الحضّ بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و هذا كما تقول لرجل تحضّه:إن كنت رجلا فافعل كذا،أي هذه أفعال الرّجال.

(12:166)

نحوه أبو حيّان.(6:429)

البيضاويّ: فإنّ الإيمان يقتضي الجدّ في طاعة اللّه تعالى و الاجتهاد في إقامة حدوده و أحكامه،و هو من باب التّهييج.(2:117)

الآلوسيّ: من باب التّهييج و الإلهاب،كما يقال:إن كنت رجلا فافعل كذا،و لا شكّ في رجوليّته،و كذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم،لكن قصد تهييجهم و تحريك حميّتهم ليجدّوا في طاعة اللّه تعالى و يجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها.(18:83)

3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ... الصّفّ:10،11

الفرّاء: و في قراءة عبد اللّه(آمنوا)فلو قيل في قراءتنا:(ان تؤمنوا)لأنّه ترجمة للتّجارة.و إذا فسّرت الاسم الماضي بفعل،جاز فيه«أن»و طرحها،تقول للرّجل:هل لك في خير تقوم بنا إلى المسجد فنصلّي،و إن قلت:أن تقوم إلى المسجد،كان صوابا.

و مثله ممّا فسّر ما قبله على وجهين،قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ عبس:24،أنّا،و إنّا،فمن قال«أنّا» هاهنا فهو الّذي يدخل«أن»في«يقوم»،و من قال:«إنّا» فهو الّذي يلقي«أن»من«تقوم»و مثله: عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا و«انّا»النّمل:51.(3:154)

الطّبريّ: فإن قال قائل:و كيف قيل: تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ و قد قيل لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوصفهم بالإيمان؟فإنّ الجواب في ذلك نظير جوابنا في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ... النّساء:136.

[ثمّ ذكر مثل الفرّاء](28:89)

الزّمخشريّ: (تؤمنون)استئناف،كأنّهم قالوا:

كيف نعمل؟فقال:تؤمنون،و هو خبر في معنى الأمر، و لهذا أجيب بقوله: يَغْفِرْ لَكُمْ و تدلّ عليه قراءة ابن مسعود: (آمنوا باللّه و رسوله و جاهدوا) .

فإن قلت:لم جيء به على لفظ الخبر؟

قلت:للإيذان بوجوب الامتثال و كأنّه امتثل،فهو يخبر عن إيمان و جهاد موجودين.و نظيره قول الدّاعي:

غفر اللّه لك و يغفر اللّه لك،جعلت المغفرة لقوّة الرّجاء، كأنّها كانت و وجدت.

فإن قلت:هل لقول الفرّاء إنّه جواب هَلْ أَدُلُّكُمْ وجه؟

قلت:وجهه أنّ متعلّق الدّلالة هو التّجارة،و التّجارة مفسّرة بالإيمان و الجهاد،فكأنّه قيل:هل تتّجرون بالإيمان و الجهاد يغفر لكم.

فإن قلت:فما وجه قراءة زيد بن عليّ رضي اللّه عنهما (تؤمنوا و تجاهدوا) ؟

قلت:وجهها أن تكون على إضمار لام الأمر.

(4:99)

مثله النّسفيّ(4:253)،و نحوه الفخر الرّازيّ(29:

ص: 585

316)،و القرطبيّ(18:87)،و البيضاويّ(2:474).

الطّبرسيّ: إنّما جاز تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ مع أنّه محمول على تجارة و خبر عنها،و لا يصحّ أن يقال:للتّجارة (تؤمنون)و إنّما يقال:و أن تؤمنوا باللّه،لأنّه جاء على طريق ما يدلّ على خبر التّجارة لا على نفس الخبر؛إذ الفعل يدلّ على مصدره،و إنّما انعقاده بالتّجارة في المعنى لا في اللّفظ.و في ذلك توطئة لما يبنى على المعنى في الإيجاز،و العرب تقول:هل لك في خير تقوم إلى فلان فتعوده،و أن تقوم إليه؟(5:281)

الآلوسيّ: [مثل الزّمخشريّ و أضاف:]

و الخطاب إذا كان للمؤمنين الخلّص فالمراد تثبتون و تدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمان و الجهاد،أي تكميل بين النّفس و تكميل الغير.و إن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد تخلصون الإيمان،و أيّا ما كان،فلا إشكال في الأمر.

و قال الأخفش: (تؤمنون)عطف بيان على(تجارة) و تعقّب بأنّه لا يتخيّل إلاّ على تقدير أن يكون الأصل «أن تؤمنوا»حتّى يتقدّر بمصدر،ثمّ حذف«أن»فارتفع الفعل.[ثمّ استشهد بشعر]

و قال ابن عطيّة:(تؤمنون)فعل مرفوع بتقدير:ذلك أنّه تؤمنون،و فيه حذف المبتدإ و«أن»و اسمها،و إبقاء خبرها،و ذلك على ما قال أبو حيّان:لا يجوز.و قرأ زيد بن عليّ تؤمنوا و تجاهدوا بحذف نون الرّفع فيهما،على إضمار لام الأمر،أي لتؤمنوا و تجاهدوا،أو و لتجاهدوا.

[ثمّ استشهد بشعر](28:89)

الطّباطبائيّ: استئناف بيانيّ يفسّر التّجارة المعروضة عليهم،كأنّه قيل:ما هذه التّجارة؟فقيل:

تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ. و قد أخذ الإيمان بالرّسول مع الإيمان باللّه للدّلالة على وجوب طاعته فيما أمر به،و إلاّ فالإيمان لا يعدّ إيمانا باللّه إلاّ مع الإيمان برسالة الرّسول،قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا النّساء:150،151.(19:259)

تؤمنوا

1- قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ...

الحجرات:14

الزّمخشريّ: فإن قلت:ما وجه قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا و الّذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال:قل لا تقولوا آمنّا و لكن قولوا أسلمنا،أو قل لم تؤمنوا و لكن أسلمتم؟

قلت:أفاد هذا النّظم تكذيب دعواهم أوّلا و دفع ما انتحلوه،فقيل: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا. و روعي في هذا النّوع من التّكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه، فلم يقل:كذبتم،و وضع(لم تؤمنوا)الّذي هو نفي ما ادّعوا إثباته موضعه،ثمّ نبّه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين: أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ الحجرات:15،تعريضا بأنّ هؤلاء هم الكاذبون،و ربّ تعريض لا يقاومه التّصريح،و استغنى بالجملة الّتي هي(لم تؤمنوا)عن أن يقال:لا تقولوا آمنّا،لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النّهي عن القول بالإيمان،ثمّ وصلت

ص: 586

بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى، و لم يقل:و لكن أسلمتم ليكون خارجا مخرج الزّعم و الدّعوى،كما كان قولهم:آمنّا كذلك،و لو قيل:و لكن أسلمتم،لكان خروجه في معرض التّسليم لهم و الاعتداد بقولهم،و هو غير معتدّ به.

فإن قلت:قوله: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ بعد قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا يشبه التّكرير من غير استقلال بفائدة متجدّدة.

قلت:ليس كذلك،فإنّ فائدة قوله:(لم تؤمنوا)هو تكذيب دعواهم،و قوله: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت لما أمروا به أن يقولوه،كأنّه قيل لهم:

وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم،لأنّه كلام واقع موقع الحال من الضّمير في قُولُوا و ما في(لمّا)من معنى التّوقّع،دالّ على أنّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.(3:569)

مثله النّسفيّ.(4:174)

الفخر الرّازي: قال تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً النّساء:94،و قال هاهنا:

قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا مع أنّهم ألقوا إليهم السّلام.

نقول:إشارة إلى أنّ عمل القلب غير معلوم، و اجتناب الظّنّ واجب،و إنّما يحكم بالظّاهر فلا يقال لمن يفعل فعلا:هو مرائيّ،و لا لمن أسلم:هو منافق،و لكنّ اللّه خبير بما في الصّدور،إذا قال:فلان ليس بمؤمن،حصل الجزم.و قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا فهو الّذي جوّز لنا ذلك القول،و كان معجزة للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛حيث اطّلعه اللّه على الغيب و ضمير قلوبهم،فقال لنا:أنتم لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً لعدم علمكم بما في قلبه.

[إلى أن قال:]

و قوله تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ هل فيه معنى قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ؟نقول:نعم، و بيانه من وجوه:

الأوّل:هو أنّهم لمّا قالوا:(آمنّا)و قيل لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا قالوا:إذا أسلمنا فقد آمنّا؟ قيل:لا،فإنّ«الإيمان»من عمل القلب لا غير،و الإسلام قد يكون عمل اللّسان،و إذا كان ذلك عمل القلب و لم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا.

الثّاني:لمّا قالوا:(آمنّا)و قيل لهم:(لم تؤمنوا)قالوا جدلا:قد آمنّا عن صدق نيّة مؤكّدين لما أخبروا،فقال:

وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لأنّ«لمّا يفعل» يقال:في مقابلة«قد فعل».

و يحتمل أن يقال:بأنّ الآية فيها إشارة إلى حال المؤلّفة إذا أسلموا و يكون إيمانهم بعد ضعيفا،قال لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا لأنّ«الإيمان»إيقان و ذلك بعد لم يدخل في قلوبكم،و سيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام:

وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ يكمل لكم الأجر.

و الّذي يدلّ على هذا هو أنّ(لمّا)فيها معنى التّوقّع و الانتظار،و«الإيمان»إمّا أن يكون بفعل المؤمن و اكتسابه و نظره في الدّلائل،و إمّا أن يكون إلهاما يقع في قلب المؤمن،فقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي ما فعلتم ذلك، و قوله تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي و لا دخل الإيمان في قلبكم إلهاما من غير فعلكم،فلا إيمان لكم حينئذ.

ص: 587

ثمّ إنّه تعالى عند فعلهم قال: لَمْ تُؤْمِنُوا بحرف ليس فيه معنى الانتظار،لقصور نظرهم و فتور فكرهم، و عند فعل الإيمان قال: وَ لَمّا يَدْخُلِ بحرف فيه معنى التّوقّع لظهور قوّة الإيمان،كأنّه يكاد يغشى القلوب بأسرها.(28:141)

البيضاويّ: إذ الإيمان تصديق مع ثقة و طمأنينة قلب و لم يحصل لكم،و إلاّ لما مننتم على الرّسول عليه الصّلاة و السّلام بالإسلام و ترك المقاتلة،كما دلّ عليه آخر السّورة.(2:411)

مثله أبو السّعود(5:92)،و البروسويّ(9:92)، و الآلوسيّ(26:167).

أبو حيّان: قال مجاهد:نزلت في بني أسد بن خزيمة، قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام و قلوبهم دخلة إنّما يحبّون المغانم و عرض الدّنيا.

و قيل:مزينة و جهينة و أسلم و أشجع و غفار قالوا:

آمنّا فاستحققنا الكرامة،فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله:

قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أكذبهم اللّه في دعوى الإيمان و لم يصرّح بإكذابهم بلفظه بل بما دلّ عليه من انتفاء إيمانهم.

و هذا في أعراب مخصوصين،فقد قال اللّه تعالى: وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ التّوبة:99، و لكن قُولُوا أَسْلَمْنا فهو اللّفظ الصّادق من أقوالكم، و هو الاستسلام و الانقياد ظاهرا،و لم يواطئ أقوالكم ما في قلوبكم،فلذلك قال: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ و جاء النّفي ب(لمّا)الدّالّة على انتفاء الشّيء إلى زمان الإخبار،و تبيّن أنّ قوله:(لم تؤمنوا)يراد به انتفاء الإيمان في الزّمن الماضي بل متّصلا بزمان الإخبار أيضا، لأنّك إذا نفيت(لم)جاز أن يكون النّفي قد انقطع،و لذلك يجوز أن تقول:لم يقم زيد،و قد قام،و جاز أن يكون النّفي متّصلا بزمن الإخبار؛فإذا كان متّصلا بزمن الإخبار لم يجز أن تقول:و قد قام،لتكاذب الخبرين.و أمّا(لمّا) فإنّها تدلّ على نفي الشّيء متّصلا بزمان الإخبار،و لذلك امتنع:لمّا يقم زيد،و قد قام،للتّكاذب.و الظّاهر أنّ قوله:

وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ليس له تعلّق بما قبله من جهة الإعراب.[ثمّ ذكر قول الزّمخشريّ]

(8:117)

الشّربينيّ: أي لم تصدّق قلوبكم،لأنّكم لو آمنتم لم تمنّوا،لأنّ الإيمان التّصديق بجميع ما للّه من الكمال الّذي منه أنّه لو لا منه بالهداية لم يحصل الإيمان،فله و لرسوله الّذي كان ذلك على يديه المنّ و الفضل.

(4:74)

الطّباطبائيّ: الآية و ما يليها إلى آخر السّورة متعرّضة لحال الأعراب في دعواهم الإيمان و منّهم على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بإيمانهم،و سياق نقل قولهم،و أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله: لَمْ تُؤْمِنُوا يدلّ على أنّ المراد بالأعراب بعض الأعراب البادين دون جميعهم،و يؤيّده قوله: وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ التّوبة:99.

و قوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي قالوا لك:آمنّا،و ادّعوا الإيمان قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا و كذّبهم في دعواهم،و قوله: وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا استدراك ممّا يدلّ عليه سابق الكلام،و التّقدير:فلا تقولوا آمنّا و لكن قولوا أسلمنا.

ص: 588

و قوله: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لنفي دخول الإيمان في قلوبهم مع انتظار دخوله،و لذلك لم يكن تكرارا لنفي«الإيمان»المدلول عليه بقوله: لَمْ تُؤْمِنُوا.

و قد نفى في الآية الإيمان عنهم،و أوضحه بأنّه يدخل في قلوبهم بعد،و أثبت لهم الإسلام،و يظهر به الفرق بين الإيمان و الإسلام،بأنّ«الإيمان»معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد،و«الإسلام»أمر قائم باللّسان و الجوارح، فإنّه الاستسلام و الخضوع لسانا بالشّهادة على التّوحيد و النّبوّة،و عملا بالمتابعة العمليّة ظاهرا،سواء قارن الاعتقاد بحقّيّة ما شهد عليه و عمل به أو لم يقارن.

و بظاهر الشّهادتين تحقن الدّماء،و عليه تجري المناكح و المواريث.(18:328)

2- ..فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ. المجادلة:4

الفخر الرّازيّ: استدلّت المعتزلة باللاّم في قوله:

(لتؤمنوا)على أنّ فعل اللّه معلّل بالغرض،و على أنّ غرضه أن تؤمنوا باللّه،و لا تستمرّوا على ما كانوا عليه في الجاهليّة من الكفر.و هذا يدلّ على أنّه تعالى أراد منهم الإيمان و عدم الكفر.

[و]استدلّ من أدخل العمل في مسمّى الإيمان بهذه الآية،فقال:أمرهم بهذه الأعمال،و بيّن أنّه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين؛فدلّت الآية على أنّ العمل من الإيمان.و من أنكر ذلك قال:إنّه تعالى لم يقل: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ بعمل هذه الأشياء،و نحن نقول:المعنى ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ بالإقرار بهذه الأحكام،ثمّ إنّه تعالى أكّد في بيان أنّه لا بدّ لهم من الطّاعة وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي لمن جحد هذا و كذّب به.(29:262)

القرطبيّ: أي ذلك الّذي وصفنا من التّغليظ في الكفّارة(لتؤمنوا)أي لتصدّقوا أنّ اللّه أمر به.

و قد استدلّ بعض العلماء على أنّ هذه الكفّارة إيمان باللّه سبحانه و تعالى،لمّا ذكرها و أوجبها قال: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ أي ذلك لتكونوا مطيعين للّه تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها؛فسمّي التّكفير لأنّه طاعة و مراعاة للحدّ إيمانا،فثبت أنّ كلّ ما أشبهه فهو إيمان.

فإن قيل:معنى قوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ أي لئلاّ تعودوا للظّهار الّذي هو منكر من القول و زور.

قيل له:قد يجوز أن يكون هذا مقصودا و الأوّل مقصودا،فيكون المعنى ذلك لئلاّ تعودوا للقول المنكر و الزّور،بل تدعونهما طاعة للّه سبحانه و تعالى؛إذ كان قد حرّمهما،و لتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفّروا؛إذ كان اللّه منع من مسيسها،و تكفّروا إذ كان اللّه تعالى أمر بالكفّارة و ألزم إخراجها منكم،فتكونوا بهذا كلّه مؤمنين باللّه و رسوله،لأنّها حدود تحفظونها،و طاعات تؤدّونها، و الطّاعة للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم إيمان.(17:287)

الشّربينيّ:أي ليتحقّق إيمانكم.(4:223)

البروسويّ:و اللاّم في(لتؤمنوا)للحكمة و المصلحة،لأنّها إذا قارنت فعل اللّه تكون للمصلحة،

ص: 589

لأنّه الغنيّ المطلق،و إذا قارنت فعل العبد تكون للغرض، لأنّه المحتاج المطلق.فأهل السّنّة لا يقولون لتلك المصلحة غرضا؛إذ الغرض في العرف ما يستكمل به طالبه استدفاعا لنقصان فيه يتنفّر عنه طبعه،و اللّه منزّه عن هذا بلا خلاف.

و المعتزلة يقولون بناء على أنّه هو الشّيء الّذي لأجله يراد المراد و يفعل عندهم،و لو قلنا بهذا المعنى لكنّا قائلين بالغرض،و هم لو قالوا بالمعنى لما كنّا قائلين به.(9:394)

آمنوا

1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ

النّساء:136

[تقدّمت نصوصه في آمَنُوا ]

2- آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.

الحديد:7

عبد الجبّار:ربّما قيل في قوله تعالى: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا ثمّ قال في آخر الآية الثّانية: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الحديد:8،كيف يصحّ أن يقول:(آمنوا) إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟

و جوابنا:أنّ قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ جعله تعالى شرطا في أخذ الميثاق،لأنّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يأخذه بشرط الإيمان.و يحتمل أن يريد به:إن رغبتم في الإيمان و تمسّكتم به.(415)

الطّوسيّ: معاشر العقلاء صدّقوا نبيّه و أقرّوا بوحدانيّته و إخلاص العبادة له،و صدّقوا رسوله و اعترفوا بنبوّته.(9:521)

مثله الطّبرسيّ.(5:232)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر أنواعا من الدّلائل على التّوحيد و العلم و القدرة،أتبعها بالتّكاليف، و بدأ بالأمر بالإيمان باللّه و رسوله.

فإن قيل:قوله:(آمنوا)خطاب مع من عرف اللّه،أو مع من لم يعرف اللّه،فإن كان الأوّل كان ذلك أمرا بأن يعرفه من عرف؛فيكون ذلك أمرا بتحصيل الحاصل و هو محال،و إن كان الثّاني كان الخطاب متوجّها على من لم يكن عارفا به،و من لم يكن عارفا به استحال أن يكون عارفا بأمره؛فيكون الأمر متوجّها على من يستحيل أن يعرف كونه مأمورا بذلك الأمر،و هذا تكليف ما لا يطاق.

و الجواب:من النّاس من قال:معرفة وجود الصّانع حاصلة للكلّ،و إنّما المقصود من هذا الأمر معرفة الصّفات.(29:215)

الطّباطبائيّ: المستفاد من سياق الآيات أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين باللّه و رسوله لا للكفّار و لا للمؤمنين و الكفّار جميعا،كما قيل.و أمر الّذين تلبّسوا بالإيمان باللّه و رسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه؛إذ لو كانت صفة من الصّفات كالسّخاء و العفّة و الشّجاعة ثابتة في نفس الإنسان حقّ ثبوتها لم يتخلّف عنها أثرها الخاصّ.و من آثار الإيمان باللّه و رسوله،الطّاعة فيما أمر اللّه و رسوله به.

و من هنا يظهر أوّلا:أنّ أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة

ص: 590

أمر للمتحقّق بمرتبة من الإيمان أن يتلبّس بمرتبة هي أعلى منها،و هذا النّوع من الأمر فيه إيماء إلى أنّ الّذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كلّ الإرضاء.

و ثانيا:أنّ قوله: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا أمر بالإنفاق مع التّلويح إلى أنّه أثر صفة هم متلبّسون بها، فعليهم أن ينفقوا لمّا اتّصفوا بها فيؤول إلى تعليل الإنفاق بإيمانهم.(19:151)

مؤمن

1- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. النّحل:97

الطّوسيّ: هذا وعد من اللّه تعالى بأنّ من عمل صالحا من الطّاعات سواء كان فاعله ذكرا أو أنثى،و هو مع ذلك مؤمن بتوحيد اللّه،مقرّ بصدق أنبيائه،فأنّ اللّه يحييه حياة طيّبة.(6:424)

مثله الطّبرسيّ.(3:384)

الميبديّ: قيّد بالإيمان،لأنّ أعمال الكفّار غير معتدّ بها.(5:445)

الفخر الرّازيّ: هل تدلّ هذه الآية على أنّ الإيمان مغاير للعمل الصّالح؟

و الجواب:نعم لأنّه تعالى جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصّالح موجبا للثّواب،و شرط الشّيء مغاير لذلك الشّيء.

ظاهر الآية يقتضي أنّ العمل الصّالح إنّما يفيد الأثر بشرط الإيمان،فظاهر قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ الزّلزال:7،يدلّ على أنّ العمل الصّالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه.

و الجواب:أنّ إفادة العمل الصّالح للحياة الطّيّبة مشروط بالإيمان،أمّا إفادته لأثر غير هذه الحياة الطّيّبة و هو تخفيف العقاب،فإنّه لا يتوقّف على الإيمان.

(20:112)

نحوه النّيسابوريّ.(14:115)

أبو حيّان: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ جملة حاليّة،و الإيمان شرط في العمل الصّالح،مخصّص لقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أو يراد بمثقال ذرّة من إيمان،كما جاء في من يخرج من النّار من عصاة المؤمنين.

(5:533)

البروسويّ: قيّده به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثّواب،و إنّما المتوقّع عليها تخفيف العذاب،كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ اللّه تعالى يأمر بالكافر السّخيّ إلى جهنّم،فيقول لمالك خازن جهنّم عذّبه و خفّف عنه العذاب،على قدر سخائه الّذي كان في دار الدّنيا».

(5:78)

مثله الآلوسيّ.(14:226)

الطّباطبائيّ: حكم كلّيّ من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أيّ من كان.و قد قيّده بكونه مؤمنا و هو في معنى الاشتراط،فإنّ العمل ممّن ليس مؤمنا حابط لا يترتّب عليه أثر،كما قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ المائدة:5،و قال: وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هود:16.(12:341)

ص: 591

2- وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. الإسراء:19

النّسفيّ: مصدّق للّه في وعده و وعيده.(2:310)

أبو حيّان: هو الشّرط الأعظم في النّجاة فلا تنفع إرادة و لا سعي إلاّ بحصوله،و في الحقيقة هو النّاشئ عنه إرادة الآخرة و السّعي للنّجاة فيها و حصول الثّواب.

و عن بعض المتقدّمين:من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله:إيمان ثابت،و نيّة صادقة،و عمل مصيب.

(6:21)

البيضاويّ: أي و الحال أنّه مؤمن إيمانا صحيحا لا شرك معه و لا تكذيب فإنّه العمدة.(1:581)

مثله البروسويّ.(5:144)

الآلوسيّ: إيمانا صحيحا لا يخالطه قادح.و إيراد الإيمان بالجملة الحاليّة للدّلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيّز(من).[ثمّ ذكر مثل أبو حيّان](15:47)

الطّباطبائيّ: أي مؤمن باللّه،و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنّبوّة و المعاد،فإنّ من لا يعترف بإحدى الخصال الثّلاث لا يعدّه اللّه سبحانه في كلامه مؤمنا به،و قد تكاثرت الآيات فيه.

على أنّ نفس التّقييد بقوله: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ يكفي في التّقييد المذكور،فإنّ من أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن باللّه و بنشأة وراء هذه النّشأة الدّنيويّة قطعا.فلو لا أنّ التّقييد بالإيمان-لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحا و من صحّته أن يصاحب التّوحيد و الإذعان بالنّبوّة- لم يكن للتّقييد وجه،فمجرّد التّقييد بالإيمان يكفي مئونة الاستعانة بآيات أخر.(13:65)

3- فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ. الأنبياء:94

الطّباطبائيّ: و قد قيّد عمل بعض الصّالحات بالإيمان؛إذ قال: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فلا أثر للعمل الصّالح بغير إيمان.

و المراد بالإيمان على ما يظهر من السّياق و خاصّة قوله في الآية الماضية: وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء:

92،الإيمان باللّه قطعا،غير أنّ الإيمان باللّه لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء،لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا النّساء:150،151.(14:324)

المؤمن

هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ. الحشر:23

ابن عبّاس: الّذي أمن خلقه من ظلمه لهم؛إذ قال:

لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ النّساء:40.(الطّبرسيّ 5:267)

مثله الطّبريّ(28:54)،و الطّوسيّ(9:573).

أنّه الّذي أمن النّاس ظلمه و أمن من آمن به عذابه.

مثله مقاتل.(ابن الجوزيّ 8:225)

نحوه الزّجّاج.(النّسفيّ 4:245)

إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التّوحيد من النّار.

و أوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبيّ،حتّى إذا لم يبق

ص: 592

فيها من يوافق اسمه اسم نبيّ قال اللّه تعالى لباقيهم:أنتم المسلمون و أنا السّلام،و أنتم المؤمنون و أنا المؤمن، فيخرجهم من النّار ببركة هذين الاسمين.

(القرطبيّ 18:46)

مجاهد :(المؤمن)الّذي وحّد نفسه،يقول: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ آل عمران:18.

(القرطبيّ 18:46)

مثله الزّجّاج.(ابن الجوزيّ 8:226)

الحسن :الّذي آمن بنفسه قبل إيمان خلقه به.(الطّبرسيّ 5:267)

القرظيّ: أنّه المجير.(ابن الجوزيّ 8:225)

قتادة :أمن بقوله أنّه حقّ.(الطّبريّ 28:54)

ابن زيد :المصدّق الموقن،آمن النّاس بربّهم فسمّاهم مؤمنين،و آمن الرّبّ الكريم لهم بإيمانهم:

صدّقهم أن يسمّى بذلك الاسم.(الطّبريّ 28:55)

أنّه مصدّق خلقه في وعده.(الماورديّ 5:513)

ابن قتيبة :أنّه الّذي يصدّق عباده وعده.

(ابن الجوزيّ 8:226)

نحوه ابن الأعرابيّ.(الأزهري 15:515)

ثعلب :المصدّق للمؤمنين في أنّهم آمنوا.

(أبو حيّان 8:251)

أبو مسلم الأصفهانيّ: هو الدّاعي إلى الإيمان، الآمر به،الموجب لأهله اسمه.(الطّبرسيّ 5:267)

القمّيّ: يؤمّن أولياءه من العذاب.(2:360)

مثله الماورديّ.(5:513)

النّحّاس: المصدّق المؤمنين في شهادتهم على النّاس يوم القيامة.(أبو حيّان 8:251)

الأزهريّ: (المؤمن)من أسماء اللّه تعالى،الّذي وحّد نفسه بقوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ البقرة:163،و بقوله:

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ آل عمران:18.

و قيل:المؤمن في صفة اللّه:الّذي آمن الخلق من ظلمه.و قيل:المؤمن الّذي آمن أولياءه عذابه.

قال ابن الأعرابيّ: و قيل:المؤمن:يصدّق عباده ما وعدهم.

و كلّ هذه الصّفات للّه تعالى،لأنّه صدّق بقوله ما دعا إليه عباده من توحيد،و لأنّه آمن الخلق من ظلمه و ما وعدنا من البعث و الجنّة لمن آمن به،و النّار لمن كفر به،فإنّه مصدّق وعده لا شريك له.(15:515)

نحوه ابن فارس.(1:135)

الخطّابيّ: أنّه يصدّق ظنون عباده المؤمنين، و لا يخيّب آمالهم،كقول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يحكيه عن ربّه عزّ و جلّ:أنا عند ظنّ عبدي بي.(ابن الجوزيّ 8:226)

الغزالي: المؤمن المطلق هو الّذي لا يتصوّر أمن و أمان إلاّ و يكون مستفادا من جهته،و هو اللّه تعالى.

و ليس يخفى أنّ الأعمى يخاف أن يناله هلاك من حيث لا يرى،فعينه البصيرة تفيد أمنا منه،و الأقطع يخاف آفة لا تندفع إلاّ باليد،و اليد السّليمة أمان منها،و هكذا جميع الحواسّ و الأطراف،و المؤمن خالقها و مصوّرها و مقوّمها.

و لو قدرنا إنسانا وحده مطلوبا من جهة أعدائه و هو ملقى في مضيق لا تتحرّك عليه أعضاؤه لضعفه،و إن تحرّكت فلا سلاح معه،و إن كان معه سلاح لم يقاوم أعداءه وحده،و إن كانت له جنود لم يأمن أن تنكسر جنوده،

ص: 593

و لا يجد حصنا يأوي إليه،فجاء من عالج ضعفه فقوّاه و أمدّه بجنود و أسلحة و بنى حوله حصنا،فقد أفاده أمنا و أمانا،فبالحريّ أن يسمّى مؤمنا في حقّه.و العبد ضعيف في أصل فطرته و هو عرضة الأمراض و الجوع و العطش من باطنه،و عرضة الآفات المحرقة و المغرقة و الجارحة و الكاسرة من ظاهره،و لم يؤمنه من هذه المخاوف إلاّ الّذي أعدّ الأدوية دافعة لأمراضه،و الأطعمة مزيلة لجوعه،و الأشربة مميطة لعطشه،و الأعضاء دافعة عن بدنه،و الحواسّ جواسيس منذرة بما يقرب من مهلكاته، ثمّ خوفه الأعظم من هلاك الآخرة،و لا يحصنه منها إلاّ كلمة التّوحيد،و اللّه هاديه إليها و مرغّبه فيها؛حيث قال:

«لا إله إلاّ اللّه حصني فمن دخله أمن من عذابي»فلا أمن في العالم إلاّ و هو مستفاد من أسباب هو منفرد بخلقها و الهداية إلى استعمالها،و عبد المؤمن هو الّذي آمنه اللّه من العقاب و آمنه النّاس على ذواتهم و أموالهم و أعراضهم من المصطلحات،فحظّ العبد من هذا الوصف أن يأمن الخلق كلّهم جانبه بل يرجو كلّ خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك عن نفسه في دينه و دنياه،كما قال عليه السّلام:من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليؤمن جاره بوائقه.(البروسويّ 9:460)

البغويّ: قال ابن عبّاس:هو الّذي أمن النّاس من ظلمه و أمن من آمن به من عذابه،هو من«الأمان»الّذي هو ضدّ التّخويف،كما قال: وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:4.

و قيل:معناه المصدّق لرسله بإظهار المعجزات، و المصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثّواب،و للكافرين بما أوعدهم من العقاب.(7:60)

الميبديّ: الّذي أمن النّاس من ظلمه،و أمن من آمن به من عذابه.

و قيل:الإيمان:التّصديق،أي هو الّذي يصدّق عبده في توحيده و إقراره بوحدانيّته،و يصدّق رسله بإظهار المعجزة عليهم،و هو المصدّق لنفسه في إخباره.

(10:56)

الزّمخشريّ: واهب الأمن.و قرئ بفتح الميم بمعنى المؤمن به،على حذف الجارّ،كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ الأعراف:155، المختارون بلفظ صفة السّبعين.(4:87)

الطّبرسيّ: المصدّق لما وعد المحقّق له،كالمؤمن الّذي يصدّق قوله فعله.و قيل:هو الّذي أمّن أولياءه عذابه.(5:267)

الفخر الرّازيّ: فيه وجهان:

الأوّل:أنّه الّذي آمن أولياءه عذابه،يقال:آمنه يؤمنه فهو مؤمن.

و الثّاني:أنّه المصدّق،إمّا على معنى أنّه يصدّق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم،أو لأجل أنّ أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم يشهدون لسائر الأنبياء،كما قال: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ البقرة:143،ثمّ إنّ اللّه يصدّقهم في تلك الشّهادة.(29:293)

القرطبيّ: أي المصدّق لرسله بإظهار معجزاته عليهم،و مصدّق المؤمنين ما وعدهم به من الثّواب، و مصدّق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.

و قيل:المؤمن:الّذي يؤمّن أولياءه من عذابه،

ص: 594

و يؤمن عباده من ظلمه،يقال:آمنه،من«الأمان»الّذي هو ضدّ الخوف،كما قال تعالى: وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:4،فهو مؤمن.[ثمّ استشهد بشعر](18:46)

أبو حيّان: قرأ الجمهور(المؤمن)بكسر الميم، اسم فاعل من«آمن»بمعنى أمن.و قيل:المصدّق نفسه في أقواله الأزليّة.

و قرأ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين،و قيل:

أبو جعفر المدنيّ(المؤمن)بفتح الميم.

قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك،لأنّه لو كان كذلك لكان المؤمن به،و كان جائزا.لكن المؤمن المطلق-بلا حرف جرّ-يكون من كان خائفا فأومن.(8:251)

ابن القيّم: و من أسمائه تعالى(المؤمن)و هو أحد التّفسيرين:المصدّق الّذي يصدّق الصّادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم،فهو الّذي صدّق رسله و أنبياءه فيما بلّغوا عنه،و شهد لهم بأنّهم صادقون بالدّلائل الّتي دلّ بها على صدقهم،قضاء و خلقا.(191)

البروسويّ: واهب الأمن و هو طمأنينة النّفس، و زوال الخوف.(9:490)

الآلوسيّ: المصدّق لنفسه و لرسله عليهم السّلام فيما بلّغوه عنه سبحانه إمّا بالقول أو بخلق المعجزة،أو واهب عباده الأمن من الفزع الأكبر،أو مؤمّنهم منه إمّا بخلق الطّمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم.

و قيل:مؤمن الخلق من ظلمه.و قيل:ذو الأمن من الزّوال لاستحالته عليه سبحانه،و قيل:غير ذلك.

و قرأ الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم-و قيل:أبو جعفر المدنيّ-(المؤمن)بفتح الميم على الحذف و الإيصال،كما في قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ الأعراف:155،أي المؤمن به.

و قال أبو حاتم: لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه؛إذ المؤمن المطلق من كان خائفا و آمنه غيره،و فيه أنّه متى كان ذلك قراءة و لو شاذّة لا يصحّ هذا،لأنّ القراءة ليست بالرّأي.

(28:63)

المراغيّ: أي واهب الأمن،فكلّ مخلوق يعيش في أمن،فالطّائر في جوّه،و الحيّة في وكرها،و السّمك في البحر تعيش كذلك،و لا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حرّاس يحرسون قراهم و إلاّ هلكوا.

(28:56)

سيّد قطب :واهب الأمن و واهب الإيمان.و لفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان؛حيث يلتقي فيه باللّه،و يتّصف منه بإحدى صفات اللّه،و يرتفع إذن إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان.(6:3533)

الطّباطبائيّ: المؤمن:الّذي يعطي الأمن.

(19:222)

مؤمنا

...وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً.

النّساء:94

الطّوسيّ: و قرئ من طريق النّهرواني (لست مؤمنا) بفتح الميم الثّانية،الباقون بكسرها،و به قرأ أبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام على ما حكاه البلخيّ.

(3:297)

ص: 595

مثله الطّبرسيّ.(2:94)

الزّمخشريّ: و قرئ (مؤمنا) بفتح الميم من آمنه، أي و لا نؤمنك.(1:554)

القرطبيّ: و روي عن أبي جعفر أنّه قرأ (لست مؤمنا) بفتح الميم الثّانية،من آمنته،إذا أجرته،فهو مؤمن.

(5:338)

أبو حيّان: و قرأ أبو جعفر(مؤمنا)بفتح الميم،أي لا نؤمنك في نفسك.و هي قراءة عليّ،و ابن عبّاس، و عكرمة،و أبي العالية،و يحيى بن يعمر.و معنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة،أنّك أسلمت خوفا من القتل.(3:329)

الآلوسيّ: و روي عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه و محمّد بن عليّ الباقر رضي اللّه تعالى عنهما و أبي جعفر القارئ أنّهم قرءوا(مؤمنا)بفتح الميم الثّانية،أي مبذولا لك الأمان.(5:118)

المؤمنون

1- وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. آل عمران:110

الطّوسيّ: يعني معترفون بما دلّت عليه كتبهم في صفة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله البشارة به.و قيل:إنّها تناولت من آمن منهم كعبد اللّه بن سلام،و أخيه،و غيرهما.(2:558)

أبو حيّان: ظاهر اسم الفاعل التّلبّس بالفعل، فأخبر تعالى أنّ من أهل الكتاب من هو متلبّس بالإيمان كعبد اللّه بن سلام و أخيه و ثعلبة بن سعيد،و من أسلم من اليهود و كالنّجاشيّ و بحيرا،و من أسلم من النّصارى؛إذ كانوا مصدّقين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل أن يبعث و بعده.و هذا يدلّ على أنّ المراد بقوله: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ الخصوص،أي باقي أهل الكتاب؛إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان.

و قيل:المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال،أي منهم من يؤمن؛فعلى هذا يكون المراد ب(اهل الكتاب) العموم،و يكون قوله: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إخبارا بمغيب،و أنّه سيقع من بعضهم الإيمان و لا يستمرّون كلّهم على الكفر.

و أخبر تعالى أنّ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ فدلّ على أنّ المؤمنين منهم قليل.و الألف و اللاّم في(المؤمنون)و في (الفاسقون)يدلّ على المبالغة و الكمال في الوصفين، و ذلك ظاهر لأنّ من آمن بكتابه و بالقرآن فهو كامل في إيمانه،و من كذّب بكتابه إذ لم يتّبع ما تضمّنه من الإيمان برسول اللّه و كذّب بالقرآن،فهو أيضا كامل في فسقه متمرّد في كفره.(3:30)

2- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... الأنفال:2

الرّازيّ: فإن قيل:قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ إلى آخر الآيتين،يدلّ على أنّ من لم يتّصف بجميع تلك الصّفات لا يكون مؤمنا، لأنّ كلمة(انّما)للحصر.

قلنا:فيه إضمار تقديره:إنّما المؤمنون إيمانا كاملا،و إنّما الكاملون في الإيمان،كما يقال:الرّجل من تصبّر على الشّدائد،يعني الرّجل الكامل.

ص: 596

فإن قيل:قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الأنفال:4،ينفي إرادة ما ذكرتم.

قلنا:معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقّا.

و قيل:إنّ(حقّا)متعلّق بما بعده لا بما قبله،و(المؤمنون) تمام الكلام.(103)

الآلوسيّ: المراد به قطعا الكاملون في الإيمان و إلاّ لم يصحّ الحصر،و هو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النّكرة إذا أعيدت معرفة.و على الوجه الأوّل لا يكون هذا عين النّكرة السّابقة،و يلتزم القول بأنّ القاعدة أغلبيّة،كما قد صرّحوا به في غير ما موضع،أي إنّما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ. (9:165)

مؤمنين

1- وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. البقرة:8

الطّوسيّ: و إنّما قال: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ مع قوله:

...مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ تكذيبا لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان و الإقرار بالبعث و النّبوّة،فبيّن أنّ ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم،و ذلك يدلّ على أنّ «الإيمان»لا يكون مجرّد القول،على ما قالته الكرّاميّة.(1:68)

مثله الطّبرسيّ.(1:46)

القرطبيّ: لمّا ذكر اللّه جلّ و تعالى المؤمنين أوّلا، و بدأ بهم لشرفهم و فضلهم،ذكر الكافرين في مقابلتهم؛ إذ الكفر و الإيمان طرفان.ثمّ ذكر المنافقين بعدهم، و ألحقهم بالكافرين قبلهم،لنفي الإيمان عنهم بقوله الحقّ:

وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.

ففي هذا ردّ على الكرّاميّة حيث قالوا:إنّ الإيمان قول باللّسان و إن لم يعتقد بالقلب،و احتجّوا بقوله تعالى:

فَأَثابَهُمُ اللّهُ بِما قالُوا المائدة:85،و لم يقل:بما قالوا و أضمروا،و بقوله عليه السّلام:«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم و أموالهم».

و هذا منهم قصور و جمود،و ترك نظر لما نطق به القرآن و السّنّة من العمل مع القول و الاعتقاد،و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«الإيمان معرفة بالقلب و قول باللّسان و عمل بالأركان».أخرجه ابن ماجة في سننه.

فما ذهب إليه محمّد بن كرّام السّجستانيّ و أصحابه هو النّفاق و عين الشّقاق،و نعوذ باللّه من الخذلان و سوء الاعتقاد.(1:193)

البيضاوي: إنكار ما ادّعوه و نفي ما انتحلوا إثباته، و كان أصله:و ما آمنوا،ليطابق قولهم في التّصريح بشأن الفعل دون الفاعل:لكنّه عكس تأكيدا أو مبالغة في التّكذيب،لأنّ إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزّمان،و لذلك أكّد النّفي بالباء،و أطلق«الإيمان»على معنى أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء،و يحتمل أن يقيّد بما قيّدوا به،لأنّه جوابه.

و الآية تدلّ على أنّ من ادّعى الإيمان و خالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا،لأنّ من تفوّه بالشّهادتين فارغ القلب عمّا يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا،

ص: 597

و الخلاف مع الكرّاميّة في الثّاني،فلا ينهض حجّة عليهم.

(1:22)

النّيسابوريّ: فإن قلت:كيف طابق قوله:

وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قولهم:(آمنّا)و الأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل و الثّاني بالعكس؟

قلت:لمّا أتوا بالجملة الفعليّة،ليكون معناها أحدثنا الدّخول في الإيمان،لتروج دعواهم الكاذبة،جيء بالجملة الاسميّة ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم،على سبيل البتّ و القطع،و أنّهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين.فكان هذا أوكد و أبلغ من أن يقال:إنّهم لم يؤمنوا،و نظير الآية قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها المائدة:37.

ثمّ إنّ قوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون مقيّدا،و ترك لدلالة التّقييد في آمَنّا. و يحتمل الإطلاق،أي أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء قطّ،لا من الإيمان باللّه و باليوم الآخر،و لا من الإيمان بغيرهما.

(1:170)

أبو حيّان: و الباء في(بمؤمنين)زائدة،و الموضع نصب،لأنّ(ما)حجازيّة،و أكثر لسان الحجاز جرّ الخبر بالباء،و جاء القرآن على الأكثر،و جاء النّصب في القرآن في قوله: ما هذا بَشَراً يوسف:31،و ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ المجادلة:2،و أمّا في أشعار العرب فزعموا أنّه لم يحفظ منه أيضا إلاّ قول الشّاعر:

و أنا النّذير بحرّة مسودّة

تصل الجيوش إليكم أقوادها

أبناؤها متكفئون أباهم

حنقوا الصّدور و ما هم أولادها

و لا تختصّ زيادة الباء باللّغة الحجازيّة بل تزاد في لغة تميم خلافا لمن منع ذلك.و إنّما ادّعينا أنّ قوله:

(بمؤمنين)في موضع نصب لأنّ القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنّه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النّصب فيه-و لها أحكام كثيرة في باب معقود في النّحو-و إنّما زيدت الباء في الخبر للتّأكيد،و لأجل التّأكيد في مبالغة نفي إيمانهم جاءت الجملة المنفيّة اسميّة مصدّرة ب(هم)و تسلّط النّفي على اسم الفاعل الّذي ليس مقيّدا بزمان،ليشمل النّفي جميع الأزمان؛إذ لو جاء اللّفظ منسحبا على اللّفظ المحكيّ الّذي هو(آمنّا)لكان:و ما آمنوا،فكان يكون نفيا للإيمان الماضي،و المقصود أنّهم ليسوا متلبّسين بشيء من الإيمان في وقت ما من الأوقات،و هذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفيّ،أي و ما هم بمؤمنين باللّه و اليوم الآخر.

و لم يردّ اللّه تعالى عليهم قولهم:(آمنّا)إنّما ردّ عليهم متعلّق القول و هو الإيمان،و في ذلك ردّ على الكرّاميّة في قولهم:«إنّ الإيمان قول باللّسان و إن لم يعتقد بالقلب».

و(هم)في قوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ عائد على معنى (من)إذ أعاد أوّلا على اللّفظ فأفرد الضّمير في(يقول)ثمّ أعاد على المعنى فجمع،و هكذا جاء في القرآن أنّه إذا اجتمع اللّفظ و المعنى بدئ باللّفظ ثمّ أتبع بالحمل على المعنى،قال تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا التّوبة:49، وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ التّوبة:75، وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً الأحزاب:31.

ص: 598

و ذكر شيخنا الإمام علم الدّين أبو محمّد عبد الكريم ابن عليّ بن عمر الأنصاريّ الأندلسيّ الأصل،المصريّ المولد و المنشأ،المعروف بابن بنت العراقيّ رحمه اللّه تعالى:

أنّه جاء موضع واحد في القرآن بدئ فيه بالحمل على المعنى أوّلا ثمّ أتبع بالحمل على اللّفظ،و هو قوله تعالى:

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الأنعام:139،و سيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء اللّه تعالى.(1:55)

رشيد رضا :قد يقال:كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر،كمنافقي اليهود،فلم كذّبهم و نفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا،مؤكّدا بدخول الباء في خبر (ما)فقال: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصّادقين البتّة،و هو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق للفظهم،و المقيّد بالإيمان باللّه و باليوم الآخر؟

و الجواب:أنّ اعتقادهم التّقليديّ الضّعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم و لا في أعمالهم.فلو حصّل ما في صدورهم و محّص ما في قلوبهم،و عرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم،لوجد أنّ ما كان لهم من عمل صالح كصلاة و صدقة فإنّما مبعثه رئاء النّاس،و حبّ السّمعة، و هم من وراء ذلك منغمسون في النّشور،كالإفساد و الكذب و الغشّ و الخيانة و الطّمع،و غير ذلك من الرّذائل الّتي حكاها عنهم الكتاب،و نقلها رواة السّنّة.

و هذه الأعمال تدلّ على أنّهم لا يؤمنون باللّه كما يحبّ و يرضى أن يؤمن به،و هو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه،و يعلم أنّ اللّه سبحانه مطّلع على سرّه و إعلانه، لأنّه مهيمن على السّرائر،و عالم بما في الضّمائر،فيرضيه بظاهره و باطنه،بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات،يظنّون أنّهم يرضون اللّه تعالى بذلك.

(1:149)

2- فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ الأعراف:72

الطّوسيّ: و قوله: وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ و إنّما أخبر بذلك عن حالهم مع أنّه معلوم منهم ذلك،لبيان أنّ هذه الصّفة لا تجوز أن تلحق المكذّب بآيات اللّه،الجاحد لها، و إنّ في نفيها عن المكلّف ذمّا له.(4:479)

الزّمخشريّ: فإن قلت:ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثبات التّكذيب بآيات اللّه؟

قلت:هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد و من نجامع هود عليه السّلام،كأنّه قال:و قطعنا دابر الّذين كذّبوا منهم و لم يكونوا مثل من آمن منهم،ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذّبين و نجّى اللّه المؤمنين.(2:88)

مثله النّسفيّ.(2:60)

الطّبرسيّ: و إنّما قال ذلك ليبيّن أنّه كان المعلوم من حالهم أنّه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا،كما قال في موضع آخر: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يونس:

13،و في هذه الآية دلالة على أنّ قوم هود استؤصلوا فلا عقب لهم.(2:438)

نحوه الفخر الرّازيّ(14:161)،و النّيسابوريّ (8:161).

ص: 599

أبو حيّان: جملة مؤكّدة لقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا و يحتمل أن يكون إخبارا من اللّه تعالى أنّهم ممّن علم اللّه تعالى أنّهم لو بقوا لم يؤمنوا،أي ما كانوا ممّن يقبل إيمانا البتّة.و لو علم اللّه تعالى أنّهم يؤمنون لأبقاهم؛و ذلك أنّ المكذّب بالآيات قد يؤمن بها بعد ذلك و يحسن حاله، فأمّا من ختم اللّه عليه بالكفر فلا يؤمن أبدا.[ثمّ ذكر مثل الزّمخشريّ](4:326)

الآلوسيّ: عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم الصّلة،أي أصرّوا على الكفر و التّكذيب،و لم يرعووا عن ذلك أصلا.و فائدة هذا النّفي عند الزّمخشريّ التّعريض بمن آمن منهم،و بيانه-على ما قال الطّيّبيّ-أنّه إذا سمع المؤمن أنّ الهلاك اختصّ بالمكذّبين و علم أنّ سبب النّجاة هو الإيمان،تزيد رغبته فيه و يعظم قدره عنده،و نظيره في اعتبار شرف الإيمان: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ المؤمن:7.

و قال بعضهم:فائدة ذلك بيان أنّه كان المعلوم من حالهم أنّه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا،كما قال جلّ شأنه في آية أخرى: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يونس:

13،فهو كالعذر عن عدم إمهالهم و الصّبر عليهم.

(8:159)

المؤمنين

1- قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. البقرة:97

الفخر الرّازيّ: فإن قيل:و لم خصّ كونه هدى و بشرى بالمؤمنين مع أنّه كذلك بالنّسبة إلى الكلّ؟

الجواب من وجهين:

الأوّل:أنّه تعالى خصّهم بذلك لأنّهم هم الّذين اهتدوا بالكتاب،فهو كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2.

و الثّاني:أنّه لا يكون بشرى إلاّ للمؤمنين،و ذلك لأنّ البشرى عبارة عن الخبر الدّالّ على حصول الخير العظيم،و هذا لا يحصل إلاّ في حقّ المؤمنين،فلهذا خصّهم اللّه به.(3:197)

أبو حيّان: خصّ الهدى و البشرى بالمؤمنين،لأنّ غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به و لا بشرى،كما قال:

وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى فصّلت:44،و لأنّ المؤمنين هم المبشّرون فَبَشِّرْ عِبادِ... الزّمر:17، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ التّوبة:21.(1:321)

2- لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ... آل عمران:164

الطّوسيّ: و في تخصيص المؤمن بذكر هذه النّعمة و إن كانت نعمة على جميع المكلّفين،قيل فيه:من حيث أنّها على المؤمنين أعظم منها على الكافرين،لأنّها نعمة عليهم من حيث هي نفع في نفسها،و فيما يؤدّي إليه من الإيمان بها،و العمل بما توجبه أحكامها.فالمؤمن يستحقّ إضافتها إليه من وجهين،لما بيّنّاه من حالها.و نظائر ذلك قد بيّنّاه،مثل قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2،و غير ذلك؛و إنّما أضافه إلى المتّقين من حيث إنّهم المنتفعون بها

ص: 600

دون غيرهم.(3:39)

مثله الطّبرسيّ.(1:532)

البغويّ: قيل أراد به العرب،لأنّه ليس حيّ من أحياء العرب إلاّ و له فيهم من نسب إلاّ بني تغلب،دليله قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ الجمعة:2.

و قال الآخرون:أراد به جميع المؤمنين.(1:371)

مثله الميبديّ(2:337)،و نحوه القرطبيّ(4:263).

الزّمخشريّ: على من آمن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من قومه،و خصّ المؤمنين منهم لأنّهم هم المنتفعون بمبعثه.(1:476)

نحوه أبو حيّان.(3:103)،و البروسويّ(2:120).

الفخر الرّازيّ: إنّ بعثة الرّسول إحسان إلى كلّ العالمين؛و ذلك لأنّ وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلّصهم من عقاب اللّه و يوصلهم إلى ثواب اللّه.

و هذا عامّ في حقّ العالمين،لأنّه مبعوث إلى كلّ العالمين، كما قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ سبأ:28، إلاّ أنّه لمّا لم ينتفع بهذا الإنعام إلاّ أهل الإسلام،فلهذا التّأويل خصّ تعالى هذه المنّة بالمؤمنين،و نظيره قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2،مع أنّه هدى للكلّ، كما قال: هُدىً لِلنّاسِ آل عمران:4،و قوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها النّازعات:45.(9:78)

الآلوسي: أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الإنس،و خير الثّلاثة الوسط،و إليه ذهبت عائشة.فقد أخرج البيهقيّ و غيره عنها،أنّها قالت:هذه للعرب خاصّة،و الأوّل خير من الثّالث،و أيّا ما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوريّ:المؤمنون من هؤلاء في علم اللّه تعالى،أو الّذين آل أمرهم إلى الإيمان.(4:112)

الطّباطبائيّ: في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة،و قد مرّ الوجه العامّ في هذه الموارد من الالتفات،و الوجه الخاصّ بما هاهنا أنّ الآية مسوقة سوق الامتنان و المنّ على المؤمنين لصفة إيمانهم،و لذا قيل:على المؤمنين.و لا يفيده غير الوصف حتّى لو قيل:الّذين آمنوا،لأنّ المشعر بالعلّيّة-على ما قيل-هو الوصف،أو أنّه الكامل في هذا الإشعار، و المعنى ظاهر.(4:57)

3- ...فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. الأعراف:143

ابن عبّاس: أنا أوّل من يؤمن أنّه لا يراك شيء من خلقك.

مثله أبو العالية.(الطّبريّ 9:55) أبو العالية :بأنّك لا ترى في الدّنيا.

(ابن عطيّة 2:452)

مثله البيضاويّ.(1:368)

مجاهد :أنا أوّل قومي إيمانا.(الطّبريّ 9:56)

مثله الجبّائيّ.(الطّبرسيّ 2:476)

أوّل المؤمنين بك من بني إسرائيل.

مثله السّدّيّ.(الطّبرسيّ 2:476)

الإمام الصّادق عليه السّلام: أنا أوّل من آمن و صدّق بأنّك لا ترى.(الطّبرسيّ 2:476)

الجبّائيّ: أنا أوّل المؤمنين من قومي باستعظام

ص: 601

سؤال الرّؤية.(الطّبرسيّ 2:476)

الطّبريّ: و أنا أوّل المؤمنين بك من قومي،ألاّ يراك في الدّنيا أحد إلاّ هلك.

و قال آخرون:معناه قوله: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بك من بني إسرائيل.

و إنّما اخترنا القول الّذي اخترناه في قوله: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ على قول من قال:معناه أنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل،لأنّه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون و أنبياء،منهم ولد إسرائيل لصلبه، و كانوا مؤمنين و أنبياء،فلذلك اخترنا القول الّذي قلناه قبل.(9:55،56)

الزّمخشريّ: بأنّك لست بمرئيّ و لا مدرك بشيء من الحواسّ.[إلى أن قال:]

أنا أوّل المؤمنين بعظمتك و جلالك،و إنّ شيئا لا يقوم لبطشك و بأسك.(2:115،116)

الفخر الرّازيّ: بأنّك لا ترى في الدّنيا،أو يقال:

وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنّه لا يجوز السّؤال منك إلاّ بإذنك.(14:235)

الرّازيّ: فإن قيل:لم قال موسى عليه الصّلاة و السّلام: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ و قد كان قبله كثير من المؤمنين،و هم الأنبياء و من آمن بهم؟

قلنا:معناه و أنا أوّل المؤمنين بأنّك يا اللّه لا ترى بالحاسّة الفانية من الجسد الفاني في دار الفناء.

و قيل:معناه و أنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل في زماني.

و قيل:أراد بالأوّل الأقوى و الأكمل في الإيمان،يعني لم يكن طلبي للرّؤية لشكّ عندي في وجودك أو لضعف في إيماني،بل لطلب مزيد الكرامة.(99)

الطّباطبائيّ: أي أوّل المؤمنين من قومي بأنّك لا ترى.هذا ما يدلّ عليه المقام،و إن كان من المحتمل أن يكون المراد و أنا أوّل المؤمنين من بين قومي بما آتيتني و هديتني إليه،آمنت بك قبل أن يؤمنوا،فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور،لكنّه معنى بعيد.

(8:243)

4- هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. النّمل:2

الفخر الرّازيّ: اختلفوا في وجه تخصيص الهدى بالمؤمنين،على وجهين:

الأوّل:المراد أنّه يهديهم إلى الجنّة و بشرى لهم، كقوله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً النّساء:175،فلهذا اختصّ به المؤمنون.

الثّاني:المراد ب«الهدى»الدّلالة،ثمّ ذكروا في تخصيصه بالمؤمنين وجوها:

أحدها:أنّه إنّما خصّه بالمؤمنين لأنّه ذكر مع الهدى البشرى،و البشرى إنّما تكون للمؤمنين.

و ثانيها:أنّ وجه الاختصاص أنّهم تمسّكوا به فخصّهم بالذّكر،كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها النّازعات:45.

و ثالثها:المراد من كونها«هدى للمؤمنين»أنّها زائدة في هداهم،قال تعالى: وَ يَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً مريم:76.(24:177)

ص: 602

الآلوسيّ: يحتمل أن يكون قيدا للهدى و البشرى معا.و معنى هداية الآيات لهم و هم مهتدون أنّها تزيدهم هدى،قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً التّوبة:124،و أمّا معنى تبشيرها إيّاهم فظاهر،لأنّها تبشّرهم برحمة من اللّه تعالى و رضوان و جنّات لهم فيها نعيم مقيم،كذا قيل.

و في«الحواشي الشّهابيّة»أنّ«الهدى»على هذا الاحتمال،إمّا بمعنى الاهتداء أو على ظاهره،و تخصيص المؤمنين لأنّهم المنتفعون به و إن كانت هدايتها عامّة و جعل المؤمنين بمعنى الصّائرين للإيمان تكلّف،كحمل هداهم على زيادته.

و يحتمل أن يكون قيدا للبشرى فقط،و يبقى الهدى على العموم و هو بمعنى الدّلالة و الإرشاد،أي هدى لجميع المكلّفين،و بشرى للمؤمنين.(19:156)

5- خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. العنكبوت:44

الفخر الرّازيّ: أنّ اللّه تعالى كيف خصّ الآية في خلق السّماوات و الأرض بالمؤمنين مع أنّ في خلقهما آية لكلّ عاقل،كما قال اللّه تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ لقمان:25،و قال اللّه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ -إلى قوله - لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة:164؟

فنقول:خلق السّماوات و الأرض آية لكلّ عاقل، و خلقهما بالحقّ آية للمؤمنين فحسب.و بيانه من حيث النّقل و العقل.

أمّا النّقل فقوله تعالى: ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ الدّخان:39،أخرج أكثر النّاس عن العلم بكون خلقهما بالحقّ مع أنّه أثبت علم الكلّ بأنّه خلقهما؛حيث قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ لقمان:25.

و أمّا العقل فهو أنّ العاقل أوّل ما ينظر إلى خلق السّماوات و الأرض و يعلم أنّ لهما خالقا و هو اللّه،ثمّ من يهديه اللّه لا يقطع النّظر عنهما عند مجرّد ذلك،بل يقول:

إنّه خلقهما متقنا محكما،و هو المراد بقوله:بالحقّ،لأنّ ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد و يبطل فيكون باطلا.و إذا علم أنّه خلقهما متقنا يقول:إنّه قادر كامل حيث خلق،و عالم علمه شامل حيث أتقن،فيقول:

لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض و لا في السّماوات،و لا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات و المبدعات،فيجوز بعث من في القبور و بعثة الرّسول، و يعلم وحدانيّة اللّه،لأنّه لو كان أكثر من واحد لفسدتا و لبطلتا،و هما بالحقّ موجودان؛فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه.(25:70)

النّيسابوريّ: و إنّما قال هاهنا: لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مع قوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لقمان:25،و قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ - إلى قوله - لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة:164،لأنّ المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب،و لكنّه يرتقي منه إلى نعوت الكمال و الجلال، فيعرف أنّه خلقهما متقنا محكما،و هو المراد بقوله:

(بالحقّ).و الخلق المتقن المحكم لا يصدر إلاّ عن العالم

ص: 603

بالكلّيّات و الجزئيّات و إلاّ عن الواجب الواحد الذّات و الصّفات،كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا الأنبياء:22،ثمّ يرتقي من مجموع هذه المقدّمات إلى صحّة الرّسالة و حقيقة المعاد،فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه.

(21:7)

البروسويّ: تخصيص المؤمنين بالذّكر مع عموم الهداية و الإرشاد في خلقهما للكلّ،لأنّهم المنتفعون بذلك.

(6:472)

مثله الآلوسيّ.(20:163)

6- هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.

الأحزاب:43

الطّبرسيّ: خصّ المؤمنين بالرّحمة دون غيرهم، لأنّه سبحانه جعل الإيمان بمنزلة العلّة في إيجاب الرّحمة، و النّعمة العظيمة الّتي هي الثّواب.(4:363)

الآلوسيّ:اعتراض مقرّر لمضمون ما قبله،أي كان سبحانه بكافّة المؤمنين الّذين أنتم من زمرتهم كامل الرّحمة،و لذا يفعل بكم ما يفعل بالذّات و بالواسطة،أو كان بكم رحيما،على أنّ المؤمنين مظهر،وضع موضع المضمر مدحا لهم و إشعارا بعلّة الرّحمة.(22:44)

الطّباطبائيّ: وضع الظّاهر موضع المضمر،أعني قوله:(بالمؤمنين)،و لم يقل:و كان بكم رحيما،ليدلّ به على سبب الرّحمة،و هو وصف الإيمان.(16:329)

7- إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. الصّافّات:81

الميبديّ: خصّ الإيمان بالذّكر،و النّبوّة أشرف منه بيانا،لشرف المؤمنين لا لشرف نوح،كما تقول:إنّ محمّدا عليه السّلام من بني هاشم.

و قيل:فيه بيان أنّه إنّما استحقّ ذلك بإيمانه،فضيلة للإيمان و ترغيبا فيه.(8:278)

الزّمخشريّ: علّل كونه محسنا بأنّه كان عبدا مؤمنا ليريك جلالة محلّ الإيمان،و أنّه القصارى من صفات المدح و التّعظيم،و يرغّبك في تحصيله و الازدياد منه.

(3:343)

نحوه الفخر الرّازيّ(26:145)،و المراغيّ(23:

68).

البيضاويّ: تعليل لإحسانه بالإيمان إظهارا لجلالة قدره و أصالة أمره.(2:295)

نحوه البروسويّ.(7:468)

الآلوسيّ: تعليل لكونه عليه السّلام محسنا،المفهوم من الكلام بخلوص عبوديّته و كمال إيمانه.و فيه من الدّلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى،و إلاّ فمنصب الرّسالة منصب عظيم،و الرّسول لا ينفكّ عن الخلوص بالعبوديّة و كمال الإيمان،فالمقصود بالصّفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها.(23:99)

الطّباطبائيّ: تعليل لإحسانه المدلول عليه بالجملة السّابقة؛و ذلك لأنّه عليه السّلام-لكونه عبدا للّه بحقيقة معنى الكلمة-كان لا يريد و لا يفعل إلاّ ما يريده اللّه، و لكونه من المؤمنين حقّا كان لا يرى من الاعتقاد إلاّ الحقّ،و سرى ذلك إلى جميع أركان وجوده.و من كان

ص: 604

كذلك لا يصدر منه إلاّ الحسن الجميل،فكان من المحسنين.(17:147)

المؤمنات

1- لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها... الفتح:5

الفخر الرّازيّ:قال هاهنا و في بعض المواضع:

اَلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و في بعض المواضع اكتفى بذكر(المؤمنين)و دخلت(المؤمنات)فيهم،كما في قوله تعالى: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ البقرة:223،و قوله تعالى:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ المؤمنون:1،فما الحكمة فيه؟

نقول:في المواضع الّتي فيها ما يوهم اختصاص (المؤمنين)بالجزاء الموعود به مع كون(المؤمنات) يشتركن معهم،ذكرهنّ اللّه صريحا،و في المواضع الّتي ليس فيها ما يوهم ذلك،اكتفى بدخولهم في(المؤمنين) فقوله: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مع أنّه علم من قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً سبأ:28،العموم لا يوهم خروج(المؤمنات)عن البشارة.

و أمّا هاهنا فلمّا كان قوله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ لفعل سابق و هو إمّا الأمر بالقتال أو الصّبر فيه أو النّصرة للمؤمنين أو الفتح بأيديهم على ما كان يتوهّم،لأنّ إدخال المؤمنين كان للقتال،و المرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنّة الموعود بها،صرّح اللّه بذكرهنّ.

و كذلك في المنافقات و المشركات،و المنافقة و المشركة لم تقاتل فلا تعذّب فصرّح اللّه تعالى بذكرهنّ، و كذلك في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الأحزاب:35،لأنّ الموضع موضع ذكر النّساء و أحوالهنّ لقوله:(و لا تبرّجن) (و اقمن)(و اتين)(و اطعن)الأحزاب:33،و قوله:

وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ الأحزاب:34،فكان ذكرهنّ هناك أصلا،لكنّ الرّجال لمّا كان لهم ما للنّساء من الأجر العظيم ذكرهم و ذكرهنّ بلفظ مفرد من غير تبعيّة،لما بيّنّا أنّ الأصل ذكرهنّ في ذلك الموضع.

(28:32)

نحوه النّيسابوريّ.(26:42)،و الآلوسيّ(26:94).

2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ...

الممتحنة:10

عبد الجبّار: ربّما قيل في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ، كيف وصفهنّ بالمؤمنات قبل الهجرة و قبل القبول من الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنّه قال: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ؟

و جوابنا:أنّ المراد بذلك المظهرات للإيمان الرّاغبات في ذلك.فلا تناقض في هذا الكلام،لأنّهنّ يظهرنه و يرغبن فيه،ثمّ يدعين و يختبرن فتعرف حالهنّ.(422)

الزّمخشريّ: سمّاهنّ«مؤمنات»لتصديقهنّ بألسنتهنّ و نطقهنّ بكلمة الشّهادة،و لم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك،أو لأنّهنّ مشارفات لثبات إيمانهنّ بالامتحان.(4:92)

مثله الفخر الرّازيّ(29:305)،و أبو حيّان

ص: 605

(8:256)،و نحوه الطّبرسيّ(5:274)،و الطّباطبائيّ (19:240).

زيادة الإيمان

1- اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ. آل عمران:173

الفخر الرّازيّ: المراد بالزّيادة في الإيمان أنّهم لمّا سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا إليه،بل حدث في قلوبهم عزم متأكّد على محاربة الكفّار،و على طاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في كلّ ما يأمر به و ينهى عنه،ثقل ذلك أو خفّ،لأنّه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة و كانوا محتاجين إلى المداواة،و حدث في قلوبهم وثوق بأنّ اللّه ينصرهم على أعدائهم و يؤيّدهم في هذه المحاربة،فهذا هو المراد من قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً.

و الّذين يقولون:إنّ الإيمان عبارة لا عن التّصديق بل عن الطّاعات،و إنّه يقبل الزّيادة و النّقصان احتجّوا بهذه الآية،فإنّه تعالى نصّ على وقوع الزّيادة،و الّذين لا يقولون بهذا القول قالوا:الزّيادة إنّما وقعت في مراتب الإيمان و في شعائره،فصحّ القول بوقوع الزّيادة في الإيمان مجازا.(9:100)

نحوه البيضاويّ(1:193)،و النّيسابوريّ(4:

128).

القرطبيّ: أي فزادهم قول النّاس إيمانا،أي تصديقا و يقينا في دينهم،و إقامة على نصرتهم،و قوّة و جراءة و استعدادا؛فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال.

و قد اختلف العلماء في زيادة«الإيمان»و نقصانه على أقوال.و العقيدة في هذا على أنّ نفس«الإيمان»الّذي هو تاج واحد،و تصديق واحد بشيء ما،إنّما هو معنى فرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل،و لا يبقى منه شيء إذا زال.

فلم يبق إلاّ أن تكون الزّيادة و النّقصان في متعلّقاته دون ذاته.

فذهب جمع من العلماء إلى أنّه يزيد و ينقص من حيث الأعمال الصّادرة عنه،لا سيّما أنّ كثيرا من العلماء يوقعون اسم«الإيمان»على الطّاعات،لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«الإيمان بضع و سبعون بابا فأعلاها قول لا إله إلاّ اللّه و أدناها إماطة الأذى عن الطّريق»أخرجه التّرمذيّ،و زاد مسلم:«و الحياء شعبة من الإيمان».و في حديث عليّ رضي اللّه عنه:«إنّ الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللّمظة».

و قوله:«لمظة»قال الأصمعيّ:اللّمظة مثل النّكتة و نحوها من البياض،و منه قيل:فرس ألمظ،إذا كان بجحفلته شيء من بياض.و المحدّثون يقولون:«لمظة» بالفتح،و أمّا كلام العرب فبالضّمّ،مثل شبهة و دهمة و خمرة.

و فيه حجّة على من أنكر أن يكون«الإيمان»يزيد و ينقص.أ لا تراه يقول:كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللّمظة حتّى يبيضّ القلب كلّه.و كذلك النّفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلّما ازداد النّفاق اسودّ القلب حتّى يسودّ القلب كلّه.

و منهم من قال:إنّ«الإيمان»عرض،و هو لا يثبت

ص: 606

زمانين،فهو للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و للصّلحاء متعاقب،فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن،و باعتبار دوام حضوره، و ينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن،أشار إلى هذا أبو المعالي.[ثمّ ذكر حديث الشّفاعة عن أبي سعيد الخدريّ إلى أن قال:]

و ذهب قوم من العلماء إلى زيادة الإيمان و نقصه إنّما هو من طريق الأدلّة،فتزيد الأدلّة عند واحد فيقال،في ذلك:إنّها زيادة في الإيمان.و بهذا المعنى-على أحد الأقوال-فضّل الأنبياء على الخلق،فإنّهم علموه من وجوه كثيرة،أكثر من الوجوه الّتي علمه الخلق بها.و هذا القول خارج عن مقتضى الآية؛إذ لا يتصوّر أن تكون الزّيادة فيها من جهة الأدلّة.

و ذهب قوم:إلى أنّ الزّيادة في الإيمان إنّما هي بنزول الفرائض و الأخبار في مدّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و في المعرفة بها بعد الجهل غابر الدّهر،و هذا إنّما هو زيادة إيمان.فالقول فيه:

إنّ الإيمان يزيد،قول مجازيّ،و لا يتصوّر فيه النّقص على هذا الحدّ،و إنّما يتصوّر بالإضافة إلى من علم.(4:28)

الخازن :يعني فزاد المسلمين ذلك التّخويف تصديقا و يقينا و قوّة في دينهم،و ثبوتا على نصر نبيّهم صلّى اللّه عليه و سلّم.و في هذه الآية دليل لمن يقول بزيادة الإيمان و نقصانه،لأنّ اللّه تعالى نصّ على وقوع الزّيادة في الإيمان.(1:380)

نحوه أبو السّعود.(1:293)

أبو حيّان:و ظاهر اللّفظ أنّ«الإيمان»يزيد،و معناه هنا أنّ ذلك القوم زادهم تثبيتا و استعدادا،فزيادة «الإيمان»على هذا هي في الأعمال.و قد اختلف العلماء في ذلك:

فقال قوم:يزيد و ينقص باعتبار الطّاعات،لأنّها من ثمرات الإيمان،و ينقص بالمعصية.و هو مذهب مالك، و نسب للشّافعيّ.

و قال قوم:من جهة أعمال القلوب كالنّيّة و الإخلاص و الخوف و النّصيحة.

و قال قوم:من طريق الأدلّة و كثرتها و تظافرها على معتقد واحد.

و قال قوم:من طريق نزول الفرائض و الأخبار في مدّة الرّسول.

و قال قوم:لا يقبل الزّيادة و النّقص.و هو مذهب أبي حنيفة،و حكاه الباقلانيّ عن الشّافعيّ.

و قال أبو المعالي في«الإرشاد»:زيادته من حيث ثبوته و تعاوره دائما،لأنّه عرض لا يثبت زمانين،فهو للصّالح متعاقب متوال،و للفاسق و الغافل غير متوال.

فهذا معنى الزّيادة و النّقص.

و ذهب قوم إلى ما نطق به النّصّ،و هو أنّه يزيد و لا ينقص.و هو مذهب المعتزلة،و روي شبهه عن ابن المبارك.

و الّذي يظهر أنّ«الإيمان»إذا أريد به التّصديق فيعلّق بشيء واحد أنّه تستحيل فيه الزّيادة و النّقص.

فإنّما ذلك بحسب متعلّقاته دون ذاته،و حجج هذه الأقوال مذكورة في المصنّفات الّتي تضمّنت هذه المسألة، و قد أفردها بعض العلماء بالتّصنيف في كتاب.

و لمّا تقدّم من المثبّطين إخبار بأنّ قريشا قد جمعوا لكم و أمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الّذي جمعوه،

ص: 607

ترتّب على هذا القول شيئان:أحدهما:قلبيّ و هو زيادة الإيمان،و هو مقابل للأمر بالخشية،فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية.و أخبر بعد بما يقابل جمع النّاس،و هو أنّ كافيهم شرّ النّاس هو اللّه تعالى،ثمّ أثنوا عليه تعالى بقوله: وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فدلّ على أنّ قولهم: حَسْبُنَا اللّهُ هو من المبالغة في التّوكّل عليه، و ربط أمورهم به تعالى.

فانظر إلى براعة هذا الكلام و بلاغته؛حيث قوبل قول بقول و متعلّق قلب بمتعلّق قلب.(3:118)

الآلوسيّ:و المراد أنّهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم باللّه تعالى،و ازدادوا طمأنينة،و أظهروا حميّة الإسلام.

و استدلّ بذلك من قال:إنّ«الإيمان»يتفاوت زيادة و نقصانا.و هذا ظاهر إن جعلت الطّاعة من جملة الإيمان، و أمّا إن جعل الإيمان نفس التّصديق و الاعتقاد فقد قالوا في ذلك:إنّ اليقين ممّا يزداد بالإلف و كثرة التّأمّل و تناصر الحجج بلا ريب،و يعضد ذلك أخبار كثيرة.و من جعل«الإيمان»نفس التّصديق و أنكر أن يكون قابلا للزّيادة و النّقصان يؤوّل ما ورد في ذلك باعتبار المتعلّق.

و منهم من يقول:إنّ زيادته مجاز عن زيادة ثمرته و ظهور آثاره و إشراق نوره و ضيائه في القلب،و نقصانه على عكس ذلك،و كأنّ الزّيادة هنا مجاز عن ظهور الحميّة و عدم المبالاة بما يثبّطهم.

و أنت تعلم أنّ التّأويل الأوّل هنا خفيّ جدّا، لأنّه يتجدّد للقوم بحسب الظّاهر عند ذلك القول شيء، يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم،مثلا ليقال:إنّ زيادة إيمانهم باعتبار ذلك المتعلّق،و كذا التزام التّأويل الثّاني في الآيات و الآثار الّتي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر،بعيد غاية البعد.

فالأولى القول بقبول الإيمان الزّيادة و النّقصان من غير تأويل،و إن قلنا:إنّه نفس التّصديق،و كونه إذا نقص يكون ظنّا أو شكّا،و يخرج عن كونه إيمانا و تصديقا،ممّا لا ظنّ و لا شكّ في أنّه على إطلاقه ممنوع.

نعم قد يكون التّصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقا؛و ذاك ممّا لا نزاع لأحد في أنّه لا يقبل النّقصان مع بقاء كونه تصديقا،و إلى هذا أشار بعض المحقّقين.(4:126)

رشيد رضا : فَزادَهُمْ إِيماناً أي فزادهم قول النّاس لهم إيمانا باللّه و ثقة به،من حيث خشوه و لم يخشوا النّاس الّذين خوّفوا منهم،بأنّهم جمعوا لهم الجموع و اعتمدوا على نصره و معونته،و إن قلّ عددهم و ضعف جلدهم فإنّه هو العزيز القويّ،و ذلك من شأن المؤمنين، كما جاء في الآية الثّانية من الآيتين التّاليتين.

و كان من قوّة إيمانهم و زيادته أن أقدموا و هم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح على محاربة الجيش الكبير.

فالزّيادة كانت في الإذعان النّفسيّ،و الشّعور القلبيّ، و تبعتها الزّيادة في العمل،بعد ذلك القول الدّال على ما انطوت عليه النّفس من اليقين بوعد اللّه و وعيده، و الشّعور بعزّته و سلطانه.

و لو لا ذلك لم يكن لهم حول و لا قوّة على تلك الاستجابة،و الإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان،فمن يقول:إنّ الإيمان النّفسيّ لا يزيد و لا ينقص،

ص: 608

فقد نظر إلى الاصطلاحات اللّفظيّة لا إلى نفسه في إدراكها و شعورها و قوّتها في الإذعان و ضعفها.

قالوا:إنّ التّصديق لا يعتدّ به و يكون إيمانا صحيحا إلاّ إذا وصل إلى درجة اليقين،فإذا نزل عن مرتبة اليقين كان ظنّا أو شكّا،و ليس الظّنّ إيمانا يعتدّ به و الشّكّ كفر صريح.

و نقول:إنّ الظّنّ الّذي لا يغني من الحقّ شيئا و لا يعدّ إيمانا صحيحا هو ما لوحظ فيه جواز وقوع الطّرف المخالف،أي ما لوحظ فيه طرفان متقابلان،أحدهما:أنّ هذا الأمر ثابت،و ثانيهما:أنّه يحتمل احتمالا ضعيفا أن لا يكون ثابتا.فإن جزم الذّهن بأنّه ثابت فلم يتصوّر طرف المخالف و هو عدم الثّبوت كان جزمه هذا إيمانا،و إن لم يكن ناشئا عن برهان مؤلّف من المقدّمات اليقينيّة في عرف علماء المنطق على طريقتهم أو غير طريقتهم، و لا ملاحظا فيه استحالة الطّرف المخالف.و أكثر المؤمنين باللّه و رسله و المؤمنين بالجبت و الطّاغوت في هذه المرتبة من الإيمان،و يصحّ أن يطلق على أهلها لفظ«الموقنين».

و لو كان الإيمان لا يصحّ إلاّ ببرهان منطقيّ على أثبت قضاياه و استحالة ضدّها لما تصوّر أن يرتدّ أحد عن الإسلام بعد دخوله فيه،لأنّ اليقين بهذا المعنى لا يمكن الرّجوع عنه و إن أمكن مكابرته و مجاحدته باللّسان، و لذلك قال الأستاذ الإمام:«الرّجوع عن الحقّ بعد اليقين فيه كاليقين في العلم كلاهما قليل في النّاس»يعني بذلك اليقين المنطقيّ الّذي تنتهي مقدّماته إلى البديهيّات.

و لكنّ الرّدّة ثابتة نقلا و وقوعا.قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ النّحل:106،و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً النّساء:137.

هذا و إنّ لليقين مراتب و درجات يعلو بعضها بعضا، و حصرها بعضهم في ثلاث:علم اليقين،و حقّ اليقين، و عين اليقين.فالارتقاء من درجة إلى أخرى زيادة في نفس اليقين.و يروى عن أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه أنّه قال:«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»و هذا القول مبنيّ على أنّ اليقين يقبل الزّيادة في نفسه.و من أيقن بأنّ فلانا طبيب ماهر-لأنّه رآه نجح في معالجة بعض المرضى-يضعف يقينه إذا رآه خاب في معالجة آخرين،و يزداد إذا رآه ينجح آونة بعد أخرى،و لا سيّما في معالجة الأمراض الباطنيّة الّتي يعسر تشخيصها.

ثمّ إنّ فائدة الإيمان إنّما تكون بإذعان النّفس الّذي يحرّك فيها الخوف و الرّجاء و غيرهما من وجدانات الدّين،الّتي يترتّب عليها ترك المنكر المنهيّ عنه و فعل المعروف المأمور به،و لو لا ذلك لم يكن للدّين فائدة في إصلاح حال البشر.

و هل يقول عاقل:إنّ الإذعان و الخوف و الرّجاء من الامور الّتي لا تقبل الزّيادة و النّقصان؟أمّا أنّه لو كان إذعان جميع المؤمنين في درجة واحدة لتساووا في الأعمال،و لكنّهم متفاوتون فيها تفاوتا عظيما،كما هو ثابت بالمشاهدة،فثبت أنّهم متفاوتون في منشئها من النّفس و هو الإذعان،الّذي يقوى و يضعف بالتّبع للإيمان،و هذا عين قبول الزّيادة و النّقصان.

و من هنا تفهم معنى إدخال السّلف الصّالح الأعمال في مفهوم الإيمان،فإنّ كلّ اعتقاد له أثر في النّفس يتبعه

ص: 609

عمل من الأعمال،فهي سلسلة مؤلّفة من ثلاث حلقات يحرّك بعضها بعضا.و الإمام الغزاليّ يعبّر عنها بالعلم و الحال و العمل،فيقول:

إنّ العلم بأن كذا يرضي اللّه تعالى أو كذا يسخطه مثلا يحدث في النّفس حالا يترتّب عليها فعل ما يرضيه و يقتضي مثوبته،و ترك ما يسخطه و يقتضي عقوبته.

و يقول:إنّ ترتّب بعضها على بعض واجب.و عبارته:

«إنّ العلم يوجب الحال و الحال يوجب العمل»فارجع إليه في كتاب التّوبة و غيره من كتب المجلّد الرّابع من «الإحياء».

و أمّا زيادة الإيمان بزيادة متعلّقاته،و هي المسائل الّتي يؤمن بها المؤمن الّتي يعبّر عنها«بشعب الإيمان» فهي ظاهرة لا تحتاج في بيانها إلى شرح طويل.فإنّ هذه المسائل لا يمكن أن تتلقّى إلاّ بالتّدريج،فكلّما تلقّى المؤمن مسألة منها ازداد إيمانا.و ليس هذا خاصّا بالكافر الّذي يدخل في الإسلام،فإنّ النّاشئ بين المؤمنين مثله في ذلك.

و ليست المسائل الّتي تزيد الإنسان معرفتها إيمانا محصورة في النّصوص الّتي جاء بها الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم فإنّ القرآن هدانا إلى التّفكّر و النّظر في ملكوت السّماوات و الأرض،لنزداد إيمانا و نعتبر و نستفيد،و ذلك يفتح لنا أبوابا من العلم باللّه و سننه لا نهاية لها.

فكلّ ما نهتدي إليه في بحثنا و نظرنا من أسرار الكائنات،و سنن اللّه تعالى في المخلوقات فإنّا نزداد به علما باللّه و إيمانا بقدرته و حكمته البالغة،و قد قال سبحانه لأقوى النّاس إيمانا و أوسعهم علما به و بسننه: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً طه:114.

و كذلك آيات القرآن تزيد من يتلقّاها إيمانا كلّما تلقّى شيئا منها،و قد يتدبّرها المؤمن بعد العلم بها بأيّام أو سنين،فيفهم منها ما لم يكن يفهم فيزداد إيمانا.قال تعالى:

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ التّوبة:124،125،و قال عليّ رضي اللّه عنه:حين سئل هل خصّهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بشيء:لا، إلاّ أن يؤتى اللّه عبدا فهما في القرآن.

و ليس هذا النّوع من زيادة الإيمان هو المراد من الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها،و إنّما المراد به النّوع الأوّل و هو الزّيادة في أصل اليقين و الإذعان،المؤثّر في الوجدان،فهي من قبيل قوله تعالى: وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً الأحزاب:22.(4:240)

الطّباطبائيّ: و قوله: فَزادَهُمْ إِيماناً و ذلك لما في طبع الإنسان أنّه إذا نهي عمّا يريده و يعزم عليه، فإن يحسن الظّنّ بمن ينهاه كان ذلك إغراء فأوجب انتباه قواه،و اشتدّت بذلك عزيمته،و كلّما أصرّ عليه بالمنع أصرّ على المضيّ على ما يريده و يقصده.و هذا إذا كان الممنوع يرى نفسه محقّا معذورا في فعاله أشدّ تأثيرا من غيره، و لذا كان المؤمنون كلّما لامهم في أمر اللّه لائم أو منعهم مانع زادوا قوّة في إيمانهم و شدّة في عزمهم و بأسهم.

و يمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الأخبار ما عندهم من خبر الوحي أنّهم سيؤذون في

ص: 610

جنب اللّه حتّى يتمّ أمرهم بإذن اللّه و قد وعدهم النّصر، و لا يكون نصر إلاّ في نزال و قتال.(4:64)

2- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الأنفال:2

ابن عبّاس: زادتهم تصديقا مع تصديقهم بما أنزل اللّه إليهم قبل ذلك.(الطّبرسيّ 2:519)

مجاهد :عبّر بزيادة الإيمان عن زيادة العلم و أحكامه.(أبو حيّان 4:458)

الضّحّاك: إذا قرئ عليهم القرآن زادتهم آياته تبصرة و يقينا على يقين.(الطّبرسيّ 2:519)

الرّبيع: خشية.(الطّبريّ 9:179)

زادتهم حسنة.(الطّوسيّ 5:91)

الطّوسيّ: و استدلّ من قال:إنّ الإيمان يزيد و ينقص و إنّ أفعال الجوارح قد تكون إيمانا بهذه الآيات.

فقالوا:نفى اللّه أن يكون المؤمن إلاّ من إذا ذكر اللّه وجل قلبه،و إذا تليت عليه-أي قرئت-زادتهم الآية إيمانا،بمعنى أنّهم يزدادون عند تلاوتها إيمانا،و أنّهم على اللّه يتوكّلون في جميع أمورهم اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ الأنفال:3.بمعنى يأتون بها على ما بيّنها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله،و ينفقون ممّا رزقهم اللّه في أبواب البرّ، و إخراج الواجبات من الزّكاة و غيرها.

ثمّ وصفهم بأنّ هؤلاء الّذين وصفهم بهذه الأوصاف هم المؤمنون حقّا،يعني الّذين أخلصوا الإيمان،لا كمن كان له اسمه على الظّاهر،و إنّ لهم الدّرجات عند اللّه، و هي المنازل الّتي يتفاضل بها بعضهم على بعض،و إنّ لهم المغفرة و الرّزق الكريم،فدلّ على أنّ من ليس كذلك ليس له ذلك.

و من خالف في ذلك قال:هذه أوصاف أفاضل المؤمنين،و خيارهم،و ليس يمتنع أن يتفاضل المؤمنون في الطّاعات و إن لم يتفاضلوا في الإيمان،يبيّن ذلك أنّه قال في أوّل الآية: إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ و وجل القلب ليس بواجب بلا خلاف،و إنّما ذلك في المندوبات.

و قوله: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً...

لأنّه إذا صدّق بأيّة آية أنّها من عند اللّه،فلا شكّ أنّ معارفه تزداد و إن لم يزد بفعل الجوارح.(5:90)

نحوه الطّبرسيّ.(2:519)

الميبديّ: أي القرآن زادتهم تصديقا و يقينا و خشية،إذا تأمّلوا و تدبّروا معانيه.(4:5)

الزّمخشريّ: ازدادوا بها يقينا و طمأنينة نفس،لأنّ تظاهر الأدلّة أقوى للمدلول عليه و أثبت لقدمه،و قد حمل على زيادة العمل.

و عن أبي هريرة: الإيمان سبع و سبعون شعبة:أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و أدناها إماطة الأذى عن الطّريق.و الحياء شعبة من الإيمان.

و عن عمر بن عبد العزيز: إنّ للإيمان سننا و فرائض و شرائع،فمن استكملها استكمل الإيمان،و من لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.(2:142)

نحوه القاسميّ(8:2949)،و النّسفيّ(2:93).

الطّبرسيّ: و المعنى أنّهم يصدّقون بالأولى و الثّانية و الثّالثة،و كلّ ما يأتي من عند اللّه فيزداد تصديقهم.[ثمّ

ص: 611

ذكر مثل الطّوسيّ](2:519)

الفخر الرّازيّ: قوله تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً و هو كقوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً التّوبة:124، ثمّ فيه مسائل:

المسألة الأولى:زيادة الإيمان الّذي هو«التّصديق» على وجهين:

الوجه الأوّل:و هو الّذي عليه عامّة أهل العلم،على ما حكاه الواحديّ رحمه اللّه:أنّ كلّ من كانت الدّلائل عنده أكثر و أقوى كان أزيد إيمانا،لأنّ عند حصول كثرة الدّلائل و قوّتها يزول الشّكّ و يقوى اليقين.

و لقائل أن يقول:المراد من هذه الزّيادة إمّا قوّة الدّليل أو كثرة الدّلائل.

أمّا قوّة الدّليل فباطل،و ذلك لأنّ كلّ دليل فهو مركّب لا محالة من مقدّمات،و تلك المقدّمات إمّا أن يكون مجزوما بها جزما مانعا من النّقيض أو لا يكون، فإن كان الجزم المانع من النّقيض حاصلا في كلّ المقدّمات امتنع كون بعض الدّلائل أقوى من بعض على هذا التّفسير،لأنّ الجزم المانع من النّقيض لا يقبل التّفاوت، و أمّا إن كان الجزم المانع من النّقيض غير حاصل إمّا في الكلّ أو في البعض فذلك لا يكون دليلا بل أمارة، و النّتيجة الحاصلة منها لا تكون علما بل ظنّا،فثبت بما ذكرنا أنّ حصول التّفاوت في الدّلائل بسبب القوّة محال.

و أمّا حصول التّفاوت بسبب كثرة الدّلائل فالأمر كذلك،لأنّ الجزم الحاصل بسبب الدّليل الواحد،إن كان مانعا من النّقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدّلائل الكثيرة،و إن كان غير مانع من النّقيض لم يكن دليلا بل كان أمارة،و لم تكن النّتيجة معلومة بل مظنونة، فثبت أنّ هذا التّأويل ضعيف.

و اعلم أنّه يمكن أن يقال:المراد من هذه الزّيادة الدّوام و عدم الدّوام،و ذلك لأنّ بعض المستدلّين لا يكون مستحضرا للدّليل و المدلول إلاّ لحظة واحدة،و منهم من يكون مداوما لتلك الحالة.و بين هذين الطّرفين أوساط مختلفة،و مراتب متفاوتة،و هو المراد من الزّيادة.

و الوجه الثّاني:من زيادة«التّصديق»أنّهم يصدّقون بكلّ ما يتلى عليهم من عند اللّه.و لمّا كانت التّكاليف متوالية في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم متعاقبة،فعند حدوث كلّ تكليف كانوا يزيدون تصديقا و إقرارا.و من المعلوم أنّ من صدّق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدّقه في شيء واحد،و قوله: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً الأنفال:2،معناه أنّهم كلّما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد؛فكان ذلك زيادة في الإيمان و التّصديق.

و في الآية وجه ثالث:و هو أنّ كمال قدرة اللّه و حكمته،إنّما تعرف بواسطة آثار حكمة اللّه في مخلوقاته، و هذا بحر لا ساحل له.و كلّما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة اللّه في تخليق شيء آخر،انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر،فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها و أشرف و أكمل.و لمّا كانت هذه المراتب لا نهاية لها،لا جرم لا نهاية لمراتب التّجلّي و الكشف و المعرفة.

المسألة الثّانية:اختلفوا في أنّ«الإيمان»هل يقبل

ص: 612

الزّيادة و النّقصان أم لا؟

أمّا الّذين قالوا:الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد و الإقرار و العمل،فقد احتجّوا بهذه الآية من وجهين:

الأوّل:أنّ قوله زادَتْهُمْ إِيماناً يدلّ على أنّ الإيمان يقبل الزّيادة.و لو كان الإيمان عبارة عن المعرفة و الإقرار لما قبل الزّيادة.

و الثّاني:أنّه تعالى لمّا ذكر هذه الأمور الخمسة قال في الموصوفين بها: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الأنفال:

4،و ذلك يدلّ على أنّ كلّ تلك الخصال داخل في مسمّى الإيمان.و روي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:

«الإيمان بضع و سبعون شعب أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و أدناها إماطة الأذى عن الطّريق،و الحياء شعبة من الإيمان».و احتجّوا بهذه الآية على أنّ«الإيمان»عبارة عن مجموع الأركان الثّلاثة.قالوا:لأنّ الآية صريحة في أنّ«الإيمان»يقبل الزّيادة،و المعرفة و الإقرار لا يقبلان التّفاوت؛فوجب أن يكون«الإيمان»عبارة عن مجموع الإقرار و الاعتقاد و العمل،حتّى أنّ بسبب دخول التّفاوت فى العمل يظهر التّفاوت في الإيمان.و هذا الاستدلال ضعيف،لما بيّنّا أنّ التّفاوت بالدّوام و عدم الدّوام حاصل في الاعتقاد و الإقرار،و هذا القدر يكفي في حصول التّفاوت في الإيمان.

المسألة الثّالثة:قوله: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ظاهره مشعر بأنّ تلك الآيات هي المؤثّرة في حصول الزّيادة في الإيمان.و ليس الأمر كذلك، لأنّ نفس تلك الآيات لا توجب الزّيادة،بل إن كان و لا بدّ فالموجب هو سماع تلك الآيات،أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة و التّصديق،و اللّه أعلم.

(15:118)

نحوه النّيسابوريّ(9:120)،و الخازن(3:4).

الرّازيّ: فإن قيل:كيف يقال:إنّ«الإيمان»لا يقبل الزّيادة و النّقصان،و قد قال تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً؟

قلنا:المراد هنا آثار«الإيمان»من الطّمأنينة و اليقين و الخشية و نحو ذلك،لأنّ تظاهر الأدلّة على المدلول ممّا يزيده رسوخا في العقائد و ثبوتا.فأمّا حقيقة«الإيمان» فهو التّصديق و الإقرار بوحدانيّة اللّه تعالى،و كما أنّ الإلهيّة الوحدانيّة لا تقبل الزّيادة و النّقصان فكذا الإقرار بها.(104)

القرطبيّ: أي تصديقا،فإنّ إيمان هذه السّاعة زيادة على إيمان أمس،فمن صدّق ثانيا و ثالثا فهو زيادة تصديق بالنّسبة إلى ما تقدّم.

و قيل:هو زيادة انشراح الصّدر بكثرة الآيات و الأدلّة.(7:367)

أبو حيّان: و معنى زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا و تثبيتا،لأنّ تظاهر الأدلّة و تظافرها أقوى على الطّمأنينة المدلول عليه و أرسخ لقدمه.

و قيل:المعنى أنّه إذا كان لم يسمع حكما من أحكام القرآن منزل للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فآمن به زاد إيمانا إلى سائر ما قد آمن به؛إذ لكلّ حكم تصديق خاصّ،و لهذا قال مجاهد:

عبّر بزيادة الإيمان عن زيادة العلم و أحكامه.

و قيل:زيادة الإيمان كناية عن زيادة العمل.

و عن عمر بن عبد العزيز:أنّ للإيمان سننا و فرائض

ص: 613

و شرائع فمن استكملها استكمل الإيمان.

و قيل:هذا في الظّالم يوعظ،فيقال له:اتّق اللّه،فيقلع فيزيده ذلك إيمانا.(4:457)

البروسويّ: أي يقينا و طمأنينة نفس،فإنّ تظاهر الأدلّة و تعاضد الحجج و البراهين موجب لزيادة الاطمئنان و قوّة اليقين.

قال الفاضل التّفتازانيّ و تبعه المولى أبو السّعود في تفسيره:أنّ نفس التّصديق ممّا يقبل الزّيادة و النّقصان للفرق الظّاهر بين يقين الأنبياء و أرباب المكاشفات و بين يقين الأمّة،و لهذا قال أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه:

«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»،و كذا بين ما قام عليه دليل واحد من التّصديقات،و ما قامت عليه أدلّة كثيرة.

(3:313)

الآلوسيّ: أي تصديقا كما هو المتبادر،فإنّ تظاهر الأدلّة و تعاضد الحجج ممّا لا ريب في كونه موجبا لذلك.

و هذا أحد أدلّة من ذهب إلى أنّ«الإيمان»يقبل الزّيادة و النّقص،و هو مذهب الجمّ الغفير من الفقهاء و المحدّثين و المتكلّمين،و به أقول لكثرة الظّواهر الدّالّة على ذلك من الكتاب و السّنّة،من غير معارض لها عقلا،بل قد احتجّ بعضهم بالعقل أيضا؛و ذلك أنّه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمّة بل المنهمكين في الفسق و المعاصي مساويا لإيمان الأنبياء و الملائكة عليهم الصّلاة و السّلام،و اللاّزم باطل،فكذا الملزوم.

و قال محي الدّين النّوويّ في معرض بيان ذلك:إنّ كلّ أحد يعلم أنّ ما في قلبه يتفاضل حتّى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا و إخلاصا منه في بعضها،فكذلك التّصديق و المعرفة بحسب ظهور البراهين و كثرتها.

و أجابوا عمّا اعترض به عليه من أنّه متى قبل ذلك كان شكّا،و هو خروج عن حقيقته بأنّ مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين و حقّ اليقين و عين اليقين،مع أنّه لا شكّ معها.[و فيه مباحث أخرى فراجع]

(9:165)

رشيد رضا :أي إذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلّى اللّه عليه و سلّم زادته إيمانا،أي يقينا في الإذعان،و قوّة في الاطمئنان،و سعة في العرفان،و نشاطا في الأعمال.

و يطلق«الإيمان»في عرف الشّرع على مجموع العلم و الاعتقاد و العمل بموجبه،و على كلّ منهما.و القرائن تعيّن المراد،و فيما رواه البخاريّ و مسلم في«كتاب الإيمان»من صحيحهما،شواهد صريحة في ذلك،و من أهمّها أحاديث أقلّ الإيمان المنجي في الآخرة،و حديث:

«الإيمان بضعة و سبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أدناها إماطة الأذى عن الطّريق».و لهذا حمل بعض النّاس زيادة الإيمان على زيادة العمل اللاّزم له،و بعضهم على زيادة ما يتعلّق به الإيمان الّذي فسّروه بالتّصديق القطعيّ.و الحقّ أنّ الإيمان القلبيّ نفسه يزيد و ينقص أيضا،فإنّ إبراهيم عليه السّلام كان مؤمنا بإحياء اللّه للموتى لمّا دعاه أن يريه كيف يحييها قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي البقرة:260،فمقام الطّمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوّة و كمالا، و يروى عن عليّ المرتضى كرّم اللّه وجهه:«لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا»و هذا أقوى من الإيمان بالبرهان،و هو أقوى من إيمان التّقليد الّذي قال به

ص: 614

الأكثرون إذا وافق الحقّ و كان يقينا،و العلم التّفصيليّ في الإيمان أقوى و أكمل من العلم الإجماليّ.[إلى أن قال:]

و جملة القول أنّ زيادة الإيمان ثابتة بنصّ هذه الآية و آيات أخرى،كقوله تعالى في سورة آل عمران في وصف الّذين استجابوا للّه و الرّسول؛إذ دعاهم إلى القتال بعد ما أصابهم القرح في غزوة أحد: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً آل عمران:173،و في معناه قوله تعالى: وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً الأحزاب:22،و عطف التّسليم على الإيمان هنا يؤيّد كون المراد به إيمان القلب لا العمل،و في معناه قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الفتح:4،فهو في إيمان القلب كما هو المتبادر.

و أمّا آيتا أواخر التّوبة:124،125،و آية سورة المدّثّر:31،فممّا يحتمل أن تكون زيادة الإيمان فيها زيادة متعلّقة بما نزل من القرآن.على أنّ البخاريّ استدلّ بآيتي التّوبة و أمثالهما على زيادة الإيمان في القلوب، و عليه جمهور السّلف بل حكى الإجماع عليه الشّافعيّ و أحمد و أبو عبيد كما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.

فمن العجب بعد هذا أن تنقل هفوة لبعض العلماء أنكر فيها زيادة الإيمان بالمعنى المصدريّ لشبهة نظريّة، و يجعل مذهبا يقلّد صاحبه فيه تقليدا،و تؤوّل الآيات و الأحاديث لأجله تأويلا.(9:590)

نحوه المراغيّ.(9:164)

الطّباطبائي: و لا زال ينبسط الإيمان و يتعرّق و ينمو و يتفرّع بالسّير في الآيات الدّالّة عليه تعالى، و الهادية إلى المعارف الحقّة.فكلّما تأمّل المؤمن في شيء منها زادته إيمانا،فيقوى الإيمان و يشتدّ حتّى يستقرّ في مرحلة اليقين،و هو قوله تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً.

و إذا زاد الإيمان و كمل كمالا عرف عندئذ مقام ربّه و موقع نفسه،معرفة تطابق واقع الأمر،و هو أنّ الأمر كلّه إلى اللّه سبحانه،فإنّه تعالى وحده هو الرّبّ الّذي إليه يرجع كلّ شيء.فالواجب الحقّ على الإنسان أن يتوكّل عليه و يتّبع ما يريده منه بأخذه وكيلا في جميع ما يهمّه في حياته،فيرضى بما يقدّر له في مسير الحياة،و يجري على ما يحكم عليه من الأحكام و يشرّعه من الشّرائع،فيأتمر بأوامره و ينتهي عن نواهيه،و هو قوله تعالى: وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

ثمّ إذا استقرّ الإيمان على كماله في القلب،استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبوديّة إلى ربّه،و ينصب نفسه في مقام العبوديّة و إخلاص الخضوع و هو الصّلاة،و هي أمر بينه و بين ربّه،و أن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم،بالإنفاق على الفقراء ممّا رزقه اللّه من مال أو عمل أو غير ذلك،و هو أمر بينه و بين سائر أفراد مجتمعه، و هو قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الأنفال:3.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ قوله تعالى: زادَتْهُمْ إِيماناً إشارة إلى الزّيادة من حيث الكيفيّة،و هو الاشتداد و الكمال،دون الكمّيّة،و هي الزّيادة من

ص: 615

حيث عدد المؤمنين،كما احتمله بعض المفسّرين.

(9:11)

الصّابوني: أي زادتهم ثباتا في الإيمان،و قوّة في الاطمئنان،و نشاطا في الأعمال الصّالحة.و قد استدلّ الجمهور بهذه و أشباهها على زيادة الإيمان.فالإيمان يزيد و ينتقص،يزيد بالطّاعات،و ينتقص بالمعاصي،كما نبّه عليه البخاريّ.(1:588)

3- وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. التّوبة:124

ابن عبّاس: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها،فزادهم اللّه إيمانا و تصديقا،و كانوا يستبشرون.

(الطّبريّ 11:73)

الرّبيع: خشية.(الطّبريّ 11:73)

الطّبريّ: يقول تعالى ذكره:و إذا أنزل اللّه سورة من سور القرآن على نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم فمن هؤلاء المنافقين الّذين ذكرهم اللّه في هذه السّورة من يقول:أيّها النّاس أيّكم زادته هذه السّورة إيمانا؟يقول:تصديقا باللّه و بآياته.

يقول اللّه:فأمّا الّذين آمنوا من الّذين قيل لهم ذلك، فزادتهم السّورة الّتي أنزلت إيمانا و هم يفرحون بما أعطاهم اللّه من الإيمان و اليقين.

فإن قال قائل:أو ليس الإيمان في كلام العرب التّصديق و الإقرار؟قيل:بلى.

فإن قيل:فكيف زادتهم السّورة تصديقا و إقرارا؟

قيل:زادتهم إيمانا حين نزلت،لأنّهم قبل أن تنزل السّورة لم يكن لزمهم فرض الإقرار بها،و العمل بها بعينها إلاّ في جملة إيمانهم،بأنّ كلّ ما جاءهم به نبيّهم صلّى اللّه عليه و سلّم من عند اللّه فحقّ.فلمّا أنزل اللّه السّورة لزمهم فرض الإقرار بأنّها بعينها من عند اللّه،و وجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام اللّه و حدوده و فرائضه،فكان ذلك هو الزّيادة الّتي زادهم نزول السّورة حين نزلت، من الإيمان و التّصديق بها.(11:72)

الطّوسيّ: أخبر اللّه تعالى أنّه متى نزلت سورة من القرآن قال المنافقون على وجه الاستهزاء و الإنكار:

أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ثمّ قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً المعنى ازدادوا عندها إيمانا.فوجه زيادة الإيمان أنّهم يصدّقون بأنّها من عند اللّه و يعترفون بذلك و يعتقدونه،و ذلك زيادة اعتقاد على ما كانوا معتقدين له.(5:374)

نحوه الطّبرسيّ.(2:84)

الزّمخشريّ: لأنّها أزيد لليقين و الثّبات و أثلج للصّدر،أو فزادتهم عملا،فإنّ زيادة العمل زيادة في الإيمان،لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد و العمل.

(2:222)

ابن عطيّة: و الزّيادة في الإيمان موضع تخبّط للنّاس و تطويل،و تلخيص القول فيه:أنّ الإيمان الّذي هو نفس التّصديق ليس ممّا يقبل الزّيادة و النّقص في نفسه،و إنّما تقع الزّيادة في المصدّق به،فإذا نزلت سورة من اللّه تعالى حدث للمؤمنين بها تصديق خاصّ لم يكن قبل، فتصديقهم بما تضمّنته السّورة من إخبار و أمر و نهي،أمر زائد على الّذي كان عندهم قبل،فهذا وجه من زيادة

ص: 616

الإيمان.

و وجه آخر أنّ السّورة ربّما تضمّنت دليلا أو تنبيها عليه،فيكون المؤمن قد عرف اللّه بعدّة أدلّة،فإذا نزلت السّورة زادت في أدلّته،و هذه جهة أخرى من الزّيادة، و كلّها خارجة عن نفس التّصديق إذا حصل تامّا،فإنّه ليس يبقى فيه موضع زيادة.

و وجه آخر من وجوه الزّيادة أنّ الرّجل ربّما عارضه شكّ يسير،أو لاحت له شبهة مشغبة فإذا نزلت السّورة ارتفعت تلك الشّبهة و استراح منها،فهذا أيضا زيادة في الإيمان؛إذ يرتقي اعتقاده عن مرتبة معارضة تلك الشّبهة إلى الخلوص منها.

و أمّا على قول من يسمّي الطّاعات إيمانا-و ذلك مجاز عند أهل السّنّة-فتترتّب الزّيادة بالسّورة؛إذ تتضمّن أوامر و نواهي و أحكاما،و هذا حكم من يتعلّم العلم في معنى زيادة الإيمان و نقصانه إلى يوم القيامة،فإنّ تعلّم الإنسان العلم بمنزلة نزول سورة القرآن.(3:98)

النّسفيّ: يقينا و ثباتا أو خشية أو إيمانا بالسّورة، لأنّهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلا.(2:150)

الخازن :يعني تصديقا و يقينا و قربة من اللّه،و معنى الزّيادة ضمّ شيء إلى آخر من جنسه ممّا هو في صفته، فالمؤمنون إذا أقرّوا بنزول سورة من القرآن عن ثقة و اعترفوا أنّها من عند اللّه عزّ و جلّ زادهم ذلك الإقرار و الاعتراف إيمانا.(3:139)

أبو حيّان: و قولهم: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار و الاستهزاء بالمؤمنين،و يحتمل أن يقولوا ذلك لقراباتهم المؤمنين،يستقيمون إليهم و يطمعون في ردّهم إلى النّفاق.و معنى قولهم ذلك هو على سبيل التّحقير للسّورة و الاستخفاف بها،كما تقول:أيّ غريب في هذا و أيّ دليل في هذا و في الفتيان؟قيل:هو قول المؤمنين للحثّ و التّنبيه.[إلى أن قال:]

و التّقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عامّ للمنافقين و المؤمنين،و زيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاصّ لم يكن قبل نزول السّورة من قصص و تجديد حكم من اللّه تعالى،أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمّنته السّورة،و يكون قد حصلت له معرفة اللّه بأدلّة فنبّهته هذه السّورة على دليل زاد في أدلّته،أو عبارة عن إزالة شكّ يسير أو شبهة عارضة غير مستحكمة فيزول ذلك الشّكّ و ترتفع الشّبهة بتلك السّورة.و أمّا على قول من يسمّي الطّاعة إيمانا-و ذلك مجاز عند أهل السّنّة-فتترتّب الزّيادة بالسّورة إذ يتضمّن أحكاما.

و قال الرّبيع: فَزادَتْهُمْ إِيماناً أي خشية،أطلق اسم الشّيء على بعض ثمراته.

و قال الزّمخشريّ: فَزادَتْهُمْ إِيماناً لأنّها أزيد للمتّقين على الثّبات و أثلج للصّدور،أو فزادتهم عملا، فإنّ زيادة العمل زيادة في الإيمان،لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد و العمل،انتهى.و هي نزعة اعتزاليّة.

(5:115)

البروسويّ: (ايمانا)مفعول(زادته)و إيراد الزّيادة مع أنّه لا إيمان فيهم أصلا باعتبار اعتقاد المؤمنين.و فيه إشارة إلى أنّ الاستهزاء من علامات النّفاق و أمارات

ص: 617

الإنكار،ثمّ أجاب اللّه تعالى عن إنكارهم و استهزائهم من يعتقد زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي و العمل به،فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه تعالى و بما جاء من عنده: فَزادَتْهُمْ إِيماناً هذا بحسب المتعلّق،و هو مخصوص بزمان النّبيّ عليه السّلام.

و أمّا الآن فالمذهب على[أنّ]«الإيمان»لا يزيد و لا ينقص،و إنّما تتفاوت درجاته قوّة و ضعفا،فإنّه ليس من يعرف الشّيء إجمالا كمن يعرفه تفصيلا،كما أنّ من رأى الشّيء من بعيد ليس كمن يراه من قريب،فصورة «الإيمان»هو التّصديق القلبيّ إجمالا و تفصيلا،و حقيقته الإحسان الّذي هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه،فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.و حقيقة الإحسان مرتبة«كنت سمعه و بصره»الّتي قرب النّوافل و فوقها مرتبة قرب الفرائض المشار إليه بقوله:«سمع اللّه لمن حمده»و الحاصل أنّ من اعتقد الكعبة إذا رآها من بعيد قوي يقينه ثمّ إذا قرب منها كمل ثمّ إذا دخل ازداد الكمال،و لا تفاوت في أصل الاعتقاد.(3:540)

الآلوسيّ: أي تصديقا،لأنّ ذلك هو المتبادر من الإيمان،كما قرّر في محلّه.

و قبول التّصديق نفسها الزّيادة و النّقص و الشّدّة و الضّعف،ممّا قال به جمع من المحقّقين،و به أقول،لظواهر الآيات و الأخبار و«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» (1).

و من لم يقبل قبوله للزّيادة و لم يدخل الأعمال في الإيمان قال:إنّ زيادته بزيادة متعلّقة و المؤمن به،و إليه يشير كلام ابن عبّاس رضي اللّه عنهما،قيل:و يلزمه أن لا يزيد اليوم لإكمال الدّين و عدم تجدّد متعلّق.و فيه نظر و إن قاله من تعقد عليه الخناصر و تعتقد بكلامه الضّمائر.

و من لم يقبل و أدخل الأعمال فالزّيادة و كذا مقابلها ظاهرة عنده.(11:50)

رشيد رضا :أي فمن المنافقين من يتساءل مع إخوانه للاختبار،أو مع من يلقاه من المسلمين كافّة للتّشكيك،قائلا:أيّكم زادته هذه السّورة إيمانا؟أي يقينا بحقّيّة القرآن و الإسلام،و صدق الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنّ في كلّ سورة من القرآن آيات على صدقه صلّى اللّه عليه و سلّم بما فيها من ضروب الإعجاز العامّة الدّالّة على أنّها من عند اللّه تعالى،و كون محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم لا يستطيع أن يأتي بمثلها من تلقاء نفسه.فالسّؤال عن الإيمان بأصل الإسلام و صدق الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في تبليغه عن اللّه عزّ و جلّ،و هو التّصديق الجازم المقترن بإذعان النّفس و خضوع الوجدان الّذي يستلزم العمل،لا مجرّد اعتقاد صدق الخبر،الّذي يقابله اعتقاد كذبه،فإنّ أشدّ النّاس كفرا أولئك المصدّقون الجاحدون الّذين قال اللّه لرسوله فيهم: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ الأنعام:33،و مثله قوله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا النّمل:14.

و لا شكّ أنّ«الإيمان»بمعناه الّذي قلناه يزيد بنزول القرآن في عهد الرّسول،و ناهيك بمن يحضر نزوله عليه و يسمعه منه،و كذا يزيد بتلاوته و بسماعه من غيره أيضا ثباتا في قلب المؤمن،و قوّة إذعان،و صدق وجدان، و رغبة في العمل و القرب من اللّه.قال اللّه تعالى في جوابم.

ص: 618


1- قاله الإمام عليّ عليه السّلام.

هذا السّؤال و هو العليم الخبير: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً فأثبت تعالى للمؤمن زيادة الإيمان بزيادة نزول القرآن،و هو يشمل الزّيادة في حقيقته و صفته من اليقين و الإذعان و اطمئنان القلب،و في متعلّقه و هو ما في السّورة من مسائل العلم،و في أثره من العمل و التّقرّب إلى الرّبّ.و إنّما يتساءل المنافقون عن الأوّل و هو الّذي يفقدونه،و إنّما غيره تابع له.

(11:82)

مثله المراغيّ.(11:51)

الطّباطبائيّ: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً التّوبة:124،إلى آخر الآيتين،نحو السّؤال في قولهم: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ التّوبة:127 يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شيء في قلبه، فإنّ هذا السّؤال بالطّبع سؤال من لا يجد في قلبه أثرا من نزول القرآن،و كأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن،كأنّه يرى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدّعي أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّا مهيّئا للصّلاح أم لا،و هو لا يذعن بذلك.و كلّما تليت عليه سورة جديدة و لم يجد في قلبه خشوعا للّه و لا ميلا و حنانا إلى الحقّ زاد شكّا،فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النّزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه و يزيد ثباتا في نفاقه.و بالجملة السّؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

و قد فصّل اللّه سبحانه أمر القلوب،و فرّق بين قلوب المؤمنين و الّذين في قلوبهم مرض،فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا و هم الّذين قلوبهم خالية عن النّفاق بريئة من المرض و هم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة (فزادتهم)السّورة النّازلة(ايمانا)فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه،و هذه زيادة في الكيف،و باشتمالها على معارف و حقائق جديدة من المعارف القرآنيّة و الحقائق الإلهيّة،و بسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان،و هذه زيادة في الكمّيّة.و نسبة زيادة الإيمان إلى السّورة من قبيل النّسبة إلى الأسباب الظّاهرة، و كيف كان فالسّورة تزيد المؤمنين إيمانا،فتنشرح بذلك صدورهم و تتهلّل وجوههم فرحا وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.

وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ التّوبة:125،و هم أهل الشّكّ و النّفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم،و قد سمّى اللّه سبحانه«الضّلال»رجسا في قوله: وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ الأنعام:125،و المقابلة الواقعة بين:

اَلَّذِينَ آمَنُوا و: اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح و إنّما هو الشّكّ أو الجحد.و كيف كان فهو الكفر،و لذلك قال: وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ التّوبة:125.

و الآية تدلّ على أنّ السّورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه،فإن كان قلبا مريضا زادته رجسا و ضلالا نظير ما يفيده قوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً الإسراء:82.(9:409)

ص: 619

4- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً. الفتح:4

ابن عبّاس: إنّ اللّه جلّ ثناؤه بعث نبيّه محمّدا بشهادة:أن لا إله إلاّ اللّه،فلمّا صدّقوا بها زادهم الصّلاة، فلمّا صدّقوا بها زادهم الصّيام،فلمّا صدّقوا به زادهم الزّكاة،فلمّا صدّقوا بها زادهم الحجّ،ثمّ أكمل لهم دينهم، فقال: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي المائدة:3،فأوثق ايمان أهل الأرض و أهل السّماوات و أصدقه و أكمله،شهادة:أن لا إله إلاّ اللّه.(الطّبريّ 26:72)

الضّحّاك: يقينا مع يقينهم.(القرطبيّ 16:264)

الرّبيع: خشية مع خشيتهم.(القرطبيّ 16:264)

الماورديّ: يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها:ليزدادوا عملا مع تصديقهم.

الثّاني:ليزدادوا صبرا مع اجتهادهم.

الثّالث:ليزدادوا ثقة بالنّصر،مع إيمانهم بالجزاء.

(5:311)

الطّوسيّ: أي ليزدادوا معارف أخر بما أوجب اللّه عليهم،زيادة على المعرفة الحاصلة.فبيّن اللّه تعالى ما لنبيّه عنده و للمؤمنين ليزدادوا ثقة بوعده.(9:315)

نحوه الطّبرسيّ.(5:111)

الزّمخشريّ: بالشّرائع مقرونا إلى إيمانهم،و هو التّوحيد.عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:إنّ أوّل ما أتاهم به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم التّوحيد،فلمّا آمنوا باللّه وحده أنزل الصّلاة و الزّكاة،ثمّ الحجّ،ثمّ الجهاد،فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم.أو أنزل فيها الوقار و العظمة للّه عزّ و جلّ و لرسوله ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم.و قيل:

أنزل فيها الرّحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم.(3:542)

الفخر الرّازيّ: فيه وجوه:

أحدها:أمرهم بتكاليف شيئا بعد شيء فآمنوا بكلّ واحد منها،مثلا أمروا بالتّوحيد فآمنوا و أطاعوا،ثمّ أمروا بالقتال و الحجّ فآمنوا و أطاعوا،فازدادوا إيمانا مع إيمانهم.

ثانيها:أنزل السّكينة عليهم فصبروا،فرأوا عين اليقين بما علموا من النّصر علم اليقين إيمانا بالغيب فازدادوا إيمانا،مستفادا من الشّهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب.

ثالثها:ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول،فإنّهم آمنوا بأنّ محمّدا رسول اللّه و أنّ اللّه واحد و الحشر كائن، و آمنوا بأنّ كلّ ما يقول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم صدق و كلّ ما يأمر اللّه تعالى به واجب.

رابعها:ازدادوا إيمانا استدلاليّا مع إيمانهم الفطريّ.

و على هذا الوجه نبيّن لطيفة،و هي أنّ اللّه تعالى قال في حقّ الكافر: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً آل عمران:

178،و لم يقل:مع كفرهم،لأنّ كفرهم عناديّ،و ليس في الوجود كفر فطريّ لينضمّ إليه الكفر العناديّ بل الكفر ليس إلاّ عناديّا،و كذلك الكفر بالفروع لا يقال:انضمّ إلى الكفر بالأصول،لأنّ من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع بمعنى الطّاعة و الانقياد،فقال: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الفتح:4.(28:80)

نحوه الشّربينيّ.(4:39)

ص: 620

القرطبيّ: أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان.(16:264)

البروسويّ: (ايمانا)مفعول(يزدادوا)،كما في قوله تعالى: وَ ازْدَادُوا تِسْعاً الكهف:25، مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا منضمّا إلى يقينهم الّذي هم عليه؛برسوخ العقيدة و اطمئنان النّفس عليها.

و كلمة(مع)في(ايمانهم)ليست على حقيقتها،لأنّ الواقع في الحقيقة ليس انضمام يقين إلى يقين لامتناع اجتماع المثلين،بل حصول نوع يقين أقوى من الأوّل، فإنّ له مراتب لا تحصى من أجلى البديهيّات إلى أخفى النّظريّات،ثمّ لا ينفي الأوّل ما قلنا؛و ذلك كما في مراتب البياض ما حقّق في مقامه ففيها استعارة،أو المعنى أنزل فيها السّكون إلى ما جاء به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من الشّرائع ليزدادوا إيمانا بها مقرونا مع إيمانهم بالوحدانيّة و اليوم الآخر.فكلمة القرآن حينئذ على حقيقتها-و القرآن في الحقيقة (1)-لتعلّق الإيمان بزيادة متعلّقه،فلا يلزم اجتماع المثلين.

و عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: أنّ أوّل ما أتاهم به النّبيّ عليه السّلام التّوحيد،ثمّ الصّلاة و الزّكاة،ثمّ الحجّ و الجهاد حتّى أكمل لهم دينهم،كما قال: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ المائدة:3،فازدادوا إيمانا مع إيمانهم،فكان الإيمان يزيد في ذلك الزّمان بزيادة الشّرائع و الأحكام.

و أمّا الآن فلا يزيد و لا ينقص بل يزيد نوره و يقوى، بكثرة الأعمال و قوّة الأحوال،فهو كالجوهر الفرد،فكما لا يتصوّر الزّيادة و النّقصان في الجوهر الفرد من حيث هو فكذا في الإيمان.

و أمّا قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ... البقرة:256،فالكفر بالطّاغوت هو عين الإيمان باللّه في الحقيقة فلا يلزم أن يكون الإيمان جزء.قال بعض الكبار:الإيمان الحقيقيّ هو إيمان الفطرة الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لها،و يتحقّق بالخاتمة،و ما بينهما يزيد الإيمان فيه و ينقص.و الحكم للخاتمة،لأنّها عين السّابقة، فيحمل قول من قال:إنّ الإيمان لا يزيد و لا ينقص على إيمان الفطرة الّذي حقيقته ما مات عليه،و يحمل قول من قال:إنّ الإيمان يزيد و ينقص على الحالة الّتي بين السّابقة و الخاتمة من حين يتعقّل التّكاليف.فتأمّل ذلك فإنّه نفيس،انتهى.

و قال حضرة الهدائيّ قدّس سرّه في مجالسه المنيفة:

ليزدادوا إيمانا وجدانيّا ذوقيّا عينيّا مع إيمانهم العلميّ الغيبيّ،فإنّ السّكينة نور في القلب يسكن به إلى ما شاهده و يطمئنّ،و هو من مبادئ عين اليقين بعد علم اليقين، كأنّه وجدان يقيني معه لذّة و سرور.(9:11)

الآلوسيّ: أي يقينا مع يقينهم،برسوخ العقيدة و اطمئنان النّفوس عليها.على أنّ«الإيمان»لمّا ثبت في الأزمنة نزل تجدّد أزمانه منزلة تجدّده و ازدياده،فاستعير له ذلك،و رشّح بكلمة(مع).و قيل:ازدياد«الإيمان» بازدياد ما يؤمن به.

و روي عن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما أنّ أوّل ما أتاهم به النّبيّ صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم التّوحيد ثمّ الصّلاة و الزّكاة ثمّ الحجّ و الجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم.صل

ص: 621


1- كذا في الأصل

و من قال:الأعمال من الإيمان،قال:بأنّه نفسه،أي الإيمان المركّب من ذلك،و غيره يزيد و ينقص.و لم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلا له.

و تفصيل الكلام في هذا المقام أنّه ذهب جمهور الأشاعرة و القلانسيّ و الفقهاء و المحدّثون و المعتزلة إلى أنّ «الإيمان»يزيد و ينقص،و نقل ذلك عن الشّافعيّ و مالك.

و قال البخاريّ: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أنّ«الإيمان» قول و عمل و يزيد و ينقص.و احتجّوا على ذلك بالعقل و النّقل.

أمّا الأوّل فلأنّه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمّة المنهمكين في الفسق و المعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السّلام مثلا،و اللاّزم باطل،فكذا الملزوم.

و أمّا الثّاني فلكثرة النّصوص في هذا المعنى،منها الآية المذكورة،و منها ما روي عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنه قلنا:يا رسول اللّه إنّ الإيمان يزيد و ينقص؟ قال:نعم يزيد حتّى يدخل صاحبه الجنّة،و ينقص حتّى يدخل صاحبه النّار.

و اعترض بأنّ عدم قبول«الإيمان»الزّيادة و النّقص على تقدير كون الطّاعات داخلة في مسمّاه أولى و أحقّ من عدم قبوله،ذلك إذا كان مسمّاه التّصديق وحده.

أمّا أوّلا:فلأنّه لا مرتبة فوق كلّ الأعمال،لتكون زيادة و لا إيمان دونه ليكون نقصا.و أمّا ثانيا:فلأنّ أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ،و الزّيادة على ما لم يكمل بعد محال.

و أجيب بأنّ هذا إنّما يتوجّه على المعتزلة و الخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، و الجماعة إنّما يقولون:إنّها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الانتفاء إلاّ انتفاء الكمال،و هو غير قادح في أصل الإيمان.

و قال النّوويّ و جماعة محقّقون من علماء الكلام:إنّ «الإيمان»بمعنى التّصديق القلبيّ يزيد و ينقص أيضا؛ بكثرة النّظر و وضوح الأدلّة و عدم ذلك،و لهذا كان إيمان الصّدّيقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشّبهة.

و يؤيّده أن كلّ واحد يعلم أنّ ما في قلبه يتفاضل حتّى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا و إخلاصا منه في بعضها،فكذلك التّصديق و المعرفة بحسب ظهور البراهين و كثرتها.

و اعترض بأنّه متى قبل ذلك كان شكّا.

و دفع بأنّ مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين، و حقّ اليقين،و عين اليقين،مع أنّها لا شكّ معها.و ممّن وافق النّوويّ على ما جزم به السّعد في القسم الثّاني من تهذيبه.

و قال جماعة من العلماء،أعظمهم الإمام أبو حنيفة و تبعه أصحابه و كثير من المتكلّمين:الإيمان لا يزيد و لا ينقص،و اختاره إمام الحرمين.و احتجّوا بأنّه اسم للتّصديق البالغ حدّ الجزم و الإذعان،و هذا لا يتصوّر فيه زيادة و لا نقصان،فالمصدّق إذا ضمّ إليه الطّاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغيّر أصلا،و إنّما يتفاوت إذا كان اسما للطّاعات المتفاوتة قلّة و كثرة.

و أجابوا عمّا تمسّك به الأوّلون بوجوه:

منها:ما أشرنا إليه أوّلا:من أنّ الزّيادة بحسب الدّوام

ص: 622

و الثّبات،و كثرة الزّمان و الأوقات،و إيضاحه ما قاله إمام الحرمين:النّبيّ صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه و عصمة اللّه تعالى إيّاه من مخامرة الشّكوك،و التّصديق عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدّد أمثاله،فتقع للنّبيّ عليه الصّلاة و السّلام متوالية،و لغيره على الفترات،فثبتت للنّبيّ صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلاّ بعضها؛فيكون إيمانه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم أكثر،و الزّيادة بهذا المعنى قيل لا نزاع فيها.

و اعترض بأنّ حصول المثل بعد انعدام الشّيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم.

و دفع بأنّ المراد زيادة أعداد حصلت،و عدم البقاء لا ينافي ذلك.

و منها:ما أشرنا إليه ثانيا:من أنّ المراد الزّيادة بحسب زيادة ما يؤمن به.و الصّحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين آمنوا أوّلا بما آمنوا به،و كانت الشّريعة لم تتمّ و كانت الأحكام تنزل شيئا فشيئا،فكانوا يؤمنون بكلّ ما يتجدّد منها.و لا شكّ في تفاوت إيمان النّاس بملاحظة التّفاصيل كثرة و قلّة،و لا يختصّ ذلك بعصره صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم،لإمكان الاطّلاع على التّفاصيل في غيره من العصور أيضا.

و منها:أنّ المراد زيادة ثمرته و إشراق نوره في القلب، فإنّ نور الإيمان يزيد بالطّاعات و ينقص بالمعاصي.

قيل:و هذا إنّما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التّصديق الزّيادة و النّقص،و متى لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظّواهر على حالها.

و قال الخطّابيّ:الإيمان قول و هو لا يزيد و لا ينقص، و عمل و هو يزيد و ينقص،و اعتقاد و هو يزيد و لا ينقص،فإذا نقص ذهب.

و اعترض أنّه إذا زاد ثمّ عاد إلى ما كان فقد نقص و لم يذهب.

و دفع بأنّ مراده أنّ الاعتقاد باعتبار أوّل مراتبه يزيد و لا ينقص لا أنّ الاعتقاد مطلقا كذلك.

و ذهب جماعة،منهم الإمام الرّازيّ و إمام الحرمين:

إلى أنّ الخلاف لفظيّ؛و ذلك بحمل قول النّفي على أصل «الإيمان»و هو التّصديق فلا يزيد و لا ينقص،و حمل قول الإثبات على ما به كماله و هو الأعمال،فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان.و الحقّ أنّه حقيقيّ لما سمعت عن الإمام النّوويّ و من معه:من أنّ التّصديق نفسه يزيد و ينقص.

و قال بعض المحقّقين:إنّ الزّيادة و النّقص من خواصّ الكمّ،و التّصديق قسم من العلم،و لم يقل أحد:بأنّه من مقولة الكمّ،و إنّما قيل:هو كيف أو انفعال أو إضافة- و تعلّق بين العالم و المعلوم-أو صفة ذات إضافة.

و الأشهر أنّه كيف فمتى صحّ ذلك و قلنا بمغايرة الشّدّة و الضّعف للزّيادة و النّقص،فلا بأس بحملهما في النّصوص و غيرها على الشّدّة و الضّعف،و ذلك مجاز مشهور.و إنكار اتّصاف«الإيمان»بهما يكاد يلحق بالمكابرة،فتأمّل.

و ذكر بعضهم هنا أنّ«الإيمان»الّذي هو مدخول «مع»هو الإيمان الفطريّ،و الإيمان المذكور قبله الإيمان الاستدلاليّ فكأنّه قيل:ليزدادوا إيمانا استدلاليّا مع

ص: 623

إيمانهم الفطريّ،و فيه من الخفاء ما فيه.(26:92)

الطّباطبائيّ: المراد بزيادة«الإيمان»اشتداده،فإنّ الإيمان بشيء هو العلم به مع الالتزام،بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة.و من المعلوم أنّ كلاّ من العلم و الالتزام المذكورين ممّا يشتدّ و يضعف،فالإيمان الّذي هو العلم المتلبّس بالالتزام يشتدّ و يضعف،فمعنى الآية:اللّه الّذي أوجد الثّبات و الاطمئنان الّذي هو لازم مرتبة من مراتب الرّوح في قلوب المؤمنين،ليشتدّ به الإيمان الّذي كان لهم قبل نزول السّكينة،فيصير أكمل ممّا كان قبل.

كلام في الإيمان و ازدياده:الإيمان بالشّيء ليس مجرّد العلم الحاصل به،كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى محمّد:25،و قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى محمّد:32،و قوله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ النّمل:14،و قوله: وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ الجاثية:23،فالآيات كما ترى تثبت الارتداد و الكفر و الجحود و الضّلال مع العلم.

فمجرّد العلم بالشّيء و الجزم بكونه حقّا لا يكفي في حصول الإيمان و اتّصاف من حصل له به،بل لا بدّ من الالتزام بمقتضاه و عقد القلب على مؤدّاه؛بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة و لو في الجملة.فالّذي حصل له العلم بأنّ اللّه تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه-و هو عبوديّته و عبادته وحده-كان مؤمنا،و لو علم به و لم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبوديّة كان عالما و ليس بمؤمن.

و من هنا يظهر بطلان ما قيل:إنّ«الإيمان»هو مجرّد العلم و التّصديق،و ذلك لما مرّ أنّ العلم ربّما يجامع الكفر.

و من هنا يظهر أيضا بطلان ما قيل:إنّ«الإيمان»هو العمل،و ذلك لأنّ العمل يجامع النّفاق،فالمنافق له عمل، و ربّما كان ممّن ظهر له الحقّ ظهورا علميّا،و لا إيمان له على أيّ حال.

و إذا كان«الإيمان»هو العلم بالشّيء مع الالتزام به؛ بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة،و كلّ من العلم و الالتزام ممّا يزداد و ينقص و يشتدّ و يضعف،كان الإيمان المؤلّف منهما قابلا للزّيادة و النّقيصة و الشّدّة و الضّعف،فاختلاف المراتب و تفاوت الدّرجات من الضّروريّات الّتي لا يشكّ فيها قطّ.هذا ما ذهب إليه الأكثر و هو الحقّ،و يدلّ عليه من النّقل قوله تعالى:

لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ و غيره من الآيات، و ما ورد من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السّلام الدّالّة على أنّ «الإيمان»ذو مراتب.

و ذهب جمع،منهم أبو حنيفة و إمام الحرمين و غيرهما:إلى أنّ«الإيمان»لا يزيد و لا ينقص،و احتجّوا عليه بأنّ«الإيمان»اسم للتّصديق البالغ حدّ الجزم و القطع،و هو ممّا لا يتصوّر فيه الزّيادة و النّقصان، فالمصدّق إذا ضمّ إلى تصديقه الطّاعات أو ضمّ إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغيّر أصلا.

و أوّلوا ما دلّ من الآيات على قبوله الزّيادة و النّقصان بأنّ«الإيمان»عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدّد الأمثال،فهو بحسب انطباقه على الزّمان بأمثاله المتجدّدة يزيد و ينقص،كوقوعه للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثلا على

ص: 624

التّوالي من غير فترة متخلّلة،و في غيره بفترات قليلة أو كثيرة.فالمراد ب«زيادة الإيمان»توالى أجزاء الإيمان من غير فترة أصلا أو بفترات قليلة.

و أيضا للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به،و شرائع الدّين لمّا كانت تنزل تدريجا و المؤمنون يؤمنون بما ينزل منها و كان يزيد عدد الأحكام حينا بعد حين،كان إيمانهم أيضا يزيد تدريجا،و بالجملة المراد ب«زيادة الإيمان» كثرته عددا.

و هو بيّن الضّعف،أمّا الحجّة ففيها أوّلا:أنّ قولهم:

الإيمان اسم للتّصديق الجازم،ممنوع بل هو اسم للتّصديق الجازم الّذي معه الالتزام،كما تقدّم بيانه،اللّهمّ إلاّ أن يكون مرادهم ب«التّصديق»العلم مع الالتزام.

و ثانيا:أنّ قولهم:إنّ هذا«التّصديق»لا يختلف بالزّيادة و النّقصان،دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب،و بناؤه على كون الإيمان عرضا،و بقاء الأعراض على نحو تجدّد الأمثال لا ينفعهم شيئا،فإنّ من الإيمان ما لا تحرّكه العواصف،و منه ما يزول بأدنى سبب يعترض،و أوهن شبهة تطرأ.و هذا ممّا لا يعلّل بتجدّد الأمثال و قلّة الفترات و كثرتها،بل لا بدّ من استناده إلى قوّة الإيمان و ضعفه،سواء قلنا بتجدّد الأمثال أم لا، مضافا إلى بطلان تجدّد الأمثال،على ما بيّن في محلّه.

و قولهم:إنّ المصدّق إذا ضمّ إليه الطّاعات أو ضمّ إليه المعاصي لم يتغيّر حاله أصلا ممنوع،فقوّة الإيمان بمزاولة الطّاعات و ضعفها بارتكاب المعاصي ممّا لا ينبغي الارتياب فيه؛و قوّة الأثر و ضعفه كاشفة عن قوّة مبدإ الأثر و ضعفه.قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ فاطر:10،و قال: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ الرّوم:10.

و أمّا ما ذكروه من التّأويل فأوّل التّأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان،و هو الّذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه،مؤمنا و كافرا حقيقة،و هذا ممّا لا يساعده و لا يشعر به شيء من كلامه تعالى.

و أمّا قوله تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف:106،فهو إلى الدّلالة على كون «الإيمان»ممّا يزيد و ينقص أقرب منه إلى الدّلالة على نفيه،فإنّ مدلوله أنّهم مؤمنون في حال أنّهم مشركون، فإيمانهم إيمان بالنّسبة إلى الشّرك المحض،و شرك بالنّسبة إلى الإيمان المحض،و هذا معنى قبول الإيمان للزّيادة و النّقصان.

و ثاني التّأويلين يفيد أنّ الزّيادة في الإيمان و كثرته إنّما هي بكثرة ما تعلّق به،و هو الأحكام و الشّرائع المنزلة من عند اللّه،فهي صفة للإيمان بحال متعلّقه،و السّبب في اتّصافه بها هو متعلّقه.و لو كان هذه الزّيادة هي المرادة من قوله: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الفتح:4،كان الأنسب أن تجعل«زيادة الإيمان»في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة و إنزالها،لا لإنزال السّكينة في قلوب المؤمنين هذا.

و حمل بعضهم«زيادة الإيمان»في الآية على زيادة أثره،و هو النّور المشرق منه على القلب.

و فيه أنّ زيادة الأثر و قوّته فرع زيادة المؤثّر و قوّته،

ص: 625

فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات،بأثر يزيد على أثر الآخر.

و ذكر بعضهم أنّ الإيمان الّذي هو مدخول(مع)في قوله: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الإيمان الفطريّ، و الإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلاليّ،و المعنى ليزدادوا إيمانا استدلاليّا على إيمانهم الفطريّ.

و فيه أنّه دعوى من غير دليل يدلّ عليه،على أنّ الإيمان الفطريّ أيضا استدلاليّ فمتعلّق العلم،و الإيمان على أيّ حال أمر نظريّ لا بديهيّ.

و قال بعضهم كالإمام الرّازيّ:إنّ النّزاع في قبول الإيمان للزّيادة و النّقص و عدم قبوله،نزاع لفظيّ،فمراد النّافين عدم قبول أصل الإيمان و هو التّصديق ذلك،و هو كذلك لعدم قبوله الزّيادة و النّقصان.و مراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان،و هو الأعمال للزّيادة و النّقصان،و هو كذلك بلا شكّ.

و فيه أوّلا:أنّ فيه خلطا بين التّصديق و الإيمان، فالإيمان تصديق مع الالتزام و ليس مجرّد التّصديق فقط، كما تقدّم بيانه.

و ثانيا:أنّ نسبة نفي الزّيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة،فهم إنّما يثبتون الزّيادة في أصل الإيمان،و يرون أنّ كلاّ من العلم و الالتزام المؤلّف منهما الإيمان يقبل القوّة و الضّعف.

و ثالثا:أنّ إدخال الأعمال في محلّ النّزاع غير صحيح،لأنّ النّزاع في شيء غير النّزاع في أثره الّذي به كماله،و لا نزاع لأحد في أنّ الأعمال و الطّاعات تقبل العدّ، و تقلّ و تكثر بحسب تكرّر الواحد.(18:258)

5- وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً... المدّثّر:31

الفخر الرّازيّ: ما تأثير هذه الواقعة في ازدياد إيمان المؤمنين؟

الجواب:أنّ المكلّف ما لم يستحضر كونه تعالى عالما بجميع المعلومات،غنيّا عن جميع الحادثات،منزّها عن الكذب و الخلف،لا يمكنه أن ينقاد لهذه العدّة و يعترف بحقيقتها،فإذا اشتغل باستحضار تلك الدّلائل ثمّ جعل العلم الإجماليّ بأنّه صادق لا يكذب،حكيم لا يجهل، دافعا للتّعجّب الحاصل في الطّبع من هذا العدد العجيب؛ فحينئذ يمكنه أن يؤمن بحقيقة هذا العدد.و لا شكّ أنّ المؤمن يصير عند اعتبار هذه المقامات أشدّ استحضارا للدّلائل و أكثر انقيادا للدّين،فالمراد بازدياد الإيمان هذا.

حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزّيادة و النّقصان فما قولكم في هذه الآية؟

الجواب:نحمله على ثمرات الإيمان و على آثاره و لوازمه.(30:206)

جمال الدّين عيّاد: الإيمان في كلام العرب:مجرّد تصديق بالقلب،و هو كذلك في الشّرع.فليس العمل ركنا فيه،لأنّ العمل لو كان ركنا في الإيمان لكان المصدّق الّذي لا يعمل كافرا لا يدخل الجنّة أبدا،لقول الرّسول عليه السّلام:«إنّه لا يدخل الجنّة إلاّ المؤمنون»مع أنّ الثّابت في أحاديث عديدة أنّ عصاة المسلمين يدخلون الجنّة بعد استيفائهم العذاب في النّار،بما كان لهم من التّصديق،بل

ص: 626

إنّهم ربّما دخلوها دون أن يستوفوا العذاب أصلا،أو قبل أن يستوفوه إذا اقتضت مشيئة اللّه أن يعفو عنهم.

فأمّا الآيات الّتي تجعل العمل الصّالح من صفات المؤمنين،كنحو قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً الأنفال:2،و الأحاديث الّتي تنفي صفة الإيمان عن بعض مرتكبي الكبائر،كنحو كقوله عليه السّلام:«لا يزني الزّاني حين يزني و هو مؤمن و لا يسرق السّارق...» فمحمولة على كاملي الإيمان،بمعنى أنّ المؤمن الّذي اكتمل إيمانه حقّا هو الّذي يؤدّي ما أمره اللّه به من فرائض و يجتنب ما نهى اللّه عنه من محارم.فإذا أهمل الفرائض و اقترف المعاصي لا تنتفي عنه صفة الإيمان ما بقي مصدّقا، و إنّما تنتفي عن إيمانه صفة الكمال،فيوصف بأنّه ناقص الإيمان،و يكون نقص إيمانه بمقدار معصيته.و لهذا الّذي قدّمناه نظائر في كلام العرب؛إذ يقولون مثلا:«لا مال إلاّ الإبل»و لا يعنون بهذا أنّ كلّ ما سوى الإبل ليس بمال، و إنّما يعنون أنّ الإبل هي أفضل المال،أو هي المال الكامل الّذي يتضاءل غيره بجانبه حتّى يكاد لا يكون شيئا.

و ما دام«الإيمان»كما قدّمنا مجرّد تصديق بالقلب فلا مجال للقول بأنّه يزيد بالطّاعات أو ينقص بالمعاصي إلاّ بمقدار ما يتأثّر التّصديق بالطّاعات و المعاصي،فإذا انطوت الطّاعات على دليل جديد يؤكّد التّصديق القلبيّ زاد الإيمان،كمن يقرأ القرآن فيزداد إيمانا بأنّ القرآن كلام اللّه.و تكون الزّيادة هنا في الدّرجة لا في الكمّ،بمعنى أنّ«الإيمان»يقوى دون أن يتّسع نطاقه،و بهذا يكون «الإيمان»دافعا إلى الطّاعة،و الطّاعة دافعا إلى المزيد من الإيمان،و هكذا دواليك.و كذلك فإنّ إعراض الإنسان عن الطّاعات و إقباله على المعاصي و إن كانا دليلين على ضعف الإيمان فإنّهما يؤدّيان إلى المزيد من الضّعف باستمرار نسيان العبد لربّه و انصرافه عنه،و ربّما استمرّ الضّعف باستمرار النّسيان،حتّى إذا عرض عارض تزلزل إيمان العبد و استحال إلى شكّ و كفر.

و على هذا الضّوء،يمكن أن نفهم الآية الّتي نعرض لها،فالمؤمنون هم المصدّقون للّه سبحانه في كلّ ما أبلغ رسوله عنه،و الّذين آمنوا باللّه و رسوله قبل نزول الآية سبق تصديقهم للّه سبحانه في كلّ ما بلغهم عنه و ما سيبلغهم عنه؛بحيث إذا أبلغهم سبحانه بحقيقة جديدة كعدّة الخزنة مثلا آمنوا بها،مهما تكن.و لا يكون هذا التّصديق بالحقيقة الجديدة زيادة في الإيمان،و إنّما يكون تأكيدا له،كأنّما كان نزول الآية اختبارا لثباتهم على التّصديق الأوّل،و كان نجاحهم في الاختبار تأكيدا لتصديقهم.

و إنّما تأتي الزّيادة في الإيمان من وجه واحد،هو أنّ هؤلاء المؤمنين لا شكّ قد بلغهم وجود العدّة المخصوصة في الكتب السّماويّة الأخرى،فازدادوا إيمانا بالدّين الجديد الّذي جاءهم به محمّد عليه السّلام،فكانت هذه الزّيادة في الإيمان لقيام دليل جديد على صدق نبوّة محمّد،و أنّه لا يبلّغ عن اللّه شيئا يخالف الحقائق الثّابتة في الكتب السّماويّة الأخرى،فهي بمثابة الاطمئنان القلبيّ الّذي ازداد به ابراهيم عليه السّلام إيمانا عند ما أراه اللّه كيف يحيي الموتى.(بحوث في تفسير القرآن،سورة المدّثّر:121)

ص: 627

الإيمان في اللّغة

الخليل :الإيمان:التّصديق نفسه،و قوله تعالى:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق.

(8:389)

مثله الجوهريّ(5:2071)،و القرطبيّ(1:162).

الطّمأنينة.(الأزهريّ 15:515)

الطّبريّ: و معنى الإيمان عند العرب:التّصديق فيدعى المصدّق بالشّيء قولا مؤمنا به،و يدعى المصدّق قوله بفعله مؤمنا،و من ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17، يعني و ما أنت بمصدّق لنا في قولنا.و قد تدخل الخشية للّه في معنى«الإيمان»الّذي هو تصديق بالعمل.(1:101)

الرّمّانيّ: هو التّصديق بما يؤمن من العقاب من العمل به.(الطّوسيّ 5:115)

الطّوسيّ: الإيمان هو التّصديق عن ثقة،لأنّ الصّدق راجع إلى طمأنينة القلب بما صدّق به.(4:6)

هو الاطمئنان إلى الصّواب بفعله مع الثّقة به،و هو من أفعال العباد.(4:22)

هو التّصديق بما أوجب اللّه على المكلّف،أو ندبه إليه.(5:115)

الفرق بين الإيمان و التّقوى:أنّ«التّقوى»مضمّن باتّقاء المعاصي مع منازعة النّفس إليها،و«الإيمان»من الأمن بالعمل من عائد الضّرر.

و الفرق بين الإيمان باللّه و الطّاعة له:أنّ«الطّاعة»من الانطياع بجاذب الأمر و الإرادة المرغّبة في الفعل و«الإيمان»هو الأمن المنافي لانزعاج القلب.

(5:462)

الميبديّ: هو في اللّغة:التّصديق،و معنى التّصديق الاستقامة و العدل.(1:753)

الزّمخشريّ: الإيمان«إفعال»من الأمن،يقال:

أمنته و آمننيه غيري،ثمّ يقال:آمنه،إذا صدّقه،و حقيقته آمنه التّكذيب و المخالفة.و أمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ و اعترف.(1:126)

مثله النّيسابوريّ.(1:145)

البيضاويّ: الإيمان في اللّغة عبارة عن التّصديق مأخوذ من«الأمن»كأنّ المصدّق أمن المصدّق من التّكذيب و المخالفة.و قد يطلق بمعنى«الوثوق»من حيث إنّ الواثق بالشّيء صار ذا أمن منه.(1:16)

نحوه أبو حيّان.(1:38)

الفيروزآباديّ: الإيمان:الثّقة و إظهار الخضوع و قبول الشّريعة.(4:199)

الطّريحيّ: الإيمان لغة هو التّصديق المطلق اتّفاقا من الكلّ،و منه قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17.(6:204)

رشيد رضا :هو التّصديق الجازم المقترن بإذعان النّفس و قبولها و استسلامها،و آيته العمل بما يقتضيه الإيمان عند عدم الصّارف الّذي يختلف باختلاف درجات المؤمنين في اليقين.(1:126)

مثله المراغيّ(1:41)،و الحجازيّ(1:12).

الطّباطبائيّ: الإيمان:سكون علميّ خاصّ من النّفس بالشّيء،و لازمه الالتزام العمليّ بما آمن به.

(16:263)

ص: 628

عبد الرّحيم فودة: الأمن:سكون القلب و اطمئنانه،و الإيمان باللّه من هذا القبيل؛إذ هو التّصديق به عن دليل،و الاطمئنان إليه عن شعور صادق و إدراك سليم.(من معاني القرآن:25)

الإيمان في الاصطلاح

النّبيّ: صلّى اللّه عليه و سلّم الإيمان معرفة بالقلب،و قول باللّسان، و عمل بالأركان.(القرطبيّ 1:193)

الإمام عليّ عليه السّلام: الإيمان:معرفة،و المعرفة تسليم، و التّسليم تصديق.(الآلوسيّ 1:111)

الإمام الصّادق عليه السّلام: الإيمان ثابت في القلب، و اليقين خطرات،فمرّة يقوى فيصير كأنّه زبر الحديد، و مرّة يصير كأنّه خرقة بالية.(الطّريحيّ 6:205)

الثّوريّ: الإيمان:إقرار و تصديق و عمل و اتّباع السّنّة،لا يتمّ الإيمان إلاّ بها.(الميبديّ 6:161)

الإمام الرّضا عليه السّلام: إنّ الإيمان هو التّصديق بالقلب، و العمل بالأركان و القول باللّسان.(الطّوسيّ 1:55)

الإيمان:قول مقول،و عمل معمول،و عرفان بالعقول،و اتّباع الرّسول.(الطّبرسيّ 1:38)

الطّبريّ: و الإيمان كلمة جامعة للإقرار باللّه و كتبه و رسله،و تصديق الإقرار بالفعل.(1:101)

الزّجّاج: الإيمان:إظهار الخضوع و القبول للشّريعة، و لما أتى به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و اعتقاده و تصديقه بالقلب.فمن كان على هذه الصّفة فهو مؤمن مسلم غير مرتاب و لا شاكّ، و هو الّذي يرى أنّ أداء الفرائض واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب.(ابن منظور 13:23)

الأزهريّ: الأصل في الإيمان:الدّخول في صدق الأمانة الّتي ائتمنه اللّه عليها.فإذا اعتقد التّصديق بقلبه كما صدّق بلسانه،فقد أدّى الأمانة و هو مؤمن،و من لم يعتقد التّصديق بقلبه فهو غير مؤدّ للأمانة الّتي ائتمنه اللّه عليها و هو منافق.

و من زعم أنّ«الإيمان»هو إظهار القول دون التّصديق بالقلب،فإنّه لا يخلو من وجهين:

أحدهما:أن يكون منافقا ينضح عن المنافقين تأييدا لهم.

أو يكون جاهلا لا يعلم ما يقوله و ما يقال له،أخرجه الجهل و اللّجاج إلى عناد الحقّ،و ترك قبول الصّواب.

(15:514)

الطّوسيّ: الإيمان في اللّغة هو التّصديق،و منه قوله:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق لنا.

و قال: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ النّساء:51، و كذلك هو في الشّرع عند أكثر المرجئة،و المراد بذلك التّصديق بجميع ما أوجب اللّه أو ندبه أو أباحه.

و قيل:إنّ الإيمان مشتقّ من الأمان،و المؤمن من يؤمّن نفسه من عذاب اللّه،و اللّه المؤمن لأوليائه من عذابه و ذلك مرويّ من أخبارنا.

و قالت المعتزلة بأجمعها:الإيمان هو فعل الطّاعة و منهم من اعتبر فرائضها و نوافلها،و منهم من اعتبر الواجب منها لا غير،و اعتبروا اجتناب الكبائر من جملتها.(1:54)

ص: 629

قد استدلّت المرجئة بهذه الآية:[ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا... البقرة:62]على أنّ العمل الصّالح ليس من الإيمان،لأنّ اللّه تعالى أخبرهم عنهم بأنّهم آمنوا،ثمّ عطف على كونهم مؤمنين أنّهم إذا عملوا الصّالحات ما حكمها؟قالوا:و من حمل ذلك على التّأكيد أو الفضل،فقد ترك الظّاهر.و كلّ شيء يذكرونه ممّا ذكر بعد دخوله في الأوّل ممّا ورد به القرآن نحو قوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ الرّحمن:68،و نحو قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الأحزاب:

7،و نحو قوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التّغابن:

10،و قوله: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ محمّد:1،قالوا:جميع ذلك مجاز.و لو خلّينا و الظّاهر لقلنا:

إنّه ليس بداخل في الأوّل،فإن قالوا:أ ليس الإقرار، و التّصديق من العمل الصّالح؟فلا بدّ لكم من مثل ما قلناه، قلنا عنه جوابان:

أحدهما:أنّ«العمل»لا يطلق إلاّ على أفعال الجوارح،لأنّهم لا يقولون:عملت بقلبي،و إنّما يقولون:

عملت بيدي أو برجلي.

و الثّاني:أنّ ذلك مجاز،و تحمل عليه الضّرورة، و كلامنا مع الإطلاق.(1:285)

الإيمان هو الاعتراف بتوحيد اللّه على جميع صفاته، و الإقرار بنبوّة نبيّه،و قبول ما جاء به من عند اللّه،و العمل بما أوجبه عليهم.و في اللّغة الإيمان هو التّصديق.

(6:249)

الرّاغب: الإيمان يستعمل تارة اسما للشّريعة الّتي جاء بها محمّد عليه الصّلاة و السّلام،و على ذلك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ المائدة:69، و يوصف به كلّ من دخل في شريعته مقرّا باللّه و بنبوّته، قيل:و على هذا قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف:106.

و تارة يستعمل على سبيل المدح،و يراد به إذعان النّفس للحقّ على سبيل التّصديق،و ذلك باجتماع ثلاثة أشياء:تحقيق بالقلب،و إقرار باللّسان،و عمل بحسب ذلك بالجوارح،و على هذا قوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الحديد:19،و يقال لكلّ واحد من الاعتقاد و القول الصّدق و العمل الصّالح:إيمان، قال تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:

143،أي صلاتكم.

و جعل الحياء و إماطة الأذى من الإيمان،قال تعالى:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17، قيل:معناه بمصدّق لنا،إلاّ أنّ الإيمان هو التّصديق الّذي معه أمن،و قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ... النّساء:51، فذلك مذكور على سبيل الذّمّ لهم،و أنّه قد حصل لهم الأمن بما لا يقع به الأمن؛إذ ليس من شأن القلب ما لم يكن مطبوعا عليه أن يطمئنّ إلى الباطل،و إنّما ذلك كقوله: مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ النّحل:106،و هذا كما يقال:إيمانه الكفر و تحيّته الضّرب،و نحو ذلك.و جعل النّبيّ عليه الصّلاة و السّلام أصل«الإيمان»ستّة أشياء في خبر جبريل،حيث سأله،فقال:ما الإيمان؟و الخبر معروف.(26)

ص: 630

الطّبرسيّ: قالت المعتزلة بأجمعها:الإيمان هو فعل الطّاعة،ثمّ اختلفوا فمنهم من اعتبر الفرائض و النّوافل، و منهم من اعتبر الفرائض حسب،و اعتبروا اجتناب الكبائر كلّها.[ثمّ ذكر قول الإمام الرّضا عليه السّلام و قد تقدّم]

أقول:إنّ أصل«الإيمان»هو المعرفة باللّه و برسله و بجميع ما جاءت به رسله،و كلّ عارف بشيء فهو مصدّق به.يدلّ عليه هذه الآية،فإنّه تعالى لمّا ذكر الإيمان علّقه بالغيب ليعلم أنّه تصديق للمخبر فيما أخبر به من الغيب على معرفة و ثقة،ثمّ أفرده بالذّكر عن سائر الطّاعات البدنيّة و الماليّة و عطفهما عليه،فقال:

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ البقرة:3، و الشّيء لا يعطف على نفسه و إنّما يعطف على غيره.

و يدلّ عليه أيضا أنّه تعالى حيث ذكر الإيمان أضافه إلى القلب،فقال: وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:

106،و قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ المجادلة:

22،و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«الإيمان سرّ-و أشار إلى صدره- و الإسلام علانية».

و قد يسمّى«الإقرار»إيمانا كما يسمّى تصديقا،إلاّ أنّه متى صدر عن شكّ أو جهل كان إيمانا لفظيّا لا حقيقيّا.

و قد تسمّى«أعمال الجوارح»أيضا إيمانا استعارة و تلويحا،كما تسمّى تصديقا كذلك،فيقال:فلان تصدّق أفعاله مقاله و لا خير في قول لا يصدّقه الفعل.و الفعل ليس بتصديق حقيقيّ باتّفاق اللّغة،و إنّما استعير له هذا الاسم على الوجه الّذي ذكرناه.

فقد آل الأمر مع تسليم صحّة الخبر و قبوله إلى أنّ «الإيمان»هو المعرفة بالقلب و التّصديق به على نحو ما تقتضيه اللّغة،و لا يطلق لفظه إلاّ على ذلك،إلاّ أنّه يستعمل في الإقرار باللّسان أو العمل بالأركان مجازا و اتّساعا و باللّه التّوفيق.(1:38)

الفخر الرّازيّ: احتجّ من قال:العمل غير داخل في مسمّى الإيمان،بأنّ اللّه تعالى عطف عمل الصّالحات على الإيمان[العصر:3]و لو كان عمل الصّالحات داخلا في مسمّى الإيمان لكان ذلك تكريرا،و لا يمكن أن يقال:هذا التّكرير واقع في القرآن،كقوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الأحزاب:7،و قوله:

وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ البقرة:98،لأنّا نقول:هناك إنّما حسن،لأنّ إعادته تدلّ على كونه أشرف أنواع ذلك الكلّيّ،و عمل الصّالحات ليس أشرف أنواع الأمور المسمّاة بالإيمان،فبطل هذا التّأويل.

قال الحليميّ: هذا التّكرير واقع لا محالة،لأنّ الإيمان و إن لم يشتمل على عمل الصّالحات،لكن قوله:

وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يشتمل على الإيمان،فيكون قوله: وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مغنيا عن ذكر قوله:

اَلَّذِينَ آمَنُوا و أيضا فقوله: وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يشتمل على قوله: وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ العصر:3،فوجب أن يكون ذلك تكريرا.

أجاب الأوّلون و قالوا:إنّا لا نمنع ورود التّكرير لأجل التّأكيد،لكنّ الأصل عدمه،و هذا القدر يكفي في الاستدلال.(32:88)

اختلف أهل القبلة في مسمّى«الإيمان»في عرف الشّرع،و يجمعهم فرق أربع:

الفرقة الأولى:الّذين قالوا:الإيمان اسم لأفعال

ص: 631

القلوب و الجوارح و الإقرار باللّسان،و هم المعتزلة و الخوارج و الزّيديّة،و أهل الحديث.

أمّا الخوارج فقد اتّفقوا على أنّ الإيمان باللّه يتناول المعرفة باللّه و بكلّ ما وضع اللّه عليه دليلا عقليّا أو نقليّا من الكتاب و السّنّة،و يتناول طاعة اللّه في جميع ما أمر اللّه به من الأفعال و التّروك صغيرا كان أو كبيرا.فقالوا:

مجموع هذه الأشياء هو الإيمان،و ترك كلّ خصلة من هذه الخصال كفر.

و أمّا المعتزلة فقد اتّفقوا على أنّ الإيمان إذا عدّي بالباء فالمراد به التّصديق،و لذلك يقال:فلان آمن باللّه و برسوله،و يكون المراد التّصديق؛إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التّعدية،فلا يقال:فلان آمن بكذا،إذا صلّى و صام،بل يقال:فلان آمن باللّه،كما يقال:

صام و صلّى للّه؛فالإيمان المعدّى بالباء يجري على طريقة أهل اللّغة.أمّا إذا ذكر مطلقا غير معدّى فقد اتّفقوا على أنّه منقول من المسمّى اللّغويّ-الّذي هو التّصديق-إلى معنى آخر،ثمّ اختلفوا فيه على وجوه:

أحدها:أنّ الإيمان عبارة عن فعل كلّ الطّاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة،أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات،و هو قول واصل بن عطاء و أبي الهذيل و القاضي عبد الجبّار بن أحمد.

و ثانيها:أنّه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النّوافل،و هو قول أبي عليّ و أبي هاشم.

و ثالثها:أنّ الإيمان عبارة عن اجتناب كلّ ما جاء فيه الوعيد،فالمؤمن عند اللّه كلّ من اجتنب كلّ الكبائر، و المؤمن عندنا كلّ من اجتنب كلّ ما ورد فيه الوعيد، و هو قول النّظّام.و من أصحابه من قال:شرط كونه مؤمنا عندنا و عند اللّه اجتناب الكبائر كلّها.

و أمّا أهل الحديث فذكروا وجهين:

الأوّل:أنّ المعرفة إيمان كامل و هو الأصل،ثمّ بعد ذلك كلّ طاعة إيمان على حدة.و هذه الطّاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلاّ إذا كانت مرتّبة على الأصل الّذي هو المعرفة.و زعموا أنّ الجحود و إنكار القلب كفر،ثمّ كلّ معصية بعده كفر على حدة،و لم يجعلوا شيئا من الطّاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة و الإقرار،و لا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود و الإنكار،لأنّ الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله،و هو قول عبد اللّه بن سعيد بن كلاب.

الثّاني:زعموا أنّ الإيمان اسم للطّاعات كلّها و هو إيمان واحد،و جعلوا الفرائض و النّوافل كلّها من جملة الإيمان.و من ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه، و من ترك النّوافل لا ينتقص إيمانه.و منهم من قال:الإيمان اسم للفرائض دون النّوافل.

الفرقة الثّانية:الّذين قالوا:الإيمان بالقلب و اللّسان معا،و قد اختلف هؤلاء على مذاهب:

الأوّل:إنّ الإيمان إقرار باللّسان و معرفة بالقلب، و هو قول أبي حنيفة و عامّة الفقهاء،ثمّ هؤلاء اختلفوا في موضعين:

أحدهما:اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة،فمنهم من فسّرها بالاعتقاد الجازم-سواء كان اعتقادا تقليديّا أو كان علما صادرا عن الدّليل-و هم الأكثرون الّذين يحكمون بأنّ المقلّد مسلم،و منهم من فسّرها بالعلم الصّادر عن الاستدلال.

ص: 632

و ثانيهما:اختلفوا في أنّ العلم المعتبر في تحقّق الإيمان علم بما ذا؟قال بعض المتكلّمين:هو العلم باللّه و بصفاته على سبيل التمام و الكمال،ثمّ إنّه لمّا كثر اختلاف الخلق في صفات اللّه تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطّوائف.و قال أهل الإنصاف:المعتبر هو العلم بكلّ ما علم بالضّرورة،كونه من دين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو عالما لذاته و بكونه مرئيّا أو غيره،لا يكون داخلا في مسمّى الإيمان.

القول الثّاني:إنّ الإيمان هو التّصديق بالقلب و اللّسان معا،و هو قول بشر بن عتاب المريسيّ،و أبي الحسن الأشعريّ،و المراد من التّصديق بالقلب:الكلام القائم بالنّفس.

القول الثّالث:قول طائفة من الصّوفيّة:الإيمان إقرار باللّسان،و إخلاص بالقلب.

الفرقة الثّالثة:الّذين قالوا:الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط،و هؤلاء قد اختلفوا على قولين:

أحدهما:أنّ الإيمان عبارة عن معرفة اللّه بالقلب، حتّى أنّ من عرف اللّه بقلبه ثمّ جحد بلسانه و مات قبل أن يقرّ به،فهو مؤمن كامل الإيمان،و هو قول جهم بن صفوان.أمّا معرفة الكتب و الرّسل و اليوم الآخر فقد زعم أنّها غير داخلة في حدّ الإيمان.و حكى الكعبيّ عنه:

أنّ الإيمان معرفة اللّه مع معرفة كلّ ما علم بالضّرورة كونه من دين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

و ثانيهما:أنّ الإيمان مجرّد التّصديق بالقلب،و هو قول الحسين بن الفضل البجليّ.

الفرقة الرّابعة:الّذين قالوا:الإيمان هو الإقرار باللّسان فقط،و هم فريقان:

الأوّل:أنّ الإقرار باللّسان هو الإيمان فقط،لكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب،فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللّسانيّ إيمانا،لا أنّها داخلة في مسمّى الإيمان،و هو قول غيلان بن مسلم الدّمشقيّ و الفضل الرّقاشيّ،و إن كان الكعبيّ قد أنكر كونه قولا لغيلان.

الثّاني:أنّ الإيمان مجرّد الإقرار باللّسان،و هو قول الكرّاميّة.و زعموا أنّ المنافق،مؤمن الظّاهر كافر السّريرة،فثبت له حكم المؤمنين في الدّنيا و حكم الكافرين في الآخرة،فهذا مجموع أقوال النّاس في مسمّى الإيمان في عرف الشّرع.

و الّذي نذهب إليه أنّ«الإيمان»عبارة عن التّصديق بالقلب،و نفتقر هاهنا إلى شرح ماهيّة«التّصديق بالقلب»فنقول:

إنّ من قال:العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث،بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا،و الحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم،فهذا الحكم الذّهنيّ بالثّبوت أو بالانتفاء أمر يعبّر عنه في كلّ لغة بلفظ خاصّ.

و اختلاف الصّيغ و العبارات مع كون الحكم الذّهنيّ أمرا واحدا يدلّ على أنّ الحكم الذّهنيّ أمر مغاير لهذه الصّيغ و العبارات،و لأنّ هذه الصّيغ دالّة على ذلك الحكم و الدّال غير المدلول،ثمّ نقول:هذا الحكم الذّهنيّ غير العلم،لأنّ الجاهل بالشّيء قد يحكم به،فعلمنا أنّ هذا

ص: 633

الحكم الذّهنيّ مغاير للعلم،فالمراد من«التّصديق بالقلب»هو هذا الحكم الذّهنيّ.بقي هاهنا بحث لفظيّ، و هو أنّ المسمّى بالتّصديق في اللّغة هو ذلك الحكم الذّهنيّ أم الصّيغة الدّالّة على ذلك الحكم الذّهنيّ،و تحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه.إذا عرفت هذه المقدّمة،فنقول:

الإيمان عبارة عن التّصديق بكلّ ما عرف بالضّرورة كونه من دين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة:

القيد الأوّل:أنّ الإيمان عبارة عن التّصديق،و يدلّ عليه وجوه:

الأوّل:أنّه كان في أصل اللّغة للتّصديق،فلو صار في عرف الشّرع لغير التّصديق لزم أن يكون المتكلّم به متكلّما بغير كلام العرب،و ذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيّا.

الثّاني:أنّ الإيمان أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين،فلو صار منقولا إلى غير مسمّاه الأصليّ لتوفّرت الدّواعي على معرفة ذلك المسمّى،و لاشتهر و بلغ إلى حدّ التّواتر،فلمّا لم يكن كذلك علمنا أنّه بقي على أصل الوضع.

الثّالث:أجمعنا على أنّ الإيمان المعدّى بحرف الباء مبقى على أصل اللّغة،فوجب أن يكون غير المعدّى كذلك.

الرّابع:أنّ اللّه تعالى كلّما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ المائدة:41،و قوله: وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:106، كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ المجادلة:22، وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14.

الخامس:أنّ اللّه تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصّالح به،و لو كان العمل الصّالح داخلا في الإيمان لكان ذلك تكرارا.

السّادس:أنّه تعالى كثيرا[ما]ذكر الإيمان و قرنه بالمعاصي،قال: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الأنعام:82، وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ الحجرات:9

و احتجّ ابن عبّاس على هذا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى البقرة:

178،من ثلاثة أوجه:

أحدها:أنّ القصاص إنّما يجب على القاتل المتعمّد،ثمّ إنّه خاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فدلّ على أنّه مؤمن.

و ثانيها:قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ البقرة:178،و هذه الأخوّة ليست إلاّ أخوّة الإيمان،لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات:10.

و ثالثها:قوله: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ البقرة:178،و هذا لا يليق إلاّ بالمؤمن،و ممّا يدلّ على المطلوب قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا الأنفال:72،هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر،مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ النّحل:28،و قوله:

ص: 634

و ثالثها:قوله: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ البقرة:178،و هذا لا يليق إلاّ بالمؤمن،و ممّا يدلّ على المطلوب قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا الأنفال:72،هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر،مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ النّحل:28،و قوله:

ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا الأنفال:

72،و مع هذا جعلهم مؤمنين،و يدلّ أيضا عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الممتحنة:1،و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ الأنفال:27، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً التّحريم:8،و الأمر بالتّوبة لمن لا ذنب له محال، و قوله: تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ النّور:

31،لا يقال،فهذا يقتضي أن يكون كلّ مؤمن مذنبا، و ليس كذلك قولنا:هب أنّه خصّ فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجّة.

القيد الثّاني:أنّ الإيمان ليس عبارة عن التّصديق اللّسانيّ،و الدّليل عليه قوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ البقرة:8،نفى كونهم مؤمنين،و لو كان الإيمان باللّه عبارة عن التّصديق اللّسانيّ لما صحّ هذا النّفي.

القيد الثّالث:أنّ الإيمان ليس عبارة عن مطلق التّصديق،لأنّ من صدّق بالجبت و الطّاغوت لا يسمّى مؤمنا.

القيد الرّابع:ليس من شرط الإيمان التّصديق بجميع صفات اللّه عزّ و جلّ،لأنّ الرّسول عليه السّلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالما لذاته أو بالعلم،و لو كان هذا القيد و أمثاله شرطا معتبرا في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرّسول بإيمانه قبل أن يجرّبه في أنّه هل يعرف ذلك أم لا؟فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان.

فإن قال قائل:هاهنا صورتان:الصّورة الأولى:من عرف اللّه تعالى بالدّليل و البرهان،و لمّا تمّ العرفان مات و لم يجد من الزّمان و الوقت ما يتلفّظ فيه بكلمة الشّهادة.

فهاهنا إن حكمتم أنّه مؤمن فقد حكمتم بأنّ الإقرار اللّسانيّ غير معتبر في تحقيق الإيمان،و هو خرق للإجماع، و إن حكمتم بأنّه غير مؤمن فهو باطل،لقوله عليه السّلام:

«يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان» و هذا قلب طافح بالإيمان،فكيف لا يكون مؤمنا؟!

الصّورة الثّانية:من عرف اللّه تعالى بالدّليل و وجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفّظ بكلمة الشّهادة و لكنّه لم يتلفّظ بها،فإن قلتم:إنّه مؤمن فهو خرق للإجماع،و إن قلتم:ليس بمؤمن فهو باطل،لقوله عليه السّلام:«يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان»و لا ينتفي الإيمان من القلب بالسّكوت عن النّطق.

و الجواب:أنّ الغزاليّ منع من هذا الإجماع في الصّورتين،و حكم بكونهما مؤمنين،و أنّ الامتناع عن النّطق يجري مجرى المعاصي الّتي يؤتى بها مع الإيمان.(2:23-27)

القرطبيّ: استدلّ بهذه الآية من قال:إنّ«الإيمان» هو القول،لقوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً النّساء:94،قالوا:و لمّا منع أن يقال لمن قال لا إله إلاّ اللّه:لست مؤمنا،منع من قتلهم بمجرّد القول.و لو لا الإيمان الّذي هو هذا القول لم يعب قولهم.

قلنا:إنّما شكّ القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوّذا فقتلوه،و اللّه لم يجعل لعباده غير الحكم بالظّاهر،

ص: 635

و قد قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه».و ليس في ذلك أنّ«الإيمان»هو الإقرار فقط؛ أ لا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول و ليسوا بمؤمنين،حسب ما تقدّم بيانه.[القرطبيّ 1:193]و قد كشف البيان في هذا قوله عليه السّلام:«أ فلا شققت عن قلبه» فثبت أنّ«الإيمان»هو الإقرار و غيره،و أنّ حقيقته التّصديق بالقلب،و لكن ليس للعبد طريق إليه إلاّ ما سمع منه فقط.(5:340)

البيضاويّ: الإيمان في اللّغة عبارة عن التّصديق، مأخوذ من«الأمن».[إلى أن قال:]

و أمّا في الشّرع فالتّصديق بما علم بالضّرورة أنّه من دين محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم كالتّوحيد و النّبوّة و البعث و الجزاء،أو مجموع ثلاثة أمور:اعتقاد الحقّ،و الإقرار به،و العمل بمقتضاه،عند جمهور المحدّثين و المعتزلة و الخوارج.فمن أخلّ بالاعتقاد وحده فهو منافق،و من أخلّ بالإقرار فكافر،و من أخلّ بالعمل ففاسق وفاقا،و كافر عند الخوارج،و خارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.

و الّذي يدلّ على أنّه التّصديق وحده،أنّه سبحانه و تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ المجادلة:22، وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:106، وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ المائدة:

41، وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:

14،و عطف عليه«العمل الصّالح»في مواضع لا تحصى و قرنه بالمعاصي،فقال تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الحجرات:9، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى البقرة:178، اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الأنعام:82، مع ما فيه من قلّة التّغيير،لأنّه أقرب إلى الأصل،؟متعيّن الإرادة في الآية إذ المعدّى بالباء هو التّصديق وفاقا.

ثمّ اختلف في مجرّد التّصديق بالقلب هل هو كاف لأنّه المقصود أم لا بدّ من اقتران الإقرار به للمتمكّن منه؟ و لعلّ الحقّ هو الثّاني،لأنّه تعالى ذمّ المعاند أكثر من ذمّ الجاهل المقصّر،و للمانع أن يجعل الذّمّ للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكّن منه.(1:16)

نحوه الشّربينيّ.(1:17)

النّيسابوريّ: [ذكر مثل الفخر الرّازيّ و أضاف:]

قلت و باللّه التّوفيق:التّحقيق في المقام أنّ للإيمان وجودا في الأعيان،و وجودا في الأذهان،و وجودا في العبارة.و لا ريب أنّ الوجود العينيّ لكلّ شيء هو الأصل،و باقي الوجودات فرع و تابع.

فالوجود العينيّ للإيمان هو النّور الحاصل للقلب، بسبب ارتفاع الحجاب بينه و بين الحقّ جلّ ذكره اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ البقرة:257،و هذا النّور قابل للقوّة و الضّعف و الاشتداد و النّقص كسائر الأنوار: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً الأنفال:2،كلّما ارتفع حجاب ازداد نورا، فيتقوّى الإيمان و يتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصّدر،و يطّلع على حقائق الأشياء،و تتجلّى له الغيوب و غيوب الغيوب،فيعرف كلّ شيء في موضعه،فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السّلام و لا سيّما محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم خاتم النّبيّين،في جميع ما أخبروا عنه إجمالا أو تفصيلا على حسب نوره،

ص: 636

و بمقدار انشراح صدره،و ينبعث من قلبه داعية العمل بكلّ مأمور،و الاجتناب عن كلّ محظور،فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة و الملكات الحميدة نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ التّحريم:8، نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ النّور:35.

و أمّا الوجود الذّهنيّ فبملاحظة المؤمن لهذا النّور و مطالعته له و لمواقعه.

و أمّا الوجود اللّفظيّ،فخلاصته ما اصطلح عليه الشّارع بشهادة«أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم».من غير النّور المذكور لا يفيد إلاّ كما يفيد للعطشان التّلفّظ بالماء الزّلال دون التّروّيّ به.إلاّ أنّ التّعبير عمّا في الضّمير لمّا لم يتيسّر إلاّ بواسطة النّطق المفصح عن كلّ خفيّ،و المعرب عن كلّ مشتبه كان للتّلفّظ بكلمة الشّهادة و لعدم التّلفّظ بها،مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء و كفره،فصحّ جعل ذلك و ما ينخرط في سلكه من العلامات،كعدم لبس الغيار و شدّ الزّنّار دليلا عليهما،و تفويض أمر الباطن إلى عالم الخفيّات المطّلع على السّرائر و النّيّات،و لهذا قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على اللّه».(1:148)

الجرجانيّ: الإيمان في اللّغة:التّصديق بالقلب،و في الشّرع هو الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللّسان.و قيل:من شهد و عمل و لم يعتقد فهو منافق،و من شهد و لم يعمل و اعتقد فهو فاسق،و من أخلّ بالشّهادة فهو كافر.

الإيمان على خمسة أوجه:إيمان مطبوع،و إيمان مقبول،و إيمان معصوم،و إيمان موقوف،و إيمان مردود.

فالإيمان المطبوع هو إيمان الملائكة،و الإيمان المعصوم إيمان الأنبياء،و الإيمان المقبول هو إيمان المؤمنين،و الإيمان الموقوف هو إيمان المبتدعين،و الإيمان المردود هو إيمان المنافق.(18)

صدر المتألهين :ماهيّة الإيمان و أنّه مجرّد العلم و التّصديق.

اعلم أنّ الإيمان و سائر مقامات الدّين و معالم شريعة سيّد المرسلين عليه و آله السّلام،إنّما ينتظم من ثلاثة أمور:معارف،و أحوال،و أعمال.فالمعارف هي الأصول، و هي تورث الأحوال،و الأحوال تورث الأعمال.

أمّا المعارف فهي العلم باللّه و صفاته و أفعاله و كتبه و رسله و اليوم الآخر.

و أمّا الأحوال فكالانقطاع عن الأغراض الطّبيعيّة و الشّوائب النّفسانيّة و الوساوس العاديّة،كالشّهوة و الغضب و الكبر و العجب و محبّة الجاه و الشّهرة و غير ذلك.

و أمّا الأعمال فكالصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الطّواف و الجهاد،و فعل ما أمر اللّه به و ترك ما نهى عنه.

فهذه الثّلاثة إذا قيس بعضها إلى بعض،لاح للنّاظرين إلى الأشياء-بالنّظر الظّاهر-المقتصرين على إدراك النّشأة الحسّيّة،أنّ العلوم تراد للأحوال، و الأحوال تراد للأعمال؛فالأعمال هي الأصل عندهم و الأفضل في نظرهم.

و أمّا أرباب البصائر،المقتبسون أنوار المعرفة من مشكاة النّبوّة لا من أفواه الرّجال،المستفيضون أسرار

ص: 637

الحكمة الحقّة من معدن الوحي و الرّسالة،لا من مقارعة الأسماع بالقيل و القال،فالأمر عندهم بالعكس،من ذلك.فإنّ الأعمال تراد للأحوال،و الأحوال للعلوم؛ فالأفضل العلوم،ثمّ الأحوال،ثمّ الأعمال.فإنّ لوح النّفس كالمرآة،و الأعمال تصقيلها و تطهيرها،و الأحوال صقالتها و طهارتها،و العلوم صورها المرتسمة فيها.

فنفس الأعمال لكونها من جنس الحركات و الانفعالات تتبعها المشقّة و التّعب،فلا خير فيها إذا نظر إليها لذواتها.و نفس الأحوال لكونها من قبيل الأعدام و القوى فلا وجود لها،و ما لا وجود له فلا فضيلة فيه، الخير و الفضيلة لما له الوجود الأتمّ و الشّرف الأنور، و هي الموجودات المقدّسة و المعقولات الصّوريّة المجرّدة عن التّغيّر و الزّوال و الشّرّ و الوبال،كالباري و ملائكته العلويّة،و الأرواح المطهّرة الإنسيّة،و الحضرة الإلهيّة، و الحظيرة القدسيّة.

ففائدة إصلاح العمل إصلاح القلب،و فائدة إصلاح القلب أن ينكشف له جلال اللّه في ذاته و صفاته و أفعاله.

فارفع علوم المكاشفة هي المعارف الإيمانيّة، و معظمها معرفة اللّه،ثمّ معرفة صفاته و أسمائه،ثمّ معرفة أفعاله،فهي الغاية الأخيرة الّتي يراد لأجلها تهذيب الظّواهر بالأعمال،و تهذيب البواطن بالأحوال.فإنّ السّعادة بها تنال،بل هي عين الخير و السّعادة و اللّذّة القصوى.

و مقابلها و هي الجهل بها،محض الشّرّ و الشّقاوة و الألم الشّديد،و لكن قد لا يشعر القلب في الدّنيا بأنّها عين السّعادة و لا قلب من اتّصف بالجهل بحقائق الإيمان بأنّه محض الشّرّ و الألم،و إنّما يقع الشّعور بتلك السّعادة و هذه الشّقاوة في الدّار الآخرة الّتي فيه أعلنت السّرائر، و أبطنت الظّواهر،و نشرت الصّحائف،و بعثر ما في القبور،و حصّل ما في الصّدور.

فالعلم بالإلهيّات هي الأصل في الإيمان باللّه و رسوله،و هي المعرفة الحرّة الّتي لا قيد عليها و لا تعلّق لها بغيرها،و كلّ ما عداه عبيد و خدم بالإضافة فإنّما يراد لأجلها،و هي أيضا معطى أصولها و مثبت موضوعات مسائلها و محقّق مبادئ براهينها و غايات مطالبها.

و لمّا كانت سائر العلوم مرادة لأجلها،كان تفاوتها في الفضيلة بحسب تفاوت نفعها بالإضافة إلى معرفة اللّه، فإنّ بعض المعارف يفضي إلى بعض إمّا بواسطة أو بوسائط حتّى يتوسّل بها إلى معرفة اللّه،كما أنّ الأعمال و الأخلاف يفضي بعضها إلى بعض حتّى ينجرّ إلى تصفية الباطن بالكلّيّة.

فمن العلوم كلّما كانت الوسائط بينه و بين معرفة اللّه أقلّ،كان أفضل،كما أنّ الأعمال كلّما كانت الوسائط بينه و بين تصفية القلب أقلّ،كان أزكى.

و أمّا الأحوال-أعني صفاء القلب و طهارته من شوائب الدّنيا و شواغل الخلق-فيعني بها استحقاقه لحصول نور المعرفة و استعداده،لانكشاف حقيقة الحقّ و صورة الحضرة الإلهيّة حتّى إذا تمّت طهارته و صقلت صفحة وجهه،واجهته أنوار الكبرياء،و حضرت عنده و انكشفت لديه حقائق الأشياء.

فقد ثبت أنّ وجوب الأعمال الصّالحة و ترك القبائح، لأجل إصلاح القلب و جلب الأحوال،و تفاوتها في

ص: 638

الفضيلة إتيانا و تركا،بقدر تأثيرها في تطهير القلب و تهذيبه و إعداده،لأن يحصل له المعرفة الإلهيّة و العلوم الكشفيّة.

و كما أنّ تصقيل المرآة يحتاج إلى أعمال تتقدّم على تمام أحوال المرآة في صفائها و صقالتها،و تلك الأعمال بعضها أقرب إلى الصّقالة التّامّة من بعض،فكذلك الأعمال المورثة لأحوال القلب يترتّب في الفضيلة ترتّب الأحوال.فالحالة القريبة أو المقرّبة من صفاء القلب هي أفضل ممّا دونها لا محالة،بحسب قربها من المقصود الأصليّ.

فكلّ عمل إمّا أن يجلب إلى القلب حالة مانعة من المكاشفة،موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدّنيا.و إمّا أن يجلب إليه حالة مهيّئة للمكاشفة،موجبة لصفاء القلب و قطع علاقته عن الدّنيا.و اسم الأوّل في عرف الشّرع«المعصية»سواء كان فعلا أو تركا،و اسم الثّاني«الطّاعة»فعلا كان أو تركا.

و المعاصي من حيث تأثيرها في ظلمة القلب و قساوته متفاوتة،و كذا الطّاعات في تنوير القلب و تصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها،و ذلك يختلف باختلاف الأزمان و الأشخاص.فربّما كان قيام اللّيل لأحد أفضل من إيتاء الصّدقات المتبرّعة،و ربّما كان الأمر بالعكس من ذلك.و ربّما كان صوم ستّين يوما أفضل في باب الكفّارة من عتق رقبة كما للسّلاطين و الأمراء من أهل الدّنيا.

فإذا تقرّرت هذه المقدّمات،فقد علم أنّ الأصل في «الإيمان»هو المعرفة بالجنان.و أمّا العمل بالأركان فإنّما يعتبر لتوقّف المعرفة على إصلاح القلب و تهذيب الباطن و تلطيف السّرّ و توقّفها على فعل الحسنات و ترك السّيّئات.

و ممّا يدلّ على أنّ«الإيمان»مجرّد العلم و التّصديق وحده أمور:

الأوّل:إنّه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب،فقال في حقّ المؤمنين: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ المجادلة:22،و في حقّ المنافقين: اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ المائدة:41، وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14،و قوله:

وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:106.

و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:«الإيمان سرّ-و أشار إلى صدره- و الإسلام علانية».

الثّاني:إنّه تعالى كثيرا ما ذكر الإيمان و قرن به العمل الصّالح،و لو كان داخلا فيه لكان ذكره تكرارا.

الثّالث:إنّ كثيرا ما ذكر الإيمان و قرنه بالمعاصي قال:

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الأنعام:82، و قوله: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي الحجرات:9.

و احتجّ ابن عبّاس على هذا المطلب بقوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى البقرة:178،من ثلاثة أوجه:

أحدها:إنّما يجب القصاص على القاتل المتعمّد،ثمّ إنّه خاطبه بالإيمان فدلّ على أنّه مؤمن.

و ثانيها: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ البقرة:178،

ص: 639

و هذه الأخوّة ليست إلاّ أخوّة الإيمان لقوله تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات:10.

و ثالثها:قوله: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ البقرة:178،و هذا لا يليق إلاّ بالمؤمن.و من هذا القبيل قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا الأنفال:72، جعلهم مؤمنين مع عظيم الوعيد،في ترك الهجرة بقوله تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ النّساء:97،إلى قوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا الأنفال:72.

و منه أيضا قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ الأنفال:27،و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً التّحريم:8،إلى غير ذلك من الآيات الّتي يجري هذا المجرى.

الرّابع:إنّه تعالى قال: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ البقرة:

256،يدلّ على أنّه من الأمور الاعتقاديّة الّتي لا يمكن تحصيلها بالجبر و الإكراه.

و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله:«ليس الدّين بالتّمنّي»يعلم أنّه ليس أمرا اختياريّا.و لو كان من باب الأعمال البدنيّة كالصّلاة و الصّيام،لأمكن تحصيله في شخص آخر بالجبر،و في الشّخص نفسه بالتّمنّي.

الخامس:إنّ العلم و التّصديق اليقينيّ غير قابل للزّوال و التّغيير،فهو المتعيّن بأن يكون أصلا في الإيمان.

السّادس:إنّ«الإيمان»في أصل اللّغة بمعنى التّصديق و الإذعان،فلو صار في عرف الشّرع لغير هذا المعنى لزم أن لا يكون عربيّا،و ذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيّا.

و أيضا لو صار منقولا عن معناه و مسمّاه الأصليّ، لتوفّرت الدّواعي على معرفة ذاك المسمّى،و لاشتهر و بلغ إلى حدّ التّواتر،و ليس كذلك.فعلم أنّه باق على أصل الوضع.

و أيضا لا خلاف لأحد في أنّ لفظ«الإيمان»إذا عدّي بحرف الباء،كان معناه التّصديق،كما هو في اللّغة،فوجب أن يكون المعدّى كذلك.لا يقال:هذا إثبات اللّغة بالقياس،و هو غير جائز كما ثبت في علم الأصول،لأنّا نقول:ليس كذلك بل هذا استنباط المعنى الأصليّ من موارد الاستعمال؛إذ التّعدية بالحرف لا يغيّر أصل المعنى المصدري بل يزيده كمالا و قوّة.

و أمّا المعتزلة فقد اعترفوا أنّ«الإيمان»إذا عدّي بالباء كان المراد به التّصديق،كما في أصل اللّغة،و لذلك إذا قيل:فلان آمن باللّه و برسوله،يكون المراد عندهم أيضا مجرّد التّصديق؛إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التّعدية،فلا يقال:فلان آمن بكذا،إذا صام أو صلّى.و أمّا إذا ذكر مطلقا بلا تعدية،فقد زعموا أنّه منقول من المسمّى اللّغويّ إلى معنى آخر،و هذا تحكّم محض،كما لا يخفى.

درجات الإيمان و مراتبه:فالمذهب المنصور المعتضد بالبرهان أنّ«الإيمان»في عرف الشّرع هو التّصديق بكلّ ما علم بالضّرورة من دين نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله.

لكن قد يسمّى الإقرار إيمانا كما يسمّى تصديقا،إلاّ أنّه متى صدر عن شكّ أو جهل كان إيمانا لفظيّا لا حقيقيّا.

و من هذا القبيل تقسيم المنطقيّين القضيّة-و هي الحكم بثبوت أمر لآخر-إلى قضيّة معقولة و إلى قضيّة

ص: 640

ملفوظة.

و قد يسمّى أعمال الجوارح إيمانا استعارة و تلويحا، كما يسمّى تصديقا لذلك.كما يقال:«فلان يصدّق أفعاله مقاله»و الفعل ليس بتصديق باتّفاق أهل اللّغة.فالإيمان من الألفاظ المشكّكة الّتي يتفاوت معناها في الشّدّة و الضّعف،و الكمال و النّقص،فهو منقسم إلى حقيقيّ و مجازيّ،باطني و ظاهريّ،بل ينقسم كما أشار إليه بعض العرفاء،إلى لبّ و لبّ لبّ،و قشر و قشر قشر،و هذا بعينه كانقسام الإنسان إلى هذه المراتب،فإنّ الإيمان من مقامات الإنسان في انسانيّته.

و قد يمثّل هذا تقريبا للأفهام الضّعيفة بالجوز،فإنّ له قشرين الأعلى و الأسفل،و له لبّ و للّبّ دهن،و هو لبّ لبّه.

فالمرتبة الأولى من الإيمان:أن يقول الإنسان كلمة الشّهادة و يعترف باللّسان و قلبه غافل عنه،أو جاحد له،كما للمنافقين.

و الثّانية:أن يصدّق بمعنى هذه الكلمة و بكلّ ما هو معلوم بالضّرورة من الدّين،كتصديق عامّة المسلمين، و هذا اعتقاد ليس بيقين.

و الثّالثة:أن يعرف هذه المعارف الإيمانيّة و يصدّق بها عرفانا كشفيّا أو تصديقا برهانيّا و علما يقينيّا بواسطة نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء من عباده،و هو المشار إليه في قوله: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ الحديد:12،و هذا هو الإيمان الحقيقيّ الّذي سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حارثة الأنصاريّ عن بيان حقيقته لمّا قال:إنّي أصبحت مؤمنا حقّا،فقال صلّى اللّه عليه و آله:لكلّ حقّ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟

فأجاب بقوله:عزفت نفسي عن الدّنيا بما فيها فاستوى عندي حجرها و ذهبها،فكأنّي أرى أهل الجنّة في الجنّة يتزاورون،و أهل النّار في النّار يتعاوون،و كأنّي أرى عرش ربّي بارزا.فصدّقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و قال:

أصبت فالزم.

و الرّابعة:أن يستغرق الإنسان في نور الحضرة الأحديّة بحيث لا يرى في الوجود إلاّ الواحد القهّار، فيقول بلسان حاله و إيمانه:لمن الملك اليوم؟ثمّ يجيب عنه بلغة توحيده و عرفانه:للّه الواحد القهّار.و هذا المقام لا يحصل لأحد ما دام كونه في هذه الحياة الدّنيا إلاّ للكمّل من العرفاء و الأولياء،بواسطة غلبة سلطان الآخرة على بواطنهم.

فصاحب المقام الأوّل مؤمن بمجرّد اللّسان في عالم الأجسام و نشأة الحواسّ،و فائدة إيمانه يرجع إليه في هذه النّشأة،إذ يحقن دمه من السّيف و السّنان،و عصم ماله و ذراريه من النّهب و السّبي.

و صاحب المقام الثّاني مؤمن،بمعنى أنّه معتقد بقلبه مفهوم هذا اللّفظ،و قلبه خال عن التّكذيب،و هو عقد على القلب،و ليس فيه انشراح القلب لنور المعرفة، و لا انفتاح روزنته لعالم الملكوت الغيبيّ المقابل لهذا العالم، عالم الملك و الشّهادة.

و فائدته أنّه يصير منشأ بعض الأعمال الصّالحة و مبدأ بعض الخيرات و أداء الأمانات و فعل الحسنات، الّتي ينجرّ تارة أخرى إلى إصلاح القلب و تصفيتها و ليستعدّ لحصول المعرفة على وجه أكمل،حتّى ينتهي إلى

ص: 641

الإيمان الحقيقيّ.

فعلى هذا صحّ القول بأنّ«الإيمان»هو المبدأ و الغاية، فإنّ الإيمان و العمل الصّالح كلّ منهما يدور على صاحبه، فكلّ إيمان موجب لصالح من العمل و كلّ صالح من العمل ينجرّ إلى حصول ضرب من الإيمان،فيدور كلّ منهما على نفسه دورا غير مستحيل،لتغايره بالعدد.

لكنّ«الإيمان»أوّل الأوائل في الحدوث،و هو أيضا آخر الأواخر في البقاء.

ثمّ لهذا العقد الإيماني الّذي كلامنا فيه،شبه و حيل يقصد بها تحليله و توهينه تسمّى«بدعة»و له أيضا حيل يقصد بها دفع حيلة التّحليل و التّوهين،و يقصد بها إحكام هذه العقدة و شدّها على قلوب المسلمين، و يسمّى كلاما.و العالم بها متكلّما.و هو في مقابلة المبتدع، و مقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوامّ.

و صاحب المقام الثّالث مؤمن،بمعنى أنّه بصير بحقائق الأمور الإيمانيّة بصيرة قلبيّة و مشاهدة عقليّة؛إذ قد انكشفت له أسرار الملكوت و خفايا عالم الغيب و الجبروت.لا أنّه مكلّف بعقد قلبه على مفهوم هذه الألفاظ،فإنّ ذلك رتبة العوامّ و المتكلّمين؛إذ لا يفارق المتكلّم العامي في أصل الاعتقاد،بل في صنعة تلفيق الكلام الّذي يدفع به حيل المبتدعة في تحليل هذه العقدة.

و صاحب المقام الرّابع مؤمن،بمعنى أنّه لم يحضر في شهوده غير الواحد القهّار مبدئ الأشياء و غايتها و أوّلها و آخرها و ظاهرها و باطنها،الّذي إليه يرجع عواقب الأمور،و به ينقطع سير السّائرين و سفر المسافرين.

و هذه المرتبة في الإيمان هي الغاية القصوى الّتي لا حدّ لها و لا منتهى.

و التّمثيل لمراتب الإيمان و التّوحيد بقشري الجوز و لبّيه على هذا الوجه،ذكره صاحب كتاب«إحياء العلوم»بأدنى تغيير ثمّ قال:

فالأوّل كالقشرة العليا من الجوز،و الثّاني كالقشرة السّفلى،و الثّالث كاللّبّ،و الرّابع كالدّهن المستخرج من اللّبّ.

و كما أنّ القشرة العليا لا خير فيها،بل إن أكل فهو مرّ المذاق،و إن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر،و إن اتّخذ حطبا أطفأ النّار و أكثر الدّخان،و إن ترك في البيت ضيّق المكان،فلا يصلح إلاّ أن يترك مدّة على الجوز للصّون ثمّ يرمى.فكذلك التّوحيد بمجرّد اللّسان عديم الجدوى، كثير الضّرر،مذموم الظّاهر و الباطن.لكنّه ينفع مدّة في حفظ القشرة السّفلى إلى وقت الموت و القشرة السّفلى هي القالب و البدن،و توحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة،فإنّهم لم يؤمروا بشقّ القلوب،و السّيف إنّما يسلب الجسم و هو القشر،و إنّما يتجرّد عنه بالموت، فلا يبقى لإيمانه فائدة بعده.

و كما أنّ القشرة السّفلى ظاهرة النّفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنّها تصون اللّبّ و تحرسه عن الفساد، و عند الادّخار فإذا فصل أمكن أن ينتفع بها حطبا لكنّها ناقص القدر بالإضافة إلى اللّبّ،فكذلك مجرّد الاعتقاد من غير كشف كثير النّفع بالإضافة إلى مجرّد نطق اللّسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف،و المشاهدة الّتي تحصل بانشراح الصّدر و انفتاحه و إشراق نور القلب

ص: 642

فيه،إذ ذلك الشّرح هو المراد بقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ الأنعام:125،و بقوله تعالى: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ الزّمر:22.

و كما أنّ اللّبّ نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر فكأنّه المقصود،لكنّه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدّهن المستخرج منه.فكذلك إيمان الثّالث مقصد عال للسّالكين و لكنّه لا يخلو عن شوب ملاحظة غير اللّه،و الالتفات إلى ما سواه،بالإضافة إلى حال من لا يشاهد سوى الواحد الحقّ.

تكميل فيه دفع:إذا تحقّق ماهيّة«الإيمان»على هذا الوجه من كونه ذا مراتب متفاوتة متدرّجة في الشّرف و الخسّة،فقد علم فائدة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا النّساء:136،فإنّ الأوّل إيمان صوريّ دنيويّ،و الآخر معنويّ أخرويّ.

و لمّا ثبت ممّا قرّرناه أنّ مراتب الإيمان متعلّقة بمراتب العمل،و متعاكسة كلّ منهما على الأخرى.فإن استشكل أحد على ما هو المختار عندنا من أنّ«الإيمان»هو عبارة عن نفس التّصديق و العرفان،و أنّ الأعمال خارجة عنه، بأنّا لو فرضنا أنّ أحدا عرف اللّه بالدّليل و البرهان،و لمّا تمّ له العرفان مات و لم يجد من الوقت ما يتلفّظ فيه بكلمة الشّهادة،أو وجد من الوقت شيئا لكنّه لم يتلفّظ فيه بها، ففي هذين الصّورتين إن حكمتم بأنّه مؤمن،فقد حكمتم بأنّ الإقرار اللّسانيّ غير معتبر في تحقّق الإيمان،و هو خرق الإجماع.

و إن حكمتم بأنّه غير مؤمن،فهو باطل لما بيّن، و لقوله صلّى اللّه عليه و آله:«يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان»و هذا قلبه طافح بالإيمان،فكيف لا يكون مؤمنا؟

فالجواب بمنع ثبوت هذا الإجماع و الحكم بإيمانه كما فعله حجّة الإسلام الغزاليّ،فإنّه منع من هذا الإجماع في الصّورتين و حكم بكونه مؤمنا،و أنّ الامتناع عن النّطق يجري مجرى الأعمال الّتي يؤتى به مع الإيمان.

أقول:لا يخفى عليك بعد ما تقدّم من الكلام،أنّ الإيمان القلبيّ لكونه كمالا عقليّا و صورة باطنيّة،لا يحصل إلاّ عقيب الأعمال الشّرعيّة و الأفعال الدّينيّة و الرّياضات السّمعيّة،من القيام و الصّيام و العبادات و القربات.و هذه الأمور منوطة بالتّسليم،و الانقياد لمن عنده الحجج و البيّنات،و الإذعان و الاعتراف بما أتى به القادة و الرّؤساء من أولي الشّرائع و الآيات.

فالصّورة المفروضة ممّا لا يمكن وقوعها عقلا و عادة، فلا يقدح في الإجماع،بل نقول:الإجماع إنّما انعقدت على كفر من كلّف بالإيمان و إظهاره فلم يقبل و لم يظهر الكلمة.

و هذا ممّا لا شبهة فيه،فإنّه إمّا بصدد الجحود و الفتنة في الدّين و إفساد قاعدة المسلمين،و إمّا بصدد الإباحة و التّعطيل و الخروج عن التّكاليف الدّينيّة،فعلى أيّ الوجهين يكون كافرا ظاهرا و باطنا.

تنوير عقليّ:اعلم أنّ الحقيقيّ من الإيمان،هو الّذي به يصير الإنسان إنسانا حقيقيّا عقليّا بعد ما كان إنسانا حيوانيّا،و به يخرج من القوّة إلى الفعل في الوجود البقائيّ الأخرويّ و يتخلّص عن ألم الجحيم و التّعذّب بالنّار،و يتجرّد عن الرّقّ و الحدثان،و تبدّل الجلود

ص: 643

و الذّوبان،كما قال تعالى في صفة أهل النّار: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ النّساء:56.

و هذه الحقيقة الإيمانيّة يعبّر عنها بعبارات مختلفة، و تسمّى بأسامي متعدّدة في لسان الشّرع و العقل.

فتارة يعبّر عنه بالنّور: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ النّور:40،قوله: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ الحديد:12.

و تارة بالحكمة: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً البقرة:269،فكلّ إنسان حكيم مؤمن و كلّ مؤمن حقيقيّ فهو حكيم؛إذ الحكمة بالحقيقة هو معرفة الأشياء الموجودة كما هي بحسب الطّاقة البشريّة،و أصل الموجودات هو الباري و ملائكته و رسله و كتبه.

و تارة بالفقه قال تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ التّوبة:122،و ليس المراد منه معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى الأحكاميّة،و الوقوف على دقائق عللها و استكثار الكلام فيها،و حفظ الأقوال المتعلّقة بها،كما هو عرف أهل هذه الأزمنة و الأعصار اللاّحقة بزمان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و زمان الأئمّة عليهم السّلام.

قال صاحب الإحياء:اسم«الفقه»كان في العصر الأوّل مطلقا على علم طريق الآخرة و دقائق آفات النّفس و مفسدات الأعمال،و قوّة الإحاطة بحقارة الدّنيا، و شدّة التّطلّع على السّعادة الأخرويّة،و استيلاء الخوف على الشّقاوة الّتي بإزائها.و الّذي يوجب التّشوّق إلى الدّار الآخرة و سعادتها،و يقتضي الخوف و الخشية في القلب عن الحرمان الأخرويّ و الشّقاوة الأبديّة، و يوجب إنذار القوم و تخويفهم-كما أشير إليه في الآية المذكورة-هو هذا العلم و هذا الفقه،دون تفريعات الطّلاق و اللّعان و السّلم و الإجارة.

فذلك لا يحصل به شيء من الرّغبة و الرّهبة الأخرويّتين و لا الإنذار و التّخويف،بل التّجرّد فيه على الدّوام ممّا يقسي القلب و ينزع الخشية منه،كما يشاهد من المتجرّدين له.

و قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها الأعراف:

179،و أراد به معاني الآيات دون الفتاوى و الأقضية.

و قال صلّى اللّه عليه و آله:«لا يفقه الرّجل كلّ الفقه حتّى يمقت النّاس في ذات اللّه،و حتّى يرى للقرآن وجوها كثيرة».

و روي أيضا مرفوعا عن أبي الدّرداء مع قوله:ثمّ يقبل على نفسه فيكون لها أشدّ مقتا.

و سأل فرقد السّبخيّ الحسن البصريّ عن شيء فأجاب فقال:إنّ الفقهاء يخالفونك،فقال الحسن:ثكلتك أمّك و هل رأيت فقيها بعينك؟إنّما الفقيه،الزّاهد في الدّنيا،الرّاغب في الآخرة،البصير بدينه،المداوم على عبادة ربّه،الورع الكافّ عن أعراض النّاس،العفيف عن أموالهم،النّاصح لجماعته.و لم يقل في جميع ذلك:

الحافظ لفروع الفتاوى.

و تارة يسمّى«الإيمان»بعلم الكتاب و السّنّة،قال تعالى: يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ الجمعة:2.

(تفسير القرآن الكريم 1:249-261)

الطّريحيّ:الإيمان لغة هو التّصديق المطلق اتّفاقا من الكلّ،و منه قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17.

ص: 644

و شرعا على الأظهر هو التّصديق باللّه بأن يصدّق بوجوده و بصفاته و برسله،بأن يصدّق بأنّهم صادقون فيما أخبروا به عن اللّه،و بكتبه بأن يصدّق بأنّها كلام اللّه و أنّ مضمونها حقّ،و بالبعث من القبور و الصّراط و الميزان،و بالجنّة و النّار،و بالملائكة بأنّهم موجودون و أنّهم عباد مكرمون،لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون،يسبّحون اللّه باللّيل و النّهار لا يفترون، مطهّرون من أنواع الشّهوات من الأكل و الشّرب و الجماع إلى غير ذلك،مبرّءون عن التّناسل و التّوالد، ليسوا بذكور و لا إناث،بل خلقهم اللّه من نور و جعلهم رسلا إلى من شاء من عباده.

و في الحديث:و قد سئل عليه السّلام عن أدنى ما يكون العبد به مؤمنا،فقال:«يشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله،و يقرّ بالطّاعة،و يعرف إمام زمانه،فإذا فعل ذلك فهو مؤمن».

و الإيمان يرد على صيغتين:الإيمان باللّه،و الإيمان للّه.

فالإيمان باللّه هو التّصديق بإثباته على النّعت الّذي يليق بكبريائه،و الإيمان للّه هو الخضوع و القبول عنه،و الاتّباع لما يأمر و الانتهاء لما ينهى.

و في«كشف الغمّة»عن الصّادق عليه السّلام إنّه قال:

«الإيمان ثابت في القلب،و اليقين خطرات،فمرّة يقوى فيصير كأنّه زبر الحديد،و مرّة يصير كأنّه خرقة بالية».

و في الحديث:«الوسائل إلى اللّه:الإيمان الكامل»أي الإيمان باللّه و رسوله هو أصله،و باقي الفرائض و السّنن كمالات.

و فيه:«لا إيمان لمن لا أمانة له».هذا الكلام و نحوه وعيد لا يراد به حقيقة الإيقاع،و إنّما يقصد به الزّجر و الرّدع و نفي الفضيلة دون الحقيقة،في رفع الإيمان و إبطاله.

و فيه:«من صام إيمانا و احتسابا فكذا»أي تصديقا باللّه و بوعده،و«إيمانا»مفعول له،و يجوز أن ينتصب على الحال،أي صام مؤمنا و مصدّقا،و يجوز نصبه على المصدر،أي صام صوم مؤمن مصدّق له.و قيل:و أحسن الوجوه كونه مفعولا.

و المؤمن:من كان متّصفا بالإيمان،و هل يكلّف الدّليل؟

قال المحقّق الشّيخ عليّ رحمه اللّه:المؤمن من كان يعتقد اعتقاد الإماميّة،و إن لم يكن عنده دليل.و قريب منه ما نقل عن المحقّق الطّوسيّ.و قيل:لا بدّ منه و لو إجمالا.(6:204)

الشّريف العامليّ: الإيمان في اللّغة بمعنى التّصديق و الإذعان،و شرعا هو كذلك بالنّسبة إلى التّوحيد و النّبوّة و الإمامة.و لمّا كان الأخير منها متمّما للأوّلين بحيث لا ينفعان بدونه ولايتهم بل لا يتحقّق الإيمان إلاّ به.

كما بيّنّاه مفصّلا في المقالة الثّانية من المقدّمة الأولى.أوّل الإيمان-في روايات كثيرة بل المتواترة-بالولاية و بالإمامة و بحبّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام.(85)

البروسويّ: قال في«بحر العلوم»:في الآية إيذان بأنّ حقيقة الإيمان التّصديق بالقلب،و أنّ الإقرار باللّسان و إظهار شرائعه بالإيذان ليس بإيمان.

و في«التّأويلات النّجميّة»يشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست ممّا يتناول باللّسان بل هو نور يدخل

ص: 645

القلوب إذا شرح اللّه صدر العبد للإسلام،كما قال تعالى:

فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ الزّمر:22،و قال عليه السّلام في صفة ذلك النّور:«إذا وقع في القلب انفسخ له و اتّسع.

قيل:يا رسول اللّه هل لذلك النّور علامة يعرف بها؟قال:

بلى،التّجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و استعداد الموت قبل نزوله»و لهذا قال تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14،فهذا دليل على أنّ محلّ الإيمان«القلب»انتهى.

و في«علم الكلام»ذهب جمهور المحقّقين إلى أنّ الإيمان:التّصديق بالقلب،و إنّما الإقرار شرط لا جزؤه، لإجراء الأحكام في الدّنيا كالصّلاة عليه في وقت موته.

لمّا أنّ تصديق القلب أمر باطن لا يطّلع عليه أحد لا بدّ من علامة،فمن صدّق بقلبه و لم يقرّ بلسانه فهو مؤمن عند اللّه لوجود التّصديق القلبيّ،و إن لم يكن مؤمنا في أحكام الدّنيا لانتفاء شرطه.و أمّا من جعل الإقرار ركنا من الإيمان فعنده لا يكون تارك الإقرار مؤمنا عند اللّه و لا يستحقّ النّجاة من خلود النّار.

و من أقرّ بلسانه و لم يصدّق بقلبه كالمنافق هو مؤمن في أحكام الدّنيا و إن لم يكن مؤمنا عند اللّه،و هذا المذكور من أنّ الإيمان هو التّصديق القلبيّ و الإقرار باللّسان لإجراء الأحكام هو اختيار الشّيخ أبي منصور رحمه اللّه.

و النّصوص معاضدة لذلك،قال اللّه تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ المجادلة:22،و قال اللّه تعالى:

وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:106،و قال اللّه تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:

14،و قال عليه السّلام:اللّهمّ ثبّت قلبي على دينك،أي على تصديقك...

و في«فتح الرّحمن»حقيقة الإيمان لغة:التّصديق بما غاب،و شرعا عند أبي حنيفة رحمه اللّه:تصديق بالقلب و عمل باللّسان،و عند الثّلاثة:عقد بالجنان و نطق باللّسان و عمل بالأركان،فدخل كلّ الطّاعات،انتهى.

قال ابن الملك في«شرح المشارق»:ثمّ الإقرار باللّسان ليس جزء من الإيمان و لا شرطا له عند بعض علمائنا،بل هو شرط لإجراء أحكام المسلمين على المصدّق،لأنّ الإيمان عمل القلب،و هو لا يحتاج إلى الإقرار.و قال بعضهم:إنّه جزء منه لدلالة ظواهر النّصوص عليه،إلاّ أنّ الإقرار لمّا كان جزء له شائبة العرضيّة و التّبعيّة اعتبروا في حالة الاختيار جهة الجزئيّة،حتّى لا يكون تاركه مع تمكّنه منه مؤمنا عند اللّه، و إن فرض أنّه مصدّق و في حالة الاضطرار جهة العرضيّة فيسقط،و هذا معنى قولهم:الإقرار ركن زائد؛إذ لا معنى لزيادته إلاّ أن يحتمل السّقوط عند الإكراه على كلمة الكفر.

فإن قيل:ما الحكمة في جعل عمل جارحة جزء من الإيمان،و لم عيّن به عمل اللّسان دون أعمال سائر الأركان؟

قلنا:لمّا اتّصف الإنسان بالإيمان و كان التّصديق عملا لباطنه جعل عمل ظاهره داخلا فيه،تحقيقا لكمال اتّصافه به؛و تعيّن له فعل اللّسان،لأنّه مجبول للبيان،أو لكونه أخفّ و أبين من عمل سائر الجسد،نعم يحكم بإسلام كافر لصلاته بجماعة و إن لم يشاهد إقراره،لأنّ

ص: 646

الصّلاة المسنونة لا تخلو عنه.

و قال الشّيخ عزّ الدّين ابن عبد السّلام المقدسيّ:

النّطق بكلمتي الشّهادة واجب فمن علم وجوبهما و تمكّن من النّطق بهما فلم ينطق،فيحتمل أن يجعل امتناعه من النّطق بهما كامتناعه من الصّلاة،فيكون مؤمنا غير مخلّد في النّار،لأنّ الإيمان هو التّصديق المحض بالقلب، و اللّسان ترجمانه.و هذا هو الأظهر؛إذ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان»و لا يعدم الإيمان من القلب بالسّكوت عن النّطق الواجب،كما لا يعدم بترك الفعل الواجب،انتهى.

و قال سهل رضي اللّه عنه:ليس في الإيمان أسباب إنّما الأسباب في الإسلام،و المسلم محبوب للخلق، و المؤمن غنيّ عن الخلق.

و قال بعض الكبار:المسلم في عموم الشّريعة من سلم النّاس من لسانه و يده،و في خصوصها من سلم كلّ شيء من لسانه بما يعبّر عنه،و يده فيما له فيه نفوذ الاقتدار.و المؤمن منوّر الباطن و إن عصى،و الكافر مظلم الباطن و إن أتى بمكارم الأخلاق،و من قال:أنا مؤمن إن شاء اللّه،فما عرف اللّه كما ينبغي.

و قال بعض الكبار:كلّ من آمن عن دليل فلا وثوق بإيمانه،لأنّه نظريّ لا ضروريّ،فهو معرض للشّبه القادحة فيه،بخلاف الإيمان الضّروريّ الّذي يجده المؤمن في قلبه و لا يقدر على دفعه،و كذا القول في كلّ علم حصل عن نظر و فكر فإنّه مدخول،لا يسلم من دخول الشّبه عليه و لا من الحيرة فيه و لا من القدح في الأمر الموصل إليه.

و لا بدّ لكلّ محجوب من التّقليد،فمن أراد العلم الحقّ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه فليكثر من الطّاعات و النّوافل حتّى يحبّه الحقّ،فيعرف اللّه باللّه و يعرف جميع أحكام الشّريعة باللّه لا بعقله،و من لم يكثر ممّا ذكر فليقلّد ربّه فيما أخبر و لا يؤول،فإنّه أولى من تقليد العقل.(9:93)

الآلوسيّ: الإيمان في اللّغة:التّصديق،أي إذعان حكم المخبر و قبوله و جعله صادقا،و هو«إفعال»من الأمن،كأنّ حقيقة آمن به:آمنه التّكذيب و المخالفة.

و يتعدّى باللاّم،كما في قوله تعالى: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الشّعراء:111،و بالباء كما في قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«الإيمان أن تؤمن باللّه»الحديث.قالوا:و الأوّل باعتبار تضمينه معنى الإذعان،و الثّاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف،إشارة إلى أنّ التّصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف.و قد يطلق بمعنى«الوثوق»من حيث إنّ الواثق صار ذا أمن،و هو فيه حقيقة عرفيّة أيضا كما في «الأساس»و يفهم مجازيّته ظاهر كلام«الكشّاف».

و أمّا في الشّرع فهو التّصديق بما علم مجيء النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا،و إجمالا فيما علم إجمالا،و هذا مذهب جمهور المحقّقين.

لكنّهم اختلفوا في أنّ مناط الأحكام الأخرويّة مجرّد هذا المعنى أم مع الإقرار؟

فذهب الأشعريّ و أتباعه إلى أنّ مجرّد هذا المعنى كاف لأنّه المقصود،و الإقرار إنّما هو ليعلم وجوده،فإنّه أمر باطن و يجري عليه الأحكام.فمن صدّق بقلبه و ترك الإقرار مع تمكّنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه و بين اللّه

ص: 647

تعالى،و يكون مقرّه الجنّة.لكن ذكر ابن الهمام أنّ أهل هذا القول اتّفقوا على أنّه يلزم أن يعتقد أنّه متى طلب منه الإقرار أتى به،فإن طولب و لم يقرّ فهو كفر عناد.

و ذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه اللّه و غالب من تبعه إلى أنّ الإقرار و ما في حكمه كإشارة الأخرس لا بدّ منه، فالمصدّق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتّب عليه الأحكام الأخرويّة،كالمصلّي مع الرّياء فإنّه لا تنفعه صلاته،و لعلّ هذا لأنّه تعالى ذمّ المعاندين أكثر ممّا ذمّ الجاهلين المقصّرين،و للمانع أن يجعل الذّمّ للإنكار اللّسانيّ و لا شكّ أنّه علامة التّكذيب،أو للإنكار القلبيّ الّذي هو التّكذيب.و حاصل ذلك منع حصول التّصديق للمعاند فإنّه ضدّ الإنكار،و إنّما الحاصل له المعرفة الّتي هي ضدّ النّكارة و الجهالة،و قد اتّفقوا على أنّ تلك المعرفة خارجة عن التّصديق اللّغويّ،و هو المعتبر في الإيمان.

نعم اختلفوا في أنّها هل هي داخلة في التّصوّر أم في التّصديق المنطقيّ؟

فالعلاّمة الثّاني:على الأوّل،و أنّه يجوز أن تكون الصّورة الحاصلة من النّسبة التّامّة الخبريّة تصوّرا،و أنّ التّصديق المنطقيّ بعينه التّصديق اللّغويّ،و لذا فسّره رئيسهم في الكتب الفارسيّة(بگرويدن)و في العربيّة بما يخالف التّكذيب و الإنكار،و هذا بعينه المعنى اللّغويّ.

و يؤيّده ما أورده السّيّد السّند في حاشية«شرح التّلخيص»أنّ المنطقيّ إنّما يبيّن ما هو في العرف و اللّغة،إلاّ أنّه يرد أنّ المعنى المعبّر عنه(بگرويدن)أمر قطعيّ،و قد نصّ عليه العلاّمة في«المقاصد»و لذا يكفي في باب الإيمان:التّصديق البالغ حدّ الجزم و الإذعان،مع أنّ التّصديق المنطقيّ يعمّ الظّنّيّ بالاتّفاق.

فإنّهم يقسّمون العلم بالمعنى الأعمّ تقسيما حاصرا إلى التّصوّر و التّصديق،توسّلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه،الّتي منها القياس الجدليّ المتألّف من المشهورات و المسلّمات،و منها القياس الخطابيّ المتألّف من المقبولات و المظنونات،و الشّعريّ المتألّف من المخيّلات.فلو لم يكن التّصديق المنطقيّ عامّا لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء و هو ظاهر.

و صدر الشّريعة:على الأخير،فإنّ الصّورة الحاصلة من النّسبة التّامّة الخبريّة تصديق قطعا،فإن كان حاصلا بالقصد و الاختيار بحيث يستلزم الإذعان و القبول فهو تصديق لغويّ،و إن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنّه جدار مثلا فهو معرفة يقينيّة و ليس بتصديق لغويّ،فالتّصديق اللّغويّ عنده أخصّ من المنطقيّ.

و ذهب الكرّاميّة:إلى أنّ الإيمان شرعا إقرار اللّسان بالشّهادتين لا غير،و الخوارج و العلاّف و عبد الجبّار من المعتزلة:إلى أنّ كلّ طاعة إيمان فرضا كانت أو نفلا، و الجبّائيّ و ابنه و أكثر معتزلة البصرة:إلى أنّه الطّاعات المفترضة دون النّوافل منها،و القلانسيّ من أهل السّنّة و النّجّار من المعتزلة-و هو مذهب أكثر أهل الأثر:إلى أنّه المعرفة بالجنان و الإقرار باللّسان و العمل بالأركان.

قيل:و سرّ هذا الاختلاف،الاختلاف في أنّ المكلّف هو الرّوح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما.

و الحقّ أنّ منشأ كلّ مذهب دليل دعا صاحبه إلى السّلوك فيه،و أوضح المذاهب أنّه«التّصديق»و لذا قال

ص: 648

يعسوب المؤمنين عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه:«إنّ الإيمان معرفة و المعرفة تسليم و التّسليم تصديق»و يؤيّد هذا المذهب قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ المجادلة:22،و قوله تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14،و قوله تعالى: وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:106،و قوله صلّى اللّه عليه و آله:«اللّهمّ ثبّت قلبي على دينك»حيث نسبه فيها و في نظائرها الغير المحصورة إلى القلب،فدلّ ذلك على أنّه فعل القلب،و ليس سوى التّصديق؛إذ لم يبيّن في الشّرع بمعنى آخر،فلا نقل و إلاّ لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم،و لأنّه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل.

و احتمال أن يراد بالنّصوص الإيمان اللّغويّ فهو الّذي محلّه القلب لا الإيمان الشّرعيّ،فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزء من معناه،يدفعه أنّ الإيمان من المنقولات الشّرعيّة بحسب خصوص المتعلّق،و لذا بيّن صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم متعلّقه دون معناه،فقال:«أن تؤمن باللّه و ملائكته»الحديث،فهو في المعنى اللّغويّ مجاز في كلام الشّارع،و الأصل في الإطلاق:الحقيقة.

و أيضا ورد عطف الأعمال على الإيمان،كقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لقمان:8،و الجزء لا يعطف على كلّه،و تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ القدر:

4 على أحد الوجهين بتأويل الخروج لاعتبار خطابيّ، و تخصيصها بالنّوافل بناء على خروجها،خلاف الظّاهر، و كفى بالظّاهر حجّة.

و أيضا جعل الإيمان شرط صحّة الأعمال،كقوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ النّساء:124، و هو مؤمن مع القطع بأنّ المشروط لا يدخل في الشّرط، لامتناع اشتراط الشّيء لنفسه؛إذ جزء الشّرط شرط.

و أيضا ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال،كما في قوله تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الحجرات:9،مع أنّه لا يتحقّق للشّيء بدون ركنه.

و أيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل؛إذ لا فرق بينهما إلاّ باعتبار خصوص المتعلّق،كما لا يخفى.

و قد أورد الخصم وجوها في الإلزام:

الأوّل:أنّ الإيمان لو كان عبارة عن التّصديق لما اختلف،مع أنّ إيمان الرّسول صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم لا يشبهه إيمان العوامّ بل و لا الخواصّ.

الثّاني:أنّ الفسوق يناقض الإيمان و لا يجامعه بنصّ:

وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ الحجرات:7،و لو كان بمعنى «التّصديق»لما امتنع مجامعته.

الثّالث:أنّ فعل الكبيرة ممّا ينافيه لقوله تعالى:

وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً الأحزاب:43،مع قوله تعالى في المرتكب: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ النّور:2، و لو كان بمعنى التّصديق ما نافاه.

الرّابع:أنّ المؤمن غير مخزى لقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ التّحريم:8،و قال سبحانه في قطّاع الطّريق: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ المائدة:33،فهم ليسوا بمؤمنين مع أنّهم مصدّقون.

الخامس:مستطيع الحجّ إذا تركه من غير عذر كافر، لقوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ آل عمران:97،مع أنّه مصدّق.

ص: 649

الخامس:مستطيع الحجّ إذا تركه من غير عذر كافر، لقوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ آل عمران:97،مع أنّه مصدّق.

السّادس:من لم يحكم بما أنزل اللّه مصدّق مع أنّه كافر،بنصّ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ المائدة:44.

السّابع:أنّ الزّاني كذلك بنصّ قوله صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم:«لا يزنى الزّاني و هو مؤمن»و كذا تارك الصّلاة عمدا من غير عذر،و أمثال ذلك.

الثّامن:أنّ المستخفّ بنبيّ مثلا مصدّق مع أنّه كافر بالإجماع.

التّاسع:أنّ فعل الواجبات هو الدّين لقوله تعالى:

وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البيّنة:5،و الدّين هو الإسلام لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ آل عمران:19،و الإسلام هو الإيمان، لأنّه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه،لقوله سبحانه:

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آل عمران:85.

العاشر:أنّه لو كان هو التّصديق لما صحّ وصف المكلّف به حقيقة إلاّ وقت صدوره منه-كما في سائر الأفعال-مع أنّ النّائم و الغافل يوصفان به إجماعا،مع أنّ التّصديق غير باق فيهما.

الحادي عشر:أنّه يلزم أن يقال:لمن صدّق بإلهيّة غير اللّه سبحانه:مؤمن،و هو خلاف الإجماع.

الثّاني عشر:أنّ اللّه تعالى وصف بعض المؤمنين به عزّ و جلّ بكونه مشركا،فقال: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف:106،و لو كان هو التّصديق لامتنع مجامعته للشّرك.سلّمنا أنّه هو،و لكن ما المانع أن يكون هو التّصديق باللّسان،كما قاله الكرّاميّة،كيف و أهل اللّغة لا يفهمون من التّصديق غير التّصديق باللّسان.

و أجيب عن الأوّل:بأنّ التّصديق الواحد و إن سلّمنا عدم الزّيادة و النّقصان فيه من النّبيّ و الواحد منّا إلاّ أنّه لا يمتنع التّفاوت بين الإيمانين،بسبب تخلّل الفعلة و القوّة بين أعداد الإيمان المتجدّدة و قلّة تخلّلها،أو بسبب عروض الشّبه و التّشكيكات و عدم عروضها،و للنّبيّ الأكمل الأكمل صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم.

و للزّنبور و البازي جميعا

لدى الطّيران أجنحة و خفق

و لكن بين ما يصطاد باز و ما يصطاده الزّنبور فرق

و عن الثّاني:بأنّ الآية ليس فيها ما يدلّ على أنّ الفسوق لا يجامع الإيمان،فإنّه لو قيل:حبّب إليكم العلم و كرّه إليكم الفسوق،لم يدلّ على المناقضة بين العلم و الفسوق،و كون الكفر مقابلا للإيمان لم يستفد من الآية بل من خارج،و لئن سلّمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلاّ أنّ ذلك معارض بما يدلّ على عدمه،كقوله تعالى:

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الأنعام:82، فإنّه يدلّ على مقارنة الظّلم للإيمان في بعض.

و عن الثّالث:بأنّا لا نسلّم أنّ فعل الكبيرة مناف للإيمان: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ النّور:2، على معنى لا تحملنّكم الشّفقة على إسقاط حدود اللّه تعالى بعد وجوبها.

ص: 650

و عن الرّابع:بأنّ ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة، لأنّ آية نفي الخزي إنّما دلّت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا أو أصحابه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم، و آية القاطع دالّة على الخزي في الدّنيا و لا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للإيمان منافاته للإيمان في الدّنيا.

و عن الخامس:بأنّا لا نسلّم كفر من ترك الحجّ من غير عذر(و من كفر)ابتداء كلام،أو المراد من لم يصدّق بمناسك الحجّ و جحدها و لا يتصوّر مع ذلك التّصديق.

و عن السّادس:بأنّ معنى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ الآية من لم يصدّق أو من لم يحكم بشيء ممّا نزّل اللّه،أو المراد بذلك التّوراة بقرينة السّابق.

و عن السّابع:بأنّه يمكن أن يقال:معنى«لا يزني الزّاني و هو مؤمن»أي آمن من عذاب اللّه،أي إن زنى- و العياذ باللّه-فليخف عذابه سبحانه و تعالى،و لا يأمن مكره،أو المراد:لا يزني مستحلاّ لزناه و هو مؤمن،أو لا يزني و هو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات.

و هذا التّأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللّغويّة لكثرته دونها،و كذا يقال في نظائر هذا.

و عن الثّامن:بأنّا لا ننكر مجامعة الكبائر للإيمان عقلا،غير أنّ الأمّة مجمعة على إكفار المستخفّ،فعلمنا انتفاء التّصديق عند وجود الاستخفاف مثلا سمعا، و الجمع بين العمل بوضع اللّغة و إجماع الأمّة على الإكفار أولى من إبطال أحدهما.

و عن التّاسع:بأنّ الآية قد فرّقت بين الدّين و فعل الواجبات للعطف،و هو-ظاهرا-دليل المغايرة.سلّمنا إنّ الدّين فعل الواجبات و أنّ الدّين هو الإسلام،لكن لا نسلّم أنّ الإسلام هو الإيمان.و ليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم،و إلاّ يلزم أن لا تقبل الصّلاة و الزّكاة مثلا،بل المغاير له بحسب الصّدق؛ فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعمّ،و هذا كما إذا قلت:

من يبتغ غير العلم الشّرعيّ فقد سها،فإنّك لا تحكم بسهو من ابتغى الكلام.و ظاهر أنّ ذمّ غير الأعمّ لا يستلزم ذمّ الأخصّ،فإنّ قولك:غير الحيوان مذموم، لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما.

و عن العاشر:بأنّه مشترك الإلزام،فما هو جوابكم فهو جوابنا،على أنّا نقول:التّصديق في حالة النّوم و الغفلة باق في القلب،و الذّهول إنّما هو عن حصوله، و النّوم ضدّ لإدراك الأشياء ابتداء لا أنّه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة.سلّمنا إلاّ أنّ الشّارع جعل المحقّق الّذي لا يطرأ عليه ما يضادّه في حكم الباقي،حتّى كان المؤمن اسما لمن آمن في الحال أو في الماضي،و لم يطرأ عليه ما هو علامة التّكذيب.

و عن الحادي عشر:بأنّ عدم تسمية من صدّق بإلهيّة غير اللّه مؤمنا إنّما هو لخصوصيّة متعلّق الإيمان شرعا، فتسميته مؤمنا يصحّ نظرا إلى الوضع اللّغويّ و لا يصحّ نظرا إلى الاستعمال الشّرعيّ.

و عن الثّاني عشر:بأنّ الإيمان ضدّ الشّرك بالإجماع، و ما ذكروه لازم على كلّ مذهب.و نحن نقول:إنّ الإيمان هناك لغويّ؛إذ في الشّرعيّ يعتبر التّصديق بجميع ما علم مجيئه به صلّى اللّه عليه و آله كما تقدّم،فالمشرك المصدّق ببعض لا يكون مؤمنا إلاّ بحسب اللّغة دون الشّرع،لإخلاله بالتّوحيد، و الآية إشارة إليه،و قولهم:أهل اللّغة لا يفهمون إلخ،مجرّد

ص: 651

دعوى لا يساعدها البرهان.

نعم لا شكّ أنّ المقرّ باللّسان وحده يسمّى مؤمنا لغة، لقيام دليل الإيمان الّذي هو التّصديق القلبيّ فيه،كما يطلق الغضبان و الفرحان على سبيل الحقيقة،لقيام الدّلائل الدّالّة عليها من الآثار اللاّزمة للغضب و الفرح، و يجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا،و لا نزاع في ذلك.

و إنّما النّزاع في كونه مؤمنا عند اللّه تعالى و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من بعده،كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلّم بالشّهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق،فدلّ على أنّه لا يكفي في الإيمان فعل اللّسان،و هذا ممّا لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان.

و كأنّه لهذا اشترط الرّقاشيّ و القطّان مواطأة القلب مع المعرفة عند الأوّل،و التّصديق المكتسب بالاختيار عند الثّاني.

و قال الكرّاميّة:من أضمر الإنكار و أظهر الإذعان و إن كان مؤمنا لغة و شرعا لتحقّق اللّفظ الدّالّ الّذي وضع لفظ الإيمان بإزائه،إلاّ أنّه يستحقّ ذلك الشّخص الخلود في النّار لعدم تحقّق مدلول ذلك اللّفظ الّذي هو مقصود من اعتبار دلالته.

هذا و بعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السّلف الصّالح،و هو أنّ لفظ«الإيمان» موضوع للقدر المشترك بين التّصديق و بين الأعمال، فيكون إطلاقه على التّصديق فقط و على مجموع التّصديق و الأعمال حقيقة،كما أنّ المعتبر في الشّجرة المعيّنة-بحسب العرف-القدر المشترك بين ساقها و مجموع ساقها مع الشّعب و الأوراق فلا يطلق الانعدام عليها ما بقي السّاق،فالتّصديق بمنزلة أصل الشّجرة و الأعمال بمنزلة فروعها و أغصانها،فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا.

و قد ورد في الصّحيح:«الإيمان بضع و سبعون شعبة أعلاها قول:لا إله إلاّ اللّه،و أدناها إماطة الأذى عن الطّريق».و قريب من هذا قول من قال:إنّ الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسبّبه له،و يطلق عليها لفظ الإيمان مجازا.و لا مخالفة بين القولين إلاّ بأنّ إطلاق اللّفظ عليها حقيقة على الأوّل مجاز على الثّاني،و هو بحث لفظيّ، و المتبادر من الإيمان هاهنا التّصديق،كما لا يخفى.

(1:110)

الطّباطبائيّ: الإيمان هو الإذعان و التّصديق بشيء بالالتزام بلوازمه،فالإيمان باللّه في عرف القرآن:

التّصديق بوحدانيّته و رسله و اليوم الآخر،و بما جاءت به رسله،مع الاتّباع في الجملة،و لذا نجد القرآن كلّما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفّع الإيمان ب«العمل الصّالح»كقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً... النّحل:

97،و قوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ الرّعد:29،إلى غير ذلك من الآيات، و هي كثيرة جدّا.

و ليس مجرّد الاعتقاد بشيء إيمانا به حتّى مع عدم الالتزام بلوازمه و آثاره،فإنّ«الإيمان»علم بالشّيء مع السّكون و الاطمئنان إليه،و لا ينفكّ السّكون إلى الشّيء من الالتزام بلوازمه لكنّ العلم ربّما ينفكّ من السّكون و الالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشّنيعة أو المضرّة،فإنّهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره،لكنّهم

ص: 652

لا يتركونها معتذرين بالاعتياد،و قد قال تعالى:

وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ النّمل:14.

و الإيمان و إن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصّوارف النّفسانيّة يصرف عنه،لكنّه لا يتخلّف عن لوازمه بالجملة.

(15:6)

خليل ياسين:س-ما هو الإيمان الصّحيح الكامل؟

ج-أن يعتقد الحقّ و يظهره على لسانه،و يشفع ذلك بعلمه.فمن أخلّ بالاعتقاد و إن شهد و عمل فهو منافق، و من أخلّ بالشّهادة و لم يعتقد فهو كافر،و من اعتقد الحقّ و صدّقه بلسانه و لكنّه لم يصدّقه بالعمل فهو فاسق.

(1:21)

الفرق بين الإسلام و الإيمان

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام علانية،و الإيمان في القلب» و أشار إلى صدره.(الطّبرسيّ 5:138)

المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده،و المؤمن من أمن جاره بوائقه،و ما آمن بي من بات شبعان و جاره طاو.(الطّبرسيّ 4:358)

الإمام الباقر عليه السّلام: عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال:سمعته يقول:الإسلام لا يشرك الإيمان، و الإيمان يشرك الإسلام،و هما في القول و الفعل يجتمعان، كما صارت الكعبة في المسجد و المسجد ليس في الكعبة، و كذلك الإيمان يشرك الإسلام و الإسلام لا يشرك الإيمان.و قد قال اللّه عزّ و جلّ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14،فقول اللّه أصدق القول.

(العروسيّ 5:101)

مثله الإمام الصّادق عليه السّلام.(العروسيّ 5:102)

الإمام الصّادق عليه السّلام:عن عبد الرّحيم القصير قال:

كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الإيمان ما هو؟

فكتب إليّ مع عبد الملك بن أعين:سألت رحمك اللّه عن الإيمان،و الإيمان هو الإقرار باللّسان و عقد في القلب و عمل بالأركان،و الإيمان بعضه من بعض،و هو دار و كذلك الإسلام دار،و الكفر دار.فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا،و لا يكون مؤمنا حتّى يكون مسلما.

فالإسلام قبل الإيمان و هو يشارك الإيمان،فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي الّتي نهى اللّه عزّ و جلّ عنها،كان خارجا من الإيمان ساقطا عنه اسم الإيمان،و ثابتا عليه اسم الإسلام.فإن تاب و استغفر عاد إلى دار الإيمان،و لا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود و الاستحلال أن يقول للحلال:هذا حرام، و للحرام:هذا حلال،و دان بذلك،فعندها يكون خارجا من الإسلام و الإيمان،داخلا في الكفر،و كان بمنزلة من دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة،و أحدث في الكعبة حدثا، فأخرج عن الكعبة و عن الحرم فضربت عنقه و صار إلى النّار.(العروسيّ 5:101)

عن سفيان بن السّمط قال:سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الإسلام و الإيمان ما الفرق بينهما؟فلم يجبه ثمّ سأله فلم يجبه،ثمّ التقيا في الطّريق قد أزف من

ص: 653

الرّجل الرّحيل،فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام:كأنّه قد أزف منك رحيل؟فقال:نعم،فقال:فألقني في البيت،فلقيه فسأله عن الإسلام و الإيمان ما الفرق بينهما؟

فقال:الإسلام هو الظّاهر الّذي عليه النّاس:شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و أنّ محمّدا رسول اللّه،و إقام الصّلاة، و إيتاء الزّكاة،و حجّ البيت،و صيام شهر رمضان،فهذا الإسلام.

و قال:الإيمان:معرفة هذا الأمر مع هذا،فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالاّ.

(العروسيّ 5:102)

عطاء: من فوّض أمره إلى اللّه فهو داخل في قوله:

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ الأحزاب:35،و من أقرّ بأنّ اللّه ربّه و محمّدا رسوله و لم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله: وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الأحزاب:

35.(الميبديّ 8:46)

الزّجّاج: الإسلام:إظهار الخضوع و القبول لما أتى به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و بذلك يحقن الدّم.فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد و تصديق بالقلب فذلك الإيمان الّذي من هو صفته فهو مؤمن مسلم،و هو المؤمن باللّه و رسوله غير مرتاب و لا شاكّ،و هو الّذي يرى أنّ أداء الفرائض واجب عليه،و أنّ الجهاد بنفسه و ماله واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب،فهو المؤمن و هو المسلم حقّا،كما قال عزّ و جلّ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ الحجرات:15،أي إذا قالوا:إنّا مؤمنون فهم الصّادقون.

فأمّا من أظهر قبول الشّريعة و استسلم لدفع المكروه فهو في الظّاهر مسلم،و باطنه غير مصدّق،فذلك الّذي يقول:أسلمت،لأنّ«الإيمان»لا بدّ من أن يكون صاحبه صدّيقا،لأنّ قولك:آمنت بكذا و كذا،معناه صدّقت به،فأخرج اللّه هؤلاء من الإيمان،فقال:

وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14،أي لم تصدّقوا،إنّما أسلمتم تعوّذا من القتل.فالمؤمن مبطن من التّصديق مثل ما يظهر،و المسلم التّام الإسلام و هو مظهر الطّاعة مع ذلك مؤمن بها،و المسلم الّذي أظهر الإسلام تعوّذا غير مؤمن في الحقيقة،إلاّ أنّ حكمه في الظّاهر حكم المسلمين.(5:38)

مثله الأزهريّ.(15:513)

أبو هلال :الفرق بين الإسلام و الإيمان و الصّلاح:أنّ الصّلاح استقامة الحال،و هو ممّا يفعله العبد لنفسه، و يكون بفعل اللّه له لطفا و توفيقا.و الإيمان:طاعة اللّه الّتي يؤمن بها العقاب على ضدّها،و سمّيت النّافلة إيمانا على سبيل التّبع لهذه الطّاعة.و الإسلام:طاعة اللّه الّتي يسلم بها من عقاب اللّه،و صار كالعلم على شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و لذلك ينتفي منه اليهود و غيرهم،و لا ينتفون من الإيمان.

(188)

عبد الجبّار: ربّما قيل في قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الحجرات:14،أ فليس قد ميّز بين الإيمان و الإسلام؟

و جوابنا:أنّ«الإسلام»في اللّغة هو الاستسلام و الانقياد،و ذلك ليس بإسلام في الدّين على الحقيقة، و لذلك قال: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ

ص: 654

الحجرات:14،و من يكون مسلما في الحقيقة فقد دخل الإيمان قلبه.

و لذلك قال بعده: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا... الحجرات:15، فبيّن تعالى أنّ الأعراب لم يكونوا كذلك بل كذّبوا في قولهم:(آمنّا).(395)

ابن سيدة :أسلم:انقاد و دخل في دين الإسلام، و صار مسلما،و الإسلام هو الدّين الّذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و الإسلام في الشّرع:إظهار الخضوع و القبول لما أتى به محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد و تصديق بالقلب،فذلك الإيمان.

الإيمان:الخضوع و الاعتقاد بالقلب،و التّصديق بما جاء به الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و الإقرار باللّسان.آمن بكذا إيمانا:

وثق به و صدّقه.(الإفصاح 2:1258)

الطّوسيّ: الإسلام و الإيمان واحد عند أكثر المفسّرين،و إنّما كرّر لاختلاف اللّفظين.

و في النّاس من قال:المؤمن هو الّذي فعل جميع الواجبات،و انتهى عن جميع المقبّحات،و المسلم هو الملتزم لشرائط الإسلام المستسلم لها.(8:341)

الإسلام هو الانقياد لأمر اللّه تعالى بالخضوع، و الإقرار بجميع ما أوجب عليه،و هو و الإيمان واحد عندنا،و عند أكثر المرجئة و المعتزلة.و في النّاس من قال:

بينهما فرق،و ليس ذلك بصحيح لقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ آل عمران:19،و قوله: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آل عمران:85.

(1:464)

البغويّ: حقيقة الإيمان:التّصديق بالقلب،قال اللّه تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يوسف:17،أي بمصدّق لنا،و هو في الشّريعة الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللّسان و العمل بالأركان،فسمّي الإقرار و العمل إيمانا لوجه من المناسبة،لأنّه من شرائعه.و الإسلام هو الخضوع و الانقياد؛فكلّ إيمان إسلام و ليس كلّ إسلام إيمانا إذا لم يكن معه تصديق،قال اللّه تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الحجرات:14، و ذلك لأنّ الرّجل قد يكون مستسلما في الظّاهر غير مصدّق في الباطن،و يكون مصدّقا في الباطن غير منقاد في الظّاهر.(1:24)

الميبديّ: قال أهل اللّغة:الإسلام هو الدّخول في السّلم و هو الانقياد و الطّاعة،يقال:أسلم الرّجل،إذا دخل في السّلم،كما يقال:أشتى إذا دخل في الشّتاء، و أصاف إذا دخل في الصّيف،و أربع إذا دخل في الرّبيع.

فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللّسان و الأبدان و الجنان،كقوله عزّ و جلّ لإبراهيم: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ البقرة:131،و منه ما هو انقياد باللّسان دون القلب،و ذلك قوله: قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14.

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قسم قسما فأعطى رجالا و منع رجالا،فقال له سعد بن أبي وقّاص:يا رسول اللّه أعطيت فلانا و لم تعط فلانا و هو مؤمن؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أو مسلم»مرّتين أو ثلاثا،فعلم أنّ«الإسلام»اسم لظاهر الدّين الّذي يلزم به الأحكام،و«الإيمان»اسم للحقيقة الّتي يرجع إليها العبد و ينطوي عليها العقد،

ص: 655

فالإسلام هو الّذي منع الدّماء و الأموال و أقام الذّمم و الأحكام،و الإيمان حقيقته الّتي نجّت من مقت اللّه و خلّصت من عذاب اللّه.و المسلمون متساوون في الإسلام،و المؤمنون متفاوتون في الإيمان،فأحسنهم عملا و أكثرهم ذكرا،أكملهم إيمانا.

و قالت المرجئة:المؤمنون لا يتفاوتون في الإيمان، و ذلك لأنّهم لم يعدّوا الأعمال من الإيمان.و هذا خلاف السّنّة و أصل البدعة،و قد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:صنفان من أمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب:المرجئة و القدريّة.

(9:266)

نحوه الشّربينيّ.(4:74)

الزّمخشريّ: المسلم:الدّاخل في السّلم بعد الحرب المنقاد الّذي لا يعاند،أو المفوّض أمره إلى اللّه المتوكّل عليه،من أسلم وجهه إلى اللّه.

و المؤمن:المصدّق باللّه و رسوله و بما يجب أن يصدّق به.(3:261)

نحوه النّسفيّ.(3:302)

الإيمان هو التّصديق مع الثّقة و طمأنينة النّفس، و الإسلام:الدّخول في السّلم و الخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشّهادتين،أ لا ترى إلى قوله تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:

14،فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام،و ما واطأ فيه القلب اللّسان فهو إيمان.(3:569)

نحوه خليل ياسين.(2:216)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ ظاهر هذه الآية[آل عمران:84]يدلّ على أنّ«الإيمان»هو الإسلام،إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولا لقوله تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آل عمران:85،إلاّ أنّ ظاهر قوله تعالى:

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الحجرات:14،يقتضي كون الإسلام مغايرا للإيمان،و وجه التّوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشّرعيّ،و الآية الثّانية على الوضع اللّغويّ.

(8:134)

المؤمن و المسلم واحد عند أهل السّنّة،فكيف يفهم ذلك مع هذا؟ قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الحجرات:14.

نقول:بين العامّ و الخاصّ فرق،فالإيمان لا يحصل إلاّ بالقلب و قد يحصل باللّسان،و الإسلام أعمّ،لكن العامّ في صورة الخاصّ متّحد مع الخاصّ،و لا يكون أمرا آخر غيره،مثاله الحيوان أعمّ من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمرا ينفكّ عن الإنسان،و لا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا و لا يكون إنسانا،فالعامّ و الخاصّ مختلفان في العموم متّحدان في الوجود،فكذلك المؤمن و المسلم.(28:141)

الرّازيّ: فإن قيل:كيف يقال:إنّ الإيمان و الإسلام بمعنى واحد،و اللّه سبحانه و تعالى يقول: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الحجرات:14.

قلنا:المنفيّ هنا الإيمان بالقلب،بدليل قوله تعالى:

وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14، يعني لم تصدّقوا بقلوبكم وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، أي

ص: 656

استسلمنا و أنقذنا خوف السّيف.و لا شكّ في الفرق بين الإيمان و الإسلام بهذا التّفسير،و الّذي يدّعي اتّحادهما لا يريد به أنّهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد،بل يريد به أنّ أحد معاني«الإيمان»هو الإسلام.(321)

القرطبيّ: الأصل في مسمّى الإيمان و الإسلام التّغاير،لحديث جبريل.و قد يكون بمعنى«المرادفة» فيسمّى كلّ واحد منهما باسم الآخر،كما في حديث وفد عبد القيس و أنّه أمرهم بالإيمان[باللّه]وحده،و قال:

«هل تدرون ما الإيمان»؟قالوا:اللّه و رسوله أعلم.قال:

«شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و إقام الصّلاة و إيتاء الزّكاة و صوم رمضان و أن تؤدّوا خمسا من المغنم»الحديث،و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«الإيمان بضع و سبعون بابا فأدناها إماطة الأذى و أرفعها قول لا إله إلاّ اللّه» أخرجه التّرمذيّ،و زاد مسلم«و الحياء شعبة من الإيمان»و يكون أيضا بمعنى«التّداخل»و هو أن يطلق أحدهما و يراد به مسمّاه في الأصل و مسمّى الآخر كما في هذه الآية[آل عمران:19]إذ قد دخل فيها التّصديق و الأعمال،و منه قوله عليه السّلام:«الإيمان معرفة بالقلب و قول باللّسان و عمل بالأركان».أخرجه ابن ماجة،و الحقيقة هو الأوّل وضعا و شرعا،و ما عداه من باب التّوسّع.

(4:43)

الإسلام في كلام العرب:الخضوع و الانقياد للمستسلم.و ليس كلّ إسلام إيمانا،و كلّ إيمان إسلام،لأنّ من آمن باللّه فقد استسلم و انقاد للّه.و ليس كلّ من أسلم آمن باللّه،لأنّه قد يتكلّم فزعا من السّيف،و لا يكون ذلك إيمانا.خلافا للقدريّة و الخوارج حيث قالوا:إنّ الإسلام هو الإيمان،فكلّ مؤمن مسلم،و كلّ مسلم مؤمن لقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ آل عمران:19، فدلّ على أنّ الإسلام هو الدّين،و أنّ من ليس بمسلم فليس بمؤمن،و دليلنا قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا الحجرات:14،فأخبر اللّه تعالى أنّه ليس كلّ من أسلم مؤمنا،فدلّ على أنّه ليس كلّ مسلم مؤمنا.و قال صلّى اللّه عليه و سلّم لسعد بن أبي وقّاص لمّا قال له:أعط فلانا فإنّه مؤمن،فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«أو مسلم»الحديث، خرّجه مسلم،فدلّ على أنّ«الإيمان»ليس الإسلام،فإنّ الإيمان باطن،و الإسلام ظاهر،و هذا بيّن.

و قد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام،و الإسلام يراد به الإيمان،للزوم أحدهما الآخر و صدوره عنه،كالإسلام الّذي هو ثمرة الإيمان و دلالة على صحّته،فاعلمه.

(2:134)

البروسويّ: و في«التّأويلات النّجميّة»:المسلم هو المستسلم للأحكام الأزليّة بالطّوع و الرّغبة مسلما نفسه إلى المجاهدة و المكابدة و مخالفة الهوى،و قد سلم المسلمون من لسانه و يده.

و المؤمن من أمنه النّاس و قد أحيا اللّه قلبه أوّلا بالعقل ثمّ بالعلم ثمّ بالفهم عن اللّه تعالى،ثمّ بنور اللّه تعالى ثمّ بالتّوحيد ثمّ بالمعرفة ثمّ أحياه باللّه.

و قال في«بحر العلوم»:و مراد أصحابنا باتّحاد الإيمان و الإسلام،أنّ الإسلام هو الخضوع و الانقياد،بمعنى قبول ما جاء به من عند اللّه و الإذعان له،و ذلك حقيقة التّصديق.و لذلك لم يصحّ في الشّرع أن يحكم على أحد بأنّه مسلم و ليس بمؤمن أو مؤمن و ليس بمسلم،فلا يمتاز

ص: 657

أحدهما عن الآخر،و لم يريدوا الاتّحاد بحسب المفهوم، لأنّ الإيمان هو تصديق اللّه فيما أخبر من أوامره و نواهيه و مواعيده،و الإسلام هو الخضوع و الانقياد لألوهيّته.

و هذا لا يحصل إلاّ بقبول الأمر و النّهي و الوعد و الوعيد و الإذعان لذلك،فمن لم يقبل شيئا من هذه الأربعة فقد كفر و ليس بمسلم.(7:174)

القاسميّ: تنبيهات:الأوّل:قال في«الإكليل»:

استدلّ بالآية[الحجرات:14]من لم ير الإيمان و الإسلام مترادفين،بل بينهما عموم و خصوص مطلق، لأنّ الإسلام:الانقياد للعمل ظاهرا،و الإيمان:تصديق القلب،كما قال: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14.

و هذا الاستدلال في غاية الضّعف،لأنّ ترادفهما شرعا لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللّغويّ في بعض المواضع،و إبانة ذلك موكولة إلى القرائن،و هي جليّة كما هنا،و إلاّ فآية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ آل عمران:

19،أكبر مناد على اتّحادهما.و من اللّطائف أن يقال في الإيمان و الإسلام ما قالوه في الفقير و المسكين:«إذا اجتمعا افترقا و إذا افترقا اجتمعا».و الإيمان و الإسلام و أمثالهما ألفاظ شرعيّة محضة،و لم يطلقها الشّرع إلاّ على القول و العمل،كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في «الفصل»فانظره.

الثّاني:قال في«الإكليل»في الآية ردّ على الكرّاميّة في قولهم:«إنّ الإيمان هو الإقرار باللّسان،دون عقد القلب و هو ظاهر».و قد استوفى الرّدّ عليهم كغيرهم، الإمام ابن حزم في«الفصل»،فراجعه.(15:5471)

رشيد رضا:[بعد نقل كلام الفخر الرّازيّ قال ردّا عليه:]أقول:و أنت ترى أنّ في كلامه اضطرابا،و سببه تزاحم الاصطلاحات الكلاميّة و الإطلاقات اللّغويّة في ذهنه.و الصّواب أنّ مفهومي«الإسلام»و«الإيمان»في اللّغة متباينان؛فالإسلام الدّخول في السّلم،و هو يطلق على ضدّ الحرب و على السّلامة و الخلوص و على الانقياد كما تقدّم في أوائل السّورة،و الإيمان:التّصديق،و يكون بالقلب كأن يقول امرؤ قولا فتعتقد صدقه،و يكون باللّسان،كأن تقول له:صدقت.و قد أطلق كلّ من «الإيمان»و«الإسلام»في القرآن على إيمان خاصّ جعل هو المنجي عند اللّه تعالى،و إسلام خاصّ هو دينه المقبول عنده.

أمّا الأوّل:فهو التّصديق اليقينيّ بوحدانيّة اللّه و كماله،و بالوحي و الرّسل و باليوم الآخر؛بحيث يكون له السّلطان على الإرادة و الوجدان،فيترتّب عليه العمل الصّالح،و لذلك قال بعد نفي دخول الإيمان في قلوب أولئك الأعراب: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا... الحجرات:15.

و أمّا الثّاني:فهو الإخلاص له تعالى في التّوحيد و العبادة و الانقياد لما هدى إليه على ألسنة رسله،و هو بهذا المعنى دين جميع النّبيّين الّذين أرسله لهداية عباده.

فالإيمان و الإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كلّ واحد منهما باعتبار،و لذلك عدّا شيئا واحدا في الآيات الّتي ذكرت آنفا،و في قوله بعد ما ذكر عن إيمان الأعراب و إسلامهم في(الحجرات:14،15)ثمّ بيان حقيقة الإيمان الصّادق قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الحجرات:16، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الحجرات:16،فهذا هو الإيمان الصّادق و الإسلام الصّحيح،و هما المطلوبان لأجل السّعادة.

ص: 658

فالإيمان و الإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كلّ واحد منهما باعتبار،و لذلك عدّا شيئا واحدا في الآيات الّتي ذكرت آنفا،و في قوله بعد ما ذكر عن إيمان الأعراب و إسلامهم في(الحجرات:14،15)ثمّ بيان حقيقة الإيمان الصّادق قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الحجرات:16، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الحجرات:16،فهذا هو الإيمان الصّادق و الإسلام الصّحيح،و هما المطلوبان لأجل السّعادة.

و قد يطلق كلّ من«الإيمان»و«الإسلام»على ما يكون منهما ظاهرا،سواء كان ذلك عن يقين أو عن جهل أو نفاق.

فمن الأوّل الشّقّ الأوّل من قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ...

البقرة:62،فالمراد ب اَلَّذِينَ آمَنُوا في أوّل الآية:

الّذين صدّقوا بهذا الدّين في الظّاهر،و قوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ البقرة:126،هو الإيمان الحقيقيّ الّذي عليه مدار النّجاة،و قد تقدّم شرحه آنفا.

و من الثّاني قوله: وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الحجرات:

14،أي دخلنا في السّلم الّذي هو مسالمة المؤمنين بعد أن كنّا حربا لهم،و ليس معناه الإخلاص و الانقياد مع الإذعان،و إلاّ لما نفى عنهم إيمان القلب.(3:359)

الطّباطبائيّ: فقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الأحزاب:

35،المقابلة بين الإسلام و الإيمان تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة،و الّذي يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى:

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. -إلى أن قال:- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ الحجرات:14،15،يفيد أوّلا:أنّ الإسلام هو تسليم الدّين بحسب العمل و ظاهر الجوارح، و الإيمان أمر قلبيّ.و ثانيا:أنّ الإيمان الّذي هو أمر قلبيّ اعتقاد و إذعان باطنيّ،بحيث يترتّب عليه العمل بالجوارح.

فالإسلام هو التّسليم العمليّ للدّين بإتيان عامّة التّكاليف،و المسلمون و المسلمات هم المسلمون لذلك.

و الإيمان هو عقد القلب على الدّين؛بحيث يترتّب عليه العمل بالجوارح،و المؤمنون و المؤمنات هم الّذين عقدوا قلوبهم على الدّين؛بحيث يترتّب عليه العمل بالجوارح، فكلّ مؤمن مسلم و لا عكس.(16:313)

ايمان

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ... الطّور:21

الزّمخشريّ: أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحلّ و هو إيمان الآباء،ألحقنا بدرجاتهم ذرّيّتهم و إن كانوا لا يستأهلونها تفضّلا عليهم و على آبائهم،لنتمّ سرورهم و نكمل نعيمهم.

فإن قلت:ما معنى تنكير الإيمان؟

قلت:معناه الدّلالة على أنّه إيمان خاصّ عظيم المنزلة،و يجوز أن يراد إيمان الذّرّيّة الدّاني المحلّ،كأنّه قال:بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقنا بهم.و وجه آخر:و هو أن يكون (وَ الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ

ص: 659

خبره (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (1)و ما بينهما اعتراض.(4:24)

مثله أبو حيّان.(8:149)

الفخر الرّازيّ: ما الفائدة في تنكير«الإيمان»في قوله:(و اتبعناهم ذرّيّتهم (2)بايمان)؟

نقول:هو إمّا التّخصيص أو التّنكير،كأنّه يقول:

أتبعناهم ذرّيّاتهم بإيمان مخلص كامل،أو يقول:أتبعناهم بإيمان ما،أي شيء منه،فإنّ الإيمان كاملا لا يوجد في الولد،بدليل أنّ من آمن و له ولد صغير حكم بإيمانه،فإذا بلغ و صرّح بالكفر و أنكر التّبعيّة قيل:بأنّه لا يكون مرتدّا،و تبيّن بقوله:إنّه لم يتّبع.و قيل:بأنّه يكون مرتدّا، لأنّه كفر بعد ما حكم بإيمانه كالمسلم الأصليّ،فإذن بهذا الخلاف تبيّن أنّ إيمانه بقويّ،و هذان الوجهان ذكرهما الزّمخشريّ.

و يحتمل أن يكون المراد غير هذا،و هو أن يكون التّنوين للعوض عن المضاف إليه،كما في قوله تعالى:

بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ البقرة:251،و قوله تعالى: وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى النّساء:95،و بيانه هو أنّ التّقدير:

أتبعناهم ذرّيّاتهم،أي بسبب إيمانهم،لأنّ الاتّباع ليس بإيمان كيف كان و ممّن كان،و إنّما هو إيمان الآباء،لكن الإضافة تنبئ عن تقييد،و عدم كون الإيمان إيمانا على الإطلاق،فإنّ قول القائل:ماء الشّجر و ماء الرّمّان يصحّ، و إطلاق اسم الماء من غير إضافة لا يصحّ،فقوله:

(بايمان)يوهم أنّه إيمان مضاف إليهم،كما قال تعالى:

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا المؤمن:85، حيث أثبت الإيمان المضاف و لم يكن إيمانا،فقطع الإضافة مع إرادتها ليعلم أنّه إيمان صحيح،و عوّض التّنوين ليعلم أنّه لا يوجب الأمان في الدّنيا إلاّ إيمان الآباء،و هذا وجه حسن.(28:252)

البروسويّ: (بايمان)متعلّق ب«الاتّباع»و التّنكير للتّقليل،أي بشيء من الإيمان،و تقليل الإيمان ليس مبنيّا على دخول الأعمال فيه بل المراد قلّة ثمراته و دناءة قدره بذلك،فالتّقليل فيه بمعنى التّحقير.و المعنى و اتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان في الجملة قاصرين عن رتبة إيمان الآباء، و اعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل،أصالة لا إلحاقا.(9:192)

نحوه الآلوسيّ.(27:32)

و هناك أبحاث أخر راجع«ت ب ع».

الايمان

1- ...ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا...

الشّورى:52 أبو العالية :ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن و لا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان.

(أبو حيّان 7:528)

الإمام الصّادق عليه السّلام: أنّه سئل عن العلم أ هو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرّجال أم في الكتاب عندكم تقرءونه فتعلمون منه؟

قال:الأمر أعظم من ذلك و أوجب،أ ما سمعت قول

ص: 660


1- هكذا رسم في«الكشّاف».
2- كذلك رسمت في الطّبعة الأميريّة.

اللّه عزّ و جلّ: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ الشّورى:52

ثمّ قال:أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية أ يقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب و لا الإيمان [إلى أن قال:]حتّى بعث اللّه تعالى الرّوح الّتي ذكر في الكتاب،فلمّا أوحاها إليه علم بها العلم و الفهم،و هي الرّوح الّتي يعطيها اللّه تعالى من شاء،فإذا أعطاها عبدا علّمه الفهم.(الكلينيّ 1:274)

ابن قتيبة :لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل:من الحجّ و الختان و النّكاح و إيقاع الطّلاق و الغسل من الجنابة و تحريم ذوات المحارم بالقرابة و المصاهرة،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على ما كانوا عليه في مثل هذه الشّرائع،و كان يوحّد و يبغض اللاّت و العزّى، و يحجّ و يعتمر و يتّبع شريعة إبراهيم عليه السّلام و يتعبّد بها، حتّى جاءه الوحي و جاءته الرّسالة.

(البروسويّ 8:347)

حسين بن فضل: أي ما كنت تدري ما الكتاب و لا أهل الإيمان،و هو من باب حذف المضاف،أي من الّذي يؤمن،أبو طالب،أو العبّاس أو غيرهما؟

(القرطبيّ 16:59)

نحوه الطّبرسيّ.(5:37)

الرّمّانيّ: ما كنت تدري ما الكتاب لو لا الرّسالة و لا الإيمان لو لا البلوغ.(القرطبيّ 16:59)

الثّعلبيّ: معنى الإيمان في هذه الآية شرائع الإيمان و معالمه.(القرطبيّ 16:59)

الماورديّ: فيه وجهان:

أحدهما:[قول الرّمّانيّ و قد تقدّم]

الثّاني:ما كنت تدري ما الكتاب لو لا إنعامنا عليك، و لا الإيمان لو لا هدايتنا،و هو محتمل.

و في هذا الإيمان وجهان:

أحدهما:أنّه الإيمان باللّه،و هذا يعرفه بعد بلوغه و قبل نبوّته.

الثّاني:أنّه دين الإسلام،و هذا لا يعرفه إلاّ بعد النّبوّة.(5:212)

القشيريّ: يجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشّرع.(أبو حيّان 7:528)

البغويّ: يعني شرائع الإيمان و معالمه.

قال محمّد بن خزيمة: الإيمان في هذا الموضع الصّلاة، و دليله قوله عزّ و جلّ: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143.

و أهل الأصول على[أنّ]الأنبياء عليهم السّلام كانوا مؤمنين قبل الوحي،و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يعبد اللّه قبل الوحي على دين إبراهيم،و لم يتبيّن له شرائع دينه.(6:108)

نحوه الخازن.(6:108)

الزّمخشريّ: فإن قلت:قد علم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه،فما معنى قوله:

(و لا الإيمان)،و الأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا و تمكّنوا من النّظر و الاستدلال أن يخطئهم الإيمان باللّه و توحيده، و يجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر و من الصّغائر الّتي فيها تنفير قبل المبعث و بعده،فكيف لا يعصمون من الكفر؟

قلت:الإيمان اسم يتناول أشياء بعضها الطّريق إليه

ص: 661

العقل،و بعضها الطّريق إليه السّمع،فعنى به ما الطّريق إليه السّمع دون العقل،و ذاك ما كان له فيه علم حتّى كسبه بالوحي،أ لا ترى أنّه قد فسّر الإيمان في قوله تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143، بالصّلاة،لأنّها بعض ما يتناوله الإيمان.(3:476)

نحوه النّسفيّ.(4:112)

الفخر الرّازيّ: اختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع،على أنّه لا يجوز أن يقال:الرّسل كانوا قبل الوحي على الكفر،و ذكروا في الجواب وجوها:

الأوّل: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ الشّورى:52، أي القرآن وَ لاَ الْإِيمانُ أي الصّلاة،لقوله تعالى:

وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143،أي صلاتكم.

الثّاني:أن يحمل هذا على حذف المضاف،أي ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ و من أهل الإيمان،يعني من الّذى يؤمن،و من الّذي لا يؤمن.

الثّالث: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ حين كنت طفلا في المهد.

الرّابع:الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به،و إنّه قبل النّبوّة ما كان عارفا بجميع تكاليف اللّه تعالى،بل إنّه كان عارفا باللّه تعالى،و ذلك لا ينافي ما ذكرناه.

الخامس:صفات اللّه تعالى على قسمين:منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل،و منها ما لا يمكن معرفته إلاّ بالدّلائل السّمعيّة،فهذا القسم الثّاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النّبوّة.(27:190)

الرّازيّ: فإن قيل:كيف كان لا يعلم الإيمان قبل أن يوحى إليه،و الإيمان هو التّصديق بوجود الصّانع و توحيده،و الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام كلّهم كانوا مؤمنين باللّه قبل أن يوحى إليهم بأدلّة عقولهم؟

قلنا:المراد بالإيمان هنا شرائع الإيمان و أحكامه، كالصّلاة و الصّوم و نحوهما.

و قيل:المراد به الكلمة الّتي بها دعوة الإيمان و التّوحيد،و هي:«لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه»،و الإيمان بهذا التّفسير إنّما علمه بالوحي كما علم الكتاب و هو القرآن لا بالعقل.(مسائل الرّازيّ:311)

القرطبيّ: قيل: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ لو لا إنعامنا عليك، وَ لاَ الْإِيمانُ لو لا هدايتنا لك،و هو محتمل.و في هذا الإيمان وجهان:

أحدهما:أنّه الإيمان باللّه،و هذا يعرفه بعد بلوغه و قبل نبوّته.

الثّاني:أنّه دين الإسلام،و هذا لا يعرفه إلاّ بعد النّبوّة.

قلت:إنّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان مؤمنا باللّه عزّ و جلّ من حين نشأ إلى حين بلوغه على ما تقدّم.

و قيل: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ أي كنت من قوم أمّيّين لا يعرفون الكتاب و لا الإيمان،حتّى تكون قد أخذت ما جئتم به عمّن كان يعلم ذلك منهم، و هو كقوله تعالى: ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ العنكبوت:

48.(16:59)

البيضاويّ: أي قبل الوحي،و هو دليل على أنّه لم

ص: 662

يكن متعبّدا قبل النّبوّة بشرع.و قيل:المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلاّ السّمع.(2:362)

البروسويّ: أي الإيمان بتفاصيل ما في تضاعيف الكتاب من الأمور الّتي لا تهتدي إليها العقول،لا الإيمان بما يستقلّ به العقل و النّظر،فإنّ درايته عليه السّلام له ممّا لا ريب فيه قطعا.فإنّ أهل الوصول اجتمعوا على أنّ الرّسل عليهم السّلام كانوا مؤمنين قبل الوحي معصومين من الكبائر و من الصّغائر الموجبة لنفرة النّاس عنهم قبل البعثة و بعدها فضلا عن الكفر،و هو مراد من قال:لا يعرف القرآن قبل الوحي و لا شرائع الإيمان و معالمه و هي إيمان،كما قال تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143، أي صلاتكم،سمّاها إيمانا لأنّها من شعب الإيمان.و يدلّ عليه أنّه عليه السّلام قيل له:هل عبدت وثنا قطّ؟قال:لا، قيل:هل شربت خمرا قطّ؟قال:لا،و ما زلت أعرف أنّ الّذين هم عليه كفر،و ما كنت أدري ما الكتاب و لا الإيمان،أي الإيمان الشّرعيّ المتعلّق بتفاصيل الأحكام،و لذلك أنزل في الكتاب ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ [ثمّ ذكر قول ابن قتيبة و أضاف:]

فقول البيضاويّ،و هو دليل على أنّه لم يكن متعبّدا قبل النّبوّة بشرع ممنوع،فإنّ عدم الدّراية لا يلزمه عدم التّعبّد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصير،فالحقّ أنّ المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلاّ السّمع.

و قال بعضهم:هذا تخصيص بالوقت،يعني كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلا و في المهد ما كان يعرف الإيمان،و هو ضعيف،لأنّه عليه السّلام أفضل من يحيى و عيسى عليهما السّلام،و قد أوتي كلّ الحكم و العلم صبيّا.[ثمّ ذكر أقوال السّابقين و قد سبقت](8:347)

الآلوسيّ: و استشكلت الآية بأنّ ظاهرها يستدعي عدم الاتّصاف بالإيمان قبل الوحي.و لا يصحّ ذلك لأنّ الأنبياء عليهم السّلام جميعا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر بإجماع من يعتدّ به،و أجيب بعدّة أجوبة.

الأوّل:أنّ الإيمان هنا ليس المراد به التّصديق المجرّد بل مجموع التّصديق و الإقرار و الأعمال،فإنّه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعا،و منه قوله تعالى:

وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143،و الأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركّب،و المركّب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه فلا يلزم من انتفاء الإيمان المركّب بانتفاء الأعمال،انتفاء الإيمان بالمعنى الآخر،أعني التّصديق،و هو الّذي أجمع العلماء على اتّصاف الأنبياء عليهم السّلام به قبل البعثة،و لذا عبّر ب(تدرى)دون أن يقال:لم تكن مؤمنا،و هو جواب حسن.و لا يلزمه نفي الإيمان عمّن لا يعمل الطّاعات،ليكن القول به اعتزالا كما لا يخفى.

الثّاني:أنّ الإيمان إنّما يعني به التّصديق باللّه تعالى و برسوله عليه الصّلاة و السّلام دون التّصديق باللّه عزّ و جلّ و دون ما يدخل فيه الأعمال،و النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مخاطب بالإيمان برسالة نفسه،كما أنّ أمّته صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم مخاطبون بذلك.و لا شكّ أنّه قبل الوحي لم يكن عليه الصّلاة و السّلام يعلم أنّه رسول اللّه و ما علم ذلك إلاّ بالوحي،فإذا كان الإيمان هو التّصديق باللّه تعالى

ص: 663

و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي،بل كان الثّابت هو التّصديق باللّه تعالى خاصّة المجمع على اتّصاف الأنبياء عليهم السّلام به قبل البعثة،استقام نفي الإيمان قبل الوحي،و إلى هذا ذهب ابن المنير.

الثّالث:أنّ المراد شرائع الإيمان و معالمه ممّا لا طريق إليه إلاّ السّمع،و إليه ذهب محي السّنّة البغويّ.و قال:إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السّلام و لم تتبيّن له عليه الصّلاة و السّلام شرائع دينه،و لا يخفى أنّه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الإيمان على الأعمال وحدها،و هو خلاف المعروف.

الرّابع:أنّ الكلام على تقدير مضاف،فقيل:التّقدير دعوة الإيمان،أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان،و إليه يشير كلام أبي العالية.

و قال الحسين بن الفضل:أي أهل الإيمان،أي لا تدري من الّذي يؤمن،و أنت تدري أنّه لا يرتضي هذا إلاّ من لا يدري.

الخامس:المراد نفي دراية المجموع،أي ما ما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب و الإيمان،فلا ينافي كونه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم كان يدري الإيمان وحده،و يأباه إعادة(لا).

السّادس:أنّ المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد،و إليه ذهب عليّ بن عيسى،و هو خلاف الظّاهر.

و الظّاهر أنّ المراد استمرار النّفي إلى زمن الوحي.و ظاهر كلام«الكشف»يميل إلى اعتبار نحو ذلك القيد،قال:لعلّ الأشبه أنّ الإيمان على ظاهره،و الآية واردة في معرض الامتنان،و الإيحاء يشمل الإلقاء في الرّوع و إرسال الرّسول،فالإيمان عرفه بالأوّل و الكتاب بالثّاني،على أنّ الآية تدلّ على أنّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم عرفهما بعد أن لم يكن عارفا،و هو كذلك.أمّا أنّه عليه الصّلاة و السّلام عرفهما بعد الوحي فلا،فجاز أن يعرفهما به و جاز أن يعرف واحدا منهما معيّنا به.و قد دلّ الدّليل على أنّ المعرّف به هو الكتاب و الإيمان بعد العقل و قبل الوحي،و التّمسّك به على أنّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم لم يكن متعبّدا بشرع من قبله ضعيف،لأنّ عدم الدّراية لا يلزمه عدم التّعبّد بل يلزمه سقوط الاثم إن لم يكن تقصيرا،انتهى.

و أنت تعلم أنّ المتبادر أنّه عليه الصّلاة و السّلام عرفهما بعد الوحي،و أمّا قوله قدّس سرّه في تضعيف التّمسّك بذلك-على أنّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم لم يكن متعبّدا بشرع من قبله أنّ عدم الدّراية لا يلزمه عدم التّعبّد-فقد قيل عليه:إنّه ساقط لأنّه عليه الصّلاة و السّلام إذا لم يدر شرعا فكيف يتعبّد به،و قد يجاب بأنّ مراد المدقّق أنّ الدّراية المنفيّة الدّراية بمعنى العلم الجازم الثّابت المطابق للواقع،و عدمها لا يلزمه عدم التّعبّد؛إذ يكفي في التّعبّد بشرع من قبله عليه الصّلاة و السّلام الظّنّ الرّاجح ثبوته،فلعلّه كان حاصلا له صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم.

و مثل هذا الظّنّ يكفي المتعبّدين اليوم بشرع نبيّنا عليه الصّلاة و السّلام،فإنّ أكثر الفروع ظنّيّة.و من يتتبّع الأخبار يعلم أنّ العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السّلام من الحجّ و الختان و إيقاع الطّلاق و الغسل من الجنابة و تحريم ذوات المحارم بالقرابة و الصّهر و غير

ص: 664

ذلك،و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان أحرص النّاس على اتّباع دين إبراهيم عليه السّلام.

و في الصّحيح أنّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم كان- أي قبل البعثة-يتحنّث بغار حراء،و فسّر التّحنّث بالتّحنّف،أي اتّباع الحنيفيّة،و هي دين إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام،و الفاء تبدّل ثاء في كثير من كلامهم،و في رواية ابن هشام في«السّيرة»:يتحنّف بالفاء بدل الثّاء، نعم فسّر أيضا بالتّعبّد،كما في«صحيح البخاريّ»و باتّقاء الحنث أي الإثم كالتّحرّج و التّأثّم،و كلّ ذلك ممّا ذكره الحافظ القسطلانيّ في«شرح الصّحيح».

ثمّ إنّ الظّاهر أنّ من قال:إنّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم متعبّدا بشرع من قبله،ليس مراده أنّه عليه الصّلاة و السّلام كان متعبّدا بجميع شرع من قبله،بل بما ترجّح عنده صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم ثبوته.و الّذي ينبغي أن يرجّح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه السّلام،لأنّه من ذرّيّته عليهما الصّلاة و السّلام،و قد كلّفت العرب بدينه.

و قال بعضهم:إنّ عبادته صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم التّفكّر و الاعتبار،و لعلّه أيضا ممّا ترجّح عنده عليه الصّلاة و السّلام كونه من شريعته عليه السّلام،و ربّما يقال:بما علمه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم لا على ذلك الوجه من شرع من قبله أنّه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم لم يزل موحى إليه،و أنّه عليه الصّلاة و السّلام متعبّد بما يوحى إليه إلاّ أنّ الوحي السّابق على البعثة كان إلقاء و نفثا في الرّوع،و ما عمل بما من كان شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصّلاة و السّلام إلاّ بواسطة ذلك الإلقاء.و إذا كان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم السّلام قد أوتي الحكم صبيّا-ابن سنتين أو ثلاث-فهو عليه الصّلاة و السّلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النّوع من الإيحاء صبيّا أيضا.و من علم مقامه صلّى اللّه تعالى عليه و سلّم و صدّق بأنّه الحبيب الّذي كان نبيّا و آدم بين الماء و الطّين لم يستبعد ذلك، فتأمّل.(25:58)

الطّباطبائيّ: الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده صلّى اللّه عليه و آله و الّذي يدعو إليه إنّما هو من عند اللّه سبحانه لا من قبله نفسه،و إنّما أوتي ما أوتي من ذلك بالوحي بعد النّبوّة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقاديّة و الشّرائع العمليّة،فإنّ ذلك هو الّذي أوتي العلم به بعد النّبوّة و الوحي،و بعدم درايته بالإيمان عدم تلبّسه بالالتزام التّفصيليّ بالعقائد الحقّة و الأعمال الصّالحة.و قد سمّي العمل إيمانا في قوله:

وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143.

فالمعنى ما كان عندك قبل وحي الرّوح الكتاب بما فيه من المعارف و الشّرائع،و لا كنت متلبّسا بما أنت متلبّس به بعد الوحي من الالتزام الاعتقاديّ و العمليّ بمضامينه.و هذا لا ينافي كونه صلّى اللّه عليه و آله مؤمنا باللّه موحّدا قبل البعثة صالحا في عمله،فإنّ الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب و الالتزام بها اعتقادا و عملا.و نفي العلم و الالتزام التّفصيليّين لا يلازم نفي العلم و الالتزام الإجماليّين بالإيمان باللّه و الخضوع للحقّ.

و بذلك يندفع ما استدلّ بعضهم بالآية على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان غير متلبّس بالإيمان قبل بعثته.

و يندفع أيضا ما عن بعضهم أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يزل كاملا في

ص: 665

نفسه علما و عملا،و هو ينافي ظاهر الآية أنّه ما كان يدري ما الكتاب و لا الإيمان.

و وجه الاندفاع أنّ من الضّروريّ وجود فرق في حاله صلّى اللّه عليه و آله قبل النبوّة و بعدها،و الآية تشير إلى هذا الفرق،و أنّ ما حصل له بعد النّبوّة لا صنع له فيه و إنّما هو من اللّه من طريق الوحي.(18:77)

2- وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. المائدة:5

ابن عبّاس: أخبر اللّه سبحانه أنّ«الإيمان»هو العروة الوثقى،و أنّه لا يقبل عملا إلاّ به،و لا يحرّم الجنّة إلاّ على من تركه.(الطّبريّ 6:110)

و من يكفر باللّه.

مثله مجاهد.(أبو حيّان 3:433)

مثله عطاء.(الطّبريّ 6:110)

الإمام الباقر عليه السّلام: تفسيرها في بطن القرآن من يكفر بولاية عليّ،و عليّ هو الإيمان.

(العروسيّ 1:595)

هو ترك العمل.(العروسيّ 1:595)

عطاء: الإيمان:التّوحيد.(الطّبريّ 6:110)

قتادة :إنّ ناسا من المسلمين قالوا:كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا،فأنزل اللّه تعالى:

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بالمنزّل في القرآن.(أبو حيّان 3:433)

الكلبيّ: و من يكفر بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه.(أبو حيّان 3:433)

الإمام الصّادق عليه السّلام: أدنى ما يخرج به الرّجل عن الإسلام أن يرى الرّأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه،قال:

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ و قال:الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر اللّه به و لا يرضى به.(العروسيّ 1:595)

هو ترك العمل حتّى يدعه أجمع،منه الّذي يدع الصّلاة متعمّدا لا من شغل و لا من سكر،يعني النّوم.(العروسيّ 1:595)

أبو سليمان الدّمشقيّ: من جحد ما أنزله اللّه من شرائع الإسلام،و عرفه من الحلال و الحرام.

(أبو حيّان 3:433)

مثله الزّمخشريّ.(1:596)

الطّبريّ: و من يجحد ما أمر اللّه بالتّصديق به،من توحيد اللّه و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما جاء به من عند اللّه،و هو الإيمان الّذي قال اللّه جلّ ثناؤه: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ [إلى أن قال:]

فإن قال لنا قائل:و ما وجه تأويل من وجّه قوله:

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ إلى معنى و من يكفر باللّه؟

قيل:وجه تأويله ذلك كذلك،أنّ«الإيمان»هو التّصديق باللّه و برسله،و ما ابتعثهم به من دينه،و الكفر:

جحود ذلك،قالوا:فمعنى الكفر بالإيمان،هو جحود اللّه و جحود توحيده،ففسّروا معنى الكلمة بما أريد بها، و أعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها، و ظاهرها في التّلاوة.

فإن قال قائل:فما تأويلها على ظاهرها و حقيقة ألفاظها؟

ص: 666

قيل:تأويلها:و من يأب الإيمان باللّه،و يمتنع من توحيده و الطّاعة له،فيما أمره به و نهاه عنه،فقد حبط عمله؛و ذلك أنّ الكفر هو الجحود في كلام العرب، و الإيمان:التّصديق و الإقرار،و من أبي التّصديق بتوحيد اللّه و الإقرار به،فهو من الكافرين،فذلك تأويل الكلام على وجهه.(6:108-110)

نحوه الطّوسيّ.(3:446)

الزّجّاج: أي بدّل شيئا ممّا أحلّ اللّه فجعله حراما،أو أحلّ شيئا ممّا حرّم اللّه فهو كافر بإجماع.(2:152)

ابن الجوزيّ: سمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول:إنّما أباح اللّه عزّ و جلّ الكتابيّات،لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهنّ، فحذّر ناكحهنّ من الميل إلى دينهنّ بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (2:298)

الفخر الرّازيّ: قوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فيه إشكال،و هو أنّ الكفر إنّما يعقل باللّه و رسوله،فأمّا الكفر بالإيمان فهو محال،فلهذا السّبب اختلف المفسّرون على وجوه:

الأوّل:قال ابن عبّاس و مجاهد: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي و من يكفر باللّه.و إنّما حسن هذا المجاز، لأنّه تعالى ربّ الإيمان.و ربّ الشّيء قد يسمّى باسم ذلك الشّيء،على سبيل المجاز.

و الثّاني:قال الكلبيّ: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بشهادة«أن لا إله إلاّ اللّه»فجعل كلمة التّوحيد إيمانا،فإنّ الإيمان بها لمّا كان واجبا كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشّرع،و إطلاق اسم الشّيء على لازمه مجاز مشهور.

و الثّالث:قال قتادة:إنّ ناسا من المسلمين قالوا:

كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا،فأنزل اللّه تعالى هذه الآية،أي و من يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا و كذا،فسمّي«القرآن»إيمانا،لأنّه هو المشتمل على بيان كلّ ما لا بدّ منه في الإيمان.(11:148)

نحوه أبو حيّان.(3:433)

القرطبيّ: روي عن ابن عبّاس و مجاهد أنّ المعنى:

و من يكفر باللّه.

قال الحسن بن الفضل: إن صحّت هذه الرّواية فمعناها ب«ربّ الإيمان».

و قال الشّيخ أبو الحسن الأشعريّ:و لا يجوز أن يسمّى اللّه«إيمانا»خلافا للحشويّة و السّالميّة،لأنّ «الإيمان»مصدر آمن يؤمن إيمانا،و اسم الفاعل منه «مؤمن».و الإيمان:التّصديق،و التّصديق لا يكون إلاّ كلاما،و لا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما.(6:79)

الطّباطبائيّ: الكفر بالإيمان يقتضي وجود إيمان ثابت،و ليس المراد به المعنى المصدريّ من الإيمان،بل معنى اسم المصدر و هو الأثر الحاصل و الصّفة الثّابتة في قلب المؤمن،أعني الاعتقادات الحقّة الّتي هي منشأ الأعمال الصّالحة.فيؤول معنى الكفر بالإيمان إلى ترك العمل بما يعلم أنّه حقّ،كتولّي المشركين،و الاختلاط بهم،و الشّركة في أعمالهم،مع العلم بحقّيّة الإسلام؛و ترك الأركان الدّينيّة من الصّلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ،مع العلم بثبوتها أركانا للدّين.

فهذا هو المراد من الكفر بالإيمان.لكن هاهنا نكتة

ص: 667

و هي أنّ الكفر لمّا كان سترا و ستر الأمور الثّابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذّهن إلاّ مع المداومة و المزاولة، فالكفر بالإيمان إنّما يصدق إذا ترك الإنسان العمل بما يقتضيه إيمانه،و يتعلّق به علمه،و دام عليه،و أمّا إذا ستر مرّة أو مرّتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر،و إنّما هو فسق أتى به.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ هو المداومة و الاستمرار عليه،و إن كان عبّر بالفعل دون الوصف.فتارك الاتّباع لما حقّ عنده من الحقّ،و ثبت عنده من أركان الدّين،كافر بالإيمان،حابط العمل،كما قال تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.

فالآية تنطبق على قوله تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الأعراف:146،147، فوصفهم باتّخاذ سبيل الغيّ و ترك سبيل الرّشد بعد رؤيتهما و هي العلم بهما،ثمّ بدّل ذلك بتوصيفهم بتكذيب الآيات،و الآية إنّما تكون آية بعد العلم بدلالتها،ثمّ فسّره بتكذيب الآخرة لما أنّ الآخرة لو لم تكذّب منع العلم بها عن ترك الحقّ،ثمّ أخبر بحبط أعمالهم.

و نظير ذلك قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الكهف:103-104.

و انطباق الآيات على مورد الكفر بالإيمان بالمعنى الّذي تقدّم بيانه ظاهر.

و بالتّأمّل فيما ذكرنا يظهر وجه اتّصال الجملة،أعني قوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بما قبله.

فالجملة متمّمة للبيان السّابق،و هي في مقام التّحذير عن الخطر الّذي يمكن أن يتوجّه إلى المؤمنين بالتّساهل في أمر اللّه،و الاسترسال مع الكفّار،فإنّ اللّه سبحانه إنّما أحلّ طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلا و تخفيفا منه لهم،و ذريعة إلى انتشار كلمة التّقوى،و سراية الأخلاق الطّاهرة الإسلاميّة من المسلمين المتخلّقين بها إلى غيرهم،فيكون داعية إلى العلم النّافع،و باعثة نحو العمل الصّالح.

فهذا هو الغرض من التّشريع لا لأن يتّخذ ذلك وسيلة إلى السّقوط في مهابط الهوى،و الإصعاد في أودية الهوسات،و الاسترسال في حبّهنّ و الغرام بهنّ،و التّولّه في جمالهنّ،فيكنّ قدوة تتسلّط بذلك أخلاقهنّ و أخلاق قومهنّ على أخلاق المسلمين،و يغلب فسادهنّ على صلاحهم،ثمّ يكون البلوى،و يرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى.و مآل ذلك عود هذه المنّة الإلهيّة فتنة و محنة مهلكة،و صيرورة هذا التّخفيف الّذي هو نعمة نقمة.

فحذّر اللّه المؤمنين بعد بيان حلّيّة طعامهم و المحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا في التّنعّم بهذه النّعمة استرسالا يؤدّي إلى الكفر بالإيمان،و ترك أركان الدّين و الإعراض عن الحقّ،فإنّ ذلك يوجب حبط العمل،و ينجرّ إلى خسران السّعي في الآخرة.

(5:206)

ص: 668

إضاعة الإيمان

ايمانكم

1- وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ... البقرة:143

ابن عبّاس: صلاتكم الّتي صلّيتموها من قبل أن تكون القبلة،فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلّى منهم أن لا تقبل صلاتهم.

مثله السّدّيّ،و ابن زيد.(الطّبريّ 2:17)

سعيد بن المسيّب:صلاتكم نحو بيت المقدس.

(الطّبريّ 2:18)

الإمام الصّادق عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم و قسّمه عليها،و فرّقه فيها، و قال فيما فرض على الجوارح من الطّهور و الصّلاة بها، و ذلك أنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا صرف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الكعبة عن البيت المقدّس فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فسمّى الصّلاة إيمانا.(العروسيّ 1:136)

الفرّاء: أسند«الإيمان»إلى الأحياء من المؤمنين، و المعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة.

فقالوا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:كيف بصلاة إخواننا الّذين ماتوا على القبلة الأولى؟فأنزل اللّه تبارك و تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يريد إيمانهم،لأنّهم داخلون معهم في الملّة،و هو كقولك للقوم:قد قتلناكم و هزمناكم،تريد قتلنا منكم،فتواجههم بالقتل و هم أحياء.(1:83)

الطّبريّ: قد دللنا فيما مضى على أنّ الإيمان:

التّصديق،و أنّ التّصديق قد يكون بالقول وحده و بالفعل وحده،و بهما جميعا،فمعنى قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ على ما تظاهرت به الرّواية من أنّه الصّلاة، و ما كان اللّه ليضيع تصديق رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بصلاتكم الّتي صلّيتموها نحو بيت المقدس عن أمره،لأنّ ذلك كان منكم تصديقا لرسولي،و اتّباعا لأمري،و طاعة منكم لي.

[ثمّ ذكر مثل الفرّاء](2:18)

عبد الجبّار: سألوا عن قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و قالوا:كيف يصحّ ذلك في الإيمان و قد تقضّى.

و جوابنا:أنّ المراد إبطال ثوابه.و قد قيل:إنّه نزل في صلاتهم إلى بيت المقدس،فبيّن أنّه و إن نسخها فثوابها محفوظ لمن لم يفسد ذلك بكفر أو كبيرة.(37)

الطّوسيّ: استدلّ من قال:الصّلاة:الإيمان بهذه الآية،فقالوا:سمّى اللّه الصّلاة إيمانا على تأويل ابن عبّاس،و قتادة،و السّدّيّ،و الرّبيع،و داود بن أبي عاصم،و ابن زيد،و سعيد بن المنذر،و عمرو بن عبيد، و واصل،و جميع المعتزلة.

و من خالفهم من المرجئة لا يسلّم هذا التّأويل، و يقول:الإيمان على ظاهره و هو التّصديق،و لا ينزل ذلك بقول من ليس قوله حجّة،لأنّهم ليسوا جميع المفسّرين،بل بعضهم،و لا يكون ذلك حجّة.[ثمّ ذكر مثل الفرّاء](2:12)

ابن عطيّة: قال ابن عبّاس،و البراء بن عازب، و قتادة،و السّدّيّ،و الرّبيع،و غيرهم:الإيمان هنا الصّلاة.

و سمّي الصّلاة إيمانا لما كانت صادرة عن الإيمان و التّصديق في وقت بيت المقدس و في وقت التّحويل.

و لمّا كان الإيمان قطبا عليه تدور الأعمال و كان ثابتا في حال التّوجّه هنا و هنا ذكره؛إذ هو الأصل الّذي به يرجع في الصّلاة و غيرها إلى الأمر و النّهي،و لئلاّ تندرج في اسم

ص: 669

الصّلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس،فذكر المعنى الّذي هو ملاك الأمر،و أيضا فسمّيت إيمانا؛إذ هي من شعب الإيمان.(1:221)

نحوه أبو حيّان.(1:426)

الفخر الرّازيّ: اختلفوا في أنّ قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ خطاب مع من؟على قولين:

الأوّل:أنّه مع المؤمنين و ذكر القفّال على هذا القول وجوها أربعة:

الأوّل:أنّ اللّه خاطب به المؤمنين الّذين كانوا موجودين حينئذ،و ذلك جواب عمّا سألوه من قبل.

الثّاني:أنّهم سألوا عمّن مات قبل نسخ القبلة، فأجابهم اللّه تعالى بقوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي و إذا كان إيمانكم الماضي قبل النّسخ لا يضيعه اللّه،فكذلك إيمان من مات قبل النّسخ.

الثّالث:يجوز أن يكون الأحياء قد توهّموا أنّ ذلك لمّا نسخ بطل،و كان ما يؤتى به بعد النّسخ من الصّلاة إلى الكعبة كفّارة لما سلف،و استغنوا عن السّؤال عن أمر نفسهم لهذا الضّرب من التّأويل،فسألوا عن إخوانهم الّذين ماتوا و لم يأتوا بما يكفر ما سلف،فقيل: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و المراد أهل ملّتكم،كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً البقرة:72، وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ البقرة:50.

الرّابع:يجوز أن يكون السّؤال واقعا عن الأحياء و الأموات معا،فإنّهم أشفقوا على ما كانت من صلاتهم أن يبطل ثوابهم،و كان الإشفاق واقعا في الفريقين،فقيل:

إيمانكم للأحياء و الأموات؛إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر و غائب أن يغلبوا الخطاب،فيقولوا:كنت أنت و فلان الغائب فعلتما،و اللّه أعلم.

القول الثّاني:هو قول أبي مسلم،و هو أنّه يحتمل أن يكون ذلك خطابا لأهل الكتاب،و المراد بالإيمان:

صلاتهم و طاعتهم قبل البعثة ثمّ نسخ.و إنّما اختار أبو مسلم هذا القول لئلاّ يلزمه وقوع النّسخ في شرعنا.

استدلّت المعتزلة بقوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ على أنّ«الإيمان»اسم لفعل الطّاعات،فإنّه تعالى أراد بالإيمان هاهنا الصّلاة.

و الجواب:لا نسلّم أنّ المراد من الإيمان هاهنا الصّلاة، بل المراد منه التّصديق و الإقرار،فكأنّه تعالى قال:إنّه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصّلاة.

سلّمنا أنّ المراد من الإيمان هاهنا الصّلاة،و لكن الصّلاة أعظم آثار الإيمان و أشرف نتائجه و فوائده.فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصّلاة على سبيل الاستعارة من هذه الجهة.

قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي لا يضيع ثواب إيمانكم،لأنّ الإيمان قد انقضى و فنى.و ما كان كذلك استحال حفظه و إضاعته.إلاّ أنّ استحقاق الثّواب قائم بعد انقضائه؛فصحّ حفظه و إضاعته،و هو كقوله تعالى:

أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ آل عمران:195.

(4:120)

البيضاويّ: أي ثباتكم على الإيمان،و قيل:إيمانكم بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها لما روي أنّه عليه الصّلاة و السّلام لمّا وجّه إلى الكعبة قالوا:كيف بمن مات يا رسول اللّه قبل التّحويل من إخواننا؟فنزلت.(1:87)

ص: 670

نحوه الآلوسيّ.(2:7)

الطّريحيّ:أي صلاتكم،و الإيمان هنا الصّلاة.

(6:203)

القاسميّ: أي صلاتكم.و إنّما عدل إلى لفظ الإيمان الّذي هو عامّ في الصّلاة و غيرها،ليفيدهم أنّه لم يضع شيء ممّا عملوه،ثمّ يصحّ عنهم،فيندرج المسئول عنه اندراجا أوّليّا،و يكون الحكم كلّيّا.و ذكر بلفظ الخطاب دون الغائب،ليتناول الماضين و الباقين،تغليبا لحكم المخاطب على الغائب في اللّفظ.(2:299)

رشيد رضا :أي و ما كان من شأن اللّه في حكمته و رحمته أي يضيع إيمانكم الباعث لكم على اتّباع الرّسول في الصّلاة و القبلة.فلو كان نسخ القبلة ممّا يضيع الإيمان بنقضه أو نقصه أو فوت ثواب ما كان قبله لما نسخها.

أكثر المفسّرين و منهم الجلال على أنّ المراد ب«الإيمان»هنا الصّلاة؛إذ ورد أنّ بعض المؤمنين أحبّوا أن يعرفوا حال صلاتهم قبل التّحويل أو صلاة من مات و لم يصلّ إلى الكعبة،فأراد اللّه أن يبيّن لهم أنّه يتقبّل من الصّلاة ما كان أثر الإيمان الخالص،أي متى كنتم تصلّون إيمانا و احتسابا لا رياء و لا سمعة،فصلاتكم مقبولة،لأنّها أثر الإيمان الرّاسخ في القلب،المصلح للنّفس،فتسمية الصّلاة على هذا«إيمانا»ليس لأنّها أعظم أركان الدّين بل للإشارة إلى أنّ مزيّتها في منشئها الباعث عليها من الإيمان و الإخلاص و لذلك يقرن«الإيمان»دائما بذكر الصّلاة و الزّكاة؛فالصّلاة آية الإيمان القلبيّة الخفيّة،لأنّها لا تكون آية إلاّ بإخلاص القلب،و الزّكاة هي الدّليل الحسّيّ الظّاهر عليه.[إلى أن قال:]

و قال الأستاذ الإمام:إنّ سياق الآية بل الآيات يدلّ على أنّ«الإيمان»هنا مستعمل في معناه،فإنّه لمّا بيّن أمر الفتنة في تحويل القبلة،و بيّن أنّ من النّاس من ينقلب إلى الكفر و يترك الإيمان،و منهم من يثبت على إيمانه،عالما أنّ الاعتماد في مثل مسألة القبلة على اتّباع الرّسول،لأنّ الجهات في نفسها متساوية لا فضل لجهة منها على جهة، بشّر هؤلاء المؤمنين المتّبعين بأنّهم يجزون على إيمانهم الجزاء الأوفى فلا يضيع اللّه أجرهم،و لا يليتهم من ثباتهم على اتّباع الرّسول شيئا.و هذا الّذي قاله الإمام ظاهر لكلّ من يفهم هذا السّياق العجيب.(2:10)

2- وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ...

النّساء:25

الزّجّاج: أي اعملوا على ظاهركم في الإيمان،فإنّكم متعبّدون بما ظهر من بعضكم لبعض.(2:40)

مثله الميبديّ.(2:476)

الزّمخشريّ: فإن قلت:فما معنى قوله: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ؟

قلت:معناه أنّ اللّه أعلم بتفاضل ما بينكم و بين أرقّائكم في الإيمان،و رجحانه و نقصانه فيهم و فيكم.

و ربّما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة،و المرأة أفضل في الإيمان من الرّجل.و حقّ المؤمنين.أن لا يعتبروا إلاّ فضل الإيمان لا فضل الأحساب و الأنساب،و هذا تأنيس بنكاح الإماء و ترك الاستنكاف منه.(1:520)

ص: 671

نحوه القرطبيّ(5:140)،و البيضاويّ(1:214)، و البروسويّ(2:190).

الطّبرسيّ: و في الآية دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة،لأنّه قيّد جواز العقد عليهنّ بالإيمان بقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ و هذا مذهب مالك و الشّافعيّ. وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أراد بهذا بيان أنّه لم يؤخذ علينا إلاّ بأن نأخذ بالظّاهر في هذا الحكم؛إذ لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الإيمان،و اللّه هو المنفرد بعلم ذلك،و لا يطّلع عليه غيره فإنّه العالم بالسّرائر المطّلع على الضّمائر.(2:34)

النّسفيّ: فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهنّ،و دليل على أنّ«الإيمان»هو التّصديق دون عمل اللّسان،لأنّ العمل بالإيمان المسموع لا يختلف.(1:220)

أبو حيّان:لمّا خاطب المؤمنين بالحكم الّذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة للأمة المؤمنة نبّه على أنّ«الإيمان»هو وصف باطن،و أنّ المطّلع عليه هو اللّه،فالمعنى أنّه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين،لأنّ ذلك إنّما هو للّه تعالى، فيكفي من الإيمان منهنّ إظهاره.فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح،و ربّما كانت خرساء أو قريبة عهد بسباء و أظهرت الإيمان،فيكتفي بذلك منها.و الخطاب في «بايمانكم»للمؤمنين ذكورهم و إناثهم،حرّهم و رقّهم.

و انتظم الإيمان في هذا الخطاب و لم يفردن بذلك فلم يأت، و اللّه أعلم بإيمانهنّ،لئلاّ يخرج غيرهنّ عن هذا الخطاب.

و المقصود عموم الخطاب؛إذ كلّهم محكوم عليه بذلك.

و كم أمة تفوق حرّة في الإيمان و فعل الخير،و امرأة تفوق رجلا في ذلك.و في ذلك تأنيس لنكاح الإماء،و أنّ المؤمن لا يعتبر إلاّ فضل الإيمان لا فضل الأحساب و الأنساب إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ الحجرات:

13،«لا فضل لعربيّ على عجميّ و لا عجميّ على عربيّ إلاّ بالتّقوى».(3:221)

الطّباطبائيّ: لمّا كان الإيمان المأخوذ في متعلّق الحكم أمرا قلبيّا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب-و ربّما أوهم تعليقا بالمتعذّر أو المتعسّر، و أوجب تحرّج المكلّفين منه-بيّن تعالى أنّه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين،و هو كناية عن أنّهم إنّما كلّفوا الجري على الأسباب الظّاهريّة الدّالّة على الإيمان كالشّهادتين،و الدّخول في جماعة المسلمين،و الإتيان بالوظائف العامّة الدّينيّة،فظاهر«الإيمان»هو الملاك دون باطنه.

و في هداية هؤلاء المكلّفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص و قصور آخر،في الوقوع موقع التّأثير و القبول،و هو أنّ عامّة النّاس يرون لطبقة المملوكين من العبيد و الإماء هوانا في الأمر و خسّة في الشّأن و نوع ذلّة و انكسار،فيوجب ذلك انقباضهم و جماع نفوسهم من الاختلاط بهم و المعاشرة معهم، و خاصّة بالازدواج الّذي هو اشتراك حيويّ و امتزاج باللّحم و الدّم.

فأشار سبحانه بقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ النّساء:

25،إلى حقيقة صريحة يندفع بالتّأمّل فيها هذا التّوهّم الفاسد،فالرّقيق إنسان كما أنّ الحرّ إنسان لا يتميّزان في ما به يصير الإنسان واجدا لشئون الإنسانيّة،و إنّما

ص: 672

يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الإنسانيّ في إنتاجه سعادة النّاس،و لا عبرة بهذه التّميّزات عند اللّه،و الّذي به العبرة هو التّقوى الّذي به الكرامة عند اللّه،فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهميّة الّتي تبعّدهم عن حقائق المعارف المتضمّنة سعادتهم و فلاحهم،فإنّ الخروج عن مستوى الطّريق المستقيم،و إن كان حقيرا في بادئ أمره،لكنّه لا يزال يبعّد الإنسان من صراط الهداية حتّى يورده أودية الهلكة.

و من هنا يظهر أنّ التّرتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط و التّنزّل،أعني قوله: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، إنّما هو جرى في الكلام على مجرى الطّبع و العادة،و ليس إلزاما للمؤمنين على التّرتيب، بمعنى أن يتوقّف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرّة،بل لكون النّاس-بحسب طباعهم- سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض،و نبّه مع ذلك على أنّ الحرّ و الرّقّ من نوع واحد،بعض أفراده يرجع إلى بعض.

و من هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية: وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ النّساء:

25،أنّ المعنى و صبركم عن نكاح الإماء مع العفّة خير لكم من نكاحهنّ لما فيه من الذّلّ و المهانة و الابتذال، و هذا فإنّ قوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ النّساء:25،ينافي ذلك قطعا.(4:277)

اؤتمن

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ...

البقرة:283

الزّمخشريّ: حثّ للمديون على أن يكون عند ظنّ الدّائن به و أمنه منه و ائتمانه له،و أن يؤدّي إليه الحقّ الّذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه،و سمّي الدّين«أمانة»و هو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه.

و القراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذّال أو ياء، فتقول: (الّذي اؤتمن) أو (الّذي تمن) .و عن عاصم أنّه قرأ (الّذي اتّمن) بإدغام الياء في التّاء قياسا على اتّسر في «الافتعال»من اليسر.و ليس بصحيح،لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة،فهي في حكم الهمزة.و«اتّزر»عامّيّ،و كذلك ريّا في رؤيا.(1:405)

أبو البركات: أوتمن،أصله:اؤتمن،على وزن «افتعل»إلاّ أنّه أبدلت الهمزة الثّانية واوا لسكونها و انضمام ما قبلها،فصار«أوتمن».فإن وصلتها بما قبلها حذفت الهمزة المضمومة،لأنّها همزة وصل فيقرأ (الّذي اؤتمن) بذال مكسورة بعدها همزة ساكنة خالصة كالهمزة في بئر و ذئب.

و قد قرئ (الّذى ايتمن) بياء،و هي بدل من الهمزة السّاكنة الّتي هي فاء الفعل من«اؤتمن».و إنّما أبدلت الهمزة ياء لسكونها و انكسار ما قبلها،كما قالوا في بئر:

بير،و في ذئب:ذيب.و قد قرئ بهما.قال اللّه تعالى:

وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ الحجّ:45، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ يوسف:

17،بغير همز.و هذا قياس مطّرد في كلّ همزة ساكنة

ص: 673

مكسور ما قبلها أن تقلب ياء،فالياء الّتي في اللّفظ في (الّذى)هي فاء الفعل من(اؤتمن)،و ياء(الّذى)حذفت لالتقاء السّاكنين.و لا يجوز أن تشمّ الهمزة في(اؤتمن) شيئا من الضّمّة،اعتبارا بضمّة همزة الوصل،لأنّ أصله «اؤتمن»لوجهين:

أحدهما:أنّ همزة الوصل تسقط في الدّرج،فنقل الحركة عنها محال.

و الثّاني:أنّ هذا على خلاف كلام العرب،لأنّهم إنّما ينقلون حركة الحرف إلى ما قبله لا إلى ما بعده،و هذا نقل إلى ما بعده لا إلى ما قبله،فكان على خلاف كلامهم، فلا وجه لإشمام الهمزة من(اؤتمن)لأنّها لا حركة لها أصلا،و ليس هذا كما حكي من أنّه قرئ: فِي الْقَتْلى الْحُرُّ البقرة:178،بإشمام الفتحة على اللاّم الكسرة مع حذف الألف بعدها،كما كان يميل،و الألف ثابتة لأنّ الألف المحذوفة فى اَلْقَتْلى في حكم الثّبات،لأنّها حذفت لالتقاء السّاكنين،و ما حذف لالتقاء السّاكنين في حكم الثّابت الموجود،أ لا ترى أنّه قرأ بعضهم: (و لا الّيل سابق النّهار (1)يس:40،فنصب النّهار مع حذف التّنوين كما ينصب مع إثباته،و أنشدوا:

فألفيته غير مستعتب و لا ذاكر اللّه إلاّ قليلا

فنصب الاسم مع حذف التّنوين،كما ينصب مع إثباته،لأنّه في تقدير الثّبات،فكذلك هاهنا أميلت الفتحة في(القتلى)لمكان الألف،و إن كانت محذوفة لأنّها في تقدير الثّبات،بخلاف إشمام الهمزة الضّمّة هاهنا،بان الفرق بينهما.(1:185)

نحوه أبو حيّان.(2:356)

الفخر الرّازيّ: أي فليؤدّ المديون الّذي كان أمينا و مؤتمنا في ظنّ الدّائن،فلا يخلف ظنّه في أداء أمانته و حقّه إليه،يقال:أمنته و ائتمنته فهو مأمون و مؤتمن.

(7:130)

النّيسابوريّ: فليكن المديون عند ظنّ الدّائن به.

و سمّي الدّين أمانة و إن كان مضمونا،لائتمانه عليه بترك الارتهان منه.

و الحاصل أنّه مجاز مستعار،و ذلك أنّه لمّا اشترك هذا الدّين مع الأمانة الشّرعيّة في وصف وجود الأمانة اللّغويّة أطلق أحدهما على الآخر.و الائتمان«افتعال»من الأمن.

و في الآية قول آخر،و هو أنّها خطاب للمرتهن بأن يؤدّي الرّهن عند استيفاء المال فإنّها أمانة في يده، و الصّحيح هو الأوّل.

و من النّاس من قال:هذه الآية ناسخة للآيات المتقدّمة الدّالة على وجوب الكتبة و الإشهاد و أخذ الرّهن.(3:95)

أبو حيّان: [ذكر نحو أبي البركات ثمّ نقل كلام الزّمخشريّ و ردّ عليه بقوله:]

و ما ذكر الزّمخشريّ فيه:أنّه ليس بصحيح،و أنّ «اتّزر»عامّيّ،يعني أنّه من إحداث العامّة،لا أصل له في اللّغة.قد ذكره غيره أنّ بعضهم أبدل و أدغم،فقال:اتّمن و اتّزر،و ذكر أنّ ذلك لغة رديئة.

و أمّا قوله:و كذلك«ريّا»في رؤيا،فهذا التّشبيه إمّا أن يعود إلى قوله:و اتّزر عامّيّ،فيكون إدغام«ريّا»ر.

ص: 674


1- القراءة المشهورة:النّهار.

عاميّا،و إمّا أن يعود إلى قوله،فليس بصحيح،أي و كذلك«ريّا»ليس بصحيح.و قد حكى الإدغام في «ريّا»الكسائيّ.(2:356)

أبو السّعود: و هو«المديون»و إنّما عبّر عنه بذلك العنوان لتعيّنه طريقا للإعلام و لحمله على الأداء.

(امانته)أي دينه،و إنّما سمّي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به.و قرئ (ايتمن) بقلب الهمزة ياء.و قرئ بإدغام الياء في التّاء و هو خطأ،لأنّ المنقلبة من الهمزة لا تدغم،لأنّها في حكمها.(1:206)

نحوه البروسويّ(1:443)،و الآلوسيّ(3:62).

الطّريحيّ: الأمانة:ما يؤتمن عليها الإنسان،و أتمنه على الشّيء:أمنه،يقال:اؤتمن فلان،على ما لم يسمّ فاعله.فإن ابتدأت به صيّرت الهمزة الثّانية واوا،لأنّ كلّ كلمة اجتمع في أوّلها همزتان و كانت الأخرى ساكنة، فلك أن تصيّرها واوا إن كانت الأولى مضمومة،أو ياء إن كانت الأولى مكسورة،نحو ائتمنه،أو ألفا إن كانت الأولى مفتوحة،نحو آمن.(6:202)

الوجوه و النّظائر

الإيمان

مقاتل: تفسير«الإيمان»على أربعة وجوه:

فوجه منها:الإيمان:الإقرار باللّسان من غير تصديق،فذلك قوله في السّورة الّتي يذكر فيها المنافقون:

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ المنافقون:3،يعني أقرّوا باللّسان في العلانية ثمّ كفروا في السّرّ،و لم يصدّقوا النّبيّ-عليه السّلام و رحمة اللّه و بركاته-و ما جاء به.نظيرها فيها حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني أقرّوا باللّسان من غير تصديق لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ المنافقون:9،و قال: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ الحديد:16،يعني أقرّوا،و قال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني أقرّوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ الممتحنة:13.

الوجه الثّاني:الإيمان يعني التّصديق في السّرّ و العلانية،فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة:7،و قال:

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الفتح:5،و نحوه كثير.

و الوجه الثّالث:الإيمان يعني التّوحيد،فذلك قوله:

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ، يعني بالتّوحيد فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ المائدة:5،كقوله: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ المؤمن:10،يعني إذ تدعون إلى التّوحيد، كقوله: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:

106،يعني بالتّوحيد.

و الوجه الرّابع:الإيمان يعني إيمانا في شرك،فذلك قوله: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف:106،يعني مشركي العرب و إيمانهم، وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ الزّخرف:87، وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ لقمان:25،فهذا منهم إيمان و هم في ذلك لمشركون باللّه، و أهل الكتاب يؤمنون ببعض الرّسل و بعض الكتب و يكفرون ببعض،و ممّا قال اللّه: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ

ص: 675

حَقًّا النّساء:151،فلم ينفعهم إيمانهم ببعض الرّسل و الكتب؛إذ لم يؤمنوا بهم كلّهم.(138)

مثله هارون الأعور.(125)

ابن قتيبة :«الإيمان»هو التّصديق،قال اللّه تعالى:

وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدّق لنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17،و قال: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا المؤمن:12،أي تصدّقوا.و العبد مؤمن باللّه،أي مصدّق،و اللّه مؤمن:

مصدّق ما وعده.أو قابل إيمانه.و يقال في الكلام:ما أومن بشيء ممّا تقول،أي ما أصدّق به.

فمن الإيمان:تصديق اللّسان دون القلب،كإيمان المنافقين،يقول اللّه تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا المنافقون:3،أي آمنوا بألسنتهم و كفروا بقلوبهم،كما كان من الإسلام انقياد باللّسان دون القلب.

و من الإيمان:تصديق باللّسان و القلب،يقول اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة:7،كما كان من الإسلام انقياد باللّسان و القلب.

و من الإيمان:تصديق ببعض و تكذيب ببعض،قال اللّه تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ يوسف:106،يعني مشركي العرب،إن سألتهم من خلقهم؟قالوا:اللّه،و هم مع ذلك يجعلون له شركاء.

و أهل الكتاب يؤمنون ببعض الرّسل و الكتب،و يكفرون ببعض،قال اللّه تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا المؤمن:85،يعني ببعض الرّسل و الكتب،إذ لم يؤمنوا بهم كلّهم.(تأويل مشكل القرآن:481)

القمّيّ:الإيمان في كتاب اللّه على أربعة أوجه:فمنه إقرار باللّسان قد سمّاه اللّه إيمانا،و منه تصديق بالقلب، و منه الأداء،و منه التّأييد.

الأوّل:الإيمان الّذي هو إقرار باللّسان،و قد سمّاه اللّه تبارك و تعالى إيمانا و نادى أهله به،لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً* وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ... النّساء:71،72.

قال الصّادق عليه السّلام:لو أنّ هذه الكلمة قالها أهل المشرق و أهل المغرب لكانوا بها خارجين من الإيمان، و لكن قد سمّاهم اللّه مؤمنين بإقرارهم،و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النّساء:136،فقد سمّاهم اللّه مؤمنين بإقرارهم،ثمّ قال لهم:صدّقوا.

الثّاني:الإيمان الّذي هو التّصديق بالقلب،فقوله:

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ يونس:63،64،يعني صدّقوا، و قوله:«فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً البقرة:55،أي لا نصدّقك،و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا النّساء:136،أي يا أيّها الّذين أقرّوا صدّقوا.

فالإيمان الحقّ هو التّصديق،و للتّصديق شروط لا يتمّ التّصديق إلاّ بها،و قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ البقرة:177،فمن أقام بهذه الشّروط فهو مؤمن مصدّق.

الثّالث:الإيمان الّذي هو الأداء،فهو قوله لمّا حوّل اللّه قبلة رسوله إلى الكعبة قال أصحاب رسول اللّه:يا رسول اللّه صلواتنا إلى بيت المقدس بطلت،فأنزل اللّه تبارك

ص: 676

و تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143، فسمّي الصّلاة إيمانا.

الرّابع:من الإيمان و هو التّأييد الّذي جعله اللّه في قلوب المؤمنين من روح الإيمان،فقال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ -إلى قوله - أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ المجادلة:22، و الدّليل على ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله:«لا يزني الزّاني و هو مؤمن و لا يسرق السّارق و هو مؤمن يفارقه روح الإيمان ما دام على بطنها،فإذا قام عاد إليه»قيل:و ما الّذي يفارقه؟ قال:«الّذي يدعه في قلبه»ثمّ قال عليه السّلام:«ما من قلب إلاّ و له أذنان،على أحدهما ملك مرشد،و على الآخر شيطان مغترّ،هذا يأمره و هذا يزجره».

و من الإيمان ما قد ذكره اللّه في القرآن خبيث و طيّب، حيث قال: ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ آل عمران:179، و منهم من يكون مؤمنا مصدّقا و لكنّه يلبس إيمانه بظلم، و هو قوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ الأنعام:82،فمن كان مؤمنا ثمّ دخل في المعاصي الّتي نهى اللّه عنها فقد لبس إيمانه بظلم،فلا ينفعه الإيمان حتّى يتوب إلى اللّه من الظّلم الّذي لبس إيمانه حتّى يخلص للّه،فهذه وجوه الإيمان في كتاب اللّه.(1:30)

الفيروزآباديّ: [مثل مقاتل و أضاف:]

الخامس:بمعنى الصّلاة وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ البقرة:143.

(بصائر ذوي التّمييز 2:150)

الأمانة

الدّامغانيّ: «الأمانة»على ثلاثة أوجه:الفرائض، الودائع،العفّة.

فوجه منها:الأمانة يعني الفرائض،قوله تعالى:

وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ الأنفال:27،و مثلها: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الأحزاب:72،يعني الفرائض،و نحوه كثير.

و الوجه الثّاني:الأمانة:الوديعة،قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها النّساء:58،يعني الودائع،كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ المؤمنون:8،يعني الودائع.

و الوجه الثّالث:الأمانة يعني العفّة،قوله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ القصص:26،يعني العفيف.(59)

مثله الفيروزآباديّ.إلاّ أنّه لم يذكر الوجه الثّاني.(بصائر ذوي التّمييز 2:152)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة«الأمن»بمعنى الطّمأنينة،في مضادّة الخوف الّذي كان طابع الحياة العربيّة قبل الإسلام؛إذ أنّ طبيعة حياة الصّحراء قد فرضت على القوم الحروب المتّصلة الدّامية،من أجل الحصول على الكلأ و الماء،و ما يتولّد عن ذلك من ثارات و ترات و ختل و غدر،عدا فترات اتّفقوا عليها،و سمّوا أيّامها بالحرم، إشعارا بحرمة القتال فيها،فيستشعر النّاس الطّمأنينة نوع استشعار،فيقولون:أمن يامن،فهو آمن و أمين و مأمون

ص: 677

و منه«الأمان»الّذي عدّه القرآن الكريم منّة و فضلا من اللّه تعالى عليهم،و ساوى بينه و بين الإطعام في قوله:

اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:

4،فكما أنّ الحياة لا تستمرّ من غير الطّعام،فكذلك لا تستمرّ من غير الأمان.

2-و كان من قيم تلك الحياة و طبيعتها أنّ الإنسان قد يضطرّ إلى أن يودع عند غيره وديعة،فكان ينتقي لمحلّ وديعته أوثق الأفراد عنده،فيتركها في حفظه و عنايته، و هو مطمئنّ القلب إلى سلامتها،و إلى أنّه سيستردّها منه سالمة مسلّمة.و بالنّظر إلى هذا«الاطمئنان»المتسرّب إلى عمليّة إيداع الوديعة،أطلق لفظ«الأمانة»على الوديعة بمعنى المأمونة،أي المأمون عليها من قبل صاحبها،أو من قبل من هي عنده،لذلك يقولون:أمّنت عند فلان أمانة،و الّذي يطمأنّ منه على الأمانة يسمّى في اللّغة-تقديرا و إجلالا-بألفاظ شتّى،منها المؤتمن و الأمين و الأمنة،و كأنّه شيء مبجّل،منظور إليه نظرة خاصّة،توازي نظرة القوم إلى الأمان و الأمن الّذي هو عماد من أعمدة الحياة الّتي يأملونها و يتمنّونها،فيقولون:

أمنه،و أمّنه،و ائتمنه،بإقرار الهمزة،و هو أجود ما روي فيها.

فتختلط الأمانة بالأمان،و يشترك الفعل«أمن» و تصريفاته للدّلالة على كلّ منهما،بل نقول:لو لا الأمن على الوديعة،و الاطمئنان بمن أودعت عنده،لما استعمل من هذا الجذر شيء دالّ على ذلك.

3-و بالنّظر إلى هذا الاطمئنان،و لتزايد شعور الإنسان بالتّعلّق به،تمّ نقل اللّفظ إلى صورة أخرى بزيادة همزة في أوّله؛للدّلالة على أعمق ما يكون عليه الاطمئنان،فصار:آمن يؤمن،و خصّ به الاطمئنان إلى اللّه سبحانه و تعالى.و لعلّ أوّل من نقل اللّفظ من«أمن» إلى«آمن»،و من مستوى الاطمئنان الّذي كان ملحوظا فيه،إلى مستوى أعمق و أتمّ و أشمل،هو القرآن الكريم.

و لم نجد في النّصوص الموثّقة الصّادرة عن العصر الجاهليّ شاهدا واحدا معتبرا استعمل هذا اللّفظ بهذه الدّلالة.

و قد يعود هذا إلى أنّ الجاهليّين كانوا يستشعرون بحاجتهم إلى اطمئنان أعمق ممّا يستشعرونه في الأوقات الّتي تتوقّف فيها الحروب و الثّارات.و لكنّهم لم يكونوا يدركون جوهر ذلك الاطمئنان و سببه،حتّى جاء القرآن،و فيه الكشف عن ذلك الجوهر،و بخاصّة تصريحه العظيم: أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الرّعد:

28، إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ النّحل:

106،فربط بين الاطمئنان في أعمق صوره و ذكر اللّه سبحانه و تعالى و الإيمان به،فاستقرّ اللّفظ بالصّياغة الجديدة و الدّلالة الجديدة.

4-و بذلك يكون لفظ«الإيمان»دالاّ على الاطمئنان العميق الشّامل،لا على مجرّد التّصديق،و إنّما التّصديق من مظاهر ذلك الاطمئنان و مصاديقه،ثمّ يأتي العمل الكاشف عن ذلك التّصديق.و كلّ هذا مختصّ بعلاقة الإنسان باللّه سبحانه و تعالى،على ما هو الأصل اللّغويّ، فأمّا إذا استعمل في غير هذا المورد،فيكون من باب نقل اللّفظ من دلالة إلى أخرى.و غالبا ما يكون المورد المنقول إليه ممّا يتعلّق بذاك المعنى،كقولك:آمنت بكتاب اللّه،أو بنبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و أنت تعني في ذلك اطمئنانك

ص: 678

الكامل الشّامل إلى ما دلّ عليه اللّفظ.فإذا ما استعمل في مورد آخر،فنعتقد أنّه تحميل اللّفظ فوق ما يحتمل، و إخراج له من أصل وضعه إلى وضع مجازيّ آخر.و لك أن تقول:الإيمان بكلّ ما يتعلّق باللّه إيمان باللّه حقّا،يوجب الأمن،فهو توسيع في مفهوم اللّفظ،و ليس إخراجا عن مفهومه حتّى يكون مجازا.

5-و بذلك كلّه تبيّن لك التقاء المعاني الثّلاثة-أي الأمن و الأمانة و الإيمان-في أنّ لها علاقة بالقلب،فالأمن طمأنينة القلب و سكونه من الأخطار،و الأمانة وثوق النّفس بصيانة الشّيء المؤتمن عليه من الآفات،و الإيمان اطمئنان القلب و ركونه إلى اللّه و بكلّ ما يتعلّق به من القربات.

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

إنّ معنى مادّة«أمن»في الأصل-كما مرّ بنا-هو الاطمئنان،لكنّها جاءت في القرآن بثلاثة معان،و في ثلاثة محاور:

الأوّل:المعنى المذكور،أي الاطمئنان و عدم الخوف، فالأمن:ضدّ الخوف،يقال:أمن يأمن أمنا و أمنا و أمانا و أمنة،فهو آمن،و هي آمنة،و هم آمنون.

و جاء متعدّيا إلى الشّخص و إلى الشّيء أو غير متعدّ إليهما،مقرونا بالخوف و نحوه غالبا.

الثّاني:الوثوق و الرّكون،يقال:أمن يأمن،و أمن يأمن أمنا و أمانة.و منه الأمانة:ضدّ الخيانة،و الائتمان، و يقترن غالبا بالأداء أو الأمانة أو الخيانة.

الثّالث:الإيمان،أي الإذعان و التّصديق،يقال:آمن به و له إيمانا،أي أذعن و صدّق.و أصله الأمن الباطنيّ، و هو ضدّ الكفر،و له أساليب كثيرة في القرآن.

أ-المحور الأوّل«الأمن»:

أمن:

1- أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ الأعراف:97

2- أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ الأعراف:98

3- أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ النّحل:45

4- فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ البقرة:196

5- فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ البقرة:239

6- أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً الإسراء:68

7- أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ الإسراء:69

8- أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ الملك:16

9- أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً الملك:17

10- أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ الأعراف:99

11- أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللّهِ

يوسف:107

ص: 679

يامن:

12- فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الأعراف:99

13 و 14- سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ النّساء:91

آمن:

15- اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ

قريش:4

آمن:

16- وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً

البقرة:126

17- وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً

إبراهيم:35

18- أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ القصص:57

19- أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً

العنكبوت:67

20- وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آل عمران:97

21- أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ فصّلت:40

آمنة:

22- وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها النّحل:112

آمنون:

23- وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ النّمل:89

24- فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ آمِنُونَ سبأ:37

25- وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ

يوسف:99

26- اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ الحجر:46

27- وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ

الحجر:82

28- أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ الشّعراء:146

29- يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ

القصص:31

30- سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ سبأ:18

31- يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ

الدّخان:55

32- لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ الفتح:27

أمن:

33- وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ النّساء:83

34- فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

الأنعام:81

35- اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ الأنعام:82

36- وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً

البقرة:125

37- وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً

النّور:55

ص: 680

أمنة:

38- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً

آل عمران:154

39- إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ الأنفال:11

مأمن:

40- فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

التّوبة:6

مأمون:

41- إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ المعارج:28

المؤمن:

42- لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الحشر:23

يلاحظ أوّلا:وحدة السّياق في الآيات (1 و 2 و 3 و 6 و 7 و 8 و 9 و 10 و 11 و 19 و 20 و 21 و 28 و 34)، فكلّها تتضمّن الاستفهام الإنكاريّ،مخوّفا من عذاب واقع بهم فجأة،و بألوان مختلفة:اليأس،مكر اللّه، الخسف الحاصب،القاصف،الغاشية.و قد كرّرت الجملة في الأعراف ثلاثا،و في كلّ من الإسراء و الملك مرّتين، تسجيلا للعذاب و إزالة للأمن.

ثانيا:و تبرز وحدة السّياق أيضا في الآيتين(4 و 5) بمجيء(امنتم)في جملة شرطيّة مع حذف المتعلّق،في حال أنّه لم يحذف و لو مرّة واحدة في سياق الاستفهام.

و معنى(امنتم)حصل لكم الأمن،و زال عنكم الخوف.

ثالثا:و تتجلّى وحدة السّياق كذلك في الآيتين (38 و 39)إذ ورد لفظ(امنة)مع النّعاس،و أحدهما يفسّر الآخر،و ليس(امنة)جمع«آمن»،كما قال بعض، و قد جاءت الأولى في غزوة بدر،و الثّانية في أحد.و في إشعار بأنّ(امنة)ليست مطلق الأمن في عرف القرآن،بل هي راحة البدن بعد ضغط و شدّة و لا سيّما في الحرب، و هي النّوم الّذي أدرك الغزاة بعد أن أجهدتهم أثقال الحرب.

رابعا:و قوله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:3 و 4،أي جعل لهم الأمن،و أزال عنهم الخوف،فهو بمعنى التّأمين.

قال الرّاغب:«آمن إنّما يقال على وجهين:أحدهما متعدّ بنفسه،يقال:آمنته،أي جعلت له الأمن،و منه قيل للّه:

مؤمن.و الثّاني غير متعدّ،و معناه صار ذا أمن».

و الجمع بين الإطعام من جوع و الأمان من خوف بعد ذكر البيت الحرام،فيه إشعار بأنّ البيت هو المنشأ لهاتين النّعمتين،تلبية لدعوة إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ البقرة:126، و مثله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ القصص:57.

و التّنكير في(جوع)و(خوف)للتّعميم أو التّهويل، و(من)-كما قيل-بدليّة،أي أطعمهم بدل الجوع،و آمنهم بدل الخوف.

و كذلك(يامنوكم)(و يامنوا قومهم)في(13) و(14)،أي يجعلوا أنفسهم في أمن منكم و من قومهم.

و عن الفرّاء:«يأمنوا فيكم و في قومهم».و عليه،فالفعلان بمعنى الأمن و عدم الخوف.و في«معجم الألفاظ»:هما بمعنى الوثوق،أي وثقوكم و اطمأنّوا إليكم،لاحظ النّصوص.

خامسا:لقد وصف البلد أو الحرم في الآيات(16)و

ص: 681

(17)و(18)و(19)بأنّه آمن،أي ذو أمن،أو أهله آمنون،كما قال في(20)حول شأن البيت: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً و قال:في(21): أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى غير ذلك.و قوله في(22):

وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً شاهد على ذلك،باعتباره جمع بين(آمنة)و(مطمئنّة).

و سادسا:أنّ(آمنا)غالبا جاء وصفا لمكّة أو الحرم أو البيت،كما أنّ(امين)جاء غالبا مرتبطا بالوحي و الرّسالة، و مغزاهما واحد،و إن اختلفا في أنّ(امن)من الأمن، و(امين)من الأمانة،و سنبحثه لا حقا.

سابعا:أنّ كلاّ من البلد و الحرم وصفا به مرّتين(16) إلى(19)،و فيه إشعار بأنّه أريد بهما شيء واحد،و هو الحرم،لأنّه أشمل،و هو المراد أيضا في قوله(20): وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، دون الكعبة نفسها،و إن كان مرجع الضّمير في(دخله)إلى البيت في آية قبلها إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، لأنّ المراد بالبيت الحرم أو البلد أو المسجد الحرام،بشهادة فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ فإنّ مقام إبراهيم يقع خارج البيت.

ثامنا:جاء(آمنا)في تلك الآيات مفردا منكّرا منصوبا دائما،و تعدّ وحدة التّعبير تركيزا و تأكيدا على المعنى، ليضرب به المثل،ثمّ ليعمّ كلّ أمن.

تاسعا:أنّ الآيات(23)و(24)و(26)و(31) جاءت بشأن أمن الآخرة،و الآيتين(30)و(32)جاءتا بشأن الحرم،و(25)و(29)بشأن تأمين من يوسف لأبيه و إخوته،و من اللّه لموسى،و(27)و(28)بشأن الأمم السّالفة توبيخا لهم.

و هذا ما يوضّح أنّ«الأمن»شامل لكلّ أنواعه، و الشّمول و العموم ممّا لا يتمّ الأمن إلاّ بهما،و إلاّ فسيبقى شيء من الخوف.كما أنّ لفظ«الجمع»جاء نكرة دائما،إلاّ في قصّة موسى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، فهل فيه نكتة؟علما أنّ التّنكير-سواء في المفرد و الجمع-يعني الشّمول.

و لعلّه من أجل أنّه في(23)و(24)خبر،و في الباقي حال،و الأصل في الخبر و الحال التّنكير،بخلاف ما جاء في قصّة موسى،فإنّه وعد بجعله من جملة الآمنين المعلوم حالهم.

عاشرا:جاء«مأمن»في آية واحدة(40): ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، و هو اسم مكان،أي مكان الأمن،لكن لا كلّ مكان فيه الأمن،بل مكانه الّذي يحسّ هو فيه الأمن، و هو معنى(مأمنه).و جاء أيضا(مأمون)في آية واحدة (41): إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، أي لا أمن لهم، فهم خائفون منه،أو لا يوثق و لا يطمأنّ به،فهو بمعنى الأمن،أو الوثوق،و كلاهما محتمل.

الحادي عشر:جاء لفظ(المؤمن)في الآية(42)، و أنّه يعني-كما مرّ في النّصوص-واهب الأمن،أو الّذي أمن خلقه من ظلمه،أو الّذي آمن بنفسه قبل إيمان خلقه به،أو المصدّق الّذي يصدّق الصّادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم،أو الموفّي لحقوق عباده الّتي ائتمنوا عليها،أو الّذي ائتمن النّاس على أمانة قبلوها،إلى غير ذلك،و هو في الأوليين من الأمن،و في الأخيرتين من الأمانة،و في الباقي من الإيمان.و قد قرئ بالفتح(المؤمن)، أي الّذي يؤمن به،بحذف الجارّ،و هو أيضا من الإيمان.

و كون(المؤمن)في الآية من الإيمان-و إن لا يخلو من

ص: 682

لطف كما جاء في«ظلال القرآن»-و قد فسّره بقوله:

واهب الأمن و الإيمان:«لأنّه يشعر بقيمة الإيمان؛حيث يلتقي فيه العبد باللّه،و يتّصف منه بإحدى صفاته،فيرتفع إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان».إلاّ أنّ السّياق يساعد معنى الأمن أو الاطمئنان و الوثوق،قال تعالى: هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ الحشر:23.

ففي الآية ثماني صفات للّه تعالى:خمس منها تثبت بسياقها الأكيد الصّارم للّه السّيطرة و القدرة المطلقة الّتي ربّما يخطر منها بالبال أنّه لا محالة سوف يظلم العباد،و هي الملك و المهيمن و العزيز و الجبّار و المتكبّر.و جاءت أوصاف ثلاثة في الوسط،و هي القدّوس و المؤمن و السّلام،لتزيل هذه الخاطرة الخاطئة؛حيث تصفه في سياق صارم أيضا بالقدسيّة و الأمن و السّلام.

و كلّ منها يرفض جانبا من تلك الخاطرة،فالقدّوس -بصيغة المبالغة-يرفض الرّجس الخلقيّ الّذي يتّصف به الملوك،فيوجب القهر و التّسلّط و الظّلم للرّعيّة.و السّلام بمعنى المبالغة-لكونه وصفا بلفظ المصدر،مثل زيد عدل- يرفض أيّ قهر و غلبة و تعدّ على العباد.و المؤمن-من الأمن-يرفض أيّ فوضى تضادّ الأمن و الطّمأنينة،كما يضمن بإطلاقه كلّ أمن للعباد،سواء في الدّنيا أو في الآخرة.

و إن شئت قلت:إنّ لفظ(الملك)يحمل السّامع على الخطر في باله هذه الخاطرة،فأزاله اللّه بالأوصاف الثّلاثة، حتّى لا يتوهّم السّامع أنّ الأوصاف الصّارمة الّتي جاءت في الذّيل من نوع ما يصدر من الملوك الطّغاة.

فالبلاغة تقتضي أوّلا:رفض السّوء عن ما يتبادر من لفظ الملك،و مثله قوله في سورة الجمعة: اَلْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، كما وصف(الحقّ)في:

فَتَعالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ طه:114،و المؤمنون:11، لنفس السّبب.و ثانيا:الفصل بينه و بين تلك الصّفات، لكي لا يتوهّم أنّها من آثار الملك،و من قبيل فعل الطّغاة.فهو واهب كلّ أمن لكلّ نفس،بل لكلّ شيء، فلا أمن إلاّ من عنده.

الثّاني عشر:قد وقعت لفظة«الأمن»و دلالته على الاطمئنان النّفسيّ في هذه المواقع:

أ-في مقابلة الخوف،كبديل له: وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش:4.

ب-في مقابلة الخوف،كحالة من حالات الظّروف الحياتيّة للإنسان: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ النّساء:83.

ج-في مقابلة الخوف في تحديد من يحقّ له أن يكون آمنا،و من يحقّ أن ينزل الخوف به: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ الأنعام:81،82.

د-الاطمئنان المطلق،سواء كان في مقابلة الخوف أم غيره: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً... *وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ... البقرة:125،126.

ه-في مقابل الغمّ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ... آل عمران:154، وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ... الأنفال:10،11.

ص: 683

ه-في مقابل الغمّ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ... آل عمران:154، وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ... الأنفال:10،11.

و نلاحظ في هذا القسم أنّ معنى«الاطمئنان»قد تولّد من لفظ جديد أيضا،هو(امنة)الّذي لم يرد في القرآن إلاّ في سياق النّعاس،في مقابلة القلق و الأرق المسبّبين من الغمّ و الهمّ،و قد سبق.

و-في مقابل الفزع: ...وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ النّمل:89.

ز-في وصفه،كصورة من صور نعيم الآخرة في مثل:

...وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ سبأ:37.

إنّ مراجعتنا لهذه النّقاط تبيّن لنا أنّ«الأمن»هو حالة اطمئنان نفسيّ و قلبيّ،و أنّه متعمّق-حين يقع-في أعماق وجدان الإنسان،و لذا تبلغ دلالته درجة من القوّة أنّها تستطيع أن تقف في مواجهة دلالات ألفاظ كثيرة؛ بحيث إنّ لفظة«الأمن»تسدّ الحالة النّقيضة للخوف بشتّى صوره،و للغمّ و للهمّ و للفزع،ثمّ تزيد على كلّ تلك الدّلالات،فتمتدّ لتشمل التّواجد المطلق غير المقتصر على المشاعر الإنسانيّة المضادّة للأمن؛بحيث يطلق لفظ «الأمن»في: مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً البقرة:125،و رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً البقرة:126،إطلاقا عامّا، بلا تحديد الوجه النّقيض له،كما يطلق على صورة من صور النّعيم الأخرويّ،منّة من اللّه سبحانه و فضلا.

ب-المحور الثّاني«الوثوق»،و منه الأمانة:

أمن يأمن:

1- قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يوسف:64

2- قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ

يوسف:11

3- وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ آل عمران:75

4- وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ

آل عمران:75

الأمانة و الأمانات:

5- فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ البقرة:283

6- إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ الأحزاب:72

7- إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها

النّساء:58

8- لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ

الأنفال:27

9- وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ

المؤمنون:8،و المعارج:32

أمين:

10- أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ الأعراف:68

11- فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ يوسف:54

ص: 684

12- إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ الشّعراء:107، 125،143،162،178،و الدّخان:18

13- نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الشّعراء:193

14- وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ النّمل:39

15- إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ القصص:26

16- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ الدّخان:51

17- مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ التّكوير:21

18- وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ التّين:3

19- وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ يوسف:17

يلاحظ أوّلا:أنّ(الأمين)جاء في الآيتين(16 و 18) وصفا للمكان،أي المكان المطمئنّ،المؤمّن صاحبه،فهو من المعنى الأوّل.أو المكان الموثوق به،يحفظ من دخله، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه،فيرجع إلى المعنى الثّاني.

و جاء وصفا أيضا للرّسل في الآيتين(10)و(12)، و لجبرئيل في الآية(13)و(17)على أصحّ القولين، و القول الآخر أنّه وصف للنّبيّ عليه السّلام،و لعفريت من الجنّ في(14)،و لموسى حين استأجره شعيب في(15)، و ليوسف حين مكّنه فرعون في(11)،و هما من الرّسل.

و المناسبة في الكلّ ظاهرة،و الرّسول أمين،باعتبار أنّه حمل الأمانة العامّة الّتي يحملها كلّ إنسان،و باعتبار أنّه المؤدّي للرّسالة الّتي ائتمنه اللّه عليها،فالأمين في عرف القرآن-سواء كان إنسانا أم ملكا أم مكانا-يرتبط باللّه تعالى نوع ارتباط،فهو مصدر الأمن و السّلام،و محور الوثوق و الاطمئنان.

ثانيا:أنّ الأمانات و العهد متقارنان في الرّعاية،فإنّ العهد من جملة الأمانات،كما في الآيتين المكّيّتين رقم (9)،دعما لأسس العقيدة و الأخلاق الّتي تصدّرت السّور المكّيّة لإثباتها،و أمّا في الآيات المدنيّة،فجاءت الأمانة في التّكاليف المناسبة لما بعد الهجرة.

ثالثا:جاءت«الأمانات»في الآية الأولى من رقم (9)وصفا للمؤمنين،و في الآية الثّانية منه وصفا للمصلّين.و قد اقترنت فيهما بالخشوع في الصّلاة، و الإعراض عن اللّغو،و أداء الزّكاة،و حفظ الفروج، و المحافظة على الصّلوات.و زاد في الثّانية الشّهادة العادلة، و الخوف من عذاب اللّه،و التّصديق بيوم الدّين.و هذا يشعر بأنّ الأمانة لا تتحقّق إلاّ في جوّ هذه الخصال، فلا ترغّب في من لا يتّصف بها،بل هذه الخصال نفسها من أكبر الأمانات الإلهيّة.

رابعا:أنّ الأمانة تعمّ حقّ اللّه و حقّ النّاس،كما تعمّ المال و غيره،و عليه يحمل ما جاء في الرّوايات من تفسير الأمانة بالإيمان و الصّلاة و الولاية لآل البيت عليهم السّلام.

خامسا:أنّ معركة الآراء في آية الأمانة-حسب ما تقدّم في النّصوص-قابلة للحلّ،فإنّ سياقها التّكليف، و أنّ الإنسان-بما أوتي و وهب من بين الخلائق-يليق بالتّكليف،لماله من الشّعور و الأعضاء،لكنّه لم يتحمّله لسوء اختياره،فصار ظلوما جهولا.و أمّا غيره من المخلوقات،فهي تأباه تكوينا،فظلّت لا تكاد تحمل عليها التّكاليف،فلا تلام على ذلك إذا.

سادسا:و يتلاصق لفظ الأمن و الأمانة،فيؤدّيان أحيانا بفعل واحد،و ذلك هو أمن.فكما تقول:أمن فلان،

ص: 685

أي وجد الأمن و استشعره،و اطمأنّ به،و استكان إليه، و تقول:أمن فلان فلانا،أي ائتمنه؛و من ذلك قول يعقوب عليه السّلام لأبنائه: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يوسف:64،أي جعلت يوسف في أمن،فائتمنتكم عليه.و كلّ الفرق الوارد بين الموضعين أنّ«أمن»من الأمان بمعنى الاطمئنان،فعل لازم،لا يحتاج إلى مفعول،إلاّ إذا كان بمعنى:جعل الأمن،كما مضى في آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ و أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، و أنّ الفعل الدّالّ على الائتمان قد احتاج مفعولا،فتعدّى إليه.

سابعا:أنّ الأمانة في القرآن تقارن دائما شيئا من الرّعاية و الخيانة و الأداء و الائتمان و الحمل و نحوها.

ثامنا:أنّ الأمانات لها أهلها و بحسبها.

تاسعا:أنّ خيانة أمانات النّاس تعدّ خيانة للّه و للرّسول أيضا،كما في الآية(8)،بل هي خيانة لهما أوّلا قبل أن تكون خيانة للنّاس.

عاشرا:موارد الأمانة في القرآن الكريم واحد،من هذه:

1-الشّخص:أي أن يؤتمن فرد أو جملة أفراد على شخص ما،و ذلك كما في قصّة يوسف عليه السّلام،حيث ورد فيها(امنتكم)،(آمنكم)،(تامنّا).

2-المال:كأن تأتمن إنسانا على مقدار من المال،قلّ أو كثر،سمّي أمانة،لأنّه أمنت عليه؛إذ أودعته عند مؤتمن و أمين و مأمون: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ آل عمران:75.

3-عموم الأشياء المودعة: أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ، لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ.

4-عموم الأشياء الّتي أودعها اللّه عند الإنسان و له، من المادّة و الرّوح و ما في إطارهما: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ... الأحزاب:72.و لا يصحّ أن تحصر الأمانة في هذه الآية الكريمة على شيء واحد محدّد،لعدم وجود قرينة دالّة على ذلك الشّيء الواحد، لذا نميل إلى اعتبارها عامّة،لتشمل كلّ ما أودعه اللّه في الخلق،من مادّة أو أفكار و مبادئ أو أرواح،و ما إلى ذلك ممّا يخصّ الإنسان،و إن كان المتعيّن منها هو الدّين و التّكليف.

5-وصفا للّه باعتباره موفيا حقوق عباده الّتي ائتمنوه عليها بحسن عملهم و تضحياتهم في سبيله،و كذا باعتباره قد ائتمن النّاس على أمانة قبلوها،و عليهم أن يؤدّوها إليه تعالى.هذا بناء على أنّ(المؤمن)في آية الحشر يكون من الائتمان،دون الأمن أو الإيمان،كما سبق.

6-قد يخون المرء الأمانة،فيفقد صفة الأمين و المؤتمن،و لكن توصيفها بالأمانة مستمرّ،و كذا توصيف صاحبها بالمؤتمن مستمرّ أيضا.و الأمانة الّتي عرضها سبحانه و تعالى على السّماوات و الأرض و الجبال،فأبين حملها،تظلّ أمانة،سواء أدّى الإنسان حقوقها،أم لا، و يظلّ وصفه تعالى بمؤتمن الإنسان عليها،لكنّ الإنسان الّذي يعقّها،و لا يؤدّي حقّها،يفقد صفة الأمين عليها.

ص: 686

ج-المحور الثّالث:«الإيمان»:

اشارة

1-و هو أوسع المحاور في مادّة«أ م ن»،فقد ورد في القرآن الكريم دالاّ على تعمّق الاطمئنان في نفس الإنسان نتيجة تعلّقه باللّه سبحانه و تعالى.

و نتيجة هذا التّعمّق الاطمئنانيّ في النّفس اختلف معنى«الإيمان»عن معنى«الإسلام»لأنّ مجرّد نطق الشّهادتين كاف لاعتبار الإنسان مسلما،سواء حصل له الاطمئنان العميق الشّامل،أم لم يحصل،فإذا كان قد حصل له ذلك الاطمئنان،و تعمّق في أغوار شعوره، وصل إلى مرحلة الإيمان بفعل تلك الحالة و العمل على وفقها،أمّا إذا لم يتعمّق فيه ذلك الاطمئنان-و بغضّ النّظر عن الأسباب-سمّي ذلك الإنسان مسلما فحسب.

و بالطّبع فإنّ ناتج الإيمان سيختلف عن ناتج الإسلام المجرّد،فذلك الأوّل-و نتيجة لحالة الاطمئنان المسيطرة على الشّعور-سيظهر في أعمال«المؤمن»و سلوكه و تصرّفاته جميعا،من إقرار و عمل.فأمّا الثّاني،فله مصاديق معيّنة،لا تصل إلى دقّة مصاديق الإيمان.

على أنّ هذا لا يعني أن يكتفي المرء بنطق الشّهادتين، ثمّ يعدّ نفسه مسلما،ليرتكب من وراء ذلك ما يرتكب ممّا يؤاخذه عليه التّشريع،بل أنّ الشّهادتين يجب أن تكونا مرحلة من مراحل السّعي وراء التّكامل الإنسانيّ،حتّى الوصول إلى مرحلة الإيمان،و ما وراءها أيضا.

2-و بالنّظر لارتباط دلالة«الإيمان»بالخالق جلّ اسمه،كثر في اللفظ و مشتقّاته الاكتفاء بلفظ الفاعل، و الاستغناء عن لفظ يوضّح موضع الإيمان،فلقد حفل القرآن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا البقرة:104، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ البقرة:82، وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا النّمل:53،و أمثال ذلك ممّا لم يحدّد فيه جواب سؤال قد يطرأ على البال:بما ذا آمنوا؟ و بمن؟و بأيّ شيء؟لأنّ القصد واضح،فلا إيمان بغير اللّه سبحانه و تعالى و كتبه و رسله و اليوم الآخر.و ما الكتب و الرّسل و اليوم الآخر إلاّ قضايا تتعلّق بجوهر الإيمان، و هو الإيمان به سبحانه و تعالى.و هذا أسلوب دائم في القرآن مع لفظ الماضي(آمنوا)،فإذا استعمل المضارع، فطريق القرآن أن يحدّد موضع ذلك الإيمان غالبا،و هو واحد من:

أ-اللّه سبحانه و تعالى و رسوله: وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ الفتح:13

ب-الاطمئنان إلى ما يقوله الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام:

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ البقرة:55، أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ آل عمران:183، لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ التّوبة:94.

ج-الاطمئنان إلى معجزات الأنبياء عليهم السّلام: لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ الإسراء:93.

د-بكتب اللّه جلّ و عزّ: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ سبأ:31.

ه-الاطمئنان إلى شخصيّات المرسلين عليهم السّلام:

أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا المؤمنون:47.

و-اليوم الآخر و ما في دلالته: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الأنعام:92، إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ سبأ:21.

ز-آيات اللّه: وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ طه:127، إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا النّمل:81.

ص: 687

ح-لقاء ربّهم: لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ الأنعام:154.

و يأتي المضارع أيضا بلا تحديد لموضع الإيمان،بل يطلق اللّفظ إطلاقا يفيد حصره باللّه سبحانه و تعالى:

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يس:10، يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ الزّخرف:

88،و غيرها.

و مثل المضارع فعل الأمر،فقد يذكر معه موضع الإيمان-و هو الغالب-كقوله: أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ التّوبة:

86، فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ الأعراف:158.

و قد لا يذكر معه و هو: قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ النّساء:170.

كما قد يذكره معه تلميحا،و قد ورد ذلك في موضع واحد هو قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ البقرة:13،حيث كَما آمَنَ النّاسُ تلميح إلى موضع الإيمان و ماهيّته.و لك أن تجعل آية النّساء: قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ... من هذا القبيل بل هو أظهر.

فأمّا مع صيغة الاسم المجموع،فالأغلب عليه الإطلاق بلا تقييد،كقوله تعالى: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ المائدة:43، وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنعام:27، ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الإسراء:

82.

3-و يقرب من الإيمان:الأيمان،جمع يمين،و هو أيضا دالّ على الاطمئنان،فكأنّ المقسم و المقسم له يطمئنّان نفسيّا إلى ذلك القسم و يصدّقانه،فيؤمنان به.و سندرس ذلك في مادّة«ي م ن».

4-كما يقرب منه-أو يتفرّع على احتمال بعيد-لفظ «امين»بعد الدّعاء،فقيل:إنّ معناه استجب،و كأنّ القائلين به إنّما قالوه ليطمئنّوا إلى أنّ دعاءهم سوف يستجاب إن شاء اللّه.

5-و محور الإيمان-كما قلنا-أكثر ما جاء في القرآن من هذه المادّة،في صيغ كثيرة،و أساليب مختلفة،فمنه «الإيمان»،و قد تكرّر في القرآن منكّرا و معرّفا باللاّم، و مضافا إلى الضّمير(45)مرّة،و بكل مشتقّاته(811) مرّة،و بنفس هذا العدد جاءت المعرفة و العلم،و منه يعلم مدى العلاقة بين العلم و الإيمان.كما أنّ الإيمان له علاقة وثيقة في القرآن بكثير من المفاهيم الإنسانيّة العليا، و إليك البيان:

أ-الإيمان و القلب،و فيه(12)آية:

1- وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ البقرة:88

2- قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

البقرة:260

3- مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ المائدة:41

4- اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ

الرّعد:28

5- فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ النّحل:22

6- إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ

النّحل:106

7- فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ الحجّ:54

8- أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ الحديد:16

ص: 688

8- أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ الحديد:16

9- وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:7

10- وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ الحجرات:14

11- أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ

المجادلة:22

12- وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ التّغابن:11

و نظيرها ما ينبئ عن العلاقة بين الهداية و القلب،أو الكفر و القلب،مثل:

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا آل عمران:8

وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ

النّساء:155

فنعلم منها أنّ محلّ الإيمان و الاطمئنان و الخشوع و ذكر اللّه و الإخبات و كتابة الإيمان و الهداية و الزّيغ و الإكراه و الكفر و الطّبع هو القلب،كما يعلم منها مدى علاقة الإيمان بهذه الصّفات.

ب-الإيمان و العمل الصّالح:

جاء الإيمان مع«العمل الصّالح»في القرآن(66)مرّة بأساليب شتّى:

آمن(9)،آمنوا(48)،يؤمن(2)،تؤمن(6)، مؤمنين(1)،و إليك نموذج لكلّ واحد:

1- مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ البقرة:62

2- وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ البقرة:25

3- وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ التّغابن:9

4- وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ النّساء:124

5- وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ الكهف:2

يلاحظ أوّلا:أنّ«الإيمان»مطلق في الأكثر،غير متعلّق بشيء،و في بعضها متعلّق باللّه و اليوم الآخر،و هو كثير،أو باللّه فقط،كقوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ الطّلاق:11.و في آية واحدة ذكر معه الإيمان بما نزّل على محمّد: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ محمّد:2.

كما قيّد الإيمان في بعض الآيات بما نزّل عليه و على من كان قبله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ البقرة:4.

و هذا الأخير هو المبيّن للجميع،و أنّ الإيمان المقبول عند اللّه هو الإيمان باللّه و اليوم الآخر،و بما نزّل على محمّد و على من كان قبله من الأنبياء.كما جاء تفصيله في:

وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ... البقرة:177، وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ البقرة:285.

ثانيا:أنّ العمل الصّالح في أكثر الآيات جاء بصيغة الجمع(الصّالحات)،و في بعضها مفردا (وَ عَمِلَ صالِحاً)، و في بعضها بلفظ الفعل: فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الأنعام:48.

ص: 689

و المراد بالجميع كون المؤمن صالحا مفطورا على الصّلاح،بحيث صار ملكة له.و عليه فلا يحمل (وَ عَمِلَ صالِحاً) على مسمّى العمل الصّالح بإرادة القلّة من النّكرة المفرد،بل يحمل على الجنس،أي جنس عمله صالح.

ثالثا:أنّ الجزاء في أكثر الآيات على مجرّد الإيمان و العمل الصّالح،و قد يلحق بهما وصف آخر كالتّوبة و التّقوى و التّواصي بالصّبر و الحقّ و الهداية و الإحسان و الإخبات و نحوها:

1- إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مريم:60

2- إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ الفرقان:70

3- فَأَمّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ القصص:67

4- وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى طه:82

5- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المائدة:93

6- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ هود:23

7- إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ العصر:3

و فيها دلالة على أنّ هذه الأوصاف شرط في الجزاء على الإيمان و العمل الصّالح،أو أنّها ملازمة لهما،فلا تنفكّ عنهما خارجا.

رابعا:أنّ الإيمان و العمل الصّالح في الأكثر وصفان رديفان آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ و ربّما جاء أحدهما قيدا للآخر:

1- وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ النّساء:124

2- وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ المؤمن:40

3- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً النّحل:97

4- وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ طه:75

خامسا:أنّ من اتّصف بالإيمان و العمل الصّالح مطلق في الأكثر،و في بعضها-و هي الثّلاث الأخيرة-مفسّر ب (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ،و هي المفسّرة لغيرها،فالجميع تشمل الجنسين،و لا تخصّ الرّجال.و هذا ما صرّح به في قوله: وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ الأحزاب:35،

مترادفا لسائر الصّفات المشتركة بين المؤمنين و المؤمنات.

سادسا:جزاء الإيمان و العمل الصّالح في القرآن ألوان من النّعم الدّنيويّة و الأخرويّة،و هي الأكثر،أمّا الدّنيويّة فهي:

1- أَصْلَحَ بالَهُمْ محمّد:2

2- يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ

البقرة:257

3- لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصّالِحِينَ العنكبوت:9

ص: 690

4- سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا مريم:96

5- هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة:7

6- فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً النّحل:97

7- لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ النّور:55

8- وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا الشّورى:26

9- وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا المائدة:9

10- وَ قَلِيلٌ ما هُمْ ص:24

و أمّا الاخرويّة فهي:

1- وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الفتح:5

2- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ المائدة:9

3- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ فاطر:7

4- أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً الكهف:2

5- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ الحجّ:50

6- سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ النّساء:57

7- فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى السّجدة:19

8- سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً النّساء:57

9- فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ الرّوم:15

10- فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ الشّورى:22

11- فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ يونس:9

12- لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً العنكبوت:58

13- طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ الرّعد:29

14- لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ سبأ:37

15- ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ القصص:80

16- فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ الجاثية:30

17- لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ الرّوم:45

18- فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ الأنبياء:94

19- إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً

الكهف:30

20- فَلا يَخافُ ظُلْماً طه:112

21- وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ

البقرة:62

22- لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فصّلت:8

23- لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى طه:75

و بذلك جمع اللّه لهم خير الدّنيا و الآخرة،فالإيمان و العمل الصّالح هما محور السّعادة و ملاك الصّلاح في الدّارين.

ج-الإيمان و التّقوى:
اشارة

العلاقة الواضحة و الاتّصال الوثيق بين الإيمان و التّقوى لا يكاد يخفى على من يتلو القرآن الكريم، و الآيات في ذلك لها أساليب شتّى،أهمّها ثلاثة:

1-آيات تأمر المؤمنين بالتّقوى،مثل:

1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ

آل عمران:102

2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا البقرة:278

3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ المائدة:35

4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ التّوبة:119

5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً الأنفال:29

ص: 691

5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً الأنفال:29

6- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً الأحزاب:70

7- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ الحجرات:1

8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ الحشر:18

9- قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ

الزّمر:10

10- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ الحديد:28

2-آيات تردف الإيمان بالتّقوى،مثل:

1- وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ البقرة:103

2- وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ الأعراف:96

3- وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ المائدة:65

4- وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ

آل عمران:179

5- وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ محمّد:36

6- اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ يونس:63

7- وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ يوسف:57

8- وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ

فصّلت:18

3-آيات تجعل التّقوى شرط الإيمان،مثل:

1- وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ المائدة:57

2- وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ

المائدة:88

3- قالَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ المائدة:112

و يفهم جليّا من جميع الأصناف الثّلاثة أنّ التّقوى شيء غير الإيمان،و من الصّنف الأخير أنّها من كمال الإيمان،و أنّ الإيمان الصّادق لا ينفكّ عن التّقوى، و لا ريب أنّ التّقوى كالإيمان أمر قلبيّ،إلاّ أنّها تفارقه في أنّها الحالة النّفسيّة الّتي تبعث على العمل و الطّاعة و الاجتناب عن المعصية،و هي كالمقدّمة للعمل،و إن شئت فقل:إنّ التّقوى هي البعد العمليّ للإيمان،قال تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ الحشر:

18،و تمام الكلام في«و ق ي».

د-الإيمان و السّكينة:

1- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الفتح:4

2- فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ الفتح:18

3- فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الفتح:26

4- ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ التّوبة:26

و السّكينة:من السّكون،و هي الطّمأنينة،و الإيمان يورث الأمن و الاطمئنان،بل هو نفس الأمن القلبيّ.

ص: 692

ه-الإيمان و الهداية:

يفصح القرآن صراحة بالعلاقة بين الإيمان و الهداية أيضا،و ليس هناك شكّ في أنّ المراد بالهداية هي الهداية القلبيّة الّتي هي نور ساطع على القلب.فهي أيضا من كمال الإيمان و البعد النّفسيّ له،كما كانت التّقوى هي البعد العمليّ للإيمان،و لهذا القسم من الآيات أساليب مختلفة أيضا:

1-ما يدلّ على أنّ اللّه يهدي المؤمن أو لا يهدي المؤمن:

1- وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ التّغابن:11

2- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يونس:9

3- إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللّهُ

النّحل:104

4- وَ إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

الحجّ:54

5- إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً

الكهف:13

2-ما يدلّ على أنّ الإيمان هو الهداية أو مستلزم لها:

1- وَ ما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى

الإسراء:94

2- أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ الأنعام:82

3- بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ

الحجرات:17

4- وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى طه:82

5- فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا البقرة:137

6- فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا آل عمران:20

3-ما يدلّ على أنّ القرآن هدى للمؤمنين:

1- هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ البقرة:97، و النّمل:2.

2- هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يونس:57

3- هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يوسف:111، و النّحل:64،و الأعراف:52،203

4- هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ بدل (المؤمنين)النّحل:89

5- لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ النّحل:102

6- وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ النّمل:77

7- قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ

فصّلت:44

و هذا نظير ما جاء مخبرا بأنّ القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، و هو كثير.

و-الإيمان و العلم:

العلم و الإيمان في كتاب اللّه توأمان،و وليدان متعانقان،و حليفان لا يختلفان،بل رضيعان من ثدي واحد،فحيث كان العلم،فهناك يوجد الإيمان.

و التّأمّل في آيات العلم يظهر أنّ العلم كالدّليل على الإيمان أو كالثّمرة له،و أنّ الّذين لا يؤمنون أكثرهم لا يعلمون،أو لا يعقلون،و إليك طائفة من الآيات:

1- وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا آل عمران:7

ص: 693

1- وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا آل عمران:7

2- لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ النّساء:162

3- وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللّهِ الرّوم:56

4- يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ المجادلة:11

5- وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ سبأ:6

6- شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ آل عمران:18

7- إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فاطر:28

8- وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ البقرة:282

ز-الإيمان و خوف اللّه و التّوكّل عليه:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الأنفال:2

ح-الإيمان و التّسليم:

وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً الأحزاب:22

ط-الإيمان و الأمن و الاطمئنان:

1- اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ الأنعام:82

2- إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ

النّحل:106

ي-الإيمان و الصّبر:

1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ البقرة:153

2- إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ العصر:3

ك-الإيمان و الخير:
اشارة

لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً

الأنعام:158

تلك هي آيات شتّى تدعم الإيمان بخصال الخير، و تدلّ على أنّ«الإيمان»هو منبع الفضيلة و الخير و الكرم.

كما أنّ«الإيمان»في كتاب اللّه يضادّ الكفر و الفسق و الظّلم و الطّغيان و سائر خصال الشّرّ،و إليك التّفصيل:

1-الإيمان و الكفر:

جاء ذكر الإيمان مع الكفر في آيات كثيرة،لها أساليب مختلفة،نكتفي بذكر نموذج من كلّ واحد من تلك الأساليب.

منها التّقابل بين الكفر و الإيمان في أمور شتّى و هي الأكثر:

1- وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ

البقرة:253

2- فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ الصّفّ:14

3- زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا البقرة:212

4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا آل عمران:156

5- وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً النّساء:51

ص: 694

6- اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ النّساء:76

7- فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً البقرة:26

8- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ التّغابن:2

9- لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً النّساء:141

10- لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ النّساء:144

11- اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ النّساء:139

12- وَ لِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ آل عمران:141

13- لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ آل عمران:28

14- قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً مريم:73

15- وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا العنكبوت:12

16- قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ يس:47

17- وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ الأحقاف:11

18- اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ محمّد:1،2

19- ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ محمّد:11

20- ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ محمّد:3

21- فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ الكهف:29

22- أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ المائدة:54

و يلاحظ أوّلا:أنّ الإيمان و الكفر مفهومان شرعيّان، وقع التّقابل بينهما في الشّريعة،و في عرف الفقهاء و المتكلّمين تبعا للقرآن.فالإيمان هو التّصديق بالدّين، و الكفر إنكاره.و إذا اصطلحنا في الإيمان على معان أو على أقسام له،فيقابله الكفر بتلك المعاني و الأقسام.

هذا ممّا لا يتداعى إليه شكّ،أو يثار حوله سؤال.

إنّما السّؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو:ما وجه التّقابل بالمعنى اللّغويّ بينهما،حتّى قابل بينهما القرآن في ما اصطلح عليه؟إنّ الإيمان-كما قلنا-من الأمن،و الكفر في اللّغة:الرّدّ و التّغطية،و لهذا يوصف به اللّيل،لستره الأشياء بظلامه.و وصف به الزّارع؛لستره البذور في الأرض.و كفر النّعمة،و كفرانها عبارة عن سترها بترك الشّكر،فليس هناك تقابل بينهما في صميم معناهما اللّغويّ،إلاّ أن نقنع أنفسنا بأن نقول:الإيمان في اللّغة:

التّصديق،و الكفر:الإنكار،ثمّ انتقل هذا التّقابل اللّغويّ

ص: 695

إلى المعنى الشّرعيّ،و هو التّصديق بالدّين أو إنكاره.

أو يقال:التّصديق باللّه يحمل في ذاته أمنا و اطمئنانا و رضى نفسيّا،و إنكاره يحمل اضطرابا نفسيّا و جهدا و عناء.فالمؤمن مطمئنّ نفسا،راض،و آمن روحا، و الكافر يبطن في نفسه قلقا و عنادا و خوفا.

أو يقال:الكفر:ستر الحقّ،و يلازمه الجحود و الإنكار،و الإيمان:هو الأمن و الاطمئنان بالحقّ، و يلازمه التّسليم له و التّصديق به و إظهاره،فالإيمان و الكفر متقابلان بما يعتورهما من المعاني النّفسيّة.

ثانيا:أنّ الآيات-سواء ما أتينا بها و ما لم نأت بها- كما قابلت بين الإيمان و الكفر،كذلك قابلت بين المؤمن و الكافر و بين المؤمنين و الكافرين و بين أولياء اللّه و أولياء الشّيطان.كما قابلت إضلال الأعمال بإصلاح البال،و اتّباع الباطل و اتّباع الحقّ،و القتال في سبيل اللّه بالقتال في سبيل الطّاغوت،و الذّلّة على المؤمنين بالعزّة على الكافرين،و إخراج المؤمنين من الظّلمات بإخراج الكافرين من النّور،و إدخال الجنّة بإدخال النّار،و غفران الذّنوب بالعذاب الأليم،إلى غير ذلك من آثار الكفر و الإيمان،فلكلّ من«الإيمان»و«الكفر»في القرآن أهل و أولياء و أئمّة و أتباع،و الفريقان متقابلان في كلّ الأعمال و الخصال،و في المسيرة و المآل.حتّى إنّ الموازنة بين أنواع العقوبة و المثوبة،و ما آتى اللّه المؤمنين من النّعم،و ما ينكل بالكافرين من النّقم،قد أخذت بعين الاعتبار بالضّبط في آيات الإنذار و التّبشير،لاحظ«ن ذ ر»و«ب ش ر» فسنوفّيك البحث فيهما إن شاء اللّه تعالى.

ثالثا:و العجب العجاب من المناسبة الصّريحة بين هذا التّقابل الشّامل و بين التّناسق العدديّ بينهما،فيما يلي:

الكفر:17 مرّة الإيمان:17 مرّة

كفرا:8 مرّات إيمانا:7 مرّات

المجموع:25 مرّة إيمان:1 مرّة

المجموع:25 مرّة

مشتقّات الإيمان:811 مرّة

مشتقّات الكفر:506 مرّات

مشتقّات مترادفات الكفر:191 مرّة

مشتقّات الكفر و مترادفاته:697 مرّة.

فارق الكفر عن الإيمان:114 مرّة و هو عدد سور القرآن الكريم.

2-الكفر بعد الإيمان:

1- مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ النّحل:106

2- وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ النّور:55

3- لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ

التّوبة:66

4- كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ

آل عمران:86

5- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ النّساء:137

6- وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ بدل«إيمانهم» ...يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ

ص: 696

6- وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ بدل«إيمانهم» ...يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ

التّوبة:74

7- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ المنافقون:3

8- وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ البقرة:108

9- إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً آل عمران:177

10- يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ

آل عمران:100

11- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً البقرة:109

يلاحظ أوّلا:أنّ من كفر بعد الإيمان فسيقتصّ اللّه منه بأنواع العقوبة:عليهم غضب،و لهم عذاب عظيم، لا يقبل اعتذارهم و لا توبتهم،و لن يغفر لهم،و طبع على قلوبهم،فلا يهديهم اللّه،و لا يفقهون،و قد ضلّوا السّبيل، و لن يضرّوا اللّه،و أنّهم فاسقون،يعذّبهم في الدّنيا و الآخرة،ليس لهم وليّ و لا نصير.

ثانيا:مع وحدة مغزى هذه الآيات،فإنّ أساليبها تختلف لفظا و معنى:

الكفر بعد الإيمان،كلمة الكفر بعد الإسلام،تبدّل الكفر بالإيمان،اشتراء الكفر بالإيمان،فينبغي وضعها في الميزان و بيان أسرارها.

ثالثا:تكرّر الكفر بعد الإيمان مرّتين في آية النّساء، و هما أشدّ لهجة في هذا الموضوع،و لا سيّما أنّها قد جاء في آخرها: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ

رابعا:في الآيتين الأخيرتين إعلام للمؤمنين بأنّ الكفّار يتمنّون لو يردّونهم كفّارا،فليأخذوا حذرهم.

و هذا السّياق جاء في قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً النّساء:89

3-استحباب الكفر على الإيمان:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ التّوبة:23

إنّ استحباب الكفر على الإيمان غير الكفر بعد الإيمان،و إنّما هو ترجيح الكفر عليه قلبا،مع إظهاره لفظا، فهو نوع من النّفاق.و قد جاء القرآن بهذه الصّيغة في تفضيل الدّنيا على الآخرة،و العمى على الهدى،و هذا ما يوضّح السّبب في استحباب الكفر على الإيمان:

1- ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ النّحل:107

2- اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ إبراهيم:3

3- وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فصّلت:17

4-الكفر بالإيمان:

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ المائدة:5

و هذا السّياق الوحيد في القرآن ربّما يعدّ أبلغ بيان للإباء،و عدم الإقبال على الإيمان،و يقرب منه قوله: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ المؤمن:10

5-التّردّد بين الإيمان و الكفر:

هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ

ص: 697

بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ آل عمران:167

و هذا السّياق الوحيد في القرآن أيضا ورد في شأن قوم من المنافقين الّذين قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ

آل عمران:167

و هو يصدق على كثير من المؤمنين الّذين يتفوّهون بقول الكافرين،أو يعملون بعملهم،فيكفرون من حيث لا يعلمون.

6-تحبيب الإيمان و تكريه الكفر:

وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ الحجرات:7

و هذا نوع آخر من التّقابل بين الإيمان و الكفر،بأنّ اللّه حبّب الإيمان و زيّنه في قلوب المؤمنين،و كرّه الكفر في قلوب الكافرين.و التّعبير ب(اليكم)في الموردين يفصح عن اقتراب الإيمان و الكفر تدريجا إلى هؤلاء و أولئك، حتّى يرسخ الإيمان و الكفر في قلوب كلّ من الفريقين، و يشعر بأنّ حبّ الإيمان آية صدقه و رسوخه عند المؤمنين،كما أنّ كراهة الإيمان و حبّ الكفر آية رسوخه عند الكافرين.

7-زيادة الإيمان و الكفر:
اشارة

و هذا نوع آخر من تقابل الإيمان و الكفر في القرآن، و هو ما دلّ على أنّهما يقبلان الزّيادة و النّقص،و القبض و البسط،فلهما مراتب و درجات،و النّاس موزّعون بينهما،كما أنّهم موزّعون بين أصل الكفر و الإيمان،و الأمر كلّه بيد اللّه،و للعبد السّعي و الطّلب فحسب.

أ-زيادة الإيمان:

1- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الفتح:4

2- وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الأنفال:2

3- فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ التّوبة:124،125

4- إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً آل عمران:173

5- وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً الأحزاب:22

6- وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً... وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً المدّثّر:31

ب-زيادة الكفر:

1- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ آل عمران:90

2- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً النّساء:137

3- إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ التّوبة:37

يلاحظ أوّلا:أنّ زيادة الإيمان تزيد على زيادة الكفر بنسبة 4-6.

ثانيا:أنّ زيادة الكفر في الآيات الثّلاث الأولى جاءت فيمن آمنوا ثمّ كفروا.

ثالثا:زيادة الإيمان في آيتي الفتح و التّوبة جاءت مع إيمانهم،و هذا صريح في أنّهم كانوا مؤمنين،و في غيرهما

ص: 698

إيماء إلى ذلك.

رابعا:في آيتي التّوبة و المدّثّر تقابل في نفس الآية بين زيادة الإيمان و الكفر وجها لوجه.

خامسا:كما جاءت زيادة الإيمان و الكفر في القرآن، جاءت زيادة ما يلازمهما.

فمن ملازمات الإيمان:

التّسليم: وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً الأحزاب:22

الهداية: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً الكهف:13

و من ملازمات الكفر:

الرّجس: وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ التّوبة:125

المرض: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ البقرة:10

سادسا:جاءت زيادة الإيمان و الكفر في الفريقين مترتّبة على نزول القرآن في(2)و(3)و(6).

8-الإيمان و الفسق:

كما قابل القرآن بين الإيمان و الكفر،قابل بين الإيمان و الفسق:

1- أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ

السّجدة:18

2- مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ

آل عمران:110

3- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ المائدة:59

4- فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الحديد:27

5- بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ

الحجرات:11

و كذلك قابل بين الهداية و الفسق،و لازم بين الكفر و الفسق:

6- فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ

الحديد:26

7- وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ البقرة:99

8- إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ التّوبة:84

9- وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ

النّور:55

10- فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ النّمل:12

و يلاحظ:أنّ الفسق هو الخروج عن الطّريق، و الكفر كذلك.و الفرق بينهما أنّ الكفر ينصرف في الأكثر إلى الانحراف في العقيدة،و الفسق إلى الانحراف في العمل.

و بتعبير آخر،الكفر هو الجانب العقائديّ،و الفسق هو الجانب العمليّ لما هو ضدّ الإيمان،و أنّ الملازمة بينهما، و كذلك المقابلة بينهما من جهة،و بين الإيمان و الهداية من جهة أخرى،يبدو أمرا ضروريّا في منطق القرآن، و التّفصيل في«ف س ق».

ص: 699

ل-عدم الإيمان و الفساد:

و قد لازم القرآن بين الفساد و عدم الإيمان و الكفر و ما بمعناهما،و معلوم أنّ الفساد و الإفساد يضادّان الإيمان باللّه،و الإصلاح هو مقتضى الإيمان:

وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ يونس:40

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ص:28

م-الإيمان متعدّيا باللاّم:

جاء الإيمان و مشتقّاته متعدّيا بالباء في أكثر الآيات، و معناه التّصديق و الإذعان و الاعتراف،و جاء متعدّيا باللاّم في آيات،فاختلفت الآراء في معناها،و هي:

1- فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ العنكبوت:26

2- وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ

التّوبة:61

3- قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ التّوبة:94

4- فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ يونس:83

5- أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ البقرة:75

6- وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ الدّخان:21

7- وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ الإسراء:93

8- وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الإسراء:90

9- اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ آل عمران:183

10- وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ الأعراف:132

11- فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ المؤمنون:47

12- وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ يونس:78

13- يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً

البقرة:55

14- وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ

آل عمران:73

15- لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ

الأعراف:134

16- قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

طه:71،و الشّعراء:49

17- قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ

الشّعراء:111

18- قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ هود:53

يلاحظ أوّلا:أنّ الخمس الأولى خطاب من اللّه، و السّادسة خطاب من موسى،و السّابعة و الثّامنة،قول المشركين للنّبيّ عليه السّلام،و التّاسعة و ما يليها قول اليهود أو أهل الكتاب أو فرعون و قومه لموسى و هارون، و السّادسة عشرة قول فرعون للسّحرة،و السّابعة عشرة قول قوم نوح له،و الثّامنة عشرة قول قوم لوط.

ص: 700

و من ذلك يعلم أنّ استعمال«اللاّم»لا يختصّ بالكفّار،حتّى يدلّ على شيء فارق بينهم و بين اللّه و الرّسول.

و ثانيا:أنّ الأوليين فقط جاءت في الإثبات مدحا، و الباقية جاء أكثرها ذمّا في سياق النّفي،أو الاستفهام و الشّرط الرّاجعين إلى النّفي،فالغالب على التّعدية بلام النّفي الذّمّ و التّوبيخ.

و ثالثا:لم يجتمع الباء و اللاّم بعد«الإيمان»في آية سوى الثّانية،فهي تعدّ مفتاح البحث،و الفارق بين الباء و اللاّم؛و ذلك أنّ النّبيّ كان يداري النّاس،فلم ينكر قولهم و خبرهم،و يصدّقهم جميعا في الظّاهر،فقال المنافقون: (هُوَ أُذُنٌ) ،أي يسمع و يصدّق و يقبل قول كلّ أحد،و لا يتبيّن منه أنّه صدق أو كذب،فقال اللّه له: هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ التّوبة:61.أي أنّ سماعه هذا من دون تبيّن خير و رحمة للمؤمنين،فإنّه يؤمن باللّه، و لا يحيد عن سبيله،فلا يقبل و لا يرضى عن تلك الأقوال إلاّ ما يوافق مرضاة اللّه،أو أنّه يثق و يطمئنّ باللّه أنّه يؤمنه و يعصمه من خطر تلك الأقوال.هذا من جهة، و من جهة أخرى يؤمن للمؤمنين،أي يظهر الوثوق بهم، و لا ينظر إليهم نظر من يشكّ في إيمانهم،فهذا مصلحة لهم و رحمة و ليس معناه التّسليم و الاتّباع لهم؛إذ ليس فيهما خير دائما.فالإيمان باللّه إمّا بمعناه المعروف،أو بمعنى الوثوق به.أمّا الإيمان للمؤمنين،فمعناه إظهار ما هو في صالحهم و قبول قولهم ظاهرا،فاللاّم للنّفع،هذا ما يخطر بالبال.

رابعا:أمّا المفسّرون،فقد مرّت آراؤهم بهذه الآية و غيرها من الآيات في النّصوص،و جملتها ترجع إلى وجوه:

الأوّل:أنّ الإيمان يتعدّى بنفسه،و أنّ الباء و اللاّم زائدتان.

الثّاني:أنّ الباء و اللاّم متقاربتان،و الإيمان يتعدّى بهما معا،بلا فارق بينهما.

الثّالث:أنّ الإيمان له بمعنى من أجله،فاللاّم للتّعليل دون التّعدية،بخلاف الباء،فإنّه للتّعدية.

الرّابع:أنّ اللاّم للاتّباع و التّسليم أو يتضمّنهما،أي فيه معنى التّصديق و الاتّباع معا،و لا سيّما في مثل قول:

آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، و الباء للتّصديق فقط.

الخامس:الباء للإيمان ضدّ الكفر،و اللاّم للتّصديق و الاعتراف،و هو قول الطّبرسيّ و أبي حيّان.

السّادس:الباء للإيمان ضدّ الكفر،و اللاّم يتضمّن الميل و الائتمان و الجنوح.

السّابع-و هو قول الزّمخشريّ-:أنّ اللاّم في كتاب اللّه لغير اللّه.و قال أبو حيّان:إنّه كذلك في الأكثر.و لكنّهما لم يبيّنا وجه مجيء اللاّم لغير اللّه،سوى أنّ الزّمخشريّ حمله في آية«الأذن»على التّسليم و الاتّباع للمؤمنين.

و الحقّ أنّ متعلّق اللاّم في جميع الآيات غير اللّه-كما قاله الزّمخشريّ-و ليس اللّه في واحدة منها.و مثله ينبغي أن يكون فيه سرّ،و لا يخطر بالبال سوى أنّه بمعنى الاتّباع و التّسليم،أو الميل و الجنوح،أو الوثوق و الاطمئنان،و هو متعيّن في آية«الأذن»؛إذ لا معنى لاتّباع النّبيّ و تسليمه و جنوحه للمؤمنين،بل و لا وثوقه بكلامهم،سوى إظهار

ص: 701

الثّقة بهم،مداراة لهم،و تأليفا لقلوبهم،و بهذا فسّرنا الآية.كما لا معنى للإيمان باللّه سوى الإذعان له و لصفاته.

و شاركه في هذا الأنبياء و الرّسل و الملائكة و نحوهم، و لكنّ مجرّد ذلك لا يكون وجها فارقا مقنعا لنا،فينبغي الفحص عن وجه آخر.

خامسا:بحثوا في وجه الفرق بين آيتين تحملان قول فرعون توبيخا و تهديدا لقومه،حيث جاء في إحداهما آمَنْتُمْ لَهُ، و في الأخرى آمَنْتُمْ بِهِ، ثمّ إظهار اسم فرعون في إحداهما،و إضماره في الأخرى،و القصّة واحدة،و السّياق واحد:

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

طه:71،و الشّعراء:49

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

الأعراف:123

فأجيب عن وجه الإظهار بأنّ لفظ(فرعون) لا تفصل بينه و بين ضميره فاصلة طويلة في طه، و الشّعراء،بخلاف الأعراف،فقد فصلت بينهما عشر آيات،فكرّر الاسم لرفع الإبهام.

و عن وجه الفرق بالباء و اللاّم،أنّ الضّمير في(به) يرجع إلى«رب العالمين»و في(له)إلى(موسى)، فالآيتان جاريتان على عرف القرآن من الإيمان باللّه و الإيمان لغير اللّه،فالأوّل بمعنى الإيمان ضدّ الكفر،و الثّاني للاتّباع،أو بمعنى من أجل.و هذا الوجه لا ضير فيه،سوى التّفريق في معنى الآيات،و هذا لا يتناسب مع حوادث القصّة و وحدة السّياق.

و لو جعلنا هذه الآيات تأييدا لقول من قال بعدم الفرق بين الباء و اللاّم في الجميع،لما كان بعيدا عن الصّواب.

ن-آيات آمن معه:

جاء«الإيمان»في الآيات متلوّا بكلمة«مع» الظّرفيّة:

1- حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ البقرة:214

2- لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ التّوبة:88

3- يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ

التّحريم:8

4- فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا هود:66

5- لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا الأعراف:88

6- قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ

المؤمن:25

7- فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ البقرة:249

و يلاحظ أوّلا:أنّ كلّها في وصف الخلّص من أتباع الرّسل،فالأولى جاءت في وصف من كان مع الرّسل مطلقا،و الثّانية و الثّالثة في وصف من كان مع النّبيّ عليه السّلام، و الرّابعة من كان مع صالح،و الخامسة من كان مع شعيب، و السّادسة من كان مع موسى،و السّابعة من كان مع طالوت.

و ثانيا:أنّ السّياق في الجميع يشعر بوجود نحو من الاختصاص و الالتزام و الإخلاص و الصّحبة بين المؤمنين و الرّسل؛فالّذين آمنوا معهم أقرب إليهم ممّن

ص: 702

آمنوا بهم،فتدلّ(مع)على الاتّباع الدّائم،مهما كانت الظّروف و الضّغوط.فمثلا لاحظ قوله تعالى في وصف من كان مع النّبيّ: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، و هذا-أي الجهاد بالمال و النّفس-منتهى درجة وقوفهم إلى جانب النّبيّ عليه السّلام في البأساء و الضّرّاء.

و قد صرّح بما دلّ على ذلك بصورة عاطفيّة،؛فهم رحماء بينهم،أشدّاء على الكفّار،يتحلّون بسمات قدسيّة:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ...

الفتح:29.

س-جاء في الخطاب بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في القرآن«92»مرّة و بلفظ يا أَيُّهَا النّاسُ أو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ نحوه«58»مرّة و البحث فيه مستوفى موكول إلى كلمة«أيّ»إلاّ أنّه يجب التّنبيه هنا على نكات:

الأولى:أنّ الباحثين في علوم القرآن قالوا:إنّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاصّ بالسّور المدنيّة و لم يستثنوا شيئا منه،و يا أَيُّهَا النّاسُ خاصّ بالسّور المكّيّة و استثنوا منه سبع آيات جاءت في السّور المدنيّة و ذكروا لذلك كلّه أسبابا و مناسبات و التّحقيق في المدخل في البحث المكّيّ و المدنيّ.

الثّانية:يستظهر من سياق الخطابات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و نحوها ممّا أطلق فيها اَلَّذِينَ آمَنُوا على هذه الأمّة أنّ القرآن جعل اَلَّذِينَ آمَنُوا عنوانا للمسلمين عامّة أي كلّ من أعلن الإسلام و دخل في جماعة المسلمين و يقال له:مسلم،حتّى الجهّال و الفسّاق و المنافقين،فلا دلالة فيها على إيمان المخاطبين بها،و بهذا يندفع السّؤال في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النّساء:136،و نحوه ممّا أمر الّذين آمنوا،بالإيمان،بأنّه تحصيل حاصل حسب ما تقدّم في النّصوص.و به ينحلّ كثير من الشّبهات الّتي تكرّرت في مطاوي النّصوص.

و الّذي يكشف السّتار و يقطع الخلاف هو مجيء اَلَّذِينَ آمَنُوا في قبال سائر الأمم في آيات:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ المائدة:69

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ

البقرة:62

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ الحجّ:17

ففي الآيتين الأوليين جاء إلى جانب الخطاب ب«يا ايها الذين آمنوا»قيد مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ شرطا لنجاة هؤلاء الفرق كلّها في سياق واحد.

الثّالثة:بعكس ذلك فإنّ المؤمن و المؤمنة و المؤمنين و المؤمنات في عرف القرآن-تنصرف إلى من آمن حقّا من دون أن تجعل عنوانا للمسلمين،سوى آيات معدودة يستشفّ منها التّعميم حسب السّياق،فلاحظ الآيات و تأمّل.

ص: 703

ص: 704

أ م و

اشارة

لفظان مدنيّان،مرّتان في سورتين مدنيّتين

أمّة 1:-1\إمائكم 1:-1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الأمة:المرأة ذات العبوديّة،و قد أقرّت بالأموّة.[ثمّ استشهد بشعر]

و يجمع على إموان و أموات،و يقال:ثلاث آم،و هو على«أفعل».و تقول:تأمّيت أمة،أي اتّخذت أمة، و أمّيت أيضا.[ثمّ استشهد بشعر]

و لو قيل:تأمّت،أي صارت أمة،كان صوابا.

و يقال:في جمع أمة:إماء و آم أيضا.[ثمّ استشهد بشعر]

و أميّة:اسم رجل،و النّسبة إليه أمويّ.(8:431)

اللّحيانيّ: أمت المرأة و أموت.

(ابن منظور 14:46)

أبو عبيد: ما كنت أمة،و لقد أموت أموّة،و ما كنت أمة،و لقد تأمّيت و أميت أموّة.(الأزهريّ 15:644)

2Lابن الأعرابيّ: يقال:استأمت،إذا أشبهت الإماء، و ليست بمستأمية،إذا لم تشبههنّ،و كذلك عبد مستعبد.

(ابن فارس 1:136)

و تقول العرب في الدّعاء على الإنسان:رماه اللّه من كلّ أمة بحجر.(ابن منظور 14:44)

أبو الهيثم: «الأم»جمع الأمة كالنّخلة و النّخل و البقلة و البقل.

و أصل«الأمة»أموة،حذفوا لامها لمّا كانت من حروف اللّين،فلمّا جمعوها-على مثال نخلة و نخل- لزمهم أن يقولوا:أمة و آم،فكرهوا أن يجعلوها على حرفين،و كرهوا أن يردّوا الواو المحذوفة لمّا كانت في آخر الاسم،لاستثقالهم السّكوت على«الواو»فقدّموا «الواو»فجعلوها ألفا فيما بين الألف و الميم.

(الأزهريّ 15:643)

المبرّد: قوله:

*إذا ترامى بنو الإموان بالعار*

ص: 705

فالإموان جمع أمة و أصل أمة«فعلة»متحرّكة العين، و ليس شيء من الأسماء على حرفين إلاّ و قد سقط منه حرف يستدلّ عليه بجمعه أو بتثنيته أو بفعل،أو كان مشتقّا منه،لأنّ أقلّ الأصول ثلاثة أحرف و لا يلحق التّصغير ما كان أقلّ منها.فأمة قد علمنا أنّ الذّاهب منها «واو»بقولهم:إموان كما علمنا أنّ الذّاهب من«أب و أخ» الواو،بقولهم:أبوان و أخوان،و علمنا أنّ أمة«فعلة» متحرّكة،بقولهم في الجميع:آم،فوزن هذا«أفعل»كما قالوا:أكمة و آكم،و لا تكون«فعلة»على«أفعل».ثمّ قالوا:إموان،كما قالوا في المذكّر الّذي هو منقوص مثله:

إخوان.(1:34)

ابن كيسان :تقول:جاءتني أمة اللّه،و إذا تثنّيت قلت:جاءتني أمتا اللّه.و في الجمع على التّكسير:جاءتني إماء اللّه و إموان اللّه و أموات اللّه.و يجوز أمات اللّه،على النّقص.

و يقال:هنّ آم لزيد،و رأيت آما لزيد،و مررت بآم لزيد.فإذا كثرت فهي الإماء،و الإموان و الأموان.

(الأزهريّ 15:643)

ابن دريد :الأمة معروفة،تصغيرها:أميّة.و تجمع أمة:إماء و آم و إموانا.[ثمّ استشهد بشعر](1:189)

الأزهريّ: يقال لجمع«الأمة»:إماء و إموان و ثلاث آم.[إلى أن قال:]

و قال اللّيث:يقال:ثلاث آم،و هو على تقدير «أفعل».

قلت:لم يزد اللّيث على هذا،و أراه ذهب إلى أنّه كان في الأصل:ثلاث أموي.

و الّذي حكاه لي المنذريّ أصحّ و أقيس،أنّي لم أر في باب القلب حرفين حوّلا،و أراه جمع على«أفعل»على أنّ الألف الأولى من«آم»ألف«أفعل»و الألف الثّانية فاء«أفعل»،و حذف«الواو»من«آمو»فانكسرت «الميم»،كما يقال في جمع«جرو»ثلاثة أجر،و هو في الأصل:ثلاثة أجرو،فلمّا حذفت الواو جرّت الرّاء.

(15:642)

الصّاحب: الأمة:المرأة ذات عبوديّة و هي الأموّة، و تأمّيت أمة،و أمّيت فلانا:جعلتها له،و إماء و آم، و استأم أمة،و الإموان-أيضا-:جمع الأمة،و كذلك الأموان.و مثل:«لا تحمدنّ أمة عام اشترائها و لا حرّة عام بنائها».(10:462)

ابن جنّيّ: القول في«آم»عندي:أنّ حركة العين قد عاقبت في بعض المواضع تاء التّأنيث،و ذلك في الأدواء،نحو رمث رمثا و حبط حبطا.فإذا ألحقوا التّاء أسكنوا العين،فقالوا:حقل حقلة و مغل مغلة.فقد ترى إلى معاقبة حركة العين تاء التّأنيث،و من ثمّ قولهم:

جفنة و جفنات و قصعة و قصعات.لمّا حذفوا التّاء حرّكوا العين،فلمّا تعاقبت التّاء و حركة العين جرتا في ذلك مجرى الضّدّين المتعاقبين،فلمّا اجتمعا في«فعلة» ترافعا أحكامهما،فأسقطت التّاء حكم الحركة و أسقطت الحركة حكم التّاء،و آل الأمر بالمثال إلى أن صار كأنّه فعل و«فعل»باب تكسيره أفعل.(ابن منظور 14:45)

الجوهريّ: الأمة:خلاف الحرّة،و الجمع:إماء و آم.

[ثمّ استشهد بشعر]،و تجمع أيضا على«إموان»مثل إخوان.[ثمّ استشهد بشعر]

ص: 706

و أصل أمة«أموة»بالتّحريك،لأنّه يجمع على آم، و هو«أفعل»مثل أينق،و لا تجمع«فعلة»بالتّسكين على ذلك.

و تقول:ما كنت أمة و لقد أموت أموّة.و النّسبة إليه «أمويّ»بالفتح،و تصغيرها:أميّة.

و أميّة أيضا:قبيلة من قريش،و النّسبة إليها«أمويّ» بالضّمّ،و ربّما فتحوا.و منهم من يقول:«أميّيّ»فيجمع بين أربع ياءات،و هو في الأصل اسم رجل،و هما أميّتان الأكبر و الأصغر:ابنا عبد شمس بن عبد مناف أولاد علّة.

فمن أميّة الكبرى أبو سفيان بن حرب و العنابس و الأعياص.و أميّة الصّغرى هم ثلاثة إخوة لأمّ اسمها:

عبلة،يقال لهم:العبلات بالتّحريك.

و يقال:استأم أمة غير أمتك بتسكين الهمزة،أي اتّخذ.و تأمّيت أمة.

و أمت السّنّور تأمو أماء،أي صاحت،و كذلك ماءت تموء مواء.(6:2271)

ابن فارس: أمّا الهمزة و الميم و ما بعدهما من المعتلّ فأصل واحد،و هو عبوديّة المملوكة.(1:136)

أبو سهل الهرويّ: أمة بيّنة الأموّة،أي ظاهرة المملكة.(التّلويح في شرح الفصيح:32)

ابن سيدة :الأمة:المملوكة،الجمع:أموات و إماء و آم و أموان،مثلّثة الهمزة.و أصل الأمة:أموة و أموة.

و تأمّى أمة،و استأماها:اتّخذها،و أمّاها:جعلها أمة.

و آمت و أميت تأمى،و أموت تأمو أموّة:صارت أمة.

(الإفصاح 1:321)

الطّوسيّ: الأمة:المملوكة،يقال:أقرّت بالأموّة،أي بالعبوديّة.و أميت فلانة و تأمّيتها،إذا جعلتها أمة.[ثمّ استشهد بشعر]

و جمع أمة:إماء و آم،و أصل الباب العبوديّة.و أصل أمة«فعلة»بدلالة قولهم:إماء و آم في الجمع،نحو:أكمة و آكام و آكم.(2:218)

مثله الطّبرسيّ.(1:317)

الزّمخشريّ: يا أمة اللّه،كما تقول:يا عبد اللّه، و النّساء إماء اللّه.و تقول المرأة:أنا أميّة اللّه،و يا ربّ اغفر لأميّتك الضّعيفة و لأميّاتك الضّعاف،و كانت حرّة فتأمّت.(أساس البلاغة:10)

أبو حيّان: الأمة:المملوكة من النّساء،و هي ما حذف لامه و هو«واو»يدلّ على ذلك ظهورها في الجمع.[ثمّ استشهد بشعر]

و في المصدر يقال:أمة بيّنة الأموّة،و أقرّت بالأموّة، أي بالعبوديّة.و جمعت أيضا على إماء و آم،نحو:أكمة و آكام و أكم.و أصله«أأمو»و جرى فيه ما يقتضيه التّصريف.

و في الحديث:«لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه»،و وزنها «أموة» (1)فحذفت لامها على غير قياس؛إذ كان قياسها أن تنقلب ألفا،لتحرّكها و انفتاح ما قبلها كقناة.

(2:155)

الفيّوميّ: «الأمة»محذوفة اللاّم و هي«واو» و الأصل«أموة»،و لهذا تردّ في التّصغير فيقال:أميّة، و الأصل«أميوة»،و بالمصغّر سمّي الرّجل و التّثنية «أمتان»على لغة المفرد،و الجمع:«آم»وزان قاض،).

ص: 707


1- 1-الظّاهر(أفعل).

«إماء»وزان كتاب،و«إموان»وزان إسلام.و قد تجمع «أموات»مثال سنوات.و النّسبة إلى أميّة«أمويّ»بضمّ الهمزة على القياس و بفتحها على غير القياس،و هو الأشهر عندهم.و تأمّيت أمة اتّخذتها،و تأمّت هي.

(1:25)

الفيروزآباديّ: الأمة:المملوكة،جمعها:أموات و إماء و آم و أموان مثلّثة،و أصلها:أموة و أموة.

و تأمّى أمة:اتّخذها كاستأمى.و أمّاها تأمية:جعلها أمة،و آمت و أميت كسمعت،و أموت ككرمت أموّة:

صارت أمة.

و أمت السّنّور تأمو إماء:صاحت.

و بنو أميّة:قبيلة من قريش،و النّسبة:أمويّ و أمويّ و أميّيّ.(4:302)

أبو السّعود: أصل أمة«أمو»حذفت لامها على غير قياس و عوّض منه تاء التّأنيث،و دليل كون لامها واوا رجوعها في الجميع:[ثمّ استشهد بشعر]،و ظهورها في المصدر،يقال:هي أمة بيّنة الأموّة،و أقرّت له بالأموّة.

(1:169)

الآلوسيّ: [مثل أبو السّعود و أضاف:]و هل وزنها «فعلة»بسكون العين،أو«فعلة»بفتحها؟قولان:اختار الأكثرون ثانيهما.و تجمع على«آم»و هو في الاستعمال دون إماء،و أصله«أأمو»بهمزتين،الأولى مفتوحة زائدة.و الثّانية ساكنة هي فاء الكلمة،فوقعت«الواو» طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب،و لا نظير له فقلبت «ياء»و الضّمّة قبلها كسرة لتصحّ الياء،فصار الاسم من قبيل:غاز و قاض،ثمّ قلبت الهمزة الثّانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة،فصار«آم»و إعرابه كقاض.(2:119)

محمّد إسماعيل إبراهيم: أمت الجارية:صارت أمة،أي مملوكة غير حرّة،و جمع الأمة«إماء».(1:48)

مجمع اللّغة :الأمة:خلاف الحرّة،و هي المملوكة، و تجمع على:آم و إماء.(1:61)

العدنانيّ: الأموّة و الأمومة.

و يسمّون صيرورة المرأة أمة-مملوكة غير حرّة-:

أمومة.و الصّواب:أموّة،و فعلها:

أ-أمت المرأة تأمو أموّة.

ب-أميت المرأة تأمى أموّة.

ج-أموت المرأة تأمو أموّة.

أمّا الأمومة ففعلها:

أ-أمّت المرأة تؤمّ أمومة.

ب-أمّت المرأة تأمّ-من باب فرح-أمومة.

و ممّن ذكر أنّ الأموّة هي صيرورة المرأة أمة:

اللّحيانيّ،و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و المحكم، و المختار،و اللّسان،و القاموس و المزهر للسّيوطيّ، و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن، و تذكرة عليّ،و المعجم الكبير،و الوسيط.

أمويّ،أمويّ،أميّيّ.

و يخطّئون من يقول:العصر الأمويّ،و يقولون إنّ الصّواب هو:العصر الأمويّ،لأنّ الأمويّ هي النّسبة إلى أمة،و هي المرأة المملوكة خلاف الحرّة،و الحقيقة هي:

أ-الأمويّ،نسبة إلى«أميّة»:التّصحيف و التّحريف

ص: 708

للعسكريّ،و الصّحاح و تثقيف اللّسان لابن مكّيّ الصّقلّيّ،و اللّسان،و المصباح،و القاموس،و التّاج،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن،و المعجم الكبير، و الوسيط.

و ذكر اللّسان،و المصباح،و التّاج،و الوسيط:أنّ هذه النّسبة«أمويّ»هي على القياس.

ب-و الأمويّ،نسبة إلى«أميّة»:الصّحاح، و اللّسان،و المصباح،و القاموس،و التّاج،و محيط المحيط، و أقرب الموارد،و المتن،و المعجم الكبير.

و قال الصّحاح،و محيط المحيط،و أقرب الموارد:ربّما فتحوا همزة«أمويّ»و هذا يعني أنّ«الأمويّ»أعلى.

و قال اللّسان،و المصباح،و التّاج،إنّ هذه النّسبة «أمويّ»هي على غير القياس.

ج-و الأميّيّ،نسبة إلى«أميّة»:سيبويه،و الصّحاح، و اللّسان،و القاموس،و التّاج،و محيط المحيط،و المتن، و المعجم الكبير.

د-و الأمويّ،نسبة إلى«أمة»:الحسن العسكريّ في التّصحيف و التّحريف،و الصّحاح،و اللّسان،و التّاج و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد،و المتن،و المعجم الكبير و الوسيط،و ذكر الوسيط أنّ هذه النّسبة «الأمويّ»هي على السّماع.

أمّا كلمة«أميّة»فهي تصغير«أمة».(30)

المصطفويّ:لا يخفى ما بين كلمتي«الأمّ»و«الأمة» من التّناسب في اللّفظ و المعنى،فإنّ كلمة«الأمّ»صحيحة مضمومة أوّلها و مشدّدة آخرها،بخلاف«الأموّة»فإنّها مفتوحة أوّلها و معتلّة ناقصة،و قد أخفيت علّتها في «الأمة»فالضّمّ و التّشديد و الصّحّة تدلّ على القوّة و الطّمأنينة و الثّبوت و الثّقل،و هذا بخلاف الفتحة و العلّة و الحذف و التّاء،فإنّها تدلّ على الخفّة و الضّعف و التّزلزل و التّبدّل و عدم الثّبوت و الاستقلال.و هذه الخصوصيّات هي الفارقة بين مفهوم«الأمّ»و«الأمة»مع اشتراكهما في الحرفين لفظا،و في عمدة الصّفات النّوعيّة الذّاتيّة معنى.(1:141)

النّصوص التّفسيريّة

امة

..وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ... البقرة:221

الضّحّاك: الأمة:المرأة و إن لم تكن مملوكة.

(ابن الجوزيّ 1:246)

الطّبريّ: أمة مؤمنة باللّه و برسوله،و بما جاء به من عند اللّه،خير عند اللّه و أفضل من حرّة مشركة كافرة و إن شرف نسبها و كرم أصلها،و يقول:و لا تبتغوا المناكح في ذوات الشّرف من أهل الشّرك باللّه،فإنّ الإماء المسلمات عند اللّه خير منكحا منهنّ.(2:378)

الزّمخشريّ: لامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة خير من مشركة.(1:318)

نحوه البيضاويّ.(1:117)

الطّبرسيّ: معناه مملوكة مصدّقة مسلمة خير من حرّة مشركة.(1:361)

ابن الجوزيّ:و في المراد ب«الأمة»قولان:

أحدهما:أنّها المملوكة،و هو قول الأكثرين.فيكون المعنى:و لنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرّة مشركة.

ص: 709

و الثّاني:أنّها المرأة،و إن لم تكن مملوكة،كما يقال:

هذه أمة اللّه.و هذا قول الضّحّاك.و الأوّل أصحّ.

(1:246)

القرطبيّ: إخبار بأنّ المؤمنة المملوكة خير من المشركة،و إن كانت ذات الحسب و المال.(3:69)

النّيسابوريّ: المراد ب«الأمة»و كذا ب«العبد»في قوله: وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ البقرة:221،أمة اللّه و عبده،لأنّ النّاس كلّهم عبيد اللّه و إماؤه،أي و لامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة خير من مشركة.[إلى أن قال:]

و قد ظنّ بعضهم أنّ المراد ب«الأمة»ضدّ الحرّة.

فقال:التّقدير و لأمة مؤمنة خير من حرّة مشركة.و لهذا ذهب بعض آخر إلى أنّ في الآية دلالة على أنّ القادر على طول الحرّة يجوز التّزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة،لأنّ الآية دلّت على أنّ الواجد لطول الحرّة المشركة يكون لا محالة واجدا لطول الحرّة المسلمة،لأنّه بسبب التّفاوت في الإيمان و الكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النّكاح،فيلزم قطعا أن يكون الواجد لطول الحرّة المسلمة يجوز له نكاح الأمة.

(2:241)

أبو حيّان: الظّاهر أنّه أريد بالأمة:الرّقيقة،و معنى خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ أي من حرّة مشركة،فحذف الموصوف لدلالة مقابله عليه،و هو(امة).

و قيل:الأمة هنا بمعنى المرأة فيشمل الحرّة و الرّقيقة، و منه:لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه.و هذا قول الضحّاك، و لم يذكر الزّمخشريّ غيره.(2:164)

البروسويّ: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ مع ما بها من خساسة الرّقّ و قلّة الخطر خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ.

(1:345)

مثله القاسميّ(3:558)،و المراغيّ(2:151).

العامليّ: يمكن تأويل«الأمة»بما مرّ في«الأسير» للمناسبة المعلومة،فتأمّل.(89)

[و قال في تفسير«الأسير»:]

يقال الأسير:على المقيّد المحبوس،و جمعه:الأسرى و الأسارى؛بفتح الهمزة في الأوّل و بضمّها في الثّاني.

(72)

الآلوسيّ: و الظّاهر أنّ المراد ب«الأمة»ما تقابل الحرّة.[إلى أن قال:]

قيل:المراد ب«الأمة»المرأة حرّة كانت أو مملوكة، فإنّ النّاس كلّهم عبيد اللّه تعالى و إماؤه.و لا تحمل على الرّقيقة،لأنّه لا بدّ من تقدير الموصوف في«مشركة»فإن قدّر«أمة»بقرينة السّياق لم يفد خيريّة الأمة المؤمنة على الحرّة المشركة،و إن قدّر حرّة أو امرأة،كان خلاف الظّاهر،و المذكور في سبب النّزول التّزوّج بالأمة بعد عتقها.

و الأمة بعد العتق حرّة،و لا يطلق عليها أمة إلاّ باعتبار مجاز الكون.

و الحقّ أنّ«الأمة»بمعنى الرّقيقة،كما هو المتبادر،و أنّ الموصوف المقدّر ل«مشركة»عامّ-و كونه خلاف الظّاهر -خلاف الظّاهر.

و على تقدير التّسليم هو مشترك الإلزام،و لعلّ ارتكاب ذلك آخرا أهون من ارتكابه أوّل وهلة،إذ هو

ص: 710

من قبيل نزع الخفّ قبل الوصول إلى الماء-و ما في سبب النّزول مؤيّد لا دليل عليه-و قد قيل فيه:إنّ عبد اللّه نكح أمة-إن حقّا و إن كذبا-فالمعنى وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ مع ما فيها من خساسة الرّقّ و قلّة الخطر(خير)ممّا اتّصفت بالشّرك،مع ما لها من شرف الحرّيّة و رفعة الشّأن.(2:119)

رشيد رضا :قد فسّر الجمهور«الأمة»و«العبد»في الآية ب«الرّقيق»أي أنّ الأمة المملوكة المؤمنة خير من الحرّة المشركة و لو أعجبكم جمالها،و كذلك القنّ المؤمن خير من الحرّ المشرك و إن كان معجبا،و تعلم منه خيريّة الحرّ المؤمن و الحرّة المؤمنة بالأولى.

و قال آخرون:إنّ المراد أمة اللّه و عبد اللّه،أي أنّ المؤمنة و المؤمن كلّ منهما عبد اللّه يطيعه و يخشاه،و لذلك كان خيرا ممّن يشرك به،فكان في التّعبير ب«الأمة» و«العبد»إشعار بعلّة الخيريّة.[ثمّ ذكر وجه الخيريّة فراجع«خ ي ر»](2:350)

الطّباطبائيّ: الظّاهر أنّ المراد بالأمة المؤمنة:

المملوكة الّتي تقابل الحرّة،و قد كان النّاس يستذلّون الإماء و يعيّرون من تزوّج بهنّ،فتقييد الأمة بكونها مؤمنة،و إطلاق المشركة-مع ما كان عليه النّاس من استحقار أمر الإماء و استذلالهنّ،و التّحرّز عن التّزوّج بهنّ-يدلّ على أنّ المراد أنّ المؤمنة و إن كانت أمة خير من المشركة و إن كانت حرّة ذات حسب و نسب و مال، ممّا يعجب الإنسان بحسب العادة.

و قيل:إنّ المراد بالأمة كالعبد في الجملة التّالية:أمة اللّه و عبده،و هو بعيد.(2:204)

و بهذا المعنى جاء لفظ(امائكم)في قوله تعالى:

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ... النّور:32.

الأصول اللّغويّة

1-لهذه المادّة أصل واحد و هو الأنثى المملوكة، يقال:أمت المرأة و أميت و أموت أموّة و تأمّت:صارت أمة.و أميت فلانة و تأمّيتها و استأميتها:جعلتها أمة.

و تأمّيتها:اتّخذتها أمة.و يقال أيضا:استأمت المرأة،أي أشبهت الإماء.

2-و كلّ مشتقّات هذه المادّة أفعال سوى«أمة» و مصغّرها«أميّة».و لك أن تتصوّر مدى حقارة هذا الاسم؛إذ أنّ«الأمة»نفسها مزرى بها فكيف لو صغّر اسمها و حقّر،أو سمّي به أو نسب إليه؟!

3-و أصل أمة«أموة»على وزن«فعلة»فحذفت الواو على غير قياس،فصار وزنها«فعة».و القياس أن تكون«أماة»مثل«حماة»بقلب الواو ألفا،لتحرّكها و انفتاح ما قبلها.

و قيل:أصل أمة«أموة»بسكون الميم،فنقلت حركة الواو إلى الميم،فصار«أموة»ثمّ حذف الواو،لأنّه حرف لين.

و القول الأخير مقيس فيه في الإفراد دون الجمع، لأنّ جمع أمة«آم»على وزن«أفعل»،و هذا الوزن لا يأتي جمعا ل«فعلة».فأصل آم«أأمو»،فأدغمت الهمزة الثّانية في الأولى،لسكونها و انفتاح ما قبلها،و قلبت الواو ياء للتّخفيف،و أبدلت الضّمّة كسرة لمتابعة الياء،فصار

ص: 711

«آمي»،ثمّ حذفت الياء و عوّض عنها التّنوين.

4-و«تاء»أمة ملازمة لهذه الكلمة على الرّغم من أنّها لا تطلق إلاّ على الأنثى.و كان الأجدر بهم أن يستعملوها بدون تاء،كما في حائض و حامل،لأنّه لفظ يختصّ بها دون الذّكر.

و لذا نحتمل في هذه التّاء أمرين:

أحدهما:أنّها لتأكيد التّأنيث كما في نعجة و ناقة.

و الثّاني:أنّها مبدلة عن الواو المحذوفة كما في سنة.

و علّة الحذف كراهيّة تعاقب حركات الإعراب مع «الواو»لاعتلالها.

5-و اختلفوا في«أمويّ»إلى قولين:الأوّل:هو نسبة إلى«أميّة»،الثّاني:نسبة إلى«أمة».ثمّ قالوا فيه:

«أمويّ»بضمّ الهمزة،و«أمويّ»بفتح الهمزة.و ذكروا لغة ثالثة فيه أيضا و هي«أميّيّ».

و نرى أنّ«أمويّ»-بفتح الهمزة-نسبة إلى«أمة» على القياس،لأنّ التّاء بدل من الواو كما في سنة، و«أمويّ»-بضمّ الهمزة-نسبة إلى«أميّة»على القياس أيضا،لأنّ تصغيره في الأصل«أميوة».فلمّا اجتمعت الواو و الياء،و سبقت إحداهما بالسّكون أدغمتا،فأصبح «أميّة»مثل سميّة.

6-و يلاحظ أنّ هناك وشيجة لفظيّة و معنويّة بين «الأمة»و«الأمّ»،بيد أنّ لفظ«الأمة»مفتوح الهمزة و مخفّف الميم،لذا يبدو خفيفا في اللّسان،فضلا عن أنّه معلول.و أمّا لفظ«الأمّ»فهو مضموم الهمزة و مشدّد الميم، و لذا يطرأ ثقل في اللّسان عند التّلفّظ به،كما أنّه لفظ سالم لا يعتوره الإعلال.

و هذه الفروق اللّفظيّة بينهما تنعكس على معناهما؛ إذ أنّ في«الأمّ»معنى يدلّ على القوّة و الأصالة،بينما «الأمة»يكتنفها الضّعف و التّبعيّة.

الاستعمال القرآنيّ

جاء كلّ من«أمة»و«إماء»مرّة واحدة في آيتين:

1- وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ... البقرة:221

2- وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ النّور:32

و يلاحظ أوّلا:أنّه تعالى اشترط الإيمان في الأولى لنكاح المسلم لمشركة و إنكاح المشرك مسلمة.ثمّ بيّن فضل المسلم على المشرك بقوله: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ و وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ.

و يدلّ قوله: وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ و وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ على أنّ المسلمين آنذاك كانوا يفضّلون الزّواج بالمشركات على الزّواج بالإماء المسلمات،و يفضّلون تزويج المشركين على تزويج العبيد المسلمات،إذا أعجبهم حسن المشركة و المشرك.و مردّ هذه الظّاهرة إلى الاعتداد بالأنساب و الأحساب،و هي إحدى رواسب الجاهليّة الجهلاء و العصبيّة العمياء،و إلى الاعتداد بحسن الظّاهر دون الباطن.

ص: 712

ثانيا:أنّ القرآن لم يتطرّق إلى زواج العبيد و الإماء، إلاّ في هاتين الآيتين.ففي الأولى نوّه بذكر العبد و الأمة و أفضليّتهما على الحرّ و الحرّة المشركين،و حثّ في الثّانية على إنكاح الأيامى و العبيد و نكاح الإماء،و ضمن رزقهم و غناهم إن كانوا فقراء.

ثالثا:أنّه تعالى يرمي من وراء تزويج الإماء و العبيد إلى تحريرهم من ربق العبوديّة؛إذ يعتبر نداء القرآن هذا أوّل دعوة إلى تحرير العبيد.

و قد آتت هذه الدّعوة أكلها على مرّ العصور حتّى اختفى الرّقّ من الوجود في العالم الإسلاميّ اليوم،دون ضجّة أو سفك دماء.و قد تمثّلت هذه الدّعوة في كفّارة القتل الخطأ و كفّارة الأيمان و كفّارة الظّهار،لاحظ«ر ق ب»و«ح ر ر».

رابعا:تضمّنت الآيتان ألوانا من الصّور البلاغيّة البديعة،ففي باب المقابلة:(المشركات-المشركين)و (مشرك-مشركة)و(أمة-عبد)و(عبادكم-إمائكم) و(يدعون-يدعو)و(أعجبكم-أعجبتكم)و(يؤمن- يؤمنوا).و في باب الجناس:(و لا تنكحوا-و لا تنكحوا).

و في باب الطّباق:(مؤمنة-مشركة)و(مؤمن-مشرك) و(الأيامى-العباد و الإماء)و(الجنّة-النّار)و(فقراء- يغنهم).

و بهذا تكون الآيتان تقريرين إلهيّين يقابل المسألة العاطفيّة و الدّنيويّة،و تكونان مؤثّرتين غاية التّأثير من خلال الصّور البلاغيّة الجماليّة.

ص: 713

ص: 714

أ ن ث

اشارة

4 ألفاظ،30 مرّة:19 مكّيّة،11 مدنيّة

في 17 سورة:12 مكّيّة،5 مدنيّة

أنثى 9:4-5 الانثيين 6:4-2

الانثى 9:6-3 اناثا 6:5-1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الأنثى:خلاف الذّكر من كلّ شيء، و الأنثيان:الخصيتان،و الأنثيان:الأذنان.[ثمّ استشهد بشعر]

و المؤنّث:ذكر في خلق أنثى.

و الإناث:جماعة الأنثى،و يجيء في الشّعر:إناثيّ.

فإذا قلت للشّيء تؤنّثه،فالنّعت بالهاء،مثل:المرأة، فإذا قلت:يؤنّث فالنّعت مثل الرّجل،بغير هاء.كقولك:

مؤنّثة و مؤنّث.(8:244)

ابن شميّل: أرض مئناث:سهلة خليقة بالنّبات، ليست بغليظة.(الأزهريّ 15:147)

أبو عمرو الشّيبانيّ: الأنيث:الّذي ينبت النّبت.

الأنيث من الرّجال:المخنّث،شبه المرأة.

(الأزهريّ 15:147)

الأصمعيّ: المذكّر من السّيوف شفرته حديد ذكر و متنه أنيث.

يقول النّاس:إنّها من عمل الجنّ.

الأنثيان:الأذنان.[ثمّ استشهد بشعر]

الأنثيان،من أحياء العرب:بجيلة و قضاعة.[ثمّ استشهد بشعر](الأزهريّ 15:146)

اللّحيانيّ: سيف مئناث و مئناثة بالهاء،إذا كانت حديدته ليّنة.(ابن منظور 2:113)

ابن الأعرابيّ: أرض أنيثة،أي سهلة.

الأنيث:اللّيّن السّهل.

و سمّيت المرأة أنثى،لأنّها ألين من الرّجل.

و سيف أنيث،إذا لم يكن حديده جيّد،و لم يقطع.

ص: 715

و الأنثى سمّيت أنثى للينها.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 15:147)

ابن السّكّيت: يقال:مذكر إذا ولدت ذكرا،و مؤنث إذا ولدت أنثى،و متئم إذا ولدت اثنين في بطن.فإذا كان ذلك من عادتها،قيل:مذكار و مئناث و متآم.و يقال:

تزوّج فلان في شريّة نساء،إذا تزوّج في نساء يلدن الإناث.(347)

يقال:هذا طائر و أنثاه،و لا يقال:و أنثاته.

(الأزهريّ 15:147)

شمر: روي عن إبراهيم أنّه قال:كانوا يكرهون المؤنّث من الطّيب،و لا يرون بذكورته بأسا.

أراد بالمؤنّث:طيب النّساء،مثل الخلوق و الزّعفران و ما يلوّن الثّياب.و أمّا ذكورة الطّيب فما لا لون له،مثل الغالية و الكافور و المسك و العود و العنبر،و نحوها من الأدهان الّتي لا تؤثّر.(الأزهريّ 15:147)

الأزهريّ: [قال بعد نقل قول اللّيث:]

و قال غيره:يقال للرّجل:أنّثت في أمرك تأنيثا،أي لنت له و لم تتشدّد.و بعضهم يقول:تأنّث في أمره و تخنّث.

و سيف أنيث:و هو الّذي ليس بقطّاع.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:هذه امرأة أنثى،إذا مدحت بأنّها كاملة من النّساء،كما يقال:رجل ذكر،إذا وصف بالكمال.

و مكان أنيث،إذا أسرع نباته و كثر.[ثمّ استشهد بشعر](15:145)

الجوهريّ: الأنثى:خلاف الذّكر،و يجمع على إناث.

و قد قيل:أنث،كأنّه جمع إناث.

و آنثت المرأة،إذا ولدت أنثى،فهي مؤنث.و إذا كان ذلك عادتها فهي مئناث أيضا،لأنّهما يستويان في «مفعال».

و تأنيث الاسم خلاف تذكيره،و قد أنّثته فتأنّث.

و الأنيث:ما كان من الحديد غير ذكر.

و الأنثيان:الخصيان.و الأنثيان أيضا:الأذنان.[ثمّ استشهد بشعر]

قال الكلابيّ:يقال:أرض أنيثة:تنبت البقل سهلة.(1:272)

ابن فارس: و أمّا الهمزة و النّون و الثّاء فقال الخليل و غيره:الأنثى خلاف الذّكر.

و يقال:سيف أنيث الحديد،إذا كانت حديدته أنثى.

و أرض أنيثة:حسنة النّبات.(1:144)

الثّعالبيّ: [الأنثى]إذا كانت تلد الإناث،فهي:

مئناث.(167)

ابن سيدة :أصل هذا الباب على قوله:[ابن الأعرابيّ]إنّما هو الأنيث الّذي هو اللّيّن.

(ابن منظور 2:113)

الأنيث:الحديد غير الذّكر،يقال:حديد أنيث:غير صلب،و سيف أنيث و مئناث:ليّن.(الإفصاح 1:590)

الأنيث:سيف أنيث و مئناث:ليّن كهام.

(الإفصاح 1:592)

الرّاغب: الأنثى خلاف الذّكر،و يقالان في الأصل اعتبارا بالفرجين.قال عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى النّساء:124.

ص: 716

و لمّا كان الأنثى في جميع الحيوان تضعف عن الذّكر اعتبر فيها الضّعف،فقيل لما يضعف عمله:أنثى،و منه قيل:حديد أنيث.[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل:أرض أنيث:سهل،اعتبارا بالسّهولة الّتي في الأنثى،أو يقال:ذلك اعتبارا بجودة إنباتها تشبيها بالأنثى، و لذا قال:أرض حرّة و ولودة.

و لمّا شبّه في حكم اللّفظ بعض الأشياء بالذّكر فذكّر أحكامه و بعضها بالأنثى فأنّث أحكامها،نحو اليد و الأذن و الخصية،سمّيت الخصية،لتأنيث لفظ الأنثيين،و كذلك الأذن.قال الشّاعر:

*و ما ذكر و إن يسمن فأنثى*

يعني القراد،فإنّه يقال له إذا كبر:حلمة فيؤنّث، و قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً النّساء:

117.

فمن المفسّرين من اعتبر حكم اللّفظ،فقال:لمّا كانت أسماء معبوداتهم مؤنّثة نحو: اَللاّتَ وَ الْعُزّى* وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى النّجم:19،20،قال ذلك.

و منهم-و هو أصحّ-من اعتبر حكم المعنى،و قال:

المنفعل يقال له:أنيث،و منه قيل للحديد اللّيّن:أنيث.

فقال:و لمّا كانت الموجودات بإضافة بعضها إلى بعض ثلاثة أضرب:فاعلا غير منفعل،و ذلك هو الباري عزّ و جلّ فقط.و منفعلا غير فاعل،و ذلك هو الجمادات.

و منفعلا من وجه،كالملائكة و الإنس و الجنّ،و هم بالإضافة إلى اللّه تعالى منفعلة و بالإضافة إلى مصنوعاتهم فاعلة.

و لمّا كانت معبوداتهم من جملة الجمادات الّتي هي منفعلة غير فاعلة سمّاها اللّه تعالى«أنثى»و بكّتهم بها، و نبّههم على جهلهم في اعتقاداتهم فيها أنّها آلهة،مع أنّها لا تعقل و لا تسمع و لا تبصر بل لا تفعل فعلا بوجه.و على هذا قول إبراهيم عليه الصّلاة و السّلام: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً مريم:42.

و أمّا قوله عزّ و جلّ: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الزّخرف:19،فلزعم الّذين قالوا:

إنّ الملائكة بنات اللّه.(27)

الزّمخشريّ: امرأة مئناث،و قد آنثت.و هذه امرأة أنثى للكاملة من النّساء،كما يقال:رجل ذكر للكامل.

و من المجاز:رجل مخنّث مؤنّث،و سيف أنيث و مئناث و مئناثة.و نزع أنثييه ثمّ ضربه تحت أنثييه،و هما أذناه.

و الأنوثة فيهما من جهة تأنيث الاسم.و يقال:أنّثت في أمرك تأنيثا:لنت و لم تشدّد.و أرض أنيثة:بيّنة الإناثة، دميثة:بيّنة الدّماثة.(أساس البلاغة:10)

ابن الأثير: في حديث المغيرة:«فضل مئناث» المئناث:الّتي تلد الإناث كثيرا،كالمذكار الّتي تلد الذّكور.

(1:73)

أبو حيّان: الأنثى معروف و هي«فعلى»الألف فيه للتّأنيث،و هو مقابل الذّكر الّذي هو مقابل للمرأة.

و يقال للخصيتين:أنثيان،و هذا البناء لا تكون ألفه إلاّ للتّأنيث.و لا تكون للإلحاق لفقد«فعلل»في كلامهم.

(1:497)

الأنثى و الذّكر معروفان،و ألف«أنثى»للتّأنيث، و جمعت على«إناث»كربّى و رباب.و قياس الجمع:

ص: 717

«إناثى»كحبلى و حبالى،و جمع الذّكر:ذكور و ذكران.

(2:432)

الفيّوميّ: «الأنثى»فعلى،و جمعها:«إناث»مثل كتاب،و ربّما قيل:الأناثيّ.

و التّأنيث:خلاف التّذكير،يقال:أنّث الاسم تأنيثا، إذا ألحقت به أو بمتعلّقه علامة التّأنيث.

قال ابن السّكّيت: و إذا كان الاسم مؤنّثا و لم يكن فيه هاء تأنيث جاز تذكير فعله.قال الشّاعر:

*و لا أرض أبقل إبقالها*

فذكّر«أبقل»فهو فعل الأرض لمّا لم يكن فيها لفظ التّأنيث.و يلزمه على هذا أن يقال:إنّ الشّمس طلع، و هو غير مشهور،و البيت مؤوّل محمول على حذف العلامة للضّرورة.(1:25)

الفيروزآباديّ: آنثت المرأة إيناثا:ولدت أنثى، فهي مؤنث و معتادتها مئناث.

و الأنيث:الحديد غير الذّكر.

و المؤنّث:المخنّث كالمئناث.

و الأنثيان:الخصيتان و الأذنان،و بجيلة و قضاعة.

و أرض أنيثة و مئناث:سهلة،منبات.

و أنّثت له تأنيثا و تأنّثت:لنت.

و الإناث:جمع الأنثى كالأناثى،و الموات كالشّجر و الحجر و صغار النّجوم.و امرأة أنثى:كاملة.

و سيف مئناث و مئناثة:كهام.(1:167)

المصطفويّ: إنّ ما يقابل الذّكر هو الأنثى،و أمّا المؤنّث:فهو الاسم الّذي ألحقت به علامة التّأنيث،أو من ولدته أنثى.فإطلاق المؤنّث على الأنثى غير صحيح، و هكذا المذكّر،و الصّحيح هو الذّكر.

وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى آل عمران:36.

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى النّحل:58.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى النّحل:97.

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ النّساء:11.

قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ الأنعام:144.

يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً الشّورى:49.

و قد يقال:إنّ الأصل في هذه المادّة هو«اللّين»ثمّ أطلقت على المرأة مجازا للينها.و على أيّ حال فصيغة «الأنثى»مؤنّثة من أفعل التّفضيل كأفضل و فضلى،كما أنّ الذّكر لا يبعد أن يكون في الأصل صفة على وزان «حسن»،و صيغ الجمع باعتبار المعنى الاسميّ.

(1:144)

النّصوص التّفسيريّة

انثى

1- فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى. آل عمران:36

ابن عبّاس: إنّما قالت هذا لأنّه لم يكن يقبل في النّذر إلاّ الذّكور،فقبل اللّه مريم.(القرطبيّ 4:67)

قتادة :كانت المرأة لا تستطيع أن يصنع بها ذلك، يعني أن تحرّر للكنيسة فتجعل فيها،تقوم عليها و تكنسها،فلا تبرحها،ممّا يصيبها من الحيض و الأذى، فعند ذلك قالت: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى.

(الطّبريّ 3:238)

السّدّيّ: أنّ امرأة عمران ظنّت أنّ ما في بطنها

ص: 718

غلام،فوهبته للّه،فلمّا وضعت إذا هي جارية،فقالت تعتذر إلى اللّه: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى. (الطّبريّ 3:238)

الرّبيع: كانت امرأة عمران حرّرت للّه ما في بطنها، و كانت على رجاء أن يهب لها غلاما،لأنّ المرأة لا تستطيع ذلك،يعني القيام على الكنيسة لا تبرحها و تكنسها،لما يصيبها من الأذى.(الطّبريّ 3:238)

ابن إسحاق : وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى لأنّ الذّكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.(الطّبريّ 3:238)

الطّبريّ: فتأويل الكلام إذن:و اللّه أعلم من كلّ خلقه بما وضعت.ثمّ رجع جلّ ذكره إلى الخبر عن قولها، و أنّها قالت اعتذارا إلى ربّها ممّا كانت نذرت في حملها، فحرّرته لخدمة ربّها وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى لأنّ الذّكر أقوى على الخدمة و أقوم بها،و أنّ الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس،و القيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض و النّفاس.(3:237)

الطّوسيّ: فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، قيل:فيه قولان:

أحدهما:الاعتذار من العدول عن النّذر،لأنّها أنثى.

الثّاني:تقديم الذّكر في السّؤال لها بأنّها أنثى،و ذلك أنّ عيب الأنثى أفظع،و هو إليها أسرع،و سعيها أضعف، و عقلها أنقص،فقدّمت ذكر الأنثى ليصحّ القصد لها في السّؤال على هذا الوجه.

و قوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى اعتذار بأنّ الأنثى لا تصلح لما يصلح له الذّكر،و إنّما كان يجوز لهم التّحرير في الذّكور دون الإناث،لأنّها لا تصلح لما يصلح له الذّكر من التّحرير لخدمة المسجد المقدّس،لما يلحقها من الحيض و النّفاس،و الصّيانة عن التّبرّج للنّاس.

(2:444)

الزّمخشريّ: إن قلت:كيف جاز انتصاب(انثى) حالا من الضّمير في(وضعتها)و هو كقولك:وضعت الأنثى أنثى؟

قلت:الأصل وضعته أنثى،و إنّما أنّث لتأنيث الحال، لأنّ الحال و ذا الحال لشيء واحد،كما أنّث الاسم في وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا مريم:28،لتأنيث الخبر،و نظيره قوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ النّساء:

176.

و أمّا على تأويل الحبلة أو النّسمة فهو ظاهر،كأنّه قيل:إنّي وضعت الحبلة أو النّسمة أنثى.

فإن قلت:فلم قالت: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و ما أرادت إلى هذا القول؟

قلت:قالته تحسّرا على ما رأت من خيبة رجائها، و عكس تقديرها،فتحزّنت إلى ربّها،لأنّها كانت ترجو و تقدر أن تلد ذكرا،و لذلك نذرته محرّرا للسّدانة، و لتكلّمها بذلك على وجه التّحسّر و التّحزّن.

إن قلت:فما معنى قوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى؟

قلت:هو بيان لما في قوله: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ من التّعظيم للموضوع و الرّفع منه،و معناه:

و ليس الذّكر الّذي طلبت كالأنثى الّتي وهبت لها.و اللاّم فيهما للعهد.(1:425)

الطّبرسيّ:[قال مثل الطّوسيّ و أضاف:]

و قيل:أرادت أنّ الذّكر أفضل من الأنثى على العموم

ص: 719

و أصلح للأشياء،و«الهاء»في(وضعتها)كناية عن(ما) في قوله:(ما فى بطنى)،و جاز ذلك لوقوع(ما)على مؤنّث، و يحتمل أن يكون كناية عن معلوم دلّ عليه الكلام.

(1:435)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ الفائدة في هذا الكلام أنّه تقدّم منها النّذر في تحرير ما في بطنها،و كان الغالب على ظنّها أنّه ذكر،فلم تشترط ذلك في كلامها،و كانت العادة عندهم أنّ الّذي يحرّر و يفرغ لخدمة المسجد و طاعة اللّه هو الذّكر دون الأنثى،فقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خائفة أنّ نذرها لم يقع الموقع الّذي يعتدّ به،و معتذرة من إطلاقها النّذر المتقدّم،فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام للّه تعالى-تعالى اللّه عن أن يحتاج إلى إعلامها-بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار.[إلى أن قال:]

ثمّ قال تعالى حكاية عنها: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، و فيه قولان:

الأوّل:أنّ مرادها تفضيل الولد الذّكر على الأنثى، و سبب هذا التّفضيل من وجوه:

أحدها:أنّ شرعهم أنّه لا يجوّز تحرير الذّكور دون الإناث.

و الثّاني:أنّ الذّكر يصحّ أن يستمرّ على خدمة موضع العبادة،و لا يصحّ ذلك في الأنثى،لمكان الحيض و سائر عوارض النّسوان.

و الثّالث:الذّكر يصلح لقوّته و شدّته للخدمة دون الأنثى،فإنّها ضعيفة لا تقوى على الخدمة.

و الرّابع:أنّ الذّكر لا يلحقه عيب في الخدمة و الاختلاط بالنّاس،و ليس كذلك الأنثى.

و الخامس:أنّ الذّكر لا يلحقه من التّهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى،فهذه الوجوه تقتضي فضل الذّكر على الأنثى في هذا المعنى.

الثّاني:أنّ المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذّكر،كأنّها قالت:الذّكر مطلوبي و هذه الأنثى موهوبة اللّه تعالى،و ليس الذّكر الّذي يكون مطلوبي كالأنثى الّتي هي موهوبة اللّه.

و هذا الكلام يدلّ على أنّ تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال اللّه عالمة بأنّ ما يفعله الرّبّ بالعبد خير ممّا يريده العبد لنفسه.(8:27)

نحوه النّيسابوريّ.(3:177)

القرطبيّ: (انثى)حال،و إن شئت بدل.فقيل:إنّها ربّتها حتّى ترعرعت و حينئذ أرسلتها،رواه أشهب عن مالك.

و قيل:لفّتها في خرقتها و أرسلت بها إلى المسجد، فوفّت بنذرها و تبرّأت منها.و لعلّ الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام.(4:67)

أبو حيّان: ليس الذّكر الّذي طلبته و رجوته مثل الأنثى الّتي علمها و أرادها و قضى بها.و لعلّ هذه الأنثى تكون خيرا من الذّكر،إذ أرادها اللّه،سلّت بذلك نفسها.

و تكون الألف و اللاّم في(الذّكر)للعهد،فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى الّتي هي موهوبة اللّه على ما كان قد رجت من أنّه يكون ذكرا.و يحتمل أن يكون مقصودها أنّه ليس كالأنثى في الفضل و الدّرجة و المزيّة،لأنّ الذّكر يصلح للتّحرير و الاستمرار على خدمة موضع العبادة، و لأنّه أقوى على الخدمة.و لا يلحقه عيب في الخدمة

ص: 720

و الاختلاط بالنّاس،و لا تهمة.

قال ابن عطيّة: (كالأنثى)في امتناع نذره؛إذ الأنثى تحيض و لا تصلح لصحبة الرّهبان،قاله قتادة و الرّبيع و السّدّيّ و عكرمة و غيرهم.و بدأت بذكر الأهمّ في نفسها،و إلاّ فسياق الكلام أن تقول:و ليست الأنثى كالذّكر،فتضع حرف النّفي مع الشّيء الّذي عندها، و انتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد انتهى.

و على هذا الاحتمال تكون الألف و اللاّم في(الذّكر) للجنس.(2:439)

البروسوي: مقول للّه أيضا مبيّن لتعظيم موضوعها و رفع منزلته،و اللاّم فيهما للعهد،أي ليس الذّكر الّذي كانت تطلبه و تتخيّل فيه كمالا،قصاراه أن يكون كواحد من السّدنة كالأنثى الّتي وهبت لها،فإنّ دائرة علمها و أمنيّتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور،فهي أفضل من مطلوبها،و هي لا تعلم.

و هاتان الجملتان من مقول اللّه تعالى اعتراضان بين قول أمّ مريم: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و قولها: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، و فائدتهما التّسلية لنفس حنّة،و التّعظيم لوضعها.

(2:27)

الآلوسيّ: (انثى)حال بمنزلة الخبر،فأنّث العائد إلى (ما)نظرا إلى الحال،من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللّغو،أو باعتبار التّأويل بمؤنّث لفظيّ يصلح للمذكّر و المؤنّث كالنّفس و الحبلة و النّسمة،فلا يشكل التّأنيث و لا يلغو(أنثى)،بل هي حال مبيّنة-كذا قيل- و لا يخلو عن نظر.

فالحقّ أنّ الضّمير ل(ما فى بطنى)و التّأنيث في الأوّل، لما أنّ المقام يستدعي ظهور أنوثته و اعتباره في حيّز الشّرط؛إذ عليه يترتّب جواب(لمّا)لا على وضع ولد ما.و التّأنيث في الثّاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرّجاء و انقطاع حبل الأمل،و(أنثى)حال مؤكّدة من الضّمير أو بدل منه.و ليس الغرض من هذا الكلام الإخبار،لأنّه إمّا للفائدة أو للازمها،و علم اللّه تعالى محيط بهما،بل لمجرّد التّحسّر و التّحزّن.[إلى أن قال:]

و حاصل المعنى هنا على ما قرّر:فلمّا وضعت بنتا تحسّرت إلى مولاها و تفجّعت؛إذ خاب منها رجاها.

و على هذا لا إشكال أصلا في التّأنيث،و لا في الجزاء نفسه، و لا في ترتّبه على الشّرط.

و ما قيل:إنّه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام التّحقير للمحرّر استجلابا للقبول،لأنّه من تواضع للّه تعالى رفعه اللّه سبحانه،فمستحقر من القول بالنّسبة إلى ما ذكرنا.و التّأكيد هنا قيل:للرّدّ على اعتقادها الباطل، و ربّما أنّه يعود إلى الاعتناء و المبالغة في التّحسّر الّذي قصدته،و الرّمز إلى أنّه صادر عن قلب كسير و فؤاد بقيود الحرمان أسير.(3:134)

الطّباطبائيّ: في وضع الضّمير المؤنّث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف،و المعنى فلمّا وضعت ما في بطنها و تبيّنت أنّه أنثى قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، و هو خبر أريد به التّحسّر و التّحزّن دون الإخبار،و هو ظاهر.

قوله تعالى: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جملتان معترضتان،و هما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران،و لا أنّ الثّانية مقولة لها و الأولى مقولة للّه.

ص: 721

أمّا الأولى فهي ظاهرة،لكن لمّا كانت قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى مسوقا لإظهار التّحسّر كان ظاهر قوله: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أنّه مسوق لبيان:أنّا نعلم أنّها أنثى،لكنّا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمنّاه بأحسن وجه و أرضى طريق.

و لو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسّر و لم تحزن ذاك التّحسّر و التّحزّن،و الحال أنّ الذّكر الّذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذه الأنثى الّتي وهبناها لها،و يترتّب عليه ما يترتّب على خلق هذه الأنثى،فإنّ غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيّا مبرئا للأكمه و الأبرص و محييا للموتى.

لكن هذه الأنثى ستتمّ به كلمة اللّه و تلد ولدا بغير أب،و تجعل هي و ابنها آية للعالمين،و يكلّم النّاس في المهد،و يكون روحا و كلمة من اللّه،مثله عند اللّه كمثل آدم.إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطّاهرة المباركة،و خلق ابنها عيسى عليهما السّلام.

و من هنا يظهر أنّ قوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران،و لو كان مقولا لها لكان حقّ الكلام أن يقال:و ليس الأنثى كالذّكر،لا بالعكس، و هو ظاهر،فإنّ من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثمّ رزق ما هو أخسّ منه و أردأ إنّما يقول عند التّحسّر:

ليس هذا الّذي وجدته هو الّذي كنت أطلبه و أبتغيه،أو ليس ما رزقته كالّذي كنت أرجوه.و لا يقول:ليس ما كنت أرجوه كهذا الّذي رزقته البتّة.و ظهر من ذلك أنّ اللاّم في(الذّكر)و(الانثى)معا،أو في(الانثى)فقط للعهد.

و قد أخذ أكثر المفسّرين قوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى تتمّة قول امرأة عمران،و تكلّفوا في توجيه تقديم الذّكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصّل.من أراده فليرجع إلى كتبهم.(3:171)

2- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى. آل عمران:195

راجع«ذ ك ر».و«ض ى ع».

3- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً... النّحل:97

الزّمخشريّ: إن قلت:(من)متناول في نفسه للذّكر و الأنثى،فما معنى تبيينه بهما؟

قلت:هو مبهم صالح على الإطلاق للنّوعين،إلاّ أنّه إذا ذكر كان الظّاهر تناوله للذّكور فقيل: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى على التّبيين،ليعمّ الموعد النّوعين جميعا.

(2:427)

الفخر الرّازيّ: السّؤال الأوّل:لفظة(من)في قوله:

مَنْ عَمِلَ صالِحاً تفيد العموم،فما الفائدة في ذكر الذّكر و الأنثى؟

و الجواب:أنّ هذه الآية للوعد بالخيرات و المبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم و الرّحمة،إثباتا للتّأكيد و إزالة لوهم التّخصيص.(20:112)

نحوه النّيسابوريّ(14:115)،و البروسوي(5:

77).

الآلوسيّ: [قال نحو كلام الفخر الرّازيّ و أضاف:]

و في«الكشف»:كان الظّاهر تناوله للذّكور،من

ص: 722

حيث إنّ الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام و المحاورات، و إن كان التّناول على طريق التّعميم و التّغليب حاصلا، لكن لمّا أريد التّنصيص ليكون أغبط للفريقين،و نصّا في تناولهما بيّن بذكر النّوعين،انتهى.

و القول الأصحّ أنّ«التّناول»لا يحتاج إلى التّغليب.(14:226)

الطّباطبائيّ: وعد جميل للمؤمنين إن عملوا عملا صالحا،و بشرى للإناث أنّ اللّه لا يفرّق بينهنّ و بين الذّكور في قبول إيمانهنّ،و لا أثر عملهنّ الصّالح الّذي هو الإحياء بحياة طيّبة و الأجر بأحسن العمل،على الرّغم ممّا بنى عليه أكثر الوثنيّة و أهل الكتاب من اليهود و النّصارى،من حرمان المرأة من كلّ مزيّة دينيّة أو جلّها،و حطّ مرتبتها من مرتبة الرّجل،و وضعها وضعا لا يقبل الرّفع البتّة.

فقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ حكم كلّيّ من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا،أي من كان.و قد قيّده بكونه مؤمنا و هو في معنى الاشتراط،فإنّ العمل ممّن ليس مؤمنا حابط لا يترتّب عليه أثر،كما قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ المائدة:5،و قال: وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هود:16.(12:341)

عبد الكريم الخطيب :هو حكم عامّ بالجزاء الحسن على العمل الصّالح مطلقا،بعد الحكم الخاصّ بالجزاء الحسن على الوفاء بالعهد،و الصّبر على احتمال تبعات الوفاء به.

فالأعمال الحسنة جميعها مقبولة عند اللّه،سواء ما كان منها من قول أو عمل،و سواء أ كانت صادرة من ذكر أو أنثى من عباد اللّه.فالنّاس جميعا-على اختلاف أجناسهم و تباين صورهم و أشكالهم-سواء عند اللّه،يخضعون لقانون سماويّ عامّ،لا محاباة فيه،و لا تفرقة بين إنسان و إنسان إلاّ بالعمل.

و قد خصّ الذّكر و الأنثى بالذّكر هنا،لأنّهما يمثّلان جانبي الإنسانيّة كلّها؛إذ كانا مصدر المجتمعات الإنسانيّة كلّها كما يقول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى الحجرات:13.

و من جهة أخرى فإنّه إذا كان الاختلاف النّوعيّ بين الذّكر و الأنثى أمام القانون السّماويّ على منزلة سواء، كانت التّسوية بين النّاس جميعا أمام هذا القانون أحقّ و أولى.(7:358)

4- ...وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ.

المؤمن:40

الطّباطبائيّ: و فيه إشارة إلى المساواة بين الذّكر و الأنثى في قبول العمل،و تقييد العمل الصّالح في تأثيره بالإيمان،لكون العمل حبطا بدون الإيمان،قال تعالى:

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ المائدة:5،إلى غيرها من الآيات.

و قد جمع الدّين الحقّ،و هو سبيل الرّشاد في أوجز بيان،و هو أنّ للإنسان دار قرار،يجزى فيها بما عمل في الدّنيا من عمل سيّئ أو صالح،فليعمل صالحا و لا يعمل سيّئا.و زاد بيانا؛إذ أفاد أنّه إن عمل صالحا يرزق بغير

ص: 723

حساب.(17:332)

5- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا... الحجرات:13

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّما أنتم من رجل و امرأة كجمام الصّاع، ليس لأحد على أحد فضل إلاّ بالتّقوى.

(الطّبرسيّ 5:138)

مجاهد :خلق اللّه الولد من ماء الرّجل و ماء المرأة، و قد قال تبارك و تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى.

نحوه الطّبريّ.(الطّبريّ 26:138)

الطّوسيّ: آدم و حوّاء.(9:352)

مثله القرطبيّ.(16:340)

الزّمخشري: من آدم و حوّاء،و قيل:خلقنا كلّ واحد منكم من أب و أمّ،فما منكم أحد إلاّ و هو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء،فلا وجه للتّفاخر و التّفاضل في النّسب.(3:569)

الطّبرسيّ: أي من آدم و حوّاء،و المعنى أنّكم متساوون في النّسب،لأنّ كلّكم يرجع في النّسب إلى آدم و حوّاء.زجر اللّه سبحانه عن التّفاخر.(5:137)

الفخر الرّازيّ: فيه وجهان:

أحدهما:من آدم و حوّاء.

ثانيهما:كلّ واحد منكم أيّها الموجودون وقت النّداء خلقناه من أب و أمّ.

فإن قلنا:إنّ المراد هو الأوّل،فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض،لكونهم أبناء رجل واحد و امرأة واحدة.

و إن قلنا:إنّ المراد هو الثّاني،فذلك إشارة إلى أنّ الجنس واحد،فإنّ كلّ واحد خلق كما خلق الآخر من أب و أمّ.

و التّفاوت في الجنس دون التّفاوت في الجنسين،فإنّ من سنن التّفاوت أن لا يكون تقدير التّفاوت بين الذّباب و الذّئاب،لكن التّفاوت الّذي بين النّاس بالكفر و الإيمان كالتّفاوت الّذي بين الجنسين،لأنّ الكافر جماد؛إذ هو كالأنعام بل أضلّ.و المؤمن إنسان في المعنى الّذي ينبغي أن يكون فيه،و التّفاوت في الإنسان تفاوت في الحسّ لا في الجنس؛إذ كلّهم من ذكر و أنثى،فلا يبقى لذلك عند هذا اعتبار.(28:137)

نحوه النّيسابوريّ.(26:69)

البيضاويّ: من آدم و حوّاء عليهما السّلام،أو خلقنا كلّ واحد منكم من أب و أمّ،فالكلّ سواء في ذلك فلا وجه للتّفاخر بالنّسب و يجوز أن يكون تقريرا للأخوّة المانعة عن الاغتياب.(2:411)

نحوه أبو حيّان(8:116)،و البروسويّ(9:90).

الآلوسيّ: من آدم و حوّاء عليهما السّلام،فالكلّ سواء في ذلك،فلا وجه للتّفاخر بالنّسب.

و جوّز أن يكون المراد هنا إنّا خلقنا كلّ واحد منكم من أب و أمّ.و يبعده عدم ظهور ترتّب ذمّ التّفاخر بالنّسب عليه،و الكلام مساق له كما ينبئ عنه ما بعد.

و قيل:هو تقرير للأخوّة المانعة عن الاغتياب و عدم ظهور التّرتّب عليه على حاله،مع أنّ ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السّابق،لكن وجه تقريره للأخوّة

ص: 724

ظاهر.(26:162)

الطّباطبائيّ: ذكر المفسّرون أنّ الآية مسوقة لنفي التّفاخر بالأنساب،و عليه فالمراد بقوله: مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى آدم و حوّاء،و المعنى:أنّا خلقناكم من أب و أمّ تشتركون جميعا فيهما من غير فرق بين الأبيض و الأسود و العربيّ و العجميّ،و جعلناكم شعوبا و قبائل مختلفة لا لكرامة بعضكم على بعض،بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا،و يتمّ بذلك أمر اجتماعكم،فيستقيم مواصلاتكم و معاملاتكم.فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع و بادت الإنسانيّة؛ فهذا هو الغرض من جعل الشّعوب و القبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتباهوا بالآباء و الأمّهات.

و قيل:المراد ب«الذّكر و الأنثى»مطلق الرّجل و المرأة،و الآية مسوقة لإلغاء مطلق التّفاضل بالطّبقات، كالأبيض و الأسود و العرب و العجم و الغنيّ و الفقير و المولى و العبد و الرّجل و المرأة.و المعنى:يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من رجل و امرأة،فكلّ واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة،و الاختلاف الحاصل بالشّعوب و القبائل-و هو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهيّ-ليس لكرامة و فضيلة،و إنّما هو لأن تتعارفوا فيتمّ بذلك اجتماعكم.

و اعترض عليه بأنّ الآية مسوقة لنفي التّفاخر بالأنساب و ذمّه،كما يدلّ عليه قوله: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا، و ترتّب هذا الغرض على هذا الوجه غير ظاهر،و يمكن أن يناقش فيه أنّ الاختلاف في الأنساب من مصاديق الاختلاف الطّبقاتيّ،و بناء هذا الوجه على كون الآية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطّبقاتيّ،و كما يمكن نفي التّفاخر بالأنساب و ذمّه استنادا إلى أنّ الأنساب تنتهي إلى آدم و حوّاء،و النّاس جميعا مشتركون فيهما،كذلك يمكن نفيه و ذمّه استنادا إلى أنّ كلّ إنسان مولود من إنسانين.

و الحقّ أنّ قوله: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ إن كان ظاهرا في ذمّ التّفاخر بالأنساب فأوّل الوجهين أوجه،و إلاّ فالثّاني لكونه أعمّ و أشمل.(18:326)

6- أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى. النّجم:21

راجع«ذ ك ر الذّكر».

7- إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى. النّجم:27

مجاهد :الإناث.(الطّبريّ 27:63)

الحسن :كانوا يسمّون الملائكة بنات اللّه.

(الطّوسيّ 9:430)

الطّبريّ: ليسمّون ملائكة اللّه تسمية الإناث؛ و ذلك أنّهم كانوا يقولون:هم بنات اللّه.(27:63)

الزّمخشريّ: لأنّهم إذا قالوا:الملائكة بنات اللّه فقد سمّوا كلّ واحد منهم بنتا،و هي تسمية الأنثى.

(4:32)

نحوه الطّبرسيّ.(5:177)

البروسويّ: منصوب على أنّه صفة مصدر محذوف، أي تسمية مثل تسمية الأنثى،فإنّ قولهم:الملائكة بنات اللّه قول منهم بأنّ كلاّ منهم بنته سبحانه،و هي التّسمية بالأنثى.(9:237)

ص: 725

الآلوسيّ: إنّهم كانوا يقولون:الملائكة بنات اللّه -سبحانه و تعالى عمّا يقولون-و الملائكة في معنى استغراق المفرد،فيكون التّقدير:ليسمّون كلّ واحد من الملائكة تسمية الأنثى،أي يسمّونه بنتا،لأنّهم إذا قالوا ذلك فقد جعلوا كلّ واحد منهم بنتا،فالكلام على وزان:

كسانا الأمير حلّة،أي كسا كلّ واحد منّا حلّة.و الإفراد لعدم اللّبس،و لذا لم يقل:تسمية الإناث،فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث،و لا إلى كون المراد الطّائفة الأنثى.

و ما ذكر أوّلا قيل:مبنيّ على أنّ تسمية الأنثى في النّظم الجليل ليس نصبا على التّشبيه و إلاّ فلا حاجة إليه أيضا،و في تعليق التّسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنّها في الشّناعة و الفظاعة و استتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلاّ من لا يؤمن بها رأسا.

(27:59)

الطّباطبائيّ: المراد بتسميتهم الملائكة تسمية الأنثى قولهم:إنّ الملائكة بنات اللّه،فالمراد ب(الأنثى) الجنس،أعمّ من الواحد و الكثير.(19:40)

8- وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى. الليل:3

ابن عبّاس: المراد ب(الذّكر)آدم عليه السّلام،و ب(الأنثى) حوّاء رضي اللّه تعالى عنها.

مثله الحسن و الكلبيّ.(الآلوسيّ 30:147)و مقاتل.

(الطّبرسيّ 5:501)

الطّبرسيّ: قيل:أراد كلّ ذكر و أنثى من النّاس و غيرهم.(5:501)

القرطبيّ:في المراد ب(الذّكر و الانثى)قولان:

أحدهما:آدم و حوّاء،قاله ابن عبّاس و الحسن و الكلبيّ.

الثّاني:يعني جميع الذّكور و الإناث من بني آدم و البهائم،لأنّ اللّه تعالى خلق جميعهم من ذكر و أنثى من نوعهم.

و قيل:كلّ ذكر و أنثى من الآدميّين دون البهائم، لاختصاصهم بولاية اللّه و طاعته.(20:82)

الطّباطبائيّ: المراد ب(الذّكر و الانثى)مطلق الذّكر و الأنثى،أينما تحقّقا.

و قيل:الذّكر و الأنثى من الإنسان.

و قيل:المراد بهما آدم و زوجته حوّاء.

و أوجه الوجوه أوّلها.(20:302)

اناثا

1- إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً... النّساء:117

ابن عبّاس: ميّتا.(الطّبريّ 5:279)

كان لكلّ حيّ صنم يعبدونه،و يقولون:أنثى بني فلان.

مثله الحسن.(القرطبيّ 5:387)

مجاهد :أوثانا.(الطّبريّ 5:280)

إلاّ أوثانا،و كانوا يسمّون الأوثان باسم الإناث:

اللاّت و العزّى و مناة الثّالثة الأخرى و أساف و نائلة.

مثله أبو مالك و السّدّيّ و ابن زيد.

(الطّبرسيّ 2:122)

الضّحّاك: إلاّ ملائكة،لأنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه،و كانوا يعبدون الملائكة.

(الطّبرسيّ 2:112)

ص: 726

الملائكة بنات اللّه،و هي شفعاؤنا عند اللّه.

(القرطبيّ 5:387)

الحسن :الإناث:كلّ شيء ميّت ليس فيه روح، خشبة يابسة،أو حجر يابس.

كان لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم،يسمّونها أنثى بني فلان.(الطّبريّ 5:279)

قتادة :إلاّ ميّتا لا روح فيه.(الطّبريّ 5:279)

أبو حمزة الثّماليّ: كان في كلّ واحدة منهنّ شيطانة أنثى تتراءى للسّدنة و تكلّمهم،و ذلك من صنع إبليس،و هو الشّيطان الّذي ذكره اللّه فقال: لَعَنَهُ اللّهُ النّساء:118.(الطّبرسيّ 2:112)

ابن زيد :آلهتهم:اللاّت،و العزّى،و يساف،و نائلة، هم إناث يدعونهم من دون اللّه.(الطّبريّ 5:279)

الفرّاء: اللاّت و العزّى و أشباههما من الآلهة المؤنّثة.(1:288)

أبو عبيدة :إلاّ الموات،حجرا أو مدرا،أو ما أشبه ذلك.(1:140)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم:معنى ذلك:إن يدعون من دونه إلاّ اللاّت و العزّى و مناة.فسمّاهنّ اللّه إناثا،بتسمية المشركين إيّاهنّ بتسمية الإناث.

قال آخرون:معنى ذلك:إن يدعون من دونه إلاّ مواتا لا روح فيه.

و قال آخرون:عنى بذلك:أنّ المشركين كانوا يقولون:إنّ الملائكة بنات اللّه.

و قال آخرون:معنى ذلك أنّ أهل الأوثان كانوا يسمّون أوثانهم إناثا،فأنزل اللّه ذلك كذلك.

و قال آخرون:الإناث في هذا الموضع:الأوثان.

روي عن ابن عبّاس أنّه كان يقرؤها(إن يدعون من دونه إلاّ أثنا)بمعنى جمع«وثن»فكأنّه جمع وثنا «وثنا»،ثمّ قلب الواو همزة مضمومة،كما قيل:ما أحسن هذه الأجوه،بمعنى الوجوه،و كما قيل: وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ المرسلات:11،بمعنى وقّتت.و ذكر عن بعضهم أنّه كان يقرأ ذلك (إن يدعون من دونه إلاّ أنثا) كأنّه أراد جمع الإناث،فجمعها أنثا،كما تجمع الثّمار ثمرا.

و القراءة الّتي لا أستجيز القراءة بغيرها،قراءة من قرأ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً بمعنى جمع أنثى، لأنّها كذلك في مصاحف المسلمين،و لإجماع الحجّة على قراءة ذلك كذلك.

و أولى التّأويلات الّتي ذكرت بتأويل ذلك،إذ كان الصّواب عندنا من القراءة ما وصفت:تأويل من قال:

عنى بذلك الآلهة الّتي كان مشركو العرب يعبدونها من دون اللّه،و يسمّونها بالإناث من الأسماء:كاللاّت و العزّى و نائلة و مناة،و ما أشبه ذلك.

و إنّما قلنا:ذلك أولى بتأويل الآية،لأنّ الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرف بالتّأنيث،دون غيره،فإذ كان ذلك كذلك،فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه؛و إذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية:

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً... إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً

ص: 727

النّساء:115-117،يقول:ما يدعوا الّذين يشاقّون الرّسول و يتّبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون اللّه بعد اللّه و سواه إلاّ إناثا،يعني إلاّ ما سمّوه بأسماء الإناث، كاللاّت و العزّى،و ما أشبه ذلك.

يقول جلّ ثناؤه:فحسب هؤلاء الّذين أشركوا باللّه، و عبدوا ما عبدوا من دونه،من الأوثان و الأنداد،حجّة عليهم في ضلالتهم و كفرهم،و ذهابهم عن قصد السّبيل، أنّهم يعبدون إناثا،و يدعونها آلهة و أربابا-و الإناث من كلّ شيء أخسّه-فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبوديّة،على علم منهم بخساسته،و يمتنعون من إخلاص العبوديّة،للّذي له ملك كلّ شيء،و بيده الخلق و الأمر.(5:278)

الزّجّاج: إن يدعون تقرأ (إلاّ أنثا) و (إلاّ أثنا) بتقديم الثّاء و تأخيرها،فمن قال:إناث فهو جمع أنثى و إناث، و من قال:أنث فهو جمع إناث،لأنّ إناثا على وزن«مثال» و إناث و أنث مثل مثال و مثل.

و من قال:أثنا فإنّه جمع وثن،و الأصل«وثن»إلاّ أنّ الواو إذا انضمّت يجوز إبدالها همزة،كقوله تعالى: وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ المرسلات:11،الأصل«وقّتت»،و مثال «وثن»في الجمع مثل سقف.

و جائز أن يكون«أثن»مثل أسد و أسد،و جائز أن يكون أثن أصلها«أثن»فأتبعت الضّمّة الضّمّة.

(2:108)

المغربيّ:معناه ضعافا عاجزين لا قدرة لهم.

(الطّوسيّ 3:331)

الطّبرسيّ: فيه أقوال:

أحدها:[قول مجاهد و أبي حمزة الثّماليّ و قد تقدّم]

ثانيها:إنّ المعنى إلاّ أمواتا،عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة.فعلى هذا يكون تقديره:ما يعبدون من دون اللّه إلاّ جمادا و أمواتا لا تعقل و لا تنطق و لا تضرّ و لا تنفع، فدلّ ذلك على غاية جهلهم و ضلالهم،و سمّاها(إناثا) لاعتقاد مشركي العرب الأنوثة في كلّ ما اتّضعت منزلته، و لأنّ«الإناث»من كلّ جنس أرذله.

و قال الزّجّاج: لأنّ الموات يخبر عنها بلفظ التّأنيث، تقول:الأحجار تعجبني و لا تقول:يعجبونني،و يجوز أن يكون(اناثا)سمّاها لضعفها و قلّة خيرها و عدم نصرها.

ثالثها:[قول الضّحّاك و قد تقدّم](2:112)

البروسويّ: (اناثا)جمع أنثى،و المراد الأوثان.

و سمّيت أصنامهم(اناثا)لأنّهم كانوا يصوّرونها بصورة الإناث،و يلبسونها أنواع الحلل الّتي تتزيّن بها النّساء، و يسمّونها غالبا بأسماء المؤنّثات نحو اللاّت و العزّى و مناة،و الشّيء قد يسمّى أنثى لتأنيث اسمه،أو لأنّها كانت جمادات لا أرواح فيها.و الجماد يدعى أنثى تشبيها له بها من حيث إنّه منفعل غير فاعل.

و لعلّه تعالى ذكره بهذا الاسم تنبيها على أنّهم يعبدون ما يسمّونه إناثا،لأنّه ينفعل و لا يفعل،و من حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل،ليكون دليلا على تناهي جهلهم،و فرط حماقتهم.(2:286)

الآلوسيّ:أي ما يعبدون،أو ما ينادون لحوائجهم من دون اللّه تعالى إلاّ أصناما.و الجملة مبيّنة لوجه ما قبلها،و لذا لم تعطف عليه.

و عبّر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنّه

ص: 728

كان لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونه و يسمّونه:

أنثى بني فلان،لأنّهم يجعلون عليه الحليّ و أنواع الزّينة كما يفعلون بالنّسوان،أو لما أنّ أسماءها مؤنّثة-كما قيل- و هم يسمّون ما اسمه مؤنّث أنثى.

و اعترض بأنّ من الأصنام ما اسمه مذكّر،كهبل و ودّ و سواع و ذي الخلصة،و كون ذلك باعتبار الغالب غير مسلّم.

و قيل:إنّها جمادات،و هي كثيرا ما تؤنّث لمضاهاتها الإناث لانفعالها.ففي التّعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم و فرط حماقتهم؛حيث يدعون ما ينفعل و يدعون الفعّال لما يريد.

و قيل:المراد بالإناث:الأموات.فقد أخرج ابن جرير و غيره عن الحسن أنّ«الأنثى»كلّ ميّت ليس فيه روح،مثل الخشبة اليابسة و الحجر اليابس،ففي التّعبير بذلك دون أصناما التّنبيه السّابق أيضا،إلاّ أنّ الظّاهر أنّ وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز.[إلى أن قال:]

و قرئ (إلاّ أنثى) على التّوحيد و (إلاّ أنثى) بضمّتين كرسل،و هو إمّا صفة مفردة مثل:امرأة جنب.و إمّا جمع أنيث كقليب و قلب-و قد جاء:حديد أنيث-و إمّا جمع إناث كثمار و ثمر.

و قرئ(وثنا)و(أثنا)بالتّخفيف و التّثقيل.و تقديم الثّاء على النّون جمع«وثن»،كقولك:أسد و أسد،و أسد و وسد،و قلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.(5:148)

رشيد رضا :أي إنّهم لا يدعون من دون اللّه لقضاء حاجتهم و تفريج كروبهم(إلاّ اناثا)كاللاّت و العزّى و مناة.و كان لكلّ قبيلة صنم يسمّونه:أنثى بني فلان،أو المراد أسماء معبودات و آلهة ليس لها من حقيقة معنى الألوهيّة شيء،كما قال في سورة أخرى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يوسف:40،أي أسماء مؤنّثة في الغالب، أو المراد معبودات ضعيفة أو عاجزة كالإناث لا تدافع عدوّا و لا تدرك ثأرا،كما وصفها في موضع آخر بأنّها لا تملك لهم ضرّا و لا نفعا.

و كانت العرب تصف الضّعيف بالأنوثة لما ذكرنا من ضعف المرأة بل ضعف جميع إناث الحيوان عن الذّكور، حتّى قالوا للحديد اللّيّن:أنيث.

و رجّح الرّاغب و غيره:أنّ وجه تسمية معبوداتهم (اناثا)هو كونها جمادات منفعلة لا فعل لها،كالحيوان الّذي هو فاعل منفعل كما وصفت في غير هذا الموضع، بكونها لا تسمع و لا تبصر،و ليس لها أيد تبطش بها، و لا أرجل تمشي بها.كأنّه يذكّرهم بهذا النّوع من الأدلّة على بطلان ألوهيّتها،بما ارتكبوه من العار و الخزي بعبادة ما كان هذا وصفه.

و قد استبعد الأستاذ الإمام تفسير«الإناث» بالأصنام المذكورة،كما استبعد تفسيره بالملائكة،لأنّهم سمّوهم بنات اللّه.و قال:إنّ كثيرا من المفسّرين قالوا:إنّ المراد ب«الإناث»هنا الموتى،لأنّ العرب تطلق عليهم لفظ الإناث لضعفهم،أو يقال:لعجزهم.و مع ذلك كانوا يعظّمون بعض الموتى و يدعونها،كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب و مسلمي هذه القرون.و هذا هو الّذي اختاره الأستاذ.(5:424)

الطّباطبائيّ:«الإناث»جمع أنثى،يقال:أنث

ص: 729

الحديد أنثا،أي انفعل و لان،و أنث المكان:أسرع في الإنبات و جاد.ففيه معنى الانفعال و التّأثّر،و بذلك سمّيت الأنثى من الحيوان أنثى.

و قد سمّيت الأصنام و كلّ معبود من دون اللّه إناثا، لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا ممّا يتوقّعه عبّادها منها-كما قيل-قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ* ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الحجّ:73،74،و قال: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً الفرقان:3.

فالظّاهر أنّ المراد بالأنوثة:الانفعال المحض الّذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق عزّ اسمه،و هذا الوجه أولى ممّا قيل:إنّ المراد هو اللاّت و العزّى و مناة الثّالثة و نحوها.و قد كان لكلّ حيّ صنم يسمّونه:أنثى بني فلان، إمّا لتأنيث أسمائها أو لأنّها كانت جمادات،و الجمادات تؤنّث في اللّفظ.

و وجه الأولويّة أنّ ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً كثير ملاءمة، و بين من يدعى من دون اللّه من هو ذكر غير أنثى، كعيسى المسيح و برهما و بوذا.(5:83)

2- ..يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً...

الشّورى:49،50

مجاهد :هو أن تلد المرأة غلاما ثمّ جارية ثمّ غلاما ثمّ جارية.(الطّبرسيّ 5:35)

ابن الحنفيّة: هو أن يجمع في الرّحم الذّكر و الأنثى.

(الطّبرسيّ 5:36)

الإمام الباقر عليه السّلام: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني ليس معهنّ ذكر وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يعني ليس معهم أنثى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً أي يهب لمن يشاء ذكرانا و إناثا جميعا،يجمع له البنين و البنات،أى يهبهم جميعا لواحد.(الكاشانيّ 4:381)

نحوه قتادة و السّدّيّ(الطّبريّ 25:44)،و الطّوسيّ (9:174).

ابن زيد :هو أن تلد توأما ذكرا و أنثى،أو ذكرا و ذكرا،أو أنثى و أنثى.(الطّبرسيّ 5:35)

الطّبريّ: يهب لمن يشاء من خلقه من الولد الإناث دون الذّكور،بأن يجعل كلّ ما حملت زوجته من حمل منه أنثى.و يهب لمن يشاء منهم الذّكور،بأن يجعل كلّ حمل حملته امرأته ذكرا لا أنثى فيهم.(25:44)

الميبدي:يهب لمن يشاء الدّنيا و يهب لمن يشاء الآخرة.(9:43)

الزّمخشريّ: إن قلت:لم قدّم الإناث أوّلا على الذّكور مع تقدّمهم عليهنّ ثمّ رجع فقدّمهم؟و لم عرّف الذّكور بعد ما نكّر الإناث؟

قلت:لأنّه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى،و كفران الإنسان بنسيانه الرّحمة السّابقة عنده،ثمّ عقّبه بذكر ملكه و مشيئته.و ذكر قسمة الأولاد فقدّم الإناث،لأنّ

ص: 730

سياق الكلام أنّه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاّتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهمّ، و الأهمّ واجب التّقديم،و ليلي الجنس الّذي كانت العرب تعدّه بلاء.ذكر البلاء و أخّر الذّكور،فلمّا أخّرهم لذلك تدارك تأخيرهم و هم أحقّاء بالتّقدّم بتعريفهم،لأنّ التّعريف تنويه و تشهير،كأنّه قال:و يهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الّذين لا يخفون عليكم،ثمّ أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقّه من التّقديم و التّأخير، و عرّف أنّ تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ و لكن لمقتض آخر، فقال:(ذكرانا و اناثا)،كما قال: إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى الحجرات:13، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى القيمة:39.(3:475)

الطّبرسيّ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً معناه أو يجمع لهم بين البنين و البنات،تقول العرب:زوّجت إبلي، أي جمعت بين صغارها و كبارها.(5:35)

الفخر الرّازيّ: في الآية سؤالات:

السّؤال الأوّل:أنّه قدّم الإناث في الذّكر على الذّكور، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، ثمّ في الآية الثّانية قدّم الذّكور على الإناث،فقال: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً فما السّبب في هذا التّقديم و التّأخير؟

السّؤال الثّاني:أنّه ذكر الإناث على سبيل التّنكير، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً و ذكر الذّكور بلفظ التّعريف،فقال: وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فما السّبب في هذا الفرق؟

السّؤال الثّالث:لم قال في إعطاء الإناث وحدهنّ، و في إعطاء الذّكور وحدهم بلفظ الهبة،فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، و قال في إعطاء الصّنفين معا: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً؟

السّؤال الرّابع:[راجع«ع ق م»عقيما]

السّؤال الخامس:هل المراد من هذا الحكم جمع معيّنون،أو المراد الحكم على الإنسان المطلق؟

و الجواب عن السّؤال الأوّل من وجوه:

الأوّل:أنّ الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير و الرّاحة و السّرور و البهجة،فإذا وهب الولد الأنثى أوّلا ثمّ أعطاه الذّكر بعده فكأنّه نقله من الغمّ إلى الفرح،و هذا غاية الكرم.أمّا إذا أعطى الولد أوّلا ثمّ أعطى الأنثى ثانيا فكأنّه نقله من الفرح إلى الغمّ؛فذكر تعالى هبة الولد الأنثى أوّلا،و ثانيا هبة الولد الذّكر حتّى يكون قد نقله من الغمّ إلى الفرح،فيكون ذلك أليق بالكرم.

الوجه الثّاني:أنّه إذا أعطي الولد الأنثى أوّلا علم أنّه لا اعتراض له على اللّه تعالى فيرضى بذلك،فإذا أعطاه الولد الذّكر بعد ذلك علم أنّ هذه الزّيادة فضل من اللّه تعالى و إحسان إليه،فيزداد شكره و طاعته،و يعلم أنّ ذلك إنّما حصل بمحض الفضل و الكرم.

الوجه الثّالث:قال بعض المذكّرين:الأنثى ضعيفة ناقصة عاجزة،فقدّم ذكرها تنبيها على أنّه كلّما كان العجز و الحاجة أتمّ كانت عناية اللّه به أكثر.

الوجه الرّابع:كأنّه يقال:أيّتها المرأة الضّعيفة العاجزة إنّ أباك و أمّك يكرهان وجودك،فإن كانا قد كرها وجودك فأنا قدّمتك في الذّكر،لتعلمي أنّ المحسن المكرم هو اللّه تعالى،فإذا علمت المرأة ذلك زادت في

ص: 731

الطّاعة و الخدمة و البعد عن موجبات الطّعن و الذّمّ؛فهذه المعاني هي الّتي لأجلها وقع ذكر الإناث مقدّما على ذكر الذّكور.و إنّما قدّم ذكر الذّكور بعد ذلك على ذكر الإناث، لأنّ الذّكر أكمل و أفضل من الأنثى،و الأفضل الأكمل مقدّم على الأخسّ الأرذل.

و الحاصل أنّ النّظر إلى كونه ذكرا أو أنثى يقتضي تقديم ذكر الذّكر على ذكر الأنثى.أمّا العوارض الخارجيّة الّتي ذكرناها فقد أوجبت تقديم ذكر الأنثى على ذكر الذّكر،فلمّا حصل المقتضي للتّقديم و التّأخير في البابين لا جرم قدّم هذا مرّة و قدّم ذلك مرّة أخرى.

و أمّا السّؤال الثّاني-و هو قوله:لم عبّر عن الإناث بلفظ التّنكير و عن الذّكور بلفظ التّعريف؟-فجوابه أنّ المقصود منه التّنبيه على كون الذّكر أفضل من الأنثى.

و أمّا السّؤال الثّالث-و هو قوله:لم قال تعالى في إعطاء الصّنفين أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً؟ -فجوابه أنّ كلّ شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان،و كلّ واحد منهما يقال له:زوج،و الكناية في(يزوّجهم)عائدة على الإناث و الذّكور الّتي في الآية الأولى،و المعنى يقرن الإناث و الذّكور فيجعلهم أزواجا.[إلى أن قال:]

و أمّا السّؤال الخامس:فجوابه قال ابن عبّاس:

يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يريد لوطا و شعيبا عليهما السّلام لم يكن لهما إلاّ البنات، وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يريد إبراهيم عليه السّلام لم يكن إلاّ الذّكور، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً يريد محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم كان له من البنين أربعة:القاسم و الطّاهر و عبد اللّه و إبراهيم،و من البنات أربعة:زينب و رقيّة و أمّ كلثوم و فاطمة.(27:184)

البيضاويّ:المعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة،فيهب لبعض إمّا صنفا واحدا من ذكر أو أنثى أو الصّنفين جميعا،و يعقم آخرين.

و لعلّ تقديم«الإناث»لأنّها أكثر لتكثير النّسل،أو لأنّ مساق الآية للدّلالة على أنّ الواقع ما يتعلّق به مشيئة اللّه لا مشيئة الإنسان،أو لأنّ الكلام في البلاء،و العرب تعدّهنّ بلاء،أو لتطييب قلوب آبائهنّ،أو للمحافظة على الفواصل،و لذلك عرّف الذّكور،أو لجبر التّأخير و تغيير العاطف في الثّالث،لأنّ القسيم المشترك بين القسمين، و لم يحتج إليه الرّابع لإفصاحه بأنّه القسيم المشترك بين الأقسام المتقدّمة.(2:361)

ابن القيّم: بدأ سبحانه بذكر الإناث،فقيل:خيرا لهنّ لأجل استقبال الوالدين لمكانهما،و قيل:-و هو أحسن-إنّما قدّمهنّ لأنّ سياق الكلام أنّه فاعل لما يشاء، لا لما يشاء الأبوان.فإنّ الأبوين لا يريدان إلاّ الذّكور غالبا،و هو سبحانه قد أخبر أنّه يَخْلُقُ ما يَشاءُ فبدأ بذكر الصّنف الّذي يشاؤه،و لا يريده الأبوان.

و عندي وجه آخر:و هو أنّه سبحانه قدّم ما كانت تؤخّره الجاهليّة من أمر البنات،حتّى كأنّ الغرض بيان أنّ هذا النّوع المؤخّر الحقير عندكم مقدّم عندي في الذّكر.

و تأمّل كيف نكّر سبحانه الإناث و عرّف الذّكور، فجبر نقص الأنوثة بالتّقديم،و جبر نقص التّأخير للذّكور بالتّعريف،فإنّ التّعريف تنزيه،كأنّه قال:و يهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الّذين لا يخفون عليكم.

ثمّ لمّا ذكر الصّنفين معا قدّم الذّكور إعطاء لكلّ من

ص: 732

الجنسين حقّه من التّقديم و التّأخير،و اللّه أعلم بما أراد من ذلك.

و المقصود:أنّ التّسخّط بالإناث من أخلاق الجاهليّة الّذين ذمّهم اللّه سبحانه في قوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ... النّحل:58، و قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ الزّخرف:17.(433)

البروسويّ: قدّم الإناث لأنّها أكثر،لتكثير النّسل أو لتطييب قلوب آبائهنّ؛إذ في التّقديم تشريف لهنّ و إيناس بهنّ،و لذلك جعلن من مواهب اللّه تعالى مع ذكر اللاّم الانتفاعيّة،أو لرعاية التّرتيب الواقع أوّلا في الهبة بنوع الإنسان،فإنّه تعالى وهب أوّلا لآدم زوجته حوّاء عليهما السّلام بأنّ ولدها منه و خلقها من قصيراه،و هي أسفل الأضلاع أو آخر ضلع في الجنب،كما قال في «القاموس».

قال في«الكواشيّ»: و يجوز أنّهنّ قدّمن توبيخا لمن كان يئدهنّ،و نكّرن إيماء إلى ضعفهنّ،ليرحمن فيحسن إليهنّ.

قال في«الشّرعة و شرحه»:و يزداد فرحا بالبنات مخالفة لأهل الجاهليّة،فإنّهم يكرهونها؛بحيث يدفنونها في التّراب في حال حياتها.(8:342)

الآلوسيّ: قدّمت الإناث و أخّرت الذّكور كأنّه قيل:يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسيّ ما لا يهواه،و يهب لمن يشاء منهم ما يهواه.فقد كانت العرب تعدّ الإناث بلاء: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ النّحل:58،و لو قدّم المؤخّر لاختلّ النّظم.و ليس التّقديم لمجرّد رعاية مناسبة القرب من البلاء،ليعارض بأنّ الآية السّابقة ذكرت الرّحمة فيها مقدّمة عليه،فناسب ذلك تقديم الذّكور على الإناث.

و في تعريف الذّكور مع ما فيه من الاستدراك لقضيّة التّأخير التّنبيه على أنّه المعروف الحاضر في قلوبهم أوّل كلّ خاطر،و أنّه الّذي عقدوا عليه مناهم.و لمّا قضى الوطر من هذا الأسلوب،قيل: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي الأولاد ذُكْراناً وَ إِناثاً أي يخلق ما يهبهم زوجا،لأنّ «التّزويج»جعل الشّيء زوجا،ف ذُكْراناً وَ إِناثاً حال من الضّمير.

و الواو قيل:للمعيّة،لأنّ حقّه التّأخير عن القسمين سياقا و وجودا،فلا تتأتّى المقارنة إلاّ بذلك.و قيل:ذلك لأنّ المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه و يهب لمن يشاء ما يهواه،أو يهب الأمرين معا،لا أنّه سبحانه يجعل من كلّ من الجنسين الذّكور و الإناث على حياله زوجا،و لو لا ذلك لتوهّم ما ذكر فتأمّله.و لتركّبه منهما لم يكرّر فيه حديث المشيئة،و قدّم المقدّم على ما هو عليه في الأصل، و لم يعرف إذ لا وجه له.[ثمّ ذكر نحو البروسويّ]

(25:53)

الطّباطبائيّ: الإناث:جمع أنثى،و الذّكور و الذّكران:جمعا ذكر.و ظاهر التّقابل أنّ المراد هبة الإناث فقط لمن يشاء و هبة الذّكور فقط لمن يشاء،و لذلك كرّرت المشيئة.

قيل:وجه تعريف الذّكور أنّهم المطلوبون لهم، المعهودون في أذهانهم،و خاصّة العرب.(18:68)

عبد الكريم الخطيب :فهذا بعض تصريف اللّه

ص: 733

فيما تتعلّق به نفوس النّاس من حبّ الولد.فبعض النّاس يهبهم اللّه إناثا،و بعضهم يهبهم ذكورا،و بعضهم يهبه الذّكور و الإناث معا: يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً أي يجعلهم أزواجا،ذكرا و أنثى،لا أن يتزوّج بعضهم بعضا.

و قد جاء النّصّ القرآنيّ: ذُكْراناً وَ إِناثاً للإشارة إلى ما يقع في نسبة الذّكور و الإناث من اختلاف،عند من يرزقون الذّكور و الإناث،فقد يرزق الإنسان ذكرا و أنثى، أو ذكرا و عددا من الإناث،أو عددا من الذّكور و أنثى،أو أعدادا متساوية من الذّكور و الإناث.(13:87)

الأنثيين

...قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ. الأنعام:143

الطّوسيّ: إنّما قال(الأنثيين)مثنّى،لأنّه أراد من الضّأن و المعز.(4:325)

الزّمخشريّ: (الأنثيين):الأنثى من الضّأن،و الأنثى من المعز،على طريق الجنسيّة.(2:57)

الطّبرسيّ:ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضّأن و الأنثى من المعز.(2:377)

الوجوه و النّظائر

الدّامغانيّ:«أنث»على ثلاثة أوجه:

1-الإناث:البنات: أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى النّجم:21.

2-الإناث من الأنعام: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ. الأنعام:144.

3-الإناث:الأصنام و الأوثان: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الزّخرف:19، إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً النّساء:117.(48)

الأصول اللّغويّة

1-اختلفوا في أصل هذه المادّة على قولين:الأوّل:

خلاف الذّكر،و هو قول الخليل،و به أخذ الجوهري و ابن فارس و غيرهما.الثّاني:اللّين،و هو قول ابن الأعرابي، و به أخذ آخرون.فالقول الأوّل ناظر إلى الخلقة التّكوينيّة للمرأة باعتبار الفرج،و القول الثّاني ناظر إلى الصّفة الغالبة عليها باعتبار اللّين.

و نرى أنّ القول الثّاني هو الأقرب إلى الصّواب،لأنّ المعاني تعرف بالصّفات غالبا.أ لم تر أنّهم سمّوا المرأة خنثى للينها و تثنّيها،و سمّوا المخنّث بهذا الاسم لنفس السّبب.

و يقولون إذا لان الرّجل في أمره و تراخى:تأنّث و تخنّث.

2-و لا تقتصر صفة الأنثى على الموصوف بها فحسب،بل تسري إلى الاسم أيضا؛إذ أنّ الألف المقصور في وزن«فعلى»يختصّ بالتّأنيث فقط،كخنثى و حبلى و كبرى و صغرى.

و أمّا ثاء الأنثى فيكاد يدخل في بناء أغلب المعاني الّتي تخصّ الأنثى في اللّغة،كاللّين و التّثنّي و التّكسّر الّذي هو أصل هذه المادّة،كما قرّرناه-مثلا-للأرض السّهلة اللّيّنة:بثنة،و بها و بمصغّرها سمّيت المرأة.و يقال للفراش اللّين:وثير،و للمكان السّهل:وعث،و للأنثى الضّخمة

ص: 734

الرّخوة:ثدمة،و للمسترخي المتثنّي:مخنّث.

و كذا يدخل في سائر المعاني كالطّمث و الثّدي و الثّكلى و الخوثاء،و هي المرأة الحدثة النّاعمة.و في ما يصدق عليها كالإقامة،لأنّ المرأة تميل بطبيعتها إلى السّكون و الرّكون،فيقال من(ل ث ث):لثّ بالمكان:

أقام،و من(ل ب ث):لبث بالمكان:أقام،و من(ث و ي):

ثوى في المكان:أقام،و من(ث ك م):ثكم بالمكان:أقام، و من(م ك ث):مكث بالمكان:أقام،و من(ج ث م):جثم فلان:تلبّد بالأرض،و من(ث ب ت):ثبت في المكان:

أقام.و هكذا في سائر المعاني كالكثرة و الانتشار و الفساد و غيرها،و هي كثيرة جدّا.

3-و ينتقل اللّين إلى لفظ الأنثى أيضا،ليشمل العوامل الثّلاثة في تكوين الكلمة:اللّفظ،و الخطّ،و المعنى.

ففي الأنثى ألفان،و كلاهما حرفان جوفيّان،و نون و هو حرف ذولقيّ،و ثاء و هو من الحروف اللّثويّة،نسبة إلى اللّثة،و يطلق عليها الثّاهة أيضا،و كلاهما مؤنّثتان.

فهذا اللّفظ طوع اللّسان إذا ما قورن بلفظ الذّكر الّذي يلقي على اللّسان جشمه.و خفّة اللّفظ أو ثقله -طبق نظريّة ابن جنّيّ-تنعكس على معناه،فكلّما كان اللّفظ سلسا و ليّنا كان معناه ضعيفا واهيا،و كلّما كان عسرا و مستصعبا كان معناه شريرا معياصا.

4-و هناك تقارب معنويّ بين جذري(أ ن ث)و (ث ن ي)،فكلاهما يعنيان التّثنّي و التّكسّر؛يقال:ثنى الرّجل رجله عن دابّته:ضمّها إلى فخذه فنزل.

و لعلّ(أ ن ث)مقلوب(ث ن ي)،بقلب الياء همزة، لعدم مجيء(ي ن ث)أو(و ن ث)في اللّغة و عدم أصالة الهمزة.

5-و بين(أ ن ث)و(ذ ك ر)تضادّ في المعنى،فالأوّل يعني-كما تقدّم-اللّين و الرّقّة،و الثّاني يعني الخشونة و الغلظة؛إذ يقال لما خشن و غلظ من البقول:ذكور، و أرض مذكار:تنبت ذكور العشب،و هو ما غلظ و خشن، لاحظ«ذ ك ر».

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

1-جاءت الأنثى في القرآن على وجوه:

أ-جنس المرأة في مقابل الرّجل:

1- يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا الحجرات:13

2- وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى

النّجم:45

3- فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى

القيمة:39

4- ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى الليل:3

5 و 6- يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً الشّورى:49،50

7 و 8- وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ

فاطر:11،و فصّلت:47

9- اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ الرّعد:8

10- رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ. آل عمران:36

ص: 735

10- رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ. آل عمران:36

11- وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ النّحل:58

12- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى آل عمران:195

13- وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ النّساء:124

14- وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. المؤمن:40

15- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً النّحل:97

16- يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ النّساء:11

17- وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ النّساء:176

18- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى

البقرة:178

ب-الملائكة أو الأصنام:

19- أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى* وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى* أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى النّجم:19-21

20- إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى النّجم:27

21- أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً الإسراء:40

22- فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ* أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ

الصّافّات:149،150

23- وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ

الزّخرف:19

24- إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً النّساء:117

ج-الأنعام الأربعة:

25 و 26- ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ

الأنعام:143،144

2-إنّ الأنثى جاءت في هذه الآيات مفردة و مثنّاة و جمعا،و تعني في المفرد المرأة أو الملائكة،كما في(1- 20)،و هي أكثرها.

و في التّثنية المرأة،كما في(16)و(17)،أو الأنعام كما في(25)و(26).

و في الجمع المرأة،كما في(5)و(6)،أو الملائكة أو الأصنام كما في(21-24).

و يلاحظ أوّلا:أنّ المرأة قد شاطرت غيرها في جميع الصّيغ،فالملائكة شاطرت المرأة في المفرد و الجمع، و الأنعام شاطرتها في التّثنية فقط.

ص: 736

و ثانيا:يستشعر من هذا أنّ المرأة إنسان كالرّجل تماما،و لها حظّ و سنخيّة لكلّ من الحيوان و الملك من حيث الجسم و الرّوح.

أمّا الملك فيماثلها روحا لا جسما،و الحيوان يماثلها جسما لا روحا،كما أنّ الحيوان يشارك المرأة و الرّجل في كونه زوجا يلد و يولد،بل هذه أبرز صفات الحيوان.

و لهذا لم يطلق عليه لفظ الذّكر و الأنثى إلاّ مثنّى كما في (25)و(26).

و هذا عكس الملك تماما؛حيث لا زوج له و لا ولد.

أمّا صيغة الجمع فتعني الكثرة في المرأة و الملك،و هذا واقع بالفعل فيهما.

و ثالثا:قد وردت الأنثى في الإفراد معرفة و نكرة(9) مرّات لكلّ واحد منهما،و في التّثنية معرفة فقط(6) مرّات،و في الجمع نكرة فقط(6)مرّات أيضا.

فهل يوجد سرّ تحت هذا التّناسق العدديّ الّذي يسمّونه الإعجاز العدديّ،أو هو صدفة ليس فيه مساس ببلاغة القرآن؟و نحن نفضّل الأوّل،فلا بدّ من استكشاف هذا السّرّ.

و رابعا:كلّ ما جاءت الأنثى معرفة فقد أريد بها تعريف الجنس دون الشّخص و دون الاستغراق،كما في (2)و(3)و(4)و(10)و(11)و(16)و(17)و (18)مرّتين.

و كلّ ما جاءت نكرة أريد بها شخص خاصّ مثل «مريم»في وَضَعْتُها أُنْثى، و مثل: خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى لو أريد بهما آدم و حوّاء،كما قيل.أو وقعت في سياق الاستغراق كما في(7-9)و(12-15).أو جاءت جمعا كما في(5)و(6).

3-إنّ القرآن حينما يذكر الأنثى فإنّه يريد بها الجنس الّذي يقابل الذّكر على تفصيل سبق،و حينما يذكر المرأة يريد بها الشّخص الّذي يقابل الرّجل.و من أجل ذلك جاء لفظ الأنثى دون المرأة عند ذكر الخلق في(1-6).

و عند ذكر الحمل في(7-10).

و عند المكافأة على العمل في(11-14).

و عند الميراث و القصاص في(15-17).

و يلاحظ أوّلا:أنّه لم يفرّق في المكافأة و القصاص و الميراث بين الطّفلة و الصّبيّة و المرأة البالغة،كما في الذّكر تماما.

و ثانيا:أنّ آيات الحمل أكثرها تعمّ الإنسان و الحيوان في(7-9)،و إلاّ لأتى بلفظ«المرأة».و أمّا الآية (10)فتختصّ بالمرأة بدلالة السّياق.

و ثالثا:أنّه عند المكافأة ذكر الأنثى مفردا منكّرا و مسبوقا بلفظ الذّكر،و متلوّا في(13-15)بجملة وَ هُوَ مُؤْمِنٌ. و اقترانه بلفظ الذّكر-و هو منكّر-يفيد الإطلاق و العموم و المساواة بين الجنسين،فهو كقول الرّجل:من يأتني أكرمه أحمر كان أم أسود.

و رابعا:ذكر الأنثى عند الميراث(16)و(17)مثنّاة و الذّكر مفردا؛لأنّه لم يصرّح بسهم الذّكر،و إنّما عيّن سهمه بمضاعفة سهم الأنثى،فجعل الأنثى هي المعيار لتعيين الأسهم.و هذا تأكيد على تفضيلها و الاهتمام بشأنها في الميراث.

و خامسا:ذكر الأنثى في الحمل و الوضع مفردة منكّرة في(7-10)من دون ذكر الذّكر؛إذ لا شأن للذّكر

ص: 737

بهما،فالأنثى هي الّتي تتحمّل ثقل الحمل و الوضع و ما لهما من تبعة.و الإفراد و التّنكير فيها لشمولها أنثى الإنسان و الحيوان كما سبق.

و سادسا:إنّ التّثنية و التّعريف في آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ (25)و(26)يفيدان التّخصيص بالحيوان بدلالة السّياق.

و سابعا:أنّ كلاّ من جملتي وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ 7 و 8 آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ... كرّرتا في القرآن مرّتين بسياق واحد و هذا من بلاغة القرآن؛ حيث ساوى في التّعبير بين الحيوان و الإنسان.

و ثامنا:يستشفّ من الآيات أن اشتراك الإنسان و الحيوان في الذّكورة و الأنوثة من ناحية الفرج فقط مع اختلافها في النّوع،أمّا الرّجل و المرأة فمع الاستدراك في الإنسانيّة ربّما يتجاوز اختلافهما في الفرج إلى كثير من خصالهما الجسميّة و الرّوحيّة،لاحظ:«ر ج ل» و«م ر ء».

ص: 738

إنجيل

اشارة

لفظ واحد،12 مرّة:1 مكّيّة،11 مدنيّة

في 6 سور:1 مكّيّة،5 مدنيّة

النّصوص اللّغويّة

الفرّاء: الإنجيل:هو مثل الإكليل و الإخريط،من قولك:هو كريم النّجل،تريد كريم الأصل و الطّبع.و هو من الفعل«إفعيل».(الأزهريّ 11:80)

ابن فضّال: هو من النّجل،و هو من السّعة،يقال:

عين نجلاء و طعنة نجلاء،و كأنّه قد وسع عليهم في الإنجيل ما ضيق على أهل التّوراة،و كلّ محتمل.

(الطّبرسيّ 1:406)

شمر: الإنجيل:كلّ كتاب مكتوب وافر السّطور.

(القرطبيّ 4:6)

ابن قتيبة :الإنجيل:من نجلت الشّيء،إذا أخرجته، و ولد الرّجل:نجله،و إنجيل«إفعيل»من ذلك،كأنّ اللّه أظهر به عافيا من الحقّ دارسا.(36)

نحوه البروسويّ.(9:59)

ابن أبي اليمان :النّجل:الوليد،يقال للرّجل إذا شتم:قبّح اللّه ناجليه،أي والديه.و منه أخذ الإنجيل لأنّه من نجلت الشّيء،إي أخرجته،كأنّه«إفعيل»من ذلك، كأنّ اللّه تعالى أظهر به عافيا من الحقّ دارسا.(617)

نحوه ابن الجوزيّ.(1:349)

الزّجّاج: إنجيل«إفعيل»من النّجل و هو الأصل، هكذا يقول جميع أهل اللّغة في إنجيل.(1:375)

ابن دريد :استنجل الماء،إذا ظهر في الوادي، و يمكن أن يكون اشتقاق«الإنجيل»من هذا.(2:112)

الرّمّانيّ: النّجل:الأصل،فكأنّ الإنجيل أصل من أصول العلم.(الطّبرسيّ 1:406)

نحوه الطّوسيّ(2:391)،و الميبديّ(2:6).

الجوهريّ: الإنجيل كتاب عيسى عليه السّلام،يؤنّث و يذكّر،فمن أنّث أراد الصّحيفة،و من ذكّر أراد الكتاب.

(5:1826)

ابن فارس: يقال:الإنجيل عربيّ،مشتقّ من نجلت

ص: 739

الشّيء:استخرجته،كأنّه أمر أبرز و أظهر بما فيه.

(5:396)

نحوه الفيّوميّ.(2:594)

الثّعلبيّ: الإنجيل،بالسّريانيّة:إنگليون.

(القرطبيّ 4:6)

القيسيّ: الإنجيل«إفعيل»مشتقّ من النّجل و هو الأصل،كأنّه أصل الدّين يرجع إليه،و يؤتمّ به.

(1:231)

الجواليقيّ: الإنجيل:أعجميّ معرّب،و قال بعضهم:إن كان عربيّا فاشتقاقه من النّجل،و هو ظهور الماء على وجه الأرض و اتّساعه.و نجلت الشّيء،إذا استخرجته و أظهرته؛فالإنجيل مستخرج به علوم و حكم.

و قيل:هو«إفعيل»من النّجل،و هو الأصل؛ فالإنجيل أصل لعلوم و حكم.(71)

نحوه السّجستانيّ.(32)

الطّبرسيّ: «الأنجيل»بفتح الهمزة،مثال غير معروف النّظير في كلامهم،لأنّه ليس في كلامهم«أفعيل» بفتح الهمزة،و لو كان أعجميّا لكان فيه ضرب من الحجاج،لكنّه عندهم عربي و هو«إفعيل»من نجل ينجل،إذا أثار و استخرج.و منه نجل الرّجل لولده،لأنّه استخرجهم من صلبه و من بطن امرأته.[ثمّ استشهد بشعر]

و قيل له:إنجيل،لأنّ به يستخرج علم الحلال و الحرام،كما قيل:توراة،و هي«فوعلة»من ورى الزّند، إذا قدح،و أصله:و وراة؛فأبدلت الواو الّتي هي الفاء تاء، كما قالوا:التّجاه و التّخمة و التّكلان و التّراث من:الوجه و الوخامة و الوكل و الوراثة،فهي من ورى الزّند،إذا ظهرت ناره،و ذاك من نجل ينجل،إذا استخرج لما في الكتابين من معرفة الحلال و الحرام،و كما قيل لكتاب نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله:الفرقان،لأنّه فرّق بين الحقّ و الباطل.

فالمعاني كما ترى متعقّبة،و كلّها الإظهار و الإبراز و الفرق بين الأشياء.(1:406)

نحوه الحائريّ.(2:161)

ابو الفتوح :الإنجيل«إفعيل»من النّجل،و هو الخروج.و منه أطلق النّجل على الولد الّذي خرج من بطن أمّه[ثمّ استشهد بشعر]و لذا سمّاه اللّه تعالى إنجيلا لكونه حقّ و شرع قديم أخرجه إليهم.

و قيل:أصله من النّجل،بمعنى سعة العين.يقال:طعنة نجلاء و عين نجلاء،أي واسعة.و سمّي بهذا الاسم،لأنّ اللّه جعله شرعا موسّعا.

و قيل:هو لفظ سريانيّ،أصله:إنگليون.(1:506)

ابن الأثير: في صفة الصّحابة«معه قوم صدورهم أناجيلهم»هي جمع إنجيل،و هو اسم كتاب اللّه المنزّل على عيسى عليه السّلام،و هو اسم عبرانيّ أو سريانيّ،و قيل:

هو عربيّ.

يريد أنّهم يقرءون كتاب اللّه عن ظهر قلوبهم، و يجمعونه في صدورهم حفظا،و كان أهل الكتاب إنّما يقرءون كتبهم من الصّحف،و لا يكاد أحدهم يجمعها حفظا إلاّ القليل.

و في رواية«و أناجيلهم في صدورهم»أي أنّ كتبهم محفوظة فيها.(5:23)

ص: 740

الفخر الرّازيّ: و أمّا الإنجيل ففيه أقوال:

الأوّل:قال الزّجّاج:إنّه«إفعيل»من النّجل،و هو الأصل،يقال:لعن اللّه ناجليه،أي والديه.فسمّي ذلك الكتاب بهذا الاسم،لأنّ الأصل المرجوع إليه في ذلك الدّين.

و الثّاني:قال قوم:الإنجيل مأخوذ من قول العرب:

نجلت الشّيء،إذا استخرجته و أظهرته،و يقال للماء الّذي يخرج من البئر:نجل،و يقال:قد استنجل الوادي،إذا خرج الماء من النّزّ فسمّي الإنجيل إنجيلا،لأنّه تعالى أظهر الحقّ بواسطته.

و الثّالث:قال أبو عمرو الشّيبانيّ:التّناجل:التّنازع، فسمّي ذلك الكتاب بالإنجيل،لأنّ القوم تنازعوا فيه.

و الرّابع:أنّه من النّجل الّذي هو سعة العين.و منه طعنة نجلاء سمّي بذلك،لأنّه سعة و نور و ضياء أخرجه لهم.

و أقول:أمر هؤلاء الأدباء عجيب،كأنّهم أوجبوا في كلّ لفظ أن يكون مأخوذا من شيء آخر،و لو كان كذلك لزم إمّا التّسلسل و إمّا الدّور،و لمّا كانا باطلين وجب الاعتراف بأنّه لا بدّ من ألفاظ موضوعة وضعا أوّلا حتّى يجعل سائر الألفاظ مشتقّة منها،و إذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللّفظ الّذي جعلوه مشتقّا من ذلك الآخر،أن يكون الأصل هو هذا،و الفرع هو ذاك الآخر؟ و من الّذي أخبرهم بأنّ هذا فرع و ذاك أصل،و ربّما كان هذا الّذي يجعلونه فرعا و مشتقّا في غاية الشّهرة،و ذاك الّذي يجعلونه أصلا في غاية الخفاء؟

و أيضا فلو كانت التّوراة إنّما سمّيت توراة لظهورها، و الإنجيل إنّما سمّي إنجيلا لكونه أصلا؛وجب في كلّ ما ظهر أن يسمّى بالتّوراة،فوجب تسمية كلّ الحوادث بالتّوراة، و وجب في كلّ ما كان أصلا لشيء آخر أن يسمّى بالإنجيل،و الطّين أصل الكوز فوجب أن يكون الطّين إنجيلا،و الذّهب أصل الخاتم،و الغزل أصل الثّوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل.

و معلوم أنّه ليس كذلك،ثمّ إنّهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ و أن يتمسّكوا بالوضع،و يقولوا:

العرب خصّصوا هذين اللّفظين بهذين الشّيئين على سبيل الوضع،و إذا كان لا يتمّ المقصود في آخر الأمر إلاّ بالرّجوع إلى وضع اللّغة،فلم لا نتمسّك به في أوّل الأمر و نريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات.

و أيضا فالتّوراة و الإنجيل اسمان أعجميّان:أحدهما بالعبريّة و الآخر بالسّريانيّة،فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقهما على أوزان لغة العرب؟فظهر أنّ الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث،و اللّه أعلم.

(7:171)

نحوه النّيسابوريّ.(3:121)

القرطبيّ: الإنجيل«إفعيل»من النّجل و هو الأصل، و يجمع على أناجيل،و توراة على توار،فالإنجيل أصل لعلوم و حكم.يقال:لعن اللّه ناجليه،يعني والديه،إذ كانا أصله.

و قيل:هو من نجلت الشّيء،إذا استخرجته، فالإنجيل مستخرج به علوم و حكم.و منه سمّي الولد و النّسل نجلا لخروجه.[ثمّ استشهد بشعر]

و النّجل:الماء الّذي يخرج من النّزّ.

ص: 741

و استنجلت الأرض و بها نجال،إذا خرج منها الماء، فسمّي الإنجيل به،لأنّ اللّه تعالى أخرج به دارسا من الحقّ عافيا.

و قيل:هو من النّجل في العين-بالتّحريك-و هو سعتها.و طعنة نجلاء،أي واسعة.[ثمّ استشهد بشعر] فسمّي الإنجيل بذلك،لأنّه أصل أخرجه لهم و وسّعه عليهم،و نورا و ضياء.

و قيل:التّناجل:التّنازع،و سمّي إنجيلا لتنازع النّاس فيه.

و قيل:التّوراة و الإنجيل من اللّغة السّريانيّة.(4:5)

أبو حيّان: قال الزّمخشري:التّوراة و الإنجيل اسمان أعجميّان،و تكلّف اشتقاقهما من الورى و النّجل.و وزنهما بتفعلة و إفعيل إنّما يصحّ بعد كونهما عربيّين،انتهى.

و نقول:إنّهما اسمان عبرانيّان فلا يدخلهما اشتقاق عربيّ بنصّ النّحاة،ثمّ تكلّموا فيهما على تقدير أنّهما عربيّان،فالتّوراة«فوعل»...و الإنجيل«إفعيل»من النّجل و هو الماء الّذي ينزّ من الأرض،أو من النّجل و هو الولد،أو من النّجل و هو الأصل،أقوال.

(النّهر المادّ من البحر 2:378)

البروسويّ: التّوراة و الإنجيل اسمان أعجميّان، الأوّل عبريّ،و الثّاني سريانيّ.(2:3)

الزّبيديّ: اختلف في لفظ الإنجيل،فقيل:اسم عبرانيّ،و قيل:سريانيّ،و قيل:عربيّ،و على الأخير قيل:مشتقّ من النّجل و هو الأصل،أو من نجلت الشّيء، أي أظهرته،أو من نجله،إذا استخرجه،و قيل غير ذلك.

(8:128)

الآلوسيّ: [بعد نقل الأقوال في اشتقاق التّوراة و الإنجيل قال:]

و لا يخفى أنّ أمر الاشتقاق و الوزن على تقدير عربيّة اللّفظين ظاهر،و أمّا على تقدير أنّهما أعجميّان:أوّلهما عبرانيّ،و الآخر سريانيّ-و هو الظّاهر-فلا معنى له على الحقيقة،لأنّ الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجميّة-ممّا لا مجال لإثباته-و من ألفاظ عربيّة-كما سمعت-استنتاج للضّبّ من الحوت،فلم يبق إلاّ أنّه بعد التّعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزّيادة و الأصالة،و فرضوا له أصلا ليتعرّف ذلك،كما أشرنا إليه فيما قبل.

و الاستدلال على عربيّتهما بدخول«اللاّم»لأنّ دخولها في الأعلام العجميّة محلّ نظر،لأنّهم ألزموا بعض الأعلام الأعجميّة«الألف و اللاّم»علامة للتّعريف،كما في الإسكندريّة،فإنّ أبا زكريّا التّبريزيّ قال:إنّه لا يستعمل بدونها مع الاتّفاق على أعجميّته.

و ممّا يؤيّد أعجميّة«الإنجيل»ما روي عن الحسن أنّه قرأه بفتح الهمزة،و«أفعيل»ليس من أبنية العرب.

(3:77)

القاسميّ: و الإنجيل:لفظة يونانيّة،معناها البشرى،أي الخبر الحسن.هذا هو الصّواب،كما نصّ عليه علماء الكتابين في مصنّفاتهم.و قد حاول بعض الأدباء تطبيقهما على أوزان لغة العرب و اشتقاقهما منها، و هو خبط بغير ضبط.(4:749)

النّصوص التّفسيريّة

الإنجيل
اشارة

1- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ. آل عمران:3

ص: 742

1- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ. آل عمران:3

قتادة :هما كتابان أنزلهما اللّه،فيهما بيان من اللّه و عصمة لمن أخذ به و صدّق به و عمل بما فيه.

(الطّبريّ 3:166)

الزّمخشريّ: التّوراة و الإنجيل اسمان أعجميّان، و تكلّف اشتقاقهما من الورى و النّجل،و وزنهما بتفعلة و إفعيل،إنّما يصحّ بعد كونهما عربيّين.

و قرأ الحسن(الأنجيل)بفتح الهمزة،و هو دليل على العجميّة،لأنّ«أفعيل»بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب.(1:410)

نحوه البيضاويّ(1:148)،و النّسفيّ(1:145) و شبّر(1:294)،و الآلوسيّ(6:150).

المدينيّ: أي الأصل،كأنّه جعل أصلا لهم،ليحلّوا حلاله و يحرّموا حرامه.

و قيل:أخذ من نجلت الشّيء أي استخرجته،كأنّه أظهر للخلق بعد دروس الحقّ،و قيل:هو معرّب.

(3:264)

القرطبيّ: و قد يسمّى القرآن إنجيلا أيضا،كما روي في قصّة مناجاة موسى عليه السّلام أنّه قال:«يا ربّ أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمّتي،فقال اللّه تعالى له:تلك أمّة أحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و إنّما أراد بالأناجيل:

القرآن.

و قرأ الحسن(و الأنجيل)بفتح الهمزة،و الباقون بالكسر مثل«الإكليل»،لغتان.و يحتمل أن سمع أن يكون ممّا عرّبته العرب من الأسماء الأعجميّة،و لا مثال له في كلامها.(4:6)

أبو حيّان:قرأ الحسن(و الأنجيل)بفتح الهمزة، و هذا يدلّ على أنّه أعجميّ،لأنّ أفعيلا ليست من أبنية كلام العرب،بخلاف إفعيل فإنّه موجود في أبنيتهم كإخريط و إصليت.(2:378)

رشيد رضا :أمّا لفظ«الإنجيل»فهو يونانيّ الأصل، و معناه البشارة،قيل:و التّعليم الجديد.و هو يطلق عند النّصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل الأربعة، و على ما يسمّونه العهد الجديد،و هو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرّسل،أي الحواريّين،و رسائل بولس و بطرس،و يوحنّا و يعقوب،و رؤيا يوحنّا،أي على المجموع فلا يطلق على شيء ممّا عدا الكتب الأربعة بالانفراد.

و الأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح عليه السّلام،و شيء من تاريخه و تعليمه؛و لهذا سمّيت أناجيل.و ليس لهذه الكتب سند متّصل عند أهلها.

و هم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة.ففي السّنة الّتي كتب فيها الإنجيل الأوّل تسعة أقوال،و في كلّ واحد من الثّلاثة عدّة أقوال أيضا،على أنّهم يقولون:إنّها كتبت في النّصف الثّاني من القرن الأوّل للمسيح،لكن أحد الأقوال في الإنجيل الأوّل أنّه كتب سنة(37)و منها أنّه كتب سنة(64).و من الأقوال في الرّابع أنّه كتب في (98)للميلاد،و منهم من أنكر أنّه من تصنيف يوحنّا، و إنّ خلافهم في سائر كتب العهد الجديد لأقوى و أشدّ.

أمّا الإنجيل في عرف القرآن فهو ما أوحاه اللّه إلى رسوله عيسى بن مريم عليه الصّلاة و السّلام من البشارة بالنّبيّ الّذي يتمّم الشّريعة و الحكم و الأحكام،و هو

ص: 743

ما يدلّ عليه اللفظ.و قد أخبرنا سبحانه و تعالى(في سورة المائدة:14)أنّ النّصارى نسوا حظّا ممّا ذكّروا به كاليهود و هم أجدر بذلك،فإنّ التّوراة كتبت في زمن نزولها،و كان الألوف من النّاس يعملون بها ثمّ فقدت، و الكثير من أحكامها محفوظ معروف.و لا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج إنّ الكتابة لم تكن معروفة في زمن موسى عليه السّلام.

و أمّا كتب النّصارى فلم تعرف و تشتهر إلاّ في القرن الرّابع للمسيح،لأنّ أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود و الرّومان،فلمّا أمنوا باعتناق الملك قسطنطين النّصرانيّة سياسة ظهرت كتبهم،و منها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الّذي هو إنجيله،و كانت كثيرة فتحكّم فيها الرّؤساء حتّى اتّفقوا على هذه الأربعة.

فمن فهم ما قلناه في الفرق بين عرف القرآن و عرف القوم في مفهوم التّوراة و الإنجيل يتبيّن له أنّ ما جاء في القرآن هو الممحّض للحقيقة الّتي أضاعها القوم،و هي ما يفهم من لفظ التّوراة و الإنجيل،و يصحّ أن يعدّ هذا التّمحيص من آيات كون القرآن موحى به من اللّه.و لو لا ذلك لما أمكن ذلك الأمّيّ الّذي لم يقرأ هذه الأسفار و الأناجيل المعروفة و لا تواريخ أهلها أن يعرف أنّهم نسوا حظّا ممّا أوحي إليهم و أوتوا نصيبا منه فقط،بل كان يجاريهم على ما هم عليه،و يقول:الأناجيل لا الإنجيل.

ثمّ إنّ من فهم هذا لا تروّج عنده شبهات القسّيسين الّذين يوهمون عوامّ المسلمين أنّ ما في أيديهم من التّوراة و الأناجيل هي الّتي شهد بصدقها القرآن.

و قال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الجملة:«المتبادر من كلمة(انزل)أنّ التّوراة نزلت على موسى مرّة واحدة و إن كانت مرتّبة في الأسفار المنسوبة إليه فإنّها مع ترتيبها مكرّرة،و القرآن لا يعرف هذه الأسفار و لم ينصّ عليها،و كذلك الإنجيل نزل مرّة واحدة و ليس هو هذه الكتب الّتي يسمّونها الأناجيل،لأنّه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائما،مع أنّها كانت متعدّدة عند النّصارى حينئذ،و حاول بعض المفسّرين بيان اشتقاق التّوراة و الإنجيل من أصل عربيّ و ما هما بعربيّين،و معنى التّوراة -و هي عبريّة-:الشّريعة،و معنى الإنجيل-و هي يونانيّة-:البشارة و إنّما المسيح مبشّر بالنّبيّ الخاتم الّذي يكمل الشّريعة للبشر،و أمّا كونهما هدى للنّاس فهو ظاهر».(3:158)

المراغيّ: الإنجيل:كلمة يونانيّة،معناها التّعليم الجديد أو البشارة،و تطلق عند النّصارى على أربعة كتب تسمّى بالأناجيل الأربعة،و هي كتب مختصرة في سيرة المسيح عليه السّلام،و شيء من تاريخه و تعاليمه.و ليس لها سند متّصل عند أهلها،و هم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة،و كتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرّسل-الحواريّين-و رسائل بولس و بطرس و يوحنّا و يعقوب و رؤيا يوحنّا.

و الإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه اللّه إلى رسوله عيسى عليه السّلام.و منه البشارة بالنّبيّ محمّد،و أنّه هو الّذي يتمّم الشّريعة و الأحكام.(3:93)

نحوه الحجازيّ(3:32)،و محمّد عبد المنعم الجمّال (1:35).

ص: 744

الطّباطبائيّ:الإنجيل:لفظ يونانيّ،و قيل:فارسيّ الأصل،معناه البشارة.

و ممّا أصرّ عليه القرآن تسمية كتاب عيسى عليه السّلام بالإنجيل بصيغة الإفراد،و القول بأنّه نازل من عند اللّه سبحانه،مع أنّ الأناجيل كثيرة،و المعروفة منها،أعني الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن و في عهده،و هي الّتي ينسب تأليفها إلى لوقا و مرقس و متّى و يوحنّا.

و لا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم و التّوصيف بالنّزول عن دلالة على التّحريف و الإسقاط،و كيف كان لا يخلو ذكر التّوراة و الإنجيل في هذه الآية و في أوّل السّورة من التّعريض لليهود و النّصارى على ما سيذكره من أمرهم و قصص تولّد عيسى عليه السّلام و نبوّته و رفعه.

(3:9)

محمّد إسماعيل إبراهيم: معنى الإنجيل البشارة، و الشّواهد متضافرة على أنّ اللّه سبحانه و تعالى أعطى رسوله عيسى بن مريم الإنجيل،و أنّه كتاب تضمّن هداية النّاس،و قد أهاب ببني إسرائيل أن يرجعوا إلى اللّه و يعبدوه.

و يطلق اسم الإنجيل عرفا على تلك القصص الّتي كتبها تلاميذ المسيح و تلاميذهم بعد زمانه بأكثر من نصف قرن بالنّسبة إلى أوّلها وضعا،و هي تروي أحواله و أعماله الّتي وعظ بها،و معجزاته و خوارق العادات الّتي أجراها اللّه على يده و قصّة صلبه من وجهة النّظر المسيحيّة.و تعترف الكنيسة المسيحيّة بأربعة فقط من هذه الأناجيل،و هي إنجيل متّى،و إنجيل مرقس،و إنجيل لوقا،و إنجيل يوحنّا.

و الأناجيل على كثرتها الّتي تبلغ نيّفا و مائة منقطعة السّند،و لا توجد نسخة إنجيل واحدة من المعترف بها بخطّ تلميذ من تلاميذ المسيح.(2:222)

المصطفويّ: تاريخ الكليسا لميلرص(7):و قد سمّيت هذه الأناجيل الأربعة من أوّل الأمر بالإنجيل، و هذه الكلمة مشتقّة من لفظ يونانيّ بمعنى البشارة.و لمّا كان المسيح واحدا فلازم أن يكون الإنجيل أيضا منه واحدا،و الجامع بينها هو البشارة.

قاموس تركيّ للسّاميّ:إنجيل عربيّ،و جمعه أناجيل، و اليوناني rolyerravE (أو إنگليون).

إنجيل لوقا(1:1)إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقّنة عندنا،كما سلّمها إلينا الّذين كانوا منذ البدء معاينين و خدّاما للكلمة.رأيت أنا أيضا،إذ قد تتبّعت كلّ شيء من الأوّل بتدقيق أن أكتب على التّوالي إليك:

إنجيل يوحنّا(21:24)هذا هو التّلميذ الّذي يشهد بهذا و كتب هذا،و نعلم أنّ شهادته حقّ،و أشياء كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة،فلست أظنّ أنّ العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة.

و في(20:30)و آيات أخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب،و أمّا هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو ابن اللّه.

إنجيل مرقس(16:14)أخيرا ظهر للأحد عشر، و هم متّكئون،و وبّخ عدم إيمانهم و قساوة قلوبهم،لأنّهم لم يصدّقوا الّذين نظروه قد قام.

ص: 745

فظهر أنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادّة يونانيّة و هي بمعنى البشارة،باعتبار أنّ هذه الكتب مبشّرة بالنّعيم و السّعادة و الجنّة و الخير و الحياة الطّيّبة في الدّنيا و الآخرة.

و لا يخفى أنّ هذه الأناجيل الأربعة قد ألّفت في أواخر القرن الأوّل أو أوائل الثّاني من رحلة المسيح روح اللّه، و ليست بإنجيل نزل إلى عيسى عليه السّلام من اللّه المتعال،فهي أقدم كتب كتبت في جريان أمر المسيح،و كيفيّة دعوته و حياته و رحلته.

و على هذا فليست منزّلة من السّماء،و ليست حجّة علينا حتّى يجب علينا اتّباعه و الأخذ به،مضافا إلى الاختلافات بينها و تعدّدها.(1:389)

2- وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ. آل عمران:48

قتادة :كان عيسى يقرأ التّوراة و الإنجيل.

(الطّبريّ 3:274)

الطّبريّ: (و الإنجيل)إنجيل عيسى،و لم يكن قبله.

و لكنّ اللّه أخبر مريم قبل خلق عيسى أنّه موحيه إليه.

و إنّما أخبرها بذلك فسمّاه لها،لأنّها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أنّ اللّه باعث نبيّا يوحى إليه كتابا اسمه الإنجيل،فأخبرها اللّه عزّ و جلّ أنّ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الّذي سمعت بصفته،الّذي وعد أنبياءه،من قبل أنّه منزّل عليه الكتاب الّذي يسمّى إنجيلا،هو الولد الّذي وهبه لها، و بشّرها به.(3:274)

الطّوسيّ: و الإنجيل نحو الزّبور أو غيره.

فإن قيل:لم أفرد التّوراة و الإنجيل بالذّكر مع دخولهما في الحكمة؟

قيل:إنّما أفردهما بالذّكر تنبيها على فضلهما مع جلالة موقعهما،كما قال: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ البقرة:98.(2:466)

نحوه الميبديّ(2:122)،و الطّبرسيّ(1:445)، و الكاشانيّ(1:312)،و شبّر(1:322)،و الآلوسيّ(3:

166)،و القاسميّ(4:846)،و الحائريّ(2:200).

الفخر الرّازيّ: إنّما أخّر تعليم التّوراة عن تعليم الخطّ و الحكمة،لأنّ التّوراة كتاب إلهيّ،و فيه أسرار عظيمة،و الإنسان ما لم يتعلّم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلهيّة،ثمّ قال في المرتبة الرّابعة:(و الإنجيل).

و إنّما أخّر ذكر الإنجيل عن ذكر التّوراة،لأنّ من تعلّم الخطّ،ثمّ تعلّم علوم الحقّ،ثمّ أحاط بأسرار الكتاب الّذي أنزله اللّه تعالى على من قبله من الأنبياء،فقد عظمت درجته في العلم،فإذا أنزل اللّه تعالى عليه بعد ذلك كتابا آخر و أوقفه على أسراره،فذلك هو الغاية القصوى و المرتبة العليا في العلم و الفهم و الإحاطة بالأسرار العقليّة و الشّرعيّة،و الاطّلاع على الحكم العلويّة و السّفليّة،فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة.(8:57)

رشيد رضا :(و الإنجيل)هو ما أوحى إليه نفسه.(3:310)

نحوه المراغيّ.(3:153)

الطّباطبائيّ: عطف(التّوراة و الإنجيل)على

ص: 746

(الكتاب و الحكمة)مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة،من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس،لأهمّيّة في اختصاصه بالذّكر.[إلى أن قال:]

و أمّا الإنجيل-و معناه البشارة-فالقرآن يدلّ على أنّه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى عليه السّلام،فهو الوحي المختصّ به،قال تعالى: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ آل عمران:3،4،و أمّا هذه الأناجيل المنسوبة إلى متّى و مرقس و لوقا و يوحنّا فهي كتب مؤلّفة بعده عليه السّلام.

و يدلّ أيضا على أنّ الأحكام إنّما هي في التّوراة و أنّ الإنجيل لا تشتمل إلاّ على بعض النّواسخ،كقوله في هذه الآيات: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ الآية،آل عمران:50،و قوله:

وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ المائدة:46،47،و لا يبعد أن يستفاد من الآية أنّ فيه بعض الأحكام الإثباتيّة.

و يدلّ أيضا على أنّ الإنجيل مشتمل على البشارة بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالتّوراة،قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ الأعراف:157.(3:197)

3- ...وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.

المائدة:46

الطّوسيّ: يعني عيسى أنزلنا عليه الإنجيل(فيه) يعني في الإنجيل(هدى)يعني بيانا،و حجّة،(و نور)سمّاه نورا لما فيه من الاهتداء به،كما يهتدى بالنّور.و(هدى) رفع بالابتداء،و(فيه)خبره قدّم عليه،(و نور)عطف عليه، وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ نصب على الحال.(3:534)

الفخر الرّازيّ: أنّه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة،فقال:«فيه هدى و نور مصدقا لما بين يديه من التوراة و هدى و موعظة للمتقين،»و فيه مباحثات ثلاثة:أحدها:ما الفرق بين هذه الصّفات الخمسة؟

ثانيها:لم ذكر(الهدى)مرّتين؟

ثالثها:لم خصّصه بكونه (مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) ؟

و الجواب عن الأوّل:إنّ الإنجيل هدى،بمعنى أنّه اشتمل على الدّلائل الدّالّة على التّوحيد و التّنزيه، و براءة اللّه تعالى عن الصّاحبة و الولد و المثل و الضّدّ، و على النّبوّة و على المعاد،فهذا هو المراد بكونه(هدى).

و أمّا كونه(نورا)فالمراد به كونه بيانا للأحكام الشّرعيّة و لتفاصيل التّكاليف.

و أمّا كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فيمكن حمله على كونه مبشّرا بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و بمقدمه.

و أمّا كونه(هدى)مرّة أخرى فلأنّ اشتماله على البشارة بمجيء محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم سبب لاهتداء النّاس إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.و لمّا كان أشدّ وجوه المنازعة بين المسلمين و بين اليهود و النّصارى في ذلك لا جرم أعاده اللّه تعالى مرّة أخرى،تنبيها على أنّ الإنجيل يدلّ دلالة ظاهرة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان هدى في هذه المسألة الّتي هي أشدّ المسائل احتياجا إلى البيان و التّقرير.

ص: 747

و أمّا كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النّصائح و المواعظ و الزّواجر البليغة المتأكّدة،و إنّما خصّها بالمتّقين،لأنّهم هم الّذين ينتفعون بها،كما في قوله:

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة:2.(12:9)

4- ...وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ... المائدة:110

الفخر الرّازي: ثمّ ذكر بعد الكتاب التّوراة و الإنجيل،و فيه وجهان:

الأوّل:أنّهما خصّا بالذّكر بعد ذكر(الكتاب)على سبيل التّشريف كقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى البقرة:238 و قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ الأحزاب:7.

و الثّاني:و هو الأقوى:أنّ الاطّلاع على أسرار الكتب الإلهيّة،لا يحصل إلاّ لمن صار بانيا في أصناف العلوم الشّرعيّة و العقليّة الظّاهرة الّتي يبحث عنها العلماء،فقوله:(و التّوراة و الانجيل)إشارة إلى الأسرار الّتي لا يطّلع عليها أحد إلاّ أكابر الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام.(12:125)

5- ...اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ...

الأعراف:157

رشيد رضا :إنّما ذكر(الإنجيل)،و السّياق في قوم موسى،لأنّ المخاطب به بالذّات بنو إسرائيل.و ممّا هو مأثور عن المسيح عليه السّلام في هذه الأناجيل:لم أبعث إلاّ إلى خراف إسرائيل الضّالّة.

و لا يعارضه ما رووا عنه من أمره تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلّها؛إذ يجمع بينهما أن يراد بالخليقة ما كانوا يسمّونه(اليهوديّة).و العبارة الأولى نصّ بصيغة الحصر لا تحتمل التّأويل.[ثمّ ذكر بشارات الإنجيل و غيره في حقّ النّبيّ،فراجع ص 230-300]

(9:226)

التّحقيق حول الإنجيل
اشارة

ابن النّديم: سألت يونس القسّ-و كان فاضلا- عن الكتب الّتي يفسّرونها و يعملون بها ممّا خرج إلى اللّسان العربيّ،فقال:من ذلك كتاب الصّورة،و ينقسم إلى قسمين:الصّورة العتيقة،و الصّورة الحديثة،و زعم أنّ العتيقة هي السّند القديم على مذهب اليهود،و الحديثة على مذهب النّصارى.

قال:و العتيقة تستند على عدد كتب،أوّلها كتاب التّوراة،و هي خمسة أسفار.كتاب محتوى،و يحتوي على عدّة كتب:منها كتاب يوشع بن نون،كتاب الأسباط و هو كتاب القضاة،كتاب شماويل و قضيّة داود،كتاب أخبار بني إسرائيل،كتاب قضيّة رعوث،كتاب سليمان ابن داود في الحكم،كتاب قوهلت،كتاب سير سيرين، كتاب حكمة هو يسع بن سيري.كتاب الأنبياء، و يحتوي على أربعة كتب:كتاب أشعيا النّبيّ عليه السّلام،كتاب أرميا النّبيّ عليه السّلام،كتاب الاثني عشر نبيّا عليهم السّلام،و كتاب حزقيل.

كتاب الصّورة الحديثة،و يحتوي على الأناجيل

ص: 748

الأربعة:كتاب إنجيل متّى،كتاب إنجيل مرقس،كتاب إنجيل لوقا،كتاب إنجيل يوحنّا.كتاب الحواريّين و يعرف بفراكسيس،كتاب بولس السّليح أربعة و عشرون رسالة.

و لهم كتب في الفقه و الأحكام لجماعة منهم،فمن ذلك كتاب سيهودس المغربيّ و المشرقيّ،و كلّ واحد منهما يحتوي على عدّة كتب في الأحكام.

و من حكّامهم في الشّريعة و الفتاويّ ابن بهريز، و اسمه عبد يسوع،و كان أوّل مطران حرّان،ثمّ صار مطران الموصل و حرّة،و له رسائل و كتب،فمن ذلك كتاب المرقس يعقوبيّ يعرف ببادوي،في جواب كتابين وردا منه عليه في الإيمان.و فيهما إبطال وحدانيّة القنوم الّتي يقول بها اليعقوبيّة و الملكيّة.و كان لابن بهريز حكمة قريب من حكمة الإسلام،و قد نقل من كتب المنطق و الفلسفة شيئا كثيرا.

و منهم قينون،و هو أصحّ النّاقلين نقلا و أحسنهم عبارة و لفظا.و ثيادورس،و يوشع بخت،و حزقيل، و طماثاوس،و يوسع بن بد،هؤلاء نقلة و مفسّرون، و نحن نستقصي أخبارهم في مقالة العلوم القديمة.

و من علمائهم:تاوما الرّهاويّ و له رسالة إلى أخته فيما جرى بينه و بين المخالفين بالإسكندريّة،و لاليا مطران دمشق و له كتاب الدّعاء،و أبو عزّة و كان أسقف الملكيّة بحرّان،و له من الكتب كتاب يطعن فيه على أسطورس الرّئيس،و قد نقضه عليه جماعة.(35)

رشيد رضا :حقيقة حكم القرآن في التّوراة و الإنجيل ملخّص هذا الحكم:

أنّ أهل الكتاب من اليهود و النّصارى قد أوتوا نصيبا منه و نسوا نصيبا و حظّا منه،فلم يحفظوه كلّه و لم يضيّعوه كلّه،و أنّهم حرّفوا ما أوتوه عن مواضعه تحريفا لفظيّا و معنويّا،كما يفيده الإطلاق (1)،و أنّهم غلوا في دينهم، فزادوا فيه ما لم يأذن به اللّه،و اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه،يحلّون لهم و يحرّمون عليهم ما لم يشرعه اللّه،و أنّهم قصّروا في إقامته من جهة أخرى، فعملوا بما يوافق أهواءهم منه و تركوا ما يخالفها،كمن يؤمن ببعض الكتاب و يكفر ببعض،و أنّ اليهود قالوا على مريم بهتانا مبينا،و النّصارى غلوا فيها غلوّا عظيما، فقالوا: إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، و قالوا: ثالِثُ ثَلاثَةٍ : وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ المائدة:72،إلخ ما نطقت به الآيات الّتي يجد القارئ في تفسيرنا،هذا تفصيلها مع تفسيرها الحقّ المؤيّد بالتّاريخ الصّحيح، الّذي حقّقه علماء أوربّة و غيرهم بعد الإسلام،المصدّق للقرآن الحكيم في حكمه،الّذي كان مجهولا بتفصيله عند جميع النّاس.

و قد قام في هذه السّنين بعض كبار رجال الدّين في بلاد الإنجليز يكتبون في الجرائد ما قرّروه في جمعيّات الكنائس،من أنّ الإنجيل لا يثبت ألوهيّة المسيح.و قد نشرنا بعض ما اطّلعنا عليه في الجرائد الإنجليزيّة من هذه التّحقيقات،و سننشر غيره في مجلّتنا الإسلاميّة «المنار».).

ص: 749


1- راجع تفسير الآية الثّالثة من السّورة الثّالثة في الجزء الثّالث من التّفسير(ص 159-165)و راجع تفسير الآية:44 من السّورة 4(ص 136 من الجزء الرّابع) و الآية 5 من السّورة 5(ص 282 من الجزء 6).

و قد ثبت عندنا أنّ مستقلّي الفكر من أهل أوربّة بين مؤمن بما جاء به القرآن من حقيقة أمر المسيح،و هو أنّه بشر ممتاز بروح قدسيّة من اللّه و نبيّ له،و لكن أكثرهم لا يعلمون أنّه ممّا جاء به القرآن،و بين كافر به.و أمّا عقيدة الكنيسة بربوبيّته و ألوهيّته فهي محصورة في رجالها و عامّة المقلّدين لهم،و قد أخبرني قسّيس كبير من الكاثوليك-حرّمته الكنيسة و أخرجته من طغمة كهنتها-أنّ كبار علمائها موحّدين كالمسلمين،و لو لا خشية ارتداد العوامّ لصرّحوا بالتّوحيد و بنفي التّثليث، كبعض قسوس البروتستنت.و لا يزال الموحّدون يكثرون في أوربّة و الولايات المتّحدة الأميركائيّة عاما بعد عام،و يقربون من الإيمان بالقرآن.(1:212)

اليهود في دينهم و العمل بكتابهم:

اليهود كسائر الملل يدّعون الإيمان بكتابهم و العمل به،و المحافظة على أحكامه و القيام بما يوجبه،و لكنّ اللّه تعالى علّمنا أنّ من الإيمان-بل ممّا يسمّى في العرف إيمانا- ما لا يعبأ به،فيكون وجوده كعدمه،و هو الإيمان الّذي لا سلطان له على القلب،و لا تأثير له في إصلاح العمل، كما قال: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ البقرة:8.

و كانت اليهود في عهد بعثته عليه الصّلاة و السّلام قد وصلوا في البعد عن جوهر الدّين إلى هذا الحدّ،كانوا -و لا يزالون-يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ،و يجلّون أوراقه و جلده،و لكنّهم ما كانوا يتلونه حقّ تلاوته،لأنّ الّذين يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به،كما قال تعالى،و على الوجه الّذي يرضاه تعالى:يتلون ألفاظه و فيها البشارة بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و يأمرون بالعمل بأحكامه و آدابه من البرّ و التّقوى.

و لكنّ الأحبار القارئين الآمرين النّاهين ما كانوا يبيّنون من الحقّ إلاّ ما يوافق أهواءهم و تقاليدهم،و لا يعملون بما فيه من الأحكام إلاّ إذا لم يعارض حظوظهم و شهواتهم.فقد عهد اللّه إليهم في الكتاب أنّه يقيم من إخوانهم نبيّا يقيم الحقّ،و فرض عليهم الزّكاة،و لكنّهم كانوا يحرّفون البشارة بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و يؤلونها،و يحتالون لمنع الزّكاة فيمنعونها.و جعلت لهم مواسم و احتفالات دينيّة تذكّرهم بما آتى اللّه أنبياءهم من الآيات و ما منحهم من النّعم،لينشطوا إلى إقامة الدّين و العمل بالكتاب.و لكنّ القلوب قست بطول الأمد،ففسقت النّفوس عن أمر ربّها.

و هذه التّوراة الّتي بين أيديهم لا تزال حجّة عليهم، فلو سألتهم عمّا فيها من الأمر بالبرّ و الحثّ على الخير لاعترفوا و ما أنكروا،و لكن أين العمل الّذي يهدي إليه الإيمان،فيكون عليه أقوى حجّة و برهان.(1:295)

بيّن اللّه لنا أنّ النّصارى نسوا حظّا ممّا ذكّروا به كاليهود،و سبب ذلك أنّ المسيح عليه السّلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ و توحيد اللّه و تمجيده و الإرشاد لعبادته، و كان من اتّبعوه من العوامّ،و أمثلهم حواريه و هم من الصّيّادين.و قد اشتدّ اليهود في عداوتهم و مطاردتهم، فلم تكن لهم هيئة اجتماعيّة ذات قوّة،و علم تدوّن ما حفظوه من إنجيل المسيح و تحفظه.

و يظهر من تاريخهم و كتبهم المقدّسة أنّ كثيرا من النّاس كانوا يبثّون بين النّاس في عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح،و منهم من كتب في ذلك،حتّى أنّ الّذين

ص: 750

كتبوا كتبا سمّوها الأناجيل كثيرون جدّا،كما صرّحوا به في كتبهم المقدّسة و تواريخ الكنيسة.و ما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلاّ بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح،عند ما صار للنّصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النّصرانيّة،و إدخاله إيّاها في طور جديد من الوثنيّة.

و هذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، و هي متعارضة متناقضة مجهولة الأصل و التّاريخ،بل وقع الخلاف بينهم في مؤلّفيها و اللّغات الّتي ألّفوها بها.و قد بيّنّا في تفسير أوّل سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح، و كون هذه الكتب لم تحو إلاّ قليلا منه،كما تحتوي السّيرة النّبويّة عندنا على القليل من القرآن و الحديث،و هذا القليل من الإنجيل قد دخله التّناقض و التّحريف.

و قد أورد الشّيخ الهنديّ رحمه اللّه-في كتابه المشهور «إظهار الحقّ»-مائة شاهد من الكتب المقدّسة عند اليهود و النّصارى،على التّحريف اللّفظيّ و المعنويّ فيها، نقلت بعضها على سبيل النّموذج في تفسير آية النّساء:

46،و منها ما عجز مفسّر و التّوراة عن تمحّل الجواب عنه،و جزموا بأنّه ليس ممّا كتبه موسى عليه السّلام،فراجعه في «ص 140 من جزء التّفسير الخامس».

و الظّاهر أنّ التّنكير في قوله:(نصيبا و حظّا)النّساء:

44،و المائدة:13،للتّعظيم،أي أنّ ما نسوه و أضاعوه منه كثير،و ما أوتوه و حفظوه كثير أيضا،فلو كانوا يعملون به ما فسدت حالهم،و لا عظم خزيهم و نكالهم،و هذا هو المعقول في حال عدم حفظ الأصل بنصّه في الصّدور و السّطور.و نحن نجزم بأنّنا نسينا و أضعنا من حديث نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم حظّا عظيما،لعدم كتابة علماء الصّحابة كلّ ما سمعوه.

و لكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدّين، فإنّ جميع أمور الدّين مودعة في القرآن و مبيّنة في السّنّة العمليّة،و ما دوّن من الحديث مزيد هداية و بيان.هذا و إنّ العرب كانت أمّة حفظ،و دوّنوا الحديث في العصر الأوّل،و عنوا بحفظه و ضبط متونه و أسانيده عناية، شاركهم فيها كلّ من دخل في الإسلام،و لم يتّفق مثل ذلك لغير المسلمين من المتقدّمين و المتأخّرين.

لسنا في حاجة إلى تفصيل القول في ضياع حظّ عظيم من كتب اليهود،و في وقوع التّحريف اللّفظيّ و المعنويّ فيما عندهم منها،و في إيراد الشّواهد من هذه الكتب و من التّاريخ الدّينيّ عند أهل الكتاب على ذلك، لأنّه ليس بيننا و بين اليهود مناظرات دينيّة تقتضي ذلك.

و لو لا أنّ النّصارى أقاموا بناء دينهم و كتبهم الّتي يسمّونها«العهد الجديد»على أساس كتب اليهود الّتي يسمّونها«العهد العتيق»لما زدنا في الكلام عن كتب اليهود على ما نثبت به ما وصفها به القرآن العزيز بالإجمال.

و إنّما الحاجة تدفعنا إلى بعض التّفصيل في إثبات نسيان النّصارى،و إضاعتهم حظّا عظيما ممّا جاء به المسيح عليه السّلام،و تحريف الكتب الّتي في أيديهم،لأنّهم أسرفوا في التّعدّي على الإسلام و الطّعن فيه،فكان مثلهم كمثل من بنى بيتا من الزّجاج على شفا جرف من الرّمل، و حاول أن ينصب فيه المدافع ليهدم حصنا حصينا مبنيّا على جبل راسخ أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ التّوبة:109.

ص: 751

و إنّما الحاجة تدفعنا إلى بعض التّفصيل في إثبات نسيان النّصارى،و إضاعتهم حظّا عظيما ممّا جاء به المسيح عليه السّلام،و تحريف الكتب الّتي في أيديهم،لأنّهم أسرفوا في التّعدّي على الإسلام و الطّعن فيه،فكان مثلهم كمثل من بنى بيتا من الزّجاج على شفا جرف من الرّمل، و حاول أن ينصب فيه المدافع ليهدم حصنا حصينا مبنيّا على جبل راسخ أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ التّوبة:109.

و قد قامت مجلّتنا«المنار»بما يجب من هذا البيان، و دفع ما بدأ به دعاة النّصرانيّة من الظّلم و العدوان، و سبق في التّفسير قليل من كثير ما نشر في«المنار» و نذكر هنا بعض المسائل في ذلك بالإيجاز:

فصل في ضياع كثير من الإنجيل،و تحريف

كتب النّصارى المقدّسة:

1-إنّ الكتب الّتي يسمّونها الأناجيل الأربعة تاريخ مختصر للمسيح عليه السّلام،لم يذكر فيها إلاّ شيء قليل من أقواله و أفعاله في أيّام معدودة،بدليل قول يوحنّا في آخر إنجيله:«هذا هو التّلميذ الّذي يشهد بهذا و كتب هذا،و نعلم أنّ شهادته حقّ.و أشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظنّ أنّ العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة،آمين».

هذه العبارة يراد بها المبالغة في بيان أنّ الّذي كتب عن المسيح لا يبلغ عشر معشار تاريخه.و من البديهيّ أنّ تلك الأعمال الكثيرة الّتي لم تكتب وقعت في أزمنة كثيرة،و أنّه تكلّم-في تلك الأزمنة و عند تلك الأعمال- كثيرا،فهذا كلّه قد ضاع و نسي.و حسبنا هذا حجّة عليهم في إثبات قول اللّه تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ المائدة:14،و حجّة على بعض علمائنا الّذين ظنّوا أنّ كتبهم حفظت و تواترت.قال صاحب«ذخيرة الألباب»:«إنّ الإنجيل لا يستغرق كلّ أعمال المسيح و لا يتضمّن كلّ أقواله،كما شهد به القدّيس يوحنّا».

2-الإنجيل في الحقيقة واحد،و هو ما جاء به المسيح عليه السّلام من الهدى و البشارة بخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو ما كان يدور ذكره على ألسنة كتّاب تلك التّواريخ الأربعة و غيرهم،حكاية عن المسيح و عن ألسنتهم أنفسهم.

قال متّى حكاية عنه:«(26:13)الحقّ أقول لكم حيثما يكرز (1)بهذا الإنجيل في كلّ العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها»أي ما فعلته المرأة الّتي سكبت قارورة الطّيب على رأسه.أوجب عليهم أن يخبروا كلّ من يبلّغونهم الإنجيل في عالم اليهوديّة كلّها بما فعلته تلك المرأة،فخبر تلك المرأة ليس من الإنجيل الّذي جاء في كلام المسيح،و قد ذكر في تلك التّواريخ امتثالا لأمره.

و سمّيت تلك التّواريخ أناجيل،لأنّها تتكلّم عن إنجيل المسيح،و تجيء بشيء منه؛و لذلك بدأ مرقس تاريخه بقوله:«بدء إنجيل يسوع المسيح»ثمّ قال حكاية عن المسيح:«(1:15)فتوبوا و آمنوا بالإنجيل».

فالإنجيل الّذي أمر النّاس أن يؤمنوا به ليس هو أحد هذه التّواريخ الأربعة و لا مجموعها،و هو الّذي سمّاه بولس-في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي-الإنجيل المطلق(2:

4)،و إنجيل اللّه(2:8 و 9)،و إنجيل المسيح(3:2).

و الكتاب الإلهيّ يضاف إلى اللّه بمعنى أنّه أوحاه،و إلى النّبيّ بمعنى أنّه أوحي إليه أو جاء به،كما يقال:توراة موسى.

3-كانت الأناجيل في القرون الأولى للمسيح كثيرة جدّا حتّى قيل:إنّها بلغت زهاء سبعين إنجيلا.و قال بعض مؤرّخي الكنيسة:إنّ الأناجيل الكاذبة كانت(35)

ص: 752


1- يبشّر.

إنجيلا.و قد ردّ صاحب كتاب«ذخيرة الألباب».

المارونيّ القول بكثرتها،و قال:إنّ سبب ذلك تسمية الواحد بعدّة أسماء،و قال:إنّ الخمسة و الثّلاثين لا تكاد تبلغ العشرين،و عدّها كلّها،و ذكر أنّ بعضها مكرّر الاسم،و ذكر منها إنجيل القدّيس برنابا.

و ذكر أنّ جاحدي الوحي طعنوا في الأناجيل ثلاثة (1)مطاعن:أنّ الآباء الّذين سبقوا القدّيس يوستينوس الشّهيد لم يذكروا إلاّ أناجيل كاذبة و مدخولة.(2)لا سبيل إلى إظهار أسفار العهد الجديد الّتي خطّها مؤلّفوها.(3)قد فات الجميع معرفة الموضع و العهد اللّذين كتبت فيهما.(4)أنّ كورنتس و كربوكراتوس قد نبذا ظهريّا منذ أوائل الكنيسة إنجيل القدّيس لوقا،و الألوغيّين إنجيل القدّيس يوحنّا.و لم يستطع أن يردّ هذه الاعتراضات ردّا مقبولا عند مستقلّي الكفر.

و قال الدّكتور بوست البروتستانيّ في«قاموس الكتاب المقدّس»:إنّ نقص الأناجيل غير القانونيّة ظاهر،لأنّها مضادّة لروح المخلص و حياته.

و نحن نقول:إنّنا قد اطّلعنا على واحد منها و هو إنجيل برنابا،فوجدناه أكمل من مجموع الأربعة في تقديس اللّه و توحيده،و في الحثّ على الآداب و الفضائل.فإذا كان هذا برهانهم على ردّ تلك الأناجيل الكثيرة و إثبات هذه الأربعة،فهو برهان يثبت صحّة إنجيل برنابا قبل غيره،أو دون غيره.

4-بدء تحريف الإنجيل من القرن الأوّل.قال بولس في رسالته إلى أهل غلاطية:«(1:6)إنّي أتعجّب أنّكم تنتقلون هكذا سريعا عن الّذي دعاكم بنعمة المسيح الى إنجيل آخر،لا ليس هو آخر غير أنّه يوجد قوم يزعجونكم و يريدون أن يحوّلوا إنجيل المسيح».فالمسيح كان له إنجيل واحد،و بيّن بولس أنّه كان في عصره من القرن الأوّل أناس يدعون المسيحيّين إلى إنجيل غيره بالتّحويل،أي التّحريف،كما في التّرجمة القديمة.و في ترجمة الجزويت«يقلبوا»بدل«يحوّلوا»و هي أبلغ في التّحريف و التّبديل.و بيّن بولس أنّ النّاس كانوا ينتقلون سريعا إلى دعاة هذا الإنجيل المحرّف المحوّل عن أصله الّذي جاء به المسيح.

و قد بيّن بولس في رسالته الثّانية إلى أهل كورنثيوس (11:13-15):أنّ هؤلاء القوم الّذين يحرّفون إنجيل المسيح رسل كذبة فعله ماكرون مغيّرون شكلهم إلى رسل المسيح...كما يشتبه الشّيطان بالملائكة؛إذ«يغيّر شكله إلى ملاك نور».

و في الفصل الخامس عشر من سفر الأعمال ما يوضح هذه المسألة،و هو أنّ اليهود كانوا ينبثّون بين المسيحيّين و يعلّمونهم غير ما يعلّمهم رسل المسيح،و أنّ المشايخ و الرّسل أرسلوا برنابا و بولس إلى أنطاكية ليحذّروا أهلها من هؤلاء المعلّمين الكاذبين،و أنّ بولس و برنابا تشاجرا و افترقا هنالك،و هما ما تشاجرا و افترقا إلاّ لاختلافهما في حقيقة تعليم المسيح،فبرنابا يذكر في مقدّمة إنجيله أنّ بولس كان من الّذين خالفوا المسيح في تعليمه،و لا شكّ أنّ برنابا أجدر بالتّقديم و التّصديق من بولس،لأنّه تلقّى عن المسيح مباشرة،و كان بولس عدوّان.

ص: 753


1- يبدو أربعة مطاعن طبق ما جاء في المتن.

للمسيح و المسيحيّين،و لو لا أن قدّمه برنابا للرّسل لما وثقوا بدعواه التّوبة و الإيمان بالمسيح.

و لكنّ النّصارى رفضوا إنجيل برنابا المملوء بتوحيد اللّه و تنزيهه و بالحكمة و الفضيلة،و آثروا عليه رسائل بولس و أناجيل تلاميذه لوقا و مرقس-و كذا يوحنّا كما حقّقه بعض علماء أوربّة-لأنّ تعاليم بولس كانت أقرب إلى عقائد الرّومانيّين الوثنيّة،فكانوا هم الّذين رجّحوها و رفضوا ما عداها؛إذ كانوا هم أصحاب السّلطة الأولى في النّصرانيّة،و هم الّذين كوّنوها بهذا الشّكل.

5-اختلف علماء الكنيسة و علماء التّاريخ في الأناجيل الأربعة الّتي اعتمدوها في القرن الرّابع؛من هم الّذين كتبوها؟و متى كتبوها؟و بأيّ لغة كتبت؟و كيف فقدت نسخها الأصليّة؟كما ترى ذلك مفصّلا في دائرة المعارف الفرنسيّة الكبرى و في غيرها من كتب الدّين و التّاريخ،و هذه كلمات من كتب المدافعين عنها:

قال صاحب كتاب«مرشد الطّالبين إلى الكتاب المقدّس الثّمين»:«إنّ متّى بموجب اعتقاد جمهور المسيحيّين كتب إنجيله قبل مرقس و لوقا و يوحنّا، و مرقس و لوقا كتبا إنجيلهما قبل خراب أورشليم،و لكن لا يمكن الجزم في أيّة سنة كتب كلّ منهم بعد صعود المخلص،لأنّه ليس عندنا نصّ إلهيّ على ذلك».

إنجيل متّى قال صاحب«ذخيرة الألباب»:إنّ القدّيس متّى كتب إنجيله في السّنة(41)للمسيح...باللّغة المتعارفة يومئذ في فلسطين،و هي العبرانيّة أو السّير و كلدانيّة-ثمّ قال-ثمّ ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانيّة،ثمّ تغلّب استعمال التّرجمة على الأصل الّذي لعبت به أيدي النّسّاخ الأيونيّين و مسخته،بحيث أضحى ذلك الأصل هاملا بل فقيدا،و ذلك منذ القرن الحادي عشر.

أقول:يا ليت شعري من هو الّذي ترجم إنجيل متّى باليونانيّة و من عارض هذه التّرجمة على الأصل،قبل أن يعبث به النّسّاخ و يمسخوه؟اللّه أعلم.

ثمّ قال صاحب«الذّخيرة»:يترجّح أنّه كتبه في نفس أورشليم.و قال:إنّما هو رواية جدليّة عن المسيح لا ترجمة حياته.

و قال:إنّ البروتستانت المتأخّرين امتروا و شكّوا في كون الفصلين الأوّلين منه لمتّى.

و قال الدّكتور بوست في«قاموس الكتاب المقدّس»:و اختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل،هل هي العبرانيّة أو السّريانيّة الّتي كانت لغة فلسطين في تلك الأيّام؟و ذهب آخرون إلى أنّه كتب باليونانيّة كما هو الآن.ثمّ تكلّم في شبهة عظيمة على أصل هذا الإنجيل تكلّم فيها صاحب«الذّخيرة»أيضا،و هي أنّ شواهده في العظات من التّرجمة السّبعينيّة للعهد العتيق،و في بقيّة القصّة من التّرجمات العبرانيّة.و أجاب كلّ منهما عن ذلك بما تراءى له،ثمّ رجّح«بوست»أنّه ألّف باليونانيّة خلافا لجمهور رؤساء الكنيسة المتقدّمين؛فثبت بهذا و ذاك أنّه لا علم عندهم بتاريخه و لا لغته،و إن هم إلاّ يظنّون.

ثمّ قال:«و لا بدّ أن يكون هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم-إلى أن قال-و يظنّ البعض إنّ إنجيلنا الحالي كتب بين سنة 60 و سنة 65».و قد علمت أنّ

ص: 754

صاحب«الذّخيرة»زعم أنّه كتب سنة(41)،و إن هي إلاّ ظنون و أوهام يناطح بعضها بعضا.

و أمّا علماء النّصارى الأقدمين فالمأثور عنهم أنّ متّى لم يكتب هذا الإنجيل و إنّما كتب بعض أقوال المسيح باللّغة العبرانيّة،و النّصارى يحتجّون الآن على كون هذه الأناجيل الّتي لا سند لها لفظيّا و لا كتابيّا كانت معروفة في العصور الأولى بأقوال لأولئك العلماء المتقدّمين،هي حجّة عليهم لا لهم،و قد جاء في«المنار»بيان ذلك غير مرّة.

و أقدم شهادة يتناقلونها في ذلك شهادة«باپياس» أسقف هيرابوليس في منتصف القرن الثّاني،فقد نقل عنه «أوسابيوس»المتوفّى سنة(340)ما ترجمته«أنّ متّى كتب مجموعة من الجمل باللّغة العبرانيّة،و قد ترجمها كلّ بحسب طاقته».

و يمتاز إنجيل متّى بأنّ من نسب إليه من تلاميذ المسيح،و بأنّه أقرب إلى التّوحيد و أبعد عن الوثنيّة من سائر الأناجيل.

إنجيل مرقس ذكر صاحب«الذّخيرة»أنّ مرقس كان عبرانيّا ملّة،أي لا نسبا،و أنّه كان تلميذا لبطرس و تبنّاه بطرس،و أنّه اقتبس إنجيله من إنجيل متّى و من خطب بطرس.و أنّ بعض المتأخّرين زعموا أنّه كان يوجد إنجيل سابق لإنجيلي متّى و مرقس أخذا عنه إنجيليهما،و أنّ بعض البرتستانت شكّوا في الأعداد الاثني عشر الأخيرة من الفصل السّادس عشر من هذا الإنجيل،لأسباب منها:أنّه لا ذكر لها في النّسخ الخطّيّة القديمة.

و قال بوست:مرقس لقب يوحنّا،يهوديّ يرجّح أنّه ولد في أورشليم.

قال:و توجّه مرقس مع بولس و برنابا خاله في رحلتهم التّبشيريّة الأولى،غير أنّه فارقهما في«برجه» فصار علّة مشاجرة قويّة بين بولس و برنابا،و بعد ذلك تصالح مع بولس فرافقه إلى«روميّة»،و كان مع بطرس لمّا كتب رسالته الأولى(1 بط 5:13)ثمّ مع تيموثاوس في«افسس»و لا يعرف شيء حقيقيّ عن حياته بعد ذلك.

ثمّ ذكر أنّه كتب إنجيله باليونانيّة،و شرح فيه بعض الكلمات اللاّتينيّة،فاستدلّ بذلك على أنّه كتبه في «روميّة».قال:إنّما المشابهة بين إنجيلي متّى و مرقس حملت بعض النّاس على أن يعتقدوا أنّ الثّاني مختصر الأوّل.

و لم يذكر هذا و لا ذاك تاريخ كتابة هذا الإنجيل.و قد روي عن ايرنياوس أنّه كتبه بعد موت بطرس و بولس، فلم يطّلعا عليه،فكيف نثق بأنّه وعى ما سمعه من بطرس و أدّاه كما سمعه؟هذا إذا صحّت نسبته إليه بسند متّصل، و لن تصحّ.

إنجيل لوقا قال في«الذّخيرة»:إنّ لوقا كان من أنطاكية،و من الشّرّاح من ظنّ أنّه إغريقيّ متهوّد،لأنّه لا يذكر الكتاب المقدّس إلاّ نقلا عن التّرجمة السّبعينيّة.

و منهم من قال:إنّه وثنيّ هاد إلى الحقّ،و ارتدّ إلى الدّين القويم.و قال:«لوقا كان تلميذا و معاونا لبولس».

ثمّ قال ما نصّه:«قد أغفل متّى و مرقس بعض حوادث و أمور تتعلّق بسيرة المسيح،و قام بعض الكتبة و اختلقوا ترجمة مموّهة ليسوع المسيح،و كثيرا ما فاتهم

ص: 755

فيها الرّواية و التّدقيق،فبعث ذلك بلوقا على وضع إنجيله ضنّا بالحقّ،فكتبه باليونانيّة،و جاء كلامه أصحّ و أفصح و أشدّ انسجاما من كلام باقي مؤلّفي العهد الجديد.

و ذهب كثير من المحقّقين إلى أنّه كتب إنجيله في سنة 53 للمسيح،و قيل:بل سنة 51».

ثمّ ذكر الخلاف في المكان الّذي كتبه فيه،و بيّن غرضه منه،فقال في آخره:«و أن يكشف النّقاب عن الأغلاط المدخولة في تراجم حياة المسيح المموّهة-أي الأناجيل الّتي ردّتها الكنيسة بعد-و ينفي كلّ ركون إليها»ثمّ بيّن أنّه كان يحمل إنجيلي متّى و مرقس،و أنّه اقتبس منهما ما وافقهما فيه.ثمّ عقد فصلا لما اعترض به على ما حذفوه و أسقطوه من هذا الإنجيل،لأنّهم رأوه لا يليق بالمسيح أو لعلّة أخرى.

و قال الدّكتور بوست في«قاموسه»:ظنّ بعضهم أنّه -أي لوقا-مولود في أنطاكية إلاّ أنّ ذلك ناتج من اشتباهه بلوكيوس.قال:و من تغيير صيغة الغائب إلى صيغة المتكلّمين في سياق القصّة يستدلّ أنّ لوقا اجتمع مع بولس في«ترواس»(أ ع 16:1)و ذهب معه إلى«فيلبي» في سفره الثّاني،ثمّ اجتمع معه ثانية في«فيلبي»بعد عدّة سنين(أ ع 20:5 و 6)و بقي معه إلى أن أسر و أخذ إلى روميّة(أ ع 28:30)و لم يعلم شيء من حياته بعد ذلك.

فلينظر القارئ كيف يستنبطون تاريخه من أسلوب عبارته الّتي لم تصل إليهم بسند متّصل،لا صحيح و لا ضعيف،كما استدلّوا على كونه إيطاليّا لا فلسطينيّا من كلامه عن القطرين،ذلك بأنّه ليس عندهم نقل يعرفون به شيئا عن مؤسّسي دينهم.

ثمّ قال:و ظنّ البعض أنّ لفظة«إنجيلي»الواردة في (2:تي 2:8)تدلّ على أنّ بولس ألّف إنجيل لوقا و أنّ لوقا لم يكن إلاّ كاتبا.

ثمّ قال:«و قد كتب هذا الإنجيل قبل خراب أورشليم و قبل الأعمال،و يرجّح أنّه كتب في قيصريّة في فلسطين مدّة أسر بولس سنة 58-60 م غير أنّ البعض يظنّون أنّه كتب قبل ذلك»1 ه.

فأنت ترى من التّعبير لفظ التّرجيح و الظّنّ،و من الخلاف بين سنة 51 و 53،كما في الخلاصة،و 58 و 60 كما أنّه لا علم عند القوم بشيء(و إن هم إلاّ يظنّون).

و لعلّ الّذين قالوا:إنّ«بولس»هو الّذي كتب هذا الإنجيل هم المصيبون لمشابهة أسلوبه لأسلوب رسائله باعترافهم.فإن قيل:و ما تفعل بتحريفه؟قلت:هو كتحريفها،و تجد فيه مثل ما تجد فيها من ذكر وضع بعض النّاس لأناجيل كاذبة.و من لنا بدليل يثبت لنا صدقه هو؟و أنّى لنا بتمييز هذه الأناجيل و معرفة صادقها من كاذبها؟

إنجيل يوحنّا تقول النّصارى:إنّ يوحنّا هذا هو تلميذ المسيح ابن زبدي و سالومة،و يقول أحرار المؤرّخين منهم غير ذلك-كما في دائرة المعارف الفرنسيّة-و يرجّح بعضهم أنّه من تلاميذ بولس أيضا.

و ذكر في«الذّخيرة»ثلاثة أقوال في تاريخ كتابته،و هي (64 و 94 و 97)و أنّه كتبه باليونانيّة ليثبت ألوهيّة المسيح،و يسدّ النّقص الّذي في الأناجيل الثّلاثة«إجابة لرغبة أكثر الأساقفة و نوّاب كنائس آسية،و إلحاحهم عليه أن يبقى من بعده ذكرا مخلّدا».

ص: 756

و مفهوم هذا أنّه لو لا هذا الإلحاح لم يكتب ما كتب، و إذا لبقيت أناجيلهم ناقصة و خلوّا من شبهة على عقيدتهم المعقّدة الّتي لا تعقل؛إذ لا توجد الشّبهة عليها إلاّ في هذا الإنجيل الّذي هو أكثر الأناجيل تناقضا، و ناهيك بجمعه بين الوثنيّة و التّوحيد،و قوله عن المسيح:

إنّه إن كان يشهد لنفسه فشهادته حقّ،ثمّ قوله عنه في موضع آخر:إنّه و إن كان يشهد لنفسه فشهادته ليست حقّا،إلى أمثال ذلك.

و قال الدّكتور بوست:و يظنّ أنّه كتب في«أفسس» بين سنة(70 و 95)ثمّ قال في الرّدّ على علماء أوربّة الأحرار ما نصّه:

«و قد أنكر بعض الكفّار قانونيّة هذا الإنجيل، لكراهتهم تعليمه الرّوحي و لا سيّما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح.غير أنّ الشّهادة بصحّته كافية؛فإنّ بطرس يشير إلى آية منه(2 بط 1:14 قابل يو 21:18) و اغناطيوس و بوليكرپس يقتطفان من روحه و فحواه، و كذلك الرّسالة إلى ديوكنيتس و باسيلدس و جوستينس الشّهيد و تانيانس.و هذه الشّواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثّاني؛و بناء على هذه الشّهادة و على نفس كتابته الّذي يوافق ما نعلمه من سيرة يوحنّا نحكم أنّه من قلمه،و إلاّ فكاتبه من المكر و الغشّ على جانب عظيم.و هذا الأمر يعسر تصديقه،لأنّ الّذي يقصد أن يغشّ العالم لا يكون روحيّا و لا يتّصل إلى علوّ و عمق الأفكار و الصّلوات الموجودة فيه.و إذا قابلناه بمؤلّفات الآباء رأينا بينه و بينها بونا عظيما،حتّى نضطرّ للحكم أنّه لم يكن منهم من كان قادرا على تأليف كهذا،بل لم يكن بين التّلاميذ من يقدر عليه إلاّ يوحنّا،و يوحنّا ذاته لا يستطيع تأليفه بدون إلهام من ربّه»اه.

أقول:إنّ من عجائب البشر أن يقول مثل هذا القول أو ينقله معتمدا له عالم طبيب كالدّكتور بوست!فإنّه كلام لا يخفى بطلانه و تهافته على الصّبيان،و لا أعقل له تعليلا إلاّ أن يكون تصنّعا و غشّا لإرضاء عامّة النّصارى، لا لإرضاء اعتقاده و وجدانه،أو يكون التّقليد الدّينيّ من الصّغر قد ران على قلب الكاتب فسلبه عقله و استقلاله و فهمه في كلّ ما يتعلّق بأمر دينه،و إليك البيان بالإيجاز:

إنّ الدّكتور بوست من أعلم الأوربيّين الّذين خدموا دينهم في سوريّة و أوسعهم اطّلاعا،و هو يلخّص في قاموسه هذا أقوى ما بسطه علماء اللاّهوت في إثبات دينهم و كتبهم و ردّ اعتراضات العلماء عليها،فإذا كان هذا منتهى شوطهم في إثبات إنجيل يوحنّا الّذي هو عمدتهم في عقيدة تألّيه المسيح،فما هو الظّنّ بكلام المؤرّخين الأحرار و العلماء المستقلّين في إبطال هذا الإنجيل؟

ابتدأ ردّه على منكري هذا الإنجيل بأنّ بطرس أشار إلى آية منه في رسالته الثّانية؛فهذا أقوى برهان عندهم على كون هذا الإنجيل كتب في العصر الأوّل.

فأوّل ما نقوله في ردّ هذا الدّليل الوهميّ:إنّ رسالة بطرس الثّانية كتبت في بابل سنة(64 و 68)كما قاله صاحب كتاب«مرشد الطّالبين إلى الكتاب المقدّس الثّمين»،و إنجيل يوحنّا كتب سنة(95 أو 98)على ما اعتمده بوست،و صاحب هذا الكتاب و سائر علماء طائفتهم«البروتستانت»فهو قد ألّف بعد كتابة رسالة

ص: 757

بطرس بثلاثين سنة أو أكثر على رأيهم.فإذا وافقها في شيء فأوّل ما يخطر في بال العاقل أنّه نقله عنها و إن ألّف بعدها بعدّة قرون،فكيف يكون ذاك دليلا على صحّته؟ و لو لم يكن في ردّ هذه الشّبهة الواهية إلاّ احتمال نقل المتأخّر و هو مؤلّف إنجيل يوحنّا،عن المتقدّم و هو بطرس لكفى،و هم جازمون بتقدّمه عليه و إن لم يكن عندهم تاريخ صحيح لأحد منهما،بل تاريخ ولادة إلههم و ربّهم الّذي يؤرّخون به كلّ شيء فيه خطأ،كما حقّقه يعقوب باشا أرتين و غيره.

و نقول ثانيا:إنّنا قابلنا بين(2 بط 1:14)و بين(يو 21:18)فلم نجد في كلام بطرس في ذلك العدد إشارة واضحة إلى ما ذكره يوحنّا،فعبارة بطرس الّتي سمّوها شهادة له هي قوله:«عالما أنّ خلع سكني قريب كما أعلن لي ربّنا يسوع المسيح أيضا»،و عبارة يوحنّا المشهود لها هي أنّ المسيح قال لبطرس:«الحقّ الحقّ أقول لك:لمّا كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك و تمشي حيث تشاء،و لكن متى شخت فإنّك تمدّ يدك و آخر يمنطقك و يحملك حيث لا تشاء».

فمعنى عبارة بطرس:أنّه يستبدل مسكنه باختياره و يرحل عن القوم الّذين يكلّمهم».و معنى عبارة المسيح:

«أنّه إذا شاخ و هرم يقوده من يخدمه و يشدّ له منطقته» فإن فرضنا أنّ بطرس كتب هذا بعد يوحنّا لم يكن فيه أدنى شبهة على تصديق يوحنّا في عبارته هذه،فضلا عن تصديقه في كلّ إنجيله؛فما أوهى دينا هذه أسسه و دعائمه!!

ذكّرني هذا الاستدلال نادرة رويت لي عن رجل هرم من صيّادي السّمك-و لا أذكر هذا الوصف تعريضا بتلاميذ المسيح عليه السّلام و عليهم الرّضوان-قال:إنّ رجلا غريبا من الدّراويش علّمه سورة لا يعرفها أحد من خلق اللّه سواهما،إلاّ أنّ خطيب البلد يحفظ منها كلمتين يدلاّن على أصلها.و أوّل هذه السّخافة الّتي سمّاها سورة:الحمد للّه الّذين المدا،عند النّبيّ أشهدا،نبيّنا محمّدا،في الجنان مخلّدا،إجت فاطمة الزّهراء،بنت خديجة الكبرى،آلت لو (1):يا بابتي يا بابتي علّمني كلمتين إلخ.و الكلمتان اللّتان يحفظهما الخطيب منها هما «فاطمة الزّهراء و خديجة الكبرى»(عليهما السّلام)لأنّه كان يقول في دعاء الخطبة الثّانية بعد التّرضي عن الحسن و الحسين:«و ارض اللّهمّ عن أمّهما فاطمة الزّهراء،و عن جدّتهما خديجة الكبرى».

و لا يخفى على القارئ أنّ الاتّفاق بين هذه الأسجاع العامّيّة و خطبة خطيب البلد في تينك الكلمتين أظهر من الاتّفاق بين رسالة بطرس و إنجيل يوحنّا،بل ليس بين هذا الإنجيل و هذه الرّسالة اتّفاق ما فيما زعموه تكلّفا و تحريفا للعبارة عن معناها.

و أمّا استدلاله باقتطاف اغناطيوس و پوليكرپس من روح هذا الإنجيل فهو مثل استدلاله بشهادة بطرس له بل أضعف؛إذ معنى هذا الاقتطاف:أنّه روي عن هذين الرّجلين شيء يتّفق مع بعض معاني هذا الإنجيل، فإذا سلّمنا أنّ هذا صحيح فهو لا يدلّ على أنّ هذا الإنجيل كان معروفا في زمنهما في القرن الثّاني للمسيح،لأنّهما لم يذكراه و لم يعزوا إليه شيئا.و يجوز أن يكون ما اتّفقاه.

ص: 758


1- قالت له.

فيه من المعنى-إن صحّ ذلك و لم يكن كالاتّفاق الّذي ذكروه بينه و بين بطرس-مقتبسا من كتاب آخر كان متداولا في ذلك الزّمان،كما يجوز أن يكون مأخوذا من التّقاليد الموروثة عند بعض شعوبه.

مثال ذلك أنّ يوحنّا انفرد باستعمال لفظ«الكلمة» و القول بألوهيّة«الكلمة»و لم يؤثر هذا عن غيره من مؤلّفي الكتب المقدّسة عندهم،و لا عن أحد من تلاميذ المسيح.و قد بيّنّا في تفسير وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ النّساء:171.إنّ هذه العقيدة و هذا اللّفظ ممّا أثر عن اليونان و البراهمة و البوذيّين و قدماء المصريّين،و بحث فيها أيضا«فيلو»الفيلسوف اليهوديّ المعاصر للمسيح.

فإذا فرضنا أنّ«أغناطيوس»استعمل هذا اللّفظ و ذكر هذه العقيدة في القرن الثّاني،لا يكون هذا دليلا على نقلها عن يوحنّا،و على أنّ إنجيل يوحنّا و رسالته و رؤياه كانت معروفة في القرن الثّاني،لاحتمال أن يكون نقل ذلك عن الأمم الوثنيّة الّتي كانت تدين بهذه العقيدة قبل يوحنّا و قبل المسيح عليه السّلام.و إذا كان الاتّفاق بينهما في المعنى الّذي انفرد به يوحنّا عن غيره لا يدلّ على ما ذكر، فكيف يدلّ عليه الاتّفاق في المعاني الأخرى الّتي لم ينفرد بها يوحنّا؟!

فتبيّن من هذا النّقد الوجيز أنّ ما ذكره بوست و سمّاه كغيره شهادة لإنجيل يوحنّا ليس شهادة،و إن سمّيناه شهادة فلا مندوحة لنا عن القول بأنّها شهادة زور.

و أمّا زعمهم:أنّ كتابة هذا الإنجيل توافق سيرة يوحنّا و لا يقدر عليه غيره،فهو تمويه نقضوه بقولهم:إنّه هو لا يقدر عليه أيضا إلاّ بالإلهام؛إذ كلّ ملهم يقدر بإقدار اللّه الّذي ألهمه،و ليس ليوحنّا عندهم سيرة تثبت أو تنفي.

بقي استدلاله الأخير على صحّة هذا الإنجيل:بأنّه لو لم يكن من قلم يوحنّا لكان الكاتب له على جانب عظيم من المكر و الغشّ.قال:«و هذا الأمر يعسر تصديقه،لأنّ الّذي يقصد أن يغشّ العالم لا يكون روحيّا»إلخ.

فنقول:إنّ هذا الاستدلال ينبئ بسذاجة من اخترعه و نقله و غرارتهم،و ان شئت قلت بغباوتهم أو قصدهم مخادعة النّاس،و بطلانه بديهيّ،فإنّ الكاتب للمعاني الرّوحيّة لا يجب أن يكون روحيّا،و الكتاب في الفضائل لا يقتضي العقل أن يكون فاضلا.و قد كان في مصر كاتب من أبلغ كتّاب العربيّة في الأخلاق و الفضائل،و مع هذا وصفه بعض عارفيه بقوله:«إنّ حروف الفضيلة تتألّم من لوّكها بفمه،و وخزها بسنّ قلمه».و أنّ الرّوحانيّة الّتي نجدها في إنجيل برنابا و ما فيه من تقديس اللّه و تنزيهه،و من الأفكار و الصّلوات،لهو أعلى و أشدّ تأثيرا في النّفس من إنجيل يوحنّا،و يزعمون مع هذا كلّه أنّه قصد به غشّ النّاس و تحويلهم عن التّثليث،و الشّرك إلى التّوحيد و التّنزيه.

إنّ هذا المسلك الأخير الّذي سلكه بوست في الاستدلال على صحّة نسبة إنجيل يوحنّا إليه يقبله المقلّدون لعلماء اللاّهوت عندهم بغير بحث و لا نظر، و النّاظر المستقلّ يراه يؤدّي إلى بطلان نسبته إليه لأسباب،أهمّها ثلاثة:

1-أنّه جاء بعقيدة وثنيّة نقضت عقيدة التّوحيد الخالص المقرّرة في التّوراة،و جميع كتب أنبياء بني إسرائيل،و قد صرّح المسيح بأنّه ما جاء لينقض

ص: 759

النّاموس بل ليتمّمه.و أصل النّاموس و أساسه الوصايا العشر،و أوّلها و أولاها بالبقاء و دوام البناء وصيّة التّوحيد.

2-مخالفته في عقيدته و أسلوبه لكلّ ما هو مأثور عن جماعته و قومه قبل المسيح و بعده.

3-مخالفته للأناجيل الّتي كتبت قبله في أمور كثيرة، أهمّها تحاميه ما ذكر فيها من الأعراض البشريّة المنسوبة إلى المسيح ممّا ينافي الألوهيّة،كتجربة الشّيطان له و خوفه من فتك اليهوديّة،و تضرّعه إلى اللّه خائفا متألّما،ليصرف عنه كيدهم و ينقذه منهم،و صراخه وقت الصّلب من شدّة الألم،إلى غير ذلك.

و من تأمّل أساليب الأناجيل و فحواها يرى أنّ إنجيل يوحنّا غريب عنها،و يجزم بأنّ كاتبه متأخّر، سرت إليه عقائد الوثنيّين،فأحبّ أن يلقّح بها المسيحيّين.

و نقول ثالثا:إذا فرضنا أنّ موافقة بعض أهل القرن الثّاني لهذا الإنجيل في روح معناه يعدّ شهادة له بأنّه كان موجودا في منتصف القرن الثّاني،فأين الشّهادة الّتي تثبت أنّه كان موجودا في القرن الأوّل و الصّدر الأوّل ممّا بعده؟ثمّ تبيّن لنا من تلقّاه عنه حتّى وصل إلى أولئك الّذين اقتطفوا من روحه.

بعد كتابة ما تقدّم راجعت«إظهار الحقّ»فرأيته استدلّ على أنّ إنجيل يوحنّا ليس من تصنيف يوحنّا الّذي هو أحد تلاميذ المسيح،بعدّة أمور:

منها:أسلوبه الّذي يدلّ على أنّ الكاتب لم يكتب ما شاهده و عاينه بل ينقل عن غيره.

و منها:آخر فقرة منه و هي ما أوردناه في الاستدلال على أنّه لم يكتب عن أحوال المسيح و أقواله إلاّ القليل، فإنّه ذكر فيها يوحنّا بضمير الغائب و أنّه كتب و شهد بذلك.فالّذي ينقل هذا عنه لا بدّ أن يكون غيره، و قصاراه أنّه ظفر بشيء ممّا كتبه فحكاه عنه،و نقله في ضمن إنجيله،و لكن أين الأصل الّذي ادّعى أنّ يوحنّا كتبه و شهد به؟و كيف نثق بنقله عنه و نحن لا نعرفه، و رواية المجهول عند محدّثي المسلمين و جميع العقلاء لا يعتدّ بها البتّة.

و منها:أنّهم نقلوا أنّ النّاس أنكروا كون هذا الإنجيل ليوحنّا في القرن الثّاني على عهد«أرينيوس»تلميذ «بوليكارب»الّذي هو تلميذ يوحنّا.و لم يردّ عليهم أرينيوس بأنّه سمع من بوليكارب أنّ أستاذه يوحنّا هو الكاتب له.

و منها:نقله عن بعض كتبهم ما نصّه:كتب «أستادلن»في كتابه:«أنّ كافّة إنجيل يوحنّا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندريّة بلا ريب».

و منها:أنّ المحقّق«برطشنيدر»قال:«إنّ هذا الإنجيل كلّه و كذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل صنّفها أحد (كذا)في ابتداء القرن الثّاني».

و منها:أنّ المحقّق«كروتيس»قال:إنّ هذا الإنجيل كان عشرين بابا فألحقت كنيسة افساس الباب الحادي و العشرين بعد موت يوحنّا».

و منها:أنّ جمهور علمائهم ردّوا إحدى عشرة آية من أوّل الفصل الثّامن إلخ.

6-علمنا ممّا تقدّم أنّ النّصارى ليس عندهم

ص: 760

أسانيد متّصلة و لا منقطعة لكتبهم المقدّسة،و إنّما بحثوا و نقّبوا في كتب الأوّلين و الآخرين و فلّوها فليا لعلّهم يجدون فيها شبهة دليل،على أنّ لها أصلا كان معروفا في القرون الثّلاثة الأولى للمسيح،و لكنّهم لم يجدوا شيئا صريحا يثبت شيئا منها.و إنّما وجدوا كلمات مجملة أو مبهمة فسّروها كما شاءت أهواؤهم و سمّوها شهادات، و نظّموها في سلك الحجج و البيّنات،-و إن كانت هي أيضا غير منقولة عن الثّقات-ثمّ استنبطوا من فحواها و مضامينها مسائل متشابهة،زعموا أنّ كلاّ منها يؤيّد الآخر و يشهد له،و قد أشرنا إلى ضعف كلّ واحدة من هاتين الطّريقتين.

فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ المائدة:14.

و ثبت به أنّه كلام اللّه و وحيه؛إذ ليس هذا ممّا يعرف بالرّأي حتّى يقال:إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قد اهتدى إليه بعقله و نظره؛كيف و قد خفي هذا عن أكثر علمائنا الأعلام عدّة قرون،لعدم اطّلاعهم على تاريخ القوم.

و أغرب من هذا أنّ بعض كبراء المصريّين الّذين ارتقوا بعلمهم و اختيارهم إلى أرفع المناصب سألني مرّة:

كيف نقول نحن المسلمين:إنّ للنّصارى كتابا واحدا يسمّى الإنجيل،هو عبارة عمّا أوحاه اللّه إلى عيسى،فدعا قومه إلى الإيمان به،مع أنّ النّصارى أنفسهم لا يقولون هذا و لا يعرفونه،و إنّما عندهم أربعة أناجيل هي عبارة عن قصّة المسيح و سيرته؟

فأجبته:أنّ الإنجيل الّذي ننسبه إلى المسيح،و نقول:

إنّه هو ما أوحاه اللّه إليه،هو الّذي يذكر في هذه الأناجيل عن لسان المسيح باللّفظ المفرد إلى آخر،ما علم ممّا تقدّم.

[إلى أن قال:]

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ المائدة:43.هذا تعجيب من اللّه لنبيّه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم،و هو أنّهم أصحاب شريعة يرغبون عنها،و يتحاكمون إلى نبيّ جاء بشريعة أخرى، و هم لم يؤمنوا به،أي و كيف يحكّمونك في قضيّة كقضيّة الزّانيين أو قضيّة الدّية،و الحال أنّ عندهم التّوراة الّتي هي شريعتهم فيها حكم اللّه فيما يحكّمونك فيه،ثمّ يتولّون عن حكمك بعد أن رضوا به و آثروه على شريعتهم لموافقته لها؟

أي إذا فكّرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم، و سببه أنّهم ليسوا بالمؤمنين إيمانا صحيحا بالتّوراة و لا بك،و إنّما هم ممّن جاء فيهم أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ الجاثية:23،فإنّ المؤمن الصّادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلاّ إذا آمن بأنّ ما رغب إليه شرع من اللّه أيضا أيّد به الأوّل،أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده.

و هؤلاء تركوا حكم التّوراة الّتي يدّعون الإيمان بها و اتّباعها،لأنّه لم يوافق هواهم.و جاءوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم،ثمّ يتولّون و يعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم.فما هم بالمؤمنين بالتّوراة و لا بك، و لا بمن أنزل على موسى التّوراة و أنزل عليك القرآن.

و قد يقولون:إنّهم مؤمنون،و قد يظنّون أيضا أنّهم مؤمنون،غافلين عن كون الإيمان يقينا في القلب،يتبعه

ص: 761

الإذعان بالفعل،و يترجم عنه اللّسان بالقول.و لكنّ اللّسان قد يكذب عن علم و عن جهل،فمن أيقن أذعن، و من أذعن عمل،لأنّ الإيمان الإذعانيّ هو صاحب السّلطان الأعلى على الإرادة،و الإرادة هي المصرّفة للجوارح في الأعمال.

أمّا حكم الرّجم في التّوراة الّتي بين أيدينا اليوم فهو خاصّ ببعض الزّناة.قال في الفصل 22 سفر التّثنية بعد بيان؛أنّ من تزوّج عذراء فوجدها ثيّبا ترجم عند باب بيت أبيها:«22 إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان،الرّجل المضطجع مع المرأة و المرأة، فتنزع الشّرّ من إسرائيل،23 إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة و ارجموهما بالحجارة حتّى يموتا،الفتاة من أجل أنّها لم تصرخ في المدينة،و الرّجل من أجل أنّه أذلّ امرأة صاحبه،فتنزع الشّرّ من وسطك»ثمّ ذكر أحكاما أخرى في الزّنى،منها قتل أحد الزّانيين،و منها دفع غرامة و التّزوّج بالمزنيّ بها.

و ممّا يجب التّنبيه له هنا أنّ دعاة النّصرانيّة يحتجّون بهذه الآية و ما في معناها،على كون التّوراة الّتي في أيديهم و أيدي اليهود هي ما أنزله اللّه تعالى على موسى لم يعرض لها تغيير و لا تحريف؛و ذلك أنّهم كأولئك اليهود الّذين يأخذون من القرآن ما يوافق أهواءهم و يردّون ما يخالفها جدلا.و المؤمنون يؤمنون بالكتاب كلّه،فالكتاب بيّن لنا أنّ عندهم التّوراة،أي الشّريعة، و أنّ فيها حكم اللّه في القضيّة الّتي تحاكموا فيها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و قد صدق اللّه تعالى و هو أصدق القائلين.و بيّن لنا أيضا أنّهم حرّفوا الكلم عن مواضعه و من بعد مواضعه،و أنّهم نسوا حظّا ممّا ذكّروا به،و إنّما أوتوا نصيبا من الكتاب إذ نسوا نصيبا آخر و أضاعوه،و قد صدق اللّه تعالى في ذلك أيضا.

و لمّا خرجت أمّة القرآن بالقرآن من الأمّيّة و عرفوا تاريخ أهل الكتاب و غيرهم كالبابليّين،ظهر لهم أنّ إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدّالّة على أنّه من عند اللّه؛ إذ ظهر لهم أنّ اليهود قد فقدوا التّوراة الّتي كتبها موسى ثمّ لم يجدوها،و إنّما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجا بما ليس منها،و التّوراة الّتي في أيديهم تثبت ذلك، كما بيّنّاه في غير هذا الموضع.و منه تفسير أوّل سورة آل عمران،و تفسير الآية(14 و 15)من هذه السّورة.

(6:288-395)

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ المائدة:

68.أي(قل)لأهل الكتاب من اليهود و النصارى فيما تبلّغهم عن اللّه تعالى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعتدّ به من أمر الدّين،و لا ينفعكم الانتساب إلى موسى و عيسى و النّبيّين حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ فيما دعيا إليه من التّوحيد الخالص،و العمل الصّالح،و فيما بشّر به من بعثة النّبيّ الّذي يجيء من ولد إسماعيل الّذي عبّر عنه المسيح بروح الحقّ و بالبارقليط وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على لسانه و هو القرآن المجيد،فإنّه هو الّذي أكمل به دين الأنبياء و المرسلين،على حسب سنّته في النّشوء و الارتقاء بالتّدريج.

و قيل:إنّ المراد بما أنزل إليهم من ربّهم:ما أنزل على

ص: 762

سائر أنبيائهم،كما قيل مثله في آية: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ المائدة:66.و تقدّم توجيهه،و لم يبعد العهد به فنعيده.إلاّ أنّ ذاك حكاية ماضية،و هذا بيان للحال الحاضرة، و الحجّة عليهم في الزّمنين قائمة.فهم لم يكونوا مقيمين لتلك الكتب قبل هذا الخطاب،و لا في وقته،و لا كان في استطاعتهم أن يقيموها في عهده،كما أنّهم لا يستطيعون أن يقيموها الآن.فهذا تعجيز لهم،و تفنيد لدعواهم الاستغناء عن اتّباع خاتم النّبيّين،باتّباعهم لأنبيائهم السّابقين،و لا يتضمّن الشّهادة بسلامة تلك الكتب من التّحريف.

و مثله أن نقول الآن لدعاة النّصرانيّة من الأمريكان و الألمان و الإنجليز:يا أيّها الدّاعون لنا إلى اتّباع التّوراة و الإنجيل،نحن لا نعتدّ بكم،و لا نرى أنّكم على إيمان و ثقة بدينكم،و صدق و إخلاص في دعوتكم،حتّى تقيموا أنتم و أهل ملّتكم التّوراة و الإنجيل اللّذين في أيديكم،فتحبّوا أعداءكم،و تباركوا لاعنيكم،و تعطوا ما لقيصر لقيصر،و تخضعوا لكلّ سلطة،لأنّها من اللّه، و اذا اعتدى عليكم أحد فلا تعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم،بل أديروا له الخدّ الأيسر،إذا ضربكم على الخدّ الأيمن،و اتركوا التّنافس في إعداد آلات الفتك الجهنّميّة، ليكون للنّاس السّلام في الأرض،و اخرجوا من هذه الأموال الكثيرة و الثّروة الواسعة،لأنّ الغنيّ لا يدخل ملكوت السّماوات حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الأعراف:40.و لا تهتمّوا برزق الغد،إلخ.

و نحن نراكم على نقيض كلّ ما جاء في هذه الكتب، فأنتم لا تخضعون لكلّ حاكم بل ميّزتم أنفسكم، و استعليتم على الشّرائع و الحكّام من غيركم،و إذا اعتدي على أحد منكم في بقعة من بقاع الأرض، تجرّدون سيوف دولتكم و تصوّبون مدافعها على بلاد المعتدي و دولته،لا عليه وحده،حتّى تنتقموا لأنفسكم بأضعاف ما اعتدي به عليكم.و لا همّ لأممكم و دولكم إلاّ امتلاك ثروة العالم و زينته و نعيمه،و تسخير غيركم من الأمم لخدمتكم بالقوّة القاهرة،و الاستعداد لسحق من ينافسكم في مجد هذا العالم الفاني،لعدم اهتمامكم بمجد الملكوت الباقي،فنحن لا نصدّق بأنّكم تدينون اللّه بهذه الكتب الّتي تدعوننا إليها،حتّى تقيموها على وجهها.

فهل يعدّ دعاة النّصرانيّة مثل هذا الخطاب لهم اعترافا منّا بسلامة كتبهم من التّحريف و الزّيادة و النّقصان؟أم يفهمون أنّه حجّة مبنيّة على التّسليم الجدليّ لأجل الإلزام؟نعم يفهمون هذا و لكنّهم يقولون لعوامّ المسلمين:إنّ هذه الآية شهادة للتّوراة و الإنجيل بالسّلامة من التّحريف!!(6:474)

في هيمنة القرآن على التّوراة و الإنجيل

و شهادته لهما و عليهما.

إن قيل:إنّ ما ذكرت يبطل الثّقة بالكتب الّتي بها سمّى اللّه اليهود و النّصارى أهل الكتاب حتّى التّوراة و الإنجيل،و قد شهد القرآن المجيد لليهود بأنّ عندهم التّوراة،فيها حكم اللّه،و أمرهم بأن يحكموا بما أنزل اللّه فيها على سبيل الاحتجاج عليهم،كما أمر أهل الإنجيل بمثل ذلك،و قال في نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم و وصف النّاجين منهم بقوله:

ص: 763

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ الأعراف:157، و هم يحتجّون على المسلمين بهذه الآيات،و من دعاة النّصارى«المبشّرين»من ألّف كتابا في ذلك سمّاه «شهادة القرآن لكتب أنبياء الرّحمن»فبطلان الثّقة بما عندهم من التّوراة و الإنجيل يستلزم بطلان الثّقة بالقرآن،و يكون حجّة لملاحدة التّعطيل على بطلان جميع الأديان،فما جوابك عن هذا؟

قلت:قد سبق الجواب عن هذه الشّبهة في هذا التّفسير و في«المنار»،و نعيده الآن بأسلوب آخر لزيادة البيان.

فأمّا أهل الكتاب فحجّتهم علينا بما قالوا إلزاميّة لا حقيقيّة،لأنّهم لا يؤمنون بالقرآن فلا تنفعهم فيما ذكر من الطّعن في ثبوت كتبهم،و هم يكتفون من إغواء المسلمين بتشكيكهم في دينهم،ظنّا منهم أنّهم إذا كفروا بدينهم يسهل إدخالهم في النّصرانيّة و لو نفاقا كالكثير من أهلها، لأنّها أدنى إلى استباحة جميع شهوات الدّنيا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً النّساء:89.

و لكن هذا الإلزام لا يتمّ لهم علينا إلاّ إذا أخذت شهادة القرآن على هذه الكتب مع شهادته لها و قبول حكمه فيها،لأنّه نصّ على أنّه مهيمن رقيب له السّيطرة عليها؛ إذ قال بعد ذكر التّوراة و الإنجيل من سورة المائدة:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ المائدة:48.و ممّا حكم به على اليهود و النّصارى جميعا أنّهم نسوا حظّا عظيما ممّا ذكّروا به فيما أنزله اللّه عليهم،و أنّهم أوتوا نصيبا من الكتاب لا الكتاب المنزل كلّه،و أنّهم مع هذا حرّفوه و بدّلوه،و قد بيّنّا هذا كلّه في مواضعه من تفسير الآيات النّاطقة به، (1)و في الرّدّ على المبشّرين،و مواضع أخرى من«المنار». (2)

و أمّا الملاحدة الّذين استدلّوا بنصوص التّواريخ مع دلائل العقل على فقد تلك الكتب،و عدم الثّقة بشيء من الموجود منها،فجوابنا لهم:

أنّ حكم اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم قريب من حكمهم عليها من ناحية فقد الثّقة بها،و لكن في جملتها،لا في كلّ جملة منها،فحكمه أدقّ و أصحّ في نظر العقل،مع صرف النّظر عن كونه لا يعقل أن يكون إلاّ بوحي اللّه عزّ و جلّ؛ذلك بأنّ قوله في اليهود: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ المائدة:13،مع قوله: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ النّساء:44،هو المعقول فإنّ العقل لا يتصوّر أن تنسى أمّة كبيرة جميع شريعتها بفقد نسخة الكتاب المدوّنة فيه،و قد عملت به في عدّة قرون.

و كذا قوله:إنّهم حرّفوا الكلم عن مواضعه،و ذلك ثابت بالشّواهد الكثيرة من زيادة و نقصان و تغيير و تبديل،كما بيّنه«الشّيخ»رحمه اللّه في كتابه«إظهار الحقّ»و غيره.و اليهود يعترفون بأنّ عزيرا«عزرا»كتب ما كتب من الشّريعة بعد فقدها باللّغة الكلدانيّة لا بلغةا.

ص: 764


1- راجع ص 155-160 و 265 ج 3 و 136 ج 5 و 93 و 285 و 287-303 و 389-402 و 410-412 ج 6 و 251-299 ج 9.
2- راجع فهارس مجلّدات المنار و لا سيّما ص 106 من المجلّد السّادس و هو أهمّها.

موسى عليه السّلام،و كان يضع خطوطا على ما يشكّ فيه.

فالمعقول أنّه كتب ما ذكره و تذكّره هو و من معه دون ما نسوه،و كان منه الصّحيح قطعا،و منه المشكوك فيه، و منه الغلط،و من ثمّ وجد التّحريف،و لا محلّ هنا للإتيان بالشّواهد على هذا.

و بناء على هذا قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم،و قولوا:آمنّا باللّه و ما أنزل إلينا...» رواه البخاريّ في صحيحه،و سببه أنّ عمر كان قد نسخ شيئا من التّوراة بالعربيّة،و جاء به إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأنكره صلّى اللّه عليه و سلّم عليه كما رواه أحمد و البزّار من حديث جابر، و قال:«لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنّهم لن يهدوكم و قد ضلّوا،و إنّكم إمّا أن تكذّبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل،و اللّه لو كان موسى بين أظهركم ما حلّ له إلاّ اتّباعي».فعلم من ذلك أنّ فيما عندهم ما هو حقّ و هو ما أوتوه،و ما هو باطل و هو ما حرّفوه،و دع ما فقد و هو ما نسوه.

و من ثمّ كان التّحقيق عندنا-معشر المسلمين-أن نؤمن بالتّوراة و الإنجيل بالإجمال،و بأنّ ما ورد النّصّ عندنا بأنّه من حكم اللّه تعالى كحكم رجم الزّاني الّذي ورد فيه وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ المائدة:43، نجزم بأنّه ممّا أوحاه اللّه إلى موسى عليه السّلام،و ما دلّ النّصّ على كذبهم فيه ككون هارون عليه السّلام هو الّذي صنع لهم العجل الذّهبيّ الّذي عبدوه،و كون سليمان قد ارتدّ و عبد الأوثان،و كون لوط زنى بابنته،فإنّنا نجزم بكذبه.

و أمّا ما احتمل الصّدق و الكذب فإنّنا لا نصدّقهم و لا نكذّبهم فيه،و اليهود و النّصارى في هذا سواء عندنا، و تقدّم بيان حالهم في نسيان حظّ عظيم من إنجيل عيسى عليه السّلام.(10:342)

الطّنطاويّ: تفصيل الكلام على الأناجيل و عددها،لأقدّم لك مقدّمة في الأناجيل لتقف على الحقيقة التّاريخيّة لها،ثمّ أخصّ إنجيل برنابا (1)بالنّقل، لأنّه يوافق القرآن،فأقول:

اعلم أنّ المسيح اختار أتباعه من ضعاف النّاس و هم الصّيّادون في بحيرة طبريّة،كأنّه يقول:أيّها النّاس إنّ تعاليمي لا يعوزها ذكاء خارق للعادة.و بعد موته أخذ الرّسل يبشّرون بتوحيد اللّه و بالمحبّة،و يرمزون إلى طهارة النّفس من الذّنوب بماء المعموديّة الّتي أخذت عن الأسونبين.فانتصب إذ ذاك بولس (2)و هو فرنسيّ يعرف اللغة اليونانيّة،و لم ير المسيح قطّ،فادّعى أنّه أخذ الدّين عنه و صار يخاصم بطرس و يوبّخه؛فانقسم النّصارى فريقين:فريق يتّبع الرّسل و فريق يتّبع بولس،و ذلك بعد المسيح بعشر سنين.ثمّ تمرّد اليهود على نيرون الرّومانيّ؛فأرسل لهم نسباسيانوس الرّومانيّ،ثمّ ابنه طيطس (3)يقود الجيوش،و انتهى الأمر بافتتاح أورشليم سنة(70)ب.م،و خرّب الهيكل و تفرّق اليهود مشتّتين، و مات الرّسل ما عدا يوحنّا و فيلبس،و انحلّت الرّابطة و تفرّقوا شذر مذر،و اختلطت تعاليم المسيح بالفلسفة اليونانيّة المنتشرة إذ ذاك لا سيّما بالإسكندريّة،و لمّا كان تلاميذ المسيح لا قدرة لهم على المجادلة تغلّبت الفلسفةiT

ص: 765


1- .abanraB
2- .solvaP
3- .sutiT

اليونانيّة على تعاليمهم.

و في أثناء هذا الاختلاط و المشاغبة نشأت الأناجيل في أواخر القرن الأوّل.و ما الأناجيل إلاّ مجموع روايات منقولة،في الأصل عن الرّسل.

و قد كانت هناك أناجيل كثيرة في القرن الأوّل و الثّاني،و اختير أربعة و رفض الباقي،و قد أحصى من المنبوذ فابر سپوس«35 إنجيلا»مثل:إنجيل ماربطرس و إنجيل المصريّين و إنجيل حياة (1)يسوع و إنجيل مارتوما و إنجيل ماراندراوس و إنجيل ماريرتلماوس و إنجيل قرشيه و إنجيل فالشينوس و إنجيل السّيمونيّين (2)و إنجيل يهوذا و إنجيل برنابا و إنجيل السّريان و إنجيل العبرانيّين و إنجيل النّصارى و إنجيل نيقوديموس،و لم يبق من هذه الأناجيل إلاّ أسماؤها ما عدا إنجيل برنابا الّذي ظهر في هذه الأيّام و يرجّح العارفون أنّ اختيار الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متّى و مرقس و لوقا و يوحنّا الذّائعة بين النّصارى تمّت في منتصف القرن الثّاني المسيحيّ.

و قد قال المعلّم ساباتيه رئيس الدّروس العليا في مدرسة السّريون (3):لمّا تعذّر على الكنيسة معرفة المؤلّفين الحقيقيّين للأناجيل اضطرّت إلى القول:الإنجيل حسب متّى أو حسب مرقس،و هكذا.

و لقد لام شيلسوس-الفيلسوف في القرن الثّاني- النّصارى في كتابه المدعوّ«الخطاب الحقيقيّ»على تلاعبهم بالأناجيل،و محوهم في الغد ما أدرجوه بالأمس.

و في سنة(384 م)أمر البابا داماسيوس (4)أن تحرّر ترجمة لاتينيّة جديدة من العهدين القديم و الحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس،و كان تيودوسيس (5)الملك قد ضجر من المخاصمات الجدليّة بين الأساقفة،و تمّت تلك التّرجمة الّتي تسمّى(فولكانا)و كان ذلك خاصّا بالأناجيل الأربعة:متّى،و مرقس،و لوقا،و يوحنّا.و قد قال مرتّب تلك الأناجيل:بعد أن قابلنا عددا من النّسخ اليونانيّة القديمة رتّبناها،بمعنى أنّنا نقّحنا ما كان فيها مغايرا للمعنى و أبقينا الباقي على ما كان عليه.

ثمّ إنّ هذه التّرجمة قد ثبّتها المجمع التّريدنتينيّ سنة (1546 م)أي ما بعدها بأحد عشر قرنا،ثمّ خطّأها سيستوس الخامس سنة(1590 م)و أمر بطبع نسخ جديدة،ثمّ خطّأ كليمنضوس الثّامن هذه النّسخة الثّانية أيضا،و أمر بطبعة جديدة منقّحة هي الدّارجة اليوم عند الكاثوليكيّين.[إلى أن قال:]

فالمدار على تغيير ما بالأنفس لا تغيير الكتاب المقدّس.كان المسيحيّون قبل ظهور بولس موحّدين صادقين يدعون للمحبّة،فلمّا جاء بولس كثر الخلاف، و بعد ذلك طرد اليهود نيرون من أرضهم فتفرّقوا شذر مذر و غيّر الإنجيل.

فأمّا نحن-معاشر المسلمين-فإنّ ديننا سهل،و كان القرآن في العصور الأولى يحثّ على التّعقّل،ثمّ انحصرت العقول و أسدل عليها حجب من الجهالة و التّعصّب و العمى؛فداستنا الأمم و انقدنا لها كارهين؛ذلك لتغيير طرق الفكر لا لتغيير الكتاب.و سيكون هذا التّفسير وhT

ص: 766


1- .tsirhC suseJ
2- .enomis
3- .nayroS
4- .suicsamaD
5- .suisodoehT

تعاليم أخرى تظهر على يد فضلاء من المعاصرين لنا في الإسلام،سببا في انتشال الأمّة من وهدتها،و رجوع وحدتها وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ البقرة:213.(2:120)

عزّة دروزة :و ممّا يصحّ أن يقال في هذا المقام:إنّ ما في أيدي اليهود و النّصارى اليوم من أسفار لا يمكن أن يجزم بأنّه هو نفس ما كان في أيديهم في عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بدون نقص أو زيادة،أو جميع ما كان في أيديهم،و أنّ جملة اَلرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ الواردة في سورة الأعراف:157، لا يمكن أن تكون جزافا و هي تتلى على مسمع من اليهود و النّصارى.و نشير خاصّة إلى الإنجيل المعروف باسم «برنابا» (1)أحد الحواريّين الّذي فيه نصوص متّفقة مع نصوص القرآن،عن عيسى و حياته و رسالة النّبيّ و صفاته.و مهما يكن من المآخذ الّتي توجّه إلى هذا الإنجيل،فإنّ نصوص القرآن-الّذي لا يشكّ أحد في أنّه يرجع تاريخيّا إلى ألف و ثلاثمائة سنة و نيّف-دليل قاطع على أنّ فيما كان متداولا في أيدي اليهود و النّصارى من أسفار إشارات إلى صفة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و رسالته.[إلى أن قال:]

و بمناسبة ورود كلمتي«التّوراة و الإنجيل»لأوّل مرّة في هذه السّورة نقول:إنّ كلمة«التّوراة»عبرانيّة و تعني الشّريعة أو شريعة موسى على ما ورد في سفر عزرا.أمّا كلمة«الإنجيل»فهي يونانيّة،معناها البشارة و التّبشير.

و فحوى الآية الّتي وردت فيها الكلمتان يفيد أنّهما تعنيان التّوراة و الإنجيل اللذين كانا في أيدي اليهود و النّصارى في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.و هذا يجرّ إلى التّساؤل عمّا عنى القرآن بالتّوراة و الإنجيل في هذا المقام.

فالقرآن صريح في أنّ اللّه أنزل التّوراة و الإنجيل على موسى و عيسى عليهما السّلام و آتاهما إيّاهما،كما جاء في آية البقرة(53)،و في آية آل عمران(3)،و في آيات سورة المائدة(43-47).و هذه الآيات صريحة في أنّ المقصود بالتّوراة و الإنجيل الكتابان اللّذان أنزلا على موسى و عيسى عليهما السّلام،و احتويا التّعاليم و التّشريعات الرّبّانيّة.

هذا في حين أنّ المتداول اليوم في أيدي النّصارى ليس إنجيلا واحدا بل أربعة أناجيل يجمعها مجلّد فيه بالإضافة إليها رسائل و أسفار قصيرة متنوّعة عن نشاط تلاميذ المسيح بعد وفاته.

و الأناجيل صريحة العبارة في أنّها كتبت بعد وفاة عيسى عليه السّلام من قبل كاتبيها،كترجمة لحياته تضمّنت فيما تضمّنته أقواله و تعليماته الّتي يتّسم بعضها بسمة وحي اللّه و أوامره.و بين هذه الأناجيل اختلاف غير يسير في النّصوص و الأحداث.

و هناك إنجيل خامس غير معترف به من قبل النّصارى يعرف بإنجيل«برنابا» (2)أحد حواريي المسيح.

و في مقدّمة إنجيل«لوقا»كلمة تفيد أنّ كثيرين كتبوا حياة السّيّد المسيح،و بعبارة ثانية تفيد أنّ هناك أناجيل عديدة أخرى ضاعت أو أبيدت.

و يتداول اليهود و النّصارى اليوم معا ما يسمّى العهد القديم،و ما يسمّيه المسلمون قديما و حديثا أحيانا توراة أيضا،و هو مجموعة ضخمة من الأسفار يبلغ عددها عندaB

ص: 767


1- .abanraB
2- .abanraB

الكاثوليك ستّة و أربعين،و عند البروتستانت تسعة و ثلاثين.

و من هذه الأسفار أربعة احتوت نشأة موسى عليه السّلام و نبوّته،و قصّة بني إسرائيل في مصر،و المصاولة بين موسى و فرعون،و خروج بني إسرائيل من مصر إلى دخولهم إلى شرق الأردن.و منها ما هو تاريخيّ بحت، و منها ما عليه سمة الوحي،و منها ما اختلطت فيه هذه السّمة بسيرة بني إسرائيل،و منها سفر احتوى قصّة بدء الخلق و الأنبياء الأوّلين،ثمّ إبراهيم و إسحاق و إسماعيل و يعقوب و الأسباط و لوط،و سمته الغالبة تاريخيّة و إن كان فيه بعض مقاطع أو فصول عليها سمة الوحي.

و ليس في سفر التّكوين أيّ إشارة إلى موسى عليه السّلام به رواية أو تدوينا أو إملاء.

و في الأسفار الأربعة العائدة إلى عهد موسى عليه السّلام ما يدلّ على أنّها لم تكتب بإملاء موسى عليه السّلام و لا في حياته،و إنّما كتبت بعده بأقلام كتّاب عديدين،و في أزمنة مختلفة.

و هذا يقال أيضا بالنّسبة لمعظم الأسفار الّتي احتوت أحداث بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام و أخبار أنبيائهم؛ حيث انطوى فيها قرائن عديدة تفيد أنّها كتبت بعد الأحداث الّتي احتوتها بمدّة طويلة،و من قبل كتّاب عديدين و في أزمنة مختلفة.

و مع أنّ في هذه الأسفار ما يفيد أنّه كان أسفار عديدة ليست متداولة اليوم،فليس في ذلك ما يفيد أنّ الأسفار المتداولة منقولة عن الأسفار المفقودة و إن كان ذلك محتملا.

و في معظم الأسفار سواء منها العائدة إلى حياة موسى أم بعده و في سفر التّكوين كذلك،مبالغات و مفارقات كثيرة،كما أنّ في الأسفار الخمسة الأولى أشياء كثيرة نسبت إلى اللّه عزّ و جلّ تتنافى مع عظيم رحمته و شمول ربوبيّته،أوردنا أمثلة منها في سياق تفسير سورة الأعلى؛حيث يسوغ هذا القول أنّ كلام اللّه قد حرّف و بدّل،و أنّ غير كلام اللّه قد اختلط بالخيال و الغرض و هو ما نبّهت إليه آيات قرآنيّة عديدة أيضا، أوردنا نصوصها في سياق تفسير السّورة المذكورة آنفا.

و ليس هناك ما يساعد بجزم على معرفة ما كان في أيدي اليهود في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من أسفار كان يطلق عليها اسم التّوراة،و إن كان في القرآن قرائن تدلّ على أنّ الأسفار الخمسة الأولى و بعض الأسفار العائدة إلى تاريخ بني إسرائيل و أنبيائهم بعد موسى عليه السّلام كانت من جملة ما في أيديهم،كما أنّه ليس هناك ما يساعد بجزم على القول إنّ ما كان في أيديهم من أسفار هي مطابقة أو مباينة لما يتداوله اليهود و النّصارى اليوم من أسفار العهد القديم، و إن كان ذلك كلّه محتملا.

و بالإضافة إلى هذا نحن نكاد نعتقد أنّه كان في أيديهم أسفار و قراطيس ضاعت،استدلالا ممّا ورد في القرآن من تفصيلات كثيرة عن أنبياء بني إسرائيل و أحوالهم؛لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم.و ليس هناك ما يساعد بجزم كذلك على معرفة ما إذا كان ما في أيدي النّصارى اليوم ممّا كان يطلق عليه اسم الإنجيل هو هذه الأناجيل المتداولة نفسها و ملحقاتها أو بعضها أو غيرها، و إن كان في القرآن بعض القرائن الّتي تدلّ على أنّ بعضها

ص: 768

ممّا كان في أيديهم،مع التّنبيه إلى أنّ في القرآن قرائن تدلّ على أنّه كان في أيديهم أسفار و قراطيس لم تصل إلى عهدنا.فليس في الأناجيل المتداولة اليوم أنّ عيسى عليه السّلام تكلّم في المهد،و ليس فيها قصّة طلب الحواريّين من عيسى عليه السّلام استنزال مائدة من السّماء مثلا.و هذا و ذاك ممّا ذكره القرآن.(2:168)

أبو زهرة:الكتاب المقدّس لدى النّصارى يشمل التّوراة و الأناجيل و رسائل الرّسل.و تسمّى التّوراة -أسفارها الموسويّة و غيرها-كتب العهد القديم، و تسمّى الأناجيل،و رسائل الرّسل كتب العهد الجديد [إلى أن قال:]

فهي الّتي تعنينا في هذا البحث،و يهمّنا أن نجلّي أمرها،و نعرف حقيقتها،و أوّلها الأناجيل.

و الأناجيل المعتبرة عندهم أربعة:إنجيل متّى،و إنجيل مرقس،و إنجيل لوقا،و إنجيل يوحنّا.

و مكان الأناجيل في النّصرانيّة مكان القطب و العماد.[إلى أن قال:]

و هذه الأناجيل الأربعة هي الّتي تعترف بها الكنائس،و تقرّها الفرق المسيحيّة و تأخذ بها،و لكنّ التّاريخ يروي لنا أنّه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى قد أخذت بها فرق قديمة و راجت عندها، و لم تعتنق كلّ فرقة إلاّ إنجيلها،فعند كلّ من أصحاب مرقيون و أصحاب ديصان إنجيل يخالف بعضه هذه الأناجيل،و لأصحاب ماني إنجيل يخالف هذه الأربعة و هو الصّحيح في زعمهم،و هناك إنجيل يقال له:إنجيل السّبعين،ينسب إلى تلامس-و النّصارى ينكرونه- و هناك إنجيل اشتهر باسم التّذكرة،و إنجيل سرن تهس، و لقد كثرت الأناجيل كثرة عظيمة،و أجمع على ذلك مؤرّخو النّصرانيّة،ثمّ أرادت الكنيسة في آخر القرن الثّاني الميلاديّ،أو أوائل القرن الرّابع أن تحافظ على الأناجيل الصّادقة في اعتقادها،فاختارت هذه الأناجيل الأربعة من الأناجيل الرّائجة إبّان ذلك.

و لقد يذكر بعض المؤرّخين أنّه لم توجد عبارة تشير إلى وجود أناجيل متّى و مرقس و لوقا و يوحنّا قبل آخر القرن الثّالث.و أوّل من ذكر هذه الأناجيل الأربعة أرينيوس (1)في سنة(209)ثمّ جاء من بعده كليمنس (2)إسكندر يانونس في سنة(216)و أظهر أنّ هذه الأناجيل الأربعة واجبة التّسليم.و لم تكتف الكنيسة باختيار هذه الأناجيل الأربعة،بل أرادت النّاس على قبولها لاعتقادها صحّتها،و رفض غيرها،و تمّ لها ما أرادت؛ فصارت هذه الأناجيل هي المعتبرة دون سواها.

[و الاطّلاع على غيرها من الأناجيل الّتي ضنّت الكنيسة بها فلم يبق شيء منها كان]يمكننان معرفة اعتقاد النّاس في المسيح،و كيف كان،خصوصا بين أولئك الّذين قاربوا عصره و أدركوا زمانه،و لقوا تلاميذه و نهلوا من مناهلهم،و إذا ضنّ التّاريخ بحفظ نسخ منها فقد كنّا نودّ أن تطلعنا الكنيسة على ما اشتملت عليه ممّا يخالفها،و كان سبب رفضها.[إلى أن قال:]

و هذه الأناجيل الأربعة لم يملها المسيح،و لم تنزل عليه هو بوحي أوحى إليه،و لكنّها كتبت من بعده،كماlC

ص: 769


1- .suisorO
2- .tnemelC

رأيت.[إلى أن قال:]

و لنتكلّم على كلّ إنجيل من هذه الأناجيل بكلمة تبيّن تاريخ تدوينه و تعرّف بمؤلّفه و مكانته من المسيح.

إنجيل متّى:و قد كتبه متّى،و هو أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر[و جاء اسمه في أخبار الرّسل] و يسمّيهم المسيحيّون رسلا.[إلى أن قال:]

و قد اتّفق جمهورهم على أنّه كتب إنجيله بالعبريّة أو السّريانيّة،كما اتّفقوا على أنّ أقدم نسخة عرفت شائعة رائجة كانت باليونانيّة.و لكن موضع الخلاف في تاريخ تدوينه،و من الّذي ترجمه إلى اليونانيّة؟

فمن المتّفق عليه عند أكثرهم أنّ متّى كتب إنجيله بالعبرانيّة؛و ذلك لأنّه كتبه لليهود يبشّر بالمسيحيّة بينهم،و ليقرأه مؤمنوهم بها.قال جيروم (1):«إنّ متّى كتب الإنجيل باللّسان العبريّ في أرض يهوديّة للمؤمنين من اليهود».و قال غيره:«إنّ متّى كتب الإنجيل باللّسان العبريّ،و هو الّذي انفرد باستعمال هذا في تحرير العهد الجديد».

و إذا انتقلنا إلى تاريخ تدوين هذا الإنجيل و ترجمته نرى ميدان الخلاف فسيحا،فنجد ابن البطريق يذكر أنّه دوّن في عهد قلوديوس (2)قيصر الرّومان من غير أن يعيّن السّنة الّتي كتب فيها.و يذكر أنّ الّذي ترجمه يوحنّا، فيقول في ذلك:«في عصر قلوديوس كتب متاوس(متّى) إنجيله بالعبرانيّة في بيت المقدّس،و فسّره من العبرانيّة إلى اليونانيّة يوحنّا صاحب الإنجيل».

و هنا نجده لم يعيّن السّنة الّتي كتب فيها الإنجيل،بل عيّن الملك الّذي كتب في عهده،و هذا الملك لم يكن هو الّذي عاصر المسيح،و لا الّذي يليه،بل الّذي عاصر المسيح و صلب-على زعمهم-في عهده طيباريوس، و ولّى من بعده غابيوس،و ملك أربع سنين و ثلاثة أشهر، ثمّ جاء من بعده قلوديوس و ملك أربع عشرة سنة، فيحتمل تدوين هذا الإنجيل أن يكون في آخر العشرة الرّابعة من ميلاد المسيح،و يحتمل أن يكون في أوّل أو آخر العشرة الخامسة أوائل السّادسة،فكلام ابن البطريق يحتمل كلّ هذا.

و قال جرجس زوين اللّبنانيّ فيما ترجمه عن الفرنسيّة:«إنّ متّى كتب بشارته في أورشليم في سنة (39)للمسيح على ما ذهب إليه القدّيس أيرنيموس، و السّبب في ذلك-على ما ذهب إليه القدّيس أبيفانيوس-أنّه كتبه إمّا إجابة لليهود الّذين آمنوا بالمسيح،أو إجابة لأمر الرّسل،و لم يكتب إنجيله باليونانيّة بل بالعبرانيّة على زعم أوسيبيدس في تاريخه، و قد وافق اسيبيوس القدّيس أيرنيموس؛إذ أنّ بانتيوس قد ذهب ليكرّز بالإيمان المسيحيّ في الهند،فوجد إنجيلا لمتّى الرّسول مكتوبا بالعبرانيّة،فجاء به إلى الإسكندريّة و بقي محفوظا في مكتبة قيصريّة إلى أيّامه، لكنّ هذه النّسخة العبرانيّة قد فقدت،و بعد فقدها ظهرت ترجمتها في اليونانيّة»اه.و في هذا يعيّن الكاتب تاريخ السّنة الّذي دوّن فيها الإنجيل،و لكن لا يعيّن المترجم،بل يذكر أنّه غير معروف،بينما نرى ابن البطريق يعيّن أنّه يوحنّا صاحب الإنجيل المسمّى باسمه.lC

ص: 770


1- emoreJ
2- .suidualC

و يقول بالنّسبة لتاريخ التّدوين صاحب كتاب «مرشد الطّالبين إلى الكتاب المقدّس الثّمين»:«إنّ متّى بموجب اعتقاد جمهور المسيحيّين كتب إنجيله قبل مرقس و لوقا و يوحنّا،و مرقس و لوقا كتبا إنجيلهما قبل خراب أورشليم.و لكن لا يمكن الجزم في أيّة سنة كتب كلّ منهم بعد صعود المخلص،لأنّه ليس عندنا نصّ إلهيّ على ذلك».

و قال صاحب«ذخيرة الألباب»:«إنّ القدّيس متّى كتب إنجيله في السّنة(41)للمسيح باللّغة المتعارفة يومئذ في فلسطين،و هي العبرانيّة أو السّير و كلدانيّة،ثمّ ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانيّة،ثمّ تغلّب استعمال التّرجمة على الأصل الّذي لعبت به أيدي النّسّاخ الأيونيّين و مسخته؛بحيث أضحى ذلك الأصل خاملا بل فقيدا،و ذلك منذ القرن الحادي عشر».

و قال الدّكتور بوست في«قاموس الكتاب المقدّس» مخالفا جمهور المتقدّمين في أنّه كتب بالعبرانيّة أو السّريانيّة:«إنّ هناك من يقول إنّه كتب باليونانيّة»ثمّ يرجّح أنّه ألّف باليونانيّة مخالفا بذلك إجماع مؤرّخيهم.

ثمّ يقول بالنّسبة لتاريخ تدوينه:«و لا بدّ أن يكون هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم».و يظنّ البعض أنّ الإنجيل الحالي كتب ما بين سنة(60)و سنة (65).

و الحقّ أنّ باب الاختلاف في شأن التّاريخ لا يمكن سدّه،و لا يمكن ترجيح رواية،و لا جعل تاريخ أولى من تاريخ بالاتّباع،و لذلك يقول هورن:«ألّف الإنجيل الأوّل سنة(37)أو سنة(38)أو سنة(43)أو سنة(48)أو سنة (61)أو سنة(63)أو سنة(64)من الميلاد».

و نقول نحن:يجوز غير ذلك،و الجمهور على أنّه كتب بغير اليونانيّة،و لكن لم يعرف غيرها،و لم يعرف جمهرة المؤرّخين من يكون المترجم،و في أيّ عصر ترجم،و قد علمت أنّ ابن البطريق يذكر أنّ يوحنّا هو الّذي ترجمه إلى اليونانيّة،و لكن لا نجد أحدا من المؤرّخين أيّده،بل إنّ الكثيرين منهم يقولون:«إنّه لم يعرف المترجم»...

إنجيل مرقس:يقول المؤرّخون:إنّ اسمه يوحنّا و يلقّب-ب«مرقس»،و لم يكن من الحواريّين الاثني عشر الّذين تتلمّذوا للمسيح[إلى أن قال:]

و جاء في سفر الأعمال:«إنّ الرّسل بعد صعود السّيّد المسيح كانوا يجتمعون في بيته».

و لقد لازم مرقس خاله برنابا (1)(و هو من الرّسل) و بولس الرّسول في رحلتهما إلى أنطاكية،[إلى أن قال:]

و قد كتب هذا الإنجيل باللّغة اليونانيّة،و لم نر أحدا من كتّاب المسيحيّين ناقض ذلك.و قد ذكر الدّكتور بوست في كتابه«قاموس الكتاب المقدّس»أنّه كتب الإنجيل باليونانيّة،و شرح فيه بعض الكلمات اللاّتينيّة، و أخذ من ذلك أنّه كتب في رومة.و يجيء مثله في تاريخ ابن البطريق،ففيه:«و في عصر نارون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريّين إنجيل مرقس عن مرقس في مدينة روميّة،و نسبه إلى مرقس.[إلى أن قال:]

و لقد ذكر هذا الأمر صاحب«مرشد الطّالبين»:«قد زعم أنّ إنجيل مرقس كتب بتدبير بطرس سنة(61)لنفع الأمم الّذين كان ينصرهم بخدمته،و قد ذكر الأمر بلفظaB

ص: 771


1- .sabanraB

الزّعم،كأنّه لا يصدّقه،و أنّه لا يراه مقبولا كما نراه غريبا، و لكن هكذا يذكر الرّواة.

و بجوار هؤلاء الّذين يقولون أو يزعمون أنّ إنجيل مرقس كتب بتدبير من بطرس،آخرون يقولون:إنّ مرقس ما كتب إنجيله إلاّ بعد وفاة بطرس و بولس فقد قرّر الكاتب القديم أرينيوس:«إنّ مرقس كتب إنجيله بعد موت بطرس و بولس».

و في الحقّ أنّ ذلك الاختلاف،و إن كان زمنيّا في ظاهره،هو في معناه و لبّه،اختلاف في شخص المحرّر لهذا الإنجيل،فابن البطريق و هو من المؤرّخين المسيحيّين الشّرقيّين يقرّر أنّ الّذي كتبه هو بطرس عن مرقس و نسبه إليه،و أرينيوس (1)يقرّر أنّ الّذي كتبه هو مرقس من غير تدبير بطرس،لأنّه كتبه بعد موته.فمن الكاتب إذن؟ليس بين أيدينا ما نرجّح به إحدى الرّوايتين على الأخرى.

و لنتجاوز هذا إلى تاريخ كتابة ذلك الإنجيل، فنجدهم أيضا قد اختلفوا في زمان تأليفه،و قد قال في ذلك هورن:«ألّف الإنجيل الثّاني سنة(56)و ما بعدها إلى سنة(65)و الأغلب أنّه ألّف سنة(60)أو سنة (63)».و يقول صاحب كتاب«مرشد الطّالبين»:إنّه كتب سنة(61).

إنجيل لوقا:يقولون:إنّ لوقا ولد في أنطاكية، و درس الطّبّ،و نجح في ممارسته،و لم يكن من أصل يهوديّ،و لقد رافق بولس في أسفاره و أعماله.[إلى أن قال:]

و لكنّ الدّكتور بوست يقرّر أنّه لم يكن أنطاكيا،بل كان رومانيّا نشأ بإيطاليا.و يختلفون أيضا في القوم الّذين كتب لهم أوّلا هذا الإنجيل،فالقسّ إبراهيم سعيد يقول:

«إنّه كتب لليونان،و إنجيل متّى كتب لليهود،و إنجيل مرقس كتب للرّومان،و إنجيل يوحنّا كتب للكنيسة العامّة».

و إنّا نجد إنجيل لوقا يبتدئ بهذه الجملة:«إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقّنة عندنا، كما سلّمها إلينا الّذين كانوا منذ البدء معاينين،رأيت أيضا إذ قد تتبّعت كلّ شيء من الأوّل بتدقيق أن أكتب على التّوالي إليك أيّها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحّة الكلام الّذي علمت به».

و ثاوفيلس هذا يقول عنه ابن البطريق:إنّه من عظماء الرّوم،فيقول في ذلك:«و كتب لوقا إنجيله إلى رجل شريف من علماء الرّوم يقال له:ثاوفيلا،و كتب إليه أيضا الأبركسيس الّذي هو أخبار التّلاميذ،و هي الرّسالة المسمّاة أعمال الرّسل،و هناك من يقول:إنّ ثاوفيلس هذا كان مصريّا لا يونانيّا،فهو قد كتب للمصريّين لا لليونان على هذا الرّأي.

و يقول الدّكتور بوست في تاريخه:«قد كتب هذا الإنجيل قبل خراب أورشليم و قبل الأعمال،و يرجّح أنّه كتب في قيصريّة في فلسطين مدّة أسربولس (2)سنة (58-60)من الميلاد،غير أنّ البعض يظنّون أنّه كتب قبل ذلك».

و من هذا يفهم أنّ بوست يرجّح أنّه ألّفه،و بولسaP

ص: 772


1- .suisorO
2- solvaP

حيّ في الأسر،و لكن يحقّق العلاّمة لارون أنّه حرّر إنجيله بعد أن حرّر مرقس إنجيله،و ذلك بعد موت بطرس،و بولس.و الواقع أنّ باب الخلاف في تاريخ تدوين هذا الإنجيل أوسع من ذلك،فقد قال هورون:

ألّف الإنجيل الثّالث سنة(53)أو سنة(63)أو سنة (64).

و لا نترك هذا الإنجيل من غير أن نقول:إنّ الباحثين قد اختلفوا في شخصيّة كاتبه،و في صناعته،و في القوم الّذين كتب لهم،و في تاريخ تأليفه.و لم يتّفقوا إلاّ على أنّه ليس من تلاميذ المسيح و لا تلاميذ تلاميذه،و إلاّ على أنّه كتب باليونانيّة.

إنجيل يوحنّا:لهذا الإنجيل خطر و شأن أكثر من غيره،لأنّ فيه ذكرا صريحا لألوهيّة المسيح،و لذلك كان لا بدّ من العناية به؛إذ كان التّثليث هو شعار المسيحيّة.

يقول جمهور النّصارى:إنّ كاتبه هو يوحنّا الحواريّ الّذي كان يحبّه المسيح،و لكن بجوار هؤلاء من المحقّقين من أنكر ذلك،بل كتبه يوحنّا آخر،و قد أنكر العلماء في آخر القرن الثّاني نسبته إلى يوحنّا الحواريّ،و لم يردّ عليهم ارينيوس (1)تلميذ يوحنّا.

و لقد قال أستادلن في العصور المتأخّرة:«إنّ كافّة إنجيل يوحنّا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية،و لقد كانت فرقة الوجين في القرن الثّاني تنكر هذا الإنجيل و جميع ما أسند إلى يوحنّا».و في دائرة المعارف البريطانيّة:«لا شكّ أنّه كتاب مزوّر أراد صاحبه مضادّة اثنين من الحواريّين بعضهما لبعض،و هما القدّيسان يوحنّا و متّى،و قد ادّعى هذا الكاتب المزوّر في متن الكتاب:أنّه هو الحواريّ الّذي يحبّه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاّتها،و جزمت بأنّ الكاتب هو يوحنّا يقينا.و لا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التّوراة الّتي لا رابطة بينها و بين من نسبت إليه،و إنّا لنرأف و نشفق على الّذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا،و لو بأوهى رابطة،ذلك الرّجل الفلسفيّ الّذي ألّف هذا الكتاب في الجيل الثّاني بالحواريّ يوحنّا الصّيّاد الجليل،فإنّ أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى».

هذا قول بعض الباحثين من كتّابهم،و من البديهيّ أن يعدّ المتعصّبون ذلك القول خروجا على المسيحيّة، و لذلك قال أحد هؤلاء المتعصّبين و هو الدّكتور بوست رادّا على هؤلاء:«و قد أنكر بعض الكفّار قانونيّة هذا الإنجيل،لكراهتهم تعليمه الرّوحيّ و لا سيّما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح،غير أنّ الشّهادة بصحّته كافية، فإنّ بطرس يشير إلى آية منه(2 بط 1:14 قال يو 21، 18)و اغناطيوس (2)و بوليكرس (3)يقتطفان من روحه و فحواه،و كذلك الرّسالة إلى ديوكنيتس و باسيليوس (4)و جوستينس الشّهيد و تانيانس،و هذه الشّواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثّاني.و بناء على هذه الشّهادات،و على نفس كتابه الّذي يوافق ما نعلمه من سيرة يوحنّا نحكم بأنّه من قلمه،و إلاّ فكاتبه من المكر و الغشّ على جانب عظيم،و هذا الأمر يعسر تصديقه،

.aB

ص: 773


1- .suisorO
2- .aloyol ed ecangI
3- .epracyloP
4- .suilisaB

لأنّ الّذي يقصد أن يغشّ العالم لا يكون روحيّا، و لا يتّصل إلى علوّ و عمق الأفكار و الصّلات الموجودة فيه،و إذا قابلناه بمؤلّفات الآباء رأينا بينه و بينها بونا عظيما،حتّى نضطرّ للحكم بأنّه لم يكن منهم من كان قادرا على تأليف كهذا،بل لم يكن بين التّلاميذ من يقدر عليه إلاّ يوحنّا و يوحنّا ذاته لا يستطيع تأليفه بدون إلهام من ربّه».

و إذا نظرنا إلى هذا القول نظرة فاحصة كاشفة نقسّمه قسمين:قسم يعلن به الكاتب شدّة إيمانه و تعصّبه لما يشتمل عليه هذا الكتاب و تقديسه،و هو القسم الّذي ذكره في عجز قوله،و هو أنّه لا يستطيع أحد من الآباء بل لا يستطيعه أحد من الحواريّين،بل لا يستطيعه الكاتب نفسه إلاّ بإلهام من ربّه،و يلحق بهذا الجزء ما سبقه ممّا يماثله،فإنّ من الخطأ أن يعدّ ذلك برهنة و احتجاجا،فإنّه ليس فيه أيّة محاولة لهما.[إلى أن قال:]

و لقد اختلف المسيحيّون في تاريخ تدوين هذا الإنجيل اختلافا بيّنا،فالدّكتور بوست يرجّح أنّه كتب سنة(95)أو سنة(98)و قيل:سنة(96).

و يقول هورن في تاريخ تدوين ذلك الإنجيل:«ألّف الإنجيل الرّابع سنة(68)أو سنة(69)أو سنة(70) أو سنة(89)أو سنة(98)من الميلاد».إذن فليس هناك تاريخ محرّر لتدوين هذا الإنجيل،كما أنّه ليس هناك بيان قد خلص من الشّكّ بحقيقة كاتبه،و قد علمت ما في ذلك.

و لقد قالوا:إنّه كتب لغرض خاصّ،و هو أنّ بعض النّاس قد سادت عندهم فكرة أنّ المسيح ليس بإله،و أنّ كثيرين من فرق الشّرق كانت تقرّر تلك الحقيقة؛فطلب إلى يوحنّا أن يكتب إنجيلا يتضمّن بيان هذه الألوهيّة، فكتب هذا الإنجيل و قد قال جرجس زوين اللّبنانيّ فيما ترجمه:«إنّ شيرينطوس و ابيسون و جماعتهما لمّا كانوا يعلّمون المسيحيّة بأنّ المسيح ليس إلاّ إنسانا،و أنّه لم يكن قبل أمّه مريم؛فلذلك في سنة(96)اجتمع عموم أساقفة آسيا و غيرهم عند يوحنّا و التمسوا منه أن يكتب عن المسيح،و ينادي بإنجيل ممّا لم يكتبه الإنجيليّون الآخرون،و أن يكتب بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح».

و قال يوسف الدّبس الخوريّ في مقدّمة تفسيره من «تحفة الجيل»:«إنّ يوحنّا صنّف إنجيله في آخر حياته بطلب من أساقفة كنائس آسيا و غيرها،و السّبب أنّه كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح،فطلبوا منه إثباته و ذكر ما أهمله متّى و مرقس و لوقا في أناجيلهم».

و قال صاحب«مرشد الطّالبين»:«إنّه لا يوجد اتّفاق بين العلماء بضبط السّنة الّتي فيها كتب يوحنّا إنجيله،فإنّ بعضهم يزعم أنّه كتبه في سنة(65)قبل خراب أورشليم،و آخرون ممّن يوجد فيهم بعض الأقدمين يروون بكتابته في سنة(98)و ذلك بعد رجوعه من النّفي».[إلى أن قال:]

و هنا لا يسع القارئ لتلك النّقول إلاّ أن يستنبط أمرين:

أحدهما:صريح و هو أنّ الأناجيل الثّلاثة الأولى ليس فيها ما يدلّ على ألوهيّة المسيح.[إلى أن قال:]

ثانيهما:أنّ الأساقفة اعتنقوا ألوهيّة المسيح قبل وجود الإنجيل الّذي يدلّ عليها.و يصرّح بها؛حيث اتّجهوا إلى يوحنّا فكتب لهم إنجيله دعما لاعتقادهم في

ص: 774

المسيح،و أنّ هذا الإنجيل كتب لإثبات ألوهيّة المسيح و إن كان في رسائل الرّسل الّتي كتبت-في قولهم قبل هذا الإنجيل-ما ينبئ عن ألوهيّة المسيح.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ هذه الأناجيل ليست نازلة على عيسى حتّى في نظر النّصارى،و لكنّها منسوبة لبعض تلاميذه و من ينتمي إليهم.[ثمّ بحث عن إنجيل برنابا (1)فلاحظ،انتهى ملخّصا بتصرّف]

(محاضرات في النّصرانيّة 43-61)

هاكس :الإنجيل:لفظ يونانيّ بمعنى البشارة،لو 2:

110-اع،13:32 روم 10:15،و الغرض من هذه البشارة بفداء المسيح و موته و قيامه لأجلنا نحن العصاة و فائدتنا،و هذه البشارة في مت 26:13،إنجيل،و في مت 9:35 بشارة ملكوت،و في مر 1:1،إنجيل عيسى مسيح، و في روم 10:15 بشارة سلامة،و في اف،1:13 إنجيل الخلاص،و في أوّل تسلو 2:9 إنجيل اللّه،و في اع،20:

24،و يدعى بالبشارة و نعمة اللّه.

أمّا معجزاته عليه السّلام و وفاته و قيامه و صعوده و تعليمه فتسمّى بالأناجيل،تحتوي على أفضل البشارات للإنسان.و المشروعة منها أربعة،يعني«متّى،مرقس، لوقا،و يوحنّا».و قد قبلتها الكنيسة بسرعة،كما أنّها محطّ رجوع المحبّين و الأعداء،و لم يقل أحد من المصنّفين و المحقّقين و الخبراء بشريعة المسيح بوجود إنجيل آخر غيرها.و من يقرؤها يعلم بوضوح أنّ إنجيل يوحنّا ليس كغيره من الأناجيل،لأنّ إنجيل«متّى،مرقس،لوقا»كلّها تشرح حياته و تعليماته و قيامه باختصار.

أمّا إنجيل يوحنّا فينقل باختصار الأمور الّتي وقعت في زمانه و ترتبط بحياته و يتعرّض لتعاليمه الرّوحيّة و أوامره،الّتي لم يتطرّق لها غيره من الأناجيل.و تطرّق إنجيل يوحنّا أيضا إلى ألوهيّته قبل غيره،و كذا إلى معارضة فريسين له،يو:5:16،في آخر أسبوع قبل صلبه«يو،باب 13-17»و يذكر مفصّلا قضيّة إحياء «ايلعاذر»يو 11،و لكن هذا الإنجيل ترك بعض الأمور، كحكاية ميلاد المسيح و صعوده إلى السّماء،و العشاء الرّبّانيّ،و سائر العجائب و الأمثال الّتي ذكرتها بقيّة الأناجيل.

و من دقّق النّظر في إنجيل يوحنّا يعلم بوضوح أنّ الوقائع الّتي نقلت في الأناجيل الثّلاثة كان قرّاؤها قد اطّلعوا عليها من قبل،فعلم أنّ هذا الإنجيل قد كتب بعدها.

و اعلم أنّ العلماء قد وجدوا منذ زمن قديم أنّ الأناجيل الثّلاثة أكثر موضوعاتها و محتوياتها متشابهة حتّى سياق العبارات،و سنخها تكاد تكون واحدة.

و الظّاهر أنّ كتّابها أخذوا الحقائق من الرّسل و التّلاميذ و سائر النّاس الّذين كانوا في عصره،و لذا كانت عناوينها و موضوعاتها متّفقة.و لا شكّ أنّ بعض هذه الوقائع حرّرت و كتبت قبل كتابة الأناجيل،لوقا 1:1.

و أمّا أيّتها كتب أوّلا؟فباعتقادي أنّ إنجيل مرقس كتب قبل الأناجيل كلّها.و يظنّ ظنّا قويّا أنّ اعتماده كان في ما نقله على بطرس الرّسول،كتب بعده إنجيل متّى و إنجيل لوقا.و متّى في تحرير إنجيله يستند على إنجيل مرقس،و على النّسخة الّتي حرّرها متّى نفسه من قبل،aB

ص: 775


1- .abanraB

و لوقا أيضا جعل مرجعه و وثيقته إنجيل مرقس و النّسخة الّتي كانت تضمّ تعاليم المسيح.و لعلّه هو الّذي دوّنها، و قد كتبها سابقا باللّغة الآراميّة لوقا 1:41.و أمّا منكر و المسيح القدماء فإنّهم يقولون:إنّ الأناجيل ليست بصحيحة معتبرة،لأنّها كتبت بعد صعود عيسى عليه السّلام بثلاثين عاما أو أكثر،و لكنّا نعلم كثيرا من محتوياتها حرّرت قبل هذه الأناجيل بمدّة قصيرة بعد نهضة عيسى عليه السّلام،و لذا فالبحث و الجدل حوله لم يكن له قيمة، و الدّليل واضح على وجودها و رواجها في القرن الثّاني، و يوستينس الشّهيد كان يستعملها في سنة(140).

و من الأناجيل المزوّرة ما يسمّى بأبي كريفا،يعني المزوّر أو الموضوع و هو باق إلى الآن،و تحتوي هذه الأناجيل الموضوعة صنوفا من الأوهام و الأساطير.

و من جملة الأدلّة على صحّة الأناجيل:

أوّلا:شهادات كتّاب القرن الثّاني و من بعدهم.

و ثانيا:اقتباسات أجداد القدماء عنها.

و ثالثا:التّراجم القديمة كالإيطاليّة و الپشتويّة المنسوبة إلى القرن الثّاني و الّتي تتطابق تماما مع هذه الأناجيل الرّائجة اليوم في أيدي النّصارى.و منها إنجيل يعقوب،و إنجيل نيقوديموس (1)و غيرهما،و الّتي تحتوي على حياة والديه و ما عرف عنه في طفولته من العجائب و ما شاهده في جهنّم،و كأنّها حرّرت هذه الأناجيل ليستأنس لأجل السّفهاء بأساطيرها و أصحاب العقول السّاذجة.و الخلل في هذه الأناجيل واضح جدّا لمخالفتها مرامي مخلصنا السّيّد المسيح.نعم الفائدة الّتي تترتّب عليها أنّها كالنّقود المزيّفة تعرف بها النّقود الخالصة و الرّائجة.(111)

إنجيل لوقا:قيل:إنّ لوقا كتبه بإشراف أو توجيه بولس (2)،و كان صاحبه في أسفاره غالبا.و لوقا من الحواريّين العظام يذكر المسيح في إنجيله بأنّه كان مخلصا و عطوفا على العاصين غاية العطف،و كتبه لتيوفلس، و هو من أعاظم اليونانيّين أو الرّوم في سنة ثلاث و ستّين بعد الميلاد.(772)

إنجيل متّى:تاريخ كتابته غير معلوم،و لكن اتّفق القدماء على وجوده و انتشاره قبل سائر الأناجيل، و زعم بعضهم بأنّه كتب في سنة ثمان و ثلاثين.و ذهب بعضهم إلى أنّه صنّف ما بين سنتي خمسين و ستّين،و أمّا أنّ أصله باللّغة اليونانيّة أو العبريّة ففيه خلاف بينهم، و القدماء يذهبون إلى أنّه كان في الأصل عبريّا لكون المسيحيّين في الأرض المقدّسة يتكلّمون العبريّة فكتب هذا الإنجيل لهم،و فيه أنّه لم يذكر في التّاريخ ترجمته باليونانيّة على أنّ عدّة من الدّلائل الّتي في النّسخة اليونانيّة توجد و تدلّ على أنّه كان متداولا بينهم، و المحقّقون يذهبون إلى صحّة كلا القولين،و بعضهم يذهب إلى أنّ كتابته كانت بالعبريّة،ثمّ ترجمه و كتبه نفسه إلى اليونانيّة.(782)

إنجيل مرقس:اتّفق القدماء على أنّ مرقس لم يكن من الحواريّين،و لكن كتب إنجيله بأمر پطرس في بلاد الرّوم،و نشره بعد وفاة پطرس و بولس.و لكنّ هذا المعنى غير معتبر،و يعلم من وضع شرحه و تفسيره فيaP

ص: 776


1- .sumedociN
2- .solvaP

خصوص تقاليد اليهود و عاداتهم أنّه كتب إنجيله للقبائل،و يذكر المسيح عليه السّلام بأنّه رسول اللّه و كان مقتدرا بأعماله و أقواله.(792)

إنجيل يوحنّا:زعم الكتّاب القدماء أنّ إنجيل يوحنّا هو آخر الأناجيل الّتي كتبت بأيدي الحواريّين.

و أتباع الكنيسة في القرن الأوّل كانوا يعتقدون بأنّ كاتبه هو يوحنّا الرّسول،و لم يذكر اسم المؤلّف فيه،كما لم يذكر في غيره من الأناجيل أسماء مؤلّفيها،و ايرينيوس تلميذ پليكارب و هو تلميذ يوحنّا يصرّح بأنّ يوحنّا كتبه بعد صدور سائر الأناجيل في إفسس.و أكثر المحقّقين يذهبون إلى أنّ تأليفه كان في آخر القرن الأوّل،كما أنّ بعضهم يعتقدون بكونه مؤلّفا في أوائل القرن الثّاني و هؤلاء يقولون أيضا:بأنّ مؤلّفه لم يكن يوحنّا الرّسول بل هو يوحنّا الشّيخ.و هذا القول فيه أخطاء و شكوك.

(966)

هوتسما :«إنجيل»أو أنجيل تحريف للكلمة اليونانيّة rciyewqvE. و يبدو لنا من القرآن و من مصنّفات كثير من الكتّاب المسلمين أنّ المسلمين كانوا على شيء من العلم بالإنجيل.و من اليسير أن نبيّن مدى علمهم هذا بإيراد بعض الشّواهد،على أنّه من العسير أن نحدّد بشكل قاطع-لا عن طريق الاستنباط-كيفيّة وقوفهم على تلك المعلومات.

و ليس من شكّ في أنّ بعض ما وقفوا عليه وصل إليهم شفاها في المناظرات أو المحادثات الودّيّة الّتي كانت تجري بين المسلمين و النّصارى،و لم يسجّل التّاريخ إلاّ القليل عن نقل المعلومات إلى المسلمين بهذه الطّريقة.

و هناك وسيلة أخرى لمعرفة المسلمين بالإنجيل،فإنّ النّصارى الّذين أسلموا أدخلوا في الإسلام بعض الآراء النّصرانيّة الّتي ظلّت عالقة في أذهانهم،و نلمس للنّصرانيّة تأثيرا آخر ظهر في التّصوّف عند نشأته الأولى،ففي تعاليمه المبكّرة آثار منها(انظر nosshO'D الغزاليّ،طبعة باريس،1902).و قد يصحّ لنا أن نقول:

إنّه كان بين مسلمي العرب من كانوا ينشدون المعرفة للمعرفة،و أنّهم-جريا وراء هذه المعرفة-قرءوا ترجمات عربيّة للإنجيل قام بها النّصارى.

و سنذكر في إيجاز ما عرفناه عن هذه التّرجمات،ثمّ نتبع هذا بما ورد من الإنجيل في القرآن أو في مصنّفات المؤلّفين:

ترجم نصارى العرب الإنجيل عن اليونانيّة و السّريانيّة و القبطيّة.و التّرجمة الّتي عملت عن اليونانيّة تمّت في عهد متقدّم جدّا،كما يدلّ على هذا قدم المخطوطات الخاصّة بها(مكتبة الفاتيكان؛ onaigroB adnagaporP 31,barA )،و الّتي يرجع عهدها إلى القرن الثّامن الميلاديّ.و يذكر ابن العبريّ أنّ هناك ترجمة أقدم من هذه التّرجمات قام بها البطريق يوحنّا و هو من القائلين بالطّبيعة الواحدة،و كان ذلك بأمر الأمير العربيّ عمرو بن سعد،بين سنتي 631 و 640.

و كتب جرجس،أسقف القبائل العربيّة في بابل، و كان معاصرا و صديقا ليعقوب الرّهاويّ تعليقات على الكتب المقدّسة.و يرى شبرنجر »regnerpS« أنّ في كتاب محمّد بن إسحاق(طبعة وستنفلد،ص 149 و ما بعدها)

ص: 777

فقرة مأخوذة من ترجمة للإنجيل تمّت قبل الإسلام(انظر demmahoM sed nebeL saD ،ج 1،ص 131-132).

و هذه الفقرة تتضمّن الفقرات 23-27 من الإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنّا.

و كلمة«المنحمنّا»الّتي وردت فيها-و يقابلها في اليونانيّة كلمة-ليست عربيّة و لا سريانيّة،و إنّما هي من اللّغة الفلسطينيّة القديمة.

على أنّنا إذا كنّا لا نستطيع أن نقول:إنّ هذه التّرجمات ترجع إلى مثل هذه العهد القديم،فإنّا نرى أنّ التّرجمات الأولى الّتي نقلت عن اليونانيّة ترجع على الأقلّ إلى ما بعد الفتح الإسلاميّ و ما تلاه من انتشار اللّغة العربيّة.

و هناك ترجمة أخرى للإنجيل قديمة جدّا نقلت عن السّريانيّة،و يوجد مخطوط لها محفوظ في ليبسك.

و يذهب جلد ميستر retsiemedliG إلى أنّها عملت بين سنتي 750 و 850 م(انظر: siilegnavE seD ،ص 35).

و على هذا نستطيع أن نقول:إنّ المسلمين عرفوا منذ عهد متقدّم أهمّ كتب العهد الجديد من ترجمات عربيّة لها.

و في اللّغة العربيّة،إلى جانب الأناجيل الصّحيحة كتب منحولة،و هي:إنجيل الصّبوة،و إنجيل القدّيس يعقوب،و رؤيا القدّيس بولس،و عظة القدّيس بطرس، و أخرى لسيمون،و رسالة في استشهاد القدّيسين يعقوب و سيمون.هذا إلى رسائل أخرى صغيرة،يظهر أنّ المسلمين لم يكونوا على علم بها.و يقول lavuD.R في كتابه المسمّى euqairyS erutarettiL aL ،طبعة باريس سنة 1899،ص 96:إنّ رؤيا القدّيس بطرس وضعت باللّغة العربيّة في القرن الثّالث عشر الميلاديّ.

و كان محمّد أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصّحيحة،و لم تصل إليه تلك المعرفة من مصادر مسيحيّة خالصة،و إنّما نقلت إليه على يد يهود اعتنقوا النّصرانيّة،و يستدلّ على هذا بنوع القصص الّذي ورد في القرآن،و قد تكيّف بقصص أولئك الّذين سمّاهم محمّد«الحنيفيّين»،و قيل:إنّهم كانوا على دين إبراهيم.و هذا الموضوع ليس إلاّ مسألة فرعيّة من المسألة العامّة الخاصّة بأصل الإسلام و مصادره.

و كان الشّعر أيضا وسيلة من الوسائل الّتي انتقلت بها آراء النّصارى إلى المسلمين.فعند ظهور الإسلام كان الشّعراء يتردّدون على الحيرة،و كانت تربطهم بنصارى العرب خير الصّلات،فنقلوا إلى بلاد العرب ما سمعوه من القصص في حانات الحيرة،نذكر من هؤلاء:زيد بن عمرو بن نفيل،و أميّة بن أبي الصّلت الّذي كان واسع العلم بالقصص اليهوديّ أيضا .و ظلّ الشّعر أمدا طويلا همزة الوصل بين المسلمين و النّصارى.و لسنا نجهل الحفاوة الّتي قوبل بها الأخطل الشّاعر النّصرانيّ في بلاط الأمويّين.

و كان الطّبّ و أعمال الحكومة من الوسائل الّتي وثّقت الصّلات بين المسلمين و النّصارى.و حسبنا أن نذكر هنا اسم سرجيوس منصور الّذي كان كاتبا لأربعة من الخلفاء،و هو أبو يوحنّا الدّمشقيّ،و كذلك كتّاب النّصارى الّذين استخدمهم حكّام المسلمين،و ظلّوا كذلك إلى أن منعهم الوليد بن عبد الملك من الكتابة باليونانيّة.و لنعد الآن إلى ما كنّا بسبيله من الكلام عن

ص: 778

القرآن.

يرد كثيرا في القرآن ذكر عيسى و مريم و الإنجيل.

و محمّد يعرف الفرق الجوهريّ بين الإنجيل و القرآن في مسائل الأخلاق،و بخاصّة في الرّأفة و الرّحمة(انظر سورة الحديد،آية:27)،و عنده فكرة ما عن التّشبيه الخاصّ بالزّارع الّذي يبذر البذور (سورة الفتح،آية:

29)،و عمّا جاء فيه من الوعد بإرسال رسول آخر (انظر سورة الأعراف،آية:157،و إنجيل يوحنّا، الإصحاح السّادس عشر،فقرة 7)،و أنّ الإنجيل جاء مصدّقا للتّوراة(انظر سورة المائدة،آية:46)،و ذكر من معجزات عيسى إبراءه للأعمى و الأبرص و بعثه للموتى.

و الأخبار الإنجيليّة الّتي يظهر أنّها كانت أكثر شيوعا في البيئة الّتي شبّ فيها النّبيّ هي الرّوايات الخاصّة بالبشارة. و جاء في القرآن أنّ الملائكة قالت:

يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (انظر سورة آل عمران،آية:42،و انظر أيضا إنجيل لوقا الإصحاح الأوّل:فقرة 28)؛و جاء فيه أيضا تصديق بأنّ المسيح ولد من أمّ عذراء(انظر سورة الأنبياء،آية 91)،و القرآن في إنكاره لصلب المسيح يقول قول الطّائفة النّصرانيّة الّتي تسمّى الدّوسيتيّة.

(انظر في ذلك سورة النّساء،آية:157؛سورة آل عمران، آية 55)،و القصّة الموجزة الّتي وردت في القرآن عن رفع المسيح،تجعل حياته منتهية في اللّحظة الّتي تجعلها الأناجيل بدء لآلامه(انظر الزّمخشريّ،طبعة ليز،ج 1، ص 169،و طبعة مصطفى محمّد ج 1 ص 192).

و قد ذكر القرآن دعوة الحواريّين في سورة آل عمران(آية:52-53).و لهذه الدّعوة صلة بالرّهبانيّة(انظر سورة الحديد،آية:27)الّتي نجد شبها لها في رسائل إخوان الصّفاء(انظر هذه المادّة).و ذكر القرآن عجيبة من العجائب الّتي جرت على أيدي الحواريّين عند ما أنزل المسيح لهم مائدة مغطّاة من السّماء قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ سورة المائدة:114، و انظر كذلك،أعمال الرّسل،الإصحاح العاشر،الفقرة التّاسعة و ما بعدها.و ذكر القرآن كذلك قصّة خلق المسيح لطير من الطّين(سورة آل عمران،آية:49 و سورة المائدة،آية:110)و هذه القصّة مأخوذة من إنجيل صبوة المسيح.أمّا تسمية المسيح بآدم الثّاني فنجد في القرآن ما يقرب منها و ذلك في سورة آل عمران،آية:59 ، و عبارة: وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الّتي وردت في سورة البقرة:آية:87،لم يفهمها محمّد لأنّه خلط بين روح القدس و بين جبريل.

و فوق هذا فإنّ المفسّرين قد أفاضوا في الكلام على القصص الّذي ورد في القرآن متّصلا بالعهد الجديد و بخاصّة ما كان منه متّصلا بطفولة مريم.و صوّر القرآن العذراء في صورة جذّابة لا تكاد تختلف كثيرا عن تصوير النّصارى لها.أمّا كلامه عن المسيح فعلى عكس هذا لم يكن قاطعا كلّ القطع،و قد جعله في صورة أقلّ من الصّورة الّتي نجدها له في الإنجيل،فهو في القرآن لا يعدو أن يكون نبيّا صالحا،على أنّ محمّدا لم يجرّده من اسم «المسيح»(سورة النّساء،آية:171-172)،و لكن

ص: 779

يظهر أنّه لم يقصد بهذه التّسمية معنى دينيّا معيّنا.و لم يرد في القرآن ذكر للشّخصيّات الأخرى الّتي جاءت في العهد الجديد،اللّهمّ إلاّ يحيى(يوحنّا المعمدان)و زكريّا.

و للعهد الجديد أثر عظيم في الحديث،فكثير من الأعاجيب و الأمثال و الآراء المنسوبة إلى محمّد أو صحابته نجد أصولها في الإنجيل.و قد ذهب جولد سيهر إلى أنّ القصص الّتي تقول إنّ محمّدا زاد في كمّيّة الطّعام أو الشّراب لصحابته ترجع إلى قصّة«عرس قانا»الواردة في الإنجيل،و لكنّا نرى أنّها تردّ إلى قصّة الأرغفة و السّمكات الّتي جاءت فيه.و الأحاديث العديدة الّتي تجعل للفقراء مكانة عند ربّهم و تتحدّث عن المصاعب الّتي يلقاها الأغنياء في دخول الجنّة يظهر فيها أثر تعاليم الإنجيل،و هي تتعارض و آراء العرب الجاهليّين ،بل إنّ أبا داود و هو من رجال الحديث نسب إلى النّبيّ،كما يقول جولد سيهر حديثا منقولا عن صلوات «الرّبّ» .

و قد لفتني الأب لامنس snemmaL إلى أنّ الحديث الّذي يروي أنّ أبا بكر استعبر عند ما سمع عظة النّبيّ يرجع كذلك إلى أصل مسيحيّ،فإنّ هبة الدموع« ttig sraet fo »المعروفة في التّصوّف المسيحيّ لا تتّفق كثيرا و خلق العرب الفاتحين.

و كان لما ورد عند المسيحيّين عن الرّؤيا أثر كبير في الأساطير الخاصّة بالمهديّ و بما يقوله المسلمون عن العالم الآخر.

و نجد كثيرا من مؤرّخي المسلمين كانوا على علم واسع بالأناجيل.فقد ذكر اليعقوبيّ شيخ مؤرّخي العرب فقرات من الأناجيل في كتابه.و لم يخف المسعوديّ الّذي كان شغوفا بالبحث و التّنقيب صلته بالنّصارى.و هو يروي لنا أنّه زار في النّاصرة كنيسة يقدّسها النّصارى؛ حيث أخذ عنهم كثيرا من القصص الوارد في الإنجيل.

و كان المسعوديّ يعرف شيئا عن ميلاد المسيح في بيت لحم،و طفولته في النّاصرة،و ما جاء في إنجيل متّى (الإصحاح الثّالث،فقرة 17)من أنّ صوتا من السّماوات كان يقول:«هذا هو ابني الحبيب».و قد ذكر هذه الرّواية في شيء من الاختلاف.و سمع كذلك قصّة زيارة المجوس للمسيح عند ما كان طفلا كما وردت في الإنجيل و غيره من المصادر.و أورد قصّة دعوة الحواريّين كما هي،و ذكر أسماء أصحاب الأناجيل الأربعة،و تحدّث عن هذه الأناجيل كأنّه رآها،و ذكر خلاصة دقيقة لها.

و مع هذا فإنّ المسعوديّ يشكّ بعض الشّكّ في هذه الأناجيل،بينما يتحدّث عنها القرآن في احترام عميق.

و كان المسعوديّ كذلك محيطا كلّ الإحاطة بسيرة الحواريّين،و ذكر مرّتين استشهاد القدّيس بطرس و القدّيس بولس،و لكنّه ذكر أنّ بولس استشهد على نحو لم يستشهد عليه إلاّ بطرس وحده،و يقول المسعوديّ:

إنّ القدّيس توما كان الحواريّ الّذي ذهب إلى الهند.

و يظهر أنّ المسلمين كانوا يعرفون توما أكثر من غيره من الحواريّين ما عدا بطرس،و علمهم بالقدّيس بولس نفسه أقلّ من علمهم بسيرة بطرس.

أمّا البيرونيّ فكان أكثر معرفة من المسعوديّ،و قد أخذ عن النّساطرة عند ما صنّف كتابه«الآثار الباقية عن القرون الخالية».و كان يعرف كثيرا من نصوص

ص: 780

الأناجيل،و كذلك تفسير الإنجيل لداذيشوع usejdaD (ورد هذا الاسم daduseJ انظر tavuD:ttiL euqairyS.، الطّبعة الثّانية،ص 84)،و هو يتحدّث عن هذه النّصوص في شيء من النّقد.

و يرى البيرونيّ أنّ الأناجيل الأربعة عبارة عن أربع نسخ،و هو يوازن بينها و بين نسخة التّوراة عند اليهود و نسختها عند النّصارى،و نسختها عند السّامرة، و يلاحظ أنّ هناك خلافا كبيرا بين هذه الأناجيل الأربعة.و يورد البيرونيّ نسب يوسف بالتّفصيل كما ورد في إنجيل متّى و في إنجيل لوقا،و يبيّن في عبارة شائقة كيف يعلّل النّصارى الاختلاف بين الرّوايتين،و يذكر بعد ذلك أنّ أصحاب مرقيون و أصحاب ابن ديصان و أصحاب مانيّ كانت عندهم أناجيل أخرى.

و يرى أنّ أناجيل أصحاب مرقيون و أصحاب ابن ديصان تخالف فى بعض أجزائها أناجيل النّصارى،أمّا إنجيل أصحاب مانيّ فيشتمل على خلاف ما عليه النّصارى من أوّله إلى آخره.و إزاء هذه الخلافات الكثيرة يقول البيرونيّ:إنّه«لا يوجد من الأناجيل إذن من كتب الأنبياء ما يعتمد عليه». (1)

و تحتوي التّرجمة الفارسيّة لتاريخ الطّبريّ على قصص من العهد الجديد مذكورة في توسّع أكثر من نصّها العربيّ،و هي تشابه ما جاء عنها في قصص الأنبياء، و فيها بعض تفصيلات عن الآلام،مثل قصّة سيمون و خيانة واحد من الحواريّين لم يذكر اسمه،و وقوف مريم تحت الصّليب. و يحتفظ المؤلّف في بقيّة روايته برأي المسلمين الّذي يذهب إلى أنّ شخصا آخر صلب مكان المسيح،و اسمه يهوذا ausoJ ،و أورد في كلامه عن الحواريّين الرّواية الّتي تقول:إنّ يوحنّا ذهب إلى الرّها.

و نجد في كتب التّصوّف إشارات عدّة إلى الإنجيل،بل نجد فيها أيضا أنّ أصحاب هذه الكتب كانوا على علم بتفسير آباء الكنيسة لبعض أجزاء الإنجيل.على أنّ ما يذكره متصوّفة المسلمين من أقوال المسيح لا يطابق ما جاء في الإنجيل.

نضرب لذلك مثلا بما ذكره الغزاليّ من الأقوال المنسوبة إلى المسيح فإنّها غير صحيحة،بينما نجد أنّ السّهرورديّ قد أورد نصّا كاملا دقيقا عن التّشبيه الخاصّ بالزّارع الّذي يبذر البذور.

و قد اشتملت رسائل إخوان الصّفاء على فقرات ممتعة عن صلب المسيح يفترضون صحّتها،و كذلك عن البعث و اجتماع الرّسل في العشاء الأخير و انتشارهم في الأرض.و ذكروا صراحة أفعال الرّسل باسم أفعال الحواريّين.

و المؤلّفات الفلسفيّة تحتوى كذلك على طائفة كبيرة من المناظرات الّتي جرت بين المسلمين و النّصارى.

و حسبنا أن نذكر هنا أبا عليّ عيسى بن زرعة الّذي صنّف في سنة(387 ه)ردّا على أبي القاسم عبد اللّه بن أحمد البلخيّ،و كذلك يحيى بن عديّ و هو من علماء النّصارى و كان من تلاميذ الفارابيّ،فإنّه كتب دفاعا عن المسيحيّة أهداه إلى الشّيخ أبي عيسى محمّد بن الورّاق.

كما ردّ على اعتراض الكنديّ على القول بالتّثليث(انظر مادّة عيسى و مادّة المهديّ).).

ص: 781


1- البيرونيّ:الآثار الباقية(ص 23).

و المسلمون على وجه عامّ يحترمون الأناجيل و يبجّلون عيسى و مريم.و يقول التّرك عن الأناجيل:

«الإنجيل الشّريف».و يروي عدد من الكتّاب الّذين عاشوا في تركية أنّ كثيرا من التّرك يؤثرون الإنجيل على القرآن دون أن يجهروا بهذا الرّأي،و يذكرون على وجه خاصّ حادث قابظ أفنديّ الّذي جاهر إبّان حكم سليمان الأوّل بأنّه يفضّل الإنجيل على القرآن،فكان جزاؤه الإعدام(انظر ed lareneg nosshO'D:uaelbaT namottO eripmE'L ،ج 1:ص 153).

المصادر
اشارة

يمكن الرّجوع إلى المصادر التّالية فيما يختصّ بالتّرجمات العربيّة النّصرانيّة: sed sebara snoisreV ,selignavE في iecniL ied.dacA'l ed ittA')1(idiuG المجموعة seuqihposolihp te selarom secneicS الرّابعة،ج 4،سنة 1888.

farG.G:-retiL ehcibara hciltsirhc eiD)2( .H:.rtieB tieZ nehcsiknarf ruz sib ruta' فريبورج bara-.ltsirhc ruz 5091.)3(nessuoG red.ttiL.bara-lsirhc eiD ج 4 ,.hcsegrutaretiL ,reb ليبسك 1909(4) regniruE.S:eiD-arozoM ،ج 17 sed srebU.bara red gnurefeilrebu الكتاب الثّاني برلين neiduts ehcsilbiB,snorassetaiD niE ztuhcsbod nov.E te srelloV.K:)5(.2191 red tfirhcstieZ.garfneilegnavE.bara-hcsinaps ج 56،ص 633 hcslleseG في luegroM.hcstueD و ما بعدها؛و انظر كذلك مادّة«ابن العسّال».

muc retsiemedlliG:.ibara ni silegnavE eD)6( بون oitatnemmoc sitalsnart acairyS icilpmiS te acimedaca 5681 .

و يمكن الرّجوع إلى المصادر التّالية فيما يختصّ بالمناقشات حول الإنجيل:

enoigiler orp)1(maH ned nav:oitatupsiD ليدن 1890(2)- dloG-revda muronademmahoM :kimeloP ehcsinademmahuM rebU sonaitsirhC sus .hcstueD batiK-la lhA negeg في .d.rhcstieZ rehiz .ص 341،ج 32 ,slleseG.lnegroN

و يمكن الرّجوع إلى المصادر التّالية عن أثر العهد الجديد في الحديث:

)1(rehizdloG:ehcsinademmahum htidaH ج 2، ص 382 و ما بعدها، neidutS المؤلّف نفسه .ltnematsetueN tnematseT seueN dnu (2) في sunaitsirhC sneirO-idarT red ni etnemelE 1902،ص 390 و ما بعدها malsI sed.ttilsnoit

و يرجع إلى المصادر التّالية عن الأناجيل المكذوبة:

(1)انجيل الصّبوة، eaitnafnI.gnavE طبعة سيك ،اترخت 1697(2) olihT:tseT von.rcopa xedoC .ekiS.H

seL sehpyrcopa الطّبعة الثّانية،باريس 1863(3) .R:euqairys ttiL الطّبعة الثّانية، tenurB.G:selignavE في neiterhC tneiro'l ed euveR aL 3671)4(lavuD .biD.p

ص: 782

(5)باريس 1900 و هو يستشهد ص 418- 423،1905 بالتّرجمات العربيّة المنقولة عن القبطيّة و السّريانيّة.

و يرجع إلى المصادر التّالية عن الشّعراء:

(1) ohkliehG.L.P:sneiterhC sebara seteoP، بيروت 1890-1891.

في. sedaimO sed ertnahc eL:snemmaL (2)

المجموعة التّاسعة ج 4،عام 1894 taisA.nruoJ naroQ ud ecruos ellevuon enU:tnemelC)3( .tlaS.S-iba nbi ayiamU

.taisA.nruoJ ،المجموعة العاشرة،عام 1904(4)

ج 1، elatneirO etlucat al ed segnaleM في rewop ص 197 و ما بعدها،بيروت 1906.

المصادر المذكورة في صلب المقال:- (1)اليعقوبيّ طبعة هوتسما،ج 1،ص 74-89(2) ieb neilegnavE ned sua guzsuA htormalK:reD .zrhcstseF,ibukaY,rekirotsiH bara med muisanmyG-mlehliW sed gnuhiewniE

همبورج 1885.

(3) timS.G:ednegelne lebjiB ned jib ibukaY revjirhcs nehcsibarA ليدن 1907(4) المسعوديّ،ترجمة و طبعة ed reibraB ed tevaP ellietruoC و dranyem (5)البيرونيّ:الآثار الباقية عن القرون الخالية ygolonorhC ترجمة uahcaS (6)تاريخ الطّبريّ،ترجمة grebnetoZ 1867-1874(7) السّهرورديّ:عوارف المعارف على هامش إحياء علوم الدّين للغزاليّ،القاهرة 1312(8)

برلين afaS-se nawhcI red nehnuldnahbA eiD طبعة cireteiD 1886،ص 594 و ما بعدها [كاراده فو xuaV eD arraC.B ]

تعليق على مقال إنجيل

ممّا لا ريب فيه أنّ القرآن حاجّ اليهود و النّصارى حجاجا دينيّا قويّا في مواضع كثيرة،و صحّح لهم كثيرا من عقائدهم و سلوكهم الّتي كانوا يظنّونها دينا،و أبان لهم عن وجه الحقّ فيها.

و إنّ هذا الموقف الدّينيّ الّذي وقفه القرآن لا يستطيعه إلاّ أحد رجلين،إمّا رجل عكف طيلة حياته على درس الشّئون الدّينيّة و الكتب السّماويّة،و رأى أقوال أساطين الدّين و الشّرّاح،و سائر العقيدة و تطوّرها في عصورها المختلفة،و ما دخل عليها من التّشويه و التّحريف.و كان له مع ذلك بصر نافذ،يبطل الباطل، و يحقّ الحقّ،و هذا أيضا ربّما لا يقارب ما وصل إليه القرآن،لأنّ هذا الحقّ الّذي أظهره في الدّينين اليهوديّ و المسيحيّ قد غشيته سحب كثيرة من الأباطيل،و طال عليه الأمد،فظنّ دينا،و قد حالت هذه الغواشي بين النّاظر و بين الوصول إلى هذا الحقّ.

و إمّا رجل ينطق عن اللّه العالم بكلّ شيء،الّذي رأى شرعه قد تلاعبت به ظلمات البشر،و غشيه سحاب مركوم،فنطق على لسان من أيّده بإرجاع الحقّ إلى نصابه.

و النّظريّة الإسلاميّة تعتقد الثّاني،و المخالفون يعتقدون الأوّل،و قد حاول المخالفون أن يرجعوا ما جاء

ص: 783

في القرآن إلى تعليم،و ما في هذا الفصل بعض هذه المحاولات.

و نحن نلاحظ أنّه لمّا أعجز الكاتبين أن يثبتوا أنّ محمّدا قد درس الإنجيل جمعوا بينه و بين المسلمين، و أخذوا يثبتون أنّهم كانوا على علم بالإنجيل.

و كلّ ما أتوا به من أدلّة لا يثبت أنّ محمّدا كان يعلم الإنجيل،و إنّما يثبت أنّ بعض المسلمين في عصور متأخّرة كانوا يعلمونه،لأنّ أقدم ترجمة عربيّة باعترافهم-و هي أقدم من تلك التّرجمة الّتي تمّت في عهد متقدّم جدّا-كانت كما نقلوا عن ابن العبريّ بين سنة 631 و سنة 641، و محمّد ولد في يوم 20 أبريل سنة 571 م،و توفّي يوم 8 يونيو سنة 632 م،فالتّرجمة الّتي ذكروها لم تتمّ في عهده و لم ينتفع بها في الجدال الّذي احتدم بينه و بين أهل الأديان المخالفة طول عمره.

و كلّ ما شكّكوا به ليصلوا إلى أنّ محمّدا كان يعلم الإنجيل تدفعه سيرته و حياته الّتي عرفت بالتّفصيل لا بالجملة،فقد نشأ أمّيّا بين أمّيّين لا علم يدرسونه،و لا كتب يقرءونها،و لا أساتذة تثقّفهم،و لا فلاسفة تعلّمهم، ثمّ قال لهؤلاء الدّارسين الكاتبين أهل الذّكر و العلم:إليّ إليّ،أصحّح لكم عقائدكم،و أنقّح لكم تاريخكم،و أهذّب لكم علومكم،و أضعكم على الجادّة الّتي كنتم عليها يوم نزل دينكم.و قد وفى بما قال و كان عند ما وعد،و ما ذاك إلاّ أنّه من عند من علّم بالقلم،علّم الإنسان ما لم يعلم.

وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ العنكبوت:48.

تعليقات على مقال«إنجيل»

أي بفتح الهمزة و بكسرها،أمّا الكسر فإنّه اللّغة المعروفة و القراءة المشهورة في القرآن،و أمّا الفتح فإنّه روي عن الحسن أنّه قرأ (و ليحكم أهل الأنجيل) المائدة:

47.

قال الزّمخشريّ في«الكشّاف»(1:342)طبعة مصطفى محمّد:«فإن صحّ عنه فلأنّه أعجميّ،خرج لعجمته عن زنات العربيّة».و قال صاحب«اللّسان»:

«و ليس هذا المثال في كلام العرب».قال الزّجّاج:

«و لقائل أن يقول:هو اسم أعجميّ،فلا ينكر أن يقع بفتح الهمزة،لأنّ كثيرا من الأمثلة العجميّة يخالف الأمثلة العربيّة».

و هذه القراءة المنسوبة للحسن في«الكشّاف و اللّسان»لم أجد لها إسنادا يؤيّد صحّة روايتها،و ليست فيما حكي من القراءات الشّاذّة الّتي اطّلعنا عليها،فهي لغة ضعيفة و قراءة غير جائزة.و العرب إذا عرّبت الأعلام اجتهدت في صوغها على أوزان كلماتها،أو تصرّفت في كثير من حروفها حتّى تدمجها في لغتها،إنقاء للعربيّة من لكنة اللّغات الأعجميّة،و حرصا على ألسنة العرب أن تشيع فيها الرّطانة الأعجميّة.خلافا للقاعدة الّتي وضعها مجمع اللّغة العربيّة الملكيّ(انظر مجلّة الرّسالة في السّنة الرّابعة ص 558)،و هي قاعدة ظاهرة الغلط،و لعلّنا نوفّق إلى تفصيل ذلك في مقام آخر إن شاء اللّه.فهذه الكلمة بكسر الهمزة ليست تحريفا للكلمة اليونانيّة كما زعم الكاتب،و إنّما هي نقل عنها على ما اعتاده العرب في نقل الأعلام.

ص: 784

-لم نجد فيما بين أيدينا من كتب التّاريخ أميرا يسمّى«عمرو بن سعد»و نقل ابن العبريّ:لا يكفي في إثبات مثل هذا إذا لم يوجد ما يؤيّده من المصادر الأخرى الموثوق بها.

-يريد الكاتب بكتاب ابن إسحاق:سيرة ابن هشام الّتي روى فيها كتاب ابن إسحاق،و العبارة الّتي أشار إليها لا يمكن أن يفهم منها أنّها منقولة من ترجمة تمّت قبل الإسلام،بل الرّاجح من فهمها أنّها قطعة ترجمها بعض النّاس و لم ينقلها من كتاب مكتوب مترجم،لأنّه يقول بالحرف الواحد:«و قد كان فيما بلغني عمّا كان وضع عيسى بن مريم فيما جاءه من اللّه في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ممّا أثبت يحنّس الحواريّ لهم حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى بن مريم في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إليهم أنّه قال».إلخ.

فهذا التّعبير عند من يفهم العربيّة و يعرف طرق المتقدّمين في الرّواية و النّقل يعلم من أنّ بعض النّاس نقل من الإنجيل البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم إلى العربيّة في عصر ابن إسحاق،و بلغ ذلك ابن إسحاق،إمّا من المترجم و إمّا من غيره نقلا عنه.و لذلك لم يسمّ الّذي أبلغه؛إذ كانوا لا يحتجّون في كتبهم و روايتهم إلاّ بأهل العدالة و الثّقة من المسلمين،فهؤلاء الّذين يذكرون من شيوخهم في الرّواية بأسمائهم.و لو كانت كما يزعم شبرنجر منقولة من ترجمة للإنجيل قبل الإسلام لما تحرّج ابن إسحاق من ذكر ذلك صريحا؛إذ يراه برهانا أقوى و تأييدا كاملا للبشارة الصّحيحة بالنّبيّ عليه السّلام.و كلمة«المنحمنّا» ضبطت في طبعة«ويستنفلد»بضمّ الميم الأولى و بفتحها مع إسكان النّون و فتح الحاء المهملة و فتح الميم الثّانية و تشديد النّون.و لسنا نجزم بصحّة هذا الضّبط أو خطئه.

-دعوى الكاتب أنّ زيد بن عمرو بن نفيل كان يسمع من القصص في حانات الحيرة دعوى لم نجد ما يؤيّدها،و لم نر نقل ذلك فيما بين أيدينا من المصادر،فلا ندري من أين جاء بها،و لعلّها من إلقاء القول على عواهنه.و انظر ترجمته في«الإصابة»(3:31-32)و «الأغانيّ»(3:123-128 طبعة دار الكتب المصريّة).

-هذه هي التّرجمة الحرفيّة لكلام الكاتب،و لسنا نعرف ما ذا يريد بهذا الكلام و لا إلام يشير من مواضع الأسفار الّتي يسمّونها الأناجيل.و أمّا الآية الّتي أشار إليها فنصّها: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً الفتح:29، و الشّطء،-بفتح الشّين و إسكان الطّاء،و بفتح الطّاء أيضا مع المدّ،و بدون المدّ-:هو فراخ السّنبلة أو النّخلة الّتي تنبت حول الأصل.

-هذا كلام مبهم و غير محدود المعنى إنّما هو ادّعاء أنّ هناك أشياء من الإنجيل كانت شائعة في العصر الّذي نشأ فيه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و لن يستطيع الكاتب و لا غيره أن يقيم أيّ برهان تاريخيّ يؤيّد هذا الّذي يدّعيه.

ثمّ ما ذا يريد بالأخبار الخاصّة بالبشارة؟أ يريد بها

ص: 785

بشارة المسيح عليه السّلام بمحمّد صلّى اللّه عليه و سلّم؟!أم يريد شيئا آخر عجز عن الإفصاح عنه؟!اللّهمّ غفرا.

-ليس في القرآن تسمية المسيح عليه السّلام بآدم الثّاني، و لا ما يقرب من هذا المعنى.و يظهر أنّ الكاتب لم يفهم معنى الآية الّتي يشير إليها،و نصّها: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران:59،فهذا تشبيه عيسى بآدم في بدء خلق كلّ منهما؛إذ خلق آدم من غير أب و لا أمّ،و خلق عيسى من غير أب و إن كان له أمّ.فعيسى يشبه آدم من وجه دون وجه في هذا المعنى،و لا يكون ذلك إشارة إلى تسميته «آدم الثّاني»و لا مسوّغا لها.

و إنّما الآية جاءت في الرّدّ على النّصارى الّذين غلوا في عيسى و ادّعوا أنّه ابن اللّه،و جعلوا له شيئا من صفات الألوهيّة،و غلوا في دينهم،كما قال اللّه تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ النّساء:171، فأقام اللّه عليهم الحجّة و ردّ عليهم حين غلوا في شأنه؛إذ ولد من غير فحل،بأنّ آدم-و هم يؤمنون به و ببدء خلقه -شأنه أغرب،لأنّه خلق من غير فحل و من غير وعاء.

-لا ندري ما ذا يريد الكاتب بهذه العبارة الخارجة عن حدود البحث العلميّ؛فإنّ«جبريل»علم على ملك كريم،آمن المسلمون بوجوده عن إخبار اللّه لهم في كتابه، و عن إخبار رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و هو من الغيب الّذي أمروا بالإيمان به،و كذلك آمن به أهل الأديان السّماويّة الأخرى،و القرآن نزل بلغة العرب،و الرّسول خاطب النّاس بها،و في لغة العرب كلمة«روح»و كلمة«قدس» و هما معروفتا المعنى عندهم،و تأتي كلمة«القدس» وصفا لغيرها،و قد يضاف الموصوف إلى صفته في لغة العرب،و بذلك كان معنى«روح القدس»:الرّوح المقدّسة الطّاهرة أو نحو ذلك.قال الزّمخشريّ في«الكشّاف» (1:80 طبعة مصطفى محمّد): بِرُوحِ الْقُدُسِ البقرة:87،بالرّوح المقدّسة،كما تقول:حاتم الجود، و رجل صدق،و وصفها بالقدس،كما قال: وَ رُوحٌ مِنْهُ فوصفه بالاختصاص و التّقريب للكرامة.

فإطلاق هذا التّعبير على جبريل لا يزيد على أنّه وصف له بأنّه روح مقدّسة مطهّرة،بمقتضى وضع العرب الألفاظ للمعاني،و ليس في هذا الإطلاق أيّ تداخل بين المعاني حتّى يسيغ الكاتب لنفسه أن يعبّر عن الرّسول الكريم هذا التّعبير السّيّئ المنكر،و كأنّه يزعم لنفسه -و هو الأجنبيّ عن لغة العرب-أنّه أعلم بها من أهلها، و ليس بنافعه ذلك شيئا إلاّ أن يدلّ القارئين على مقدار علمه بما يكتب،كما فعل أخ له من قبل،رددنا عليه فيما مضى في مادّة«أمّة».

و أمّا الاصطلاح المسيحيّ في إطلاق كلمة«روح القدس»فإنّه استعمال خاطئ،لا يكون حجّة على القرآن،و لا على لغة العرب؛و ذلك أنّ النّصارى يزعمون:أنّ إلههم ثلاثة أقانيم-تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا-و لهذه الأقانيم في لغاتهم-العبريّة أو السّريانيّة أو اللاّتينيّة أو اليونانيّة أو ما شئت من لغات-ألفاظ تدلّ على هذه المعانيّ الّتي يريدونها،فجاء الّذين ترجموا

ص: 786

أقوالهم و كتبهم و علومهم منهم و ترجموا هذه المعاني المدلول عليها بألفاظ أعجميّة،فأطلقوا عليها ألفاظا عربيّة لها معان أخرى في لغة العرب،فسمّوا هذه «الأقانيم»:الأب و الابن و روح القدس،و كانت هذه التّرجمة،و كان هذا الإطلاق بعد ظهور الإسلام و انتشاره،و كان ذلك من أناس ليسوا من العرب الخلّص، و ليسوا حجّة في اللّغة العربيّة.فلا يكون عملهم أكثر من أنّه خطأ صرف،و لا يكون حجّة على لغة العرب،و لا على الاستعمال العربيّ للألفاظ،فضلا عن أن يكون حجّة على القرآن الكريم،و على سيّد العرب و أفصحهم محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.و هذا واضح بديهيّ لا يحتاج إلى شرح و تفصيل:لغة أطلق فيها ألفاظ على معان،ثمّ يأتي ناس من غير أهلها و يطلقون بعض ألفاظها على معان أخرى غير ما دلّت عليه في تلك اللّغة؛أ يكون ذلك دليلا على خطأ اللّغة الأصليّة؟أم يكون دليلا على جهل النّاقل و خطئه فقط؟!

و أكثر من هذا:إذا فرضنا صحّة ما يحاول الكاتب و أمثاله إدّعاءه.من نقل كتبهم و أقوالهم إلى لغة العرب قبل الإسلام؛هل يكون تعبير النّاقلين من اللّغات الأعجميّة و إطلاقهم الألفاظ على المعاني حجّة على الاستعمال العربيّ الصّحيح؟الجواب بالقول الصّريح؛كلاّ.

لأنّ النّاقل إلى لغة العرب إن كان أعجميّ الأصل فإنّه لا يحتجّ بكلامه عند العرب،و إن كان عربيّ الأصل كان غير حجّة أيضا،لاختلاط لغته بغيرها من اللغات،فإنّ علماء العربيّة لا يحتجّون بغير العربيّ الخالص الّذي لم تخالط لغته لكنة أعجميّة،سواء ذلك في المفردات أم في التّركيب،أعني في إثبات اللّفظ العربيّ أم في قواعد النّحو و الصّرف و البلاغة و غيرها،و لذلك رفضوا الاحتجاج بالشّعر و النّثر من أقوام نشئوا في الحواضر بعد اتّصال الأعجام بالمسلمين،ثمّ رفضوا الاحتجاج بكلام المولّدين مطلقا.

-هذا كلام ليست له قيمة علميّة،فإنّه طعن مجرّد في صحّة الأحاديث المتواترة الّتي لا شكّ في صحّتها و ثبوتها بمعجزات للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و مرجع هذا إلى الخطّة الّتي سار عليها هؤلاء الكتّاب في التّشكيك في الأحاديث النّبويّة و رمي علماء المسلمين و أئمّتهم بأنّهم افتروا هذه السّنّة كلّها على نبيّهم صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد رددنا عليهم قولهم، و نافحنا عن السّنّة النّبويّة،فيما مضى من الدّائرة(ص 588-591 من المجلّد الثّاني).و مشابهة بعض هذه المعجزات الثّابتة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لبعض ما يحكى عن الأنبياء السّابقين لا ينفي صحّتها،و لا يدلّ على أنّها مفتراة موضوعة،و لا على أنّها منقولة من نسخ الأناجيل الموجودة.

-هو حديث ضعيف،رواه أبو داود«4:17-18» شرح عون المعبود»و رواه أيضا النّسائيّ،فلم ينفرد به أبو داود كما يريد الكاتب أن يوهم القارئ،أنّه هو الّذي اخترعه.و في إسناد الحديث راو اسمه«زياد بن محمّد الأنصاري»و هو ضعيف لا يوثق به،قال البخاريّ و النّسائيّ في شأنه:«منكر الحديث»،و قال ابن حبّان:

«منكر الحديث جدّا».و مثل هذا الإسناد لا يكون حجّة عند علماء المسلمين،فلا يكون حجّة عليهم أيضا.

-هذا أغرب ما رأينا من ألوان البحث و النّقد.فإنّ

ص: 787

الكاتب و معه الأب لامنس يريدان أن يزعما أنّ العرب الفاتحين-و قد فتحوا بعض بلاد النّصارى-لا يمكن عقلا أن يكون منهم رجل واحد رقيق القلب يخشى اللّه و يبكي عند الموعظة!!فهل سمع أحد بمثل هذا؟!أو يرى هؤلاء الآباء أنّ الرّقّة و الرّحمة لا تكونان إلاّ في القلوب المسيحيّة؟اللّهمّ غفرا.

-أمّا أنّ اليعقوبيّ و المسعودي و غيرهما من علماء المسلمين كانوا على علم بهذه المؤلّفات الّتي تسمّى «الأناجيل»فهذا شيء معروف مشهور نسلّم به،و نزيد عليه أنّهم كانوا يعرفون كلّ المعرفة كيف ألّفت هذه الكتب،و يعرفون قيمتها التّاريخيّة،كما سنذكر قريبا إن شاء اللّه.و لكن تعبير الكاتب عن المسعوديّ قد يوهم بعض القرّاء أنّ له صلة حقيقيّة بالنّصارى و الكنائس من الوجهة الدّينيّة،و هذا ما لا أصل له و لا شبهة.

و انظر نصّ كلام المسعوديّ في تاريخه بعد ذكر مولد المسيح عليه السّلام،قال(1:29-30 طبعة بولاق):و كان من أمره ما ذكره اللّه عزّ و جلّ في كتابه،و اتّضح على لسان نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و قد زعمت النّصارى أنّ أشيوع النّاصريّ -يريد المسيح-أقام على دين من سلف من قومه يقرأ التّوراة و الكتب السّالفة في مدينة طبريّة من بلاد الأردن في كنيسة يقال لها:المدارس،ثلاثين سنة،و قيل:

تسعا و عشرين سنة،و أنّه في بعض الأيّام كان يقرأ في سفر أشعياء؛إذ نظر في السّفر إلى كتاب من نور فيه:أنت نبيّي و خالصتي،اصطفيتك لنفسي.فأطبق السّفر و دفعه إلى خادم الكنيسة،و خرج و هو يقول:الآن تمّت المشيئة للّه في ابن البشر.و قد قيل:إنّ المسيح عليه السّلام كان بقرية يقال لها ناصرة من بلاد اللّجون من أعمال الأردن، و بذلك سمّيت النّصرانيّة.و رأيت في هذا القرن-كذا في الأصل،و لعلّه في هذه القرية-كنيسة تعظّمها النّصارى، و فيها توابيت من حجارة فيها عظام الموتى،يسيل منها زيت ثخين كالرّبّ،تتبرّك به النّصارى.و أنّ المسيح مرّ ببحيرة طبريّة و عليها أناس و الصّيّادين من القصّارين.

و قد ذكر أنّ ميروحنا و شمعون و بولس و لوقا هم الحواريّون الأربعة الّذين تلقّوا الإنجيل،فألّفوا خبر عيسى عليه السّلام و ما كان من امره و خبر مولده،و كيف عمده يحيى بن زكريّا،و هو يحيى المعمدانيّ،في بحيرة طبريّة، و قيل:في بحر الأردن الّذي يخرج من بحيرة طبريّة و يجري إلى البحيرة المنتنة،و ما فعل من الأعاجيب،و أتى من المعجزات،و ما قالت اليهود إلى أن رفعه اللّه عزّ و جلّ إليه و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة.و في الإنجيل خطب طويل في أمر المسيح و مريم عليه السّلام و يوسف النّجّار؛أعرضنا عن ذلك،لأنّ اللّه عزّ و جلّ لم يخبر بشيء من ذلك في كتابه،و لا أخبر به محمّد نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم».هذا نصّ كلام المسعوديّ الّذي يكاد الكاتب يصوّره بصورة مريبة في نظر المسلمين،و هو من ذلك بريء.

و انظر إلى مقدار الثّقة بنقل هذا الكاتب؛إذ ينسب إلى المسعوديّ أنّه نقل عن الإنجيل أنّ صوتا من السّماء كان يقول:«هذا هو ابني الحبيب»في حين أنّ الّذي نقله المسعوديّ عن بعض نصارى عصره أنّ عيسى رأى و هو يقرأ في السّفر كتابا من نور فيه«أنت نبيّي و خالصتي» إلخ،ثمّ لا يتحرّج أن يسمّي هذا التّناقض البيّن بين الرّوايتين«شيئا من الاختلاف»فأين إذن كلّ

ص: 788

الاختلاف؟!و الّذي نقلناه عن المسعوديّ هو كلّ ما ذكره في«مروج الذّهب»عن الأناجيل،و هو الّذي سمّاه الكاتب«خلاصة دقيقة لها»!!!

-لم يفهم الكاتب كلام البيرونيّ لوقوع خطأ فيه من النّاسخ أو المصحّح،فإنّه قال في(ص 299 س 1) ما نصّه:«و ذكره داذيشوع في ترجمته للإنجيل شعيا.و اللّه أعلم».و هذا كلام غير واضح و لا مفهوم،و لا متّصل بالسّياق الّذي قبله و لا بالّذي بعده،فإنّ أصل الباب إنّما هو في المواسم أو الأعياد الّتي يستعملها«النّصارى الملكائيّة في الشّهور السّريانيّة»(ص 288)،فأخذ يسرد كلّ شهر من هذه الشّهور،و يذكر في كلّ منها أيّام المواسم بأسماء أصحابها عندهم.و يسمّي هذه المواسم «الأعياد و الذّكارين»(ص 288 س 17)،و يسمّي كلّ واحد منها باسم«ذكران»فيقول مثلا:«ذكران حنين الأسقف الشّهيد تلميذ بولس،و من رسومهم في هذه الذّكارين أنّهم يذكرون صاحبه و يدعون له و يثنون عليه،و يتضرّعون إلى اللّه باسمه،و يسمّون كلّ مولود يولد فيه و بعده إلى الذّكران الآخر باسمه،و ربّما قسم الذّكارين بعضهم على بعض،فيقولون:فلان صاحب ذكران فلان،فإذا كان الذّكران اجتمعوا عنده فأضافهم و أطعمهم»(ص 288 س 19-23)،ففي هذا الموضوع الّذي نقل منه الكاتب فلم يفهم ما نقل؛تجد البيرونيّ يذكر شهر«أيار»(ص 296)،و يذكر أيّامه إلى أن يقول (ص 298 س 22):«و في اليوم التّاسع ذكران أشعيا النّبيّ،ثمّ يذكر في أوّل(ص 299)العبارة الّتي أوهم فيها الكاتب،ثمّ يقول:«و في العاشر ذكران ديونسيوس الأسقف».فهذا السّياق كلّه يدلّ على أنّ كلمة«و ذكره داذيشوع»محرّفة عن«و ذكران يشوع»،و أنّ كلمة«في ترجمته للإنجيل شعيا»محرّفة أيضا،و لعلّ صوابها«في ترجمة الإنجيل لشعيا»أو نحو ذلك.و على كلّ حال فإنّ هذا ينفي قطعا وجود ترجمة أو تفسير للإنجيل لشخص اسمه«داذيشوع»و أنّ البيرونيّ اطّلع عليه.و إنّما أوتي الكاتب من تحريف النّسخة المطبوعة،و من عدم تحقّقه بما يكتب،أو تفهّمه لما يقرأ.

ثمّ إنّ الكاتب ادّعى أنّ البيرونيّ أخذ عن النّساطرة عند ما صنّف كتابه«الآثار الباقية»و أنا آسف إذ أقول:إنّ هذا غير صدق.

-ليس لهذا شيء من الأهمّيّة،و هو لا يدلّ إلاّ على أنّ المترجم إلى الفارسيّة لا ثقة به،و أنّه لم يكن أمينا في ترجمته.

-ممّا يؤسف له أنّ الكاتب صدق هذه المرّة في نقله عن«رسائل إخوان الصّفا»فإنّهم ذكروا أكذوبة صلب المسيح عليه السّلام في الرّسائل(ج 4 ص 97 طبعة مصطفى محمّد)فخرجوا بذلك من عداد المسلمين،لأنّهم نقلوا على سبيل الجزم شيئا نفاه اللّه سبحانه في القرآن، و كذّب قول من ادّعاه: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً النّساء:157،158.

تعليق و نقد على مقال«إنجيل»
اشارة

بعد نقد أغلاطه تفصيلا في مواضعها لم أقرأ فيما قرأت من مقالات«دائرة المعارف الإسلاميّة»مقالا مضطربا

ص: 789

كهذا المقال.

فإنّ كاتبه خلط فيه خلطا غريبا،فشرّق و غرّب، و أسهب و أوجز،و أشار و صرّح،و هو يدور في حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها،و لا يعرف كيف يخرج منها، و قد وضع نصب عينيه غاية يرجو الوصول إليها،ثمّ يعجز عن إدراكها؛إذ كانت خيالا يضطرب في ذهنه، ليس لها وجود في حقائق التّاريخ،فهو يحاول أن يثبت أنّ الدّين الإسلاميّ مقتبس من الكتب الّتي يسمّونها عندهم «أناجيل»،و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان على علم بها أو بشيء منها.

فجاءت في القرآن أشياء من الإنجيل كما يزعم،و أنّ المسلمين عرفوا هذه الكتب فذهبوا ينقلون عنها علومهم و دينهم،و يفترون الأحاديث بمعاني ما عرفوا منها على نبيّهم،و يزعم أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصّحيحة،و لم تصل إليه تلك المعرفة من مصادر مسيحيّة خالصة،و إنّما نقلت إليه على يد يهود اعتنقوا النّصرانيّة،و أنّ الشّعراء عند ظهور الإسلام كانوا يتردّدون على الحيرة،فنقلوا إلى بلاد العرب ما سمعوه من القصص في حاناتها،إلى آخر ما تهافت فيه ليرجعه إلى شيء واحد سمّاه«المسألة العامّة،الخاصّة بأصل الإسلام و مصادره».

ثمّ ذهب يضطرب به القول،فتارة يشير إلى بعض آيات من القرآن فيها ذكر مريم و عيسى و غير ذلك ممّا يظنّ أنّه يتّفق و المرويّ عندهم أو يخالفه،و تارة يذكر «الطّبّ و أعمال الحكومة»و أنّها من الوسائل الّتي وثّقت الصّلات بين المسلمين و النّصارى،و تارة يذكر بعض معجزات النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الثّابتة بالأحاديث الصّحيحة ليحاول أن ينسبها إلى أصول عندهم،حتّى يتهيّأ له أن يشكّك القارئ ثمّ يوهمه أنّ المسلمين أخذوها عن النّصارى و نسبوها إلى نبيّهم على أنّها معجزات له،ثمّ يزداد اضطرابا،فيذكر بعض مؤرّخي المسلمين و يصفهم بأنّهم كانوا على علم واسع بالإنجيل،و يحرّف في تلخيص كلامهم حتّى يوقع في نفس القارئ أنّهم كانوا يحتجّون بهذه الأسفار،و يعتبرونها مصادر صحيحة لبعض التّاريخ،ثمّ يناقض نفسه فينقل عن البيرونيّ أنّه قال:«لا يوجد من الأناجيل إذن من كتب الأنبياء ما يعتمد عليه».و يغلبه ما يجد في نفسه من الحرص على رأيه حتّى يغفل عن خطأ من النّاسخين في نسخة البيرونيّ فينسب إليه أنّه كان يعرف تفسير الإنجيل لرجل اسمه «داذيشوع»،و هو شخص لم يوجد قطّ،و إنّما أتى من خطأ النّسخة،و لو حرص على التّحقيق العلميّ ما وقع في هذه الغلطة الشّنيعة.

و لكنّه نسي بجوار هذا أن يذكر كثيرا من علماء المسلمين الّذين اطّلعوا على هذه الأناجيل و أبانوا ما فيها من اختلاف و أخطاء و ألّفوا في ذلك كتبا وافية،كابن حزم و ابن تيميّة و ابن قيّم الجوزيّة و القرافيّ،و غيرهم ممّن قبلهم،و ممّن بعدهم.

و أخيرا يدّعي أنّ المسلمين على وجه عامّ يحترمون الأناجيل،و أنّ التّرك يسمّونها«الإنجيل الشّريف»و أنّ كثيرا منهم«يؤثرون الإنجيل على القرآن دون أن يجهروا بهذا الرّأي»و يحتجّ لذلك برجل تركيّ ارتدّ عن الإسلام في عهد سليمان الأوّل فحكم بقتله جزاء ردّته.

و هي كما ترى أقوال متهاترة،لا يأخذ بعضها بناصية

ص: 790

بعض،و لا يدلّ مجموعها على شيء له قيمة علميّة.

و هذه مسائل شائكة،الخوض فيها قد يثير النّفوس، و يوغر الصّدور،و لو شاء القائل منّا أن يقول،لوجد مجال القول ذا سعة،و لكنّا لسنا من دعاة الفتنة،و لا ممّن يحرصون على الجدال.و قد دأب أمثال هذا الكاتب على مهاجمة الإسلام و العدوان عليه في عقائده،و محاولة إثارة الشّكوك في الحقائق التّاريخيّة الثّابتة الّتي تتعلّق بالإسلام.و ليس علينا من بأس أن نقف موقف الدّفاع بالقول الرّقيق المؤدّب،لإقرار الحقّ في نصابه،و خدمة خالصة للعلم الصّحيح.

إنّ الاتّصال العقليّ و الفكريّ بين المسلمين و بين أهل الكتاب-من اليهود و النّصارى-لا يستطيع أحد أن ينكره،و قد كان اليهود بجوار المسلمين في المدينة حتّى أجلاهم عنها عمر،و كان المسلمون قد فتحوا مصر و الشّام و غيرهما من الأقطار الّتي كان يدين أهلها بالنّصرانيّة،و كان أهل الكتاب أهل ذمّة للمسلمين و في حمايتهم،يرفرف عليهم عدل الإسلام و نصفته و كانوا يدخلون في دين اللّه أفواجا راضين مختارين،ممّا رأوا من كرم المسلمين،بعد أن ذاقوا ألوان الظّلم و العذاب من زعمائهم و رؤسائهم.و لكنّه كان في أوّل أمره اتّصالا في الشّئون العامّة الدّنيويّة،و لم يوجد اتّصال علميّ بالمعنى المفهوم إلاّ في أواخر القرن الثّاني للهجرة تقريبا عند البدء في نقل كتب الأوائل إلى اللّغة العربيّة،و كان ذلك مقصورا على الفلسفة و فروعها و الطّبّ و ما أشبه هذا، و لم تترجم إلى اللّغة العربيّة الكتب الدّينيّة و لا القصص«الرّوايات»،و لعلّه قد ترجم شيء من التّوراة و الأناجيل تراجم نادرة محصورة بين اليهود و النّصارى الّذين نشئوا في الدّولة العربيّة،ليسهل عليهم معرفة دينهم إذا عسر عليهم قراءتها باللّغات الّتي كانت بها، و أمّا أن تكون هذه التّراجم معروفة لعلماء المسلمين و دهمائهم-كما يريد الكاتب و أمثاله أن يرجفوا به-فذاك شيء غير ثابت و لا معروف في التّاريخ الإسلاميّ.و لذلك لم يجد كاتب هذا المقال سندا يؤيّد به وجود تراجم للإنجيل إلاّ التّرجمة الّتي قال عنها:إنّها نقلت عن السّريانيّة،و نقل عن«جلد مستر»أنّه يرى أنّها ترجمت بين سنتي(750 و 850 م)،أي بين سنتي(132 و 235 هجريّة).و يظهر من هذا أنّها غير ثابتة التّاريخ، و أنّ هذا التّاريخ الّذي نسبت إليه ظنّ فقط،و نحن لم نر هذه النّسخة المترجمة،فلا نستطيع الجزم بشيء في صحّة هذا النّقل و هذا التّاريخ أو عدم صحّتها.

و أمّا التّرجمة الّتي يدّعي ابن العبريّ أنّه قام بها البطريق يوحنّا بأمر الأمير عمرو بن سعد بين سنتي (631 و 640 م)-أي ما يوافق السّنة الّتي قبل الهجرة إلى السّنة 18 ه-فهذا شيء لا سند له و لا قيمة،و أبو الفرج بن العبريّ ليس حجّة في مثل هذا النّقل،و لا يوثق بشيء ينقله عن عصر بينه و بينه أكثر من(600)سنة، و لم يسنده إلى نقل يقارب العصر المنقول عنه،فإنّه عاش بين سنتي(623 و 685 ه)ثمّ هذا ابن العبريّ رجل متعصّب معروف بالتّحامل على العرب و على المسلمين،و هو صاحب الحكاية الباطلة الّتي نقلها عن حرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندريّة،حتّى إنّ الدّكتور(بتلر)صرّح بأنّه ليس من دليل على أنّ أصل

ص: 791

هذه الرّواية أقدم من أيّام أبي الفرج(انظر فتح العرب لمصر تعريب الأستاذ فريد أبو حديد ص 350 طبعة سنة 1933)،فمثل هذا الرّجل غير ثقة و لا مأمون على النّقل،حتّى لو نقل شيئا عن عصره أو ما يقاربه،فضلا عن تفرّده بنقل يستند إلى ما قبل عصره بمئات السّنين.

و أمّا كلّ ما أرجف به الكاتب ليصل إلى ما يدّعيه من معرفة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بما يسمّونه«الأناجيل»حتّى يمكنه الإعلان بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان أكثر معرفة بالأناجيل المنحولة منه بالأناجيل الصّحيحة و بأنّ هذا الموضوع ليس إلاّ مسألة فرعيّة من المسألة العامّة الخاصّة بأصل الإسلام و مصادره،فإنّه شيء لا يثبت أمام النّقد،و لا تؤيّده أيّة حقيقة من حقائق التّاريخ.و قد كان النّصارى من قبل الاسلام بمئات السّنين مختلفين في صحّة الكتب الّتي يطلقون عليها اسم«الأناجيل»و هي أكثر من سبعين كتابا،حتّى تحكّم فيهم الزّعماء و الرّؤساء في مجمع «نيقيّة»في القرن الرّابع الميلاديّ،فاعتبر المجمع أنّ هذه الكتب الأربعة المعروفة الآن هي الأناجيل الصّحيحة؛ و بذلك صارت الكتب الرّسميّة للدّين المسيحيّ،و اعتبر ما عداها منحولا أو غير صحيح،و هذه الكتب الّتي اعتبرت منحولة غير مشتهرة و غير معروفة تفصيلا إلاّ قليلا.فمن أين يعرفها العرب قبل الإسلام و عند بدء ظهوره؟

و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم رجلا أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب،كما ثبت بالتّواتر الصّحيح في التّاريخ،و كما نصّ اللّه عليه في القرآن الكريم،و قد أقمنا الحجّة على ذلك فيما مضى من الدّائرة في التّعليق على مادّة«أمّي»(ص 647 من المجلّد الثّاني،ثمّ أنعم اللّه عليه بالنّبوّة و الرّسالة،و بعثه إلى النّاس كافّة بهذا القرآن الكريم،و جعله مصدّقا لما بين يديه من التّوراة و الإنجيل و كتب الأنبياء السّابقين،إجمالا لها من غير تفصيل،و جعل كتابه«مهيمنا»على هذه الكتب،أي رقيبا عليها كلّها،كما قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ المائدة:48،و هذا الرّجل الأمّيّ لم يقرأ شيئا من كتبهم، و لم يبلغه من الكتب الّتي في أيدي النّصارى-مع ما فيها من الاختلاف-قليل و لا كثير،و مع ذلك فإنّه لا يذكر إنجيل عيسى عليه السّلام في القرآن إلاّ باللّفظ المفرد«إنجيل» فلو كان هذا القرآن من عند غير اللّه،و كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عرف هذه الرّوايات لجاء التّعبير عنها في القرآن و لو مرّة واحدة بلفظ الجمع«أناجيل»،و هي الّتي كانت و لا تزال معروفة عند النّصارى،من صحيح في زعمهم و منحول.

ثمّ انظر في شأن هذا الرّجل الأمّيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لو كان يعرف هذه العشرات من الكتب الّتي تسمّى«أناجيل»و أراد أن يحقّق أمرها،و يعرف الزّيف منها من الصّحيح،و يحكم فيها حكما قاطعا صحيحا،و يأتي بكتاب ثبت مهيمن عليها رقيب فإلى أيّ أنواع من الثّقافة و العلوم الدّينيّة و التّاريخيّة و الأثريّة يحتاج؟و هل كانت هذه العلوم كلّها موجودة في كتب مؤلّفة قبل بدء الإسلام؟سواء باللّغة العربيّة أم بغيرها من اللّغات؟و كم يستغرق تعلّم ذلك و معرفته فقط من السّنين؟و أين كان أعداؤه من المشركين و أهل الكتاب،إذا كان قد تعلّم كلّ هذه العلوم،و درسها الدّراسة الكاملة الّتي تمكّنه من الحكم بتحريف كتبهم و نسيانهم«حظّا ممّا ذكّروا به»؟

ص: 792

نعم إنّ بعض المشركين زعم أنّه تعلّم بعض الشّيء من غيره،و قد حكى اللّه ذلك في القرآن عنهم،ثمّ ردّ عليهم قولهم بأقوى ردّ،فخرست ألسنتهم و ألسنة غيرهم،فلم يدّع ذلك أحد منهم و لا من أهل الكتاب بعد ذلك،مع كفرهم به و عداوتهم له.و تربّصهم به و بالمسلمين أن يجدوا حجّة تنصرهم عليهم؛إذا علموا أنّهم لو عادوا إلى هذه الدّعوى،لكانت حجّتهم داحضة، و دعواهم كاذبة،فإنّه نشأ بينهم و عرفوا تاريخ حياته و أحواله تفصيلا و إجمالا،و لم يجدوا من يصدّقهم من أهل عصرهم المشاهدين الحاضرين في أنّه تعلّم كلّ هذه العلوم و الشّرائع من بعض القارئين و الكاتبين في مكّة.

و قد اتّصل المسلمون بالنّصارى و اليهود بعد الفتح العربيّ للبلاد اتّصالا وثيقا،و قامت في بعض الأوقات حرب الجدال الدّينيّ بين الفريقين و احتدمت،و مع ذلك فإنّه لم يزعم أحد-فيما نعلم-من أعداء المسلمين أنّ القرآن مقتبس كلّه أو بعضه من التّوراة أو الأناجيل أو الآراء المسيحيّة،إلاّ في هذه العصور المتأخّرة،حينما ضعف شأن الدّول الإسلاميّة مادّيّا،و قام المستشرقون و في أعقابهم المبشّرون بالهجوم العلميّ على المسلمين، بعد أن وضعوا أيديهم على أكثر بلاد الإسلام، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ التّوبة:32،33.

و بعد،فإنّ اللّه تعالى يقول في سورة النّحل،و هي سورة مكّيّة: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ* إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ 103،104،105.

قال الفخر الرّازيّ في تفسير هذه الآيات(ج 4 ص 185-186 الطّبعة الأولى ببولاق):«اعلم أنّ المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و ذلك أنّهم كانوا يقولون:إنّ محمّدا إنّما يذكر هذه القصص و هذه الكلمات لأنّه يستفيدها من إنسان آخر و يتعلّمها منه-ثمّ ذكر اختلاف الرّوايات في اسم هذا البشر،و قال:و بالجملة فلا فائدة في تعديد هذه الأسماء،و الحاصل أنّ القوم اتّهموه بتعلّم هذه الكلمات من غيره،ثمّ إنّه يظهرها من نفسه و يزعم أنّه إنّما عرفها بالوحي و هو كاذب فيه،ثمّ إنّه تعالى أجاب عنه بأن قال:

لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

ثمّ قال في تقرير أوجه الرّدّ عليهم و تكذيبهم:

«الأوّل:أنّهم لا يؤمنون بآيات اللّه و هم كافرون،و متى كان الأمر كذلك كانوا أعداء.للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و كلام العدوّ ضرب من الهذيان،و لا شهادة لمتّهم.الثّاني:أنّ أمر التّعليم لا يتأتّى في جلسة واحدة،و لا يتمّ في الخفية،بل التّعلّم إنّما يتمّ إذا اختلف المتعلّم إلى المعلّم أزمنة متطاولة و مددا متباعدة،و لو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أنّ محمّدا عليه السّلام يتعلّم العلوم من فلان و فلان.

الثّالث:أنّ العلوم الموجودة في القرآن كثيرة،و تعلّمها لا يتأتّى إلاّ إذا كان المعلّم في غاية الفضل و التّحقيق،فلو

ص: 793

حصل فيهم إنسان بلغ في التّعليم و التّحقيق إلى هذا الحدّ لكان مشارا إليه بالأصابع في التّحقيق و التّدقيق في الدّنيا!!فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية و المباحث النّفيسة من عند فلان و فلان؟!و اعلم أنّ الطّعن في نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأمثال هذه الكلمات الرّكيكة يدلّ على أنّ الحجّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كانت ظاهرة باهرة،فإنّ الخصوم كانوا عاجزين عن الطّعن فيها،و لأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذا الكلمات الرّكيكة».

إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم-و قد ثبت لك أنّه لم يتعلّم شيئا من كتّاب الأديان السّابقة،و لم يدرس شيئا من العلوم و المعارف-يخبرنا عن اللّه سبحانه أنّه يقول في شأن النّصارى و كتبهم: وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ المائدة:14.أ يمكنك أن تتصوّر أنّ هذا «الأمّيّ»يحكم الحكم القاطع الصّريح البيّن بأنّ النّصارى نسوا الكثير ممّا ذكّرهم به عيسى عليه السّلام من نفسه و من علمه بدون وحي من اللّه؟!

إنّ الّذي يأتي بهذا القرآن و بما فيه من تشريع تقطّعت دونه أعناق الأمم و بما فيه من توحيد و تمجيد للّه، و بما فيه من القصص و الأخبار الصّادقة،و بما فيه من المواعظ و الحكم،و بما فيه من مكارم الأخلاق،هذا القرآن الّذي أعجز الإنس و الجنّ أن يأتوا بسورة من مثله،و هو الهدى و دين الحقّ.أقول:إنّ الّذي يأتي بكلّ هذا في كتاب واحد لن يعقل أن يكون تعلّمه من كتب يحكم هو عليها بأنّها محرّفة مبدّلة،أو كلمات يسمعها عرضا على ألسنة بعض أهل الكتاب في جزيرة العرب، أو نقلا عن بعض الشّعراء الّذين يتّبعهم الغاوون،و هم في كلّ واد يهيمون،و هم يقولون ما لا يفعلون.

و من المضحك،بل ممّا يؤسف له أنّ كاتب المقال لم يصن قلمه في مثل هذا البحث الّذي يزعمه بحثا علميّا عن ذكر الحانات.و كان الأجدر به أن يفقه أنّ ما يتحدّث به السّكارى في الحانات،و خاصّة الشّعراء منهم،لا يصلح أن يكون أساسا لدين عظيم يهدي إلى اللّه،و يعلّم النّاس الشّرائع و المكارم،و يدعو إلى إعلاء كلمة اللّه، و إلى نشر الفضيلة و حرب الرّذيلة،و إلى النّهي عن الخمر و الميسر و غيرهما من المنكرات،و يصفها بأنّها رجس من عمل الشّيطان.

و قد كان الأولى به،و هو يشرح مادّة«إنجيل»أن يذكر تاريخ هذه الكتب الّتي بأيديهم أوّلا،ثمّ يدّعي بعد ذلك ما شاء من الدّعاوي،و لكنّه-فيما نظنّ-أحجم عن ذلك لئلاّ يكون نقضا لكلّ ما يدّعيه.

و قد ذكر أستاذنا الإمام العلاّمة السّيّد محمّد رشيد رضا الكثير من تاريخها في مواضع متعدّدة من تفسيره، و كان رحمه اللّه من أعلم النّاس في هذا العصر بتاريخها و بدراستها،هو و أستاذنا العلاّمة الكبير الشّيخ عبد الوهّاب النّجّار أطال اللّه بقاءه.و هاك قطرة من غيث ممّا قاله السّيّد رشيد رحمه اللّه(ج 6 ص 287-288) من التّفسير[المتقدّم في صفحة 82 من هذا النّصّ].ثمّ ذكر الأدلّة على ذلك تفصيلا،ثمّ قال(ص 301-302):

«فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد:

فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ، و ثبت به أنّه كلام اللّه

ص: 794

و وحيه؛إذ ليس هذا ممّا يعرف بالرّأي حتّى يقال:إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قد اهتدى إليه بعقله و نظره.كيف و قد خفى هذا عن أكثر علمائنا الأعلام عدّة قرون،لعدم اطّلاعهم على تاريخ القوم».

[و نقل قول رشيد رضا المتقدّم في ص 5 إلى 6 من هذا النّصّ ثمّ قال:]

و قال الأستاذ العلاّمة الشّيخ عبد الوهّاب النّجّار في كتاب«قصص الأنبياء»(ص 465-466(الطّبعة الثّانية):«أين يوجد اليوم إنجيل المسيح الّذي ذكره القرآن الكريم؟إنّ الإنجيل الّذي أتى به المسيح و سلّمه إلى تلاميذه و أمرهم أن يبشّروا به لا يوجد الآن،و إنّما توجد قصص ألّفها التّلاميذ و غير التّلاميذ،لم تسلم من المسخ و التّحريف بالزّيادة و الحذف».

و إن شئت معرفة تاريخ هذه الأسفار الأربعة الّتي تسمّى الأناجيل و مقدار ما فيها من التّناقض و الاختلاف،و مقدار الوثوق بها من الوجهة التّاريخيّة،ثمّ قيمتها العلميّة عند علماء الاسلام،فاقرأ الجزء الثّاني من كتاب«الفصل في الملل و الأهواء و النّحل»للامام الحافظ الحجّة أبي محمّد ابن حزم المتوفّى سنة(456)و كتاب «الجواب الصّحيح»لشيخ الإسلام ابن تيميّة المتوفّى سنة (728)و كتاب«هداية الحيارى»للإمام المحقّق ابن قيّم الجوزيّة المتوفّى سنة(751)و كتاب«الأجوبة الفاخرة» للعلاّمة الكبير شهاب الدّين القرافيّ المتوفّى سنة(684) و كتاب«الفاروق بين المخلوق و الخالق»لصاحب السّعادة الحاج عبد الرّحمن بك أفندي باچه چي زاده، و كتاب«دين اللّه في كتب أنبيائه»للعلاّمة الدّكتور محمّد أفندي توفيق صدقي رحمه اللّه،و كتاب«قصص الأنبياء» لأستاذنا الشّيخ عبد الوهّاب النّجّار،و ما كتبه المرحوم الإمام السّيّد محمّد رشيد رضا في التّفسير و المنار،و أخيرا كتاب«الإنجيل و الصّليب»تأليف الأب عبد الأحد داود الآشوريّ العراقيّ،و قد ترجمه عن التّركيّة أحد الأفاضل من مسلمي العراق،و طبع في القاهرة سنة(1351).

و إذا كانت عقيدة المسلمين من عصر النّبوّة إلى الآن أنّ هذه الكتب محرّفة مبدّلة،أو مصنوعة موضوعة، فكيف يتصوّر ذو عقل أنّهم يأخذون عنها دينهم؟!أو أن يدخل في أذهانهم و آرائهم بعض ما يقرءونه أو يسمعونه منها،و هم يرون رسولهم صلّى اللّه عليه و سلّم قد جاءهم بالدّين الحقّ،و ترك في أيديهم كتابا جعله إماما لهم لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،و أبان لهم في سنّته كلّ ما احتاجوا إليه في شئون دينهم و دنياهم،و هم يسمعون حكم اللّه في الكتب الّتي عند أهل الكتاب أنّها محرّفة لا يوثق بها،و يسمعون قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تصدّقوا أهل الكتاب و لا تكذّبوهم،و قولوا:آمنّا باللّه و ما أنزل إلينا و ما أنزل إليكم».و هذا حديث صحيح رواه البخاريّ من حديث أبي هريرة(انظر فتح الباري 8:

129،و 13:282 و 430 طبعة بولاق)،و يقرءون حديث جابر بن عبد اللّه:«أنّ عمر أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب،و قال:

لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة،لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به،و الّذي نفسي بيده لو أنّ موسى كان حيّا ما وسعه إلاّ أن يتّبعني».

رواه الإمام أحمد و ابن أبي شيبة و البزّار،و إسناده

ص: 795

صحيح(انظر الفتح 13:281).و هذا المعنى متواتر عند المسلمين معلوم من الدّين بالضّرورة.

و كان المسلمون في تشريعهم و فقههم مستقلّين تمام الاستقلال بكتابهم و سنّة نبيّهم،لم يتأثّروا في شيء من ذلك بكتب النّصارى و لا بقوانين الرّومان،و لا بغيرها من آراء من سبقهم،يعرف ذلك من توسّع في دراسة الشّريعة الإسلاميّة و أصولها من الكتاب و السّنّة،و قد يخفى على من قصر دراسته و معرفته على كتب الفروع الفقهيّة فيخدعه ما يرى فيها من شبه ببعض القواعد القانونيّة عند غير المسلمين.

و بعد هذا البيان الموجز لا أراني في حاجة إلى مناقشة الكاتب تفصيلا في المواضع الّتي زعم أنّ القرآن اتّفق مع الأناجيل فيها أو خالفها،و أنّ للعهد الجديد أثرا في الحديث،أو في كتب الصّوفيّة أو غيرها،و قد دمّرنا الأساس الّذي بنيت عليه هذه الدّعاوي الباطلة:

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ المائدة:15 و 16.

(دائرة المعارف 3:10-33)

الطّباطبائيّ:
1-قصّة التّوراة الحاضرة:

بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب،كانوا يعيشون أوّلا عيشة القبائل البدويّين ثمّ أشخصهم الفراعنة إلى مصر،و كانوا يعامل معهم معاملة الأسراء المملوكين حتّى نجّاهم اللّه بموسى من فرعون و عمله.

و كانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحياة بالإمام و هو موسى،و بعده يوشع عليهما السّلام،ثمّ كانوا برهة من الزّمان يدبّر أمرهم القضاة مثل إيهود و جدعون و غيرهما.و بعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك،و أوّل الملوك فيهم شاءول، و هو الّذي يسمّيه القرآن الشّريف بطالوت،ثمّ داود ثمّ سليمان.

ثمّ انقسمت المملكة و انشعبت القدرة،و مع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام و إبيام و يربعام و يهوشافاط و يهورام و غيرهم،بضعة و ثلاثون ملكا.

و لم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتّى تغلّبت عليهم ملوك بابل،و تصرّفوا في أورشليم و هو بيت المقدس،و ذلك في حدود سنة ستّمائة قبل المسيح،و ملك بابل يومئذ بخت نصر (نبوكدنصر)ثمّ تمرّدت اليهود عن طاعته،فأرسل إليهم عساكره فحاصروهم ثمّ فتحوا البلدة،و نهبوا خزائن الملك،و خزائن الهيكل(المسجد الأقصى)و جمعوا من أغنيائهم و أقويائهم و صنّاعهم ما يقرب من عشرة آلاف نفس و ساروا بهم إلى بابل، و ما أبقوا في المحلّ إلاّ الضّعفاء و الصّعاليك،و نصب بخت نصر «صدقيا»-و هو آخر ملوك بنى إسرائيل-ملكا عليهم،و عليه الطّاعة لبخت نصر.

و كان الأمر على ذلك قريبا من عشر سنين حتّى وجد«صدقيا»بعض القوّة و الشّدّة،و اتّصل بعض الاتّصال بواحد من فراعنة مصر،فاستكبر و تمرّد عن طاعة بخت نصر.فأغضب ذلك بخت نصر غضبا شديدا

ص: 796

فساق إليهم الجيوش و حاصر بلادهم،فتحصّنوا عنه بالحصون،و تمادى بهم التّحصّن قريبا من سنة و نصف، حتّى ظهر فيهم القحط و الوباء.

و أصرّ بخت نصر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، و ذلك في سنة خمسمائة و ستّ و ثمانين قبل المسيح،و قتل نفوسهم،و خرّب ديارهم و خرّبوا بيت اللّه،و أفنوا كلّ آية و علامة دينيّة،و بدّلوا هيكلهم تلاّ من تراب، و فقدت عند ذلك التّوراة و التّابوت الّذي كانت تجعل فيه.

و بقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريبا و هم قاطنون ببابل،و ليس من كتابهم عين و لا أثر،و لا من مسجدهم و ديارهم إلاّ تلال و رباع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك،و كان من أمره مع البابليّين ما كان،و فتح بابل و دخله؛أطلق أسراء بابل من بني إسرائيل.و كان «عزرا»المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم،و أجاز له أن يكتب لهم كتابهم التّوراة،و يبني لهم الهيكل، و يعيدهم إلى سيرتهم الأولى.و كان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدّس سنة أربعمائة و سبعة و خمسين قبل المسيح، و بعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق و صحّحها،و هي التّوراة الدّائرة اليوم. (1)

و أنت ترى بعد التّدبّر في القصّة أنّ سند التّوراة الدّائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى عليه السّلام إلاّ بواحد و هو«عزرا»لا نعرفه أوّلا،و لا نعرف كيفيّة اطّلاعه و تعمّقه ثانيا،و لا نعرف مقدار أمانته ثالثا،و لا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التّوراة رابعا،و لا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدّائرة خامسا.

و قد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثرا مشئوما آخر و هو إنكار-عدّة من باحثي المؤرّخين من الغربيّين- وجود موسى و ما يتبعه،و قولهم:إنّه شخص خياليّ كما قيل نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السّلام،لكن ذلك لا يسع لمسلم،فإنّ القرآن الشّريف يصرّح بوجوده عليه السّلام و ينصّ عليه.

2-قصّة المسيح و الإنجيل:

اليهود مهتمّون بتاريخ قوميّتهم،و ضبط الحوادث الظّاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم،و مع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم و مسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام:لا على كيفيّة ولادته،و لا على ظهوره و دعوته،و لا على سيرته و الآيات الّتي أظهرها اللّه على يديه،و لا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك،فما هو السّبب في ذلك؟و ما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفاءهم أمره؟

و القرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم و رموها بالبهتان في ولادة عيسى،و أنّهم ادّعوا قتل عيسى،قال تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً النّساء 156،157.

ص: 797


1- مأخوذة من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الأمريكائيّ الهمدانيّ،و مآخذ أخرى من التّواريخ.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم،كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة،من غير أن يكون مودعا في كتاب؟و عند كلّ أمّة أحاديث دائرة من واقعيّات و أساطير لا اعتبار بها،ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النّصارى الذّكر المكرّر من المسيح، و ولادته و ظهوره و دعوته،فأخذوا ذلك من أفواههم و باهتوا مريم،و ادّعوا قتل المسيح؟لا طريق إلى استبانة شيء من ذلك،غير أنّ القرآن-كما يظهر بالتّدبّر في الآية السّابقة-لا ينسب إليهم صريحا إلاّ دعوى القتل دون الصّلب،و يذكر أنّهم على ريب من الأمر،و أنّ هناك اختلافا.

و أمّا حقيقة ما عند النّصارى من قصّة المسيح و أمر الإنجيل و البشارة،فهي أنّ قصّته عليه السّلام و ما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم،و هي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل:متّى و مرقس و لوقا و يوحنّا،و كتاب أعمال الرّسل للوقا،و عدّة رسائل لبولس و بطرس و يعقوب و يوحنّا و يهوذا،و اعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل،فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى؛فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه و انتشاره،ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة(38)ميلاديّة؛ و ذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة(50)إلى سنة (60) (1)فهو مؤلّف بعد المسيح.و المحقّقون من قدمائهم و متأخّريهم على أنّه كان أصله مكتوبا بالعبرانيّة،ثمّ ترجم إلى اليونانيّة و غيرها.أمّا النّسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة،و أمّا التّرجمة فلا يدرى حالها،و لا يعرف مترجمها (2).

و أما إنجيل مرقس؛فمرقس هذا كان تلميذا لبطرس، و لم يكن من الحواريّين،و ربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس و أمره،و كان لا يرى إلهيّة المسيح (3)، و لذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر و أهل القرى،فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع اللّه (4)،و كيف كان فقد كتب إنجيله سنة(61)ميلاديّة.

و أمّا إنجيل لوقا؛فلوقا هذا لم يكن حواريّا و لا رأى المسيح،و إنّما تلقّن النّصرانيّة من بولس.و بولس كان يهوديّا متعصّبا على النّصرانيّة،يؤذي المؤمنين بالمسيح و يقلب الأمور عليهم،ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع و في حال الصّرع لمسه المسيح و لامه و زجره عن الإساءة إلى متّبعيه،و أنّه آمن بالمسيح،و أرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

و بولس هذا هو الّذي شيّد أركان النّصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها (5)،فبنى التّعليم على أنّس.

ص: 798


1- قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة-متّى.
2- كتاب ميزان الحقّ،و اعترف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.
3- نقل ذلك عبد الوهّاب النّجّار في«قصص الأنبياء»عن كتاب«مروج الأخبار في تراجم الأخيار»لبطرس قرماج.
4- ذكره في«قاموس الكتاب المقدّس»،يقول فيه:إنّ نصّ تواتر السّلف على أنّ مرقس كتب إنجيله بروميّة، و انتشر بعد وفاة بطرس و بولس،لكنّه ليس له كثير اعتبار،لأنّ ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل و القرويّين لا لأهل البلاد و خاصّة الرّوميّة،فتدبّر في كلامه!
5- راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

الإيمان بالمسيح كاف في النّجاة من دون عمل،و أباح لهم أكل الميتة و لحم الخنزير،و نهى عن الختان،و كثير ممّا في التّوراة (1)،مع أنّ الإنجيل لم يأت إلاّ مصدّقا لما بين يديه من التّوراة،و لم يحلّل إلاّ أشياء معدودة،و بالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التّوراة و يردّ إليها المنحرفين و الفاسقين،لا ليبطل العمل و يقصر السّعادة على الإيمان الخالي.

و قد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس،و ذلك بعد موت بطرس و بولس،و قد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتابا إلهاميّا كسائر الأناجيل (2)،كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدإ إنجيله.

و أمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النّصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبدي الصّيّاد أحد التّلاميذ الاثني عشر(الحواريّين)الّذي كان يحبّه المسيح حبّا شديدا (3).

و ذكروا أنّ«شيرينطوس»و«أبيسون»و جماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلاّ إنسانا مخلوقا لا يسبق وجوده وجود أمّه،اجتمعت أساقفة آسيا و غيرهم في سنة(96)ميلاديّة عند يوحنّا و التمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم و يبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح،فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم (4).و قد اختلفت كلماتهم في السّنة الّتي ألّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة(65)و قائل أنّها سنة(96)و قائل أنّها سنة(98).

و قال جمع منهم:إنّه ليس تأليف يوحنّا التّلميذ؛ فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندريّة (5)،و بعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه و كذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثّاني،و نسبه إلى يوحنّا ليعتبره النّاس (6)، و بعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين بابا فألحقت كنيسة«أفاس»الباب الحادي و العشرين بعد موت يوحنّا (7)،فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة.ق.

ص: 799


1- راجع كتاب أعمال الرّسل و رسائل بولس.
2- قال في أوّل إنجيل لوقا:«لأجل أنّ كثيرين راموا كتب قصص الأمور الّتي نحن بها عارفون،كما عهد إلينا أولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين،و كانوا خدّاما للكلمة،رأيت أنا أيضا إذ كنت تابعا لكلّ شيء بتحقيق أن أكتب إليك أيّها العزيز ثاوفيلا»،و دلالته على كون الكتاب نظريّا غير إلهاميّ ظاهرة،و قد نقل ذلك أيضا عن مستر كدل في«رسالة الإلهام»،و صرّح جيروم أنّ بعض القدماء كانوا يشكّون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا، و أنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني،و جزم إكهارن في كتابه ص 95 أنّ من ف 43 إلى 47 من الباب 22 من إنجيل لوقا الحاقيّة،و ذكر إكهارن أيضا في ص 61 من كتابه:قد اختلط الكذب الرّوائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا،و الكاتب ضمّه على طريق المبالغة الشّاعريّة لكن تمييز الصّدق عن الكذب في هذا الزّمان عسير، و قول كلي مي شيس«أنّ متّى و مرقس يتخالفان في التّحرير،و إذا اتّفقا ترجّح قولهما على قول لوقا».نقل عن«قصص الأنبياء»للنّجّار-ص 477.
3- راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.
4- نقله في قصص الأنبياء عن جرجس زوين الفتوحيّ اللّبنانيّ في كتابه.
5- نقل ذلك من كتاب«كاتلك هرالد»في المجلّد السّابع المطبوع سنة 1844 ص 205،نقله عن استادلن (عن القصص)،و أشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.
6- قال ذلك«برطشنيدر»على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلّد الأوّل(عن القصص).
7- المصدر السّابق.

و إذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطّرق انتهت إلى سبعة رجال هم:متّى،مرقس،لوقا،يوحنّا،بطرس، بولس،يهوذا؛ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة،و ينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها و أسبقها و هو إنجيل متّى،و قد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدرى من الّذي ترجمه؟و كيف كان أصله،و على ما ذا كان يبني تعليمه،أ برسالة المسيح أم بألوهيّته.

و هذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النّجّار و أقام الدّعوة إلى اللّه،و كان يدّعي أنّه ابن اللّه مولود من غير أب بشريّ،و أنّ أباه أرسله ليفدي به النّاس عن ذنوبهم بالصّلب و القتل،و أنّه أحيا الميّت،و أبرأ الأكمه و الأبرص،و شفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم،و أنّه كان له اثنا عشر تلميذا:أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم و أرسلهم للدّعوة و تبليغ الدّين المسيحيّ«إلخ».

فهذا ملخّص ما تنتهي إليه الدّعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض و غربها،و هو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم و الرّسم،مبهم العين و الوصف.

و هذا الوهن العجيب في مبدإ القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من أروبّا أن ادّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ،صوّره بعض النّزعات الدّينيّة على حكومات الوقت أولها،و تأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشّبه في جميع شئون القصّة،و هو موضوع«كرشنا»الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن اللّه نزل عن لاهوته،و فدى النّاس بنفسه صلبا،ليخلّصهم من الأوزار و الخطايا،كما يدعى في عيسى المسيح حذو النّعل بالنّعل،كما سيجيء ذكره.

و أوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح:المسيح غير المصلوب،و المسيح المصلوب،و بينهما من الزّمان ما يزيد على خمسة قرون.

و أنّ التّاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة ألف و تسعمائة و ستّ و خمسين منه لا ينطبق على واحد منهما، بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مائتين و خمسين سنة،و قد عاش نحوا من ستّين سنة، و المسيح الثّاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مائتين و تسعين سنة،و قد عاش نحوا من ثلاث و ثلاثين سنة (1).

على أنّ عدم انطباق التّاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنّصارى إنكاره (2)،و هو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هاهنا أمورا مريبة موهمة أخرى،فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة أخرى،ربّما أنهوها إلى نيّف و مائة من الأناجيل، و الأناجيل الأربعة منها،ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلاّ الأناجيل الأربعة الّتي عرفت قانونيّة، لموافقة متونها تعليم الكنيسة (3).هم

ص: 800


1- و قد فصّل القول في ذلك الزّعيم الفاضل«بهروز»في كتاب ألّفه جديدا في البشارات النّبويّة،و أرجو أن أوفّق لإيداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النّساء من هذا الكتاب،و القدر المتيقّن الّذي يهمّنا منه اختلال التّاريخ المسيحيّ.
2- راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدّس.
3- و لقد لام«شيلسوس»الفيلسوف في القرن الثّاني النّصارى في كتابه«الخطاب الحقيقيّ»على تلاعبهم 384 م،أمر البابا داماسيوس أن تحرّر ترجمة لاتينيّة جديدة من العهدين القديم و الحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس،و كان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدليّة بين الأساقفة،و تمّت تلك التّرجمة الّتي تسمّى(فولكانا)و كان ذلك خاصّا بالأناجيل الأربعة:متّى و مرقس و لوقا و يوحنّا،و قد قال مرتّب تلك الأناجيل:«بعد أن قابلنا عددا من النّسخ اليونانيّة القديمة رتّبناها-بمعنى أنّنا نقّحنا-ما كان فيها مغايرا للمعنى،و أبقينا الباقي على ما كان عليه»،ثمّ إنّ هذه التّرجمة قد ثبّتها المجمع«التّريدنتينيّ»سنة 1546،أي بعدها بأحد عشر قرنا،ثمّ خطّأها سيستوس الخامس سنة 1590،و أمر بطبع نسخ جديدة،ثمّ خطّأ كليمنضوس الثّامن هذه النّسخة الثّانية أيضا،و أمر بطبعة جديدة منقّحة هي الدّارجة اليوم عند الكاثوليكيّين (تفسير الجواهر-الجز الثّاني-ص 121 الطّبعة الثّانية).

و من جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين،فترجمت إلى العربيّة و الفارسيّة،و هو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم (1).

و من العجيب أنّ الموادّ التّاريخيّة المأثور عن غير اليهود أيضا ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدّعوة المسيحيّة،من حديث البنوّة و الفداء و غيرهما.

ذكر المؤرّخ الإمريكيّ الشّهير«هندريك ويلم و ان لون» في تأليفه«في تاريخ البشر»كتابا كتبه الطّبيب«إسكولابيوس كولتلوس»الرّوميّ سنة(62)ميلاديّة إلى ابن أخيه«جلاديوس أنسا»و كان جنديّا في عسكر الرّوم بفلسطين،يذكر فيه أنّه عاد مريضا بروميّة يسمّى بولس،فأعجبه كلامه و قد كان بولس كلّمه بالدّعوة المسيحيّة،و ذكر له طرفا من أخبار المسيح و دعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس و لم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق«أوستي»ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النّبيّ الإسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس، و عن أخبار بولس نفسه،و يكتب إليه ما بلغه من ذلك.

فكتب إليه«جلاديوس أنسا»بعد ستّة أسابيع من معسكر الرّوم بأورشليم:

«أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد و معمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم، هذا و السّنة سنة(62)ميلاديّة،و هم شيوخ!

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف،و ذكر أنّه كان من أتباعه و محبّيه،و أنّه خبير بقصصه بصير بأخباره، يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاما فوجدته شيخا هرما،و قد كان قديما يصطاد السّمك في بعض البحيرات من هذه النّاحية.

كان الرّجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة،و قصّ لي جميع الأخبار و القضايا الحادثة في ذلك الأوان،أوان الاغتشاش و الفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكما على سامرا و يهوديّة في عهد القيصر«تي بريوس».فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في أورشليم،فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة،و كانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل النّاصرة يدعون.

ص: 801


1- و قد وجد هذا الإنجيل بالخطّ الإيطاليّ منذ سنين، و ترجمه إلى العربيّة الدّكتور خليل سعادة بمصر، و ترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل«سردار الكابليّ» بإيران.

النّاس و يستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النّجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة،غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه و يباغضونه بأشدّ ما يكون،و قد قالوا لفيلاطوس:إنّ هذا الشّابّ النّاصريّ يقول:لو أنّ يونانيّا أو روميّا أو فلسطينيّا عامل النّاس و عاشرهم بالعدالة و الشّفقة كان عند اللّه كمن صرف عمره في مطالعة كتاب اللّه و تلاوة آياته.

و كأنّ هذه التّعرّضات و الاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها،لكنّه لمّا سمع ازدحام النّاس قبال المعبد -و هم يريدون أن يقبضوا على عيسى و أصحابه و يقطّعوهم إربا إربا-رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشّابّ النّجّار و يسجنه حتّى لا يقتل بأيدي النّاس في غوغائهم.

و كان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه النّاس من عيسى كلّ الاتّضاح،و كلّما كلّم النّاس في أمره و سألهم و استوضحهم،علت أصواتهم و تنادوا:«هو كافر»«هو ملحد»«هو خائن»فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه، فأشخصه و كلّمه و سأله عمّا يقصده بما يبلغه من الدّين، فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة و السّياسة و لا له في ذلك غرض،و أنّه يهتمّ بالحياة الرّوحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة،و أنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى النّاس و يعبد اللّه الفرد الواحد،وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

و كان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرّواقيّين و سائر فلاسفة يونان،فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة،و لا محلّ مؤاخذة،و لذلك عزم ثانيا أن يخلّص هذا النّبيّ السّليم المتين من شرّ اليهود،و سوّف في حكم قتله و إنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك،و لم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى و أقاويله،و أنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر،و أخذوا يستشهدون عليه و يسجّلون الطّوامير على ذلك، يريدون به عزله من الحكومة،و قد كان برز قبل ذلك فتن و انقلابات في فلسطين.و القوى المؤمنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات النّاس فيها كلّ القوّة.

و كان على الحكّام و سائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا النّاس بما يجلب شكواهم و عدم رضايتهم.فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّا من أن يفدي هذا الشّابّ المسجون للأمن العامّ،و يجيب النّاس فيما سألوه من قتله.

و أمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه،و قد عفا قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود،ثمّ قضى به على الصّليب و النّاس يسخرون منه و يشتمونه و يسبّونه.

قال«جلاديوس أنسا»:هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى،و دموعه تجري على خدّيه،و حين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئا من المسكوك الذّهبيّ،لكنّه أبي أن يأخذه،و قال لي:يوجد هاهنا من هو أفقر منّي،فأعطه إيّاه.

و سألته عن بولس رفيقك المعهود،فما كان يعرفه

ص: 802

معرفة تامّة،و القدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلا خيّاما،ثمّ ترك شغله و اشتغل بالتّبليغ لهذا المذهب الجديد،مذهب الرّبّ الرّءوف الرّحيم الإله الّذي بينه و بين«يهود»إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق،ما هو أبعد ممّا بين السّماء و الأرض.

و الظّاهر أنّ بولس سافر أوّلا إلى آسيا الصّغرى ثمّ إلى يونان،و أنّه كان يقول للعبيد و الأرقّاء إنّهم جميعا أبناء لأب يحبّهم و يرأف بهم،و أنّ السّعادة ليست تخصّ بعض النّاس دون بعض بل تعمّ جميع النّاس من فقير و غني بشرط أن يعاشروا على المؤاخاة،و يعيشوا على الطّهارة و الصّداقة،انتهى ملخّصا.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

و بالتّأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدّعوة المسيحيّة-كيف كان-في بني إسرائيل بعيد عيسى عليه السّلام،و أنّه لم يكن إلاّ ظهور دعوة نبويّة بالرّسالة من عند اللّه،لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاّهوت و نزولها إليهم و تخليصهم بالفداء.

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه- كبولس و تلامذة تلامذتهم-سافروا بعد وقعة الصّلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند و إفريقيّة و روميّة و غيرها،و بسطوا الدّعوة المسيحيّة،لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التّعليم:كلاهوت المسيح،و كفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى،و كون دين الإنجيل دينا أصيلا ناسخا لدين موسى،أو كونه تابعا لشريعة التّوراة مكمّلا إيّاها (1)، فافترقوا عند ذلك فرقا.

و الّذي يجب الإمعان فيه:أنّ الأمم الّتي بسطت الدّعوة المسيحيّة،و ظهرت فيها أوّل ظهورها كالرّوم و الهند و غيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصّابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة،و فيها أصول من مذاق التّصوّف من جهة،و الفلسفة البرهمنيّة من جهة،و فيها جميعا شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر النّاسوت؛على أنّ القول بتثليث الوحدة و نزول اللاّهوت في لباس النّاسوت و تحمّلها الصّلب (2)و العذاب فداء،و كان دائرا بين القدماء من وثنيّة الهند و الصّين و مصر و كلدان و الآشور و الفرس،و كذا قدماء وثنيّة الغرب كالرّومان و الإسكندناويّين و غيرهم،على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الأديان و المذاهب القديمة.ب.

ص: 803


1- يشير إليه كتاب أعمال الرّسل و رسائل بولس،و قد اعترضت به النّصارى.
2- القتل بالصّلب على الصّليب من القواعد القديمة جدّا، فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه و فظع ذنبه بالصّلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذابا و أسوئها ذكرا، و كانت الطّريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحداهما الأخرى ما هو على شكل الصّليب المعروف، بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه،ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين،و يدقّ من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير،و كذا تدقّ قدماه على الخشبة،و ربّما شدّتا من غير دقّ،ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين،فيبقى الصّليب على ذلك يوما أو أيّاما،ثمّ تكسر قدماه من السّاقين و يقتل على الصّليب،أو ينزل فيقتل بعد الإنزال.و كان المصلوب يعذّب قبل الصّلب بالجلد أو المثلة،و كان من العار الشّنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصّلب.

ذكر«دوان»في كتابه«خرافات التّوراة و ما يماثلها في الأديان الأخرى»إذا رجّعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم و أشهر عبادتهم اللاّهوتيّة هو«التّثليث»، و يسمّون هذا التّعليم بلغتهم«ترى مورتى»و هي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السّنسكريتيّة«ترى»و معناها الثّلاثة و«مورتى»و معناها هيآت أو أقانيم،و هي«برهما، و فشنو،و سيفا»ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة، فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر:أنّ«برهما»عندهم هو الأب و«فشنو»هو الابن،و«سيفا»هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا«كرشنا (1)»الرّبّ المخلص و الرّوح العظيم الّذي ولد منه«فشنو»الإله الّذي ظهر بالنّاسوت على الأرض ليخلّص النّاس،فهو أحد الأقانيم الثّلاثة الّتي هي الإله الواحد.و ذكر أيضا:أنّهم يرمزون للأقنوم الثّالث بصورة حمامة،كما يقوله النّصارى.

و قال مستر«فابر»في كتابه«أصل الوثنيّة»:كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلّفا من«برهما»و«فشنو» و«سيفا»نجد عند البوذيّين ثالوثا فإنّهم يقولون:إنّ «بوذ»إله له ثلاثة أقانيم،و كذلك بوذيو(جينست) يقولون:إنّ«جيفا»مثلّث الأقانيم.

قال:و الصّينيّون يعبدون بوذة و يسمّونه«فو» و يقولون:إنّه ثلاثة أقانيم،كما تقول الهنود.

و قال«دوان»في كتابه المتقدّم ذكره:و كان قسّيسو هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثّالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدّين بقولهم:إنّ الأوّل خلق الثّاني و الثّاني خلق الثّالث،و بذلك تمّ الثّالوث المقدّس.

و سأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره:هل كان قبله أحد أعظم منه؟و هل يكون بعده أحد أعظم منه؟فأجابه الكاهن:نعم يوجد من هو أعظم و هو اللّه قبل كلّ شيء،ثمّ الكلمة و معهما روح القدس.

و لهذه الثّلاثة طبيعة واحدة،و هم واحد بالذّات،و عنهم صدرت القوّة الأبديّة،فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصيرة.

و قال بونويك في كتابه«عقائد قدماء المصريّين»:

أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم:

بلاهوت الكلمة،و أنّ كلّ شيء صار بواسطتها،و أنّها منبثقة من اللّه،و أنّها هي اللّه،انتهى.و هذا عين العبارة الّتي يبتدأ بها إنجيل يوحنّا.

و قال«هيجين»في كتاب«الإنكلوساكسون»:كان الفرس يدعون متروسا الكلمة و الوسيط،و مخلّص الفرس.

و نقل عن كتاب«سكّان أروبّة الأوّلين»أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون:إنّ الإله مثلّث الأقانيم.و نقل عن اليونان و الرّومان و الفنلنديّين و الإسكندناويّين قضيّة الثّالوث السّابق الذّكر،و كذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين و الآشوريّين و الفينيقيّين.

و قال«دوان»في كتاب«خرافات التّوراة و ما يقابلها من الدّيانات الأخرى»(ص 181-182)ما ترجمته بالتّلخيص:

«إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحةص.

ص: 804


1- و هو المعبّر عنه بالإنكليزيّة«كرس»و هو المسيح المخلص.

فداء عن الخطيئة قديم العهد جدّا عند الهنود الوثنيّين و غيرهم»و ذكر شواهد على ذلك:

منها قوله:يعتقد الهنود أنّ«كرشنا»المولود البكر- الّذي هو نفس الآلهة«فشنو»الّذي لا ابتداء له و لا انتهاء على رأيهم-تحرّك حنوّا كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها،و خلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

و ذكر أنّ«مستر مور»قد صوّر«كرشنا»مصلوبا -كما هو مصوّر في كتب الهنود-مثقوب اليدين و الرّجلين،و على قميصه صورة قلب الإنسان معلّقا، و وجدت له صورة مصلوبا،و على رأسه إكليل من الذّهب،و النّصارى تقول:إنّ يسوع صلب و على رأسه إكليل من الشّوك.

و قال«هوك»في ص 326 من المجلّد الأوّل من رحلته:و يعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة، و تقديم ذبيحة فداء للنّاس من الخطيئة.

و قال«موريفورليمس»في ص 26 من كتابه «الهنود»:و يعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة،و ممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم و توسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد«الكياتري»و هو:إنّي مذنب و مرتكب الخطيئة،و طبيعتي شرّيرة،و حملتني أمّي بالإثم،فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة،يا مخلّص الخاطئين من الآثام و الذّنوب.

و قال القسّ«جورج كوكس»في كتابه«الدّيانات القديمة»في سياق الكلام عن الهنود:و يصفون«كرشنا» بالبطل الوديع المملوء لاهوتا،لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

و نقل«هيجين»عن«اندارا داالكروزوبوس»و هو أوّل أوروبيّ دخل بلاد النّيبال و التّبّت؛أنّه قال في الإله «اندرا»الّذي يعبدونه:أنّه سفك دمه بالصّلب و ثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم،و أنّ صورة الصّلب موجودة في كتبهم.

و في كتاب«لحورجيوس»الرّاهب صورة الإله «اندرا»هذا مصلوبا،و هو بشكل صليب،أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطّول فالرّأسيّ أقصرها -و فيه صورة وجهه-و السّفليّ أطولها،و لو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصّورة أنّها تمثّل شخصا،هذا.

و أمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقا على ما يرويه النّصارى عن المسيح من جميع الوجوه، حتّى أنّهم يسمّونه المسيح،و المولود الوحيد،و مخلّص العالم،و يقولون:إنّه إنسان كامل و إله كامل تجسّد بالنّاسوت،و أنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر و يخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها،و يجعلهم وارثين لملكوت السّماوات،بيّن ذلك كثير من علماء الغرب:منهم «بيل»في كتابه،و«هوك»في رحلته،و«موالر»في كتابه «تاريخ الآداب السّنسكريتيّة»و غيرهم (1).

فهذه نبذة أو أنموذجة من عقيدة تلبّس اللاّهوت بالنّاسوت،و حديث الصّلب و الفداء في الدّيانات القديمة الّتي كانت الأمم متمسّكين بها منكبّين عليها،يوم شرعت الدّيانة النّصرانيّة تنبسط على الأرض، و أخذت الدّعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب فيا.

ص: 805


1- يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار-الجزء السّادس في تفسير سورة النّساء-و في دائرة المعارف، و في كتاب العقائد الوثنيّة في الدّيانة النّصرانيّة، و غيرها.

المناطق الّتي جال الدّعاة المسيحيّون فيها،فهل هذا إلاّ أنّ الدّعاة المسيحيّين أخذوا أصول المسيحيّة و أفرغوها في قالب الوثنيّة،و استمالوا بذلك قلوب النّاس في تقبّل دعوتهم و هضم تعليمهم؟

و يؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس و غيره من الطّعن في حكمة الحكماء و فلسفتهم،و الإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة،و أنّ الإله الرّبّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

و ليس ذلك إلاّ لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التّعقّل و الاستدلال،فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصّحيح من جهة الاستدلال،فوضعوا الأساس على المكاشفة و الامتلاء بالرّوح المقدّس،فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة:أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدّعاة منهم ترهّبوا و جالوا في البلاد-على ما يحكيه كتاب«أعمال الرّسل و التّواريخ»-و بسطوا الدّعوة المسيحيّة،و استقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد،كان من سرّ موفّقيّتهم و خاصّة في إمبراطوريّة الرّوم هي الضّغطة الرّوحيّة الّتي عمّت البلاد،من فشوّ الظّلم و التّعدّي،و شمول أحكام الاسترقاق و الاستعباد، و البون البعيد في حياة الطّبقة الحاكمة و الحكومة و الآمرة و المأمورة،و الفصل الشّاسع بين عيشة الأغنياء و أهل الإتراف و الفقراء و المساكين و الأرقّاء.

و قد كانت الدّعاة تدعو إلى المؤاخاة و المحابّة و التّساوي و المعاشرة الجميلة بين النّاس،و رفض الدّنيا و عيشتها الكدرة الفانية،و الإقبال على الحياة الصّافية السّعيدة الّتي في ملكوت السّماء،و لهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطّبقة الحاكمة من الملوك و القياصرة كلّ العناية، و لا يقصدونهم بالأذى و السّياسة و الطّرد.

فلم يزالوا يزيدون عددا من غير تظاهر و تنافس، و ينمون قوّة و شدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الرّوم و إفريقيّة و الهند و غيرها من البلاد، و لم يزالوا كلّما بنوا كنيسة و فتحوا بابها على وجوه النّاس،هدموا بذلك واحدا من بيوت الأوثان،و أغلقوا بابه.

و كانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم،و لا بملوك الوقت و حكّامه في التّعالي عن خضوعهم،و في مخالفة أحكامهم و دساتيرهم،و ربّما كان ذلك يؤديّهم إلى الهلاك و القتل و الحبس و العذاب،فكان لا تزال تقتل طائفة و تسجن أخرى و تشرّد ثالثة.

و كان الأمر على هذه الصّفة إلى أوان ملك القيصر «كنستانتين»فآمن بالملّة المسيحيّة و أعلن بها،فأخذ التّنصّر بالرّسميّة،و بنيت الكنائس في الرّوم و ما يتبع إمبراطوريّته من الممالك،و ذلك في النّصف الأخير من القرن الرّابع الميلاديّ.

تمركزت النّصرانيّة يومئذ في كنيسة الرّوم و أخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التّابعة، يبنون الكنائس و الدّيرات،و مدارس يدرّسون بها التّعليم الإنجيليّ.

و الّذي يجب إلفات النّظر إليه أنّهم وضعوا البحث على أصول مسلّمة إنجيليّة،فأخذوا التّعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب و الابن و الرّوح،و مسألة الصّلب و الفداء

ص: 806

و غير ذلك أصولا مسلّمة،و بنوا البحث و التّنقير عليها.

و هذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدّينيّة من الوهن و الوهاء،فإنّ استحكام البناء المبنيّ-و إن بلغ ما بلغ- و استقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئا، و ما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة و الصّلب و الفداء أمر غير معقول.

و قد اعترف عدّة من باحثيهم في التّثليث بأنّه أمر غير معقول،لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدّينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّدا،فكم في الأديان من مسألة تعبّديّة تحيلها العقول.

و هو من الظّنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد،و كيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟و نحن إنّما نقبل الدّين و نميّز كونه دين حقّ بالعقل، و كيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل و يحيله؟و هل هذا إلاّ تناقض صريح؟نعم يمكن أن يشتمل الدّين على ممكن يخرق العادة الجارية، و السّنّة الطّبيعيّة القائمة،و أمّا المحال الذّاتيّ فلا البتّة.

و هذا الطّريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف و المشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النّصرانيّة،و انكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة،في مدارس الرّوم و الإسكندريّة و غيرهما.فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة و تهيّئ مجمعا مشكلا-عند ظهور كلّ قول حديث،و بدعة جديدة-من البطارقة و الأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ،و تكفيرهم و نفيهم و طردهم و قتلهم إذا لم يقنعوا.

و أوّل مجمع عقدوه«مجمع نيقيّة»لمّا قال أريوس:

إنّ أقنوم الابن غير مساو لأقنوم الأب،و إنّ القديم هو اللّه و المسيح مخلوق.اجتمعت البطارقة و المطارنة و الأساقفة في قسطنطنيّة بمحضر من القيصر كنستانتين،و كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا،و اتّفقوا على هذه الكلمة:

«نؤمن باللّه الواحد الأب،مالك كلّ شيء،و صانع ما يرى و ما لا يرى،و بالابن الواحد يسوع المسيح بن اللّه الواحد،بكر الخلائق كلّها،و ليس بمصنوع،إله حقّ من إله حقّ،من جوهر أبيه الّذي بيده أتقنت العوالم و كلّ شيء،الّذي من أجلنا و من أجل خلاصنا نزل من السّماء، و تجسّد من روح القدس،و ولد من مريم البتول،و صلب أيّام فيلاطوس،و دفن ثمّ قام في اليوم الثّالث،و صعد إلى السّماء،و جلس عن يمين أبيه،و هو مستعدّ للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات و الأحياء،و نؤمن بروح القدس الواحد،روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، و بمعموديّة (1)واحدة لغفران الخطايا،و بجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة-جاثليقيّة-و بقيام أبداننا (2)،و الحياة أبد الآبدين (3)».ّ.

ص: 807


1- المراد بالمعموديّة طهارة الباطن و قداسته.
2- أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ، و النّصارى تقول بالمعاد الرّوحانيّ،كما يدلّ عليه الإنجيل. و أظنّ أنّ الإنجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللّذائذ الجسمانيّة الدّنيويّة في القيامة،و أمّا كون الإنسان روحا مجرّدا من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم،و ظاهر العهدين أنّ اللّه سبحانه و ملائكته جميعا أجسام،فضلا عن الإنسان يوم القيامة.
3- الملل و النّحل للشّهرستانيّ.

هذا هو المجمع الأوّل،و كم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتّبرّي عن المذاهب المستحدثة،كمذهب النّسطوريّة و اليعقوبيّة و الأليانيّة و اليليارسيّة و المقدانوسيّة و السّباليوسيّة و النّوئتوسيّة و البولسيّة و غيرها.

و مع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، و لا تتوانى و لا تهن في دعوتها،و تزيد كلّ يوم في قوّتها و سيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول أوروبّا إلى التّنصّر:كفرنسا و الإنجليز و النّمسا و البروس و إسبانيا و البرتغال و البلجيك و هولندا و غيرهم،إلاّ روسيا، أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة(496).

و لم تزل تتقدّم،و ترتقي الكنيسة من جانب،و من جانب آخر كانت تهاجم الأمم الشّماليّة و العشائر البدويّة على الرّوم،و الحروب و الفتن تضعف سلطنة القياصرة.و آل الأمر إلى أن أجمعت أهل الرّوم و الأمم المتغلّبة،على إلقاء زمام أمور المملكة إلى الكنيسة،كما كانت زمام أمور الدّين بيدها فاجتمعت السّلطنة الرّوحانيّة و الجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم و هو «البابا جريجوار»و كان ذلك سنة(590)الميلاديّة.

و صارت كنيسة الرّوم لها الرّئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ،غير أنّ الرّوم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الرّوم الغربيّ الّذي عاصمتها روما،و الرّوم الشّرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة،كانت قياصرة الرّوم الشّرقي يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتبعوا كنيسة روما،و هذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى «الكاتوليك»أتباع كنيسة روما،و«الأورثوذكس»و هم غيرهم.

و كان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان،و قتل القيصر«بالي أولوكوس»و هو آخر قياصرة الرّوم الشّرقيّ و قسّيس الكنيسة اليوم-قتل في كنيسة«أياصوفيا»-.

و ادّعى وراثة هذا المنصب الدّينيّ-أعني رئاسة الكنيسة-قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم و بين قياصرة الرّوم،و كانت الرّوس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ،فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما،و كان ذلك سنة (1454)ميلاديّة.

و بقي الأمر على هذا الحال نحوا من خمسة قرون حتى قتل«تزار نيكولا»و هو آخر قياصرة روسيا،قتل هو و جميع أهل بيته سنة 1918 الميلاديّة بيد الشّيوعيّين، فعادت كنيسة روما تقريبا إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤساؤها السّلطة على جميع جهات حياة النّاس في القرون الوسطى،الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها و ارتفاعها،ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصا من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة و الباباوات و طاعتهم،مع البقاء على طاعة التّعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم،و يقرّره اتّفاق علمائهم و قسّيسهم،و هؤلاء هم الأورثوذكس.

و طائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلا، فليسوا بتابعين في التّعليم الإنجيليّ لكنيسة روما،و لا معتنين للأوامر الصّادرة منها،و هؤلاء هم

ص: 808

«البروتستانت».

فانشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق:

«الكاثوليك»و هي التّابعة لكنيسة روما و تعليمها، و«الأورثوذكس»و هي التّابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها؛و قد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة،و خاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بروسيا-كما تقدّم-و«البروتستانت»؛و هي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة و تعليمها جميعا،و قد استقلّت طريقتهم و تظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه أمر الدّعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرنا،و البصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا:أن يكون الباحث على بصيرة من التّحوّلات التّاريخيّة في مذهبهم،و المعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدّينيّة بنحو التّوارث أو السّراية،أو الانفعال بالامتزاج،أو الإلف و العادة من عقائد الوثنيّة و الأفكار الموروثة منهم،أو المأخوذة عنهم.

و ثانيا:أنّ اقتدار الكنيسة-و خاصّة كنيسة روما- بلغ بالتّدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدّين و الدّنيا،و انقادت لهم كراسي الملك بأوروبّا،فكان لهم عزل من شاءوا و نصب من شاءوا. (1)

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافيا على باب قصره في فصل الشّتاء لزلّة صدرت منه،يريد أن يغفرها له (2).و رفس البابا مرّة تاج الملك برجله؛حيث جاءه جاثيا يطلب المغفرة (3).

و قد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفا لم يدعهم إلاّ أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة؛يستفاد ذلك من الشّعارات و الأشعار الّتي نظّموها في استنهاض النّصارى و تهييجهم على المسلمين،في الحروب الصّليبيّة الّتي نشبت بينهم و بين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا (4)يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام، و أنّ لهم آلهة ثلاثة،أسماؤها على التّرتيب:«ماهوم» و يسمى بافوميد و ماهومند،و هو أوّل الآلهة،و هو «محمّد»،و بعده«ايلين»و هو الثّاني،و بعده«ترفاجان» و هو الثّالث.و ربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين،و هما:«مارتوان»و«جوبين»،و لكنّهما بعد الثّلاثة المتقدّمة رتبة.و كانوا يقولون:إنّ محمّدا بنى دعوته على دعوى الألوهيّة،و ربّما قالوا:إنّه كان اتّخذ لنفسه صنما من ذهب.

و في أشعار«ريشار»الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين:«قوموا و قلّبوا ماهومند و ترفاجان و ألقوهما في النّار تقرّبا من إلهكم».

و في أشعار«رولان»في وصف«ماهوم»إلهه.

ص: 809


1- الفتوحات الإسلاميّة.
2- المصدر المدرك السّابق.
3- المصدر المدرك السّابق.
4- هذا و ما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري)في الدّيانة الإسلاميّة،الفصل الأوّل منه.

المسلمين:«إنّه مصنوع تامّا من الذّهب و الفضّة،و لو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه،عظيمة جثّته،جيّدة صنعته،و في سيمائه آثار الجلالة ظاهرة.«ماهوم»مصنوع من الذّهب و الفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر،و قد أقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات و أجودها.بطنه خال، و ربّما أحسّ النّاظر من بطنه ضوءا،هو مرصّع بالأحجار الثّمينة المتلألئة،يرى باطنه من ظاهره،و لا يوجد له في جودة الصّنعة نظير.

و لمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشّدّة،و قد انهزم المسلمون في بعض حروبهم،بعث قائد القوم واحدا في طلب إلههم الّذي كان بمكّة-يعني محمّدا صلّى اللّه عليه و آله-.يروي بعض من شاهد الواقعة:أنّ الإله -يعني محمّدا-جاءهم و قد أحاط به جمّ غفير من أتباعه،و هم يضربون الطّبول و العيدان و المزامير و البوقات المعمولة من فضّة،و يتغنّون و يرقصون،حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور و فرح و مرح،و قد كان خليفته منتظرا لقدومه،فلمّا رآه قام على ساقه،و اشتغل بعبادته بخضوع و خشوع.

و يذكر«ريشار»أيضا في وصف وحي الإله «ماهوم»الّذي سمعت وصفه،فيقول:«إنّ السّحرة سخّروا واحدا من الجنّ و جعلوه في بطن ذلك الصّنم، و كان ذلك الجنّيّ يرعد و يعربد أوّلا ثمّ يأخذ في تكليم المسلمين،و هم ينصتون له».

و أمثال هذه الطّرف توجد كثيرا في كتبهم المؤلّفة في سني الحروب الصّليبيّة،أو المتعرّضة لشئونها و إن كان ربّما أبهتت القارئ و أدهشته تعجّبا و حيرة،و كاد أن لا يصدّق صحّة النّقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة،و لا رآها في نومة أو نعسة.

و ثالثا:أن يتحقّق الباحث المتدبّر كيفيّة طرق التّطوّر على الدّعوة المسيحيّة في مسيرها خلال القرون الماضية حتّى اليوم،فإنّ العقائد الوثنيّة وردت فيها بخفيّ دبيبها أوّلا بالغلوّ في حقّ المسيح عليه السّلام،ثمّ تمكّنت فأفرغت الدّعوة في قالب التّثليث:الأب و الابن و الرّوح،و القول بالصّلب و الفداء،و استلزم ذلك القول برفض العمل و الاكتفاء بالاعتقاد.

و كان ذلك أوّلا في صورة الدّين،و كان يعقد أزمّتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم و صلاة و تعميد.لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه و يقوى روحه و يبرز الانشعابات حتّى ظهرت البروتستانت،و قامت القوانين الرّسميّة مقام الهرج و المرج في السّياسات،مدوّنة على أساس الحرّيّة في ما وراء القانون-الأحكام العمليّة المضمونة الإجراء-فلم يزل التّعليم الدّينيّ يضعف أثرا و يخيب سعيا حتى انثلمت تدريجا أركان الأخلاق و الفضائل الإنسانيّة،عقيب شيوع الماديّة الّتي استتبعتها الحرّيّة التّامّة.

و ظهرت الشّيوعيّة و الاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك،و رفض القول باللاّهوت و الأخلاق الفاضلة الثّابتة و الأعمال الدّينيّة؛فانهدمت الإنسانيّة المعنويّة،و ورثتها الحيوانيّة المادّيّة،مؤلّفة من سبعيّة و بهيميّة؛و انتهضت الدّنيا تسير إليها سيرا حثيثا.

ص: 810

و أمّا النّهضات الدّينيّة الّتي عمّت الدّنيا أخيرا فليست إلاّ ملاعب سياسيّة يلعب بها رجال السّياسة للتّوسّل بها إلى غاياتهم و أمانيّهم،فالسّياسة الفنّيّة اليوم تدقّ كلّ باب و تدبّ كلّ جحر و ثقب.

ذكر الدّكتور«جوزف شيتلر»أستاذ العلوم الدّينيّة في كلّيّة لوتران في شيكاغو:«أنّ النّهضة الدّينيّة الجديدة في أمريكا ليست إلاّ تطبيق الدّين على المجموعة من شئون الحياة في المدنيّة الحديثة،و تثبيت أنّ المدنيّة الحاضرة لا تضادّ الدّين.و أنّ فيه خطر أن يعتقد عامّة النّاس أنّهم متديّنون بالدّين الحقّ،بما في أيديهم من نتائج المدنيّة الحاضرة،حتّى يستغنوا عن الالتحاق إلى النّهضة الحقيقيّة الدّينيّة لو ظهرت يوما بينهم،فلا يلتفتوا إليها» (1).

و ذكر الدّكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا:«أنّ التّعليمات الدّينيّة بإمريكا ليست إلاّ سلوة كاذبة للقلوب،لأنّها لو كانت نهضة حيّة حقيقيّة دينيّة لكان من الواجب أن تتّكئ على تعليمات عميقة واقعيّة».

فانظر من أين خرج وفد الدّين و في أين نزل،بدأت الدّعوة باسم إحياء الدّين«العقيدة»و الأخلاق «الملكات الحسنة»و الشّريعة«الأعمال»و اختتمت بإلغاء الجميع،و وضع التّمتّع الحيوانيّ موضعها.

و ليس ذلك كلّه إلاّ تطوّر الانحراف الأوّل الواقع من بولس المدعوّ بالقدّيس،بولس الحواريّ و أعضاده،فلو أنّهم سمّوا هذه المدنيّة الحاضرة الّتي تعترف الدّنيا بأنّها تهدّد الانسانيّة بالفناء«مدنيّة بولسيّة»كان أحقّ بالتّصديق من قولهم:إنّ المسيح هو قائد الحضارة و المدنيّة الحاضرة،و حامل لوائها.(3:308-330)

الأصول اللّغويّة

1-قالوا عنه إنّه لفظ عربيّ على وزن«إفعيل»،و قد أسهبوا الكلام في اشتقاقه،فقيل:إنّ كلّ كتاب مكتوب وافر السّطور يسمّى إنجيلا.و قيل:هو مشتقّ من التّناجل،أي التّنازع،لأنّهم تنازعوا فيه.و قيل:من النّجل الّذي بمعنى الأصل،لأنّه أصل من أصول العلم.أو بمعنى الفرع،لأنّ الإنجيل فرع من التّوراة،أو بمعنى السّعة، لأنّه سعة و نور و ضياء أخرجه لهم.أو بمعنى الإخراج و الإظهار،لأنّ اللّه أظهر به الحقّ الدّارس،أو لأنّ الحلال و الحرام يستخرج به،أو لأنّ العلوم و الحكم مستخرج به.

و قالوا أيضا:إنّه عبريّ،و قالوا:فارسيّ،و قالوا:

سريانيّ،و قالوا:يونانيّ.

2-و لكن كلّ هذه الأقوال-عدا الأخير-لا نصيب لها من الصّحّة،لأنّ من قال:إنّه عربيّ لاحظ لفظه فتمحّل في تخريج معناه.و قد انفرد الطّباطبائيّ بحكايته أنّه فارسيّ،في حين أنّ الفرس لا يعرفون هذا الاسم لغير هذا المعنى،إلاّ أنّهم يطلقون اسم«إنجيل آوند العليا»و«إنجيل آوند السّفلى»على قريتين من توابع مدينة ساوة الّتي تقع في وسط إيران (2).

3-و الإنجيل:لفظ يونانيّ معرّب«أونگليون»أي

ص: 811


1- المجلّة الإمريكيّة«لايف»الجزء المؤرّخ 6 فوريّة 1956.
2- معجم جغرافية إيران(1:24).

البشارة (1)،و من اليونانيّة نقله العبريّون بلفظ «عونجلون» (2)،و السّريانيّون بلفظ«أونجليون» (3)، بإبدال الگاف جيما في كلا اللّغتين.و عرّب على غير قياس،فألحق بإخريج و إجليج،و إخريط و إسليح،و هي أسماء نباتات (4).

4-و يعتبر الثّعلبيّ المتوفّى عام(427 ه)أوّل من عرف لفظه اليونانيّ،و لكنّه ظنّ أنّه سريانيّ،أو لعلّه كان يقصد أنّ«إنجيل»عرّب من لفظ«أونجليون»السّريانيّ.

و أوّل من أفصح عن معناه هو الفخر الرّازيّ المتوفّى عام (606 ه)،فقد صرّح في أثناء كلامه أنّ معناه مبشّر بمبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بمجيئه.

الاستعمال القرآنيّ

اشارة

جاء الإنجيل في القرآن(12)مرّة:(10)مرّات مع التّوراة و مرّتين منفردا،كما جاءت التّوراة منفردة(7) مرّات:منها مرّتان في آية واحدة،و كذلك مع الإنجيل مرّتين في آية واحدة،و هناك آيات تتعرّض للكتابين أو لأحدهما من دون تسميتهما لم نوردها:

التّوراة و الإنجيل:

1- اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ... الأعراف:157.

2- ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ... الفتح:29.

3- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ... آل عمران:3 و 4.

4- إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ... التّوبة:111.

5- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ.

آل عمران:65

6- وَ لَوْ أَنَّهُمْ [أهل الكتاب ] أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ. المائدة:66.

7- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.

المائدة:68.

8- وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. المائدة:46

9- وَ يُعَلِّمُهُ [عيسى ] اَلْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ. آل عمران:48.

10- وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ

ص: 812


1- معجم يونانيّ-إنجليزيّ،من مطبوعات جامعة أكسفورد-صفحة(73).
2- راجع التّلمود باللّغة العبريّة.
3- معجم سريانيّ عربيّ-لويس كوستاز.
4- جمهرة اللّغة لابن دريد(3:376-377).

وَ الْإِنْجِيلَ... المائدة:110

الإنجيل فقط:

11- ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ الحديد:27.

12- وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.

المائدة:47.

التّوراة فقط:

13- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ آل عمران:93.

14- وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ [يعنى اليهود] وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. المائدة:43

15- إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا... المائدة:44

16- مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً... الجمعة:5

17- وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ... الصّفّ:6

18- وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ... آل عمران:50

و يلاحظ أوّلا:أنّ الآيات كلّها مدنيّة سوى آية الأعراف-الّتي سنخصّها بالبحث-و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المدينة كانت أرحب صدرا لذكر الكتابين،لكثرة من يقرأ و يكتب بها،و لوجود جماعات و قبائل من اليهود في داخلها و طوائف من النّصارى في خارجها،و الكتابان كتابهم،و المسلمون مخالطون لهم في المدينة دون مكّة،و قد توسّعت معلوماتهم عن الدّين فكانوا مستعدّين للرّجوع إلى التّوراة و الإنجيل.

و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يواجه أهل الكتاب إلاّ بالمدينة،اللّهمّ إلاّ قليلا من اليهود أرسلوا إلى مكّة من يسأل النّبيّ عن أشياء جاء ذكرها في سورة الكهف.

ثانيا:إنّ الآيات الّتي ذكر فيها الإنجيل منفردا و مقترنا مع التّوراة أربع،منها خطاب لأهل الكتاب:(5) و(6)و(7)و(12)،و أربع وصف للنّبيّ أو للمؤمنين (1-4)و أربع وصف لعيسى عليه السّلام(8-11)و ما ذكر فيها التّوراة منفردة أربع،منها راجعة إلى اليهود(1-4)، و اثنتان وصف لعيسى عليه السّلام(5)و(6)،و في الأخيرة منهما وصف لنبيّنا عليه الصّلاة و السّلام أيضا.

ثالثا:جملة ما جاء فيها اسم الكتابين معا(10) آيات،و ما جاء فيها أحدهما فقط(8)آيات، بنسبة 1/3:التّوراة 6\الإنجيل 2،و التّوراة جملة(18)مرّة،و الإنجيل (12)مرّة بنسبة 2/3.

رابعا:أكثر ما جاء فيها اسم الكتابين سورة المائدة -و هي آخر سورة نزلت على أصحّ الأقوال-(10) مرّات،ثمّ آل عمران(6)مرّات،ثمّ سائر السّور،و هي الأعراف-و هي مكّيّة-و الحديد و الفتح و الجمعة و الصّفّ و التّوبة(مرّة واحدة).و هذه الأرقام تدلّنا إلى ما يأتي:

1-شدّة العلاقة بين الكتابين،فكلاهما لبني

ص: 813

إسرائيل،و الإنجيل مكمّل للتّوراة و ليس بناسخ لها،كما يشهد الإنجيل بذلك أيضا.

2-إنّ اهتمام القرآن بالتّوراة أكثر من الإنجيل،لأنّ التّوراة هي الكتاب الأمّ و القانون الأصليّ لبني إسرائيل، حتّى أنّ لفظ التّوراة معناه الشّريعة.و أمّا الإنجيل-الّذي بيد النّصارى-فليس فيه من الأحكام سوى تحريم الطّلاق،و إنّما هو مرشد إلى الخلق الحسن و الزّهد عن الدّنيا و الرّغبة في اللّه و السّير إلى الملكوت الأعلى،إضافة إلى ما فيه من حياة عيسى و معجزاته عليه السّلام.

3-و حيثما ذكر الكتابان معا قدّمت التّوراة اهتماما بشأنها و تمشّيا مع التّرتيب الزّمنيّ لنزولهما،و تقديما لما هو مشترك بين اليهود و النّصارى على ما يختصّ بالنّصارى.و تستثنى من ذلك الآية رقم(8)؛حيث تكرّرت فيها التّوراة و توسّط الإنجيل بينهما.و الباعث على التّكرار هو أنّ أوّل الآية تقول:بأنّ عيسى مصدّق للتّوراة،و آخرها يصرّح بأنّ الإنجيل مصدّق لها،و هذا يؤكّد الاهتمام بالتّوراة.

4-اشتدّ الاهتمام بالكتابين في أواسط سني بعد الهجرة-حين نزول آل عمران-و في آخرها-حين نزول المائدة-و هذا يفصح عن توثيق العلاقة باليهود و النّصارى في هاتين الفترتين،و لا سيّما في الأخيرة منهما؛حيث امتدّت الفتوحات الإسلاميّة إلى ممتلكات الرّوم في غزوة تبوك و بعدها.

و سورة المائدة-و هي آخر ما نزلت عند أكثرهم- قد كرّر و شدّد فيها التّحذير عن أهل الكتاب و اتّخاذهم أولياء مع أنّه لم يبق منهم في المدينة من يعتنى به فليس هذا التّحذير الأكيد إلاّ بعد غزوة تبوك-الّتي نزلت آيات عديدة من سورة التّوبة في شأنها-فالمراد بأهل الكتاب في السّورتين نصارى الشّام و الرّوم و يهود خيبر.

خامسا:آية الأعراف المكّيّة سياقها وصف للمسلمين،فقبلها: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الأعراف:156-157.لكن قوله: اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ الأعراف:157.له مساس أكثر بأهل الكتاب،لأنّهم يجدونه مكتوبا عندهم فى كتبهم دون المشركين الأمّيّين الّذين لا يعرفون الكتاب.فالآية محتواها مدنيّ و سياقها مكّيّ.

سادسا:قد اشتهر على الألسنة أنّ الكتابين نزلا دفعة و القرآن تدريجا،و عليه شواهد من القرآن،منها آية آل عمران:3 و 4؛حيث جاء(أنزل)في الكتابين و(نزّل)في شأن القرآن،و تمام البحث في«ق رأ»و «ن ز ل».

سابعا:قد عرفنا خلال النّصوص الكثيرة السّابقة -و الّتي ستأتي ذيل كلمة«التّوراة»-أنّ الأناجيل الأربعة و كذلك التّوراة قد كتبت بأيدي رجال لم يكونوا أنبياء، و ليساهما التّوراة و الإنجيل النّازلين على موسى و عيسى عليهما السّلام،و قد اعترف بهذا بعض علماء أهل الكتاب أيضا،حسب ما جاء في تلك النّصوص.

إضافة إلى ذلك فإنّ من يتصفّح هذين الكتابين لا يشكّ في أنّهما يسردان تاريخ اليهود و حياة عيسى عليه السّلام،و أنّهما ألّفا بعد موسى و عيسى بمدّة قصرت

ص: 814

أو طالت،و هذا ما يلاحظ في مواضع عدّة في الأسفار الخمسة الّتي يعدّونها توراة موسى،فإنّها تحتوي بدء الخلقة و حياة أولاد آدم و سيرة الأنبياء إلى حقبة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام،ثمّ عرض تاريخ ذرّيّته،و خاصّة آل إسماعيل و إسحاق و بني إسرائيل حتّى موسى و هارون، ثمّ التّعرّض لموت موسى.فقد ورد في آخر السّفر الخامس ما معناه:أنّ موسى توفّي و دفن في أرض، و لا يعرف محلّ دفنه إلى هذا اليوم.و كذلك ذكروا في الأناجيل قتل عيسى و صلبه و قيامه من قبره و صعوده إلى السّماء.فهل تتصوّر أنّ ذلك كلّه ممّا أوحاه اللّه إلى هذين النّبيّين؟

و عليه فالكتابان ليسا إلاّ تاريخ حياة موسى و عيسى و ما قبلهما و ما أحاط بهما من الأحداث، و يتخلّلهما نتف ممّا أوحي إليهما،و لا سيّما في سفري الخروج و التّثنية،ففيهما الشّرائع و الأحكام،كما جاءت في الأناجيل مقتطفات من كلمات عيسى و مواعظه و معجزاته و حكم الطّلاق.

و قد جاءت عقيب الأسفار الخمسة أخبار بني إسرائيل و الأنبياء و القضاة ثمّ الملوك،و كتب نسبت إلى بعض الأنبياء،و يعبّر عنها جميعا بالعهد القديم.كما جاءت أخبار الرّسل و رسائل بولس و غيره عقيب الأناجيل،و تسمّى جميعا بالعهد الجديد،و يعبّر عن المجموع بالعهدين.

هذا من ناحية،و من ناحية أخرى فالقرآن يصرّح بوجود التّوراة عند اليهود و الإنجيل عند النّصارى في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.فلو استعرضت الآيات السّابقة تجد فيها أنّ القرآن جاء مصدّقا لهما و مهيمنا عليهما،و أنّهما هدى و نور للنّاس،و أنّ النّبيّ الأمّيّ يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة و الإنجيل و هكذا.

بيد أنّ القرآن رغم الاعتراف بوجود الكتابين عندهم يأخذ عليهم ما يلي:

1-إخفاء الكثير ممّا جاء في الكتاب و كتمان الحقّ:

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ المائدة:

15

وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ البقرة:146

2-التّمتّع بنصيب من الكتاب:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ النّساء:44 و نظيرها النّساء:51 و آل عمران:23.

3-نسيان اليهود و النّصارى حظّا من الكتاب:

وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ المائدة:13 و 14

4-تحريف اليهود الكلم:

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ المائدة:41

5-كتابة الكتاب بأيديهم و نسبته إلى اللّه:

فَوَيْلٌ،لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ البقرة:79

و هذه إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على وجود الكتاب عندهم،إلاّ أنّهم يخفون شيئا منه،أو يكتمونه أو ينسونه،أو يحرّفونه عن موضعه و يؤوّلونه بمعنى آخر،

ص: 815

أو يكتبون كتابا و يضمّونه إلى كتاب اللّه،و يدّعون أنّه من اللّه.

و الحاصل أنّ ملاحظة نصوص هذه الكتب الّتي بين يدي أهل الكتاب،إضافة إلى الاعتراف السّابق في النّصوص،يجعل الباحث موقنا بأنّ هذين الكتابين ليسا وحيا من اللّه،بل أنّهما من وضع البشر.

و لكن كيف نوفّق بين هذا الأمر المتيقّن و بين تلك الآيات الكثيرة الّتي تنصّ على أنّ ما بيدهم هو كتاب اللّه؟

و قد التفت إلى هذه المسألة العويصة صاحب «المنار»من بين المفسّرين،كما تقدّم قوله في النّصوص،إذ صرّح بأنّ دعاة النّصرانيّة يحتجّون بتلك الآيات على المسلمين،و ألّف بعضهم كتابا في ذلك،و سمّاه«شهادة القرآن لكتب أنبياء الرّحمن»،و أكّد أنّ بطلان الثّقة بالتّوراة و الإنجيل-كما جاء في تلك النّصوص-يستلزم بطلان الثّقة بالقرآن،و بالتّالي يكون حجّة لملاحدة التّعطيل على بطلان جميع الأديان.

ثمّ ردّ عليهم بأنّ حجّتهم علينا إلزاميّة لا حقيقيّة، و أنّ حجّة الملاحدة ينفيها القرآن،ثمّ أثبت أنّ عندهم نصيبا من الكتاب.

و الجواب:أوّلا:الاعتراف بأنّه كان قسم من التّوراة و الإنجيل الأصليّين بأيدي اليهود و النّصارى القاطنين بجزيرة العرب،سوى ما عند غيرهم من أهل الكتاب، لكنّهم نسوا حظّا منها،أو أخفوها أو حرّفوها،و ربّما يؤيّده وجود أناجيل كثيرة غير هذه الأربعة قديما،قد رفضتها مجامعهم.و لكن يردّه أنّ القاطنين منهم بالجزيرة كانوا جماعة قليلة،هاجروا إليها منذ القدم،و لم يكن عندهم كتاب مغاير لما عند جمهورهم في روما و الشّام و مصر و غيرها،هذا مع أنّ القرآن يعترف بإنجيل واحد دون أناجيل أربعة،و بوجود الأحكام فيها و وجوب الحكم بها على أهل الإنجيل.

و ثانيا:أنّه لم يكن عندهم إلاّ ما كان عند غيرهم من التّوراة و الأناجيل الحاليّة،إلاّ أنّ فيها شطرا من الشّرائع و الأحكام،و لا سيّما في التّوراة،و هو المراد بما عدّه القرآن نصيبا من الكتاب،و اختار هذا الوجه صاحب«المنار»في كلامه المتقدّم في النّصوص.

و الحقّ أنّ ما يظهر من تلك الآيات-و لا سيّما ما جاء بشأن الإنجيل من اشتماله على الأحكام-أكثر من ذلك، فإنّ ما بأيديهم من الأناجيل ليس فيها سوى حكاية حياة عيسى و شيء من معجزاته و مواعظه و حكم الطّلاق.

ثامنا:هناك مشكلة أخرى تطرح نفسها خلال تلك الآيات،و هي أنّ اليهود و النّصارى في عصر النّبيّ عليه السّلام كانوا مكلّفين بالعمل بهذين الكتابين،و أنّهم ينجون إذا عملوا بهما و أقاموهما،و أنّ أهل الإنجيل يجب أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه،و أنّ اليهود لا يجوز لهم أن يحكّموا النّبيّ و عندهم التّوراة فيها حكم اللّه،فلاحظ الآيات(6)و (7)و(12)و(14).و معنى ذلك أنّهما حجّة عليهم، لم تمتدّ يد النّسخ إليهما،و هذا خلاف ما رسخ في أذهان المسلمين،بل خلاف ما ثبت بالضّرورة من الدّين.

و الجواب:ما جاء في كثير من التّفاسير أنّ عملهم بكتابيهم عبارة عن قبول ما فيها من البشارة

ص: 816

بمحمّد و الإيمان به.و هذا يجري في بعض تلك الآيات،نحو وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ... المائدة:66،و لا سيّما إذا أريد بقوله: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ القرآن.و مثله قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ المائدة:68

و هذا لا يجري في قوله: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ... المائدة:47،و قوله: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ... المائدة:43

و قد تحرّج صاحب«المنار»في توجيه هذه الآيات، فلاحظ النّصوص.

ص: 817

ص: 818

أ ن س

اشارة

12 لفظا،97 مرّة:79 مكّيّة،18 مدنيّة

في 52 سورة:43 مكّيّة،9 مدنيّة

آنس 1:1 الإنس 15:14-1

آنستم 1:-1 أناس 5:4-1

آنست 3:3 أناسيّ 1:1

تستأنسوا 1:-1 إنسان 1:1

مستأنسين 1:-1 الإنسان 64:54-10

إنس 3:-3 إنسيّا 1:1

النّصوص اللّغويّة

الخليل :الإنس:جماعة النّاس و هم الأنس،تقول:

رأيت بمكان كذا أنسا كثيرا،أي ناسا.

و إنسيّ القوس:ما أقبل عليك،و الوحشيّ:ما أدبر عنك.

و إنسيّ الإنسان:شقّه الأيسر،و وحشيّه:شقّه الأيمن،و كذلك في كلّ شيء.

و الاستئناس و الأنس و التّأنّس واحد،و قد أنست بفلان.

و قيل:إذا جاء اللّيل استأنس كلّ وحشيّ و استوحش كلّ إنسيّ.

و الآنسة:الجارية الطّيّبة النّفس،تحبّ قربها و حديثها.

و آنست فزعا و أنّسته،إذا أحسست ذاك و وجدته في نفسك.و البازي يتأنّس،إذا جلّى و نظر رافعا رأسه.

و آنست شخصا من مكان كذا،أي رأيت،و آنست من فلان ضعفا أو حزما،أي علمته.

و كلب أنوس،و هو نقيض العقور،و كلاب أنس.(7:308)

الكسائيّ: إنّ الأناس و النّاس لغتان بمعنى واحد، و ليس أحدهما مشتقّا من الآخر.(الفيّوميّ 1:26)

الأخفش: الأنس:خلاف الوحشة،و هو مصدر قولك:أنست به،بالكسر،أنسا و أنسة.و فيه لغة أخرى:

ص: 819

أنست به أنسا،مثال كفرت به كفرا.

(الجوهريّ 3:906)

سيبويه :الأصل في النّاس«الأناس»مخفّف، فجعلوا الألف و اللاّم عوضا عن الهمزة،و قد قالوا:

الأناس.[ثمّ استشهد بشعر](الزّبيديّ 4:99)

من العرب من يجمع إنسانا أناسية.

(ابن خالويه:43)

الأحمر:فلان ابن إنس فلان،أي صفيّه و أنيسه و خاصّته.(ابن منظور 6:14)

أبو عمرو الشّيبانيّ: يقال للدّيك:الشّقر، و الأنيس،و البرنيّ.(الأزهريّ 13:90)

الأنس:سكّان الدّار،و استأنس الوحشيّ إذا أحسّ إنسيّا،و استأنست بفلان و تأنّست به،بمعنى.[ثمّ استشهد بشعر](ابن منظور 6:14)

الفرّاء: قلت للدّبيريّ،أيش قولهم:بكيف ترى ابن إنسك،بكسر الألف؟فقال:عزاه إلى الإنس،فأمّا الأنس عندهم فهو الغزل.(الأزهريّ 13:86)

و الاستئناس في كلام العرب[النّظر]يقال:اذهب فاستأنس هل ترى أحدا؟فيكون هذا المعنى،انظروا من في الدّار.(2:249)

واحدهم[أناسيّ]إنسيّ،و إن شئت جعلته إنسانا، ثمّ جمعته أناسيّ،فتكون الياء عوضا من النّون.

و الإنسان في الأصل«إنسيان»لأنّ العرب تصغّره «أنيسيان».و إذا قالوا:أناسين،فهو بيّن،مثل بستان و بساتين.و إذا قالوا: وَ أَناسِيَّ كَثِيراً الفرقان:49، فخفّفوا الياء،أسقطوا الياء الّتي تكون فيما بين عين الفعل و لامه،مثل قراقير و قراقر.و يبيّن جواز«أناسي» بالتّخفيف قول العرب:أناسية كثيرة،و لم نسمعه في القراءة.(2:269)

يقال للسّلاح كلّه من الدّرع و المغفر و التّجفاف و التّسبغة و التّرس و غيرها:المؤنسات.

العرب جميعا يقولون:الإنسان،إلاّ طيّئا فإنّهم يجعلون مكان النّون ياء،فيقولون:إيسان،و يجمعونه:

أياسين.(الأزهريّ 13:90)

الأناسيّ:جمع إنسان كسرحان و سراحين،و لكنّهم أبدلوا الياء من النّون،كما قالوا للأرانب:أراني.

(الزّبيديّ 4:98)

أبو زيد:يقال:أنس،و يجمع آناس،مسموع.

(261)

تقول العرب للرّجل:كيف ترى ابن إنسك؟إذا خاطبت الرّجل عن نفسه.(الأزهريّ 13:86)

مثله ابن السّكّيت.(إصلاح المنطق:361)

أنست به إنسا،بالكسر،و لا يقال:أنسا.إنّما «الأنس»حديث النّساء و مؤانستهنّ.

إنسيّ و إنس،و جنّيّ و جنّ،و عربيّ و عرب.

آنس و آناس،كثير.

و إنسان و أناسية و أناسيّ،مثل إنسيّ و أناسيّ.

(الأزهريّ 13:86)

الإنسيّ:الأيسر من كلّ شيء.

(الجوهريّ 3:905)

الأصمعيّ: الإنسيّ هو الأيمن،و كلّ اثنين من الإنسان،مثل السّاعدين و الزّندين و القدمين.فما أقبل

ص: 820

منهما على الإنسان فهو إنسيّ،و ما أدبر عنه فهو وحشيّ.(الجوهريّ 3:905)

الإنسان يسمّى إنسانا لنسيانه.

(الأضداد في اللّغة:7)

اللّحيانيّ: يجمع إنسان:أناسيّ و آناسا،على مثال آباض،و أناسية بالتّخفيف و التّأنيث.

(ابن منظور 6:12)

في لغة:ما رأيت ثمّ إيسانا،أي إنسانا،يجمعونه أياسين.و في كتاب اللّه عزّ و جلّ يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ يس:1،بلغة طيّئ.(ابن منظور 6:13)

ابن الأعرابيّ: أنست بفلان،أي فرحت به.

(الأزهريّ 13:87)

الأنيسة و المأنوسة:النّار،و يقال لها:السّكن،لأنّ الإنسان إذا آنسها ليلا أنس بها و سكن إليها،و زالت عنه الوحشة،و إن كان بالبلد القفر.(الأزهريّ 13:90)

و الإيناس:الرّؤية و العلم و الإحساس بالشّيء، و بهذا سمّي الإنس،لأنّهم يؤنسون،أي يرون بإنسان العين.(الطّريحيّ 4:46)

أنست بفلان،أي فرحت به.و آنست فزعا و أنسته، إذا أحسسته و وجدته في نفسك.(ابن منظور 6:15)

ابن السّكّيت: تقول:كيف ابن أنسك و إنسك، يعني نفسه.(إصلاح المنطق:36)

أنست به آنس و أنست به،آنس أنسا،بمعنى واحد.

(الأزهريّ 13:86)

أبو الهيثم:أصل النّاس«أناس»و الألف فيه أصليّة،ثمّ زيدت عليه اللاّم الّتي تزاد مع الألف للتّعريف.و أصل تلك اللاّم سكون أبدا إلاّ في أحرف قليلة،مثل الاسم و الابن و ما أشبهها من الألفات الوصليّة.فلمّا زادوهما على«أناس»صار الاسم «الأناس»ثمّ كثرت في الكلام فكانت الهمزة واسطة فاستثقلوها فتركوها و صار باقي الاسم«النّاس» بتحريك اللاّم في الضّمّة،فلمّا تحرّكت اللاّم و النّون أدغموا اللاّم في النّون فقالوا:النّاس،فلمّا طرحوا الألف و اللاّم ابتدءوا الاسم،فقالوا:قال ناس من النّاس.(الأزهريّ 13:88)

الإنسان أيضا:إنسان العين،و جمعه:أناسيّ.[ثمّ استشهد بشعر]

و الإنسان:الأنملة.[ثمّ استشهد بشعر]

(الأزهريّ 13:89)

ابن قتيبة :سمّي الإنس إنسا لظهورهم و إدراك البصر إيّاهم،و هو من قولك:آنست كذا،أي أبصرته.

قال اللّه جلّ ثناؤه: إِنِّي آنَسْتُ ناراً طه:10،أي أبصرت.

و قد روي عن ابن عبّاس أنّه قال:إنّما سمّي إنسانا، لأنّه عهد إليه فنسي.و ذهب إلى هذا قوم من أهل اللّغة، و احتجّوا في ذلك بتصغير إنسان،و ذلك أنّ العرب تصغّره «أنيسيان»بزيادة ياء كأنّ مكبّره«إنسيان»افعلان،من النّسيان،ثمّ تحذف الياء من مكبّره استخفافا،لكثرة ما يجري على اللّسان،فإذا صغّر رجعت الياء و ردّ إلى أصله،لأنّه لا يكثر مصغّرا كما يكثر مكبّرا.

و البصريّون يجعلونه«فعلانا»على تفسير الأوّل.

و قالوا:زيدت الياء في تصغيره كما زيدت في تصغير

ص: 821

«ليلة»فقالوا:لييلية و في تصغير«رجل»فقالوا:رويجل.

(21)

المبرّد: و أصل«الإيناس»في العين.يقال:آنست شخصا،أي أبصرته من بعد،و في كتاب اللّه عزّ و جلّ:

آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً القصص:29.

أناسية:جمع إنسيّة،و الهاء عوض من الياء المحذوفة،لأنّه كان يجب«أناسيّ»بوزن زناديق و فرازين.و أنّ الهاء في زنادقة و فرازنة إنّما هي بدل من الياء،و أنّها لمّا حذفت للتّخفيف عوّضت منها الهاء.

فالياء الأولى من«أناسيّ»بمنزلة الياء من فرازين و زناديق،و الياء الأخيرة منه بمنزلة القاف و النّون منهما، و مثل ذلك جحجاح و جحاجحة،إنّما أصله«جحاجيح».

(ابن منظور 6:12)

ثعلب :جاءتك النّاس،معناه جاءتك القبيلة أو القطعة،كما جعل بعض الشّعراء آدم اسما للقبيلة و أنّث:

شادوا البلاد و أصبحوا في آدم

بلغوا بها بيض الوجوه فحولا

و الإنسان أصله«إنسيان»لأنّ العرب قاطبة قالوا في تصغيره:أنيسيان،فدلّت الياء الأخيرة على الياء في تكبيره،إلاّ أنّهم حذفوها لمّا كثر النّاس في كلامهم.

(ابن منظور 6:10)

الطّبريّ: يعني بالأناسيّ جمع إنسان.و جمع «أناسيّ»فجعل الياء عوضا من النّون الّتي في إنسان.و قد يجمع إنسان:أناسين،كما يجمع النّشيان (1):نشايين.

فإن قيل:«أناسيّ»جمع واحده«إنسيّ»فهو مذهب أيضا محكيّ.و قد يجمع«أناسي»مخفّفة الياء.و كأنّ من جمع ذلك كذلك،أسقط الياء الّتي بين عين الفعل و لامه، كما يجمع القرقور:قراقير و قراقر.

و ممّا يصحّح جمعهم إيّاه بالتّخفيف قول العرب:

أناسيّة كثيرة.(19:21)

ابن خالويه :و العرب تقول للرّجل:إنسان، و للمرأة:إنسان.و ربّما أثبتوا الهاء تأكيدا لرفع اللّبس، فقالوا:كلّم إنسان إنسانة.[ثمّ استشهد بشعر](43)

نفطويه:سمّي الإنسيّون الإنسيّين،لأنّهم يؤنسون، أي يرون.و سمّي الجنّ جنّا،لأنّهم مجتنّون عن رؤية النّاس،أي متوارون.(الأزهريّ 13:89)

الهمذانيّ:زرت فلانا فما قصّر في البرّ و الإلطاف...و الإيناس و الإبساس...(221)

الأزهريّ: إنسان في الأصل«إنسيان»و هو فعليان من«الإنس»و الألف فيه فاء الفعل.و على مثاله حرصيان،و هو الجلد الّذي يلي الجلد الأعلى من الحيوان.سمّي حرصيانا،لأنّه يحرص،أي يقشر،و منه أخذت الحارصة من الشّجاج.و يقال:رجل حذريان،إذا كان حذرا.

و إنّما قيل في الإنسان أصله«إنسيان»لأنّ العرب قاطبة قالوا في تصغيره:أنيسيان،فدلّت الياء الأخيرة على الياء في تكبيره،إلاّ أنّهم حذفوها لمّا كثر الإنسان في كلامهم.[إلى أن قال:]

و أصل الإنس و الأنس و الإنسان من«الإيناس» و هو الإبصار،يقال:أنسته و أنسته،أي أبصرته.[إلى أن».

ص: 822


1- يقال رجل نشوان،من السّكر،و نشيان للخبر يختبر الأخبار أوّل ورودها و يبحث عنها،و أصلها«الواو».

قال:]

و الإنسيّ من الدّوابّ كلّها:هو الجانب الأيسر الّذي منه يركب و يحتلب،و هو من الإنسان:الجانب الّذي يلي الرّجل الأخرى.و الوحشيّ من الإنسان:الجانب الّذي يلي الأرض.(13:88)

الجوهريّ: الإنس:البشر.الواحد إنسيّ و أنسيّ أيضا بالتّحريك،و الجمع:أناسيّ.و إن شئت جعلته إنسانا ثمّ جمعته:أناسيّ،فتكون الياء عوضا من النّون.و قال تعالى: وَ أَناسِيَّ كَثِيراً الفرقان:49،و كذلك الأناسية،مثل الصّيارفة و الصّياقلة.

يقال للمرأة أيضا:إنسان و لا يقال:إنسانة،و العامّة تقوله.

و إنسان العين:المثال الّذي يرى في السّواد،أي سواد العين،و يجمع أيضا على أناسيّ.[ثمّ استشهد بشعر] و لا يجمع على«أناس».

و تقدير إنسان«فعلان»،و إنّما زيد في تصغيره ياء كما زيد في تصغير رجل،فقيل:رويجل.

و قال قوم:أصله«إنسيان»على«افعلان»فحذفت الياء استخفافا لكثرة ما يجري على ألسنتهم،فإذا صغّروه ردّوها،لأنّ التّصغير لا يكثر.و استدلّوا عليه بقول ابن عبّاس رضي اللّه عنه،أنّه قال:إنّما سمّي إنسانا،لأنّه عهد إليه فنسي.

و الأناس:لغة في النّاس،و هو الأصل،فخفّف.[ثمّ استشهد بشعر]

يقال:كيف ابن إنسك و إنسك؟يعني نفسه،أي كيف تراني في مصاحبتي إيّاك.

و فلان ابن إنس فلان،أي صفيّه و خاصّته.و هذا خدني و إنسي و خلصي و جلسي،كلّه بالكسر.

و استأنست بفلان و تأنّست به بمعنى،و استأنس الوحشيّ،إذا أحسّ إنسيّا،و الأنيس:المؤانس،و كلّ ما يؤنس به.

و ما بالدّار أنيس،أي أحد.[ثمّ استشهد بشعر]

و آنسته:أبصرته،يقال:آنست منه رشدا،أي علمته.و آنست الصّوت:سمعته.

و الإيناس:خلاف الإيحاش،و كذلك التّأنيس.

و كانت العرب تسمّي يوم الخميس:مؤنسا.

و إنسيّ القوس:ما أقبل عليك منها.

و الأنس بالتّحريك:الحيّ المقيمون.و الأنس أيضا:

لغة في الإنس.[ثمّ استشهد بشعر](3:904)

نحوه الرّازيّ.(39)

ابن فارس: الهمزة و النّون و السّين أصل واحد، و هو ظهور الشّيء،و كلّ شيء خالف طريقة التّوحّش.

قالوا:الإنس خلاف الجنّ،و سمّوا لظهورهم.يقال آنست الشّيء،إذا رأيته،قال اللّه تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً النّساء:6،و يقال:آنست الشّيء،إذا سمعته،و هذا مستعار من الأوّل.[ثمّ استشهد بشعر]

و الأنس:أنس الإنسان بالشّيء إذا لم يستوحش منه.و العرب تقول:كيف ابن إنسك؟إذا سأله عن نفسه.

و يقال:إنسان و إنسانان و أناسيّ.و إنسان العين:

صبيّها الّذي في السّواد.(1:145)

الإنس من الظّهور،يقولون آنست الشّيء:أبصرته.

(الصّاحبيّ:67)

ص: 823

أبو هلال: الفرق بين قولهم:آنست ببصري و أحسست ببصري:أنّ الإحساس يفيد الرّؤية، و غيرها بالحاسّة.و الإيناس يفيد الأنس بما تراه،و لهذا لا يجوز أن يقال:إنّ اللّه يؤنس و يحسّ؛إذ لا يجوز عليه الوصف بالحاسّة و الأنس،و يكون الإيناس في غير النّظر.(60)

الفرق بين الإنسيّ و الإنسان:أنّ الإنسيّ يقتضي مخالفة الوحشيّ،و يدلّ على هذا أصل الكلمة و هو الأنس.و الأنس:خلاف الوحشة،و النّاس يقولون:

إنسيّ و وحشيّ.و أمّا قولهم:إنسيّ و وحشيّ و الإنس و الجنّ أجرى في هذا مجرى الوحش،فاستعمل في مضادّة الإنس،و الإنسان يقتضي مخالفته البهيميّة فيذكرون أحدهما في مضادّة الآخر.

و يدلّ على ذلك أنّ اشتقاق الإنسان من النّسيان، و أصله«إنسيان»فلهذا يصغّر،فيقال:أنيسيان.

و النّسيان لا يكون إلاّ بعد العلم،فسمّي الإنسان إنسانا، لأنّه ينسى ما علمه.و سمّيت البهيمة بهيمة لأنّها أبهمت على العلم و الفهم و لا تعلم و لا تفهم،فهي خلاف الإنسان، و الإنسانيّة خلاف البهيميّة في الحقيقة؛و ذلك أنّ الإنسان يصحّ أن يعلم إلاّ أنّه ينسى ما علمه،و البهيمة لا يصحّ أن تعلم.(227)

ابن سيدة :الإنسان،هو في العين ناظرها.

(الإفصاح 1:40)

الآنسة:الفتاة الطّيّبة النّفس،و هي المحبوب قربها و حديثها.مؤنّث«آنس»اسم فاعل من أنس به و إليه يأنس،كعلم و ضرب و كرم،إذا سكن إليه القلب و لم ينفر،و ذهبت به وحشته.(الإفصاح 1:322)

الآنسون و الأنيسون:نبات حوليّ له بزر عطر ذو طعم لذيذ،فيه حرافة،يتّخذ منه شراب.

(الإفصاح 1:475)

الإنس:البشر،خلاف الجنّ.الواحد:إنسيّ و أنسيّ، الجمع:أناسيّ و أناسية.

و الأنس:لغة في الإنس.

و الإنسان من النّاس:اسم جنس،يقع على الذّكر و الأنثى،و الواحد و الجمع.و يقال للمرأة:إنسان، و لا يقال:إنسانة.

و اختلف في اشتقاقه مع اتّفاقهم على زيادة النّون الأخيرة،فقال البصريّون:من«الإنس»فالهمزة أصليّة، و وزنه«فعلان».و قال الكوفيّون:مشتقّ من«النّسيان» فالهمزة زائدة و وزنه«إفعال»على النّقص،و الأصل «إنسيان»على«افعلان»و لهذا يردّ إلى أصله في التّصغير، فيقال:أنيسيان.

و الأناس:النّاس،مشتقّ من الإنس.و يجوز حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس،فيبقى النّاس.

(الإفصاح 2:1338)

الطّوسيّ: و قد بيّنّا أنّ«أناسا»لا واحد له من لفظه فيما مضى،و أنّ الإنسان لو جمع على لفظه لقيل:أناسين و أناسية.(1:269)

تقول:آنست من فلان خيرا إيناسا،و أنست به أنسا، إذا ألفته.(3:117)

و الإنسان:حيوان على الصّورة الإنسانيّة،لأنّ الصّورة الإنسانيّة بانفرادها قد تكون للتّمثال و لا يكون

ص: 824

إنسانا،فإذا اجتمعت الحيوانيّة و الصّورة لشيء فهو إنسان.

قال الرّمّانيّ:و كلّما لا حياة فيه فليس بإنسان، كالشّعر و الظّفر و غيرهما.(5:520)

و الإنسان:مأخوذ من«النّسيان»لأنّهم يصغّرونه «أنيسيان».و يجوز أن يكون من«الإنسان»إلاّ أنّهم زادوا الياء في التّصغير.(5:539)

و الإيناس:وجدان الشّيء الّذي يؤنس به،لأنّه من الإنس.و يقال:آنس البازي،إذا رأى صيدا.[ثمّ استشهد بشعر](7:162)

و الاستئناس:طلب الأنس بالعلم أو غيره،كقول العرب:اذهب فاستأنس هل ترى أحدا؟و منه قوله:

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً النّساء:6،أي علمتم.

(7:426)

و الإنسان:مشتقّ من«الأنس»و وزنه«فعليان» و الأصل«إنسيان»غير أنّه حذف منه الياء،فلمّا صغّر ردّ إلى أصله،فقيل:أنيسيان.(8:59)

الإيناس:الإحساس بالشّيء من جهة ما يؤنس، آنست كذا أؤنسه إيناسا،و ما آنست به فقد أحسست به، مع سكون نفسك إليه.(8:76)

الإنسان:مأخوذ من«الأنس»لأنّه يأنس بمثله في ما يؤنس به،فجرى عليه الاسم،لأنّ هذا من شأنه.

(8:580)

الرّاغب: الإنس:خلاف الجنّ،و الإنس:خلاف النّفور.و الإنسيّ:منسوب إلى الإنس،يقال ذلك لمن كثر أنسه و لكلّ ما يؤنس به،و لهذا قيل:إنسيّ الدّابّة:للجانب الّذي يلي الرّاكب،و إنسيّ القوس:للجانب الّذي يقبل على الرّامي.

و الإنسيّ من كلّ شيء:ما يلي الإنسان،و الوحشيّ:

ما يلي الجانب الآخر له.

و جمع الإنس:أناسيّ،قال اللّه تعالى: وَ أَناسِيَّ كَثِيراً الفرقان:49.

و قيل:ابن إنسك:للنّفس.

و الإنسان قيل:سمّي بذلك لأنّه خلق خلقة لا قوام له إلاّ بأنس بعضهم ببعض،و لهذا قيل:الإنسان مدنيّ بالطّبع من حيث لا قوام لبعضهم إلاّ ببعض،و لا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه.و قيل:سمّي بذلك لأنّه يأنس بكلّ ما يألفه.و قيل:هو«افعلان»و أصله«إنسيان»سمّي بذلك لأنّه عهد إليه فنسي.(28)

الزّمخشري:لقيت الأناسيّ فلا مثل له و لا سيّ، و أنست به،و استأنست به،و أنست إليه،و استأنست إليه.[ثمّ استشهد بشعر]و لي به أنس و أنسة.

و إذا جاء اللّيل استأنس كلّ وحشيّ و استوحش كلّ إنسيّ.و هذه جارية آنسة من جوار أو انس،و هي الطّيّبة النّفس المحبوب قربها و حديثها،و فلان جليسي و أنيسي.

و ما بالدّار أنيس و هو من يؤنس به.و أين الأنس المقيم؟و عهدت بها مأنسا.و مكان مأنوس:فيه أنس، كقولك مأهول:فيه أهل.[ثمّ استشهد بشعر]

و كلب أنوس:نقيض عقور،و كلاب أنس:غير عقر.

و آنست نارا،و آنست فزعا،و آنست منه رشدا.

ص: 825

و استأنس له و تأنّس:تسمّع.و البازي يتأنّس،إذا جلّى و نظر رافعا رأسه طامحا بطرفه.

و من المجاز:هو ابن إنس فلان:لخليله الخاصّ به.

و يقال:كيف ترى ابن إنسك،و إنسك،أي نفسك.و باتت الأنيسة أنيسته،أي النّار،و يقال لها:المؤنسة.و لبس المؤنسات،أي الأسلحة،لأنّهنّ يؤنسنه و يطأمنّ قلبه.

و تخيّرت من كتابه سويداوات القلوب،و أناسيّ العيون.

و كتب بإنسيّ القلم.و إنسيّ الدّابّة و وحشيّها،فيهما اختلاف.(أساس البلاغة:10)

الإيناس:الإبصار البيّن الّذي لا شبهة فيه،و منه إنسان العين،لأنّه يتبيّن به الشّيء.و الإنس لظهورهم، كما قيل:الجنّ لاستتارهم.و قيل:هو إبصار ما يؤنس به.(2:531)

مثله البروسويّ(5:369)،و نحوه الفخر الرّازيّ (22:15).

الأناس:اسم جمع غير تكسير،نحو رخال و تناء و توام،و أخوات لها.(2:124)

الطّبرسيّ:الإيناس:الإبصار،من قوله: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً القصص:29:أخذ من إنسان العين، و هو حدقتها الّتي تبصر بها.و أنست به أنسا:ألفته.

(2:8)

الإيناس:وجدان الشّيء يؤنس به.(4:4)

الإنسان يقع على المذكّر و المؤنّث،فإذا أردت الفصل قلت:رجل و امرأة.و مثل ذلك فرس يقع على المذكّر و المؤنّث،فإذا أردت الفصل قلت:حصان و حجر.و في الهماليج:برذون و رمكة كذلك،و بعير يقع على المذكّر و المؤنّث،فإذا فصلت قلت:جمل و ناقة.

و اشتقاق الإنسان من:الإنس أو الأنس،و هو «فعلان»عند البصريّين.و قال الكوفيّون:هو من النّسيان،و أصله«إنسيان»حذفت الياء منه استخفافا.

و احتجّوا على ذلك بقول العرب في تصغيره «أنيسيان».و هذه الياء عند البصريّين زائدة،و هو من التّصغير الشّاذّ عندهم مثل عشيشة و مغيربان الشّمس و لييلية،و أشباه ذلك.(3:403)

الاستئناس:ضدّ الاستيحاش،و الأنس:ضدّ الوحشة.(4:366)

و أناسيّ:جمع إنسان،جعلت الياء عوضا من النّون و قد قالوا:أيضا«أناسين»،و قد يجوز أيضا أن يكون جمع «إنسيّ»فيكون مثل كرسيّ و كراسيّ.(4:171)

نحوه النّسفيّ.(3:170)

أبو البركات: «أناسيّ»في واحده وجهان:

أحدهما:أن يكون واحده إنسيّا.

و الثّاني:أن يكون واحده إنسانا،و أصل«أناسيّ» على هذا الوجه«أناسين»فأبدلوا من النّون ياء،و هذا قول الفرّاء.و هو ضعيف في القياس،لأنّه لو كان ذلك قياسا،لكان يقال في جمع سرحان:سراحيّ،و ذلك لا يجوز.(2:206)

الفخر الرّازي:ذكروا في اشتقاق لفظ«الإنسان» وجوها:

أحدها:يروى عن ابن عبّاس أنّه قال:سمّي إنسانا لأنّه عهد إليه فنسي.و قال الشّاعر:

*سمّيت إنسانا لأنّك ناسي*

ص: 826

و ثانيها:سمّي إنسانا لاستئناسه بمثله.

و ثالثها:قالوا:الإنسان إنّما سمّي إنسانا لظهورهم، و أنّهم يؤنسون،أي يبصرون،من قوله: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ القصص:29،كما سمّي الجنّ لاجتنانهم.

و اعلم أنّه لا يجب في كلّ لفظ أن يكون مشتقّا من شيء آخر و إلاّ لزم التّسلسل؛و على هذا لا حاجة إلى جعل لفظ«الإنسان»مشتقّا من شيء آخر.(2:61)

ابن الأثير: في حديث هاجر و إسماعيل:«فلمّا جاء إسماعيل عليه السّلام كأنّه آنس شيئا»أي أبصر و رأى شيئا لم يعهده.يقال:آنست منه كذا،أي علمت،و استأنست، أي استعلمت.

و منه حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه:«كان إذا دخل داره استأنس و تكلّم»أي استعلم و تبصّر قبل الدّخول.

و منه الحديث:«أ لم تر الجنّ و إبلاسها،و يأسها من بعد إيناسها»أي أنّها يئست ممّا كانت تعرفه و تدركه من استراق السّمع ببعثة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.

و منه حديث نجدة الحروريّ و ابن عبّاس:«حتّى يؤنس منه الرّشد»أي يعلم منه كمال العقل و سداد الفعل و حسن التّصرّف.

و فيه:«أنّه نهى عن الحمر الإنسيّة يوم خيبر»يعني الّتي تألف البيوت.و المشهور فيها كسر الهمزة منسوبة إلى«الإنس»و هم بنو آدم،الواحد«إنسيّ».و في كتاب أبي موسى ما يدلّ على أنّ الهمزة مضمومة،فإنّه قال:هي الّتي تألف البيوت.و الأنس:هو ضدّ الوحشة،و المشهور في ضدّ الوحشة الأنس،بالضّمّ،و قد جاء فيه الكسر قليلا.قال:و رواه بعضهم بفتح الهمزة و النّون،و ليس بشيء.

قلت:إن أراد أنّ الفتح غير معروف في الرّواية فيجوز،و إن أراد أنّه ليس بمعروف في اللّغة فلا،فإنّه مصدر:أنست به آنس أنسا و أنسة.

و فيه:«لو أطاع اللّه النّاس في النّاس لم يكن ناس»، قيل:معناه أنّ النّاس إنّما يحبّون أن يولد لهم الذّكران دون الإناث،و لو لم يكن الإناث ذهبت النّاس.و معنى أطاع:

استجاب دعاءهم.

و في حديث ابن صيّاد:«قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم:

انطلقوا بنا إلى أنيسيان قد رابنا شأنه»هو تصغير «إنسان»جاء شاذّا على غير قياس،و قياس تصغيره «أنيسيان».(1:74)

الصّغانيّ: الإنسان:ظلّ الإنسان،و الإنسان:رأس الجبل،و الإنسان:الأرض الّتي لم تزرع.

و قد يجمع الإنس:آناسا،على«أفعال»،مثل إجل و آجال.[إلى أن قال:]

و قد سمّوا:مؤنسا و أنسا و أنسة و أناسا،و أنيسا مصغّرا.

و أنّست الشّيء تأنيسا،أي أبصرته،مثل آنسته بالمدّ.و البازي يتأنّس،و ذلك إذا ما جلّى و نظر رافعا رأسه و طرفه.

و آناس:جمع أنس،بالتّحريك،بمعنى«الإنس» بالكسر.و أنست به بالضّمّ،لغة في أنست به و أنست به.

(3:318)

أبو حيّان:«أناس»اسم جمع لا واحد له من لفظه،

ص: 827

و إذا سمّي به مذكّر صرف.[ثمّ استشهد بشعر]

(1:219)

أناسيّ:جمع«إنسيّ»و هو واحد الإنس،جمع على لفظه نحو كرسيّ و كراسيّ،و لا تقول:إنّه جمع إنسان، فيكون أصله«أناسين»و تكون الياء فيه بدلا من النّون.(تحفة الأريب:39)

الفيّوميّ: أنست به أنسا من باب«علم»و في لغة من باب«ضرب».و الأنس بالضّمّ:اسم منه،و الأنس بفتحتين:جماعة من النّاس،و سمّي به و بمصغّره.

و الأنيس:الّذي يستأنس به.و استأنست به و تأنّست به،إذا سكن إليه القلب و لم ينفر.و آنست الشّيء بالمدّ:

علمته،و آنسته:أبصرته.

و الإنس:خلاف الجنّ،و الإنسيّ من الحيوان:

الجانب الأيسر-و سيأتي تمامه في الوحشيّ-،و إنسيّ القوس:ما أقبل عليك منها.

و الإنسان من النّاس:اسم جنس يقع على الذّكر و الأنثى،و الواحد و الجمع.

و اختلف في اشتقاقه مع اتّفاقهم على زيادة النّون الأخيرة،فقال البصريّون:من«الأنس»فالهمزة أصل، و وزنه«فعلان».و قال الكوفيّون:مشتقّ من«النّسيان» فالهمزة زائدة،و وزنه«إفعال»على النّقص.و الأصل:

إنسيان على«افعلان»و لهذا يردّ إلى أصله في التّصغير، فيقال:أنيسيان.

و إنسان العين:حدقتها،و الجمع فيهما«أناسيّ».

و الأناس قيل:فعال،بضمّ الفاء،مشتقّ من«الأنس» لكن يجوز حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس،فيبقى النّاس.

و عن الكسائيّ:أنّ الأناس و النّاس لغتان بمعنى واحد،و ليس أحدهما مشتقّا من الآخر،و هو الوجه، لأنّهما مادّتان مختلفتان في الاشتقاق،كما سيأتي في «نوس»و الحذف تغيير،و هو خلاف الأصل.(1:25)

الفيروزآباديّ: الإنس:البشر كالإنسان،الواحد:

إنسيّ و أنسيّ،جمع:أناسيّ و أناسية و آناس.

و المرأة إنسان،و بالهاء عاميّة.[ثمّ استشهد بشعر] و الأناس:النّاس.

و الإنسيّ:الأيسر من كلّ شيء،و من القوس:

ما أقبل عليك منها.

و الإنسان:الأنملة،و ظلّ الإنسان،و رأس الجبل، و الأرض لم تزرع،و المثال يرى في سواد العين،جمعه أناسيّ.

و إنسك و ابن إنسك:صفيّك و خاصّتك.

و الأنوس من الكلاب:ضدّ العقور،جمع أنس.

و الأنيس:الدّيك و المؤانس،و كلّ مأنوس به،و بهاء:

النّار كالمأنوسة.

و جارية آنسة:طيّبة النّفس.

و الأنس بالضّمّ و بالتّحريك،و الأنسة محرّكة:ضدّ الوحشة،و قد أنس به،مثلّثة النّون.

و الأنس محرّكة:الجماعة الكثيرة،و الحيّ المقيمون.

و آنسه:ضدّ أوحشه،و الشّيء أبصره كأنّسه تأنيسا فيهما،و علمه،و أحسّ به،و الصّوت سمعه.

و استأنس:ذهب توحّشه،و الوحشيّ أحسّ إنسيّا، و الرّجل استأذن و تبصّر.

ص: 828

و المتأنّس:الأسد،أو الّذي يحسّ الفريسة من بعد.

و ما بالدّار من أنيس:أحد.

و المؤنسات:السّلاح كلّه،أو الرّمح و المغفر و التّسبغة و التّرس.(2:205)

الإنسان هو اسم على وزن«فعلان»و جمعه من حيث اللّفظ:أناسين،كسرحان و سراحين،غير أنّ الجمع الأصليّ غير مستعمل،و جمعه المعروف:ناس و أناس و أنس و آنس.و الإنس:جمع جنس.

و في«الأناسيّ»خلاف،فقيل:جمع إنسيّ ككرسيّ و كراسيّ،و قيل:الإنس جمع إنسيّ،كروم و روميّ و زنج و زنجيّ.

و قيل:الأناسيّ:جمع إنسان،و أصله«أناسين» حذفوا نونه و عوّضوا عنه ياء،اجتمع ياءان،فأدغموا، فصار أناسيّ.

و النّاس:تخفيف«الأناس»حذفوا الهمزة طلبا للخفّة.و الأنيس أيضا بمعنى الإنسان،سمّي به،لأنّه يأنس و يؤنس به.و قيل:للإنسان أنسان:أنس بالحقّ، و أنس بالخلق.فروحه تأنس بالحقّ،و جسمه يأنس بالخلق.و قيل:لأنّ له أنسا بالعقبى،و أنسا بالدّنيا.[ثمّ استشهد بشعر]

و يقال:إنّ اشتقاق الإنسان من«الإيناس»و هو الإبصار و العلم و الإحساس،لوقوفه على الأشياء بطريق العلم،و وصوله إليها بواسطة الرّؤية،و إدراكه لها بوسيلة الحواسّ.

و قيل:اشتقاقه من«النّوس»بمعنى التّحرّك،سمّي لتحرّكه في الأمور العظام،و تصرّفه في الأحوال المختلفة و أنواع المصالح.

و قيل:أصل النّاس«النّاسي»قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ البقرة:199،بالرّفع و بالجرّ.و الجرّ إشارة إلى أصله:إشارة إلى عهد آدم؛حيث قال: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ طه:

115،[ثمّ استشهد بشعر]

و في المثل:الإنسان عرضة النّسيان و جلسة النّسوان.

و قيل عجبا للإنسان،كيف يفلح بين النّسيان و النّسوان.(بصائر ذوي التّمييز 2:31)

الطّريحيّ:الإنسان من النّاس:اسم جنس،يقع على الذّكر و الأنثى،و الواحد و الجمع.

و اختلف في اشتقاقه مع اتّفاقهم على زيادة النّون الأخيرة،فقال البصريّون:من«الأنس»و الهمزة أصليّة.

و وزنه«فعلان».و قال الكوفيّون:مشتقّ من«النّسيان» فالهمزة زائدة،و وزنه«إفعال»على النّقص،و الأصل:

إنسيان،على«افعلان»و لهذا يردّ إلى أصله مع التّصغير، فيقال:أنيسان.(4:46)

الزّبيديّ:الاستئناس و التّأنّس بمعنى الأنس.و قد أنس به و استأنس و تأنّس،بمعنى.

و الإيناس:المعرفة و الإدراك و اليقين.[ثمّ استشهد بشعر](4:101)

محمّد إسماعيل إبراهيم: أنس به و إليه:ألفه و سكن قلبه به،و آنسه:لاطفه و أزال وحشته،و آنس الشّيء:أدركه و أحسّه ببصره،و استأنس:ذهب توحّشه.

و الإنس:من تأنس به أو تبصره،و جمعه:آناس.

ص: 829

و الإنس:البشر-غير الجنّ و الملائكة-و الإنسان يطلق على الكائن الحيّ المفكّر من بني آدم،و الجمع:

أناسيّ.و الإنسيّ:المنسوب إلى الإنس.و الأناس:النّاس.

(1:48)

مجمع اللّغة :أنس:كفرح،و أنس ككرم أنسا و أنسة،و أنس كضرب أنسا:ضدّ توحّش،و أنس به و إليه:ألفه.

آنسه يؤانسه و يؤنسه:لاطفه و ألفه،و آنس الشّيء يؤنسه:أدركه و أحسّه ببصره،أو علمه.

استأنس:ذهب توحّشه،و استأنس به و إليه،بمعنى أنس به و إليه.

الأناس:الجماعة من النّاس.

إنسان:يطلق على الذّكر و الأنثى من بني آدم.

الإنسيّ:المنسوب إلى الإنس.(1:62)

العدنانيّ:أنس به،أنس إليه.

استأنس به،استأنس إليه.

و يخطّئون من يقول:أنس إلى الشّيء،و يقولون:إنّ الصّواب هو أنس به.و الحقيقة هي أنّ:أنس به و أنس إليه و استأنس به و استأنس إليه،جميعها صحيحة.

فممّن ذكر أنس بالشّيء:معجم ألفاظ القرآن الكريم، و أبو حاتم السّجستانيّ،و الأزهريّ،و الصّحاح،و معجم مقاييس اللّغة،و المحكم،و مفردات الرّاغب الأصفهانيّ، و الأساس،و النّهاية،و المختار،و اللّسان،و المصباح، و القاموس،و التّاج،و المدّ،و محيط المحيط،و أقرب الموارد، و المتن،و المعجم الكبير و الوسيط.

و ممّن ذكر أنس إليه:معجم ألفاظ القرآن الكريم، و الأساس،و المدّ،و أقرب الموارد،و المعجم الكبير و الوسيط.

و ممّن ذكر استأنس به:معجم ألفاظ القرآن الكريم، و الصّحاح،و المحكم،و الأساس،و المختار،و اللّسان، و المصباح،و المدّ،و أقرب الموارد،و المعجم الكبير، و الوسيط.

و ممّن ذكر استأنس إليه:معجم ألفاظ القرآن الكريم، و الطّرمّاح بن حكيم،الّذي قال:

كلّ مستأنس إلى الموت قد خا

ض إليه بالسّيف كلّ مخاض

و بشّار بن بشر المجاشعيّ،الّذي قال:

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

زءورا،و لم تأنس إليّ كلابها

و هناك الفعل:استأنس له،بمعنى تسمّع،قال تعالى:

فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الأحزاب:53.

و يقول الصّحاح و المحكم و المصباح:إنّ تأنّس به، مثل:أنس به.أمّا فعله فهو:

1-أنس به يأنس أنسا،و أنسة و إنسا.

2-أنس به يأنس أنسا.

أنيسيان:يقول أبو بكر محمّد الزّبيدي في كتابه«لحن العوامّ»:إنّ تصغير الإنسان هو:أنيسان،و أنيسيان.

و الصّواب هو«الأنيسيان»لأنّ جميع المصادر الّتي لديّ ما عدا كتاب الزّبيدي،تقول:إنّ أصل الإنسان هو «إنسيان»و لا يصغّر إلاّ على«أنيسيان».و اكتفى المختار بذكر هذا التّصغير دون أن يقول:إنّ أصل الإنسان هو

ص: 830

«إنسيان».و اكتفى الرّاغب الأصفهانيّ في مفرداته بذكر أصل الإنسان دون أن يذكر تصغيره.

أمّا الّذين ذكروا أنّ أصل الإنسان هو«إنسيان» و تصغيره«أنيسيان»فهم:الصّحاح،و اللّسان،و المصباح و التّاج،و المدّ،و المتن،و المعجم الكبير.

و قال اللّسان:العرب قاطبة قالوا في تصغيره:

أنيسيان،أمّا في الشّعر فقد قال المتنبّيّ:

و كان ابنا عدوّ كاثراه

له ياءي حروف أنيسيان

و قال ناصيف اليازجيّ و عبد الرّحمن البرقوقيّ في شرحهما لهذا البيت:«أنيسيان»مصغّر إنسان،و هو من شواذّ التّصغير.و أنا أقترح على مجامعنا الأربعة الموافقة على«أنيسان»أيضا،ما دمنا قد قبلنا كلمة إنسان بدلا من إنسيان،و ما دام هذا التّصغير«أنيسان»قياسيّا و«أنيسيان»شاذّا،كما قال اليازجيّ و البرقوقيّ.و لست أرى مسوّغا منطقيّا لتصويب الشّاذّ و تخطئة القياسيّ، لذا:أ-أؤيّد التّصغير القياسيّ«أنيسان»على أن يفوز ذلك بموافقة اتّحاد المجامع اللّغويّة العلميّة العربيّة.ب- أقبل بالتّصغير الشّاذّ«أنيسيان»على مضض،احتراما لرأي أجدادنا و معجماتنا.(33)

المصطفويّ: إنّ الأصل الواحد في هذه المادّة هو القرب و الظّهور بعنوان الاستئناس،في مقابل النّفور و الوحشة و البعد.و هذا المعنى محفوظ و موجود في جميع صيغ مشتقّاتها ممّا ينفر من الوحوش و الحيوان، و ما لا يظهر و لا يستأنس كالجنّ.

و أمّا الرّؤية و السّماع فليس مفهومهما مطلق الرّؤية و السّماع بل بقيد الاستئناس و الاختلاط،و كذلك الإنس و الإنسان؛فبملاحظة أنسه و اختلاطه،و هذا هو الفارق بين لفظ الإنسان و البشر و آدم.

فباعتبار معنى الظّهور في مفهومها تستعمل في مقابل الجنّ:

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الرّحمن:33.

إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ الرّحمن:39.

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الأعراف:179.

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ الإسراء:88.

و لم تستعمل كلمة البشر و لا آدم في مقابل الجنّ أو الجانّ.

أمّا القول بأنّ الإنسان مشتقّ من النّسيان أو أنّ النّاس من النّوس أو أنّ الاستئناس بمعنى الاستيذان، فغير صحيح.(1:147)

النّصوص التّفسيريّة

انس

فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً... القصص:29

أبو عبيدة :أبصر.(2:102)

مثله البغويّ.(5:143)،و الخازن(5:143)، و القاسميّ(13:4704)،و المراغيّ(20:54).

الطّبريّ: أبصر و أحسّ.[ثمّ استشهد بشعر]

(20:69)

الطّوسيّ: أي أبصر أمرا يؤنس بمثله.[ثمّ استشهد

ص: 831

بشعر](8:146)

البيضاويّ:أبصر من الجهة الّتي تلي الطّور.

(2:192)

مثله أبو السّعود(4:153)،و البروسويّ(6:400)، و نحوه الآلوسيّ(20:72).

النّيسابوريّ: قال القاضي في قوله: فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ القصص:29،دليل على أنّه لم يزد على العشرة.

و فيه نظر،لأنّه لا يفهم من هذا التّركيب إلاّ أنّ الإيناس حاصل عقيب مجموع الأمرين،و لا يدلّ على أنّ ذلك حصل عقيب أحدهما،و هو قضاء الأجل.و يؤيّده ما روي عن مجاهد أنّه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر.(20:40)

بنت الشّاطئ:آنس،و أبصر:

في المعاجم آنس الشّيء أبصره،و الصّوت سمعه.

و استأنس:استأذن.

فهل تسيغ العربيّة النّقيّة،حيث يقول القرآن(آنس نارا)أن يقال:أبصرها،أو نظرها،أو شهدها،أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الّتي يظنّ أنّها تتعاقب على معنى آنس؟

نستقرئ الاستعمال القرآنيّ فيعطينا حسّ العربيّة المرهف،لا تقول:«آنس»في الشّيء:تبصره أو تسمعه دون أن تجد فيه أنسا.فإذا قال العربيّ الأصيل:آنست، فقد رأى أو سمع ما يؤنسه.

و القرآن قد استعمل الفعل«آنس»خمس مرّات، منها أربع في النّار الّتي رآها موسى عليه السّلام؛إذ سار بأهله في البرّيّة،فأنس إليها،و هذه آياتها:

إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً طه:

10.

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ

النّمل:7.

فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص:29.

و المرّة الخامسة في آية النّساء: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ النّساء:6.

ليس الإيناس هنا مجرّد إبصار لظواهر الرّشد المادّيّة الحسّيّة في سنّ البلوغ،و لكنّه الطّمأنينة المؤنسة بالابتلاء و الامتحان،إلى أنّهم قد رشدوا حقّا.

و في القرآن من المادّة صيغة الفعل المضارع من «الاستئناس»في آية النّور:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها النّور:27.

و الاستئناس فيها ليس مجرّد استئذان كما و هم الّذين فسّروه بذلك،و إنّما هو حسّ الإيناس لأهل البيت قبل دخوله.و لا يسوغ في ذوق العربيّة أن يقال مثلا:

استأنس الشّرطيّ أو جابي الضّرائب أو الدّائن،و إنّما هو «الاستئذان»ليس فيه حسّ إيناس.

كما لا يسوغ استعمال«آنس»في رؤية عدوّ أو نار

ص: 832

حريق،أو في سماع هزيم رعد،و زئير وحش.

(الإعجاز البيانيّ:200)

آنستم

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ. النّساء:6

ابن عبّاس: عرفتم منهم.(الطّبريّ 4:252)

مجاهد :أي أحسستم.(الآلوسيّ 4:205)

عطاء: أبصرتم.(أبو حيّان 3:172)

مثله البغويّ(1:400)،و البيضاويّ(1:204)، و الخازن(1:400)و الشّربينيّ(1:282).

الإمام الصّادق عليه السّلام: إيناس الرّشد:حفظ المال.(العروسيّ 1:444)

الفرّاء: يريد فإن وجدتم.(1:257)

ابن قتيبة :أي علمتم و تبيّنتم.و أصل آنست:

أبصرت.(120)

مثله ابن الجوزيّ(2:14)،و نحوه النّسفيّ(1:208)، و الحجازيّ(4:70).

الطّبريّ: فإن وجدتم منهم و عرفتم،يقال:آنست من فلان خيرا.

و قرئ بمدّ الألف،إيناسا،و أنست به آنس أنسا بقصر ألفها،إذا ألفه.و قد ذكر أنّها في قراءة عبد اللّه، (فان احسيتم منهم رشدا) بمعنى أحسستم،أي وجدتم.

(4:252)

الزّجّاج: علمتم.(أبو حيّان 3:152)

الهرويّ: أي علمتم،و الأصل فيه أبصرتم.و منه أخذ إنسان العين،و هي حدقتها الّتي يبصر بها.

(1:97)

نحوه القرطبيّ.(5:36)

الرّاغب: أي أبصرتم أنسا به.(28)

الزّمخشريّ: الإيناس،الاستيضاح،فاستعير للتّبيّن.(1:500)

الطّبرسيّ: معناه فإن وجدتم منهم رشدا،أو عرفتموه.

(2:9)

ابو الفتوح :أي أبصرتم و وجدتم.(1:722)

الفخر الرّازيّ: أي عرفتم،و قيل:رأيتم.و أصل الإيناس في اللّغة«الإبصار»و منه قوله: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً (9:188)

نحوه الصّابونيّ.(1:433)

النّيسابوريّ: أمّا الإيناس ففي اللّغة الإبصار، و المراد في الآية التّبيّن و العرفان.(4:179)

الطّريحيّ:أي علمتم و وجدتم فيهم رشدا.

(4:46)

البروسويّ: أي شاهدتم،و تبيّنتم.(2:166)

مثله القاسميّ.(5:1127)

الآلوسيّ: أصل معنى«الاستئناس»كما قال الشّهاب:النّظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم و نحوه ممّا يؤنس به،ثمّ عمّ في كلامهم،ثمّ استعير للتّبيّن، أي علم الشّيء بيّنا.

و زعم بعضهم أنّ أصله«الإبصار»مطلقا و أنّه أخذ من إنسان العين،و هو حدقتها الّتي يبصر بها،و هو هنا محتمل

ص: 833

لأن يراد منه المعنى المجازيّ أو المعنى الحقيقيّ.

و قرأ ابن مسعود(أحستم)بحاء مفتوحة و سين ساكنة.

و أصله«أحسستم»بسينين،نقلت حركة الأولى إلى الحاء،و حذفت لالتقاء السّاكنين،إحداهما على غير القياس.

و قيل:إنّها لغة سليم،و إنّها مطّردة في عين كلّ فعل مضاعف،اتّصل بها تاء الضّمير،أو نونه.[ثمّ استشهد بشعر](4:205)

مجمع اللّغة :أي أدركتم و علمتم.(1:63)

محمّد عبد المنعم الجمّال:تبيّنتم منهم صلاحا لإدارة أموالهم و استقامة في سيرهم.(1:504)

مكارم الشّيرازيّ: هذه إشارة إلى حقيقة ثبوت رشدهم،لأنّ(آنستم)من«الإيناس»بمعنى المشاهدة و الرّؤية،و هو مشتقّ من الإنسان الّذي أحد معانيه:

«إنسان العين»فعند الرّؤية و المشاهدة لإنسان العين يحصل اليقين،و من هنا أطلق على المشاهدة لفظ «الإيناس».(3:272)

آنست

1- إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً...

طه:10

ابن الأعرابيّ: (آنست)أبصرت.

(القرطبيّ 11:172)

مثله البغويّ(4:214)،و الميبديّ(6:102)، و الطّبرسيّ(4:5)،و الخازن(4:214)،و الطّريحيّ(4:

46)،و شبّر(4:142)،و المراغيّ(16:97).

ابن قتيبة: أبصرت،و تكون في موضع آخر علمت.(277)

الطّبريّ: وجدت،و من أمثال العرب:بعد اطلاع إيناس،و يقال أيضا:بعد طلوع إيناس،و هو مأخوذ من الأنس.(16:142)

نفطويه: إنّي رأيت.و سمّي الإنس إنسا لأنّهم يؤنسون، أي يرون.(الهرويّ 1:96)

الطّوسيّ: أي رأيت نارا.(7:162)

الهرويّ: قيل:آنست و أحسست و وجدت بمعنى، و منه قوله تعالى جدّه (1): فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً النّساء:6،أي علمتم،و الأصل فيه أبصرتم.(1:96)

الزّمخشريّ: الإيناس:الإبصار البيّن الّذي لا شبهة فيه، و منه إنسان العين،لأنّه يتبيّن به الشّيء.و الإنس لظهورهم،كما قيل:الجنّ لاستتارهم.

و قيل:هو إبصار ما يؤنس به.لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقّنا حقّقه لهم بكلمة«إن»ليوطّن أنفسهم.(2:531)

نحوه الفخر الرّازيّ(22:15)،البروسويّ(5:

369)،و الآلوسيّ(16:165)،و الحجازيّ(16:43).

البيضاويّ: أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه.(2:46)

مثله الكاشانيّ(3:301)،و القاسميّ(11:4172).

النّيسابوريّ: أي أبصرت إبصارا لا شبهة فيه،و إبصارا يؤنس به.و التّركيب يدلّ على الظّهور،و من ذلك إنسان العين،لأنّه يظهر الأشياء،و منه الإنس لظهورهم،كما قيل:الجنّ لاستتارهم،و منه الأنس:ضدّ الوحشيّة،

ص: 834


1- جدّه:عظمته.

لظهور المطلوب،و هو المأنوس به.(16:95)

أبو حيّان: آنس:وجد،تقول العرب:هل آنست فلانا، أي وجدته.

و قيل:أحسّ،و هو قريب من وجد.[ثمّ استشهد بشعر]

(6:222)

أي أحسست،و النّار على بعد لا تحسّ إلاّ بالبصر، فلذلك فسّره بعضهم ب«رأيت».و الإيناس أعمّ من الرّؤية،لأنّك تقول:آنست من فلان خبرا؟و الظّاهر أنّه رأى نارا حقيقة.(6:227)

أبو السّعود: [مثل البيضاويّ و أضاف:]

و الجملة تعليل للأمر أو المأمور به.(3:299)

عزّة دروزة :رأيت نارا فاستأنست بها.(3:72)

الطّباطبائيّ: و في قوله تعالى: فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إشعار بل دلالة على أنّه كان مع أهله غيره،كما أنّ في قوله: إِنِّي آنَسْتُ ناراً مع ما يشتمل عليه من التّأكيد و التّعبير بالإيناس دلالة على أنّه إنّما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله،و يؤيّد ذلك قوله أيضا أوّلا: إِذْ رَأى ناراً، و كذا قوله: لَعَلِّي آتِيكُمْ طه:10 إلخ،يدلّ على أنّ في الكلام حذفا،و التّقدير:

امكثوا لأذهب إليها لعلّي آتيكم منها بقبس،أو أجد على النّار هاديا نهتدي بهداه.(14:137)

عبد الكريم الخطيب :آنست نارا،أي لمحتها.و في التّعبير عن رؤية النّار بالفعل(آنست)الّذي يدلّ على الأنس بها و البشاشة بوجودها ما يشير إلى أنّ موسى كان في وحشة ليل بهيم،في هذه الصّحراء الّتي لا أحد فيها...فهو في وحشة اللّيل و وحشة الوحدة...فلمّا رأى النّار وجد شيئا من الأنس و الطّمأنينة،لأنّ النّار لا بدّ أن يكون عندها من أوقدها.(8:784)

2- إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً .النّمل:7

الطّبريّ: أي أبصرت نارا،أو أحسستها.

(19:132)

مثله مجمع اللّغة(1:63)،و الطّباطبائيّ(15:342).

الشّريف الرّضيّ: هذه استعارة على القلب،و المراد بها و اللّه أعلم:إنّي رأيت نارا فأنستني.فنقل فعل «الإيناس»إلى نفسه،على معنى:إنّي وجدت النّار مؤنسة لي،كما سبق من قولنا في تأويل قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا الكهف:28،أي وجدناه غافلا على بعض الأقوال.و قريب من ذلك قوله تعالى:

وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الأنعام:130،و لم تغرّهم هي و إنّما اغترّوا بها هم،فلمّا كانت سببا للغرور حسن أن ينسب إليها و يناط بها.

و حقيقة«الإيناس»هي الإحساس بالشّيء من جهة يؤنس بها.و ما أنست به:فقد أحسست به،مع سكون نفسك إليه.(تلخيص البيان:260)

البغويّ: أي أبصرت نارا.(5:110)

مثله السّيوطيّ(الجلالين 2:170)،و القرطبيّ(13:

156).

الطّبرسيّ: أي أبصرت و رأيت نارا،و منه اشتقاق «الإنس»لأنّهم مرئيّون.و قيل:آنست،أي أحسست بالشّيء من جهة يؤنس بها،و أنست به:فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.(4:211)

الفخر الرّازيّ:قد اختلفوا،فقال بعضهم:المراد أبصرت

ص: 835

و رأيت.

و قال آخرون:بل المراد صادفت و وجدت فآنست به، و الأوّل أقرب،لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل:آنست ببصري،و رأيت ببصري.(24:181)

القاسميّ: أي رأيتها.(13:4658)

المراغيّ: أي أبصرت إبصارا حصل لي به أنس.

(19:121)

و بهذه المعاني جاءت كلمة(آنست)في سورة القصص:29.

تستانسوا

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها... (النّور:27)

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:يتكلّم الرّجل بالتّسبيحة و التّحميدة و التّكبيرة،و يتنحنح على أهل البيت.

(الطّبرسيّ 4:135)

ابن مسعود: و الاستئناس:الاستئذان.

مثله ابن عبّاس و إبراهيم و قتادة.

(الطّوسيّ 7:426)

ابن عبّاس: إنّما هي خطأ من الكاتب:حتّى تستأذنوا.

و إنّما(تستأنسوا)و هم من الكتّاب.

(الطّبريّ 18:109)

سعيد بن جبير: إنّما هي:حتّى تستأذنوا،و لكنّها سقط من الكاتب.(الطّبريّ 18:109)

مجاهد :حتّى تتنحنحوا و تتنخّموا.

حتّى تجسّسوا و تسلّموا.(الطّبريّ 18:111)

بالتّنحنح أو بأيّ وجه أمكن،و يتأنّى قدر ما يعلم أنّه قد شعر به،و يدخل إثر ذلك.(القرطبيّ 12:213)

الإمام الصّادق عليه السّلام: الاستيناس:وقع النّعل و التّسليم.(العروسيّ 3:585)

ابن زيد :الاستئناس:التّنحنح و التّجرّس،حتّى يعرفوا أن قد جاءهم أحد.قال:و التّجرّس:كلامه و تنحنحه.(الطّبريّ 18:112)

الفرّاء: (حتّى تستانسوا)يقول:تستأذنوا.هذا مقدّم و مؤخّر،إنّما هو:حتّى تسلّموا و تستأذنوا.و أمروا أن يقولوا:السّلام عليكم أ أدخل؟

و الاستئناس في كلام العرب:اذهب فاستأنس هل ترى أحدا،فيكون هذا المعنى:انظروا من في الدّار.

(2:249)

ابن قتيبة :الاستئناس:أن يعلم من في الدّار،تقول:

استأنست فما رأيت أحدا،أي استعلمت و تعرّفت.(303)

الطّبريّ: اختلف أهل التّأويل في ذلك،فقال بعضهم:تأويله يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأذنوا.

و قال آخرون:معنى ذلك:حتّى تؤنسوا أهل البيت بالتّنحنح و التّنخّم و ما أشبهه،حتّى يعلموا أنّكم تريدون الدّخول عليهم.

و الصّواب من القول في ذلك عندي أن يقال:إنّ الاستئناس«الاستفعال»من الأنس،و هو أن يستأذن أهل البيت في الدّخول عليهم،مخبرا بذلك من فيه،و هل

ص: 836

فيه أحد؟و ليؤذنهم أنّه داخل عليهم،فليأنس إلى إذنهم له في ذلك،و يأنسوا إلى استئذانه إيّاهم.و قد حكي عن العرب سماعا:اذهب فاستأنس،هل ترى أحدا في الدّار؟ بمعنى انظر هل ترى فيها أحدا؟

فتأويل الكلام إذن،إذا كان ذلك معناه:يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تسلّموا و تستأذنوا،و ذلك أن يقول أحدكم:السّلام عليكم، ادخل؟و هو من المقدّم الّذي معناه التّأخير،إنّما هو حتّى تسلّموا او تستأذنوا.(18:109)

الزّجّاج: (تستانسوا)في اللّغة،بمعنى تستأذنوا، و كذلك هو في التّفسير.(4:39)

نفطويه:أي تنظروا هل هاهنا أحد يأذن لكم.(الهرويّ 1:97)

الجصّاص :و الاستئناس المذكور في قوله: حَتّى تَسْتَأْنِسُوا لا يجوز أن يكون المراد به الحديث،لأنّه لا يصل إلى الحديث إلاّ بعد الإذن،و إنّما المراد الاستئذان للدّخول.و إنّما سمّي الاستئذان استئناسا،لأنّهم إذا استأذنوا أو سلّموا أنس أهل البيوت بذلك،و لو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا و شقّ عليهم.

[و له بحوث في عدد الاستئذان و كيفيّته،و الاستيذان على المحارم فراجع.](3:309-314)

نحوه المراغيّ.(8:94)

الهرويّ: الاستئذان:الاستعلام،و آنست منه كذا، أي علمت،يقول:حتّى تستعلموا أ مطلق لكم الدّخول أم لا؟(1:97)

الطّوسيّ: هذا خطاب من اللّه تعالى للمؤمنين ينهاهم أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها،و هي ملك غيرهم إلاّ بعد أن يستأنسوا،و معناه يستأذنوا.

و الاستئناس:الاستئذان،في قول ابن عبّاس و ابن مسعود و إبراهيم و قتادة،و كأنّ المعنى يستأنسوا بالإذن.

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: القراءة (حتّى تستاذنوا) و إنّما وهم الكتّاب.و هو قول سعيد بن جبير، و به قرأ أبيّ بن كعب.

و قال مجاهد: حتّى تستأنسوا بالتّنحنح و الكلام الّذي يقوم مقام الاستئذان.و قد بيّن اللّه تعالى ذلك في قوله:

وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا النّور:

59،قال عطاء:و هو واجب في أمّه و سائر أهله.

و الاستئناس:طلب الأنس بالعلم أو غيره،كقول العرب:اذهب فاستأنس هل ترى أحدا؟و منه قوله:

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً النّساء:6،أي علمتم.

(7:426)

الزّمخشريّ: فيه وجهان:

أحدهما:أنّه من الاستئناس من الظّاهر الّذي هو خلاف الاستيحاش،لأنّ الّذي يطرق باب غيره لا يدري أ يؤذن له أم لا؟فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه،فإذا أذن له استأنس،فالمعنى حتّى يؤذن لكم،كقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الأحزاب:53،و هذا من باب الكناية و الإرداف،لأنّ هذا النّوع من الاستئناس يردف الإذن،فوضع موضع الإذن.

و الثّاني:أن يكون من الاستئناس الّذي هو الاستعلام و الاستكشاف«استفعال»من آنس الشّيء،

ص: 837

إذا أبصره ظاهرا مكشوفا،و المعنى حتّى تستعلموا و تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟و منه قولهم:

استأنس هل ترى أحدا؟

و استأنست فلم أر أحدا،أي تعرّفت و استعلمت، و منه بيت النّابغة:

*على مستأنس وحد*

و يجوز أن يكون من«الإنس»و هو أن يتعرّف هل ثمّة إنسان.[إلى أن قال:]

و في قراءة عبد اللّه (حتّى تسلّموا على أهلها و تستأذنوا) .و عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير:إنّما هو (حتّى تستأذنوا)فأخطأ الكاتب،و لا يعوّل على هذه الرّواية.و في قراءة أبي (حتّى تستأذنوا) .(3:58)

نحوه أبو حيّان(6:445)،و الطّريحيّ(4:46)، و البيضاويّ(2:123)،و النّسفيّ(3:139)،و أبو السّعود (4:54)،و مجمع اللّغة(1:63)،و الشّنقيطيّ(6:166).

الفخر الرّازيّ:الاستئناس:عبارة عن الأنس الحاصل من جهة المجالسة،قال تعالى: وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الأحزاب:53،و إنّما يحصل ذلك بعد الدّخول و السّلام.فكان الأولى تقديم السّلام على الاستئناس، فلم جاء على العكس من ذلك؟و الجواب عن هذا من وجوه:

أحدها:ما يروى عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير:

إنّما هو(حتّى تستأذنوا)فأخطأ الكاتب.

و في قراءة أبيّ: (حتّى تستأذنوا لكم) و التّسليم خير لكم من تحيّة الجاهليّة و الدّمور،و هو الدّخول بغير إذن -و اشتقاقه من الدّمار و هو الهلاك-كأنّ صاحبه دامر لعظم ما ارتكب.

و في الحديث:«من سبقت عينه استئذانه فقد دمر».

و اعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر،لأنّه يقتضي الطّعن في القرآن الّذي نقل بالتّواتر،و يقتضي صحّة القرآن الّذي لم ينقل بالتّواتر،و فتح هذين البابين يطرق الشّكّ إلى كلّ القرآن،و أنّه باطل.

و ثانيها:ما روي عن الحسن البصريّ أنّه قال:إنّ في الكلام تقديما و تأخيرا،و المعنى حتّى تسلّموا على أهلها و تستأنسوا؛و ذلك لأنّ السّلام مقدّم على الاستئناس.

و في قراءة عبد اللّه (حتّى تسلّموا على أهلها و تستأذنوا) و هذا أيضا ضعيف،لأنّه خلاف الظّاهر.

و ثالثها:أن تجري الكلام على ظاهره،ثمّ في تفسير «الاستئناس»وجوه:

[الأوّل و الثّاني تقدّم في كلام الزّمخشريّ]

و الثّالث:أن يكون اشتقاق الاستئناس من«الإنس» و هو أن يتعرّف هل ثمّ إنسان.و لا شكّ أنّ هذا مقدّم على السّلام.

و الرّابع:لو سلّمنا أنّ الاستئناس إنّما يقع بعد السّلام، و لكنّ الواو لا توجب التّرتيب،فتقديم الاستئناس على السّلام في اللّفظ لا يوجب تقديمه عليه في العمل.

[ثمّ ذكر كيفيّة الاستئذان،و عدده،و آدابه،فراجع]

(23:196)

نحوه النّيسابوريّ.(18:86)

الآلوسيّ:[قال نحو الزّمخشريّ و أضاف:]

قيل:الاستئناس من«الإنس»بالكسر،بمعنى النّاس،أي حتّى تطلبوا معرفة من في البيوت من الإنس.

ص: 838

و ضعّف بأنّ فيه اشتقاقا من جامد،كما في المسرج أنّه مشتقّ من السّراج،و بأنّ معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن،فيوهم جواز الدّخول بلا إذن.و من النّاس من رجّحه بمناسبته لقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً النّور:28،و لا يكافئ التّضعيف بما سمعت.

(18:134)

سيّد قطب :و يعبّر عن الاستئذان بالاستئناس، و هو تعبير يوحي بلطف الاستئذان و لطف الطّريقة الّتي يجيء بها الطّارق،فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به و استعدادا لاستقباله،و هي لفتة دقيقة لطيفة،لرعاية أحوال النّفوس و لتقدير ظروف النّاس في بيوتهم، و ما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها، و يحرجوا أمام الطّارقين في ليل أو نهار.(4:2508)

الطّباطبائيّ:الأنس بالشّيء و إليه:الألفة و سكون القلب إليه.و الاستئناس:طلب ذلك بفعل يؤدّي إليه،كالاستئناس لدخول بيت بذكر اللّه و التّنحنح و نحو ذلك،ليتنبّه صاحب البيت أنّ هناك من يريد الدّخول عليه فيستعدّ لذلك،فربّما كان في حال لا يحبّ أن يراه عليها أحد،أو يطّلع عليها مطّلع.

و منه يظهر أنّ مصلحة هذا الحكم هو السّتر على عوارت النّاس،و التّحفّظ على كرامة الإيمان.فإذا استأنس الدّاخل عند إرادة الدّخول على بيت غير بيته فأخبر باستئناسه صاحب البيت بدخوله،ثمّ دخل فسلّم عليه،فقد أعانه على ستر عورته،و أعطاه الأمن من نفسه.

و يؤدّي الاستمرار على هذه السّيرة الجميلة إلى استحكام الأخوّة و الألفة و التّعاون العامّ،على إظهار الجميل و السّتر على القبيح،و إليه الإشارة بقوله: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النّور:27،أي لعلّكم بالاستمرار على هذه السّيرة تتذكّرون ما يجب عليكم رعايته و إحياؤه من سنّة الأخوّة و تألّف القلوب الّتي تحتها كلّ سعادة اجتماعيّة.

و قيل:إنّ قوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تعليل لمحذوف، و التّقدير:قيل لكم كذا لعلّكم تتذكّرون مواعظ اللّه فتعملوا بموجبها،و لا بأس به.

و قيل:إنّ في قوله: حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا تقديما و تأخيرا،و الأصل حتّى تسلّموا و تستأنسوا،و هو كما ترى.(15:109)

الصّابونيّ:فيه معنى دقيق،فليس المراد من اللّفظ مجرّد الإذن،و إنّما المراد معرفة أنس أهل البيت بدخول الزّائر عليهم،هل هم راضون بدخوله أم لا؟

قال العلاّمة المودوديّ:و قد يخطئ النّاس إذ يجعلون كلمة«الاستئناس»بمعنى الاستئذان فقط،مع أنّ الكلمتين بينهما فرق لطيف لا ينبغي أن ينصرف عنه النّظر،فكلمة«الاستئناس»أعمّ و أشمل من كلمة «الاستئذان»كما لا يخفى بأدنى تأمّل،و المعنى حتّى تعرفوا أنس أهل البيت بدخولكم عليهم.(2:131)

الحجازيّ: المعنى يا أيّها الّذين اتّصفتم بالإيمان اعلموا أنّه يدعوكم إلى الفضيلة و الأدب،و يرشدكم إلى أنّكم لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم،أي ليس لكم فيها حقّ السّكنى و المنفعة،و إن كانت ملكا لكم،لا تدخلوها حتّى تستأنسوا و تستأذنوا،و لا شكّ أنّ«الإذن»يذهب

ص: 839

الوحشة،و لذا سمّي الإذن أنسا،و بدليل قوله تعالى:

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ النّور:28.

و الاستئذان يكون بقرع الباب أو النّداء لمن في البيت أو التّنحنح أو التّسبيح و التّحميد أو صريح الاستئذان،و غير ذلك.(18:54)

مكارم الشّيرازيّ: ممّا يلفت الانتباه هنا أنّه قد استعملت كلمة(تستانسوا)،لا(تستأذنوا)لأنّ الكلمة الأخيرة فقط تفصح عن«الإذن»في حال أنّ الكلمة الأولى-الّتي اشتقّت من مادّة«أ ن س»-تعني الإذن مع الودّ و القرب،و تدلّ على وجوب طلب الإذن بكامل الأدب و الوداد،مجرّدا عن أيّ نوع من الجفاء.

و إذا تمعّنّا هذه الكلمة رأينا فيها كثيرا من سنن الآداب،منها:عدم رفع الصّوت عاليا،و عدم إطباق الباب بشدّة،و عدم التّفوّه بعبارات فظّة عند الإذن، و عدم الدّخول بدون تحيّة بعد السّماع له،فالتّحيّة أمارة السّلام و الخلوص،و سمة الإيفاء و الصّداقة.قد جاء هذا الأمر مشفوعا بدوافع إنسانيّة و عاطفيّة،من خلال قوله:

ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، و هذا خير دليل على أنّ أحكاما كهذه لها جذر متأصّل في أعماق عواطف الإنسان و عقله و شعوره.(14:427)

مستأنسين

فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ... الأحزاب:53

الفرّاء: (و لا مستأنسين)في موضع خفض تتبعه (النّاظرين)كما تقول:كنت غير قائم و لا قاعد،و كقولك للوصيّ:كل من مال اليتيم بالمعروف غير متأثّل مالا، و لا واق مالك بماله.و لو جعلت(المستأنسين)في موضع نصب تتوهّم أن تتبعه ب(غير)لمّا أن حلت بينهما بكلام.

و كذلك كلّ معنى احتمل وجهين ثمّ فرّقت بينها بكلام جاز أن يكون الآخر معربا بخلاف الأوّل،من ذلك قولك:

ما أنت بمحسن إلى من أحسن إليك و لا مجملا،تنصب «المجمل»و تخفضه:الخفض على إتباعه المحسن،و النّصب أن تتوهّم أنّك قلت:ما أنت محسنا.[ثمّ استشهد بشعر]

و يكون نصب(المستأنسين)على فعل مضمر،كأنّه قال:فادخلوا غير مستأنسين،و يكون مع الواو ضمير دخول،كما تقول:قم و مطيعا لأبيك.(2:347)

الطّبريّ: (و لا مستأنسين)في موضع خفض عطفا به على(ناظرين)كما يقال في الكلام:أنت غير ساكت و لا ناطق.

و قد يحتمل أن يقال:(مستأنسين)في موضع نصب عطفا على معنى(ناظرين)لأنّ معناه:إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام لا ناظرين إناه،فيكون قوله:(و لا مستأنسين) نصبا حينئذ.و العرب تفعل ذلك إذا حالت بين الأوّل و الثّاني،فترد أحيانا على لفظ الأوّل و أحيانا على معناه.

[إلى أن قال:]

و معنى قوله: وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ:

و لا متحدّثين بعد فراغكم من أكل الطّعام إيناسا من بعضكم لبعض به.(22:36)

الميبديّ: أي و لا طالبين الأنس لحديث.و محلّه خفض مردود على قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ.

(8:82)

ص: 840

الطّبرسيّ: أي لا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل متحدّثين،يحدّث بعضكم بعضا ليؤنسه.(4:368)

الطّريحيّ: أي يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدّثه به،أو مستأنسين حديث أهل البيت.

و استئناسه:تسمعه.(4:46)

الطّباطبائيّ: عطف على قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ و هو حال بعد حال،أي غير ماكثين في حال انتظار الإناء قبل الطّعام،و لا في حال الاستئناس لحديث بعد الطّعام.(16:337)

الصّابونيّ: معنى«الاستئناس»طلب الأنس بالحديث،لأنّ السّين و التّاء للطّلب،تقول:استأنس بالحديث،أي طلب الأنس و الطّمأنينة و السّرور به، و تقول:ما بالدّار أنيس،أي ليس بها أحد يؤانسك أو يسلّيك.و قد كان من عادة النّاس أنّهم يجلسون بعد الأكل فيتحدّثون طويلا و يأنسون بحديث بعضهم بعضا، فعلّمهم اللّه الأدب،و هو أن يتفرّقوا بعد تناول الطّعام و لا يثقلوا على أهل البيت،لأنّ المكث بعده فيه نوع من الإثقال.(2:341)

الانس

1- وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ... الأعراف:179

الميبديّ: هم الكفّار من الفريقين.(3:797)

مثله القاسميّ.(7:2908)

البروسويّ: (الإنس):البشر كالإنسان،من آنس الشّيء:أبصره.و قدّم الجنّ على الإنس،لأنّهم أكثر عددا و أقدم خلقا،و لأنّ لفظ(الإنس)أخفّ بمكان النّون الخفيفة و السّين المهموسة،فكان الأثقل أولى بأوّل الكلام من الأخفّ،لنشاط المتكلّم.(3:280)

2- وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ. فصّلت:29

الإمام عليّ عليه السّلام:إبليس الأبالسة،و ابن آدم الّذي قتل أخاه.(الطّبريّ 24:113)

ابن مسعود:يعني إبليس،و ابن آدم الّذي قتل أخاه.

مثله ابن عبّاس.(القرطبيّ 15:357)

قتادة :هو الشّيطان و ابن آدم الّذي قتل أخاه.(الطّبريّ 24:114)

الطّبريّ: و الّذي هو من الإنس ابن آدم الّذي قتل أخاه.(24:113)

الطّوسيّ: قيل:أراد به إبليس الأبالسة و هو رأس الشّياطين،و ابن آدم الّذي قتل أخاه و هو قابيل.

روي ذلك عن عليّ عليه السّلام،لأنّ قابيل أسّس الفساد في ولد آدم عليه السّلام.

و قيل:هم الدّعاة إلى الضّلال من الجنّ و الإنس.

(9:123)

البغويّ: يعنون إبليس،و قابيل بن آدم الّذي قتل أخاه،لأنّهما سنّا المعصية.(6:92)

مثله الميبديّ(8:523)،و الفخر الرّازيّ(27:

120)،و الخازن(6:92).

ص: 841

الزّمخشريّ: الشّيطان على ضربين:جنّيّ و إنسيّ، قال اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ الأنعام:112،و قال: اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ النّاس:5 و 6

(3:452)

الطّبرسيّ: قيل:المراد بذلك كلّ من أبدع الكفر و الضّلالة من الجنّ و الإنس.و المراد ب(الّذين)جنس الجنّ و الإنس.(5:12)

الآلوسيّ: يعنون فريقي شياطين النّوعين المقيّضين لهم،الحاملين لهم على الكفر و المعاصي،بالتّسويل و التّزيين.

و عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه و قتادة: أنّهما إبليس و قابيل،فإنّهما سبّبا الكفر و القتل بغير حقّ.و تعقّب بأنّه لا يصحّ عن عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه،فإنّ قابيل مؤمن عاص.

و الظّاهر أنّ الكفّار إنّما طلبوا إرادة المضلّين بالكفر المؤدّي إلى الخلود،و كونهم رئيس الكفرة و رئيس أهل الكبائر،خلاف الظّاهر.(24:120)

اناس

1- وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ... البقرة:60

الفرّاء: لكلّ سبط عين.(1:41)

نحوه الماورديّ(1:128)،و البغويّ(1:55)،و ابن عطيّة(1:152)،و الطّبرسيّ(1:120)،و القرطبيّ(1:

42)،و البيضاويّ(1:59)،و النّسفيّ(1:51)،و ابن كثير (1:174)،و الشّربينيّ(1:64)،و أبو السّعود(1:84)، و البروسويّ(1:147)،و الآلوسيّ(1:271)،و المراغيّ (1:126)،و بقيّة التّفاسير.

2- ..أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ...

الأعراف:160

الطّبريّ: يعني كلّ أناس من الأسباط الاثني عشرة.(9:89)

نحوه الطّوسيّ(5:10)،و ابن عطيّة(2:466)، و الطّبرسيّ(1:490)،و القرطبيّ(1:421)، و البيضاويّ(1:373)،و الشّربينيّ(1:527)،و المراغيّ (1:126).

شبّر: أي قبيلة أو سبط.(1:103)

أبو السّعود: كلّ سبط،عبّر عنهم بذلك إيذانا بكثرة كلّ واحد من الأسباط.(2:204)

نحوه البروسويّ(3:262)،و الآلوسي(9:88).

3- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ... الإسراء:71

الإمام الصّادق عليه السّلام:أ لا تحمدون اللّه إذا كان يوم القيامة فدعا كلّ قوم إلى من يتولّونه و دعانا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فزعتم إلينا فإلى أين ترون يذهب بكم؟إلى الجنّة و ربّ الكعبة[قالها ثلاثا].(الطّبرسيّ 3:430)

نحوه البروسويّ.(5:187)

ص: 842

أبو السّعود:من بني آدم الّذين فعلنا بهم في الدّنيا ما فعلنا من التّكريم و التّفضيل،و هذا شروع في بيان تفاوت أحوالهم في الآخرة بحسب أحوالهم و أعمالهم في الدّنيا.(3:226)

اناسىّ

...لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً. الفرقان:49

الطّوسيّ: (اناسيّ)جمع إنسان،جعلت الياء عوضا من النّون.و قد قالوا:أناسين،نحو بستان و بساتين.و يجوز أن يكون جمع«إنسيّ»نحو كرسيّ و كراسيّ،و قد قالوا:

أناسية كثيرة.(7:496)

نحوه البغويّ(5:86)،و الميبديّ(7:47)، و الطّبرسيّ(4:171)،و البيضاويّ(2:147)،و النّسفيّ (3:170)،و النّيسابوريّ(19:23)،و الجلالين(2:

147).

الزّمخشريّ: الأناسيّ:جمع إنسيّ أو إنسان،و نحوه ظرابيّ في ظربان،على قلب النّون ياء.و الأصل:أناسين و ظرابين.و قرئ بالتّخفيف بحذف ياء«أفاعيل»كقولك:

أناعم في أناعيم.[إلى أن قال:]

فإن قلت:فما معنى تنكير الأنعام و الأناسي،و وصفها بالكثرة؟

قلت:معنى ذلك أنّ علّيّة النّاس و جلّهم منيخون بالقرب من الأودية و الأنهار و منابع الماء،فيهم غنية عن سقي السّماء و أعقابهم،و هم كثير،منهم لا يعيّشهم إلاّ ما ينزّل اللّه من رحمته،و سقيا سمائه.(3:95)

أبو الفتوح:اختلفوا في(أناسيّ)على أقوال:فقالوا:

هو جمع«إنسيّ»جمعا على لفظه،مع ياء النّسبة كالكرسيّ و كراسيّ.و قالوا:إنسيّ و إنس واحد،و هذا من باب نسبة الشّيء إلى نفسه،على وجه المبالغة كالأحمريّ للأحمر،و كقول الشّاعر:

*و الدّهر بالإنسان دوّاريّ*

أي دوّار.

و قال آخرون:هو جمع إنسان،و الأصل«أناسين»، كسرحان و سراحين.و جعلوا الياء بدلا للنّون،أو أدغموها في الياء،فصار«أناسيّ».(4:87)

الفخر الرّازيّ: لم خصّ الإنسان و الأنعام هاهنا بالذّكر دون الطّير و الوحش،مع انتفاع الكلّ بالماء؟

الجواب:لأنّ الطّير و الوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشّرب،بخلاف الأنعام لأنّها قنية الأناسيّ، و عامّة منافعهم متعلّقة بها،فكأنّ الإنعام عليهم بسقي أنعامهم الإنعام عليهم بسقيهم.(24:91)

أبو حيّان: (أناسي)بتخفيف الياء،و رويت عن الكسائيّ.(و أناسيّ)جمع إنسان في مذهب سيبويه،و جمع إنسيّ في مذهب الفرّاء و المبرّد و الزّجّاج.و القياس «أناسية»،كما قالوا في مهلبي:مهالبة.و حكي«أناسين» في جمع إنسان،كسرحان و سراحين.(6:505)

الطّريحيّ: هو جمع«إنسيّ»،و هو واحد الإنس، مثل كرسيّ و كراسيّ.و الإنس:جمع الجنس،يكون بطرح ياء النّسبة،مثل روميّ و روم.

و يجوز أن يكون(أناسيّ)جمع إنسان،فيكون الياء بدلا من النّون،لأنّ الأصل«أناسين»بالنّون،مثل

ص: 843

سراحين جمع سرحان،فلمّا ألقيت النّون من آخره عوّضت النّون بالياء.(4:46)

البروسويّ: (أناسيّ)جمع إنسان عند سيبويه،على أنّ أصله«أناسين»فأبدلت النّون ياء و أدغم فيها الياء الّتي قبلها.و قال الفرّاء و المبرّد و الزّجّاج:إنّه جمع «إنسيّ»و فيه نظر،لأنّ«فعاليّ»إنّما يكون جمعا لما فيه ياء مشدّدة لا تدلّ على نسب،نحو كراسيّ في جمع كرسيّ، فلو أريد بكرسيّ النّسب لم يجز جمعه على كراسيّ.و يبعد أنّ الياء في«إنسيّ»ليست للنّسب،و كان حقّه أن يجمع على«أناسية»نحو مهالبة في جمع المهلبيّ،كذا في حواشي ابن شيخ.(6:225)

شبّر: (أناسيّ)جمع إنسيّ أو إنسان،و أصله «أناسين»قلبت النّون ياء،و هم المتعيّشون بالحيا كأهل البواديّ،و لذا نكّرهم و الأنعام،و تخصيصهم،لأنّ أهل القرى و أشباههم منيخون بقرب المنابع و الأنهار،فهم و أنعامهم في غنى عن سقي السّماء.(4:363)

الآلوسيّ: [نقل كلام أبي حيّان و أضاف:]

و في«الدّرّ المصون»:أنّ«فعاليّ»إنّما يكون جمعا لما فيه ياء مشدّدة إذا لم يكن للنّسب ككرسيّ و كراسيّ، و ما فيه ياء النّسب يجمع على«أفاعلة»كأزرقيّ و أزارقة.

و كون ياء«إنسيّ»ليست للنّسب بعيد،فحقّه أن يجمع على«أناسية».

و قال في«التّسهيل»:إنّه أكثريّ،و عليه لا يرد ما ذكر.(19:31)

الإنسان

1- يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.

النّساء:28

الميبديّ: أينما ذكر«الإنسان»في القرآن فإنّه قرن بصفة ذميمة،نحو: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ إبراهيم:

34، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً المعارج:19، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى العلق:6، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ العاديات:6، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ العصر:2،لأنّ الإنسانيّة من التّراب و التّراب سنخ القذارة و أصل الكدورة.و أمّا طريق الخلاص فهو ذلك اليوم الّذي يخلق فيه و يرى عيبه،ثمّ يشتريه بعيبه.

قال شيخ الطّريقة (1):اللّهمّ إنّك نعتّنا بالجهل فلا يرجى من الجاهل إلاّ الجفاء،و نعتّنا بالضّعف فلا يرجى من الضّعيف إلاّ الزّلل.

اللّهمّ إنّ تمادينا في المعاصي و جرأتنا على ارتكابها مردّه إلى ضعفنا و جهلنا.

اللّهمّ إنّك خلقتنا و لم يعترض عليك أحد في ذلك فلا تكلنا إلى أنفسنا،و أدخلنا في ظلّ لطفك.(2:484)

2- وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ...

يونس:12

الفخر الرّازيّ: المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان قليل الصّبر عند نزول البلاء،قليل الشّكر عند وجدان النّعماء و الآلاء،فإذا مسّه الضّرّ أقبل على

ص: 844


1- الظّاهر أنّه خواجة عبد اللّه الأنصاريّ.

التّضرّع و الدّعاء،مضطجعا أو قائما أو قاعدا،مجتهدا في ذلك الدّعاء،طالبا من اللّه تعالى إزالة تلك المحنة و تبديلها بالنّعمة و المنحة.

فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشّكر و لم يتذكّر ذلك الضّرّ و لم يعرف قدر الإنعام، و صار بمنزلة من لم يدع اللّه تعالى لكشف ضرّه؛و ذلك يدلّ على ضعف طبيعة الإنسان،و شدّة استيلاء الغفلة و الشّهوة عليه.

و إنّما ذكر اللّه تعالى ذلك تنبيها على أنّ هذه الطّريقة مذمومة،بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء،شاكرا عند الفوز بالنّعماء،و من شأنه أن يكون كثير الدّعاء و التّضرّع في أوقات الرّاحة و الرّفاهيّة،حتّى يكون مجاب الدّعوة في وقت المحنة.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:«من سرّه أن يستجاب له عند الكرب و الشّدائد فليكثر الدّعاء عند الرّخاء» [إلى أن قال:]

اختلفوا في(الإنسان)في قوله: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ فقال بعضهم:إنّه الكافر،و منهم من بالغ و قال:

كلّ موضع في القرآن ورد فيه ذكر(الإنسان)فالمراد هو الكافر.و هذا باطل،لأنّ قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الانشقاق:6،7،لا شبهة في أنّ المؤمن داخل فيه،و كذلك قوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ الدّهر:1،و قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12،و قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:16.

فالّذي قالوه بعيد،بل الحقّ أن نقول:اللّفظ المفرد المحلّى بالألف و اللاّم حكمه أنّه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه،و إن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صونا له عن الإجمال و التّعطيل.و لفظ(الإنسان)هاهنا لائق بالكافر،لأنّ العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتّة.(17:50)

نحوه النّيسابوريّ.(11:64)

القرطبيّ: قيل:المراد ب(الإنسان)هنا الكافر.قيل:

هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك،تصيبه البأساء و الشّدّة و الجهد.(8:317)

المراغيّ: أي إنّ الإنسان إذا أصابه من الضّرّ ما يشعر فيه بشدّة ألم أو خطر على نفسه كغرق و مسغبة و داء عضال،دعانا ملحّا في كشفه عند اضطجاعه لجنبه أو قعوده في كسر بيته أو قيامه على قدميه حائرا في أمره،و لا ينسى حاجته إلى رحمة ربّه ما دام يشعر بمسّ الضّرّ،و يعلم من نفسه العجز عن النّجاة منه.و قدّم من هذه الحالات الثّلاث ما يكون الإنسان أشدّ عجزا و شعوره بالحاجة إلى ربّه أقوى،ثمّ الّتي تليها ثمّ الّتي تليها.(11:75)

عبد الكريم الخطيب :في هذه الآية يكشف اللّه سبحانه و تعالى عن ضلال الإنسان و كفره بنعم اللّه، و جحوده لإفضاله عليه و إحسانه إليه.

فالإنسان-مطلق الإنسان-هو كما وصفه اللّه سبحانه في قوله عزّ من قائل: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً المعارج:19-21،و قوله سبحانه: كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى العلق:6-7.

ص: 845

فالإنسان في كيانه هو واه ضعيف،لأنّه خلق من ضعف،كما يقول سبحانه: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً الرّوم:54،و كما يقول جلّ شأنه: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً النّساء:28،و لكنّه حين تلبسه القوّة ينسى ضعفه و يستولي عليه الغرور و يستبدّ به العجب و الخيلاء،فإذا هو مارد جبّار،و سفيه أحمق،و طائش نزق،يحارب ربّه و يكفر بخالقه،و يستعبد النّاس،أو يتعبّد هو للنّاس،و لا يتعبّد لربّ العالمين.

و في قوله تعالى: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً نجد التّعبير ب«المسّ»هنا مفصحا عن مدى ضعف هذا الإنسان و خوره،و أنّ مجرّد مسّ الشّرّ له يكربه و يزعجه و يفسد عليه حياته.و إذا هو صارخ إلى اللّه،ضارع بين يديه،يدعو في كلّ حال يكون عليه لجنبه،أو قاعدا أو قائما،فهو من لهفته و انحلال عزيمته يدعو بكلّ لسان،و يستصرخ بكلّ جارحة.

و في قوله تعالى: فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ نجد أنّ هذا الإنسان الصّارخ الضّارع المستسلم المستكين حين يرفع اللّه عنه البلوى و يكشف ما به من ضرّ يمكر بفضل اللّه عليه و ينسى رحمته به،و يمضي فيما كان فيه من كفر و ضلال،كأنّ ضرّا لم يكن قد مسّه،و كأنّ حالا من الذّلّة و الاستكانة لم تكن قد لبسته،و كأنّ رحمة السّماء لم تمدّ يدها إليه و تستنقذه من الهلاك المطبق عليه!!هكذا الإنسان،كما وصفه خالقه في قوله تعالى: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً الإسراء:83،و في قوله سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ إبراهيم:34.

(6:967)

مكارم الشّيرازيّ:وردت حول الإنسان تعابير مختلفة في القرآن المجيد،فقد أطلق عليه لفظ«بشر»في آيات كثيرة،و لفظ«إنسان»في مواضع جمّة،و«بني آدم»في آيات أخرى.

و ممّا يلفت النّظر أنّ أغلب الآيات الّتي ورد فيها ذكر«الإنسان»تصفه بصفات رذيلة و مذمومة،فمثلا تتحدّث عنه بأنّه مخلوق يعتريه النّسيان،و يجحد النّعم.

و يوصف في موضع آخر بأنّه مخلوق ضعيف: خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً النّساء:38.

و مخلوق مستبدّ و ملحد: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ إبراهيم:34.

و بخيل: وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً الإسراء:100.

و عجول: وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً الإسراء:11.

و متماد بالكفر: وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً الإسراء:

67.

و مخلوق مخاصم: وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً الكهف:54.

و طاغ و جهول: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً الأحزاب:72.

و كفور بيّن: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ الزّخرف:15.

و مخلوق ضجور،يجزع عند الشّرّ،و يبخل عند الخير: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً المعارج:19-21.

ص: 846

و مغرور: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الانفطار:6.

و مخلوق طاغ عند النّعمة: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى العلق:6،7.

فنرى الإنسان في القرآن المجيد عبارة عن مخلوق ذي جوانب سلبيّة كثيرة،و نقاط ضعف متعدّدة،فهل هذا هو نفس الإنسان الّذي خلقه اللّه بأفضل قوام: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4؟

و هل هو نفس ذلك الإنسان الّذي علمه اللّه علما كان يجهله: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ العلق:5؟

و هل هو نفس ذلك الإنسان الّذي علّمه اللّه البيان:

خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ الرّحمن:3،4؟

و هل هو نفس ذلك الإنسان الّذي جعله اللّه يسعى في مسير الرّبوبيّة: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً الانشقاق:6؟

ينبغي التّأمّل في هذا الإنسان الّذي وهبه اللّه كلّ هذه الكرامات و الألطاف،و لكنّه على الرّغم من ذلك لا زال يدلّ على نقاط ضعف نفسه بنفسه.

و يبدو أنّ تلك الأوصاف المذكورة تتعلّق بأناس لم يتربّوا عند مربّ إلهيّ بل نموا و نشئوا كما تنمو الأدغال.ليس لهم مربّ و لا مرشد و لا محفّز،أرخوا العنان لشهواتهم.

و من البديهيّ أنّ أناسا كهؤلاء ليس أنّهم قد أهدروا استعداداتهم الوفيرة و طاقاتهم العظيمة فحسب،بل إنّهم ساروا في طريق ملتوية تؤدّي بهم إلى الضّلال،فأصبحوا مخلوقات خطيرة،و من ثمّ عاجزة و عمياء.

و أمّا الإنسان الّذي نهل العلم و المعرفة من عند أولياء اللّه،و سار في طريق التّكامل و الحقّ و العدل، و خطا خطوات نحو مرحلة الآدميّة،و حاز على لقب«بني آدم»بحقّ،فإنّه يصل إلى مكان لا يرى فيه إلاّ اللّه،كما يقول تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً الإسراء:70.(8:239)

3- وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. هود:9

ابن عبّاس: هو الوليد بن المغيرة،و فيه نزلت.(أبو حيّان 5:206)

مثله الميبديّ.(4:356)

الفخر الرّازيّ:لفظ(الإنسان)في هذه الآية فيه قولان:

القول الأوّل:أنّ المراد منه مطلق الإنسان،و يدلّ عليه وجوه:

الأوّل:أنّه تعالى استثنى منه قوله: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ هود:11،و الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل،فثبت أنّ الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن و الكافر،و ذلك يدلّ على ما قلناه.

الثّاني:أنّ هذه الآية موافقة على هذا التّقرير لقوله تعالى: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ العصر:1-3،و موافقة أيضا لقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً المعارج:

ص: 847

الثّاني:أنّ هذه الآية موافقة على هذا التّقرير لقوله تعالى: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ العصر:1-3،و موافقة أيضا لقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً المعارج:

19-21.

الثّالث:أنّ مزاج الإنسان مجبول على الضّعف و العجز،قال ابن جريج في تفسير هذه الآية:يا ابن آدم اذا نزلت بك نعمة من اللّه فأنت كفور،فإذا نزعت منك فيؤس قنوط.

و القول الثّاني:أنّ المراد منه الكافر،و يدلّ عليه وجوه:

الأوّل:أنّ الأصل في المفرد المحلّى بالألف و اللاّم أن يحمل على المعهود السّابق لو لا المانع،و هاهنا لا مانع فوجب حمله عليه،و المعهود السّابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدّمة.

الثّاني:أنّ الصّفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق الاّ بالكافر،لأنّه وصفه بكونه يئوسا،و ذلك من صفات الكافر،لقوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ يوسف:87،و وصفه أيضا بكونه كفورا و هو تصريح بالكفر،و وصفه أيضا بأنّه عند وجدان الرّاحة يقول: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي هود:

10،و ذلك جراءة على اللّه تعالى،و وصفه أيضا بكونه فرحا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ القصص:76،و وصفه أيضا بكونه فخورا،و ذلك ليس من صفات أهل الدّين.

ثمّ قال النّاظرون لهذا القول:وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع،حتّى لا تلزمنا هذه المحذورات.(17:190)

أبو حيّان: و الظّاهر أنّ(الإنسان)هنا هو جنس، و المعنى أنّ هذا الخلق في سجايا النّاس،ثمّ استثنى منهم الّذين ردّتهم الشّرائع و الإيمان إلى الصّبر و العمل الصّالح، و لذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا هود:11،متّصلا.

و قيل:المراد هنا ب(الإنسان):الكافر.و قيل:المراد به إنسان معيّن.و قيل:عبد اللّه ابن أميّة المخزوميّ،و ذكره الواحديّ.

و على هذين القولين يكون استثناء منقطعا.

(6:205)

4- ...إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ. إبراهيم:34

ابن عبّاس: أراد أبا جهل.(القرطبيّ 9:367)

الطّبرسيّ:لم يرد ب(الإنسان)هاهنا العموم بل هو مثل ما في قوله: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ العصر:1-2(3:316)

القرطبيّ: (الإنسان)لفظ جنس،و أراد به الخصوص.

قال ابن عبّاس: أراد أبا جهل،و قيل:جميع الكفّار.(9:367)

أبو حيّان: المراد ب(الإنسان)هنا الجنس،أي توجد فيه هذه الخلال،و هي الظّلم و الكفر،يظلم النّعمة بإغفال شكرها،و يكفرها بجحدها.(5:428)

5- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. الحجر:26

البغويّ:يعني آدم عليه السّلام،سمّي إنسانا لظهوره و إدراك البصر إيّاه.و قيل:من النّسيان،لأنّه عهد إليه فنسي.

(4:53)

ص: 848

مثله الخازن.(4:53)

الميبديّ: يعني آدم عليه السّلام.(5:306)

و كذا في كثير من التّفاسير.

الفخر الرّازيّ:إشارة إلى ذلك الإنسان الأوّل.

و المفسّرون أجمعوا على أنّ المراد منه هو آدم عليه السّلام.و نقل في كتب الشّيعة عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام أنّه قال:قد انقضى قبل آدم عليه السّلام-الّذي هو أبونا-ألف ألف آدم أو أكثر.

و أقول:هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان،فلا بدّ من الانتهاء إلى إنسان أوّل هو أوّل النّاس.

و أمّا أنّ ذلك الإنسان هو أبونا آدم عليه السّلام فلا طريق إلى إثباته إلاّ من جهة السّمع.(19:179)

نحوه النّيسابوريّ.(14:17)

6- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. النّحل:4

الطّبريّ: عنى ب(الإنسان)جميع النّاس،أخرج بلفظ الواحد،و هو في معنى الجميع.(14:78)

الفخر الرّازيّ: اعلم أنّ أشرف الأجسام بعد الأفلاك و الكواكب هو الإنسان،فلمّا ذكر اللّه تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك، أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان.

و اعلم أنّ الإنسان مركّب من بدن و نفس،فقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصّانع الحكيم،و قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه،على وجود الصّانع الحكيم.(19:224)

القرطبيّ: (الإنسان)اسم للجنس.و روي أنّ المراد به أبيّ بن خلف الجمحيّ،جاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بعظم رميم،فقال:أ ترى يحيى اللّه هذا بعد ما قد رمّ.و في هذا أيضا نزل: أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يس:77.(10:68)

أبو حيّان: أكثر ما ذكر(الإنسان)في القرآن في معرض الذّمّ أو مردفا بالذّمّ.

و قيل:المراد ب(الإنسان)هنا أبيّ بن خلف الجمحيّ.

و قال قوم:سياق الوصفين سياق المدح،لأنّه تعالى قوّاه على منازعة الخصوم،و جعله مبيّن الحقّ من الباطل، و نقله من تلك الحالة الجماديّة و هو كونه نطفة،إلى الحالة العالية الشّريفة و هي حالة النّطق و الإبانة.

و(إذا)هنا للمفاجأة،و بعد خلقه من النّطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلاّ بعد أحوال تطوّر فيها،فتلك الأحوال محذوفة،و تقع المفاجأة بعدها.(5:474)

البروسويّ: أي بني آدم لا غير،لأنّ أبويهم لم يخلقا من النّطفة بل خلق آدم من التّراب،و حوّاء من الضّلع الأيسر منه.[إلى أن قال:]

و في«التّأويلات النّجميّة»أي جعل الإنسان من نطفة ميّتة لا فعل لها و لا علم بوجودها،فإذا أعطيت العلم و القدرة صارت خصيما لخالقها مبيّنا وجودها مع وجود الحقّ،و ادّعت الشّركة معه في الوجود و الأفاعيل،انتهى.

و الآية وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة و الجهل،و التّمادي في كفران النّعمة.قالوا:خلق اللّه تعالى جوهر الإنسان من تراب أوّلا،ثمّ من نطفة ثانيا،

ص: 849

و هم ما ازدادوا إلاّ تكبّرا.و ما لهم و الكبر بعد أن خلقوا من نطفة نجسة،في قول عامّة العلماء.(5:6)

النّهاونديّ: الّذي انطوى فيه العالم الأكبر.

(2:378)

7- وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً. الإسراء:11

ابن عبّاس: إنّه نضر بن الحارث.

(الزّمخشريّ 2:440)

الميبديّ:قيل:(الإنسان)هنا بمعنى النّاس.

(5:522)

الزّمخشريّ: و يجوز أن يريد ب(الإنسان) الكافر.(2:440)

8- وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ... الإسراء:83

الفخر الرّازيّ: قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:إنّ (الإنسان)هاهنا هو الوليد بن المغيرة.

و هذا بعيد،بل المراد أنّ نوع الإنسان من شأنه أنّه إذا فاز بمقصوده و وصل إلى مطلوبه اغترّ و صار غافلا عن عبوديّة اللّه تعالى،متمرّدا عن طاعة اللّه،كما قال:

إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى العلق:

6 و 7.(21:35)

أبو حيّان: و الظّاهر أنّ المراد ب(الإنسان)هنا ليس واحدا بعينه بل المراد به الجنس،كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ العاديات:6. إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً المعارج:19،و هو راجع لمعنى الكافر.(6:75)

الآلوسيّ: أي جنسه،فيكفي في صحّة الحكم وجوده في بعض الأفراد،و لا يضرّ وجود نقيضه في البعض الآخر.(15:147)

9- ...وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً. الكهف:54

ابن عبّاس: يريد ب(الإنسان)النّضر بن الحارث.(الطّبرسيّ 3:477)

الكلبيّ: يريد أبيّ بن خلف.(الطّبرسيّ 3:447)

الزّجّاج: معناه و كان الكافر،يدلّ عليه قوله:

وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ. الكهف:

56.(الطّبرسيّ 3:477)

نحوه شبّر.(4:85)

البغويّ: قيل:المراد من الآية الكفّار،لقوله تعالى:

وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ.

و قيل:و هي على العموم،و هذا أصحّ.مثله الخازن.

(4:177)

10- وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا. مريم:66

ابن عبّاس: نزلت في الوليد بن المغيرة و أصحابه.(القرطبيّ 11:131)

الكلبيّ: أبيّ بن خلف.(القرطبيّ 11:131)

ابن جريج: إنّها نزلت في العاص بن وائل.

(الآلوسيّ 16:116)

البغويّ: يعني أبيّ بن خلف الجمحيّ،كان منكرا للبعث.(4:206)

نحوه الميبديّ(6:72)،و أبو الفتوح(3:484)،

ص: 850

و الكاشانيّ(3:288).

الزّمخشريّ: يحتمل أن يراد ب(الإنسان)الجنس بأسره،و أن يراد بعض الجنس،و هم الكفرة.

فإن قلت:لم جازت إرادة الأناسيّ و كلّهم غير قائلين ذلك؟

قلت:لمّا كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم صحّ إسناده إلى جميعهم،كما يقولون:بنو فلان قتلوا فلانا،و إنّما القاتل رجل منهم.[ثمّ استشهد بشعر](2:517)

الفخر الرّازيّ: ذكروا في(الإنسان) وجهين:

أحدهما:أن يكون المراد الجنس بأسره.

فإن قيل:كلّهم غير قائلين بذلك،فكيف يصحّ هذا القول؟

قلنا:الجواب من وجهين:

الأوّل:أنّ هذه المقالة لمّا كانت موجودة فيما هو من جنسهم،صحّ إسنادها إلى جميعهم،كما يقال:بنو فلان قتلوا فلانا.و إنّما القاتل رجل منهم.

الثّاني:أنّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كلّ أحد،إلاّ أنّ بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبنيّ على محض الطّبع بالدّلالة القاطعة،الّتي قامت على صحّة القول به.

ثانيهما:أنّ المراد ب(الإنسان)شخص معيّن،فقيل:

هو أبو جهل،و قيل:هو أبيّ بن خلف.

و قيل:المراد جنس الكفّار القائلين بعدم البعث.(21:241)

نحوه البيضاويّ(2:39)،و النّيسابوريّ(16:75)، و أبو حيّان(6:206)،و أبو السّعود(3:288).

السّيوطيّ: هو أبيّ بن خلف،و قيل:أميّة بن خلف،و قيل:الوليد بن المغيرة.(4:103)

الطّباطبائيّ: ليس ببعيد أن يكون المراد ب(الإنسان)القائل ذلك،هو الكافر المنكر للبعث.و إنّما عبّر ب(الإنسان)لكونه لا يترقّب منه ذلك.و قد جهّزه اللّه تعالى بالإدراك العقليّ،و هو يذكر أنّ اللّه خلقه من قبل و لم يك شيئا،فليس من البعيد أن يعيده ثانيا.

فاستبعاده مستبعد منه،و لذا كرّر لفظ(الإنسان)حيث أخذ في الجواب قائلا: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً مريم:67،أي إنّه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله،و هو غير ناسيه.

و لعلّ التّعبير بالمضارع في قوله: وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ، للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد،و المرتابين فيه.(14:87)

11- أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً. مريم:67

البغويّ: يعني أبيّ بن خلف الجمحيّ.(4:206)

الطّبرسيّ: قيل:إنّ(الإنسان)هنا مفرد في اللّفظ مجموع في المعنى،يريد جميع منكري البعث.(523)

نحوه الخازن.(4:206)

12- خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ... الأنبياء:37

سعيد بن جبير: إنّ المراد آدم عليه السّلام.

ص: 851

مثله مجاهد،و عكرمة،و الضّحّاك و السّدّيّ، و الكلبيّ،و مقاتل.(الفخر الرّازيّ 22:171).

و مثله الطّبريّ(17:26)،و البغويّ(4:238)، و الميبديّ(6:248)،و أبو الفتوح(3:544).

الطّبرسيّ: قيل:فيه قولان:

أحدهما:أنّ المعنيّ ب(الإنسان)آدم عليه السّلام.

و القول الثّاني:أنّ المعنيّ ب(الإنسان)النّاس كلّهم.(4:47)

الفخر الرّازيّ: فيه مسائل:

المسألة الأولى:في المراد من(الإنسان)قولان:

أحدهما:أنّه النّوع،و الثّاني:أنّه شخص معيّن.

أمّا القول الأوّل:فتقريره أنّهم كانوا يستعجلون عذاب اللّه تعالى و آياته الملجئة إلى العلم و الإقرار.[إلى أن قال:]

أمّا القول الثّاني:هو أنّ المراد شخص معيّن،فهذا فيه وجهان:

أحدهما:أنّ المراد آدم عليه السّلام،و هو قول مجاهد،و سعيد ابن جبير،و عكرمة،و السّدّيّ،و الكلبيّ،و مقاتل، و الضّحّاك.[إلى أن قال:]

و ثانيهما:قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما في رواية عطاء:نزلت هذه الآية في النّضر بن الحارث،و المراد ب(الإنسان)هو.

و اعلم:أنّ القول الأوّل أولى،لأنّ الغرض ذمّ القوم؛ و ذلك لا يحصل إلاّ إذا حملنا لفظ(الإنسان)على النّوع.

(22:171)

أبو حيّان:الظّاهر أنّه يراد ب(الإنسان)هنا اسم الجنس.(6:312)

نحوه عبد الكريم الخطيب.(9:898)

13- ...إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ. الحجّ:66

ابن عبّاس: هو الكافر.

هو الأسود بن عبد الأسد،و أبو جهل،و أبيّ بن خلف.(أبو حيّان 6:387)

الطّبريّ: إنّ ابن آدم لجحود لنعم اللّه الّتي أنعم بها عليه.(17:198)

الميبديّ: قيل:هو عامّ،و المراد به كفران النّعمة.

و قيل:أراد به الكفّار الّذين يجحدون الآيات الدّالّة على وحدانيّة اللّه عزّ و جلّ.(6:399)

الفخر الرّازيّ: قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما:

(الإنسان)هاهنا هو الكافر.و يقال أيضا:هو الأسود بن عبد الأسد،و أبو جهل،و العاص،و أبيّ بن خلف.

و الأولى تعميمه في كلّ المنكرين.(23:63)

نحوه النّيسابوريّ(17:120)،و أبو حيّان(6:

387)،و الآلوسيّ(17:195).

14- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. المؤمنون:12

سلمان الفارسيّ: (الإنسان)هنا آدم،لأنّه انسلّ من الطّين.

مثله ابن عبّاس،و قتادة.(أبو حيّان 6:398)

ابن عبّاس: (الإنسان):ابن آدم.

(أبو حيّان 6:398)

ص: 852

المراد ب(الإنسان)كلّ إنسان،لأنّه يرجع إلى آدم، خلق من سلالة.

مثله مجاهد.(الطّوسيّ 7:353)

الطّوسيّ: في الآية دلالة على أنّ(الإنسان)هو هذا الجسم المشاهد،لأنّه المخلوق من نطفة و المستخرج من سلالة،دون ما يذهب إليه قوم من أنّه الجوهر البسيط،أو شيء لا يصحّ عليه التّركيب و الانقسام،على ما يذهب إليه معمر و غيره.(7:353)

البغويّ: يعني ولد آدم.و(الإنسان)اسم الجنس، يقع على الواحد و الجمع.

و قيل:المراد من(الإنسان)هو آدم.(5:26)

نحوه الميبديّ(6:419)،و الطّبرسيّ(4:101)، و الخازن.(5:26)،و أبو السّعود(4:26).

الفخر الرّازيّ: اختلف أهل التّفسير في(الإنسان) فقال ابن عبّاس و عكرمة و قتادة و مقاتل:المراد منه آدم عليه السّلام،فآدم سلّ من الطّين،و خلقت ذرّيّته من ماء مهين.ثمّ جعلنا الكناية راجعة إلى الإنسان الّذي هو ولد آدم،و الإنسان شامل لآدم عليه السّلام و لولده.

و قال آخرون:(الإنسان)هاهنا ولد آدم.

(23:84)

الطّريحيّ: قيل:المراد به هنا الهيكل المخصوص.(4:47)

الطّباطبائيّ: ظاهر السّياق أنّ المراد ب(الإنسان) هو النّوع،فيشمل آدم و من دونه،و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائيّ الّذي خلق به آدم من الطّين،ثمّ جعل النّسل من النّطفة.و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله:

وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ السّجدة:7،8.

و يؤيّده قوله بعد: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً المؤمنون:

13؛إذ لو كان المراد ب(الإنسان)ابن آدم فحسب،و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النّطفة إلى الطّين،لكان الظّاهر أن يقال:ثمّ خلقناه نطفة،كما قيل: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلخ.المؤمنون:14

و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم:إنّ المراد ب(الإنسان) جنس بني آدم،و كذا القول:بأنّ المراد به آدم عليه السّلام،غير سديد.(15:19)

15- إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً. الأحزاب:72

النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عرضها اللّه على آدم عليه السّلام.

(الطّبريّ 22:55)

مثله ابن عبّاس(الطّبريّ 22:54)،و الضّحّاك (القرطبيّ 14:258)،و البغويّ(5:230)،و الميبديّ (8:94)،و الخازن(5:230)،و السّيوطيّ(الجلالين 2:

253).

إنّ الأمانة و الوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء، فأرسلوا به،فمنهم رسول اللّه،و منهم نبيّ،و منهم نبيّ رسول.(الطّبريّ 22:55)

السّدّيّ: يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهل.(الطّبريّ 22:57)

الإمام الصّادق عليه السّلام: (الإنسان):أبو الشّرور المنافق.(الكاشانيّ 4:207)

ص: 853

الطّوسيّ: ليس(الإنسان)هاهنا واحدا بعينه، و لا هو المطيع المؤمن،بل هو كلّ من خان الأمانة،و لم يرد الحقّ فيها.(8:368)

القرطبيّ: قال قوم:(الإنسان)النّوع كلّه،و هذا حسن مع عموم الأمانة.(14:258)

16- أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. يس:77

ابن عبّاس: (الإنسان)هو عبد اللّه بن أبيّ.(القرطبيّ 15:57)

سعيد بن جبير: هو العاص بن السّهميّ.(القرطبيّ 15:57)

الحسن :هو أبيّ بن خلف الجمحيّ.

مثله ابن إسحاق،و مالك.(القرطبيّ 15:57)

و مثله قتادة.(الطّبريّ 23:10)

شبّر: (الإنسان):المنكر للبعث.(5:239)

17- وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ... الزّمر:8

الفخر الرّازيّ: قيل:المراد ب(الإنسان)أقوام معيّنون،مثل عتبة بن ربيعة و غيره.و قيل:المراد به الكافر الّذي تقدّم ذكره،لأنّ الكلام يخرج على معهود تقدّم.(26:249)

مثله النّيسابوريّ(23:117)،و أبو حيّان(7:

418).

18- فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا... الزّمر:49

الآلوسيّ: إخبار عن الجنس بما يغلب فيه.و قيل:

المراد ب(الإنسان)حذيفة بن المغيرة،و قيل:

الكفرة.(24:12)

مكارم الشّيرازيّ: ممّا يلفت الانتباه أنّ هذه الآية قد ركّزت على لفظ(الإنسان)و و سمته بالنّسيان و الغرور.و هذه إشارة إلى الإنسان الّذي لم ينهل من نمير الخلق الإلهيّ،و لم يتلقّ رعاية من مربّ و مرشد،فأطلق لشهواته العنان،فتقاذفته أمواج الهوى،فكان يحيى كما تحيى الأدغال دون تشذيب و تهذيب.

أجل،إنّه هذا الإنسان الّذي يفزع إلى اللّه كلّما ألمّ به مرض أو نزلت به نائبة،و حينما يتمتّع بنعيم الحياة، و يصل إلى ساحل النّجاة يقطع حبل الوصل مع اللّه.

راجع موضوع«الإنسان»في القرآن في ذيل الآية:

12،من سورة يونس،في الصّفحة(239)من الجزء الثّامن،ففيه تفصيل حول هذا الموضوع.(19:494)

19- لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ. فصّلت:49

السّدّيّ: (الإنسان)هاهنا يراد به الكافر.

(القرطبيّ 15:372)

مثله الكلبيّ.(الطّبرسيّ 5:18)

القرطبيّ: قيل:الوليد بن المغيرة.و قيل:عتبة و شيبة ابنا ربيعة،و أميّة بن خلف.(15:372)

نحوه أبو حيّان.(7:504)

مكارم الشّيرازيّ: و المعنيّ ب(الإنسان)هنا ذلك

ص: 854

الّذي لم ترعه يد التّهذيب و التّشذيب،و لم ينوّر قلبه بنور المعرفة،و لم يغمره الإيمان باللّه أبدا،و لم يبال بيوم الجزاء، ذلك الإنسان الّذي أصبح في نطاق عالم المادّة بفعل الأفكار الهدّامة،و عدم رؤية ما سوى ذلك،و غضّ النّظر عن القيم الإنسانيّة السّامية.(20:320)

20- وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ. فصّلت:51

ابن عبّاس: يريد عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة، و أميّة بن خلف،أعرضوا عن الإسلام و تباعدوا عنه.(القرطبيّ 15:373)

القرطبيّ: يريد الكافر.(15:373)

21- ...وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ. الشّورى:48

الزّمخشريّ: أراد ب(الإنسان)الجمع لا الواحد، لقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، و لم يرد إلاّ المجرمين،لأنّ إصابة السّيّئة بما قدّمت أيديهم تستقيم فيهم.

(3:474)

القرطبيّ: الكافر.(16:47)

أبو حيّان: و الإنسان يراد به الجنس،و لذلك جاء:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، و جاء جواب الشّرط: فَإِنَّ الْإِنْسانَ و لم يأت:فإنّه و لا فإنّهم،ليدلّ على أنّ هذا الجنس موسوم بكفران النّعم،كما قال: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ إبراهيم:34، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ العاديات:6.(7:525)

22- ...إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. الزّخرف:15

البغويّ: يعني الكافر.(6:110)

أبو حيّان: و المراد ب(الإنسان)من جعل للّه جزء، (1)و غيرهم من الكفرة.(8:8)

23- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. ق:16

الطّبرسيّ: أراد به الجنس،يعني ابن آدم.

(5:144)

القرطبيّ: يعني النّاس.و قيل:آدم.و من قال:إنّ المراد ب(الإنسان)آدم،فالّذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشّجرة،ثمّ هو عامّ لولده.(17:8)

24- خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الرّحمن:3،4

ابن عبّاس: و المراد ب(الإنسان)هنا آدم عليه السّلام.

(الطّبرسيّ 5:197)

مثله الحسن و قتادة.(القرطبيّ 17:153)

(الإنسان)هاهنا يراد به محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم.

مثله ابن كيسان.(القرطبيّ 17:152)

الإمام الرّضا عليه السّلام: ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام.(البحرانيّ 4:263)

الطّوسيّ: قيل:المراد ب(الإنسان)هاهنا آدم عليه السّلام، و قيل:محمّد صلّى اللّه عليه و آله،و قيل:جميع النّاس.و هو الظّاهر،و هوم.

ص: 855


1- جزء:ندّا،كالصّنم.

الأعمّ في الجميع.(9:463)

نحوه الطّبرسيّ(5:197)،و الفخر الرّازيّ(29:

85)،و النّسفيّ(4:207)،و أبو حيّان(8:188)، و البروسويّ(9:289).

25- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ.

الرّحمن:14

الطّوسيّ: يعني به آدم عليه السّلام.(9:468)

مثله الميبديّ(9:410)،و أبو الفتوح(5:207)، و الفخر الرّازيّ(29:27)،و القرطبيّ(17:160)، و المراغيّ(27:111).

الطّبرسيّ: يعني به آدم،و قيل:جميع البشر،لأنّ أصلهم آدم عليه السّلام.(5:201)

نحوه الآلوسيّ(27:105)،و الطّباطبائيّ(19:99).

بنت الشّاطئ: «الإنس»و«الإنسان»يلتقيان في الملحظ العامّ لدلالة مادّتها المشتركة،على نقيض التّوحّش.لكنّهما لا يترادفان،بل ينفرد كلّ منهما بملحظ خاصّ،يميّزه عن الآخر:

لفظ«الإنس»يأتي في القرآن دائما مع«الجنّ»على وجه التّقابل.يطّرد ذلك و لا يتخلّف في كلّ الآيات الّتي جاء فيها اللّفظ قسيما للجنّ،و عددها ثماني عشرة آية.

و ملحظ«الإنسيّة»فيه-بما تعني من نقيض التّوحّش-هو المفهوم صراحة من مقابلته بالجنّ،في دلالتها أصلا على الخفاء الّذي هو من ظواهر التّوحّش.

و بهذه الإنسيّة يتميّز جنسنا عن أجناس خفيّة مجهولة غير مألوفة لنا،و لا هي تخضع لنواميس حياتنا، أمّا«الإنسان»فليس مناط إنسانيّته فيما نستقرئ من آيات البيان المعجز،كونه مجرّد إنس،و إنّما الإنسانيّة فيه ارتقاء إلى أهليّة التّكليف،و حمل أمانة الإنسان، و ما يلابس ذلك من تعرّض للابتلاء بالخير و الشّرّ.

و قد جاء لفظ«الإنسان»في القرآن الكريم في خمسة و ستّين موضعا،نتدبّر سياقها جميعا،فتهدينا إلى الدّلالة المميّزة للإنسانيّة.

هو في جنسه العامّ إنس:

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ* وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الرّحمن:14،15.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ الحجر:26،27.

لكنّه مع إنسيّته،يختصّ إنسانا:

بالقراءة و العلم:العلق:1-5.

و البيان:الرّحمن:3.

و الكسب و التّكليف:الإنسان 3،النّجم:39، القيامة:14،الإسراء:17.

و الجدل:الكهف:54.

و يحتمل الوصيّة:لقمان:14،العنكبوت:8.

و هموم المكابدة و اقتحام العقبة:البلد:4.

و يحتمل الأمانة الّتي أبت السّماوات و الأرض و الجبال أن يحملنها و أشفقن منها:الأحزاب:73.

و هو الّذي يتعرّض لتجربة الابتلاء و محنة الغواية:

الفرقان:24،ق:16،الحشر:16،الإنسان:2،4،الفجر:

15.

ص: 856

و يزدهيه الغرور فيطغى و يستكبر،و يضلّه و هم الاستغناء عن خالقه:العلق:6.

و ما أكثر ما يذكّر القرآن هذا الإنسان بضعفه و هوانه، كبحا لجماح غروره كي لا يتجاوز قدره؛فيطغى.و هو مظنّة أن يتمادى به الغرور و الطّغيان إلى حدّ الكفر بخالقه، و الوقوف منه تعالى موقف خصيم مبين.النّحل:4،مريم:

67،الانفطار:6،فصّلت:49،الزّخرف:15،عبس:

17،العاديات:6.(الإعجاز البيانيّ:216)

26- كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.

الحشر:16

الإمام عليّ عليه السّلام: إنّ راهبا تعبّد ستّين سنة،و إنّ الشّيطان أراده فأعياه،فعمد إلى امرأة فأجنّها،و لها إخوة،فقال لإخوتها:عليكم بهذا القسّ فيداويها.قال:

فجاءوا بها إليه فداواها،و كانت عنده.فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها؛فحملت،فعمد إليها فقتلها.

فجاء إخوتها،فقال الشّيطان للرّاهب،أنا صاحبك إنّك أعييتني،أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك ممّا صنعت بك،فاسجد لي سجدة.فسجد له،فلمّا سجد له قال إنّي برئ منك إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين.فذلك قوله:

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.

(ابن كثير 6:612)

نحوه ابن عبّاس.(الطّبرسيّ 5:265)

الطّبريّ: قد اختلف أهل التّأويل في(الإنسان) الّذي قال اللّه جلّ ثناؤه: إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ هو إنسان بعينه،أم أريد به المثل لمن فعل الشّيطان ذلك به؟

فقال بعضهم:عني بذلك إنسان بعينه.

و قال آخرون:بل عني بذلك النّاس كلّهم.و قالوا:

إنّما هذا مثل ضرب للنّضير في غرور المنافقين إيّاهم.

(28:49)

البيضاويّ: و المراد من(الإنسان)الجنس،و قيل:

أبو جهل،و قيل:راهب حمله على الفجور و الارتداد.

(2:467)

أبو السّعود: إن أريد ب(الإنسان)الجنس فهذا التّبرّؤ من الشّيطان يكون يوم القيامة،كما ينبئ عنه قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.

و إن أريد به أبو جهل فقوله:(اكفر)عبارة عن قول إبليس يوم بدر لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ. (5:154)

27- أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ.

القيمة:3

ابن عبّاس: أ يظنّ ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها؟بلى قادرين على أعظم من ذلك.(الطّبريّ 29:175)

يريد ب(الإنسان)أبا جهل.

(الفخر الرّازيّ 30:217)

الطّوسيّ: أ يظنّ الإنسان الكافر أن لن نجمع عظامه.(10:191)

نحوه البغويّ(7:152)،و الميبديّ(10:301)، و الطّبرسيّ(5:395)،و القرطبيّ(19:93)،و النّسفيّ

ص: 857

(4:314)،و الخازن(7:152)،و أبو حيّان(8:384).

الفخر الرّازيّ: المشهور أنّ المراد من(الإنسان) إنسان معيّن.و قال جمع من الأصوليّين:بل المراد الإنسان المكذّب بالبعث على الإطلاق.(30:217)

البيضاويّ: يعني الجنس،و إسناد الفعل إليه،لأنّ فيهم من يحسب،أو الّذي نزل فيه و هو عديّ بن ربيعة.

(2:521)

نحوه البروسويّ(10:244)،و الآلوسيّ (29:137).

28- هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. الدّهر:1

ابن عبّاس: المراد ب(الإنسان)الجنس.

(الآلوسيّ 29:151)

أبو مسلم: قيل:إنّ المراد به كلّ إنسان،و الألف و اللاّم للجنس.(الطّبرسيّ 5:406)

الحسن :و المعنيّ ب(الإنسان)هاهنا آدم.

(الطّوسيّ 10:205)

نحوه قتادة و سفيان(الطّبريّ 29:202)،و الجبّائيّ (الطّبرسيّ 5:406)،و البغويّ(7:157)،و الميبديّ (10:316)،و أبو الفتوح(5:442)،و القرطبيّ(19:

119)،و الآلوسيّ(29:150).

الخازن :قيل:المراد ب(الإنسان)جنس الإنسان، و هو بنو آدم بدليل قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ الدّهر:

2،فالإنسان في الموضعين واحد.(7:157)

الزّمخشريّ: و المراد ب(الإنسان)جنس بني آدم، بدليل قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الدّهر:2.(4:194)

نحوه البيضاويّ(2:524)،و أبو حيّان(8:393).

الفخر الرّازيّ: اختلفوا في(الإنسان)المذكور هاهنا،فقال جماعة من المفسّرين:يريد آدم عليه السّلام.و من ذهب إلى هذا قال:إنّ اللّه تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية ثمّ عقّب بذكر ولده في قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ.

و القول الثّاني:أنّ المراد ب(الإنسان)بنو آدم،بدليل قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ، فالإنسان في الموضعين واحد،و على هذا التّقدير يكون نظم الآية أحسن.(30:235)

29- إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. الدّهر:2

[و جاءت لفظة«الإنسان»بمعنى بني آدم عند المفسّرين في كثير من الآيات.]

30- فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. عبس:24

الطّباطبائيّ: و المراد ب(الإنسان)كما قيل غير الإنسان المتقدّم المذكور في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ عبس:17،فإنّ المراد به خصوص الإنسان المبالغ في الكفر،بخلاف الإنسان المذكور في هذه الآية، المأمور بالنّظر،فإنّه عامّ شامل لكلّ إنسان،و لذلك أظهر و لم يضمر.(20:209)

31- يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ. الانفطار:6

ص: 858

31- يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ. الانفطار:6

الآلوسيّ: و اختلف في الإنسان المنادى،فقيل:

الكافر،بل عن عكرمة أنّه أبيّ بن خلف.و قيل:الأعمّ الشّامل للعصاة،و هو الوجه لعموم اللّفظ.(30:64)

الطّباطبائيّ: عتاب و توبيخ للإنسان،و المراد بهذا الإنسان المكذّب ليوم الدّين،على ما يفيده السّياق المشتمل على قوله: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ الانفطار:9.

(20:224)

32- يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. الانشقاق:6

الفخر الرّازيّ: فيه قولان:

الأوّل:أنّ المراد جنس النّاس،كما يقال:يا أيّها الرّجل،و كلّكم ذلك الرّجل،فكذا هاهنا،و كأنّه خطاب خصّ به كلّ واحد من النّاس.قال القفّال:و هو أبلغ من العموم،لأنّه قائم مقام التّخصيص على مخاطبة كلّ واحد منهم على التّعيين،بخلاف اللّفظ العامّ فإنّه لا يكون كذلك.

و الثّاني:أنّ المراد منه رجل بعينه،و هاهنا فيه قولان:

الأوّل:أنّ المراد به محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم،و المعنى انّك تكدح في إبلاغ رسالات اللّه و إرشاد عباده،و تحمّل الضّرر من الكفّار،فأبشر فإنّك تلقي اللّه بهذا العمل،و هو غير ضائع عنده.

الثّاني:قال ابن عبّاس:هو أبيّ بن خلف،و كدحة جدّه و اجتهاده في طلب الدّنيا،و إيذاء الرّسول عليه السّلام، و الإصرار على الكفر.

و الأقرب أنّه محمول على الجنس،لأنّه أكثر فائدة، و لأنّ قوله: فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الانشقاق:

7، وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ الانشقاق:10، كالنّوعين له؛و ذلك لا يتمّ إلاّ إذا كان جنسا.

(31:105)

33- فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ...

الفجر:15

شبّر: الجنس أو الكافر.(6:407)

الطّباطبائيّ: المراد به النّوع بحسب الطّبع الأولى فاللاّم للجنس دون الاستغراق.(20:282)

34- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ. البلد:4

الفخر الرّازيّ: منهم من قال:المراد ب(الإنسان) إنسان معيّن،و هو الّذي وصفناه بالقوّة.و الأكثرون على أنّه عامّ يدخل فيه كلّ أحد،و إن كنّا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرّجل.(31:183)

القرطبيّ: و(الإنسان)هنا ابن آدم عليه السّلام.

(20:62)

35- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. التّين:4

قتادة :أراد جنس الإنسان،و هو آدم و ذرّيّته، خلقهم اللّه في أحسن صورة.

مثله مجاهد و النّخعيّ.(الطّبرسيّ 5:511)

الآلوسيّ: أريد ب(الإنسان)الجنس،فهو شامل للمؤمن و الكافر،لا مخصوص بالثّاني.و استدلّ عليه

ص: 859

بصحّة الاستثناء و أنّ الأصل فيه الاتّصال.(30:175)

36- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. العلق:2

الطّوسيّ: تخصيص لبعض ما ذكره بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ العلق:1،لأنّه يشتمل على الإنسان و غيره.و إنّما أفرد(الإنسان)بالذّكر تشريفا له،و تنبيها على ما خصّه اللّه به من سائر الحيوان.(10:379)

نحوه الطّبرسيّ(5:514)،و الزّمخشريّ(4:270)، و النّيسابوريّ(30:133).

الميبديّ: يعني بني آدم عليه السّلام.و قيل:المراد به آدم عليه السّلام.(10:550)

37- عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ .العلق:5

الطّباطبائيّ: المراد ب(الإنسان)الجنس،كما هو ظاهر السّياق.

و قيل:المراد به آدم عليه السّلام،و قيل:إدريس عليه السّلام،لأنّه أوّل من خطّ بالقلم،و قيل:كلّ نبيّ كان يكتب.و هي وجوه ضعيفة،بعيدة عن الفهم.(20:324)

38- وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها. الزّلزال:3

ابن عبّاس: الكافر.(الطّبريّ 30:66)

هو أسود بن عبد الأسد.(القرطبيّ 20:148)

الإمام الباقر عليه السّلام: قرئت هذه السّورة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فقال:أنا الإنسان،و إيّاي تحدّث أخبارها.(الكاشانيّ 5:357)

الميبديّ: قيل:هو عامّ،و قيل:(الإنسان)هاهنا الكافر الّذي لا يؤمن بالبعث،لأنّ المؤمن يعلم ذلك و لا ينكر وقوعه.و الكافر الّذي لا يقرّ بالبعث و لا يعرف صدق كون القيامة يقول:ما للأرض!تعجّبا من شأنها.

و قيل:في الآية تقديم و تأخير،تقديره:يومئذ تحدّث أخبارها،فيقول الإنسان:ما لها.(10:577)

الطّبرسيّ: قيل:إنّ المراد ب(الإنسان)الكافر،لأنّ المؤمن معترف بها لا يسأل عنها،أي يقول الكافر الّذي لم يؤمن بالبعث:أيّ شيء زلزلها،و أصارها إلى هذه الحالة.(5:526)

نحوه البيضاويّ(2:571)،و أبو حيّان(8:501)، و النّيسابوريّ(30:156).

القرطبيّ:أي ابن آدم الكافر.

فروى الضّحّاك عن ابن عبّاس قال:هو الأسود بن عبد الأسد.

و قيل:أراد كلّ إنسان يشاهد ذلك عند قيام السّاعة في النّفخة الأولى،من مؤمن و كافر.و هذا قول من جعلها في الدّنيا من أشراط السّاعة،لأنّهم لا يعلمون جميعا من أشراط السّاعة في ابتداء أمرها حتّى يتحقّقوا عمومها، فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها.

و على قول من قال:إنّ المراد ب(الإنسان)الكفّار خاصّة،جعلها زلزلة القيامة،لأنّ المؤمن معترف بها،فهو لا يسأل عنها،و الكافر جاحد لها،فلذلك يسأل عنها.(20:148)

نحوه الخازن.(7:233)

الآلوسيّ: أي كلّ فرد من أفراد الإنسان لما يبهرهم من الطّامّة التّامّة و يدهمهم من الدّاهية العامّة.

ص: 860

[إلى أن قال:]

و ذهب غير واحد إلى أنّ المراد ب(الإنسان)الكافر، غير المؤمن بالبعث.و الأظهر هو الأوّل على أنّ المؤمن يقول ذلك بطريق الاستعظام،و الكافر بطريق التّعجّب.(30:209)

39- وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. العصر:1،2

ابن عبّاس: المراد به الكافر.(القرطبيّ 20:179)

يريد جماعة من المشركين:الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل،و الأسود بن عبد المطّلب بن أسد بن عبد العزّى،و الأسود بن عبد يغوث.

(القرطبيّ 19:179)

الإمام الصّادق عليه السّلام: يعني أعداءنا.

(الكاشانيّ 5:372)

المبرّد: الإنسان هاهنا جمع،في معنى الأناسيّ و النّاس،و لو كان واحدا لم يجز الاستثناء منه.و أصل إنسان«إنسيان»و تصغيره«أنيسيان».

(ابن خالويه:175)

الميبديّ: قيل:أراد ب(الإنسان)الكافر،بدليل أنّه استثنى المؤمنين.

قالوا:نزلت في الأسود بن شريق القرشيّ،و قيل:في الوليد بن المغيرة،و قيل:في رجل من قريش اسمه جميل.

(10:605)

الفخر الرّازيّ: الألف و اللاّم في(الإنسان)يحتمل أن تكون للجنس،و أن تكون للمعهود السّابق،فلهذا ذكر المفسّرون فيه قولين:

الأوّل:أنّ المراد منه الجنس،و هو كقولهم:كثر الدّرهم في أيدي النّاس.و يدلّ على هذا القول استثناء (الّذين آمنوا)من الإنسان.

و القول الثّاني:المراد منه شخص معيّن.قال ابن عبّاس:يريد جماعة من المشركين،كالوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل،و الأسود بن عبد المطّلب.

و قال مقاتل: نزلت في أبي لهب،و في خبر مرفوع أنّه أبو جهل.

روي أنّ هؤلاء كانوا يقولون:إنّ محمّدا لفي خسر، فأقسم تعالى أنّ الأمر بالضّدّ ممّا يتوهّمون.(32:86)

نحوه الخازن.(7:240)

الطّريحيّ: قد اختلف النّاس في معرفته اختلافا كثيرا لا يكاد ينضبط.لكن يرجع حاصله إلى أنّه إمّا جوهر أو عرض،و الجوهر إمّا جسمانيّ أو روحانيّ، فالأقسام ثلاثة:

الأوّل:أن يكون عرضا،فقيل:هو المزاج المعتدل، و قيل:الحياة،و قيل:تخاطيط الأعضاء و تشكّل البدن.

الثّاني:أن يكون جسما أو جسمانيّا،فقيل:الهيكل المحسوس،و قيل:الأربعة،و قيل:أحد العناصر الأربعة، فكلّ ذهب إليه قوم.

و قال النّظّام: جسم لطيف داخل البدن.و قال الرّاونديّ:جزء لا يتجزّأ في القلب،و قيل:الرّوح،و هو جسم مركّب من ناريّة الأخلاط.

و المحقّقون من المتكلّمين قالوا:إنّه أجزاء أصليّة في البدن،باقية من أوّل العمر إلى آخره،لا يتطرّق إليها الزّيادة و النّقصان،و من أحبّ الوقوف على دلائل هذه

ص: 861

الأقوال فليطلبها من مظانّها.

و الإنسان-على ما قيل-مركّب من صفات بهيميّة و صفات سبعيّة و شيطانيّة و ربوبيّة،فيصدر من البهيميّة الشّهوة و الشّره و الفجور،و من السّبعيّة الغضب و الحسد و العداوة و البغضاء،و من الشّيطانيّة المكر و الحيلة و الخداع،و من الرّبوبيّة الكبر و العزّ و حبّ المدح.و أصول هذه الأخلاط هذه الأربع،و قد عجنت في طينة الإنسان عجنا محكما،لا يكاد يتخلّص منها،و إنّما ينجو من ظلماتها بنور الإيمان المستفاد من العقل و الشّرع.

فأوّل ما يخلق في الآدميّ البهيميّة،فيغلب عليه الشّره و الشّهوة كما في الصّبيّ،ثمّ يخلق فيه السّبعيّة فيغلب عليه المعاداة و المنافسة،ثمّ يخلق فيه الشّيطانيّة فيغلب عليه المكر و الخداع،ثمّ تظهر بعد ذلك صفات الرّبوبيّة و الكبر و الاستيلاء،ثمّ بعد ذلك يخلق العقل فيه،و يظهر الإيمان،و هو من حزب اللّه و جنود الملائكة،و تلك الصّفات من جنود الشّيطان.

و جنود العقل تكمل عند الأربعين و يبدو أصله عند البلوغ.و أمّا سائر جنود الشّيطان تكون قد سبقت إلى القلب قبل البلوغ،و استولت عليه و ألفتها النّفس، و استرسلت في الشّهوات متابعة لها،إلى أن يرد نور العقل،فيقوم القتال و التّطارد في معركة القلب.فإن ضعف جند العقل و نور الإيمان لم يقو على إزعاج جنود الشّيطان،فتبقى جنود الشّيطان مستقرّة في القلب آخرا كما سبقت إلى النّزول فيه أوّلا،و قد سلم للشّيطان مملكة القلب.

و قال بعض الأفاضل:اعلم أيّها الإنسان أنّك نسخة مختصرة من العالم،فيك بسائطه و مركّباته و مادّيّاته و مجرّداته،بل أنت العالم الكبير بل الأكبر،كما قال أمير المؤمنين:

دواؤك فيك و ما تشعر

و داؤك منك و ما تبصر

و تزعم أنّك جرم صغير

و فيك انطوى العالم الأكبر

(4:47)

انسيّا

فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.

مريم:26

الطّبريّ: يقول:فقولي:إنّي أوجبت على نفسي للّه صمتا ألاّ أكلّم أحدا من بني آدم اليوم.(16:74)

نحوه القرطبيّ(11:98)و النّسفيّ(3:33) و البروسويّ(5:328).

الطّوسيّ: فإن قيل:كيف تكون نذرت الصّمت و ألاّ تكلّم أحدا مع قولها و إخبارها عن نفسها بأنّها نذرت و هل ذلك إلاّ تناقض؟

قيل:من قال:إنّه أذن لها في هذا القدر فحسب، يقول:إنّها نذرت لا تكلّم بما زاد عليه.و من قال:إنّها نذرت نذرا عامّا،قال:أومأت بذلك و لم تتلفّظ به.

(7:121)

البغويّ: يقال:كانت تكلّم الملائكة و لا تكلّم

ص: 862

الإنس.(4:198)

نحوه الزّمخشريّ(2:507)،و أبو السّعود(3:280)، و الآلوسيّ(16:87).

الشّربينيّ: فلا أكلّم إلاّ الملائكة أو الخالق بالتّسبيح و التّقديس و سائر أنواع الذّكر.(2:422)

الطّباطبائيّ: و الإنسيّ منسوب إلى الإنس مقابل الجنّ،و المراد به الفرد من الإنسان.(14:44)

الوجوه و النّظائر

الدّامغانيّ: الإنسان على عشرين وجها:آدم،ولد آدم،وليد بن المغيرة،قرط بن عبد اللّه،أبو جهل،النّضر بن الحارث،برصيصا،بديل بن ورقاء،أخنس بن شريق،أسيد بن خلف،كلدة بن أسيد،عقبة بن الوليد، أبو طالب،عتبة بن أبي لهب،عديّ بن ربيعة،سعد بن أبي وقّاص،عبد الرّحمن بن أبي بكر،عتبة بن ربيعة،أبيّ بن خلف،أميّة بن خلف.

فوجه منها:(الإنسان)يعني آدم عليه السّلام،قوله تعالى:

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ الدّهر:1،يعني آدم عليه السّلام وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ المؤمنون:12،مثلها خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ الرّحمن:14.

و الوجه الثّاني:(الإنسان)يعني ولد آدم،قوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:

16،و كقوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الدّهر:2، يعني أولاد آدم و حوّاء،و نحوه كثير.

و الوجه الثّالث:(الإنسان)يعني وليد بن المغيرة، قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4،يعني الوليد بن المغيرة،كقوله تعالى: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ يونس:12،يعني الوليد،و يقال:

هشام بن المغيرة.

و الوجه الرّابع:(الإنسان)يعني قرط بن عبد اللّه بن عمرو بن أبي حاجب،فذلك قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ العاديات:6،يعني قرط بن عبد اللّه.

و الوجه الخامس:(الإنسان)يعني أبا جهل بن هشام،قوله تعالى: كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى العلق:

6،يعني أبا جهل.

و الوجه السّادس:(الإنسان)يعني النّضر بن الحارث،قوله تعالى: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ الإسراء:11.

و الوجه السّابع:(الإنسان)يعني برصيصا العابد، قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الحشر:16،يعني برصيصا.

و الوجه الثّامن:(الإنسان)يعني بديل بن ورقاء، قوله عزّ و جلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ الحجّ:66،يعني بديل بن ورقاء.

و الوجه التّاسع:(الإنسان)يعني أخنس بن شريق، قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً المعارج:19، أخنس بن شريق.

و الوجه العاشر:(الإنسان)أسيد بن خلف،قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الانفطار:6.

و الوجه الحادي عشر:(الإنسان)كلدة بن أسيد، قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ البلد:4،يعني

ص: 863

كلدة بن أسيد.

و الوجه الثّاني عشر:(الإنسان)عقبة بن الوليد،قوله تعالى: وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً الفرقان:29.

و الوجه الثّالث عشر:(الإنسان)أبو طالب،قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ الطّارق:5،يعني أبا طالب.

و الوجه الرّابع عشر:(الإنسان)عتبة بن أبي لهب، قوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ عبس:17،يعني عتبة بن أبي لهب،كقوله في هذه السّورة أيضا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ عبس:24،يعني عتبة.

و الوجه الخامس عشر:(الإنسان)يعني عديّ بن ربيعة،قوله تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ القيمة:3،يعني عديّ بن ربيعة.

و الوجه السّادس عشر:(الإنسان)يعني سعد بن أبي وقّاص،قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ لقمان:14،يعني سعدا.

الوجه السّابع عشر:(الإنسان)يعني عبد الرّحمن ابن أبي بكر،قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً الأحقاف:15،يعني عبد الرّحمن بن أبي بكر.

و الوجه الثّامن عشر:(الإنسان)عتبة بن ربيعة، قوله تعالى: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ الإسراء:83، و السّجدة:53،يعني عتبة،و كقوله تعالى: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً هود:9.

و الوجه التّاسع عشر:(الإنسان)يعني أبيّ بن خلف الجمحيّ،كقوله تعالى: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ مريم:67، يعني أبيّ بن خلف،كقوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ يس:77،يعني أبيّ بن خلف الجمحيّ.

و الوجه العشرون:(الإنسان)يعني أميّة بن خلف، قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ الفجر:

15،يعني أميّة بن خلف،كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى الفجر:23،يعني أميّة بن خلف.(50)

الفيروزآباديّ: [مثل الدّامغانيّ إلاّ في ما نذكرها:]

العاشر:أبيّ بن خلف الجمحيّ يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الانفطار:6...

الثّاني عشر:عقبة بن أبي معيط وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً الفرقان:29...

الثّامن عشر:عيّاش بن أبي ربيعة: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ الإسراء:83...

العشرون:النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً الانشقاق:6،أي في دعوة الخلق إلى الحقّ وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها الزّلزال:3.

يروى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال: أنا أوّل من يشقّ عنه الأرض،و أنا أوّل من يركب البراق.فإذا قوائم البراق لا تستقرّ يوم القيامة من شدّة زلزالها.فأقول:يا جبريل ما لأرض ربّي تزلزل!فيقول:هذا يوم القيامة و إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم.(بصائر ذوي التّمييز 2:34)

الأصول اللّغويّة

1-الأصل في هذه المادّة هو«الألفة»سواء ما يؤلف بقلب أم بحاسّة.فما يؤلف بالقلب:القرب،يقال:فلان ابن

ص: 864

إنس فلان،أي صفيّه و خاصّته.و منه:إنسيّ القوس، و هو ما أقبل عليك،و وحشيّه:ما أدبر عنك.

و الفرح و الاطمئنان،يقال:أنست بفلان.و منه:

المؤنسات:الأسلحة،و الأنيسة:النّار،و هي المأنوسة أيضا.

و الغزل و التّحدّث إلى النّساء،يقال:هذه جارية آنسة من جوار أوانس،و هي الطّيّبة النّفس،المحبوب قربها و حديثها،و منه:الأنس:الغزل.

و أمّا ما يؤلف بالحاسّة فهو السّمع،يقال:آنست الشّيء:سمعته.

و الرّؤية،يقال:آنست شخصا من مكان كذا:رأيت.

و منه:إنسان العين:ناظرها،أو المثال الّذي يرى في السّواد.

و ممّا يؤلف بالحواسّ أيضا قولهم:آنست من فلان ضعفا أو حزما:علمته،و آنست فزعا،إذا أحسسته و وجدته في نفسك،و اذهب فاستأنس،هل ترى أحدا؟ و منه:الإنسان،أي الأنملة.

2-و أمّا الإنسان-أي الحيوان النّاطق-فقد اختلفوا فيه؛قال فريق:إنّه مشتقّ من الأنس:ضدّ الوحشة،أو الإنس:جماعة النّاس،فهو على وزن(فعلان)،و هذا قول البصريّين.و كان أصله«إنسيان»،على وزن«فعليان»، مثل:حرصيان،و هو الجلد الأعلى من الحيوان، و حذريان:الشّخص الحذر،و صلّيان:اسم بنت،و قد حذفت ياؤه،و الدّليل على أصالة الياء ظهورها عند تصغيره،فيقال:أنيسيان.

و قال فريق آخر:مشتقّ من النّسيان،فهو على وزن «افعلان»،و حذفت منه الياء للخفّة،و هذا قول الكوفيّين.

و قيل:مشتقّ من النّوس،أي الحركة،و هو ليس بشيء.

و اختلفوا أيضا في جمعه على أقوال عديدة،إلاّ أنّهم اتّفقوا على أنّ تصغيره«أنيسيان»على غير قياس، و قياسه«أنيسان».

3-و يبدو أنّ قول الكوفيّين أقرب لفظا من قول البصريّين،لأنّ الياء الثّانية في«أنيسيان»يلزم أن تكون لام الكلمة،أمّا الياء الأولى،فهي ياء التّصغير،تقع بين فاء الكلمة و عينها عادة،مثل:رجيل،تصغير رجل.

و لا عبرة بقول البصريّين بأنّ الياء الثّانية زائدة،كياء «رويجل»،و الياء الثّالثة في«لييلية»،لأنّ«رويجلا» مصغّر«راجل»،و هو من قول العامّة.و الياء الأخيرة في «لييلية»أصليّة،كما قالوا.

و لكنّ قول البصريّين أقرب معنى من قول الكوفيّين؛إذ الإنسان اجتماعيّ الطّبع،يأنس ببني جنسه، فحريّ بهذا اللّفظ أن يكون مشتقّا من«الإنس»أو «الأنس».و ليس كما قال الكوفيّون بأنّه سمّي إنسانا لأنّه عهد إليه فنسي،أي عهد اللّه تعالى إلى آدم.و هو قول واه، لأنّ العرب لم تكن على علم بهذا العهد حينما وضعت هذا اللّفظ.

ثمّ إنّ ما جاء في العربيّة من الأسماء و الصّفات على وزن«افعلان»قليل،كما قال سيبويه،فذكر من الأسماء إسحمان،و هو جبل،و إمدّان:الماء الشّديد الملوحة.و ذكر السّيوطيّ في«المزهّر»اسما ثالثا،و هو إربيان:نوع من

ص: 865

السّمك،و عزاه إلى سيبويه،و لكنّنا لم نعثر عليه في «الكتاب».

4-ورد الإنسان في العربيّة بلفظ«أنوش»،و جمعه «أناشيم»،و في الآراميّة«إناش»،و هذا يؤيّد قول البصريّين.

5-و قد حكي عن طيّئ أنّهم يبدلون نون«إنسان» ياء،فيقولون:إيسان،و يجمعونه«أياسيّ»و«أياسين».

و هذا الضّرب من الإبدال لم تألفه العربيّة،و ليس لغة معروفة عند القبائل،كعجعجة قضاعة،و عنعنة قيس و تميم.و لعلّها لغة عبريّة،فقد ورد فيها لفظ«إيشون» بمعنى إنسان العين،فيحتمل أن يكون«إيسان»معرّب «إيشون»،ثمّ أطلق على الإنسان.سيّما و أنّ الألف الزّائدة تبدل واوا باطّراد في العبريّة،و تبدل السّين فيها شينا،فيقولون في«سلطان»:«شلطون».و تعتبر الألف و النّون زائدتين في سائر اللّغات السّاميّة أيضا،فيقال:

«أيش»في«إيشون»،و هي قريبة من لغة طيّئ.

6-و من الألفاظ الّتي اختلف في اشتقاقها على قولين لفظا«أناس»و«ناس»،و كان من تصدّر هذين القولين سيبويه،قطب مدرسة البصرة،و الكسائيّ،قطب مدرسة الكوفة.

قال سيبويه: الأصل في«النّاس»«الأناس».

و قال الكسائيّ: «الأناس»و«النّاس»لغتان بمعنى واحد،و ليس أحدهما مشتقّا من الآخر.و رغم أنّ جمّا غفيرا من اللّغويّين دعم رأي سيبويه،و لكن كفّة الكسائيّ قد رجّحت،و أصبح رأيه مشهورا.

بيد أنّنا نرى أنّ رأي سيبويه هو الأقرب إلى الصّواب،بدليل الاشتقاق؛إذ أنّ جميع مشتقّات مادّة «أ ن س»-سواء كانت مفتوحة الهمزة كالأنس،أم مضمومتها كالأنس،أم مكسورتها كالإنس-تشير إلى أنّ«النّاس»من فصيلتها،و لا تدلّ مادّة«ن و س»إلاّ على الحركة و الاضطراب،و هذا المعنى على طرفي نقيض مع«النّاس».

فضلا عن ذلك،فإنّ اللّغات السّاميّة تستعمل هذين اللّفظين استعمال العربيّة لهما،فبعضها يجعل فاءه ألفا، و بعضها يجعله نونا،و هذا يعني أنّ«ناسا»مخفّف «أناس»،كما قال سيبويه.

7-و اختلفوا أيضا في«أناسيّ»:أ هو جمع«إنسان»أم «إنسيّ»؟

فمن ذهب إلى القول الأوّل،جعله على مثال:

سرحان و سراحين،على فرض أن يكون أصل «أناسيّ»هو«أناسين»،فأبدل من النّون ياء.

و من ذهب إلى القول الثّاني،جعله على مثال:كرسيّ و كراسيّ.

و لكن ينبغي على القول الأوّل أن يكون جمع سرحان«سراحيّ»بياءين،و هو لم يرد في السّماع.

و يؤخذ على القول الثّاني عدم انطباق مثال«كرسيّ» على«إنسيّ»،لكون فاء الأوّل مضموما،و فاء الثّاني مكسورا.

و قد تنبّه اللّغويّون الحذّاق على ذلك،إلاّ أنّهم لم يأتوا بمثال لكلا القولين،لعدم وجوده في السّماع بتاتا، فسكتوا على كره.

8-و لكنّنا نرى رأيا مخالفا لكلّ من ذينك القولين،

ص: 866

ألا و هو أنّ لفظ«الإنس»يأتي مفردا و جمعا،فالمفرد يجمع على«أناس»،مثل:رخل و رخال،و ظئر و ظؤار، و الجمع مفرده«إنسيّ»،مثل:جنّ و جنّيّ،و زنج و زنجيّ.

و مثال إفراد«الإنس»في اللّغة قولهم:كيف ترى ابن إنسك؟فالإنس:النّفس.

و مثاله في القرآن قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ الرّحمن:39،و قوله أيضا: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ الرّحمن:56 و 74،فجعل لفظ(إنس)نقيض(جانّ)،و هو كالإنس،يستعمل مفردا و جمعا.و جاء في هذه الآيات الثّلاث مفردا؛إذ قيل:هو أبو الجنّ،أو أبو الشّياطين،أو إبليس.كما أفرد الفعلين (يسأل)و(يطمثهنّ)،و وحّد الضّمير في(ذنبه)،دلالة على كونهما مفردين.

أمّا«أناسي»و«أناسية»-بتخفيف الياء فيهما و تشديدهما-فهما جمعا«إنسان»فحسب،على أحد القولين الآنفي الذّكر.

9-و يبدو ممّا ذكر أنّ لفظ«إنسان»كمعناه في غاية الغموض،فإنّه كما قيل:«موجود مجهول»،رغم كونه مشتقّا من«الأنس»،و أنّه موجود اجتماعيّ،أبرز خصائصه الاستئناس ببني نوعه.

الاستعمال القرآنيّ

تدور هذه المادّة في القرآن حول ستّة محاور:أفعال و مشتقّات،و إنس،و إنسيّ،و أناس،و إنسان،و أناسيّ.

و أمّا«النّاس»،فنصوصه التّفسيريّة تؤخّر إلى حرف النّون،تبعا للمعجم المفهرس و غيره من المعجمات،و قد جاءت نصوصه اللّغويّة و أصولها هنا تبعا لمعاجم اللّغة.

1-الأفعال:«آنس»و ما اشتقّ منه خمس مرّات، و«الاستئناس»لفظان:تستأنسون و مستأنسين،كلّ واحد مرّة:

فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً القصص:29

إِنِّي آنَسْتُ ناراً طه:10،و النّمل:7، و القصص:29

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ النّساء:6

لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها النّور:27

فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الأحزاب:53

يلاحظ أوّلا:أنّ«الإيناس»و«الاستئناس»هنا لا يقتصران على الرّؤية فحسب،بل يشوبهما معنى السّكون و الرّكون و الأنس أيضا،و قد تقدّم في النّصوص قول الطّوسيّ في تفسير(انس):أبصر أمرا يؤنس به، و قول الرّضيّ:و حقيقة الإيناس هي الإحساس بالشّيء من جهة يؤنس بها مع سكون النّفس،و كذلك كلام بنت الشّاطئ مبسوطا،و فيه:الاستئناس:حسّ الإيناس لأهل البيت قبل دخوله،و لا يقال في رؤية عدوّ و نحوه، فلاحظ.

و قد فسّرهما الآخرون بالإبصار و الإحساس تارة، و بالعلم و المعرفة تارة أخرى،فلحظ ذلك بعض المتأخّرين،فلفّق بين المعاني المذكورة بحسّ ظريف،

ص: 867

و تعبير لطيف،فقال:بأنّ معناهما إبصار الشّيء مع الاطمئنان إليه.

ثانيا:و معنى الإبصار و العلم نلحظه بوضوح في الألفاظ الأخرى الدّالّة عليه،إلاّ أنّها عارية من السّكون و الاطمئنان و الأنس،كما في المعاني الآتية:

1-الرّؤية:

أ-المشاهدة: وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها الكهف:53

ب-الفكر و النّظر: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى

النّجم:11

2-النّظر:

أ-المشاهدة: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ التّوبة:127

ب-الفكر و النّظر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ الحشر:18

3-البصر:

أ-المشاهدة: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ القصص:11

ب-الفكر و النّظر: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ

الذّاريات:21

و ثالثا:الفرق بين الإيناس و الاستئناس،هو الفرق بين بابي«الإفعال»و«الاستفعال»،فالإيناس ليس فيه الطّلب،فإنّ موسى عليه السّلام آنس النّار،و أنس بها صدفة من دون طلب،و كذلك رشد اليتيم،إذ يكفي فيه الإيناس به من دون طلب،أمّا الاستئناس بأهل البيت قبل الدّخول، فيتحقّق بالطّلب.و من أجل ذلك فسّره كثير منهم بالاستئذان مع وضوح الفرق بينهما،فالاستئناس أخصّ من الاستئذان،و فيه لطف و انعطاف ليس في الاستئذان، لاحظ النّصوص التّفسيريّة.

2-إنس:

1- وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ الأنعام:112

2- وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الأنعام:128

3- وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ الأنعام:128

4- يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الأنعام:130

5- قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الأعراف:38

6- وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ

الأعراف:179

7- قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الإسراء:88

8- وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ النّمل:17

9- فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فصّلت:25،و الأحقاف:18

10- رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ

فصّلت:29

11- وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ

الذّاريات:56

ص: 868

12- يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا الرّحمن:33

13- وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّهِ كَذِباً الجنّ:5

14- وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الجنّ:6

15- فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ

الرّحمن:39

16- لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ

الرّحمن:56،74

و يلاحظ أوّلا:أنّ الإنس ذكر مع الجنّ أو الجانّ في هذه الآيات،و لم ينفرد في القرآن،لكنّ الجنّ انفرد (8)مرّات،و الجانّ مرّتين،و لا يعلم وجه له سوى كثرة الجنّ،كما قال تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ. و قد قدّم الجنّ على الإنس الاّ في ستّ آيات، لأنّهم أكثر عددا،أو أقدم خلقا،و لأنّ لفظ الإنس أخفّ في اللّسان من لفظ الجنّ،لسكون نونه،و همس سينه، فكان الأثقل أولى بأوّل الكلام من الأخفّ،لنشاط المتكلّم حين يخلص إلى الأخفّ بعد الأثقل،قاله البروسويّ،كما تقدّم في النّصوص.

و أمّا وجه تقدّم الإنس في ستّ منها،أنّها أمسّ و أنسب بالإنس موضوعا،ففي(1)شياطين الإنس أشدّ و أعتى عداء للأنبياء من شياطين الجنّ،لأنّهم من جنس الإنس و مبعوثون فيهم و بلغتهم.و كذلك في(7)،فإنّ التّحدّي بالقرآن موجّه إلى الإنس أوّلا،لما ذكر.و في (13)موضوعها القرآن النّازل بلغة الإنس،و هم المخاطبون أوّلا،ثمّ بلغ الجنّ،كما جاء في أوّل سورة الجنّ.

و في(14)رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ، فقدّم الإنس.و في(15)الإنس هم المكلّفون أوّلا،فهم المسئولون أوّلا.و في(16)بشأن الحور العين اللاّتي جعلن للمؤمنين من الإنس،و هم يتحرّجون من طمث الإنس إيّاهنّ قبلهم أكثر من طمث الجنّ،لأنّ الإنس من جنسهم.هذا مع أنّ للرّويّ دخلا في تأخير الجنّ مع تبديله بالجانّ في(15)و(16).فلو لا هذه المزايا اللّفظيّة أو المعنويّة لتقدّم الجنّ فيها أيضا،لأنّه الأصل في عرف القرآن،فهذه كالمستثناة منها،و اللّه أعلم.

و ثانيا:أنّ اللّه تعالى شارك الإنس و الجنّ خطابا في (2)و(4)و(12)،كما شاركهما في عداوتهما للأنبياء في (1)،و في غاية الخلقة،و هي العبادة للّه في(11)،و في التّكليف في(4)،و التّحدّي بالقرآن في(7)و استمتاع بعضهم ببعض في(3)و حشرهما في(2)و العقاب في(5) و(6)و(9)و السّؤال عن الذّنب في(15)،و الطّمث في (16)و الإضلال في(10)و العجز عن النّفوذ من أقطار السّماوات و الأرض في(12)و كونهما جنود سليمان في (8).

و قد خصّ الإنس بأمرين:اعتراف أوليائهم بأنّه استمتع بعضهم ببعض،و أنّ رجالا منهم يعوذون برجال من الجنّ في(14)دون العكس.و خصّ الجنّ بأنّهم ظنّوا أن لن تقول الإنس و الجنّ على اللّه كذبا في(13).

و ثالثا:أنّ سياق الآيات ذمّ و إدانة و رفض

ص: 869

و احتجاج،سوى واحدة هي(8)،في حشر جنود سليمان من الجنّ و الإنس و الطّير،إطاعة له،و خوفا منه.أو ليس معنى ذلك أنّ الجنّ غلب عليهما الشّرّ و الطّغيان،و قلّ فيهما الخير و الإحسان.

و رابعا:المراد بالإنس الجنس،و كذلك الجنّ،دون الأفراد،فيفيد العموم نفيا و إثباتا،سوى ما استثني -و سيتلى عليك-و سوى ما قيل في(10)،و هو قوله:

رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ، و الصّواب فيه الجنس أيضا،فلاحظ النّصوص.

و خامسا:جاء كلّ من الإنس و الجنّ معرّفا بلام الجنس،إلاّ في ثلاث آيات:(15)و(16)،حيث بدّل «جنّ»ب«جانّ»،فجاءا منكّرين.و الوجه في ذلك أنّ المراد بهما الجنس في الجميع،كما تقدّم،و في هذه أريد بهما الأفراد؛إذ الجنس لا يسأل و لا يطمث،و إنّما الأفراد هم الموصوفون بذلك،و سيأتي نظيرها في كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، حيث إنّه وصف الأفراد بأجسامهم دون نفوسهم و سجاياهم.

3-إنسيّ:

إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

مريم:26

يلاحظ أوّلا:أنّه وحيد الاستعمال في القرآن،و المراد به الإنس،فما وجه تبديل الإنس بالإنسيّ؟و لا نرى له وجها سوى رعاية الرّويّ،فقبله:سويّا،عشيّا،صبيّا، و هكذا إلى(جنيّا).و بعدها فريّا،بغيّا،صبيّا،نبيّا،حيّا، شقيّا،حيّا.

و ثانيا:قال الطّباطبائيّ:الإنسيّ منسوب إلى الإنس، و نحن لا نوافقه في ذلك،فإنّ المراد به الإنس دون المنسوب إليه،فزيدت الياء رعاية للرّويّ،و نظيره «إلياسين»في«إلياس».و قد جعله بعضهم واحد الإنس، كالجنّيّ واحد الجنّ؛و عليه فالوجه لمجيء الفرد بدل الجنس هو الرّويّ أيضا.

و ثالثا:و قال أيضا:المراد به الفرد،و هو كذلك،لكنّه في سياق النّفي يفيد العموم،فلا تفاوت بين أن يراد به الفرد أو الجنس،و لهذا فسّره الآخرون ب«أحد من بني آدم»،أو أنّ مريم كانت تكلّم الملائكة فقط،أو الخالق بالتّسبيح و التّحميد.

و رابعا:أنّ الإنسيّ من الدّوابّ هو الأهليّ منها، و الجانب الأيسر منها الّذي يركب الإنس.فالياء فيه للنّسبة،و ليس كالإنسيّ الّذي أريد به الإنس،لاحظ النّصوص.

4-أناس:

1- قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ

البقرة:60،و الأعراف:160.

2- أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ الأعراف:82

3- أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ النّمل:56

4- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الإسراء:71

و يلاحظ أوّلا:أنّ«أناس»جاء في الجميع بمعنى جماعة من النّاس معيّنين،و لم يأت بمعنى الجنس أصلا، بخلاف«الإنس»،حيث جاء دائما بمعنى الجنس إلاّ فيما استثني.

ص: 870

و ثانيا:جاء دائما في سياق الإيجاب دون النّفي و ما بمعناه،بخلاف الإنس،كما تقدّم.

و ثالثا:جاء في(1)في شأن طوائف بني إسرائيل الّذين علموا مشربهم.و في(2)و(3)في شأن آل لوط، و الأوّل حكاية مدح،و الثّاني حكاية ذمّ من وجهة نظر قوم لوط.و لكنّ الواقع فيهما كان على العكس،فآل لوط هم الأطهرون الّذين قدّر لهم النّجاة،و الطّوائف من بني إسرائيل هم الّذين عصوا نبيّهم،فتاهوا أربعين سنة، فكانوا من الهالكين.و أمّا الرّابعة،فتشمل الهالك و النّاجي و الصّالح و الطّالح،فلكلّ منهم إمام حقّ أو باطل،و كلّ يدعون بإمامهم.

و رابعا:قد تقدّم البحث اللّغويّ حول«أناس»في الأصول اللّغويّة،فلاحظ.

5-أناسيّ:

وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً

الفرقان:49

و يلاحظ أوّلا:أنّ الأناسيّ-كما تقدّم-جمع إنسان، مثل:سرحان و سراحيّ،أو جمع إنسيّ،مثل:كرسيّ و كراسيّ،و لكنّ الأوّل مخالف للقياس،لحذف النّون من آخره،بخلاف الثّاني.

و ثانيا:أنّه جاء مع الأنعام،و كلاهما جمع،و المناسبة بينهما ظاهرة لفظا و معنى،كما أنّ الإنس جاء دائما مع الجنّ أو الجانّ.

و ثالثا:و نظيرها آيتان:

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ يونس:24

وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ فاطر:28

إلاّ أنّ فيهما(النّاس)بدل الأناسيّ،مع تقديمه على الأنعام،فاللّفظان مترادفان.فهل هناك وجه لهذا التّبديل و التّقديم؟و الجواب:أنّ الآيات الثّلاث جاءت عقيب ذكر نعمة إنزال الماء من السّماء بتفاوت بينهما،ففي آية الفرقان:48،49.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً

و في آية يونس:24.

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ

و في آية فاطر:27،28.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ* وَ مِنَ النّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ

ففي الفرقان جاء إنزال الماء كنعمة سماويّة لإحياء بلدة ميتة،و سقي الأنعام و الأناسيّ.و في يونس جاء إنزال الماء من السّماء كمثل للحياة الدّنيا،و أنّه اختلط به نبات الأرض ممّا يأكل النّاس و الأنعام.و في فاطر جاء إنزال الماء من السّماء لإخراج ثمرات مختلف ألوانها،ثمّ انتقل الكلام إلى غير الثّمرات من الجبال المختلفة الألوان بالحمرة و البياض و السّواد،و من النّاس و الدّوابّ و الأنعام المختلفة الألوان.و مع تفاوت السّياق،فإنّ نعمة الماء هبة للنّاس قبل الدّوابّ و الأنعام،فتقديم(النّاس)

ص: 871

في آيتي يونس و فاطر موافق لهذا الأصل.

و أمّا تأخيره في آية الفرقان،فيحتاج إلى توجيه، و الوجه فيه-حسب ما نستشفّ من سياق الآية-أنّ (اناسىّ كثيرا)موافق لرويّ الآيات،فقبلها:يسيرا، نشورا،طهورا.و بعدها:كفورا،نذيرا،كبيرا،و هكذا إلى (شكورا).

و لقد تأخّر (أَناسِيَّ كَثِيراً) عن(الأنعام)على خلاف الأصل،إلاّ أنّه جبر بأمرين:الأوّل:تبديل(النّاس)بلفظ (أناسيّ)الّذي هو جمع الكثرة،و يفهم منه الكثرة أكثر من لفظ«ناس»الّذي هو اسم جمع،مع أنّ(أناسيّ)يزيد على«ناس»بحرفين،همزة في أوّله و ياءين في آخره، و«زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني».و رغم ذلك فقد وصف ب«كثيرا»،و هذا رأب معنويّ لصدع التّأخير من جهة،و رعاية لرويّ الآيات لفظا من جهة أخرى.

و هناك فرق آخر بين الآيات الثّلاث،يرجّح كفّة (أناسيّ)،و يجبر وهن تأخيره،ألا و هو أنّ(النّاس)في آيتي الفرقان و يونس معرّف باللاّم،و المعرّف باللام في سياق الإثبات لا يفيد الاستقراء و الشّمول و الكثرة، بخلاف(أناسيّ)،فجاء منكّرا،ليذهب بذهن السّامع كلّ مذهب ممكن،و لا سيّما مع اتّصافه بالكثرة،و اللّه أعلم بسرّ كتابه.

و رابعا:ممّا يجدر ذكره هنا أنّ الألفاظ(إنس) و(أناس)و(أناسيّ)قد استعملت بأنماط مختلفة،رغم كونها بمعان مؤتلفة،فالإنس قرن بلفظ الجنّ،و اتّصف القرينان بصفات واحدة،كلّها-عدا صفتين-سلبيّة، كالشّيطنة،و إنكار الرّسل،و الكفر،و الضّلال،و الكذب على اللّه و غير ذلك،إلاّ أنّهما كانا جنودا للنّبيّ سليمان عليه السّلام،و أنّ اللّه خلقهما ليعبداه،حسب ما تقدّم.

و استعمل لفظ(أناس)في القرآن كناية عن أسباط بني إسرائيل مرّتين،و آل لوط مرّتين أيضا،و بمعنى النّاس عامّة-مؤمنهم و كافرهم على السّواء-مرّة واحدة.

و جاء لفظ(أناسيّ)منكّرا مقرونا بلفظ الأنعام بدل النّاس في آيتي يونس و الفرقان،مع تفاوت بينهما كما سبق.

و خامسا:جاءت في القرآن ألفاظ أخرى بمعناها،إلاّ أنّ لكلّ منها خصائص تناسب سياق الآيات،ستذكر في محلّها،و هي:

1-الأنام:(مرّة واحدة):

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ الرّحمن:10

2-البريّة:(مرّتين):

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ

البيّنة:6

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة:7

3-البشر:(37 مرّة)،نحو:

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ المائدة:18

4-بنو آدم:(7 مرّات)،نحو:

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ الأعراف:26

5-النّاس:(240 مرّة)،نحو:

ص: 872

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ البقرة:207

لاحظ«أ ن م»و«ب ر أ»و«ب ش ر»و«آ د م» و«ن و س».

6-الإنسان: (1)(65 مرّة)

و قد جاء الإنسان في القرآن بأطوار مختلفة،و هي:

أ-خلقته البدنيّة:

حدوثه: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً مريم:67

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً الدّهر:1

في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ التّين:4

من طين: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون:12

وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ السّجدة:7

من صلصال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:26

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ

الرّحمن:14

من ماء دافق: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ الطّارق:5،6

من نطفة: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النّحل:4

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يس:77

إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ الدّهر:2

ب-خلقته الرّوحيّة:

1-سجاياه الحسنة:

عدم السّأم من دعاء الخير: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ فصّلت:49

العلم: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ العلق:5

البيان: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ

الرّحمن:3،4

البصيرة على نفسه: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ القيمة:14

حمله الأمانة: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً

الأحزاب:72

2-سجاياه السّيّئة:

الضّعف: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً النّساء:28

وسوسة النّفس: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ق:16

الهلع: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً المعارج:19

الكبد: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ البلد:4

مواقفه المتناقضة في السّرّاء و الضّرّاء: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ يونس:121.

ص: 873


1- عطف على 5-أناسيّ،ص 871.

و عند الخير و الرّحمة و الشّرّ و النّقمة: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ الزّمر:8

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ هود:9

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً الإسراء:83

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ فصّلت:51

وَ إِنّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها

الشّورى:48

فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَ أَمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ الفجر:15،16

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ الزّمر:49

الدّعوة بالخير و الشّرّ عنده سيّان: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ الإسراء:11

الظّلم و الكفر: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ

إبراهيم:34

الظّلم و الجهل: وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً الأحزاب:72

الكفران و اليأس: وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً

الإسراء:67

إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ الحجّ:66

فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ الشّورى:48

إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ الزّخرف:15

إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ هود:9

قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ عبس:17

العجلة: وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً الإسراء:11

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ الأنبياء:37

القتر: وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً الإسراء:100

الجدل: وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً

الكهف:54

إنكار البعث: وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا مريم:66

الفجور: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ

القيمة:5

الظّنّ و الحسبان الخاطئ: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ القيمة:3

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً القيمة:36

الغرور بالرّبّ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الانفطار:6

الكدح إلى الرّبّ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ الانشقاق:6

الطّغيان عند الاستغناء: كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى العلق:6،7

الكند: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ العاديات:6

الخسران: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ العصر:2

ج-عداوة الشّيطان له:

إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ يوسف:5

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً الإسراء:53

ص: 874

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً الإسراء:53

وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً الفرقان:29

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ

الحشر:16

د-إلزامه العمل و محاسبة نفسه:

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الإسراء:13،14

ه-توصيته بوالديه:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً العنكبوت:8

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ لقمان:14

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً

الأحقاف:15

و-تمنّيه: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنّى النّجم:24

ز-سعيه: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى

النّجم:39

ح-اعتباره بطعامه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ عبس:24

ط-موقفه يوم القيامة: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ القيمة:10

يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ

القيمة:13

يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى النّازعات:35

يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى

الفجر:23

وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها الزّلزال:3

يلاحظ أوّلا:أنّه قد ذكر للإنسان خمس سجايا حسنة،و هي:أنّه لا يسأم من دعاء الخير،و أنّه أوتي العلم،و البيان،و البصيرة على نفسه،و وفّق لحمل الرّسالة حين امتنعت السّماوات و الأرض و الجبال عن حملها،احترازا من مسئوليّتها.و بإزاء ذلك ذكرت له حوالي(25)سجيّة سيّئة،و هي الضّعف و غيره.و معنى ذلك أنّ سجاياه السّيّئة خمسة أضعاف سجاياه الحسنة.

و هذا ما يؤكّد عليه أن يزيد من المراقبة لنفسه،و يسعى إلى الكمال في سلوكه،حتّى تساوي حسناته سيّئاته،ثمّ تفوقها شيئا فشيئا نهاية المطاف،لتزول سيّئاته بتاتا، و تتمّ حسناته كمالا،و دون ذلك خرط القتاد،و لا يوفّق لذلك إلاّ الأنبياء و الأوصياء و بعض الأولياء: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ سبأ:13.

و ثانيا:أنّ سجاياه الحسنة ناشئة عن كرامته في أصل خلقته و فطرته،كما قال تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً الإسراء:70.

و هذه الكرامة تعمّ جنس الإنسان،و لا تختصّ بفرد دون آخر،فالإنسان كريم الفطرة،مفطور على الخير ذاتا، و هذه الفطرة هي جوهر الدّين،كما قال: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ الرّوم:30، و هي لا تتبدّل و لا تزول أبدا.و من أبرز معالم هذه الفطرة الكريمة تلك السّجايا الخمس الّتي صرّح بها القرآن، و كثير ممّا لم يصرّح بها.

و أمّا السّجايا السّيّئة،فهي عارضة للإنسان،و ليس شيء منها ذاتيّا في أصل خلقته،و إنّما ابتلي الإنسان بها

ص: 875

خلال تطوّر حياته الشّخصيّة و الأسريّة و الاجتماعيّة و الوراثيّة غير الملتبسة حتّى غلبت فطرته،و حجبتها بظلماتها.فهي-أي الفطرة-ثابتة بحالها،كالشّمس وراء السّحاب،و النّور وراء الظّلمات،قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ التّين:4-6،و من أجل ذلك يدعو القرآن الإنسان مرّة بعد أخرى إلى إزالة تلك الخصال العارضة، ليصفو الجوّ من اللّوث،و تخلو السّاحة من الأكدار،حتّى تبرز تلك الفطرة المحجوبة،و يظهر الإنسان بمظهر كرامته الذّاتيّة.

و هذه النّكتة-أي التّأكيد على وجود فطرة الخير في الإنسان،و أنّه لا تبديل لها،و أنّ غيرها من السّجايا و الخصال السّيّئة عارضة له،قابلة للزّوال-هي ركيزة التّزكية القرآنيّة للنّفس الإنسانيّة،و مدعاة للإنسان إلى الخير،و أن لا ييأس من الوصول إليه،مهما تضاعفت سيّئاته،و قلّت حسناته،فإنّ العارض يزول،و الفطرة هي الباقية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها الشّمس:9.كيف و قد دعا اللّه فرعون-رغم ما يكتنفه من الضّلالة و الاستكبار و ادّعاء الألوهيّة-إلى التّزكية: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى النّازعات:18،و لا ينالها الإنسان إلاّ بفضل اللّه و رحمته: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً النّور:21.

و ثالثا:تأكيدا على عروض السّجايا السّيّئة للإنسان،أكّد أنّ الشّيطان عدوّ مبين و خذول للإنسان، و أنّه يأمره بالكفر و يزيّن له السّيّئات و يعده و يمنّيه غرورا: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً النّساء:120،و قد أقسم على إضلاله: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ص:82،و على إغوائه و صرفه عن الصّراط المستقيم: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الأعراف:16،فبيّن اللّه للإنسان أنّ تلك السّيّئات من عمل الشّيطان و من إغوائه فليحذره،و أنّ ما توسوس به نفسه فمن الشّيطان الخنّاس،الّذي يوسوس في صدور النّاس،و قد وسوس إلى أبيه آدم،فكيف بأبنائه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى طه:120.

و رابعا:كذلك أكّد على الإنسان أنّه ليس له ما تمنّى، و أن ليس له إلاّ ما سعى،و أنّه سوف يتذكّر يوم القيامة ما سعى،و أنّه تعالى ألزمه طائره في عنقه يوم القيامة، و ينبّأ يومئذ بما قدّم و أخّر،و يتذكّر و أنّى له الذّكرى.

كما بيّن له الطّريق إلى التّزكية،فأوصاه بوالديه إحسانا،و لفت انتباهه إلى طعامه نظرا و اعتبارا.

و خامسا:أنّه قد جاء الإنسان في القرآن(65)مرّة، و بشر(37)مرّة،و الفرق بينهما معنويّ و لفظيّ:

أمّا من جهة المعنى،فجلّ ما وصف به«الإنسان»هي السّجايا و الصّفات النّفسانيّة اللاّصقة بروحه دون جسمه،و ما يرتبط بجسمه من خلقته من طين و صلصال و نطفة و غيرها،فهي تذكار له بدناءة خلقته ليتواضع في نفسه و أمام ربّه،و يقدّر ما منّ به عليه حيث خلقه في أحسن تقويم و كرّمه و فضّله على كثير من مخلوقاته، و كلّ ذلك كالمقدّمة لتوجيهه إلى خصاله الرّوحيّة،و هي

ص: 876

الّتي تناسب أصل الكلمة،أي«الأنس»فإنّ الإنسان يؤانس غيره و يعبد ربّه بروحه لا بجسمه.

أمّا«البشر»فهو من البشرة،و هي كما قال الرّاغب:

«ظاهر الجلد...و عبّر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشّعر أو الوبر بخلاف الحيوانات».و من أجل ذلك فجلّ ما وصف به البشر في القرآن يرتبط بجسمه، فالشّيطان أبى السّجود لآدم لأنّه بشر،و قال: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر:33،و الملائكة أمروا بالسّجود لآدم و هو بشر:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ الحجر:28،29،و مريم حين تمثّل لها الرّوح بشرا سويّا،و بشّرها بغلام،قال: قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ مريم:20،و قال اللّه لها: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً مريم:26،و نساء مصر حين نظرن إلى حسن يوسف و جماله في وجهه قلن: حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ يوسف:31،إلى غير ذلك.

و أكثر ما جاء«البشر»في القرآن ما تذرّعت به الأمم لرفض دعوة أنبيائهم،لكونهم بشرا مثلهم،كقوله:

ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ المؤمنون:24،و قد اعترف الأنبياء بأنّهم بشر مثلهم، و لكن منّ عليهم بالنّبوّة و الوحي،كما اعتذروا إليهم حين طلبوا منهم ما كان خارجا عن طور البشر:

قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ* قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ... إبراهيم:10،11.

قال الرّاغب:«و خصّ في القرآن كلّ موضع اعتبر من الإنسان جثّته و ظاهره بلفظ البشر»،و ذكر أمثلة من القرآن.

فظهر من ذلك أنّ القرآن حينما يتحدّث عن الإنسان باعتبار خصاله الرّوحيّة،يعبّر عنه بلفظ«الإنسان»، و حينما يتحدّث عنه باعتبار جثّته،يعبّر عنه بلفظ «البشر»،اعتبارا بأصل اللّفظين.كما ظهر أنّ القرآن يهتمّ بروحه أكثر من جسمه بنسبة(37-65)،أي بنسبة تقرب من الضّعف،فالقرآن كتاب الإنسانيّة،و مهمّته أن يصنع الإنسان من البشر.

و أمّا من جهة اللّفظ،فإنّ«الإنسان»جاء دائما معرّفا باللاّم-إلاّ مرّة واحدة-لتعريف الجنس،يعني ذلك أنّ القرآن يتحدّث دائما عن جنس الإنسان -كموجود معروف عند النّاس-و عن سجاياه الذّاتيّة و العارضة،و لا يتكلّم عن الأفراد إلاّ أن تؤوّل آية إلى فرد،كما جاء في النّصوص.

و جاء نكرة مرّة واحدة،لأنّ المراد به كلّ فرد دون الجنس،و سوف نوضّحه:

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الإسراء:13،14

و أمّا«البشر»،فقد جاء نكرة،أريد به فرد غير معيّن،إلاّ أربع مرّات في سورة المدّثّر،فجاء معرّفا باللام،

ص: 877

و أريد به الجنس:

إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ المدّثّر:25

لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ* لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ المدّثّر:28،29

وَ ما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ المدّثّر:31

إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيراً لِلْبَشَرِ

المدّثّر:35،36

فما هو وجه هذا التّنكير و التّعريف في اللّفظين؟ فنقول:أمّا التّنكير في البشر فلأنّ«بشرا»جاء في معرض التّحقير،و لا سيّما في ما قالته الأمم في حقّ أنبيائهم،فإنّهم أرادوا بقولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا حطّ شأن نبيّهم إلى منزلة فرد عاديّ من البشر مثلهم.

فاعترف نبيّهم بأنّه بشر مثلهم،إلاّ أنّه يوحى إليه، فالسّياق يناسب التّنكير،و كذلك في وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، فإنّ المسّ بالجسم لا بالرّوح،و هكذا في غيرها، فلاحظ.

و أمّا التّعريف في آيات سورة المدّثّر،فلأنّ القائل أراد أنّ القرآن قول بشر هو محمّد،أو قول جنس البشر:

فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ المدّثّر:24،25،فردّ اللّه عليه بنفس السّياق،فقال:

لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، وَ ما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ، مريدا بها الجنس دون الفرد.

و يخطر بالبال أنّ لرويّ الآيات في سورة المدّثّر دخلا في ذلك أيضا،باعتبار أنّ التّنكير يستدعي التّنوين، و فواصل الآيات فيها مجرّدة من التّنوين.

و أمّا وجه التّعريف في الإنسان،فهو ما سبق من إرادة الجنس به دائما،و أنّ اللاّم لتعريف الجنس،فهذا هو الأصل بشأن«الإنسان»في عرف القرآن.و قد استثنيت آية الإسراء من هذا الأصل حسب ما تقدّم،لأنّ موضوعها إلزام الطّائر في عنق كلّ إنسان،فهو متعلّق بجسمه في ظاهر التّعبير،و إن كان كناية عن مسئوليّته المرتبطة بنفسه،الشّاملة لكلّ فرد.فالقرآن أتى هنا بتعبير بليغ،معجز غاية الإعجاز،حيث جمع بين مسئوليّته الإنسانيّة،فأتى بلفظ«إنسان»بدل«بشر»،و بين شمولها لكلّ فرد من أفراد الإنسان،من دون كونها سجيّة لجنسه،فأتى بتعبير كُلَّ إِنسانٍ بدل«الإنسان»، فتناسق السّياق مع ما بعده من إلزام الطّائر في عنقه، و إخراج كتابه أمامه،فيلقاه منشورا يقرؤه-و كلّها مرتبطة بجسمه أكثر من روحه-ثمّ كفايته بكونه حسيبا على نفسه،و هي مرتبطة بنفسه و روحه فقط،فتبارك اللّه،ما أعظم إعجاز كلامه!

و الّذي هو نصّ على أنّ«الإنسان»أريد به الجنس، و«البشر»أريد به الفرد،هو اختلاف التّعبير بشأن خلقة الإنسان في هذه الآيات:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ* وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، الحجر 26-29.و تمام الكلام في «ب ش ر».

ص: 878

فهرس الأعلام و المصادر المنقول عنهم بلا واسطة

الآلوسيّ:محمود(1270) (1)

روح المعاني،ط:دار إحياء التراث،بيروت.

ابن أبي الحديد:عبد الحميد(665)

شرح نهج البلاغة،ط:إحياء الكتب،بيروت.

ابن أبي اليمان:يمان(284) التّقفية،ط:بغداد.

ابن الأثير:مبارك(606)

النّهاية،ط:إسماعيليان،قم.

ابن الأثير:عليّ(630)

الكامل،ط:دار صادر،بيروت.

ابن الأنباريّ:محمّد(328)

غريب اللّغة،ط:دار الفردوس، بيروت.

ابن باديس:عبد الحميد(1359)

تفسير القرآن،ط:دار الفكر، بيروت.

ابن الجوزيّ:عبد الرّحمن(597)

زاد المسير،ط:المكتب الإسلامي،بيروت.

ابن خالويه:حسين(370)

إعراب ثلاثين سورة،ط:

حيدرآباد دكّن.

ابن خلدون:عبد الرّحمن(808)

المقدّمة،ط:دار القلم،بيروت.

ابن دريد:محمّد(321)

الجمهرة،ط:حيدرآباد دكّن.

ابن السّكّيت:يعقوب(244)

1-تهذيب الألفاظ،ط:الآستانة الرّضويّة،مشهد.

2-إصلاح المنطق،ط:دار المعارف بمصر.

3-الإبدال،ط:القاهرة.

4-الأضداد،ط:دار الكتب العلميّة،بيروت.

ابن سيدة:عليّ(458)

المحكم،ط:مصر.

ابن الشّجريّ:هبة اللّه(542)

الأماليّ،ط:دار المعرفة، بيروت.

ابن شهرآشوب:محمّد(588)

متشابه القرآن،ط:طهران.

ابن العربيّ:عبد اللّه(543)

أحكام القرآن،ط:دار المعرفة، بيروت.

ابن عربيّ:محيي الدّين(628)

تفسير القرآن،ط:دار اليقظة، بيروت.

ابن عطيّة:عبد الحقّ(546)

المحرّر الوجيز،ط:القاهرة.

ابن فارس:أحمد(395)

1-المقاييس،ط:طهران.

2-الصّاحبيّ،ط:مكتبة اللّغويّة، بيروت.

ابن قتيبة:عبد اللّه(276)

1-غريب القرآن،ط:دار إحياء الكتب،القاهرة

2-تأويل مشكل القرآن،ط:

المكتبة العلميّة،القاهرة.

ابن قيّم:محمّد(751)

التفسير القيّم،ط:لجنة التّراث العربيّ،لبنان.

ابن كثير:إسماعيل(774)

1-تفسير القرآن،ط:دار الفكر، بيروت.

2-البداية و النّهاية،ط:

المعارف،بيروت.

ابن منظور:محمّد(711)

لسان العرب،ط،دار صادر، بيروت.

ابن ناقيا:عبد اللّه(485)

الجمان،ط:المعارف، الاسكندريّة.

أبو البركات:عبد الرّحمن(577)

البيان،ط:الهجرة،قم.

أبو حاتم:سهل(248)

الأضداد،ط:دار الكتب،بيروت.

ص: 879


1- هذه الأرقام تاريخ الوفيات بالهجريّة.

أبو حيّان:محمّد(745)

البحر المحيط،ط:دار الفكر، بيروت.

أبو رزق:...(معاصر)

معجم القرآن،ط:الحجازيّ، القاهرة.

أبو زرعة:عبد الرّحمن(403)

حجّة القراءات،ط:الرّسالة، بيروت.

أبو زهرة:محمّد(1395)

المعجزة الكبرى،ط:دار الفكر، بيروت.

أبو زيد:سعيد(215)

النّوادر،ط:الكاثوليكيّة،بيروت.

أبو السّعود:محمّد(982)

إرشاد العقل السّليم،ط:مصر.

أبو سهل الهرويّ:محمّد(433)

التّلويح،ط:التّوحيد،مصر.

أبو عبيد:قاسم(244)

غريب الحديث،ط:دار الكتب، بيروت.

أبو عبيدة:معمر(209)

مجاز القرآن،ط:دار الفكر، مصر.

أبو الفتوح:حسين(554)

روض الجنان،ط:الآستانة الرّضويّة،مشهد.

أبو الفداء:إسماعيل(732)

المختصر،ط:دار المعرفة، بيروت.

أبو هلال:حسن(395)

الفروق اللّغويّة،ط:بصيرتي، قم.

أحمد بدويّ:(معاصر)

من بلاغة القرآن،ط:دار النّهضة،مصر.

الأخفش:سعيد(215)

معاني القرآن،ط:عالم الكتب، بيروت.

الأزهريّ:محمّد(370)

تهذيب اللّغة،ط:دار المصر.

الإسكافي:محمّد(420)

درّة التّنزيل،ط:دار الآفاق، بيروت.

الأصمعيّ:عبد الملك(216)

الأضداد،ط:دار الكتب،بيروت.

ايزوتسو:توشيهيكو(1371)

خدا و انسان در قرآن،ط:

انتشار،طهران.

البحرانيّ:هاشم(1107)

البرهان،ط:آفتاب،طهران.

البروسويّ:إسماعيل(1127)

روح البيان،ط:جعفريّ،طهران.

البستانيّ:بطرس(1300) دائرة المعارف،ط:دار المعرفة، بيروت.

البغويّ:حسين(516)

معالم التّنزيل،ط:التّجاريّة، مصر.

بنت الشّاطئ:عائشة(1378)

1-التّفسير البيانيّ،ط:دار المعارف،مصر.

2-الإعجاز البيانيّ،ط:دار المعارف،مصر.

بهاء الدّين العامليّ:محمّد(1031)

العروة الوثقى،ط:مهر،قم.

بيان الحقّ:محمود(نحو 555)

وضح البرهان،ط:دار القلم، بيروت.

البيضاويّ:عبد اللّه(685)

أنوار التّنزيل،ط:مصر.

التّستريّ:محمّد تقيّ(1415)

نهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة،ط:امير كبير،طهران.

الثّعالبيّ:عبد الملك(429)

فقه اللّغة،ط:مصر.

ثعلب:أحمد(291)

الفصيح،ط:التّوحيد،مصر.

الجرجانيّ:عليّ(816)

التّعريفات،ط:ناصر خسرو، طهران.

الجزائري:نور الدّين(1158)

فروق اللّغات،ط:فرهنگ اسلامي،طهران.

الجصّاص:أحمد(370)

أحكام القرآن،ط:دار الكتاب، بيروت.

جمال الدّين عيّاد(معاصر)

بحوث في تفسير القرآن،ط:

المعرفة،القاهرة.

الجواليقيّ:موهوب(540)

المعرّب،ط:دار الكتب:مصر.

الجوهريّ:إسماعيل(393)

صحاح اللّغة،ط:دار العلم، بيروت.

الحائريّ:سيّد علي(1340)

مقتنيات الدّرر ط:الحيدريّة، طهران.

الحجازيّ:محمّد محمود(معاصر)

التّفسير الواضح،ط:دار الكتاب، مصر.

الحربيّ:إبراهيم(285)

غريب الحديث،ط:دار المدنيّ، جدّة.

الحريريّ:قاسم(216)

درّة الغوّاص،ط:المثنّى،بغداد.

حسنين مخلوف(معاصر)

صفوة البيان،ط:دار الكتاب، مصر.

حفنيّ:محمّد شرف(معاصر)

إعجاز القرآن البيانيّ،ط:

ص: 880

الأهرام،مصر.

الحمويّ:ياقوت(626)

معجم البلدان،ط:دار صادر، بيروت.

الخازن:عليّ(741)

لباب التّأويل،ط:التّجاريّة، مصر.

الخطّابيّ:حمد(388)

غريب الحديث،ط:دار الفكر، دمشق.

الخليل:بن أحمد(175)

العين،ط:دار الهجرة،قم.

خليل ياسين(معاصر)

الأضواء،ط:الأديب الجديدة، بيروت.

الدّامغانيّ:حسين(478)

الوجوه و النّظائر،ط:جامعة تبريز.

الرّازيّ:محمّد(666)

مختار الصّحاح،ط:دار الكتاب، بيروت.

الرّاغب:حسين(502)

المفردات،ط:دار المعرفة، بيروت.

الرّاونديّ:سعيد(573)

فقه القرآن،ط:الخيّام،قم.

رشيد رضا:محمّد(1354)

المنار،ط:دار المعرفة،بيروت.

الزّبيديّ:محمّد(1205)

تاج العروس،ط:الخيريّة،مصر.

الزّجّاج:ابراهيم(311)

1-معاني القرآن،ط:عالم الكتب،بيروت.

2-و فعلت و أفعلت،ط:

التّوحيد،مصر.

3-إعراب القرآن،ط:دار الكتاب،بيروت.

الزّركشيّ:محمّد(794)

البرهان،ط:دار إحياء الكتب، القاهرة.

الزّركليّ:خير الدّين(معاصر)

الأعلام،ط:بيروت.

الزّمخشريّ:محمود(538)

1-الكشّاف،ط:دار المعرفة، بيروت.

2-الفائق،ط:دار المعرفة، بيروت.

3-أساس البلاغة،ط:دار صادر، بيروت.

السّجستانيّ:محمّد(330)

غريب القرآن،ط:الفنّيّة المتّحدة،مصر.

السّكّاكيّ:يوسف(626)

مفتاح العلوم،ط:دار الكتب، بيروت.

سليمان حييم(معاصر)

فرهنگ عبريّ،فارسيّ،ط:

إسرائيل.

السّهيليّ:عبد الرّحمن(581)

روض الأنف،ط:

الكلّيّات،القاهرة.

سيبويه:عمرو

الكتاب،ط:عالم الكتب، بيروت.

السّيوطيّ:عبد الرّحمن(911)

1-الإتقان،ط:رضي،طهران.

2-الدّرّ المنثور،ط:بيروت،3- تفسير الجلالين،ط:مصطفى البالي،مصر(مع أنوار التّنزيل).

سيّد قطب(1387)

في ظلال القرآن،ط:دار الشّروق،بيروت.

الشّبّر:عبد اللّه(1342)

الجوهر الثّمين،ط:الألفين، الكويت.

الشّربينيّ:محمّد(977)

السّراج المنير،ط:دار المعرفة، بيروت.

الشّريف الرّضيّ:محمّد(406)

1-تلخيص البيان،ط:بصيرتي، قم.

2-حقائق التّأويل،ط:البعثة، طهران.

الشّريف العامليّ:محمّد(1138)

مرآة الأنوار،ط:آفتاب،طهران.

الشّريف المرتضى:عليّ(436)

الأمالي،ط:دار الكتب،بيروت.

شريعتي:محمّد تقي(1407)

تفسير نوين،ط:فرهنگ اسلامي،طهران.

شوقي ضيف(معاصر)

تفسير سورة الرّحمن،ط:دار المعارف بمصر.

الصّابونيّ:محمّد عليّ(معاصر)

روائع البيان،ط:الغزاليّ،دمشق.

الصّاحب:إسماعيل(385)

المحيط في اللّغة،ط:عالم الكتب،بيروت.

الصّغانيّ:حسن(650)

1-التّكملة،ط:دار الكتب، القاهرة.

2-الأضداد،ط:دار الكتب، بيروت.

صدر المتألّهين:محمّد(1059)

تفسير القرآن،ط:بيدار،قم.

الصّدوق:محمّد(381)

التّوحيد،ط:النّشر الإسلاميّ، قم.

الطّباطبائيّ:محمّد حسين(1402)

الميزان،ط:إسماعيليان،قم.

الطّبرسيّ:فضل(548)

ص: 881

مجمع البيان،ط:الإسلاميّة، طهران.

الطّبريّ:محمّد(310)

1-جامع البيان،ط:المصطفى البابي،مصر.

2-أخبار الأمم و الملوك،ط:

الاستقامة،القاهرة.

الطّريحيّ:فخر الدّين(1085)

1-مجمع البحرين،ط:

المرتضويّة،طهران.

2-غريب القرآن،ط:النّجف.

الطّنطاويّ:جوهريّ(1358)

الجواهر،ط:مصطفى البابيّ، مصر.

الطّوسيّ:محمّد(460)

التّبيان،ط:النّعمان،النّجف.

عبد الجبّار:أحمد(415)

1-تنزيه القرآن،ط:دار النّهضة، بيروت.

2-متشابه القرآن،ط:دار التّراث،القاهرة.

عبد الرّحمن الهمذاني(329)

الألفاظ الكتابيّة،ط:دار الكتب، بيروت.

عبد الرّزّاق نوفل(معاصر)

الإعجاز العدديّ،ط:دار الشّعب،القاهرة.

عبد الفتّاح طبّارة(معاصر)

مع الأنبياء،ط:دار العلم، بيروت.

عبد الكريم الخطيب(معاصر)

التّفسير القرآنيّ،ط:دار الفكر، بيروت.

عبد اللّطيف بغداديّ(629)

ذيل الفصيح،ط:التّوحيد، القاهرة.

العدنانيّ:محمّد(1360)

معجم الأغلاط،ط:مكتبة لبنان، بيروت.

العروسيّ:عبد عليّ(1112)

نور الثّقلين،ط:إسماعيليان،قم.

عزّة دروزة:محمّد(1400)

تفسير الحديث،ط:دار إحياء الكتب القاهرة.

العكبريّ:عبد اللّه(616)

التّبيان،ط:دار الجيل،بيروت.

علي اصغر حكمت(معاصر)

نه گفتار در تاريخ أديان،ط:

ادبيّات،شيراز.

العيّاشيّ:محمّد(نحو 320)

التّفسير،ط:الإسلاميّة،طهران.

الفارسيّ:حسن(377)

الحجّة،ط:دار المأمون،بيروت.

الفاضل المقداد:عبد اللّه(826)

كنز العرفان،ط:المرتضويّة، طهران.

الفخر الرّازيّ:محمّد(606)

التّفسير الكبير،ط:عبد الرّحمن، القاهرة.

الفرّاء:يحيى(207)

معاني القرآن،ط:ناصر خسرو، طهران.

فريد وجديّ:محمّد(1373)

المصحف المفسّر،ط:دار مطابع الشّعب،بيروت.

الفيروزآباديّ:محمّد(817)

1-القاموس المحيط،ط:دار الجيل،بيروت.

2-بصائر ذوي التّمييز،ط:دار التّحرير،القاهرة.

الفيّوميّ:أحمد(770)

مصباح المنير،ط:المكتبة العلميّة،بيروت.

القاسميّ:جمال الدّين(1332)

محاسن التّأويل،ط:دار إحياء الكتب،القاهرة.

القاليّ:إسماعيل(356)

الأمالي،ط:دار الكتب،بيروت.

القرطبيّ:محمّد(671)

الجامع لأحكام القرآن،ط:دار إحياء التّراث،بيروت.

القشيريّ:عبد الكريم(465)

لطائف الإشارات،ط:دار الكتاب،القاهرة.

القمّيّ:عليّ(328)

تفسير القرآن،ط:دار الكتاب، قم.

القيسيّ:مكّيّ(437)

مشكل إعراب القرآن،ط:مجمع اللّغة،دمشق.

الكاشانيّ:محسن(1091)

الصّافيّ،ط:الأعلميّ،بيروت.

الكرمانيّ:محمود(505)

أسرار التّكرار،ط:المحمّديّة، القاهرة.

الكلينيّ:محمّد(329)

الكافي:ط:دار الكتب الإسلاميّة،طهران.

لويس كوستاز(معاصر)

قاموس سريانيّ،عربيّ،ط:

الكاثوليكيّة،بيروت.

لويس،معلوف(1366)

المنجد في اللّغة،ط:

دار المشرق،بيروت.

الماورديّ:عليّ(450)

النّكت و العيون،ط:دار الكتب، بيروت.

المبرّد:محمّد(286)

الكامل،ط:مكتبة المعارف، بيروت.

المجلسيّ:محمّد باقر(1111)

ص: 882

بحار الأنوار،ط:دار إحياء التّراث،بيروت.

مجمع اللّغة:جماعة(معاصرون)

معجم الألفاظ،ط:آرمان، طهران.

محمّد إسماعيل(معاصر)

معجم الألفاظ و الأعلام،ط:دار الفكر،القاهرة.

المدنيّ:عليّ(1120)

أنوار الرّبيع،ط:النّعمان،نجف.

المراغيّ:محمّد مصطفى(1364)

1-تفسير سورة الحجرات،ط:

الأزهر،مصر.

2-تفسير سورة الحديد،ط:

الأزهر،مصر.

المراغيّ:أحمد مصطفى(1371)

تفسير القرآن،ط:دار إحياء التّراث،بيروت.

مشكور:محمّد جواد(معاصر)

فرهنگ تطبيقي،ط:كاويان، طهران.

المصطفويّ:حسن(معاصر)

التّحقيق،ط:دار التّرجمة، طهران.

معرفة:محمّد هادى(معاصر)

التّفسير و المفسرون،ط:

الجامعة الرّضويّة،مشهد.

مقاتل:ابن سليمان(150)

الأشباه و النّظائر،ط:المكتبة العربيّة،مصر.

المقدسيّ:مطهّر(355)

البدء و التّاريخ،ط:مكتبة المثنّى،بغداد.

الميبديّ:أحمد(520)

كشف الأسرار،ط:أمير كبير، طهران.

الميلانيّ:محمّد هادي(1384)

تفسير سورتي الجمعة و التّغابن، ط:مشهد.

النّحّاس:أحمد(338)

معاني القرآن،ط:مكّة المكرّمة.

النّسفيّ:أحمد(710)

مدارك التّنزيل،ط:دار الكتاب، بيروت.

النّهاونديّ:محمّد(1370)

نفحات الرّحمن،ط:سنگى، علمى[طهران].

النّيسابوريّ:حسن(728)

غرائب القرآن،ط:مصطفى البابي،مصر.

هارون الأعور:ابن موسى(249)

الوجوه و النّظائر،ط:دار الحريّة، بغداد.

هاكس:الإمريكيّ(معاصر)

قاموس كتاب مقدّس،ط:

مطبعة الإميريكيّ،بيروت.

الهرويّ:أحمد(401)

الغريبين،ط:دار إحياء التّراث.

هوتسما:مارتن تيودر(1362)

دائرة المعارف الإسلاميّة،ط:

جهان،طهران.

اليزيديّ:يحيى(202)

غريب القرآن،ط:عالم الكتب، بيروت.

اليعقوبيّ:أحمد(292)

التّاريخ،ط:دار صادر،بيروت.

يوسف خيّاط(؟)

الملحق بلسان العرب،ط:أدب الحوزة،قم.

ص: 883

فهرس الأعلام المنقول عنهم بالواسطة

أبان بن عثمان.(200)

إبراهيم التّميميّ.(؟)

ابن أبي إسحاق:عبد اللّه.(129)

ابن أبي عبلة:إبراهيم.(153)

ابن أبي نجيح:يسار.(131)

ابن إسحاق:محمّد.(151)

ابن الأعرابيّ:محمّد.(231)

ابن أنس:مالك.(179)

ابن برّيّ:عبد اللّه.(582)

ابن بزرج:عبد الرّحمن.(؟)

ابن بنت العراقيّ(704)

ابن تيميّة:أحمد.(728)

ابن جريج:عبد الملك.(150)

ابن جنّيّ:عثمان.(392)

ابن الحاجب:عثمان.(646)

ابن حبيب:محمّد.(245)

ابن حجر:أحمد بن عليّ.(852)

ابن حجر:أحمد بن محمّد.(974)

ابن حزم:عليّ(456)

ابن حلزة:...(؟)

ابن خروف:عليّ.(609)

ابن ذكوان:عبد الرّحمن.(202)

ابن رجب:عبد الرّحمن.(795)

ابن الزّبير:عبد اللّه.(73)

ابن زيد:عبد الرّحمن.(182)

ابن السّبكيّ(؟)

ابن سميقع:محمّد.(؟)

ابن سيرين:محمّد.(110)

ابن سينا:عليّ.(428)

ابن الشّخّير:مطرّف.(542)

ابن شريح:...(؟)

ابن شميّل:نضر.(203)

ابن الشّيخ:...(؟)

ابن عادل.(؟)

ابن عامر:عبد اللّه.(118)

ابن عبّاس:عبد اللّه.(68)

ابن عبد الملك:محمّد.(244)

ابن عساكر(؟)

ابن عصفور:عليّ(696)

ابن عطاء:واصل.(131)

ابن عقيل:عبد اللّه.(769)

ابن عمر:عبد اللّه.(73)

ابن عيّاش:محمّد.(193)

ابن عيينة:سفيان.(198)

ابن فورك:محمّد.(406)

ابن كثير:عبد اللّه.(120)

ابن كعب القرظيّ:محمّد.(117)

ابن الكلبيّ:هشام.(204)

ابن كمال باشا:أحمد.(940)

ابن كمّونة:سعد.(683)

ابن كيسان:محمّد.(299)

ابن ماجه:محمّد.(273)

ابن مالك:محمّد.(672)

ابن مجاهد:أحمد.(324)

ابن محيصن:محمّد.(123)

ابن مسعود:عبد اللّه.(32)

ابن المسيّب:سعيد.(94)

ص: 884

ابن ملك:عبد اللطيف.(801)

ابن المنير:عبد الواحد.(733)

ابن نحّاس:محمّد.(698)

ابن هانئ:...(؟)

ابن هرمز:عبد الرّحمن.(117)

ابن الهيثم:داود.(316)

ابن الورديّ:عمر.(749)

ابن وهب:عبد اللّه.(197)

ابن يسعون:يوسف.(542)

ابن يعيش:عليّ.(643)

أبو بحريّة:عبد اللّه.(80)

أبو بكر الإخشيد:أحمد.(366)

أبو بكر الأصمّ:...(201)

أبو الجزال الأعرابي.(؟)

أبو جعفر القارئ:يزيد.(132)

أبو الحسن الصّائغ.(؟)

أبو حمزة الثّماليّ:ثابت.(150)

أبو حنيفة:نعمان.(150)

أبو حيوة:شريح.(203)

أبو داود:سليمان.(275)

أبو الدّرداء:عويمر.(32)

أبو دقيش:...(؟)

أبو ذرّ:جندب.(32)

أبو روق:عطيّة.(؟)

أبو زياد:عبد اللّه.(؟)

أبو سعيد الخدريّ:سعد.(74)

أبو سعيد البغداديّ:أحمد.(285)

أبو سعيد الخرّاز:أحمد.(285)

أبو سليمان الدمشقيّ:

عبد الرّحمن.(215)

أبو السّمال:قعنب.(؟)

أبو شريح الخزاعيّ.(؟)

أبو الطّيّب اللّغويّ.(؟)أبو العالية:رفيع.(90)

أبو عبد الرّحمن:عبد اللّه.(74)

أبو عبد اللّه:محمّد.(؟)

أبو عثمان الحيريّ:سعيد.(289)

أبو العلاء المعرّيّ:أحمد.(449)

أبو عليّ الأهوازيّ:حسن.(446)

أبو عليّ مسكويه:أحمد.(421)

أبو عمران الجونيّ:عبد الملك.(؟)

أبو عمرو ابن العلاء:زبّان.(154)

أبو عمرو الجرميّ:صالح.(225)

أبو عمرو الشّيبانيّ:إسحاق.(206)

أبو الفضل الرّازيّ.(؟)

أبو قلابة:...(104)

أبو مالك:عمرو.(؟)

أبو المتوكّل:عليّ.(؟)

أبو مجلز:لاحق.(؟)

أبو محلّم:محمّد.(245)

أبو مسلم الأصفهانيّ:

محمّد.(322)

أبو منذر السّلاّم:...(؟)

أبو موسى الأشعريّ:عبد اللّه.(44)

أبو نصر الباهليّ:أحمد.(231)

أبو هريرة:عبد الرّحمن.(59)

أبو الهيثم:...(276)

أبو يزيد المدني:...(؟)

أبو يعلي:أحمد.(307)

أبو يوسف:يعقوب.(182)

أبيّ بن كعب.(21)

أحمد بن حنبل.(241)

الأحمر:عليّ.(194)

الأخفش الأكبر:عبد الحميد.(177)

إسحاق بن بشير.(206)

الأسديّ.(؟)

إسماعيل بن قاضي.(؟)

الأصمّ:محمّد.(346)

الأعشى:ميمون.(148)

الأعمش:سليمان.(148)

إلياس:...(؟)

أنس بن مالك.(93)

الأمويّ:سعيد.(200)

الأوزاعيّ:عبد الرّحمن.(157)

الأهوازيّ:حسن.(446)

الباقلاّنيّ:محمّد.(403)

البخاريّ:محمّد.(256)

براء بن عازب.(71)

ص: 885

البرجيّ:عليّ.(؟)

البرجميّ:ضابئ.(؟)

البقليّ.(؟)

البلخيّ:عبد اللّه.(319)

البلّوطيّ:منذر.(355)

بوست:جورج إدورد.(1327)

التّرمذيّ:محمّد.(279)

ثابت البنانيّ.(127)

الثّعلبيّ:أحمد.(427)

الثّوريّ:سفيان.(161)

جابر بن زيد.(93)

الجبّائيّ:محمّد.(303)

الجحدريّ:كامل.(231)

جمال الدّين الأفغانيّ.(1315)

الجنيد البغداديّ:ابن محمّد.(297)

جهم بن صفوان.(128)

الحارث بن ظالم.(22 ق)

الحدّاديّ:...(؟)

الحرّانيّ:محمّد.(560)

الحسن:ابن يسار.(110)

حسن بن حيّ.(؟)

حسن بن زياد.(204)

حسين بن فضل.(548)

حفص:بن عمر.(246)

حمّاد بن سلمة.(167)

حمزة القارئ.(156)

حميد:ابن قيس.(؟)

الحوفيّ:عليّ.(430)

خصيف:...(؟)

الخطيب التّبريزيّ:يحيى.(502)

الخفاجيّ:عبد اللّه.(466)

خلف القارئ.(299)

الخويّيّ:محمّد.(693)

الخياليّ:أحمد.(862)

الدّانيّ:عثمان.(444)

الدّقّاق.(؟)

الدّمامينيّ:محمّد.(827)

الدّوانيّ.(918)

الدّينوري:أحمد.(282)

الرّبيع:ابن أنس.(139)

ربيعة بن سعيد(؟)

الرّضيّ الاسترآباديّ.(686)

الرّمّانيّ:عليّ.(384)

رويس:محمّد.(238)

الزّناتيّ.(؟)

الزّبير:بن بكّار.(256)

الزّجّاجيّ:عبد الرّحمن.(337)

الزّهراويّ:(427)

الزّهريّ:محمّد.(128)

زيد بن أسلم.(136)

زيد بن ثابت.(45)

زيد بن عليّ.(122)

السّدّيّ:إسماعيل.(128)

سعد بن أبي وقّاص.(55)

سعد المفتيّ.(؟)

سعيد بن جبير.(95)

سعيد بن عبد العزيز.(167)

السّلميّ القارئ:عبد اللّه.(74)

السّلميّ:محمّد.(412)

سليمان بن جمّاز المدنيّ.(170)

سليمان بن موسى.(119)

سليمان التّيميّ.(؟)

السّمين:أحمد.(756)

سهل التستريّ.(283)

السّيرافيّ:حسن.(368)

الشّاطيّ(؟)

الشّافعيّ:محمّد.(204)

الشّبليّ:دلف.(334)

الشّعبيّ:عامر.(103)

شعيب الجبئيّ.(؟)

الشّلوبينيّ:عمر.(645)

شمر:ابن حمدويه.(255)

الشّمنّيّ:أحمد(872)

الشّهاب:أحمد.(1069)

شهاب الدّين القراقيّ(684)

شهر بن حوشب.(100)

شيبان:ابن عبد الرّحمن.(؟)

شيبة الضّبّيّ.(؟)

ص: 886

الشّيذلة:عزيزيّ.(494)

الشّيشينيّ(؟)

صالح المريّ.(؟)

الصّيقليّ:محمّد.(565)

الضّبّيّ:يونس.(182)

الضّحّاك:ابن مزاحم.(105)

طاوس:ابن كيسان.(106)

الطّبقجليّ:أحمد.(1213)

طلحة بن مصرّف.(112)

الطّيّبيّ:حسين.(743)

عائشة:بنت أبي بكر.(58)

عاصم الجحدريّ.(128)

عاصم القارئ.(127)

عامر بن عبد اللّه.(55)

عبّاس بن الفضل.(186)

عبد الرّحمن بن أبي بكرة.(96)

عبد العزيز:...(612)

عبد اللّه بن أبي ليلى.(؟)

عبد اللّه بن الحارث.(86)

عبد اللّه الهبطيّ.(؟)

عبد الوهّاب النّجار.(1360)

عبيد بن عمير.(؟)

العتكيّ:عبّاد.(181)

العدويّ:...(؟)

عصام الدّين:عثمان.(1193)

عصمة:ابن عروة.(؟)

العطاء:ابن أسلم.(114)

عطاء بن سائب.(136)

عطاء الخراسانيّ:ابن عبد اللّه.(135)

عكرمة:ابن عبد اللّه.(105)

علاء بن سيّابة.(؟)

عليّ بن أبي طلحة.(143)

عمارة بن عائد.(؟)

عمر بن ذرّ.(153)

عمرو بن عبيد.(144)

عمرو بن ميمون.(؟)

عيسى بن عمر.(149)

العوفيّ:عطيّة.(111)

العينيّ:محمود.(855)

الغزاليّ:محمّد.(505)

الغزنويّ:...(582)

غيلان الدّمشقيّ.(105)

الفارابيّ:محمّد.(339)

الفاسيّ(؟)

الفضل الرّقاشيّ(200)

قتادة:ابن دعامة.(118)

القزوينيّ:محمّد.(739)

قطرب:محمّد.(206)

القفّال:محمّد.(328)

القلانسيّ:محمّد.(521)

كراع النّمل:عليّ.(309)

الكسائيّ:عليّ.(189)

كعب الأحبار:ابن ماتع.(32)

الكعبيّ:عبد اللّه.(319)

الكفعميّ:إبراهيم.(905)

الكلبيّ:محمّد.(146)

كلنبويّ.(؟)

الكيا الطّبريّ(؟)

اللّؤلؤيّ:حسن.(204)

اللّحيانيّ:عليّ.(220)

اللّيث:ابن مظفّر.(185)

الماتريديّ:محمّد.(333)

المازنيّ:بكر.(249)

مالك:ابن أنس.(179)

مالك بن دينار.(131)

المالكيّ(؟)

الملويّ.(؟)

مجاهد:ابن جبير.(104)

المحاسبيّ:حارث.(243)

محبوب:...(؟)

محمّد أبي موسى.(؟)

محمّد بن حبيب.(245)

محمّد بن الحسن.(189)

محمد بن شريح الأصفهانيّ.(؟)

محمّد عبده:ابن حسن خير اللّه.

(1323)

محمّد الشّيشنيّ.(؟)

مروان بن حكم.(65)

ص: 887

المسهر:ابن عبد الملك.(؟)

مصلح الدّين اللاّري:محمّد.(979)

مطرّف بن الشّخّير.(87)

معاذ بن جبل.(18)

معتمر بن سليمان.(187)

المغربيّ:حسين.(418)

المفضّل الضّبّيّ:ابن محمّد.(182)

مكحول:ابن شهراب.(112)

المنذريّ:محمّد.(329)

المهدويّ:أحمد.(440)

مؤرّج السّدوسيّ:ابن عمر.(195)

موسى بن عمران.(604)

ميمون بن مهران.(117)

النّخعيّ:إبراهيم.(96)

نصر بن عليّ.(؟)

نفطويه:إبراهيم.(323)

النقّاش:محمّد.(351)

النّووي:يحيى.(676)

هارون:ابن حاتم.(728)

همّام بن حارث.(؟)

الواحديّ:عليّ.(468)

ورش:عثمان.(197)

وهب بن جرير.(207)

وهب بن منبّه.(114)

يحيى بن جعدة.(؟)

يحيى بن سعيد.(؟)

يحيى بن سلاّم.(200)

يحيى بن وثّاب.(103)

يحيى بن يعمر.(129)

يزيد بن أبي حبيب.(128)

يزيد بن رومان.(130)

يزيد بن قعقاع.(132).

يعقوب:ابن إسحاق.(202)

اليمانيّ:عمر.(؟)

ص: 888

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.