کنزالفوائد للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن علی بن عثمان المجلد 2

اشارة

کنزالفوائد للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن علی بن عثمان الکراجکی الطرابلسی

حققه وعلق عليه

العلامة الشيخ عبدالله نعمه

الجزء الثانی

دار الأضواء

بيروت -لبنان

خیراندیش دیجیتالی : انجمن مددکاری امام زمان (عج) اصفهان

این کتاب، به زبان عربی و حاوی مباحثی ارزشمند درباره موضوعات گوناگون اسلامی مانند حدیث، فقه، اخلاق، فلسفه، کلام، موعظه، عقاید ، تاریخ اسلام و بررسی مذاهب گوناگون است.

کتاب کنز الفوائد، از زمان نگارش تا حال، پیوسته، مورد توجه علما و فقهای شیعه قرار داشته و برای آگاهی از بسیاری از مباحث مهم اسلامی، کتابی ارزش مند و قابل توجه است.

مؤلف، بر بسیاری از منابع معتبر دست رسی داشته و این خود، بر ارزش کتاب می افزاید.

ص: 1

اشارة

ص: 2

کنز الفوائد

للامام ابی الفتح الشیخ محمد بن ابی عثمان

الکراجی الطرابلسی التوفی 449 ه-

حققه و علق علیه

العلامة الشیخ عبدالله نعمه

الجزء الثانی

دارالاضواء

بيروت * لبنان

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

1405 ه- - 1985 م

دار الأضواء

بيروت - الغبيره - سشارع عبد الله للحاج - بناية الروضة

ص : ب 25/40 - برقيا و الغبيره - حسنکو

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين.

الأدلة على أن الصانع واحد

وبعد فمن الأدلة على أن صانع العالم واحد أما الذي يعتمده أكثر المتكلمين فدليل التمانع .

وهو أنه لو كان لصانع العالم ثان لوجب أن يكون قديما ، وإذا كان كذلك ماثله ، وإذا ماثله صح أن يريد أحدهما ضد ما يريده الآخر ، فيقع التمانع ، کارادة أن يحرك جسما في وقت وأراد الآخر أن يسكنه فيه.

وإذا صح ذلك لم يخل الأمر من ثلاث خصال:

إما أن يصح وقوع مرادهما من غير تضاد ولا تمانع بينهما ، فيكون الجسم في وقت واحد ساكنا ومتحركا . وهذا محال.

وإما أن لا يصح وقوعهما ولا شيء منهما، فهذا هو التمانع المبطل لوقوع مراديهما ، وهو دليل على ضعفهما.

وإما أن يقع مراد أحدهما دون الآخر، فهو دليل على أن من لم يقع مراده

ص: 5

ممنوع ضعیف ، خارج من أن يكون قديما ، لأن من صفات القديم أن يكون قادرا لنفسه، لا يتعذر (1) عليه فعل أراده.

فإن قيل : لم قلتم أنه إن كان معه ثان يصح أن يريد ضد مراده؟

قلنا: لأن من حق القادر أن يصح منه الشيء وضده، لا سيما إذا كان قادرا لنفسه ، فإذا كانا قادرين لأنفسهما صح ما ذكر بينهما.

فإن قيل: إن التمانع لا يقع منهما ، لأنها عالمان، فكل واحد منها يعلم أن مراد صاحبه حكمة ، فلا يريد ضده.

قلنا: إن الكلام مبني على صحة ذلك دون کونه ، فإن لم يكن واحد منها يريد أن يمنع صاحبه، فكونه قادرا يعطي أنه ممكن منه ، وإن لم يفعل ، وتصح إرادته ولا تستحیل منه ، ويحصل من ذلك تقدير التمانع بينهما وجوازه.

فإن قيل: لم ذكرتم أنهما إذا لم يقع مرادهما جميعا ، أن ذلك لضعفهما ؟

قلنا: لتساوي مقدورهما، وعند تساويه لا يكون فعل أحدهما أحق بالوجود من فعل الآخر. وفي ذلك إبطال أفعالهما، وهو معنى قول الله عز وجل .

«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» ، الأنبياء : 22

فإن قيل : فلم قلتم إن وجود مراد أحدهما دليل على ضعف الآخر؟

قلنا: لما في ذلك من رجحانه في قدرته على صاحبه. فلولا أنه أقدر منه لماوقع مراده دونه. وهذا يوضح عن ضعف من لم يقع مراده .

دليل آخر

وقد احتج أصحابنا بدلیل التمانع على وجه آخر فقالوا : إنها لو كانا اثنين كان لا يخلوا أحدهما من أن يكون يقدر على أن يكتم صاحبه شيئا ، أو لا يقدر على ذلك.

ص: 6


1- في النسخة: لا يعتذر

فإن كان يقدر فصاحبه يجوز عليه الجهل ، ومن جاز عليه الجهل فليس بآله قديم.

وإن كان لا يقدر فهو نفسه عاجز والعاجز ليس بآله قديم (1) .

دليل آخر:

ومما يدل على أن صانع العالم واحد، أنه لو كان معه ثان كان لا يخلو أمرهما في فعلهما للعالم من أحد وجهين:

إما أن أمرهما في فعلهما للعالم من أحد وجهين :

إما أن كل واحد منهما فعل جميعه ، حتى يكون الذي فعله أحدهما هو الذي فعله صاحبه.

أو يكون كل واحد منها انفرد ببعض منه.

وفي الوجه الأول إيجاب فعل واحد من فاعلين . وهذا يبطل في فصل (2).

وفي الوجه الثاني إيجاب تميز فعل كل واحد منها عن فعل الآخر ، لأن القادر الحكيم إذا فعل فعلا حسنا لم يجز إلا ليجعله دالا عليه وموسوما به ، ومميزا عن فعل غيره ، لا سيما إذا كان داعيا إلى شكر نعمته ، وموجبا لمعرفته ، ولا طريق لأحد إلى معرفته إلا بفعله.

فلما لم يكن فعل ما شاهدناه من السماء والأرض وغيرهما مما يدل على أن بعضه لواحد، وبعضه لآخر، وإنما يدل على أن له فاعلا فقط ، علمنا أن الفاعل له واحد، وهو الله تعالى ذكره.

فإن قيل: فإنا نجد العالم على قسمين : جواهر وأعراض، وكل واحد من الجنسين مميز عن الآخر فألا دل هذا على الصانعين؟

قلنا: لو كان صانع الجواهر غير صانع الأعراض، لكانا محتاجين بل

ص: 7


1- عرض الصدوق في كتاب التوحيد لهذا الدليل ص 277 باختلاف يسير .
2- هكذا في النسخة والعبارة غير تامة والأرجح أن هناك جملة ساقطة قد تكون هكذا: وهذا يبطل كونه فعله.

عاجزين ، لأن أحدهما لا يقدر أن يفعله بانفراده، وهو يفتقر إلى صاحبه ، الإستحالة وجود الجوهر بغير عرض ، والعرض بغير جوهر ، إلا ما انفرد به قوم من إرادة القديم وفناء العالم.

دليل آخر:

وهو أن العالم لو كان صانعه اثنين لكانا غيرين ، وحقيقة الغيرين هما اللذان يجوز وجود أحدهما وعدم الآخر ، إما من الزمان أو المكان ، أو على وجه من الوجوه ، أو كان يجوز ذلك (1).

ولسنا نجد أحدا من ذوي العقول الصحيحة السليمة التي لم تعترضها الشبهة الحادثة ، تعرف غيرين إلا وهو يعرف أنها هكذا ، ولا يعلم شيئين هكذا إلا.وهو يعلم أنهما غيران.

وهذا يمنع من أن يكون صانع العالم اثنين ، لما في ذلك من جواز عدم أحدهما، ومن جاز عدمه فليس بقديم. وفي بطلان قدم أحدهما دليل على أنه داخل في جملة المحدثين ، وأن صانع العالم هو الواحد القديم ومن خالفنا في حد الغيرين فليوجد [لنا] (2) شيئين متفقين على وجودهما ، ليس هذا: حكمهما.

دلیل آخر

وقد اعتمد البلخي (3) دليلا مفردا على أن صانع العالم واحد، لم يحتج أن يذكر فيه تقدير وجود الاثنين ، فقال :

ص: 8


1- في العبارة غموض ولعلها هكذا: (ولا يجوز غير ذلك)
2- في النسخة (نا).
3- هو مأخوذ من قول الإمام الرضا (علیه السلام) قولك أنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد فالواحد يجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه أنظر التوحيد ص 278.

الذي يدل على ذلك ، أنا وجدنا العالم محدثا ، ولا بد له من محدث، ووجدنا من تجاوز هذا القول بأن المحدث له واحد ، فزعم أنه اثنان (1) ، لا نجد فرقا بينه وبين من زعم أنه ثلاثة، وكذلك. لا نجد فرقا بينه وبين من زعم أنه: أربعة . وكل عدة تجاوزت الواحد. لا يقدر القائل بها اعلى فرق بينه وبين من زاد فيها ، ولا نجد حجة توجب قوله دون قول خصمه فيها .

فلما فسد قول كل من ادعى الزيادة على الواحد ، وليس مع. أحدهم رجحان بحجته ، وتكافأت أقوالهم في دعوى الزيادة ،دل على أن الصانع واحد لا أكثر من ذلك ، ولأن الدليل ثبت على وجود الصانع، ولم يثبت على ما يزيد على واحد .(2)

ثم علل رض نفسه فقال :

إذا قال قائل : إنكم قد تجدون دارا مبنية ، يدل بناؤها على أن لها بانيا ، ثم لا يجدون فرقا بين من زاد على واحد ، فقال إن بانيها اثنان وبين من قال ثلاثة. و كذلك كل عدة، حتى لا يتميز بعض الأقوال على بعض حجة ، أفتقطعون على أن صانع الدار واحد؟

وانفصل عن هذه المعارضة بأن قال: إن المثبت للدار صانعا واحدا أو صانعين فقد نجد فرقا بينه وبين من زاد عليه ، ودليلا على قوله دون قول من خالفه ، وذلك أن صناع الدار يجوز أن يشاهدهم من شاهدها ، ويجوز أن يرد الخبر إليها بعددهم ممن شاهدهم. يبنونها.

وليس كذلك صانع العالم. وهذا فرق واضح بين الموضعين . ولوضوحه يعلم بطلان مذهب الثنوية على اختلافهم، والنصارى في التثليث ومن جری مجراهم . والحمد لله .

ص: 9


1- في النسخة اثنين.
2- وخلاصته: أنه بعد العلم، بوجود: صانع للعالم فالواحد متیقن . والزائد مشكوك ولا دليل عليه لكن هذا يرد عليه إن عدم العلم بالزائذ لا يدل على عدم وجود الزائد والقضية متعلقة بالعقائد اليقينة لا بحكم ظاهري.

فصل:من كلام رسول الله (صلی الله علیه واله) في الخصال من واحد إلى عشرة .

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

خصلة من لزمها أطاعته الدانيا والآخرة، وربح الفوز بالجنة .

قيل : ما هي يا رسول الله ؟

قال: التقوى ، من أراد أن يكون أعز الناس فليتق الله عز وجل ، ثم تلا:

« وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ »

الطلاق: 2.

وقال:

المؤمن بين مخافتين ، بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه .(1)

وقال (صلی الله علیه واله):

« ومن وقي شر ثلاث فقد وقي الشر كله ، لقلقه ، وقبقبه ، وذبذبه ».

فلقلقه لسانه ، وقبقبه بطنه ، وذبذبه فرجه .

وقال (صلی الله علیه واله):

أربع خصال من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب، والإصرار على الذنب ، والحرص على الدنيا ».

وقال (صلی الله علیه واله):

« خمس لا يجتمعن إلا في مؤمن حقا، يوجب الله له بهن الجنة : النور في القلب ، والفقه في الإسلام ، والورع في الدين ، والمودة في الناس ، وحسن السمت في الوجه »

ص: 10


1- انظر: تحف العقول ص 20.

وقال (صلی الله علیه واله):

« اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، أصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم، وأحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم »

وقال (صلی الله علیه واله):

« أوصاني ربي بسبع ، أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأعطي من حرمني ، وأصل من قطعني ، وأن يكون صمتي فكرا ، ونظري عبرا » (1)

وحفظ عنه (صلی الله علیه واله) ثمان قال:

« ألا أخبركم بأشبهكم بي خلقا ، »؟

قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحسنكم خلقا ، وأعظمكم حلما، وأبركم بقرابته ،و أشدكم حبا لإخوانه في دينه ، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ ، وأحسنكم عفوا ، وأشدكم من نفسه إنصافا » (2).

وقال (صلی الله علیه واله):

« الكبائر تسع ، أعظمهن الإشراك بالله عز وجل ، وقتل النفس المؤمنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين ، واستحلال البيت الحرام، والسحر . فمن لقي الله عز وجل ، وهو بريء منهن كان معي في جنة مصاريعها من ذهب ».

وقال :

« الإيمان في عشرة: المعرفة، والطاعة، والعلم، والعمل ، والورع، والإجتهاد ، والصبر، واليقين ، والرضا، والتسليم، فأيها فقد صاحبه بطل نظامه »

ص: 11


1- انظر : تحف العقول للحراني ص 25.
2- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار ص 214.

فصل:من فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) والنصوص عليه من رسول الله (صلی الله علیه واله)

من جملة ما رواه [لنا] (1) الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي رحمه الله بمكة في المسجد الحرام ، قال حدثني نوح بن أحمد بن أيمن رحمه الله ، قال : حدثنا إبراهيم بن أحمد بن أبي حصين ، قال : حدثني جدي ،قال : حدثني يحيى بن عبد الحميد ، قال : حدثني قيس بن الربيع ، قال : حدثني سليمان الأعمش عن جعفر بن محمد، قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أبيه قال: أبي أمير المؤمنين علي عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله علیه و آله :

« يا علي أنت أمير المؤمنين ، وإمام المتقين يا علي أنت سيد الوصيين، ووارث علم النبيين ، وخير الصديقين ، وأفضل السابقين. يا علي أنت زوج سيدة نساء العالمين ، وخليفة خير المرسلين . يا علي أنت مولى المؤمنين ، والحجة بعدي على الناس أجمعين ، استوجب الجنة من تولاك ، واستوجب دخول الناس من عاداك.

يا علي ، والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية ، لو أن عبدا عبد الله تعالى ألف عام، ما قبل الله ذلك منه إلا بولايتك وولاية الأئمة من ولدك ، وان ولايتك لا تقبل إلا بالبراءة من أعدائك وأعداء الأمة من ولدك . بذلك أخبرني جبرئیل علیه السلام، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر .(2)

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان ، قال : حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن متويه المقري، قال: حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا علي بن عثمان ، قال : حدثنا محمد بن فرات عن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

ص: 12


1- جو مذكور في البحار ج 38 ص 134 نقله عن كشف اليمين ص 56 - 57.
2- جو مذكور في البحار ج 38 ص 134 نقله عن كشف اليمين ص 56 - 57.

علي بن أبي طالب خليفة الله وخليفتي ، حجة الله وحجتي ، وباب الله وبابي ، وصفي الله وصفي ، وحبيب الله وحبيبي ، وخليل الله وخليلي ، وسيف الله وسيفي، وهو أخي وصاحبي، ووزيري، ووصيي، حجته حجتي، ومبغضه مبغضي ، ووليه ولي ، وعدوه عدوي ، وزوجته ابنتي، وولده ولدي، وحربه حربي ، وقوله قولي ، وأمره أمري، وهو سيد الوصيين وخير أمتي » (1)

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان قال: حدثني خال أمي أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه الله ، قال : حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه (2) ، قال حدثني أحمد بن محمد، قال: حدثني محمد بن الفضيل، عن ثابت ابن أبي صفيه ، عن أبي حمزة (3) ، قال: حدثني علي بن الحسين، عن أبيه، قال حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

إن الله فرض عليكم طاعتي ونهاكم عن معصيتي، وأوجب عليكم اتباع أمري ، وفرض عليكم من طاعته طاعة علي بن أبي طالب بعدي كما فرض عليكم من طاعتي ، ونهاكم عن معصيته كما نهاكم عن معصيتي، وجعله أخي ووزيري ، ووصيي ووارثي ، وهو مني وأنا منه ، حبه إيمان ، وبغضه كفر. محبة محبي ، ومبغضه مبغضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وهو أبوا هذه الأمة » (4)

ص: 13


1- انظر : البحار ج 38 ص 147 نقله عن بشارة المصطفى ص 28، هامش.
2- هو ابراهيم بن هاشم . أبو إسحاق الفمي أصله من الكوفه ، وانتقل إلى قم وهو أول من نشر حديث الكوفيين بقم ، ودکروا أنه لفي الامام الرضا (علیه السلام) فهرست الطوسي ص 27 .
3- هو أبو حمزة الثمالي ثابت بن دینار . من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) الثفات خدم أربعة من الأئمة: زین العابدين والباقر والصادق وبرهة من عصر الكاظم توفي سنة 150 ه.
4- انظر : أمالي الصدوق ص 13 و تجده أيضا في البحار ج 38 ص 91-92 نقلا عن الأمالي .

فصل:من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) وآدابه في فضل الصمت وكف اللسان.

من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .

من كثر كلامه كثر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار.

إذا فاتك الأدب فالزم الصمت.

العافية في عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله عز وجل .

کم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة سلبت نعمة.

من غلب لسانه أثره قومه.

المرء يعثر برجله فيبرأ، ويثر بلسانه ، فيقطع رأسه ولسانه. احفظ لسانك ، فإن الكلمة أسيرة في وثاق الرجل ، فإن أطلقها صار أسيرا في وثاقها .

عاقبة الكذب شر عاقبة.

خير القول الصدق ، وفي الصدق السلامة ، والسلامة مع الاستقامة .

لا حافظ أحفظ من الصمت .

إياكم والنمائم فإنها تورث الضغائن .

هانت عليه نفسه من أمر عليه لسانه .

الصمت نور .

إن الله عز وجل جعل صورة المرأة في وجهها ، وصورة الرجل في منطقه .

ص: 14

مختصر التذكرة بأصول الفقه

استخرجته من كتاب شيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان

رضي الله عنه وقدس سره .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أهل الحمد ومستحقه ، وصلاته على خيرته المصطفين من خلقه ، سیدنا محمد رسوله ، الدال بآياته على صدقه ، وعلى أهل بيته، الأئمة القائمين من بعده بحقه .

سألت أدام الله عزك، أن أثبت لك جملا من القول في أصول الفقه مختصرة،لنكون لك تذكرة بالمعتقد في ذلك ميسرة، وأنا أسير إلى محبوبك ، وانتهي إلى مرادك ومطلوبك ، بعون الله وحسن توفيقه.

إعلم أن أصول أحكام (1) الشريعة ثلاثة أشياء : كتاب الله سبحانه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده صلوات الله عليهم و سلامه.

والطرق الموصلة إلى علم المشروع في هذه الأصول ثلاثة :

أحدها العقل ، وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار .

والثاني اللسان، وهو السبيل إلى المعرفة بمعاني الكلام.

وثالثها الأخبار، وهي السبيل إلى إثبات أعيان الأصول من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة عليهم السلام.

والأخبار الموصلة إلى العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار : خبر متواتر ، وخبر واحد معه قرينة ، تشهد بصدقه، وخبر مرسل في الإسناد ، يعمل به أهل الحق على الاتفاق.

ص: 15


1- في الأصل الأحكام .

ومعاني القرآن على ضربين : ظاهر و باطن .

والظاهر هو المطابق لخاص العبارة عنه تحقيقا على عادات أهل اللسان ، كقوله سبحانه:

« إن الله لا يظلم الناس شيئا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون »

فالعقلاء العارفون باللسان يفهمون من ظاهر هذا اللفظ المراد .

والباطن هو ما خرج عن خاص العبارة وحقيقتها إلى وجوه الإتساع ، فيحتاج العاقل في معرفة المراد . من ذلك إلى الأدلة الزائدة على ظاهر الألفاظ، كقوله سبحانه:

« أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة »

فالصلاة في ظاهر اللفظ هي الدعاء حسب المعهود بين أهل الفقه ، وهي في الحقيقة لا يصح منها القيام به والزكاة هي الفهو عندهم بلا خلاف، ولا يصح أيضا فيها الاتيان ، وليس المراد في الآية ظاهرها ، وإنما هو أمر مشروع.

فالصلاة المأمور بها فيها هي أفعال مخصوصة مشتملة على قيام وركوع وسجود وجلوس.

والزكاة المأمور بها فيها ، هي إخراج مقدار من المال على وجه أيضا مخصوص ، وليس يفهم هذا من ظاهر القول ، فهو الباطن المقصود .

وأنواع أصول معاني القرآن أربعة :

أحدها، الأمر وما استعير له لفظه

وثانيها ، النهي وما استعمل فيه لفظه .

وثالثها ، الخبر مع ما يستوعبه لفظه.

ورابعها ، التقرير وما وقع عليه لفظه

وللأمر صورة محققة في اللسان ، يتميز بها عن غيره في الكلام ، وهي قولك :

(افعل) إذا ورد مرسلا على الإطلاق ، وإن كانت هذه اللفظة تستعمل في غير الأمر على سبيل الإتساع والمجاز ، کالسؤال، والإباحة، والخلق والمسخ ، والتهديد .

ص: 16

والأمر المطلق يقتضي الوجوب، ولا يعلم الندب إلا بدليل.

وإذا علق الأمر بوقت وجب الفعل في أول الوقت ، وكذلك إطلاقه يقتضي المبادرة بالفعل والتعجيل ، ولا يجب ذلك أكثر من مرة ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليل.

فإن تكرر الأمر وجب تكرار الفعل ما لم تثبت حجة بأن المراد بتكراره التأكيد.

فأما الأمران إذا عطف أحدهما على الآخر فالواجب أن يراعى فيهما الاتفاق في الصورة والاختلاف، فإن اتفقا دل ذلك على التأكيد ، وإن اختلفا كان لهما حكان.

والقول في الخبرين إذا تساويا في الصورة كالقول في الأمرين.

وإمتثال الأمر مجز لصاحبه ، ومسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه.

وإذا ورد لفظ الأمر معاقبا لذكر الحظر أفاد الإباحة دون الإيجاب كقول الله تعالى:

« فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » الجمعة : 10.

بعد قوله : « إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ » الجمعة : 9.

وإذا ورد الأمر بفعل أشياء على طريق التخيير ، كوروده في كفارة اليمين ، فكل واحد من تلك الأشياء واجب ، بشرط اختيار المأمور ، وليست واجبة على الإجتماع ، ولا بالإطلاق.

وما لا يتم الفعل إلا به واجب ، كوجوب الفعل المأمور به ، وكذلك الأمر بالمسبب دليل على وجوب فعل السبب.

والأمر بالمراد دليل على فعل الإرادة .

وليس الأمر بالشيء هو بنفسه نهي عن ضده ، ولكنه يدل على النهي عنه ، بحسب دلالته على حظره.

ص: 17

وباستحالة اجتماع الفعل وتركه يقتضي صحة النهي العقلي عن ضد ما أمر به.

وإذا ورد الأمر بلفظ المذكر ، مثل قوله :

يا أيها الذين آمنوا، ويا أيها المؤمنون والمسلمون وشبهه ، فهو متوجه بظاهرة إلى الرجال دون النساء ، ولا يدخل تحته بشيء من الإناث إلا بدلیل سواه.

فأما تغليب المذكر على المؤنث فإنما يكون بعد جمعها بلفظها على التصريح ثم يعبر عنها من بعده بلفظ المذكر .

ومتى لم يجر للمؤنث بما يخصه من اللفظ فليس يقع العلم عند ورود لفظ المذكر بأن فيه تغليبا ، إلا أن يثبت أن المتكلم قصد الإناث والذكور معا بدلیل.

فأما الناس فكلمة تعم الذكور والإناث.

وأما القوم فكلمة تعم الذكور دون الإناث.

وإذا ورد الأمر مقيدا بصفة يخص بها بعض المكلفين ، فهو مقصور على ذي الصفة غير متعدية إلى غيره إلا بدليل كقوله تعالى :

« يَا أيُّهَا المُدَّثِر قُم فَاِنذِر » المدثر:2

وإذا ورد بصفة تتعدى المذكور إلى غيره من المكلفين ، كان متوجها إلى سائرهم على العموم ، إلا ما خصه الدليل كقوله عز وجل :

« يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » الطلاق:1

والأمر بالشيء لا يكون إلا قبله ، لاستحالة تعلق الأمر بالموجود .

والأمر متوجه إلى الطفل بشرطة البلوغ.

وكذلك الأمر للمعدوم بشرطر وجوده وعقله الخطاب.

ويصح أيضا توجه إلى من يعلم من حاله أنه يعجز في المستقبل عما أمر به ، أو يحال بينه وبينه، أو يخترم دونه کما (1) يجوز في ذلك من مصلحة الأمور في

ص: 18


1- في النسخة (لما).

اعتقاده فعل ما أمر به ، واللطف له في استحقاقه الثواب على نيته، وإمكان استصلاح غيره من المكلفين بأمره.

فأما خطاب المعدوم والجهادات والأموات فمحال والأمر أمر بعينه ونفسه .

فأما النهي فله صورة في اللسان محققة يتميز بها عن غيره ، وهي قولك [لا تفعل] إذا ورد مطلقا .

والنهي في الحقيقة لا يكون منك إلا لمن دونك كالأمر.

والنهي موجب للترك المستدام ما لم يكن شرط يخصه بجمال أو زمان .

فأما الخبر فهو ما أمكن فيه الصدق والكذب ، وله صيغة مبنية يتفصل بها مما يخالفه في معناه . وقد يستعار صيغته فيما ليس بخبر ، كما يستعار غيرها من صيغ الحقائق فيما سواه على وجه الاتساع والمجاز ، قال الله عز وجل :

« وَمَن دَخَلِهِ كَانَ آمَنَّا » هو من الآية 97 من آل عمران .

فهو لفظ بصيغة الخبر، والمراد به الأمر بأن يؤمن من دخله .

والعام في معنى الكلام ما أفاد لفظه اثنين فما زاد.

والخاص ما أفاد واحدا دون سواه ، لأن أصل الخصوص التوحيد ، وأصل العموم الاجتماع، وقد يعبر عن كل منها بلفظ الآخر تشبها وتجوزا، قال الله تعالى:

« إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» الحجر: 9 .

فعبر عن نفسه سبحانه وهو واحد بلفظ الجمع .

وقال سبحانه:

« الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَکُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَکيلُ » آل عمران: 173 .

وكان سبب نزول هذه الآية أن رجلا قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) قبل وقعة أحد إن أبا سفيان قد جمع لكم الجموع، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : حسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 19

فأما اللفظ المعبر به عن العالم فهو كقوله عز وجل :

« وَٱلمَلَكُ عَلَى أَرجَائِهَا » الحاقة : 17

وإنما أراد به الملائكة.

وقوله:

«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَريمِ» الانفطار: 9

يريد يا أيها الناس.

وكل لفظي أفاد من الجمع ما دون استيعاب الجنس فهو عام في الحقيقة ، خاص بالإضافة ، كقوله عز وجل .

« فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ » الانعام:44

ولم يفتح لهم أبواب الجنات ولا أبواب النار

وقوله:

«ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا » البقرة: 260

وإنما أراد بعض الجبال.

وكقول القائل : جاءنا فلان بكل عجيبة . والأمثال في ذلك كثيرة ، وهو كله عام في اللفظ ، خاص مقصور عن الاستيعاب .

فأما العموم المستوعب للجنس فهو ما أفاد من القول نهاية ما دخل تحته وصح للعبارة عنه في اللسان، قال الله عز وجل:

« والله بكل شيء عليم »

« كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ». الرحمن : 26 - 27

فأما الألفاظ المنسوبة إلى الإشتراك ، فهي على ألحاء :

فمنها ما هو مبني لمعنی سائغ في أنواع مختلفات ، کاسم شيء على التنكير ، فهو وإن كان في اللغة موضوعا للموجود دون المعدوم، فهو يعم الجواهر والأجسام والأعراض، غير أن لكل ما شمله مما عددناه أسماء على التفصيل مبینات، يخص كل إسم نوعه دون ما سواه. ومنها رجل وإنسان وبهيمة ونحو

ص: 20

ذلك. فإنه يقع على كل اسم من هذه الأسماء على أنواع في الصور والهيئات ، وهو موضوع في الأصل لمعنى يعم جميع ما في معناه.

ومن الألفاظ المشتركة ضرب آخر ، وهو قولهم . (عين)، ووقوع هذه اللفظة على جارحة البصر، وعلى الماء، والذهب، وجيد الأشياء، وصاحب الخير ، وميل الميزان وغير ذلك. فهذه اللفظة. بمجردها غير مبنية لشيء ما عددناه ، وإنما هي بعض المسمى، وتمامه وجود الإضافة أو ما يقوم مقامها من الصفة المخصوصة.

وإذا ورد اللفظ وكان مخصوصا بدليل فهو على العموم فيما بقي تحته مما عدا المخصوص. ويقال إنه عام على المجاز ، لأنه منقول عما بني له من الاستيعاب إلى ما دونه من المخصوص.

وحقيقة المجاز هي وضع اللفظ على غير ما بني له في اللسان، فلذلك قلنا إنه مجاز .

وإذا ورد لفظان عامان، كل منهما يرفع حكم صاحبه ، ولم يعرف المتقدم منهما من المتأخر ، فيقال إن أحدهما منسوخ والآخر ناسخ ، وجب فيها الوقف ، ولم يجز القضاء بأحدهما على الآخر إلا أن يحضر دليل.

وذلك كقوله سبحانه :

« وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ » البقرة : 240.

وهذا عموم في جميع الأزواج المختلفات بعد الوفاة .

وقوله: « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا » (1) البقرة : 234 .

وهذا أيضا عام، وحكمهما متنافیان ، فلولا أن العلم قد أحاط بتقديم إحداهما فوجب القضاء بالمتأخرة الثانية منهما ، لكان الصواب هو الوقف دون الحكم بشيء منهما .

وكذلك إذا ورد حكمان في قضية واحدة ، أحدهما خاص والآخر عام ، ولم

ص: 21


1-

يعرف المتقدم من المتأخر منهما ، ولم يتمكن الجمع بينهما ، وجب التوقف فيهما ، مثل ما روي عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« لا نکاح إلا بولي »

والرواية عنه من قوله :

« ليس للولي مع البنت أمر »

وهذا يخص الأول، وفي الإمكان أن يقضى عليه في الأول في كل واحد منهما يجوز أن يكون الناسخ للآخر، فيعدلنا عنهما جميعا ، لعدم الدلالة على القاضي منهما ، وصرنا إلى ظاهر قوله عز وجل :

« فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ » النساء:3

وقوله : وأنكحوا الايامي منكم » في إباحة النكاح بغير اشتراطر ولي على الإطلاق.

[ الخاص والعام ]

وإذا ورد لفظ في حكم وكان معه لفظ خاص في ذلك الحكم بعينه ، وجب القضاء بالخاص ، وهذا مثل الأول، ومثاله قول الله عز وجل :

«وَ الَّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاَّ عَلي أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَکَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومينَ » المؤمنون: 5 و 6.

وهذا عام في ارتفاع اللوم على وطء الأزواج على كل حال، والخصوص قوله سبحانه :

« وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ » البقرة : 222

فلو قضينا بعموم الآية ارتفع حكم آية المحيض بأسره. وإذا قضينا بما في الثانية من الخصوص لم يرتفع حكم الأولى العام من كل الوجوه، فوجب القضاء بآية التخصيص منها ليصح العمل على ما بيناه بهما.

ص: 22

وإذا سبق التخصيص اللفظ العام أو ورد مقارنا له، فلا يجوز القول بأنه ناسخ لحكمه ، لأن العموم لم يثبت فيستقر له حكم، وإنما خرج إلى الوجود مخصوصا فأوجبه في حكم الخصوص.

والنسخ إنما هو رفع موجود لو ترك لأوجب حكما في المستقبل.

والذي يخص اللفظ العام لا يخرج منه شيئا دخل تحته ، وإنما يدل الدليل على أن التجوز لم يرد من [معنى] ما بني له الاسم ، وإنما أراد غيره، وقصد إلى وضعه على ما بني له في الأصل.

وليس يخص العموم إلا دليل العقل والقرآن والسنة الثابتة .

فأما القياس والرأي فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما ، ولا يخصان عاما ، ولا يعمان خاصا ، ولا يدلان على حقيقة.

ولا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد، لأنه لا يوجب علما ولا عملا، وإنما يخصه من الأخبار ما [قطع] العذر لصحته عن النبي (صلی الله علیه واله) وعن أحد الأئمة ( عليه السلام ).

وليس يصح في النظر دعوى العموم بذكر الفعل ، وإنما يصح ذلك في الكلام المبني والصور منه المخصوصة. فمن تعلق بعموم الفعل فقد خالف العقول ، وذلك أنه إذا روي أن النبي (صلی الله علیه واله) أحرم لم يجب الحكم بذلك على أنه أحرم بكل نوع من أنواع الحج من إفراد وقران وتمتع، وإنما يصح الإحرام بنوع منها واحد.

وإذا ثبت عنه عليه السلام أنه قال : لا ينكح المحرم، وجب عموم حظر النكاح على جميع المحرمين مع إختلافهم فيما أحرموا به من إفراد و قران وتمتع ، أو عمرة منقولة .

وفحوى الخطاب هو ما فهم منه المعنى وإن لم يكن نصا صريحا فيه بمعقول عادة أهل اللسان في ذلك ، كقوله عز وجل :

« فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا » الإسراء : 23

فقد فهم من هذه الجملة ما تضمنته نصا صريحا ، وما دل عليه بعرف أهل

ص: 23

اللسان من الزجر عن الاستخفاف بالوالدين الزائد على قول القائل لها (أف)، وما تعاظم عن انتهارهما من القول وما أشبه ذلك من الفعل ، وإن لم يكن النص تضمن ذلك على التفصيل والتصريح.

وكقولهم لأمر يخص لا تبخس فلانا من حقه حبة واحدة ، وما يدل ذلك عليه بحسب العرف بينهم والعادة من النهي عن جميع البخس الزائد على الحبة ، والأمثلة في ذلك كثيرة.

فأما دليل الخطاب فهو أن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى في الذكر ، دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الإسم بخلاف ذلك الحكم إلا أن يقوم دليل على وفاقه فيه ، كقول: النبي (صلی الله علیه واله):

« في سائمة الأبل زكاة »

فتخصیصه السائمة بالزكاة دليل على أن العاملة ليس فيها زكاة .

ويجوز تأخیر بیان المراد من القول إذا كان في ذلك لطف للعباد . وليس ذلك من المحال .

وقد أمر الله قوم موسى أن يذبحوا بقرة ، وكان مراده أن تكون على صفة مخصوصة ، ولم يقع البيان مع قوله: «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » ، بل تأخر عن ذلك ، وإنكشف لهم عند السؤال بحسب ما اقتضاه لهم الصلاح. وليس ينافي تأخير البيان ، القول بأن الأمر على الفور والبدار . وذلك إن تأخير البيان عن الأمر الوقت ، أو قرينة من برهان هو غير الأمر المطلق العري من القرائن ، الذي ظن أنه يقتضي الفور والبدار . ولا يجوز تأخیر بیان العموم، لأن العموم موجب بمجرده الاستیعاب، فمتى أطلقه الحكيم، ومراده التخصيص ولم يبين ذلك فقد أتي بألغاز ، وليس هذا كتأخیر بیان المجمل من الكلام ، وبينها فرق.

أسماء النكرة

والأسماء النكرة موضوعة في أصل اللغة للجنس دون التعيين، فإذا ورد

ص: 24

الأمر بفعل يتعلق بنكرة وجب إيقاعه على ما يستحق بمعناه سمة الجنس سوی ما زاد عليه.

فمن ذلك ما يفيد أقل ما يدخل تحت الجنس، كقول القائل لغيره : تصدق بدرهم، فامتثال هذا الأمر أن يتصدق بدرهم كائنا ما كان من الدراهم.

وليس النهي بالنكرة كالأمر بها ، لأن الأمر ههنا يقتضي التخصيص، والنهي يقتضي العموم.

ولو قال النبي (صلی الله علیه واله) لأحد أصحابه : لا تدخرن درهما ولا دينارا ، لاقتضى ذلك أن لا يدخر منهما عينا.

ولو قال له : تصدق بدرهم ودینار ، لأفاد ذلك أن يتصدق بهما ، ولا يلزمه أن يتجاوزها.

وليس القول بأن الأمر بالنكرة يقتضي أن يفعل أي واحد كان من الجنسين بمفسد ما تقدم من القول في تأخير البيان عن قوم موسي (علیه السلام) لما أمروا بذبح بقرة بلفظ التنكير، لأن حالهم يقتضي أن مع الأمر لهم بذبحها ، قد كانت لهم قرينة اقتضت التوقف والسؤال في سؤآلهم ذلك على ذلك.

ولو تعري الأمر من القرينة لكان مجرد وروده بالتنكير يقتضي الإمتثال في أي واحد من الجنسين.

ومن هذا الباب أن يرد الأمر بلفظ التثنية والتنكير كقوله : اعطر فلانا در همين ، فالواجب الامتثال في أي درهمن كانا على معنى ما تقدم من القول .

ومنه أن يرد الأمر بلفظ الجمع المنكر ، كقوله : تصدق بدراهم ، فليس يفيد ذلك أكثر من أقل العموم، وهو ثلاث، ما لم يقع التبيين.

في العموم وصیغه

واعلم أن العموم على ثلاثة أضرب، فضرب هو أصل الجمع المفيد لاثنين فما زاد ، وذلك لا يكون إلا فيما اختصت عبارة الاثنين به في العدد ، فهو عموم من حيث الجمع .

ص: 25

والضرب الثاني ما عبر عنه بلفظ الجمع المنكر ، كقولك : دراهم ودنانير . فذلك لا يصح في أقل من ثلاثة.

والضرب الثالث ما حصل فيه علامة الاستیعاب، من التعريف (بالألف واللام) و (بمن) الموضوعة للشرط والجزاء . فمتى قال لعبده: (عظم العلماء) فقد وجب عليه تعظيم جميعهم. وإذا قال: (من دخل داري أكرمته)، وجب عليه إكرام جميع الداخلين داره.

والأسماء الظاهرة ما استغنت في حقائقها عن مقدمة لها.

والكنية ما لم يصح الابتداء بها . وحكم الكناية العموم و الخصوص حكم ماتقدمها.

والعطف والاستثناء إذا أعقب جملا فهو راجع إلى جميعها ، إلا أن يكون هناك دليل يقصرها على شيء منها .

وما ورد عن الله سبحانه ، وعن رسول الله (صلی الله علیه واله) وعن الأئمة الراشدين (علیه السلام) من بعده ، على سبب أو كان جوابا عن سؤال ، فإنه يكون محكوما له بصورة لفظه ، دون القصر له على السبب المخرج له عن حكم ظاهره . (1)

وليس وروده على الأسباب بمناف لحمله على حقيقته في الخطاب في عقل أو

عرف ولا لسان.

وإنما يجب صرفه عن ظاهره لقيام دلالة تمنع من ذلك من التضاد .

في الحقيقة والمجاز

والحقائق والمجازات إنما هي في الألفاظ والعبارات، دون المعاني المطلوبات. والحقيقة من الكلام ما يطابق المعنى الموضوع له في أصل اللسان .

ص: 26


1- هذا ما يعبر عنه في المصطلح الأصولي اليوم بقاعدة (المورد لا يخصص الوارد).

والمجاز منه ما عبر به من غير معناه في الأصل، تشبيها واستعارة لغرض من

الأغراض، وعلى وجه الإيجاز والاختصار .

ووصف الكلام بالظاهر وتعلق الحكم به ، إنما يقصد به إلى الحقيقة منه . والحكم بالإستعارة فيه إنما يراد به المجاز.

وكذلك القول في التأويل والباطن، إنما يقصد به إلى العبارة عن مجاز القول واستعارته حسبما ذكرناه.

والحكم على الكلام بأنه حقيقة أو مجاز لا يجوز إلا بدليل يوجب اليقين ،ولا يسلك فيه طريق الظنون.

والعلم بذلك من وجهين: أحدهما الإجماع من أهل اللسان ، والآخر الدليل المثمر للبيان.

فأما إطلاق بعض أهل اللغة أو بعض أهل الإسلام ممن ليس بحجة في المقال

والفعال فإنه لا يعتمد في إثبات حقيقة الكلام.

فمتى التبس اللفظ فلم يقم دليل على حقيقة فيه أو مجاز ، وجب الوقف لعدم البرهان.

وليس بمصيب من ادعى أن جميع القرآن على المجاز. وظاهر اللغة يكذبه ، ودلائل العقول والعادات تشهد بأن جمهوره على حقيقة كلام أهل اللسان.

ولا بمصيب أيضا من زعم أنه لا يدخله المجاز . وقد خصمه في ذلك قوله سبحانه :

« فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ... » الكهف: 77.

وغيره من الآيات. والواجب أن يقال إن منه حقيقة ، ومنه مجاز .

الحظر والإباحة :

فأما القول في الحظر والاباحة فهو أن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما

ص: 27

يجوز ورود السمع فيها بإباحته ، ولا بحظر ما يجوز وروده فيها بحظره، ولكن العقل لم ينفك قطر من السمع بإباحته وحظره.

ولو [ألزم] (1) الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرهم إلى موافقة ما يقبح في عقولهم من استباحة ما لا سبيل لهم الى العلم بابا حته من حظره، وإلجائهم إلى الحيرة التي لا تليق بحكمته.

القياس والرأي :

وليس عندنا للقياس والرأي مجال في استخراج الأحكام الشرعية، ولا يعرف من جهتها شيء من الصواب ، ومن اعتمدهما في المشروعات فهو على الضلال.

النسخ:

والعقول تجوز نسخ الكتاب بالكتاب ، والسنة بالسنة ، والكتاب بالسنة ، والسنة بالكتاب. غير أن السمع ورد بأن الله تعالى لا ينسخ كلامه بغير كلامه ، بقوله:

« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » البقرة: 106.

فعلمنا أنه لا ينسخ الكتاب بالسنة، وأجزنا ما سوى ذلك.

الخبر

والحجة في الأخبار ما أوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحة مخبرها ونفي الشك فيه والارتياب.

ص: 28


1- في النسخة: (ولو احکی) فوضعنا مکانها (ألزم) لأنها أكثر انسجاما مع المراد .

وكل خبر لا يوصل بالاعتبار إلى صحة مخبره فليس بحجة في الدين ، ولا يلزم به عمل على حال.

والأخبار التي يجب العلم بالنظر فيها على ضربين:

أحدها التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك ، أو ما يقوم مقامه في الاتفاق.

والثاني خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام المتواتر في البرهان على صحة مخبره وارتفاع الباطل منه والفساد.

والتواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حد قد منعت العادة من اجتماعهم على الكذب بالاتفاق ، کما يتفق الاثنان أن يتواردا بالارجاف. وهذا حد يعرفه كل من عرفه العادات.

وقد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم ومخارج كلامهم ، وما يبدو في ظاهر وجوههم، ويبين من تصورهم أنهم لم يتواطئوا، ليتعذر التعارف بينهم والتشاور ، فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا على صدقهم ورافعا للاشكال في خبرهم، وإن لم يكونوا في الكثرة على ما قدمناه .

فأما خبر الواحد القاطع للعذر فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحة مخبره ، وربما كان الدليل حجة من عقل ، وربما كان شاهدا من عرف ، وربما كان إجماعا بغير خلف. فمتي خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها على صحة خبره فإنه كما قدمناه ليس بحجة ، ولا موجب علما ، ولا عملا على كل وجه.

الإجماع:

وليس في إجماع الأمة حجة من حيث كان إجماعا ، ولكن من حيث كان

ص: 29

فيها الإمام المعصوم. فإذا ثبت أنها كلها على قول فلا شبهة في أن ذلك القول قول المعصوم، إذ لو لم يكن كذلك كان الخبر عنها بأنها مجمعة باطلا ، فلا تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه.

الاستصحاب :

والحكم باستصحاب الحال واجب ، لأن حكم الحال ثبت باليقين ، وما ثبت فلن يجوز الانتقال عنه إلا بواضع الدليل .

اختلاف الأخبار:

والأخبار إذا اختلفت في الألفاظ فلن يصح حمل جميعها على الحقيقة من الكلام إذا أريد الجمع بينهما على الوفاق. وإنما يصح حمل بعضها على الحقيقة ، وبعضها على المجاز ، حتى لا يقدح ذلك في إسقاط بعضها على الحقيقة ، وبعضها على المجاز . فلا بد من صحة أحد البعضين وفساد الآخر ، أو فساد الجميع .

اللهم إلا أن يكون الاختلاف فيها يدل على النسخ الذي لا يكون إلا في أخبار النبي (صلی الله علیه واله) دون أخبار الأئمة (علیه السلام)؛ فإنهم ليس لهم تبدیل شيء من العبارات ، ولا نسخ.

وقد أثبت لك- أيدك الله - جمل ما سألت في إثباته ، وأوردته مجردا من حججه ودلالته ، ليكون تذكرة لك بالمعتقد كما ذكرت، ولم أتعد فيه مضمون کتاب شيخنا المفيد رحمه الله حسبما طلبت، والحمد لله على أهل الجود والأفضال ، وصلاته على سيدنا محمد رسوله المنقذ بهدايته منالضلال، وعلى آله الطاهرين أولي الرفعة والجلال.

ص: 30

فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام

من كلام رسول الله (صلی الله علیه واله):

استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا .

قوام المرء عقله ، ولا دين لمن لا عقل له.

سيد الأعمال في الدارين العقل.

لكل شيء دعامة ، ودعامة المؤمن عقله . فبقدر عقله تكون عبادته لربه .

اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محدثا ، ولا تكن الخامس فتهلك.

نضر الله امرءا سمع منا حديثا فأداه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع.

العلم أكثر من أن يحصي ، فخذ من كل شيء أحسنه.

إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته ، فإن كان خيرا فأسرع إليه ، وإن كان شرا فانته عنه.

صل من قطعك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، وقل الحق ولو على نفسك .

اعتبروا فقد خلت المثلات فيمن كان قبلكم.

كن لليتيم كالأب الرحيم.

واعلم أنك تزرع كل [ما] تحصد.

اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت.

من كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

عليكم بالدرايات لا بالروايات. همة السفهاء الرواية ، وهمة العلماء الدراية.

ص: 31

تزاوروا وتذاكروا الحديث ، إلا تفعلوا يدرس .

أشد الناس بلاء ، وأعظمهم عناء ، من بلي بلسان مطلق ، وقلب مطبق، فهو لا يحمد إن سكت ، ولا يحسن إن نطق.

إياكم وسقطات الاسترسال، فإنها لا تستقال.

تعز عن الشيء إذا منعته لقلته ، ما صحبك إذا أعطيته .

من لم يعرف لوم ظفر الأيام، لم يحترس من سطوات الدهر ، ولم يتحفظ من

فلتات الزلل، ولم يتعاظمه ذنب وإن عظم.

وسئل عن الحرص ما هو فقال :

هو طلب القليل بإضاعة الكثير .

وقال : العاقل يستريح في وحدته إلى عقله ، والجاهل يتوحش من نفسه ، لأن

صديق كل إنسان عقله ، وعدوه جهله .

العقول ذخائر ، والأعمال كنوز ، النفوس أشكال ، فما تشاكل منها اتفق ،والناس إلى أشكالهم أميل.

من كلام الحسين عليه السلام:

قوله يوما لابن عباس :

يا ابن عباس لا تكلمن فيما لا يعنيك فإنني أخاف عليك فيه الوزر، ولا تكلمن فيما يعنيك حتى ترى للكلام موضعا ، فرب متکلم قد تكلم بالحق فييب. ولا تمارين حليما ولا سفيها ، فإن الحليم يقليك ، والسفيه يرديك. ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا [مثل] ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه .

واعمل عمل رجل يعلم أنه مأخوذ بالاجرام ، مجزي بالاحسان، والسلام.

وبلغه عليه السلام کلام نافع بن جير في معاوية قوله : إنه كان يسكنه الحلم ،

وينطقه العلم ، فقال عليه السلام:

بل كان ينطقه البطر ، ويسكنه الحصر .

ص: 32

من کلام الإمام الصادق عليه السلام:

وعن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قوله:

الملوك حكام الناس، والعلماء حكام على الملوك .

وقوله:

أحسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله ، وانصحوا لأنفسكم، وجاهدوا في طلب ما لا عذر لكم في جهله ، فإن لدين الله أركانا لا ينفع من جهلها شدة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته ، ولا يضر من عرفها فدان به حسن اقتصار ، ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عز وجل (1) .

وقوله:

ما كل من نوى شيئا قدر عليه ، ولا كل من قدر على شيء وفق له، ولا كل من وفق له أصابه ، فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمت السعادة (2) .

وقوله في الحث على التوبة :

تأخير التوبة اغترار ، وطول التسويف حيرة ، والاعتلال على الله هلكة ، والإصرار على الذنب أمن به لمكر الله ، « فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ » (3) الأعراف: 99.

من كلام غير الأئمة عليهم السلام:

ومما ورد عن غير الأئمة عليهم السلام قول بعض علماء العرب:

العقل أمير ، والعلم نصير، والحلم وزیر .

ص: 33


1- رواه المفيد في الإرشاد ص 160.
2- رواه في المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه .

وقول بعض حکماء الهند:

العقل حاكم أمين ، والعلم له قرين ، والحلم له خدين .

وقول بعض حکماء الفرس:

العقل ملك الجوارح، والعلم له أخ صالح، والحلم له أليف ناصح .

وقول بعض حکماء الروم:

العقل مدبر آمر ، والعلم له معاضد ناصر ، والحلم منجد مؤازر .

في كتاب كليلة ودمنة:

من غلب عقله هواه نال مناه، وأعطي رضاه.

وفي كتاب بلوهر الهندي:

من اشتد في الدنيا زهده، استراح وطلع سعده .

وفي كتاب السير وسيف البدی (كذا):

من عرف نفسه لم يحقر جنسه .

في كتاب الرحمة لهرمس :

القناعة أمنع عز، والاستعانة بالله أحصن حرز .

وفي كتاب الأساس لبطلیموس:

العقل الأصل ، وقوام الأشياء بالفضل والعدل .

في كتاب الجواهر :

التواضع شرف، وقد استوجب الصفح من تاب واعترف.

في كتاب التجنيس لأرسطاطالیس :

الطبع أغلب ، والعادة أدرب.

في كتاب اللطف لأفلاطون :

نقل الطبع عسير الانتزاع.

ص: 34

في كتاب الأقسام لصبرة الفلكي :

العمر قصير ، وفي الدهر لأهله تبصير .

كتاب الاختيار لأبقراط :

التجارب إيضاح، وفيها إفادة وصلاح.

كتاب الابانة لعمرو بن بحر :

من خشع ارتفع، وعرف بما دنا منا سمع .

كتاب المعارف للكندي:

إدراك السداد بالجد والاجتهاد .

وروى الصولي عن بعضهم أنه قال:

لولا العقول المضيئة وخلائقها الرضية ، لما كان التفاضل بين الحيوان، ولما فرق بين البهيمة والانسان.

وقال إقلمون: من عدم التدبير يكون التدمير .

وقال آخر: من لم يقدم الامتحان قبل الثقة ، والثقة قبل الانس ، أثمرت مودته ندما.

قال بزرجمهر: إذا أنجز رجل وعده من معروفه ، أحرز مع فضيلة الجود شرف الصدق.

وقال بطلیموس: من قبل عطيتك فقد أعانك على البر والكرم.

قال أبقراطر: إذا أمكنك الرجل من أن تضع معروفك عنده ، فيده عندك مثل يدك عنده. وإذا [أصابه] من هم نزل به أو خوف تدفعه عنه فلم تبذل دمك دونه ، فقد قصرت بحسبك عنده. ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم إلا سوء ظنهم بالله لكان ذلك عظيما.

قال كسرى أنوشروان :

الملك بالدين يبقى ، والدين بالملك يقوى. شدة الغضب تغير المنطق ، وتقطع

مادة الحجة .

ص: 35

وقال أرسطاطالیس:

من اتخذ الصمت جنة وقي من شر ما تأتي به الألسن .

وقال: الكلام مملوك ما لم ينطق به صاحبه ، فإذا نطق به صاحبه خرج عن ملکه.

وقال أفليمون: غنيمة السكوت أكبر من غنيمة الكلام ، وندامة الكلام أكبر من ندامة السكوت.

وقال دونس: الصمت أنفع من الكلام في أكثر المواضع ، والكلام أنفع من الصمت في أقل المواضع .

وقال أفلاطون: ضبط اللسان ملك، وإطلاقه في غير موضعه هلك.

وقال: من علم أن كلامه يتصفح عليه فليتصفحه على نفسه قبل أن يتصفحه عليه غيره .

وقال آخر: البطنة تذهب بالفطنة ، وكثرة الصمت مفسدة المنطق .

وقال آخر : إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال ، ولكن اذكر من فوقك من العلاء .

أبو حنيفة مع الإمام الصادق:

فصل: ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام)، فلما رفع الصادق (علیه السلام) يده من أكله قال : الحمد لله رب العالمين ، اللهم هذا منك ومن رسولك (صلی الله علیه واله).

فقال أبو حنيفة : يا أبا عبد الله ، أجعلت مع الله شريكا ؟

فقال له : ويلك ، فإن الله تعالى يقول في كتابه:

« وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَن أغنَاهُمُ اللهِ وَرَسُولِهِ مِن فَضلِهِ » التوبة: 59.

ويقول في موضع آخر:

ص: 36

« وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ » النساء: 59.

فقال أبو حنيفة : والله ، لكأني ما قرأتها قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت.

فقال أبو عبد الله (علیه السلام): بلى ، قد قرأتهما وسمعتهما ، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك:

«أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا » محمد: 24.

وقال:

«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » المطففين : 14.

حديث الإمام الصادق:

أخبرني الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسين بن شاذان القمي رضي الله عنه، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن ابراهيم بن هاشم ، عن أبيه عن ابن أبي عمير ، عن جعفر بن البحتري ، قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول:

« بلية الناس عظيمة ، إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا »

فصل: من الاستدلال على أن الله تعالى ليس بجسم

اعلم أن الخلاف في هذه المسألة بيننا وبين المجسمة على قسمين: أحدها في

المعنى، والآخر في اللفظ .

فأما الكلام في المعنى فهو يختص بالذين يزعمون أنه جسم على صفات الأجسام، ويشابهها في بعض الصفات.

ص: 37

وأما الكلام في اللفظ فهو يختص بالذين يقولون أنه جسم لا كالأجسام، ولايشابهها بصفة من الصفات.

فأما الذي يدل على بطلان مقال الذين يزعمون أنه جسم لا كالأجسام، فهو أن الأجسام قد ثبت حدوثها ، فلو كان صانعها تعالی جسما ، أو مثلها لوجب أن يكون محدثا . ويبين ذلك أن حقيقة الجسم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا ، فلو كان صانع الأجسام جسما لكانت هذه حقيقته ، لأن الحقيقة لا تختلف . وسوي فيها الشاهد والغائب ، وحقيقة الجسم موجبة الأبعاد، ومعطية فيها المساحة والنهايات ، وأنه مجتمع من أبعاض ، مختص ببعض الجهات، وذلك شاهد فيه بحلول الأعراض ، لأن المجتمع لا غناء به عن الاجتماع، والكائن من جهة دون غيرها لا يعري من الأكوان. فهذه كلها دلائل الحدوث.

فلو كان صانع الأجسام على هذه الصفات أو على بعضها لكان محدثا ، ولو جاز كونه عليها وهو قديم ، لكانت الأجسام كلها قديمة . وفي ثبوت الأدلة على حدوث الأجسام وقدم محدثها دلالة واضحة على أنه ليس - بجسم سبحانه وتعالى -.

دلیل ثان :

وشيء آخر وهو أن صانع الأجسام واحد في الحقيقة حسبما شهدت به الأدلة ، فلو كان جسما لحرج عن كونه واحدا، لأن الجسم مجتمع من أبعاض وأجزاء .

دليل ثالث:

وشيء آخر وهو أنه لو كان جسما لوجب كونه قادرا بقدرة ، لبطلان کون الجسم قادرا لنفسه ، ولو كان كذلك لاستحال حدوث الأجسام منه ، إذ لا يصح من القادر بقدرة أن يفعل الجسم في محل قدرته، متداولا في غيره ، مسببا أو متولدا .

ص: 38

دلیل رابع:

وهو أنه لو كان جسما في الحقيقة صح منه فعل الأجسام ، لصح من كل جسم حي قادرا أن يفعل الأجسام، فلما علمنا یقینا استحالة فعل الأجسام للأجسام ، علمنا أن فاعل الأجسام ليس بجسم على كل حال ، فقد بان لك بطلان مقال الذين يزعمون أن الله تعالى جسم على صفة الأجسام وحقيقتها .

وكما علمت أنه لا يجوز أن يشبهها في جميع الصفات، فكذلك تعلم أنه لا يجوز مشابهته لها في بعضها ، لأن كل صفة من صفات الأجسام المختصة بها دالة على حدوثها ، فلو أشبهها في شيء منها دل ذلك الشيء على أنه محدث مثلها .

ومثل هذا يعلم أيضا أنه ليس بجوهر ، لأن الجوهر متحيز في جهة ، غير عار من الأعراض الدالة على [ حدوثه ] . (1)

فأما قولهم : إنا لم نر فاعلا للأجسام [غير جسم] ، فلما كان الله تعالى فاعلا ، وجب أن يكون جسما ، فقول فاسد ، لأن الفاعل لم يكن فاعلا لكونه جسما ، ولا كل صفة رأينا الفاعل في الشاهد عليها ، يجب أن يكون الفاعل في الغائب علي نظيرها.

ألا ترى أنا لم نر في الشاهد فاعلا إلا مؤلفا لحما ودما ، ناقصا محتاجا ، ولا يصح أن يكون الفاعل في الغائب هكذا .والإستدلال

بالشاهد على الغائب إنما هو بالحقائق دون ما سواها .

وليس حقيقة الفاعل أن يكون جسما . ولو كان كذلك لكان كل جسم فاعلا، وكل فاعل جسما .

كما أن الحركة لما كان حقيقتها أن تكون زوالا ، كان كل زوال حركة ، وكل حركة زوال. فهذا هو الأصل الثابت ، الذي يجب أن يتماثل فيه الشاهد والغائب. فيجب أن يتأمله ويعتمد عليه ، فالفائدة فيه كثيرة.

ص: 39


1- في النسخة (متحيز به)، ولا يظهر ما يعود الضمير عليه ، وفي النسخة : أيضا (غير عارض الأعراض) وفيها أيضا : (حدثه).

وأما الذي يدل على بطلان مقال الذين يدعون أن الله تعالى جسم لا کالأجسام فهو أن حقيقة الجسم قد ذكرناها ، فمتى قال القائل إنه جسم أوجب الحقيقة بعينها ، فإن قال : لا كالأجسام نفي ما أوجب ، فكان ناقض .

فإن قالوا: هذا لازم لكم في قولكم: إنه شيء لا كالأشياء؟

قيل لهم : ليس الأمر كما ذكرتم ، لأن قولنا شيء ، يستفاد منه الإثبات .والمثبتات مختلفات من أجسام وجواهر وأعراض، فإذا قلنا: شيء لا كالأشياء أثبتنا معلوما مخبرا عنه ، ونفينا المماثلة بينه وبين سائر المثبتات، ولم ننف حقيقة الشيء التي هي الإثبات. وقول الله تعالى : (ليس كمثله شيء ، يدل على ما ذكرنا.

وقولنا : (جسم لا كالأجسام) أثبتنا جسما، ثم نفیناه، وهذا هو التناقض الذي ذكرناه.

وأعلم، أن التسمية إنما يحسن إجراؤها على المسمى متى ثبت له معناها ، فإن لم يثبت ذلك لم يصح إجراؤها إلا على جهة التغليب ، وبطل أن يصح فيه معنى الجسم على التحقيق ، وفسد قول من زعم أنه جسم، ولم يصح أن يسميه بهذا الاسم.

وليس لأحد أن يسمي الله عز وجل بما لم يسم به نفسه ، ولم يثبت ذلك على

جواز تسميته به .(1)

فأما من زعم أنه جسم، لأنه قائم بنفسه، وأن هذا حد الجسم عنده وحقيقته ، فغير مصیب في قوله ، واللغة تشهد بخطئه ، وذلك ، أنا وجدنا أهل اللسان يقولون (هذا أجسم من هذا) إذا زاد عليه في طوله وعرضه وعمقه ، فلولا أن حقيقة الجسم عندهم هي أن يكون طويلا عريضا عميقا لم يكن الأمر كما ذكرناه .

فإن قال القائل : أليس قد اشتهر عن أحد متكلميکم، وهو هشام من

ص: 40


1- إذ يظهر الإتفاق على أن أسماء الله تعالى توقيفية ، فلا يصح إطلاق إسم عليه إذا لم يرد فيه نص.

الحكم (1) أنه كان يقول : أن معبوده جسم على صفة الأجسام ، فكيف خالفتموه في ذلك ، بل كيف لم تتبرأوا منه وهو على هذا المقال ؟؟

قلنا : أما هشام بن الحكم (2) رحمة الله عليه فقد اشتهر عنه الخبر بأنه كان ينصر التجسيم ويقول: أن الله تعالى جسم لا كالأجسام، ولم يصح عنه ما قرفوه به من القول بأنه مماثل لها.

ويدل على ذلك أنا رأينا خصومه يلزمونه على قوله ، بأن فاعل الأجسام جسم، أن يكون طويلا عريضا عميقا ، فلو كان يرى أنه مماثل للأجسام لم يكن معنی لهذا الإلزام.

فأما مخالفتنا لهذا المقام فهو اتباع لما ثبت من الحق واضح البرهان، وانصراف عنه .

وأما موالاتنا هشاما رحمه الله فهي لما شاع عنه واستفاض منه من ترکه للقول بالجسم الذي كان ينصره ورجوعه عنه، وإقراره بخطئه ، وتوبته منه . وذلك حين قصد الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، إلى المدينة ، فحجبه وقيل له: إنه إلى أن لا يوصلك إليه ما دمت قائلا بالجسم، فقال والله ما قلت به إلا لأني طننت أنه وفاق لقول إمامي، فأما إذا أنكره علي فإنني نائب إلى الله منه ، فأوصله الإمام (علیه السلام) إليه ، ودعا له بخير.

وحفظ عن الصادق (علیه السلام) أنه قال لهشام: إن الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلما وقع في الوهم فهو بخلافه . (3)

وروي عنه أيضا أنه قال:

سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو ، ليس كمثله بشيء ، وهو السميع البصير لا يحد ، ولا يجس، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحبط به شيء ، ولا هوجسم ولا صورة ولا بذي تخطيط ولا تحديد .(4)

ص: 41


1- وضعنا كتابا خاصا بإسم (هشام بن الحكم) أتينا فيه على حياة هشام وأرائه وأفكاره ، کما عرضنا له بالدراسة في كتابنا (فلاسفة الشيعة).
2- رواه المفيد في الإرشاد ص 259
3- رواه المفيد في الإرشاد ص 259
4- رواه الصدوق في كتاب التوحيد ص 85 باختلاف يسير .

أخبرني شيخي أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الواسطي رحمه الله ، قال :

أخبرني أبو محمد التلعكبري عن أبي جعفر الكليني عن محمد بن الحسن عن سهل ابن زياد عن حمزة بن محمد قال له : كتبت إلى أبي الحسن (علیه السلام) أسأله عن القول بالجسم والصورة؟

فكتب : سبحان من ليس كمثله شيء ، لا جسم ولا صورة (1).

أنشدني عمار بن محمد الطبراني رحمه الله لزينبا الرأس عيني : (2)

إن كان جسما فما ينفك من عرض *** أو جوهر فبذي الأقطار موجود

أو كان متصلا بالشيء فهو به *** أو كان منفصلا فالكل محدود

لا تطلبن إلى التكييف من سبب *** إن السبيل إلى التكييف مسدود

واستمسك الحبل حبل العقل تحظ به *** فالعقل حبل إلى باريك ممدود

نسخة كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

أما بعد فإن الهوى يضل من اتبعه ، والحرص يتعب الطالب المحروم، وأحمد العاقبتين ما هدى إلى سبيل الرشاد . ومن العجب العجيب ذام ومادح ، وزاهد وراغب ، ومتوكل وحريص. كلاما ضربته لك مثلا ، لتدبر حکمته بجميع الفهم، ومباينة الهوى ، ومناصحة النفس . فلعمري يا ابن أبي طالب ، لولا

ص: 42


1- المصدر السابق ص91
2- هو زینیبا بن إسحاق الرسعني (الرأس عيني) الموصلي النصراني نقل له في الغدير ج3 من 8 أربعة أبيات يعبر فيها عن حبه لأهل البيت (علیه السلام) ونقلها له عن جماعة منهم البيهقي في المحاسن ج11 ص106 والزمخشري في ربيع الأبرار. ومناقب آل أبي طالب ج3 ص275 وأولها : عدبي وتيم لا أحاول ذكرهم *** بسوء ولكني محب لهاشم

الرحم التي عطفتيني عليك، والسابقة التي سلفت لك، لقد كان اختطفتك بعض عقبان أهل الشام، فيصعد بك في الهواء ، ثم قذفك على دکادك شوامخ الأبصار ، فالفيت كسحيق الفهر على صن الصلابة ، لا يجد الذر فيك مرتعا . ولقد عزمت عزمة من لا يعطفه رقة الأنذار، إن لم تباين ما قربت به أملك ، وطال له طليك ، ولأوردنك موردا تستمر الندامة ، إن فسخ لك في الحياة . بل أظنك قبل ذلك من الهالكين ، وبئس الرأي رأي يورد أهله إلى المهالك، ويمنيهم العطب إلى حين لات مناص ، و قد قذف بالحق على الباطل ، وظهر أمر الله وهم كارهون، ولله الحجة البالغة والمنة الظاهرة، والسلام »

جواب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه

من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان:

أما بعد فقد أتانا كتابك بتنويق المقال، وضرب الأمثال، وانتحال الأعمال . تصف الحكمة ولست من أهلها ، وتذكر التقوى وأنت على ضدها ، قد اتبعت هواك فحاد بك عن طريق الحجة ، وألخج بك عن سواء السبيل ، فأنت تسحب أذيال لذات الفتن، وتحيط في زهرة الدنيا كأنك لست توقن بأوبة البعث، ولا برجعة المنقلب ، قد عقدت التاج، ولبست الخز وافترشت الديباج، سنة هرقلية ، وملكا فارسيا .

ثم لم يقنعك ذلك حتى يبلغني أنك تعقد الأمر من بعدك لغيرك ، فيهلك دونك فتحاسب دونه ، ولعمري لئن فعلت ذلك في ورثت الضلالة عن كلالة ، وإنك لابن من كان يبغي على أهل الدين ويجسد المسلمين.

وذكرت رحما عطفتك علي، فأقسم بالله الأعز الأجل أن لو نازعك هذا الأمر في حياتك من أنت تمهد له بعد وفاتك ، لقطعت حبله وأبنت أسبابه .

ص: 43

وأما تهديدك لي بالمشارب العربية، والموارد المهلكة ، فأنا عبد الله على بن أبي طالب ، أبرز إلي صفحتك. كلا ورب البيت ، ما أنت بأبي عذر عند القتال ، ولا عند مناطحة الأبطال. وكأني بك لو شهدت الحرب وقد قامت على ساق، وكشرت عن منظر کریه، والأرواح تختطف اختطاف البازي زغب القطا ، لصرت كالمولهة الحيرانة ، تضربها العبرة بالصدمة ، لا تعرف أعلى الوادي من أسفله. فدع عنك ما لست أهله. فإن وقع الحسام غير تشقيق الكلام. فكم عسكر قد شهدته ، وقرن نازلته ... اصطكاك قريش بين يدي رسول الله (صلی الله علیه واله)، إذ أنت وأبوك، وهو ...(1) تبع.

وأنت اليوم تهددني ، فأقسم بالله أن لو تبدي الأيام عن صفحتك لنشب فيك مخلب ليث هصور، لا يفوته فريسة بالمراوغة ، كيف وأني لك بذلك ، وأنت قعيدة بنت البكر المخدرة ، يفزعها صوت الرعد، وأنا علي بن أبي طالب الذي لا أهدد بالقتال، ولا أخوف بالنزال، فإن شئت يا معاوية فابرز والسلام.

فلما وصل هذا الجواب إلى معاوية بن أبي سفيان جمع جماعة من أصحابه ، ومنهم عمرو بن العاص، فقرأه عليهم ، فقال له عمرو قد أنصفك الرجل ، كم رجل أحسن في الله قد قتل بینکما، أبرز إليه.

فقال له : أبا عبد الله : أخطأت استك الحفرة، أنا أبرز إليه مع علمي أنه ما برز إليه أحد قط إلا وقتله ، لا والله ولكني سأبرزك إليه.

نسخة كتاب آخر

من معاوية بن أبي سفيان إلى أمير المؤمنين (علیه السلام).

أما بعد فإنا لو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض ، وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منها ما نرم به ما مضى، ونصلح ما بقى.

ص: 44


1- هنا كلمتان غير واضحتين .

وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك طاعة ، فأبيت ذلك علي ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ، ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف.

وقد والله رقت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن جميعا بنو عبد مناف، ليس لبعضنا فضل على بعض ، يستدل به عز، ولا يسترق به حر ، والسلام .(1)

جواب أمير المؤمنين (علیه السلام)

« من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية ابن أبي سفيان.

أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض ، وإنا وإياك نلتمس غاية لم نبلغها بعد.

وأما طلبك إلى الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس.

وأما استواؤنا في الخوف والرجاء ، فلست بأمضى على الشك مني على اليقين، ولا أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.

وأما قولك: أنا بنو عبد مناف ، فكذلك نحن، لكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر ، ولا المبطل کالمحق ، وفي أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز ، وبعنابها الحر ، والسلام . (2)

مسألة فقهية

وقائلة أوص الغداة فإنني *** أرى الموت قد حطت لديك ركائبه

ص: 45


1- تجد هذا الكتاب في المحاسن والمساوى ج (1) ص 81 - 83. ووقعة صفينص470 - 471.
2- تجد هذا الكتاب مرويا في الأخبار الطوال للدينوري، والمحاسن والمساوى للبيهقي ، والمروج الذهب للمسعودي. والإمامة والسياسة لابن قتيبة ، وكتاب صفين لابن مزاحم وغيرها أنظر : کتابنا: (مصادر نهج البلاغة ص233).

فقلت وقد راع الفؤاد مقالها *** وضاقت به خوف الحمام مذاهبه

لك الثمن إن حلت وفاتي فريضة *** وسائر ما يبقى فصنوك صاحبه

جوابها

تفهم فإن الفهم أكرم ملبس *** لمن شرفت أخلاقه ومذاهبه

حلیلة هذا، أمها زوجة ابنه *** كذا لكم الألغاز جم عجائبه

فابن ابنه صنو لزوجته ومن *** عزي بغريب العلم تعلو مراتبه

فميراثها ثمن وللصنو ما بقي *** كذلك يقضي من توالت مناقبه

تفسير:

هذا رجل تزوج وزوج ابنه من أمها فولدت أم امرأته من ابنه ابنة، ثم مات ابن الرجل ، وليس له ممن يرثه إذا مات غير زوجته وأخيها من أمها الذي هوا ابن أبيه الميت. وقد تقدم ذكر هذه المسألة على غير هذا الباب في الجزء الأول.

مسألة أخرى منظومة :

قد تقدم ذكرها نثرا

بابن دعيت صنو أخي فعمي *** يقول إذا رآني جاء عمي

ولا فينا بحمد الله أنثى *** ولا ذكر تدرع ثوب إثم

ولا فينا مجوسي جهول *** يحلل لابن أم وطء أم

فبين عن مسائلنا امتنانا *** فأنت إمامنا في كل علم

الجواب

ألا يا سائلا أضحى يعمي *** على المفراض خذ عني بفهم

ص: 46

أخوك لأمك الصنو المداني *** لأم أبيك زوج غير وهم

فابن أخيك منها غير شك *** أخ لأبيك تدعوه لام

فذاك إذا رآك يقول عمي *** وأنت إذا أتاك تقول عمي

تفسير

هذان رجلان قال أحدهما للآخر يا عمي أنا عمك. والسبب في ذلك هو الوجه الذي عملت عليه هذه الأبيات، أن أخاه لأمه تزوج جدته أم أبيه ، فجاءت بابن ، فهو عم الابن لامه ، والابن عمه لأمه.

وجواب ثان فيها

وهو إن رجلين تزوج كل واحد منهما أم الآخر فجاءت كل واحدة منهما بابن ، فكل واحد من الابنين عم الآخر.

حديث

حدثني الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي ، قال : حدثنا الفقيه محمد بن علي بن بابویه، رحمه الله، قال: أخبرني أبي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال حدثني أيوب بن نوح، قال: حدثني الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

« خمسة لا تطفى نيرانهم، ولا تموت أبدانهم: رجل أشرك ، ورجل عق والديه ، ورجل سعي بأخيه إلى السلطان فقتله ، ورجل قتل نفسا بغير نفس ، ورجل أذنب وحمل ذنبه على الله عز وجل .» (1)

ص: 47


1- هذا الحديث صحيح ورجال سنده كلهم موثوقون.

منام

*منام(1) :

ذكر أن شيخنا المفيد رحمه الله أبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه رآه وأملاه على أصحابه بلغنا أن شيخنا الفيد رحمه الله قال: رأيت في النوم كأني قد اجتزت في بعض الطرق، فرأيت حلقة دائرة ، فيها ناس كثير ، فقلت : ما هذا؟ قيل لي: هذه حلقة ، فيها رجل يقص ، فقلت : من هو؟ فقالوا : عمر بن الخطاب . فتقدمت ففرقت الناس ودخلت الحلقة ، فإذا برجل يتكلم على الناس بشيء لم أحصله ، فقطعت عليه ، فقلت: أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على ما يدعي من فضل صاحبك عتیق ابن أبي قحافة ، من قول الله تعالى : ثاني اثنين إذهما في الغار؟

فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع .

أولها : أن الله تعالى ذكر نبيه (صلی الله علیه واله) وذكر أبا بكر معه ، فجعله ثانیه ، فقال: (ثاني اثنين).

الثاني : أنه وصفهما بالإجتماع في مكان واحد ، تألیفا بينهما ، فقال : (إذ هما في الغار).

الثالث: أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، ليجمع بينهما فيما يقتضي الرتبة ، فقال : (إذ يقول لصاحبه).

الرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي عليه ورفقه به ، لموضعه عنده فقال: (لا تحزن).

الخامس: إعلامه ، إنه أخبره أن الله تعالى معهما على حد سواء ، ناصرا لهما، ودافعا عنهما، فقال: (إن الله معنا).

السادس : إنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر ، لأن الرسول (صلی الله علیه واله) لم تفارقه السكينة قطر، فقال: (فأنزل سكينته عليه).

ص: 48


1- عرض المفيد لشطر منه في كتاب الإفصاح ص 114- 118 وهذا الحجاج مأخوذ من هشام بن الحكم، وأيضا في الفصول المختارة ج1 ص19- 24

فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار لا يمكنك ولا غيرك الظفر فيها .

قال : المفيد رحمه الله فقلت له : قد حررت كلامك واستقصيت البيان فبه ، وأتيت بما لا يقدر أحد من الخلق أن يزيد في الاحتجاج لصاحبك عليه ، غير أني بعون الله وتوفيقه سأجمل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.

أما قولك إن الله تعالى ذكر النبي (صلی الله علیه واله) وجعل أبا بكر ثانیه ، فليس في ذلك فضيلة ، لأنه إخبار عن عدد ، ولعمري إنهما كانا اثنين ، ونحن نعلم ضرورة أن مؤمنا وكافرا اثنان، كما نعلم أن مؤمنا ومؤمنا اثنان، فليس لك في ذكر العدد طائل تعتمده.

وأما قولك أنه ، وصفها بالاجتماع في المكان فإنه کالأول ، لأن المكان يجتمع فيه المؤمنون والكفار ، كما يجتمع العدد للمؤمنين والكفار . وأيضا فإن مسجد النبي (صلی الله علیه واله) أشرف من الغار وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك قوله تعالى (فما للذين كفروا قبلك مهطعين ، عن اليمين وعن الشمال عزین). المعارج: 19 - 20.

وأيضا فإن سفينة نوح (علیه السلام) قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة ، فبان لك أن الإجتماع في المكان لا يدل على ما ادعيت من الفضل، فبطل فضلان.

وأما قولك إنه أضافه إليه بذكر الصحبة فإنه أضعف من الفضلين الأولين ، لأن الصحبة أيضا تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل :

« قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ». الكهف : 37.

وأيضا فإن اسم الصحبة تكون من العاقل والبهيمة ، والدليل على ذلك من كلام العرب إنهم جعلوا الحمار صاحبا فقالوا:

ص: 49

إن الحمار مع الحمار مطية *** فإذا خلوت به فبئس الصاحب (1)

وقد سموا الجهاد مع الحي أيضا صاحبا قال الشاعر :

زرت هندا وذاك بعد اجتناب *** ومعي صاح كتوم اللسان

يعني السيف. فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل والبهيمة ، وبين الحيوان والجهاد فلا حجة لصاحبك فيها .

وأما قولك إنه قال له : (لا تحزن) فإن ذلك وبال عليه ، ومنقصة له ، ودليل على خطئه، لأن قوله (لا تحزن) نهي ، وصورة النهي قول القائل : لا تفعل ، فلا يخلو الحزن الواقع من أبي بكر من أن يكون طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فالنبي لا ينهي عن الطاعات ، بل يأمر بها ويدعو إليها . وإن كان معصية فقد صح وقوعها فيه ، وتوجه النهي إليه عنها ، وشهدت الآيات به ، ولم يرد دليل على امتثاله للنهي وانزجاره . (2)

وأما قولك إنه قال: (إن الله معنا) فإن النبي (صلی الله علیه واله) أعلمه أن الله معه خاصة ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع ، فقال : « إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون ».

وقد قيل : إن أبا بكر قال: يا رسول الله ، إن حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه ، فقال له النبي (صلی الله علیه واله) (إن الله معنا) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب.

وأما قولك إن السكينة نزلت على أبي بكر ، فإنه کفر ، لأن الذي نزلت

ص: 50


1- قائل هذا البيت هو أمية بن أبي الصلت.
2- أقول: ليس بالضرورة أن يكون حزنه طاعة أو معصية ، بل يجوز أن يكون مباحا ككثير من الانفعالات الشخصية ، كما أنه لا ينحصر أن يكون في قوله لا تحزن للتحريم ، إذ يجوز هنا أن يكون للإرشاد أو للاشفاق الذي لا يستتبع معصية كما هو واضح .

السكينة عليه هو الذي أيده الله تعالى بجنوده. كذا يشهد ظاهر القرآن في قوله : «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا » التوبة: 40.

فلو كان أبو بكر هو صاحب السكينة لكان هو صاحب الجنود . وفي هذا إخراج النبي (صلی الله علیه واله) من النبوة.

على أن هذا الموضع لو كتمته على صاحبك لكان خيرا له . لأن الله تعالى أنزل السكينة على النبي في موضعين ، وكان معه قوم مؤمنون ، فشركوه فيها . فقال في أحدهما : «أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا» التوبة : 26.

وقال في الموضع الآخر: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ» الفتح: 26.

ولما كان في الغار خصه وحده بالسكينة ، وقال : ( فأنزل الله سكينته عليه)،.

قال: الشيخ المفيد رحمه الله فلم يحر عمر بن الخطاب جوابا ، وتفرق الناس

واستيقظت.

فصل من السؤال يتعلق بهذا المقام

فإن قيل : إذا كان ما تضمنه هذا المقام صحيحا عندكم في الإحتجاج، وحزن أبي بكر معصية بدلیل توجه النهي له عند حسبما شهد به القرآن، فقد نهى الله تعالى نبيه عليه آله السلام عن مثل ذلك ، فقال : «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» النحل : 127

ونهي أم موسی (علیه السلام) عن الحزن أيضا ، فقال : «وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي» القصص:7

فهل كان ذلك لأن نبيه (صلی الله علیه واله) عصي في حزنه فنهاه ، وكذلك أم موسی (علیه السلام)؟ أم تقولون: إن بين ما ذكرناه وبين حزن أبي بكر في الغار فرقا ، فأذكروه ليحصل به البيان.

الجواب

قيل له : قد أجاب شیخنا المفيد رضي الله عنه عن هذه المسألة بما أوضح به

ص: 51

الفرق وأزاح العلة، ونحن نورد مختصرا من القول فيها ، يكون فيه بيان وكفاية ، فنقول:

إن المعارضة بحزن النبي (صلی الله علیه واله) ساقطة، لأنه عندنا معصوم من الزلات، مأمون من جميع المعاصي والخطئيات، فوجب أن يحمل قول الله تعالى: (ولا تحزن عليهم) على أجمل الوجوه والأقسام، وأحسن المعاني في الكلام ، من تخفيف الهم عنه وتسهيل صعوبة الأمر عليه ، رفقا به وإكراما وإجلالا وإعظاما له .

ولم يكن أبو بكر عندنا وعند خصومنا معصوما ، فيؤمن منه وقوع الخطأ ، وذلك أنه مع رسول الله (صلی الله علیه واله) وفي حوزته ، بحيث اختار الله تعالی ستر نبیه ، وحفظ مهجته.

هذا وقد كان (علیه السلام) يخبر من أسلم على يده بأن الله سينصره على عدوه ومعانده ، وأنه وعده إعلاء كلمته، وإظهار شريعته. وهذا يوجب الثقة بالسلامة وعدم الحزن والمخافة.

ثم ما ظهر له من الآيات الموجبة لسكون النفس وإزالة الخافة من نسج العنكبوت على باب الغار ، وتبيض الطائر هناك في الحال. وقول النبي (صلی الله علیه واله) لما رأى (...) حزنه ، وكثرة هلعه وجزعه ، إن دخلوا من ههنا وأشار إلى جانب الغار، فانخرق وظهر له البحر وببعض هذا يأنس المستوحش، وبنظره يطمئن الخائف، فلم يسكن أبو بكر إلى شيء من ذلك ، وظهر منه الحزن والقلق، (...) ولا شبهة بعد هذا البيان تعترض في قبح حزنه.

وأما حزن أم موسی (علیه السلام) فمفارق أيضا لحزنه ، لأن أحدا لا يشك في أن خوفها وحزنها إنما كان شفقة منها على ولدها لما أمرت بإلقائه في البيع. ويجوز أن يكون لم تعلم في الحال بأنه سيسلم ويعود إليها على أفضل ما تؤمل ، فلحقها ما يلحق الوالدة على ولدها من الخوف والحزن لمفارقته ، فلما قال لها : (لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)، إطمأنت عند ذلك وسكنت تصديقا للقول، وثقة بالوعد.

ص: 52

وأبو بكر قد سمع مثل ما سمعت ، ورأى أكثر مما رأت ، ولم يثق قلبه ، ولا

سكنت نفسه. فوضح الفرق بين حزنها وحزنه.

على أن ظاهر الآية تشهد بأن الله تعالى أمر أم موسی (علیه السلام) أن تلقي ولدها في اليم وسكن قلبها عقيب الأمر في قوله سبحانه :

« وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ » القصص:7

فالخوف والحزن اللذان ورد ظاهر النهي عنهما يصح أن لا يكون وقعا منها ، لأن تسكين النفس بالسلامة إشارة بحسن العاقبة ، عقيب الأمر بالإلقاء يؤمن من وقوع الهم والحزن جميعا.

وأما حزن أبي بكر فقد وقع وأجمعت الأمة على أنه حزن ، وليس من فعل كمن لم يفعل ، فلا نقض بهما من كل وجه.

مبيت علي (علیه السلام) في فراش رسول الله (صلی الله علیه واله) ليلة الهجرة

اعلم أن الذي فدى رسول الله (صلی الله علیه واله) بنفسه ، وجاد دونه بمهجته، وفعل ما لا يسمح أحد بفعله ، مما تعجبت منه ملائكة الله في سمائه ، هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وذلك أن رسول الله (صلی الله علیه واله) لما تعاقد المشركون على مبايتته ، وأجمعوا على قتله ، أمره الله سبحانه بالخروج من ليلته ، لم ير أحد أسرع إلى طاعته ، وأصبر على الشدائد في مرضاته من أمير المؤمنين (علیه السلام)، فدعاه إليه وأعلمه الخبر الذي وقف بالوحي عليه ، وأن القوم قد اجمعوا أمرهم على أن يهجموا عليه في حجرته ، ويقتلوه على فراشه ، وأن الله سبحانه أمره بالخروج إلى يثرب، وقال له: يا علي ، إذا صليت العشاء الآخرة، فاضطجع على فراشي ، وتلف ببردتي ، ليظن المشركون إذا رأوك أني لم أخرج، فلا يجدون في طلبي ، فأقامه مقاما مهولا ، وكلفه تکلیفا عظيما ، لم يصبر على مثله إلا إسماعيل (علیه السلام) لما قال له أبوه الخليل (صلی الله علیه واله):

ص: 53

«يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ».

وقول إسماعيل له: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرينَ» الصافات: 102)

بل حال أمير المؤمنين (علیه السلام) أعظم ، وتكليفه أشق وأصعب، لأن اسماعیل أسلم لهلاك يناله بيد أبيه ، وأمير المؤمنين (علیه السلام) أسلم لهلاك يناله بيد أعدائه ، فأجابه صلى الله عليهما إلى مراده، وسارع إلى إيثاره، بنفس طيبة ونية صادقة ، واضطجع على فراشه ، ولا يشك إلا أنه مقتول في ليلته ، قد فداه بنفسه ، وجاد دونه بمهجته ، وفي مبيته على الفراش أنزل الله تعالى على نبيه : (1)

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ » (البقرة: 207).

فأين هذا من حزن أبي بكر وفرقه وخوفه وقلقه، وتوجه النهي إليه ، وتعريه من السكينة التي خص الله سبحانه بها رسول الله (صلی الله علیه واله).

أترى لو قيل له ، وهو على ما يدعي له من صحة العقيدة في الإسلام: أتحب لو كنت البائت على فراش رسول الله (صلی الله علیه واله)، والواقي له بنفسه، والذي أنزل فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) ولم تكن حزنت في الغار ، ووتوجه إليك النهي من النبي (صلی الله علیه واله) حتى نزلت السكينة عليه دونك ، لم يشرك فيها بينك (وبينه)، أكان يقول: لا حاجة بي إلى فضيلة الفراش، أم يقول: بودي ذلك.

ولسنا نشك إنه لو قيل لأمير المؤمنین (علیه السلام): أتحب لو كنت بدلا من نومك على فراش رسول الله (صلی الله علیه واله) و حصول فضيلته لك ونزول القرآن بمدحك ، بمكان

ص: 54


1- وهو المروي عن السدي عن ابن عباس أنظر : مجمع البيان ما ص301. وفي الجزء الثاني من دلائل الصدق للشيخ المظفر : إن الذين نقلوا نزول هذه الآية بعلي ، هم الرازي والثعلبي وصاحب ينابيع المودة وأبو السعادات في فضائل العترة الطاهرة ، والغزالي في الأحياء، والحاكم في المستدرك ، وأحمد بن حنبل في المسند أنظر : التفسير الكاشف م1 ص311.

أبي بكر في الغار، وقد وقع الحزن منك، وتوجه النهي إليك ونزلت السكينة على رسول الله (صلی الله علیه واله) دونك ، وفاز بفضيلة المواساة بالنوم على الفراش غيرك ، لقال: أعوذ بالله من ذلك ، والفرق بين الحالين مرئي للعميان . (1)

أحاديث

وقد روى الثقات عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، أنه قال: لما بات على (علیه السلام) على الفراش أوحى الله تعالى إلى ملكين من ملائكته لم يكن في الملائكة أشد ائتلافا ومؤاخاة منهما ، فقال : إني مميت أحدكما فاختارا . قال : فتدافعا الموت بينهما، وآثر كل واحد منهما البقاء ، فأوحى الله تعالى إليهما : أين انتما عن عبدي ، هذا الراضي بالموت ، البائت على فراش ابن عمه، يقيه الردی بنفسه ، أما إني قد علمت من سريرته أن تلف نفسه أحب إليه من أن تؤخذ شعرة من شعر ابن عمه ، إنزلا إليه فأحفظاه واكلآه إلى الصبح، فلم تزل عين المشركين تلحظه ، والملائكة الكرام تحفظه إلى أن كان وقت الصبح، وهجم المشركون عليه للقتل. فألقى الله تعالى في قلوبهم ، لما أراده من حياته ، أن يوقظوه من نومه، فقالوا: ننبهه ليرى أنا ظفرنا به قبل قتله ، فلما فعلوا ذلك ، وثب إليهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وفي يده سيفه ، فتولوا عنه هاربين ، فقال لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) دخلتم وأنا نائم ، فادخلوا وأنا منتبه ، فقالوا: لا حاجة لنا فيك يا ابن أبي طالب .(2)

فصل : من روایات ابن شاذان رحمه الله

حدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان

رضي الله عنه مكة في المسجد الحرام.

ص: 55


1- هذه الذي ذكره المؤلف رحمه الله هنا أخذه من الطبري الأمامي في كتابه المسترشد ص52 - 53 .
2- هذا مروي باختصار في أسد الغابة ج4 ص25 أنظر : فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج2 ص 310.

قال: حدثني محمد بن سعيد المعروف بالدهقان ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعید ، قال : حدثنا محمد بن منصور ، قال: حدثنا أحمد بن عيسى العلوي ، قال : حدثنا حسين بن علوان عن أبي خلد ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده

الحسين بن علي ، عن أمير المؤمنين علي عليهم السلام.

« قال: دخلت على النبي (صلی الله علیه واله)، وهو في بعض حجراته ، فاستأذنت عليه فإذن لي ، فلما دخلت قال لي.

« يا علي ، أما علمت أن بيتي بيتک؟ فما لك تستأذن علي ؟ فقلت : يا رسول الله أحببت أن أفعل ذلك ، قال يا علي ، أحببت ما أحب الله ، وأخذت بآداب الله ، فقال : يا علي أما علمت أنك أخي ، أما أنه أبي خالقي ورازقي في أن يكون لي سر دونك . يا علي أنت وصبي من بعدي ، وأنت المظلوم المضطهد بعدي ، يا علي ، الثابت عليك كالمقيم معي ، ومفارقك مفارقي ، يا علي ، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك ، لأن الله تعالى خلقني وإياك من نور واحد.»

وحدثنا الشيخ أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان ، قال :

حدثني أحمد بن محمد بن محمد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن جعفر ، قال حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا زياد بن المنذر ، قال: حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء بعدي أفضل من علي بن أبي طالب ، وإنه إمام أمتي وأميرها ، وإنه لوصي وخليفتي عليها ، من أقتدي به بعدي اهتدى، ومن اهتدى بغيره ضل وغوى ، إني أنا النبي المصطفی ، ما أنطق بفضل علي بن أبي طالب عن الهوى ، إن هو إلا وحي بوحي ، نزل به الروح المجتبى عن الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ».

وحدثنا الشيخ أبو الحسن بن شاذان قال: حدثنا محمد بن محمد بن مرة رحمه الله ، قال حدثنا الحسن بن علي العاصمي ، قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا جعفر بن سلمان الضبعي ، قال : حدثنا سور بن طريف

ص: 56

عن الأصبغ ، قال : سئل سلمان الفارسي رحمه الله عن علي بن أبي طالب ، قال : « سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول « عليكم بعلي بن أبي طالب ، فإنه مولا کم، فأحبوه، وكبير كم فاتبعوه، وعالمكم فأكرموه، وقائد كم إلى الجنة فعزروه، وإذا دعاكم فأجيبوه، وإذا أمر كم فأطيعوه، وأحبوه لحبي، وأكرموه لكرامتي، ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي ».

مسألة:

سألني رجل من أهل الخلاف فقال: إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، وتناظرون على ذلك ، وترددون هذا الكلام، وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم، ويناقض معتقدكم ، ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما، ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه ، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال ، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام ؟ فإن زعمتم أن لأبي بكر وعمر وعثان قسطا من الفضل يشملهم به ، يصح به القول أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضلهم ، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم، وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمين (علیه السلام) أفضل منهم.

الجواب:

فقلت له : ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.

والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام. وذلك: أن التفضيل ، وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الآخر فيه. فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص بالفضل أحدهما ، وعرا الآخر منه ، ويكون معنى قول القائل : هذا أفضل من هذا، أنه الفاضل دونه ، وأن الآخر لا فضل له. وليس في هذا خروج عن لسان العرب، ولا

ص: 57

مخالفة لكلامها ، وكتاب الله تعالى يشهد به ، وأن أشعار المتقدمين يتضمنه ، قال الله جل اسمه :

« أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا » الفرقان: 24.

يعني أنهم خير من أصحاب النار ، وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر، ولا خير فيهم.

ووصف النار في آية أخرى فقال:

«بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ،إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا». إلى قوله « وادعوا ثبورا » الفرقان : 11- 15 ، ثم قال:

قل: أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون، كانت لهم جزاء ومصيرا ». الفرقان: 15.

فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار .

ونحن نعلم أنه لا خير في النار.

وقال تعالى في آية أخرى:

« قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » الحج: 72. وقال: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» الروم : 27.

والمعنى في ذلك هين، لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شيء ، فكذلك قولنا : هذا أفضل، يكون المراد به هذا الفاضل.

وليس بعد إيراد هذه الآيات لبس في السؤال يعترض العاقل ، وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول الله (صلی الله علیه واله) من المشركين:

هجوت محمدا برا تقيا *** وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفؤ *** فشرکما لخيركما فداء

وقد علمنا أنه لا شر في النبي (علیه السلام)، ولا خير فيمن هجاه .

ص: 58

وقال غيره من الجاهلية :

خالي بنو أنس وخال سراتهم *** أوس، فأيهما أدق وألأم

يريد فأيهما الدقيق واللئيم، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.

وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (1) قول المتنبي:

أعق خلیلیه الصفيين الائمه.

وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الآخر صاحبه فيه، مع كونهما خليلين صفيين.

وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن الصفا ، فيصير عاقة لائمه .(2)

والشواهد في ذلك كثيرة. وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ، ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، لم تناقض لها مذهبا ، ولا خالفت معتقدا، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم، والمختص بهذا الوصف عنهم، فتأمل ذلك تجده صحيحا ، والحمد لله .

على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام، ويقول في الجملة : أنه (علیه السلام) بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) أفضل الناس. فسؤالك ساقط عنه ، إذ كان لا يلفظ بما ذكرته إلا على المجاز.

فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب، ولم يزد حرفا في هذا الباب. والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته .

ص: 59


1- أبو الفتح عثمان بن جني ولد ونشأ في الموصل وسكن وتوفي ببغداد عام(392ه-) من أكابر علماء النحو والصرف والأدب وهو من أساتذة الشريفين الرضى والمرتضى وله مؤلفات عديدة ومنها شرح ديوان المتنبي.
2- في العبارة قلق.

فصل في الرؤيا في المنام

*فصل في الرؤيا في المنام(1)

وجدت لشيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه ، أن الكلام في باب رؤيا المنامات عزیز ، وتهاون أهل النظر به شديد ، والبلية بذلك عظيمة ، وصدق القول فيه أصل جلیل .

والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات:

أحدها حديث النفس بالشيء والفكر فيه، حتى يحصل كالمنطبع في النفس، فيخيل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه. وهذا معروف بالاعتبار.

(الجهة الثانية) من الطبائع وما يكون من قهر بعضها البعض ، فيضطرب المزاج، ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب ، من مأكول ومشروب، ومرئي وملبوس ، ومبهج ومزعج.

وقد نرى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد ، حتى أن من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي (بما) يتخيل له من وقوعه ، ويناله من الهلع والزمع (2) ما لا ينال غيره.

ومن غلبت عليه السوداء يتخيل أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ، ويظن صحة ذلك ، حتى أنه ربما اعتقد في نفسه النبوة ، وأن الوحي يأتيه من السماء ، وما أشبه ذلك.

(الجهة الثالثة) ألطاف من الله عز وجل لبعض خلقه ، من تنبيه وتيسير وإعذار وإنذار ، فيلقي في روعة ما ينتج له تخيلات أمور ، تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة، وتزجره عن المعصية ، وتخوفه الآخرة، ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة، وفكر يحدث له معرفة.

ص: 60


1- تجد الكلام على المنامات مسهبا في الجزء الثاني : ص 392 - 395 من كتاب الأمالي للشريف المرتضی .
2- هي حالة الدهش والخوف والإرتباك .

(والجهة الرابعة) أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان، ويذكره بها، أمورا تحزنه وأسبابا تغمه وتطمعه فيما لا يناله أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه، أو تخیل شبهة في دينه ، يكون فيها هلاكه . وذلك مختص بمن عدم التوفيق ، لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه .

ولن ينجو من باطل المنامات وأحلامها إلا الأنبياء والأئمة عليهم السلام، ومن رسخ في العلم من الصالحين.

وقد كان شيخي رضي الله عنه (1) قال لي: إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلت مناماته ، فإن رأى مع ذلك، منانا وكان جسمه من العوارض سليما ، فلا يكون منامه إلا حقا . يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيجة وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان.

والسكران أيضا لا يصح له منام، وكذلك الممتلىء من الطعام، لأنه کالسکران، ولذلك قيل: إن المنامات قلما تصح في ليالي شهر رمضان.

فأما منامات الأنبياء صلوات الله عليهم فلا تكون إلا صادقة ، وهي وحي في الحقيقة.

ومنامات الأئمة (علیه السلام) جارية مجرى الوحي ، وإن لم تسم وحيا، ولا تكون قطر إلا حقا وصدقا . وإذا صح منام المؤمن لأنه من قبل الله تعالى كما ذكرناه .

وقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« رؤيا المؤمن جزء من سبعة وسبعين جزءا من النبوة » .

وروي عن علي (علیه السلام) قال:

« رؤيا المؤمن تجري مجری کلام تکلم به الرب عنده » .

فأما وسوسة شياطين الجن فقد ورد السمع بذكرها قال الله تعالى :

« من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس » الناس: 4-6

ص: 61


1- يريد به على الظاهر الشيخ المفيد رحمه الله .

وقال:

« وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ» الأنعام: 121.

وقال:

« شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا» . الأنعام: 112.

فأما كيفية وسوسة الجني للإنسي فهو أن الجن أجسام رقاق لطاف، فيصح أن يتوصل أحدهم برقة جسمه ولطافته إلى سمع الإنسان ونهايته ، فيوقر فيه کلاما ، يلبس عليه إذا سمعه، ويشبه عليه بخواطره، لأنه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه. ويصح أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعا ، وليس هو في العقل مستحيلا.

وروی جابر بن عبد الله أنه قال:

« بينما رسول الله (صلی الله علیه واله) يخطب ، إذ قام إليه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت كأن رأسي قد قطع ، وهو يتدحرج، وأنا أتبعه ، فقال رسول الله (صلی الله علیه واله).

لا تحدث بلعب الشيطان بك.

ثم قال: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثن به أحدا » .

وأما رؤية الإنسان للنبي (صلی الله علیه واله) أو لأحد الأئمة (علیه السلام) في المنام، فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام: قسم أقطع على صحته ، وقسم أقطع على بطلانه ، وقسم أجوز فيه الصحة والبطلان، فلا أقطع فيه على حال.

فأما الذي أقطع على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي (صلی الله علیه واله) أو أحد الأئمة (علیه السلام)، وهو فاعل لطاعة أو آمر بها، وناه عن معصية أو مبين لقبحها وقائل بالحق أو داع إليه، أو زاجر عن باطل ، أو دام لما هو عليه .

وأما الذي أقطع على بطلانه فهو كل ما كان على ضد ذلك ، لعلمنا أن النبي

والإمام عليهما السلام صاحبا حق، وصاحب الحق بعيد عن الباطل.

وأما الذي أجوز فيه الصحة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبي أو

ص: 62

الإمام عليهما السلام، وليس هو آمرة ولا ناهية، ولا على حال يختص بالديانات، مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا ونحو ذلك.

فأما الخبر الذي يروي عن النبي (صلی الله علیه واله) من قوله:

« من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي » (1).

فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في حال ،ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة الأقسام ، لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي (صلی الله علیه واله) في شيء من الحق والطاعات.

وأما ما روي عنه (صلی الله علیه واله) من قوله:

« من رآني نائما فكأنما رآني، يقظانا »

فإنه يحتمل أحد وجهين :

أحدهما أن يكون المراد به رؤية المنام ويكون خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه.

والثاني أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام، ويكون قوله (نائما) حالا للنبي (صلی الله علیه واله) وليست حالا لمن رآه، فكأنه قال: من رآني وأنا نائم ، فكأنما رآني وأنا منتبه.

والفائدة في هذا المقام أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالتين إدراكا واحدا، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن ذكره بحضرته و هو منتبه .

وقد روي عنه (صلی الله علیه واله) أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد الوضوء ، فسئل عن ذلك؟ فقال: إني لست كأحدكم ، تنام عيني ولا ينام قلبي .

ص: 63


1- ورد هذا الحديث في البخاري « من رآني في المنام فقد رآني »، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ، وفي كتاب التعبير : فإن الشيطان لا يتخيل بي » وفي صحيح مسلم في كتاب الرؤيا : من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، أو لكأنما رآني في اليقظة ،لا يتمثل الشيطان بي » أنظر : (فضائل الخمسة ج1 ص52.

وجميع هذه الروايات أخبار آحاد ، وإن سلمت فعلى هذا المنهاج.

وقد كان شيخي رحمه الله يقول : إذا جاز من بشر أن يدعني في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه، مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة ، فما المانع من أن يدعي إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي ، مع تمكن إبليس بما لا يتمكن من البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام.

ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم ، منها ما هو حق ، ومنها ما هو باطل.

إنك ترى الشيعي يقول : رأيت في المنام رسول الله (صلی الله علیه واله) ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) يأمرني بالاقتداء به دون غيره ، ويعلمني أنه خليفته من بعده.

ثم ترى الناصبي يقول : رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله) في النوم، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، وهو يأمرني بمحبتهم ، وينهاني عن بعضهم ، ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنهم معه في الجنة ، ونحو ذلك.

فتعلم - لا محالة- أن أحد المنامین حق والآخر باطل، فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه.

والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه.

وليس يمكن للشيعي أن يقول للناصبي : إنك كذبت في قولك: رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله)، لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه .

وقد شاهدنا ناصبيا تشيع ، وأخبرنا في حال تشیعه بأنه يرى منامات بالضد مما كان يراه في حال نصبه.

فبان بذلك أن أحد المنامين باطل ، وأنه من نتيجة حديث النفس ، أو من وسوسة إبليس ، ونحو ذلك. وأن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعیده على المعنى المتقدم وصفه.

وقولنا في المنام الصحيح أن الإنسان إذا رأى في نومه النبي (صلی الله علیه واله) إنما معناه

ص: 64

أنه كان قد رآه ، وليس المراد به التحقيق في اتصال شعاع بصره بجسد النبي . وأي بصر يدرك به حال نومه؟

وإنما هي معان تصورت في نفسه ، تخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به ، قام مقام العلم.

وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله (من رآني فقد رآني)، لأن معناه فكأنما رأني .

وليس بغلط في هذا المكان إلا عند من ليس له من عقله اعتبار .

تأويل آية (1)

إن سأل سائل عن قول الله عز وجل :

«وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا» النبأ :9

فقال: إذا كان السبات هو النوم، فكأنه قال: وجعلنا نومکم نوما. فما الفائدة في هذا ؟.

الجواب

قلنا في هذه الآية وجوه:

منها ، (أن) السبات أحد أقسام النوم، وهو النوم الممتد الطويل . ولهذا يقال فيمن كثر نومه ، أنه مسبوت ، وبه سبات. ولا يقال في كل نائم.

والوجه في الإمتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا ظاهر .

وهو لما لنا في ذلك من المنفعة بالراحة، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبنا شيئا من الراحة ، بل يصحبهما في الأكثر الانزعاج والقلق والهموم التي هي تقلل النوم. ورخاء البال وفراغ القلب يكون معهما كثرته وإمتداده .

ومنها أن يكون المراد بذلك ، أنا جعلنا نومکم سباتا ليس موتا ، لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله ، فيسمى بالسبت للفراغ الذي كان فيه ، ولأن الله تعالى أمر نبي إسرائيل بالاستراحة من الأعمال.

ص: 65


1- انظر الكلام على هذه الآية في أمالي الشريف المرتضی ج 1 ص 337 - 343.

وقد قيل: إن أصل السبات، التمدد . ويقال : سبتت المرأة شعرها ، إذا حلته من العقص .

ومنها أن يكون المراد بالسبت، القطع ، فیکون نومنا قطعا لأعمالنا ومتصرفاتنا، وهو راجع إلى معنى الراحة.

فصل:

مما روي عن لقمان من حكمته ووصيته لابنه.

يا بني أقم الصلاة فإنما مثلها في دين الله كمثل عمد فسطاط، فإن العمود إذا استقام ، نفعت الأطناب والأوتاد والظلال ، وإن لم يستقم ، لم ينفع وتد ولا طنب ولا ظلال.

أي، بنی ، صاحب العلماء وجالسهم، وزرهم في بيوتهم ، لعلك أن تشبههم فتكون منهم.

إعلم يا بني، أني ذقت الصبر وأنواع الر، فلم أر أمر من الفقر ، فإن افتقرت يوما فاجعل فقرك بينك وبين الله ، ولا تحدث الناس بفقرك، فتهون عليهم، ثم سل في الناس، هل من أحد دعا الله فلم يجبه ، أو سأله فلم يعطه .

يا بني، ثق بالله عز وجل ، ثم سل في الناس ، هل من أحد وثق بالله فلم ینجه .

يا بني ، توكل على الله ، ثم سل في الناس، من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه .

يا بني ، أحسن الظن بالله ، ثم سل في الناس ، من ذا الذي أحسن الظن بالله ،

فلم يكن عند حسن ظنه به .

يا بني ، من برد رضوان الله يسخط نفسه كثيرا ، ومن لا يسخط نفسه لا يرض ربه ، ومن لا يكتم غيظه يشمت عدوه.

يا بني ، تعلم الحكمة تشرف. فإن الحكمة تدل على الدين ، وتشرف العبد على الحر، وترفع المسكين على الغني، وتقدم الصغير على الكبير ، وتجلس المسكين مجالس الملوك ، وتزيد الشريف شرفا، والسيد سؤددا، والغني مجدا .

ص: 66

وكيف يتهيأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة ، ولن يهيئ الله عز وجل أمر الدنيا والآخرة إلا بالحكمة ، ومثل الحكمة بغير طاعة مثل الجسد بلا نفس ، أو مثل الصعيد بلا ماء ، ولا صلاح للجسد بلا نفس ، ولا للصعيد بغير ماء ، ولا للحكمة بغير طاعة.

أحاديث عن أبي ذر الغفاري

أخبرني الشريف أبو منصور أحمد بن حمزة الحسيني العريضي بالرملة ، وأبو العباس أحمد بني اسماعيل بن عنان بحلب ، وأبو المرجا محمد بن علي بن طالب البلدي بالقاهرة رحمهم الله ، قالوا جميعا : أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني الكوفي ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمار الثقفي ، قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار، قال: حدثنا موسی بن جعفر بن ابراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، قال : حدثنا عبد المهيمن بن عباس الأنصاري الساعدي ، عن أبيه العباس بن سهل ، عن أبيه سهل بن سعيد، قال: بينا أبو ذر قاعد مع جماعة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه واله) ، وكنت يومئذ فيهم ، إذ طلع علينا علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فرماه أبو ذر بنظره ثم أقبل على القوم يوجهه فقال : من لكم بر جل ، محبته تساقط الذنوب عن محبيه كما يساقط الريح العاصف الهشيم من الورق عن الشجر ، سمعت نبيكم (صلی الله علیه واله) يقول ذلك له.

قالوا: من هو يا أبا ذر؟ قال : هو الرجل المقبل إليكم، ابن عم نبيكم (صلی الله علیه واله)، يحتاج أصحاب محمد (صلی الله علیه واله) إليه، ولا يحتاج إليهم .

سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول:

علي باب علمي ، ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي ، حبه إيمان ، وبغضه نفاق ، والنظر إليه برأفة ومودة عبادة .

وسمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) نبيكم يقول:

ص: 67

مثل أهل بيتي في أمتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن رغب عنها هلك:

ومثل باب حظه في بني إسرائيل، من دخله كان آمنا مؤمنا، ومن ترکه كفر .

ثم إن عليا (علیه السلام) جاء فوقف قسم ثم قال: يا أبا ذر : من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته ، ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله الذي بينه وبين عباده ، ومن أحسن سريرته أحسن الله علانيته.

إن لقمان الحكيم قال لابنه وهو يغطه ، يا بني : من الذي ابتغى الله عز وجل فلم يجده ، ومن ذا الذي لجأ إلى الله فلم يدافع عنه ، أن ذا الذي توكل على الله فلم يكفه .

ثم مضى - يعني عليا عليه السلام - فقال أبو ذر رحمه الله : والذي نفس أبي ذر بیده، ما من أمة إئتمت أو قال اتبعت ، رجلا ، وفيهم من هو أعلم بالله ودينه منه، إلا ذهب أمر هم سفالا.

مسائل في المواريث

مسألة اخوان لأب وأم، ورث أحدهما المال كله ولم يرث الآخر شيئا ،وليس بينهما خلاف في ملة :

الجواب

كان الميت ابن أحدهما ، فورثه الأب خاصة دون أخيه الذي هو عم الميت.

مسألة أخرى

إخوان لأب وأم ورثا میراثا ، كان لأحدهما ثلاثة أرباع المال، وللآخر الربع؟

جواب: الموروث امرأة تركت ابني عمها ، أحدها زوجهما ، فورث منها النصف بحق زوجته ، وورث مع أخيه نصف الباقي ، وهو الربع من جميع المال .

ص: 68

مسألة أخرى.

رجل وابنه ورثا ما فكان بينهما نصفان بالسوية؟

جواب: هذا تزوج بابنة عمه فماتت وخلفته وأباه الذي هو عمها ، فكان له بحق الزوجية النصف ، ولعمها الذي هو أبو زوجها النصف الباقي.

قضية مستطرفة لأمير المؤمنين (علیه السلام) لم يسبقه إليها أحد من الناس.

روي أن رجلين جلسا للغداء ، فأخرج أحدهما خمسة ارغفة ، وأخرج الآخر ثلاثة أرغفة ، فعبر بهما في الحال رجل ثالث، فعزما عليه فنزل فأكل معهما ، حتى (استوفوا) جميع ذلك، فلما أراد الإنصراف دفع إليهما فضة وقال: هذه لكما عوض ما أكلت من طعامكما، فوزناها فصادفاها ثمانية دراهم ، فقال صاحب الخمسة الأرغفة لي منها خمسة ، ولك ثلاثة ، بحساب ما كان لنا.وقال الآخر : بل هي مقسومة نصفين بيننا، وتشاحا ، فارتفعا إلى شرح القاضي (1) في أيام أمير المؤمنين (علیه السلام)، فعرفاه أمرهما، فحار في قضيتهما ، ولم يدر ما يحكم به بينهما ، فحملهما إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، فقصا عليه قصتهما ، فاستطرف أمرهما وقال: إن هذا أمر فيه دناءة ، والخصومة فيه غير جميلة فعليكما بالصلح فهو أجمل بکما ، فقال صاحب الثلاثة أرغفة: لست أرضى بالا بمر الحق وواجب الحكم.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : فإذا أبيت الصلح ولم ترد إلا القضاء ، فلك درهم واحد، ولرفيقك سبعة دراهم.

فقال - وقد عجب هو وجميع من حضر - يا أمير المؤمنين : بين لي وجه ذلك ، لأكون على بصيرة من أمري.

فقال : أنا أعلمك ، ألم يكن جميع مالكما ثمانية أرغفة ، أكل كل واحد منكما

بحساب الثلث رغيفين وثلثين؟

قال: بلى، قال: فقد حصل لكل واحد منكم ثمانية أثلاث، فصاحب الخمسة

ص: 69


1-

الأرغفة ، له خمسة عشر ثلثا ، أكل منهما منها ثمانية ، بقي له سبعة ، وأنت لك ثلاثة أرغفة ، وهي تسعة أثلاث، أكلت منها ثمانية ، بقي لك ثلث واحد، فلصاحبك سبعة دراهم ، ولك درهم واحد ، فانصرفا على بينة من أمرهما .(1)

شبهات للملاحدة

مسألة للملحدة

قال الملحدون :

إذا كان الله جوادا رحيما ، ولم يخلق خلقه إلا لنفعهم، وليس له حاجة إلى عذابهم ، فهلا خلقهم كلهم في الجنة ، وابتداهم بالنعمة ، وخلدهم في دائم اللذة ، وأراحهم من الدنيا ومشاقها ، وصعوبة التكليف فيها .

جواب.

يقال لهم : إن الجود والرحمة لا يكونان فيما يخرج عن الحكمة ، وربنا سبحانه لم يخلق خلقه إلا لنفعهم والمنفعة بنيل النعيم يكون على قسمين : تفضل واستحقاق .

ومنزلة الإستحقاق أعلى وأجل وأشرف من منزلة التفضل .

فلو ابتدأ الله تعالى خلقه في جنات النعيم ، لكان قد اقتصر بهم على منزلة التفضل ، التي هي أدون المنزلتين ، وفي ذلك أنه قد حرم الاستحقاق من علم من حاله أنه إن كلفه أطاع فاستحق الثواب ، وأقطعه الأصلح له ، واقتصر به على نعيم غيره أفضل منه، وذلك لا يقع من عالم حکيم جواد غير بخيل ،فوجب في الحكمة خلقهم في الدنيا ، وعمومهم بالتكليف، الذي فيه التعرض للأمر

ص: 70


1- روي ذلك في الصواعق المحرقة ص179، وفي مناقب آل أبي طالب ج1 ص329 مختصرا وفي الاستیعاب ج2 ص 462 في كنز العمال للهندي ج3 ص180 وفي الرياض النصرة ج 2 ص 199 (أنظر فضائل الخمسة ج2 ص267 - 268) ورواه البهائي العاملي في كتاب الأربعين ص126 - 127 وهو الحديث الثامن والعشرون .

الجليل، ليستحق الطائعون ما سبق لهم في المعلوم، وليس نفع المخالفة بعد التبيين والتعريف وإزاحة العلة في التكليف إلا عن جان على نفسه غير ناظر في عاقبة أمره.

وجواب ثان

ويقال لهم : لو خلق الله تعالى خلقه في الجنة لم يخل أمر هم من حالين : إما أن

يبيحهم الجهل به ، وكفر نعمته ، فليس بحكيم من أباح ذلك.

وإما أن يأمرهم بمعرفته و شکر نعمته. والحكمة توجب ذلك ، فلا بد عند الأمر بالشيء من النهي عن ضده ، ثم لابد من ترغيب فيما يأمر ووعد جميل على فعله ، وترهيب فيها نهی عنه ووعيد على فعله.

وإذا وجب الأمر والنهي والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فقد حصلت حالهم كحالهم في الدنيا ، ووجب أن يكون للوعيد إنجاز فينتقلوا إلى دار الجزاء ، فقد انتهى الأمر إلى ما فعله سبحانه به مما لا يقتضي الحكمة غيره.

فإن قالوا: أليس الطائعون لابد من مصيرهم إلى الجنة فألا كانت حالهم في الابتداء كحالهم في الثواب والجزاء من حصول المعرفة والشكر ؟

قلنا لهم : بين الوقتين فرق. وذلك ، إنهم إذا صاروا إلى الجنة بعد كونهم في الدنيا ، فقد تقدم لهم الأمر والنهي، وذاقوا البؤس والآلام، وعرفوا قدر النعمة ، وشاهدوا وقوع العقاب والثواب بأهلها ، فكان ذلك يقوم لهم في الترغيب في المعرفة ، والشكر والإنزجار عن ترکهما مقام الأمر والنهي والوعد والوعيد.

ولو ابتدأهم في الجنة لم يكونوا أمروا ولا نهوا ، ولا عدوا ولا توعدوا ، ولا فعل بهم ما يقوم مقام ذلك ، فكان بمنزلة من أبيح له الجهل والكفر ، تعالی الله عن ذلك علوا كبيرا.

ولا يجوز أن يخلق فيهم المعرفة به ابتداء ، لأن الغائب لا يعرف بالضرورة إلا أن يحضر .

ص: 71

كما أن الحاضر لا يعلم بالاستدلال إلا أن يغيب .

ولو جاز أن يخلقهم فيعرفون الغائب ، لجاز أن يقدرهم على ذلك ، وهذا محال.

ولا يجوز أيضا أن يخلق الشكر فيهم ، لأنه لو خلقه لهم لم يكونوا هم الشاكرين ، بل يكون هو الشاكر نفسه ، لأن الشاكر من فعل الشكر ، لا من فعل فيه ، كما أن الظالم من فعل الظلم ، لا من فعل فيه.

مسألة أخرى للملاحدة

قال الملحدون .

كيف يجوز من الحكيم الرحيم أن يخلق خلقا ثم يكلفهم ، وهو يعلم أنهم يعصون ، فيصيرون إلى العذاب الأليم، ويبقون فيه مخلدين ، وهو لو لم يخلقهم لم يكن ذلك ، أو خلقهم ولم يكلفهم لم يقع الكفر منهم.

الجواب:

قيل : لو وجب أن يكون الخلق والتبليغ قبيحا ولا حكمة لأن ذلك لو لم يكن ما استحق أحد العذاب والخلود في النار ، لكان لا شيء أوضع ولا أضر من العقل ، لأن الإنسان متى لم يكن عاقلا لم يلحقه لوم في شيء يكون منه ، ولم يلزمه عقاب ولا أدب على زلل يصدر عنه، ومتى كان عاقلا لحقه ذلك أجمع ومستحقه.

والأمم كلها ملحدها وموحدها مجمعة على اعتقاد شرف العقل وفضيلته وعلو منزلته ، وسقوط ضده ونقصه.

فإن قالوا: إن العقل ليس يدعو إلى شيء مما يوجب اللوم ، ولا يحمل عليه ، ولا يدخل فيه . بل هو ناه عن ذلك ، زاجر عنه . ولو شاء المكلف لم يكفر ، بل أطاع فاستحق بطاعته الخلود في نعيم الجنان ، كما استحق غيره من أطاع.

وبعد، ففي التكليف تعريض لأجل منازل النعيم، وهي منزلة الإستحقاق .وفيه فعل ما تقتضيه الحكمة والصلاح.

ص: 72

وشيء آخر، وهو أن التعريض لنيل الثواب الدائم والأمر بمعرفة المنعم وشكره ، وترك الجور والظلم والسقة حسن من العقل ، كما أن التعريض للعطب والأمر بالجور والسفه قبيح فاسد في العقل .

فلو كانت معصية المأمور ومصيره لسوء اختياره إلى استحقاق العذاب ، وعلم العالم بما يصير إليه من العطب والهلاك ، بقلب التعريض للخير والأمر با لحن، فيجعله قبيحا فاسدا ، لكان طاعة المأمور ومصيره بحسن اختياره إلى استحقاق المدح من العقلاء ، وعلم الآمر بما يصير إليه الأمور من السلامة واستحقاق المدح ، يقلب التعريض للعطب والأمر به فيجعله حسنا. وهذا لا يقوله أحد.

ولو كان الأمر بالخير والتمكين منه والدعاء إليه ، والتيسير له ، والإعذار والإنذار لا يكون تعريضا للخير ، إلا إذا علم أن المأمور يقبل فيسلم، لكان الأمر بالفساد والشر والدعاء إليه ، والحث عليه ، لا يكون تعريضا للمكروه والعطب والضرر إلا إذا علم أن الأمور يقبل فيعطب.

فلما كان هذا عند جمهور أهل العلم والعقل إساءة وإضرارا وتعريضا للمكروه ، سواء علم أن المأمور يقبل فيعطب ، أو يخالف فيسلم، كان الأول تعريضا للخير وإحسانا إلى العبد ، سواء علم من حاله أنه يقبل فيسلم ، أو يخالف فيعطب.

وهذا باب يجب أن يتأيد فيه المتأمل، ويكرر فيه الإطلاع ، فإنه يعلم الحق فيه إن لم يكن معه هوى يضل عنه ، والحمد لله .

فصل:

في ذكر سؤال ورد إلي من الساحل ، وجوابي عنه في صحة العبادة بالحج .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الهادي إلى الرشاد ، العالم بمصالح العباد ، ذي الحكمة البالغة ، والنعمة السابغة، وصلواته على من أزاح به العلل، وأوضح منار السبل، سید

ص: 73

الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين وعلى آله الأئمة الطاهرين .

سألت- أيدك الله- عن الحج ومناسکه ، وصحة الأمر به، وأسباب ذلك وعلله، ورغبت في اختصار جواب يكشف لك حقيقة الصواب ، تعول عليه في الإعتقاد ، وتحسم به مواد الفساد، وتعده للخصوم عند السؤال ، وتدفع به تعجب أهل الكفر والضلال.

وقد أوردت من ذلك ما اقتضاه الإمكان لضيق الزمان وترادف الأشغال ، وهو مقنع لمن تديره وفهم فحواه إن شاء الله.

إعلم أن اختلاف العبادات مبني على المعلوم عند الله تعالى من مصالح العباد ، وليس للمكلفين طريق للعلم بتفاصيل هذه المصالح ، ولا فرض الله سبحانه عليهم ذلك. ولو فرضه لنصب لهم دليلا على العلم ، فالذي يجب اعتقاده هو أن المكلف الأمر عدل حكيم لا يقع منه الخلل ، ولا يكلف العبث ، ولا يرسل إلى خلقه من يجوز منه الكذب والأمر باللعب.

فإذا ثبت هذا الأصل لزم امتثال أوامر الحكيم الواردة على يد الصادق الأمين ، والإعتقاد أن إيراده منها إنما هو طاعته في العمل بها، وأنه لم يأمر بها دون غيرها إلا لعلمه بمصالح خلقه فيها ، وتعريضه لهم بتكليفها إلى منزلة الإستحقاق ونفاستها ، ليثبت من أطاعه فيها بالنعيم الدائم عليها .

وليس جهل العبد معرفة هذه المصالح على تفاصيلها مفسدا لما عمله ، من حكمة الأمر بها وصدق المؤدي عنه لها.

كما أنه ليس عدم علمنا بعلل تباين الناس في أفعالهم، وأسباب اختلاف ما مع الصناع من آلاتهم موجبا علينا القطع على لعبهم وعبثهم واعتقاد جهلهم ونقصهم.

فهذا أصل الكلام فيما خار الله تعالى ، وأمر ، وعليه المدار في الحجاج والنظر. ومن أتقنه استعان به في مسائل أخر.

وقد سأل أحد الملاحدة ، مولانا جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليه ، عن الطواف بالبيت الحرام ، فأجابه بما نقله عنه الخاص والعام.

ص: 74

أخبرني به الشيخ الفقيه أو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن الشاذان القمي رضي الله عنه ، عن خال أمه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولوية رحمه الله ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن ابراهيم بن هاشم ، عن أبيه، عن العباس بن عمران الفقيمي .

إن ابن أبي العوجاء (1) ، وابن طالوت الأعمى ، وابن المقفع (2) ، في نفر من الزنادقة كانوا مجتمعين بالموسم في المسجد الحرام ، وأبو عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) فيه إذ ذاك يفتي الناس، ويفسر لهم القرآن ، و يجيب عن المسائل بالحجج والبينات.

فقال القوم لابن أبي العوجاء : هل لك في تغلیط هذا المجالس ، وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به. فقد ترى فتنة الناس به ، وهو علامة زمانه؟

فقال ابن أبي العوجاء نعم ، ثم تقدم ففرق الناس ، ثم قال: يا أبا عبد الله ، إن المجالس أمانات، ولابد لكل من به سعال أن يسعل ، فتأذن في السؤال؟

فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : سل إن شئت .

فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ،وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرولون هرولة البعير إذا

ص: 75


1- هو عبد الكريم بن أبي العوجاء أحد الزنادقة في أواسط القرن الثاني للهجرة كان من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة ؟ فقال : إن صاحبي كان مخلطا يقول طورا بالجبر وطور بالقدر فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه ، قتله أبو جعفر محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة ، وقد جرت بينه وبين الإمام الصادق (علیه السلام) احتجاجات كثيرة أنظر : ترجمته في الكنى والألقاب ج1 ص196 - 198.
2- هو عبد الله بن داذويه المقفع كان مجوسيا فأسلم على يد عيسى بن علي عم المنصور العباسي، من بلغاء الدنيا المشهورين ، تخرج في البلاغة على خطب الإمام علي (علیه السلام) لذلك كان يقول : شربت من الخطب ريا ولم أضبطها رويا ، ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما ، وليس غيرها كلاما. رمي بالزندقة فقتل سنة 142ه-. قتله سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة بأمر المنصور لكتاب كتبه.

نفر ؟؟ من فكر في هذا وقدر ، علم أنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر ، فقل؛ فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ، وأبوك أسه ونظامه.

فقال له الصادق (علیه السلام) : إن من أضله الله وأعمى قلبه ، استوخم الحق، فلن يستعذبه ، وصار الشيطان وليه وحزبه ، يورده مناهل الهلكة.

وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلين ، فهو شعبة من رضوانه ، و طریق تؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر ، وأنتهي عما زجر ، الله عز وجل المنشيء للأرواح والصور.

فقال ابن أبي العوجا : ذكرت، أبا عبد الله ، فأحلت على غائب .

فقال الصادق صلوات الله عليه : كيف يكون - يا ويلك - غائبا ، من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم، ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مکان ، ولا يكون من مكان أقرب من مكان ، يشهد له بذلك آثاره، ويدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة ، والبراهين الواضحة محمد عليه السلام جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أوضحه لك.

قال: فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول. فانصرف من بين يديه ، فقال لأصحابه : سألتم أن تلتمسوا خمرة فألقيتموني على جمرة. فقالوا له : اسكت ، فو الله ، لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك ، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه.

فقال : إلي تقولون هذا. إنه ابن من حلق رؤوس من ترون، وأومی بیده إلى أهل الموسم. (1)

ص: 76


1- تجد هذا الخبر في كتاب التوحيد للصدوق القمي ص 257 - 259 مع بعض الزيادات واختلاف يسير في بعض الألفاظ، وقد رواه القمي عن الدقاق عن أبي القاسم حمزة بن القاسم العلوي عن محمد بن إسماعيل عن أبي سليمان داود بن عبد الله عن عمر بن محمد عن عیسی بن يونس .

وفي هذا الخبر كفاية لمن تديره، وغنى في هذه المسألة لمن تصوره.

وأعلم أنه لا فرق في العقول بين أن ترد العبادة بصلاة فيها رکوع وسجود و قیام وقعود ، وبين أن ترد بطوافي وسعي وهرولة أو شيء ونحو ذلك من أسباب الخشوع وأفعال الخضوع.

ولا فرق أيضا بين ورودها باغتسال وصيام، وبين ورودها بحلق الرأس والإحرام.

بل لا فرق بين المشي إلى مواضع العبادة والسجود على التكرار، وبين السعي بين الصفا والمروة ورمي الحجار .

كل ذلك على حد واحد في التجويز ، وطريق مستمر في إمكان ما يرد به التكليف.

ولسنا نجد أهل ملة ولا ذوي نحلة إلا وهم عبادات من هذا الجنس ، وإن اختلفت في الوصف .

وبعد فقد نرى العدو الشديد في بعض الأحيان يكون من التعظيم والإجلال. وذاك أن ذا المنزلة الكبيرة والرتبة الجليلة إذا رآه من دونه توجه إليه مسرعا، وعدا إليه مهرولا ، لائذا به ، مقبلا لیده ، فيكون فما فعله قد عظمة وفضله.

وسواء سعيت إلى من تريد تعظيمه فتذللت بين يديه وخضعت له ، أو سعیت إلى حيث أمرك فتذللت به وخضعت عنده ، لا يختلف ذلك في أحكام العقول، ولا يتعجب منه وبنكره إلا من فقد التحصيل وألف ترك التمييز.

على أن منكر هذه العبادة والمتعجب منها إذا لم يقر بعبادة غيرها يجانسها ، لا يقدر على إنكار ما نشاهده من العقلاء في بعض الأحيان، من الأفعال المضاهية لأفعال المجان (1) ، وهم فيها مصیبون وللمصلحة قاصدون، مثل رجل حصيف لبيب حكيم لا يحسن منه العدو الشديد ، رأى طفلا يكاد

ص: 77


1- لعله يريد به المجانين أو أصحاب المجون.

يهوي إلى بئر ، أملا في وجه لتخليصه ، وهرول غاية قدرته لإنقاذه، فحسن ذلك منه، وإن لم تجر به عادته، وكان شكورا عليه ، لصواب غرضه فيه.

ورجل دخل الماء في أذنه فاجتهد في إخراجه ، بأن وقف على إحدى رجليه وأمال رأسه إلى ناحيتها وقفز عدة دفعات عليها ، ليخرج الماء من أذنه ، ويأمن ما يخشاه من ضرره، فلا ينقصه ذلك من فضله ولا يزيله عن رتبته وعقله. بل يكون فيها فعله حكيما وبدفع المضرة عنه عليما.

وكالقاضي الذي دخلت ذبابة في ثوبه وحصلت بينه وبين جسمه، وهو بين شهوده وفي مجلس قضائه وحكمه فاضجرته بأذيتها وأقلقته بثقلها ، وأخذ يتحرك لها أنواع الحركة، ويتلوى منها إلى كل جهة ، ويكثر من توقفه واضطرابه ، ويطيل تطلعه في ثيابه ، والناس يشاهدون أفعاله ولا يعرفون ، فلما دام أمرها وطال لبثها حسن منه النهوض عن مجلسه ، والخلو لإزالتها بنفسه . فالجاهل من سارع إلى سوء الظن به، وقدم على استنقاصه في فعله . والعاقل الذي يعلم أن أمرا قد دهمه وشيئا ألجأه إلى ما ظهر منه واضطره. ونحو هذا من الأفعال العجيبة والأحوال الطريفة الذي يتفق لذوي العقول السليمة والآراء الصحيحة ، فيقع منهم أكثر مما ذكرت وفوق ما وصفت ، ويكون الواجب تصويبهم فيه ، وإن لم يعلم الأسباب الداعية لهم فيه.

قصة وقعت مع المؤلف

ولقد اضطررت يوما إلى الحضور مع قوم من المتصوفين ، فلما ضمنا المجلس أخذوا فيما جرت به عادتهم من الغناء والرقص، فاعتزلتهم إلى إحدى الجهات وانضاف إلى رجل من أهل الفضل والديانات، فتحادثنا ذم الصوفية على ما يصنعون وفساد أغراضهم فيما يتأولون ، وقبح ما يفعلون من الحركة والقيام ، وما يدخلون على أنفسهم في الرقص من الآلام. فكان الرجل لقولي مصوبا وللقوم في فعلهم مخطئا، ولم نزل كذلك إلى أن غنى مغني القوم هذه الأبيات:

وما أم مکحول المدامع ترتعي *** ترى الأنس وحشا وهي تأنس بالوحش

ص: 78

غدت فارتعت ثم اثنت لرضاعه *** فلم تلف شيئا من قوائمه الخمش

فطافت بذاك القاع وهي فصادفت *** سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

بأوجع مني يوم ظلت أنامل *** تودعني بالسدر من شبك النقش

فلما سمع صاحبي نهض مسرعا مبادرا، ففعل من القفز والرقص والبكا واللطم ما يزيد على ما فعله من قبله ممن كانيخطئه ويستجهله ، وأخذ يستعيد من الشعر ما لا يحسن استعادته ، ولا جرت عادتهم بالطرب مثله ، وهو قوله :

فطافت بذاك القاع وهي فصادفت *** سباع الفلا ينهشنه أما نهش

ويفعل بنفسه ما حكيت ، ولا يسأل من غير هذا البيت ، حتى بلغ من نفسه المجهود ووقع كالمغشي عليه من الموت.

فحيرني ما رأيت من حاله، وأخذت أفكر في أفعاله المضادة لما سمعت من أقواله .

فلما أفاق من غشيته لم أملك صبرا دون سؤاله عن أمره، وسبب ما صنعه بنفسه ، مع تجهیله من قبل لفاعله ، وعن وجه استعادته من الشعر ما لم تجر عادتهم باستعادة مثله؟

فقال لي: لست أجهل ما ذكرت، ولي عذر واضح فيما صنعت. أعلمك أن أبي كان كاتبا، وكان في برا، وعلي شفيقا ، فسخط السلطان عليه فقتله ، فخرجت إلى الصحراء لشدة ما لحقني من الحزن عليه ، فوجدته ملقى والكلاب ينهشون لحمه. فلا سمعت المغني يقول:

فكانت بذاك القاع وهي فصادفت *** سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

ص: 79

ذكرت ما لحق أبي وتصور شخصه بين عيني، وتجدد حزنه علي ، ففعلت الذي رأيت بنفسي.

فندمت على سوء ظني به وتغممت عما لحقه ، واتعظت بقصته ، وعلمت أن الله تعالى لطف لي بمشاهدة هذه الحال، والوقوف عليهم لتكون لي دلالة على الصواب في هذه المسألة وأشباهها ، وأنه محرم على كل عاقل لبيب أن يعجل بتجهيل من ثبت عنده عقله وبان له فضله ، إذا ظهر منه فعل لم يعرف فيه سببه ، ولا علم مراده منه وغرضه .

وورود مثل هذه الأمور من العقلاء كثير ، وهي حجة على من أظهر التعجب مما ورد به الشرع من التكليف ، وجعل عدم علمه بأسباب ذلك دلالة على تعقله الضعيف .

على أن الأخبار قد نقلت عن الأئمة عليهم السلام بذكر أسباب هذه العبادات ، تسمى عللا على المجاز والإتساع (1)، وجمع في ذلك علي بن حاتم القزويني (2) رحمه الله كتابا سماه کتاب العلل ، وأنا أذكر طرفا مما رواه في الحج ومناسکه وأسبابه وعلله.

قال: إن الحج هو الوفادة إلى الله عز وجل ، وفيه منافع كثيرة للدنيا والآخرة من الرغبة إلى الله تعالى ، والرهبة منه ، والتوبة إليه من معاصيه ، وطلب الثواب على تحمل المشاق فيما يرضيه ، ومنفعة أهل الشرق والغرب ومن في البر والبحر ، من تاجر وجالب ومشتر وبائع ونحو ذلك من الفوائد .

ص: 80


1- العلة الحقيقية مشروطة بأمرين: الأول أن لا يتخلف المعلول عنها ، ويدور معها وجودا وعدما ، التاني أن لا يتوسط بين العلة والمعلول إرادة فاعل مختار ، وهذان الشرطان مفقودان في جميع ما ذكر للحج من آثار و منافع، ومن هنا كانت تسمية ذلك بالعلل أو الأسباب مجازا ، وما ذكر من المنافع والآثار إنما هي باب حكمة التشريع التي لا يدور الحاكم معها وجودا ولاعدما ، بل قد تتخلف.
2- هو علي بن أبي سهل حاتم بن أبي حاتم القزويني قال النجاشي عنه : ثقة في نفسه من أصحابنا بروي عن الضعفاء . وقال الطوسي: له كتب كثيرة جيدة معتمدة نحو من ثلاثين كتابا . كان حيا في سنة 350ه أنظر (معجم رجال الحديث ج1 ص 251).

قال الله تعالى: «ليشهدوا منافع لهم »

والتلبية هي جواب نداء ابراهيم عليه السلام لما أذن في الناس بالحج .

وروي أن أمير المؤمنين (علیه السلام) سئل عن الوقوف با لحل ، يعني الوقوف بعرفات ولم لم يكن في الحرم؟ فقال: لأن الكعبة بيته، والحرم داره ، فلما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرعون إليه.

قيل له : فالمشعر الحرام، لم صار في الحرم؟

قال: لأنه لما أذن لهم في الدخول وقفهم بالباب الثاني ، فلما طال تضرعهم به أذن لهم بتقريب قر بانهم، فلما قضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجابا بينه وبينهم أذن لهم بالزيارة على الطهارة.

قيل له : فيلم حرم الله الصيام أيام التشريق؟ (1) .

قال: لأن القوم زاروا الله تعالى وهم في ضيافته ، ولا يجوز لمضيف أن يصوم أضيافه.

قيل : فالتعلق بأستار الكعبة لأي شيء هو:

قال: مثله مثل رجل له عبد جنى جناية وذنبا فهو متعلق بثوبه ، ويتضرع إليه ويخضع له أن يتجاوز له عن ذنبه.

وروى أن الإشعار (2) إنما هو لتحريم ظهر البدنة ، وأن تقليدها (3) إنما هو

ليعرفها صاحبها .

وقال في حد الحرم: إن آدم لما أهبط من الجنة شكا إلى الله تعالى الوحشة ،

فأنزل الله علیه یاقوتة حمراء فوضعها في موضع البيت ، وكان يطوف بها ، فكان يبلغ ضوءها موضع الأعلام، يعني أطراف الحرم وحده .

وذكر في علة الطواف: إن الله لما قال للملائكة إني جاعل في الأرض

ص: 81


1- هي أيام مني وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر
2- هو ما يجرح به الهدي في أذنه أو رقبته كعلامة عليه.
3- هو ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدى فلا يتعرض له .

خليفة ، وقالت: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وعلموا أنهم قد أذنبوا ، لاذوا بالعرش واستغفروا الله سبعة آلاف عام، قال فبنى الله عز وجل لآدم (علیه السلام) بيتا بحذاء العرش وأمره بالطواف حوله سبعة أشواط، لكل ألف سنة طافتها الملائكة شوط واحد.

وروي في السعي بين الصفا والمروة ، أن إبراهيم (علیه السلام) لما خلف إسماعيل وأمه بمكة ومضى عظش الصبي فخرجت أمه حتى قامت على الصفا ، وكان بينه وبين المروة شجر ، فقالت : هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت: هل بالوادي من أنيس فلم تجب ، ثم رجعت إلى الصفا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، فجعل الله تعالى ذلك سنة من بعده .

وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه كان يقول: ما من بقعة أحب إلى الله تعالى من المسعى ، لأنه يذل فيه كل جبار .

وقال: إن علة رمي الجمرات أن ابراهيم عليه السلام تراءى له إبليس عندها فأمره جبرائیل برميه بسبع حصيات، وأن يكبر مع كل حصاة ، ففعل وجرت بذلك السنة.

فهذا بعض ما ذكر في علل الحج قد أوردته مما رواه علي بن حاتم القزويني وجمعه.

وأعلم - أيدك الله - أن هذه العلل المسطورة ليست بعلل موجبة وإنما منها ما هو على طريق التقريب كالتشبيه والتمثيل، ومنها ما وقع في الإبتداء فاقتضت المصلحة عند الله سبحانه أن يكون مستمرا جاريا، فصار المبتدأ سببا لما بعده وكالعلة له.

ويدل على أنها ليست بعلل موجبة ما نعلمه من أنه قد كان يجوز نسخ هذه العبادة وورود الشرع بغيرها ، فلو كانت عن علة أوجبتها لم يكن يجوز نسخها بغيرها ، وهذا واضح والحمد لله ولي كل نعمه ، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلم تسليما .

ص: 82

فصل من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام):

الفكرة مرآة صافية. والاعتبار منذر ناصح. من تفكر اعتبر. ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم. العجب ممن خاف العقاب فلم يكف ، ورجا الثواب فلم يعمل. الاعتبار يقود إلى الرشاد .

كل قول ليس لله فيه ذكر فلغو ، وكل صمت ليس فيه فكر فسهو ، وكل نظر ليس فيه اعتبار فلهو.

فصل :

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني ، قال: أخبرني أبوحفص عمر بن علي العتكي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي ، قال : حدثنا أحمد بن حازم بن عروة ، قال : حدثنا جعفر بن عون عن عمر بن موسى البربري عن أبيه عن عطية العوفي عن سعيد قال : قال رسول الله (صلی الله علیه واله) :

« لا ببغض عليا إلا فاسق أو منافق أو صاحب بدایع » .

وأخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه قال : حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الجعابي الحافظ ، قال : حدثنا محمد بن سهل بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن عمر الدهقان ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا اسماعیل بن مسلم ، قال : حدثنا الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش ، قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) على المنبر وهو يقول:

« والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي (صلی الله علیه واله) إلي، أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ». (1)

وأخبرني شيخنا المفيد رضي الله عنه.

قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن عمر المرزباني ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، قال :

ص: 83


1- رواه النسائي في خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص 27. والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 170 رواه عن مسلم عن علي باختلاف يسير ، ورواه ابن المغازلي في مناقبه بعدة طرق ص 190-196 وهذا الحديث مروي بطرق عديدة ، حتى أن القاضي أبا بكر محمد بن عمر الجعابي المتوفي سنة 385ه ألف كتابا في طرق من روى هذا الحديت عن علي (علیه السلام) انظر : سفينة البحار م1 ص 157.

حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا النضر بن حميد عن أبي الجارود عن الحارث الهمداني ، قال : رأيت عليا (علیه السلام) جاء حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

قضى قضاء الله عز وجل على لسان النبي الأمي (صلی الله علیه واله)، « ألا لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق، وقد خاب من افتری. (1)

دليل النص بخبر الغدير على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام)

أعلم أنه مما يدل على أنه المنصوص بالإمامة عليه ، ما نقله الخاص والعام من أن رسول الله (صلی الله علیه واله) لما رجع من حجة الوداع ، نزل بغدیر خم، ولم يكن منزلا ، أمر مناديه فنادى في الناس بالإجماع، فلما اجتمعوا خطبهم ثم قررهم على ما جعله الله تعالى له عليهم من فرض طاعته ، وتصر فهم بين أمره ونهيه بقوله:

« ألست أولى بكم منكم بأنفسكم .»

فلا أجابوه بالإعتراف ، وأعلنوا بالإقرار، رفع بيد أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقال عاطفا على التقرير الذي تقدم به الكلام :

« فمن کنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره، وأخذل من خذله » (2)

فجعل لأمير المؤمنين (علیه السلام) من الولاء في أعناق الأمة مثل ما جعله الله له

ص: 84


1- المصدر نفسه دون قوله قضي قضاء الخ ودون قوله وقد خاب من افتری
2- حديث الغدير من التواتر معني وقد رواه أكثر من ماية صحابي ، وقد رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد في المسند، والرازي في التفسير وأبو نعيم في الحلية والسيوطي في الدر المنثور والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والنسائي في الخصائص، وهو مروي أيضأ في كنز العمال ومستدرك الصحيحين والإصابة وأسد الغابة والإمامة والسياسة و مشکل الآثار، وفیض القدير ومجمع الزوائد والصواعق المحرقة : أنظر : (فصائل الخمسة ج1 ص349 - 382) وفي الصواعق أنه حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد رواه ابن المغازلي في المناقب بعدة طرق انظر : ص 16- 27.

عليهم، مما أخذ به إقرارهم ، لأن لفظه مولى يفيد ما تقدم من التقرير من ذكر الأولى ، فوجب أن يريد بالكلام الثاني ما قررهم عليه في الأول، وأن يكون المعنى فيهما واحدا، حسبما يقتضيه استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم.

وهذا يوجب أن يكون أمير المؤمنين (علیه السلام) أولى بهم من أنفسهم ، ولا يكون أولى بهم إلا وطاعته فرض عليهم ، وأمره ونهيه نافذ فيهم . وهذه رتبة الإمام في الأنام قد وجبت بالنص لأمير المؤمنين (علیه السلام).

وأعلم - أيدك الله - أنك تسأل في هذا الدليل عن أربعة مواضع :

أحدها ،أن يقال لك: ما حجتك على صحة الخبر في نفسه؟ فإنا ترى من - يبطله.

وثانيها ، أن يقال لك: ما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى ، وأنها أحد أقسامها ؟

وثالثها ، إذا ثبت أنها أحد محتملاتها ، في الحجة على أن المراد بها في الخبر ،

الأولى دون ما سوى ذلك من أقسامها ؟.

ورابعها: ما الحجة على أن الأولى هو الإمام، ومن أين يستفاد ذلك في الكلام؟؟

الجواب عن السؤال الأول .

أما الحجة على صحة خبر الغدير فما يطالب بها إلا متعنت ، لظهوره وانتشاره، وحصول العلم لكل من سمع الأخبار به.

ولا فرق بين من قال ما الحجة على صحة خبر الغدير ، وهذه حاله ، وبين من قال : ما الحجة على أن النبي (صلی الله علیه واله) حج حجة الوداع، لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.

وبعد، فقد اختص هذا الخبر بما لم يشرکه فيه سائر الأخبار ، فمن ذلك ، أن الشيعة نقلته وتواترت به.

وقد نقله أصحاب السير نقل المتواترین به ، يحمله خلف عن سلف ، وضمنه

ص: 85

جميعهم الكتب بغير إسناد معين ، كما فعلوا في إيراد الوقائع الظاهرة والحوادث الكائنة ، التي لا يحتاج في العلم بها إلى سماع الأسانيد المتصلة .

ألا ترى إلى وقعة بدر ، حنين ، وحرب الجمل وصفين ، كيف لا يفتقر في العلم بصحة شيء من ذلك إلى سماع إسناد ولا اعتبار أسماء الرجال ، لظهوره المغني ، وانتشاره الكافي ، ونقل الناس له قرنا بعد قرن بغير إسناد ، حتى عمت المعرفة به واشترك الكل في ذكره.

وقد جرى خبر يوم الغدير هذا المجري، واختلط في الذكر والنقل بما وصفنا ، فلا حجة في صحته أوضح من هذا.

ومن ذلك أنه قد ورد أيضا بالأسانيد المتصلة ، ورواه أصحاب الحديثين (1) من الخاصة والعامة من طرق في الروايات كثيرة ، فقد اجتمع فيه الحالان، وحصل له البيان.

ومن ذلك أن كافة العلماء قد تلقوه بالقبول ، وتناولوه بالتسليم ، فمن شيعي يحتج به في صحة النص بالإمامة ، ومن ناصبي يتأوله ويجعله دليلا على فضيلة ومنزلة جليلة.

ولم نر للمخالفين قولا مجردا في إبطاله ، ولا وجدناهم قبل تأويله قد قدموا کلاما في دفعه وإنكاره.

فيكون ذلك جاريا مجری تأويل أخباره المشتبهة ، ورواياتها بعد الإبانة عن بطلانها وفسادها ، بل ابتدأوا بتأويله ابتداء من لا يجد حيلة في دفعه ، وتوفره على تخريج الوجوه له لتوفر من قد لزمه الإقرار به.

وقد كان إنكاره أروح لهم لو قدروا عليه ، وجحده أسهل عليهم لو وجدوا سبيلا إليه.

ص: 86


1- الأولى : أصحاب الحديث .

فأما ما يحكي عن أبي داود السجستاني (1) من إنكاره له ، وعن الجاحظ (2) من طعنه في كتاب العثمانية فيه فليس بقادح في الإجماع الحاصل على صحته ، لأن القول الشاذ ، لو أثر في الإجماع ، وكذلك الرأي المستحدث لو أبطل مقدم الاتفاق ، لم يصح الاحتجاج بالإجماع، ولا يثبت التعويل على اتفاق.

على أن السجستاني قد تنصل من نفي الخبر.

فأما الجاحظ فطريقته المشتهرة في تصنيفاته المختلفة ، وأقواله المتضادة المتناقضة ، وتأليفاته القبيحة في اللعب والخلاعة ، وأنواع السخف والمجانة ، الذي لا يرتضيه لنفسه ذو عقل وديانة ، يمنع من الالتفات إلى ما يحكيه ، وتوجب التهمة له فيما ينفرد به ويأتيه.

وأما الخوارج الذين هم أعظم الناس عدواة لأمير المؤمنين (علیه السلام) فليس يحكي عنهم صادق دفعا للخبر .

والظاهر من حالهم حملهم له على وجه من التفضيل ، ولم يزل القوم يقرون الأمير المؤمنين (علیه السلام) بالفضائل ، ويسلمون له المناقب ، وقد كانوا أنصاره وبعض

أعوانه .

وإنما دخلت الشبهة عليهم بعد الحكمين ، فزعموا أنه خرج عن جميع ما كان يستحقه من الفضائل بالتحكيم، وقد قال شاعرهم:

كان علي قبل تحکیمه *** جلدة بين العين والحاجب

ولو لم يكن الخبر كالشمس وضوحا لم يحتج به أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم

الشورى ، حيث قال للقوم في ذلك المقام:

« أنشدكم الله ، هل فيكم أحد أخذ رسول الله (صلی الله علیه واله) بيده فقال : « من کنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه » اغيري ؟

ص: 87


1- هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني أحد حفاظ أهل السنة صاحب كتاب السنن المشهور ، سكن البصرة وتوفي بها سنة (275 ه).
2- أبو عثمان عمر وبن بحر بن محبوب الجاحظ الليثي البصري الأديب المعتزلي المعروف مات بالبصرة سنة (255 ه)، له مؤلفات كثيرة منها : البيان والتبيين .

فقالوا: اللهم ، لا.

فأقر القوم به ولم ينكروه، واعترفوا بصحته ولم يجحد وه .

فإن قال قائل : في باله لم يذكر في حال احتجاجه به تقرير رسول الله (صلی الله علیه واله) للناس على أنه أولى بهم منهم بأنفسهم ، ولم اقتصر على ما ذكر ، وهو لا ينفع في الاستدلال عندكم ما لم يثبت التقرير المتقدم ؟؟ وما جوابكم لمن قال إن المقدمة لم تصح وليس لها أصل. وقد سمعنا هذا الخبر ورد في بعض الروايات، وهو عار منها ، في قولكم فيها ؟

قيل له : إن خلو (مناشدة) (1) أمير المؤمنين (علیه السلام) من ذكر المقدمة لا يدل على نفيها أو الشك في صحتها ، لأنه قررهم من بعض الخبر على ما يقتضي الإقرار بجمیعه اختصارا في كلامه ، وغني بمعرفتهم بالحال عن إيراده على كماله . (2)

وهذه عادة الناس فيما يقرون به.

وقد قررهم في ذلك المقام بخبر الطائر (3) فقال : أفيكم رجل قال له رسول الله (صلی الله علیه واله) : « اللهم ابعث إلي بأحب خلقك يأكل معي » غيري .

ولم يذكر هذا الطائر ، وكذلك لما قررهم بقول النبي عليه السلام فيه ، حيث ندبه لفتح خیبر وذكر لهم بعض الكلام دون جميعه ، اتكالا منه على ظهوره بینهم واشتهاره.

فأما المتواترون بالخبر فلم يوردوه إلا على كماله ، ولا سطروه في كتبهم إلا

بالتقرير الذي في أوله.

ص: 88


1- في النسخة : (إنشاء)
2- خبر مناشدة علي (علیه السلام) يوم الشوری رواه الطبري الإمامي في المسترشد ص 57 - 62. وتجده في المناقب لابن المغازلی ص 111 - 118
3- حديث الطائر المشوي رواه أنس بن مالك، وهو أنه كان عند النبي (صلی الله علیه واله) طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطائر فجاء على (علیه السلام) فأكل معه ». ورواه الترمذي في الصحيح. وهو مروي في مستدرك الصحيحين وحلية الأولياء ، وتاريخ بغداد للخطيب وفي أسد الغابة وكنز العمال ومجمع الزوائد انظر (فضائل الخمسة ج 2 ص 189، 195). وقد روى حديث الطائر ، ابن المغازلي في المناقب بطرق عديدة أنظر : المناقب ص 156 - 175.

وكذلك رواه معظم أصحاب الحديث الذاكرين الأسانيد ، وإن كان منهم آحاد قد أغفلوا ذكر المقدمة ، فيحتمل أن يكون ذلك تعويلا منهم على العلم بالخبر ، فذكروا بعضه ، لأنه عندهم مشتهر ، فإن الأصحاب كثيرا ما يقولون : فلان يروي عن رسول الله (صلی الله علیه واله) خبر كذا، ويذكرون بعض لفظ الخبر اختصارا. وفي الجملة فإن الآحاد المتفردون بنقل بعضه لا يعارض بهم المتواترین الناقلين الجميعه على كاله.

الجواب عن السؤال الثاني :

وأما الحجة على أن لفظة مولى يحتمل أولى، وأنها أحد أقسامها فليس يطالب بها أيضا منصف كان له أدنى الإطلاع في اللغة وبعض الاختلاط بأهلها ، لأن ذلك مستفیض بينهم، غير مختلف فيه عندهم ، وجميعهم يطلقون القول فيمن كان أولى بشيء أنه مولاه.

وأنا أوضح لك أقسام مولى في اللسان لتعلمها على بيان .

أعلم أن لفظة مولى في اللغة تحتمل عشرة أقسام:

أولها ، الأولى ، وهو الأصل الذي يرجع إليه جميع الأقسام ، قال الله تعالى :

« فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (1)

یرید سبحانه في أولى بكم على ما جاء في التفسير وذكره أهل اللغة. وقد فسره على هذا الوجه أبو عبيدة معمر بن المثنى (2) في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن، ومنزلته في العلم بالعربية معروفة ، وقد استشهد على صحة تأويله ببيت لبيد :

ص: 89


1- سورة الحديد: 15.
2- هو معمر بن المثنى التيمي من تیم قریش مولى لهم ولد سنة 114 ه وتوفي سنة 209/208/211/210 ه-. قال أبو العباسي ثعلب كان أبو عبيدة يرى رأي الخوارج ، عالما بالأخبار والأدب له مؤلفات عديدة ذكرها ابن النديم في الفهرست ص 79- 80.

قعدت كلا الفرخين تحسب أنه *** مولى الحافة خلفها وأمامها (1)

يريد أولى بالمخافة ، ولم ينكر على أبي عبيدة أحد من أهل اللغة.

وثانيها ، مالك الرق قال الله سبحانه :

« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كُلِّ عَلَى مَولاَهُ »

النحل : 75.

يريد مالكه ، وهذا القسم بغنى عن الإطالة فيه

وثالثها المعتق.

ورابعها المعتق، وذلك أيضا مشهور معلوم وخامسها ، ابن العم ، قال الشاعر :

مهلا بني عمنا مهلا موالينا *** لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا

وسادسها الناصر ، قال الله عز وجل:

« ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ » سورة محمد : 11وسابعها ، المتولي لضمان الجريرة ومن يحوز الميراث ، قال الله عز وجل :

« وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ». النساء : 33

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالموالي ههنا من كان أملك بالميراث وأولى

بحيازته ، قال الأخطل : (2)

ص: 90


1- هذا البيت من معلقة لبيد، التي أولها . عفت الديار محلها فمقامها *** بمنى تاؤد غولها فركامها
2- هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي من شعراء الدولة الأموية البارزين كان نصراني ومات سنة (92ه).

فأصبحت مولاها من الناس بعده *** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا (1)

وثا منها ، الحليف

وتاسعها ، الحار

وهذا القسمان أيضا معروفان.

وعاشرها ، الإمام السيد المطاع، وسيأتي في الجواب عن السؤال الرابع إن شاء الله تعالى.

فقد اتضح لك بهذا البيان ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام. وأن أولى أحد محتملات معاني الكلام ، بل هي الأصل ، وإليها يرجع معنی کل قسم، لأن مالك الرق لما كان أولى بتدبير عبده من كان لذلك مولاه، والمعتق لما كان أولى معتقه في تحمله لجريرته وألصق به من غيره كان مولاه، وابن العم لما كان أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في نسبه وأولى أيضا من الأجنبي بنصرة ابن عمه كان مولى. والناصر لما اختص بالنصرة وصار بها أولى كان لذلك مولي.

وإذا تأملت بقية الأقسام وجدتها جارية هذا المجري، وعائدة بمعناها إلى الأولى.

وهذا يشهد بفساد قول من زعم أنه متى أريد بولي ، أولى كان ذلك مجازا . وكيف يكون مجازا ، وكل قسم من أقسام مولی عائد إلى معنى الأولى ، وقد قال الفراء (2) في كتابه (معاني القرآن) أن الولي والمولى في كلام العرب واحد .

ص: 91


1- وقبل هذا البيت قوله: في وجدت فيها قريش لأمرها *** أعف وأولى من أبيك وأمجدا وأوری زنادا ولو كان غيره *** غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
2- هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الديلمي الكوفي ، تلميذ الكسائي ، من أئمة العربية ، كانت له حظوة عند المؤمون العباسي ، عهد إليه تعلیم ولديه ، توفي سنة 207 ه تجد ترجمته في الكنى والألقاب ج 3 ص 14- 15 وفهرست ابن النديم ص99.

الجواب عن السؤال الثالث

فأما الحجة على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير ، الأولى فهي أن من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم به التصريح ولغيره فإنهم لا يريدون بالمحتمل إلا ما صرحوا به من الخطاب المتقدم .

مثال ذلك أن رجلا لو أقبل على جماعة فقال : ألستم تعرفون عبدي فلانا الحبشي ، ثم وصف لهم أحد عبيده وميزه عنهم بنعت يخصه صرح به ، فإذا قالوا: بلى قال لهم عاطفا على ما تقدم : فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عز وجل ، فإنه لا يجوز أن يريد بذلك إلا العبد الذي سماه وصرح بوصفه دون ما سواه.

ويجري هذا المجرى قوله : فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله عز وجل ، ولو أراد غيره من عبيده لكان ملغزا غير مبين في كلامه.

وإذا كان الأمر كما وصفناه وكان رسول الله (صلی الله علیه واله) لم يزل مجتهدا في البيان، غير مقصر فيه من الإمكان، وكان قد أتي في أول كلامه يوم الغدير بأمر صرح به وقرر أمته عليه ، وهو أنه أولى بهم من أنفسهم على المعنى الذي قال الله تعالى في كتابه :

« النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » الأحزاب: 6.

ثم عطف على ذلك بعدما ظهر من اعترافهم بقوله :

« فمن كنت مولاه فعلى مولاه مولاه ».

وكانت (مولاه) يحتمل ما . صرح به في مقدمة كلامه ويحتمل غيره لم يجز أن يريد إلا ما صرح به في كلامه الذي قدم وأخذ اقرار أمته به ، دون سائر أقسام مولى ، وكان هذا قائما مقام قوله : فمن کنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، وحاشى لله أن لا يكون الرسول (صلی الله علیه واله) أراد هذا بعينه.

ص: 92

ووجه آخر

وهو أن قول النبي (صلی الله علیه واله) : فمن کنت مولاه فعلي مولاه، لا يخلو من حالين: إما أن يكون أراد (بمولى) ما تقدم به التقرير من (الأولى) أو يكون أراد قسما غير ذلك من أحد محتملات (مولى)، فإن أراد الأول فهو ما ذهبنا إليه واعتمدنا عليه.

وإن أراد وجها غير ما قدمه من أحد محتملات مولى ، فقد خاطب الناس بخطاب يحتمل خلاف مراده ، ولم يكشف لهم فيه عن قصده ، ولا في العقل دلیل عليه يغني عن التصريح بمعنی ما نحال إليه وهذا لا يجيزه على رسول الله صلى الله عليه وآله إلا جاهل لا عقل له.

الجواب عن السؤال الرابع

وأما الحجة على أن لفظة (أولى) يفيد معنى الإمامة والرئاسة على الأمة ، فهو أنا نجد أهل اللغة لا يصفون بهذه اللفظة إلا من كان يملك تدبير ما وصف بأنه أولى به ، وتصريفه وينفذ فيه أمره ونهيه.

ألا تراهم يقولون: إن السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية ، والمولى أولى بعبده ، والزوج أولى بامرأته ، وولد الميت أولى بميراثه من جميع أقاربه . وقصدهم بذلك ما ذكرناه دون غيره.

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله سبحانه : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أنه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم ، من حيث وجبت طاعته عليهم.

وليس يشك أحد من العقلاء في أن من كان أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد منهم ، فهو إمامهم المفترض طاعته عليهم.

ووجه أحسن

ومما يوضح أن النبي (صلی الله علیه واله) أراد أن يوجب الأمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك منزلة الرئاسة والإمامة والتقدم على الكافة فيما يقتضيه فرض الطاعة ، أنه قررهم بلفظ (أولى) على أمر يستحقه عليهم من معناها ، ويستوجبه من مقتضاها .

وقد ثبت أنه يستحق في كونه أولى بالخلق من أنفسهم أنه الرئيس عليهم ،

ص: 93

والنافذ الأمر فيهم ، والذي طاعته مفترضة على جميعهم، فوجب أن يستحق أمير المؤمنين (علیه السلام) مثل ذلك بعينه ، لأنه جعل له مثل ما هو واجب له ، فكأنه قال : من کنت أولى به من نفسه في كذا فعلي أولى به من نفسه فيه .

ووجه آخر

وهو أنا إذا أعتبرنا ما يحتمله لفظة مولى من الأقسام لم نر فيها ما يصح أن يكون من أراد النبي (صلی الله علیه واله) إلا ما اقتضاه الإمامة والرئاسة على الأنام.

وذلك أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن مالكا لرق كل من ملك رسول الله (صلی الله علیه واله) رقه ، ولا معتقا لكل من أعتقه ، فيصح أن يكون أحد هذين القسمين المراد ، ولا يصح أن يريد المعتق ، لاستحالة هذا فيهما على كل حال.

ولا يجوز أن يريد ابن العم ، والناصر ، فيكون قد جمع الناس في ذلك المقام، ويقول لهم: من کنت ابن عمه فعلي ابن عمه ، أو من کنت ناصره فعلي ناصره، لعلمهم ضرورة لذلك قبل ذلك المقام.

ومن ذا الذي لم يعلم أن المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي (صلی الله علیه واله)؟ فلا معنى لتخصيص أمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك دون غيره .

ولا يجوز أن يريد ضمان الجرائر واستحقاق الميراث ، للاتفاق على أن ذلك لم

يكن واجبا في شيء من الأزمان.

وكذلك لا يجوز أن يريد الحليف، لأن عليا (علیه السلام) لم يكن حليفا لجميع

حلفاء رسول الله (صلی الله علیه واله).

ولا يصح أيضا أن يريد من كنت جاره فعلي جاره، لأن ذلك لا فائدة فيه ، وليس هو أيضا صحيحا في كل حال .

فإذا بطل أن يكون مراده (صلی الله علیه واله) شيئا من هذه الأقسام، لم يبق إلا أن يكون قصده ما كان حاصلا له من تدبير الأنام وفرض الطاعة على الخاص والعام، وهذه هي رتبة الإمام. وفيما ذكرناه كفاية لذي الأفهام.

ص: 94

فصل وزيادة

فأما الذين ادعوا أن رسول الله (صلی الله علیه واله) إنما قصد بما قاله في أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الغدير أن يؤكد ولاءه في الدين ، ويجب نصرته على المسلمين ، وأن ذلك على معنى قوله سبحانه:

« وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ » التوبة: 71.

وإن الذي أوردناه من البيان على أن لفظة مولى يجب أن يطابق معنی ما تقدم من التقرير في الكلام ، وأنه لا يسوغ حملها على غير ما يقتضي الإمامة من الأقسام، يدل على بطلان ما ادعوه في هذا الباب. ولم يكن أمير المؤمنين (علیه السلام) بخامل الذكر فيحتاج أن يقف في ذلك المقام، ويؤكد ولاءه على الناس، بل كان مشهورا وفضائله ومناقبه و ظهور علو رتبته وجلالته قاطعا للعذر في العلم بحاله عند الخاص والعام.

على أن من ذهب في تأويل الخبر إلى معنى الولاء في الدين والنصرة ، فقوله داخل في قول من حمله على الإمامة والرئاسة ، لأن إمام العالمين تجب موالاته في الدين ، ويتعين نصرته على كافة المسلمين. وليس من حمله على الموالاة في الدين والنصرة يدخل في قوله ما ذهبنا إليه من وجوب الإمامة، فكان المصير إلى قولنا أولى (1) .

وأما الذين غلطوا فقالوا: إن السبب في ما قاله رسول الله (صلی الله علیه واله) في يوم الغدير ، إنما هو كلام جرى بين أمير المؤمنين وزيد بن حارثة ، فقال علي لزيد : تقول هذا وأنا مولاك ، فقال له زيد: لست مولاي، إنما مولاي رسول الله (صلی الله علیه واله)، فوقف يوم الغدير فقال: (من کنت مولاه فعلي مولاه) إنكارا على زيد ، وإعلاما له أن عليا مولاه.

فإنهم فضحهم العلم بأن زيدا قتل مع جعفر بن أبي طالب في أرض

ص: 95


1- وذلك لأن النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه والعموم في جانب من حمل الحديث على الولاء في الدين، والخصوص في جانب من حمله على الإمامة ، وحمله على الثاني يشمل الأول الوجوب موالاة الإمام في الدين ونصرته ، دون ما إذا حمل على المعنى الأول فلا يشمل الإمامة.

(مؤته) من بلاد الشام، قبل يوم غدير خم مدة طويلة من الزمان ، وغدير خم إنما كان قبل وفاة النبي (صلی الله علیه واله) بنحو ثمانين يوما . وما حملهم على هذه الدعوى إلا عدم معرفتهم بالسير والأخبار

ولما رأت الناصية غلطها في هذه الدعوى رجعت عنها ، وزعمت أن الكلام كان بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وبين أسامة بن زید . والذي قدمناه من الحجج يبطل ما زعموه، ويكذبهم فيما أدعوه.

ويبطله أيضا ما نقله الفريقان من أن عمر بن الخطاب، قام في يوم الغدير فقال : بخ بخ لك يا أبا الحسن ، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن ومؤمنة .(1) ثم مدح حسان بن ثابت في الحال بالشعر المتضمن رئاسته وإمامته على الأنام، وتصويب النبي (صلی الله علیه واله) في ذلك:

ثم احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) به يوم الشورى ، فلو كان ما أدعاه المنتحلون حقا لم يكن لإحتجاجه علیهم به معنی ، وكان لهم أن يقولوا : أي فضل لك بهذا علينا ، وإنما سببه كذا وكذا.

وقد احتج به أمير المؤمنين (علیه السلام) دفعات، واعتده في مناقبه الشراف،وكتب يفتخر به في جملة افتخاره إلى معاوية بن أبي سفيان في قوله :

وأوجب لي الولاء معا عليكم *** خليلي يوم دوح غدير خم

وهذا الأمر لا لبس فيه.

وأما الذين اعتمدوا على أن خبر الغدير لو كان موجبا للإمامة لأوجبها الأمير المؤمنين (علیه السلام) في كل حال، إذ لم يخصصها النبي (صلی الله علیه واله) بحال دون حال ، وقولهم أنه كان يجب أن يكون مستحقا لذلك في حياة رسول الله (صلی الله علیه واله)، فإنهم جهلوا معنى الإستخلاف والعادة المعهودة في هذا الباب.

ص: 96


1- بخ بخ إسم فعل بمعني هنيئا ، رواه بلفظ بخ بخ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج8 ص290، ورواه بلفظ هنيئا كل من الإمام أحمد في المسند ج4 ص 281. والرازي في التفسير الكبير في تفسير قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) وفيض القدير ج 2ص217 انظر : (فضائل الخمسة ج1 ص384 - 387).

وجوابنا أن نقول لهم : قد أوضحنا الحجة على أن النبي (صلی الله علیه واله) استخلف علیا (علیه السلام) في ذلك المقام، والعادة جارية فيمن يستخلف أن يخصص له الإستحقاق في الحال، والتصرف بعد الحال.

ألا ترون أن الإمام إذا نص على حال له يقوم بالأمر بعده ، أن الأمر يجري في استحقاقه وتصرفه على ما ذكرناه .

ولو قلنا إن أمير المؤمنين (علیه السلام) يستحق بهذا النص التصرف والأمر والنهي في جميع الأوقات على العموم والاستيعاب، إلا ما استثناه الدليل. وقد استثنت الأدلة في زمان حياة رسول الله (صلی الله علیه واله) الذي لا يجوز أن يكون فيه متصرف في الأمة [غيره] (1) ولا آمر ناه لهم سواه ، لكان هذا أيضا من صحيح الجواب.

فإن قال الخصم : إذا جاز أن تخصصوا بذلك زمانا دون زمان ، فما أنكرتم أن يكون إنما يستحقها بعد عثمان ؟

قلنا له: إنا أنكرنا ذلك ، من قبل ان القائلين بأنه استحقها بعد عثمان مجمعون على أنها لم تحصل له في ذلك بيوم الغدير ولا بغيره من وجوه النص عليه. وإنما حصلت له بالاختيار، وكل من أوجب له الإمامة بالنص أوجبها بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) من غير تراخ في الزمان ، والحمد لله .

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني رحمه الله ، قال :

أخبرني أبو حفص عمر بن علي العتكي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هارون الحنبلي ، قال : حدثنا حسين بن الحكم، قال: حدثنا حسن بن حسين ، قال : حدثنا أبو داود الطهوي عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : قام علي (علیه السلام) خطيبا في الرحبة ، وهو يقول:

« أنشد الله امرءا شهد رسول الله (صلی الله علیه واله) آخذا يدي ورفعهما إلى السماء ، وهو يقول : يا معشر المسلمين ألست أولی بكم من أنفسكم، فلما قالوا : بلى ، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والي من والاه، وعاد من عداه ، وأنصر من

ص: 97


1- في النسخة : أمره .

نصره ، وأخذل من خذله ». إلا قام فشهد بها ، فقام بضعة عشر بدريا ، فشهدوا بها. وكتم أقوام فدعا عليهم، فمنهم من برص، ومنهم من عمي ، ومنهم من نزلت به بلية في الدنيا، فعرفوا بذلك حتى فارقوا الدنيا . (1).

ومما حفظ عن قيس بن سعد بن عبادة أنه كان يقول (وهو) (2) بين يدي أمير المؤمنين صلوات الله عليه بصفين ، ومعه الراية في قطعة له، أولها:

قلت لما بغى العدو علينا *** حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصر *** ة بالأمس والحديث يطول

وعلي إمامنا وإمام *** لسوانا أتي به التنزيل

يوم قال النبي من كنت *** مولاه فهذا مولاه خطب جلیل

إنما قاله النبي على الأمة *** حتم ما فيه قال وقيل. (3)

فصل من الوصايا والإقرارات المبهمة العويصة

* فصل من الوصايا والإقرارات المبهمة العويصة(4)

وإذا أوصى رجل باخراج شيء من ماله ولم يسم، كان الواجب إخراج

السدس مما خلفه . قال الله تبارك وتعالى :

« ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضفة ، فخلقنا المضفة عظاما ، فكسونا

ص: 98


1- تجده مرويا في مسند أحمد ج1 ص 118 و119 و 88 و84 وجه ص307 و 366 و419 وج 4ص370 وفي حلية الأولياء (ج) 5 ص26 وفي خصائص النسائي ص 23 و26 وفي كنز العمال ج6 ص397 و403 وفي الإصابة ج1 قسم 1 ص319 و 29 و169 و182 و 156 وفي أسد الغابة ج5 ص276 وج3 ص307 وغيرها، أنظر : (فضائل الخمسة ج 1ما بين ص 349 وص383) مع اختلاف في بعض ألفاظه .
2- في النسخة (فهو).
3- أنظر : الفصول المختارة ج2 ص79.
4- في النسخة : العريضة ، وهي تصحيف العويصة .

«الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ». المؤمنون :

14 -12

فخلق الله سبحانه الإنسان من ستة أشياء ، فالشيء واحد من ستة، وهو السدس .

وإذا أوصى باخراج جزء من ماله ولم يسم، وجب إخراج سبع ماله ، قال الله تعالى:

« لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ » الحجر: 44

فالجزء واحد من سبعة ، وهو السبع.

وإذا أوصى بسهم من ماله ولم يسم، فالواجب إخراج الثمن ، قال الله تعالى:

«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» التوبة : 60

وهم ثمانية أصناف ، لكل صنف منهم سهم من الصدقات، فالسهم واحد من ثمانية وهو الثمن.

وإذا أوصى باخراج مال كثير ولم يسم وجب أن تخرج من ماله ثمانون درهما، قال الله تعالى :

« لقد نصرکم الله في مواطن كثيرة » وكانت ثمانين موطنا. وإذا قال: كل عبد لي قديم في ملكي فهو حر لوجه الله تعالى ، فالواجب أن يعتق كل عبد في ملکه ستة أشهر فما زاد ، قال الله سبحانه:

« وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ » يس: 39

وهو الذي مضى عليه ستة أشهر .

فإذا أوصى إلى رجل بدراهم، فقال: اعط زیدا نصفها ، وعمرا ثلثها ، و بکرا ربعها، فالواجب أن يعطي زيدا وعمرا ما سماه لهما، ويدفع ما بقي لبكر .

ص: 99

وإذا قال: عندي كذا دراهم ولم يبين ، فقد أقر بعشرة دراهم، على مايقتضيه اللسان. (1)

فإن قال: كذا درهما، فعشرون درهما .

فإن قال : كذا كذا درهم ، فعشر عشر درهم.

فإن قال: كذا كذا درهما، فأحد عشر درهما.

فإن قال : كذا وكذا درهما فأحد وعشرون درهما.

فإن قال : كذا وكذا كذا درهما فماية وأحد عشر درهما

فإن كان عارفا بالعربية وقال: له عنوي ماية درهم غير ثلاثة دراهم بنصب (غير) فله سبعة وسبعون درهما، لأنه استثنى من المالية ثلاثة.

فإن قال: له عندي ماية غير ثلاثة، برفع (غير)، فهي ماية كاملة، وإنما وصفها بأنها غير ثلاثة.

فإن قال : له ماية غير ثلاثة غير درهم ، ونصب (غير) فيهما جميعا ، فقد أقر بثمانية وتسعين درهما، لأنه استثنى من المالية ثلاثة فبقي سبعة وتسعون فلما استثنى مما استثناه درهما علم أن المستثنى من الماية درهمان، فكأن الذي اعترف به ثمانية وتسعون درهما .

فإن قال : له عندي ماية غير ثلاثة غير درهم، فنصب (غير) الأولة وخفض الثانية، فقد أقر بسبعة وتسعين درهما، لأنه لا نصب غير الأولة كان قد

ص: 100


1- وتفهم الإقرارات التي ذكرت من ملاحظة أمور: 1- رقم العدد المشار إليه بكذا، فقد يكون مفردا كقولك له كذا، وقد يكون مضافا إلى عدد آخر كقولك : له كذا كذا، وقد يكون مركبا تركيبا مزجيا كقولك : له كذا كذا درهما ، وقد يكون معطوفا كقولك : له كذا وكذا درهما. 2- التمييز قد يكون مفردا منصوبا كقولك: له كذا كذا درهما، وقد يكون مجرورا بالإضافة كقولك : له كذا درهم ، وقد يكون جمعا منصوبا كقولك: له كذا وكذا دراهم، وقد يكون مجرورا نحو قولك: له كذا دراهم. 3- ويؤخذ من هذه الإقرارات بالقدر المتيقن وهو أقل عدد محتمل فإذا قيل : له كذا دراهم فالمتيقن منه ثلاثة دراهم: وهكذا.

استثنى من الماية ثلاثة ، فلا خفض غير الثانية وكان قد وصف الثلاثة بأنها غير درهم، فالاستثناء على حاله ، والمال سبعة وتسعون درهما.

وكذلك ، لو قال : له عندي مائة غير ثلاثة غير درهم، بنصب غير الأولة ورفع غير الثانية، فإن له عنده سبعة وتسعون درهما، لأنه استثنى من الماية ثلاثة لما نصب غيرا، ثم وصف الماية بأنها غير درهم لما رفع غير الأخرى.

فإن هو أدخل الواو في الكلام عاطفا بها، كان استثناء معطوفا على استثناء ، والجميع يسقط من الأصل المذكور ، كقوله : له عندي ماية غير خمسة وغيرسبعة. فالخمسة والسبعة يسقطان من المائة ، فيكون له عنده ثمانية وثمانون درهما ، فافهم ذلك.

مسألة

ذكرها شيخنا المفيد رضي الله عنه في كتاب الأشراف. رجل اجتمع عليه عشرون غسلا ، فرض وسنة ومستحب ، أجزأه عن جميعها غسل واحد.

جواب

هذا رجل احتلم ، وأجنب نفسه بإنزال الماء ، وجامع في الفرج، وغسل میتا، ومس آخر بعد برده بالموت قبل تغسيله، ودخل المدينة لزيارة رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأراد زيارة الأئمة (علیه السلام) هناك. وأدرك فجر العيد ، وكان يوم جمعة ، وأراد قضاء غسل عرفة ، وعزم على صلاة الحاجة، وأراد أن يقضي صلاة الكسوف، وكان عليه في يوم بعينه صلاة ركعتين بغسل، وأراد التوبة من كبيرة على ما جاء عن النبي (صلی الله علیه واله) وأراد صلاة الإستخارة، وحضرت صلاة الاستسقاه ، ونظر إلى مصلوب، وقتل وزغة وقصد إلى المباهلة ، وأهرق عليه ماء غالب النجاسة.

فصل في ذكر هيئة العالم .

أعلم أن الأرض على هيئة الكرة ، والهواء يحيط بها من كل جهة ، والأفلاك تحيط بالجميع إحاطة استدارة ، وهي طبقات بعضها يحيط ببعض. فمنها سبعة تختص بالنيرين والكواكب الخمسة التي تسمى المتحيرة والسيارة .

ص: 101

فالنيران هما الشمس والقمر

والخمسة هي : زحل ، والمشتري ، والمريخ، والزهرة، وعطارد .

ولكل واحد منها فلك يختص به من هذه السبعة.

ففلك زحل أعلاها .

وفلك القمر أقربها من الأرض وأدناها .

وفلك الشمس في وسطها .

وتحت فلك زحل فيما بينه وبين فلك الشمس فلکان : فلك المشتري ثم فلك

المريخ .

وفوق القمر فيما بينه وبين الشمس فلکان: فلك عطارد ثم فلك الزهرة .

ويحيط بهذه الأفلاك السبعة فلك الكواكب الثابتة ، وهي جميع ما يرى في السماء غير ما ذكرنا.

ثم الفلك المحيط الأعظم المحرك جميع هذه الأفلاك.

ثم السموات السبع يحيط بالأفلاك، وهي مساكن الأملاك ، ومن رفعه الله تعالي إلى سمائه من أنبيائه وحججه علیهم السلام وللجميع نهاية . والكل على شكل الكرة، ومركزها الأرض، ومركز الأرض نقطة في وسطها جميع أجزاء الأرض، معتمدة عليها ، وهي مركز العالم كلها في الحقيقة .

ومن نهاية الأجسام الذي هو محيط الكرة إلى مركز الأرض متساو من كل جهة .

وقد قيل : إن العامر من الأرض هو ربع الكرة، والناس مستقرون على هذا الربع من كل جهة ، وإن كان بعضهم منخفضا عن بعض بالإضافة. فكل منهم، الأرض تحته والسماء فوقه ، وهو يرى أرضه التي هو عليها هي المستقيمة في الإعتدال دون غيرها.

وكل ما فارق السماء من أي جهة كان منها وذهب إلى الأرض، فهو نازل إليها ، وكل ما فارق الأرض من أي جهة كان ذهب إلى السماء ، فهو صاعد إليها. ولذلك لا تتحرك الأرض إلى إحدى الجهات، لأنها كيف ما تحركت

ص: 102

تكون صاعدة إلى السماء والأرض كالخردلة أو أصغر بالإضافة إلی عظم سعة الفلك.

والأفلاك لها حركات مختلفة ، لكن محركها مع ذلك، الفلك المحيط بها حركة واحدة ، يدور بها حول المركز في اليوم والليلة دورة واحدة.

والإنسان في أي موضع كان من الأرض یری نصف الفلك ، وقيل أنه يرى أكثر من النصف. وهذا يبين أنه لا تأثير لقدر الأرض.

وإذا طلعت الشمس بضيائها على جهة من الأرض كان ذلك نهارا لتلك الجهة ، وإذا غربت من جهة من الأرض كان الليل في تلك الجهة . وهو ظل الأرض.

وليس النهار عاما ولا الليل أيضا عاما ، وهي تطلع على قوم قبل قوم، وتغرب عن قوم قبل قوم.

والجهة التي تطلع الشمس والكواكب منها هي المشرق، وريحها يقال (له) الصبا ، والجهة التي تغرب منها هي المغرب، ويقال لريحها الدبور (1).

وإذا توجه القائم إلى جهة المشرق كانت الجهة التي عن يمينه الجنوب ، وريحها تسمى باسمها ، والجهة التي عن شماله الشمال تسمى بإسمها .

وكل ريح أنت بين جهتين فهي نكباء (2) وتسمى أيضا الثعامی (3).

والمسكون من الأرض هو المائل إلى جهة الشمال ، والربع الذي إلى جهة الجنوب غير مسكون ، ويقال : إنه ليس به حیوان ، ومنه يأتي النيل ، ولذلك لا يصل أحد إلى مبتداه.

وبقية الأرض قد غطاها الماء المالح ، وهو البحر الأعظم، الذي أطرافه يقال لها بحر المحيط. ومن هذا البحر خليجان داخلان إلى الربع العامر

ص: 103


1- لأنها تهب من مغرب الشمس ومكان إدبارها ، وهي تقابل الصبا .
2- وجمعها نكب.
3- في كفاية المتحفظ آنها الريح اليمانية ، وهي ريح الجنوب .

يتقاربان ، فنهاية أحدهما الفرماءان (1) ، ونهاية الآخر القلزم، وبينهما من المسافة قدر.

فصل: من الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يكون له مكان

أعلم - أيد الله - أن المكان عندنا هو ما أحاط بالمتمكن، فلما كان الله تعالى لا يجوز عليه ذلك، لأنه يقتضي حصره وتناهيه ، علم أنه لا يجوز أن يكون في مكان.

ومن خالفنا في حد المكان قال: إنه ما تمكن عليه وتصرف فيه. وهذا لا يجوز أيضا على الله تعالى ، لأن المتمکن معتمد ومماس أيضا لمكانه ، والاعتماد والمماسة من صفات المحدثين ، والله تعالى قديم ، فعلم أنه لا يكون في مكان .

وذو المكان أيضا قد حصل له حيز فصار في جهة دون جهة ، ولا يكون كذلك إلا جسم أو بعض جسم، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم ولا بعض جسم، فعلم بطلان المكان .

ثم إنه لو كان له مكان لم يخل مكانه من حالين: إما أن يكون قديما أو محدثا .

ولا يصح أن يكون قديما ، لمشاركته لله تعالى في القدم، وقد ثبت أنه لا قديم إلا هو وحده.

ولو كان المكان محدثا ، لكان الله سبحانه قبل إحداثه لا يخلو من قسمين: إما أن يكن محتاجا إلى المكان أو مستغنيا عنه.

ولا يجوز أن يكون لم يزل محتاجا إليه ، لما في ذلك من صفة النقص الذي لا

يكون للقديم.

وإن كان غنيا عنه قبل وجوده فلا يجوز أن يحتاج إليه بعد ذلك، لأن حاجته تخرجه عن قدمه ، وتشابه بينه وبين خلقه ، فوجب نفي المكان عنه .

ص: 104


1- هكذا في النسخة

فإن قيل: أليس من قولكم أن الله تعالى بكل مكان؟

قلنا: بلى ، ومعنى ذلك أنه عالم بكل مكان وبما فيه ، حافظ له. وهذا معروف في اللغة ، يقول القائل لصاحبه: إني معك حيث كنت ، وإني لا أغيب عنك ، ويريد : لا أجهل ما تعمله ، ولا يخفي علي شيء منه ، ويقال : إن الرجل في صلاته ، وفي بناء داره. وليس المراد انه متمكن أو حالة فيها ، وإنما يريدون أنه يفعلها ويدبرها.

فإن قيل : أو ليس في القرآن ، أن له عرشا وكرسيا ؟

قلنا: هو كذلك ، والعرش المذكور في القرآن على وجهين: أحدهما قوله سبحانه : «اَلرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى» (1).

وقد قال أهل العلم في ذلك: إن العرش هنا هو الملك ، واستواؤه عليه هو استيلاؤه عليه بالقدرة والسلطان.

واستشهدوا في ذلك بشواهد ، منها قول الشاعر في ذكر العرش وانه الملك :

إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم *** وأودوا كما أودت أياد وحمير (2)

ومنها قول الآخر في ذكر الاستواء وانه الاستيلاء:

إذا ما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم مرعی لنسر وكاسر

يريد بذلك الإستيلاء والقدرة عليهم والتمكن لهم بالقهر لهم...

والآخر تفسير قوله سبحانه:

« وَيَحمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوقَهُم يَومَئِذ ثَمَنِيَة » الحاقة: 17.

فقد قال العلماء في ذلك : إن هذا العرش بنية « خلقها الله تعالى في سمائه ، وأمر الملائكة بحملها ، لا لیکون عليها تعالى الله عن ذلك، ولكن لما رآه من الصلاح في تعبدهم بحملها وتعظيمها ، كما أنه سبحانه تعبد بني آدم بتعظيم الكعبة في الطواف حولها ، وقال إنها بيته ، لا ليسكنها تعالى الله عن ذلك.

ص: 105


1- سورة طه: 5
2- أياد وحمير قبيلتان من قبائل اليمن.

فأما الكرسي فالذي نذهب إليه فيه ، أنه العلم . روي ذلك عن العالم الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام ، قال :

« وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ » (1) يعني علمه . (2)

وقد روي أيضا في التفسير من طريق العامة عن ابن عباس ومجاهد ، والضحاك وغيرهم.

ومعنى الكلام دال عليه ، وأول الآبة تقتضيه ، لأن الله تعالى أخبر عن علمه فقال: « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ » البقرة: 255.

فوصل ذكر الكرسي بذكر العلم على طريق الوصف له ، والإبانة عنه . فكان كقوله في موضع آخر: «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ». (3)

فإن قيل: ما معنى رفعكم أيديكم نحو السماء في الدعاء ، وما معنى قوله سبحانه : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » فاطر: 10.

قلنا: الجواب عن ذلك ، أنا إنما رفعنا أيدينا نسترزق من السماء ، لقوله تعالى : «وَفِي السَّماءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُونَ » الذاريات: 22.

وإنما جاز أن يقال: إن الأعمال تصعد إلى الله تعالى ، لأن الملائكة الكرام حفظة الأعمال مسكنهم السماء .

وأيضا لأن السماء أشرف في الخلقة من الأرض ، فلذلك تعرض الأعمال فيها على الله سبحانه ، وبالتوجه إليها دعي الله تعالى . وكل ذلك اتساع في الكلام ، وليس فيه ما يوجب أن يكون الله سبحانه على الحقيقة في السماء .

ونحن نرى المسلمين يقولون للحجاج، هؤلاء زوار الله ، وإنما هن زوار بيت الله.

فإن قيل: فكيف هو؟

ص: 106


1- سورة البقرة: 255.
2- انظر : توحيد الصدوق ص 340.
3- فاطر : 7

فالجواب أن (کیف) استفهام عن حال ، والله لا تناله الأحوال. والذي ساق إليه الدليل هو العلم بوجوده سبحانه ، وأنه لا شبيه له.

جاء في الحديث أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، كان يقول إذا سبح الله تعالي ومجده:

« سبحانه من إذا تناهت العقول في وصفه كانت حائرة عن درك السبيل إليه ، وتبارك من إذا غرقت الفطن في تكييفه لم يكن لها طريق إليه غير الدلالة عليه .

- فصل -

في ذكر العلم وأهله ووصف شرفه وفضله والحث عليه والأدب فيه .

قال الله عز وجل:

« إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ » فاطر: 28.

وقال سبحانه:

« قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الزمر: 9.

وقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.

وقال : العلم علمان : علم في القلب ، فذلك العلم النافع ، وعلم في اللسان فذلك

حجة على العباد .

وقال: العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان .

وقال :

أربع تلزم كل ذي حجي من أمتي.

ثيل: وما هن یا رسول الله ؟

فقال : استماع العالم , وحفظه، والعمل به، ونشره.

وقال:

العلم خزائن، ومفتاحها السؤال. فسألوا يرحمكم الله ، فإنه يؤجر فيه أربعة : السائل، والمجيب، والمستمع، والمحب لهم.

ص: 107

وقال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .

وقال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم ، إتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فافتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.

وقال: من أراد في العلم رشدا فلم يزدد في الدنيا زهدا ، لم يزدد من الله إلا بعدا.

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام):

تعلموا العلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنه علم الحلال والحرام، وسبل منازل الجنة ، والأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزينة عند الإخلاء ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم للخير قادة وأئمة ، تقتص آثارهم ويقتدي بفعالهم ، وينتهي إلى رأيهم. ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس ، لأن العلم حياة القلوب، ومصابيح الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف، ويبلغ بالعباد منازل الأخبار والدرجات العلى ، وبه توصل الأرحام ، ويعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل ، والعمل تابع له ، يلهمه الله أنفس السعداء ويحرمه الأشقياء .(1).

وقال:

الكلمة من الحكمة يسمع بها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة .

وقال:

تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء .

وقال:

شكر العالم على علمه أن يبذله لمن يستحقه.

وقال:

لا راحة في العيش إلا لعالم ناطق أو مستمع واع.

ص: 108


1- تجده في البحار ج 1 ص 166 کا رواه في ص 171 عن أمالي الطوسي بسنده عن علي (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه واله) بزيادة واختلاف يسبر . رواه عن أمالي الصدوق بسنده المنتهي إلى ابن نباتة .

وقال:

أغد عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتعطب .

وقال:

إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما يصنع .

وقال :

لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ،

ولكنهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله وهانوا على الناس.

وقال:

العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنحو للسان والنجوم لمعرفة الأزمان.

وقال الباقر (علیه السلام):

عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد .

وقال :

من أفتي الناس بغير علم ولا هدى، لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه.

وقال الصادق (علیه السلام):

تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعرابا ، فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملا .

وقال:

العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ، لا تزيده سرعة السير إلا بعدها.

وقيل لبعض الحكماء : أيحس بالشيخ التعلم ؟

فقال : إن كان الجهالة تقبح منه فإن التعلم يحسن منه .

وقيل له : متى يحسن له التعلم ؟

فقال : ما حسنت به الحياة.

وقيل لبزرجمهر : العلم أفضل أم المال ؟

ص: 109

فقال : العلم. قيل له : فما بالنا نري العلماء علي أبواب الأغنياء ولا نکاد نري الأغنياء علي أبواب العلماء ؟

فقال : ذلک لمعرفتة العلماء منفعة المال ،و جهل الأغنياء بفضل العلم .

لبعضهم :

العلم زين و تشريف لصاحبه *** فا طلب -هديت- فنون العلم والأدبا

لا خير فيمن له أصل بلا أدب *** حتي يکون علي ما زانه حربا

کم من حسيب أخي عي وطمطمة *** فدم لدي القوم معروف اذا انتسبا

وخامل مقرف الآباء ذي ادب *** نال المعالي به والمال والنشبا

المقرف الذي تکون أمة کريمة و أبوه غير کريم .

يا طلب العلم نعم الشيء تطلبه *** لا تعدلن به ورقا ولا ذهبا

فالعلم ذکر و کنز لا يعادله *** نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا

قال الزجاجي (1) :

الهجين الذي يکون أبوه کريما و أمه غير کريمة *** والقلنفس الذي يکون أبوه و أمه غير کريمين.

وقد تقدم ذکر المقرف .

و حدثوا عن ابن جريح (2) انه قال :

خرجت في السحر فإذا ورقة تضربها الرياح ،فأخذتها فلما أضاء الصبح نظرت إليها فإذا فيها .

کن معسرا ان شئت أو موسرا *** لا بد في الدنيا من الهم

و کلما زادک من نعمة *** زاد الذي زادک في الغم

إني رأيت الناس في دهرنا *** لا يطلبون العلم للعلم

إلا مباراة لأصحابه *** وعدة للظلم والغشم

ص: 110


1- هو ابوالقاسم عبد الرحمن بن إسحاق العسمري الأصل ،البغدادي الإشتغال الشامي المسکن و الخاتمة ، أخذ عن أبي إسحاق ابراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي حتي برع في النحو يقال له الزجاجي نسبة إلي استاذه الزجاج له مولفات توفي بطبرية سنة 339 ه- .
2- لم دعثر له علي ترجمة .

قال ابن جریح : فوالله لقد منعتني هذه الأبيات من أشياء كثيرة .

- مسألة -

إن سأل سائل فقال: ما وجه التكرار في سورة الكافرون ، وإعادة النفي فيها في جملة بعد جملة ، وقد كان يغني ذلك مرة واحدة ؟؟

الجواب

قد أجاب الناس عن هذه المسألة بعدة أجوبة :

ونحن نورد منها أحسنها وأكثرها فائدة.

وأحسنها ما تضمن المعاني المختلفة حتى يكون المستفاد من النفي في الجملة الأولى غير المستفاد من النفي في الجملة الثانية.

وهذا يبطل التكرار، ويبقى للسائل بقية في السؤال.

فأعرب ما يجاب به فيها ، أن لفظه (أعبد) تصلح في الكلام لشيئين مختلفين:

أحدها أن يكون بمعنى أذل وأخضع وأخشع، وهذا من العبادة، وهو مستعمل معهود ، لا يفتقر فيه إلى دليل.

وثانيهما أن يكون (أعبد) بمعنى أجحد ، وهو من العبود الذي هو الجحود . وأهل اللغة يعرفون ذلك ، يقول القائل : عبدني فلان حقي، يريد جحدني حقي ، قال الشاعر :

فلو سألت قريشا من يؤممهم *** ما ميلوا ذاك عن قومی ولا عبدوا

يعني: ولا جحدوا.

وعلى هذا المعنى ما روي عن أحد الأئمة صلوات الله عليهم في تفسير قوله تعالى:

« قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ » الزخرف: 81

نجد الكلام على ذلك في كتاب الأمالي للمرتضی ج (1) ص 120 - 123.

ص: 111

وأن معناه: فأنا أول الجاحدين ، وذلك أن الدليل قد اتضح على أن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا ، والمحدث لا يكون إلها.

فقوله الله عز وجل في الجملة الأولى : (لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد)، إنما معناه: لا أذل ولا أخضع لأصنامكم التي تفعلون هذا لها، ولا أنتم فاعلوه أيضا لالهي الذي أنا فاعله له.

وقول جل اسمه في الجملة الثانية: « ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد » إنما معناه: ولا أنا جاحد لله تعالى الذي جحدتموه ، ولا أنتم جاحدون للأصنام التي أنا جاحدها.

فقد تضمنت الجملتان فائدتين مختلفتين ، وبان انتظام الكلام بغیر تکرار .

جواب آخر:

وهو أن يكون المراد بلفظه (أعبد) في الجملة الأولى ، الزمان الحاضر ، فكأنه قال: لا أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الآن ما أعبد .

ويكون المراد بها في الجملة الثانية الزمان المستقبل ، فكأنه قال : ولا أناعابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد .

فلفظة أعبد على هذا الجواب ، وإن كانت في الجملتين بمعنى واحد، وهو العبادة، فقد اختلفت ما يراد بها من الزمان المختلف، ولا شك في أن لفظة (أفعل) تصلح للزمانين الحاضر والمستقبل. وفي هذين الجوابين غني وكفاية ، والحمد لله.

واعلم أنه يجب أن يكون السؤال على هذا مختصا بخطاب من المعلوم من حالة انه لا يؤمن.

وقد ذكر أنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين ، وهم العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة، ولأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث ، وعدي بن قيس ، ولم يؤمن منهم أحد.

ص: 112

فإن قال: فما معنى قوله في السورة: (لكم دينكم ولي ديني). وظاهر هذا الكلام يقتضي أباحتهم المقام على أديانهم ؟؟

قلنا: إن ظاهر الكلام وإن كان ظاهر الإباحة ، فإن المراد به الوعيد والمبالغة في الزجر والتهديد ، كما قال تعالى (اعملوا ما شئتم). وقال « اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ».

وقد قيل: إن المعنى فيه ، لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني، فحذف الجزاء من اللفظ لدلالة الكلام عليه.

وقيل: إن الجزاء نفسه يسمى دينا ، قال الشاعر :

إذا ما لقونا لقيناهم *** ودناهم مثلما يقرضونا

أراد جزيناهم ، فيكون المعنى في قوله: (لم دینکم ولي دين) أي لكم جزاؤكم، ولي جزائي.

- مسألة -

فإن قال السائل : في وجه التكرار في سورة الرحمن، وإعادته مع كل آية : (فبأي آلاء ربکما تکذبان).

الجواب:

قلنا : إنما حسن هذا التكرار للتقرير بالنعم المختلفة ، وتعديدها نعمة بعد نعمة أنعم بها قرر عليها ووبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك المال ، ألم أحسن إليك بأن أمنتك من المكارة، ألم أحسن إليك بأن فعلت كذا وكذا. فيحسن منه التكرار لإختلاف ما قرر به ، وهذا كثير في الكلام ، مستعمل بين الناس.

وهذا الجواب عن وجه التكرار في - سورة المرسلات في قوله : (ويل يومئذ للمكذبين ).

فإن قيل: إذا كان الذي حسن التكرار في سورة الرحمن ما عدده من الآلاء، فقد عدد في جملة ذلك ما ليس بنعمة ، وهو قوله « يرسل علیکما شواظر

ص: 113

من نار ونحاس فلا تنتظران ». وقوله تعالى « هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ». فكيف يحسن أن يقول بعد هذا ، « فبأي آلاء ربکما تکذبان »؟؟

قلنا: الوجه في ذلك أن فعل العقاب وإن لم يكن نعمة ، فذكره ووصفه والانذار به من أكبر النعم، لأن في ذلك زجرا عما يستحق به العقاب ، وبعثا على ما يستوجب به الثواب.

وإنما أشار تعالى بقوله: « فبأي آلاء ربکما تکذبان» بعد ذكر جهنم والعذاب فيها إلى إنعامه بذكر وصفها والإنذار بها. والتخويف منها ، ولا شك في أن هذا في النعم التي يجب الاعتراف بها والشكر عليها ..(1).

کتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان

وما عملته كتاب البرهان على صحة طول عمر الإمام صاحب الزمان علیه وعلى آبائه أفضل السلام، وبیان جواز تطاول الأعمار .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما هدى ، وصلاته على من اصطفی سیدنا محمد ورسوله المجتبی، وآله أئمة الهدى.

ذكرت يا أخي - أيدك الله - أنك رأيت جماعة من المخالفين ، يعتمدون في إنكار وجود صاحب الزمان صلى الله عليه ، على ما يقتضيه تاريخ مولده ، من تطاول عمره على القدر المعهود ، ويقولون : إذا كان مولده عندكم في سنة خمس و خمسين ومائین، فله إلى سنتنا هذه، وهي سنة سبع وعشرين وأربعماية ، مأتان واثنتان وسبعون سنة.

ص: 114


1- نجد الكلام على تكرار الآية المذكورة في الأمالي ج (1) ص 123 - 127.

ولسنا نرى الأعمار تتناهي إلى أكثر من مائة وعشرين سنة ، بل لا نرى أحدا يلحق عمره هذا القدر اليوم.

ويزعمون أن هذه الزيادة على الماية والعشرين دلالة على بطلان ما نذهب إليه.

وسألت في إيراد كلام عليهم يوهي عمدتهم ويبطل شبهتهم ، ويكون أصلا في يدك ، يتمسك به المستند إليك.

وأنا مجيبك إلى ما سألت ، وأبلغك منها ما طلبت بعون الله وحسن توفيقه .

اعلم ، أولا أنه إذا وجبت الإمامة ووضحت الأدلة على اختصاصها بأئمتنا الأثني عشر (علیه السلام) دون جميع الأمة ، فلا منصرف عن القول بطول عمر إمامنا وصاحب زماننا (صلی الله علیه واله) ، لأن الزمان لا يخلو من إمام، وقد مضى آباء صاحب الزمان بلا خلاف، ولم يبق من يستحق الإمامة سواه.

فإن لم يكن عمره ممتدا من وقت أبيه إلى أن يظهره الله سبحانه ، حصل الزمان خاليا من إمام. وهذا دليل مبني على ما قدمناه .

وبعد ذلك فإنه لا يصلح أن يكلمك في طول عمره من لا يقر بشريعته .

فأما من أقر بها، وأنكر تراخي الأعمار وطولها ، فإن القرآن يخصمه بما تضمنه من الخبر عن طول عمر نوح عليه السلام ، قال الله تعالی :

« فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا » العنكبوت: 14

ولا طريق إلى الإنصراف عن ظاهر القرآن إلا ببرهان.

وقد أجمع المسلمون على بقاء الخضر (علیه السلام) من قبل زمان موسی (علیه السلام) إلى الآن، وأن حياته متصلة إلى آخر الزمان ، وما أجمع عليه المسلمون فلا سبيل إلى دفعه بحال من الأحوال.

فإن قال الخصم: هذان نبیان، ويجوز أن يكون طول أعمارهما معجزا لها وكرامة

يميزان بها عن الأنام، ولا يصح أن يكون هذا العجز والإكرام إلا الأنبياء (علیه السلام).

ص: 115

فقل له: يفسد هذا عليك بما استقر عليه الاتفاق ، من بقاء إبليس اللعين من عهد آدم (علیه السلام) وقبل ذاك إلى الآن، وأنه سيبقى إلى الوقت المعلوم كما نطق به القرآن ، وليس ذلك معجزا له ولا على سببل الإكرام.

وإذا اشترك الولي والعدو في طول العمر ، علم أن السبب في ذلك غير ما ذكرت، وأنه لمصلحة لا يعلمها إلا الله تعالى دون العباد .

فإن أنكر الخصم إبليس وبقاءه خرج عن ظاهر الشريعة ودفع إجماع الأئمة. وإن تأول ذلك طولب على صحة تأويله بالحجة.

ولو سلمت له طول العمر معجزا للمعمر وإكراما ، ولم يذكر له إبليس و طول عمره على ممر الأزمان ، كان لك أن تقول: إن حكم الإمام عندنا كحكم النبي في الاحتجاج وجواز ظهور العجز والإكرام بما يتميز به عن الأنام، فليس بمنكر أن يطيل الله تعالى عمره على سبيل المعجز والإكرام.

وأعلم- أيدك الله - أن المخالفين لك في جواز امتداد الأعمار ممن يقر بالإسلام لا يكلمونك إلا بكلام مستعاد.

فمنهم من ينطق بلسان الفلاسفة ، فيقول : إن طول العمر من المستحيل في

العقول الذي لم يثبت على جوازه دلیل.

ومنهم من ينطق بلسان المنجمين ، فيقول : إن الكواكب لا تعطي أحدا من العمر أكثر من مائة وعشرين سنة ، ولهم هذيان طويل.

ومنهم من ينطق بلسان الأطباء وأصحاب الطبائع ، فيقول : إن العمر الطبيعي هو مائة وعشرون سنة ، فإذا انتهى الحي إليها فقد بلغ غاية ما يمكن فيه صحة الطباع وسلامتها، وليس بعد بلوغ غاية السلامة إلا ضدها .

وليس على يد أحد منهم إلا الدعوى، ولا يستند إلا إلى العصبية والهوى، فإذا عضهم الحجاج رجعوا أجمعين إلى الشاهد المعتاد ، فقالوا إنا لم نر أحدا تجاوز في العمر إلى هذا القدر ، ولا طريق لنا إلى إثبات ما لم نر .

وهذا الذي جرت به العادة ، والعادة أصح دلالة.

وجميعهم خارجون عن حكم الملة ، مخالفون لما اتفقت عليه الأمة ، ولما سلف

ص: 116

أيضا من الشرائع المتقدمة، لأن أهل الملل كلها متفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها ، وقد تضمنت التوراة من الأخبار بذلك ما ليس بينهم فيه منازع.

وفيها أن آدم (علیه السلام) عاش تسعماية وثلاثين سنة .

وعاش شيث تسعماية واثنتي عشرة سنة.

وعاش أنوش تسعماية وخمسا وستين سنة.

وعاش قینان تسعماية سنة وعشر سنين.

وعاش مهلائيل ثمانماية وخمسا وتسعين سنة .

وعاش برد تسعمائة واثنين وستين سنة.

وعاش اخنوخ وهو إدريس . تسعمائة وخمسا وستين سنة .

وعاش متوشلح تسعمائة وتسعا وستين سنة .

وعاش ملك سبعمائة وسبعا وستين سنة.

وعاش نوح تسعماية وخمسين سنة .

وعاش سام ستماية سنة.

وعاش أرفخشاد أربعماية وثماني وتسعين سنة .

وعاش شالخ أربعمائة وثلاثا وتعسين سنة.

وعاش غابر ثمانمائة وسبعين سنة.

وعاش فالخ مأتين وتسعا وتسعين سنة .

وعاش ارغو مأتين وستين سنة.

وعاش باحور ماية وستا وأربعين سنة .

وعاش تارخ ماتين وثمانين سنة.

وعاش إبراهيم مائة وخمسا وسبعين سنة .

وعاش إسماعيل ماية وسبعا وثلاثين سنة.

وعاش اسحاق ماية وثمانين سنة .

فهذا ما تضمنته التوراة مما ليس بين اليهود والنصاري اختلاف.

وقد تضمنت نظيرة شريعة الإسلام، ولم نجد أحدا من علماء المسلمين يخالفه

ص: 117

أو يعتقد فيه البطلان، بل أجمعوا من جواز طول الأعمار على ما ذكرناه .

والمستدل يعلم جواز ذلك في العقل إذا أنعم الاستدلال، والاخبار قد تناصرت في قوم عمروا في قريب الزمان ، سوف أذكر جماعة منهم ، ليتأكد البيان، وليس المنازعة لنا بعد ذلك من ذي بصيرة وعرفان.

فإن قال قائل : إن الأعمار قد كانت يتطاول في سالف الدهر، ثم تناقضت عصرا بعد عصر حتى انتهت إلى ما نراه مما لا يجوز اليوم سواه.

قيل له: إن العاقل يعلم أن الزمان لا تأثير له في الأعمار ، وأن زيادتها ونقصانها من فعل قادر مختار يغيرها في الأوقات بحسب مما يراه من الصلاح.

ولسنا ننكر أن الله سبحانه قد أجرى اليوم بأقدار متقاربة في الأعمار، يخالف ما كان في متقدم الزمان ، غير أن هذا لا يحيل طول عمر بعض الناس ، إذا كان ذلك ممكنا من القادر المعطي للأعمار .

وقد ذكرنا أن الأخبار قد أتت بذكر المعمرين ، كانوا في قريب الزمان ، فلا طريق إلى دفع ما ذكرناه مع هذا الإيضاح .

وأما الذين استعاروا كلام الفلاسفة من المخالفين لنا في هذه المسألة ، وقولهم في العمر من المستحيل في العقول، فإنهم لم يعولوا في العلم بذلك على ضرورة يشاركهم العقلاء فيها . وإذا عدموا الضرورة فلا بد من حجة عقلية يطالبون بإيرادها ، ولا حجة معهم ينطقون بها، ولا عمدة لهم أكثر من الهوى والرجوع إلى ما يشاهد ويري. والهوى مضلة ، والإنكار لما لم يشاهد مزلة . وليس من موحد ولا ملحد إلا وهو يثبت ما لا يرى ويقر بما لم يشاهد.

فالموحد يقر بالله والملائكة وطول أعمارها ، ولم نر شيئا منها ، (...) (1).

والملحدة قد تقر بوجود جواهر بسيطة لا تجوز عليها الرؤية ، وتدعي أيضا وجود عقل (...) (2) لم ترهما، ولا رأت (...) (3) فضلا عنها.

ص: 118


1- في هذه الفراغات كلات غير واضحة.
2- في هذه الفراغات كلات غير واضحة.
3- في هذه الفراغات كلات غير واضحة.

وكل فرقة تدعي وجود أشياء لم تر. فمن زعم أنه لا يثبت إلا ما شاهد ورأى فقد أفسد على نفسه من مذهبه.

وهؤلاء في العمر ولا يدرون ما هو. والعمر هو اتصال كون الحي المحدود حيا. فهذا الاتصال إنما يكون بدوام الحياة ، والحياة فعل الله تعالى. فلیس يستحيل منه إدامتها، وكل ما جاز أن يفعله الله تعالى من طول العمر ، فإنه يجوز أن يفعل مثله في دوام الصحة والقوة وعدم الضعف والهرم.

وأما الذين استعاروا كلام المنجمين من المنازعين لنا في جواز طول العمر ، فإنهم يعتمدون الظنون دون اليقين.

والعقلاء يعلمون أن أصول المنجمين في الأحكام لا يثبت بالنظر والدليل، وبينهم من التحارب فيها والاختلاف ما لا يخفى على المتأمل .

إني وجدت في كتاب أحد علمائهم ، وهو الكتاب المعروف بابا لابن هبلى (1) في حكاية ذكرها عن معلمهم المقدم واستاذهم المفضل الذي يعولون (عليه) في الأحكام، ويستندون إلى كلامه وما يدعيه ، وهو المعروف (ما شاء الله) (2) أنا موردها ، ففيها أكبر حجة عليهم في هذه المسألة التي خالفونا فيها .

قال ما شاء الله :

الباب الأعظم من الهيلاج الذي يدل على العمر الكثير فإنه يكون المولود

ص: 119


1- هو على الظاهر تحريف عن ابن هبتني أو هبنته ، وهو منجم نصراني عاش في بغداد وألف كتابة في التجيم أسماء المغني بعد سنة 330ه - 941م، وكان الجزء التاني مه لا يزال محفوظا في مكتبة مونيخ، وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون مع اسم ابن هبنتة محرفا انظر (دائرة المعارف اللبنانية. ج 7 ص 117)
2- هو منجم يهودي واسمه میشی بن أبري، كان في زمن المنصور وعاش إلى أيام الأمون، وكان أوحد أهل زمانه في الأخبار بأمور الحدثان وله سهم قوي في سهم الغيب ، لقيه سفيان الثوري فقال له: أنت تخاف زحل وأنا أخاف رب زحل، وأنت ترجوا المشتري وأنا أرجو رب المشتري ، وأنت تند و بالاستشارة وأنا أغدو بالاستخارة فكم بيننا، فقال له ما شاء الله : كثير ما بيننا، حالك أرجى وأمرك أنجح وأحجي. له عدة مؤلفات أنظر (اخبار الحكماء ص 214).

في مثلثة إلى مثلثة وطالعه ثبوت أحد الكوكبين العلويين : زحل والمشتري ، وصاحب الطالع الكذ خذاه ، فإن كان المولود ليليا ، والهيلاج القمر ، فإن كان فوق الشمس في برج ، انثى ، وإن كان نهاريا فيكون الشمس في برج ذکر ، فإنه حينئذ يدل على بقاء المولود بإذن الله تعالى حتى يتحول القران عن مثلثة إلى أخرى، وذلك مائتان وأربعون سنة.

فأما في الزمن الأول فإن مثل هذه الدلالة كانت تدل على بقائه حتى يعود القران إلى مكانه ، وذلك بعد تسعماية وخمسين سنة. والله أعلم »

فما يقولون في كلام عالمهم (ما شاء الله)، وقد أوضح بتخصيصه في الدلالة الزمن الأول بتسعماية وخمسين سنة، أن مراده بالمأتين والأربعين من هذا الزمان ، وهو شاهد لنا على هؤلاء المعاندين المنكرين للحق الواضح البرهان .

وأما الذين اعتمدوا بكلام الأطباء وأصحاب الطبائع من قولهم : أن غاية العمر (في) الطبيعة ماية وعشرون سنة ، فإنهم لم يعتمدوا على حجة ، ولا تشبثوا بشبهة، وليس في أيديهم أكثر من دعواهم ، تبين لك بطلان مقالتهم ، أن الطبائع أعراض ، والأعراض لا يصح منها في الحقيقة أفعال ، وإنما يفعل القادر المختار . والطبائع أيضا فعل الله تعالى ، وهو الذي ارتكبها في الإنسان. فكما جاز منه أن يجعلها كلها صحيحة معتدلة مدة من الزمان، فهو قادر على أن يجعلها كذلك أضعاف تلك المدة ، فيطول عمر الإنسان ، وليس يستحيل ذلك في عقل ذي بصيرة وعرفان.

وأما المعتمدون في ذلك على العادات، فإنه (لا) حجة في أيديهم من قبل أن

العادات قد تختلف بإختلاف الأوقات وباختلاف الناس أيضا والاصقاع .

وقد سمعت من جماعة من الناس أن بلاد السند من البلاد التي تطول فيها الأعمار .

ورأيت بالرملة في جمادي الاخرة من سنة اثنتي عشرة وأربعماية شريفا من أهل السند يعرف بأبي القاسم عيسى بن علي العمري من ولد عمر ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وسألته عن ذلك؟ فقال لي هو صحيح.

ص: 120

وذكر أن الهرم عندهم قليل ، وحدثني أن ببلاد السند عندهم رجلا شريفا عمريا، وهو أمير من أمرائهم ، انه عاش (من) أن فارقه ماية وستين سنة.

قال : وهذا الشريف هو العباس بن علي بن عمر بن أحمد بن حمزة بن جعفر ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وليس يشك العاقل في أن العادات بيد الله تعالى ، وانه يصح منه تغييرها على التدريج (أو) خرقها . وقد تناثرت الأخبار القاطعة للأعذار بحال المعمرين الذين كانوا فيما بعد وقرب من الناس ، وروى حديثهم وأشعارهم ومبلغ أعمارهم وأخبارهم أصحاب السير والآثار ، حتى جرى ذلك مجرى ما تعلق من الحوادث في الأزمان والوقائع وأخبار البلدان ، واشترك في العلم العلماء ، وحصل المنكر له كالمنكر لما سواه مما تواترت به الأخبار، وقبح في مثله الانکار ، ولو اقتصر المستدل في جواز طول العمر على هذا الوجه لأغناه من الإطالة والإكثار .

- أخبار المعمرين -

فمن المعمرين الخضر (علیه السلام) المتصل بقاؤه إلى آخر الزمان ، ومما جاء من حديثه أن آدم (علیه السلام) لما حضره الموت جمع بينه فقال:

يا بني إن الله تبارك وتعالى منزل على أهل الأرض عذابا ، فليكن جسدي معكم في المغارة، فإذا هبطتم فابعثوا بي فادفنوني بأرض الشام، فكان جسده معهم ، فلما بعث الله نوحا (علیه السلام) ضم ذلك الجسد ، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت الأرض زمانا ، فجاء نوح حتى نزل ببابل ، وأوصى بینه الثلاثة، وهم سام ويافث وحام، أن يذهبوا بجسده إلى المكان الذي أمرهم أن يدفنوه فيه : فقالوا: الأرض موحشة ، لا أنيس بها، ولا نهتدي الطريق، ولكن نكف حتى يأمن الناس ويكثروا وتأنس البلاد وتجف ، فقال لهم: إن آدم (علیه السلام) قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة ، فظل جسد آدم (علیه السلام) حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه ، وأنجز الله تعالى ما وعده وإلى ما شاء الله أن يحيي.

وهذا حديث قد رواه مشائخ الدين وثقات المسلمين.

ص: 121

و(لقان بن عاد) الكبير أطول الناس عمرا بعد الخضر (علیه السلام). وذلك أنه عاش ألفا وخمسماية سنة.

ويقال: أنه عاش عمر سبعة أنسر ، وأنه كان يأخذ فرخ النسر الذكر فيجعله في الجبل، فيعيش النسر ما عاش ، فإذا مات أخذ آخر فرباه ، حتى كان آخرها لبد ، وكان أطولها عمرا، فقيل: طال الأبد على لبد. ولما رأى هلاکه قال: يا لبد ، اهلكتني نفسك ،.

وفيه يقول الأعشى (1).

لنفسك أن تختار سبعة أنسر *** إذا ما مضى نسر خلوت إلى نسر

فعمر حتى خال أن نسوره *** خلود ، وهل تبقى النفوس على الدهر

وقال لأدناهن إذ حل ریشه *** هلكت وأهلكت ابن عاد وما تدري

وهو الذي أراده القائل بقوله : (2)

أخنى عليها الذي أخنى على لبد .(3)

ومنهم ربیع (4) بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عبس بن قزارة ، عاش ثلاثماية سنة وأربعين سنة، وأدرك النبي (صلی الله علیه واله) ولم يسلم ، وهو الذي يقول:

ص: 122


1- مرت ترجمته.
2- هو النابغة الذبياني .
3- أوله: اضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا *** أخنى عليها الذي أخنى على لد
4- تحد أخباره وشعره في أمالي المرتضی ج 1 ص 253 وما بعدها .

ألا أبلغ بني بني ربيع *** وأشرار البنين لكم فداء

بأني قد كبرت ودق عظمي *** فلا يشغلكم عني النساء

وإن كنائني لنساء صدق *** ولا ألي (1) بني ولا أساؤوا

إذا جاء الشتاء فادفنوني *** فإن الشيخ يهدمه الشتاء

وأما حين يذهب كل قر *** فسر بال خفيف أو رداء

إذا عاش الفتى مأتين عاما *** فقد ذهب اللذادة والفتاء

وهو القائل :

أصبح مني الشباب قد حسرا *** إن ينأ عني فقد ثوى عصرا

الأبيات (2)

ومنهم المستوغر (3) بن ربيعة بن كعب ، عاش ثلاثماية سنة وثلاثا وثلاثين سنة ، وهو الذي يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها *** وعمرت من بعد السنين مئینا

مأة أتت من بعدها مأتان لي *** وعمرت وأزددت من بعد الشهور سنینا (4)

ومنهم أكثم بن صفي الأسدي التميمي ، وكان حكيما مقدما ، ولم تكن العرب تفضل عليه أحدا ، عاش ثلاثماية سنة وثلاثين سنة، وهو الذي يقول:

وإن امرءا قد عاش تسعين حجة *** إلى ماية لم يسأم العيش جاهل

ص: 123


1- بتشديد اللام وهي بمعنی قصر وهي بالتخفيف قصر أيضا:
2- تجد الابيات في الأمالي ج (1) ص 255 - 256 و هي سبعة أبيات.
3- انظر : سيرة ابن هشام ج 1 ص 93 وتجد أخبار المعمرين في إكمال الدین ج 2 ص 266-246 وفي غيبة الطوسي ص 85 - 94 وأمالي المرتضی ج 1 ص 233 وما بعدها من الصفحات.
4- وبعد البيتين كما في الأمالي للمرتضى هذا البيت: هل ما بقي إلا كما قد فاتنا *** يوم يكر وليلة تحدونا

خليت ماتان بعد عشر وفازها (1) *** وذلك من عد الليالي قلائل

وكان ممن أدرك الإسلام وآمن بالنبي (صلی الله علیه واله)، ومات قبل أن يراه، وله أحاديث كثيرة، وحكم مأثورة.

فما روي من حديثه أنه لما سمع برسول الله (صلی الله علیه واله) ، بعث إليه بابنه، وأوصاه بوصية حسنة. وكتب معه كتابا يقول فيه:

باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد ، فإنا بلغنا ما بلغك ، فقد أتانا عنك خبر ما ندري ما أصله ، فإن كنت أريت فأرنا، وإن كنت علمت فعلمنا ، وأشركنا في كنزك والسلام.

فكتب إليه رسول الله (صلی الله علیه واله):

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد رسول الله إلى أكتم بن صفي أحمد الله إليك ، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله ، أقولها وآمر الناس بها ، الخلق خلق الله ، والأمر كله لله ، خلقهم وأماتهم، وهو ينشر هم ، وإليه المصير ، آذنتكم بآداب المرسلين ، ولتسئلن عن النبأ العظيم ، ولتعلمن نبأه بعد حين.

فلما وصل كتاب رسول الله (صلی الله علیه واله) إليه ، جمع بني تميم ، ووعظهم وحثهم على السير معه إليه ، وعرفهم وجوب ذلك عليهم، فلم يجيبوه، وعند ذلك سار إلى رسول الله (صلی الله علیه واله) وحده ، ولم يتبعه غير بنيه وبني بنيه ، فمات قبل أن يصل إليه.

وهو أكتم بن صيفي بن رباح بن (الحرث) بن مجاشر بن شريف (بن) جروة بن

اسد بن عمرو بن تميم بن مرة.

ص: 124


1- كذا في السحة وقد تكون الكلمة : فانها ، والخطأ من الناسح، وفي غيبة الطوسي ص 87 هكذا : خلت مأتان غير ست وأربع ومثله في إكمال الدين ص 530.

ومنهم صيفي بن رباح بن أكثم المذكور ، عاش مأتي سنة وسبعين سنة ، ولا ينكر من عقله شيء.

وزعم بعض الرواة أنه ذو الحلم الذي قال له المتلمس اليشكري:

الذي الحلم قبل [ اليوم ] (1) ما تقرع العصا *** وما علم الإنسان الا لیعلما

ومنهم صبيرة بن سعيد بن سهم بن عمرو ، عاش مأتي سنة وعشرين سنة ، ولم

يشب قط ، وأدرك ولم يسلم.

روى أبو حاتم والرياشي عن العتبي عن أبيه، قال: مات صبيرة السهمي وله ماتا سنة وعشرون سنة، وكان أسود الشعر ، صحیح الأسنان ، فرثاه ابن عمه قيس بن عدي فقال :

من يأمن الحدثان بع- *** د صبيرة السهمي ماتا

سبقت منيته المشيب *** وكان میتته افتلانا

فتزودوا لا تهلكوا *** من بين أهلكم خفاتا

ومنهم دويد (2) بن زيد بن نهد القضاعي ، عاش أربعماية ستة وستا وخمسين ،

فلما حضره الموت قال:

ألقي علي الدهر رجلا ويدا *** والدهر ما أصلح يوما أفسدا

يفسد ما أصلحه اليوم غدا

وقال أيضا :

يا رب هب صالح حويته *** واليوم يكفي لدريد بيته

ورب قرن [بطل] (3) أرديته *** ورب عبل خشن لديته

لو كان للدهر بلى أبليته *** أو كان قرني واحدا كفيته

ص: 125


1- التصحيح عن غيبة الطوسي ص 87
2- تجد أخباره في أمالي المرتضی ج (1) ص 236 - 237 .
3- النصحيح عن أمالي المرتضی ج 1 ص 237.

ومنهم دريد بن الصمة الجشمي ، عاش دهرا طويلا وسقط حاجباه على عینیه.

وقيل : إنه لم يتجاوز مأتي سنة ، وأدرك الإسلام فلم يسلم ، وشهد يوم حنين

(مع) هوازن، وقتل بها، وهو القائل لما كبر:

فإن يك رأسي كالنعمامة نسله *** يطیف (بي) الولدان أحدث (...)

رهينة قعر البيت كل عشية *** كأني أرقى أو أصوب في المهد

فمن بعد فضل من شباب وقوة *** وشعر أثبت حالك اللون مسود

ومنهم عمرو بن حممة الدوسي ، عاش أربعماية سنة ، وهو الذي يقول :

كبرت فطال العمر حتى كأني *** سليم أفاع ليله غير مودع

فما الموت أفناني ولكن تتابعت *** علي سنون من مصيف ومربع

ثلاث مئين قد مررن کواملا *** وها أنا هذا ارتجي مر أربع

فأصبحت مثل النسر حل جناحه *** إذا هم تطيارا يقال له: قع

قال أبو روق: حدثنا الرياشي عن عمرو بن بكير عن الهيثم بن عدي عن مجالد بن الشعبي قال: كنا عند ابن عباس في قبة زمزم، وهو يفتي الناس ، فقام إليه رجل فقال له : أفتيت أهل الفتوى ، فأنت أهل الشعر ، قال : قل ، قال : ما معنى قول الشاعر:

لذى الحلم قبل اليوم ما يقرع العصا *** و ما علم الإنسان إلا ليعلما

فقال: ذاك عمرو بن حممة الدوسي قضى على العرب ثلاثماية سنة، فلما ألزموه، وقد رأى السادس أو السابع من ولد ولده ، قال : إن فؤادي بضعة مني ، فربما تغير علي اليوم والليلة مرارا ، وأمثل ما أكون فيهما في صدر النهار ،

ص: 126

فإذا رأيتني قد تغيرت فاقرع العصا ، فكان إذا رأى منه تغيرا أقرع العصا فيراجعه فهمه ، فقال المتلمس (1) :

لذى الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** وما علم الإنسان إلا ليعلما

ومنهم زهير بن جناب بن عبد الله بن كنانة بن عوف القضاعي ،(2) عاش أربعماية سنة وعشرين سنة (3) ، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه ، وكان يقال : إنه كانت له عشر خصال لم يجتمعن في غيره عن أهل زمانه ، كان سيد قومه ، وخطيبهم، وشاعرهم ، وحكيمهم، ووافدهم إلى الملوك ، وطبيبهم - والطب في ذلك الوقت شرف- وكاهن قومه ، وفارسهم ، وله البيت فيهم ، وله العدد منهم .

ومنهم الحرث بن مضاض الجرهمي ... إسماعيل (علیه السلام)، من ولد جرهم الأكبر ، وجرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ، وهو القائل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى، نحن كنا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي والحدود العوائر

وهي قصيدة طويلة قد رواها الناس.

ومنهم عامر بن الظرب العدواني ،(4) عاش مأتي سنة، وكان من حكماء العرب، وفيه يقول ذو ذو الأصبع العدواني :

ومنا حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي

ص: 127


1- هو جرير بن عبد المسيح أو (عبد العزي). شاعر جاهلي من شعراء البحرين مات سنة 580م والبيت من قصيدة يهجو بها عمرو بن هند ملك الحيرة أولها: يعيرني أمي رجال ولا أری *** أخا كرم إلا بأن يتكرما ومن كان ذا عرض کریم فلم يصن *** له حسبا كان اللئيم المذمما
2- أخباره في الأغاني ج 21 ص 148 - 160 وأمالي الشريف المرتضی ج (1) ص 238 وما بعدها.
3- في الأمالي : عاش ماتي سنة وعشرين سنة .
4- تجد أخباره في سيرة ابن هشام ج 1 ص 134.

ومنهم الحرث بن كعب المذحجي ، عاش ماية وستين سنة ، وله وصية حسنة القومه ، وكان على شريعة المسيح (علیه السلام)، وهو القائل :

أكلت شبابي فامضيته *** وأمضيت من بعد دهر دهورا

ثلاثة أهلين جاورتهم *** فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا

قليل الطعام عسير القيام *** قد ترك الدهر خطوي قصيرا

أبيت وأرعى نجوم السماء *** أقلب أمري بطونا ظهورا .

ومنهم. الأفوه بن مالك الأودي (1)، عاش مأتين وثلاثين سنة ، وله وصية لقومه ، وقصيدته المشهورة عنه المعروفة (2) :

فينا معاشر لن يبنوا لقومهم *** وإن بني قومهم ما أفسدوا عادوا

لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم *** فالجهل منهم معا والغي ميعاد

أضحوا كفيل ابن عتر في عشيرته *** إذ أهلكت بالذي باءت به عاد

وبعده كقدار حين تابعه *** على الغواية أقوام فقد بادوا

والبيت لا يبتنى إلا له عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أو تاد

وإن تجمع أوتاد وأعمدة *** وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

إذا تولى سراة القوم أمرهم *** [نما] على ذاك أمر القوم فازدادوا

يلقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت *** فإن تولت فبالأشرار تنقاد

إمارة الغي أن نلقى الجميع لدى *** الأبرام (3)

كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر *** لهم عن الرشد اغلال وأقياد

أعطوا غواتهم جهلا مقادهم *** فكلهم في حبال الغي منقاد

حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا *** فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد

فسوف اجعل بعد الأرض دونکم *** وإن دنت رحم منكم ومیلاد

ص: 128


1- هو صلاءة بن عمرو بن مالك ، والا فوه لقب ، كان من سادات العرب في الجاهلية ، وكان شاعرا فحلا وفارسا مغوارا ، وذا رأي وحزم ومات (سنة 570م).
2- في النسخة أغلاط كبيرة ونفص کلمات.
3- كلمات غير واضحة.

إن النجاة إذا ما كنت ذا بصر *** من .... أبعاد فأبعاد

وروي في قوله : (اضحوا کفیل بن عتر في عشيرته) إنهم كانوا وقد عادوا ، وأنهم خرجوا إلى البيت الحرام ليستسقوا لقومهم ، وكانوا قيل ، ولقمان ومريد وعارق ، فهم نزلوا على رجل من جرهم، فاشتغلوا عنده باللهو والطرب عن الاستسقاء، فما أفاقوا من لهوهم إلا وقد رفع الله تعالى على قومهم سحابة سوداء ، فهبت عليهم الريح العقيم فأهلكتهم ، وإن قيلا ضربه الصر فقتله ولحق بهم، وإن الثلاثة الباقين مروا فكان أطولهم عمرا لقمان بن عاد صاحب النسور ، وقد تقدم ذكره.

ومن المعمرين نضر بن دهمان بن سليم بن أشجع.

عاش ماية وتسعين سنة ، وعاوده شبابه ، وسواد شعره، وصحة عقله بعد ما مضي. وفيه يقول العباس بن مرداس السلمي:

لنضر بن ذهمان (الهنيدة) عاشها *** وتسعين حولا ثم قوم فانصاتا (1)

وعاد سواد الشعر بعد بیاضه *** وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا

وراجع عقلا بعد ما فات عقله *** ولكنه من بعد ذا كله ماتا

أتت .... الخيل من أرض حمير *** غرابيب دهما حالکات وكمتاتا

ومنهم أمية بن الاسكر الليثى .(2)

ذكر أنه عاش دهرا طويلا حتى صرت، فمر به غلام كان يرعى غنمه ، وهو يحثوا التراب على رأسه من الكبر ، فوقف ينظر إليه ، فلما أفاق أمية بصر بالغلام قائما ينظر إليه فأنشأ يقول:

ص: 129


1- فانصاتا أي استوت قامته .
2- أخباره مروية في الأغاني . أورد البيهقي منها ثلاثة أبيات .

أصبحت لهوة لراعي الضأن أعجبه *** ماذا يريبك مني راعي الضان

انعق بضانك في نجم تحضره *** من الأباطح واحبسها بحدان

انعق بضانك إني قدر رعيتهم *** بيض الوجوه بني عم وإخوان

أبني أمية ألا تحضرا کبري *** فإن عیشکما والموت سبان

إذ نركب الفرس الأحرى ثلاثتنا *** وإذ حدیثکما والعيش مثلان

وروي أن عمر بن الخطاب أخبر بخبر أمية ، فسأل عن ابنیه ، فقيل له : إن أحدهما بالبصرة، والآخر بالكوفة ، فأمر بأن يكتب فيهما بأن يردا إلى أبيهما .

وقال أمية يذكر ابنه كلابا (1)، وكان غائبا عنه.

تركت أباك مرعشة يداه *** وأمسك ما يسيغ لها شرابا

إذا هتفت حمامة بطن واد *** على إبكائها ذكرا كلابا

نمسح مهده شفقا عليه *** ونجنبه أباعرنا الصعابا (2)

ومنهم جعثم بن عوف بن خديجة عاش مأتين وخمسين سنة ، وقال:

حتى مني جعثم في الأحياء *** ليس بذي أيد ولا غناء

هیهات مسا للموت من دواء

ص: 130


1- وكلاب هو ابن امية وكان من خبار المسلمين قتل مع علي (علیه السلام) بصفين.
2- تجد هذه الأبيات في المحاسن والمساوىء ج 2 ص 361 فمن أبيات رواها البيهقی .

ومنهم أوس بن ربيعة بن کعب بن أمية الأسلمي. عاش مأتي سنة وأربع عشرة سنة ، وهو الذي يقول:

لقد عمرت حتى مل أهلي *** ثوائي عندهم وسئمت عمري

وحق لمن أتى مأتان عاما *** عليه وأربع من بعد عشر

يمل من الثواء وصح يوم *** يغادیه وليل بعد يسر

فأبلى جدتي وتركت شلوا *** وبحت بما يجن ضمير صدري

ومنهم كعب بن الردار بن هلال بن كعب.

عاش ثلاثماية سنة ، حتى مل من حياته فقال في ذلك:

لقد ملني الأدنى وأبغض رؤيتي *** وأبنائي كذا الا يحب كلامي

على الراحتين مرة وعلى العصا *** أكون مليا ما أقل عظامي

فياليتني قد سخن في الأرض قامة *** وليت طعامي كان فيه حمامي

ومنهم أنس بن نواس بن مالك ابن حبيش بن ربيعة

عاش دهرا طويلا، ونبتت أسنانه بعدما سقطت، فقال:

أصبحت من بعد البزول رباعيا *** وكيف الرباعي بعد ما عاشق بازله

ويوشك أن يلقي بنينا وإن بعد *** إلى جذع يثكل أخاكم ثواكله

إذا ما ثغرنا مرتين تقطعت *** حبال الصبا وانبت منها وسائله

ص: 131

ومنهم ثعلبة بن عبد بن کعب بن عبد الأشهل .

عاش مأتي سنة وثلاثا وثلاثين سنة، وهو جد الضحاك ، وهو القائل لما عمر :

لقد صاحبت أقواما فأمسوا *** خفاة لا يجاب لهم دعاء

وقوما بعدهم قد نادموني *** فأمسى موحشا منهم فناء

مضوا قصد السبيل وخلفوني *** فطال علي بعدهم التواء

فأصبحت الغداة رهين قبر *** وأخلفني من الموت الرجاء

ومنهم بحر بن الحارث بن امريء القيس الكلبي .

عاش ماية وخمسين سنة ، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وهو القائل :

من عاش خمسين عاما قبلها ماية *** من السنين وأضحى بعد ينتظر

وصار في البيت مثل الحلس مطرحا *** لا يستشار ولا يعطي ولا يذر

مل المعاش ومل الأقربون له *** طول الحياة، وشر العيشة الكبر.

ومن المعمرين ذو جدن الحميري

وكان ملكا يروى أنه عاش ثلاثماية سنة ، وهو القائل :

لكل جنب واقع مضطجع *** والموت لا ينفع منه الجزع

اليوم تجزون بأعمالكم *** وكل امرىء يحصد ما قد زرع

لو كان شيئا مفلتا حتفه *** أخلت منه في الجبال الصدع

ص: 132

له سماء وله أرضه *** يرفع من شاء ومن شاء وضع (1)

أخبار قس بن ساعدة الأيادي

ومن المعمر بن قس بن ساعدة الأيادي رحمه الله

عاش دهرا طويلا ، فروي أنه عاش ستماية سنة ، وروى أقل من ذلك .

وكان من عقلاء العرب وحكمائهم ، وهو أول من كتب من فلان بن فلان إلى فلان .

وهو أول من وحد الله تعالى ، وآمن به وأقر بعد له وحكمته ، وأنه خلق العباد وينشرهم بعد الممات.

وهو أول من قال: أما بعد، وأول من خطب بعصا ، وفيه يقول الأعشى قیس بن ثعلبة:

وأحكم من قس وأجرا من الذي *** بذي الفيل من خفان أصبح خادرا

ويقول الحطيئة :

وأقول من قس وأمضى إذا مضى *** من الريح إن مس النفوس نکالها

وقس الذي يقول:

هل الغيت معطي الأمن عند نزوله *** بحال مسي في الأمور ومحسن

وما قد تولى وهو (قد) فات ذاهب *** فهل ينفعني ليتني ولو أنني

وكذلك يقول لبيد :

وأخلف قسا ليتني ولو أنني *** وأعي على لقمان حكم التدبر

وكان قس أحسن الناس في زمانه عبادة ، وأفصحهم خطابة وأبلغهم عظة .

ص: 133


1- أنظر : اخباره في الأغاني ج 4 ص 67- 70، وفي سيرة ابن هشام .

وكان كثيرا ما يذكر رسول الله (صلی الله علیه واله)، ويبشر الناس به ، وآمن به قبل مبعثه .

وكان النبي (صلی الله علیه واله) يستعلم اخباره، ويستعيد من الناس مواعظه، ويترحم عليه ، ويقول: إن قسا أمة وحده

خبر قس وما قاله بسوق عكاظ

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن إبراهيم السلمي الحراني بمدينة الرملة في سنة عشرة وأربعماية ، قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن موسی بن إبراهيم البارسيري الحنظلي ، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد من ولد عمر بن الخطاب عن جعفر بن محمد عن محمد بن حسان عن محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال:

لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله (صلی الله علیه واله) قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة الأيادي؟ قالوا: كلنا نعرفه یا رسول الله.

قال: لست أنساه بعكاظ على جمل أحمر يخطب الناس وهو يقول :

أيها الناس اجتمعوا ، فإذا اجتمعتم فاسمعوا ، فإذا سمعتم فعوا ، قال وعيتم فقولوا : فإذا قلتم فاصدقوا:

من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبراء وإن في الأرض لعبرا.

مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور ، أقسم قس بالله قسما حقا ، لا كاذبا فيه ولا آثما ، إن كان في الأرض رضا ليكونن سخط ، إن الله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.

ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا.

ثم قال: أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه:

ص: 134

في الذاهبين الأولين *** من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا *** للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها *** يسعى الاصاغر والاكابر

لا يرجع الماضي ولا *** يبقى من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة *** حيث صار القوم صائر (1)

وروى أن رجلا حدث رسول الله (صلی الله علیه واله) فقال في حديثه.

خرجت في طلب بعير لي ضل ، فوجدته في ظل شجرة ينهش من ورقها ، فدنوت منه ، فزممته واستويت على کوره ، ثم اقتحمت واديا ، فإذا أنا بعين خرارة ،وروضة مدهامة ، وشجرة عادية ، وإذا أنا بقس قائما بين قبرین ، قد اتخذ له بينهما مسجدا. قال فلما انفتل من صلاته ، قلت له : ما هذان القبران ؟ فقال : هذان قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل معي في هذا المكان ، فأنا أعبد الله بينهما إلى أن الحق بهما.

قال: ثم التفت إلى القبرين فجعل يبكي ، وهو يقول:

خليلي هبا طال ما قد رقدتكما *** أجدكما أم تقضیان كراكما

أرى خللا في العظم والجلد منكما *** كأن الذي يسقي العقار سقاكما

ألم تعلما أني بسمعان مفرد *** ومالي بسمعان حبیب سواكما

مقيم على قبریكما لست بارحا *** طوال الليالي أو يجيب صداكما

فلو جعلت نفس لنفس فداءها *** لجدت بنفسي أن أكون فداکما (2)

ص: 135


1- خطبة قس وشعره هذا رواه الجاحظ في البيان والنبيين ج 1 ص 247- 248 والمفيد في الأمالي (المجالس) ص 201- 202.
2- تجد هذا الخبر في المجالس المفيد ص 202 - 203 مختصرا. وفي سيرة ابن هشام ج 1 ص 13.

قال: فقلت له :م لا تلحق بقومك، فنكون معهم في خيرهم وشرهم ؟ فقال : ثكلتك أمك ، أما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم ، واتبعوا الأضداد ، وعظموا الأنداد .

قلت: وما هذه الصلاة التي لا تعرفها العرب؟

فقال : أصليها لإله السماء .

فقلت : وللمساء إله غير اللات والعزى ، فامتعظ وامتقع لونه وقال : إليك عني يا أخا أياد.

إن للسماء إلها هو الذي خلقها ، وبالكواكب زينها ، وبالقمر المنير أشرقها . أظلم ليلها ، وأضحى نهارها، وسوف تعمهم من هذه الرحمة ، وأوصي بيده نحو مكة ، برجل أبلج من ولد لويء بن غالب ، يقال له محمد ، يدعوا إلى كلمة الإخلاص، ما أظن أني ادرکه . ولو أدركت أيامه لصفقت بكفي على كفه ، وسعيت معه حيث يسعی.

فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : رحم الله أخي قسا ، بحشر يوم القيامة أمة وحده.

خبر آخر عن قس يذكر فيه رسول الله (صلی الله علیه واله) والأئمة (علیه السلام) من بعده .

أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن محمد السباط (1) البغدادي، قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي الجوهري الحافظ (2) ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن لاحق بن سابق ، قال حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلي ، قال: حدثني أبي عن الشرقي بن القطامي عن تميم بن وهلة المري، قال: حدثني الجارود بن المنذر العبدي (3) وكان نصرانيا فأسلم عام الحديبية (4)، وحسن إسلامه، وكان قارئا للكتب ، عالما بتأويلها على وجه الدهر وسالف العصر ، بصيرا بالفلسفة والطب ، ذا رأي أصيل ووجه جميل ، أنشأ يحدثنا في أيام عمر بن الخطاب ، قال:

ص: 136


1- تحد هذا الخبر في كتاب مقتضب الأثر لابن عباش الجوهري ص 36 - 37 ببعض الاختلاف.
2- تحد هذا الخبر في كتاب مقتضب الأثر لابن عباش الجوهري ص 36 - 37 ببعض الاختلاف.
3- هي مكان بعيد عن مكة المكرمة على بعد تسعة أمال مما يلى طرف الحرم، وفيه كان الموادعة بين رسول الله (صلی الله علیه واله) وبين المشركين وذلك في ذي العقدة من السنة السادسة للهجرة.
4- هي مكان بعيد عن مكة المكرمة على بعد تسعة أمال مما يلى طرف الحرم، وفيه كان الموادعة بين رسول الله (صلی الله علیه واله) وبين المشركين وذلك في ذي العقدة من السنة السادسة للهجرة.

وفدت على رسول الله (صلی الله علیه واله) في رجال من عبد القيس ، ذوي أحلام وأسنان وفصاحة وبيان وحجة وبرهان ، فلما بصروا به (صلی الله علیه واله) راعهم منظره ومحضره عن بيانهم، واعتراهم الرعداء في أبدانهم.

فقال زعيم القوم لي دونك من أممت بنا أمه ، فما نستطيع أن نكلمه .

فاستقدمت دونهم إليه ، فوقفت بين يديه ، فقلت سلام عليك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ثم أنشأت أقول:

يا نبي الهدى أتتك رجال *** قطعت قرددا وإلا فالا

جابت البيد والمهامه حتى *** غالها من طوي السري ما غالا

قطعت دونك الصحاح تهوي *** لا تعد الكلال فيك كلالا

كل دهناء يقصر الطرف عنها *** أرقلتها قلاصنا إرقالا

وطوتها العتاق تجمح فيها *** بكماة مثل النجوم تلالا

ثم لما رأتك أحسن مرأى *** أفحمت عنك هيبة وجلالا

تتقي شر بأس يوم عصيب *** هائل أوجل القلوب وهالا

ونداء لمحشر الناس طرا *** وحسابا لمن تمادى ضلالا

نحو نور من الاله وبرهان *** وبر ونعمة لن تنالا

وأمان منه لدى الحشر والنشر *** إذ الخلق لا يطيق سؤالا

فلك الحوض والشفاعة والكو *** ثر والفضل إذ ينص السؤالا

خصك الله يا ابن آمتة الخير *** إذا ما بکت سجال سجالا

أنبأ الأولون باسمك فينا *** وباسماء بعده تتلالا

قال: فأقبل علي رسول الله (صلی الله علیه واله) ، بصفحة وجهة المبارك ، شمت منه ضياء لامعا ساطعا كوميض البرق ، فقال : يا جارود ، لقد تأخر بك وبقومك الموعد،. وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد إليه بقومی فلم آته ، وأتيته في عام الحديبية ، فقلت : ما كان إبطائي عنك إلا أن جلة قومي أبطأوا عن إجابتي ، حتى ساقها الله إليك لما أراد لها به من الخير لديك.

وأما من تأخر عنه فحظه فات منك ، فتلك أعظم حوبة ، وأكبر عقوبة ،

ص: 137

ولو كانوا من رآك لما تخلفوا عنك ، وكان عنده رجل لا أعرفه. قلت: ومن هو ؟ قالوا : هو سلمان الفارسي ذو البرهان العظيم والشأن القديم .

فقال سلمان: وكيف عرفته أخا عبد القيس من قبل إتيانه؟

فأقبلت على رسول الله (صلی الله علیه واله) وهو يتلألأ ويشرق وجهه نورا وسرورا ، فقلت یا رسول الله ، إن قسا كان ينتظر زمانك، ويتوكف إبانك ، ويهتف باسمك وأبيك وأمك ، وباسماء لست أصيبها معك ، ولا أراها فيمن اتبعك.

قال سلمان: فأخبرنا ، فأنشأت أحدثهم، ورسول الله (صلی الله علیه واله) يسمع ، والقوم سامعون واعون.

قلت : يا رسول الله ، لقد شهدت قسا وقد خرج من ناد من أندية أياد إلى صحصح ذي قتاد وسمر وعتاد، وهو مشتمل بنجاد، فوقف في اضحيان ليلي كالشمس رافعا إلى السماء وجهه واصبعه فدنوت منه فسمعته يقول:

اللهم رب هذه السبعة الأرقعة ، والأرضين الممرعة ، و بمحمد والثلاثة المحامدة معه ، والعليين الأربعة، وسبطية التبعة الأرفعة ، والسري الألمعة ، وسمي الكليم الضرعة، والحسن ذي الرفعة ، أولئك النقباء الشفعة ، والطريق المهيعة ، درسة الإنجيل وحفظة التنزيل على عدد النقباء ، من بني إسرائيل ، محاة الأضاليل ، نفاة الأباطيل ، الصادقو القيل، عليهم تقوم الساعة ، وبهم تنال الشفاعة ، ولهم من الله فرض الطاعة.

ثم قال : اللهم ليتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحياي ، ثم أنشأ يقول : متى أنا قبل الموت للحق مدرك *** وإن كان لي من بعد هاتيك مهلك

وإن غالني الدهر الحرون بقوله *** فقد غال من قبلي ومن بعد يوشك

فلا غرو أني سالك مسلك الأولى *** وشيكا ومن ذا للردي ليس يسلك

ثم آب يكفكف دمعه ويرث رنين البكرة قد بريت ببراة وهو يقول:

أقسم قس قسما *** لیس به مکتتما

لو عاش ألفي عمر *** لم يلق منها سأما

حتى يلاقي أحمدا *** والنقباء الحكما

ص: 138

هم أوصياء أحمد *** أكرم من تحت السما

يعمي العباد عنهم *** وهم جلاء للعمی

لست بناس ذكرهم *** حتى أحل الرجما

ثم قلت: يا رسول الله أنبئني أنبأك الله - بخبر عن هذه الأسماء التي لم نشهدها ، وأشهدنا قس ذكرها فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) :

يا جارود ، ليلة أسري بي إلى السماء ، أوحى الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا ، على ما بعثوا

فقلت لهم: على ما بعثتم ؟

فقالوا : على نبؤتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما.

ثم أوحي إلى، أن التفت عن يمين العرش، فالتفت، فإذا على والحسن والحسين وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسی بن جعفر ، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والمهدي (علیه السلام) في ضحضاح من نور يصلون.

فقال لي الرب تعالى : هؤلاء الحجج لأوليائي ، وهذا المنتقم من أعدائي .

قال الجارود: فقال سلمان: یا جارود هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور ، فانصرفت بقومي وأنا أقول:

أتيتك يا ابن آمنة الرسولا *** لكي بك اهتدي النهج السبيلا

فقلت فكان قولك قول حق *** وصدق ما بدا لك أن تقولا

وبصرت العمى من عبد شمس *** وكل كان من عمه ضليلا

وأنبأناك عن قس الايادي *** مقالا فيك ظلت به جديلا

وأسماء عمت عنا فآلت *** إلى علم و(كنت) به جهولا (1)

ص: 139


1- تحد هذا الخبر في مقتضب الأئمة ص 37- 43 وانظر البحار ج 15 ص247 ببعض الإختلاف. وذكره المؤلف في كتابه الإستصار ص 37.

فصل من الكلام في هذا الخبر

اعلم - أيدك الله تعالى - أنك تسأل في هذا الخبر عن ثلاثة مواضع :

أحدها أن يقال لك: كان الأنبياء المرسلون (علیه السلام) قبل رسول الله (صلی الله علیه واله) قد ماتوا، فكيف يصح سؤالهم في السماء ؟.

وثانيها أن يقال لك: ما معنى قولهم إنهم بعثوا على نبوته وولاية علي والأئمة من ولده عليهم السلام؟

وثالثها أن يقال لك: كيف يصح أن يكون الأئمة الاثني عشر (علیه السلام) في تلك الحال في السماء ، ونحن نعلم - ضرورة - خلاف هذا، لأن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان في ذلك الوقت بمكة في الأرض، ولم يدع قط، ولا ادعى له أحد أنه صعد إلى السماء. فأما الأئمة من ولده فلم يكن وجد أحد منهم بعد ولا ولد ، فما معنی ذلك إن كان الخبر حقا ؟؟ فهذه مسائل صحيحة، ويجب أن يكون معك لها أجوبة متعددة.

أما الجواب عن السؤال الأول فهو أنا لا نشك في موت الأنبياء (علیه السلام) غير أن الخبر قد ورد بأن الله تعالى يرفعهم بعد مماتهم إلى سمائه ، وأنهم يكونون فيها أحياء متنعمين إلى يوم القيامة.

(و) ليس ذلك بمستحيل في قدرة الله تعالى . وقد ورد عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال :

« أنا أكرم عند الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث »

وهكذا عندنا حكم الأئمة (علیه السلام).

قال النبي (صلی الله علیه واله):

« لو مات نبي بالمشرق، ومات وصيه بالمغرب لجمع الله بينهما ».

وليس زيارتنا لمشاهدهم على أنهم بها، ولكن لشرف المواضع ، فكانت غيبة الأجساد فيها ، ولعبادة أيضا ندبنا إليها ، فيصح على هذا أن يكون النبي (صلی الله علیه واله) رأي الأنبياء (علیه السلام) في السماء ، فسألهم كما أمره الله .

ص: 140

وبعد فقد قال الله تعالى :

« ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم ..» آل عمران: 169.

فإذا كان المؤمنون الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بهذا الوصف، فكيف ينكر أن الأنبياء بعد موتهم أحياء منعمون في السماء .

وقد اتصلت الأخبار من طريق الخاص والعام بتصحيح هذا، وأجمع الرواة على أن النبي (صلی الله علیه واله) لما (خوطب) بفرض الصلاة ليلة المعراج، وهو في السماء قال له موسی (علیه السلام) إن أمتك لا تطيق ، وأنه راجع (1) الله تعالی دفعة بعد أخرى. (2)

وما حصل عليه الإتفاق فلم يبق فيه كذب.

وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن يكون الأنبياء قد أعلموا بأنه سیبعث نبيا يكون خاتمهم وناسخا بشرعه لشرائعهم، وأعلموا أنه أجلهم وأفضلهم، وأنه سيكون (له) أوصياء من بعده ، حفظة لشرعه، وحملة لدينه ، وحجج على أمته ، فوجب على الأنبياء (علیه السلام) التصديق بما أخبرو به والإقرار بجميعة .

أخبرني الشريف يحيى بن أحمد بن إبراهيم بن طباطبا الحسيني ، قال : حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي عن أبي علي بن هام عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن عبد الله بن محمد ، عن محمد بن أحمد ، عن يونس بن يعقوب ، عن عبد الأعلى بن أعين ، قال :سمعت أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) يقول:

« ما تنبأ نبي قط إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا ».

وإن الأمة مجمعة على أن الأنبياء قد بشروا بيننا ، ونبهوا على أمره، ولا

ص: 141


1- في النسخة: راجع إلى الله.
2- خبر المعراج وقول موسی (علیه السلام) له (صلی الله علیه واله) إن امتك لا تطيق ومراجعته ، تجده في صحيح مسلم في كتاب الإيمان ، وصحيح النسائي ، انظر : فضائل الخمسة ج (1) ص 108 - 106.

يصح منهم ذاك إلا وقد أعلمهم الله تعالى به ، فصدقوا وآمنوا بالمخبر به .

وكذلك قد روت الشيعة بأنهم قد بشروا بالأئمة أوصياء رسول الله (صلی الله علیه واله) .

وأما الجواب عن السؤال الثالث فهو أنه يجوز أن يكون الله تعالى أحدث الرسوله (صلی الله علیه واله) في الحال صورا صور الأئمة (علیه السلام) ليراهم أجمعين على كمالهم . فيكون كمن شاهد أشخاصهم برؤيته مثالهم، ويشكر الله تعالى على ما منحه من تفضيلهم وإجلالهم.

وهذا في العقول من الممكن المقدور .

ويجوز أيضا أن يكون الله تعالى خلق على صورهم ملائكة في سمائه يسبحونه ويقدسونه لتراهم ملائكته الذين قد أعلمهم بأنه يكون في أرضه حججا له على خلقه ، فتتأكد عندهم منازلهم ، وتكون رؤيتهم تذكارا لهم بهم وبما سيكون من أمرهم.

وقد جاء في الحديث أن رسول الله (صلی الله علیه واله) رأى في السماء لما خرج به ملكا على صورة أمير المؤمنين (صلی الله علیه واله). وهذا خبر قد اتفق أصحاب الحديث على نقله .

حدثني به من طريق العامة الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان القمي ، ونقلته من كتابه المعروف بايضاح دقائق النواصب ، وقرأته عليه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعماية ، قال حدثنا أبو القاسم جعفر بن مسرور اللجام ، قال حدثنا الحسين بن محمد، قال حدثنا أحمد بن علويه المعروف بابن الأسود الكاتب الأصبهاني (1)، قال حدثني إبراهيم بن محمد ، قال حدثني عبد الله بن صالح ، قال حدثني جرير بن عبد الحميد عن مجاهد عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول:

« لما أسري بي إلى السماء ما مررت بملا من الملائكة إلا سألوني عن علي بن أبي

ص: 142


1- هو الكرماني المتوفى سنة 320 ونيف أو سنة 312 وتجاوز الماية من عمره كان لغويا أديبا كاتبا شاعرا شيعيا راويا للحديث له كتاب الاعتقاد في الأدعية، وذكر ياقوت في معجم الأدباء أن له ثمانية كتب في الأدعية من إنشائه وله شعر في مدح أمير المؤمنين ومنه النونية المسماة بالالفية والمحبرة ذكر ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي مقاطيع منها .

طالب حتى ظننت أن اسم على أشهر في السماء من اسمی ، فلما بلغت السماء

الرابعة نظرت إلى ملك الموت فقال: يا محمد ، ما خلق الله خلقا إلا أقبض روحه بيدي ما خلا أنت وعلي ، فإن الله جل جلاله يقبض أرواحكما بقدرته ، فلا صرت تحت العرش نظرت فإذا أنا بعلي بن أبي طالب ، قال لي: يا محمد ليس هذا عليا ، ولكنه ملك من ملائكة الرحمن خلقه الله تعالى على صورة على ابن أبي طالب. فنحن الملائكة المقربون كلا اشتقنا إلى وجه علي بن أبي طالب زرنا هذا الملك ، لكرامة علي بن أبي طالب على الله سبحانه »

فيصح على هذا الوجه أن يكون الذين رآهم رسول الله (صلی الله علیه واله) ملائكة على صور الأئمة (علیه السلام). وجميع ذلك داخل في باب التجويز والإمكان والحمد لله .

نرجع إلى ذكر المعمر بن.

وقد روى أن منهم سلمان الفارسي رحمه الله عليه، وأنه عاش مأتین من السنين.

وروى أن منهم عمرو بن العاص، وأنه عاش في الجاهلية والاسلام مأتي سنة ، وأنه قال حين أحس الموت:

مضت ماتا حول لعمرو وبعدها *** رمته المنايا بالسهام القواصد

فات وماحي وإن طال عمره *** على مر أيام السنين بخالد

ومنهم أمد بن لبد ،

عاش ثلاثمائة وستين سنة . وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال: إني أحب أن ألقى رجلا قد أتت عليه سن، وقد رأى الناس يخبرنا عما رأي، فقيل له : هذا رجل بحضر موت، فأرسل إليه ، فأتاه ، فقال : ما أسمك؟ فقال أمد ، قال : ابن من؟ قال: ابن لبد، قال ما أتى عليك من السنين؟ قال: ستون وثلاثماية سنة. قال: كذبت ثم تشاغل عنه معاوية ثم قال: أخبرنا عما رأيت من الأزمان الماضية إلى زماننا هذا من ذاك.

ص: 143

قال: يا أمير المؤمنين ، وكيف تسأل من يكذب؟

قال: ما كذبتك ، ولكن احببت أعلم كيف عقلك .

قال : يوم شبيه يوم، وليلة شبيهة بليلة ، يموت ميت ، ويولد مولود ، ولولا من يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.

قال: فأخبرني هل رأيت هاشما ؟

قال: نعم، رأيت رجلا طوالا حسن الوجه ، يقال : بين عينيه بركة أو غرة بركة.

قال: فهل رأيت أمية؟

قال: نعم، رأيت رجلا قصيرا أعمي ، يقال إن في وجهه آشرا وشؤما .

قال: فهل رأيت محمدا ؟ قال: من محمد ؟ قال: رسول الله .

قال: ويحك ، أفلا فخمته کما فخمه الله ، فقلت رسول الله (صلی الله علیه واله).

قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟

قال: كنت تاجرا ، قال : فما بلغت في تجارتك ؟

قال: كنت لا أستر عيبا ولا أرد ربحا .

قال معاوية : سلني.

قال : أسألك أن تدخلني الجنة .

قال: ليس ذلك بيدي ولا أقدر عليه .

قال: فأسألك أن ترد علي شبابي .

قال: ليس ذلك بيدي ولا أقدر عليه .

قال: فلا أرى عندك شيئا من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة، فردني من حيث جئت بي

قال: أما هذا فنعم.

ثم أقبل معاوية على جلسائه فقال: لقد أصبح هذا زاهدا فيما أنتم فيه ترغبون.

ص: 144

ومن المعمرين عبيد بن شريد الجرهمي (1).

عاش ثلاثماية سنة ، ولحق أيضا أيام معاوية بن أبي سفيان.

فروي أنه قدم عليه يوما إلى الشام، فقال معاوية : أخبرني من أعجب ما رأيت، قال: نعم، انتهيت إلى قوم يدفنون میتا لهم، فلما فرغوا منه اغرورقت عيناي وتمثلت بهذه الأبيات:

يا قلب أنك في أسماء مغرور *** فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير

قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد *** حتي جرت بك إطلاقا محاضير

ما بت فاصبر فما تدري أعاجلها *** خير لنفسك أم ما فيه تأخير

فاستقدر الله خيرا وارضين به *** فبينما العسر إذ دارت مياسير

وبينما المرء في الأحياء مغتبط *** إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير

حتى كأن لم يكن إلا تذكره *** والدهر أيتما حال دهاریر

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** وذو قرابته في الحي مسرور

وذاك آخر عهد من أخيك إذا *** ما الميت ضمنه اللحد الخناسير

(يعني بالخناسير الحفارین)

ص: 145


1- تجد قصة عبيد الجرهمي في اكمال الدين ص 511-512 خالية من الأبيات المذكورة وهي و قصة طويلة.

فقال لي رجل منهم: هل تدري من قال هذه الأبيات؟ قلت: لا قال: هوالذي دفناه .(1).

ومن المعمرين العوام بن المنذر الطائي .

عاش دهرا طويلا في الجاهلية ، وبقي إلى أن أدرك خلافة عمر بن عبد العزيز ، فأدخل عليه ، وقد اختلفت تر قوتاه وسقط حاجباه ، فقيل : ما أدركت ؟ فقال:

والله ما أدري أأدركت أمة *** على عهد ذي القرنين أم كنت أقدما

متى تنزعوا عني اللباس تبينوا *** اجاجي لم يكسين لحما ولا دما

ومن المعمرين أيضا.

تميم بن ثعلبة بن عطاية الربعي ، عاش مأتي سنة ومعدي كرب الحميري من آل ذي رعين، عاش مأتين وخمسين سنة.

وجعفر بن قرط الجهني ، عاش ثلاثماية سنة، وأدرك الإسلام وأسلم.

وعوف بن كنانة الكلبي ، عاش ثلاثماية سنة.

وهبل بن عبد الله بن كنانة الكلي ، عاش ستماية وسبعين سنة .

وحصين بن عتبان الزبيدي ، عاش مأتين وخمسين سنة.

وشربة بن عبد الله الجعفي من سعد العشيرة، عاش ثلاثماية سنة.

وربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم ، عاش ثلاثماية سنة وثلاثين سنة ، وأدرك الإسلام فأسلم وكان شاعرا.

وسيف بن وهب الطائي ، عاش مأتي سنة.

وعدوان بن عمرو بن قیس ، عاش مأتين وخمسين سنة . وكف بصره.

وعاش ابن يزيد الجعفي خمس وماية سنة ، وأدرك الإسلام.

وعاش مرداس بن ضييم بن زيد العشيرة مأتين وستا وثلاثين سنة .

ص: 146


1- رواه البيهقي في المحاسن والمساوىء ج 2 ص 19 مختصرا .

وعاش عمرو بن ربيعة اللخمي ثلاثماية وأربعين سنة .

فهذا ظرف من ذكر المعمرين ومختصر مما رواه أصحاب الأثر وعلماء المصنفین ، قد أوردته لك زيادة على ما تقدم، وإثباتا للحجة على من يفهم .

وإذا جاز أن يعمر الله تعالى جماعة من خلقه من أنبيائه (علیه السلام) وأوليائه والمشركين له، ويمدهم بصحة الأجساد وثبوت العقل والرأي، فما الذي ينكر من طول عمر صاحب الزمان (علیه السلام)، وهو حجة الله تعالى على العباد ، وخاتم الأوصياء من ذرية رسوله (صلی الله علیه واله)، والموعود بالبقاء ، حتى يكون على يده هلاك جميع الأعداء، ويصير الذين كله لله، لولا أن خصومنا معاندون للحق ومكابرون.

وقد ذاع بين كثير من الخصوم ما یروی ويقال اليوم من حال المعمر أبي الدنيا المغربي المعروف بالأشبح، وأنه باقي من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طال (علیه السلام) إلى الآن، وأنه مقيم من ديار المغرب في أرض طنجة ، ورؤية الناس له في هذه الديار ، وقد عبر متوجها إلى الحج والزيارة، وروايتهم عنه حديثه وقصته، وأحاديث سمعها من أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه ، وقوله أنه كان رکابيا بين يديه ، ورواية الشيعة أنه يبقى إلى أن يظهر صاحب الزمان (صلی الله علیه واله).

وكذلك حال المعمر المشرقي، ووجوده بمدينة من أرض المشرق يقال لها سهردود إلى الآن. ورأينا جماعة رأوه وحدثوا حديثه ، وأنه أيضا كان خادما الأمير المؤمنين (صلی الله علیه واله)، والشيعة تقول إنها يجتمعان عند ظهور الإمام المهدي عليه وعلى آبائه أفضل السلام.

خبر المعمر المغربي

وهو علي بن عثمان بن الخطاب البلوي (1)

حدثني الشريف طاهر بن موسی بن جعفر الحسيني مصر سنة سبع

ص: 147


1- تجد خبره في كتاب إكمال الدين للصدوق القمي المتوفي سنة 381 ه وذلك في ص 502- 508، وفي لسان الميزان ج 4 ص 134 - 140.

وأربعماية ، قال : أخبرنا الشريف أبو القاسم میمون بن حمزة الحسيني ، قال : رأيت المعمر المغربي ، وقد أتي به إلى الشريف أبي عبد الله محمد بن اسماعیل سنة عشر وثلاثماية ، وأدخل داره ومن معه وهم خمسة رجال، وأغلقت الدار ، وازدحم الناس ، وحرصت في الوصول إلى الباب فما قدرت ، لكثرة الزحام، فرأيت بعض غلمان الشريف أبي عبد الله محمد بن اسماعيل، وهما قنبر وفرح، فعرفتهما أني أشتهي أنظره، فقالا لي : در إلى باب الحمام بحيث لا يدري بك ، فصرت إليه ، ففتحا لي سرا ودخلت ، وأغلق الباب ، وحصلت في مسلح الحمام، وإذا قد فرش له ليدخل الحمام ، فجلست يسيرا ، فإذا به قد دخل ، رجل نحيف الجسم ربع من الرجال ، خفيف العارضين ، آدم اللون ، إلى القصر أقرب ما هو ، أسود الشعر ، يقدر الانسان أنه له نحوا من أربعين سنة ، وفي صدغه أثر ، كأنه ضربة.

فلما تمكن من الجلوس، والنفر معه وأراد خلع ثيابه ، قلت : ما هذه الضربة؟ قال: أردت أناول مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) السوط يوم النهروان ، فنفض الفرس رأسه فضربني اللجام ، وكان مخا (كذا)، فشجني .

فقلت له: أدخلت هذه البلدة قديما؟ قال: نعم، وكان موضع جامعكم الفلاني مقبلة ، وفيها قبر .

فقلت هؤلاء أصحابك ، فقال: ولدي وولد ولدي.

ثم دخل الحمام، فجلست حتى خرج ولبس ثيابه ، فرأيت عنفقته قد ابيضت ، فقلت له كان بها صباغ؟ قال: لا، ولكن إذا جعت ابيضت ، وإذا شبعت اسودت .

فقلت: قم أدخل الدار حتى تأكل فدخل الباب.

وروى الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسن (1) ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أنه حج في تلك السنة (2)،

ص: 148


1- في النسخة : الحسين ، وصححناه اعتمادا على إكمال الدين ص 507 الذي نقل الرواية بطولها .
2- وفي إكمال الدين م 507: قال حججت في سنة ثلاث عشرة وثلاثماية .

وفيها حج نصر القشوري صاحب المقتدر ، قال: فدخلت مدينة الرسول (صلی الله علیه واله)، فأصبت بها قافلة البصريين ، وفيها أبو بكر محمد بن علي المادراني (علیه السلام)، ومعه رجل من أهل المغرب ، يذكر أنه رأى أصحاب رسول الله (صلی الله علیه واله)، فازدحم عليه الناس ، وجعلوا يتمسحون به ، فكادوا يقتلونه.

قال: فأمر عمي أبو القاسم طاهر بن يحيى فتيانه وغلمانه أن يفرجوا عنه ، ففعلوا ودخلوا به إلى دار ابن (أبي) سهل اللطفي ، وكان طاهر يسكنها ، وأذن للناس ، فدخلوا ، وكان معه خمسة رجال، ذكر أنهم أولاده وأولاد أولاده ، فيهم شیخ ، له نيف وثمانون سنة ، فسألناه عنه ، فقال : هذا ابني.

واثنان لكل واحد منهما ستون أو خمسون سنة ، وآخر (1) ست عشرة سنة فقال: هذا ابني، ولم يكن معه أصغر منه.

وكان إذا رأيته قلت ابن ثلاثين أو أربعين سنة، أسود الرأس واللحية ، شاب ،نحيف الجسم ، آدم ربع القامة ، خفيف العارضين ، هو إلى القصر أقرب ، واسمه علي بن عثمان بن الخطاب بن (بن مزيد) (2)

فمما سمعت من حديثه الذي حدث الناس به أنه قال:

خرجت من بلدي أنا وأبي وعمي نريد الوفود على رسول الله (صلی الله علیه واله)، وكنا مشاة في قافلة ، فانقطعنا عن الناس، واشتد بنا العطش، وعدمنا الماء وزاد بأبي وعمي الضعف فأقعدتهما إلى جانب شجرة ومضيت ألتمس لهما ماء فوجدت عينا حسنة، وفيها ماء صافي في غاية البرد والطيبة، فشربت حتى ارتويت ، ثم نهضت لآتي بأبي وعمي إلى العين ، فوجدت أحدهما قد مات، وتركته بحاله ، وأخذت الآخر ومضيت به في طلب العين ، فاجتهدت أن أراها فلم أرها ، ولا عرفت موضعها، وزاد العطش به فمات ، فحرصت في أمره حتى واريته ، وعدت إلى الآخر فواريته أيضا ، وسرت وحدي إلى أن انتهيت (إلى) الطريق ، ولحقت بالناس، ودخلنا المدينة. وكان دخولي إليها في اليوم الذي

ص: 149


1- في النسخة: وإخوته ، والتصحيح عن إكمال الدين ص 507.
2- الزيادة عن إكمال الدين ص 507.

قبض فيه رسول الله (صلی الله علیه واله)، فرأيت الناس منصرفين من دفنه ، فكانت أعظم الحسرات دخلت قلبي .

ورآني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فحدثته حديثي ، فأخذني فكنت يتيمة ، فأقمت معه مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وأيام خلافته حتى قتله عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة.

قال: ولما حوصر عثمان بن عفان في داره دعاني ودفع إلى كتابا ونجيبا وأمرني بالخروج إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وكان علي غائبا بينبع في ضياعه وأمواله ، فأخذت الكتاب وركبت النجيب وسرت ، حتى إذا كنت موضع يقال له : جنان بن أبي عيابة سمعت قرآنا ، فإذا هو أمير المؤمنين (علیه السلام) يقرأ:

« أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون »

قال: فلما نظر إلى قال: يا أبا الدنيا ، ما وراءك ؟

قلت : هذا كتاب عثمان ، فقرأه، فإذا فيه :

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي *** وإلا فأدركني ولما أمزق

فلما قرأه قال: سر ، سر ، فدخلنا المدينة ساعة قتل عثمان ، فال أمير المؤمنين إلى حديقة بني النجار، وعلم الناس مكانه فجاؤا إليه ركضا ، وقد كانوا عازمين على أن يبايعوا طلحة ، فلما نظروا إليه ارفضوا (عن) طلحة ارفضاض الغنم يشد عليها السبع ، فبايعه طلحة والزبير ، ثم تتابع المهاجرون والأنصار يبايعونه ، فأقمت معه أخدمه، وحضرت معه صفين أو قال النهروان ، فكنت عن يمينه إذ سقط السوط من يده ، فانكببت لآخذه وأرفعه إليه ، وكان لجام دابته لمخا فشجني هذه الشجة ، فدعاني أمير المؤمنين (علیه السلام) فتفل فيها وأخذ حفنة من تراب فتركها عليها ، فوالله ما وجدت ألما ولا وجعا .

ثم أقمت معه صلى الله عليه ، وصحبت الحسن (علیه السلام) حتى بالساباط وحمل إلى المدائن، ولم أزل معه بالمدينة حتى مات (علیه السلام) مسموما ، سمته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي.

ص: 150

ثم خرجت مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء ، وقتل (علیه السلام) فهربت بديني ، وأنا مقيم بالمغرب أنتظر خروج المهدي وعیسی بن مریم (صلی الله علیه واله).

قال الشريف أبو محمد الحسن بن محمد الحسيني:

ومما رأيت من هذا الشيخ علي بن عثمان ، وهو إذ ذاك في دار عمي طاهر ابن يحيى ، وهو يحدث بأحاديثه وبدء خروجه، إذ نظرت إلى عنفقته فرأيتها قد احمرت ثم ابيضت ، فجعلت أنظر إلى ذلك لأنه لم يكن في لحيته ولا رأسه ولا عنفقته بياض ، فنظر إلي أنظر إليه ، فقال : ما ترون ، إن هذا يصيبني إذا جعت ، فإذا شبعت رجعت إلى سوادها.

فدعا عمي بطعام، فأخرج من داره ثلاث موائد ، فوضعت بين يديه ، وكنت أنا ممن جلس معه عليها ، وجلس عمي معه ، وكان يأكل ويلقمه ، فأكل أكل شاب ، وعمي يحلف عليه ، وأنا أنظر إلى عنفقته تسود حتى عادت إلى سوادها وشبع.

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن ابراهيم السلمي الحراني ، وأبو عبد الله الحسين بن محمد الصيرفي البغدادي قالا جميعا أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد المعروف بالمفيد، لقرائتی علیه بحر جرايا (1)، وقال الصيرفي : سمعت منه إملاء سنة خمس وستين وثلاثماية ، قال : حدثنا علي بن عثمان بن الخطاب بن عبد الله بن عوام البلدي من مدينة بالمغرب يقال لها مزيدة، يعرف بأبي الدنيا الأشبح المعمر قال : سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول : «كلمة الحق ضالة المؤمن ، حيث وجدها فهو أحق بها». وقال حدثنا الأشبح قال سمعت علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول :

« أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما » .(2)

ص: 151


1- روى ذلك أبو علي القالي في ذيل الأمالي ص 171 وأبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيی الوشاء في الموشی ص 4 والطوسي في الأمالي ج 1 ص 374 وج 2 ص 235 وص 314. انظر : مصادر نهج البلاغة للمعلق ص 297.
2- روى ذلك أبو علي القالي في ذيل الأمالي ص 171 وأبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيی الوشاء في الموشی ص 4 والطوسي في الأمالي ج 1 ص 374 وج 2 ص 235 وص 314. انظر : مصادر نهج البلاغة للمعلق ص 297.

وقال: حدثنا الأشبح قال سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : قال النبي (صلی الله علیه واله):

« طوبى لمن رآني أو رأى من رأي من رآني ».

وقال : حدثنا الأشبح قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول: « إنه عهد إلى النبي

الأمي (صلی الله علیه واله) أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ».

وقال : حدثنا الأشج قال : سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : قال النبي (صلی الله علیه واله):

« في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق ، ويسرع الفناء.

وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرب جل وعز ، وسوء الحساب ، والدخول في النار ».

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: سمعت

النبي (صلی الله علیه واله) يقول:

من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ».

وقال: حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول :

« لما نزلت وتعيها أذن واعية »

قال النبي (صلی الله علیه واله) : سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي» (1) .

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول : قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« لا تتخذوا قبري مسجدا ، ولا تتخذوا قبورکم مساجد، ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي حيث كنتم، فإن صلواتكم تبلغني ، وتسليمكم يبلغني ».

ص: 152


1- تجد قول النبي (صلی الله علیه واله) هذا لعلي (علیه السلام) في الطبري والكشاف ومجمع الزوائد وحلية الأولياء والدر المنثور وکنز العمال ، انظر : فضائل الخمسة ج 1 ص 272 - 274.

وقال: حدثنا الأشج قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول:

« ما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلى رسول الله (صلی الله علیه واله) الراية يوم خيبر ».

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول:

« من جلس في مجلسه ينتظر الصلاة فهو في صلاة ، وصلت عليه الملائكة ،

وصلواتهم عليه : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ».

وقال : حدثنا الأشج قال : سمعت عليا (علیه السلام) يقول:

« كان رسول الله (صلی الله علیه واله) لا يحجبه ولا يحجزه من قراءة القرآن إلا الجنابة »

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول : سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول:

« الحرب خدعة ».

وقال : حدثنا الأشج قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول: « قضى رسول الله (صلی الله علیه واله) في الوتر قبل الوصية ، وأنت تقرأون من بعد وصية توصون بها أو دين ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه ».

وقال أبو بكر المعروف بالمفيد: رأيت أثر الشجة في وجهه ، وقال: أخبرت أمير المؤمنين (علیه السلام) بحديثي وقصتي في سفري وموت أبي وعمي ، و(عين) الماء التي شربت منها وحدي ، فقال (علیه السلام):

« هذه عين لم يشرب منها أحد إلا عمر عمرا طويلا ، فابشر ، فإنك تعمر ، ما كنت لتجدها بعد شريك منها ».

قال أبو بكر : وسألت عن الأشج أقواما من أهل البلدة ، فقالوا: هو مشهور عندنا بطول العمر ، يحدثنا بذلك الأبناء عن آبائهم عن أجدادهم ، وقوله في أنه لقي علي بن أبي طالب (علیه السلام) معلوم عندهم ، متداول بينهم.

فأما الأحاديث التي رواها عن الأشج أبو محمد الحسن بن محمد الحسيني مما لم

يروه أبو بكر محمد بن أحمد الجرحراي فهي:

ص: 153

قال الشريف أبو محمد : حدثني علي بن عثمان العمر الأشج ، قال: حدثني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« من أحب أهل اليمن فقد أحبني ، ومن أبغضهم فقد أبغضني ».

قال: وحدثني أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: قال لي رسول الله (صلی الله علیه واله):

« أنا وأنت يا علي أبوا هذا الخلق ، فمن عقنا فعليه لعنة الله ، أمن يا علي ، فقلت: آمين يا رسول الله .

فقال: يا علي ، أنا وأنت موليا هذا الخلق ، فمن جحدنا ولاءنا ، وأنكرنا حقنا فعليه لعنة الله ، أمن يا علي ، فقلت: آمين يا رسول الله ». آخر أخبار العمر المغربي :

حديث المعمر المشرقي:

هذا رجل مقيم ببلاد العجم من أرض الجبل ، يذكر أنه رأى أمير المؤمنين (علیه السلام). ويعرفه الناس بذلك على مر السنين والأعوام.

ويقول إنه لحقه مثل ما لحق المغربي من الشجة في وجهه ، وإنه صحب أمير

المؤمنين (علیه السلام)، وخدمه.

وحدثني جماعة مختلفو المذاهب بحديثه ، وأنهم رأوه وسمعوا كلامه.

منهم أبو العباس أحمد بن نوح بن محمد الحنبلي الشافعي . حدثني بمدينة

الرملة في سنة إحدى عشرة وأربعمائة.

قال: كنت متوجها إلى العراق (للتفقه) (1) فعبرت بمدينة يقال لها شهرورد من أعمال الجبل ، قريبة من زنجان ، وذلك في سنة خمسين وثلاثماية (2) ، فقيل لي: إن ههنا شيخا يزعم أنه لقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فلو صرت إليه ورأيته لكان ذلك فائدة عظيمة.

ص: 154


1- في النسخة : للنفقة.
2- في النسخة: سنة خمسين وأربعماية ، وهو خطأ من الناسخ بقرينة ما سبق. وبقرينة أن المؤلف توفي (سنة 449 ه).

قال: فدخلنا عليه ، فإذا هو في بيته يعمل النوار ، وإذا هو شيخ نحيف الجسم، مدور اللحية ، كبيرها، وله ولد صغير ولد له منذ سنة.

فقيل له : إن هؤلاء القوم من أهل العلم متوجهون إلى العراق ، يحبون أن يسمعوا من الشيخ ما قد لقي من أمير المؤمنين (علیه السلام).

فقال: نعم، كان السبب في لقائي له، أني كنت قائما في موضع من المواضع ، فإذا أنا بفارس مجتاز ، فرفعت رأسي فجعل الفارس يمر يده على رأسي ويدعو الي، فلما أن عبر ، أخبرت بأنه علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فهرولت حتى لحقته وصاحبته.

وذكر أنه كان معه في تكريت ، وموضع من العراق ، يقال له تل فلان بعد ذلك ، وكان بين يديه يخدمه إلى أن قبض (علیه السلام)، فخدم أولاده.

قال لي أحمد بن نوح: رأيت جماعة من أهل البلد ذكروا ذلك عنه ، وقالوا سمعنا آباءنا يخبرونا عن أجدادنا بحال هذا الرجل، وأنه على هذه الصفة ، وكان قد مضى فأقام بالأهواز ، ثم انتقل عنها لأذية الديلم له ، وهو مقيم بشهرورد.

وحدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد القمي رحمه الله : أن جماعة

حدثوه بأنهم رأوا هذا العمر وشاهدوه، وسمعوا ذلك عنه .

وحدثني بحديثه أيضا قوم من أهل شهر ورد ، وصفوا لي صفته ، وقالوا : هو يعمل الزنانير.

وفي بعض ما ذكرناه في هذا الباب كفاية والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد

رسوله وآله.

فصل في الكلام في الآجال :

إن سأل سائل فقال: ما حقيقة الآجال؟

فقيل له : إن الآجال هي الأوقات ، فأجل الحياة وقتها ، وأجل الموت وقته الذي يوجد فيه .

ص: 155

وكذلك الأجل في الدين إنما هو وقت وجوبه .

ويقال للإنسان: أجل لهذا الأمر أجلا ، معناه أجل لحدوثه وكونه وقتا .

فإن قال السائل : أفتقولون: إن الآجال محتومة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، أم تجيزون أن يقدمها الله تعالى ، ويؤخرها ؟؟

قيل له : الذي نقوله: إن الله قادر على تأخير أجل الموت بالزيادة في مدة الحياة ، وعلى تقديمه بالنقصان منها .

فإن قال : كيف يصح لكم القول بالتقديم والتأخير ، وما معناه، والأجل عندكم هو الوقت ؟ فأي وقت حضر موت الانسان فذلك أجله.

قيل له : المعنى في ذلك أن الوقت الذي أمات الله تعالى العبد فيه قد كان قادرا على أن لا يميته فيه ، بل يبقيه بدلا من ذلك ويحييه ، فيكون هذا هو تأخير أجله ، والزيادة في عمره.

والوقت الذي أحياه الله تعالى فيه قد كان قادرا على أن يميته بدلا من ذلك فيه ولا يحييه ، فيكون هذا هو تقديم أجله ، والنقص من عمره. وجميع ذلك. في العقل غير مستحيل، وهو المعنى الذي ذهبنا إليه.

فإن قال: فإذا علم سبحانه ، أنه يحیي عبده هذا ماية سنة ، حسبما تقتضيه عنده المصلحة ، فكيف يصج مع ذلك أن يزيد في هذا المبلغ أو ينقص ؟

قلنا: يصح أن يعلم أن المصلحة تقتضي أن يكون عمره ماية سنة ما لم يفعل شيئا معينا ، فمتى فعله اقتضت المصلحة أن يزيده على الماية عشرين سنة ، أو ينقصه منها عشرين. وهذا أيضا غير مستحيل.

فإن قال: أفليس الله تعالى عالما بأن العبد سیفعل ما تتغير المصلحة عند فعله ، أو لا يفعله ؟

قلنا: بلى ، إن الله تعالى عالم به وبكل كائن قيل كونه ، وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون خاله .

ص: 156

فإن قال: فإذا كانت حاله معلومة له، فقد حصل عمره معلوما ، فلا معنی للزيادة والنقص ههنا.

قلنا: إنما ذلك على وجه التقدير الذي قد كان ممكنا غير مستحيل. وإن هذا الممكن لو كان كيف كانت تكون الحال من تأخير في الأجل وتقديم . وقد أخبر الله تعالى عن قوم نوح :

« یا قوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا » نوح: 10 و12.

مع علمه سبحانه وعلم نوح أنهم لا يستغفرون ولا يتوبون، وأنهم بأسرهم يغرقون .

وقال عز وجل:

« ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض » الأعراف : 96.

ولا يكون ذلك إلا وهم أحياء ، وإنما عنى أهل القرى التي أهلكها ، فأخبر أنهم لو آمنوا لأحياهم ، وأنعم عليهم ، وهو يعلم أنهم لا يؤمنون ، وأنه سيهلكهم.

وقد قال النبي (صلی الله علیه واله):

« إن صلة الرحم تزيد في العمر »

فأخبر (علیه السلام) أن عمر العبد يكون مقدرا معلوما عند الله تعالى ، وإن هو وصل رحمه زاد الله تعالى في عمره، والله تعالى عالم بأن هذا العبد إن لم يصل رحمه مات في وقت كذا، وإن هو وصلها عاش إلى وقت كذا. وهو مع هذا كله عالم بما يكون منه ، وهل يصله أم لا يصله . قال الله عز وجل :

« وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب » فاطر: 11.

فإن قال السائل : فما تقولون في المقتول لو لم يقتل ؟ أكان يجوز أن يبقى حيا أو كان منيته غير هذا أم لا؟

قيل له : كل ذلك جائز، وجوازه على قسمين:

ص: 157

أحدهما بمعنى أنا نشك فيه لعدم دليل القطع على حقيقته بما يكون منه .

والثاني بمعنى أن الله تعالى يقدر على ذلك كله ولا يستحيل منه . فهو عندنا لو لم يقتل جاز أن يبقى حيا وجاز أن يموت في الحال من غير قتل . ومهما كان من ذلك فهو معلوم قبل كونه لله تعالی.

ولو كان الظالم إنما يقتل المظلوم لأن أجله قد حضر ، ولأن حضور أجله حمله على قتله ، لم يكن ملوما ولا ظالما، بل كان محمولا على ذلك مضطرا.

وقد ضرب في معنى هذا مثل ، فقيل :

لو كان كل مقتول لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ، ولم يعش لحظة واحدة ، لكان من قصد إلى أغنام رجل فذبحها عن آخرها، لا يجوز أن يلومه صاحبها ، ولا يغرمه بثمنها ، بل كان يجب أن يشكره على ذبحها ، لأنه لو لم يذبحها لماتت كلها ، فكان لا ينتفع بشيء منها.

وفي صحة توجه اللوم إليه دلالة على أنه لو لم يذبحها لجاز أن تبقى كلها حية أو يبقى بعضها ، والله عالم بحقيقة أمرها .

فإن قال: أفتقولون: إن المقتول مات بأجله ، أم تقولون إن قاتله قطع أجله ؟؟

قلنا: قد ذكرنا أن حقيقة الأجل هو الوقت ، وأجل الشيء وقته . وإذا كان هذا هو الأصل ، فالوقت الذي قتل به فيه هو أجل موته ، كما هو وقت موته . وقد ذكرنا قول الله تعالى في قوم نوح، أنهم لو آمنوا لأبقاهم إلى أجل مسمى ، فلما لم يؤمنوا أهلكوا قبل ذلك الأجل ، وليس هذا بمانع من أن نقول بأنهم قد هلكوا بآجالهم ، نرید وقت حضور إهلاكهم .

فإن قال : فما معنى قوله سبحانه :

« إذا جاء لا يؤخر » (1)

وقوله :

ص: 158


1- نوح: من الآية4 : (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون).

« فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ »، الأعراف: 34.

قلنا : المراد بذلك ، الأجل الذي علم الله تعالى أنهم يبيتهم فيه ، والحمد لله .

فصل:

واعلم أنا نذهب إلى أن الله تعالى إذا علم من حال عبد من عبيده أنه إذا أبقاه آمن من كفره أو تاب من معصيته وفسقه ، فإن الواجب في حكمته عز وجل أن يبقيه ولا يخترمه.

فإن كان قد فعل به ذلك مرة فتاب وأقلع ، ثم عاد في معاصيه ونكث ، وعلم منه بعد ذلك أنه إن أبقاه تاب أيضا وأحسن ، فإن تبقيته لأجل التوبة غير واجبة ، لأن ذلك لو وجب دائما لم يكن للتكليف أجر ، وأدى للخروج من الحكمة والعبث ، تعالى الله عن كل صفة نقص .

مسألة فقهية

ذكرها شيخنا أبو عبد الله المفيد رضوان الله عليه .

امرأة ورثت أربعة أزواج، واحدا بعد واحد ، فصار لها نصف أموالهم جميعا، وللعصبة النصف الباقي .

جواب:

هذه امرأة تزوجها أربع أخوة واحدا بعد واحد ، وورث بعضهم بعضا ، وكان جميع مالهم ثمانية عشر دينارا ، لواحد منهم ثمانية دنانير، وللآخر منهم ستة دنانير، وللآخر ثلاثة ، وللآخر دينار واحد. فتزوجها الذي له ثمانية دنانير، ومات عنها فصار لها الربع مما ترك ، وهو دیناران ، وصار ما بقي بين الأخوة الثلاثة ، لكل واحد منهم ديناران، فصار لصاحب الستة ثمانية دنانير ، ولصاحب الثلاثة خمسة ، ولصاحب الدينار ثلاثة .

ثم تزوجها صاحب الثمانية ومات عنها ، فورثت منه بحق الربع دينارين، وصار ما بقي وهو ستة دنانير بين أخويه ، لكل واحد منهما ثلاثة دنانير ، فصار للذي له خمسة دنانير ثمانية دنانير، وللذي له ثلاثة سنة. ثم تزوجها صاحب

ص: 159

الثمانية ومات عنها فورثت منه الربع دينارين، وصار ما بقي لأخيه وهي ستة دنانير ، فحصل له بهذه السنة مع السنة الأولى اثنا عشر دينارا.

ثم تزوجها وهو الباقي من الأخوة وله اثنا عشر دينارا، ومات عنها ، فورثت الربع ثلاثة دنانير ، فصار جميع ما ورثته عنهم تسعة دنانير ، لأنها ورثت من الأول دينارين، ومن الثاني دينارين، ومن الثالث دينارين، ومن الرابع ثلاثة دنانير ، فذلك تسعة ، وهي نصف ما كانوا يملكونه ، والباقي للعصبة كما قلنا.

خبر ضرار بن ضمرة عند دخوله على معاوية

أخبرنا أبو المرجا محمد بن علي بن أبي طالب ، قال: أخبرني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب الشيباني الكوفي (1) قال: حدثني منصور بن الحسن بن أبي جلة بأنطاكية، قال: حدثنا محمد بن زکریا بن دینار، قال: حدثنا العباس بن بکار ، عن عبد الواحد بن أبي عمرو الأسدي ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح مولى أم هاني (2)، قال:

دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية بن أبي سفيان يوما ، فقال له: يا ضرار ، صف لي عليا . قال : أوتعفيني من ذلك ؟ قال : لا أعفيك. قال:

أما إذ لا بد ، فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة عن لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته .

ص: 160


1- في فهرست الطوسي: يكنى أبو الفضل كثير الرواية حسن الحفظ ، غير أنه ضعفه جماعة من أصحابنا ، له كتاب الولادات الطيبة الطاهرة وكتاب الفرائض وكتاب المزار وعن النجاشي : كان سافر في طلب الحديث عمره أصله كوفي وكان في أول أمره ثبتأ ثم خلط ورأيت جل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه له كتب كثيرة ، وقال الخطيب البغدادي : نزل بغداد وحدث بها عن محمد بن جرير الطبري ومحمد بن العباس اليزيدي وأمثالهم، وكان يضع الحديث الرافضة ... ولد سنة 297 وتوفي سنة 387.
2- هي أم هاني بنت أبي طالب ، أخت علي (علیه السلام) كان الأسراء من دارها ، ودخل رسول الله (صلی الله علیه واله) على أم هاني يوم الفتح وكان جائعا ، فقالت: يا رسول الله ، إن أصهارا لي قد لجأوا إلي ، وإن أخاف أن يعلم بهم علي بن أبي طالب فيقتلهم، قال (صلی الله علیه واله): قد أجرنا من أجرت يا أم هاني (سفينة البحار م1 ص 425 وم2 ص 724).

كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما جشب.

كان والله ، معنا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ، وكان مع ذنوه لنا، وقربه منا، لا نكلمه هيبة له.

فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ النظيم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله .

أشهد بالله ، لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه ، متماثلا في محرابه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم (1)، ويبكي بكاء الحزين ، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا ، يا دنيا ، أبي تعرضت أم إلى تشوفت ، هیهات، هيهات، غري غيري، لا حان حينك ، قد أبنتك ثلاثا . عمرك قصير ، وخيرك حقير ، وخطرك كبير ، آه آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، و وحشة الطريق .

فوکفت دموع معاوية على لحيته ، وجعل يستقبلها بكمه ، واختنق القوم جميعا بالبكاء ، وقال : هكذا كان أبو الحسن يرحمه الله . فكيف وجدك عليه با ضرار؟

فقال : وجد أم واحد، ذبح واحدها في حجرها ، فهي لا يرقى دمعها ، ولا يسكن حزنها (2)

فقال معاوية : لكن هؤلاء لو فقدوني لما قالوا ، ولا وجدوا بي شيئا من هذا.

ص: 161


1- السليم هو الملسوع من حية أو عقرب.
2- خبر ضرار مستفیض ، وقد عرض له في الاستیعاب ج 3 ص 43 من المطبوع بهامش (الاصابة) مصر سنة 1939 م - 1358 ه. والقيرواني في زهر الآداب المطبوع بهامش العقد الفريد م1 ص 47 - 48، والسبط في التذكرة ، ص 119، والمسعودي في مروج الذهب ج2 ص 433، وابن حجر في الصواعق ص 139 - 140 والقالي في الأمالي 143- 144، والبيهقي في المحاسن والمساوىء ج 2 ص 72- 73 وغيرها . أنظر كتابنا (مصادر نهج البلاغة)ص 264 - 265 .

ثم التفت إلى أصحابه فقال: بالله ، لو اجتمعتم بأسركم، هل كنتم تؤدون عني ما أداه هذا الغلام عن صاحبه؟

فيقال: إنه قال عمرو بن العاص : الصحابة على قدر الصاحب .

تروي هذه الأبيات عن أمير المؤمنين (علیه السلام):

إذا كنت تعلم أن الفراق *** فراق الحياة قریب قریب

وإن المعد جهاز الرحيل *** ليوم الرحيل مصیب مصیب

وأن المقدم ما لا يفوت *** على ما يفوت معيب معيب

وأنت على ذاك لا ترعوي *** فأمرك عندي عجيب عجیب

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

« ما زالت نعمة عن قوم، ولا غضارة عيش إلا بذنوب اجترحوها . إن الله ليس بظلام للعبيد ».

بلغنا أن من كلام الله تعالى الذي أنزله على بني إسرائيل :

إني أنا الله لا إله إلا أنا ، ذو ... مفقر الزناة ، وتارك تاركي الصلاة عراة .

وقال رسول الله (صلی الله علیه واله):

« أحسنوا مجاورة النعم، لا تملوها ولا تنفروها ، فإنها قل ما نفرت عن قوم فعادت إليهم » .

وقال عليه الصلاة والسلام:

« من قال قبح الله الدنيا ، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا للرب » .

وقال عليه السلام:

« من عف عن محارم الله كان عابدا ، ومن رضي بقسم الله كان غنيا، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلما، ومن صاحب الناس بالذي يحب أن يصاحبوه كان عدلا » .

وقال عليه السلام:

« من اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن

ص: 162

المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات ».

فصل:مما جاء في الخصال:

قال رجل لأحد الزهاد أوصني .

فقال: أوصيك بخصلة واحدة، إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.

ولقي حکيم حكيما فقال له: عظني وأوجز.

قال: عليك بخصلتين: لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك.

قال: زدني . قال : ما أجد للحالين ثالثة .

قال حكيم الفرس:

« ثلاث خصال لا ينبغي للعاقل أن يضيعهن ، بل يجب أن يحث عليهن نفسه

وأقاربه ومن أطاعه ».

عمل يتزوده لمعاد ، وعلم طب يذب به عن جسده ، وصناعة يستعين بها في معاشه .

وقال بعض الحكماء :

أربع خصالي یمتن القلب : ترادف الذنب على الذنب ، وملاحاة الأحمق، وكثرة مثاقبة النساء والجلوس مع الموتی .

قيل له: ومن الموتى؟

قال: كل عبد مترف فهو ميت ، وكل من لا يعمل فهو ميت .

وقال ابن عباس رحمة الله عليه :

خمس خصال تورث خمسة أشياء:

ما فشت الفاحشة في قوم قطر إلا أخذهم الله بالموت.

وما طفف قوم الميزان إلا أخذهم بالسنين.

ص: 163

وما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم .

وما جار قوم في الحكم إلا كان القتل بينهم.

وما منع قوم الزكاة إلا سلط الله عليهم عدوهم.

وقال لقمان الحكيم لابنه في وصيته :

يا بني، أحثك على ست خصال ، ليس من خصلة إلا وهي تقربك إلى رضوان الله عز وجل ، وتباعدك من سخطه .

الأولى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا.

والثانية الرضا بقضاء الله فيما أحببت وكرهت .

والثالثة: أن تحب في الله ، وتبغض في الله .

والرابعة ، تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك.

والخامسة ، تكظم الغيظ ، وتحسن إلى من أساء إليك.

والسادسة ، ترك الهوى ، ومخالفة الردی.

وقال بعضهم : ذو المروءة الكاملة ، من اجتمع فيه سبع خصال، إذا ذكر ذكر ، وإذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا عصي غفر ، وإذا أحسن استبشر ، وإذا أساء استغفر ، وإذا وعد أنجز ويسر .

وقال بعض الحكماء:

تحصن بثمان من ثمان:

بالعدل في المنطق من ملالة الجلساء.

وبالروية في القول من الخطأ .

وبحسن اللفظ من البذاء .

وبالانصاف من الاعتداء .

وبلين الكف من الجفاء .

وبالتودد من ضغائن الأعداء.

وبالمقاربة من الاستطالة.

وبالتوسط في الأمور من لطخ العيوب .

ص: 164

وروي أن تسع خصال من الفضل والكمال، وهن داعية إلى المحبة مع ما فيها من القربة والمثوبة:

الجود على المحتاج، والمعونة للمستعين ، وحسن التفقد للجيران، وطلاقة الوجه للاخوان ، ورعاية الغائب فيمن يخلف ، وأداء الأمانة إلى المؤتمن ، وإعطاء الحق في المعاملة، وحسن الخلق عند المعاشرة ، والعفو عند المقدرة .

وأوصى أفلاطون أحد أصحابه بعشر خصال قال :

لا تقبل الرئاسة على أهل مدينتك البتة.

ولا تتهاون بالأمر الصغير إذا كان يقبل النماء .

ولا تلاح رجلا غضبانا فإنك تقلقه باللجاج.

ولا تجمع في منزلك نفسين فيتنازعان في الغلبة .

ولا تفرح بسقطة غيرك ، فإنك لا تدري متى يحدث الزمان بك .

ولا تنتفخ في وقت الظفر ، فإنك لا تدري كيف يدور عليك الزمان .

ولا تهزل بخطأ غيرك فإن المنطق لا تملكه.

وألق الخطأ من الناس بنوع الصواب الذي في جوهرك

ولا تبذلن مودتك لصديقك دفعة واحدة.

وصير الحق أبدا أمامك تسلم دهرك ولا تزال حرا .

تاویل آیة:

*تأويل آية (1):

إن سأل سائل عن تأويل قوله عز وجل :

« وجاؤا على قميصه بدم كذب ، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جمیل

والله المستعان على ما تصفون » يوسف: 18.

فقال : كيف يصح وصف الدم بالكذب ، والكذب من صفات الأقوال، لا من صفات الأجسام؟

ص: 165


1- تكلم على هذه الآية الشريف المرتضى في كتاب الأمالي م 1 ص 105 -107.

وما معنى قول يعقوب (علیه السلام): فصبر جمیل ، وكيف وصفه بذلك ، ونحن نعلم أن صبره لا يكون إلا جميلا؟؟

الجواب:

قيل له: أما كذب فمعناه في هذا الموضع ، مكذوب فيه وعليه ، مثل قولهم : هذا ماء سکب وشراب صب ، يريدون مسکوبا ومصبوبا .

وكقولهم: رجل صوم ، وامرأة نوح، والمعني صائم ونائحة . قال الشاعر :

فظل جيادهم نوحا عليهم *** مقلدة أعنتها صفوفا

أراد نائحة.

ويقولون أيضا: ما لفلان معقول ، يريدون عقلا ، قال الشاعر :

حتى إذا لم يتركوا لعظامه *** لحما ولا لفؤاده معقولا

وقد قال الفراء وغيره: يجوز في النحو ، بدم. كذبا بالنصب على المصدر ، وتقدير الكلام، كذبوا كذبا .

وإنما كان ذمة مكذوبا فيه ، لأن أخوة يوسف (علیه السلام) ذبحوا سخلة ولطخوا

قميص يوسف بدمها ، وجاؤوا أبا هم بالقميص، وادعوا أكل الذئب له ، فقال لهم يعقوب (علیه السلام): يا بني ، لقد كان هذا الذئب رفيقا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه، وعند ذلك قالوا: بل قتله اللصوص، فقال: فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.

وقد قيل : إنه كان في قمیص یوسف ثلاث آيات:

إحداهن حين جاؤا إليه بدم كذب، فتبينه أبوه على أن الذئب لو أكله الخرق قميصه.

والثانية ، حيث قد قميصه من دبر .

والثالثة ، حين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا.

وأما وصف الصبر بأنه جميل فلأن الصبر قد يكون جميلا وغير جميل ، وإنما

ص: 166

يكون جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى. فلا كان في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صح وصفه بالجميل.

وقد قيل إنه أراد صبرا لا شكوى فيه ولا جزع معه، ولو لم يصفه بذلك لظن مصاحبة الشكوى والجزع له.

وقد قال أهل العربية : إن ارتفاع الصبر ههنا ، إنما هو لأن المعني ، فشاني صبر جمیل ، والذي اعتقده صبر جمیل ، وقد أنشدوا :

شكا إلي جملي طول السري *** يا جملي ليس إلى المشتکی

صبر جمیل فكلانا مبتلى

معناه، فليكن منك صبر جمیل.

وقد روي أن في قراءة أبي، فصبرا جميلا بالنصب، وذلك يكون على الاغراء ، والمعنى ، فاصبري يا نفس صبرا جميلا . قال ذو الرمة :

ألا إنما مي فصبرا بلية *** وقد يبتلى الحر الكريم فيصبر

تأويل خبر:

إن سأل سائل ، فقال : ما معنى الخبر المروي عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« إن الله تعالى خلق آدم على صورته ».

أو ليس ظاهر هذا الخبر يقتضي التشبيه له تعالى بخلقه ، فإن لم يكن على ظاهره، فما تأويله ؟

الجواب:

قلنا : أحد الأجوبة عن هذا أن تكون الماء عائدة الى الله تعالى ، والمعنى أنه خلقه على الصورة التي اختارها ، وقد يضاف الشيء إلى مختاره .

ومنها أن تكون المهء عائدة الى آدم، ويكون المراد أن الله تعالى خلقه على صورته التي شوهد عليها ، لم ينتقل إليها عن غيرها کتنقل أولاده الذين يكون أحدهم نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويخلق خلقا من بعد خلق، ويولد طفلا صغيرا

ص: 167

ثم يصير غلاما ثم شابا ثم كهلا ، ولم يكن آدم (علیه السلام) كذلك ، بل خلق على صورته التي مات عليها.

وما منها ما رواه الزهري عن الحسن قال: مر النبي (صلی الله علیه واله) برجل من الأنصار وهو يضرب وجه غلام له ويقول: قبح الله وجهك ووجه من تشبهه ، فقال له النبي (صلی الله علیه واله): بئسما قلت ، إن الله خلق آدم على صورته ، يعني صورة المضروب.

وهذه أجوبة صحيحة والحمد لله.

فصل:

من الاستدلال على صحة النص بالامامة على أمير المؤمنين (علیه السلام) من قول النبي (صلی الله علیه واله): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » .

اعلم - أيدك الله تعالى - أن مما يدل على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) المنصوص بالإمامة عليه ، ما نقله جميع الأمة، وتلقاه بالقبول الخاصة والعامة ، من قول النبي (صلی الله علیه واله) له (علیه السلام):

« أنت مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي » (1).

فأوجب له جميع منازل هارون من موسى عليهما السلام، إلا ما خصه العرف من الأخوة، واستثناه هو (علیه السلام) من النبوة. وذلك موجب له الخلافة والإمامة ، وكاشف عن استحقاقه على الكافية فضل الطاعة.

واعلم أنك تسأل في هذا الدليل عن خمسة مواضع :

أولها أن يقال لك: ما حجتك على صحة الخبر في نفسه ، وما الذي يدفع به إنكار من أنكره؟؟

وثانيها ، أن يقال لك : إذا ثبت الخبر، في الحجة على أن المراد بمنزلة

ص: 168


1- تجده في البخاري ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، ومستدرك الصحيحين ، ومسند أحمد ، والنسائي ، وطبقات ابن سعد، وحلية الأولياء ، وتاريخ بغداد، وتاريخ الطبری، وکنز العمال ومجمع الزوائد ، والرياض النضرة وغيرها « أنظر فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 299 - 316). وتجده في مناقب ابن المغازلي مرويا بعدة عدة طرق انظر : ص 27 - 37.

هارون من موسی (علیه السلام)، المذكورة فيه ، عموم ما يستحقه منه سوى ما ذكرتموه ، وما أنكرتم أن يكون منزلة واحدة؟ وهي التفضيل المزيل لإرجاف المنافقين (في) قولهم: إن رسول الله (صلی الله علیه واله) قلاه لما خلفه في غزاة تبوك.

وثالثها ، أن يقال لك: إذا ثبت العموم، فمن أي وجه استنبطت من ذلك النص بالإمامة ، ووجوب الخلافة الأمير المؤمنين (علیه السلام)؟

ورابعها ، أن يقال لك: إذا ثبت له به الخلافة ، فما الحجة على أنه أراد استحقاقه لها بعده؟ وما أنكرتم أن يكون قصد أنه خليفته في حياته فقط، كما أن هارون إنه خلف موسى في حياته فقط ؟؟

وخامسها أن يقال لك : إذا ثبت له بذلك الخلافة بعده، فما الحجة على أنه أراد بذلك ، الفور ، فيكون خليفة الذي يليه ، دون التراخي ، فيكون خليفة بعد عثمان ؟؟

الجواب عن السؤال الأول:

أما الحجة على صحة هذا الخبر في نفسه فهي الحجة على صحة خبر الغدير بعينه ، لمماثلته له في الظهور والانتشار، وتواتر الشيعة به تواترا يقطع الأعذار ، ورواية أكثر أصحاب حديث العامة له في الصحيح عندهم من مسند الأخبار، وتلقي الكافة له مع ذلك بالتسليم والاقرار. فمن شيعي يحتج به ، وناصبي يتأوله ، وليس بينهما دافع له.

ومن قبل ذلك ، فاحتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) في يوم الشورى وغيره ، لم ينكره أحد ممن سمعه.

وكل هذا قد سلف ذكره في خبر الغدير ، فلا حاجة إلى إعادته، وهو أوضح حجة على ثبوت الخبر وصحته.

الجواب عن السؤال الثاني :

وأما الحجة على أنه أراد بقوله : (أنت مني بمنزلة هارون من موسی)، جميع منازله منه على العموم، وإن عبر عن ذلك بلفظ التوحيد إلا ما استثناه العرف والقول، فهو أنا وجدنا الناس في هذا الخبر على فرقتين لا ثالث لهما :

ص: 169

أحدهما يذهب إلى أن المراد به منزلة واحدة على التحقيق، وتدعي أن السبب في ذلك ما روي في غزاة تبوك ، وهي نفر يسير .

والفرقة الأخرى تذهب إلى عموم القول لجميع المنازل، إلا ما خصصه الدليل ، وهو قول الشيعة وأكثر الخصوم.

وإنما أنكر هؤلاء المخالفون المعترفون بأن الخبر يقتضي العموم، أن يكون موجبا لخلافة أمير المؤمنين بعد الرسول عليهما السلام، من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد موسى عليهما السلام، كان خليفة له ، ولم يهتدوا في الخبر إلى دليل على أنه أراد الاستخلاف من بعده . وإن كان منهم من قد علم ذلك، ولكن جذبه الهوى ، فأصر على الإنكار وعاند .

وإذا لم يكن في الخبر غير هذين القولين ، فلا شك في أنه متى فسد قول من

ادعي فيه الخصوص ، علم صحة قول من ذهب إلى العموم.

والذي يدل على فساد قول من قصره على منزلة واحدة ، وجود الاستثناء الظاهر فيه، الذي لا يصح إيراده إلا والمستثنى منه أكثر من واحد، لأن الاستثناء هو إخراج بعض من جملة ، لو لم يستثن لدخل فيها . والخصلة الواحدة لا يصح هذا فيها .

ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : رأيت زيدا إلا عمرا، ويحسن أن يقال : رأيت القوم إلا عمرا. فعلم بهذا فساد مقال من قصر الخبر على منزلة واحدة .

فأما ما تعلقوا به من أن السبب في ذلك ما جرى في غزاة تبوك ، فغير صحيح، لأنا عالمون بصحة الخبر، ولسنا نعلم صحة ما ذكروه كعلمنا بالخبر، فلا طريق لنا إلى تخصيص المعلوم، بما ليس بمعلوم.

على أن الروايات قد اتصلت واشتهرت عن رسول الله (صلی الله علیه واله)، بأنه قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) في مواقف عدة ، وأماكن كثيرة، وأوقات متفرقة. فيجوز أن يكون غزاة تبوك أحدها ، ولكنه لا سبيل لنا إلى قصره عليها ، وإن كنا متي خصصناه بها لم يكن منا ما ظنه المخالف ، من أن الخبر دال على فضيلة المحبة فقط ، لا يستحيل أن تكون هي السبب ، فيقول

ص: 170

رسول الله (صلی الله علیه واله) قولا يقتضيه ، ويتضمن (عديدة) ويزيد عليه ، فيكون بما قاله قد أعلم المرجفين أنه ما قلاه، وأن منزلته عنده في المحبة والفضل وعلو القدر والخلافة له في حياته وبعد وفاته ، نظير هارون من موسی (علیه السلام). وهذا مستمر غير مستحيل.

وأما ما ورد الخبر (به) بلفظ التوحيد في قوله : (منزلة هارون من موسى)، ولم يقل منازل هارون، فقد جرت العادة بمثل ذلك من إيراد القول مضمنا ذکر منزلة ، والمراد عدة منازل، فيقولون: منزلة فلان من الأمير ، كمنزلة فلان، وهم يشيرون إلى عدة أحوال من منازل مختلفة وأسباب، ولا يكاد يقولون : منازل فلان من الأمير كمنازل فلان.

وإنما استعملوا لفظ التوحيد في هذا المكان من حيث اعتقدوا أن المنازل الكثيرة والرتب المختلفة ، قد حصل جميع ذلك له كالمنزلة الواحدة، التي هي جملة ، وإن تفرعت إلى أشياء عدة ، فعبروا عنها بلفظ التوحيد اتساعا لهذه العلة .

الجواب عن السؤال الثالث:

وأما الوجه الذي علم منه دلالة الخبر على الخلافة ، والحجة في أنه نص على أمير المؤمنين (علیه السلام) بالإمامة ، فهو أن منازل هارون من موسى عليهما السلام معروفة ، وقد حصل عليها الإجماع، ونطق بها القرآن.

فمنها أنه كان أخا بالولادة، وكان أحب الخلق إليه ، وأفضلهم لديه .

وكان شريكه في النبوة والرسالة .

وكان عضده الذي شد الله تعالى به أزره، قال الله جل اسمه :

« وَٱجعَل لِّي وَزِيرا مِّن أَهلِي ، هَارُونَ أخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْري، وَ أَشْرِکْهُ في أَمْري » طه: 29.

وكان خليفته على قومه عند غيبته قال الله تعالی :

« وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ » الأعراف: 142.

ص: 171

فلما قال النبي (صلی الله علیه واله) لأمير المؤمنين (علیه السلام)، أنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، علمنا أنه أراد جميع ما كان لهارون من موسی (علیه السلام) من المنازل، إلا ما أخرجه الاستثناء ، وأخرجه أيضا العرف من أخوة الولادة . واتضحت الحجة في أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أحب الخلق إلى رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأفضلهم عنده، وأنه عضده الذي شد الله به أزره، ووزيره في أمره، وخليفته في أمته. وهذا بین لمن تدبره.

الجواب عن السؤال الرابع:

اعلم أن الكلام في هذا السؤال هو معظم ما يدور بينك وبين المخالفين ، إذا استدللت بهذا الخبر، وفي إحكام هذا الجواب عنه ، حسم مادة ما يوردونه عليك من العتب والشغب ، لأنهم أبدا يقولون: إذا ثبت لكم بهذا الخبر ، الاستخلاف، فما الدليل على أن رسول الله (صلی الله علیه واله) ، أراد به استخلاف أمير المؤمنين (علیه السلام) في حياته وبعد مماته ، دون أن يكون مراده قصر هذا الأمر على أيام حياته فقط. ويقولون : هذا أشبه ، لأن خلافة هارون لموسى (علیه السلام) لم تكن إلا في حياة موسی.

ولو أراد بذلك النص على خلافته له من بعده ، فقال : أنت مني بمنزلة يوشع من موسی، لأن خلافة موسی (علیه السلام) من بعده كانت ليوشع ، دون غيره. فعن هذا جوابان:

أحدهما في قوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسی فوائد لا يحصل مثلها لو قال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى ، (فإنه ) (1) يدل على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أعلى الناس قدرا (عند) رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأنه تاليه في الفضل والعلم ، كما (کان) هارون من موسی (علیه السلام)، وكان خليفته في حياته إذا غاب. ولو بقي بعد موسى لكان أحق بخلافته من يوشع .

فجمع رسول الله (صلی الله علیه واله) لأمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله : أنت مني بمنزلة هارون من

ص: 172


1- في النسخة: (وقال إنه).

موسى هذه الخصال ، فهو أعلى الناس قدرا ومحلا ، وهو تاليه في العلم والفضل ، وخليفته في حياته.

ولما بقي بعده كان أحق الناس بخلافته. ولو قال له: (أنت بمنزلة يوشع من موسی) لم يعطه من جميع ما ذكرناه إلا الخلافة من بعده فقط ، ولم يبق بعد هذا أكثر من أن نبين أن هارون لو بقي بعد موسى كان أحق بالخلافة من يوشع .

والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بقوله تعالى :

« وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح »، وفي ثبوتها له في حال حياته وجوب حصولها له لو بقي بعد وفاته ، لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حط له عن رتبة عالية ، كان عليها ، وصرف له عن ولاية عظيمة فوض إليه الأمر فيها ، وذلك يقتضي الضعة منه وغاية (التنفير) عنه ، لأنه خلافة النبوة ليست كالخلافة على قرية ومدينة. وإنما هي النيابة عن النبي (علیه السلام) في جميع ما كان يتولاه من أمر الأمة والقيام مقامه في إصلاح أمور الكافة ، من تعليمهم وتهذيبهم، ووعظهم وتأديبهم ، وزجرهم وتخويفهم، وتوقيفهم ، وتعريفهم.

وهذا يقتضي التدين بفرض طاعته، وغاية التبجيل والتعظيم له. فمتى حط عن هذه المرتبة بعد كونه عليها ، وأنزل عن درجة الخلافة التي رقي إليها ، زال ما كان له في النفوس من التبجيل والتعظيم. وفي ذلك ما ذكرناه من غاية التنفير .

ومن ذا الذي تكون نفسه ساكنة إلى قبول وعظ خليفة ، يعلم أو يجوز أنه سینحط عن رتبة الخلافة إلى أن يصير رعية ، ويهبط عن درجة الإمامة إلى أن يحصل من أحد الأمة ، كسكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه؟

بل كيف يصح من التابعين غاية التبجيل والتعظيم لمن يعلمون من حاله ، أو يجوزون ذلك من أمره ، أنه سيتأخر بعد مقامه ، ويصير لمن كان من أتباعه ، ومتعلما (من كان يعلمه ، ومقتديا بمن كان يقتدي به ، حتى يسقط ما كان يلزم الناس من فرض طاعته ، ويصير هو وهم طائعين لمن كان من جملة المطيعين له .

ص: 173

ومن دفع أن يكون الخروج من هذه المنزلة منفرا ، كمن دفع أن تكون القباحة في الخلق والدمامة المفرطة في الصور منفرا .

وقد أجمع معنا خصومنا من المعتزلة على أن الله تعالى يجنب أولياءه وأنبياءه عليهم السلام جميع هذا.

فبان بما ذكرنا أن منزلة هارون من موسی (علیه السلام) منزلة لا يجوز خروجه عنها ما دام حيا، وأنه لو بقي بعد موسى لكان أحق بها من يوشع وأولى .

وفي ذلك دليل على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) يستحقها من رسول الله (صلی الله علیه واله) في حياته وبعد وفاته ، لبقائه بعده.

وليس موت هارون في حياة موسی (علیه السلام) مانع لأمير المؤمنين (علیه السلام) مما هو مستحقه ببقائه.

ألا ترى أن رجلا لو قال لوكيل له : أجر على عبدي الرومي في كل يوم جرابة ، وفي كل شهر صلة ، ثم قال بعد ذلك : إن منزلة عبدي الحبشي عندي کمنزلة ذلك الرومي، فأجره مجراه، واجعل له من الجاري والصلة نظير ما جعلت له ، ثم مات الرومي ، فمعلوم أن موته لا يقطع جرانة الباقي ، ولا يحرمه صلته .

هذا ما لا يدفعه أحد ولا ينكره.

فإن قال الخصم : فيلزمك على هذه الطريقة ، أن نقول: إن طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) كانت مفترضة على الأمة في حياة رسول الله (صلی الله علیه واله).

قيل له : كذلك نقول ، ولكن بشرط غيبته. وأما عند حضور النبي (صلی الله علیه واله) فإنه لا يجوز أن تكون الطاعة واجبة إلا له، وهذا حكم الخليفة في المتعارف والعادة .

الجواب الثاني عن هذا السؤال:

إن النبي (صلی الله علیه واله) قد أوضح مراده في كلامه لمن فهم، وأبان عن قصده من قوله لمن علم.

وذلك أنه أتي بجملة أوجب منها لأمير المؤمنين (علیه السلام) ما أراده، واستثنی

ص: 174

منها ما لم يرده، وعلق ذلك بوقت ، نفي عنه فيه ما نفى ، فوجب أن يكون هذا له فيه ما أوجب .

ولا يجوز أن يتضمن الكلام استثناء ويكون مقيدا بوقت، إلا وهو وقت المنفي منه والموجب.

مثال ذلك ، قول القائل : قام القوم إلا زيدا اليوم ، فلا يجوز أن يكون اليوم إلا وقتا للحالين. ففيه قام القوم ، وفيه بعينه لم يقم زيد ، ولولا أن الأمر كما ذكرناه لم يحسن الاستثناء وذكر الوقت ، وقد قال النبي (صلی الله علیه واله) بعدما أوجبه لأمير المؤمنين (علیه السلام)، من منازل هارون من موسی (علیه السلام): (إلا أنه لا نبي بعدي)، فعلمنا أن جميع ما أثبته له مما استحقه هارون من موسى في حياته ، وهو مثبت له من بعده، لأنه الوقت الذي قرنه بالاستثناء .

ولو كان الأمر على ما ذكره الخصم من أنه أراد بذلك أيام حياته ، لقال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي معي ، أو لا ني في حياتي . وفي نفيه لما (لم) یرده بعده ، دليل على أنه قد أثبت له ما أراده بعده ، والحمد لله .

فإن قال الخصم : ما تنكرون من أن يكون مراده (صلی الله علیه واله) بقوله : (إلا أنه لا نبي بعدي) إنما هو بعد كوني نبيا ، وذلك يقتضي حال الحياة.

قلنا: أنكرنا ذلك من قبل أن لفظة (بعد) إذا خرجت مخرج قول النبي (صلی الله علیه واله) أوجبت بالعرف والعادة حال الوفاة التي هي بعد الحياة، دون أن يوجب حالا في الحياة.

ألا ترى إلى قوله (صلی الله علیه واله) لأمير المؤمنين:

« تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين، والمارقين »

وقوله: «ستغدر بك الأمة من بعدي » .

وقوله : « ستفرق كلمتكم من بعدي ».

وقوله :

« ألا لا ترجعن بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ».

كل ذلك يفيد ، بعد وفاتي .

ص: 175

وكذلك قول القائل : فلان وصي من بعدي ، والقائم مقامي من بعدي .

فإن المعنى فيه بعد موتي . وهذا يبطل ما ظنه الخصم.

على أنه لو سلم له ما ادعاه، وبلغ منه مناه ، لم يخرج عن الحق الذي قصدناه ، لأن نفي النبوة بعده ينتظم بعد كونه نبيا في حياته وبعد وفاته وإلى آخر الأبد.

وما ثبت لأمير المؤمنين (علیه السلام) في متضمن اللفظ من المنازل التي لم تنتف بنفي النبوة ، يجب أن يثبت له في سائر أحوال النفي ، حتى يكون خليفته في حياته في كل حال غاب فيها عن أمته، وخليفته من بعده ما دامت حياته (صلی الله علیه واله)، وهذا واضح لمن تأمله.

الجواب عن السؤال الخامس:

وأما الحجة على أن الخلافة الواجبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) بنص رسول الله (صلی الله علیه واله) في هذا الخبر، تجب له بعده بغير فصل، دون أن يكون المراد بذلك وجوبها له بعد عثمان ، فهي واضحة من وجوه:

أحدها أنا قد بينا استحقاقه للخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) بهذا الخبر، وأنه القائم بعده ، مقام هارون بعد موسی (علیه السلام)، وأقمنا الدليل على أن هارون لو بقي لكان خليفة لموسى من بعده، يليه بغير فصل.

والوجه الثاني أن قول النبي (صلی الله علیه واله) في الخبر : (إلا أنه لا نبي بعدي) قد أقاد أنه الخليفة بعده بما قدمنا بيانه ، وقد علمنا أن نفيه للنبوة بعده لا يتخصص بزمان دون زمان ، بل يعم جميع الأوقات والأحوال ، فيجب أن يكون الثابت لأمير المؤمنين (علیه السلام) في الخبر عاما بعده في جميع الأوقات، غير مخصص بحال دون حال ، فهو الخليفة بعده على الفور وما اتصل ببقائه الزمان ، وقد تقدم هذا القول على البيان، وإنما أعدناه لأنه جواب عن هذا السؤال ..

والوجه الثالث:

إن الناس في إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) طائفتان :

فإحداها تقول إن الخلافة إنما وجبت له بعد عثمان باختيار الأمة له، ولم

ص: 176

تجب له بهذا الخبر، ولا بغيره من الأخبار، وأن النص عليه المتضمن كونه خليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) لم يكن في حال من الأحوال.

والطائفة الأخرى تقول إن الإمامة لا تجب لأحد إلا بالنص دون الاختيار، وأن هذا الخبر من جملة النصوص (على) أمير المؤمنين بالخلافة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأنه أول خلفائه ، ومتقدم أوصيائه ، وتدبيره يلي تدبيره ، وإمامته بعد وفاته بغير فصل بينه وبينه.

وليس في الأمة من يذهب إلى غير هذين القولين. وفي ثبوت الخبر وضوح ما تضمنه من النص على أمير المؤمنين (علیه السلام) بالإمامة ، واستحقاقه لذلك بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) دلالة على بطلان مقال من ذهب إلى الاختيار، فلم يبق إذن إلا قول أصحاب النص الذين يعتقدون أنه الخليفة بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) بغير (فصل) (1) وهذا مغن لمن كان له عقل والحمد لله.

فصل:من الحديث المسند في نقل العامة ،

الشاهد بأن رسول الله (صلی الله علیه واله) قال لأمير المؤمنين (علیه السلام): (أنت مني بمنزلة هارون من موسی)

في أوقات عدة، وأحوال مختلفة ، غير المذكور في غزاة تبوك.

حدثني القاضي أبو الحسن أسد بن ابراهيم بن كليب السلمي الحراني بمدينة الرملة في سنة عشر وأربعماية ، قال : أخبرني الخطيب أبو حفص عمر بن علي بن الحسن العتكي ، قال : قرأت على محمد بن ابراهيم السمرقندي ، (حدثنا) (2) محمد بن عبد الله بن حكيم قال: حدثنا سفيان بن بشر الأسدي ، قال : حدثنا علي بن هاشم، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه، عن جده أبي رافع : أن النبي (صلی الله علیه واله) جمع بني عبد المطلب في الشعب، وهم يومئذ أربعون رجلا.

قال: فجعل لهم علي (علیه السلام) فخذا من شاه، ثم ثرد لهم ثریدة، وصب عليها

ص: 177


1- في النسخة : (فرق).
2- في النسخة : (حدثكم).

المرق، وترك عليها اللحم، وقدمها فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم سقی عسا واحدا فشربوا كلهم منه حتى رووا ، فقال أبو لهب: والله ، إن منا لنفرا يأكل الرجل منهم الجفنة، ويشرب الفرق وما يرويه . وإن هذا الرجل دعانا على رجل شاة وعس من لبن ، فشبعنا، وروينا منها ، إن هذا هو السحر المبين .

ثم دعاهم فقال : إن الله عز وجل أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ورهطي المخلصين، وأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووارثا ، ووزيرا، ووصيا ، وخليفة في أهله.

فأيكم يبايعني على أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ، ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

فسكت القوم، فأعاد الكلام عليهم ثلاث مرات. وقال : والله ، ليقومن قائمكم أو يكون في غيركم، ثم لتذمن.

قال: فقام علي (علیه السلام)، وهم ينظرون كلهم إليه ، فبايعه وأجابه إلى ما دعاه ، فقال له: ادن مني ، فدنا منه ، فقال : افتح فاك، ففتح فاه ، فمج فيه من ريقه ، وتفل بين كتفيه ، وتفل بين قدميه.

فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك إذ جاءك فملأت فاه بزاقا .

فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : ملىء حكما وعلما وفهما .

فقال لأبي طالب : ليهنئك أن تدخل اليوم في دين ابن أخيك ، وقد جعل ابنك مقدما عليك (1) .

وحدثني القاضي السلمي رحمه الله قال: أخبرني أبو حفص العتكي ، قال : حدثني سعيد بن محمد الحافظ، قال: أخبرني أبو حصين محمد بن الحسين الكوفي

ص: 178


1- رواه الطبري في تاريخه ج 2 ص 217 من طبعة دار القاموس للطباعة والنشر -بيروت - المصورة عن النسخة المطبوعة مصر في المطبعة الحسينية سنة 1323 ه كما في الختم الممهور عليها، وانظر: خصائص النساني ص 9 ويراجع مصادر هذا الحديث فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 19- 21 وشرح النهج لابن أبي الحديد م 3 ص 293 رواه عن أبي جعفر الاسكافي ، ولهذا الحديث مصادر كثيرة .

قراءة ، قال : حدثنا عبادة بن زیاد الأزدي ، قال : حدثنا كادح بن جعفر العابد ، عن عبد الله لهيعة ، عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي ، عن مسلم بن يسار ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

لما قدم علي (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه واله) بفتح خیبر ، قال له رسول الله (صلی الله علیه واله):

لولا (أن) تقول فيك طائفة من أمتي ما قالت النصارى في المسيح بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالا ، لا تمر بملأ إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ، ومن فضل طهورك، فاستشفوا به ، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ، وترثني وأرثك ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنك تبرىء ذمتي ، وتقاتل على سنتي، وأنت غدا في الآخرة أقرب الناسمني ، وأنك أول من يرد علي الحوض ، وأنك على الحوض خليفتي ، وأنك أول من يکسي معي ، وأنك أول داخل الجنة من أمتي، وأن شيعتك على منابر من نور ، مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم ، ويكونون غدا في الجنة جيراني ، وأن حربك حربي ، وسلمك سلمي ، وأن سريرتك سريرتي ، وعلانيتك علانيتي ، وأن ولدك ولدي ، وأنك منجز عداتي ، وأنك على الحوض ، وليس أحد من الأمة يعدلك عندي، وأن الحق على لسانك وفي قلبك وبين عينيك ، وأن الإيمان خالط لحمك ودمك ، كما خالط لحمي ودمي ، وأنه لا يرد على الحوض مبغض لك ، ولن يغيب عنه محب لك (1) حتى يرد على الحوض معك يا علي .

فخر علي (علیه السلام) ساجدا ثم قال: الحمد لله الذي من علي بالاسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خير البرية ، خاتم النبيين، وسيد المرسلين ، إحسانا منه إلي، وفضلا منه علي.

فقال رسول الله (صلی الله علیه واله) : يا علي ، لولا أنت لم يعرف المؤمنون من بعدي (2).

وحدثني القاضي السلمي ، قال : أخبرني العتكي ، قال: أخبرني محمد بن أحمد بن صفوة المصيصي ، قال: حدثنا الحسن بن علي العلوي ، قال : حدثنا الحسن بن

ص: 179


1- في النسخة غير واضحة ، والتصحيح عن الأمالي للصدوق.
2- انظر : أمالي الصدوق ص 85 من المجلس الحادي والعشرين وتجده في مناقب ابن المغازلی ص 238 - 237 .

حمزة النوفلي ، قال : حدثنا سليمان بن جعفر الهاشمي ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال:

آخی رسول الله (صلی الله علیه واله) بين أصحابه ، فقلت: يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك ، وتركتني فردا لا أخ لي.

فقال : إنما أخرتك لنفسي ، أنت أخي في الدنيا والآخرة ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسی.

فقمت وأنا أبكي من الجذل والسرور ، فأنشأت أقول:

أقيك بنفسي أيها المصطفى الذي *** هدانا به الرحمن من عمه الجهل

وأفديك حوبائي وما قدر مهجتي (1) *** لمن أنتمي معه إلى الفرع والأصل

ومن جده جدي ومن عمه أبي *** ومن أهله ابني ومن بنته أهلي

ومن ضمني إذ كنت طفلا ويافعا *** وأنعشني بالبر واليل والنهل

ومن حين آخى بين من كان حاضرا *** دعاني فآخاني وبين من فضلي

لك الخير إني ما حييت لشاكر *** لإحسان ما أولیت یا خاتم الرسل (2)

وحدني أيضا القاضي أبو الحسن السلمي رحمه الله، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الحنظلي الباب سیری بواسطه قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن عامر ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يونس ، قال : حدثنا أحمد بن مغا (كذا)، قال: حدثنا الأردبيلي ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب ومعاذ بن حكيم عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر عن الزهري عن عوف بن مالك المازني عن ابن عباس، قال:

رأيت أبا ذر الغفاري، متعلقا بحلقة ببيت الله الحرام، وهو يقول:

يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته باسمي ، أنا جندب الربذي الغفاري.

ص: 180


1- في النسخة كلمات غير واضحة. والتصحيح عن البحار ج 38 ص 337.
2- انظر : البحار ج 38 ص 337 نقله عن مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص 367 - 338 کما في الهامش .

إني رأيت رسول الله (صلی الله علیه واله) في العام الماضي وهو آخذ بهذه الحلقة، وهو يقول:

أيها الناس ، لو صمتم حتى تكونوا كالأوتاد ، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ،ودعوتم حتى تقطعوا إربا إربا ، ثم بغضت علي بن أبي طالب ، أكبكم الله في النار. قم يا أبا الحسن ، فضع خمسك في خمسي (يعني كفك في كفي) فإن الله اختارني وإياك من شجرة، أنا أصلها ، وأنت فرعها . فمن قطع فرعها أكبه الله على وجهه في النار. علي سید المرسلين، وإمام المتقين ، يقتل الناكثين والمارقين والجاحدين ، علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

وحدثني الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن شاذان القمي رضي الله عنه بمكة في المسجد الحرام سنة اثنتي عشرة وأربعماية ، قال : حدثنا القاضي المعافي بن زكريا الجريري إملاء من حفظه ، قال : حدثنا محمد بن مزيد ، قال : حدثنا أبو كريب محمد بن العلا، قال: حدثنا اسماعیل بن صبيح، قال: حدثنا أبو ادریس ، قال : حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر قال: قال رسول الله (صلی الله علیه واله) العلي بن أبي طالب: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، ولو كان لکنته .

ومما رواه السلمي أيضا ، وكتبه لي عن الحنظلي الباب سيري قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا محمد بن سليمان البافیدي ، قال : حدثنا جعفر بن عمر الايلي ، قال : حدثنا أربعة : ابن أبي (ذويب)، وإبراهيم بن سعد ، ويزيد بن عیاض الليثي ، ومالك بن أنس ، قالوا: حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال لسعد :

(هل) سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول لعلي بن أبي طالب حين خرج إلى غزاة تبوك: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لا نبي بعدي

قال: نعم. وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه واله) يقول لعلي هذه المقالة في غزاته هذه غير مرة. (1)

ص: 181


1- وتجده في مناقب ابن المغازلي ص 33 - 34.

والأخبار المروية في هذا المعنى كثيرة في نقل الخاصة والعامة. وفيما أوردته كفاية ، والله أعلم ، والحمد لله .

فصل: من آداب أمير المؤمنين (علیه السلام) وحكمه :

المرء حيث يجعل نفسه .

من دخل مداخل السوء اتهم.

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن .

من أكثر من شيء عرف به.

من مزح استخف به.

من اقتحم البحر غرق.

المزاح يورث العداوة .

من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية ، فليس لنفسه عنده من قدر .

ما ضاع امرؤ عرف قدره.

اعرف الحق لمن عرفه لك رفيعا كان أم وضيعا .

من تعدي الحق ضاق مذهبه.

من جهل شيئا عاداه.

أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنه ، ولم يثق به أحد لسوء فعله .

لا دليل أنصح من استماع الحق.

من نظف ثوبه قل همه.

الكريم يلين إذا استعطف ، واللئيم يقسو إذا لوطف.

حسن الاعتراف یهدم الاقتراف.

أخر الشر، فإنك إذا شئت تعجلته .

أحسن إذا أحببت أن يحسن إليك.

إذا جحد الإحسان حسن الامتنان.

العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم .

من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر عنها خصم.

ص: 182

لا تظهر العداوة لمن لا سلطان لك عليه.

فصل:

قال شيخنا المفيد رحمه الله :

أحد عشر شيئا من الميتة التي تقع عليها الذكاة حلال.

وهي : الشعر ، والوبر ، والصوف، والريش، والسن، والعظم، والظلف ، والقرن، والبيض ، واللبن، والأنفحة.

وعشرة أشياء من الحي الذي تقع عليه الذكاة حرام وهي : الفرث ، والدم، والقضيب، والأنثيين، والحيا، والرحم، والطحال، والأشاجع، وذات العروق .

قال: ويكره أكل الكليتين لقربهما من مجرى البول، وليس أكلها حراما .

فصل:

أملى علي شيخي رحمه الله :

إن في الرأس والجسد أربع فرايض ، وعشر سنن.

ففريضتان في الرأس وهما غسل الوجه في الوضوء ، والمسح بالرأس.

وفريضتان في الجسد ، وهما غسل اليدين ومسح الرجلين.

وأما السنن فهي سنن إبراهيم الخليل (علیه السلام)، وهي الحنيفية ، خمس منها في الرأس، وهي: فرق الشعر لمن كان على رأسه شعر ، وقص الشارب ، والسواك ، والمضمضة ، والاستنشاق.

وخمس منها في الجسد وهي : الختان، وقص الأظافير ، ونتف الإبط، وحلق العانة ، والاستنجاء.

قضية لأمير المؤمنين (علیه السلام):

روي أن امرأة علقت بغلام فراودته عن نفسه ، فامتنع عليها ، فقالت: والله لئن لم تفعل لأفضحنك فلم يفعل، فأخذت بيضة، فألقت بیاضها على ثوبها ،

ص: 183

وتعلقت به ، واستغاثت بأمير المؤمنين (علیه السلام) وقالت: يا أمير المؤمنين إن هذا الغلام کابرني على نفسي، وقد أصاب مني ، وهذا ماؤه على ثوبي .

فسأله أمير المؤمنين (علیه السلام) فبکی ، وقال : والله ، يا أمير المؤمنين لقد كذبت ، وما فعلت شيئا مما ذكرت.

فوعظها أمير المؤمنين فقالت: والله ، لقد فعل ، وهذا ماؤه.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): علي بقنبر فجيء به ، فقال له : ممر من يغلي ماء حتى تشتد حرارته ، وصوبه إلي.

فلما أتي بالماء الحار أمر أن يلقى على ثوبها ، فانسلق بياض البيض، وظهر أمره، فأمر رجلين من المسلمين أن يطعامه ويلفظاه ليقع اليقين به، ففعلا ، فرأيا بيضا ، فخلى الغلام، وأمر بالمرأة فأوجعها أدبا . (1)

مسألة في المني ونجاسته ووجوب غسل الثوب منه

إن سأل سائل فقال: ما الحكم عندكم في المني ، فهل هو طاهر أم نجس ؟؟ قيل له : المني نجس ، يجب غسل ما أصاب الثوب منه ، وإن كان قليلا ، ولا تجوز الصلاة في ثوب فيه شيء منه ، سواء كان رطبا أو يابسا .

فإن قال: ما الدليل على ذلك ؟

قيل له : نقل الشيعة بأسرهم على كثرتهم ، واستحالة التواطؤ على ذلك منهم . والخبر يتواتر بنقل بعضهم ، وقد روي جميعهم ما ذكرناه عن سلفهم عن أئمتهم (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه واله) جدهم. وفي هذا الدليل غنى عن غيره .

وبعد ذلك فقد نستدل بما روی عمار بن یاسر رحمه الله أنه قال : رآني رسول

الله (صلی الله علیه واله)، وأنا أغسل من ثوبي موضعا ،

فقال : ما تصنع یا عمار؟

فقلت : يا رسول الله ، نخمت نخامة فكرهت أنتكون في (ثوبي) (2)، فغسلتها .

ص: 184


1- رواه المفيد في الإرشاد ص 103 ، ورواه في البحار ج 40 ص 263 ص 263 عن الإرشاد وعن مناقب ابن شهر آشوب.
2- في النسخة: (ثوب).

فقال : يا عمار ، وهل نخامتك ودموع عينيك وما في أدواتك إلا سواء . إنما يغسل الثوب من البول، أو الغائط أو المني.

ووجوب غسل الثوب منه، لأن رسول الله (صلی الله علیه واله) أضاف الطاهر إلى الطاهر ، والنجس إلى النجس. فلو كان المني طاهرا لا يغسل الثوب منه ، لإضافة إلى ما ميزه بالطهارة ، ولم يخلطه بما قد علم منه النجاسة التي أوجب غسل الثوب منها في الشريعة.

فإن قال السائل : خبركم هذا الذي رويتموه عن عمار غير سالم ، لأنه قد عارضه خبر عائشة وقولها : إن رسول الله (صلی الله علیه واله) كان يصلي وأنا أفرك الجنابة من ثوبه .

وفي صلاة النبي (صلی الله علیه واله) بها وهي في ثوبه دلالة على طهارتها .

قيل له : هذا غير صحيح لما روي من أن رسول الله (صلی الله علیه واله) كان له بردان معزولان للصلاة، لا يلبسها إلا فيها .

وكان يحث أمته على النظافة ، ويأمرهم بها ، وأن من المحفوظ عنه في ذلك

قوله :

« إن الله يبغض الرجل القاذورة ».

قيل: وما القاذورة يا رسول الله ؟

قال: الذي [يتأفف] به جليسه .

ومن يكون هذا قوله وأمره، لا يجلس والمني في ثوبه ، فضلا عن أن يصلي وهو فيه.

وليس يشك العاقل في أن المني لو لم يكن من الأنجاس المفترض إماطتها لكان من الأوساخ التي يجب التنزه عنها .

وفيما صح عندنا من اجتهاد رسول الله (صلی الله علیه واله) في النظافة وكثرة استعماله للطيب - على ما أتت به الرواية - دال على بطلان خبر عائشة.

وشيء آخر، وهو أن عمارا رحمه الله قد اجتمعت الأمة على صحة إيمانه ، واتفقت على تزكيته. وعائشة قد اختلف فيها وفي إيمانها ، ولم يحصل الاتفاق

ص: 185

على تزكيتها ، فالأخذ بما رواه عمار رضي الله عنه أولى .

وشيء آخر، وهو أن خبر عار يحظر الصلاة في ثوب فيه مني أو يغسل ، و خبر (عائشة) يبيح ذلك. والمصير إلى الحاظر من الخبر أولى وأحوط في الدين .

وشيء آخر، وهو أن عمارا رضي الله عنه حفظ قولا عن رسول الله (صلی الله علیه واله) رواه ، وعائشة لم تحفظ في هذا قولا ، وإنما أخبرت عن فعلها ، وقد يجوز أن يكون توهمت أن في ثوبه جنابة ، أو رأت شيئا شبيها بها. هذا مع تسليمنا لخبرها ، فروت بحسب ظنها.

ثم يقال للخصم: إذا كانت الجنابة عندك طاهرة يجوز الصلاة (فيها)، فلم تركتها عائشة واجتهدت في قلعها ، (فألا) تركتها كما تركها عندكم رسول الله (صلی الله علیه واله) وصلى فيها ؟

فإن قال السائل : إذا كان المني نجسا ، فكيف خلق الله تعالى منه الطاهرين من الأنبياء المصطفين والعباد الصالحين؟

قيل له : هذا السؤال عائد على سائله ، وهو أن يقال له : إذا كان المني طاهرا، فكيف خلق الله تعالى النجسين من الفراعنة والشياطين والكفار والمشركين ؟

وبعد فالمني جسم، ونجاسته عرض، والأعراض تنتقل ، وقد رأينا نجسا صار طاهرا، وطاهرا عاد نجسا.

ولو قال للخصم قائل: إذا كان الدم نجسا فكيف (جعله) الله تعالى قوام جسم المؤمن وصحة كونه حيا .

وإذا كانت العذرة نجسة فكيف حملها المؤمن، واستقرت في جسمه: والسؤال عن هذه المواضع ساقط لا معنى له.

فصل:

جاء في الحديث أن قوما أتوا إلى رسول الله (صلی الله علیه واله) ، فقالوا له: ألست رسولا من الله تعالى ؟ قال لهم : بلى ، قالوا له: وهذا القرآن الذي أتيت به كلام الله تعالى ؟ قال: نعم، قالوا: فأخبرنا عن قوله :

ص: 186

«إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » (1)

إذا كان معبودهم معهم في النار، فقد عبدوا المسيح (علیه السلام)، أفنقول أنه في

النار؟

فقال (لهم) رسول الله (صلی الله علیه واله): إن الله أنزل القرآن علي بكلام العرب، والمتعارف في لغتها ، وعند العرب أن (ما) لما لا يعقل و(من) لمن يعقل ، و(الذي) يصلح (لهما) جميعا. فإن كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا . قال الله تعالى : (إنكم وما تعبدون)، يريد الأصنام التي عبدوها ، وهي لا تعقل، والمسيح (علیه السلام) لا يدخل في جملتها ، لأنه يعقل .

ولو قال: إنكم ومن تعبدون الدخل المسيح (علیه السلام) في الجملة . فقال القوم : صدقت يا رسول الله (2).

وفي هذا الخبر دليل على أن رسول الله (صلی الله علیه واله) كان يحاج ويناظر ، ويعارض، ويفصل ويوضح الجواب لسائله ، ويثبت الحجة على خصمه، ولا يدعو إلى التقليد ، بل يوضح التقليد بإقامة الدليل.

فإن قال قائل : إذا كان الذين عبدوا الأصنام في شركهم وكفرهم، فلأي وجه تكون الأصنام في النار معهم ، وهي لم تكفر ، ولا يصح أن يعذب أيضا ما ليس بحي؟

قلنا: إن المراد بذلك أن يرى العابدون لها أنها لم تغن عنهم شيئا، وأنها بحیث هم لا تدفع عن أنفسها لو كانت حية قادرة ، ولا عنهم.

وعلى هذا المعنى يتأول قوله سبحانه:

« وقودها الناس والحجارة »

(بأنها) الحجارة التي عبدوها ، وهي الأصنام ، قال الله تعالى حكاية عن أهل النار :

ص: 187


1- سورة الأنبياء: 98.
2- طريقة هذا الحديث في المحاورة وأسلوبها تبعد جدا أن يكون من حديث الرسول (صلی الله علیه واله) بل هو بكلام بعض علماء المسلمين أشبه.

« لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون »

سؤال عن آیات:

إن سائل فقال: ما معنى قول الله تبارك وتعالى :

« ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ » هود: 103 - 104 (1)

وقوله تعالى في موضع آخر:

« هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» المرسلات: 35 - 36.

وقال في موضع آخر:

« وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ » الصافات: 27 والطور: 25.

وظاهر هذه الآيات مختلف ، لأن بعضها ينبیء عن أن النطق لا يقع منهم في ذلك اليوم، ولا يؤذن لهم فيه .

وبعضها ينبیء عن خلافه:

فالجواب أنه تعالى إنما أراد بما نقاه، نفي النطق المسموع المقبول الذي يكون لهم فيه حجة أو عذر ، ولم ينف الذي ليست هذه حاله .

ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته، ومرادهم بذلك أنه لم يأت بحجة ينتفع بها ، وإن كان قد تكلم كلاما كثيرا.

وقولهم : حضرنا فلانا يناظر ، فلم يقل شيئا. والمراد أنه لم يأت بكلام سدید ، ولا قول صحيح، وإن كان قد قال قولا غزيرا، فأطلقوا اللفظ في الكلام ، والمراد ما ذكرناه ، وقد قال الشاعر :

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما *** سمعي وما في غيره وقر (2)

ص: 188


1- الأنبياء: 99.
2- تجد الكلام على ذلك في أمالي المرتضى م 1 ص 43 - 44.

و هذا التأويل في نفي القول، لا يمنع من وقوع التساؤل، والتلاوم بينهم الذي ليس لهم فيه حجة ، ولا يثمر فائدة.

فأما قوله سبحانه : (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) فالتأويل الحسن أن يحمل (يؤذن لهم) على معنى أنه لا يسمع منهم، ولا يقبل عذرهم.

والعلة في امتناع قبول عذرهم، هي ما قد بينا من أنهم لا يعتذرون بعذر صحيح، ولا يأتون بقول مصيب.

سؤال آخر:

فإن قال: فقد قال الله تعالى في موضع من كتابه :

«وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ » الصافات: 24.

فأوجب السؤال. وقال في موضع آخر :

« فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ» الرحمن: 15.

فنفى السؤال. وظاهره متناقض واختلاف.

فالجواب:

إن السؤال الذي أوجبه سبحانه هو سؤال المطالبة بالواجبات وتضييع المفروضات.

والسؤال الذي نفاه عز وجل هو سؤال الاستعلام. والمعنى في ذلك أن الله تعالى ، علم جميع ما فعلوه ، ولا يخفى عليه شيء مما أتوه ، فلا حاجة إلى السؤال عن ذنبهم، ولا حاجة للملائكة أيضا إلى السؤال عن المذنب منهم ، لأن الله تعالى يجعل لهم سياء يعرفون به ، وذلك قوله عز وجل:

« يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ » الرحمن : 41.

فصل مما ورد في ذكر النصف

روي أن رسول الله (صلی الله علیه واله) قال:

التودد إلى الناس نصف العقل .

وحسن السؤال نصف العلم.

ص: 189

والتقدير في النفقة نصف العيش .

وجاء في خبر آخر عنه (علیه السلام):

التقدير نصف المعيشة.

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال :

الهم نصف الهرم، والسلامة نصف الغنيمة .

وقال بعض الحكماء : الخوف نصف الموت.

وقال آخر : المخافة شطر المنية .

وقيل : الراحة نصف السلامة ، وحسن الطلب نصف العلم ، والتودد نصف الحزم، وحسن التدبير نصف الكسب.

وقال بعض الحكماء : نصف رأيك مع أخيك.

يريد بذلك وجوب المشاورة ليجتمع الرأي.

وقيل : إذا بان منك أخوك ، بان شطرك ، وإذا اعتل خليلك فقد اعتل نصفك.

وأنشد :

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم (1)

وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف (2):

لئن عدت بعد اليوم إني لظالم *** سأصرف نفسي حيث تبقى المكارم

ص: 190


1- البيت من معلقة زهير بن أبي سلمي ، التي أولها: أمن أم أوف--ی دمنة لم تكلم *** بحومانة الدراج فالمتثلم
2- أحمد بن يوسف من مشاهير الكتاب في عصر المأمون ومن الشعراء المجيدين ومن وزراء الأمون، يكنى بأبي جعفر أحمد بن يوسف بن صبيح وهو أخو القاسم بن يوسف بن صبيح الشاعر الشيعي ، وتجد أخبار أحمد بن يوسف في كتاب الأوراق لأبي إسحاق الصولي ص 206- 236 الذي ذكر فيه كثيرا من شعره وإنشائه ، وقد توفي سنة 213ه ورثاه أخوه بعدة أبيات.

متى ينجح الغادي إليك بحاجة *** ونصفك محجوب ونصفك نائم

ولما اتهم قتيبة بن مسلم (1) أبا مجلد قال أبو بمجلد:

أيها الأمير تثبت فإن التثبت نصف العفو.

وقيل : السفر نصف العذاب.

وقال سعيد بن أبي عمرويه (2) :

لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان، على ما فيهما من قبح المنظر وعجب الخبر ، أحب إلي من أن أكون ذا وجهين ولسانين وذا قولين مختلفين .

ولبعضهم :

بسطت لساني ثم أوثقت نصفه *** فنصف لساني في امتداحک مطلق

فإن أنت لم تنجز عدالتي تركتني *** وباقي (لسان)(3) الشكر باليأس موثق

ووجد مكتوبا على قبر:

ياقبر أنت سلبتني إلفا *** قدمته وتركتني خلفا

وأخذت نصف الروح من جسدي *** فقبرته وتركتني نصفا

وقيل: إذا اتخذت جارية فعليك بالبيضاء ، فإن البياض نصف الحسن.

لابن عيينة:

إن دنيا هي التي *** بسحر العين سافره

سرقوها نصف اسمها *** هي دنیا وآخره (4)

ص: 191


1- قتيبة بن مسلم الباهلي من أعاظم قواد الأمويين صاحب الفتوحات الكبيرة في الشرق قتله وكيع بن أبي سود سنة 97 ه.
2- هو سعيد بن أبي عروبة لا عمروية كما في البيان والتبيين ج 2 ص 122 - 123 ، وتجد كلمته في الكتاب المذكور . توفي 156 ه- أنظر : فهرست ابن النديم ص 317.
3- في النسخة : لساني .
4- كذا في النسخة.

لابن المعتز (1) في جارية له:

يا دهر کیف شققت نفسا *** فخلست منها النصف خلسا

وترکت نصفا للأسى *** جعل البقاء عليه نحسا

سقيا لوجه حبيبة *** أودعتها كنفا ورمسا

وأنشد لذي الرمة (2):

وإن امرءا في بلدة نصف قلبه *** ونصف بأخرى إنه لصبور

فصل من الأدب:

روي عن بعض الأدباء أنه قال لابنه:

اقتن من مكارم الأخلاق خمسا، وارفض ستا، واطلب العز بسبع، واحرص على ثمان، فإن فزت بتسع بلغت المدي، وإن أحرزت عشرا أحرزت الدنيا والآخرة.

فأما الخمس المقتناة ، فخفض الجانب ، وبذل المعروف، وإعطاء النصفة من

نفسك، وتجنب الأذى، وتوقي الغرم .

وأما الست المرفوضة ، فطاعة الهوي، وارتكاب البغي ، وسلوك التطاول ، وقساوة

القلب ، وفظاظة القول، وكثرة التهاون.

وأما السبع التي ينال بها العز، فأداء الأمانة، وكتمان السر ، وتأليف الجانب ، وحفظ الإخاء، وإقالة العثرة، والسعي في حوائج الناس، والصفح عند الاعتذار .

وأما الثمان التي تحرص عليها ، فتعظيم أهل الفضل، وسلوك طرق الكرم، والمواساة في ملك اليد، وحفظ النعم بالشكر ، واكتساب الأجر بالصبر ،

ص: 192


1- هو عبد الله بن محمد وقيل الزبير المعتز ابن المتوكل العباسي ولد سنة 249ه ومات قتلا سنة 296ه بويع له بالخلافة ولم يستقم أمره سوي يوم واحد، ثم أخذ هو ووزيره وحاجيه وحبس .كان من الأدباء والشعراء المجيدين وبخاصة في الوصف وهو أول من صنف في علم البديع.
2- هو أبو الحرث غيلان بن عقبة ينتهي نسبه إلى نزار من فحول الشعراء الإسلاميين ولقب بذي الرمة بالفم والكسر وهو قطعة حبل لقوله: (أشعث باقي رمة التقليد) كانت وفاته سنة 117 ه ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم وأنا ابن أربعين سنة.

والإغضاء عن زلل الصديق، واحتمال النوائب ، وترك الامتنان بالاحسان.

وأما التسع التي تبلغ بها المدي، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ، وحرز اللسان عن سقوط الكلام، وغض الطرف، وصدق النية ، والرحمة لأهل البلاء ، والموالاة على الدين ، والمسامحة في الأمور والرضا بالمقسوم.

وأما العشرة الكاملة التي تنال بها الدنيا والآخرة ، فالزهد فيما [يفنی] والاستعداد لما يأتي ، وكثرة الندم على ما فات، وإدمان الاستغفار، واستشعار التقوى، وخشوع القلب ، وكثرة الذكر الله تعالى ، والرضا بأفعال الله سبحانه ، وملازمة الصدق ، والعمل بما ينجي .

فصل في ذكر الغني والفقر

قال رسول الله (صلی الله علیه واله):

ليس الغني في كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس .

وقال (صلی الله علیه واله):

ثلاث خصال من صنعة أولياء الله تعالى :

الثقة بالله في كل شيء ، والغنى به عن كل شيء ، والافتقار إليه عن كل شيء . وقال (صلی الله علیه واله):

ألا أخبركم بأشقى الأشقياء ، قالوا: بلى يا رسول الله .

قال : من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.

نعوذ بالله من ذلك.

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

الفقر يخرس الفطن عن حجته ، والمقل غريب في بلده .

من فتح على نفسه بابا من المسألة فتح الله عليه بابا من الفقر .

وقال (علیه السلام):

العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغني.

وقال: من كساه الغني ثوبه خفي عن العيون عيبه .

ص: 193

وقال: من أبدى إلى الناس ضره فقد فضح نفسه ، وخير الغني ترك السؤال، وشر الفقر لزوم الخضوع.

وقال:

استعن بالله عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ، وأفضل على من شئت تكن أميره .

وقال (علیه السلام): لا ملك أذهب للفاقة من الرضا بالقنوع.

وروي أن الماء صب على صخرة فوجد عليها مكتوبا :

إنما يتبين الفقر والغنى بعد العرض على الله عز وجل .

وقال رجل للصادق (علیه السلام) : عظني ، فقال :

لا تحدث نفسك بفقر ، ولا بطول عمر .

وقيل: ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه.

وقيل : الفقير من طمع ، والغني من قنع.

وأنشد لأمير المؤمنين (علیه السلام):

ادفع الدنيا بما اندفعت *** واقطع الدنيا بما انقطعت

يطلب المرء الغني عبثا *** والغني في النفس لو قنعت

ومن قطعة لأبي ذؤيب : (1)

والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع

لمحمود الوراق : (2)

أراك يزيدك الإثراء حرصا *** على الدنيا كأنك لا تموت

فهل لك غاية إن صرت يوما *** إليها قلت حسبي قد غنیت

تظل على الغنى أبدا فقيرا *** تخاف فوات شيء لا يفوت

وأغنى منك ذو طمرين راض *** من الدنيا ببلغة ما يفوت

وله أيضا:

ص: 194


1- مرت ترجمته.
2- مرت ترجمته.

يا عائب الفقر ألا تزدجر *** عیب الغنى أكبر لو تعتبر

من شرف الفقر ومن فضله *** على الغني إن صح منك النظر

أنك تعصي لتنال الغنی *** ولست تعصي الله إن تفتقر

لغيره:

أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا *** ولا أراهم رضوا في العيش بالعدون

فاستعن بالله عن دنيا الملوك كما *** استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

فصل في الكلام في الأرزاق

اعلم أن الرزق في الحقيقة هو التمليك، وأصل التمليك من الله تعالى ، وهو الرازق للعباد. وقد جعل بحكمته وعلمه من مصالح بريته ، أرزاقهم على قسمين:

أحدهما ما يوصله إليهم من غير سعي يكون منهم ولا اكتساب، ولا تحمل شيء من المشاق ، كالمواريث ونحوها من الأمور المتيسرات.

والآخر مشترط بحركة العبد وسعيه واجتهاده، وحرصه . فمن سعي ناله ، ومن قعد فاته ، وقد أمر الله تعالى بالاكتساب والطلبة ، قال تعالى :

« فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ » الجمعة:10.

وقال:

« إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ » العنکبوت: 17 .

فلا يجوز مخالفة أمر الله تعالى ، وترك التكسب والطلب ، وليس ذلك بمضاد

للتوكل على الله تعالى ، لأن له التعرض ومنه الطلب.

وقد أجرى العادة بأن لا يؤتى هذا القسم من الرزق إلا بعد الحركة والطلب. ومثل ذلك كثير في أفعاله تعالى التي قد أجرى العادة بأن لا يفعلها

ص: 195

إلا بعد فعل يقع من العباد قبلها ، كالولد بعد الوطء ، والنبات بعد الزرع والسقي .

وليس المجتهد في كل وقت مرزوقا ، وذلك لأن العطاء والمنع، والزيادة في الرزق ، والنقص منوط كله بالمصالح (المعلومة) عند الله تعالى .

وإنما يحسن من العاقل أن يسأل الله تعالى في الرزق بشرط أن لا يكون له مفسدا ، قال الله تعالى :

« وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ » الزخرف: 33.

وكل شيء رزقه الله تعالى للعبد فقد أباحه التصرف فيه ، قال الله تعالى :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ» البقرة: 254.

وقال: « كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ » البقرة: 267.

وقال: « قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ » ابراهيم : .31

وما رزقه الله وأباح التصرف فيه ، فإنه لا يعاتب عليه.

فأما المغتصبات فليست بأرزاق لغاصبيها ، ولا ملكهم الله تعالى إياها ، وإنما تسمى أرزاقا على المجاز ، من حيث أنها من الأشياء التي خلقها الله تعالى (ليغتذی) بها.

والدليل على أن الله تعالى لم يرزقهم ما اغتصبوه إخباره بأنهم ظالمون فيه ، وأنه يعاقبهم عليه ، قال الله تعالى :

« الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا » النساء : 10.

وأمره سبحانه بقطع يد السارق في قوله تعالى :

« وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ » المائدة : 38.

ولو كان الغاصب قد أخذ ما رزقه الله تعالى على الحقيقة ، لكان المطالب له

ص: 196

برد ما أخذه ظالما له ، ولم يجز في العدل أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة ، بل ان يكون ممدوحا على تصرفه فيه ، وإنفاقه له ، كما مدح الله تعالى من أنفقه من حله ، فقال :

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » الأنفال: 2-4 .

فجعل إنفاق الرزق من صفات المؤمنين ، فلما لم يكن للغاصبين إنفاق ما اغتصبوه ، وكانوا مذمومين عليه ، معاقبين على تصرفهم فيه ، دل ذلك على أن الله تعالى لم يرزقهم إياه في الحقيقة ، وإذا لم يكن رزقا للغاصب ، فهو رزق للمغصوب منه، وإن حيل بينه وبينه.

فصل مما روي في الأرزاق

روي عن سيدنا رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

أكثروا الاستغفار فإنه يجلب الرزق.

وقال (علیه السلام):

من رضي باليسير من الرزق رضي الله عنه باليسير من العمل .

وروي أن الله تعالى أوحي إلى عيسی (علیه السلام):

ليحذر الذي يستبطئني في الرزق أن أغضب فأفتح علیه بابا من الدنيا .

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

الرزق رزقان: رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك.

وروي عن أحد الأئمة (علیه السلام) أنه قال في الرزق المقسوم بالحركة: إن من طلبه من غير حله فوصل إليه حوسب من حله ، وبقي عليه وزره.

فالواجب أن لا يطلب إلا من الوجه المباح دون المحظور .

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال:

من حسنت نيته زيد في رزقه.

ص: 197

واعلم أن الدليل على جواز الزيادة في الأرزاق هو الدليل على جواز الزيادة في الأعمار، لأن الله تعالى إذا زاد في عمر عبده وجب أن يرزقه ما يتغذى به.

ذكروا أن ابراهيم بن هرمة انقطع إلى جعفر بن سليمان الهاشمي، فكان يجري له رزقا ، فقطعه، فكتب إليه ابن هرمة: (1)

إن الذي شق فمي ضامن *** للرزق حتي يتوفاني

حرمتني خيرا قليلا فما *** إن زادني مالك حرماني

فرد إليه رزقه وأحسن إليه.

وأنشد لبعضهم:

التمس الأرزاق عند الذي *** ما دونه إن سيل من حاجب

من يبغض التارك تسئاله *** جودا ومن يرضى عن الطالب

ومن إذا قال جري قوله *** بغير توقيع إلى كاتب

وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال:

ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم: رجل جلس عن طلب الرزق ، ثم يقول: اللهم ارزقني ، يقول الله تعالى (له): ألم أجعل لك طريقا إلى الطلب.

ورجل له امرأة سوء ، يقول : اللهم خلصني منها ، يقول الله تعالى : أليس قد جعلت أمرها بيدك.

ورجل سلم ماله إلى رجل ولم يشهد عليه به ، فجحده إياه، فهو يدعو عليه ، فيقول الله تعالى : قد أمرت بالاشهاد فلم تفعل .

لابن وكيع التنيسي:

لا تحيلن على سعدك في الرزق ونحسك *** وإذا أغفلك الدهر فذكره بنفسك

لا تعجل بلزوم بيتك ما قبل رمسك ***

ص: 198


1- هو أبو اسحاق ابراهيم بن علي بن سلمة القرشي الفهري من الشعراء المجيدين كان حيا سنة 146ه وكان معروفا بالتشيع عند الأمويين والعباسيين.

إنما یحمد حسن الرزق من جدة حسك

وروي في بعض الكتب ، أن الله تعالى يقول:

« يا ابن آدم حرك يدك أبسطر لك في الرزق، وأطعني فيما آمرك، في أعلمني ما يصلحك ».

وقيل لبعض : لو تعرضت لفلان لوصلك، فقال:

ما تلهفت لشيء من أمر الدنيا منذ حفظت هذه الأربع آيات من كتاب الله تعالى . قوله :

« مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا » سورة فاطر : 2

وقوله (تعالی):

« وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ » يونس: 107.

وقوله سبحانه:

« وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا » هود: 6.

وقوله جل اسمه :

« وَفِي السَّمَاءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُون » الذاريات: 22.

فروي أن صلة الرجل الذي قيل له : لو تعرضت له ، أتت إلى منزله من غير طلب . وأنشد لابن الاصبغ:

لو كان في صخرة في الأرض راسبة *** صماء ملمومة (ملسا) نواحيها

رزق لنفس براها الله لانغلقت *** عنه فأدت إليه كل ما فيها

أو كان بين طباق السبع مطلبها *** لسهل الله في المرقی مراقیها

حتى يلاقي الذي في اللوح خط له *** إن هي أتته وإلا سوف يأتيها

ص: 199

وروي عن رسول الله (صلی الله علیه واله) أنه قال:

« ما من مؤمن إلا وله باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه ، وذلك قوله تعالى :

« فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ».

فصل:

مما ذكر في تأويل قول الله عز وجل:

« فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ » الدخان: 19 (1).

اعلم أن هذه الآية نزلت في قوم فرعون الذين أهلكهم الله عز وجل ، وأورث أرضهم ونعمهم غيرهم، وفيها وجوه:

أحدها ما ورد به الخبر الذي قدمناه عن رسول الله (صلی الله علیه واله) من ذكر البابين اللذين لكل مؤمن ، يصعد من أحدهما عمله ، وينزل من الآخر رزقه ، وأنهما يبكيان عليه بعد موته . ومعنى البكاء ههنا الاخبار عن الاختلال بعده ، کما يقال : بکی منزل فلان بعده .

قال مزاحم العقيلي :

بکت دارهم من أجلهم فتهللت *** دموعي فأي الجازعين ألوم

أمستعبرا يبكي من الهون والبلى *** وآخر يبكي شجوه ویهیم

فإذا لم يكن لها ولا للقوم الذين أخبر الله تعالى ببوارهم مقام صالح في الأرض، ولا عمل كريم يرفع إلى السماء ، جاز أن يقال: فما بكت عليهم السماء والأرض.

وقد روي عن ابن عباس رحمه الله أنه قيل له : وقد سئل عن هذه الآية : أو تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال : نعم مصلاه في الأرض، ومصعد عمله في السماء .

ص: 200


1- أنظر الكلام على هذه الآية في أمالي المرتضى م 1 ص 49- 55.

والوجه الثاني من التأويل ، أن يكون تعالي أراد المبالغة في وصف القوم الذين أهلكهم بصغر القدر وسقوط المنزلة ، لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك ، قال : كسفت لفقده الشمس وأظلم القمر وبکاء الليل والنهار والسماء والأرض.

يريدون بذلك المبالغة وعظم الأمر وشمول المصيبة ، قال جرير (1) يرثي عمر

بن عبد العزيز :

الشمس طالعة ليست بکاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وفي انتصاب النجوم والقمر في هذا البيت ثلاثة وجوه:

أحدها أنه أراد أن الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر .لأن عظم الرزية قد سلبها ضوءها،. فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب.

الوجه الثاني أن يكون انتصابها على معنى قوله : لا أكلمك الأبد وطول المسند (2) وما جرى مجرى ذلك ، فكأنه أخبر بأن الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وما ظهر القمري .

والوجه الثالث أن يكون نجوم الليل والقمر باكيين الشمس على هذا المفقود ، فبكهن أي غلبتهن بالبكاء ، كما يقال: باکاني عند الله فبكيته ، وكاثرني فكثرته ، أي فضلت عليه وغلبته.

والوجه الثالث من التأويل أن يكون الله تعالى أراد بقوله : فما بكت عليهم السماء والأرض، أهل السماء وأهل الأرض ، وحذف أهل ، كما قال عز وجل : (واسأل القرية)، وكما قال: (حتى تضع الحرب أوزارها)، وإنما أراد أصحابها، ويجري ذلك مجرى قولهم : السخاء سخاء حاتم.

قال الشاعر :

ص: 201


1- هو جرير بن عطية الخطفي ينتهي نسبه إلى نزار مات باليمامة عن نيف وثمانين سنة ، سنة 121ه. وهو من أشهر الشعراء الإسلاميين وأرقهم ديباجة، هاجی شعراء عصره وبخاصة الفرزدق ، وكان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى، والفرزدق بزهير ، والأخطل بالنابغة.
2- المسند: الزمان.

ماقلیل عيبه والعيب جم *** ولكن الغنى رب غفور

يريد ولكن الغني غني رب غفور.

والوجه الرابع من التأويل ، أن يكون معنى الآية ، الإخبار عن أنه لا أحد أخذ بثأرهم ، ولا أحد انتصر لهم ، لأن العرب كانت لا تبكي على قتیل إلا بعد الأخذ بثأره ، فکنی بهذا اللفظ عن فقد الانتصار والأخذ بالثأر، على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن.

والوجه الخامس من التأويل أن يكون البكاء المذكور في الآية كناية عن المطر والسقيا ، لأن العرب تشبه المطر بالبكاء ، ويكون معنى الآية ، أن السماء لم تسق قبورهم، ولم تجد بقطرها عليهم، على مذهب العرب المعهود بينهم ، لأنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم يتعشبون الزهر والرياض لمواقع حفرهم. قال النابغة :

فلا زال قبر بين تبني وجاسم (1) *** عليه من الوسمي طل ووابل

فينبت حوذانا (2) وعوفا منورا *** سأتبعه من خير ما قال قائل

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام ومسألة الله تعالى لهم الرضوان .

والفعل إذا أضيف إلى السماء ، وإن كان لا تجوز اضافته إلى الأرض، فقد يصح عطف الأرض على السماء ، بأن يقدر فعل يصح نسبته إليها . والعرب تفعل مثل هذا، قال الشاعر :

يا ليت زوجك قد غدا *** متقلدا سیفا ورحا

بعطف الرمح على السيف ، وإن كان التقلد لا يجوز فيه ، لكنه أراد حاملا رمحا.

ومثل هذا يقدر في الآية ، فيقال: إنه تعالى أراد أن السماء لا تسقي قبورهم، والأرض لم تعشب عليها . وكل هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله عز وجل.

ص: 202


1- موضعان بالشام.
2- الجرذان والعون نباتان لهما رائحة.

وربما شبه الشعراء النبات بضحك الأرض، كما شبهوا المطر ببكاء السماء ، وفي ذلك يقول أبو تمام حبيب بن أوس (1) :

إن السماء إذا لم تبك مقلتها *** لم تضحك الأرض عن شيء من الخضر

والزهر لا تنجلي أبصاره أبدا *** إلا إذا رمدت من كثرة المطر

ذكر مجلس

جرى في القياس مع رجل من فقهاء العامة ، اجتمعت معه بدار العلم في القاهرة.

سألني هذا الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم، فقال: ما تقول في القياس ، وهل تستجيزه في مذهبك ، أم ترى أنه غير جائز ؟؟

فقلت له : القياس قیاسان: قياس في العقليات، وقياس في السمعيات.

فأما القياس في العقليات فجائز صحيح. وأما القياس في السمعيات فباطل مستحيل.

قال: فهل يتفق حدهما أم يختلف ؟

قلت : الواجب أن يكون حدهما واحدا غير مختلف.

قال: فما هو؟

قلت : القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس ، هذا هو الحد الشامل لكل قیاس ، وله بعد هذا شرائط لا بد منها ، ولا يقاس شيء على شيء إلا بعلة تجتمع بينهما.

قال: فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته ، والقياس الذي أحلته.

ص: 203


1- ينتهي نسبه إلى طيء وهو واحد عصره في ديباجة لفظه وفصاحة شعره وحسن أسلوبه ولد سنة 188 ه وتوفي سنة 272 ه له كتاب الحماسة الذي يدل على حسن اختياره وذوقه ، وله أيضا کتاب فحول الشعراء من جاهليين واسلاميين ومخضرمين، وكتاب الاختيارات من شعر الشعراء وديوان شعره وهو مطبوع عدة طبعات.

قلت: بل بينهما فروق، وإن شمل الحد.

قال: وما هي؟

قلت : منها أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة تأثير الايجاب ، وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك. بل يقولون هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار .

ومنها أن العلة في العقليات لا تكون إلا معلومة، وهي عندهم في السمعيات مظنونة وغير معلومة .

ومنها أنها في العقليات لا تكون إلا شيئا واحدا، وهي في السمعيات قد تكون مجموع أشياء ، فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.

قال: فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز ؟

قلت : الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور ، واتفق في المختلف ، وورد الحظر لشيء والإباحة لمثله ، بل ورد الحكم في الأمر العظيم صغيرا، وفي الصغير بالإضافة إليه عظيما، واختلف كل الاختلاف الخارج عن مقتضى القياس.

وإذا كان هذا سبيل المشروعات، علم أنه لا طريق إلى معرفة شيء منأحكامها إلا من قبل المطلع على السرائر ، العالم بمصالح العباد ، وأنه ليس للقائسين فيه مجال.

فقال أحد الحاضرين: فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف المبائن للقياس.

قلت: هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال، ولكني أورد منه طرفا لموضع السؤال.

فمنه أن الله عز وجل أوجب الغسل من المني ولم . يوجبه من البول والغائط ، وليس هو بأنجس منهما ، وأكثر العامة يروون أنه طاهر .

وألزم الحائض قضاء ما تركته من الصيام، وأسقط عنها قضاء ما تركته

ص: 204

من الصلاة ، وهي أوكد من الصيام.

وفرض في الزكاة أن يخرج من الأربعين شاة، شاة، ولم يفرض في الثمانين شاتين ، بل فرضها بعد كمال الماية والعشرين، وهذا خارج عن القياس.

ونهانا عن التحريش بين بهيمتين، وأباحنا إطلاق البهيمة على ما هو أضعف منها في الصيد.

وجعل للرجل أن يطأ من الإماء ما ملكته يمينه، ولم يجعل للمرأة أن تمكن من نفسها من ملكته يمينها .

وأوجب الحد على رمي غيره بفجور ، وأسقطه عن من رمي بالكفر ، وهو أعظم من الفجور.

وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين ، وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزنا عليه ، إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود ، وهذا كله خارج عن سنن القياس.

وقد ذكروا عن ربيعة بن عبد الرحمن (1) أنه قال : سألت سعید بن المسيب (2) فقلت: كم في اصبع المرأة؟

قال: عشر من الإبل .

قلت: كم في اصبعين ؟

قال: عشرون.

قلت: كم في ثلاث؟

قال: ثلاثون.

قلت: كم في أربع ؟

قال: عشرون .

قلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصیبتها نقص عقلها ؟

فقال سعيد: أعرابي أنت؟

قلت: بل عالم مثبت ، أو جاهل متعلم.

ص: 205


1- في فهرست ابن النديم ص 285 ربيعة بن أبي عبد الرحمن ويعرف بر بيعة الرأي ، من الموالي ويكنى أبا عثمان أخذ عن أبي حنيفة ، وكان بليغا وخطيبا، توفي بالأنبار سنة 136 ه.
2- هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن من التابعين جمع بين الحديث والفقه والنسك والتعبير . ولد سنة 13 وتوفي سنة 94 ه.

قال: هي السنة يا ابن أخ.

ونحو ذلك مما لو ذهبت إلى استقصائه لطال الخطاب ، وفيما أوردته كفاية لذوي الألباب.

قال السائل : فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا، ولم يكن في الضرورات التي هي أصولها مستمرا ولا صحيحا ، فما تنكرون أن يكون كذلك الحكم في السمعيات ، فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها صحيحا ، وإن لم يكن في أصول المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا ؟

فقلت: أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف القياس مما ذكرناه ، فوجب أن يكون ما تفرع عنها جاريا مجراها .

ولسنا نجد أصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس ،وإنما امتنع القياس فيها ، لأنها أصول لا أصول لها، فوضح الفرق بينهما .

ومما يبين لك ذلك أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت فيه أصول الشرعیات ، وليس بجائز أن يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي الضرورات ، فلا طريق إلى الجمع بينهما .

قال: فما تنكرون على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الأصول في السمعيات وفروعها ، فنص لنا على الأصول وعرفنا بها ، وأمرنا بقياس الفروع عليها ، ضربا من التعبد والتكليف ، ليستحق عليه الأجر والثواب.

قلت : هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعبادة لأن القياس لا بد فيه من استخراج علة يحمل عليها الفروع على الأصول، ليماثل بينهما في الحكم. والأحكام الشرعية لو كانت مما توجبه العلل، لم يجز في المشروعات النسخ. وفي جواز ذلك في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل.

وقد قدمنا القول بأن علل القائسين مظنونة ، والظنون غير موصلة إلى إثبات ما تعلق بمصالح الخلق ، ولا مؤدية إلى العلم بمراد الله تعالى من الحكم.

ولو فرضنا جواز تكليف العباد ، القياس في السمعيات، لم يكن بد من

ص: 206

ورود السمع بذلك في القرآن أو في صحيح الأخبار . وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله تعالى لم يكلفه خلقه.

قال: فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الأخبار ، قال الله عز وجل : « فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ » الحشر: 2.

فأوجب الاعتبار ، وهو الاستدلال والقياس.

وقال:

« فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ». المائدة: 95.

فأوجب بالمماثلة المقايسة .

وروي أن النبي (صلی الله علیه واله) لما أرسل معاذا إلى اليمن ، قال له : بماذا تقضي؟ قال: بكتاب الله.

قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟

قال: بسنة رسول الله .

قال: إن لم تجد في سنة رسول الله ؟

قال : أجتهد رأي.

فقال (علیه السلام): الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله .

وروي عن الحسن بن علي (علیه السلام) أنه سئل فقيل له : بماذا كان يحكم أمير المؤمنين (علیه السلام)؟

قال : بكتاب الله ، فإن لم يجد فسنة رسول الله (صلی الله علیه واله)، فإن لم يجد ، رجم فأصاب.

وهذا كله دليل على صحة القياس والأخذ بالاجتهاد والظن والرأي.

فقلت له : أما قول الله عز وجل: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، فليس فيه حجة لك على موضع الخلاف، لأن تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ما يستدل به على حق رسول الله (صلی الله علیه واله)، وأن الله أمده بالتوفيق ونصره، وخذل عدوه، وأمر الناس باعتبار ذلك (ليزدادوا) بصيرة في الإيمان.

ص: 207

وليس هذا بقياس في المشروعات، ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الأحكام.

وأما قوله سبحانه : (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس ، وإنما تعبد الله سبحانه عبادة بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علماه من نص الله تعالى .

ولو كان حكمهما قياسا لكانا إذا حكما في جزاء النعامة بالبدنة قد قاسا ، مع وجود النص بذلك. فيجب أن يتأمل هذا.

وأما الحبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد التي لا يثبت بهما الأصول المعلومة في العبادات. على أن رواة خبر معاذ مجهولون، وهم في لفظه أيضا مختلفون.

ومنهم من روى أنه لما قال: اجتهد رأيي قال له (علیه السلام): لا أحب إلى (أن)

أكتب إليك.

ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لأحتمل أن يكون معنى قوله : أجتهد رأيي، أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة.

وأما ما رويته عن الحسن (علیه السلام) من حكم أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، ففيه تصحیف ممن رواه . والخبر المعروف أنه قال: فإن لم يجد في السنة زجر فأصاب .

يعني بذلك القرعة بالسهام، وهو مأخوذ من الزجر والفال.

والقرعة عندنا من الأحكام المنصوص عليها ، وليست بداخلة في باب القياس. فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآيات والأخبار.

فقال أحد الحاضرين : إذا لم يثبت للقائسين نص في إيجاب القياس ، فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار، فقد تساويا في هذه الحال.

فقلت له : قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعیات ، وما يستغنی به متامله عن إيراد ما سواه.

ص: 208

ثم إن الأمر بخلاف ما ظننت ، وقد تناصرت الأدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الأخبار قال الله عز وجل :

« وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ » المائدة : 44.

ولسنا نشك في أن الحكم بالقياس حكم بغير التنزيل ، قال الله عز وجل :

« وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ » النحل : 116

ومستخرج الحكم في الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه إلى الله ولا إلى رسول الله (صلی الله علیه واله).

وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره ، وهو المحلل والمحرم في الشرع بقول من عنده، وكذب وصفه بلسانه ، فقال سبحانه:

« وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا » الإسراء : 36

ونحن نعلم أن القائس معول على الظن دون العلم ، والظن مناف للعلم. ألا ترى أنها لا يجتمعان في الشيء الواحد. وهذا من القرآن كاف في إفساد القياس .

وأما المروي في ذلك من الأخبار فمنه قول رسول الله (صلی الله علیه واله):

« ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي، قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام ».

وقول أمير المؤمنين (علیه السلام):

« إياكم والقياس في الأحكام، فإنه أول من قاس إبليس ».

وقال الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام):

إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس، قد جعل الله تعالى للقرآن أهلا ، أغناكم بهم عن جميع الخلائق ، لا علم إلا ما أمروا به ، قال الله تعالی :

ص: 209

« فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون »

إيانا عني.

وجميع أهل البيت (علیه السلام) أفتوا بتحريم القياس .

وروي عن سلمان الفارسي رحمه الله أنه قال:

« ما هلكت أمة حتى قاست في دينها ».

وكان ابن مسعود يقول: « هلك القائسون »

وفي هذا القدر من الأخبار غني عن الإطالة والإكثار .

وقد روي هشام بن عروة عن أبيه قال:

إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلا ، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فأضلوهم.

قال ابن عيينة :

فما زال أمر الناس مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة ، وأبو حنيفة بالكوفة ، وعثمان البني بالبصرة، وأفتوا الناس ، وفتنوهم ، فنظرنا فإذا هم أولاد سبايا الأمم.

فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ، ولم يأت أحد منهم بجرف زائد على ما

ذكرت والحمد لله.

ذكر مجلس

جرى لشيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضوان الله عليه ،

مع بعض خصومه في قولهم:

« إن كل مجتهد مصیب ».

قال شيخنا المفيد رضي الله عنه:

كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة العامة ، فقلت لهم: إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف، يحظر عليكم المناظرة، ويمنعكم من

ص: 210

الفحص والمباحثة، واجتماعكم على المناظرة يناقض أصولكم في الاجتهاد ، وتسويغ الاختلاف.

فإما أن تكونوا مع حكم أصولكم، فيجب أن ترفعوا النظر فيما بينكم، وتلزموا الصمت .

وإما أن تختاروا المناظرة، وتؤثروها على المتاركة ، فيجب أن تهجروا القول بالاجتهاد ، وتتركوا مذاهبكم في الرأي وجواز الاختلاف، ولا بد من ذلك ما أنصفتم وعرفت طريق الاستدلال.

فقال أحد القوم : لم زعمت أن الأمر كما وصفت ، ومن أين وجب ذلك؟

قال شيخنا رضي الله عنه فقلت له:

علي البيان عن ذلك، والبرهان عليه حتى لا ... على أحد من العقلاء .

أليس من قولكم أن الله تعالى سوغ خلقه الاختلاف في الأحكام للتوسعة عليهم، ودفع الحرج عنهم رحمة منه لهم، ورفقا بهم، وأنه لو ألزمهم الاتفاق في الأحكام، وحظر عليهم الاختلاف لكان مضيقا عليهم، (معنتا) لهم، والله يتعالى عن ذلك، حتى (أكدتم) هذا المقال بما رویتموه عن النبي (صلی الله علیه واله) أنه قال :

« اختلاف أمتي رحمة »

وحملتم معنى هذا الكلام منه على وفاق ما ذهبتم إليه في تسويغ الاختلاف.

قال: بلى ، فما الذي يلزمنا على هذا المقال؟

قال شيخنا رحمه الله قلت له:

فخبرني الآن عن موضع المناظرة ، أليس إنما هو التماس الموافقة ، ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة ، وتتغير له عن الإقامة على ضد ما دل عليه البرهان ؟

قال: لا، ليس هذا موضوع المناظرة ، وإنما موضوعها لإقامة الحجة والإبانة عن رجحان المقالة فقط.

قال الشيخ : فقلت له:

وما الغرض في إقامة الحجة والبرهان على الرجحان ، وما الذي يجر انه إلى

ص: 211

ذلك ، والمعنى الملتمس به ، أهو تبعید الخصم من موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حجها ، أم الدعوة إليها بذلك ، واللطف في الاجتذاب إليها

به؟؟

فإن قلت: إن الفرض للمحتج التبعيد عن قوله بإيضاح الحجة عليه والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه ؟ قلت قولا يرغب عنه كل عاقل ، ولا يحتاج معه لتهافته إلى كسره.

وإن قلت: إن الموضح عن مذهبه بالبرهان داع إليه بذلك ، والدال عليه بالحجج البينات يجتذب بها إلى اعتقاده ضرب بهذا القول- وهو الحق الذي لا شبهة فيه - إلى ما أردناه ، من أن موضوع المناظرة إنما هو للموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة .

وإذا كان ذلك كذلك ، فلو حصل الفرض في المناظرة وما أجرى بها عليه لارتفعت الرحمة ، وسقطت التوسعة ، وعدم الرفق من الله تعالى بعباده ، ووجب في صفة العنت والتضييق، وذلك ضلال من قائله. فلا بد على أصلك في الاختلاف من تحريم النظر والحجاج، وإلا فمتى صح ذلك ، وكان أولى من ترکه فقد بطل قولكم في الاجتهاد ، وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.

فاعترض رجل آخر في ناحية المجلس فقال:

ليس الغرض في المناظرة الدعوة إلى الاتفاق، وإنما الغرض فيها إقامة الغرض من الاجتهاد.

فقال له الشيخ رضي الله عنه:

هذا الكلام كلام صاحبك بعينه في معناه ، وأنتما جميعا حائد ان عن التحقيق والصواب. وذلك أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض، ولا بد الفعل النظر من معقول.

فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد ، البيان عن موضع الرجحان، فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والإيناس بالحجة الى المقال.

وإن كان الغرض فيه التعمية والالغاز فذلك محال، لوجود المناظر

ص: 212

مجتهدا في البيان التحسين مقاله بالترجيح له على قول خصمه في الصواب.

وإن كان معقول فعل النظر ومفهوم غرض صاحبه ، الذب عن نحلته والتنفير عن خلافها ، والتحسين لها، والتقبيح لضدها ، والترجيح لها على غيرها ، وكنا نعلم ضرورة أن فاعل ذلك لا يفعله للتعبيد من قوله ، وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه ، فقد ثبت بما قلناه.

ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه ، المجتهد في تحسينه وتشييده ، غير قاصد بذلك إلى الدعاء إليه، ولا مزيد للاتفاق عليه ، لكان المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعيا بذلك إلى اعتقاده، ومرغبا به إلى المصير إليه.

ولو كان ذلك كذلك لكان إلزام الشيء مدحا له، والمدح له ذما له ، والترغيب في الشيء ترهیبا عنه ، والترهيب عن الشيء ترغیبا فيه ، والأمر به نهيا عنه ، والنهي عنه أمرا به ، والتحذير منه إيناسا به، وهذا ما لا يذهب إليه سليم.

فبطل ذلك ما توهموه، ووضح ما ذكرناه في تناقض نحلتهم على ما بيناه ، والله نسأل التوفيق.

قال شيخنا رضي الله عنه:

ثم عدلت إلى صاحب المجلس فقلت له:

لو سلم هؤلاء من المناقضة التي ذكرناها - ولن يسلموا أبدا من الله - لما سلموا من الخلاف على الله فيما أمر به ، والرد للنص في كتابه ، والخروج عن مفهوم أحكامه با ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الأحكام، قال الله عز وجل:

« وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ » آل عمران: 105.

فنهى الله تعالى نهيا عاما ظاهرا، وحذر منه وزجر عنه ، وتوعد على فعله بالعقاب ، وهذا مناف لجواز الاختلاف، وقال سبحانه :

ص: 213

« وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا » آل عمران: 103.

فنهى عن التفرق، وأمر الكافة بالاجتماع، وهذا [يبطل] قول مسوغ الاختلاف، وقال سبحانه :

« وَلاَ يَزالُونَ مُختَلِفِينَ إِلاَّ مِن رَحِمَ رَبِّك » هود : 118.

فاستثنى المرحومين من المختلفين ، ودل على أن المختلفين قد خرجوا بالاختلاف عن الرحمة ، لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة ، ولولا ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل، وهذا بين لمن تأمله.

قال صاحب المجلس: أرى هذا الكلام كله يتوجه على من قال: إن كل مجتهد مصیب . فما تقول فيمن قال: إن الحق في واحد ولم يسوغ الاختلاف.

قال الشيخ رضي الله عنه فقلت له:

القائل بأن الحق في واحد ، وإن كان مصيبا فيما قال على هذا المعنى خاصة ، فإنه يلزمه المناقضة بقوله: إن المخطيء للحق معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه ، واعتماده في ذلك على أنه لو أوخذ به للحقة العنت والتضييق. فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الأولين فيما عليهم (من) المناقضة ، ولزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة ، وإن كان القائلون بإصابة المجتهدين الحق يزيدون عليه في المناقضة ، وتهافت المقالة ، بقول الواحد لخصمه قد أخطأت الحكم مع شهادته له بصوابه فيما فعله مما به أخطأ الحكم عنده. فهو شاهد بصوابه وخطئه في الإصابة ، معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافة ، مأجور على مباينته ، وهذه مقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها ، وتكشف عن قبح باطنها بطاهرها ، وبالله التوفيق.

ذكروا أن هذا الكلام جرى في مجلس الشيخ أبي الفتح عبيد الله بن فارس (1) قبل أن يتولى الوزارة.

ص: 214


1- ورد ذكره في كتاب: (تثبيت دلائل النبوة) ص 557 - 558 للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفي سنة 415ه باسم: أبو القيح بن فراس ، لا فارس وقال عنه: كان أبو الفتح بن فراس الكاتب وهو أحد الشيع ومن كبار الإمامية ... إليه ترجع الشيع في الرواية ويعرض عليه شعراؤهم شعر هم مثل أبي الحسن الناشئ.

مسألة:

إن سأل سائل فقال: ما معنى قول رسول الله (صلی الله علیه واله) :

« اختلاف أمتي رحمة » .

الجواب:

قيل له : المراد بذلك اختلاف الواردين من المدن المتفرقة على رسول الله (صلی الله علیه واله) في وقته، وعلى وصية القائم مقامه من بعده، ليسألوا عن معالم دينهم ، ويستفتوا فيما لبس عليهم، فذلك رحمة لهم، ( إذ يعودون إلى قومهم فينذرونهم) (1)، قال الله سبحانه:

« فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » التوبة: 122.

وليس المراد بذلك اختلاف الأمة في اعتقادها ، وتباينها في دينها ، وتضاد أقوالها وأفعالها.

ولو كان هذا الاختلاف لها رحمة ، لكان اتفاقها - لو اتفقت - سخطا عليها ونقمة.

وقد تضمن القرآن من الأمر بالاتفاق والائتلاف والنهي عن التباين والاختلاف ما فيه بیان شاف.

فصل : من الاستدلال بهذه الآية على صحة الإمامة والعصمة

قال الله تعالى :

« فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » التوبة : 122:

ص: 215


1- في النسخة جملة مشوشة وهي : (ولم يعودون إليه بنذورهم من قومهم) فصححناها بما ذكرنا انسجاما مع المعنى المقصود .

فحث سبحانه وتعالى على طلب العلم ورغب فيه، وأوجب على من به نهضة أن يلتمسه ويسارع إليه ، وهذا لازم في وقت رسول الله (صلی الله علیه واله) وبعده. ولا يضح أن يتخصص به زمان دون غيره ، لأن التكليف قائم لازم، والشرع شامل دائم.

وقد علمنا ومن خالفنا أن النافرين للتفقه في الدين أيام النبي (صلی الله علیه واله ) کانوا إذا وردوا عليه أرشدهم إلى الحق بعينه ، وهداهم إلى قول واحد من شرعه ودينه ، فرجعوا إلى قومهم متفقين ، وعلى شيء واحد مجتمعين ، لا يختلفون في تأويل آية ، ولا في حكم فريضة ، حلالهم واحد، وحرامهم واحد، ودينهم واحد ، فثبتت بهم الحجة ، وتتضح للمسترشدين المحجة ، وينال الطالب بغيته ، ويدرك المستفيد فائدته.

والناس بعد رسول الله (صلی الله علیه واله) مكلفون من شرعه بما كلفه من كان في وقته ، فوجب في عدل الله وحكمته وفضله ورحمته أن يزيح علل بريته، ويقيم لهم في كل زمان عالما أمينا، حافظا مأمونا ، لا تختلف أقواله ، ولا تتضاد أفعاله ، وتثق النفوس بكماله ومعرفته ، وتسكن إلى طهارته وعصمته ، ليكون النفير (1) إليه، والتعويل في الهداية عليه . ولولا ذلك، لكان الله تعالى قد أمر بالنفير الى المختلفين وسؤل المتباينين المتضادين ، والتعويل على المرجحين الظانين ، الذين بحار بينهم المستجير، ويضل المسترشد، ويشك الضعيف ، وهذا عنت في التكليف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

سؤال في الغيبة يتعلق بما ذكرناه:

إن قال قائل : إذا كانت علل المكلفين في الشريعة ، لا تنزاح إلا بحافظ للأحكام ينصب لهم ، مميز بالعصمة والكمال منهم ، يقصده المسترشدون، ويعول على قوله السائلون. وكان الإمام (علیه السلام) اليوم على قولك غائبا لا يوصل إليه ،ومستترا عن الأمة لا يقدر عليه ، فعلل المكلفين إذن غير مزاحة في الشرع،

ص: 216


1- الأولى النفر لا النفير .

ووجود الحافظ لم يغن ، لكونه بحيث لا يقدر عليه الخلق ، فإلى من حينئذ يفزع الراغبون ، ومن يقصد الطالبون ، وعلى من يعول السائلون ، ومن الذي ينفر إليه المسترشدون ؟؟؟

الجواب:

قلنا: إن الله سبحانه قد أزاح علل المكلفين في هذا العصر ، كما أزاح علل الأمم السابقة من قبل، الذين بعث فيهم أنبياءه فكذبوهم وأخافوهم، وشردوهم ، وظفروا بكثير منهم فقتلوهم.

ولم يرسلهم الله تعالى إليهم إلا ليقيموا أحكامه بينهم ، وينفذ أوامره فيهم، ويعلموا جاهلهم وينبهوا غافلهم، ويجيبوا سائلهم، وينفر إليهم الراغب ، ويقتبس منهم الطالب ، فحال بينهم وبين ذلك الظالمون ، ومنعهم مما بعثواله الآفكون ، وقطعوهم عن الإبلاغ، وحرموا أنفسهم الهداية منهم والإنذار، فكانوا في قتلهم أنبيائهم كمن قصد إلى نفسه وأعمى بصره عن النظر إلى سبيل النجاة ، ووقر سمعه عن استماع ما فيه هداه ، ثم قال: لا حجة الله علي ، ولا هداية منه وصلت إلى ، يقول الله عز وجل:

« أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ » البلد: 9.

فلله الحجة البالغة على الناس ، ولو شاء لمنعهم من الضلال منع اضطراری ولأخرجهم بالجبر عن سنن التكليف والاختيار، تعالى الله الحكيم فيما قضى، الحليم عمن عصاه.

والذي اقتضاه العدل والحكمة في هذا الزمان من نصب الإمام الأنام، فقد أزاح الله سبحانه العلة فيه، وأوجده، ودل عليه بحجة العقل الشاهدة في الجملة بأنه لا بد من إمام كامل معصوم في كل عصر ، وبحجج النصوص على التعيين ، المأثورة عن رسول الله رب العالمين ، وعن الأئمة من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، في التعريف بصاحب هذا الزمان (علیه السلام) ، بنعته ونسبه اللذين يتميز بها عن الأنام، ولكن الظالمين سلكوا سنن من كان قبلهم في قصدهم لا هلاك هداتهم، وحرصهم على إطفاء نور مصابيحهم ، فقصدوا قصده

ص: 217

فأخافوه، وانطوت نباتهم على قتله متى وجدوه . فأمر(ه) الله بالاستتار ، (لما) علمه من مباينة حاله لحال كل نبي وإمام أبدى شخصه فقتلهم الناس، إذا كانت مصلحة الأمة بعد آبائه صلوات الله عليهم ، مقصورة على كونه إماما لهم، وأن غيره لا يقوم مقامه في مصلحتهم ، وسقط عنهم فرض التصدي للسائلين لعدم الأمن والتمكن، فكانت الحجة الله تعالى على الظالمين الذين (وجدوا) سبيل الهداية ، وأرشدوا إليها ، فمنعوا أنفسهم سلوكها ، وآثروا الضلالة عليها ، (فكانوا) كمن شد عينه عن النظر إلى مصالحه، وسد سمعه عن استماع مناصحته ، ثم قال: لو شاء الله هداني ، قال الله سبحانه فيمن ماثلت أحواله الحاله:

« وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ » فصلت: 17.

تعالى الله ذو الكلمة العليا والحجة المثلى.

ولسنا مع ذلك نقطع على أن الإمام (علیه السلام) لا يعرفه أحد ، ولا يصل إليه ، بل قد يجوز أن يجتمع به طائفة من أوليائه تستر اجتماعها به وتخفيه.

فأما الذي يجب أن يفعله اليوم المسترشدون ويعول عليه المستفيدون فهو الرجوع إلى الفقهاء من شيعة الأئمة ، وسؤالهم في الحادثات عن الأحكام ، والأخذ بفتاويهم في الحلال والحرام. فهم الوسائط بين الرعية وصاحب الزمان عليه السلام، والمستودعون أحكام شريعة الاسلام، ولم يكن الله تعالى يبيح [لحجته] صلى الله عليه ، الاستتار إلا وقد أوجد (للأمة) من فقه آبائه (علیه السلام) ما تنقطع به الأعذار ، وليس الرجوع إليهم كالرجوع إلى القائسين ، ولا التعويل عليهم بمائل للتعويل على المستحسنين ، المفتين في الشريعة وبالظن والترجيح ، وإنما هو رجوع إلى ما استودعوه من النصوص (المفيدة) للعلم واليقين ، وتعويل على ما استحفظوه من الآثار المنقولة من فتاوى الصادقين ، التي فيها علم ما يلتمسه الطالبون، وفيه ما يقتبسه السائلون. ومن أخذ من هذا المعدن فقد أخذ من الإمام صلى الله عليه ، لأنها علومه ، وأقوال آبائه صلوات الله عليهم وسلامه .

وكثيرا ما يقول لنا المخالفون عند سماعهم منا هذا الكلام :

ص: 218

إذا كنتم قد وجدتم السبيل إلى علم ما تحتاجونه من الفتاوى في الأحكام،

المحفوظة عن الأئمة المتقدمين (علیه السلام)، فقد استغنيت بذلك عن إمام الزمان.

وهذا قول غير صححيح، لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع من لا يستحيل منه الغلط والنسيان، ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان.

وإذا جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلا بوجود معصوم يكون من ورائهم، شاهد لأحوالهم، عالم بأخبارهم، إن غلطوا هداهم، أو نسوا ذكر هم ، أو كتموا علم الحق منه دونهم .

وإمام الزمان (علیه السلام)، وإن كان مستترا عنهم ، بحيث لا يعرفون شخصه ، فهو موجود بينهم ، يشاهد أحوالهم، ويعلم أخبارهم ، فلو انصرفوا عن النقل ، أو ضلوا عن الحق ، لما وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ، ومنع منه إلى أن يبين الحق، وتثبت الحجة على الخلق.

ولو لزمنا القول بالاستغناء عن الإمام فيما وجدنا الطريق إلى علمه من غير جهته ، للزم مخالفينا القول بالاستغناء عن النبي (صلی الله علیه واله) في جميع ما أداه مما علم بالعقول قبل أدائه ، وفي إطلاق القول بذلك خروج عن الإسلام وأحكامه. وقد ورد في جواب هذا السؤال ما فيه بلاغ للمسترشدين وهداية ، والحمد لله.

تأویل آیة:

إن سأل سائل فقال: ما عندكم في تأويل قول الله سبحانه :

« ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم » (1).

وظاهر هذه الآية يقتضي أنه لم يشأ أن يكون الناس أمة واحدة متفقين على الهدى والمعرفة.

ص: 219


1- هود: 118 وتجد الكلام على هذه الآية في الأمالي للمرتضی ج 1 ص 70- 75.

وما معني قوله :(ولذلک خلقهم) و ظاهره يقتضي أنه خلقهم للاختلاف ، ولو کان عني به الرحمة لقال :ولتلک خلقهم ،لأن الرحمة مونثة ،ولفظة ذلک لا يکني بها إلا [عن] مذکر.

وأما الرحمة فإنا لا نعرفها إلا رقة القلب و الشفقة ، وهذا لا يجوز علي الله سبحانه .

الجواب :

أما قوله تعالي : (ولو شاء ربک لجعل الناس أمة واحدة) فإنما عني به المشيئة التي يقارنها الإلجاء والاضطرار ، ولم يعن بها المشيئة التي تکون معها علي الحکم الاختيار.

ومراده سبحانه في الآية أن يخبرنا عن قدرته ، وأن الخلق لا يعصونه علي سبيل الغلبة له ، وأنه قادر علي إلجائهم و إکرامهم علي ا أراده منهم .

فأما لفطة (ذلک) في الآية فحملها علي الرحمة أولي من حملها علي الاختلاف ، لدليل العقل و شهادة اللفط .

فأما دليل العقل فمن حيث علمنا أنه سبحانه کره الاختلاف في الدين و نهي عنه و توعد عليه ،ولا يجوز أن يخلفهم لأمر يکرهه، ويشاء منهم ما نهي عنه و حظره.

و أما شهادة اللفط فلأن الرحمة أقرب إلي المذکورين إليها أولي في لسان العرب من حمله علي الأبعد.

وأما قول السلائل :إن الرحمة مونثة ،و لفطة ذلک لا يکني بها إلا مذکر، ففاسد، لأن تأنيت الرحمة غير حقيقي ، وإذا کني بها بلفظ التذکير ،کانت الکناية علي المعني ،لأن معني الرحمة هو الانعام والتفضل ، وقد قال الله سبحانه :

« هذا رحمة من ربي ».

ولم يقل : هذه، وإنما أراد هذا فضل من ربي .

ص: 220

قال امرؤ القيس:

برهرهة رودة رخصة *** كخربوعة البانة المنفطر

فقال: المنفطر ولم يقل المنفطرة، لأنه عنى الغصن فذكره.

وقال آخر:

قامت تبكيه على قبره *** من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة *** قد ضاع من ليس له ناصر

فقال: ذا غربة ، ولم يقل : ذات غربة ، لأنه عني شخصا ذا غربة.

والمراد بالاختلاف المذكور في الآية إنما هو الاختلاف في الدين ، والذهاب عن الحق فيه بالهوى والشبهة.

وقد ذكر بعضهم في قوله (مختلفين) وجها غريبا ، وهو أن يكون معناه ، أن خلف هؤلاء الكافرين يخلف سالفهم في الكفر ، لأنه سواء قولك خلف بعضهم بعضا ، وقولك اختلفوا، كما أنه سواء قولك قتل بعضهم بعضا، وقولك اقتتلوا ، ومنه قولهم : لا أفعل كذا وكذا ما اختلف العصران والجديدان، أي جاء كل منهما بعد الآخر.

وأما الرحمة فليست رقة القلب والشفقة ، لكنها فعل النعم والإحسان ، يدل على ذلك أن من أحسن إلى غيره وأنعم عليه ، يوصف بأنه رحيم به، وإن لم تعلم منه رقة قلبه عليه وشفقته ، بل وصفهم بالرحمة من لا يعهدون منه رقة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك ، لأن مشقة النعمة والإحسان على من لا رقة عنده ، أكثر منها على الرقيق القلب.

وقد علمنا أن من رق عليه أو امتنع من الافضال والإحسان لم يوصف بالرحمة، وإذا أنعم وصف بها، فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه ، وقد يجوز أن يكون معنى الرحمة في الأصل الرقة والشفقة ، ثم انتقل بالتعارف إلى ما بلغ

هذا آخر ما وجدنا من کتاب کنز الفوائد .

ص: 221

ص: 222

نصوص مفقودة من نسخة الكتاب المطبوعة

هناك طائفة كبيرة من نصوص هذا الكتاب مفقودة ، وجدناها في عدة مؤلفات نقلها أصحابها عن كنز الفوائد ، رأينا إدراجها في خاتمة هذا الكتاب ، تتمة للفائدة .وهذه النصوص هي:

1- قال المحدث الشيخ عباس القمي في كتابه : الأنوار البهية: ص 134 - 135 .

« وعن كنز الفوائد قال:

جاء في الحديث أن أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئا على يد الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال رجل يقال له رزام مولى خالد بن عبد الله : من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد أمير المؤمنين على يده؟

فقيل له : هذا أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام). فقال: إني والله ما علمت لوددت أن خد أبي جعفر نعل لجعفر . ثم قام فوقف بين يدي المنصور ، فقال له: سل يا أمير المؤمنين ، فقال له المنصور : سل هذا.

فالتفت رزام إلى الإمام جعفر بن محمد (علیه السلام) فقال: أخبرني عن الصلاة

وحدودها ، فقال الصادق (علیه السلام):

للصلاة أربعة آلاف حد، لست تؤاخذ بها، فقال: أخبرني بما لا يحل ترکه ولا تتم الصلاة إلا به.

فقال أبو عبد الله (علیه السلام):

ص: 223

لا تتم الصلاة إلا لذي طهر سابغ (1)، واهتمام بالغ ، غير نازغ ولا زائغ ، عرف فوقف ، وأخبت (2) فثبت ، فهو واقف بين اليأس والطمع ، والصبر والجزع، كأن الوعد له صنع ، والوعيد به وقع ، بذل عرضه و تمثل غرضه ، وبذل في الله المهجة (3)، وتنكب غير الحجة ، مرتغما بارغام (4)، يقطع علائق الاهتمام ، يعين من له قصد وإليه وفد ، وفيه استرفد ، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها أمر ، وعنها أخبر، وإنها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر .

فالتفت المنصور إلى أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له:

يا أبا عبد الله ، لا تزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف (5)، تبصر من العمي، وتجلو بنورك الطخياء غير نازغ ولا زائغ.

النزغ الظن والاغتياب والافساد والوسوسة ، والزيغ الميل، والطخياء في قول المنصور الظلمة ، وتعوم أي تسبح. ففي الخبر: علموا صبيانكم العوم ، أي السباحة ، وسبحات وجه ربنا ، جلاله وعظمته ، وقيل : نوره، وطما البحر امتلأ . فانظر إلى أعدائهم أقروا بفضلهم هل فوق ذلك فخر .

2- قال ابن طاووس في كتابه: (فرج الهموم في تاريخ علماء النجوم) ص 60- 76 ما يلي:

فصل:

وقال الشيخ الفقيه العالم الفاضل العارف بعلم النجوم، المصنف بها عدة مصنفات، أبو الفتح محمد (6) بن عثمان الكراجكي رحمه الله في كتاب (کنز الفوائد) في الرد على من قال إن الشمس والقمر والنجوم علل موجبات ما هذا لفظه :

ص: 224


1- الوافي التام.
2- أخبت إلى الله أطمئن إليه تعالى وخشع له .
3- أي الدم والنفس.
4- أي ذل وخضع.
5- أي نقترب.
6- سقط من النسخة كلمة (علي) إذ هو محمد بن علي .

« اعلم أنهم سئلوا عن مسألة حيرتهم، وأظهرت عجزهم وأخرستهم ، فقيل لهم : إذا كان سائر ما في العالم من النفع والضرر والخير والشر ، وجميع أفعال الحلق، والشمس والقمر والنجوم واجبة ، وهي علته وسببه، وليس داخل الفلك غير ما أثرت، ولا فعل لأحد ، يخرج به عما أوجبت ، فما الحاجة إلى الاطلاع على الأحكام ، وأخذ الطوالع عند المواليد ، وعمل الزوايج وتحويل السنين .

قالوا: الحاجة إلى ذلك حصول العلم [بما] سيكون من حوادث السعود والنحوس.

قيل لهم : وما المنفعة بحصول هذا العلم ؟ فإن الإنسان لا يقدر أن يزيد فيه سعدا ، ولا ينقص منه نحسا، مما أوجبه مولده ، فهو كائن لا مغير له.

فمنهم من استمر على طريقه ، وبني على أصله ، فقال : ليس في ذلك أكثر من فضيلة العلم بالحادثات قبل کونها.

فقيل له : ما هذه الفضيلة المدعاة في علم ، لا ينال به مکتسبه نفعا ، ولا يدفع به عن نفسه ولا عن غيره ضرا، وما هذا العناء في اكتساب ما لا ثمر له ؟ والجاهل به كالعالم في عدم المنفعة منه.

وسئلوا أيضا عن هذا الاكتساب وسببه؟ وهل الفلك موجبه أو غير موجبه؟

فلم يرد منهم ما يتشبث العاقل به .

ومنهم من تعذر عليه عند توجه الإلزام، فأنزله الاحجام درجة عن قول أصحاب الأحکام، فقال: بل للعلم تأثير في اكتساب نفع كثير، وهو أن يتعجل الانسان بالسعادة، ويتأهب لها، فیکون في ذلك مادة فيها، ويتحرز عن النحاسة ويتوقاها ، فيكون بذلك دفعا لها أو نقصا منها .

فقيل له : ما الفرق بينك وبين من عکس عليك قولك ، فقال : بل المضرة باكتساب هذا العلم حاصلة ، والأذية إلى معتقده واصلة ، وذلك أن متوقع السعادة والمساءة، معه قلق المتوقع ، وحرقة الانتظار، ففكره منقسم، وقلبه

ص: 225

معذب ، يستبعد قرب الساعات، ويستطیل قرب الأوقات، شوقا الى ما يرد ، وتطلعا إلى ما وعد ، وفي ذلك ما يقطعه عن منافعه ، ويقصر به عن حركاته في مطامعه ، اتكالا على ما يأتيه، وتعويلا على ما يصل إليه ، وربما أخلف الوعد، وتأخر السعد ، فليست جميع أحكامكم تصيب ، ولا الغلط منكم بعجيب ، فتصير المضرة حسرة، والمنفعة مضرة.

فأما متوقع المنحسة فلا شك أنه قد تعجلها لشدة رعبه بقدومها ، وعظم هلعه بهجومها ، فهو لا ينصرف بفكره عنها ، فيجعلها أكبر منها . فحياته منغصة ، ونفسه متغصصة ، وقلبه عليل، وتغمده طويل ، لا يهنيه أكل ولا شرب، ولا يسليه عذل ولا عتب ، ضعیف النبضات، فاتر الحركات، إذا احترز لا ينفع ، وربما كان باحترازه لا ينتفع.

فهذا القول أشبه بالحق مما ذكرتم، وهو شاهد يلزمكم الاقرار به إن أنصفتم.

ونحن الآن نعترف في مقابلتكم به ، ولا نطالبكم بشيء من موجبه ، ونعود الى دعواتكم التي ذكرتموها فنقول سائلين لكم عنها : أخبرونا عن هذه المسرة التي تحصل للعالم والتأهب الزائد في السعد الواصل، وعن هذا الاحتراز من المنحسة والتأتي من المضرة والمهلكة ، هل جميع ذلك مما توجبه وتقضي به الكواكب ، أم هو عن أحكامها خارج مضاف في الحقيقة إلى اختيار الحي القادر ؟؟

فرأوا أنهم إن قالوا مما توجبه الكواكب ، وتقضي بكونه أحكام الفلك في العالم.

قيل لهم: فيكون ذلك، سواء اطلع الانسان على أحكام النجوم أم لم يطلع ، وسواء عليه اهتم لمولده و تحویل سنته أم لم يهتم ؟

فعرجوا عن هذا وقالوا : إن أفعالنا منفصلة عما يوجبه الفلك فينا ، فتصح بذلك الزيادة والنقص الذي قلنا .

قلنا لهم: لقد نقضتم أصولكم، وخرجتم عن قوانین علمائکم فيما أقررتم به من جواز أفعال يحيط بها الفلك ، ليست حادثة من جهته ، ولا من تأثير كواكبه ،

ص: 226

وما نراكم قنعتم بهذا الإقرار حتى جعلتم الأفعال البشرية واقعة لما توجب الأقضية النجومية ، ومانعة مما تؤثر الحركات الفلكية بقولكم: إن الإنسان يمكن أن يحترز من المنحسة فيدفعها ، أو ينقص منها ما سلطته لها. فلولا أن فعله أقوى، واحترازه أمضى لم يرفع عن نفسه سوءا.

ثم سئلوا أيضا ، فقيل لهم: إذا سلمتم أن أفعال الإنسان مختصة بهم، وليست مما توجبه النجوم فيهم ، وأنتم مع هذا تقولون للانسان: احذر على مالك من طروق سارق ، فقد أقررتم أن حذره من تأثير المختص به ، فأخبرونا الآن عن طروق السارق، وما الموجب له ؟ فإن قلتم: النجوم رجعتم عما أعطيتم ، ورددتم إليها أفعال العباد ونافيتم، وإن قلت إن طروق السارق مختص به ولا موجب له غير اختياره أجبتم بالصواب ، وقيل لكم: فما نرى للنجوم تأثيرا في هذا الباب.

واعلم - أيدك الله - أنهم لم يبق لهم ملجأ إلا أن ينزلوا عن قول أصحابهم درجة أخرى، فيقولون: إن النجوم دالة ، وليست بفاعلة ، وعلامة غير ملجئة ، فإذا قالوا ذلك ، انصرفوا عمن يقول إنها موجبة قادرة ، وأبطلوا دعواهم أنها مدبرة، وقيل لهم: أفتقولون كل أمر تدل عليه فإنه سيكون لا محالة ؟

فإن قالوا: نعم نقضوا ما تقدم، وإن قالوا: قد يجوز أن يحرم تداولها ، ويحرم ما دلالته عليه منها ، لم تبق بعد هذا، درجة ينتهون إليها ، واقتصروا على مقالة لا يضرك مناقشتهم فيها .

وأنا أخبرك بعد هذا، بطرق من بطلان أفعالهم، ونكت من إفساد استدلالهم ، والأغلاط التي تمت عليهم ، فاتخذوها أصولا لأحكامهم.

اعلم: أن تسمية البروج الاثني عشر ، بالحمل والثور والجوزاء إلى آخرها ، لا أصل لها ولا حقيقة ، وإنما وضعها الراصدون لهم، متعارفا بينهم، وكذلك جميع الصور التي عن جني منطقة البروج الاثني عشر وغيرها ، والجميع ثمان وأربعون صورة ، عندهم مشهورة، وعلماؤهم معترفون بأن ترتیب هذه الصور وتشبيهها ، وقسمة الكواكب عليها ، وتسميتها ، صنعه متقدموهم، ووضعه حذاقهم الراصدون لها.

وقد ذكر أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي ذلك، وهو من جلتهم ،

ص: 227

وله مصنفات لم يعمل مثلها في علمهم ، وقد بينه في الجزء الأول من كتابه (المعمول في الصور)، وقد ذكر رصد الأوائل منهم الكواكب ، وأنهم رتبوها في المقادير والعظم لست مراتب ، وبين أنهم الفاعلون لذلك، ما أنا مبينه على حقیقته ، وناقله من كتابه ، وهو : أنهم وجدوا من هذه الكواكب التي رصدوها تسعاية وسبعة عشر كوكبا، ينتظم منها ثمان وأربعون صورة ، كل صورة تشتمل على كواكبها ، وهي الصور التي أثبتها بطلموس في كتابه (المجسطي)، بعضها في النصف الشمالي من الكرة، وبعضها على منطقة البروج التي في طريقة الشمس والقمر والكواكب السريعة السير ، وبعضها في النصف الجنوبي .

ثم سموا كل صورة باسم الشيء المشبه لها ، بعضها على صورة الانسان مثل كواكب الجوزاء ، وكواكب الجاثي على ركبتيه.

وبعضها على صورة الحيوانات البرية والبحرية، مثل الحمل والثور ، والسرطان، والأسد ، والعقرب، والحوت، والدب الأكبر، والدب الأصغر .

وبعضها خارج عن شبه الإنسان وسائر الحيوانات، مثل الاكليل ، والميزان، والسفينة .

وليس ترتيبهم لها وتسميتهم إياها ، وما فعلوه فيها لدليل . وذكر عذرهم في ذلك، فقال: وإنما أنهوا هذه الصور وسموها بأسمائها ، وذكروا كوكبا من كل صورة ، ليكون لكل كوكب اسم يعرف به إذا أشاروا إليه ، وذكروا موضعه من الصورة، وموقعه في فلك الأبراج، ومقدار عرضه في الشمال والجنوب على الدائرة التي تمر بأوساط البروج، لمعرفة أوقات الليل والنهار ، والطالع في كل وقت ، وأشياء عظيمة المنفعة ، تعرف بمعرفة هذه الكواكب.

وهذا آخر الفصل من كلامه في هذا الموضع ، وهو دليل واضح على أن الصور والأشكال والأسماء والألقاب، ليست على سبيل الوجوب واستحقاق، وإنما هي اصطلاح واختيار ، ولو عزب عن ذلك الى تشبيه آخر لأمكن وجاز .

ثم إنهم بعد هذا الحال جعلوا كثيرا من الأحكام مستخرجا من هذه الصور والأشكال، ومنتسبا إلى الأسماء الموضوعة والألقاب ، حتى إنهم على ما ذكروه

ص: 228

على نحو واجب ، ودليل عقل ثابت، فقالوا: إن الحكم على الكسوف، على ما حكاه ابن هبنتي عن بطلیموس ، أنه إن كان البرج الذي يقع فيه الكسوف من ذوات الأجنحة ، مثل العذراء والرامي، والدجاجة ، والنسر الطائر وما أشبهها ، فإن الحادث في الطير الذي يأكل الناس، وإن كان الحيوان مثل السرطان والولين فإن الحادث في الحيوانات البحرية أو النهرية.

وهذه فضيحة عظيمة ، وحال قبيحة، أفما يعلم هؤلاء القوم أنهم هم الذين جعلوا ذوات الأجنحة بأجنحة، والصور البحرية بحرية ، وأنهم لولا ما فعلوه لم يكن شيء مما ذكروه، فكيف صارت أفعالهم التي ابتدعوها وتشبيهاتهم التي وضعوها ، موجبة لأن حكم الكسوف مستخرجا منها ، وصادرا عنها. وهذا يؤدي إلى أنهم المدبرون للعالم ، وأن أفعالهم سبب لما توجبه الكواكب .

فصل:

ولم يقنع ابن هبنتي (1) بهذه الجملة حتى قال في كتابه المعروف (بالمغني)،وهو کتاب نفيس عندهم ، قد جمع فيه عيون أقوال علمائهم، وذوي الفضيلة منهم ، رأيته بدار العلم في القاهرة بخط مصنفه قال فيه:

إن وقع الكسوف في المثلث أي في الدرج التي تحتوي عليه دل ذلك على فساد أصحاب الهندسة والعلوم اللطيفة.

وهذا المثلث - أيدك الله - هو من كواكب على شكل مثلث، لأن في السماء عدة مثلثات ومربعات ، مما هو داخل الصورة التي ألفوها وخارج عنها ، فكيف صار الحكم مختصا هذا دونها، وما نرى العلة فيه إلا تسميتهم له بذلك ، فكان سببا لوقوع أهل الهندسة في المهالك.

ص: 229


1- هبنتي بالماء والباء والنون والتاء وألف تكتب ياء وألفا عن محاضرات علم الفلك طبعة مصر ص 185، وابن هبنتي منجم نصراني عاش ببغداد وألف كتابا في التنجيم أسماء المغني بعد سنة 330 - 941م وكان الجزء الثاني لا يزال محفوظا في مكتبة (موينخ) وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون مع إسم ابن هبنته محرفا أنظر دائرة المعارف اللبنانية ج7 ص 117.

قال ابن هبنتي : وإن كان الكسوف في الكاس ، دل على فساد الأشربة .

وهذا أعحب من الأول، وذلك أن الكأس عندهم من سبعة كواكب شبهوها بالكأس وبالباطية أيضا.

فإن كان الحكم الذي ذكروه إنما اختص بذلك من أجل التشبيه والتسمية ،فإن هذه الكواكب بأعيانها قد شبهتها بالمعلف ، وسميتها بهذا الاسم، فكيف صار تشبيه المنجمين وتسميتهم لها بالكأس أولى من أن يكون تشبيه العرب لها بالمعلف ، وتسميتهم لها بهذا الاسم موجبا لانصراف الحكم فيها الى الدواب . اللهم إلا أن يقولوا إن المعول على تشبيهها للمنجمين دونهم فلا اعتراض .

قال ابن هبنتی: وقد شاهدنا بعض الحذاق من أهل هذه الصناعة قد نظر في مولد إنسان من الأصاغر ، فوجد النسر الطائر في درجة وسط السماء ، فقال : يكون بإزاء دار الملك ، وزعم أن الأمر كما ذكر .

وهذا يؤكد ما ذكرناه من تعويلهم على الأسماء والصور المدونة من اصطلاح البشر.

فصل : وقد اطلعت أنا في مولد فوجدت فيه الكواكب التي يقولون إنها النسر الطائر في وسط السماء ، فلم يدل من حال صاحبه على نظيرها .

قال ابن هبنتي: وكان هذا الرجل فقيرا فأثري، ولم أره قط إلا ماقتا الأنواع الطير، غير مقيد بشيء منها في حالتي الفقر والغنى.

فإن صدق ابن هبنتي فيما ذكر ، فما هو إلا عن شيء لا أصل له ، يصح بعضه

فيوافق الظنون، ويبطل بعضه فلا يكون ، فإن كان اختلافه في حال لا يدل على بطلان حكمهم ، فاتفاقه في حال أخرى لا يدل على صحة حكمهم وجزمهم .

ومن هذيانهم أيضا الموجود في عيون كتبهم والمأثور من أحكامهم ، قولهم : إن الحمل والثور يدلان على الوحوش وكل ذي ظلف ، والجدي مشترك بينهما ، والأسد والنصف الأول من القوس يدلان على كل ذي ناب و مخلب.

وإنما ذكروا نصف القوس ، لأن صورته التي ألفوها وشبهوها صورة دابة وإنسان، فجعلوا النصف الأول للوحوش، والنصف الآخر للناس.

ص: 230

قالوا: والسرطان والعقرب يدلان على حشرات الأرض، والثور للفرس، والسنبلة للبذر .

وهذا كله قياس على الصور والأسماء التي لم يوجبها العقل ، ولا أتاهم بها خبر من الله تعالى في شيء من النقل . وإنما هو شيء من اختيارهم. وقد كان يمكن غيره ، ويجوز خلافه.

قالوا: ومن يولد برأس الأسد يكون فتن الغم.

فمن شبه تلك الكواكب بصورة الأسد غيركم، ومن سماها بهذا الاسم سواكم ؟

وكيف لم تقولوا: إنها الكلب ، أو تشبهوها بغير ذلك من دواب الأض.

هذا - أيدك الله - والصور عندهم لا تثبت في مواضعها ، ولا تستقر على إقامتها .

فصورة الحمل التي يقولون إنها أول البروج، قد تنتقل إلى أن تصير البرج الثاني ، ويصير البرج الأول الحوت.

وهذا عندهم هو القول الصحيح ، لأن الكواكب عندهم كلها تتحرك إلى جهة المشرق ، بخلاف ما يتحرك بها الفلك ، والخمسة المضافة الى الشمس والقمر هي السريعة السير ، وحركاتها مختلفة في الإبطاء والسرعة. وبقية الكواكب تتحرك عندهم بحركة واحدة خفيفة بطيئة، ولخفاء حركتها سموها الثابتة ، وهي على رأي بطليموس ومن قبله في كل مائة سنة تتحرك درجة واحدة .

وعلى رأي أصحاب (سمين) ومن رصد في أيام المأمون، وحسب في كل ست

وستين سنة درجة.

والصوفي يقول في كتاب (الصور):

إن مواضع هذه الصور التي كانت على منطقة فلك البروج كانت منذ ثلاثة آلاف سنة، على غير هذه الأجسام، وأن صورة الحمل كانت في القسم الثانيعشر، وصورة الثور كانت في القسم الأول.

ص: 231

وكان يسمى القسم الأول من البروج ، الثور ، والثاني الجوزاء ، والثالث السرطان. ولما جددت الأرصاد في أيام طيموخارس وجدوا صورة الحمل قد انتقلت إلى القسم الأول من القسم الثاني عشر الذي هو بعد منطقة التقاطع، فغيروا أسماءها ، فسموا القسم الأول الحمل ، والثاني الثور ، والثالث الجوزاء .

قال: ولا يخالفنا أحد في أن هذه الصور تنتقل بحركاتها على مر الدهور من أماكنها حتى تصير صورة الحمل في القسم السابع الذي للميزان، والميزان في القسم الأول الذي هو الحمل ، فيسمى أول البروج الميزان، والثاني العقرب.

ثم مر في كلامه موضحا عما ذكرناه من تنقلها الموجب لتغير أسماء بروجها ، وهم مجمعون على أن الكوكبين المتقاربين المعروفين بالشرطين على قرني الحمل ، هما أول منازل القمر ، فيجب أن يكون أول البروج الاثني عشر.

ومن امتحنهما في وقتنا هذا (وهو سنة ثمان وعشرين وأربعماية للهجرة) الموافقة لسنة ألف وثلاثماية وثمان وأربعين لذي القرنين ، وجد أحدهما في عشرين درجة من الحمل، والآخر في إحدى وعشرين منه، أعني من البرج الأول، ويعرف ما ذكرته من كانت له خبرة وعناية بهذا الأمر.

فأي برج من البروج الاثني عشر يبقى على صورة واحدة ، وكيف ثبت الحكم الأول بأنه دال على الوحوش وعلى كل ذي ظلف ، وقد انتقلت إليه أكثر صورة الحوت ، وكذلك حال جميع البروج ، فافهم هذا، فإنه طريف.

فصل:

ومن عجيب غلطهم في الأسماء الدالة على عدم معرفتهم بمعانيها ، أنهم سمعوا العرب التي تسمي الكواكب التي عن جنوب التوأمين، الجوزاء ، فلم يفهموا هذا الاسم، وظنوا أنه مشتق من الجوز الذي يؤكل ، فرأوا من الرأي أن يسموا النسر المواقع مع الكواكب الغربية من اللوز ، قياسا على الجوزاء ، وهذا من الغاية في الجهل والعناد ، وليس تقوله إلا شيوخهم ومصنفو الكتب منهم. ومن اطلع في ذكرهم الصور الثمان والأربعين ، وقف على صحة ما حكيته عنهم. فهل سمع أحد قط بأعجب من هذا الأمر؟

ص: 232

فصل:

وإنما سمت العرب هذه الكواكب بالجوزاء ، التوسطها إذا ارتفعت ، أو لأنها تشبه رجلا في وسطه منطقة ، فاشتقوا لها اسما من التوسط، يقولون : (جوز الفلا) يعنون وسطه.

ومن قولهم الدال على فساد أحكامهم، أن كل درجة من درج الفلك ، ستون دقيقة ، وكل دقيقة ستون ثانية، وكل ثانية ستون ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ولكل هذه الأجزاء التي لا تنحصر حكم مختص به ، ولا ينضبط، فكيف يصح الحكم على هذا الأصل ، وليس في أيديهم إلا الجمل التي تفاضلها يختلف.

وقد ولد لي ولدان توأمان ، ليس بين ظهورهما من الفرق والزمان بقدر ما يبين الاسطرلاب، فاشتركا في درجة واحدة من طالع واحد في نصبه، ولم يدرك فيهما التغيير، ولو قلت: إنهما اشتركا في الدقيقة لصدقت ، فلما رأيت ذلك ، قلت : هذه حالة في الجملة قد اتفقت فيها النصبة ، وفي غاية ما يمكن إدراكه بالآلة ، فإن الحكم على الحمل يوجب أن تكون حالة هذين المولودین متماثلة. فلا والله ما تماثلت صورتهما ولا أحوالها ولا صحتهما من سقمها، ولقد مات أحدهما بعد ولادته بأيام، ومات الآخر وامتدت بعمره الأيام، أسأل الله السعد التام.

ولقد سألت بعضهم عن هذا الحال ، فقال لي : (النمودار) (1) يخرج لك الفرق بين المولودين .

فقلت له : الذي عرفت من علمائكم أنهم لا يقولون على النمودار إلا عند عدم الرصد ، فمتى حصل الرصد أغنى عنه ، ويوضح ذلك أنكم تقولون في عمل النمودار ، خذ ساعات الجزر ولا يكون الجزر إلا عند عدم الرصد ، وإذا كان الرصد ههنا لم يخط الحقيقة ، ولا أتاه الفرق، فبان بأن لا يعطيه النمودار بعد الرصد .

ص: 233


1- النمودار هو أخذ درجة الطالع من أقرب درجة إليه بالتخمين. (عن الهامش).

وقلت له أيضا: لست أشك في كثرة الاختلاف بينكم في كل أصل وفرع، وعلى كل وجه فإنما يعمل النمودار بين الساعات، سواء كانت عند رصد أو جزر. وقد كانت ولادة هذين التوأمين في ساعة واحدة ، لم يصح فيها الفرق ، فما الحيلة في هذا الأمر، فخلط في ذلك ولم يأت بشيء يفهم.

فصل :

واعلم أيدك الله - أن (نمودار) واليس يخالف نمودار بطلیموس ، و نمودار الفرس يخالفهما جميعا . وليس في ذلك ما يتفق عليه ، ولا يؤدي إلى أمر متفق ، ولا يدل على صحة واحد منها العقل ، وجميعها دعاوي لا يعلم لها أصل . ولو تتبعت مواضع اختلاطهم، وذكرت ما أعرفه من تناقض أصولهم المبطلة لأحكامهم، لخرجت عن الغرض في الاختصار . وفيما أوردته غني عن الإكثار .

فصل:

وأنا أذكر لك بعد هذا، مقالتنا في النجوم، وما نعتقده فيها ، لتعرف الطريقة في ذلك ، فتعتمد عليها .

اعلم - أيدك الله - أن الشمس والقمر والنجوم أجناس محدثة من جنس هذا العالم مؤلفة من أجزاء تحلها الأعراض، وليست فاعلة في الحقيقة، ولا ناطقة ، ولا حية قادرة.

وقال شيخنا المفيد رضوان الله عليه : إنها أجسام نارية ، فأما حركاتها فهي فعل الله تعالى فيها ، وهو المحرك لها ، وهي من آيات الله الباهرة لخلقه ، وزينة في سمائه ، وفيها منافع لعباده لا تحصى ، وبها يهتدي (1) السائرون برا وبحرا، قال الله تعالى:

« وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ». النحل : 19.

ص: 234


1- في النسخة: (لا يهتدي) وهي خطأ بزيادة (لا).

وفيها للخلق مصالح لا يعلمها إلا الله تعالى .

فأما التأثير المنسوب إليها ، فإنا لا ندفع كون الشمس والقمر مؤثرين في العالم ، ونحن نعلم أن الأجسام ، وإن كان لا يؤثر أحدها بالآخر إلا مع مماسة بينهما بأنفسهما ، أو بواسطة، فإن للشمس والقمر شعاعا متصلا بالأرض وما عليها يقوم مقام المماسة ، وتصح به التأثيرات الحادثة.

ومن ذا الذي ينكر تأثير الشمس والقمر ، وهو شاهد وإن كان تأثير الشمس أظهر للحس وأبين من تأثير القمر في الأزمان والبلدان والنبات والحيوان.

وأما غيرهما من الكواكب فلسنا نجد لها تأثيرا يحس، ولا نقطع وجوبه بالعقل ، وهو أيضا ليس من الممتنع المستحيل ، بل هو من الجائز في العقول ، لأن لها شعاعا متصلا في الأرض، وإن كان من دون شعاع الشمس والقمر . فغير منكر أن يكون لها تأثير خفي على الحس خارج عن أفعال الخلق. فإن كان لها تأثير كما يقال، فتأثيرها مع تأثير الشمس والقمر في الحقيقة ، من أفعال الله تعالى ، وليس يصح إضافته إليها إلا على وجه التوسع والتجور ، كما نقول : أحرقت النار ، وبرد الثلج، وقطع السيف ، وشج الحجر ، وكذلك قولنا : أحمت الشمس الأرض، ونفعت الزرع، وفي الحقيقة أن الله أحمي لها ونفع.

ومما يدل على أن الله تعالى يشغل شيئا بشيء قوله سبحانه :

« هو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه إلى بلد میت ، فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، وكذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ».

وليس فيما ذكرناه رجوع إلى قول أصحاب الأحكام، ولا قول بما أنكرناه عليهم في متقدم الكلام، لأنا أنكرنا عليهم إضافة تأثيرات الشمس والقمر إليها من دون الله سبحانه ، وقطعهم على ما جوزناه من تأثيرات الكواكب بغير حجة عقلية ولا سمعية ، وإضافتهم إليها جميع الأفعال في الحقيقة ، مع دعواهم لها الحياة والقدرة .

ص: 235

وأنكرنا أن تكون الشمس أو القمر أو شيء من الكواكب موجبا لشيء من أفعالنا ، بشهادة العقل الصحيح .

فإن أفعالنا لو كانت مخترعة فينا ، أو كانت عن سبب أوجبها من غيرنا ، لم تصح بحسب قصودنا وإراداتنا، ولا كان فرق بينها وبين جميع ما يفعل فينا من صحتنا وسقمنا، وتأليف أجسامنا، وحصول الفرق لكل دلالة على اختصاصها بنا وبرهان واضح بأنها حدثت من قدرتنا، وأنه لا سبب لها غير اختيارنا .

وأنكرنا عليهم قولهم ان الله تعالى لا يفعل في العالم فعلا إلا والكواكب دالة عليه. فإن كل شيء يدل عليه لا بد من كونه ، - وهذا باطل - يثبت لها تأثيرا أو دلالة ، فإن الله أجرى تلك العادة ، وليس يستحيل منه تغير تلك العادة لما يراه من المصلحة، وقد يصرف الله تعالى السوء عن عبده بدعوة ، ويزيد في أجله بصلة رحم أو صدقة ، فهذا الذي ثبتت لنا عليه الأدلة ، وهو الموافق للشريعة، وليس هو بملائم لما يدعيه المنجمون والحمد لله.

وأنكرنا عليهم اعتمادهم في الأحكام على أصول مناقضة ، ودعاوی مظنونة متعارضة ، وليس على شيء منها بينة.

فإن كان لهذا العلم أصل صحيح على وجه يسوغ في العقل ويجوز ، فليس هو ما في أيديهم، ولا من جملة دعاويهم.

وقد قال شيخنا المفيد رضوان الله عليه ، إن الاستدلال بمحركات النجوم على كثير مما سيكون ليس يمتنع العقل منه، ولا يمنع أن يكون الله عز وجل علمه بعض أنبيائه وجعله علما على صدقه ».

قال ابن طاووس: هذا آخر ما ذكره الكراجكي رضوان الله عليه في كتابه ، ونعتقد أنه اعتمد عليه.

ص: 236

3- ونقل في البحار ج 4 ص 54 عن (کنز جامع الفوائد) (1) الذي جاء فيه :

روى أبو جعفر محمد الكراجكي في كتابه «کنز الفوائد » حديثا مسندا ، يرفعه إلى سلمان الفارسي قال:

« كنا عند النبي (صلی الله علیه واله) في سجده، إذ جاء أعرابي ، فسأله عن مسائل في الحج وغيره ، فلما أجابه قال له:

یا رسول الله ، إن حجيج قومي مما شهد ذلك معك ، أخبرنا أنك قمت بعلي ابن أبي طالب (علیه السلام) بعد قفولك من الحج، ووقفته بالشجرات من (خم)، فافترضت على المسلمين طاعته ومحبته ، وأوجبت عليهم جميعا ولايته ، وقد أكثروا علينا من ذلك. فبين لنا يا رسول الله ، أذلك فريضة علينا من الأرض ، لما أدنته الرحم والصهر منك ؟ أم من الله ، افترضه علينا ، وأوجبه من السماء ؟

فقال النبي (صلی الله علیه واله): بل الله افترضه وأوجبه من السماء ، وافترض ولايته على أهل السموات وأهل الأرض جميعا .

يا أعرابي ، إن جبرئیل (علیه السلام) هبط علي يوم الأحزاب وقال:

إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: إني قد افترضت حب علي بن أبي طالب ومودته على أهل السموات وأهل الأرض ، فلم أعذر في محبته أحدا ، فمر أمتك بحبه ، فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه .

أما إنه ما أنزل الله تعالى كتابا ، ولا خلق خلقا إلا وجعل له سبدا ، فالقرآن سید الكتب المنزلة ، وشهر رمضان سید الشهور ، وليلة القدر سيدة الليالي ، والفردوس سيد الجنان ، وبيت الله الحرام سيد البقاع، وجبرئیل (علیه السلام)

ص: 237


1- هو کباب ما زال مخطوطأ ، لمؤلفه الشيخ علم بن سيف بن منصور المجفي الحلي ، كما في نسخته التي كتبت سنة 1083ه في 15 ذي العمدة والموجودة في مكتبة السيد حسن الصدر بخط درویش بن محمد المجفي ، بعنوان: (كنز جامع الفوائد). أما في النسخة المخطوطة الأخرى . والمحتمل أمها بخط المؤلف الموجودة بمكتبة المولى محمد على الخوانساري والمخطوطة سنة (937ه) فهي باسم: (جامع الفوائد ودافع المعاند) من دون كلمة : (كنز). والكتاب مختصر ومنتخب من كتاب (تأويل الآيات الظاهرة) للسيد شرف الدين الاسترابادي. (انظر : الذريعة ج5 ص 66، وج 18 ص 149).

سيد الملائكة ، وأنا سيد الأنبياء ، وعلي سيد الأوصياء ، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، ولكل امرئ من عمله سید ، وحبي وجب على علي بن أبي طالب سيد الأعمال وما تقرب به المتفربون من طاعة ربهم.

يا أعرابي ، إذا كان يوم القيامة نصب لابراهيم منبر عن يمين العرش ، ونصب منبر لي عن شمال العرش ، ثم يدعى بكرسي عالي يز هر نورا ، فينصب بين المنيرين ، فيكون إبراهيم على منبره، وأنا على منبري، ويكون أخي علي على ذلك الكرسي، فما رأيت أحسن منه حبيبا بين خليلين.

يا أعرابي ، ما هبط على جبرئیل (علیه السلام) إلا وسألني عن علي، ولا عرج إلا

وقال: اقرأ على علي مني السلام ».

ص: 238

فهرس الجزء الثاني

الأدلة على أن الصانع واحد ...5

فصل من کلام رسول الله (صلی الله علیه واله)...10

فصل من فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) ....12

من كلامه (علیه السلام) وآدابه في فصل الصمت ...14

مختصر التذكرة بأصول الفنه ...15

فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام ...31

من كلام رسول الله (صلی الله علیه واله) ...31

من کلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ...31

من كلام الحسين (علیه السلام) ...32

من كلام الإمام الصادق (علیه السلام) ....33

من كلام غير الأئمة ....33

أبو حنيفة مع الإمام الصادق ...36

حديث الإمام الصادق ...37

فصل من الاستدلال على أن الله تعالى ليس بجسم ...37

حول هشام بن الحكم ....40

أببات لزينبا ...42

رسائل متبادلة بين الإمام علي وبين معاوية ...42

مسألة فقهية منظومة وجوابها ...45

مسألة أخرى منظومة وجواها ...45

میام للمفيد حول قضية الغار ...48

كلام للمؤلف حول قضية العار ....51

مبيت علي (علیه السلام) في فراش رسول الله (صلی الله علیه واله) ليلة الهجرة ...53

أحاديث ...55

من روايات أبن شاذان ...55

مسألة وجوابها ...57

فصل في الرؤيا في المنام ...60

أحاديث عن أبي ذر ...67

مسألة في المواريث ...68

قضية مستطرفة لأمير المؤمنين (علیه السلام) ...69

شبهات للملاحدة وجوابها ...70

سؤال ورد للمؤلف من الساحل وجوابه ...73

قصة وقعت للمؤلف ...78

فصل من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ...83

أحاديث في فضله (علیه السلام) ...83

دليل النص بخبر الغدير على إمامته (علیه السلام) والمناقشة حوله ....84

فصل من الوصايا والا قرارات المبهمة

العويصة ...98

فصل في ذكر هبئة العالم ...101

ص: 239

فصل في العلم وأهله ...107

مسائل و جوابها ...111

رسالة للمولف حول طول الأعمار و عمر

صاحب الزمان والمعمرين ...114

صبفي ...124

خبر قس بن ساعدة الأيادي ...............134

خبر المعمر المغربي ...147

حديث المعمر الشرقي ...154

فصل في الكلام في الآجال ... 155

مسألة فقهية ....159

خبر ضرار بن ضمرة ...160

فصل: ما جاء في الخصال ...163

تأويل آية ...165

تأويل خبر : إن الله خلق آدم على صورته ...167

فصل من الاستدلال على صحة النص

بالإمامة ...168

فصل في حديث رسول الله (صلی الله علیه واله): «أنت

مني بمنزلة هارون من موسی ...» ...177

أحاديث في ذلك ...178

أبيات لعلي (علیه السلام) ...180

من آدابه (عليه السلام) ...182

قصة له (عليه السلام) ...183

مسألة في المني و نجاسته ... 184

فصل حول قوله تعالي :« إنکم وما تعبدون من دون...» ...186

سوال عن ثلاث آيات و جوابه ... 188

فصل مما ورد في ذکر النصف ...189

فصل من الأدب ...192

فصل في الغني والفقر ...193

فصل في الکلام في الأرزق ... 195

فصل في تأيل قوله تعالي :« فما بکت عليهم السماء...» ... 200

ذکر مجلس للمولف في القياس و إبطاله ...203

ذکر مجلس للمفيد ...210

مسألة حول قوله (صلي الله عليه واله وسلم): (اختلاف أمتي رحمة) ...215

فصل من الاستدلال علي صحة الإمامة والعصمة ...215

سوال في الغيبة ...216

تأويل آيه :« ولو شاء ربک لجعل الناس أمة وتحدة ...» ...219

نصوص مفقودة ...223

مراجع الكتاب ...239

ص: 240

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.