فاطمة عليها السلام في نهج البلاغة المجلد 4

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 1351 لسنة 2016

مصدر الفهرسة: IQ – KaPLI ara IQ –KaPLI rda

رقم الاستدعاء: 2017 H37 F3.BP38.09

المؤلف: الحسني، نبيل قدوري ، 1965 -. مؤلف.

العنوان: فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله /

بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبعة: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2017 / 1438 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد ؛

سلسة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ سلسلة الدراسات والبحوث العلمية ( 12 ).

تبصرة ببليوغرافية : يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة- 40 هجريا – احاديث

-- دراسة تحليلية.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – فضائل – احاديث.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – مصائب.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – الوفاة والدفن.

مصطلح موضوعي: فقه اللغة العربية.

مصطلح موضوع: احاديث الشيعة الامامية -- دراسة تحليلية.

مؤلف اضافي: مستخلص ل (عمل) : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة -- جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

فاطمة (عليها السلام) في نهج البلاغة المجلد 4

ص: 2

سلسلة الدرسات والبحوث العلمية (12)

وحدة فقه اللغة وفلسفتها - اللسانيات

فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله الجزء الرَّابع

تأليف السيد نبيل الحسني

اصدار مؤسسةُ علوم نهج البلاغة في للعتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه/ 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل: 07815016633

ص: 4

المبحث الرابع والثلاثون: مقاصدية التلازم بين الشكوى و التعزية

اشارة

ص: 5

قوله (عليه السلام): «فَإِلى اللَّه المْشُتْكَى وفيِك أَجمْلَ العزَاء »ِ

اشارة

ص: 6

تناولنا فيما مضى من مباحث النص الشريف قصدية التكرار و واثرها في تماسك النص، وفي هذا المورد منه يعود الإمام علي (عليه السلام) الى تكرار الشكوى والتعزي برسول الله (صلى الله عليه وآله).

وفي هذا المورد أيضا يختم حديثه (عليه السلام) بالشكوى الى الله تعالى ومخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله) والتعزي به.

ولذا:

فنحن أمام جملة من القصديات التي اكتنزها هذا المورد من النص الشريف والتي سنتناولها في المسائل القادمة، وهي كالاتي:

المسألة الاولى: القصدية في مخاطبة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بياء النداء بعد موته

اشارة

إن النص يصرحّ في تماسكه واتساقه وتمازج الأدلةّ وقوة بيانه منذ أن بدأ الإمام علي (عليه السلام) في خطابه والى أن ختم هذا الخطاب.

(فقد بدأ بالسلام وختم بالسلام).

وكرر الشكوى والتأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، واستخدم ياء النداء والمخاطبة في مواضع عدة؛ واشتمل النص على أفعال الامر؛ فلاحظ في استخدام النداء والمخاطبة:

1-(السلام عليك يا رسول الله).

ص: 7

2-(قل يا رسول الله).

3-(يا رسول الله أما حزني فسرمد...).

4-(والسلام عليك يا رسول الله سلام مودع...).

5-(فإلى الله يا رسول الله المشتكى).

ولاحظ في اشتمال النص على صيغة أفعال الامر:

1-(فأحفها السؤال).

2-(واستخبرها الحال).

والسؤال المطروح أكان منتج النص (عليه الصلاة والسلام) يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بياء النداء ويأمره بفعل (الحف و الاستخبار) حيا أم ميتا؟ً!

بمعنى: إن الإمام علي (عليه السلام) كان يخاطب في الظاهر الذي عليه النص قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومقتضى الحال يلزم أن يختار منتج النص المفردات والالفاظ التي تنسجم مع عقيدة المتلقي لتنال مقبوليته وتفاعله مع النص لا أن يكون ظاهر النص يدفع الى الرفض ويخلق فجوة بين النص والمتلقي، بلحاظ أن النص يشتمل على مخاطبة الميت، في حين وجود ياء النداء، وأفعال الامر تقتضي أن يكون القصد فيه موجها للحي لا للميت.

وعليه:

تكون القصدية في ذلك هي ابراز حقيقة حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد موته، يخاطبه الزائر فيسمع قوله، ويتظلمّ عنده، ويشكو اليه، ويستغيث به؛ وهذا الذي قصده أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ وهذا الذي رسخّ عقيدة المتلقي هنا بأن

ص: 8

رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد موته حيا ومن خلال هذا الخطاب فإنه يسمع ويغيث وينتصر للمظلوم وان كثيرا من المسلمين يعتقدون بذلك على الرغم من مخالفة البعض لهذه الحقيقة ونكرانها كالوهابية وتشضيها الى جماعات باتت اكثر

نكرانا لهذه الحقائق الشرعية وهو ما سنتعرض له فيما يلي.

أولاً: إنّ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حي في قبره

إن هذه الحقيقة قد أكدتها جملة من النصوص النبوية الشريفة وأقر بها كثير من علماء المسلمين فضلا عن ذلك فأن الاصل في القضية بعد مخاطبة الامام علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كما جاء في هذا النص بياء النداء وافعال الامر والتظلم بين يديه والاستغاثة به في التصبر وتعزيته، كلها تعد اصلا في ثبوت حقيقة حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبره، ومما يدل عليه:

1- عن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون »(1).

2- روى الطبراني عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«ليس من عبد يصلي علي إلا بلغني صلاته، قلنا: وبعد وفاتك؟ قال: وبعد وفاتي؛ إن الله عز وجل حرمّ على ا لأرض أن تأكل أجساد الألنبياء »(2).

3-عن ابي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ما من أحد يسلم علي إلا رد الله الي روحي حتى أرد السلام»(3) .

ص: 9


1- مسند ابي يعلى الموصلي: ج 6 ص 148 .
2- نيل الأوطار للشوكاني: ج 3 ص 305 .
3- سنن ابي داود: ج 1 ص 453 ، برقم ( 2041 )

4- عن عبد الله بن مسعود، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي اعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه؛ وما رأيت من شر استغفرت الله لكم »(1) وغيرها من الاحاديث الكثيرة.

وقد كان لعلماء المسلمين تعليقات وموافقات لهذه الاحاديث، منهم:

1- قال الحافظ السيوطي في مرقات الصعود:

(تواترات بحياة الانبياء في قبورهم الاخبار)(2).

وقال ايضا في انباء الاذكياء:

(حياة النبي (صلى الله عليه وآله) في قبره وسائر الانبياء معلومة عندنا علما قطعيا؛ قام عندنا من الادلة في ذلك، وتواترت بها الاخبار الدالة على ذلك، وقد الف الامام البهيقي (رحمه الله) جزء في حياة الانبياء (عليهم السلام) في قبورهم)(3).

2-قال الشوكاني (ت 1255 ه):

(ذهب جماعة من المحققين الى ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حي بعد وفاته، وانه سير بطاعات امته، وان الانبياء لا يبالون، مع ان مطلق الادراك كالعلم والسماع ثابت لسائر الموتى.

ص: 10


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 463 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 24
2- نظم المتناثر من الحديث المتواتر، جعفر الكناني: ص 621 .
3- نظم المتناثر من الحديث المتواتر للشيخ محمد جعفر الكناني: ص 126 .

وقد صح عن ابن عباس مرفوعا:

«ما من أحد يمر على قبر أخيه المؤمن في الدنيا اذا مر الرجل بقبر يعرفه فيسلم عليه فرد عليه السلام وعرفه؛ واذا مر بقبر لا يعرفه رد عليه السلام .»

وصح انه (صلى الله عليه وآله) كان يخرج الى البقيع لزيارة الموتى ويسلم عليهم.

وورد النص في كتاب الله في حق الشهداء (انهم احياء يرزقون) وان الحياة فيهم متعلقة بالجسد؛ فكيف بالانبياء والمرسلين وقد ثبت في الحديث ان الانبياء احياء في قبورهم.

رواه المنذري وصححه البهيقي.

وفي صحيح مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال:

«مررت بموسى ليلة أسرُيِ بي عند الكثيب الاحمر وهو قائم يصلي في قبره »(1).

3-الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، فإنه قال بعد أن أورد كثيرا من الأحاديث في حياة الانبياء في قبورهم:

(وإذا ثبت أنهم -اي: الانبياء (عليهم السلام)- أحياء من حيث النقل، فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء.

ومن شواهد الحديث ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه، وقال فيه (صلى الله عليه وآله): «وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم .»

سنده صحيح، وأخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب بسند جيد بلفظ:

ص: 11


1- نيل الاوطار للشوكاني: ج 3 ص 305 .

«من صلى على عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته .»

وعند أبي داود والنسّائي وصححه ابن خزيمة وغيره عن أوس بن أوس رفعه في فضل يوم الجمعة:

(فأكثروا علي من الصلاة فيه فان صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).

ومما يشكل على ما تقدم ما أخرجه أبو داود من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: «ما من أحد يسلم علي الا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام .»

ورواته ثقات، ووجه الاشكال فيه أن ظاهره أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه، وهو الموت

وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، أحدها أن المراد بقوله -صلى الله عليه وآله- « رد الله علي روحي » ان رد روحه كانت سابقة عقب دفنه لا أنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد، الثاني سلمنا لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه، الثالث أن المراد بالروح الملك الموكل بذلك، الرابع المراد بالروح النطق فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه، الخامس انه يستغرق في أمور الملا الاعلى، فإذا سلم عليه رجع إليه فهمه ليجيب من سلم عليه، وقد استشكل ذلك من جهة أخر وهو أنه يستلزم استغراق الزمن كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصي كثرة، وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة والله أعلم . )(1).

ص: 12


1- فتح الباري: ج 6 ص 353 .

4-الحافظ المقريزي (ت 845 ه) وقد نقل روايات كثيرة من كتاب البهيقي (حياة الانبياء في قبورهم) وذلك ضمن خصائصه (صلى الله عليه وآله) وتحت عنوان: (انه (صلى الله عليه -وآله- وسلم) حي في قبره وكذلك الانبياء)، فقال:

(وقد أفرد الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في ذلك جزء حاصله أنه خرج من طريق أبي أحمد بن عدي الحافظ )(1).

ثم يورد هذه الاحاديث التي استشهد بها البهيقي.

5-الحافظ السبكي (ت 756 ه)، فقد قام هو الاخر بجمع ما اخرجه الحافظ البهيقي واورده في كتابه شفاء السقام وتحت عنوان: الباب التاسع في حياة الانبياء (عليهم السلام) والشهداء وحال سائر الموتى)(2).

6-الحافظ البهيقي (ت 458 ه) والذي جمع وصنف كتابا اسماه (حياة الانبياء في قبورهم) والذي تتبع فيه الأحاديث الثابتة لهذه الحقيقة(3) . انظر (فضائل تحقيق عدنان القيني ص 41 المقدمة) ولقد كان هذا ملاذا للعلماء في الرد على الناكرين لهده الحقيقة.

وعليه:

فإن هذه الاقوال وغيرها من اقوال العلماء في ثبات الاعتقاد بحياة النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) في قبره وكذلك الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) لتلجم المعترض عيلها، ويكفينا من ذلك مخاطبة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه

ص: 13


1- امتناع الاسماع: ج 10 ص 300 - 308 .
2- شفاء السقام: ص 319 .
3- طبع في مصر سنة 9431 ه نسخة خطية في مكتبة احمد الثالث بتركيا برقم ( 2/ 7211 ) وقد طبع بالقاهرة بالمطبعة المحمودية سنة 7531 ه بتعليق الشيخ محمد الخانجي.

الصلاة والسلام( لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا النص وتجلي قصدية حياته وسماعه للشكوى والتظلّم الذي يرفعه الإمام علي (عليه السلام).

أمّا والاستغاثة به (صلى الله عليه وآله) فهي القصدية الثانية في قوله (عليه السلام):

«والى الله يا رسول الله المشتكى وفيك أجمل العزاء » والتي سنتناوله فيما يلي.

ثانياً: تشريع الاستغاثة برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إنّ من الامور التي تثير الدهشة والاستغراب إغفال بعض أهل العلم حديث أمير المؤمنين علي بن بي طالب (عليه السلام) وهو الصادق الصدوق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذي شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما هو أعظم من ذلك وهو أنه مع القران والقران معه(1)

وقوله (صلى الله عليه وآله):

«علي مع الحق والحق مع علي »(2).

ثم نجد ان هؤلاء يعرضون عن حديث علي (عليه الصلاة والسلام) ويتغافلون عن قوله ثم يهرعون خلف كعب الاخبار وابي هريرة الذي لم يدرك من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الا ثلاث سنوات وغيرهم مما يطول الحديث عنهم ويخرج الكتاب عن منهج البحث.

إلّا أننا نستغرب مع سعي هؤلاء وراء معرفة دينهم وعقائدهم ويشرّعون للناس تكاليفهم وهم ينهلون من عامة الناس، ويتركون خاصة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واهل بيته وثقله الاصغر!!

ص: 14


1- الأمالي للطوسي: ص 461 ؛ مستدرك الحاكم: ج 3 ص 124 .
2- الامالي للصدوق: ص 150 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7 ص 236 .

ومن ذلك الاستغاثة برسول الله (صلى الله عليه وآله) حيا وميتا، ويكفي في ذلك ما جاء في هذا النص وحده من تصريح الالتجاء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاستغاثة به في نزول المحن والنوائب.

و أي المحن أعظم من تلك الرزايا الجليلة في دفن الزهراء سراً، وهضم حقها قهراً ومنع إرثها جهراً.

إلا يكفي في بيان عظمتها حبس علي (عليه السلام) لأحزانه وآلامه احتباس النار في جمر الحطب، وهو القائل كما مرّ:

«لجعلت المقام عند قبرك لزاما، والتلبث معكوفا، ولأعولت أعوال الثكلى .»

مستغيثا بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملتجئا اليه، لائذاً به.

وعليه:

فإن القصدية الثانية التي اكتنزها قوله (عليه السلام):

«فإلى الله يا رسول الله المشتكى » هي الاستغاثة برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو أمر اعتقده المسلمون وانكره ابن تيمية ومن سار على نهجه، فرد على افترائه مجموعة من العلماء المسلمين، منهم الحافظ السبكي (رحمه الله)، وابن حجر،

والسمهودي وغيرهم، نورد فيما يلي بعضا من اقوالهم في الإستغاثة والتوسل والالتجاء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته.

1-قال الحافظ السبكي (ت 756 ه) وتحت عنوان:

(في التوسل، والاستغاثة، والتشفع بالنبي (صلى الله عليه وآله):

اعلم: انه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي الى ربه سبحانه وتعالى.

ص: 15

وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين، والعلماء والعوام من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية، فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار.

ولهذا طعن في الحكاية التي تقدم ذكرها عن مالك، فإن فيها قول مالك للمنصور: (استشفع به).

ونحن قد بينا صحتها، ولذلك أدخلنا الاستغاثة في هذا الكتاب لما تعرض إليها مع الزيارة.

وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل، قول لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مثلة !!

وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم، ولا أتتبعه بالنقض والإبطال، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين، تقريب المعنى إلى أفهامهم، وتحقيق مرادهم وبيان حكمه، ورأيت كلام هذا الشخص بالضد من ذلك، فالوجه الإضراب عنه.

وأقول: إن التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) جائز في كل حال: قبل خلقه، وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته، في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة، وهو على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يتوسل به، بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به، أو بجاهه، أو ببركته.

ص: 16

فيجوز ذلك في الأحوال الثلاثة، وقد ورد في كل منها خبر صحيح:

[حديث توسل آدم عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم]

أما الحالة الأولى: قبل خلقه، فيدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته، وهو ما رواه الحاكم أبو عبد الله بن البيع في (المستدرك على الصحيحين أو أحدهما)، قال: ثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، ثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق

ابن إبراهيم الحنظلي، ثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، ثنا إسماعيل ابن مسلمة، أنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لما اقترف آدم (عليه السلام) الخطيئة

قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي.

فقال الله (عزّ وجل): يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟

قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.

فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، إذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك ).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب.

ورواه البيهقي أيضا في (دلائل النبوة) وقال: تفرد به عبد الرحمن.

ص: 17

وذكره الطبراني وزاد فيه: (وهو آخر الأنبياء من ذريتك).

[توسل عيسى عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم]

وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضا: عن علي بن حماد العدل، ثنا هارون ابن العباس الهاشمي، ثنا جندل بن والق، ثنا عمرو بن أوس الأنصاري، ثنا سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى عيسى (عليه السلام): (يا عيسى، آمن بمحمد، وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولاه ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه: (لا إله إلا الله) فسكن ).

قال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، انتهى ما قاله الحاكم.

والحديث المذكور لم يقف عليه ابن تيمية بهذا الإسناد، ولأبلغه أن الحاكم صححه.

فإنه قال -أعني ابن تيمية-: (أما ما ذكره في قصة آدم من توسله، فليس له أصل، ولا نقله أحد عن النبي (صلى الله عليه وآله) بإسناد يصلح الاعتماد عليه، ولا الاعتبار، ولا الاستشهاد).

ثم ادعى ابن تيمية أنه كذب، وأطال الكلام في ذلك جدا بما لا حاصل تحته، بالوهم والتخرص، ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك، أو لتعرض للجواب عنه.

وكأني به إن بلغه بعد ذلك: يطعن في (عبد الرحمان بن زيد بن أسلم) راوي الحديث.

ونحن نقول: قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم، وأيضا: عبد الرحمان بن زيد بن أسلم، لا يبلغ في الضعف إلى الحد الذي ادعاه.

ص: 18

وكيف يحل لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع؟ وقد ورد فيه هذا الحديث؟! وسنزيد هذا المعنى صحة وتثبيتا بعد استيفاء الأقسام.

[توسل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم].

وأما ما ورد من توسل نوح وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء:

فذكره المفسرون، واكتفينا عنه بهذا الحديث، لجودته وتصحيح الحاكم له.

[التعبير عن التوسل والاستغاثة ]

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ (التوسل) أو (الاستغاثة) أو (التشفع) أو (التجوه).

والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه:

متوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه.

ومستغيث به، والمعنى أنه استغاث الله به على ما يقصده، فالباء هاهنا للسببية، وقد ترد للتعدية، كما يقول: (من استغاث بك فأغثه).

ومستشفع به:

ومتجوه به، ومتوجه، فإن التجوه والتوجه راجعان إلى معنى واحد.

فإن قلت: المتشفع بالشخص من جاء به ليشفع، فكيف يصح أن يقال: يتشفع به؟

قلت: ليس الكلام في العبارة، وإنما الكلام في المعنى، وهو سؤال الله بالنبي (صلى الله عليه وآله) كما ورد عن آدم، وكما يفهم الناس من ذلك، وإنما يفهمون

ص: 19

من التشفع والتوسل والاستغاثة والتجوه ذلك، ولا مانع من إطلاق اللغة بهذه الألفاظ على هذا المعنى.

والمقصود جواز أن يسأل العبد الله تعالى بمن يقطع أن له عند الله قدرا أو مرتبة.

ولا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله) له عند الله قدر علي، ومرتبة رفيعة، وجاه عظيم.

وفي العادة أن من كان له عند الشخص قدر، بحيث أنه إذا شفع عنده قبل شفاعته، فإذا انتسب إليه شخص في غايته، وتوسل بذلك، وتشفع به، فإن ذلك الشخص يجيب السائل، إكراما لمن انتسب إليه وتشفع به، وإن لم يكن حاضرا ولا شافعا، وعلى هذا التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) قبل خلقه.

ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى، ولا داعين إلا إياه، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سببا للإجابة.

كما في الأدعية الصحيحة المأثورة: أسألك بكل اسم لك، وأسألك بأسمائك الحسنى، وأسألك بأنك أنت الله، وأعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك).

وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة، وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة.

فالمسؤول في هذه الدعوات كلها، هو الله وحده لا شريك له، والمسؤول به مختلف، ولم يوجب ذلك إشراكا، ولا سؤال غير الله.

كذلك السؤال بالنبي (صلى الله عليه وآله) ليس سؤالا للنبي (صلى الله عليه وآله) بل سؤال لله به.

ص: 20

وإذا جاز السؤال بالأعمال وهي مخلوقة، فالسؤال بالنبي (صلى الله عليه وآله) أولى.

ولا يسمع الفرق: بأن الأعمال تقتضي المجازاة عليها.

لأن استجابة الدعاء لم تكن عليها، وإلا لحصلت بدون ذكرها، وإنما كانت على الدعاء بالأعمال.

وليس هذا المعنى مما يختلف فيه الشرائع حتى يقال: إن ذلك شرع من قبلنا، فإنه لو كان ذلك مما يخل بالتوحيد، لم يحل في ملة من الملل، فإن الشرائع كلها متفقة على التوحيد.

وليت شعري، ما المانع من الدعاء بذلك ؟!

فإن اللفظ إنما يقتضي أن للمسؤول به قدرا عند المسؤول.

وتارة: يكون المسؤول به أعلى من المسؤول: إما الباري سبحانه وتعالى، كما في قوله: (من سألكم بالله فأعطوه) وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمى: (أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن...) الحديث، وهو مشهور.

وإما بعض البشر، ويحتمل أن يكون من هذا القسم قوله عائشة لفاطمة -عليها السلام-: أسألك بما لي عليك من الحق.

وتارة: يكون المسؤول أعلى من المسؤول به، كما في سؤال الله تعالى بالنبي (صلى الله عليه وآله) فإنه لا شك أن للنبي (صلى الله عليه وآله) قدرا عنده، ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال: (أسألك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شك في جوازه.

ص: 21

وكذا إذا قال: (بحق محمد).

والمراد بالحق الرتبة والمنزلة، والحق الذي جعله الله على الخلق، أو الحق الذي جعله الله بفضله له عليه، كما في الحديث الصحيح قال: فما حق العباد على الله؟

وليس المراد بالحق الواجب، فإنه لا يجب على الله شئ، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة.

[حديث الأعمى المتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم].

الحالة الثانية: التوسل به بذلك النوع بعد خلقه (صلى الله عليه وآله) في مدة حياته:

فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات، قال: ثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمر، ثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ادع الله أن يعافيني.

قال: (إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك).

قال: فادعه.

قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوؤه، ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضي لي، اللهم شفعه في ).

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر الخطمي.

ورواه النسّائي في اليوم والليلة عن محمود بن غيلان بإسناده نحوه.

ص: 22

وعن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف نحوه.

وعن زكريا بن يحيى، عن ابن مثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان نحوه.

وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أحمد بن منصور بن سيار، عن عثمان بن عمر بإسناده نحوه.

ورويناه في (دلائل النبوة) للحافظ أبي بكر البيهقي، ثم قال البيهقي: وزاد محمد بن يونس في روايته: فقام وقد أبصر.

قال البيهقي: ورويناه في (كتاب الدعوات) بإسناد صحيح عن روح بن عبادة، عن شعبة قال: ففعل الرجل فبرأ.

قال: وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.

ثم روى بإسناده عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني -وهو الخطمي- عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف فذكره، وفي آخره: (يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي عن بصري، اللهم شفعه في، وشفعني في نفسي).

قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط.

وسنذكر هذا الحديث أيضا في التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد موته من طريق الطبراني والبيهقي.

ص: 23

وقد كفانا الترمذي والبيهقي رحمهما الله بتصحيحهما مؤنة النظر في تصحيح هذا الحديث، وناهيك به حجة في المقصود)(1).

2-قال ابن حجر في الجوهر المنظم: (من خرافات ابن تيمية التي لم يقلها عالم قبله وصار بها بين أهل الإسلام مثلة أنه أنكر الاستغاثة والتوسل به (صلى الله عليه -وآله- وسلم)، وليس ذلك كما أفتى به، بل التوسل به حسن في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في الدنيا والآخرة)(2).

3-قال السمهودي في خلاصة الوفا: (ولا فرق في ذلك بين التعبير بالتوسل أو الاستغاثة أو التوجه به (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحاجة، وقد يكون ذلك بمعنى طلب أن يدعو كما في حال الحياة، إذ هو غير ممتنع مع علمه بسؤال من يسأله (صلى الله عليه -وآله- وسلم)(3).

4- الحافظ الحصني الدمشقي (ت 829 ه).

قال في دفع الشبهة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحت عنوان (الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله على طوال التاريخ ولو من بعيد):

(والمراد ان الاستغاثة بالنبي (صلى الله عليه وآله)، واللواذ بقبره مع الاستعانة به، كثيرة على اختلاف الحاجات، وقد عقد الائمة لذلك باباً ، وقالوا: إنّ استعانة من لاذ بقبر وشكا إليه فقره وضره، توجب كشف ذلك الضرّ بإذن الله تعالى)(4).

ص: 24


1- شفاء السقام: ص 392 - 302 .
2- شواهد الحق للنبهاني: ص 136 .
3- شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله): ص 140 .
4- دفع الشبهة عن رسول الله )صلى الله عليه وآله( للحصني الدمشقي: ص 160 .

وقد جاءت أقوال الفقهاء والعلماء في الرد على افتراء ابن تيمية والوهابية كثيرة وقام بجمع عدد منها، الشيخ يوسف النبهاني (ت 1350 ه) في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله).

وعليه:

كانت القصدية الثانية في قوله (عليه الصلاة والسلام):

«والى الله يا رسول الله المشتكى .»

هي ارشاد المسلمين الى الاستغاثة برسول الله (صلى الله عليه وآله) والملاذ به والتوسل الى الله تعالى بجاهه وشأنه ومنزلته لديه ويكفينا في ذلك قول الامام علي (عليه السلام) وفعله هذا مع قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فما خالف علي (عليه السلام) القرآن وما افترق عنه القرآن وهو ثقله الاصغر ولسانه الناطق وقد قال سبحانه في محكم كتابه يخاطب نبيه سليمان (عليه السلام):

﴿هذَاَ عطَاَؤنُاَ فاَمنْنُ أوَ أمَسْكِ بغِيَر حسِاَب﴾ٍ(1).

وما أُوتي سيد الأنبياء خير مما أُوتي سليمان، فألمسك والعطاء بيد سيد الانبياء (صلى الله عليه وآله) بغير حساب.

وقال عز وجل: « وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ »(2) .

ص: 25


1- سورة ص، الآية ( 39 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 74 ).

اللّهم أنا نسألك من فضلك وفضل رسولك أن تغنينا وتثبنا على دينك ولا تعذبنا فإنا إليك وبرسولك لائذون، وبين يدي حاجتنا له مقدمون، فصلِّ اللهم عليه كأفضل ما صليت على أحد من انبيائك ورسلك وملائكتك وعلى آله الطيبين الطاهرين.

المسألة الثانية: قصدية التعزية لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بعد موته

اشارة

يرشد النص الى معنيين يكشف كل منها عن قصدية خاصة، وهي كالآتي:

أولاً: إنّ المعزى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فهو صاحب المصاب

إنّ الشكوى الى الله تعالى وقصدية الاستغاثة برسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد موته والملاذ به في كشف ضرهّ وحزنه على مصاب الزهراء (عليها السلام) واتباعها بالتعزية لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لترشد الى المعنى الخفي في قصيدة الحياة

له (صلى الله عليه وآله) بعد موته.

إذ مقتضى التعزية في الوضع الحياتي والاجتماعي تكون بتقديم التصبر والسلوان لأهل الفقير، ولم تجري عادة الناس أن يقدموا التعزية للميت في قبره مما يكشف عن هذا التلازم بين الشكوى والعزاء او بين التعزية والشكاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه حي -بأبي وامي- يسمع ويشهد وينصر المظلوم، ويغني المحتاج كما نصت الآية المباركة، ويمن العطاء، ويمسك لا فرق بين شهوده بين الناس أو مغيب عنهم في روضته الفردوسية التي هي منبره وحجرته.

وإلا لا يمكن أن يعتقد أن الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) يقدم التعزية لميت مدفون في قبره مالم يكن قطعا أنه يعزي حياً يسمع التعزية ويردها وينتصر للمظلوم، وغيرها من أرباب الحوائج وتعددها للدنيا والاخرة.

ص: 26

والتعزية كما جاءت في كتب الفقهاء، هي علي النحو الاتي:

1-قال الشهيد الاول (رحمه الله) (ت 786 ه):

(التعزية: هي تفعلة من العزاء، أي: الصبر، يقال:

عزيته فتعزى، أي صبرته فتصبر.

والمراد بها طلب التسلي عن المصاب، والتصبر عن الحزن والاكتئاب، بإسناد الأمر إلى الله عز وجل ونسبته إلى عدله وحكمته، وذكر لقاء وعد الله على الصبر، مع الدعاء للميت والمصاب لتسليته عن مصيبته.

وهي مستحبة إجماعا، ولا كراهة فيها بعد الدفن عندنا، والدفن خاتمة أمره لا أمر أهله.

وقد روى إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام)، قال: (ليس التعزية إلا عند القبر ثم ينصرفون، لا يحدث في الميت حدث فيسمعون الصوت)، ويظهر من كلام ابن البراج.

لنا: عموم قول النبي (صلى الله عليه وآله): (من عزى مصابا فله مثل أجره)، رواه العامة ورواه الكليني بزيادة: (من غير أن ينتقص من أجر المصاب شيء) عن وهب، عن الصادق (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وعنه (صلى الله عليه وآله): (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة) رواه عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده.

وروى الكليني، عن إسماعيل الجزري، عن الصادق (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبى بها) وروي: (يحبر بها) أي: يسر.

ص: 27

وقال (صلى الله عليه وآله): (التعزية تورث الجنة).

وقال هشام بن الحكم: رأيت الكاظم (عليه السلام) يعزي قبل الدفن وبعده.

وخبر إسحاق ليس بصريح في كونه قبل الدفن، ولو سلم حمل على تعزية خاصة كأقل التعزية، كما قال الصادق (عليه السلام): (كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة)، ولا تحمل على الأفضل، لأن ابن أبي عمير أرسل عن الصادق (عليه السلام): (التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن) وظاهره: انها الكاملة، ولأن ابن

بابويه روى عنه (عليه السلام): (التعزية الواجبة بعد الدفن).

ومن ثم حكم الشيخ بأفضليتها بعد الدفن وتبعه الفاضلان، لاشتغال المعزى قبل دفنه بتجهيزه، واشتداد جزعهم بعده بمفارقته.

ولا حد لزمانها، عملا بالعموم؛ نعم، لو أدت التعزية إلى تجديد حزن قد نسي كان تركها أولى)(1).

أقول: والروايات الشريفة كاشفة عن أن مفهوم التعزية ومصادقها يكون مع أهل الميت لغرض تصبيرهم وتسليتهم، مما يرشد الى أن قصدية الامام علي (عليه السلام) في قوله:

«وفيك احسن العزاء » أنه (صلى الله عليه وآله) هو صاحب العزاء، وهو المعزى في هذه المصيبة التي نزلت بالعترة النبوية، ويكفي في ذلك قول الامام الصادق (عليه السلام) في اختصاص التعزية بأهل المصيبة فهو خير بيان لقصدية النص الشريف، قال (عليه السلام):

ص: 28


1- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 2 ص 34 .

(التعزية لأهل المصيبة بعد الدفن)(1).

أي: كما فعل الامام امير المؤمنين (عليه السلام) بعد ان دفن البضعة النبوية وقف وخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه الكلمات وهي مورد البحث؛ ومما يدل على هذه القصدية ايضاً:

2- قال الشيخ الجواهري (رحمه الله) (ت 1266 ه):

(والتعزية مستحبة، بلا خلاف بين المسلمين، بل لعله من ضروريات الدين، وقد فعلها سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، وكذلك الأئمة الطاهرون (عليهم السلام)، بل والملائكة المقربون يوم موت النبي (صلى الله عليه وآله) وفيها أجر عظيم وفضل جسيم حتى ورد أنها تورث الجنة، كما في خبر السكوني وفي خبر وهب عن الصادق (عليه السلام) إن من عزى مصابا كان له مثل أجره، وفي غيره من الأخبار أن من عزى حزينا كسي يوم الموقف حلة يحبر بها، وربما اختلفت باعتبار العوارض من جهة شدة المصاب وعدمه وغير ذلك، ومن هنا قد ورد إن من عزى الثكلى أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، والمراد بها على الظاهر المرأة التي فقدت ولدها أو حميمها، وكأنه لعظم مصابها باعتبار ضعف عقول النساء، واحتمال إرادة الطائفة الثكلى أعم من الرجال والنساء بعيد، وكيف كان فلا حاجة للتعرض لأصل

استحبابها ورجحانها، كما أنه لا حاجة إلى التعرض لذكر معناها لكفاية العرف فيه، ولا ريب في حصولها بطلب تسلي المصاب والتصبر عن الحزن والاكتئاب بإسناد الأمر إلى الله عز وجل ونسبته إلى عدله وحكمته، وذكر لقاء الله ووعده على الصبر مع الدعاء للميت والمصاب لتسليته عن مصيبة ونحو ذلك، وهي تتبع المقامات لا تتوقف على كيفية خاصة أو عبارة خاصة، واحتمال الوقوف عما ما كتبه النبي (صلى

ص: 29


1- المعتبر للمحقق الحلي: ج 1 ص 243 .

الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أو قالوه في هذا المنوال خاصة لا وجه له، بل دعوى رجحانية خصوصية له لا تخلو من إشكال ظاهر.

وهي جائزة مشروعة قبل الدفن وبعده إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا إن لم يكن متواترا منا، بل وعن غيرنا عدى الثوري، فكرهها بعد الدفن، لأنه خاتمة أمر الميت، وفيه أنه خاتمة أمره لا خاتمة أمر أهله، وما حكاه في الذكرى عن ظاهر ابن البراج منا مما يقرب من المحكي عن الثوري، ولا ريب في ضعفه، إذ النصوص وما وقع من النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) من التعزية بعد الدفن لأصحابهم شاهدة بخلافه، فضلا عن ظاهر الإجماعات المحكية بل صريحه إن لم يدع تحصيله، بل هي بعد الدفن أفضل منه قبله وفاقا لصريح الشيخ والمصنف

والعلامة وغيرهم وظاهر الشهيد والمحقق الثاني، بل في المدارك أنه مذهب الأكثر بشهادة الاعتبار من حيث غيبوبة شخص المتوفى وانقطاع العلقة في ذلك الوقت مع اشتغالهم قبل الدفن بتجهيزه، ولقول الصادق (عليه السلام) في مرسل ابن أبي

عمير:

«التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن .»

وفي مرسل خالد الآخر وغيره عنه (عليه السلام) أيضا:

«التعزية الواجبة بعد الدفن .»

وقول الصادق (عليه السلام) في خبر إسحاق بن عمار:

«ليس التعزية إلا عند القبر، ثم ينصرفون لا يحدث في الميت حدث فيسمعون الصوت .»

ص: 30

مع أنه لا صراحة فيه بل ولا ظهور بما قبل الدفن، بل لعله فيما بعده أظهر، فيحمل حينئذ على تفاوت مراتب الفضل فيما بعده، فأفضله عند القبر لاشتداد الحاجة إليها في ذلك الوقت - محمول على ضرب من التأويل، منه ما ذكره في الذكرى من الحمل

على تعزية خاصة، كأقل التعزية كما قال (عليه السلام):

«كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة .»

فيكون المراد حينئذ أنه لا تحتاج هذه التعزية إلى اجتماع آخر غير الاجتماع الأول، بل ينبغي حينئذ الانصراف ولا يقيموا بعد الدفن عند القبر لأجل التعزية خوف أن يحدث حدث بالميت، فيسمعوه ويفزعوا من ذلك ويكرهوه، أو غير ذلك)(1).

وقال ايضاً: (وهل تستحب التعزية حتى لأهل العزاء بعضهم بعضا؟

ربما يصعب انصراف الأدلة إليه في بادئ النظر، لكن التأمل فيها قاض به سيما من كبير العشيرة وسيدها.

وقد يومي إلى ذلك تعزية رسول الله (صلى الله عليه وآله) عيال جعفر، مع أنه هو من أهل العزاء) (2).

أقول: ويكفي من الأدلة على ذلك تعزية الإمام علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو صاحب العزاء بعد دفنه لفاطمة (عليها السلام) -مورد البحث-؛ وهذه القصدية الاولى في النص؛ أما القصدية الثانية في أن التصبرلا يكون في المصيبة إلّا بالتأسي بسيد الانبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) وهو كما يأتي:

ص: 31


1- جواهر الكلام: ج 4 ص 325 - 327 .
2- جواهر الكلام: ج 4 ص 331 .
ثانياً: إنّ القصدية في قوله (وفيك أحسن العزاء) هو التأسي

ويأخذنا النص هنا الى مقاربة جديدة لما قصده أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي تحمل في طياتها معنيين:

المعنى الأول- إن التأسي في المصائب لا يكون حسناً إلّا

من خلال تذكر سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تحمّله الأذى والصبر على ما نزل به من كيد المنافقين والكفار والملحدين حتى اشتهر عنه قوله (صلى الله عليه وآله):

«ما اوذي نبي بمثل ما اوذيت .»

ومن ثم يكون تجاوز المحن وتسلية النفس في المصائب من خلال التأسي بصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجلادة تحمله. وهو أمر مستحب عند الفقهاء كما ذكره السيد اليزدي (قدس سره) في العروة الوثقى في المسألة رقم ( 33 ) فقال:

(الصبر على المصيبة والاحتساب والتأسي بالأنبياء والاوصياء والصلحاء، خصوصا في موت الاولاد)(1).

فكان القصد في قوله «وفيك أحسن العزاء » هو التأسي به على مصيبته في فقد الزهراء (عليها السلام).

المعنى الثاني- التأسي بمصاب فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنها أعظم المصائب.

وقد مر في مباحث النص الشريف في قوله (عليه السلام):

«إلّا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، والحزن الذي حل بي لفراقك، موضع تعز .»

ص: 32


1- العروة الوثقى: ج 2 ص 125 .

وقوله (عليه الصلاة والسلام): «الصبر أيمن وأجمل .»

شيئاً من البيان في قصدية التأسي بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند نزول المحن والرزايا على الانسان؛ وهنا نورد ما جاء في المسألة من روايات وحكم عند الفقهاء.

1- قال السيد اليزدي (قدس سره) وتحت الرقم ( 32 ) من مستحبات قبل الدفن وبعده:

(أن يسلي صاحب المصيبة نفسه بتذكر موت النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه اعظم المصائب)(1).

2-وقد علّق الشيخ محمد تقي الآملي (رحمه الله) على المسألة، فقال:

(عنون في الوسائل باباً في استحباب تذكر المصاب مصيبة النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) واستصغار مصيبة نفسه بالنسبة إليها وذكر فيه ثمانية أحاديث لا بأس بذكر بعضها تيمنا كالمروي عن الصادق (عليه السلام) في الكافي: إذا أصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول ا لّلهَ (صلى اَلله عليه -وآله- وسلم) فان الخلق لم لم يصابوا بمثله قط (وخبر سليمان بن عمرو) عنه (عليه السلام) قال من أصيب بمصيبة فليذكر مصابه بالنبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) فإنه من أعظم المصائب (وخبر حسين بن علوان) المروي في قرب الاسناد عن الصادق (عليه السلام) عن

النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنه من أعظم المصائب)(2).

ص: 33


1- العروة الوثقى: ج 2 ص 125 .
2- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى: ج 6 ص 494 .

اذن: كان القصد هنا -فضلاً عما مرَّ ذكره في التأسي بمصيبة فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)- إنها أحسن عزاء للنفس في تصبيرها وتسليتها على ما نزل بها.

ص: 34

المبحث الخامس والثلاثون المقاصدية في ملازمة الصلاة على النبي وفاطمة (علیها السّلام)

اشارة

ص: 35

قوله (عليه السلام): «صلَّى اللَّه علَيكْ وعلَيهْاَ السَّلامُ والرِّضْواَنُ »

اشارة

ص: 36

وردت الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى فاطمة (صلوات الله عليها) متلازمة في النص الشريف والذي جاء بألفاظ متعددة لكنها متسقة المعنى ومتماسكة الدلالة، وهي كالاتي:

1-أوردها -أي الصلاة- الشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) بهذا اللفظ:

«صلى الله عليك وعليها السلام والرضوان»(1).

2-أوردها الشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت 460 ه) بلفظ:

«فصلوات الله عليها وعليك، ورحمة الله وبركاته »(2).

3-أوردها ابن جرير الطبري (الإمامي) (رحمه الله) (ت القرن الرابع ه)، بلفظ:

«صلوات الله عليك وعليها معك، والسلام »(3).

-4 وأوردها الشيخ المفيد )رحمه الله( )ت 460 ه( بلفظ:

«وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته »(4).

وهذه الالفاظ الشريفة تأخذ معانيها من مقاصد اكتنزتها الألفاظ، فكانت كالاتي:

ص: 37


1- الكافي للكليني: ج 1 ص 459 .
2- الامالي: ص 110 .
3- دلائل الإمامة: ص 138 .
4- الامآلي للمفيد: ص 283 .

المسألة الاولى: إنَّ حرمة النبي وحرمتها واحدة

اشارة

يكتنز النص الشريف معناً دقيقاً في مكانة البضعة النبوية (صلوات الله عليها)، لاسيما و ان اصل صدور النص الشريف كان لوقوع الامة بعد وفاة نبيها (صلى الله عليه وآله) بانتهاك حرمته في الهجوم على بيت النبوة ومناصرة الجناة، أو التأييد لهم، أو الرضا بأفعالهم، أو لزوم الصمت عن ما فعلوا كما مرّ بيانه مفصلاً خلال مباحث النص.

ومن ثم:

فالنص يرشد الى مقاربة جديدة في قصدية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي:

إتحاد حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع حرمة فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) فكلا الحرمتين هي واحدة لا تنفك احداهما عن الاخرى، وأنّ انتهاك حرمتها هو انتهاك لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّ صون حرمتها هو صون لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ تلك سنّة قد أجراها الله تعالى في أنبيائه ورسله (عليهم السلام)، فكانوا أعظم الناس حرمة عند الله تعالى، وأعظم من خلق واشرفهم لديه.

وذلك لتوفر جميع عناصر الشرافة فيهم إبتداء من اختصاصهم بالله تعالى وشريعته، وانتهاءً بما لديهم في الآخرة من شأنية ومنزلة وحرمة حيث الحياة الأبدية، لاسيما و أن القرآن الكريم يرشد العاقل الى هذه الحقيقة في آيات عدة، منها:

ص: 38

1-قال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ »(1).

2- وقال تعالى: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ »(2).

سَيِح عيِسىَ ابنْ مرَيْمَ ل

3- وقال عز وجل: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)»«ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)»«مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ »(3).

وغيرها من الآيات المباركة الكاشفة عن منازل الأنبياء (عليهم السلام) عند الله تعالى، مما يجعل الذين يعاصرون الأنبياء ويؤمنون بهم يتنافسون -كلا حسب إيمانه- في الالتصاق بالنبي، وإحراز

عناوين شرعية يرتقي بها أصحابها بين الناس، فيفاض عليهم من عظمتها وقدسيتها.

وهؤلاء الملتصقون بالأنبياء (عليهم السلام) صنفان، صنف شاء أن يحظى بمكاسب دنيوية بين الناس بما للقرب من الحظرة النبوية من آثار اجتماعية ونفسية وروحية على المؤمنين، فضلاً عن اكتساب الحصانة حيناً والذريعة حيناً آخر في تمشية المصالح الشخصية، كما كان في حال السامري في بني إسرائيل وحال غيره في الأمم السابقة وهذه الأمة.

ص: 39


1- سورة الانبياء الآية ( 26 - 27 ).
2- سورة آل عمران الآية ( 45 ).
3- سورة التكوير الآية ( 19 - 21 ) .

والصنف الآخر: كان التصاقه بالأنبياء (عليهم السلام) التصاق سنخياً لتلازم الإيمان والطهر والصدق، فيكون شأنهم مدعماً بالآيات والبراهين الإلهية لأنهم نصروا الله، فنصرهم.

ومن بين هؤلاء الذين التصقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) هي فاطمة وبعلها وولديها (صلوات الله عليهم أجمعين) والأئمة المعصومين من ذرية الحسين (عليهم السلام).

وقد أسلفنا أنهم مع ما لهم من صلة الرحم والدم والقرابة القريبة، فهم الأهل والآل والعترة، ومع هذا كله لهم خصوصية الشريعة المرتكزة على التقوى والطاعة لله تعالى، فكانوا بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) حجج الله على العالمين وأئمة على الخلق أجمعين.

من هنا:

كان لفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها)التصاقاً سنخياً بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) بجميع ما أحيط بهذه الشخصية من عبودية لله ورسالة،ونبوة، وإمامة، وحرمة، وطاعة، ومنزلة، عند الله تعالى؛إلّا أنه لا نبوة ولا رسالة بعد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله).

بمعنى:

لا يمكن أن ينال الإنسان تلك العظمة ما لم يكن مرتبطاً بالله تعالى؛ وحيث أن الإرتباط الإلهي يكشفه القرآن في درجات ومراتب حددها الوحي عن الله تعالى، فكانت في قمة الارتقاء هي العبودية المحضة لله، فإن النبوة والرسالة والإمامة تأتي

تبعاً لما ينال الإنسان من حظه في سلم العبودية لله عز وجل، مما يكشف أن رسول

ص: 40

الله (صلى الله عليه وآله) هو أعبد الخلق للخالق، وأن جمعه (صلى الله عليه وآله) لجميع ما دون هذه الرتبة هو من ثمار تلك العبودية، وأن فاطمة قد نالت من تلك الدرجات والمراتب -بما للمصطفى (صلى الله عليه وآله)- ابعاض منها وهو ما دلّ عليه الحديث النبوي الشريف المعروف بحديث البضعة، الذي تناقلته الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها .(1)

بمعنى آخر:

حينما ننظر إلى شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن نظرتنا إليه يقومها النص القرآني الذي أعطاه ما لم يعط أحداً من الأنبياء والمرسلين إذ يكفي في ذلك قول تعالى:

«ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)»«فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى »(2).

ومن ثم: فإن قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث البضعة لا يندرج ضمن الحدود المادية التي تنم عن ضيق الفهم وعسر الاستيعاب وعمى البصيرة وذلك أن شخوص الأنبياء والمرسلين عليهم السلام يتعامل معهم بما أحرزوا من الشأنية عند الله تعالى لا على أساس الفناء الملاصق للمادة وولادتها من رحم الحياة الدنيا.

بل: تسالم العقلاء في تقيمهم وتعظيمهم للرموز من خلال ما يتصف به أولئك الرموز من عناوين روحية وشرعية ودينية وقدسية.

ص: 41


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين، ج 4، ص 210 ؛ صحيح مسلم: ج 4، ص 140 ، مسند أحمد: ج 4، ص 328 .
2- سورة النجم، الآية: ( 8- 9).

من هنا:

كان لفاطمة تلك الملاصقة مع شخص النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فكانت بعضاً من رتبة العبودية التي نالها النبي (صلى الله عليه وآله) وبعضا من الرسالة والنبوة والإمامة والنذارة والبشارة والشهودية وغيرها مما أوتي المصطفى (صلى الله

عليه وآله).

وإلا فإن حديث البضعة بخلاف هذه المفاهيم يصبح مجوفاً من الروح لا حياة فيه لا طريق لديه في قلوب قد ران عليها الكفر وطبع عليها النفاق فهم لا يفقهون.

ومن هنا أيضا:

لم يكتف النبي ( صلى الله عليه وآله) في بيان منزلة فاطمة عليها السلام ضمن تلك المفاهيم القرآنية بحديث البضعة وإنما أردفه بأحاديث أخرى تسوق الذهن فيسلّم القلب إلى أنها بلغة من النبي (صلى الله عليه وآله) مبلغاً عظيماً فكانت الأحاديث

كالآتي:

أولاً: تعدد ألفاظ حديث البضعة

يعد حديث البضعة من الأحاديث المشهورة لورودها في عدد كبير من المصادر الإسلامية إلّا أن التثقيف عليه وبيان دلالاته يعد قليلاً جدا حتى يكاد المسلم حينما يسمع به في بعض المحافل يحسبه من الأحاديث المندثرة أو الغير صحيحة لعزوف أصحاب المنابر في العالم الإسلامي لاسيما أبناء السنة عنه وكأنه لا يعني لهم شيئاً أو هو مما يشكل إرباكاً في منهجهم العقدي كي لا يعد المتكلم به من المتشيعين لآل محمد (صلى الله عليه وآله).

ص: 42

والحديث الشريف ورد بألفاظ عديدة مما يكشف عن كثرة تكرار صدوره من الحضرة النبوية كي يرسخ في أذهان المسلمين ما لفاطمة من المنزلة الشرعية والروحية في الإسلام فكانت ألفاظ الحديث على النحو الآتي:

1-أخرجه البخاري في الصحيح عن المسور بن مخرمة: بألفاظ عدة:

أ- إنّ رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم قال:

«فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني »(1).

ب- وبلفظ:

«وإنّ فاطمة بضعة مني وإن أكره أن يسؤها »(2).

ج- ولفظ آخر:

«فإنما هي بضعة مني يريني ما أرابها » (3).

2-أخرجه مسلم النيسابوري عن المسور بن مخرمة بألفاظ عدة:

أ- قال: قال رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم:

«إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها »(4).

ص: 43


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 4، ص 210 .
2- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 4، ص 212 .
3- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 1، ص 158 .
4- صحيح مسلم: ج 7، ص 141 ، باب: فضائل فاطمة عليها السلام.

ب- وبلفظ آخر:

فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رآبها ويؤذيني ما آذاها »(1).

3- أخرجه أحمد بن حنبل بلفظ:

أ- عنه صلى الله عليه -وآله- وسلم قال:

«إنها فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها»(2).

ب- وبلفظ آخر:

«إنما فاطمة بضعة مني وإني أكره أن تفتنوها »(3).

4-أخرجه سليم بن قيس الهلالي عن فاطمة (عليها السلام) أنها سألت أبي بكر وعمر فقالت:

«نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني؟ .»

قالا: نعم، فرفعت يدها إلى السماء فقالت:

«اللهم إنهماّ قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك »(4).

وغيرها من الألفاظ التي تناقلتها الرواة(5).

ص: 44


1- المصدر السابق.
2- مسند أحمد: ج 4، ص 5، من حديث عبد الله بن الزبير.
3- المصدر السابق.
4- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 392 .
5- أنظر في تعدد ألفاظ حديث البضعة: مناقب ابن المغازلي: ص 282 ، حديث 327 ؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 158 ؛ المناقب للخوارزمي: ص 335 ؛ سنن البيهقي: ج 7 ص 64 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 20 ، ص 18 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 206 ؛ مسند البزار: ج 6، ص 169 ، حديث 1938 ؛ اتحاف السائل للمناوي: ج 1، ص 7؛ مختصر صفة الصفوة لابن جوزي: ص 121 ؛ فضل آل البيت للمقريزي: ص 37 ؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22 ، ص 93 ؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 12 ، ص 126 ؛ الروض الانُف: ج 1، ص 279 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 327 ؛ الشفا للقاضي عياض: ج 2، ص 574 ؛ البحر الزخار: ج 6، ص 150 ؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 165 ؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 24 ، حديث 30 ؛ مشارق الأنوار للقاضي عياض: ص 128 ؛ تهذيب الخصائص للسيوطي: ص 433 ؛ صحيح ابن حبان: ج 5، ص 406 ؛ خصوصيات النبي للقسطلاني: ص 135 .

فكان هذا الحديث من الأحاديث الدالة على ارتباطها (عليها السلام) بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانياً: حديث الشجنة

إن من الملاحظ في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيان خصوصية فاطمة (عليها السلام) لديه ومنزلته عنده استخدامه لألفاظ متعددة تشير إلى تلك الحرمة المترتبة على دلالة هذه الألفاظ فكان منها حديثه (صلى الله عليه وآله)

المعروف بحديث الشجنة.

وقد أخرجه أحمد، والحاكم، والهيثمي، والطبراني، وغيرهم بألفاظ متفاوتة في السعة والاختصار.

1-فقد رواه أحمد بهذا اللفظ:

(عن جعفر بن محمد، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن المسور بن مخرمة: أن حسن بن حسن بعث إلى المسور يخطب ابنة له فقال:

قل له يوافيني في وقت قد ذكره فلقيه فحمد الله المسور، وقال: ما من سبب ولا

ص: 45

نسب ولا صهر أحب إليّ من نسبكم وصهركم ولكن رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم قال:

«فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها وإنه يقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وسببي .»

وتحتك ابنتها ولو زوجتك قبضها ذلك، فذهب عاذراً له)(1).

2- وأخرجه الحاكم النيسابوري بالسند المذكور، عنه (صلى الله عليه وآله)، قال: «إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها .»

وأردفه الحاكم بقوله: وهذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)(2).

3- وأخرجه الحميري (رحمه الله) في قرب الإسناد (عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمة .»

قال: «فدخل عليه أخوه فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة -عليها السلام- عليهم ».

فقال: أفضهم، لأني سمعت لا أبالي أن اسمع أولا أسمع أن رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم كان يقول:

ص: 46


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 33 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 20 ، ص 25 ، حديث 30 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 328 ؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 2، ص 765 ، حديث.1347.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 11 ، ص 42 ، حديث 4717 ؛ نثر الدر:ّ ج 1، ص 343 ؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 332 .

«إن فاطمة شجنة مني يسرني ما أسرها ويسوؤني ما أساءها .»

فأنا أتبع سرور رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم)(1).

وللوقوف على دلالة الحديث الشريف نورد ما جاء عند أهل اللغة في بيان معنى الشجنة:

1-قال ابن فارس في (شجن): الشين والجيم والنون أصل واحد يدل على اتصال الشيء والتفافه من ذلك الشجنة وهي الشجر الملتف.

ويقال: بيني وبينه شجنة رحم يريد اتصالها والتفافها، ويقال: للحاجة الشجن وإنما سميت بذلك لالتباسها وتعلق القلب بها والجمع شجون.

قال: والنفس شتى شجونها.

والأشجان جمع شجن(2).

2-وقال ابن الأثير:

(شجن) فيه -الحديث الشريف-:

«الرحم شجنة من الرحمن .»

أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، شبه بذلك مجازاً واتساعاً؛ وأصل الشجنة بالكسر والضم: شعبة في غصن من غصون الشجرة)(3).

ص: 47


1- قرب الإسناد للحميري: ص 53 .
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ج 3، ص 248 .
3- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 2، ص 447 ؛ غريب الحديث لابن سلام: ج 1، ص 209 .

ومن هذا المعنى نستدل على أن فاطمة (عليها السلام) لها من الترابط مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما للعروق في الشجرة الواحدة وقد تشابكت والتفت مع بعضها البعض إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه العروق شيئاً واحداً لا ينفك كل جزء فيه عن الآخر، وذلك للحمة التي بينهما فإذا قطع عضو منه مات من الشجرة عضو آخر.

ومما لا يخفى على أهل المعرفة ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الإحاطة التامة الجامعة المانعة بلغة الضاد وأسرارها وبلاغة معانيها وأبعاد ألفاظها ودلالة مفرداتها.

ولذلك:

نراه (صلى الله عليه وآله) حينما مثل فاطمة بالشجنة منه، وبيان أهل اللغة بأنها الشعبة في غصن من غصون الشجرة، أو الشعبة من كل شيء(1) ، لم يكن بأبي قد نطق بها إلا ليعرف المسلمين بمحل فاطمة من النبوة والرسالة.

فقولهم وفعلها وتقريرها شعبة من قول النبي (صلى الله عليه وآله) وفعله وتقريره؛ وهذا فضلا عن ورود نصوص عن العترة النبوية بعصمتها وإنها حجة الله تعالى على الأئمة الذين جعلهم حججاً على خلقه وأوجب عليهم لزوم طاعتهم ومودتهم وإتباعهم.

ثالثاً: حديث المهجة

لم يزل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ينتقل من بيان إلى آخر ليرشد الناس إلى عظيم منزلة فاطمة عنده وشأنها لديه كي يحذر المسلمون في تعاملهم مع المقدسات ويجتنبون الوقوع في انتهاك الحرمات عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

ص: 48


1- المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 138 .

ولذلك:

ينتقل النبي(صلى الله عليه وآله) هنا إلى لفظ جديد ومعنى آخر يرسم صورة أخرى لهذه الشخصية الملكوتية التي أودعها الله تعالى في صلبه ليخرجها إلى الناس حجة وشاهداً وموضعاً للابتلاء الحسن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من يحيى

عن بينة.

هذه البينة التي جهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيانها ولم يزل يظهرها -كما سيمر- علينا في بقية الأحاديث الشريفة.

وهنا:

أراد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن يعلم الناس محلها من شخصه بذلك المستوى الذي لا يرقى إليه أحد من الخلق فمن منهم كان بمنزلة الروح من النفس، والدم من القلب، بل: هي الروح والقلب كما سيمر لاحقاً .

لكنه (صلى الله عليه وآله) هنا: حينما وضعها هذا الموضع من القلب ليعلم الناس أن لا حياة للقلب بدون الروح ولا حياة للروح بدون الدم وهو ما يذهب إليه أهل اللغة في بيان معنى (المهجة).

إذ قال الخليل الفراهيدي: (المهجة: دم القلب، ولإبقاء للنفس بعد ما تراق مهجتها)(1).

وقال الجوهري: هي، دم القلب خاصة، ويقال: إذا خرجت مهجته خرجت روحه)(2).

بمعنى: لا بقاء للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بدون مشكاة النور وأم الأئمة حجج الله على خلقه والأدلاء عليه والقادة إلى سبيله فلولاها لما كانوا ولما كان هناك ذكر للمصطفى (صلى الله عليه وآله) ولا شريعته.

ص: 49


1- كتاب العين: ج 3، ص 397 .
2- كتاب الصحاح للجوهري: ج 1، ص 342 ؛ البحر المحيط: ج 1، ص 208 .

إذ حياة كل شيء بقلبه ودوامه بروحه ودوام شريعة النبي (صلى الله عليه وآله) وروح الإسلام بفاطمة صلوات الله وسلامه عليها.

ولذا:

كان حديثه (صلى الله عليه وآله) بهذا اللفظ الكاشف عن منزلتها لدى النبوة والرسالة، فقال:

«فاطمة مهجة قلبي، وإبناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا ومن تخلف عنه هوى »(1).

والحديث أخرجه محمد بن أحمد القمي(المتوفى سنة 412 ه) بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن محمد بن زياد، عن جميل بن صالح، عن الإمام جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:

«حدثني أبي، عن أبيه عن جده الحسين بن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة مهجة قلبي....... .»

وساق الحديث، وذكره عنه الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) والزمخشري في مناقبله وغيرهم.

ص: 50


1- مائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي: ص 76 ؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 2، ص 32 ؛ الصوارم المهرقة للتستري: ص 337 ؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 29 ، ص 649 ؛ نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي: ص 227 ؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 7، ص 472 ؛ مقتل الحسين للخوارزمي: ص 77 ؛ المناقب للزمخشري: ص 213 (مخطوط)؛ فرائد السمطين للحمويني: ج 2، ص 66 ، حديث 390 .
رابعاً: حديث الشعرة

لا شك إنّ من بين أهم الأولويات لدى الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) حفظ الحرمات، ومن أعظم الحرمات هي الحكم الشرعي ثم مثال الحكم الشرعي وعنوان وجوده في الحياة وهو المعصوم (عليه السلام) سواء كان نبياً أو رسولاً أو إماماً فهؤلاء هم الأمناء على الشريعة ومنهم يخرج الحكم الشرعي باختيار وتعيين

من الله تعالى إلى الناس.

ولذلك فالراد عليهم على الله تعالى والمطيع لهم مطيع لله تعالى ولعل المتتبع للآيات الكريمة يجد الكثير منها ما ينص على الملازمة بين طاعة الله تعالى وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وإن العاصي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هو عاص لله

تعالى.

من هنا:

كانت الملازمة بين حرمة الحكم الشرعي وبين المشرع وهو الله ورسوله ووصي رسوله فضلا عن ذلك فقد تفاوت الأنبياء (عليهم السلام) فيما بينهم من حيث المنزلة بلحاظ الحكم الشرعي كذلك، بمعنى: كان أولوا العزم أعظم منزلة عند الله تعالى لأن رسالاتهم كانت إلى الناس كافة وكانوا أصحاب كتب سماوية.

أي: إنهم كانوا في مسؤولية أعظم ومهمة أكبر وذلك من خلال سعة الشريعة وسعة المساحة التي تنشر فيها هذه الأحكام.

من هنا:

كان الإسلام أتم الأديان وأكملها وخيرها التي أخرجت للناس، فضلاً عن السعة في الشريعة والمساحة التبليغية لتشمل الأسود والأبيض والسيد والعبد

ص: 51

والجن والأنس؛ وهذا يتطلب مسؤولية عظيمة وذلك لما يلقى على عاتق خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله).

فكان هو: النبي، والرسول، والشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير، وهو قوله تعالى:

«وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا »(1).

وفي موضع آخر يظهر الوحي ما لهذه الرسالة من حرمة ومنزلة وخصوصية خاصة ارتكزت على ما حمل النبي (صلى الله عليه وآله) من أحكام شرعية وما أوتي من كتاب فقال عزّ وجل:

«وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ »(2).

ولم يصف الوحي أي كتاب من الكتب المنزلة ب(العظيم) سوى القرآن وذلك لما أنزل الله فيه من العلم حتى أصبح حاضنة للعلوم، فكان هذا القرآن العظيم بحرمته ملازما للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).

من هنا: يصبح كل أمر مرتبط برسول الله (صلى الله عليه وآله) لا ينظر إليه من حيث الصغر والكبر كنعله وثوبه وعصاه ودابته وما يلحق به من وسائل الحياة أو ما اختص ببدنه كظفره وشعره وبصاقه وعرقه (صلى الله عليه وآله) ولو أردنا أن نأتي بشواهد من السيرة والتأريخ على حرمة هذه الأشياء وآثارها التكوينية- بإذن

الله تعالى- لخرجنا من الكتاب لكن نورد شاهدين.

ص: 52


1- سورة الأحزاب، الآية ( 46 ).
2- سورة الحجر، الآية ( 87 ).

1- فيما يتعلق بحرمة ريقه وبصاقه وآثارهما التكوينية التي أظهرها الله تعالى للمسلمين حينما جاءه أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وهو أرمد العين في غزوة خيبر حينما حاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليهود بضعا وعشرين ليلة وبخيبر أربعة عشر ألف يهودي في حصونهم فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)

يفتتحها حصناً حصناً، وكان حصن خيبر من أشد حصونهم وأكثرها رجالاً، فأخذ أبو بكر راية المهاجرين فقاتل بها ثم رجع منهزماً ، ثم أخذ عمر بن الخطاب من الغد فرجع منهزماً يجبن الناس ويجبنونه؛ حتى ساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك، فقال:

«لأعطين الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ولا يرجع حتى يفتح الله على يده »(1).

فغدت قريش بقول بعضهم لبعض أما علي فكفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه، وقال علي (عليه السلام):

«اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت .»

فأصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) واجتمع إليه الناس قال سعد: جلست نصب عينيه ثم جثوت على ركبتي ثم قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني، فقال: «أرسلوا إليه وادعوه .»

فأتي به يقاد، فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه فقام فكأن عينيه جزعتان ثم أعطاه الراية ودعا له.

ص: 53


1- أخرج البخاري حديث الراية في صحيحه، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام: ج 4، ص 20 .

فخرج الإمام علي (عليه السلام) يهرول فو الله ما بلغت آخرهم حتى دخل الحصن، قال جابر: فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا وصاح سعد: يا أبا الحسن اربع يلحق بك الناس، فأقبل حتى ركزها أي الراية قريبا من الحصن فخرج إليه مرحب في عادته باليهود فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط وحمل علي والمسلمون

عليهم فانهزموا(1).

2-روى الطبرسي عن أم سلمة أنها قالت: وضعت يدي على صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم مات فمر بي جمع آكل وأتوضأ ما تذهب رائحة المسك عن يدي(2).

من هنا:

يستخدم النبي (صلى الله عليه وآله) مختلف الوسائل لإرشاد المسلمين إلى طاعة الله تعالى والاحتراز من الوقوع في المعصية، فكان من بين ما أرشد به الناس إلى تلك الحرمات وحفظها وصونها هو حديث الشعرة.

فقد روى الأربلي (عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«إنّ فاطمة عليها السلام شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملئ السماء وملئ الأرض »)(3).

ص: 54


1- إعلام الورى للطبرسي: ج 1، ص 207 ؛ الدرر لابن عبد البر: ص 198 - 199 .
2- إعلام الورى: ص 141 .
3- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 95 .

وروى جمع من المصنفين حديث الشعرة بلفظ آخر (عن عمرو بن خالد، قال حدثني زيد بن علي بن الحسين وهو أخذ بشعره، قال: حدثني أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) وهو آخذ بشعره، قال حدثني الحسين بن علي عليهم السلام، وهو آخذ بشعره، قال: حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام وهو آخذ بشعره، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بشعره، قال:

«من آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملئ السماء وملئ الأرض »)(1).

والحديث يرشد السامع إلى تلك الدلالة التعظيمية لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن آل محمد (صلى الله عليه وآله) جزء لا يتجزأ من تلك الحرمة، حالهم في ذلك حال القرآن فمن أنكر حرفاً منه أنكر القرآن ومن انتهك حرمة آية منه انتهك حرمة القرآن جميعاً.

بل إن التعرض لهم بذلك المقدار الذي حدده النبي (صلى الله عليه وآله) بالشعرة يوجب ذلك العقاب واللعن ملئ السماء وملئ الأرض، فكيف بمن قام وعزم وساعد وأسس لقتلهم وتشريدهم وسلب أموالهم وغيرها من الانتهاكات التي تعرض لها آل محمد (صلى الله عليه وآله).

فضلاً عن قتل شيعتهم ومن يتولاهم منذ أن قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى اليوم الذي يأذن الله فيه بالظهور لمهدي آل محمد (صلى الله عليه وآله) فيقتص من الظالمين ومن رضا بفعلهم.

ص: 55


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 209 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 227 ؛ دلائل الإمامة للطبري: 135 ؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 105 ؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 54 ، ص 308 ؛ مناقب الإمام علي عليه السلام لابن مردويه: ص 80 .
خامساً: حديث (أحب أهله إليه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ))

إنّ من المفاهيم التي مرّ ذكرها وبيانها ضمن هذا المبحث هو مفهوم الحب بمدلولاته القرآنية المتلازمة مع الإيمان والإتباع والمولاة والطاعة.

من هنا: حينما نأتي إلى حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناطق عن حبه لفاطمة وبعلها وبنيها فهو لا يتعدى عن ذلك المفهوم الذي أدل عليه الوحي ضمن سلسلة من الآيات الكريمة.

بمعنى: أن حب النبي وبغضه، ورضاه وغضبه مرتكز على حب الله ورضاه وغضبه، فإذا أحب كان حبه لله وإذا رضا كان كذلك، أو إذا غضب كان غضبه لله تعالى.

فضلاً عن كاشفيته لرضا الله وغضبه وحبه وبغضه بمعنى: أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يحب شيئاً إلا إذا كان الله تعالى يحبه ولا يبغض شيئاً إلا إذا كان الله قد بغض هذا الشيء وكذا في رضا النبي (صلى الله عليه وآله) وغضبه فهو كاشف عن رضا الله وغضبه.

من هنا: تصبح الأحاديث الشريفة الكاشفة عن حب رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي كاشفة في الحقيقة عن حب الله تعالى لهذا الشيء.

بل: إن حبه (صلى الله عليه وآله) وبغضه هو عينه حب الله وبغضه، وذلك أن النبي الأعظم مثال الحكم الشرعي الإلهي على الخلق.

وعليه: يكون حبه لفاطمة وبعلها وولديها (صلوات الله عليهم أجمعين) ملازم لحب الله تعالى لهم، بل هو عين حب الله تعالى لهؤلاء؛ ومن ثم لا يتصور أن يكون حب الله تعالى لهم إلا لأنهم مثال أحكامه وعنوان شريعته وحجته على خلقه؛ إذ

ص: 56

ليس هناك قرابة بين الله تعالى وبين أحد من خلقه فتعالى الله ربنا المالك لما خلق وهو العزيز الحكيم.

إذن: حينما يروي الرواة عنه، كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، وغيرها، عن عائشة وقد دخل عليها جميع بن عمير التميمي فيسألها قائلا:ً (أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) قالت: فاطمة، فقيل من الرجال؟

قالت: زوجها)(1).

أو ما رواه أسامة بن زيد، فقال: (كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي فقالا لي يا أسامة استأذن لنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فدخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأذنته فقلت: له إن العباس وعلي يستأذنان قال:

«هل تدري ما حاجتهما .»

قلت: لا والله ما أدري، قال:

«لكني أدري ائذن لهما .»

فدخلا عليه، فقالا: يا رسول الله جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال: «أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد»)(2).

ص: 57


1- سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب: فضل فاطمة: حديث 3874 .
2- مستدرك الحاكم: ج 2، ص 417 ؛ الأحاديث المختارة للمقدسي: ج 4، ص 161 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22 ، ص 403 ؛ الجامع الصغير: ج 1، ص 37 ؛ فيض الغدير للمناوي: ج 1، ص 217 ؛ تفسير ابن كثير: ج 3، ص 499 ؛ الدر المنثور: ج 5، ص 201 ؛ تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 8، ص 54 .

وغيرها من الألفاظ(1) الكاشفة عن حجم حبه (صلى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (صلوات الله عليها) مما يدل على منزلتها لديه ضمن تلك المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم.

سادساً: حديث (وهي قلبي وروحي) .
اشارة

روى الأربلي نقلاً عن كتاب لأبي إسحاق الثعلبي عن مجاهد قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أخذ بيد فاطمة (عليها السلام) وقال: «من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي الذي بين جنبي؛ فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله »(2).

يمتاز هذا الحديث الشريف عن سابقه في بيان منزلة فاطمة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكونه يقدم فاطمة عليها السلام ضمن صيغة تعريفية للناس من خلال تحديد هذه المعرفة بهذه الألفاظ.

بمعنى: أن النبي (صلى الله عليه وآله) يريد أن يعرفها ضمن تعريفه هو، فيقدمها ضمن مقامات ثلاثة يبتدأها بكلمة (هي) يسبق بها هذا المقام أو ذاك، كي تكون كل كلمة (هي) منفصلة عن غيرها لكونها تقدم تعريفا مستقلاً عن فاطمة (عليها

السلام)؛ فكانت على النحو الآتي:

ص: 58


1- أنظر في ذلك: السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 140 ، برقم 8498 ؛ مسند البزار: ج 7، ص 71 ؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1897 ، ط دار الجيل؛ الآحاد والمثاني: ج 5، ص 360 ، برقم 2951 ؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 302 .
2- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 665 ؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 664 ؛ البحار: ج 33 ، ص 54 ؛ المحتضر للحسن بن سليمان الحلي: ص 234 ؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 52 ؛ عوالم العلوم للسيد البحراني: ج 11 ، ص 148 ، حديث 20 ؛ إحقاق الحق: ج 10 ، ص 212 .
ألف - من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد

هنا وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) يستثني من بيانه وتعريفه لفاطمة من كان عارفا لها إلا أنه يرجع فيقدم فاطمة (عليها السلام) ضمن تعريف محدد بتلك المقامات الثلاثة، ولذا قال:

«ومن لم يعرفها فأنا أعرفه بها .»

ومن البديهي أن الجميع يعرفون أنها ابنته (صلى الله عليه وآله) وبذاك يتساوى الجميع في هذا المقام التعريفي سواء من كان منهم مؤمنا أو منافقاً إذ أن الصورة التي ينقلها الحديث وعلى لسان الراوي: ممثلاً بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أخذ بيد فاطمة عليها السلام إنما كان لهذا القصد، أي: تقديم معرفة جديدة للناس غير تلك المعرفة التي يعرفون بها فاطمة، وقد تسالموا على أنها ابنة النبي (صلى الله عليه وآله).

وعليه:

يتضح من قوله: (فهي فاطمة بنت محمد) نفي شبهة التبني أو الربيبة عن فاطمة حصرا؛ً بمعنى: إذا كانت هناك شبهة في كون (رقية، وأم كلثوم، وزينب) هن ربائب النبي (صلى الله عليه وآله) وخديجة (عليها السلام)(1).

أو تسالم هذه الحقيقة في أذهان الناس في كون الربيبة بنتاً؛ فإن النبي أراد بهذا الخروج مع أخذه بيد فاطمة وتقديمها إلى الناس بهذا الشكل الذي يبتدأ فيه قوله: (من عرف هذه)، أي: يعرفها بأنها البنت الواحدة للنبي (صلى الله عليه وآله) (فقد عرفها)؛

ص: 59


1- للمزيد من المعرفة، أنظر كتابنا: خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، الجزء الأول والذي نستدل فيه كونهم ربائب.

(ومن لم يعرفها) بأنها ابنتي وأنا أبوها ومن صلبي وليست بالربية، فأنا أعرفه بها: (هي فاطمة بنت محمد) (صلى الله عليه وآله).

إذن:

من كان يظن أنها ربيبة فهو خاطئ، إنما هي فاطمة بنت محمد، وإلّا لا معنى لقوله هذا صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا أنها بنت النبي ما لم يكن هناك من يعتقد بأنها ليست ابنة محمد (صلى الله عليه وآله) فأراد النبي (صلى الله عليه وآله) دفع

هذه الشبهة وهذه الظنون وإعلامهم جميعاً بأنها بنت النبي (صلى الله عليه وآله):

باء - (هي بضعة مني)

قد مرّ علينا سابقا بيان دلالة لفظ (البضعة) إلا إننا هنا نضيف بأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يريد أن يندرج في بيان منزلة فاطمة (عليها السلام) وتعريفها لدى الناس فبعد أن قدمها بكونها (ابنة محمد)(صلى الله عليه وآله)، وهي ليست بالربيبة ينتقل إلى بيان أعظم وتعريف أدق يكشف عن خصوصيتها منه؛ وحينما

نقول منه أي: من النبوة والرسالة وحرمة هذه المقامات في الشريعة.

ولذلك: لم يكتف النبي (صلى الله عليه وآله) بكونها ابنته، بل لها تلك المنزلة من كونه رسول الله ونبيه (صلى الله عليه وآله) الذي ختم به النبوة والرسالة.

وإن لها من الحرمة ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فضلاً عن خصوصية الحكم الشرعي المتمثل بالطاعة والإتباع والعصمة.

ص: 60

جيم - (هي قلبي)

يرتفع النبي (صلى الله عليه وآله) في تعريف فاطمة عليها السلام ضمن هذا السلم المعرفي فينتقل إلى منزلة هي أعظم من سابقتيها، (البنوة، والبضعة) لتكون فاطمة منه منزلة القلب.

وحينما تكون فاطمة عليها السلام في تلك المنزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهنا لابد من بيان بعض النقاط حسبما يكشفه منطوق الآيات والأحاديث حول قلب النبي (صلى الله عليه وآله).

إذ من البديهي أن خزانة أسرار الوحي هو قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك لقوله تعالى:

1-«قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ »(1).

2 «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)»«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)»«عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ »(2).

والآيتان واضحتان في الدلالة على ما يحتويه قلب النبي (صلى الله عليه وآله) من خزانة للوحي والذكر الحكيم، ولما كانت فاطمة بهذا الوصف وبهذه المنزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهذا يعني أنها ومن لحاظ تكوينها النوراني -خزانة للوحي والذكر الحكيم.

ص: 61


1- سورة البقرة، الآية ( 97 ).
2- سورة الشعراء، الآية ( 192 - 194 ).

ولذا فالنبي (صلى الله عليه وآله) حينما جاء بها إلى الناس ليعرفها لهم لم يكن ليتخطى تعريف القرآن في بيانه قلبُ النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الناس -كما في الآيتين- ولو كان المراد القلب المادي لما احتاج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى

إخراجها إلى الناس ومخاطبتهم ليكشف لهم الشأنية والمنزلة التي لها عند الله تعالى ولاكتفى (صلى الله عليه وآله) بما لها من المعرفة النسبية والاجتماعية حالها في ذاك حال رقية وأم كلثوم وزينب، فقد اكتفى (صلى الله عليه وآله) بما رسخ في أذهان

الناس من معرفة لهن، ولم يحتج إلى كل هذا البيان والتأكيد والتحذير والتعريف الذي انتهجه النبي (صلى الله عليه وآله) مع فاطمة عليها السلام لولا تلك المنزلة والشأنية التي جعلها الله تعالى فيها فاراد النبي (صلى الله عليه وآله) حفظ حرمتها

ومعرفة قدرها كي لا يقع أحد من المسلمين في تعديه لهذه الحدود الإلهية.

دال - (وهي روحي)

هذه المنزلة التي أظهرها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ضمن الحديث الذي أوردناه في مقدمة المبحث والتي جاءت بالعطف على (القلب) فقد أخرجها الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده (عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، قال: إن

رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السلام) فلما راه بكى، ثم قال:

«إليّ يا بني .»

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين (عليه السلام)، فلما رآه بكى، ثم قال:

«إليّ يا بني .»

ص: 62

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى، ثم قبلت فاطمة (عليها السلام)، فلما رآها بكى، ثم قال:

«إلي يا بنيّة .»

فأجلسها بين يديه، ثم أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما رآه بكى، ثم قال: «إليّ يا أخي .»

فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن، فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى واحداً من هؤلاء إلا بكيت، أو ما فيهم من تسر برؤيته!

فقال (صلى الله عليه وآله): «والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، إ نّی وإياهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب إليّ منهم.

أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي، وبعد مماتي، محبه محبي، ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي حتى إنه ليزال عن مقعدي، وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان الذي

أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

ص: 63

وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي... »(1).

لا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يريد أن يمتدح ابنته ويرطب مسامعها بكلمات اللطف والحنان والحب فيصفها بأنها قلبه وروحه (صلى الله عليه وآله) فلو أراد هذا المعنى وقصد هذه الدلالة لكان ذلك ضمن نطاق الأسرة وداخل البيت حاله في ذاك حال بقية الآباء حينما يتناغمون في كلماتهم الرقيقة مع بناتهم وأبنائهم دون الحاجة إلى أسماع الناس؛ بل لعل أسماع الأبناء هذه الكلمات خارج المنزل لا يحقق ما يريده الأب من إظهار الحب لهذا الابن أو البنت.

ولذلك: كان المراد من هذه الكلمات هو الناس وليس فاطمة وهو خلاف ما عليه النظام الأسري والأبوي في مختلف المجتمعات إذ حينما يقدم الأب على المدح والثناء وإظهار حبه لأبنائه وبناته فهو يقبل على الشخص المعني فيسمعه هذه الكلمات لكي يعزز أواصر المحبة والبر ويدفعه إلى التقوى في بر الوالدين.

لكن الحالة هنا مختلفة جذريا إذ أن المخاطب في هذه الألفاظ الناس وليس فاطمة، أي: أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعرف الناس بمنزلة فاطمة لديه وشأنها عنده وحينما كان يريد فهو لا يقصد المعنى المادي المختزن في لفظ (القلب والروح) فهذه المعرفة تكون سطحية، بل لا يتحقق الهدف من هذا الخطاب والبيان وحيث أن النبي (صلى الله عليه وآله) حكيماً ومأموراً في كشف الضلال عن الأمة وبيان الحدود الشرعية، كان القصد من هذه الكلمات هو المعنى الشرعي والروحي، والمناقبي، بمعنى: أنها قلب النبوة وروحها؛ وأن التعرض لها هو تعرض لقلب النبوة وروح الرسالة.

ص: 64


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 175 ؛ الاعتقادات في دين الإمامية: ص 106 ؛ الفضائل لابن شاذان: ص 83 .

وحيث أن روح كل شيء يكون به حياته وقوامه وديمومته كذاك كانت فاطمة فهي روح النبوة ومن خلالها كان دوام الشريعة وذلك من خلال كونها أم الأئمة وأم الأوصياء لرسول رب العالمين أولهم الإمام الحسن وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وعليه:

أردف النبي (صلى الله عليه وآله) هذه الكلمات وهذا البيان والتعريف بالغاية المنشودة منه وهي حفظ حرمتها وعدم التعدي لهذا الخط الأحمر الذي يترتب عليه هلاك أقوام ونجاة أخرى.

ولذا: يختم قوله وبيانه (صلى الله عليه وآله) فيقول:

«فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله .»

وعليه:

فمن آذى الله، عليه لعنة الله وأنبياءه ورسله وملائكته والناس أجمعين عدد ما خلق الله ومبلغ علمه.

المسألة الثانية: إنّ صلتها في الصلاة عليها تكون صلة لأبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

اشارة

إنَّ تعدد الالفاظ الواردة عن علماء الطائفة (اعلى الله مقامهم) كما مرَّ ذكره في الصلاة عليها وعلى أبيها (صلى الله عليه وآله) في تقديمه (عليه السلام) للصلاة على رسول الله ثم يردفها بالصلاة على فاطمة؛ أو في تقديمه للصلاة عليها ثم على رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ أو في جمعها معاً في صلاة واحدة.

ص: 65

كل ذلك يكشف عن أنّ صلتها حينما يخصها المصلي عليها بالصلاة؛ إنما يكون قد حض رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهده الصلاة، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى، فأن معنى الصلاة من الصلة، وأن الصلة برسول الله (صلى الله عليه وآله) التي يُسأل عنها المسلمون هي فاطمة (عليها السلام).

فمن وصلها فقد وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن من قطع رسول الله فقد جفى الله تعالى، ومصيره في الآخرة الخزي والعذاب الأليم.

ولذا:

فقد لزم من ذلك أن يكون المسلم زائراً لها، ومصلياً ومسلماً عليها، يهدي من الصلاة تنفلاً ما شاء، ومن الطواف عنها ما استطاع؛ كما دلت عليه النصوص وكشفته الالفاظ في فضل الصلاة عليها مع الصلاة على أبيها، كما فعل امير المؤمنين

(عليه السلام) فكانت هذه الصلة على النحو الآتي:

أولاً: الصلاة عليها والطواف عنها

تظافرت النصوص في بيان استحباب وفضل الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) لاسيما في وجوبها في الفرائض والنوافل من الصلوات اليومية، فمن هذه الأحاديث ما كانت تبين للناس كيفية الصلاة على (النبي صلى الله عليه وآله)، ومنها ما كانت تظهر من هم الذين أخصهم الله تعالى بهذه الصلاة مع النبي (صلى

الله عليه وآله وسلم)، وهل ينفرد النبي بها؟

فقد أخرج البخاري وغيره (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدى لك هدية سمعتها من النبي -صلى الله عليه وآله- فقلت بلى، فأهدها لي، فقال سألنا رسول الله -صلى الله عليه وآله- فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم، قال:

ص: 66

«قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد »(1).

فضلاً عن ذلك فقد تظافرت النصوص في تحديد آل البيت ومن هم حينما نزلت آية التطهير وقيام النبي (صلى الله عليه وآله) بتجليلهم بالكساء وقوله: هؤلاء أهل بيتي، كما مرّ بيانه سابقاً؛ناهيك عن قيام النبي (صلى الله عليه وآله) بتوجيه

المسلمين إلى أهمية وضرورة أن لا يصلوا عليه الصلاة البتراء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا تصلوا علي الصلاة البتراء .»

قالوا: يا رسول الله، وما الصلاة البتراء؟ قال:

«لا تقولوا: اللهم صل على محمد وتمسكوا، بل قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد»(2).

فتكون الصلاة على فاطمة من الواجبات في الصلاة المفروضة لأنها من آل محمد فضلاً عن استحباب الصلاة عليها في مختلف الأوقات والأماكن لاسيما الأوقات والأماكن المشرفة والمخصوصة بالذكر والدعاء كمكة والمدينة والمشاهد المقدسة للأئمة المعصومين.

أما كيفية الصلاة عليها وآثارها الغيبية، فيمكن معرفته من خلال النصوص الآتية:

ص: 67


1- صحيح البخاري: ج 12 ، ص 39 ، ح 3370 ؛ صحيح مسلم: ج 1، ص 305 ، ح 66 ( 406 ).
2- كشف الغمة للشعراني: ج 1، ص 219 ، ط المطبعة الميمنية بمصر.
ثانياً: كيفية الصلاة عليها

روى الشيخ الطوسي، والسيد ابن طاووس، والشيخ الكفعمي، كيفية الصلاة على فاطمة (عليها السلام) فقالوا:

1- الصلاة على السيدة فاطمة (عليها السلام):

«اللهم صل على الصديقة فاطمة الزكية، حبيبة حبيبك، ونبيك، أم أحبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها واخترتها على نساء العالمين، اللهم كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها وكن الثائر، اللهم بدم أولادها، اللهم وكما جعلتها أم أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء الكريمة عند الملأ الأعلى فصل عليها وعلى أمها خديجة الكبرى صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد (صلى الله عليه وآله) وتقر بها أعين ذريتها وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام »(1).

2-روى السيد ابن طاووس صلاة أخرى، وهي:

«اللهم صل على محمد المصطفى وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن الرضا، الحسين المصفى، وجميع الأوصياء مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة والثقى، والحبل المتين والصراط المستقيم »(2).

3-روى الشيخ الكفعمي صلاة أخرى، وهي:

«اللهم صل على فاطمة الطيبة الطاهرة المطهرة، التي انتجبتها وطهرتها وفضلتها على نساء العالمين، وجعلت منها أئمة الهدى، الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، والسلام عليها ورحمة الله وبركاته »(3).

ص: 68


1- المصباح للشيخ الطوسي: ص 401 ؛ جمال الأسبوع لابن طاووس: ص 486 ؛ البلد الأمين للكفعمي: ص 303 .
2- جمال الأسبوع: ص 504 .
3- البلد الأمين: ص 296 .

4-وروى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي فيما يصلي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل يوم من شهر رمضان إن قال:

«اللهم صل على فاطمة بنت نبيك محمد عليه وآله السلام والعن من آذى نبيك فيها »(1).

وأضاف السيد ابن طاووس والشيخ الكفعمي على هذه الصلاة واللعن لأعدائها: (ووال من والاها، وعادي من عاداها، وضاعف العذاب على من ظلمها)(2).

ثالثاً: الآثار الغيبية لفضل الصلاة عليها
اشارة

أشارت الروايات الشريفة إلى بيان الآثار التي تنتج عن الصلاة على فاطمة صلوات الله عليها إلى نوعين من الآثار الآخروية، فضلاً عما للمصلي عليها من الحسنات التي تترتب على الصلاة على محمد وآله، وهي كالآتي:

ألف - من صلى عليها كان مع النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في الجنة

روى الأربلي والمجلسي عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن فاطمة (عليها السلام) قالت:

«قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا فاطمة من صلى عليك غفر الله له وألحقه بي حيث كنت من الجنة »(3).

باء - من صلى عليها ثلاثة أيام أوجب الله له الجنة

روى الشيخ الطوسي عن يزيد بن عبد الملك، عن أبيه عن جده قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) فبدأتني بالسلام ثم قالت:

ص: 69


1- المقنعة للمفيد: ص 331 ؛ مصباح المتهجد: ص 621 .
2- إقبال الأعمال: ص 97 ؛ المصباح للكفعمي: ص 629 .
3- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 472 ؛ مستدرك الوسائل: ج 10 ، ص 211 .

«ما غدا بك .»

قلت: طلب البركة، قالت:

«أخبرني أبي وهو ذا هو أنه من سلم عليه وعلي ثلاثة أيام أوجب الله له الجنة .»

قلت لها: في حياته وحياتك؟ قالت:

«نعم، وبعد موتنا »(1).

رابعاً: الطواف عنها

وقد ورد في الكافي عن الشيخ الكليني في فضل الطواف عنها وما يلحق العامل من الأجر، ما ورد عن الإمام علي الهادي (عليه السلام) حينما دخل عليه موسى بن القاسم فقال له: (قد أردت أن أطوف عنك، وعن أبيك فقيل لي: إن الأوصياء لا يطاف عنهم، فقال لي:

«بل طف ما أمكنك فإنه جائز .»

ثم قلت له بعد ذلك: بثلاث سنين إني كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شاء الله ثم وقع في قلبي شيء فعملت به، قال:

«وما هو .»

قلت: طفت يوما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ثلاث مرات:

«صلى الله على رسول الله .»

ص: 70


1- تهذيب الأحكام للطوسي: ج 6، ص 9؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 14 ، ص 367 .

ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين، ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام) والرابع عن الحسين (عليه السلام) والخامس عن علي بن الحسين (عليه السلام) والسادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليه السلام) واليوم الثامن عن أبيك موسى (عليه السلام)، واليوم التاسع عن أبيك علي (عليه السلام)، واليوم العاشر عنك يا سيدي، وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم، فقال:

«إذن والله تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره .»

قلت: وربما طفت عن أمك فاطمة (عليها السلام)، وربما لم أطف فقال:

«استكثر من هذا فإنه أفضل ما أنت عامله إن شاء الله »)(1).

خامساً: إهداء الصلاة إليها

ذكر الشيخ الطوسي في أعمال يوم الجمعة التنفل بثمان ركعات، أربعا تهدى إلى رسول الله وأربعاً تهدى إلى فاطمة (عليها السلام)(2).

وروى السيد ابن طاووس دعاء يقرأ بعد إهدائها (عليها الصلاة والسلام) صلاة ركعتين بما تيسر من السور، فقال: ما يهديه إلى فاطمة (عليها السلام) يقول:

«اللهم إن هاتين الركعتين هدية مني إلى الطاهرة المطهرة الطيبة الزكية فاطمة بنت نبيك اللهم فتقبلها مني وأبلغها إياهما عني وأثبني عليهما أفضل أملي ورجائي فيك وفي نبيك صلوات الله عليه وآله ووصي نبيك والطيبة الطاهرة فاطمة بنت نبيك والحسن والحسين سبطي نبيك يا ولي المؤمنين يا ولي المؤمنين يا ولي المؤمنين »(3).

ص: 71


1- الكافي للكليني: ج 4، ص 314 ؛ التهذيب للطوسي: ج 5، ص 450 .
2- مصباح المتهجد: ص 322 ؛ مهج الدعوات: ص 108 .
3- جمال الأسبوع لابن طاووس: ص 17 .

المسالة الثالثة: زيارة قبرها كما فعل أمير المؤمنين (علیه السّلام)

اشارة

أهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتربية المسلم على الإيمان بالغيب وتقويم سلوكه بتنمية هذا الإيمان ورفده بكل ما بإمكانه أن يرتبط بالآخرة؛ فكان من بين أهم تلك الروافد هي زيارة قبور الأنبياء والمرسلين والأولياء وعباد الله الصالحين، فضلاً عن زيارة قبر الوالدين والأهل، فهذا التعاهد بالزيارة يشد الإنسان إلى الآخرة فضلاً عن التغلب على الغفلة التي تفرزها المظاهر الدنيوية

ومغرياتها التي تتناقض مع الآخرة وعناصر ارتباطها.

فضلاً عن أن أداء زيارة قبور الأولياء والوالدين يعد نوعا من الإقرار بالعرفان والجميل لما بذله أولئك الأولياء والأبوين من جهود في خلق حياة كريمة للإنسان، وغيرها من الفوائد الكثيرة التي تحققها زيارة القبور، كما أشارت الأحاديث الشريفة.

ولذا: نجد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يحثون على زيارة قبورهم وإن بعدت عن المؤمنين بلدانهم حرصا منهم لنيل تلك الآثار التي قرنت بزيارتهم.

قال الإمام الصادق (عليه السلام):

«إذا بعدت بأحدكم الشقة ونأت به الدار فليعل أعلى منزل له فيصلي ركعتين وليُوم بالسلام إلى قبورنا فإن ذلك يصير إلينا »(1).

ثواب زيارتها وآثارها الغيبية
اشارة

يمكن لنا الوقوف على ثواب زيارة الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) من خلال بعض النصوص الواردة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فمنها:

ص: 72


1- مستدرك الوسائل: ج 1، ص 369 .
ألف - إنّ زيارتها برٌ برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ونجاة من أهوال يوم القيامة

(روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذات يوم جالساً وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال لهم:

«كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى .»

فقال له الحسين (عليه السلام):

«أنموت موتاً أو نقتل .»

فقال:

«بل تقتل يا بني ظلما ويقتل أخوك ظلما وتشرد ذراريكم في الأرض .»

فقال الحسين (عليه السلام):

«ومن يقتلنا يا رسول الله؟ .»

قال:

«شرار الناس .»

قال:

«فهل يزورنا بعد قتلنا أحد .»

قال:

«نعم، طائفة من أمتي يريدون بزيارتكم بري وصلتي فإذا كان يوم القيامة جئتهم إلى الموقف حتى آخذ بأعضادهم فأخلصهم من أهواله وشدائده »)(1).

ص: 73


1- الخرائج والجرائح: ج 2، ص 691 ؛ الإرشاد: ج 2، ص 131 .
باء - إنّ من زارها فكأنما زار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

عن جابر بن عبد الله، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -في حديث طويل-:

«من زارني بعد وفاتي فإنما زارني في حياتي، ومن زار فاطمة (عليها السلام) فكأنما زارني، ومن زار علي بن أبي طالب فكأنما زار فاطمة، ومن زار الحسن والحسين فكأنما زار علياً، ومن زار ذريتهما كأنما زارهما »(1).

جيم - استحباب زيارتها في كل جمعة

ذكر الشهيد الأول في الدروس، والشيخ الكفعمي في البلد الأمين، استحباب زيارتها في كل جمعة، وفي المواسم المشهورة قصدا، وقصد المشاهد الشريفة في رجب(2) . وحيث إن زيارتها صلوات الله عليها مقرونة بزيارة أبيها فإن إتيان مشهد

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وموضع روضته يكون ملازما لقبرها كما مر بيانه سابقاً.

دال - كيفية زيارتها (علیها السّلام) والآداب المستحبة في إتيان الزيارة
أ- آداب زيارتها

ورد في آداب زيارتها (عليها السلام) ما رواه الحر العاملي في الوسائل عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال:

«من أراد أن يزور قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقبر أمير المؤمنين، وفاطمة والحسن والحسين وقبور الحجج (عليهم السلام) وهو في بلده، فليغتسل

ص: 74


1- بشارة المصطفى: ص 139 ؛ مستدرك الوسائل: ج 10 ، ص 182 .
2- الدروس الشرعية للشهيد الأول: ج 2، ص 24 ؛ البلد الأمين: ص 269 .

في يوم الجمعة، وليلبس ثوبين نظيفين، وليخرج إلى فلاة من الأرض، ثم يصلي أربع ركعات يقرأ فيهن ما تيسر من القرآن، فإذا تشهد وسلم فليقم مستقبل القبلة وليقل:

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك أيها النبي المرسل والوصي المرتضى، والسيدة الكبرى، والسيدة الزهراء، والسبطان المنتجبان، والأولاد والأعلام والأمناء المستخزنون، جئت انقطاعا إليكم وإلى آبائكم وولدكم الخلف على بركة الحق، فقلبي لكم سلم ونصرتي لكم معدة، حتى يحكم الله بدينه، فمعكم معكم لا مع عدوكّم، إني لمن القائلين بفضلكم مقدر برجعتكم، لا أنكر لله قدرة ولا أزعم إلا ما شاء الله سبحان الله ذي الملك والملكوت يسبح الله بأسمائه جميع خلقه والسلام على أرواحكم وأجسادكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .»

قال وفي رواية أخرى افعل ذلك على سطح دارك)(1).

ب- النصوص الواردة في كيفية زيارتها (علیها السّلام)

وردت مجموعة من النصوص الشريفة في كيفية زيارتها (عليها السلام) وهي كالآتي:

1-روي أن قبرها (عليها السلام) عند أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا أردت زيارتها فقف بالروضة وقل:

«السلام عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والسلام على ابنتك الصديقة الطاهرة، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يا سيدة

ص: 75


1- وسائل الشيعة: ج 14 ، ص 579 ؛ جمال الأسبوع: ص 231 .

نساء العالمين، أيتها البتول الشهيدة الطاهرة، لعن الله مانعك إرثك، ودافعك عن حقك، والراد عليك قولك، لعن الله أشياعهم وأتباعهم، وألحقهم بدرك الجحيم، صلى الله عليك وعلى أبيك وبعلك وولدك الأئمة الراشدين وعليهم السلام ورحمة الله وبركاته »(1).

2-تقول في زيارة فاطمة (عليها السلام):

(«السلام عليك يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت نبي الله، السلام عليك يا بنت حبيب الله، السلام عليك يا بنت خليل الله، السلام عليك يا بنت أمين الله، السلام عليك يا بنت خير خلق الله، السلام عليك أيتها المغصوبة المظلومة، السلام عليك أيتها المحدثة العليمة، أشهد الله ورسوله وملائكته أني راض عمن رضيت عنه، ساخط على من سخطت عليه، متبرئ ممن تبرأت منه، موال لمن واليت، معاد لمن عاديت، مبغض لمن أبغضت، محب لمن أحببت، وكفى بالله شهيدا وحسيبا وجازيا ومثيبا .»

ثم تصلي على النبي وعلى الأئمة عليهم السلام)(2).

3-قيل: ثم زر فاطمة (عليها السلام) من عند الروضة، واختلف في موضع قبرها، فقال قوم: هي مدفونة في الروضة، وقال آخرون: في بيتها، وقال فرقة ثالثة: هي مدفونة بالبقيع، والذي عليه أكثر أصحابنا أن زيارتها من عند الروضة، ومن زارها في هذه الثلاث المواضع كان أفضل، وإذا وقف عليها للزيارة فليقل:

«يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة، وزعمنا أن لك أولياء ومصدقون وصابرون، لكل ما أتانا به أبوك (صلى الله عليه وآله)،

ص: 76


1- كتاب المزار للمفيد: ص 179 .
2- المصباح للكفعمي: ص 475 .

وأتى به وصيه فإنا نسألك إن كنا صدقناك إلا ألحقتنا بتصديقنا لهما لنبشر أنفسنا بأنا قد طهرنا بولايتك »(1).

وقد ذكر الشيخ الطوسي رحمه الله إن هذه الزيارة مروية عن فاطمة (صلوات الله عليها)(2).

4-وأورد الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه من لا يحضره الفقيه كيفية زيارتها في دخول الزائر للروضة النبوية المقدسة مع الآداب الخاصة بهذه الزيارة فقال: (اختلفت الروايات في موضع قبر فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام) فمنهم من روى أنها دفنت في البقيع ومنهم من روى أناها دفنت بين القبر والمنبر، وأن

النبي (صلى الله عليه وآله) إنما قال: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة .»

لأن قبرها بين القبر والمنبر، ومنهم من روى أنها دفنت في بيتها فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد وهذا هو الصحيح عندي، وإني لما حججت بيت الله الحرام كان رجوعي على المدينة بتوفيق الله تعالى ذكره، فلما فرغت من زيارة رسول

الله (صلى الله عليه وآله) قصدت إلى بيت فاطمة (عليها السلام) وهو من عند الأسطوانة التي تدخل إليها من باب جبرئيل عليه السلام إلى مؤخر الحظيرة التي فيها النبي (صلى الله عليه وآله) فقمت عند الحظيرة ويساري إليها وجعلت ظهري إلى القبلة واستقبلتها بوجهي وأنا على غسل وقلت:

«السلام عليك يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت نبي الله، السلام عليك يا بنت حبيب الله، السلام عليك يا بنت خليل الله، السلام عليك يا بنت صفي الله،

ص: 77


1- مصباح المتهجد: ص 711 ؛ وسائل الشيعة: ج 14 ، ص 367 ؛ التهذيب للطوسي: ج 6، ص 9.
2- المصدر السابق.

السلام عليك يا بنت أمين الله، السلام عليك يا بنت خير خلق الله، السلام عليك يا بنت أفضل أنبياء الله ورسله وملائكته، السلام عليك يا ابنة خير البرية، السلام عليك يا سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، السلام عليك يا زوجة ولي الله وخير الخلق بعد رسول الله، السلام عليك يا أم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة، السلام عليك أيتها الرضية المرضية، السلام عليك أيتها الفاضلة الزكية، السلام عليك أيتها الحورية الإنسية، السلام عليك أيتها التقية النقية، السلام عليك أيتها المحدثة العليمة، السلام عليك أيتها

المظلومة المغصوبة، السلام عليك أيتها المضطهدة المقهورة، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وعلى روحك وبدنك، أشهد أنك مضيت على بينة من ربك وأن من سرك فقد سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن جفاك فقد جفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن آذاك فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن وصلك فقد وصل رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن قطعك فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنك بضعة منه وروحه التي بين جنبيه، كما قال عليه أفضل سلام الله وصلواته اشهد

الله ورسله وملائكته أني راض عمن رضيت عنه، ساخط على من سخطت عليه، متبرئ ممن تبرأت منه، موال لمن واليت، معاد لمن عاديت، مبغض لمن بغضت، محب لم أحببت، وكفى بالله شهيدا وحسيبا وجازيا ومثيبا.

ثم قلت:

(اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله خاتم النبيين وخير الخلائق أجمعين، وصل على وصيه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وإمام المسلمين وخير الوصيين، وصل على فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين، وصل على سيدي

شباب أهل الجنة الحسن والحسين، وصل على زين العابدين علي بن الحسين، وصل على محمد بن علي باقر علم النبيين، وصل على الصادق عن الله جعفر ابن

ص: 78

محمد، وصل على كاظم الغيظ في الله موسى بن جعفر، وصل على الرضا علي بن موسى، وصل على التقي محمد بن علي، وصل على النقي علي بن محمد، وصل على الزكي الحسن بن علي، وصل على الحجة القائم ابن الحسن بن علي، اللهم أحي بن العدل، وأمت به الجور، وزين بطول بقائه الأرض، وأظهر به دينك وسنة نبيك حتى لا يستخفى بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق واجعلنا من أعوانه وأشياعه والمقبولين في زمرة أوليائه يا رب العالمين، اللهم صل على محمد وأهل بيته الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتم تطهيرا ))(1).

5-ذكر السيد ابن طاووس رحمه الله زيارة أخرى لها تقرأ في الروضة النبوية المطهرة، فقال: تقول:

«السلام عليك يا بنت (يا ابنة) رسول الله، السلام عليك يا بنت (يا ابنة) نبي الله، السلام عليك يا بنت (يا ابنة) حبيب الله، السلام عليك يا بنت (يا ابنة) خليل الله، السلام عليك يا بنت (يا ابنة) أمين الله، السلام عليك يا بنت (يا ابنة) خير خلق الله، السلام عليك يا بنت (يا ابنة) أفضل أنبياء الله.

السلام عليك يا بنت خير البرية، السلام عليك يا سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين. السلام عليك يا زوجة ولي الله وخير خلقه بعد رسول الله، السلام عليك يا أم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، السلام عليك يا أم المؤمنين، السلام عليك يا أيتها الصديقة الشهيدة، السلام عليك أيتها الرضية المرضية.

السلام عليك أيتها الصادقة الرشيدة، السلام عليك أيتها الفاضلة الزكية، السلام عليك أيتها الحوراء الإنسية، السلام عليك أيتها التقية النقية، السلام عليك أيتها المحدثة العليمة، السلام عليك أيتها المعصومة المظلومة.

ص: 79


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 2، ص 572 573 .

السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة، السلام عليك أيتها المضطهدة المغصوبة، السلام عليك أيتها الغراء الزهراء، السلام عليك يا فاطمة بنت محمد رسول الله ورحمة الله وبركاته. صلى الله عليك يا مولاتي وابنة مولاي وعلي روحك وبدنك. اشهد انك

مضيت على بينة من ربك، وان من سرك فقد سر رسول الله، ومن جفاك فقد جفا رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن آذاك فقد آذى رسول الله، ومن وصلك فقد وصل رسول الله، ومن قطعك فقد قطع رسول الله، لأنك بضعة منه وروحه التي بين جنبيه، كما قال عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.

اشهد الله وملائكته اني راض عمن رضيت عنه وساخط على من سخطت عليه، ولي لمن والاك، عدو لمن عاداك وحرب لمن حاربك، انا يا مولاتي بك وبأبيك وبعلك والأئمة من ولدك موقن وبولايتهم مؤمن وبطاعتهم ملتزم، اشهد ان الدين دين دينهم، والحكم حكمهم، وانهم قد بلغوا عن الله عز وجل ودعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لا تأخذهم في الله لومة لائم، وصلوات الله عليك وعلى أبيك وبعلك وذريتك الأئمة الطاهرين.

اللهم صل على محمد وأهل بيته، وصل على البتول الطاهرة، الصديقة المعصومة، التقية النقية، الرضية (المرضية)، الزكية الرشيدة، المظلومة المقهورة، المغصوبة حقها، الممنوعة ارثها، المكسور ضلعها، المظلوم بعلها، المقتول ولدها، فاطمة بنت

رسول الله، وبضعة لحمه وصميم قلبه، وفلذة كبده، والنخبة منك له، والتحفة خصصت بها وصية وحبيبه المصطفى وقرينه المرتضى، وسيدة النساء ومبشرة الأولياء، حليفة الورع والزهد، وتفاحة الفردوس والخلد، التي شرفت مولدها بنساء الجنة، وسللت منها أنوار الأئمة، وأرخيت دونها حجاب النبوة.

ص: 80

اللهم صل عليها صلاة تزيد في محلها عندك وشرفها لديك ومنزلتها من رضاك، وبلغها منا تحية وسلاما، وآتنا من لدنك في حبها فضا وإحساناً ورحمة وغفرانا، إنك ذو الفضل الكريم»)(1).

6-وروى الشيخ الطوسي لها زيارة أخرى فقال: (تقف على أحد الموضعين اللذين ذكرناهما وتقول:

«السلام عليك يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت نبي الله، السلام عليك يا بنت حبيب الله، السلام عليك يا بنت خليل الله، السلام عليك يا بنت صفي الله، السلام عليك يا بنت أمين الله، السلام عليك يا بنت خير خلق الله، السلام عليك يا بنت أفضل أنبياء الله ورسله وملائكته، السلام عليك يا بنت خير البرية، السلام عليك يا سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، السلام عليك يا زوجة ولي الله وخير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، السلام عليك يا أم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة، السلام عليك أيتها الرضية المرضية، السلام عليك أيتها الفاضلة الزكية، السلام عليك أيتها الحوراء الإنسية، السلام عليك أيتها التقية النقية، السلام عليك أيتها المحدثة العليمة، السلام عليك أيتها المظلومة المغصوبة، السلام عليك أيتها المضطهدة المقهورة، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله ورحمة الله وبركاته.

صلى الله عليك وعلى روحك وبدنك، أشهد أنك مضيت على بينة من ربك وأن سرك فقد سر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن جفاك فقد جفا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن آذاك فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن وصلك فقد صول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من قطعك فقد قطع رسول

ص: 81


1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس: ص 164 - 165 .

الله (صلى الله عليه وآله)، لأنك بضعة منه وروحه التي بين جنبيه كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم)، أشهد الله ورسله وملائكته أني راض عمن رضيت عنه، وساخط على من سخطت عليه ومتبرئ ممن تبرأت منه، موال لمن واليت، معاد لمن عاديت، بغضن لمن أبغضت، محب لمن أحببت، وكفى بالله شهيدا وحسيبا وجازيا ومثيبا .»

ثم تصلي على النبي والأئمة (عليهم السلام) إن شاء الله )(1).

المسألة الرابعة: القصدية في بدء الخطاب بالصلاة على النبي وعلى فاطمة (عليهما الصلاة والسلام) واختتامه بالصلاة عليهما معاً

اشارة

يختتم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلاة عليه وعلى فاطمة كما بدأه بالصلاة والسلام وهذا يرشد الى قصدية محددة في تحريك مشاعر المتلقي حول أمور جمعها هذا اللفظ، فكانت كالآتي:

أولاً: جمع مشاعر المتلقي حول القضية الأساس وهي حرمة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) التي أنتهكت

إن المحور الاساس الذي دارت حوله مقاصد الالفاظ هو حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي لم تصنها الصحابة بعد موته (صلى الله عليه وآله).

وان هذه الحرمة ممثلة بأمرين، وهما:

1- حرمة الحكم الشرعي والامتثال له والعمل به، وهو مالم يقع منهم.. وقد بين النص الشريف في مواضعه ومعاني مفرداته الظاهرة والخفية وتجلي القصدية فيه: بأنهم لم يمتثلوا لهذا الحكم، والذي تعلق بأمر الخلافة والموالاة والتمسك بالثقل

ص: 82


1- التهذيب للشيخ الطوسي: ج 6، ص 10 ؛ البلد الأمين للكفعمي: ص 278 .

الاصغر عترته اهل بيته (عليهم السلام)، فكل هذه الأحكام الشرعية وغيرها ضرب بها الصحابة عرض الجدار.

2-حرمة عترته أهل بيته(عليهم السلام) ممثلاً ذلك ببضعته فاطمة (عليها السلام) وولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقد تجرئ الشيخان ومن شايعهما على العترة النبوية -بما مرَّ بيانه ودراسته في مباحث الكتاب- ومن ثم لم يخرجه (عليه السلام) بما نزل به من المصائب والابتلاء والحزن والألم عن وحدة

السياق وتكامل النص وتماسكه ورصانة نسقه الفكري والعقدي والحجاجي.

ثانياً: إنّ المستهدف الاول في هذه الحرب هو رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إنّ القصدية التي ابتغاها منتج النص (عليه السلام) حينما ابتدأ خطابه بالسلام والصلاة على رسول الله وفاطمة (عليهما الصلاة والسلام) واستداركه للصلاة والسلام وتضمينها للنص في وسطه، ثم اختتامه للنص بها؛ يراد به جمع ذهن المتلقي وفكره حول قطب هذا التظلم وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس علي أو فاطمة (عليهما السلام)؛ وذلك أن المنافقين الذين وصفهم القرآن للنبي (صلى الله عليه وآله) بقوله تعالى:

«لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ »(1) وقوله:

«هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ »(2).

ص: 83


1- سورة التوبة، الآية ( 48 ).
2- سورة المنافقون، الآية ( 4).

لم يكونوا في هدنة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته، وانما كانوا يحذرون الافتضاح والكشف عما في نفوسهم من الكفر والبغض والحقد على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، ولذا:

قال الله تعالى في بيانه لهذا الواقع:

«يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ »(1).

أمّا وقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانقطع الوحي، وزال ما كانوا منه يحذرون، تجاهروا في حرب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ ولأنهم يدركون أن فاطمة (عليها السلام) هي (بضعته، وروحه، وقلبه) فقد سارعوا الى ترويعها وضربها وإسقاط جنينها، وحرق دارها، وهضم حقها، ومنع إرثها أمام المسلمين

جميعاً جهاراً لا يخشون في ذلك لومة لائم فانتقموا من ابي القاسم (صلى الله عليه وآله) بما أفصح عنه النص الشريف؛ وما خفي كان أعظم.

ثالثاً: تقديم أنموذجين من الاعتقاد بالله ورسوله عن اهل القرن الاول

يقدم لنا النص الشريف مقاربة لقصدية منتج النص (عليه السلام) في انقسام الامة الى فئتين، الاولى آمنت بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) حق الايمان فصانت حرمته وابتغت وجه الله في التمسك بحلاله وحرامه وقوله وفعله وانه اشرف ما خلق الله واقربه عنده واخصهم لديه لا يجدون حرجا في التظلم بين يديه غير حائدين عن حكمه وسنته.

وهذه الفئة تجسدت في منتج النص وخاصته ومن تمسك بهديه، فلولا هذا الايمان والاعتقاد لما كان هناك داع للنطق بهذا النص وتلفظه.

ص: 84


1- سورة التوبة، الآية ( 64 ).

ومن ثم فقد قدم النص وثيقة ودليلا يكشف عن ايمان قائله وعقيدته وفكره وحبه لله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

وفئة اخرى لا تؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولا ترى لهما حرمة بل وجدت فيه مغرماً للانتقام والتعدي والجور فكان منها ما كان والذي اخبر عنها النص الشريف.

وبه يتضح: إنَّ أهل خير القرون هم من آمن بالله وبرسوله وصان حرمتهما وتمسك بهديهما، وتحمل من اجلهما القتل والضرب والحرق، فصبروا وثبتوا وفوضوا أمرهم الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وهو خير الحاكمين.

فعلي وفاطمة وولديهما هم أهل خير القرون حقاً.

رابعاَ: إنّ الصلاة على النبي وفاطمة تقطع الطريق على القائلين بالفصل بين النبي والآل في الصلاة

إنّ من الخصائص التي تفرد بها النص الشريف هو كاشفيتة التأثيرية للمستقبل وهذا ما يجعله في قمة المقبولية والتفاعلية، بل والعلاجية لكثير من المسائل الفكرية والعقدية.

وذلك أنّ منتج النص (عليه السلام) قد ضمن المفردات ما أستترت المتلقي عليه في الحوادث المستقبلية، والحكمة فيه أنه (عليه السلام) كان يأتي بالأصول والقواعد التي تصلح لكثير من المعضلات وتفسيرها، والمشكلات وحلها.

ومنها: ما ذهب إليه أبناء العامة وفقهائهم بفصل الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) عن الآل في غير الفريضة اليومية.

ص: 85

بل ذهب الوهابية الى تحريم السلام على العترة، وبعلّة أن السلام يكون محصوراً بالأنبياء والملائكة، فبتروا الآل من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله).

في حين نجد أن النص الشريف يمتثل الى ما أمر الله تعالى به، وهو المودّة للقربى وادخالهم بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، ولذا:

ابتدأ الامام علي (عليه السلام) بالصلاة على النبي وفاطمة واختتم بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) ومن ثم فإن القصدية في الآل هي فاطمة (عليها السلام).

خامساً: إنّ الصلاة على فاطمة تدفع المسلم عن ظلم العترة في انتهاك حقها

لم يكن النص الشريف ليخلوا من توجيه المتلقي الى قصدية قبول الأعمال وشروط تحقق هذه المقبولية، لاسيما وأنه بين يدي الله يرفع شكواه وتظلمه، ويستشهد رسوله الاكرم (صلى الله عليه وآله) على ما جرى عليه وعلى فاطمة (عليهما السلام)

ويتعزى به.

ومن ثم فهذا التظلم والشكوى من شرائط رفعها الى الله تعالى هي الصلاة على النبي وآله؛ وقد تضافرت النصوص في بيان فضل الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وآثارها في الدنيا والآخرة، وهذا الشرط جاء في الروايات الشريفة، ومنها:

1-روى الشيخ الكليني عن الامام الصادق (عليه السلام)، أنه قال:

« لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد »(1) .

ص: 86


1- الكافي كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهل بيته (عليهم السلام) ج 2 ص 491 .

2-وعنه أيضاً، عن الإمام الصادق (عليه السلام):

«أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال يا رسول الله إنی: أجعل لك ثلث صلواتي، ا، بل أجعل لك نصف صلواتي، لا، بل أجعلها كلها لك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

إذا تكفى مؤونة الدنيا وا آخرة »(1).

3-وقد سأل أبو بصير (رحمه الله) الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى: (أجعل صلواتي كلها لك)، فقال (عليه السلام):

«يقدمه بين يدي كل حاجة، فلا يسأل الله عز وجل شيئاً حتى يبدأ بالنبي (صلى الله عليه وآله) فيصلي عليه ثم يسأل الله حوائجه »(2).

4-روي أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

« لا تجعلو ني كقدح الراكب، فإن الراكب يملا قدحه فيشربه إذا شاء، أجعلو ني في أول الدعاء وفي آخره وفي وسطه»(3).

5-روى الكليني أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

«من صلى علي صلى الله عليه وملائكته ومن شاء فليقل ومن شاء فليكثر »(4).

ص: 87


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

6-وروى أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

«الصلاة علي وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق »(1).

7- وروى ايضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

«سمع أبي (عليه السلام) رجلاً متعلقاً بالبيت وهو يقول:

اللهم صلِ على محمد، فقال له أبي:

يا عبد الله لا تبترها، لا تظلمنا حقنا، قل:

اللهم صل على محمد واهل بيت محمد »(2).

ونكتفي بهذا القدر من الروايات الشريفة حول بيان فضل الصلاة على النبي وأهل بيته في أول الحاجة الى الله تعالى، وفي وسطها، وفي آخرها، كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ وكما وجاء في النص الشريف، فقد ابتدأ تظلمه وشكواه الى

رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول الخطاب وفي وسطه وفي اخره فكان حريصاً على الاستجابة، وقضاء حوائجه، ونزول النصر، والصبر عليه، ولدفع ظلم حق العترة (عليهم السلام) في ذكره وجمعه الصلاة على النبي وفاطمة (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين).

ص: 88


1- الكافي كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهل بيته (عليهم السلام) ج 2 ص 492 .
2- الكافي كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهل بيته (عليهم السلام) ج 2 ص 495 .

وبه نختم الفصل الأول؛ فلله الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وبضعته المظلومة المدفونة سراً، والمهضوم حقها قهراً، والممنوع إرثها جهراً،وعلى عليٍّ أمير المؤمنين والأئمة أجمعين.

«اللهم صلِ على محمد وآل محمد »

ص: 89

ص: 90

الفصل الثاني: مقبولية النص لدى المتلقي عنددفنه فاطمة(علیها السّلام)

اشارة

ص: 91

ص: 92

نتناول في هذا المبحث بيان التفاعل الذي احدثه النص الشريف في نفس المتلقي وموقفه مما سمع أو قرئ.

وذلك من خلال ايراد ثلاث شخصيات تلقت النص وتفاعلت معه، فعكست هذه التفاعلات الجوانب العقدية والإجتماعية والنفسية مما قدم أنموذجاً قل ما يتواجد في الدراسات التداولية لاسيما وأن الفاصل الزمني بين منتج النص ومتلقيه تجاوز الألف والأربعمائة سنة.

ولذا:

سنورد هذه الصور للمقبولية بحسب التسلسل الزمني كما سيأتي في المباحث القادمة.

ص: 93

ص: 94

المبحث الأول: مقبولية النص عند ابن أبي الحديد المعتزلي

اشارة

ص: 95

ص: 96

مقبولية النص عند ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)

اشارة

مقبولية النص عند ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)(1)

تمثل الحركة الفكرية التي مرَّ بها ابن أبي الحديد المعتزلي في حياته من التشيع الى الإعتزال الجاحظي ثم الاعتدال طبيعة تفاعله مع النصوص في شرحه لنهج البلاغة، فنجده يميل مرة الى ظلامة أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 97


1- هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي الحديد المدائني، أحد جهابذة العلماء، وأثبات المؤرخين، ممن نجم في العصر العباسي الثاني، أزهى العصور الاسلامية إنتاجا وتأليفا، وأحفلها بالشعراء والكتاب والأدباء والمؤرخين واللغويين وأصحاب المعاجم والموسوعات. كان فقيها أصوليا، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلما جدليا نظارا، اصطنع مذهب الاعتزال، وعلى أساسه جادل وناظر، وحاج وناقش، وفى شرح النهج وكثير من كتبه آراء منثورة مما ذهب إليه، وله مع الأشعري والغزالي والرازي كتب ومواقف. وكان أديبا ناقدا، ثاقب النظر، خبيرا بمحاسن الكلام ومساوئه، وكتابه (الفلك الدائر على المثل السائر) دليل على بعد غوره، ورسوخ قدمه في نقد الشعر وفنون البيان. ثم كان أديبا متضلعا في فنون الأدب، متقنا لعلوم اللسان، عارفا بأخبار العرب، مطلعا على لغاتها، جامعا لخطبها ومنافراتها، راويا لأشعارها وأمثالها، حافظا لملحها وطرفها، قارئا مستوعبا لكل ما حوته الكتب والاسفار في زمانه. وكان وراء هذا شاعرا عذب المورد، مشرق المعنى، متصرفا مجيدا، كما كان كاتبا بديع الانشاء حسن الترسل ناصع البيان. ولد بالمدائن في غرة ذي الحجة سنة ست و ثمانين وخمسمائة، ونشأ بها، وتلقى عن شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية فيها، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها، وكان الغالب على أهل المدائن التشيع والتطرف والمغالاة، فسار في دربهم، وتقيل مذهبهم، ونظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم، وفيها غالى وتشيع، وذهب به الاسراف في كثير من أبياتها كل مذهب، يقول في أحدها: علم الغيوب إليه غير مدافع***والصبح أبيض مسفر لا يدفع وإليه في يوم المعاد حسابنا***وهو الملاذ لنا غدا والمفزع هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه***سيضر معتقدا له أو ينفع يا من له في أرض قلبي منزل***نعم المراد الرحب والمستربع وتكاد نفسي أن تذوب صبابة***خلقا وطبعا لا كمن يتطبع ورأيت دين الاعتزال وأنني***أهوى لأجلك كل من يتشيع ولقد علمت بأنه لابد من***مهديكم وليومه أتوقع تحميه من جند الاله كتائب***كاليم أقبل زاخرا يتدفع فيها لآل أبي الحديد صوارم***مشهورة ورماح خط شرع ورجال موت مقدمون كأنهم***أسد العرين الربد لا تتكعكع تلك المنى إما أغب عنها فلي***نفس تنازعني وشوق ينزع تالله لا أنسى الحسين وشلوه***تحت السنابك بالعراء موزع متلفعا حمر الثياب وفى غد***بالخضر من فردوسه يتلفع تطأ السنابك صدره وجبينه***والأرض ترجف خيفة وتضعضع والشمس ناشرة الذوائب ثاكل***والدهر مشقوق الرداء مقنع لهفي على تلك تراق في***أيدي أمية عنوة وتضيع يأبى أبو العباس أحمد إنه***خير الورى من أن يطل ويمنع فهو الولي لثارها وهو الحمول***لعبئها إذ كل عود يضلع والدهر طوع والشبيبة غصة*** والسيف غضب والفؤاد مشيع وحينما انقضت أيام صباه، وطوى رداء شبابه، خف إلى بغداد، حاضرة الخلافة، وكعبة القصاد، وعش العلماء، وكانت خزائنها بالكتب معمورة، ومجالسها بالعلم والأدب مأهولة، فقرأ الكتب واستزاد من العلم، وأوغل في البحث، ووعى المسائل، ومحص الحقائق، واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب، ثم جنح إلى الاعتدال، وأصبح كما يقول (صاحب نسمة السحر): معتزليا جاحظيا... في أكثر شرحه للنهج - بعد أن كان شيعيا غاليا. وفي بغداد أيضا نال الحظوة عند الخلفاء من العباسيين ومدحهم، وأخذ جوائزهم، ونال عندهم سنى المراتب ورفيع المناصب، فكان كاتبا في دار التشريفات، ثم في الديوان، ثم ناظرا للبيمارستان، وأخيرا فوض إليه أمر خزائن الكتب في بغداد، وفى كل هذا كان مرموق الجانب، عزيز المحل،كريم المنزلة إلى أن مات. وكان مع اشتغاله بالمناصب، ومعاناته للتأليف، شاعرا مجيدا، ذكره صاحب (نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر)، وكان له ديوان، ذكر ابن شاكر أنه كان معروفا مشهورا. وقد جال بشعره في شتى المعاني ومختلف الأغراض، فقال في المدح والرثاء، والحكم والوصف والغزل، إلا أن الغرض الذي غلب عليه واشتهر به هو المناجاة والمخاطبة على مسلك أرباب الطريقة، أورد في النهج كثير منه فمن ذلك قوله: فلا والله ما وصل ابن سينا***ولا أغنى ذكاء أبى الحسين ولا رجعا بشيء بعد بحث***وتدقيق سوى خفى حنين لقد طوفت أطلبكم ولكن***يحول الوقت بينكم وبيني فهل بعد انقضاء الوقت أحظى***بوصلكم غدا وتقر عيني منى عشنا بها زمنا وكانت***تسوفنا بصدق أو بمين فان أكذب فذاك ضياع ديني ***وان أجذب فذاك حلول ديني وقوله: وحقك إن أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه وأفنيت عمري في علوم دقيقة*** وما بغيتي إلا رضاه وقربه هبوني مسيئا أوتغ الجهل قلبه ***وأوبقه بين البرية ذنبه أما يقتضى شرع التكرم عتقه*** أيحسن أن ينسى هواه وحبه ! أما كان ينوى الحق فيما يقوله ***ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه ***وإلحاده إذ حل في الدين خطبه أما قلتم من كان فينا مجاهدا ***سنكرم مثواه ونعذب شربه فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا ***وقد أحرقت رزق الشياطين شهبه فان تصفحوا نغنم وإن تتجرموا ***فتعذيبكم حلوا المذاقة عذبه وآية صدق الصب يعذب الأذى*** إذا كان من يهوى عليه يصبه ونحو هذا من الشعر في شرح النهج كثير. ومن طريف ما أورد له صاحب نسمة السحر قوله: لولا ثلاث لم أخف صرعتي*** ليست كما قال فتى العبد أن أنصر التوحيد والعدل في*** كل مكان باذلا جهدي وأن أناجي الله مستمتعا ***بخلوة أحلى من الشهد وأن أتيه الدهر كبرا على ***كل لئيم أصعر الخد كذاك لا أهوى فتاه ولا ***خمرا ولاذا ميعة نهد وقد اضطرب المؤرخون في تاريخ وفاته، فذكر بعضهم أنه توفى في سنة 655 ، ذهب إلى ذلك ابن شاكر في كتابيه: فوات الوفيات وعيون التواريخ، وكذلك ابن كثير، والعيني، وابن حبيب الحلبي في كتابه درة الأسلاك. ونقل صاحب كتاب (نسمة السحر) عن الديار بكري أنه توفى قبل الدخول التتار بغداد بنحو سبعة عشر يوما، وكان دخولهم إليها في العشرين من المحرم سنة 656 ، على ما ذكره المؤرخون، وقال الذهبي في سير النبلاء: (انه توفى في الخامس من جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وستمائة). وذكر ابن الفوطي في كتاب مجمع الألقاب أنه أدرك سقوط بغداد، وأنه كان ممن خلص من القتل في دار الوزير مؤيد الدين العلقمي مع أخيه موفق الدين، كما ذكر أيضا في كتابه الحوادث الجامعة، في وفيات سنة 656 : (توفى فيها الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادى الآخرة ببغداد... والقاضي موفق الدين أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني في جمادى الآخرة، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد بقوله: أأبا المعالي هل سمعت تأوهي*** فلقد عهدتك في الحياة سميعا عيني بكتك ولو تطيق جوانحي*** وجوارحي أجرت عليك نجيعا أنفا غضبت على الزمان فلم تطع*** حبلا لأسباب الوفاء قطوعا ووفيت للمولى الوزير فلم تعش*** من بعده شهرا ولا أسبوعا وبقيت بعد كما فلو كان الردى ***بيدي لفارقنا الحياة جميعا فعاش عز الدين بعد أخيه أربعة عشر يوما(. وله من المصنفات: 1- الاعتبار، على كتاب الذريعة في أصول الشريعة، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات. 2-انتقاد المستصفى للغزالي، ذكره ابن الفوطي. 3- الحواشي على كتاب المفضل في النحو، ذكره ابن الفوطي 4-شرح المحصل للإمام فخر الدين الرازي، وهو يجرى مجرى النقص له، ذكره ابن الفوطي. 5- شرح مشكلات الغرر لأبي الحسين البصري في أصول الكلام، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات. 6-ديوان شعره، ذكره ابن شاكر الكتبي. 7-شرح نهج البلاغة. 8- شرح الياقوت لابن نوبخت في الكلام، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات. 9- العبقري الحسان، ذكره صاحب الجنات، وقال: وهو كتاب غريب الوضع قد اختار فيه قطعة وافرة من الكلام والتواريخ والاشعار وأودعه شيئا من إنشائه وترسلاته ومنظوماته. 10-الفلك الدائر على الملك السائر، ألفه برسم الخليفة المستنصر، بدأ في تأليفه في أول ذي الحجة سنة 633 ، وفرغ منه في خمسة عشر يوما. 11- القصائد السبع العلويات، ذكر ابن الفوطي أنه نظمها في صباه وهو بالمدائن سنة 611 . 12- المستنصريات، كتبها برسم الخليفة المستنصر، ومنه نسخة بمكتبة السماوي بالنجف. 13- نظم فصيح ثعلب، ذكره ابن شاكر وصاحب الظنون. 14- نقض المحصول في علم الأصول للإمام فخر الدين الرازي، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات وصاحب كشف الظنون. 15- الوشاح الذهبي في العلم الأبي، ذكره ابن الفوطي. ((ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 1 ص 13 - 19 ؛ مقدمة المحقق)).

ص: 98

ص: 99

ص: 100

ص: 101

ومرة أخرى الى مخالفيهم فيشكك فيما ينقل من روايات حول ظلامة الزهراء (عليها السلام) -كما سيمر بيانه- أو يلتمس العذر للشيخين والصحابة، أو يبرء الشيخين ويجرم الصحابة؛ إلا أننا في محصلة آرائه وتفاعله مع النص وجدناه متأثرا في الإجمال مع ظلامة الزهراء (عليها السلام) وإن كانت له محاولات يائسة في درء الجرم عن أصحابه الحقيقيون، ولعله في ذلك أتبع سياسة الحصول على نسبة أكبر لشرحه على النهج، أو لعله يحاول أن ينقاد الى عقيدة الإعتزال.

وعليه:

كانت مقبولية النص عنده كما جاء في شرحه لنهج البلاغة -الذي سنورده- ثم نتناول دراسته ومناقشته متفاوتة ضمن الإقرار بفضل سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) وفضل علي (عليه السلام) الى الإلتفات الى قصدية اللفظ في كشف الجناة الحقيقيون الذين تسببوا في قتل فاطمة ودفنها سرا وهضم حقها قهرا ومنع إرثها

جهرا الى التغافل عن النص في الخلافة والإمامة، ثم الدفاع الغير مباشر عن أبي بكر وعمر والقاء اللائمة على جميع الصحابة في إبعاد علي (عليه السلام)عن المشورة في الخلافة، وقد بدأ هذا التفاعل مع النص منعكساً على مستوى هذه المقبولية عند ابن

أبي الحديد كما جاء ذلك في شرح النص، قائلاً:

(أما قول الرضي (رحمه الله):

(عند دفن سيدة النساء) فلأنّه قد تواتر الخبر عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «فاطمة سيدة نساء العالمين .»

ص: 102

أما هذا اللفظ بعينه، أو لفظ يؤدي هذا المعنى؛ وروي أنه قال وقد رآها تبكي عند موته:

«ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة .»

وروي أنه قال: «سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران .»

وقوله (عليه السلام): «وسريعة اللحاق بك »

جاء في الحديث، أنه رآها تبكي عند موته، فأسر إليها:

«أنت أسرع أهلي لحوقا بي »، فضحكت.

قوله:

(عن صفيتك) أجله (صلى الله عليه وآله) عن أن يقول:

(عن ابنتك)، فقال:

(صفيتك)، وهذا من لطيف عبارته، ومحاسن كنايته، يقول (عليه السلام): ضعف جلدي وصبري عن فراقها، لكني أتأسى بفراقي لك فأقول:

«كل عظيم بعد فراقك جلل، وكل خطب بعد موتك يسير .»

ص: 103

ثم ذكر حاله معه وقت انتقاله صلوات الله عليه إلى جوار ربه، فقال: «لقد وسدتك في ملحودة قبرك »، أي في الجهة المشقوقة من قبرك، واللحد: الشق في جانب القبر، وجاء بضم اللّام في لغة غير مشهورة.

قال: «وفاضت بين نحري وصدري نفسك »، يروى أنه (صلى الله عليه وآله) قذف دما يسيرا وقت موته، ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال، وكانت فيها نفسه (صلى الله عليه وآله).

وذهب قوم إلى أن مرضه إنما كان الحمى والسرسام الحار، وأن أهل داره ظنوا أن به ذات الجنب، فلدوه وهو مغمى عليه، وكانت العرب تداوى باللدود(1) من به ذات الجنب، فلما أفاق علم أنهم قد لدوه، فقال: (لم يكن الله ليسلطها على، لدوا كل من في الدار) فجعل بعضهم يلد بعضا.

وأحتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب بما روى من انتصابه وتعذر الاضطجاع والنوم عليه قال سلمان الفارسي:

دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه، فقال لي: يا سلمان، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلى! فقلت: يا رسول الله، ألا أسهر الليلة معك بدله؟ فقال: لا هو أحق بذلك منك.

وزعم آخرون أن مرضه كان أثرا لأكلة السم التي أكلها (عليه السلام)، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وآله): (ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان

ص: 104


1- في اللسان عن الفراء: (اللد أن يؤخذ بلسان الصبي فيمد إلى أحد شقيه، ويوجر في الاخر الدواء، في الصدف بين اللسان وبين الشدق، وفى الحديث أنه لد في مرضه.

قطعت أبهري)(1).

ومن لم يذهب إلى ذات الجنب، فأولوا قول علي (عليه السلام): (وفاضت بين نحري وصدري نفسك)، فقالوا:

أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت ولا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها ولابد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته.

ويقول قوم: إنها الروح، وعبر علي (عليه السلام) عنها بالنفس، لما كانت العرب لا ترى بين الروح والنفس فرقا.

واعلم أن الاخبار مختلفة في هذا المعنى، فقد روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت:

(توفى رسول الله صلى الله عليه وآله بين سحري(2) ونحري).

وروى كثير منهم اللفظ عن علي (عليه السلام)، أنه قال عن نفسه وقال في رواية أخرى:

(ففاضت نفسه في يدي، فأمررتها على وجهي).

والله أعلم بحقيقة هذه الحال، ولا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا، بأن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقت الوفاة مستندا إلى علي وعائشة جميعا، فقد وقع الاتفاق على أنه مات وهو حاضر لموته، وهو الذي كان يقلبه بعد موته، وهو الذي كان يعلله ليالي مرضه، فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته وابن عمه ومثل هذا لا

ص: 105


1- لأبهر: عرق إذا انقطع مات صاحبه، وهما أبهران يخرجان من القلب، ثم يتشعب منهما سائر الشرايين.
2- السحر هنا: الرئة.

يبعد وقوعه في زماننا هذا، فكيف في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه والرجال مختلطين لا يستتر البعض عن البعض!

فإن قلت: فكيف تعمل بآية الحجاب، وما صح من استتار أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الناس بعد نزولها؟.

قلت: قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازما للرسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام مرضه في بيت عائشة، وهذا لا ينكره أحد، فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه (صلى الله عليه وآله) كان علي (عليه السلام) ملازمه، وذلك يكون بأحد الامرين:

أما بأن نساءه لا يستترن من العباس وعلى لكونهما أهل الرجل وجزء منه، أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن، ويخالطن الرجال فلا يرون وجوههن، وما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته، بل كان نساؤه كلهن في البيت، وكانت ابنته فاطمة عند رأسه (صلى الله عليه وآله).

فأما حديث مرضه صلوات الله عليه ووفاته، فقد ذكرناه فيما تقدم.

قوله: (إنا لله) إلى آخره، أي عبيده، كما تقول: هذا الشيء لزيد، أي يملكه.

ثم عقب الاعتراف بالملكية بالإقرار بالرجعة والبعث، وهذه الكلمة تقال عند المصيبة، كما أدب الله تعالى خلقه وعباده.

والوديعة والرهينة، عبارة عن فاطمة، ومن هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بن طلحة بن المتوكل: (وقد وصلت الوديعة سالمة، والله المحمود، وكيف يوصى الناظر بنوره، أم كيف يحض القلب على حفظ سروره)!

ص: 106

وأخذ الصابي هذه اللفظة أيضا، فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه، إلى عدة الدولة أبى تغلب بن حمدان، وقد نقل إليه ابنته: (قد وجهت الوديعة يا سيدي، وإنما تقلب من وطن إلى سكن، ومن مغرس إلى مغرس، ومن مأوى بر وانعطاف، إلى مثوى كرامة وإلطاف).

فأما الرهينة فهي المرتهنة، يقال للمذكر: هذا رهين عندي على كذا، وللأنثى: هذه رهينة عندي على كذا، كأنها (عليها السلام) كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما تكون الرهينة عوضا عن الامر الذي أخذت رهينة عليه.

ثم ذكر (عليه السلام) أن حزنه دائم، وأنه يسهر ليله ولا ينام إلى أن يلتحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ويجاوره في الدار الآخرة، وهذا من باب المبالغة كما يبالغ الخطباء والكتاب والشعراء في المعاني، لأنه (عليه السلام) ما سهر منذ ماتت فاطمة ودام سهره إلى أن قتل (عليه السلام)، وإنما سهر ليلة أو شهرا أو سنة، ثم استمر مريره، وارعوى وسنة، فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة، هكذا وردت الرواية عنه.

قوله (عليه السلام): (وستنبئك ابنتك) أي ستعلمك.

فأحفها السؤال، أي استقص في مسألتها، واستخبرها الحال، أحفيت إحفاء في السؤال: استقصيت، وكذلك في الحجاج والمنازعة قال الحارث بن حلزة:

إن إخواننا الأراقم يغلون*** علينا في قيلهم إحفاء)(1).

ورجل حفى، أي: مستقص في السؤال.

ص: 107


1- المعلقات بشرح التبريزي 245 ، يغلون، أي يرتفعون؛ والإحفاء: الاستقصاء.

واستخبرها الحال، أي عن الحال، فحذف الجار، كقولك: اخترت الرجال زيدا، أي من الرجال، أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الامر دون مشاورتنا، ولا يدل هذا على وجود النص، لأنه يجوز أن تكون الشكوى والتألم من اطراحهم وترك إدخالهم في المشاورة، فإن ذلك مما تكرهه النفوس وتتألم منه، وهجا الشاعر قوماً ،فقال:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم*** و لا يستأذنون وهم شهود(1).

قوله: (هذا ولم يطل العهد، ولم يخلق الذكر) أي لم ينس.

فإن قلت: فما هذا الامر الذي لم ينس ولم يخلق، إن لم يكن هناك نص؟

قلت: قوله (صلى الله عليه وآله): (إني مخلف فيكم الثقلين)، وقوله: (اللهم أدر الحق معه حيث دار)، وأمثال ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الاسلام، فهو (عليه السلام) كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر ويستشار، ويقع الوفاق بينه وبينهم، على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه، إما له أو لأبي بكر، أو لغيرهما، ولم يكن ليليق أن يبرم الامر وهو غير حاضر له، مع جلالته في الاسلام، وعظيم أثره، وما ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله، فهذا هو الذي كان ينقم (عليه السلام)، ومنه

كان يتألم ويطيل الشكوى، وكان ذلك في موضعه.

وما أنكر إلا منكرا؛ فأما النص فإنه لم يذكره (عليه السلام)، ولا احتج به، ولما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم، وحضر عندهم فبايعهم، وزال ما كان في نفسه.

ص: 108


1- الجرير، من قصيدة له في ديوانه 160 - 166 ، يهجو فيها التيم، قبيل عمر بن لجأ؛ وشهود، أي حاضرين.

فإن قلت: فهل كان يسوغ لأبي بكر، وقد رأى وثوب الأنصار على الامر أن يؤخره إلى أن يخرج (عليه السلام) ويحضر المشورة؟.

قلت: إنه لم يلم أبا بكر بعينه، وإنما تألم من استبداد الصحابة بالأمر دون حضوره ومشاورته، ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفا إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد، والتغلب)(1).

المسألة الاولى: مناقشة قول ابن أبي الحديد لبيان مستوى مقبولية النص لديه
اشارة

للوقوف على هذا التفاعل مع النص الشريف نورد أقوال ابن أبي الحديد بحسب ردوده على النص وشرحه له.

أولاً: مقبولية المعتزلي لقوله (علیه السّلام)« وفاضت بين نحري وصدري نفسك . »

جاء في شرحه لقول الإمام علي (عليه السلام):

«وفاضت بين نحري وصدري نفسك »، نسبة متواضعة من المقبولية مع محاولة تشتيت ذهن القارئ حينما خرجت من فمه كلمة: (يروى أنه (صلى الله عليه وآله) قذف دماً يسيراً وقت موته)(2) وذلك أن حادثة اللُّد التي أخرجها البخاري(3) وغيره هي عملية سم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتله ثم اُشِيِع بين الحاضرين أنه يعاني من ذات الجنب.

وإلا في الوضع الطبيعي مع تطور البحث العلمي وتأثيرات السموم أن الإنسان إذا أُصيب بذات الجنب(4) لا يؤدي ذلك الى خروج الدم من المعدة كما روى المعتزلي

ص: 109


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 10 ص 266 - 271 .
2- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 226 .
3- صحيح البخاري: باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله): ج 5 ص 143 .
4- ذات الجنب: ويراد به )الزائدة الدودية)

أنه (صلى الله عليه وآله) قد نفث الدم من فمه، فهذا لا يحدث إلا بسبب تمزق الاوعية الدموية في جدار المعدة وحدوث نزف داخلي ويؤدي الى الوفاة سريعاً .

ولذلك فإن أبي الحديد مع ما لديه من سعة في الاطلاع على التاريخ الاسلامي والعربي والروائي لا يكون قد غفل عن هذه الحقيقة لكنه ذكر منها اشارة، فمن شاء أن يفهم فليفهم ومن شاء أن يعرف فعليه تقديم الإجابة يوم القيامة.

لكن ابن أبي الحديد عاد فشتت ذهن القارئ فيما خرج منه من دلالة على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن الإمام علي (عليه السلام) ربما كان قد تقصد من ذلك تعرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى هذه الجريمة حاله في ذاك حال

أبنته وبضعته فاطمة (عليها السلام).

ثانياً: محاولته اليائسة في الجمع بين حديث الإمام علي (علیه السّلام) وحديث عائشة في وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

حاول الجمع بين حديث أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحديث عائشة في ادعائها بأنه (صلى الله عليه وآله) (مات بين صدرها ونحرها) زاعما صدق الخبرين وامكانية أن يكون رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الوقت قد كان على صدر علي (عليه السلام) وصدر عائشة.

فكانت محاولة يائسة لا تصمد أمام الواقع والشرع ولا يمكن حدوثها إلا في خيال المعتزلي وحده، وقد رددنا على هذا الإدعاء بشكل أكثر سعة وبياناً في كتاب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وموضع قبره وروضته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه.

ص: 110

ثالثاً: تفاعله مع قوله (علیه السّلام) «لقد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة . »

فقد أورد من الشواهد ما يكشف عن شهرة تسميتها (عليها السلام) ووصفها وبالوديعة، كقول ابن ثوابة الكاتب، قوله عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما حمت من مصر إلى المعتضد أحمد بن طلحة بن المتوكل: (وقد وصلت الوديعة سالمة، والله المحمود، وكيف يوصى الناظر بنوره، أم كيف يحض القلب

على حفظ سروره):

(وأخذ الصابي هذه اللفظة -اي الوديعة- فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه الى عدة الدولة أبي تغلب بن حمدان، وقد نقل اليه ابنته:

وقد وجهت الوديعة يا سيدي، وإنما تقلب من وطن الى سكن، ومن مغرس الى مغرس، ومن مأوى بر وانعطاف الى مثوى كرامة وألطاف).

وقد أستدل المعتزلي بهذه الحادثة على بيان أن البنت هي بمنزلة الوديعة تنقل من بيت الأب الى بيت زوجها.

رابعاً: تفاعله مع لفظ «اخذت الرهينة . »

تفاعل المعتزلي مع قوله (عليه السلام) (اُخذت الرهينة) تفاعلاً وجدانياً فقد قدم بياناً يرتكز على نوع العلاقة التي كانت بين الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) وماذا يمثل وجودها أمامه ورؤيته لها، فقال:

(كأنها (عليها السلام) كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

ص: 111

خامساً: حجم تلقيه ومقبوليته لقوله (علیه السّلام)« فأما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد الى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم . »

كان تفاعله مع النص مجحفاً ومتجنياً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد قال في هذا النص:

(وهذا من باب المبالغة، كما يبالغ الخطباء والكتاّب والشعراء في المعاني، لأنه (عليه السلام) ما سهر منذ ماتت فاطمة ودام سهره الى أن قُتِلِ (عليه السلام)، وإنما سهر ليلةً أو شهراً أو سنة، ثم أستمر مريره، وأرعوى سنة، فإما الحزن فأنه لم يزل حزيناً إذا ذكرت فاطمة هكذا وردت الرواية عنه)(1).

وعجيب أن يصدر منه هذا الاجحاف بحق أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد عكف على شرح خطبه وأقواله في نهج البلاغة.

فأي مبالغة كان يتبعها أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع ما ينطق به وهو الصادق الصدوق ربيب الوحي والرسالة وعدل القرآن ولسانه الناطق.

وانىّ لعلي (عليه السلام) ومبالغة الخطباء في أوصافهم والشعراء وإغوائهم، وهل يقاس بآل محمد أحد؟!!

وكأن ابن أبي الحديد كان ملازما لعلي (عليه السلام) في ليله ونهاره وحله وترحاله لا يغفل عنه طرفه عين فلحظ عدم سهره، أو أنه (عليه السلام) سهر على فراق فاطمة ومصابها وقتل جنينها وترويع ولديها الحسن والحسين كان شهراً أو سنة كما يزعم.

ص: 112


1- المعتزلي: ج 10 ص 269 .

فضلاً عن ذلك أو كان علي (عليه السلام) يبالغ في كلامه مع الرسول (صلى الله عليه وآله) كما يفعل الخطباء بغية إثارة مشاعر الجمهور ونيل استحسانهم، أو كالشعراء بغية إتّباعهم؛ وهل يكون أمير المؤمنين عليه السلام (مبالغاً في كلامه) صادقاً أو -والعياذ بالله- غير صادق فيما يقول، وعلى من يكون غير صادق ويبالغ؟، أَعلى الله عز وجل، أم على رسوله (صلى الله عليه وآله)؟!!

وحسبي في ذلك رداً، قوله (عليه الصلاة والسلام) في مخاطبة أهل العراق وعلى من ذهب مذهبهم في تكذيبه (صلوات الله وسلامه عليه):

«أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت ومات قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها، أما والله ما أتيتكم اختيارا ولكن جئت إليكم سوقاً؛ ولقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب.

قاتلكم الله تعالى فعلى من أكذب؟! أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيه؟

فأنا أول من صدّق به.

كلا والله، ولكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها، ويلمه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء، ولتعلّمن نبأه بعد حين »(1).

سادساً: في تلقيه للفظ الشريف عند قوله(علیه السّلام) «فأحفها السؤال واستخبرها الحال » وتفاعله معه

كان تفاعله مع النص بقوله:

(أي: سلها -عليها السلام- عن ما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا؛ ولا يدل هذا على وجود نص، لأنه يجوز أن تكون الشكوى والتألم من

ص: 113


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 100 .

اطراحهم وترك ادخالهم في المشاورة، فإن ذلك مما تكرهه النفوس وتتألم منه؛ وهجا الشاعر قوما،ً فقال:

ويقضى الامر حين تغيب تيم*** ولا يستأذنوك وهم شهود)(1).

وهذا التفاعل قد كشف عن المستور الذي حاول ابن ابي الحديد مداراته على الرغم من محاولته في التمسك بعقيدة الاعتزال؛ -بعدم وجود نص- وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على قوة منتج النص (عليه الصلاة والسلام) في تحريك مشاعر المتلقي وانتزاع ما في نفسه، فكان هذا الانتزاع لقول الحق يرتكز في النقاط الاتية:

1- إقرار المتلقي بوجود استبداد عند الصحابة والمرتكز في اصحاب السقيفة لاسيما أبي بكر وعمر فهما المستفيد الأول من حدث السقيفة وان الخاسر الأكبر هم الأنصار كما سيمر بيانه.

2- بعد ان ادرك انه فتح بابا للمتلقي في قراءته لشرح نهج البلاغة في استبداد الصحابة، تراجع كعادته وحاول تضليل المتلقي فحصر الاستبداد بعدم اشتراك علي وفاطمة (صلوات الله وسلامه عليهما) في عقد الأمر والتشاور في خلافة الامة والجلوس مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله).

لكنه عاد ففتح جانباً أوسع من السابق في استبداد الصحابة فذكر أصل الظلامة والاستبداد الذي وقع فيه الصحابة وهو مخالفة النص النبوي كما سيأتي لاحقاً.

3- ألا يكفي الاقرار بكون الصحابة مستبدين كاشفا عن بطلان نظرية عدالة الصحابة وانهم أهل خير القرون مما يدفع بالمتلقي لقول المعتزلي الى إعادة النظر؛ أو على الأقل إعادة ترتيب الأفكار في الموروث الفكري والثقافي لدى المتلقي الذي يعتقد يكونهم عدولاً.

ص: 114


1- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 269 .

4-إن من اطلع على شخصية الامام علي (عليه السلام) وصبره وتحمله وحكمته وتقواه وورعه لا يتبادر الى ذهنه أن الإمام علي (عليه السلام) يطالب سيد الخلق (صلى الله عليه وآله) بالحف والاستخبار من فاطمة (عليها السلام) مع ما يحمل كل لفظ من معان ودلالات ومقاصد مر ذكرها في مباحث الكتاب فينحصر الأمر عند هذا الطلب في الحف والاستخبار عن عدم اشتراك علي (عليه السلام) في المشاورة التي جرت في السقيفة!! إنه أمر يكشف عن سذاجة التأويل لهذا النص الشريف؛أو التدليس والتضليل على المتلقي.

المسألة الثانية: تأثر النص بالمتلقي دفعه للإنقلاب على الذات فكشف المستور
اشارة

إنّ تفاعل المتلقي لقوله (عليه السلام) «هذا ولم يَطِلِ العهد ولم يخلق الذكر ،» كان تفاعلاً انقلابياً على الذات وكاشفا عن ثبات الأصل في حق الامام علي (عليه السلام) في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتجرئ الأمة على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته في ظلم علي وفاطمة والائمة من ولدهما (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) وهو ما دفع المعتزلي للقول:

(قوله: «ولم يطل العهد، ولم يخلق الذكر »، اي: لم يُنسَ!َ!

فإن قلت: فما هذا الأمر الذي لم ينُس ولم يخلق إن لم يكن هناك نص؟!

قلت: قوله (صلى الله عليه وآله):

«إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين »، وقوله:

«اللهم أدر الحق معه حيث دار .»

وأمثال ذلك في النصوص الدالة على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الاسلام؛ فهو (عليه السلام) كان يريد أن يؤخر عقد البيعة الى إن يحضر ويستشار ويقع الوفاق بينه وبينهم، على أن يكون العقد الواحد من المسلمين بموجبه؛ إما له أو لأبي بكر، أو لغيرهما.

ص: 115

ولم يكن ليليق أن يُبرم الأمر وهو غير حاضر له، مع جلالته في الاسلام، وعظيم أثره، وما ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع الى قوله وفعله، فهذا الذي كان ينقم (عليه السلام)، ومنه كان يتألم ويطيل الشكوى، وكان ذلك في موضعه وما أنكر إلا منكراً.

فأما النص فإنه لم يذكره (عليه السلام) ولا احتج به، ولما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم، وحضر عندهم فبايعهم وزال ما كان في نفسه).

ثم يمضي متلقي النص -أي ابن ابي الحديد- في تفاعله مع هذا الشطر من قوله (عليه السلام): «هذا ولم يطل العهد ولم يخلق الذكر » فيعود الى موقف ابي بكر وهل كان الاستبداد منه أم من الأنصار؟ نؤجل الحديث فيه لنتوقف فيما مضى من مقبوليته، فنقول:

أولاً: محاولة المعتزلي الممازجة بين حق علي (علیه السّلام) في الخلافة وتصحيح بيعة أبي بكر

يحاول ابن أبي الحديد التمسك بعقيدة الاعتزال والممازجة بين حق علي (عليه السلام) الواضح كوضوح الشمس في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخلافة الشرعية التي هي خلاف مفهوم ومصداق الخلافة السلطوية المرتكزة على

الامارة والسلطان والملك وبين الخضوع لبيعة أبي بكر وعمر وإضفاء الشريعة عليها بلحاظ انها تمت بموافقة أهل الحل والعقد، فيحاول أن يمنع المحاججة معه ليقينه بأن مقتضيات الإمام علي (عليه السلام) وقصديته في «ولم يطل العهد ولم يخلق الذكر » وما تفرضه لغة العرب من دلالة ظاهرية وباطنية تلزمه بأن هناك نص تجاهله أصحاب السقيفة وهو لم ينُس لدى المسلمين، لكنه ينقلب على ذاته وهو الأديب البصير بالعربية وفنونها فيصد اللفظ عن مقصده الحقيقي من النص في حق الخلافة الى النص في العموم والمطلق في العترة جميعاً كحديث الثقلين وغيرها من النصوص.

ص: 116

ثانياً: أستتاره من التصريح بحق علي (علیه السّلام) والتجائه الى النصوص النبوية في تعظيمه وتبجيله

إنّ هذه النصوص الدالة (على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الاسلام) هي وإن كانت تصلح للاحتجاج على الآخرين في وصولهم الى الخلافة بنفس الآلية والأسلوب كقول عمر بن الخطاب من له هذه الثلاث ثاني اثنين إذ هما في الغار،

من هما؟، إذ يقول لصاحبه، من صاحبه؟ إن الله معنا، مع من؟!، ومن ثم فأنى لهذه الثلاثة التيمية والموضوعة بالدليل والتحقيق(1) .

أن ترجح على تلك النصوص التي ذكرها المتلقي بقوله:

(الدالة على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الاسلام) بمعنى:

أن كان ابو بكر نال الخلافة بهذه الثلاثة التي ذكرها عمر بن الخطاب فلعلي العشرات من النصوص والمواقف الثابتة والصريحة والصحيحة التي تمكنه من الاستحقاق بالخلافة وقطع الطريق على المستولين.

ومن ثم فإن إلواء عنق النص لحيده واخراجه عن مقصوده في وجود النص فعلا وحقا هو من الاستبداد الذي أنكر وقوعه ابن ابي الحديد من الصحابة، واذا به يسلكه في تلقيه وتفاعله مع قوله (عليه السلام): «هذا ولم يطل العهد ولم يخلق الذكر .»

ص: 117


1- لمزيد من الاطلاع على هذه الحقيقة المزيفة في اختصاص ابي بكر بآية الغار، ينظر كتاب: استنطاق آية الغار واشكالية التنصيص الحديثي بين التثنية والتثليث.
ثالثاً: مناقشة قول ابن أبي الحديد (أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر ويستشار ويقع الوفاق بينه وبينهم)

فأقول:

إن هذه فرضية ظنية لا دليل على تحقيقها، فهي لا تصمد أمام الواقع ولا تغني عن الحق شيئاً، فمن أين علم ابن أبي الحديد أن الإمام علي )عليه السلام( كان يريد هذا فقط، أي أن يحضر ويستشار؟

ومن قال إنه سيقع الوفاق بينهم، ومتى كان علي (عليه السلام) يداهن أو يماطل بالحق، والحق يدور معه حيث ما دار؛ وكأن ابن ابي الحديد قد نسي أنه يتحدث عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أو غلبة عليه الصدمة فيما جرى على فاطمة (عليها السلام) من الصحابة فكانت سببا لأن ينطق منتج النص (عليه السلام) بهذه المفردات، فانقلب ابن أبي الحديد على ذاته في التفلتّ من دلالة اللفظ.

رابعاً: أمّا قول المتلقي (على ان يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه، إما له أو لأبي بكر، أو لغيرهما) :
اشارة

فهل سيتبعون قوله (عليه السلام) وهم بالأمس القريب قد عَصَوا من هو أفضل منه و أوجب في الطاعة، وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما أمرهم بالخروج مع جيش اُسامة، وحينما أمرهم أن يأتوه بالدواة والقرطاس، فكيف يطيعونه حتى لو كان حاضراً.

والسؤال المطروح: من أعطاهم الحق في ترك جثمان النبي (صلى الله عليه وآله) والإنصراف الى سقيفة بني ساعدة، ولماذا يحضرها أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ويتخلف عنها رموز المهاجرين من البدريين والشجريين، ألا يدل ذلك على أن الأمر كان مبيتاً ومخطط له، فلماذا يستبق الأنصار المهاجرين للاجتماع في السقيفة؟!

ص: 118

وجوابه نجده عند البخاري فقد روى في صحيحه عن عمر بن الخطاب قوله: «وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة... »(1).

هذا السبق في الاجتماع يستوقف الباحث ويطرح العديد من الأسئلة، وهي:

1-لماذا يبادر الأنصار إلى هذا الاجتماع.

2- أو كأنهم أرادوا بذلك قطع الطريق على المهاجرين في الحصول على الإمارة؟!.

3-أو لعلهم علموا ومن خلال بعض العيون؛ بأن بعض المهاجرين ربما قد عزموا على نفس الأمر فاستبقوهم إليها؟!.

4- أو ربما هي الأحداث المروعة التي وقعت في أيام مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل بعض الرموز، فكانت مدعاةً ومحفزاً للسبق من الأنصار في اجتماع السقيفة؟!

5- أو لعله التخطيط المسبق بين بعض الرموز ومن كلا الطرفين لقطع الطريق على بني هاشم ورمزهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟!

ترى أي الاحتمالات أرجح وفي أي منها تكمن الحقيقة؟!

والواقع كلها راجحة، فكل واحد من هذه الاحتمالات مرجح في كونه سبباً دفع بالأنصار للاجتماع في السقيفة.

ولا سيما أن جميع هذه الاحتمالات قد دلت عليها الأحداث وأكدتها المصادر.

وإليك أيها القارئ الكريم بيانها:

ص: 119


1- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت: ج 8 ص 126 أفست دار الفكر.
الاحتمال الأول: إنّ الأنصار أرادوا قطع الطريق على المهاجرين

هذا الاحتمال دل عليه قول عمر بن الخطاب، في الخطبة التي ألقاها في المدينة بعد رجوعه من الحج؛ وقد بلغه: أن قوماً من أهل مكة قد تحدثوا في شأن السقيفة، وأن بعضاً منهم وصف بيعة أبي بكر بأنها فلتة فتمت؟!

فقال: «فلا يغرن إمرء أن يقول، أن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت.. وإنها كانت كذلك!!.. إلا أن الله قد وقى شرها(1)!!.. ودفع عن الإسلام والمسلمين ضّرها!!..

وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له، هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.... الخ .»

ثم يمضي في حديثه عن السقيفة، وكيف كانت مجريات الحديث فيها، إلى أن يقول: «وإذا هم -أي: الأنصار- يريدون أن يجتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر .»

إذن:

أراد الأنصار قطع الطريق على المهاجرين واجتيازهم من الأصل، وليغصبوهم الإمارة. والملُفت للإنتباه: أن عمر بن الخطاب جاء بلفظ: «الغصب » ليدل على أن الأنصار أرادوا أخذ حق ثابت له!! أو فقل للمهاجرين.. أو لمن كان على مذهبه ومعتقده.

الاحتمال الثاني: وجود عيون لكلا الطرفين مما سرع في الاجتماع في السقيفة

وهذا الاحتمال دلّت عليه بعض الروايات التي تحدثت بشكل أوسع عن مجريات السقيفة، وبخاصة لبعض رموز المهاجرين.

ص: 120


1- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا: ج 8 ص 26 أفست دار الفكر، السيرة لابن هشام: ج 6 ص 80 ط دار الجيل بيروت مسند احمد بن حنبل: من حديث السقيفة ج 1 ص 55 المصنف لابن ابي شيبة: ج 7 ص 615 .

منها:

1- ما تحدث بشكل صريح عن مجيء اثنين إلى أبي بكر وعمر يخبرانهما باجتماع الأنصار في السقيفة، وهما: (معن بن عدي وعويم بن ساعدة)(1) وكانا من الأنصار(2) ، ثم يسدل عليهما الستار؟!

إذ سرعان ما تم تصفيتهما من قبل التاريخ! فقد قتلا كلاهما في اليمامة في خلافة أبي بكر(3).

2-ويبدو.. أن الأمر لم يقتصر عليهما، إذ من الروايات ما تحدث عن وجود عين أخرى لهذه الفئة من المهاجرين، وهو: (أسيد بن حضير) فقد نقل الخبر إلى أبي بكر خاصة، محدثاً إياه بهذا الوصف الذي سنعود لتحليله وبيان مراميه.

فقال لأبي بكر: «إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة!! فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم الأمر!! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته لم يفرغ أمره؟!! وقد أغلق دونه الباب أهله !؟»

ولكن:

هذه العين التي بالغت في إخلاصها لهذه الفئة لم يغلق عليها الستار كما حدث لعويم بن ساعدة ومعن بن عدي؛ وإنما كان لها الدور المميز في الهجوم على دار بضعة رسول الله فاطمة (عليها السلام) وريحانتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم(4).

ص: 121


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 2 ص 7، العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: ج 4 ص 257 -258 ط دار الكتاب العربي.
2- الثقات للبستي: ج 2 ص 159 ط دار الفكر.
3- السيرة النبوية لابن هشام: ج 6 ص 82 ط دار الجيل بيروت.
4- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 12 ، سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 2 ص 245 - 246 المطبعة السلفية، الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 2 ص، العقد الفريد: ج 4 ص 259 .
الاحتمال الثالث: إن الاحداث التي وقعت في ايام مرض النبي هي التي كانت وراء استباق الانصار للاجتماع في السقيفة
اشارة

وهذه الأحداث المروّعة التي وقعت في أيام مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل بعض الرموز؛ هي التي كانت مدعاة ومحفزا لهذا السبق من الأنصار في اجتماع السقيفة.

وهذه الأحداث.. دلت عليها النصوص الصحيحة في كثير من المصادر الإسلامية ولا سيما ورود بعضها في صحيح البخاري وغيره؛ وسنعرض لها في مواضعها المناسبة ونتوقف عندها ونعرضها على طاولة البحث والتحليل.

ولكن نشير لها هنا إشارة:

الحدث الاول: وكان قبل وفاة النبي بثلاثة عشر يوما

فأول هذه الأحداث المروعة: كان قبل وفاة رسول الله بثلاثة عشر يوما وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخالفة الكثير منهم لأمره بالخروج مع أسامة بن زيد! مما دعا به صلى الله عليه وآله وسلم الى الخروج إليهم فحضهم على السير، وعقد صلى الله عليه وآله وسلم اللواء، لأسامة بيده الشريفة تحريكاً لحميتهم(1).

الحدث الثاني: وكان قبل وفاة رسول الله بأربعة أيام !

رزية يوم الخميس!! حدثت هذه المصيبة العظيمة قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأربعة أيام؛ وقد حضر عنده بعض الصحابة وهو بأبي وأمي في فراش المرض.

ص: 122


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 2 ص 12 ، سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 2 ص 245 - 246 المطبعة السلفية، الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 2 ص، العقد الفريد: ج 4 ص 259 .

فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فرد أحد الحاضرين على طلبه: «إن رسول الله يهجر»(1) !؟ فطردهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حضرته قائلاً :«قوموا عني »(2).

وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يذكرها ويبكي حتى تبل دموعه الحصى(3).

ولذا لم يرَ حدث أعظم من أن يوصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجر!! والوحي لم ينقطع بعد!!

وعليه:

كيف لا يكون ذلك مدعاة للاجتماع في السقيفة.. فتسير إليها الأنصار سراعاً؟ً!

الحدث الثالث: وكان قبل وفاته (صلى الله عليه وآله ) بيومين

بعد أن سمع النبي الأعظم من بعض الحاضرين هذه الكلمة وهو في فراش المرض! وفي الساعات الأخيرة له معهم؛ عزم على تعجيل خروجهم والتحاقهم ببعث أسامة.

ولذلك صدرت من حضرته الرحمانية علائم الغضب -نعوذ بالله ونستجير به من غضبه وغضب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)- بعد أن بلغه أن قوماً منهم طعن في تأميره أسامة عليهم، وفيهم الشيوخ، وهو صبي.

فغضب غضباً شديداً فخرج إلى المسجد وهو في شدة المرض عاصباً رأسه، مدثراً بقطيفته، وألقى خطبة يرد بها على أولئك الذين طعنوا في فعله (صلى الله عليه وآله

ص: 123


1- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير، باب: جوائز الوفد، ج 2 ص 118 .
2- في باب قول المريض قوموا عني من كتاب المرض، ص 5 ج 4 من صحيح البخاري.
3- صحيح البخاري: كتاب الجزية، باب: إخراج اليهود: ج 4 ص 65 - 66 أفست دار الفكر.

وسلم)(1) كما سيمر بيانه لاحقا بعون الله.

الحدث الرابع: محاولة قتل رسول الله والتعجيل عليه قبل يوم واحد من وفاته

قال ابن سعد: فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله وجعه فدخل اسامة من معسكره والنبي مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه(2).

الحدث الخامس: النبي يخرج الى المسجد ليبطل صلاة أبي بكر بالناس قبل وفاته ببضع ساعات !!!

وهذه الاحداث سنتوقف عندها لاحقا لدراستها وتحليلها،إلا أنها -أي هذه الأحداث- قد تتفاوت فيما بينها في تسريع الاجتماع في سقيفة بني ساعدة لإعطاء البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج ونقيبهم قديماً وجواد الأنصار وزعيمهم حاضراً.

ولعل.. هذه الأحداث قد أعطت اليقين للأنصار أكثر من غيرها: أن المهاجرين سيقدمون على أمر مماثل.

لاسيما وقد أتُّهم النبي بالهجر.. ثم الطعن في تأميره لأسامة عليهم.. فضلاً عن اللعن للمتخلف منهم عن بعث أسامة! ومع هذا فقد تخلف البعض منهم!!

وعليه:

كيف لا يستبق الأنصار المهاجرين للاجتماع في السقيفة ومبايعة أميرهم سعد بن عبادة؟!

ولكن بقي الاحتمال الأخير في سبب تسارع الانصار في البيعة لسعد بن عبادة

ص: 124


1- نهاية الأرب للنويري: ج 17 ص 370 - 371 ، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 191 ، المغازي للواقدي: ج 3 ص 1619 ، السيرة الحلبية: ج 3 ص 307 ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1 ص 160 ط مصر.
2- الطبقات الكبرى:ج 2 ص 191 .

واستباق المهاجرين، وهو:

الاحتمال الأخير: الاتفاق بين بعض رموز الطرفين على إبعاد بني هاشم ولاسيما ورمزهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

وهذا الاحتمال قد دلت عليه بعض أقوال الطرفين يوم السقيفة وإليك ايها القارئ الكريم بيانها:

1-قول عمر بن الخطاب: «إن الأنصار خالفونا »(1)

وهذا يدفع بالقارئ إلى الاعتقاد بوجود أتفاق مسبق؛ إذ غالباً لا يكون الخلاف إلا من بعد الاتفاق.

ومما يدل عليه:

2 - قول سعد بن عبادة لأبي بكر حين سأله عن هذا الاجتماع، فرد قائلاً:«أنا رجل منكم »(2)

3- قول عمر بن الخطاب كما صرح به البخاري: «وكنت زورت كلاماً في نفسي »(3)

وهذا يدل على ان هناك أمراً مسبقاً قد تم الاتفاق عليه وأن عمر بن الخطاب قد أعدّ العدة لمثل هذه المواقف في حال أتضح تخلف الأنصار عمّاأبرم مسبقا في شأن الخلافة والانقلاب على وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 125


1- كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، ج 8 ص 26 من صحيح البخاري.
2- مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 312 ط دار القلم، العقد الفريد: ج 4 ص 257 ط دارالكتاب العربي.
3- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من الزنا إذ أحصنت، ج 8 ص 26 أفست دار الفكر.

وإلا ما معنى أن يقول عمر: وقد كنت زورت كلاما في نفسي. ليلقيه على الانصار.

4-وقوله أيضا حينما تكلم ابو بكر يوم السقيفة فعقب عليه قائلا: «فما ترك كلمة كنت زورتها في نفسي إلا تكلم بها »(1)

فضلا عن ذلك:

إن بعض المصادر قد أشارت إلى هذه الحقيقة التي صرّح بها الإمام علي (عليه السلام) أيام خلافة عثمان بن عفان رداً على كلام طلحة في شأن السقيفة؛ فقال (عليه السلام):

«يا طلحة، أما والله ما صحيفة ألقى الله بها يوم القيامة أحب إلي من صحيفة هؤلاء الخمسة الذين تعاهدوا وتعاقدوا على الوفاء بها في الكعبة في حجة الوداع، إن قتل الله محمداً أو مات، أن يتوازروا ويتظاهروا عليَّ فلا أصِل إلى الخلافة »(2).!؟.

خامساً: عودة المتلقي للانقلاب ذاته هروباً من قصدية النص

إنَّ أعجب ما تفاعل معه المتلقي هو قوله:

(ولم يكن ليليق أن يبرم الأمر وهو غير حاضر له، مع جلالته في الاسلام وعظيم أثره وما ورد في حقه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله).

فكان أصدق صورة واوضحها في انقلاب المتلقي على ذاته ويقينه بوجود النص في خلافة علي (عليه السلام) وقطعية ذلك، إلا أنه يكابر في قوله ويحاجج الإمامية في نفي النص في الخلافة، ثم يعود فيلزم نفسه بما فرضته الشريعة المقدسة من وجوب

موالاة علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ووجوب الرجوع الى قوله وفعله.

ص: 126


1- المصدر السابق.
2- كتاب سليم بن قيس: ص 80 - 81 ط مؤسسة البعثة، وقريب منه في الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 112 .

والسؤال المطروح:

إذا كان الله عز وجل قد أوجب على الأمة موالاة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والرجوع الى قوله والعمل به؛ فلماذا تعصي الأمة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وقد قال تعالى:

«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا »(1)؟!.

فإما من كان قد ذهب الى السقيفة قد عصى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ وإما أنّ الأمة قد عصت الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

سادساً: في قول المتلقي (وما أنكر إلا منكراً)ً ومناقشته

إنَّ المتلقي للنص الشريف يدرك أنه يماطل مع الحق ويحاول الخروج من عنق الزجاجة فيعاود التعريض بالصحابة كي يشتت ذهن القارئ.

فضلاً عن ذلك فإنه يحاول اضفاء معطا ثقافيا من معطيات الإعتزال المرتكز على تجنب الدخول فيما قام به أبو بكر وعمر في عقد البيعة منهما للآخر، وبين دفع علي (عليه السلام) عن حقه في الجلوس مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن بيعة أبي بكر تمت ومضت في أعناق الناس، ويلزم عدم الرجوع إليها.

ولذا:

يعاود ابن أبي الحديد التعريض بالصحابة فيقول:

(وما أنكر إلّا منكراً)ً، أي: إنّ الإمام علي (عليه السلام) الذي (كان ينقم عليه ومنه كان يتألم ويطيل الشكوى) وبحسب مزاعم المتلقي، كان بسبب إبرام أبو بكر

ص: 127


1- سورة الاحزاب، الآية ( 36 ).

وعمر والأنصار الأمر دون حضوره، وأن هذا امراً منكراً فمن حق الإمام علي (عليه السلام) أن ينكر هذا المنكر.

فأقول:

أ- فإما (أنه منكراً) فهذا أمر لا خلاف فيه، أي: إنَّ أصل أجتماعهم في سقيفة بني ساعدة كان أمراً منكراً؛ وأما كونه (عليه السلام) أنكر عليهم عدم حضوره فلم يكن هذا مقصده، فما كان الإمام علي (عليه السلام) ليأسف عن حضوره في اجتماع يعصى فيه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) جهاراً.

ب- أما تألمه وطول شكواه فلم يكن لعدم حضوره في مجالس المعصية وأنما على ضياع هذه الأمة بعد نبيها واتباعهم السامري، وتركهم هارونها فقد وقعوا في التيه وظلوا ظلالاً كبيراً ولن يخلص منهم إلا كهمل النعم كما اخبر المصطفى (صلى الله عليه وآله) واخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«بينما أنا قائمِ فإذاَ زمُرْةَ،ٌ حتىَّ إذاَ عرَفَتْهُمُ،ْ خرَجَ رجلُ منِ بيَنْيِ وبيَنْهِمِ فقال:

(هلُمَّ)

فقَلُتْ:ُ أينْ؟َ، قال: إلى الناَّر والله!!!

قُلتُ: و ما شأنُهُم؟!! ، قل:

إنَّهُمُ ارتْدَوُّا بعَدْكَ علىَ أدبْارهِمِ القهَقْرَيَ.

ثمُ إذاَ زمُرْةَ حتىَّ إذاَ عرَفَتْهُمُ،ْ خرَجَ رجلُ منِ بيَنْيِ وبيَنْهِمِ فقال: هلَمُ،َّ قلُتْ:ُ أينْ؟َ

قال: إلى الناَّر والله.

ص: 128

قلُتْ:ُ ما شأنُهُم ؟،قال:

إنَّهُم ارتْدَوُّا بعَدْكَ علىَ أدبْارهِمِ القهَقْرَيِ، فلاَ أراَه يخلْصُ منِهْمُ إلا مثِلْ هَمَلِ النَّعَم»(1).

وإنَّ هذه الزّمر التي تخرج من أمته فتساق الى النار كان سببها اجتماع السقيفة، ولهذا كان يتألم الإمام علي (عليه السلام) ومنه يطيل الشكوى لتفرّق الأمة لما تركت وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتركت الولي و أخ النبي (صلى الله عليه وآله) فتاهت وتفرقت، كما تاهت وتفرقت الأمم السابقة.

لما عزفت عن أوصياء الأنبياء (عليهم السلام) فحال هذه الامة كحال اليهود والنصارى وهي حقيقة أخَبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) واثبتها الواقع وصرخ بها حال المسلمين اليوم، فالأمر ليس بحاجة الى الإسهاب في الدليل، قال وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:

1-« تفرقت اليهود الى احدى وسبعين فرفة او اثنين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك؛ وتفرقت امتي الى ثلاث وسبعين فرقة »(2).

2- واخرج الترمذي عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذَوِ النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت اثنين وسبعين ملة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة .»

قالوا: من هي يا رسول ا لله؟

ص: 129


1- صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج 7 ص 209 .
2- سنن الترمذي: ج 5 ص 25 حديث 2640 ط دار احياء التراث العربي؛ مسند احمد: ج 2 ص 322 .

) ))

قال: «ما أنا عليه وأصحابي »(1).

واتبعه الترمذي بقوله:

(هذا الحديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).

والواقع:

انه غريب؟! وأغرب ما فيه الفقرة الاخيرة، وهي «ما انا عليه واصحابي !!!»

لأنها دخيلة على الحديث تحمل بصمات التلاعب بالحديث وتضليل المسلمين كما فعل اصحاب السقيفة الذين عاد ابن ابي الحديد اليهم في قوله:

(هل كان يسوغ لأبي بكر، وقد رأى وثوب الانصار على الامر أن يؤخره الى أن يخرج (عليه السلام) ويحضر المشورة)؟

سؤال لم يتمكن المعتزلي من الإجابة عليه فقد أطلق السؤال وفتح على نفسه العديد من الاسئلة التي سنوردها في المسألة الثالثة.

سابعاً: مناقشة المعتزلي في عدم وجود نص عند علي (علیه السّلام)

يحاول ابن ابي الحديد المعتزلي أن يزج بعقيدة الاعتزال ويفرضها في التعامل مع النص الشريف -مورد البحث- بشكل خاص ومع نهج البلاغة بشكل عام لاسيما فيما يتعلق بموضوع الإمامة والنص عليها.

فما من مورد من موارد الوصاية والخلافة والإمامة إلا وحاده ابن أبي الحديد عن طريق النص بإمامة علي (عليه السلام) على الأمة تبعاً للرؤية الإعتزالية، فيقول في احد موارد تعامله مع مسألة إمامه علي (عليه السلام):

ص: 130


1- سنن الترمذي: ج 5 ص 26 ، باب ما جاء في افتراق هذه الامة.

(إنّ الإمام يرى نفسه أحق بالأمر، ليس على أساس النص، وإنّما على أساس الأفضلية والقرابة والسابقة والجهاد وغيرها من الفضائل)(1).

وفي بيانه لقوله (صلى الله عليه وآله) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله):

«هذا ولم يطل العهد ولم یَخِلْقِ منك الذكر .»

قال المعتزلي:

(فأما النص فإنه لم يذكره (عليه السلام) ولا أحتج به، ولما طال الزمان صفح عن ذلك الإستبداد الذي وقع منهم، وحضر عندهم فبايعهم، وزال ما كان في نفسه)(2).

ونقول:

1-هذا لا يعني عدم وجود نص وأنما يكشف -هنا- تظلّمه في إجحاد الصحابة لحقه، وتظافرهم عليه وعلى البضعة النبوية، وذلك أن منتج النص (عليه السلام) لم ينطق في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أساس بيان حقه في الإمامة فالمناسبة لصدور النص هي ما جرى على البضعة النبوية وما جناه الصحابة في انتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها؛ ومن ثم ليس من اللائق أن يستغل الإمام هذه الرزية العظيمة فيتحدث عن النص في الإمامة وهو المفجوع الآن بفاطمة (عليها السلام).

فهذا ليس من شأن علي (عليه السلام) ولا هي سجيته وخلقه المحمدي أن ينتهز فرصة قتل سيدة نساء العالمين (صلوات الله عليها) وفي هذا الموضع عند دفنها

ص: 131


1- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 270 .
2- المصدر السابق.

ليستشهد في حديثه مع صاحب المصيبة العظمى، أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيتحدث عن النص على الإمامة!!.

بل على العكس لو فرضنا مجازا أنه نطق بالنص على إمامته في قيادة الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه المناسبة والفجيعة لقيل عنه أنه -والعياذ بالله- يجر النار الى قرصه ويستغل الأحداث لصالحه.

ومن ثم: فنكران المعتزلي على الإمام علي (عليه السلام) لعدم إستشهاده بالنص بالإمامة في قوله «ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر » راجع الى عدم فهمه لشخصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتعسفاً واستبداداً برأي الاعتزال في مسألة الإمامة.

2- أما لو فرضنا أن الإمام علي (عليه السلام) قد نطق بالنص على إمامته في قيادة الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن النتيجة الطبيعية لهذا القول هو تكذيبهم له وبكل بساطة.

بدليل:

أ- إن التجري على الله فيما جرى على بضعة سيد الانبياء (عليهما السلام) اعظم من جريمة تكذيب علي (عليه السلام) فيما لو نطق بالنص.

ب- إنّهم قد كذبوا من هو أعظم من علي بن أبي طالب )عليه السلام( وأُتهم بالهجر: والهذيان والتخريف -والعياذ بالله- اي: لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما طالب الصحابة قائلاً: «إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تظلوا بعده أبداً .»

فقالو: أي الصحابة:

ص: 132

(هجر رسول الله )صلى الله عليه وآله)؟!!(1)

وفي لفظ آخر أخرجة البخاري أيضاً، عن الزهري عن ابن عباس: (وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب)(2)

وامتثالهم لقول عمر بن الخطاب وعصيانهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتكذيبهم لقوله؛ فإذا كان التعامل مع سيد الخلق (صلى الله عليه وآله) بهذه الطريقة كيف سيكون التعامل مع قول علي بن ابي طالب (عليه السلام) فيما لو نطق بالنص الذي أنكره المعتزلي؛ ولهذه العلة طردهم رسول الله (صلى الله عليه

وآله) من حجرته بعد أن سبقوا قوله بالتكذيب والتشكيك.

ج- في قضية فدك لم تجد بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) من يشهد لها من الصحابة مع كثرتهم أمام أبي بكر (الخليفة) بأن فدك نحلة أبيها (صلى الله عليه وآله) منحها إياها لما نزل قوله تعالى ﴿وآَتَ ذاَ القْرُبْىَ حقَهَّ﴾ُ فقد امتنعوا من الشهادة لها سوى

أم أيمن مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فرد أبو بكر شهادتهما مدعياً أن أم أيمن امرأة وهي بحاجة الى امرأة ثانية وان علي بن ابي طالب هو زوجها فلا تصلح شهادتها لهذه العلة.

في حين أن الله تعالى قد صدقهما في القول والفعل في آية التطهير، فضلا عن انها صاحبة اليد في الأرض، وهي قاعدة أسست عليها الأحكام في الاستملاك.

وعليه:

حال علي (عليه السلام) كحال فاطمة (صلوات الله وسلامه عليهما) لا يصدقهما الخليفة واشياع الخلافة.

ص: 133


1- صحيح البخاري، باب: دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) الى الإسلام: ج 4 ص 31 .
2- المصدر السابق: ج 8 ص 161 .

د- مثلما أتهم أهل العراق الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (بأنه يكذب) مما دعاه (عليه السلام) ان يرتقي المنبر ويرد عليهم متسائلاً :

«قاتلكم الله تعالى فعلى من أكذب؟! أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيه؟ فأنا أول من صدق به »(1) .

والحال يجري مجراه مع النص فيما لو نطق به.

3- إنه (عليه الصلاة والسلام) حينما كان يريد أن يذّكرهم بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه (عليه السلام) كان يستحلفهم ويناشدهم على ما سمعوه منه (صلى الله عليه وآله).

والعلة في ذلك أنهم تعدوا حدود الله تعالى في قتل فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) واتهموا النبي الاعظم بالهجر؛ فكيف يأمنهم علي بن أبي طالب أن يقرّوا له بما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

4- ليس من المستبعد جدا انه استشهدهم واستحلفهم بصراحة النص في امامته وامامة ولده من بعده في الامة، وحق الطاعة له واتباعه، لكن الرواة قد حذفوا ذلك وابتروه مثلما حذفوا واخفوا تكسيره للأصنام ليلة مبيته على فراش النبي (صلى الله

عليه وآله)؛ واخفوا كذلك محاولة ابي بكر منع خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من داره(2).

5-إنّ العلة الحقيقية في هذا التكابر على حقيقة وجود النص في الامامة على الامة والخلافة بعد النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) التي اتبعها ابن ابي الحديد المعتزلي

ص: 134


1- نهج البلاغة: ص 100 .
2- ولمزيد من الاطلاع على هذه الحقائق ينظر كتاب: ما اخفاه الرواة من ليلة المبيت على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمؤلف.

بادعائه بعدم وجود نص عند الامام علي (عليه السلام)، هي:

الدفاع عن الصحابة ونكران انقلابهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كما صرّح به في سؤاله لشيخه ابي جعفر النقيب، قائلا له:

(إنّ نفسي لا تسامحني أن أنسب الى الصحابة عصيان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودفع النص)(1) !!!

فرد عليه ابو جعفر النقيب قائلاً:

(وأنا فلا تسامحني ايضاً نفسي أن أنسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى إهمال أمر الإمامة، وان يترك الناس فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا يؤمر عليها اميراً وهو حين ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر

على استدراك ما يحدث)(2) .

6-إنّ هذه الحقيقة جعلته يهرب أو يلجئ النص الصريح الى التأويل لغرض اثبات عقيدة الاعتزال في التفاعل مع النص فيقول عند ايراده لقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام):

«إنَّ الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم » فيرد قائلاً:

(هذا الموضع مشكل، ولي فيه نظر، وإن صح أن علياً قاله؛ قلت:

كما قال، لأنه ثبت عندي ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«إنه مع الحق، وإن الحق معه يدور حيث دار .»

ص: 135


1- شرح نهج البلاغة: ج 9 ص 248 .
2- المصدر السابق.

ويمكن ان يتأول ويطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على ان المراد به كمال الامامة كما حمل قوله (صلى الله عليه وآله) «لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد » على نفي الكمال لا على نفي الصحة)(1)

اذن:

إنَّ النص موجود لكن مقبوليته عند المعتزلة ترتكز على نكرانه للحفاظ على منزلة الصحابة ودفع العصيان والانقلاب عنهم.

بغية اثبات صحة دعوتهم في الاعتزال وان كان على حساب دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إمامة علي (عليه السلام) وخلافته على الامة.

المسألة الثالثة: تساءل المتلقي عن جواز ترك أبي بكر الأنصار في الوثوب على الخلافة دون حضور الإمام علي (علیه السّلام) قد اوقعه في كشف ما هو مستور
اشارة

إنَّ من أروع ما أحدثه منتج النص (عليه الصلاة والسلام) في أستنطاق المتلقي ورفع مستوى تفاعله الى درجات عالية من التأثير فجعله أمام خيارين:

1- أما أنه سيقر بحقيقة الواقع الذي كان سببا في اصدار النص، ومن ثم يكون منتج النص قد حقق أكبر نسبة من التفاعل مع المتلقي إذ قد تؤدي عدم المقبولية الى نتائج لا تقل أهمية عن أعلى درجات المقبولية كما سيمر بيانه في عرض مقبولية

النص عند العلامة المجلسي (عليه الرحمة والرضوان) في المبحث اللاحق.

2- وأما أنه سيراوغ ويضطرب في التعامل مع النص فيكشف ما كان مستوراً وان لم يصرّح به من الأصل منتج النص (عليه السلام) وتركيزه على أصل الحدث المسبب لهذا النص، أي ظلامة الزهراء (عليها السلام)، فقد كشف المتلقي ما لم يكن

ص: 136


1- شرح نهج البلاغة: ج 9 ص 84 - 88 .

ليبوح به؛ وذلك بفعل تأثيرات النص في أمر محدد كان بمنزلة القطب الذي دارت من حوله الرحى؛ ألّا وهو أعراض الصحابة عن النص في خلافة الإمام علي (عليه السلام)، واستغلالهم حدث وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانشغال الإمام علي (عليه السلام) به، واضطراب الصحابة لفقدهم النبي (صلى الله عليه وآله).

وهو ما جاء في تساؤل المتلقي، أي ابن أبي الحديد حول المسوغ الذي منح أبي بكر في السماح للأنصار في الوثوب على النص الذي حاول المعتزلي نكرانه مراراً واستبداداً بمعتقده الاعتزالي؛ فضلا عن الإجابة التي جاءت بالطامة الكبرى وإعمام الجرم على المهاجرين والانصار، وإخراج أبي بكر من الأمر.

وعليه:

فقد منح ابي الحديد منتج النص (عليه السلام) ما كان يريده في كشف حقيقة القوم، وما جرى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ما سنتناوله في النقاط الآتية:

أولاً:من أعطى أبي بكر الحق في منع الأنصار من الاجتماع الى سيدهم وشيخهم سعد بن عبادة؟

إنَّ ابن أبي الحديد يدرك أن المعني الاول في هذا الانقلاب الذي حدث في الامة كان أبو بكر، لاسيما وهو يطالع النصوص الواردة عن علي (عليه السلام) وتصريحه علناً بقادة هذا الإنقلاب وما فعلته الامة من بعده كما جاء في الخطبة الشقشقية؛ فضلا عن ذلك فابن أبي الحديد هو متلق جيد لاسيما وقد تهيئت لديه العديد من المصادر التاريخية والادبية، والتي جمعت في بطونها الكثير من الروايات والنصوص الكاشفة عن حقيقة ما جرى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلّا أنه -وكما أسلفنا- يحاول أن يفرض عقيدة الاعتزال فيما يكتب مما يتطلب التماس الاعذار

والتدليس والمراوغة للحقائق، كما مرَّ ويمر في تلقيه لهذا النص.

ص: 137

وعليه:

نجده يلقي بالسؤال على المتلقي لشرح نهج البلاغة منطلقاً بما ثبتت لديه من الحقائق التاريخية والحديثية لاسيما عن الإمام علي (عليه السلام) ثم يجيب عليها بطريقة يطمح من خلالها تغيير ما لا يمكن تغييره، فيبرأ ساحة هذا ويلقي باللائمة على ذاك وان كان الامر يتطلب الطعن بجميع الصحابة مما يحدث انقلاباً على الذات في عقيدة الاعتزال.

ومن ثم:

فإن اجابته على السؤال الذي طرحه قائلا:

(أفهل يسوغ لابي بكر وقد رأى وثوب الانصار على الامر أن يؤخره)؟.

لم تكن مسددة من الناحية العقلية والاجتماعية، ولا من الناحية التاريخية؛ وذلك:

1- إنّه لا يملك الحق في منعهم من الاجتماع الى سيدهم وشيخهم سعد بن عبادة، لاسيما مع وجود الحديث الشريف في منحه سعد بن عبادة لقب «سيد الانصار .»

فأبي بكر ليس لديه أي سلطان، أو جاه، أو منزلة تمكنه من منع عقد الاجتماع او المضي فيه.

فلو كان لديه هذا السلطان، أو الجاه، أو المنزلة عندهم لما احتاج للحضور اليهم من الأصل ولما حظر، هو وصاحبه عمر بن الخطاب الى تلك المحاججات في السقيفة حتى كاد أن يقع السيف بينهم.

ص: 138

وعليه:

فالرجل لا يملك الحق في منعهم من الاجتماع وليس لديه سلطان عليهم بل على العكس ان صاحب الحق الاول ومن له القرار والرأي هو من اجتمعوا اليه، اي سعد بن عبادة فقد جاءوا الى زعيمهم يتشاورون في الأمر.

ومن ثم فإن الزعامة الدينية في سعد بن عبادة متاحة بلحاظ قوله (صلى الله عليه وآله) «سيد الانصار » والزعامة الاجتماعية متوفرة فسعد كان ولم يزل زعيم عشيرة الخزرج ورئيسها.

وعليه: ما علاقة ابي بكر التيمي في الامر؟!

إذن:

هذه الفرضية التي نتجت بفعل تفاعل المتلقي مع النص دفعته الى التخبط في درء الجرم عن انقلاب الصحابة على النص بقيادة ابي بكر.

2- إن مجريات السقيفة وتحليله تدل على أن الأمر، جرى بفعل الانقسام الذي وقع بين الانصار من جهة، ومن الإعداد المسبق، وزرع العناصر المساهمة في قيادة الانقلاب بين الانصار انفسهم من جهة اخرى.

إنَّ ما وقع في السقيفة من احداث دعا الكثيرين من الرواة وحفاظ الحديث الى تناقله وتدوينه في مؤلفاتهم.

ولكن ربما اختصر البعض في نقل مجريات الحدث.. وربما رأى البعض الآخر ضرورة في نقله كاملاً.. بينما فضل القسم الآخر لزوم الصمت ظناً منه أنه يغطي على أمرٍ أبى الله إلا حفظه في صدور الناقلين.

ص: 139

وبين هذا وذاك ولاسيما رواة أهل البيت (عليهم السلام) أصحاب المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى حاولنا الوقوف عند تسلسل الحدث.

فضلاً عن أن أصحاب الصحاح وشيخهم البخاري قد نقل مجريات السقيفة وعلى لسان صاحب الصولة فيها عمر بن الخطاب.

إذن: فلنرَ ما حدث في السقيفة؟!

يروي البخاري عن عمر بن الخطاب، أنه قال:

«وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما »(1).

فلما وصل الخبر إلى أبي بكر وعمر بهذا الاجتماع قال عمر: فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا لننظر ما هم عليه(2).

فانطلق الاثنان وفي الطريق إلى السقيفة اصطحبا أبو عبيدة بن الجراح حتى جاءوا سقيفة بني ساعدة، وسعد بن عبادة(3) على طنفّسة(4) متكئا على وسادة، وبه الحُمّى.

ص: 140


1- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت: ج 8 ص 26 أفست دار الفكر.
2- سمط النجوم العوالي: ج 2 ص 244 ط المكتبة السلفية، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: ص 67 ط مكتبة المؤيد.
3- سعد بن عبادة، هو: أبو ثابت، كان من أهل بيعة العقبة، ومن أهل بدر وغيرها من المشاهد، وكان سيد الخزرج ونقيبهم، وجواد الأنصار وزعيمهم.
4- الطنفسة: البساط من الصوف ونحوه (الزولية) انظر: المصطلحات إعداد مركز المعجم الفقهي: ص 1273 .

فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟

قال: أنا رجل منكم!

فقال حُباب بن المنذر(1): منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري في الأنصاري شيئاً ردّ عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئاً ردّ عليه، وإن لم تفعلوا: فانا جذيلها المحُكك وعُذَيَقها المُرجّب(2)، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتهم لنعيدنّها جَذَعَة؟!(3).

قال عمر: فأردت أن أتكلم، وكنت زورت كلاما في نفسي؟! فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فما ترك كلمة كنت زوَّرتها في نفسي إلا تكلم بها!

وقال: نحن المهاجرون، أول الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً وأحسنهم وجوهاً، وأمسهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رَحِماً وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء! فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

الأئمة من قريش؛ وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين -يعني: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح-.

ص: 141


1- حباب بن المنذر، من سادة الأنصار وأبطالهم بدريا،ً أحديا،ً ذو مناقب عديدة.
2- قال الخلال سمعت أحمد بن يحيى النحوي قد سئل عن قوله: «أنا جذيلها المحكك »، قال: الخشبة تنصب للإبل تحك بها، و «أنا عذيقها المرجب » عذق النخلة يحوط حولها، ومراده: أنا جذيلها: أنا أشفي داءكم، وأنا عذيقها، أنا كريم. (السنة للخلال: ج 2 ص 309 ط دار الراية).
3- العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: ج 4 ص 257 ط دار الكتاب العربي، مروج الذهب: ج 2 ص 312 ط دار القلم، الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 5- 6، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 6 ص 958 ، تاريخ الطبري: ج 3 ص 221 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3 ص 329 - 330 .

فقال عمر: يكون هذا وأنت حي!ّ ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!(1) ثم مد يده ليبايع أبا بكر فبادره رجل من الأنصار فضرب على يد أبي بكر فبايعه قبل عمر فكان أول من بايع(2) ثم ضرب عمر على يده فبايعه؟!(3)

فلما رأى سعد بن عبادة ذلك أراد أن يكسب الجولة لصالحه بطلب البيعة لنفسه، ظناً منه أن الأنصار ستبايعه وهم الذين جاءوا إلى منزله من أجل هذا الغرض «فقام فبايع، فقال له أبو بكر: لئن اجتمع إليك مثلها رجلان لقتلناك»(4)

فكان هذا التهديد بالقتل لسعد بن عبادة وهو: «سيد الأنصار » ونقيب الأوس والخزرج وهو في منزله وأمام قومه كفيلا بانقلاب الأمر؟!!

ف «فتخلى الأوس عن معاضدة سعد بن عبادة خوفاً أن يفوز بها الخزرج »(5).

فهبوا كرجل واحد «وازدحموا على أبي بكر، فقالت الأنصار: قتلتم سعدا.ً فقال عمر: اقتلوه، قتله الله، فإنه صاحب فتنة »(6).

ف: «بويع لأبي بكر في اليوم الذي توفي فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 142


1- أراد بذلك المقام: هو الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في صبيحة يوم الاثنين، وهو اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وفيه كان خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتعطيل هذه الصلاة كما سيمر علينا بيانه مشفوعاً بالأدلة والمصادر.
2- مصنف ابن أبي شيبة: ج 7 ص 432 برقم 3743 .
3- العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 4 ص 257 ط دار الكتاب العربي.
4- المنتظم لابن الجوزي: ج 4 ص 68 ط دار الكتب العلمية.
5- مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 312 ط دار القلم.
6- العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 4 ص 257 ط دار الكتاب العربي.

وهو يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول (1)!؟ .

وقد اقتصرت هذه البيعة على أكثر من حضر السقيفة في هذا اليوم.

اذن:

فأبي بكر هو المسؤول الاول عن قيادة هذا الانقلاب على النص في تولي امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الخلافة وقيادة المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثانياً:إقرار المتلقي بترك الصحابة مواراة نبيهم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلم يصلوا عليه، ولم يدفنوه

جاء في فرض السؤال الذي طرحه ابن ابي الحديد قوله:

(أن يؤخره -أي الاجتماع في السقيفة- الى أن يخرج (عليه السلام) ويحضر المشورة)(2).

ان هذه الفرضية التي جاءت لغرض الدفاع عن ابي بكر وتبرئة ساحته من قيادة الانقلاب والقاء اللوم على الصحابة لاسيما الانصار أثار تساؤلات في ذهن القارئ لهذا السؤال ومتلقيه، منها:

1-ماذا يعني المعتزلي بقوله: (الى أن يخرج) فأين كان علي (عليه السلام) في هذه الساعة؟!

2-ما الذي شغله عن اجتماعهم الى هذا المستوى فتم تقديمه على الاجتماع والحضور.

ص: 143


1- السيرة النبوية لابن كثير: ج 2 ص 260 ، التنبيه والأشراف للمسعودي: ص 284 ط مكتبة خياط، تاريخ الخلافة الراشدة: ص 12 ، تاريخ القضاعي: ص 172 مروج الذهب: ج 2 ص 309 ط دار القلم، سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 2 ص 245 - 246 ط السلفية.
2- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 271 .

3- أفكان الأمر الذي منعه يستحق أن يدير بظهره لهم؟

4-ولماذا لن ينشغلوا مع علي (عليه السلام).

5- كيف رجح عندهم الإجتماع على غيره من الامور؟!

أنّها اسئلة اثارت ذهن القارئ ويبقى السؤال الأساس ما الذي شغل الإمام علي (عليه السلام) عن الحضور الى السقيفة؟

ونقول:

لا شك إن الجواب على هذه التساؤلات كانت حاضرة ومجتمعة عند متلقي النص، أي ابن ابي الحديد لكنه اراد ان يتستر على حقيقة الصحابة ودافعهم، لاسيما ابي بكر وعمر في تركهم جثمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو لم يبرد بعد، فمنذ ساعات قليلة قد فارق الحياة الدنيا، وأهله مفجوعون به وقد انشغلوا عن الدنيا وما فيها بمصابه، فرأى الصحابة إنّ الإسراع في حسم الامر في رئاسة المسلمين بعده (صلى الله عليه وآله) مع إنشغال الإمام علي (عليه السلام) والخلّص من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) فرصة ثمينة لا تعوض.

ولذا:

لم يحضروا وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يصلوا عليه ولم يشهدوا دفنه، فأين إيمانهم وورعهم وعدالتهم، كما يحب أن يسميهم ارباب السلطة بالعدول!!

وعليه:

لم يشهد أبو بكر وعمر دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما صرح به شيخ البخاري في مصنفه(1).

ص: 144


1- المصنف لابن أبي شيبة: ج 7 ص 432 برقم ( 37046 ).

ولم يعلما من غسله ومن كفنه!! بل ولم يصليا عليه؟! ولقد كان عمر بن الخطاب يمتنع عن الإجابة حينما يسأل عن غسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكفينه؟!

فيقول: «سلوا علياً»(1) !

بينما كان أبو بكر يسأل من عائشة: «في كم كفنتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»(2)!

والغريب، بل العجيب! حتى عائشة لا تعلم بغسله وتكفينه ودفنه!! وقد صرحت بذلك قائلة: «ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء »(3) وهي ليلة دفن النبي الهادي الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم).

بل هي لا تعلم حتى بوقت وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

أما دعواها بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «مات بين سحرها ونحرها»(4).

ص: 145


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 51 ط ليدن، وفي: ج 2 ص 263 ط دار صادر بيروت، كنز العمال للهندي: ج 4 ص 55 برقم ( 1108 ).
2- مسند احمد بن حنبل:حديث السيدة عائشة، ج 6 ص 118 ؛ مستدرك الحاكم:ج 3 ص 65 ؛ السنن الكبرى للبيهقي:ج 3 ص 399 ؛ المصنف لابن ابي شيبة:ج 3 ص 145 ؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 1 ص 84 ؛ الرياض النضرة: ج 1 ص 257 .
3- مسند احمد بن حنبل:ج 6 ص 62 وص 242 ؛ المصنف لابن ابي شيبة الكوفي: ج 3 ص 227 ؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 3 ص 409 ؛ الشمائل للترمذي: ص 204 ؛ عمدة القاري للعيني: ج 8 ص 121 ؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 4 ص 137 ؛ مصنف الصنعاني: ج 3 ص 520 ؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 4 ص 538 ؛ حاشية ابن القيم: ج 8 ص 309 ط دار الكتب العلمية، الطبقات لابن سعد: ج 2 ص 304 ، التمهيد لابن عبد البر: ج 24 ص 396 ط وزارة عموم الأوقاف بالمغرب؛ تنوير الحالك للسيوطي: ص 240 .
4- صحيح البخاري:ما جاء في عذاب القبر، ج 2 ص 106 .

فهو مردود لما يعارضه من أحاديث صحيحة تناقلها حفاظ المسلمين ودوّنها في مصنفاتهم، كما سيمر بيانه وإيراده.

وعليه:

فلم يلهِ عند وفاته إلا أقاربه، كما صرّح بذلك ابن سعد وابن عبد البر قائلاً: «ولم يلِهِ إلا أقاربه وقد شغل الناس عنه بشأن الأنصار »(1).

بينما أفصح شيخ البخاري عن هوية وعدد أقاربه الذين قاموا بدفن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فأما العدد فكانوا ثلاثة فقط!! والرابع غريب عنهم.

وأما هويتهم، فهم: «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العباس بن عبد المطلب، وولده الفضل، وصالح مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) »(2) رضي الله عنهم جميعا.ً

فهؤلاء أقاربه الذين لم يشأ ابن سعد وابن عبد البر الإفصاح عنهم.

وأما الناس الذين شغلوا عنه بشأن الأنصار! كما قال ابن سعد، فهل في المدينة غير المهاجرين والأنصار؟!

إذن: الناس الذين شغلوا بشأن الأنصار عن غسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفنه هم المهاجرون وأما الأنصار فقد شغلوا عنه بالبيعة لسعد بن عبادة؛ وما تبعها من أحداث شغلت الفريقين في السقيفة.

ص: 146


1- التمهيد لابن عبد البر: ج 24 ص 328 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 304 .
2- المصنف لابن أبي شيبة: ج 3 ص 15 ط مكتبة الرشد بالرياض.
ثالثاً:إنّ الخاسر الأكبر هم الأنصار في قراءة المعتزلي للحدث

قد جاءت الاجابة من المتلقي على سؤاله الذي طرحه على نفسه ومتلقي شرحه للنهج مجتمعة في تبرئة ابي بكر من عملية الانقلاب وحصره بالأنصار بالخصوص، والصحابة بالعموم، فيقول:

(إنه لم يلم أبا بكر بعينه، وإنما تألم من استبداد الصحابة بالأمر دون حضوره ومشاورته، ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفا الى الأنصار والذين فتحوا باب الإستبداد والتغلب)(1).

وأقول:

1-إن المعتزلي يغاير في توجيه المذنب بين عناصر الحدث الثلاثة، وهم (أبو بكر، والصحابة، والأنصار خاصة) فقد خص المعتزلي أبا بكر بمفردة (اللوم)، أي أن الملام في الحدث الذي وقع هو أبو بكر، ولذا قال:

(إنه لم يلم أبا بكر بعينه).

ثم يغاير في قوله من (اللوم واللائمة) الى (التألم) فقال:

(وإنما تألم -أي الإمام علي عليه السلام- من إستبداد الصحابة).

ولا يخفى ان اللوم غير التألم، فالشخص الملام يكون العنصر الاساس في وقوع الظلم والانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والألم يسري من وقوع عموم الذنب بين الفاعلين.

ص: 147


1- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 271 .

ولذا:

بعد توجيه للقارئ بأن المسؤول الحقيقي هو أبو بكر تدارك الأمر سريعا ونسب الفعل الى الصحابة فكانت الطامة اعظم وهو قوله:

(من استبداد الصحابة بالأمر) .

ثم يقوم بنقل القارئ الى احتمالية ضعيفة في قصدية الإمام علي (عليه السلام) في قوله «ولم يطل العهد ولم يخلق الذكر » في تألمه مما احدثته الصحابة فيقول:

(ويجوز أن يكون أكثر تألمه وعتابه مصروفا الى الأنصار الذين فتحوا باب الإستبداد والتغلب).

2- إن النتيجة النهائية التي خلص إليها ابن أبي الحديد هي: إنّ الخاسر الأكبر هم الأنصار وذلك لما يلي:

أ-إنّهم خسروا الخلافة منذ أن قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى انتهاء خلافة العباسيين فقد حصر الامر بالمهاجرين اهل مكة.

ب- إلقاء تبعات حدث السقيفة وانقلاب الصحابة في أعناقهم، وذلك أنهم (فتحوا باب الإستبداد والتغلب).

ج- توالي التهم والغضب والإقصاء لهم في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية فهذه كتب المسلمين اين تجد بها تضحيات الانصار ومؤازرتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقيام الاسلام، واين رجالاتهم وقياداتهم؟!

هذه الاسئلة جوابها يتضح لدى القارئ من خلال الرواية الاتية:

ص: 148

(ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات، فقال:

قدم سليمان بن عبد الملك الى مكة حاجا سنة 82 ه، فأمر أبان بن عثمان بن عفان(1) ان يكتب له سير النبي (صلى الله عليه وآله) ومغازيه.

فقال له أبان: هي عندي، قد اخذتها مصححة ممن اثق به، فأمر سليمان عشرةً من الكتاب بنسخها، فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الانصار في العقبتين وفي بدر.

فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما ان يكون اهل بيتي غمطوا عليهم، وإما يكونوا ليس هكذا!!

فقال أبان: ايها الامير، لا يمنعنا ما صنعوا ان نقول بالحق، هم ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

فقال سليمان: ما حاجتي الى نسخ ذاك حتى اذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه، ثم امر بالكتاب فخرق، ورجع فاخبر اباه عبد الملك بن مروان بذلك الكتاب.

فقال عبد الملك: )وما حاجتك ان تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها!؟

قال سليمان: فلذلك امرت بتخريق ما نسخته)(2).

ص: 149


1- ابو سعيد أبان بن عثمان بن عفان بن ابي العاص بن امية بت عبد شمس، كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان سبع سنين ثن عزله عنها؛ عده الرازي في المدنيين، وقد روى عنه ابو الزناد وبنيه بن وهب وعبد الله بن ابي بكر والزهري، ملت بالفالج في خلافة يزيد بن عبد الملك عام 105 ه؛ الطبقات لابن سعد: ج 5، ص 151 - 152 ؛ الجرح والتعديل للرازي: ج 2 ص 295 ؛ مشاهير علماء الامصار لابن حيان: ص 111 ؛ تقريب التذهيب لابن حجر: ج 1 ص 51 ؛ تذهيب لابن حجر: ج 1 ص 84 .
2- الموفقيات للزبير بن بكار: ص 322 - 323 .

والحادثة التي مرَّ ذكرها لا تحتاج الى تعليق، فهي واضحة الدلالة في تدخل حكام بني أمية في تدوين السيرة النبوية؛ ويا ليت شعري أن الأمر اقتصر على التدخل في كتابتها، بل حرق هذه السيرة واتلافها لكونها لم تتضمن بين ثناياها اي ذكر لبني

أمية في مواضع الخير التي حفت بها سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

المسألة الرابعة: محاولات يائسة من المتلقي لصرف النص عن قصديته
اشارة

إنّ دراسة مواقف ابن ابي الحديد ومدى تفاعله مع النص الشريف تكشف بوضوح مستوى هذا التأثر والتفاعل الذي اجبره حيناً على كشف ما هو مستور، والتضليل على القارئ، والنفي حيناً، والتخبط في التعامل مع صراحة النص وقوة حجته في كشف الحقائق والاحداث التي وقعت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ والتي كانت بحسب منتج النص (عليه الصلاة والسلام) ترتكز في ظلامة فاطمة (عليها السلام) والتجري على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وانتهاك حرمته في الاعتداء عليها وقتلها حتى دفنها سراً.

وليس على أمر خلافة المسلمين الذي اتخذه متلقي النص هنا ذريعة لذَّر الرماد في العيون وصرف الاذهان عن الجريمة العظمى والخزي الاكبر الذي وقعت فيه الصحابة بقتلهم بضعة سيد الانبياء والمرسلين فلحقهم الخزي والعار الى يوم الدين، كما لحق عاقر الناقة والنمرود وقارون وهامان وفرعون ما لحقهم من الخزي.

إنَّ منتج النص (عليه السلام) لم يكن ليخاطب سيد الخلق (صلى الله عليه وآله) وهو صاحب هذه المصيبة والمعزى فيها بما فعلته الصحابة في حدث السقيفة !!

ص: 150

حاشى لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) أن يكون الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يتألم ويشتكي لفوته خلافتهم التي هي عنده «أهون من عفطة عنز »(1).

لا والله ما هذا خلق ربيب النبوة وترجمان القرآن.

ولذلك:

نجد ان ابن ابي الحديد قد سعى جاهدا في صرف الأنظار عن اصل القضية والسبب في انتاج هذا النص، وما جاء فيه من بيان لحقيقة الصحابة وما جنته في الامة.

فأن كان لهم مجال عند المعتزلة في إلتماس الأعذار وألقاء العتاب واللوم على هذا أو ذاك، فمرّة على الأنصار، وأخرى على المهاجرين؛ فأي عذر لهم في قتل بضعة الهادي الامين (صلى الله عليه وآله).

بل أي: أفصاح بعد هذا عن نفاقهم وعداوتهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وهم قتلة اولاد الانبياء.

وعليه:

فقد أتخذ المتلقي، أي ابن أبي الحديد منهجا في التعامل مع النص ككل، فضلا عن التفاعل المتجزئ مع بعض الجمل التي جاءت فيه -كما مر بيانه- والذي اظهره هنا في هذا الجزء من النص وتفاعله معه؛ وكذلك ما أظهره مع قضية الزهراء (عليها

السلام) وقتلها، وما جنته الصحابة بحقها من خلال تعرضه لشرح نهج البلاغة بنحو عام، وهي كالآتي:

ص: 151


1- نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية: ج 1 ص 37 .
أولاً: منهجه في التعامل مع النص في صرفه عن قصديته الاساس وهي قتل بضعة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إنّ خير شاهدٍ على إتباع المعتزلي لهذا المنهج بشكل جلي في تشتيته ذهن القارئ وحصر الامر في حادثة السقيفة وما نتج عنها من موقف لعلي (عليه السلام) اتجاه ابي بكر وعمر هو إيراده رسالة لأبي بكر قد أرسلها الى الإمام علي (عليه السلام)

في شأن الخلافة برواية أبي حامد المروروذي؛ وذلك بعد أن ألقى بعاتق الصحابة أمر الاستبداد، ثم حصره بالأنصار الذين وصفهم بقوله:

(الذين فتحوا باب الإستبداد والتغلب)(1).

لينتقل بعد ذلك وبدون بيان للمناسبة في ايراده لرواية أبي حامد المروروذي الذي خصص بعد العديد من الصفحات من شرحه على النهج بحسب الطبعات الحديثة ثم يتبعها بقوله:

(الذي يغلب على ظني أن هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي، لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه، وقد حفظنا كلام عمر ورسائله، وكلام أبي بكر وخطبه، فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب، ولا يسلكان هذا السبيل في كلامهما، وهذا كلام عليه

أثر التوليد ليس بخفي، وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين!

ومن تأمل كلام أبي حيان عرف أن هذا الكلام من ذلك المعدن خرج، ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي(2) ، وهذه عادته في كتاب البصائر

ص: 152


1- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 271 .
2- هو أحمد بن عامر بن بشر بن حامد أبو حامد المروروذي، أحد فقهاء الشافعية، ترجم له ابن خلطان 1: 18 ، 19 توفى سنة 62 .

يسند إلى القاضي أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه، إذا كان كارها لان ينسب إليه، وإنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب، لأنه وإن كان عندنا موضوعا منحولا، فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم، فهم وإن لم ينطقوا به بلسان المقال، فقد نطقوا به بلسان الحال.

ومما يوضح لك أنه مصنوع، أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث، وكل من صنف في علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية، ولقد كان المرتضى (رحمه الله) يلتقط من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) اللفظة الشاذة، والكلمة المفردة الصادرة عنه (عليه السلام)، في معرض التألم والتظلم، فيحتج بها، ويعتمد عليها، نحو قوله: (ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا).

وقوله: (لقد ظلمت عدد الحجر والمدر).

وقوله: (إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال السرى).

وقوله: (فصبرت وفى الحلق شجا، وفى العين قذى).

وقوله: (اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي، وغصبوني إرثي).

وكان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه، فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه، فأين كان المرتضى عن هذا الحديث ! وهلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامة كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا، وكذلك من قبله من الامامية كابن النعمان،

وبني نوبخت، وبني بابويه وغيرهم، وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب الاخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا ! وأين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر وعمر له (عليه السلام) ! وهلا ذكره قاضى القضاة في المغني مع

ص: 153

احتوائه على كل ما جرى بينهم، حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار السقيفة ! وهلا ذكره من كان قبل قاضى القضاة من مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا ! وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث كابن الباقلاني وغيره، وكان ابن الباقلاني شديدا على الشيعة، عظيم العصبية على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلو ظفر بكلمة من كلام أبى بكر وعمر في هذا الحديث لملا الكتب والتصانيف بها، وجعلها هجيراه ودأبه.

والأمر في ما ذكرناه في وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان، ومعرفة كلام الرجال، ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير، وأقل أنس بالتواريخ)(1).

السؤال الذي يفرضه البحث:

إذا كانت هذه قناعة ابن ابي الحديد في الرواية، وهذا وضعها العلمي، فما الهدف من ايرادها في الكتاب وزجها هنا في التعامل مع النص الذي كان مخصصا لظلامة فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟!

فيجيب ابن ابي الحديد على هذا التساؤل فيقول:

(وإنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب، لأنه وإن كان عندنا موضوعاً منحولاً فإنه صورة ما جرى عليه حال القوم، فهم وإن لم ينطقوا به بلسان المقال فقد نطقوا به بلسان الحال)(2) !!

ونحن نقول:

1-أفنترك المقال الصريح في انتهاك حرمة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بهضم بضعة النبوة حقها، ومنعها أرثها، فتدفن سراً. وهي مرضوضة الجنب، مجهضة

ص: 154


1- شرح نهج البلاعة: ج 10 ص 285 - 287 .
2- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 286 .

للمحسن، محمرة العين، محروقة الدار، مُرَوَعَة في ولديها ونفسها وزوجها؛ ونأخذ بلسان الحال الموضوع كذبا وبهتاناً، أفيستر الغربال قرص الشمس وقد فضح نوره الليل وكشف الظلام وبان الصبح لكل إنسان.

2- إنّ النص الشريف قد أنتزع من متلقيه حقيقة الصحابة وما جنته في بضعة النبوة وهو ما سنتناوله في الأنموذج الثاني من متلقي النص وهو شيخ المحدثين العلّامة محمد باقر المجلسي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1070 ه ) في المبحث القادم.

ثانياً: منهجه في التعامل مع جريمة قتل فاطمة (علیها السّلام) في شرحه لنهج البلاغة

إنّ المتتبع لأقول ابن ابي الحديد المعتزلي في جريمة قتل فاطمة (صلوات الله عليها) بعد أن حرق بيتها عمر بن الخطاب وعصابته، يوقن ببعض الحقائق وهي كالآتي:

1- إنّ هذا التردد بين تصويب الحادثة والإقرار بوقوع الجريمة في حرق بيت فاطمة عليها السلام وما تبعه من آثار أدت إلى استشهادها وبين نفي هذه الحادثة أو تكذيبها أو الإقرار ببعض جزئياتها سببه وجود روايات صحيحة، وأقوال صريحة لأئمة أهل السنة والجماعة.

إلّا أن ثقل الحديث وتأثيره على المسلم وصعوبة استيعاب أن يقدم مجموعة من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هتك حرمته والتجري على الله بمثل هذا المستوى من الأفعال التي لا يقدم عليها يهودي أيقن أن لأهل هذا البيت

حرمة كما لموسى (عليه السلام) وغيره، فكيف بمسلم يؤمن بالله وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يقدم على حرق بيت نبيه وقتل ابنته وجنينها؟!

ص: 155

2-إنّ هذا التردد لم يقتصر فقط على ابن أبي الحديد المعتزلي وحسب بل كل من أراد الانصاف عند قراءته التاريخ والوقوف عند حوادثه وأحداثه التي عصفت بالأمة منذ أن سجلت أقلام المؤرخين تاريخ الإسلام ورسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

3- إنّ هذا التردد بين الإقرار بوقوع هذه الجريمة واستشهاد فاطمة على يد عمر بن الخطاب وعصابته، وبين نفي الحادثة وتكذيبها وتكفير القائل بها لم يكن ليغير من الواقع شيئاً، فالحادثة واقعة كما وقع بعث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم فإنكار وجود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغير من

الواقع شيئاً ولا يضر إلّا بالناكر له، وكذاك كان مقتل فاطمة وجنينها وحرق بيتها، فإنه لا يضر إلا الناكر له لقوله تعالى:

﴿وقَفِوُهمُ إنَّهُمَ مسَئْوُلوُن﴾َ(1).

4-إن هذا التحزب للحق أو الباطل هو من السنن الكونية التي أوجدها الله تعالى ومن ثم لا تنتهي بقول ابن أبي الحديد أو ابن تيمية أو الألباني أو غيرهم.

وإنما ليهلك من هلك عن بينة وليحيا من يحيا عن بينة، وعسى أن يهدي الله بهذا العمل إمرءً واحداً فهو خير مما طلعت عليه الشمس كما ورد في الحديث الشريف عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ص: 156


1- سورة الصافات، الآية ( 24 ).
2- قال صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): «يا علي لئن يهد الله بك رجلاً واحدا لخير لك مما طلعت عليه الشمس .»

وعليه:

أوردنا تردد ابن أبي الحديد ومحاولاته دفع الجرم عن المجرم إنما كان تبعاً لما يخالط النفس من الإقرار للحق والإذعان إليه وبين التمرد عليه والانزلاق إلى الباطل، فكان مما قال:

1-جاء في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة قوله:

(وقد قال قوم من المحدثين بعضه ورووا كثيراً منه: أن علياً امتنع من البيعة إلى أن يقول: ولم يتخلف إلا علي (عليه السلام) وحده فإنه اعتصم ببيت فاطمة فتحاموا إخراجه قسراً وقامت فاطمة إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفرقوا وعلموا أنه بمفرده لا يضر شيئاً فتركوه، وقيل أخرجوه فيمن أخرج وحمل إلى أبي

بكر فبايعه.

ثم يقول: فأما حديث التحريق، وما جرى مجراه من الأمور الفظيعة، وقول من قال: إنهم أخذوا علياً يقاد بعمامته والناس حوله؛ فأمر بعيد، والشيعة تنفرد به.

على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه وسنذكر ذلك)(1).

والملاحظ في هذا النص ما أشرنا إليه آنفاً من وجود حالة من التردد والتناقض بين الإقرار بالحدث ونفيه وبين أن الشيعة قد تفردوا به، وبين أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه، والسبب في ذلك هو إقراره بأن حديث التحريق وما جرى

مجراه من الأمور الفظيعة لا يحتمله قلب كل مسلم يخاف يوم الحساب فكيف له أن يسلّم بها.

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 2، ص 21 - 22 ، بتحقيق أبو الفضل إبراهيم.

2-قال في الجزء السابع عشر من شرحه لنهج البلاغة:

(وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام فقد تقدم الكلام فيه، والظاهر عندي: صحة ما يرويه المرتضى والشيعة، ولكن لا كل ما يزعمونه؛ بل كان بعض ذلك؛ وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه

من الله تعالى) (1).

أقول:

1- وهذا النص أوضح من السابق في حالة التردد التي كان يمر بها ابن أبي الحديد المعتزلي فهو بين ثبوت صحة ما وقع من جريمة تحريق بيت فاطمة وقتلها وجنينها فهذا الذي يرويه المرتضى والشيعة فضلاً عن كسر ضلعها ولطم خدها

وضربها بالسوط؛ يعود ابن أبي الحديد فيحاول التنصل مما ثبت عنده من صحة هذه الأحداث فيقول:

(ولكن لا كل ما يزعمونه، بل كان بعض ذلك)، ولم يفصح لنا المعتزلي عن الكل الذي روته الشيعة وعن البعض الذي وجده من هذا الكل صحيحاً؟

2- لقد بدا واضحاً لدينا أن أحد أهم الأسباب التي جعلت ابن أبي الحديد يعتقد بصحة ما يرويه الشريف المرتضى والشيعة في قتل فاطمة وإحراق بيتها هو اعتراف رأس هذه العصابة والموجه والمخطط لها، أي أبو بكر بن أبي قحافة وذلك من خلال

ندمه وتأسفه على ما فعل في كشف بيت فاطمة وإحراقه والهجوم عليه.

ص: 158


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 17 ، ص 168 .

إلّا أن المعتزلي كعادته يضع القارئ في حيرة ولم يلمس منه أي الأحداث ثبت لديه واعتقد بصحته، هل ندم أبو بكر وتأسفه على ما اقترفت يداه في هذه الفظائع؛ أم (قوة دينه وخوفه من الله تعالى -كما يزعم ابن أبي الحديد-) هو الذي دفعه لهذا الندم والتأسف.

والسؤال المطروح متى كان أبو بكر خائفاً من الله تعالى، هل كان خائفاً قبل اعطائه الأمر لعمر بن الخطاب:

(إن أبوا فقاتلهم)؛ أم بعد الهجوم على عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرق البيت بمن فيه؟!

فإن كان خائفاً من الله قبل حرق بيت فاطمة وقتلها، فكيف يخاف الله من هتك أعظم حرمات الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

وإن كان بعد قتل فاطمة وجنينها وإرعاب الحسن والحسين (عليهم السلام) فهو ليس خوفاً من الله، بل من نار الله التي أعدها لمن آذى رسوله فقال سبحانه:

«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا »(1).

ومن يلعنه الله تعالى لا تدركه الرحمة فحاله في ذاك حال إبليس الذي استحق العذاب والخلود في النار:

«وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ »(2).

ص: 159


1- سورة الاحزاب، الآية ( 57 ).
2- سورة الروم، الآية ( 6).

3-قال في الجزء العشرين من شرحه للنهج:

(وأما ما ذكره -أي الشريف المرتضى رحمه الله- من الهجوم على دار فاطمة (عليها السلام) وجمع الحطب لتحريقها فهو خبر واحد غير موثوق به ولا معول عليه في حق الصحابة، بل ولا في حق أحد من المسلمين ممن ظهرت عدالته).

وأقول:

1-نعم، فمن ظهرت عدالته من المسلمين لا يقدم على أمر شنيع كهذا وأي ذنب أشنع من جمع الحطب حول دار فاطمة وإضرام النار فيه والهجوم على أهله، ومن هم أهله؟!!

أهل محمد سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلاً عما نزل فيهم من الذكر الحكيم.

2-أما كونه غير معوّل عليه في حق الصحابة؛ فهذا خلاف القرآن والسنة، وذلك لما يأتي:

ألف: أما القرآن فقد نزلت سورة كاملة في بيان صفات المنافقين، وقد ثبت عند أئمة الحديث والرجال: أن الصحابي: هو من شاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمع منه حديثاً؛ولولا وجود المنافقين فيما بين الصحابة لما احتاج أهل السنة والجماعة إلى علم الجرح والتعديل، كما لما كانوا قد احتاجوا إلى إفراد

الأحاديث بين الصحيح والضعيف والمكذوب والمرسل فكانت الصحاح الستة والمستدركات ولجمعت أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها دون تمييز وتمحيص.

ص: 160

وعليه:

فإن وجود المنافقين والكذابين والمدلسين فيما بين الصحابة ينفي تحقق العدالة فيهم جميعاً على حد سواء، إلّا من ثبتت عدالته بالدليل القاطع؛ وإلّا كان المعتقد بعدالة جميع الصحابة لكونهم شاهدوا أو سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معترضاً ومنكراً عمداً لكتاب الله تعالى وأحكامه.

باء: وأما ما ورد في السنة فقد ذكر فيما مضى أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، وهي تنص على انقلاب الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنهم أحدثوا من بعده ورجعوا على أعقابهم رجوعاً قهقرياً حتى لا يخلص ولا ينجو منهم إلّا القليل،

وإن هؤلاء الذين انقلبوا من بعده وأحدثوا الفتنة في الأمة يقادون بسياط من نار إلى جهنم وبئس المصير.

من هنا:

فقول ابن أبي الحديد المعتزلي: إن جمع الحطب لتحريق بيت فاطمة (عليها السلام) غير معول عليه في حق الصحابة، كلام سخيف ومخالف للقرآن والسنة.

3- أما قوله، إن (الهجوم على دار فاطمة وجمع الحطب لتحريقها فهو خبر واحد وغير موثوق به)، فنقول:

ألف: لم يكن هذا الحديث من الآحاد، بل ذكره أئمة الحديث بسند صحيح وعليه: فهو مما يوثق به.

باء: تناولنا في مسألة إحراق بيت فاطمة عليها السلام بعض المصادر التي اعتمد وثوقها أهل السنة والجماعة والتي أثبتت صحة حديث التحريق لبيت فاطمة

ص: 161

صلوات الله عليها بيد عمر بن الخطاب وعصابته الذين اقتحموا بيت فاطمة عليها السلام مما أدى إلى قتلها وقتل جنينها المحسن وغير ذلك من الفظائع؛ ونحن إذ نوردها هنا أي هذه الأحاديث تسهيلاً للقارئ وقطعا للطريق على المعترض والمعاند والمدلس(1).

1- أخرج ابن أبي شيبة الكوفي (المتوفى سنة 235 ه):

(حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال:

يا بنت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا من بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك، أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت.

قال: فلما خرج عمر جاؤوها فقالت:

ص: 162


1- أنظر في ظاهرة التدليس التي تضحك الثكلى ما ذكره علي محمد الصلابي في كتابه الحسن بن علي في تعليقه على حديث دخول عمر إلى بيت فاطمة عليها السلام بعد أن أورد الحديث المبتور الذي بتر منه تصريح عمر بن الخطاب وتهديده لفاطمة بحرق بيتها بمن فيه إن عاد بعض الصحابة إلى بيتها، ثم يرشد القارئ إلى أنه هو الحديث الصحيح؛ والأعجب من ذلك إيراده في هامش الكتاب تحت الرقم واحد الذي وضعه عند قوله: وهذا هو الثابت الصحيح: فيرجعه إلى: أخرجه ابن أبي شيبة: 14 / 567 ، إسناده صحيح؛ ظناّ منه أنه بهذا التدليس على القارئ لا يعود إلى مصنف ابن ابي شيبة فيكتشف كذبه وتدليسه، فقد أورد ابن أبي شيبة في مصنفه حديث التحريق وتهديد عمر لفاطمة وحرق بيتها بمن فيه بسند صحيح.

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين، فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ .»ّ

فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)(1).

2- ورواه ابن ابي عاصم عن ابن أبي شيبة بسنده وساق الحديث(2).

3- ورواه المعتزلي في شرح النهج(3).

في المقابل نجد أن بعض الحفاظ اتبعوا في ذلك ما كان عليه ابن أبي الحديد فقد رواه إمام الحنابلة في فضائل الصحابة وقد حذف تهديد عمر لفاطمة بتحريق بيتها بمن فيه(4).

4-أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك(5).

5- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي(6).

وقد أخرجه ابن عبد البر بدون ذكر تهديد التحريق بالنار وإنما كان مطلق التهديد(7).

وهذا يكشف عن وقوع هذه الفظائع ابتداءً من جمع الحطب والتحريق وقتل فاطمة وجنينها، وإن أولئك المدافعين عن الباطل سيلقون مصير الظالمين لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 163


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 572 ، بتحقيق سعيد اللحام.
2- المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ج 92 .
3- شرح نهج البلاغة: ج 2، ص 45 .
4- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 2، ص 17 ، برقم 532 .
5- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 169 ، برقم 4736 .
6- الصواعق المحرقة: ج 2، ص 520 ، ط دار الرسالة بيروت.
7- الاستيعاب: ج 3، ص 975 .

ص: 164

المبحث الثاني: مقبولية النص عندالعلامّة المجلسي (عليه الرحمة والرضوان)

اشارة

ص: 165

ص: 166

مقبولية النص عند العلّامة المجلسي (رحمه الله) (ت 070 ه) .

اشارة

تختلف مقبولية النص عند العلّامة المجلسي(علیه الرحمة و الرضوان) عن ابن ابی الحدید المعتزلی؛ فقد أعتمد العلّامة المجلسي على بيان تفاعله بمجمل النص في شرح الاحاديث الواردة عن العترة النبوية التي أوردها الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان) في كتابه الموسوم ب (من لا يحضره الفقيه).

فتناوله العلّامة بالشرح والبيان في روضة المتقين،بينما كان تفاعله مع مفردات النص وجمله في شرحه للأحاديث التي أخرجها الشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) في كتاب الكافي بكتابه الموسوم ب (مرآة العقول)؛ وبهذا يصبح لدينا موضعين لقراءة تفاعله مع النص، مما أعطى صورة مختلفة عن المقبولية التي كانت عند ابن أبي الحديد المعتزلي.

بمعنى:

إن المنهج الذي أتبعه العلامة المجلسي (رحمه الله) وإن كان نفس المنهج الذي أعتمده ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لأحاديث الإمام علي (عليه السلام) التي جمعها الشريف الرضي في نهج البلاغة؛ فكلاهما كان شارحاً للاحاديث.

إلّا أن التفاعل مع النص ومنتجه كان مختلفاً كلياً بين الاثنين؛ فالمعتزلي حينما كان يتعامل مع النص ويتوقف مع بعض جمله ويتفاعل معها ويظهر مقبوليتها عنده -كما مر بيانه سابقاً- فضلاً عن تعامله مع مجمل النص؛ كان يرتكز على محاولاته

ص: 167

اليائسة والمتكررة في صرف أصل صدور النص وموضوعه وقصديته وهو ظلامة فاطمة (عليها السلام) وتغيير وجهة النص الى غير جهته ومقصده فتحدث عن السقيفة ومجرياتها.

في حين كان تعامل العلامة المجلسي (رحمه الله) مع النص في مفرداته، وجمله، ومجمله، أي: كنص متكامل يرتكز على قضية أساسية وهي ظلامة فاطمة (عليها السلام).

بمعنى: لم يعتمد منهج تشتيت ذهن القارئ أو التظليل، والتدليس، وصرف المتلقي عن أصل الموضوع؛ بل كان واضحاً في تفاعله، صريحاً جريئاً، متأثراً ومتفاعلاً مع النص بأعلى درجات التفاعل والتأثر، وهو ما لم نشهده في النماذج الثلاثة التي أعتمدها في الدراسة في بيان المقبولية؛ وعليه:

يمكن لنا الوقوف عن مقبولية هذا النص عند العلّامة المجلسي من خلال المسألتين القادمتين.

المسألة الأولى: موارد استشهاد المجلسي(رحمه الله) بالنص وظهور تفاعله معه
اشارة

ذكرنا آنفاً أن العلامة المجلسي كشف عن تفاعله واظهار مدى مقبوليته للنص في موضعين، الأول: في شرحه وتعليقاته على كتاب الكافي للشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) الموسوم ب (مرآة العقول في شرح اخبار آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم).

والثاني: في شرحه وتعليقاته على كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان) والموسوم ب (روضة المتقين).

ص: 168

أما الموضع الثالث الذي أستشهد به العلّامة المجلسي للنص فكان في كتابه الموسوم ب (بحار الانوار)(1) .

ولم يتعرض لبيان تفاعله مع النص فقد اقتصر بيانه في هذا الموضع على ايضاح معاني بعض المفردات التي جاءت في النص.

إلّا أن مورد البحث والدراسة في بيان مقبولية النص كانت في هذين الموضعين، وهما كالآتي:

أولاً: تفاعله مع النص في كتاب مرآة العقول

يعتمد العلّامة المجلسي (رحمه الله) في شرحه للنص الشريف الذي اخرجه الشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) -مورد البحث- على التفاعل مع جزيئات النص كجمل متسقة وكمفردات، فيعطي كل جملة حقها في البيان والتفاعل مستضهراً في

ذلك حجم مقبوليته مع هذه المفردات والجمل، مركزاً على اصل صدور النص والقضية التي كانت سببا في صدوره، ألّا وهي ظلامة الزهراء (عليها السلام).

فقال:

(قوله: «دفنها أمير المؤمنين (عليه السلام) سرا .»

أقول: تواترت الأخبار من طريقي الخاصة والعامة أن فاطمة (عليها السلام) لسخطها على أبي بكر وعمر أوصت أن تدفن ليلا لئلا يصليا عليها، ولا يحضرا جنازتها.

روى السيد الجليل المرتضى (رضي الله عنه) في الشافي عن الطبري أن فاطمة دفنت ليلا ولم يحضرها إلا العباس وعلي والمقداد والزبير.

ص: 169


1- بحار الانوار: ج 43 ص 194 .

وقال: روى القاضي أبو بكر بإسناده في تاريخه عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أن فاطمة عاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي ليلا وصلى عليها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وذكر في

كتابه هذا أن أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) دفنوها ليلا وغيبوا قبرها.

وقال البلاذري في تاريخه إن فاطمة لم تر متبسمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها.

وقال رضي الله عنه: وردت الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالمتواتر أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي عليها الرجلان، وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما، فلما طال عليها المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك وجعلاها حاجة إليه

فكلمها أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول، ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام) لقد صنعت ما أردت؟

قال: نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك؟ قال: نعم قالت: فإني أنشدك الله أن لا يصليا على جنازتي ولا يقوما على قبري.

وروي أنه (عليه السلام) عمي على قبرها ورش أربعين قبرا في البقيع، ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا إليه وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما للصلاة عليهما، انتهى كلام السيد قدس سره.

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة في حديث طويل بعد ذكر مطالبة فاطمة أبا بكر في ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفدك وسهمه من خيبر قالت:

ص: 170

فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، قالت: فكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ومكثت فاطمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر ثم

توفيت.

وروى ابن أبي الحديد من كتاب أحمد بن عبد العزيز الجوهري بعد إيراد قصة فدك أن فاطمة (عليها السلام) قالت:

والله لا كلمتك أبدا، قال:

والله لا هجرتك أبدا، قالت:

والله لأدعون عليك، قال:

والله لأدعون الله لك، فلما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها، فدفنت ليلا وصلى عليها العباس بن عبد المطلب وكان بين وفاتها ووفاة أبيها (صلى الله عليهما) اثنتان وسبعون ليلة.

وقال ابن أبي الحديد بعد ذكر الروايات: والصحيح عندي أنها ماتت وهي واجدة(1) على أبي بكر وعمر، وأنها أوصت أن لا يصليا عليها، إلى آخر ما قال.

وروى الصدوق بإسناده عن عمرو بن أبي المقدام وزياد بن عبيد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه (عليه السلام) غضبها على أبي بكر وعمر، قال (عليه السلام): ثم قالت أنشدكما بالله هل سمعتما النبي (صلى الله عليه وآله) يقول:

فاطمة بضعة مني وأنا منها، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟

ص: 171


1- أي ساخطة عليهما.

قالا: اللهم نعم، فقالت: الحمد لله، ثم قالت:

اللهم إني أشهدك فأشهد، واشهدوا يا من حضرني أنهما قد آذاني في حياتي وعند موتي، والله لا أكلمهما من رأسي كلمة حتى ألقى أبي فأشكوكما إليه بما صنعتما بي وارتكبتما مني، فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال:

ليت أمي لم تلدني، فقال عمر:

عجبا للناس كيف ولوك أمورهم وأنت شيخ قد خرفت تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها، وما لمن أغضب امرأة؟ وقاما وخرجا، ثم ذكر (عليه السلام) وصيتها أن لا يحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها وأنه هم عمر أن يمضي إلى المقابر فينبشها حتى يجد قبرها فيصلي عليها فنازعه علي (عليه السلام) وكاد أن تقع فتنة فقعد عن ذلك.

وروى الصدوق أيضا بإسناده عن ابن نباتة قال: سُئل أمير المؤمنين -عليه السلام- عن علة دفنه لفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلا؟ فقال (عليه السلام) إنها كانت ساخطة على قوم كرهت حضورهم جنازتها وحرام على من يتولاهم أن يصلي على أحد من ولدها.

قوله (عليه السلام): وعفا على موضع قبرها، قال في القاموس: العفو المحو والإمحاء وقال: الثرى التراب الندى من الأرض.

«ببقعتك » ظاهره الدفن قريبا من قبره (صلى الله عليه وآله) وإن جاز إطلاق البقعة على جميع المدينة، وفي مجالس المفيد: ببقيعك، ولعله تصحيف، وفي نهج البلاغة: السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك، فيحتمل أن يكون المراد النزول في جواره في منازل الجنان، ويقال: لحق به كعلم

ص: 172

لحاقا بالفتح أي أدركه، والمختار اسم فاعل مضاف إلى الفاعل والألف واللام فيه موصولة، وسرعة مفعول.

ويدل على أن وفاتها صلوات الله عليها كانت أصلح لها دينا ودنيا، بل يومئ إلى أنها كانت راضية بذلك كما روى الراوندي في القصص بإسناده عن ابن عباس قال:

دخلت فاطمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي توفي فيه، فقال: نعيت إلى نفسي فبكت فاطمة فقال لها: لا تبكين فإنك لا تمكثين من بعدي إلا اثنين وسبعين يوما ونصف يوم حتى تلحقي بي، ولا تلحقي بي حتى تتحفي بثمار الجنة، فضحكت فاطمة (عليها السلام).

وروت العامة في صحاحهم بطرق عن عائشة قالت: ما رأيت من الناس أحدا أشبه كلاما وحديثا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحب بها وقبل يديها وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحبت به وقبلت يديه ودخلت عليه في مرضه فسارها فبكت ثم سارها فضحكت، فقلت: كنت أرى لهذه فضلا على النساء، فإذا هي امرأة من النساء بينما هي تبكي إذ ضحكت، فسألتها فقالت: إني لبذرة(1) فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألتها، فقالت: إنه أخبرني أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به فضحكت.

«قل يا رسول الله عن صفيتك صبري » الصفية الحبيبة المصافية والخالصة من كل شيء «وعن » متعلقة بصبري أو تعليلية ويدل على أنها (عليها السلام) كانت محبوبة مختارة عنده (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما روى شارح صحيح مسلم عن

ص: 173


1- قال الجزري في النهاية: في حديث فاطمة -عليها السلام- عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله قالت لعايشة اني أذن لبذرة، البذر: الذي يفشى السر ويظهر ما يسمعه.

القرطبي أن فاطمة -عليها السلام- كانت أحب بناته (صلى الله عليه وآله)، وأكرم من عنده وسيدة نساء الجنة، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم ببيت فاطمة -عليها السلام- فيسأل عنها ثم يدور على

نسائه إكراما لفاطمة واعتناء بها.

«وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي » قد مر أن العفو يكون بمعنى المحو وبمعنى الامحاء والثاني هو الأنسب، فقوله: تجلدي فاعله، وقيل: إذا كان بمعنى المحو فالفاعل ضمير مستتر لمصدر قل «وعن » يحتمل تعلقه بالتجلد، والتعليلية والجلد بالتحريك القوة والشدة والصبر، يقال: جلد ككرم جلادة بالفتح والتجلد تكلفه،

وفي النهج: ورق عنها تجلدي، وفي المجالس: وضعف عن سيدة النساء.

«إلا أن في التأسي لي بسنتك في فرقتك موضع تعز » يمكن أن يقرأ إلا بالكسر والتشديد وفتح أن وبالفتح والتخفيف وكسر إن، وقد ضبط بهما في النهج ولكل منهما وجه، والفرقة بالضم الاسم من قولك افترق القوم، والتعزي التسلي والتصبر، والتأسي الاقتداء، ويقال أساه فتأسى أي عزاه فتعزى، وكان المعنى أن التأسي لي بالسنة التي جعلتها لي وأوصيتني بها في فرقتك أو مطلق سنتك وطريقتك في الصبر على المصائب -فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان صبورا فيها- يمكن أن يكون داعيا إلى الصبر في تلك المصيبة، والحاصل أني قد تأسيت بسنتك في فرقتك يعني صبرت عليها، فبالحري أن أصبر في فرقة ابنتك فإن مصيبتي بك أعظم، وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إذا أصاب مصيبة(1) فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته بي فإنها ستهون عليه، أو المعنى أني أتأسى وأقتدي في صبري على هذه المصيبة بصبري في مصيبتك، فالمراد «بسنتك في فرقتك » بسنة فرقتك، والأول أظهر.

ص: 174


1- كذا في النسخ والظاهر «إذا أصاب أحدكم... »

ويحتمل أن يكون التأسي بمعنى التعزي، أي تصبري بسبب الاقتداء بسنتك في الصبر في مصيبتك موجب لتصبري في تلك المصيبة أيضا.

وفي المجالس: إلا أن في التأسي لي بسنتك والحزن الذي حل بي لفراقك موضع التعزي، وفي النهج: إلا أن في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز فلقد «إلى آخره .»

«لقد وسدتك في ملحودة قبرك » الوسادة بالكسر المخدة والمتكأ «وسدتك » أي جعلت لك وسادة، وهنا كناية عن إضجاعه (صلى الله عليه وآله) في اللحد، واللحد الشق في جانب القبر «وملحودة قبرك » أي الجهة المشقوقة من قبرك كما قاله ابن أبي الحديد.

أقول: ويحتمل أن تكون إضافة الملحودة إلى القبر بيانية، وفي القاموس اللحد ويضم: الشق يكون في عرض القبر كالملحود، ولحد القبر كمنع والحدة عمل له لحدا والميت دفنه، وقبر لأحد وملحود ذو لحد.

«وفاضت » أي سألت وجرت «نفسك » أي روحك، ويدل على عدم تجرد الروح ويكون النفس بمعنى الدم ومنه النفس السائلة، وقال بعض شارحي النهج:

المراد مقاساته للمصيبة عند فيضان نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي دمه بين نحره وصدره، ولا يخفى ما فيه، والحاصل أن عند خروج روحه المقدسة كان رأسه (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدره (عليه السلام) متكئا عليه وهذا من أشد أوضاع وقوع مصيبة الأحباء.

«بلى وفي كتاب الله لي أنعم القبول » ليست هذه الفقرة في النهج، وقوله (عليه السلام) بلى، إثبات لما يفهم نفيه في قوله: قل، إلى آخره، أي في كتاب الله من مدح

ص: 175

الصابرين ووعد المثوبات الجزيلة لهم ما يصير سببا لي للصبر على المصائب وقبولها أنعم القبول أي أحسنه.

«قد استرجعت الوديعة » الفعل فيها وفي قرينتيها إما على بناء المجهول أو المعلوم، وفي النهج وأخذت الرهينة أما حزني.

وسقط ما بين ذلك، وضبط الفعلان فيه على بناء المجهول، والمراد بالوديعة والرهينة لا سيما في رواية الكتاب نفس فاطمة صلوات الله عليها، فاستعار لفظ الوديعة والرهينة لتلك النفس الكريمة، لأن الأرواح كالودائع والرهائن في الأبدان، أو لأن النساء كالودائع والرهائن عند الأزواج، والرهينة فعلية بمعنى المفعول.

وقال بعض شراح النهج: المراد بالوديعة والرهينة نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) والتعبير بالوديعة لأنها في الدنيا تشبه الودائع والآخرة هي دار القرار، أو لأنها تجب المحافظة عليها عن الهلكات كالودائع، وبالرهينة لأن كل نفس رهينة على الوفاء بالميثاق الذي واثقها الله تعالى به، والعهد الذي أخذ عليها قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بماِ كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(1) وقيل: لأنها كالرهن إذا أكملت مدتها واستوفت طعمتها ترجع إلى مقرها.

وقال بعضهم: الرهينة والوديعة فاطمة (عليها السلام) كأنها كانت عنده (عليه السلام) عوضا من رؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: الوديعة إشارة إليه (صلى الله عليه وآله) والرهينة عبارة عنها صلوات الله عليها، والأظهر ما ذكرنا أولاً.

ص: 176


1- سورة المدثر، الآية ( 38 ).

«وأخلست الزهراء » وفي المجالس: اختلست وهو أظهر، والاختلاس أخذ الشيء بسرعة حبا له، في القاموس: الخلس السلب كالاختلاس، أو هو أوحى من الخلس، والتخالس التسالب.

«فما أقبح » صيغة التعجب والخضراء السماء، والغبراء الأرض، والغرض إظهار كمال الوجد والحزن وعظيم المصيبة، وقبح أعمال المنافقين والظالمين والشوق إلى اللحوق بسيد المرسلين وسيدة نساء العالمين، والسرمد الدائم، والسهد بالضم:

السهر، وبضمتين القليل النوم، وسهدّته فهو مسهد على صيغة التفعيل والإسناد إلى الليل تجوز، ويحتمل أن يكون اسم زمان فلا تجوز.

«وهم لا يبرح » كأنه خبر مبتدأ محذوف، أي همي أو مصيبتي هم لا يزول من قلبي «أو يختار الله » أي إلى أن، أو إلا أن يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، وهي الجنة والدرجات العالية في الآخرة، أو هم عطف على مسهد أي ذو هم «كمد مقيح » أي

حزن شديد يخرج قلبي ويقيحه، أي يوجب سيلان القيح منه «وهم مهيج » أي همي هم يهيج هموما أخرى، لأن مصيبتها صلوات الله عليهما أورثتا له (عليه السلام) هموما كثيرة سوى أصل المصيبة، أو يهيج الشوق إلى الآخرة ويمكن أن يكون هم

أولا مبتدأ وكمد خبره، وهم ثانيا عطفا عليه، قال الفيروزآبادي الكمدة بالضم والكمد بالفتح وبالتحريك تغيير اللون وذهاب صفائه، والحزن الشديد، ومرض القلب منه، وقال: القيح المدة لا يخالطها دم، قاح الجرح يقيح كقاح يقوح وقيح وتقيح وأقاح واوية ويائية، انتهى.

وربما يقرأ كمد بكاف التشبيه وكسر الميم أي القيح وهو مضاف إلى مقيح اسم فاعل باب الأفعال أو التفعيل، أي جرح ذي قيح و «سرعان » بتثليث السين وسكون الراء اسم فعل ماض أي سرع وهو يستعمل خبرا محضا وخبرا فيه معنى التعجب و «ما » عبارة عن الموت وفرق معلوم من باب التفعيل.

ص: 177

«وإلى الله أشكو » أي سوء فعال القوم بعدك حتى صار سببا لشهادة حبيبتك.

وروى البخاري عنه (عليه السلام) أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة «بتظافر أمتك على هضمها » أي تعاون بعضهم بعضا كذا في النسخ بالظاء المعجمة وكذا شاع بين الناس، والضاد المعجمة أوفق بما في كتب اللغة، قال الجوهري تضافروا على الشيء تعاونوا عليه ولم يذكر التظافر بهذا المعنى، بل ذكر الظفر بالمطلوب وعلى العدو، وكذا غيره من أهل اللغة وكان التصحيف من النساخ.

وفي المجالس: بتظاهر أمتك على وعلى هضمها حقها فاستخبرها الحال، وهو حسن، إذ التظاهر بالهاء بمعنى التعاون، وفي الصحاح: الهضم الكسر، يقال: هضمه حقه واهتضمه إذا ظلم وكسر عليه حقه.

«فأحفه السؤال » الإحفاء في السؤال الاستقصاء فيه «واستخبرها الحال » أي حالي وحالها وحال أمتك في ظلمهم لي ولها «فكم من غليل معتلج بصدرها » الغليل كأمير حرارة الجوف وحرارة الحب والحزن ذكره الفيروزآبادي، وقال: اعتلجت الأمواج: التطمت، وقال: بث الخبر: نشره وفرقه السر وأبثثتكه أظهرته «وستقول » بصيغة الغيبة أي فاطمة لك جميع أحوالها، أو بصيغة الخطاب أي تقول في جوابها ما يوجب رفع حزنها كما قيل، والأول أظهر.

«سلام مودع » منصوب بفعل مقدر أي سلمت سلام، وفي النهج: والسلام عليكما سلام، وفي المجالس سلام عليك يا رسول الله سلام مودع، التوديع طلب الدعة لمحبوب عند فراقه «لا قال » بالجر نعت مودع أو بالرفع بتقدير: لا هو قال، والجملة نعت مودع والقلاء: البغض، يقال قلاه يقليه إذا أبغضه، وقال الجوهري:

إذا فتحت مددت ويقلاه لغة طيئ.

ص: 178

وسئمت من الشيء وسئمته كعلمت أي مللته «واه واها » الواو فيهما جزء الكلمة، أو للعطف أو في إحداهما للعطف وفي الأخرى جزء الكلمة، وهما إما للتلهف والتحسر أو للتعجب مما وعد الله الصابرين وطيبه وحسنه والأول أظهر، وعلى التقادير الأول غير منون والثاني منون قال في النهاية فيه: من ابتلي فصبر فواها

واها قيل: معنى هذه الكلمة التلهف، وقد توضع موضع الإعجاب بالشيء يقال: واها له وقد ترد بمعنى التوجع يقال: فيها آها ومنه حديث أبي الدرداء: ما أنكرتم من زمانكم فيما غيرتم من أعمالكم إن يكن خيرا فواها واها وإن يكن شرا فآها آها.

وقال الزمخشري في الفائق: آها كلمة تأسف وانتصابها على إجرائها مجرى المصادر كقولهم: ويحا له، وتقدير فعل ينصبها كأنه قال تأسفا على تقدير أتأسف تأسفا.

وقال الفيروزآبادي: واها له ويترك تنوينه كلمة التعجب من طيب شيء وكلمة تلهف، انتهى.

وأيمن أفعل من اليمن بمعنى البركة وأجمل أي أشد جمالا وحسنا «ولولا غلبة المستولين » أي استيلاء الغاصبين للخلافة وخوف تشنيعهم أو علمهم بمكان القبر الشريف وإرادتهم نبشه «لجعلت المقام واللبث » عند القبر وقيل: إشارة إلى خروجه

(عليه السلام) عن المدينة إلى البصرة والكوفة وغيرهما، فالمراد بالمقام المقام بالمدينة وهو بعيد، واللبث بالفتح وبالضم وبفتحتين: المكث «لزاما » أي أمرا لازما يقال: لازمه ملازمة ولزاما وككتاب الملازم.

قوله: معكوفا، أي معكوفا عليه قال القاموس: عكف عليه عكوفا أقبل عليه مواظبا، وشعر معكوف ممشوط مضفور، وفي المجالس: ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما، والتلبث عنده معكوفا، والإعوال مد الصوت بالبكاء، والثكلى امرأة مات ولدها، والرزية بالهمز وقد تقلب ياءا: المصيبة.

ص: 179

«فبعين الله » أي بعلم الله ومع رؤيته وشهوده، وقيل: الفاء لبيان باعث ترك الإعوال.

أقول: أو لبيان باعث الإعوال، قال الراغب في المفردات: فلان بعيني أي أحفظه وأراعيه، كقولك: هو مني بمرأى ومسمع، قال: ﴿فإَنِكَّ بأِعَيْنُنِا﴾(1) وقال:

«تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا»(2) وقال: ﴿واَصنْعَ الفْلُكْ بأِعَيْنُنِا﴾(3) أي بحيث نرى ونحفظ،

وقال: «وَلتِصُنعَ عَلى عَينْيِ »(4) أي بكلائتي وحفظي، وقال البيضاوي في قوله تعالى «واَصنْعَ الفْلُكْ بأِعَيْنُنِا » أي ملتبسا بأعيننا، عبر بكثرة آلة الحس الذي به يحفظ

الشيء ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريقة التمثيل، انتهى.

«تدفن ابنتك سرا » لغاية مظلوميتها «وتهضم » على بناء المجهول أي تغصب «حقها » بالنصب مفعول ثان وكذا «إرثها » ومنع الإرث لمنعهم إياها فدك.

وجملة القول في ذلك أن فدك كانت مما أفاء الله على رسوله بعد فتح خيبر، فكانت خاصة له (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وقد وهبها لفاطمة صلوات الله عليها، وتصرف فيها وكلاؤها ونوابها، فلما غصب أبو بكر الخلافة انتزعها فجاءته فاطمة (عليها السلام) متعدية فطالبها بالبينة فجاءت

بأمير المؤمنين والحسنين (عليهم السلام) وأم أيمن المشهود لها بالجنة فرد شهادة أهل البيت بجر النفع وشهادة أم أيمن بقصورها عن نصاب الشهادة، ثم ادعتها على وجه الميراث تنزلا فرد عليها بخبر موضوع افتروه مخالفا لكتاب الله: نحن

ص: 180


1- سورة الطور، الآية ( 48 ).
2- سورة القمر، الآية ( 14 ).
3- سورة هود، الآية ( 37 ).
4- سورة طه، الآية ( 39 ).

معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، فغضبت عليه وعلى عمر وهجرتهما وأوصت بدفنها ليلا لئلا يصليا عليها.

ثم لما انتهت الأمارة إلى عمر بن عبد العزيز ردها علي بني فاطمة، ثم انتزعها منهم يزيد بن عبد الملك ثم دفعها السفاح إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم أخذها المنصور، ثم أعادها المهدي ثم قبضها الهادي، ثم ردها

المأمون.

فنقول: خطاء أبي بكر وعمر في القضية واضحة من وجوه شتى: الأول: أن فاطمة كانت معصومة فكان يجب تصديقها في دعواها وقد بينا عصمتها فيما تقدم، وما قيل: من أن عصمتها لا تنافي طلب البينة منها فلا يخفى سخافته لأن الحاكم يحكم بعلمه، وقد دلت الدلائل عليه، وأيضا اتفقت الخاصة والعامة على رواية قصة خزيمة بن ثابت وتسميته بذي الشهادتين لما شهد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعواه، ولو كان المعصوم كغيره لما جاز للنبي (صلى الله عليه وآله) قبول شاهد واحد والحكم لنفسه، بل كان يجب عليه الترافع إلى غيره.

الثاني: أنه لا ريب ممن له أدنى تتبع في الآثار في أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يرى فدك حقا لفاطمة سلام الله عليها وقد اعترف بذلك جل أهل الخلاف ورووا أنه (عليه السلام) شهد لها وقد ثبت بالأخبار المتظافرة عند الفريقين أن عليا (عليه السلام) لا يفارق الحق والحق لا يفارقه، بل يدور معه حيثما دار، وقد اعترف ابن أبي الحديد وغيره بصحة هذا الخبر وهل يشك عاقل في صحة دعوى كان المدعي فيها سيدة نساء العالمين باتفاق المخالفين والمؤالفين، والشاهد لها أمير المؤمنين وسيدا شباب أهل الجنة أجمعين صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 181

الثالث: أنه طلب البينة من صاحب اليد مع أنه أجمع المسلمون على أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

الرابع: أنه رد شهادة الزوج، والزوجية غير مانعة من القبول كما بين في محله.

الخامس: أنه رد شهادة الحسنين (عليهما السلام) إما لجر النفع أو للصغر كما قيل، مع أنه لا ريب أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان أعرف منهم بالأحكام بالاتفاق ولو لم تكن شهادتهما جائزة مقبولة لم يأت بهما للشهادة والقول في أم أيمن كذلك.

السادس: أنه لو لم تكن شهادة ما سوى أمير المؤمنين مقبولا فلم لم يحكم بالشاهد واليمين، مع أنه قد حكم بهما جل المسلمين، قال شارح الينابيع من علمائهم:

ثبوت المال بشاهد ويمين مذهب الخلفاء الأربعة وغيرهم.

السابع: أن الخبر الذي رواه موضوع مطروح لكونه مخالفا للكتاب، وقد وورد بأسانيد عن النبي (صلى الله عليه وآله): إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه وإلا ردوه.

وأما مخالفته للقرآن فمن وجوه: «الأول » عموم آيات الميراث فإنه لا خلاف مجملا في عمومها إلا ما أخرجه الدليل.

الثاني: قوله تعالى مخبرا عن زكريا (عليه السلام): «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(1) الآیة

ولفظ الميراث في اللغة والشريعة والعرف إذا أطلق ولم يقيد لا يفهم منه إلا الأموال وما في معناها، ولا يستعمل في غيرها إلا مجازا فمن ادعى أن المراد ميراث العلم والنبوة لا بد له من دليل.

ص: 182


1- سورة مريم، الآية ( 5- 6).

علي أن القرائن على إرادة ما ذكرنا كثيرة: «منها » أن زكريا اشترط في وارثه أن يكون رضيا، وإذا حمل الميراث على العلم والنبوة لم يكن لهذا الاشتراط معنى، بل كان لغوا لأنه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم والنبوة فقد دخل في سؤاله الرضا وما هو أعظم منه، فلا معنى لاشتراطه، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد اللهم ابعث إلينا نبيا واجعله مكلفا عاقلا «ومنها » أن الخوف من بني العم ومن يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوة والعلم، وكيف يخاف مثل زكريا (عليه السلام) أن يبعث الله تعالى إلى خلقه نبيا يقيمه مقام زكريا ولم يكن أهلا للنبوة والعلم، سواء

كان من موالي زكريا أو غيرهم، علي أن زكريا (عليه السلام) كان إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته.

الثالث: قوله سبحانه:«وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ »(1). والتقريب ما مر.

أقول: ويدل على بطلان هذا الخبر وجوه أخرى.

منها: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يرى الخبر موضوعا باطلا وكان (عليه السلام) لا يرى إلا الحق والصدق، فلا بد من القول بأن من زعم أنه سمع الخبر كاذب، أما الأولى فلما رواه مسلم في صحيحه في رواية طويلة أنه قال عمر لعلي

(عليه السلام) والعباس: قال أبو بكر: قال رسول الله لا نورث ما تركناه صدقة فرأيتماه كاذبا آثما خائنا غادرا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا غادرا خائنا والله يعلم إني لصادق بار تابع للحق فوليتها.

ونحو ذلك روى البخاري وابن أبي الحديد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأما المقدمة الثانية فللأخبار الدالة على أن عليا (عليه السلام) مع الحق يدور معه حيثما دار.

ص: 183


1- سورة النمل، الآية ( 16 )

ومنها: أن فاطمة (سلام الله عليها) أنكرت الخبر وحكمت بكذب أبي بكر في خطبتها المشهورة وغيرها، وعصمتها وجلالتها مما ينافي تكذيب ما كان يحتمل عندها صدقه لغرض دنيوي.

ومنها: أنه لو كانت تركة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة ولم يكن لها صلوات الله عليها حظ فيها، لبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم لها إذ التكليف في تحريم أخذها يتعلق بها ولو بينه لها لما طلبتها لعصمتها، ولا يرتاب عاقل

في أنه لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين لأهل بيته (عليهم السلام) أن تركتي صدقة لا تحل لكم، لما خرجت ابنته وبضعته من بيتها مستعدية ساخطة صارخة في معشر المهاجرين والأنصار تعاتب إمام زمانها بزعمكم، وتنسبه إلى

الجور والظلم في غصب تراثها وتستنصر المهاجرة والأنصار في الوثوب عليه وإثارة الفتنة بين المسلمين وتهيج الشر، ولم يستقر بعد أمر الإمارة والخلافة وقد أيقنت بذلك طائفة من المؤمنين أن الخليفة غاصب للخلافة ناصب لأهل الإمامة فصبوا عليه اللعن والطعن إلى نفخ الصور ويوم النشور، وكان ذلك من آكد الدواعي

إلى شق عصا المسلمين وافتراق كلمتهم وتشتت ألفتهم وقد كانت تلك النيران تخمدها بيان الحكم لها صلوات الله عليها أو لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولعله لا يجسر من أوتي حظا من الإسلام على القول بأن فاطمة (عليها السلام) مع علمها

بأن ليس لها في التركة بأمر الله نصيب كانت تقدم على مثل تلك الأمور أو كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مع علمه بحكم الله لم يزجرها عن الظلم والاستعداء، ولم يأمرها بالقعود في بيتها راضية بأمر الله فيها، وكان ينازع العباس بعد موتها ويتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فليت شعري هل كان ذلك الترك والإهمال لعدم

الاعتناء بشأن بضعته التي كانت يؤذيه ما آذاها أو بأمر زوجها وابن عمه المساوي لنفسه ومواسيه بنفسه، أو لقلة المبالاة بتبليغ أحكام الله وأمر أمته وقد أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا للعالمين.

ص: 184

ومنها: أنا مع قطع النظر عن جميع ما تقدم نحكم قطعا بأن مدلول هذا الخبر كاذب باطل، ومن أسند إليه لا يجوز عليه الكذب فلا محيص من القول بكذب من رواه والقطع بأنه وضعه وافتراه، أما المقدمة الثانية فغنية عن البيان، وأما الأولى فبيانها أنه قد جرت عادة الناس قديما وحديثا بالأخبار عن كل ما جرى بخلاف

المعهود بين كافة الناس، سيما إذا وقع في كل عصر وزمان، وتوفرت الدواعي إلى نقله وروايته، ومن المعلوم لكل أحد أن جميع الأمم على اختلافهم في مذاهبهم يهتمون بضبط أحوال الأنبياء (عليهم السلام) وسيرتهم وأحوال أولادهم وما يجري عليهم بعد آبائهم وضبط خصائصهم وما يتفردون به عن غيرهم، ومن

المعلوم أيضا أن العادة قد جرت من يوم خلق الله الدنيا وأهلها إلى انقضاء مدتها بأن يرث الأقربون من الأولاد وغيرهم أقاربهم وذوي أرحامهم، وينتفعوا بأموالهم وما خلفوه بعد موتهم، ولا شك لأحد في أن عامة الناس عالمهم وجاهلهم وغنيهم وفقيرهم، وملوكهم ورعاياهم، يرغبون إلى كل ما نسب إلى ذي شرف وفضيلة،

ويتبركون به، ويحرزه الملوك في خزائنهم، ويوصون به لأحب أهلهم فكيف بسلاح الأنبياء وثيابهم وأمتعتهم.

إذا تمهدت تلك المقدمات فنقول: لو كان ما تركه الأنبياء من لدن آدم (عليه السلام) إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله) صدقة، لقسمت بين الناس بخلاف المعهود من توارث الآباء والأولاد وسائر الأقارب، ولا تخلو الحال إما أن يكون كل نبي يبين هذا الحكم لورثته بخلاف نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يتركون البيان

كما تركه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن كان الأول فمع أنه خلاف الظاهر كيف خفي هذا الحكم على جميع أهل الملل والأديان ولم يسمعه أحد إلا أبو بكر ومن يحذو حذوهم، ولم ينقل أحد أن عصا موسى انتقل على وجه الصدقة إلى فلان، وسيف سليمان صار إلى فلان، وكذا ثياب سائر الأنبياء وأسلحتهم وأدواتهم

ص: 185

فرقت بين الناس ولم يكن في ورثته أكثر من مائة ألف نبي قوم ينازعون في ذلك وإن كان بخلاف حكم الله عز وجل، وقد كان أولاد يعقوب (عليه السلام) مع علوم قدرهم يحسدون على أخيهم ويلقونه في الجب لما رأوه أحبهم إليه ووقعت تلك المنازعة مرارا ولم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير مع شدة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء وخصائصهم وما جرى بعدهم.

وإن كان الثاني فكيف كانت حال ورثة الأنبياء؟ أكانوا يرضون بذلك ولا

ينكرون؟ فكيف كانت ورثة الأنبياء جميعا يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء ولم ترض به سيدة النساء أو كانت سنة المنازعة جارية في جميع الأمم ولم ينقلها أحد ممن تقدم ولا ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم، إن هذا لشيء عجاب! وأما أن فدك كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمما لا نزاع فيه، وقد أوردنا من رواياتنا وأخبار المخالفين في الكتاب الكبير ما هو فوق الغاية.

وروي في جامع الأصول من صحيح أبي داود عن عمر قال: إن أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة قرى عرينة وفدك وكذا وكذا ينفق على أهله منها نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله، وتلا: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ »ِ(1) الآية.

وروي أيضا عن مالك بن أوس قال: كان فيما احتج عمر أن قال: كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث صفايا، بنوا النضير وخيبر وفدك، إلى آخر الخبر.

وأما أنها كانت في يد فاطمة عليها السلام فلأخبار كثيرة من كتبهم دلت على ذلك أوردتها في الكتاب الكبير.

ص: 186


1- سورة الحشر، الآية ( 7).

وفي نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ونعم الحكم الله.

وروى الطبرسي قدس سره في الاحتجاج عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها

فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر فقالت: يا أبا بكر لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى؟ فقال: هاتي على ذلك بشهود فجاءت بأم أيمن فقالت:

لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال: بلى، قالت: فأشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله (صلى الله

عليه وآله وسلم):

﴿فآَت ذاَ القْرُبْى حَقَهُ)(1) فجعل فدك لها طعمة بأمر الله، وجاء علي فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتابا ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن

فاطمة ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبته، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي فلما كان بعد ذلك جاء علي (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ملكته في حياة رسول الله؟ فقال أبو بكر:

ص: 187


1- سورة الروم، الآية ( 38 ).

إن هذا فيء للمسلمين فإن أقامت شهودا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعله لها وإلا فلا حق لها فيه، فقال أمير المؤمنين: يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال:

لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟

قال: إياك كنت أسأل البينة، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوها شهودا كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟ فسكت أبو بكر فقال

عمر: يا علي دعنا من كلامك فإنا لا نقوى على حجتك فإن أتيت بشهود عدول وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه فقال علي (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال:

أخبرني عن قول الله عز وجل: « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »(1) فينا نزلت أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم قال: فلو أن شهودا

شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعا بها؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر المسلمين، قال: كنت إذا عند الله من الكافرين، قال: ولم؟

قال: لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدك وقبضته في حياته ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها وأخذت منها فدك وزعمت أنه فيء للمسلمين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فرددت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه.

ص: 188


1- سورة الاحزاب، الآية ( 33 ).

) ))

قال: فدمدم الناس وأنكر بعضهم وقالوا: صدق والله علي ورجع علي (عليه السلام) إلى منزله.

قال: ودخلت فاطمة (عليها السلام) المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

(1)

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا(2)

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا*** فغاب عنا فكل الخير محتجب

قد كنت بدرا ونورا يستضاء به*** عليك تنزل من ذي العزة الكتب

جمتنا رجال واستخف بنا*** إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت*** منا العيون بتهمال لها سكب(3)

قال: فرجع أبو بكر وعمر إلى منزلهما وبعث أبو بكر إلى عمر، ثم دعاه فقال:

أما رأيت مجلس علي منا في هذا اليوم؟ والله لئن قعد مقعدا مثله ليفسدن أمرنا فما الرأي؟ قال عمر: الرأي أن نأمر بقتله، قال: فمن يقتله؟ قال: خالد بن الوليد، فبعثوا إلى خالد فأتاهم فقالا له: نريد أن نحملك على أمر عظيم، فقال: احملوني على ما شئتم ولو على قتل علي بن أبي طالب، قالا: فهو ذاك، قال خالد: متى أقتله؟ قال أبو بكر: أحضر المسجد وقم بجنبه في الصلاة فإذا سلمت قم إليه واضرب عنقه، قال: نعم.

فسمعت أسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر، فقالت لجاريتها: اذهبي إلى منزل علي وفاطمة واقرئيهما السلام وقولي لعلي: « إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي

ص: 189


1- لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب.
2- الوابل: المطر الشديد.
3- هملت العين: فاضت وسالت، وسكب الماء وغيره: انصب.

لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ»فجاءت الجارية إليهما وقالت لعلي: إن أسماء بنت عميس تقرأ عليك السلام وتقول: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج إني لك من الناصحين، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قولي لها إن الله يحول بينهم وبين ما يريدون ثم قام

وتهيأ للصلاة وحضر المسجد وصلى خلف أبي بكر وخالد بن الوليد بجنبه ومعه السيف، فلما جلس أبو بكر للتشهد ندم على ما قال وخاف الفتنة وعرف شدة علي وبأسه فلم يزل متفكرا لا يجسر أن يسلم حتى ظن الناس أنه سها ثم التفت إلى خالد وقال: خالد لا تفعلن ما أمرتك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا خالد ما الذي أمرك به؟ قال: أمرني بضرب عنقك قال: أو كنت فاعلا؟ قال: أي والله لولا أنه قال لي: لا تفعله قبل التسليم لقتلتك، قال: فأخذه علي فجلد به الأرض فاجتمع الناس عليه فقال عمر: يقتله ورب الكعبة فقال الناس: يا أبا الحسن الله الله بحق صاحب القبر، فخلى عنه.

ثم التفت إلى عمر فأخذ بتلابيبه(1) فقال: يا بن صهاك والله لولا عهد من رسول

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا، ودخل منزله.

وروى الصدوق (رحمه الله) في العلل نحوا من ذلك بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وقالت فاطمة صلوات الله عليها في الخطبة الطويلة التي احتجت على القوم في أمر فدك: وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، أفلا تعلمون؟ بلى تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته،

ص: 190


1- تلابيب جمع التلبيب: ما في موضع اللبب من الثياب ويعرف بالطوق، يقال أخذ بتلابيبه، أي أمسكه متمكنا منه.

أيها المسلمون، أأغلب على إرثيه، يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول:

«وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ »(1) وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا (عليه السلام)، إذ قال:

« رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِیًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ »(2) وقال: « وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ »(3)وقال: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ »(4)

وقال: « إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »(5) وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان، ولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي فدونكها(6) مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة ما تخسرون ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم، إلى آخر الخطبة المذكورة مع شرحها في الكتاب الكبير.

ص: 191


1- سورة النمل، الآية ( 16 ).
2- سورة مريم، الآية ( 6).
3- سورة الأحزاب، الآية ( 6).
4- سورة النساء، الآية ( 11 ).
5- سورة البقرة، الآية ( 180 ).
6- الضمير للخلافة.

قوله (عليه السلام): ولم يتباعد العهد، الجملة حالية أي فعلوا جميع ذلك ولم يبعد ذلك ولم يبعد عهدهم بك وبما سمعوا منك في أهل بيتك مع وجوب رعاية حرمتك، وفي النهج: ولم يطل العهد، وفي المجالس: تدفن بنتك سرا ويهتضم حقها

قهرا وتمنع إرثها جهرا ولم يطل العهد، وفي القاموس: العهد الوصية، والتقدم إلى المرء في الشيء واليمين وقد عاهده، والذي يكتب للولاة، من عهد إليه أوصاه، والحفاظ ورعاية الحرمة والأمان، والذمة والالتقاء والمعرفة، منه عهدي به بموضع كذا والمنزل المعهود به الشيء، والزمان والوفاء، انتهى.

ولا يخفى على اللبيب ما يناسب المقام من تلك المعاني «ولم يخلق » على المعلوم من باب نصر وعلم وحسن أي لم يصر ذكرك وتذكر أحوالك ورواية أقوالك بالياء، بل كان كلها جديدا، وقيل: الذكر القرآن، والمشتكى مصدر ميمي أي الشكوى.

«وفيك يا رسول الله أحسن العزاء » أي في أقوالك وصفاتك وما أمرتني به فيما يعرض لي بعدك أو في سبيل رضاك أحسن التعزية، وما يوجب أحسن الصبر، وقيل: في، للسببية، وقد مر بعض الوجوه في باب تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله

وسلم) في قوله: إن في الله عزاء)(1).

أقول:

ونلاحظ هنا تركيز العلّامة المجلسي (رحمه الله) على القضية الأساس التي ارادها منتج النص (عليه الصلاة والسلام)، والى المقاصد التي اكتنزتها المفردات، ليصل بالمتلقي الى الإقرار ولو ضمنا بما جرى على الزهراء (عليها السلام) من الظلم والعدوان، وأن الصحابة أول من أنتهك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها.

ص: 192


1- مرآة العقول: ج 5 ص 321 - 342 .

بل قد أسسوا لظلمها وسنوا ذلك في الائمة، فجرى هذا الظلم والعدوان في ابنائها وذريتها وشيعتها فمن شاء فليؤمن بما جاء في النص وشواهده التاريخية والحديثية التي لا يمكن لعاقل منصف ان ينكرها؛ ومن شاء فليكفر وليعد جواباً في يوم غد حينما يقف للسؤال بين يدي الله عز وجل ويدي رسوله (صلى الله عليه

وآله)، فلا ينفع نفس إيمانها أن لم تكن آمنت من قبل.

وبناءً عليه: كان تفاعله مع النص في مرآة العقول يرتكز على اظهار معاني النص ودلالاته في بيان حقيقة ما جرى على فاطمة وما جنته الصحابة في انتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ بينما بدأ موقفه وتفاعله (رحمة الله عليه) مع مجمل النص قوياً ومدوياً وجلياً وصريحاً وعظيماً، حينما أورد النص في كتاب روضة

المتقين، وهو ما سنعرض له في ثانياً.

ثانياً: تفاعله مع النص في كتاب روضة المتقين

في كتاب روضة المتقين يختلف المشهد عنه في كتاب مرآة العقول، واختلف معه المنهج في التعامل مع النص.

ففي مرآة العقول كان النص حاضراً من الاساس مما يلزم الاسهاب والتعامل معه بحسب مقتضيات المفردات والجمل المكونة للنص؛ فضلاً عن ذلك أن المنهج هنا كان منهج الشرح والبيان لأحاديث كتاب الكافي وكان لزاما عليه بمقتضى هذا

المنهج ان يتناول النص شارحاً ومبيناً ومتفاعلاً مع ما جاء فيه.

أما في روضة المتقين فالمنهج قد اختلف وذلك لأن المجلسي هو من جاء بهذا النص شاهدا على بيان فضل الزهراء (عليها السلام) ومنزلتها حينما تحدّث الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن زيارتها، فاتبعه العلامة المجلسي بقوله:

ص: 193

(عذر لتأليف الزيارة لأنها مأثورة افضل، وان كان ما ذكره -الصدوق- وألفه في غاية الجودة؛ والظاهر من عدم الخبر في زيارتها، انهم صلوات الله عليهم لو ذكروها لكان اللازم ذكر مظلوميتها وشهادتها، وكانوا يتقون من العامة لأن في ذلك رفع مذهبهم بخلاف سائر الائمة كما رواه الكليني في القوي عن علي بن محمد الهرمزاني

عن ابي عبد الله الحسين بن علي (صلوات الله عليهما)، قال:

«لما قبضت فاطمة (صلوات الله عليها) دفنها امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) سراً» .

والموجود في الاخبار الكثيرة ان دفنها سرا كان لوصيتها (صلوات الله عليها) لئلا يصلي عليها الاشقيان).

وعفا على موضوع قبرها ثم قام فحول وجهه الى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال:

«السلام عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)...... »(1) الخ النص الشريف.

ثم يورد العلّامة المجلسي الحديث ويعقبه بقوله الذي يكشف فيه عن مستوى تأثره وتفاعله فيقول:

(فتدبر أيها المنصف في فصاحة هذا الكلام، وبلاغته، وشكايته، ومظلوميته، ومظلوميتها صلوات الله عليهما، فانظر هل يبقى اللعن عليهم محل توقف، أو في كفرهم مجال كلام، فلعنة الله على من توقف في كفرهم)(2).

ص: 194


1- روضة المتقين: ج 5 ص 347 .
2- روضة المتقين: ج 5 ص 349 .

وهذا الموقف الواضح من التفاعل مع النص وبهذه القوة لا يحتاج الى مزيد من البيان، ولكن ما ينبغي الحديث عنه هو قطب هذا التفاعل أو المقبولية مع النص الشريف المرتكزة على اصل عقيدة التولي والتبري التي اظهرها العلّامة المجلسي (عليه الرحمة والرضوان) فقد بدت واضحة جلية مثلما اظهر النص في قوة تأثيره

مكنون ابن ابي الحديد المعتزلي وعقيدته الاعتزالية.

وهنا تتجلى قدرة النص ومنتجه (عليه الصلاة والسلام) على خلق هذه الاجواء من التفاعل مع خطابه لاسيما إذا كان النص في نسقه العقدي والتاريخي والوجداني يتحدث عن أعقد المسائل العقدية والايمانية المرتبطة بشخص رسول الله (صلى الله

عليه وآله) وعترته (عليهم السلام) وصحابته، ومن ثم:

فإن أهمية النص تبرز بكونها صادرة عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فضلا عن اكتنازه لإدق التفاصيل لما حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحديد مسار الامة وانقسامها من حين السقيفة ودفن الزهراء سرا الى فئتين، وهما فئة اهل السقيفة وعقيدتها وفكرها وثقافتها وتشريعاتها وفئة علي وفاطمة (صلوات

الله وسلامه عليهما) مما أسس الى أصل من اصول العقيدة والايمان وفيه تباين مسار هاتين الفئتين، وهما ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: إبداء ذروة التفاعل مع النص بين حدَّي التولي والتبري
اشارة

تناول الفقهاء مسألة التولي والتبري في كتبهم ومباحثهم وللنظر في ادلتهما من القرآن واحاديث العترة النبوية (سلام الله عليهم اجمعين) وتوصلوا الى كونهما من الفروع التي تأخذ بعنق المكلف وانه مسؤول عنهما يوم القيامة.

ص: 195

ولذا:

نورد بعض هذه الادلة من القرآن والعترة (عليهم السلام) ثم نعرض اقوال بعض الفقهاء ليتضح لنا اثر النص الشريف ومقبوليته عند العلّامة المجلسي (رحمه الله) ومستوى تأثره وتفاعله مع هذه الكلمات التي اكتنزها النص الشريف.

أولاً: نصوص التولي والتبري في القرآن والعترة (علیهم السّلام)

إنَّ النظر في الآيات المباركة المشتملة على الموالاة والبراءة او التولي والتبريّ والبحث فيها ليأخذ بيد الباحث الى حقيقة إلتصاق المودة والبغض بالموالاة والبراءة.

ولذلك:

فإن في قوله تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1) ملاصق لقصدية قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ »(2).

فالمودة والتولي يسيران جنباً الى جنب في تحديد هوية الانسان المسلم وبيان مستوى ايمانه، ومقتضيات هذا الايمان في حب الله تعالى وحب رسوله (صلى الله عليه وآله) والذين امنوا وهم عترته (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) ومصداقها في الامام علي (عليه السلام) الذي وردت فيه نصوص نبوية صريحة في التلازم بين حبه والايمان، وبغضه والنفاق.

وقد جاءت اية الموالاة صريحة في تجلي قصدية هذه الموالاة في رسول الله (صلى الله عليه وآله) والامام علي (عليه السلام) وحصرها فيهم، قال تعالى:

ص: 196


1- سورة الشورى، الآية ( 23 ).
2- سورة المائدة، الآية ( 56 ).

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(1).

وقد نصت الأحاديث النبوية الشريفة في التفسير واسباب النزول انها نزلت في الامام علي (عليه السلام) فهذه الآية وغيرها ترشد الى تولي المؤمن وموالاته والتبري او البراءة من اعداء الله ورسوله وعترته (صلوات الله عليهم اجمعين)، فهي كالاتي:

1-قال تعالى في بيان ارتكاز المودة على الايمان وارتكازهما معاً على البراءة من اعداء الله تعالى في قوله تعالى:

«لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...»(2).

فالآية صريحة في نفي وجود هؤلاء القوم الذين يدعون الايمان بالله واليوم الاخر وفي نفس الوقت يوادون من حاد الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وعاداهم.

بمعنى:

ان مقتضى الايمان بالله واليوم الاخر يلزم البراءة ممن يعادون الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) ويحاربونهما فهذه قاعدة اساس يتحدد فيها مسير الانسان في الحياة الدنيا ويتحدد كذلك مصيره في الاخرة.

وذلك ان الايمان بالله واليوم الاخر والمودة والموالاة لأعداء الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) نقيضان لا يجتمعان، وان اجتمعا في شخص فإن ذلك يكشف عن كذبه ونفاقه.

ص: 197


1- سورة المائدة، الآية ( 55 ).
2- سورة المجادلة، الآية ( 22 )

ولذا: يعرض القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى:

«قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا... »(1).

وفي قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .....»(2).

ومن ثم تتوج هذه العقيدة الايمانية في سورة براءة التي جعلها الله تعالى عنوانا انظوى تحته مستوى الايمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) من خلال العلامة مع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وعترته من جهة الموالاة والتولي والحب.

في المقابل تتحدد العلامة مع الكفار والمنافقين في البراءة منهم وبغضهم وحرمة موالاتهم.

ولذلك نجد النصوص الشريفة الواردة عن العترة النبوية تسير جنبا الى جنب مع الآيات القرآنية كاشفة عن قصدية الآيات ومرادها وحكمها، وهو ما نجده من خلال دخول بعض المؤمنين على الائمة عليهم السلام وهم يعرضون عليك دينهم ومستوى ايمانهم وعقيدتهم في التولي والتبري، وهي كالآتي:

1-قال عيسى بن السري (رحمه الله) قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

حدثني ما بنيت عليه دعائم الاسلام التي اذا اخذت بها زكى عملي ولم يضرني جهل ما جهلت بعده؟

ص: 198


1- سورة الممتحنة، الآية ( 4).
2- سورة الممتحنة، الآية ( 13 ).

فقال:

«شهادة أن لا إله إ لا الله، وأن محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإقرار بما جاء من عند الله، وحق في الأموال والزكاة، والولاية التي امر الله ها و اية آل محمد(صلى الله عليه وآله).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .»

وقال الله تعالى:

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .....»، فكان علي (عليه السلام) ثم صار من بعده الحسن ثم من بعده الحسين، ثم من بعده علي بن الحسين ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الامر، أن الأرض لا تصلح الا بإمام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، وأحوج ما يكون أحدهم الى معرفته إذا بلغت

نفسه ها هنا، قال: واهوى بيده الى صدره، يقول حينئذ لقد كنت على أمر حسن »(1).

2-عن أبي اليسع، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)، أخبرني دعائم الإسلام التي لا يسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها، التي من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه، ولم يقبل منه عمله، ومن عرفها وعمل بها، صلح دينه وقبل عمله، ولم يضيق به مما هو لجهل شيء من الأمور جهله، ثم قال:

«شهادة أن لا إله إ لا الله، والإيمان بأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإقرار بما جاء به من عند الله، وحق في الأموال والزكاة، والولاية التي أمر الله عز

ص: 199


1- الكافي: ج 2 ص 21 .

وجل ها، و اية آل محمد (صلى الله عليه وآله) »(1).

3- وأخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن إسماعيل الجعفي، قال:

سألت أبا جعفر -الباقر- (عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله؟

فقال:

«الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم .»

قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟

فقال: «بلى .»

فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله وأتو اكم وأبرء من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم؛ فقال:

«ما جهلت شيئاً هو الله الذي نحن عليه .»

قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟

فقال: « لا، إ لّا المستضعفين .»

قلت: ومن هم؟، قال:

«نساؤكم وأو لادكم » ثم قال:

«أرأيت أم أيمن؟ فإ ي أشهد أ نها من أهل الجنة وما كانت تعرف ما أنتم عليه »(2).

ص: 200


1- الكافي: ج 2 ص 19 .
2- الكافي: ج 2 ص 405 .

4- وأخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن عجلان بن أبي صالح، قال: قلت لأبي عبد الله -الصادق- (عليه السلام): أوقفني على حدود الايمان؟ فقال:

«شهادة إن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله -(صلى الله عليه وآله)- والإقرار بما جاء من عند الله، وصلوات الخمس، وأداء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة عدونا، والدخول مع الصادقين »(1).

5- وأخرج الشيخ الكليني (رحم الله) عن أبي الجارود (رحمه الله)، قال: قلت

لأبي جعفر (عليه السلام): يا ابن رسول الله، هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي اليكم وموالاتي اياكم؟

قال: فقال: نعم.

قال: فقلت: فإني اسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي و لا استطيع زيارتكم كل حين؟

قال: هات حاجتك.

قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله عز وجل به أنت وأهل بيتك لأدين الله عز

وجل به.

قال: «إن كنت أقصرت الخطبة، فقد أعظمت المسألة والله لأعطينك ديني ودين أبائي الذي ندين الله عز وجل به:

ص: 201


1- الكافي: ج 2 ص 18 .

شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإقرار بما جاء به من عند الله، والولاية لولينا، والبراءة من عدونا، والتسليم لأمرنا وانتظار قائمنا، والإجتهاد والورع »(1).

6-وأخرج الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان) بسنده عن حنش بن المعتمر،

قال: دخلت على أمیر المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت:

السلام عليك يا أمیر المؤمنين ورحمة الله وبركاته، كيف أمسيت؟

قال: «أمسيت محباً لمحبنا، مبغضاً لمبغضنا، وأمسى محبنا مغتبطاً برحمة من الله كان ينتظرها، وأمسى عدونا يرمس(2) بنيانه على شفا جرف هار، فكأن ذلك الشفا قد أنهار به في نار جهنم، وكأن أبوب الجنة قد فتحت لأهلها، فهنيئا لأهل الرحمة رحمتهم، والتعس لأهل النار، والنار لهم.

يا حنش، من سره أن يعلم أمحب لنا أم مبعض فليمتحن قلبه، فإن كان یحب

ولينا فليس بمبغض لنا، وأن كان يبغض ولينا فليس بمحب لنا؛ إنّ الله تعالى أخذ

ميثاقاً لمحبنا بمودتنا، وكتب في الذكر أسم مبغضنا، نحن النجباء، وأفراطنا أفراط

الأنبياء »(3).

ص: 202


1- الكافي: ج 2 ص 22 .
2- الظاهر انه تصحيف (يؤسس).
3- الامالي للشيخ المفيد: ص 334 ؛ الامالي للطوسي: ص 113 ؛ البحار للمجلسي: ج 72 ص 53 .

7-وأخرج الكليني (رحمه الله) عن إسماعيل الجعفي، قال: دخل رجل على أبي جعفر (عليه السلام) ومعه صحيفة فقال له أبو جعفر (عليه السلام):

«هذه صحيفة مخاصم يسأل عن الدين الذي يقبل فيه العمل ».

فقال: رحمك الله هذا الذي أريد.

فقال أبو جعفر (عليه السلام):

«شهادة أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً (صلى الله عليه وآله) عبده

ورسوله، وتقر بما جاء من عندالله، والولاية لنا أهل البيت، والبراءة من عدونا،

والتسليم لأمرنا والورع والتواضع، وانتظار قائمنا فإن لنا دولة إذا شاء الله جاء

ها »(1).

فهذه الاحاديث صريحة في تحديد مسار الانسان وتبين دين الله الذي ارتضاه

لعباده.

ومن ثم، فقد تناول الفقهاء هذه المسألة في كتبهم فكان ممن أوردها:

أ- الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان) (ت 413 ه) وتحت عنوان: باب: ما

يجب من ولاية أولياء الله في الدين وعداوة أعدائه الفاسقين؛ قال (رحمه الله):

(وولاية أولياء الله تعالى مفترضة، وبها قوام الايمان، وعداوة اعدائه واجبة على

كل حال.

ص: 203


1- الكافي: ج 2 ص 23 .

قال تعالى: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ»(1).

و قال عزّوجل:«وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ...»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أوثق عرى الإيمان احب في الله، والبغض في الله، والولاية لأولياء الله، والعداوة لأعداء الله(3)»(4).

ونلاحظ هنا أن هذه النصوص هي عقيدة راسخة لدى أتباع وأشياع أهل البيت

(عليهم السلام) في وجوب موالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله تعالى، وعليه سار

السلف الصالح لأتباع العترة النبوية منذ القرن الأول للهجرة النبوية والى يومنا

هذا فقد بسط الفقهاء القول في مقتضيات هذه النصوص الشريفة ولوازمها.

ثانياً: إرتكاز مقبولية النص عند المجلسي على عقيدة التولي والتبري

بعد هذا البيان للنصوص الشريفة وأقوال الفقهاء في فريضة التولي والتبري يظهر

لنا أن مقبولية النص الشريف لدى العلامة المجلسي (رحمه الله) وتفاعله معه يرتكز على هذه الفريضة، لاسيما وأنه قد صرّح بذلك تصريحاً جلياً وصارماً وصلباً في

البراءة مما اجترمه هؤلاء القوم في حق البضعة النبوية (عليها السلام).

ص: 204


1- سورة المجادلة، الآية ( 22 ).
2- سورة المائدة، الآية ( 81 ).
3- الوسائل: ج 11 الباب 17 من ابواب الامر والنهي: ص 439 .
4- المقنعة للشيخ المفيد: ص 33 .

إذ لم يكتف (عليه الرحمة والرضوان) ببيان تأثره وحزنه ومقبوليته لما نطق به

الإمام علي (عليه السلام) وإنما أصدر حكما شرعيا يحدد فيه رؤية الناس لهؤلاء

الذين هضموا الزهراء حقها، ومنعوا أرثها، وهجموا على دارها، فقد بنى حكمه

(عليه الرحمة والرضوان) وهو الفقيه في كفرهما ولعنهما مستندا بهذا النص الشريف، وهو بذاك يقدم الصورة الإنموذج في مقبولية النص وذروة التفاعل في العملية التواصلية، وتحقق بذلك منجّزية الأفعال في الخارج ليس من لحاظ براءته من هما، بل من لحاظ لعنه لمن توقف في كفرهما ولعنهما؛ وهو غاية ما يطمح اليه العلماء في لسانيات النص في تحقق الفكر التداولي في معياري القصدية والمقبولية بين منج النص والمتلقي.

ص: 205

ص: 206

المبحث الثالث: مقبولية النص عند المرجع الديني الشيخ جواد التبريزي (عليه الرحمة والرضوان)

اشارة

ص: 207

ص: 208

مقبولية النص عند المرجع الديني الشيخ جواد التبريزي (رحمه الله) (ت 427 ه).

اشارة

تمتاز مقبولية النص هنا في هذا المبحث عن سابقيها، واعني عند ابن ابي الحديد

المعتزلي والعلّامة المجلسي وذلك أن الشيخ جواد التبريزي (رحمه الله) أحد مراجع المذهب الإمامي ومن ثم فإن مقبولية النص نتجت عن قواعد ومباني إصولية وفقهية، كما سيرد ذلك خلال العرض.

بمعنى: إنّ تفاعل المتلقي هنا لم يخضع للميولات النفسية أو العاطفية كما حدث

لدى المتبقي الاول، وأنما خضعت لتلك المباني الأصولية والفقهية مما أعطى صورة مختلفة في مقبولية النص وتأثيره في المتلقي وتفاعله معه.

وذلك أن علماء لسانيات الخطاب، وفلاسفة اللغة يدورون حول قطب التفاعل

النفسي والوجداني عند المتلقي بغية الوقوف على روح النص وأثره في تحريك

الاخرين.

ولذا: جاءوا ينظرون في تراكيب الجمل وقوالب الألفاظ ومعاني المفردات

والظواهر والمستورات، وغيرها من روح النص ولسانه.

ولولا ذاك لما كان للنص اثر في اهتمام العلماء والفلاسفة ولأصبح الحال ينظر في

مقطوعة اشتملت على ارقام رياضية ورموز صورية.

ص: 209

وعليه: تظهر أهمية المقبولية هنا أنها حددت للآخرين مسار حياتهم فكان قوله (قدس سره) تكليف شرعي لمن اتخذه مرجعا وقلده تكاليفه الشرعية وختم صحيفته التي يقبل بها على الله تعالى.

بمعنى: لم تعد مقبولية النص هنا قابلة للنقاش كما حصل في المبحث الاول عند عرض مقبولية النص عند ابن أبي الحديد المعتزلي وقد استعرضنا مقبوليتنا لما ورد عنه من تأثر وتفاعل وحاولنا أن نقف عند الجذور والدوافع التي دفعت ابن أبي الحديد المعتزلي ليتعامل مع كلام امير المؤمنين (عليه السلام) بههذه الكيفية، لاسيما فيما يتعلق بعقيدة الإعتزال في عدالة الصحابة، ونفي ما وقع على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الظلم والجور، وجود نص نبوي عند الامام علي (عليه السلام) في خلافته على الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغيرها مما مرّ نقاشه.

وفي البحث الثاني حاولنا ان نقدم للقارئ الكريم متبنيات مقبولية النص عند

العلامة المجلسي (رحمه الله) وايضاح عقيدة التبري والتولي وغيرها.

أما هنا: فمقبولية النص غير خاضعة للنقاش أو الحوار أو الارجاع الى المباني الأصولية والفقهية، وذلك أن عمل المكلف الإمتثال لرأي مرجعه الذي يقلّده.

أما البيان والإيضاح لتلك الأصول والمباني فمحله لأهل العلم والفضيلة في

درس البحث الخارج كما هو معروف لأهل العلم والفضل.

ص: 210

ولذا:

نجد أن هذه المقبولية ظهرت لدى الشيخ جواد التبريزي (قدس سره) من خلال

مجموعة من الاسئلة الشرعية التي وجهت إليه من بعض المؤمنين لمعرفة تكاليفهم الشرعية في زمن تكالب فيه اهل الجهل وماجت فيه الشبهات والفتن.

ومن ثم فإن هذه المقبولية لها أثرها الفقهي والتشريعي عند المتلقي لاسيما وقد تركت اثراً كبيراً في نفوس الناس، فكانت هذه المقبولية على النحو الاتي:

أولاً: اعتماد النص في اثبات ظلامة فاطمة (علیها السّلام) وصحة ما نزل بها من المصائب على أيدي الصحابة، فكان اظهر مستويات مقبولية النص

في جوابه (عليه الرحمة والرضوان) على سؤال وجه له في نفي ما نزل بفاطمة

(عليها السلام) من الظلم والمصائب على يدي أبي بكر وعمر ومن أئتمر بأمرهما؛

يجيب (قدس سره) بإجابة ترتكز على النص الشريف وإعتماده اصلاً ودليلاً في

اثبات هذه الجريمة وما نتج عنها، فتظهر مقبولية النص هنا كقيمة علمية وأداة من

أدواة أثبات الجريمة، فضلاً عن كاشفيتها لحقيقة الأحداث والاشخاص والرموز

الاسلامية في تلك المدة الزمنية التي أعقبت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فكان السؤال والإجابة على النحو الاتي:

(ما رأيكم في مقولة من يقول:

أنا لا أتفاعل مع كثير من الأحاديث التي تقول: أن القوم كسروا ضلعها أو

ضربوها على وجهها وما إلى ذلك؛ وعند ما سئل: كيف نستثني كسر ضلع الزهراء

مع العلم بأنّ كلمة (وإن) التي أطلقها أصل المهاجمة أعطت الإيحاء، أضف إلى ذلك: كيف نفسّر خسران الجنين محسن؟ أجاب: قلت، إنّ هذا لم يثبت ثبوتاً بأسانيد معتبرة، ولكن قد يكون ممكناً،أمّا سقوط الجنين فقد يكون بحالة طبيعيّة طارئة؟!!

ص: 211

فكان تفاعله وتلقيه لهذا السؤال والاجابة عليه:

باسمه تعالى: كفى في ثبوت ظلامتها وصحّة ما نقل من مصائبها وما جرى عليها

خفاء قبرها ووصيتّها بأن تُدفن ليلاً إظهاراً لمظلوميتّها (سلام الله عليها)، مضافاً لما نُقل عن عليّ (عليه السّلام) من الكلمات في الكافي (ج 1 ص 458 ) عند ما دفنها، كما في مولد الزهراء (سلام الله عليها) من كتاب الحجةّ قال (عليه السّلام): «وستنبئك ابنتك بتظافر أمّتك على هضمها، فاحفها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً ،ً وستقول و یحكم الله، والله خیر الحاكمين ».

وقال (عليه السلاّم): «فبعين الله تُدفَنُ ابنتك سرّاً ، ویهضم حقّها،و تمنع إرثها،ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله يا رسول الله المشتكى .»

وفي الجزء الثاني من نفس الباب بسند معتبر عن الكاظم (عليه السّلام) قال: «إنّها صدِّیقة شهيدة »؛ وهو ظاهر في مظلوميّتها وشهادتها.

ويؤيّده ما في البحار (ج 43 ، باب رقم 11 ) عن دلائل الإمامة للطبري بإسناده

عن كثير من العلماء، عن الصادق (عليه السلاّم): «وكان سبب وفاتها أنّ قنفذاً أمره مو لاه فلكزها بنعل السيف بأمره فأسقطت محسناً »! والله الهادي للحق)(1).

ونلاحظ هنا:

إنَّ مقبولية النص الشريف كانت تشتمل على اظهاره كدليل يثبت ظلامة بضعة

المصطفى (صلى الله عليه وآله) وانها ماتت شهيدة مع جنينها المحسن وهذا يكشف عن اعلى مستويات التأثر والتفاعل مع النص ليس فقط عند متلقيه الشيخ التبريزي

ص: 212


1- الانوار الالهية في المسائل العقائدية: ص 117 - 118 .

(عليه الرحمة والرضوان) وانما لأهل الفضل والعلم والمكلفين من المؤمنين؛ فضلاً عن تأثر الباحثين والقرّاء بهذا الرأي الذي صدر عنه (رحمه الله) مما شكل حافزاً قوياً لدى أهل الإختصاص وطلاب المعرفة من المسلمين وغيرهم في معرفة

حقيقة الأحداث التي أعقبت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحددت مسار

المسلمين وهويتهم العقدية وحقيقة ايمانهم وأرتباط ما جرى على البضعة النبوية

(صلوات الله وسلامه عليها) بالركن الخامس من أركان الاسلام الذي حددته

الروايات الشريفة الواردة عن أئمة العترة النبوية (عليهم السلام).

وهو ما جاء في اجابته (عليه الرحمة والرضوان) في سؤال آخر وُجِهِ إليه بخصوص

ما جرى على الزهراء (عليها السلام) ومساسه بالولاية لآل البيت (عليهم السلام)

كما سنعرض في ثانياً.

ثانياً: إن ما جرى على فاطمة الزهراء (علیها السّلام) من الظلم والجور مرتبط بعقيدة الموالاة والبراءة

إنَّ النظر في كتب فقهاء المذهب الامامي والبحث في البراءة من اعداء الله وموالاة اولياءه التي وردت في مصنفاتهم وكتبهم العقدية، تجمع على وجوب هذه العقيدة ومساسها بالولاية للعترة النبوية.

ولذا: لم يكن الشيخ جواد التبريزي (قدس سره) ليخالف ما اجمع عليه فقهاء المذهب واساطين العلم (رضوان الله تعالى عليهم).

وهو ما ظهر جليا في جوابه حينما وجه احد المؤمنين له السؤال الاتي:

ص: 213

(أفي نظركم أنّ الظلامات التي تعرضت لها أمّ الأئمة الأطهار فاطمة الزهراء

(سلام الله عليها) من قبل الحاكمين في ذلك الوقت مثل: (غصبها فدكاً، والهجوم

على دارها، وكسر ضلعها، وإسقاط الجنين المسمّى بمحسن بن علي (عليه السّلام)،ولطمها على خدها، ومنعها البكاء على فقد أبيها رسول الله (صلَّی الله عليه وآله وسلّم)، وما إلى ذلك من ظلامات) ألها أرتباط بصميم عقائدنا من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.. أم لا؟

فأجاب (قدس):

(بإسمه تعالى إنّ ما ثبت من الظلامات الكثيرة التي جرت على الصديقة الزهراء

فاطمة (عليه السّلام) لها مساس تام بالولاية التي هي الركن الخامس من أركان

الإسلام، وهو صريح عدة من النصوص المعتبرة، منها صحيح زرارة عن أبي جعفر

(عليه السّلام): «بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية »؛ ويظهر مساس هذه الظلامات بالولاية لمن تأمل وتمعّن في ملابسات هذه الحوادث ودوافعها، والله العالم)(1).

وعليه: تظهر مقبولية النص عند المتلقي (قدس سره) كحلقة متصلة في ثبوت عقيدة الموالاة والبراءة مع مقتضيات الأدلة الشرعية التي أحرزت في النص الشريف -مورد بحث- فكان سبباً لصدور هذا الرأي وتوجيه الناس الى العمل به مما حقق نسبة كبيرة من المقبولية لأصل النص، وذلك لقوله في رد شبهات أهل الجهل والضلال، فضلاً عن أحراز الإلتفات للعمل به من قبل الباحثين والمحققين وأهل الفضل والعلم.

ص: 214


1- الانوار الالهية: ص 118 .

وهو ما يطمح إليه أهل الاختصاص في علم لسانيات النص والمشتغلون بالتداولية

وادواتها، اي المقبولية.

ص: 215

ص: 216

الباب الثاني: ما رواه الشريف الرضي في وصية علي (علیه السّلام) في أمواله وابنيَ فاطمة (علیهم السّلام) وما رواه في حجاجه (علیه السّلام) لمعاوية في نفي ما لعلي (علیه السّلام)من الفضل

اشارة

ص: 217

ص: 218

نتناول بإذن الله تعالى وسابق لطفه في هذا الباب ما رواه الشريف الرضي في وصية الإمام علي (عليه السلام) في أولاد فاطمة (سلام الله عليهم أجمعين) وبيان قصدية النص ثم لنتبعه ببيان مقبوليته وذلك ضمن الفصل الاول من هذا الباب.

ثم سنتناول في الفصل الثاني في النص الشريف الذي رواه الرضي (رحمه الله)

جوابا على ما جاء في كتاب معاوية الذي يحتج فيه وينكر ما للإمام علي (عليه

الصلاة والسلام) من الفضل في الاسلام فكان جوابه حجاجيا ولم يخلوا من

القصدية والمقبولية التي سنعرجّ عليها ان شاء الله تعالى.

ص: 219

ص: 220

الفصل الاول : ما رواه الشريف الرضي (رحمه الله) في وصية علي (علیه السّلام) في أمواله وابنيَ فاطمة (علیه السّلام)

اشارة

ص: 221

ص: 222

يورد الشرف الرضي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 406 ه) هذا النص في نهج

البلاغة وتحت عنوان:

(ومن وصية له (عليه السلام) بما يعمل في أمواله) فضلا عن ذلك:

فقد أخرج مجموعة من علماء المذهب هذه الوصية قبل أن يوردها الشريف الرضي

في نهج البلاغة.

ولذا: سنتناول هذه المصادر التي تقدمت على نهج البلاغة وأخرجت الوصية

وذلك ضمن المبحث الأول الذي سنعرض فيه لبيان سبب صدور الوصية ومكان

صدورها وزمانها كما سيأتي في المبحث الاول.

ص: 223

ص: 224

المبحث الأول : سبب صدور النص الشريف وبيان مكان صدوره وزمانه

اشارة

ص: 225

ص: 226

المسألة الاولى: سبب صدور النص (الوصية في أمواله (علیه السّلام)

أهتم الإسلام أهتماماً كبيراً بالإنفاق بالمال وحض عليه ورغب فيه أشد الترغيب

وذلك لما يحدثه من آثار أجتماعية ونفسية وتنمية للإنسان والمجتمع.

ولذا: لم يغب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الآثار للإنفاق بل كان (عليه

السلام) نعم الدليل والمرشد والإمام العامل في تذويب الطبقية الإجتماعية وتحقيق العدالة الإجتماعية.

من هنا:

كان إهتمام العلماء كذلك في أمر الإنفاق وبيان آثاره العديدة في الدنيا والآخرة؛

وفي ذلك يقول العلّامة الطبطبائي: (الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الاسلام في

أحد ركنية وهو حقوق الناس، وقد توسل إليه بأنحاء التوسل ايجابا وندبا من طريق

الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات

المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمري والوصايا والهبة وغير ذلك.

وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج

الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة والثروة،

ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر

الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي

عن الاسراف والتبذير ونحو ذلك.

ص: 227

وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الا جزاء متشابهة

الابعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادة وأضغان

القلوب ومنابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة

بشؤونها، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الانسان في العاجل والأجل، ويعيش به

الانسان في معارف حقة، واخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة.

ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون

ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات

المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها واستقامتها

في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه السلام ونفوذ امره.

وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي عليه السلام

إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا اقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ (نهج البلاغة).

ص: 228

وقد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب الطبقات

بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال - حيث إن

الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الأرض، والافراط في

استقصاء المشتهيات الحيوانية واستيفاء الهوسات النفسانية، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اولي القوة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل الا الحرمان، ولم يزل النمط الاعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالمية الكبرى، وظهرت الشيوعية، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الانساني، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح أبواب الرباء

الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات

الانفاق ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان

جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ

ص: 229

حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ »إلى أن قال: «فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)«وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)إلى أن قال -:«ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)(1).

وللآيات نظائر في سور هود ويونس والاسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا

الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الانفاق من الحث

الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ »«الخ» ، المراد بسبیل الله کل أمر ینتهی إلی مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، وان كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أن قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ الخ، على تقدير قولنا كمثل من زرع

حبة أنبتت «الخ » فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

ص: 230


1- سورة الروم، الآية ( 30 - 43 ).

وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل

الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله

تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ »(1) ، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار، وقوله تعالى: «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ »(2)، وقوله تعالى: ﴿مثَلَ نوُرهِ كمَشِكْاَة﴾ٍ(3)، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾ الآية: وقوله تعالى: ﴿مثَلَ الذَّيِن ينُفْقِوُن أمَوْاَلهمُ ابتْغِاَء مرَضْاَة الله وتَثَبْيِتاً منِ أنَفْسُهِمِ كمَثَلَ جنَةَّ برِبَوْةَ﴾ٍ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة

التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إن الأمثال لا تتغير، وكقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وهي قصة مفروضة خيالية.

والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ)(4)،

ص: 231


1- سورة البقرة، الآية ( 171 ).
2- سورة يونس، الآية ( 24 ).
3- سورة النور، الآية ( 35 ).
4- سورة إبراهيم، الآية ( 26 ).

وقوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا »(1)، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل، وإنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير (مثال الانفاق والحبة) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.

وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه،

وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت

موضع تمام القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط

ذهن السامع بفقده أمرا ووجد انه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه

وليس به بوجه، فهذا من الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن اسخف الاشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو

اشتمال السنبلة على مائة حبة، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد وتحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمائة حبة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى:«وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ »، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً»(2)، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معين.

ص: 232


1- سورة الجمعة، الآية ( 5).
2- سورة البقرة، الآية ( 245 ).

وقيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمائة

ضعف غاية ما تدل عليه الآية، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحق

الكلام فيه حينئذ ان يصدر بان كقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ »(1)، وأمثال ذلك.

ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا والآخرة

وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشيء من ماله وإن كان يخطر بباله ابتداءً أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الانساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والاشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة، وعى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما جهز الانسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءً ولونا وقربا وبعدا

فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الانسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولا كدا وتعبا لا يتحمل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادَّخره لبعض الأعضاء الاخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المآت والألوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله،

ص: 233


1- سورة المؤمن، الآية ( 61 ).

والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيما إذا كان الانفاق

لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الانفاق)(1).

وعليه: يتضح لدى القارئ الاهمية البالغة التي تترتب على مسألة الانفاق وآثاره

الكبيرة في المجتمع فضلاً عن كاشفيتها عن شخصية المنفق وايمانه في إستثمار المال لغرض عوائده الاخروية وهذا من بين أهم الآمور التي يمكن فهمها ومعرفتها من خلال وصية منتج النص (عليه أفضل الصلاة والسلام) في أمواله وفي أبني فاطمة (عليهم السلام) كما سيمر مفصلاً من خلال مقاصدية النص.

المسألة الثانية: زمان صدور النص الشريف ومكانه
أولاً: مكان صدور النص

ترشد المصادر التي اخرجت الوصية الى أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

كان قد كتبها بعد منصرفه من صفين، وعنون لها الشريف الرضي (رحمه الله) في

النهج )(2).

وقد أخرج الكليني والشيخ الطوسي (رحمة الله عليهما) الوصية وقد جاء فيها

قول الإمام علي (عليه السلام): «هذا ما قضى به علي في ماله، الغد من يوم قدم مسكنِ »(3).

ومسكِنِ، بكسر الكاف موضع بالكوفة على شاطئ الفرات، وهو يرشد ايضاً كما

عنون الشريف الرضي (رحمه الله) الى صدور النص بعد رجوعه من صفين لاسيما

وأن الوصية قد حملت تاريخ كتابتها بخط يده (عليه السلام)؛ كما سيمر في ثانياً.

ص: 234


1- تفسير الميزان، ج 2 ص 383 - 388 .
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 379 .
3- تهذيب الاحكام: ج 9 ص 148 ؛ الكافي: ج 7 ص 50 .
ثانياً: زمان صدور النص

لقد أشارت المصادر التي أخرجت النص الشريف الى أن الإمام علي (عليه

السلام) قد كتب الوصية في اليوم العاشر من جمادي الاولى سنة سبع وثلاثين، كما جاء بقوله (عليه السلام): «وكتب علي بن أبي طالب بيده لعشر خلون من جمادي الاولى سنة سبع وثلاثين »(1).

في حين كان النص الذي أخرجه الحر العاملي (رحمه الله) في الوسائل يرشد الى

عام تسع وثلاثين مع عدم الاختلاف في اليوم والشهر(2).

والظاهر أن التاريخ الذي ورد في الكافي والتهذيب وغيرهما هو الأقرب إلى صحة

التاريخ الذي كتب فيه الإمام وصيته (عليه السلام) وذلك لوقوع معركة صفين في

عام سبع وثلاثين للهجرة(3) ،ووقوع معركة النهروان في نفس السنة.

أما ما يرشد إليه هذا التوقيت في كتابته (عليه السلام) للوصية فهو يرجع الى

بعض الأمور، منها:

1-يقينه بما أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خروج الناكثين والقاسطين

والمارقين وقد وقعت هذه الحروب الثلاثة ومن ثم فهو (عليه السلام) ينتظر ما

وعده الله به، أي الشهادة في سبيله على يد أحد شرار خلقه، وكما أخبره بذلك

رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولذا: لطالما كان يقول (عليه السلام): «حتى يبعث أشقاها فيغضب هذه من هذه » وكان يشير بيده الى رأسه ولحيته المقدسة.

ص: 235


1- المصدر السابق.
2- وسائل الشيعة: ج 19 ص 201 .
3- تاريخ الطبري: ج 4 ص 52 .

2- ظروف المرحلة التي يمر بها مع وجود كل هذه المتغيرات في الثوابت العقدية

والايمانية وهو الموقن أيضا بما كشف له حبيبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حال الأمة وما يجري فيها من بعده؛ لاسيما تكالب المنافقين عليه وعلى اهل بيته (عليهم السلام).

وإن هذه المتغيرات في الرؤى والمعطيات الثقافية والفكرية ستسري الى النخبة

الذين كان يقاتل بهم عدو الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وعدوهم، ولعل

موقف بعض هؤلاء النخبة من تأثره عليه السلام واظهار حزنه الشديد على مقتل

محمد بن ابي بكر يرشد الى أنهم تأثروا بهذه الاحداث والمتغيرات الفكرية(1).

ولذا:

نلاحظ -كما سيمر في النص- تشديده على اختيار من يخلف الامام الحسين (عليه

السلام) في التولية على الوقف؛ كقوله (عليه الصلاة والسلام):

«وأن حدث بحسن وحسين حدث فإن الاخر منهما ينظر في بني علي فإن وجد

فيهم من يرضى بهداه وأسلامه وأمانته فإنه يجعله إليه إن شاء الله، وأن لم ير فيهم بعض الذي يريده فإنه يجعله في رجل من آل أبي طالب يرضى به، فإن وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم وذوو آرائهم فأنه يجعله الى رجل يرضاه من بني هاشم، وأنه يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على اصوله.... »(2).

3- إنّ المعركة منذ أن قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) تدور رحاها حول

الحفاظ على عترة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن حفظهم هو حفظ

ص: 236


1- لمزيد من الاطلاع ينظر كتاب الأمن الفكري في نهج البلاغة للمؤلف.
2- الكافي: ج 7 ص 50 .

للقرآن والأمة والإسلام؛ فإن ضيعهم الناس فقد ضيعوا القرآن وتفرقوا في دينهم

وكانوا شيعاً وفرقاً يكفّر بعضهم بعض حتى يقبلوا على الله عز وجل ليوردهم النار

وبئس الورد المورد.

وعليه:

مثلما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تبليغ رسالة ربه وصدع بما أمر

به بالنذارة والبشارة فأوصى بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته (عليهم

السلام) كذلك كان عمل الإمام علي (عليه السلام) ومنهجه حتى لاقى ربه شهيداً مخضباً بدمائه.

ولذا: كتب هذه الوصية بيده واستشهد عليها الشهود في هذا الوقت كما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكتب لهم كتاباً في أيام مرضه فواجهه عمر بن الخطاب بتهمة الهجر.

ضرورات المرحلة أستلزمت أن يكتب هذه الوصية بيده، وسيشهد عليها بعض

الشهود وأن الأصل فيها أمران:

الأول- إستخدام المال لإستحصال رضا الله عز وجل.

الثاني- إستحفاظ حرمة فاطمة وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حفظ

حرمة ولديها الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام)، وتعظيم شأنهما أبتغاء وجه الله تعالى، وصوناً لشرع الله في حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرمة فاطمة (عليها السلام)؛ كما سيمر خلال مباحث الفصل إن شاء الله تعالى.

ص: 237

المسألة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تضمنت الوصية
اشارة

المسألة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج(1) التي تضمنت الوصية .

ورد النص الشريف المتضمن لوصية الامام علي (عليه السلام) في أمواله في

الكتب الحديثة لمدرسة العترة النبوية (عليهم السلام)، في:

1- الكافي للشيخ الكليني (رحمه الله) (ت 329 ه).

2- دعائم الاسلام للقاضي النعمان المغربي (رحمه الله) (ت 363 ه).

3- التذهيب للشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت 460 ه).

4- نهج البلاغة جمعه الشريف الرضي (رحمه الله) (ت 436 ه).

5- وسائل الشيعة للحر العاملي (رحمه الله) (ت 1140 ه).

وورد النص أيضاً في الكتب التاريخية، ومنها:

تاريخ المدينة لأبن شبة النميري (ت 262 ه).

والذي يهمنا في النص الشريف ما تعلق بأولاد فاطمة (عليهم السلام) ولكن

ص: 238


1- ابو علي عبد الرحمن بن الحجاج البجلي، مولاهم، كوفي، بياع السابري، سكن بغداد، ترجم له السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث ونقل عن الكشي قوله: (وكان ثقة، ثقة، ثبتاً،وجهاً، عابداً، له كتب يرويها عنه جماعات من أصحابنا). وعده الشيخ الطوسي (رحمه الله) في أصحاب الصادق (عليه السلام)، قائلاً:(مولاهم، كوفي، بياع السابري، استاذ صفوان، وعده كذاك من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام)، وذكره الكشي، بقوله: (عن أبي القاسم نصر بن الصباح، قال: عبد الرحمن الحجاج شهد له أبو الحسن (عليه السلام) بالجنة؛ وكان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول لعبد الرحمن: «يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة فإني أحب أن يرى في رجال الشيعة مثلك .» وعده الشيخ المفيد (رحمه الله) من شيوخ أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وخاصته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين؛ للمزيد ينظر: معجم رجال الحديث: ج 10 ص 342 - 350 .

لابد من ذكر النص كاملا ومن مصدرين من حيث القدم وهما كالاتي:

أولاً:ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) (ت 329 ه)

أخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن صفوان بن يحيى، عم عبد الرحمن بن

الحجاج، قال: بعث لي أبو الحسن موسى (عليه السلام) بوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله، ليولجني به الجنة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ أن ما كان لي من مال بينبع يعرف لي فيها، وما حولها صدقة ورقيقها غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا عتقاء ليس لأحد عليهم سبيل، فهم موالي يعملون في المال خمس حجج وفيه نفقتهم ورزقهم وأرزاق أهاليهم، ومع ذلك ما كان لي بوادي القرى كله من مال لبنى فاطمة ورقيقها صدقة، وما كان لي بديمة وأهلها صدقة غير أن زريقا له مثل ما كتبت لأصحابه(1) ، وما كان لي بأذينة وأهلها صدقة والفقيرين كما قد علمتم صدقة في سبيل الله، وان الذي كتبت من أموالي هذه

صدقة واجبة بتلة(2) حيا أنا أو ميتا، ينفق في كل نفقة يبتغى بها وجه الله وفي سبيل الله ووجهه، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب والقريب والبعيد، فإنه يقوم على ذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف وينفقه حيث يراه الله عز وجل في حل محلل لا حرج عليه فيه، فان أراد أن يبيع نصيبا من المال فيقضى به الدين فليفعل إن شاء ولا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله سرى الملك(3) وإن ولد علي ومواليهم

ص: 239


1- في التهذيب (غير أن رقيقها لهم مثل ما كتبت لأصحابهم).
2- صدقة بتلة أي منقطعة عن صاحبها.
3- السرى: الشريف والنفيس. وفي الوافي(شراء الملك).

وأموالهم إلى الحسن بن علي، وإن كانت دار الحسن بن علي غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبع إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن باع فإنه يقسم ثمنها ثلاثة أثلاث فيجعل ثلثا في سبيل الله، وثلثا في بني هاشم وبني المطلب، ويجعل الثلث في آل أبي طالب، وإنه يضعه فيهم حيث يراه الله، وإن حدث بحسن حدث وحسين حي فإنه إلى الحسين بن علي، وإن حسينا يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسنا له مثل الذي كتبت للحسن، وعليه مثل الذي على الحسن، وإن لبنى [ابني] فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبنى علي، وأني إنما جعلت الذي جعلت لابني فاطمة ابتغاء وجه الله عز وجل وتكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعظيمهما وتشريفهما ورضاهما.

وإن حدث بحسن وحسين حدث فإن الآخر منهما ينظر في بني علي، فان وجد

فيهم من يرضى بهداه واسلامه وأمانته، فإنه يجعله إليه إن شاء، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريده فإنه يجعله إلى رجل من آل أبي طالب يرضى به، فان وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم وذووا آرائهم فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم وأنه يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على أصوله وينفق ثمره حيث أمرته به من سبيل الله ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب والقريب والبعيد لا يباع منه شيء ولا يوهب ولا يورث وإن مال محمد بن علي على ناحيته وهو إلى ابني فاطمة وأن رقيقي الذين في صحيفة صغيرة التي كتبت لي عتقاء(1).

هذا ما قضى به علي بن أبي طالب في أمواله هذه الغد من يوم قدم مسكن(2) أبتغاء وجه الله والدار الآخرة، والله المستعان على كل حال، ولا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله

واليوم الآخر أن يقول في شيء قضيته من مالي، ولا يخالف فيه أمري من قريب أو بعيد.

ص: 240


1- (لي) ليست في التهذيب.
2- مسكن - بكسر الكاف -: موضع بالكوفة على شاطئ الفرات.

أما بعد فان ولائدي اللائي أطوف عليهن السبعة عشر منهن أمهات أولاد معهن

أولادهن ومنهن حبالى ومنهن من لا ولد له فقضاي فيهن إن حدث بي حدث أنه

من كان منهن ليس لها ولد وليست بحبلى فهي عتيق لوجه الله عز وجل ليس لأحد عليهن سبيل ومن كان منهن لها ولد أو حبلى فتمسك على ولدها وهي من حظه(1)فان مات ولدها وهي حية فهي عتيق ليس لأحد عليها سبيل، هذا ما قضى به علي في ماله الغد من يوم قدم مسكن شهد أبو سمر بن برهة وصعصعة بن صوحان ويزيد بن قيس وهياج بن أبي هياج وكتب علي بن أبي طالب بيده لعشر خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين)(2).

ثانياً: ما رواه ابن شبة النميري (ت 262 ه) .

وروى الوصية ابن شبة النميري بدون سند، فقال:

(قال أبو غسان: وهذه نسخة كتاب صدقة علي بن ابي طالب -(عليه الصلاة والسلام)- حرفاً بحرف نسختها على نقصان هجائها، وصورة كتابها، أخذتها من أبي، أخذها من حسن بن زيد.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به وقضى به في ماله عبد الله علي أمير المؤمنين، ابتغاء وجه الله ليولجني الله به الجنة، ويصرفني عن النار ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة ورقيقها غير أن رباحا وأبا نيزر وجبير أعتقناهم(3) ، ليس لأحد عليم سبيل،

ص: 241


1- في بعض النسخ (في حصته ).
2- الكافي: ج 7 ص 49 - 51 .
3- في الأصل «أن رباحا وأبا نزير وجبيرا عتقاء » وما أثبتناه عن وفاء الوفا 2: 349 ط. الآداب.

وهم موالي يعملون في الماء خمس حجج، وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهليهم؛ ومع ذلك ما كان بوادي القرى، ثلثه مال ابني قطيعة(1) ، ورقيقها صدقة، وما كان لي (بواد)(2) ترعة(3) وأهلها صدقة، غير أي زريقا له مثل ما كتبت لأصحابه، وما كان لي بإذنية وأهلها صدقة، والفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله، وأن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة وجب فعله حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة ابتغى به وجه الله من سبيل (الله)(4) ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم، وبني المطلب والقريب والبعيد، وأنه يقوم على ذلك حسن بن علي، يأكل منه بالمعروف وينفق حيث يريه الله في حل محلل لا حرج عليه فيه، وإن أراد أن يندمل(5) من الصدقة مكان ما فاته يفعل إن شاء الله لا حرج عليه فيه، وإن أراد أن يبيع من الماء فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله يسير إلى ملك، وإن ولد علي وما لهم إلى حسن بن علي، وإن كان دار حسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها، فإنه يبيع إن شاء لا حرج عليه فيه، فإن يبع فإنه يقسم منها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثه في سبيل الله، ويجعل ثلثه في بني هاشم وبني المطلب، ويجعل ثلثه في آل أبي طالب، وأنه يضعه منهم حيث يريه الله، وإن حدث بحسن حدث وحسين حي، فإنه إلى حسين بن علي، وأن حسين بن علي يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسنا، له منها مثل الذي كتبت لحسن منها، وعليه فيها مثل الذي على حسن، وإن لبني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، وإني إنما جعلت الذي جعلت إلى

ص: 242


1- قطيعة: أي إقطاع وهبة. على سبيل الوقف أو غيره.
2- اللفظ محرف في الأصل، والتصويب عن وفاء الوفا 2: 349 .
3- ترعة: واد يلقى أضم من القبلة، وفي ترعة يقول بشر السلمي: أرى إبلي أمست تحن لقاحها * بترعة ترجو أن أحل بها إبلا والإضافة للتوضيح (وفاء الوفا 2: 270 ).
4- إضافة على الأصل.
5- يندمل: أي يصلح من الصدقة (أقرب الموارد).

ابني فاطمة ابتغاء وجه الله وتكريم حرمة محمد وتعظيما وتشريفا ورجاء بهما، فإن

حدث لحسن أو حسين حدث، فإن الآخر منهما ينظر في بني علي، فإن وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته فإنه يجعله إن شاء، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريد، فإنه يجعله إلى رجل من ولد أبي طالب يرضاه، فإن وجد آل أبي طالب يومئذ قد ذهب كبيرهم وذوو رأيهم وذوو أمرهم، فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم، وإنه يشترط على الذي يجعله إليه أن ينزل الماء على أصوله، ينفق تمره حيث أمر به من سبيل الله ووجهه، وذوي الرحم من بني هاشم، وبني المطلب، والقريب والبعيد لا يبع منه شيء ولا يوهب ولا يورث، وإن مال محمد على ناحية، ومال ابني فاطمة ومال فاطمة إلى ابني فاطمة.

وإن رقيقي الذين في صحيفة حمزة الذي كتب لي عتقاء: فهذا ما قضى عبد الله علي أمير المؤمنين في أمواله هذه الغد من يوم قدم مكر(1) ابتغي وجه الله والدار الآخرة،

والله المستعان على كل حال، ولا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن

يقول في شئ قبضته في مال، ولا يخالف فيه عن أمري الذي أمرت به عن قريب ولا بعيد؛ أما بعدي (فإن)(2) ولائدي اللاتي أطوف عليهن السبع عشرة منهن أمهات أولاد أحياء معهن ومنهن من لا ولد لها، فقضائي فيهن إن حدث لي حدث: أن من كان منهن ليس لها ولد، وليست بحبلى، فهي عتيقة لوجه الله، ليس لأحد عليها سبيل، ومن كان منهن ليس لها ولد وهي حبلى فتمسك على ولدها وهي من حظه، وأن من مات ولدها وهي حية فهي عتيقة، ليس لأحد عليها سبيل، فهذا ما قضى به عبد الله علي أمير المؤمنين من مال الغد من يوم مكر.

ص: 243


1- مكر: بمعنى اختضب، ولعله من يوم قدم مختضب الدماء. (تاج العروس).
2- إضافة يقتضيها السياق.

شهد أبو شمر بن أبرهة، وصعصعة بن صوحان، ويزيد بن قيس، وهياج بن أبي

هياج، وكتب عبد الله علي أمير المؤمنين بيده لعشرة خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ه) (1).

أما النص المخصوص -مورد البحث- الذي أورده الشريف الرضي (رحمه الله)

في نهج البلاغة فكان هو: «وإنَّ لإبنيَ فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، وإني أنما جعلت القيام بذلك الى ابنيَ فاطمة أبتغاء وجه الله، وقربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتكريما لحرمته، وتشريفا لوصلته »(2).

وعند الرجوع الى المصادر التي تقدمت على كتاب نهج البلاغة نجد هذا النص

الشريف ورد بالصيغ الأتية:

1- أخرجه الشيخ الكليني (رحمه الله) بلفظ:

«وإنّ لبني [ابني] فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي وإني أنما جعلت

الذي لأبني فاطمة أبتغاء وجه الله عز وجل، وتكريم حرمة رسول الله (صلى الله

عليه وآله) وتعظيمهما وتشريفهما ورضاهما »(3).

2-رواه القاضي النعمان المغربي (ت 363 ه) بلفظ:

«وإن الذي لبني فاطمة من صدقة علي (عليه السلام) مثل الذي لبني علي، واني انما جعلت الذي جعلت الى بني فاطمة ابتغاء وجه الله، ثم تكريم حرمة محمد

ص: 244


1- تاريخ المدينة: ج 1 ص 225 - 228 .
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 379 .
3- الكافي: ج 7 ص 50 .

(صلى الله عليه وآله)، وتعظيما وتشريفا ورضا بها »(1).

3-وأورده الشيخ الطوسي (رحمه الله) بلفظ:

«وإن الذي لبني فاطمة من صدقة علي مثل الذي جعل لبني علي، واني انما جعلت لأبني فاطمة من ابتغاء وجه الله وتكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتعظيمهما وتشريفهما، ورضاها بهما »(2).

4-وأورده الحر العاملي (رحمه الله) (ت 1140 ه) بلفظ:

«وإنَّ الذي لبني، ابني، فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، واني انما جعلت الذي جعلت لأبني ابتغاء وجه الله وتكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وتعظيمها وتشريفها، ورضاها بهما .»

فهذه مجموعة من المصادر التي اخرجت هذه الوصية وبهذه الالفاظ التي يمكن

توليفها ضمن النص الآتي:

«وإنَّ لبني [ابني] فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي وإني أنما جعلت

[القيام] الذي جعلت لابني [الى بني] فاطمة [بذاك الى ابني فاطمة] أبتغاء وجه الله عز وجل؛ (وتكريم حرمة رسول الله) محمد (صلى الله عليه وآله)، (وقربة الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، (وتكريما لحرمته)، (وتعظيمهما وتشريفهما ورضاهما)، (ورضاهما بهما)، (وتشريفا ورجاء بهما)، (وتعظيمها وتشريفها ورضاها بهما) .»

ونلاحظ هنا: إنّ الإختلاف وقع في شأن الحسن والحسين وشأن فاطمة وأتصالهم

برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما سنتناوله في المباحث القادمة أن شاء الله تعالى.

ص: 245


1- دعائم الاسلام لقاضي النعمان المغربي: ج 2 ص 342 .
2- تهذيب الاحكام: ج 9 ص 147 .

ص: 246

المبحث الثاني: المقاصدية في قوله (علیه السّلام) «أبتغاء وجه الله »

اشارة

ص: 247

ص: 248

يمتاز النص الشريف بجملة من الخصائص التي جعلت منه نصا منفردا في

المفهوم والمصداق بنحو العموم والخصوص في آن واحد وهي كالآتي:

1- في المفهوم العام فالنص يرتب جملة من التشريعات المقدسة فيما يتعلق بالوصية والوقف والصدقات، والعتق، والإنفاق وغيرها من التشريعات.

2- وفي المفهوم الخاص يرتب جملة من الحدود في التعامل مع أبناء فاطمة

(صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) ضمن عنوانات متعددة كالقربة لله واحراز

رضوانه، واكرام حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والقربة إليه، تشريفاً لوصلته، وتعظيماً للحسن والحسين (عليهما السلام)، وتشريفاً لهما، وأحراز

رضاهما، وتعظيم فاطمة (عليها السلام) وتشريفها، وأحراز رضاها من خلال

أرضاء الحسن والحسين (عليهما السلام).

وهذه العنوانات لها مقاصد محددة؛ وحدود خاصة ودلائل معينة تجتمع كلها في

شأنية فاطمة وشرفها ومنزلتها ورضاها، والطرق والآليات المحرزة لهذا الرضا وما

يترتب عليه ويلازمه من اثار تشريعية وتكوينية في الدنيا والآخرة، كسوء العاقبة أو

حسنها في الدنيا، وسوء المنقلب والعذاب في منازل الآخرة من الإحتضار وحتى

الإنتهاء من الحساب ومواقف يوم القيامة.

ولذا:

سنتناول في البدء المساحة العامة التي شغلها النص الشريف ومضمونه العام وهو الأموال وما يترتب عليها في الوصية بها، وأفضل السبل للانتفاع منها ما بعد الموت

ص: 249

ومن ثم نتناول القصدية في المفهوم الخاص، وهو شأنية فاطمة وولداها وتلازمهم

مع رضوان الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وما تعلق به من مباحث ومسائل

ستمر تبعاً بإذن الله تعالى، وسابق لطفه، وفضله وفضل رسوله (صلى الله عليه وآله).

المسألة الأولى: قصدية الإنفاق في سياق العرض القرآني

ورد لفظ (وجه الله) في القرآن الكريم ملازما للأنفاق وأرتكازه -كما عند

المفسرين- على الإنفاق في المال.

ولذا:

نجده (عليه السلام) حينما ابتدأ الوصية قال:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به، وقضى به في ماله عبد الله علي، إبتغاء وجه الله، ليولجني به الجنة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عني، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .»

وهذا المعنى والقصدية التي جاءت في مقدمة الوصية ترشد الى ان الانفاق في المال ملازم في انجازه وحصوله والاقدام عليه لوجه الله تعالى.

وهو ما نراه في جملة من الآيات المباركة، وهي كالاتي:

1- قال تعالى «.... وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ »(1).

2- قال تعالى «فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(2).

ص: 250


1- سورة البقرة، الآية ( 272 ).
2- سورة الروم، الآية ( 38 ).

3- قال تعالى ﴿..... وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ »(1).فالآيات المباركة تخصص الإنفاق في المال بالخير وتلازمه لوجه الله تعالى.

وهو ما ذهب اليه أغلب المفسرين لهذه الآيات، لاسيما قوله تعالى:

« وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ »

ومما جاء في أقوالهم لبيان قصدية الإنفاق:

1-قال الشيخ الطوسي (ت 460 ه) بعد أن تعرض لبيان الآية التي سبقت آية

الانفاق وما تعلق بها من أمر الهداية للناس، فقال:

(فهذا يجب إلا تمنوّا بالصدقة والانفاق: إذ كان لأنفسكم من حيث هو ذخر لكم

ولإبتغاء وجه الله الذي هو يوفر به الجزاء لكم فهو من كل وجه عائد عليكم وليس

كتمليك الله لعباده إذ نفعه راجع عليهم كيف تصرفت الحال بهم؛ فلذلك افترق

ذكر العطية منه تعالى، والعطية من غيره)(2).

2- قال الشيخ الطبرسي (ت 548 ه) بعد أن اورد الآية:

« وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ»(من مال)، ﴿ فَلِأَنْفُسِكُمْ) فهو لأنفسكم لا ينتفع به

غيركم، فلا تمنوا به على من تنفقونه عليه ولا تؤذوه، ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾َ أي: وليست

نفقتكم، (إِلَّا) ل، «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ »ولطلب ما عنده بالکم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يتوجه بمثله الى الله.

ص: 251


1- سورة الروم، الآية ( 39 ).
2- التبيان: ج 2 ص 354 .

« وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ »، أي:

ثوابه اضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم ان ترغبوا من الانفاق وان يكون على احسن

الوجوه واجملها)(1).

3-قال العلّامة الطبطبائي: (سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الانفاق،

ورجوع مضامينها واغراضها بعضها إلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة، وهي

تحث المؤمنين على الانفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أولا مثلا لزيادته ونموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربما زاد على ذلك بإذن الله، وثانيا مثلا لكونه لا

يتخلف عن شأنه على أي حال وتنهى عن الرياء في الانفاق وتضرب مثلا للإنفاق

رياء لا لوجه الله، وانه لا ينمو نماءً ولا يثمر أثرا، وتنهي عن الانفاق بالمن والأذى

إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم اجره، ثم تأمر بأن يكون الانفاق من طيب المال لا

من خبيثه بخلا وشحا، ثم تعين المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء

المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر ما لهذا الانفاق من عظيم الاجر عند الله.

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبين أولا: وجهه وغرضه وهو ان يكون

لله لا للناس، وثانيا: صورة عمله وكيفيته وهو أن لا يتعقبه المن والأذى، وثالثا:

وصف مال الانفاق وهو ان يكون طيبا لا خبيثا، ورابعا: نعت مورد الانفاق وهو ان

يكون فقيرا احصر في سبيل الله، وخامسا: ما له من عظيم الاجر عاجلا وآجلا)(2) .

لكن ثمةَ سؤال يفرضه البحث، وهو:

إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد خصص أمر التولية في الوصية فجعلها

في ابناء فاطمة (عليهم السلام) ولازمها ل (وجه الله) فما هي القصدية في هذه

ص: 252


1- تفسير جوامع الجامع: ج 1 ص 248 .
2- تفسير الميزان: ج 2 ص 383 .

الملازمة والامر خارج عن أمر الانفاق كما نص السياق القرآني؟؛ وجواب هذا

السؤال في المسألة التالية.

المسألة الثانية: قصدية الملازمة بين تولية أبني فاطمة (علیهم السّلام) ووجه الله تعالى
اشارة

إنّ الملاحظ في نص الوصية الشريفة أن الإمام علي (عليه السلام) يورد لفظ (وجه الله) في موضعين، الاول: عند ابتداء الوصية كما مر بيانه في قوله (عليه السلام): «هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله علي إبتغاء وجه الله .»

والموضع الثاني عند تولية الإمام الحسن (عليه السلام) على هذه الأموال، فقال

(عليه السلام):

«وإني أنما جعلت الذي جعلت لابني فاطمة ابتغاء وجه الله » ومن ثم فهناك

قصدية في هذا التلازم بين الانفاق واختصاص امر التولية للتصرف بهذه الاموال

بحسب ما جاء في الوصية فكان ايضاً لابتغاء وجه الله تعالى، وهذه القصدية هي:

أولاً:لا يحصل رضا الله في الأعمال إلاّ برضا فاطمة وأبنائها (علیهم السّلام)

إنّ المدار الذي يدور من حوله الإنفاق هو أحراز رضا الله تعالى ليضمن العامل

لهذا الرضا الدخول الى الجنة والنجاة من النار كما بين ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مقدمة وصيته، حيث أظهر القصد والغاية من الوصية في أمواله، فقال (عليه السلام) في لفظ نهج البلاغة:

«إبتغاء وجه الله، ليولجني به الجنة ويعطيني الأمنة »(1).

ص: 253


1- نهج البلاغة: باب المختار من كتبه (عليه السلام)، الكتاب رقم 24 من وصيته له بما يعمل بماله.

وفي لفظ الكليني في الكافي: «إبتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ويصرفني به عن النار ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه»(1).

فظهر أثر الإنفاق بالمال هو الولوج الى الجنة والنجاة من النار وأن الغاية والقصد

في تولية أبنيّ فاطمة (عليهم السلام) هو أحراز وجه الله تعالى، أي رضوانه والذي

ينال به الإنسان الدخول الى الجنة والنجاة من النار.

ومن ثم فإن القصدية في هذا التلازم والمدار حول (وجه الله) ورضا الله تعالى ولا

يحصل رضاه في الأعمال، ومنها الإنفاق بالخير الا برضا فاطمة وابنائها (صلوات

الله وسلامه عليهم اجمعين).

إذ المصلحة واحدة وهي (وجه الله تعالى).

ولذا:

نجده (عليه السلام) قال في بيان ارتكاز رضا الله فيما يقوم به المسلم على رضا

فاطمة (صلوات الله عليها) ما جاء في الوصية ضمن اللفظ الذي أخرجه الشيخ

الطوسي (رحمه الله) في التهذيب، فقال (عليه السلام):

«ابتغاء وجه الله، وتكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتعظيمهما

وتشريفهما، ورضاها بهما .»

فالنص صريح بإظهار العلاقة بين رضا الله عز وجل في الاعمال وبين رضا فاطمة

(عليها السلام) وبه يتحقق ابتغاء وجه الله تعالى.

ص: 254


1- الكافي: ج 2 ص 7 وص 49 .
ثانياً: إنَّ القصدية في إبتغاء (وجه الله) هي عترة آل محمد(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

يكشف النص الشريف عن قصدية أخرى في إيراده للفظ (ابتغاء وجه الله) وهذه

القصدية تتجلى من خلال الروايات والنصوص الشريفة الواردة عن العترة النبوية

عليهم السلام.

والتي تحدد للمتلقي دلالة لفظ (وجه الله) وماذا قصد به، وهو كالاتي:

1- أخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن الحارث بن المغيرة النصري، قال:

سُئلِ أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى:

﴿كلُ شَیءٍ هاَلكِ إلَّا وجَهْهُ)(1).

فقال:

«ما يقولون فيه ؟»

قلت:

يقولون: یهلك كل شيء إلا وجه الله.

قال:

«سبحان الله لقد قالوا قولا عظیماً ، و انما عنی بذلک وجه الله الذی یؤتی منه»(2).

2-عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي

نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

ص: 255


1- سورة القصص، الآية ( 88 ).
2- الكافي: ج 1 ص 143 .

«كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» قال: من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد (صلى الله عليه وآله) فهو الوجه الذي لا یهلك و كذلك قال: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ »(1).

3- محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي سلام النحاس، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نحن

المثاني(2) الذي أعطاه الله نبينا محمدا (صلى الله عليه وآله) ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه، ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا، وإمامة المتقين)(3).

4- الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى جميعا، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:«وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا » قال: نحن والله الأسماء الحسنى(4) التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا.

5-محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن الهيثم بن عبد الله، عن مروان بن صباح قال:

ص: 256


1- سورة النساء، الآية ( 80 ).
2- اشارة إلى قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع من الثناء قال الصدوق رحمه الله معنى قوله: نحن المثاني أي نحن الذين قرننا النبي صلى الله عليه وآله إلى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن وبنا، وأخبر أمته انا لا نفرق حتى نرد عليه حوضه إنتهى. وإنما كانوا عليه السلام عين الله لان الله سبحانه بهم ينظر إلى عباده نظر الرحمة ويده لأنه بهم يربيهم. (في).
3- وامامة بالنصب عطفا على ضمير المتكلم في جهلنا ثانيا أي جهلنا وجهل امامة المتقين وفى التوحيد (أمامه اليقين) أي الموت على التهديد أو المراد انه يتيقن بعد الموت ورفع الشبهات. (آت).
4- كما أن الاسم يدل على المسمى ويكون علامة له كذلك هم عليهم السلام أدلاء على الله يدلون الناس عليه سبحانه وهم علامة لمحاسن صفاته وافعاله وآثاره. (في).

قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده

ولسانه الناطق(1) في خلقه ويده المبسوطة على عباده، بالرأفة والرحمة ووجهه الذي

يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في س ائه وأرضه(2) ، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار، وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله.

6- محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ﴿فلَمَا آسَفَوُناَ انتْقَمَنْاَ منِهْمُ﴾ْ(3) فقال: إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم خلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه، لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك وليس أن ذلك يصل إلى خلقه، لكن هذا معنى ما قال من ذلك وقد قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها » وقال «من يطع الرسول فقد أطاع الله »(4) وقال:

«إن الذين يبايعونك إن ا يبايعون الله، يدالله فوق أيد هم »(5).

ص: 257


1- لما كان اللسان يعبر عما في الضمير يبين ما أراد الانسان اظهاره اطلق عليهم عليه السلام لسان الله لأنهم المعبرون عن الله مبينين حلاله وحرامه ومعارفه وسائر ما يريد بيانه للخلق وبابه الذي يدل عليه وإنما سموا أبواب الله لأنه لابد لمن يريد معرفته سبحانه وطاعته من أن يأتيهم ليدلوه عليه و على رضاه (آت).
2- وخزانه في سمائه وارضه حيث إنه عندهم مفاتيح الخبر من العلوم والأسماء الحسنى التي بها ينفتح أبواب الجود على العالمين. (رف) وبهم أثمرت الأشجار وأينعت الثمار لكونهم المقصودين من الوجود والايجاد. (في). و (بعبادتنا عبد الله) أي بمعرفتنا وعبادتنا إياه تعالى التي نعرفه ونعبده ونهدى عباده إليها ونعلمها إياهم عبد الله.
3- سورة الزخرف، الآية ( 55 ).
4- سورة النساء، الآية ( 79 ).
5- سورة الفتح، الآية ( 10 ).

فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء

مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر، وهو الذي خلقهما

وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما، لأنه إذا دخله الغضب

والضجر دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون

من المكون ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم إن شاء الله تعالى.

7-عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن محمد بن حمران

عن أسود بن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأنشأ يقول ابتداء منه من غیر أن أسأله: نحن حجة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن و لاة أمر الله في عباده.

8-وأخرج الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن أبي صالح الهروي، قال:

(قلت لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام):

يا ابن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث:

«إنَّ المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في ا لجنة ؟»

فقال (عليه السلام):

«يا أبا الصلت، إن الله تبارك وتعالى فضَّل محمد (صلى الله عليه وآله) على جميع

خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقد قال عز وجل ﴿منَ يطُعِ الرسَّوُل فقَدَ أطَاَع ا لله﴾.

ص: 258

وقال: ﴿إنِ الذَّيِن يبُاَيعِوُنكَ إنِمَّا يبُاَيعِوُن الله يدَالله فوَقْ أيَدِیهِم).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«من زارني في حياتي أو بعد مماتي فقد زار الله جل جلاله ».

ودرجة النبي يوم القيامة أرفع الدرجات، فمن زاره الى درجته في الجنة من منزلته، فقد زار الله تبارك وتعالى.

قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فما معنى الخبر الذي رووه:

«إنّ ثواب لا إله إلّا الله النظر الى وجه الله ؟»

فقال (عليه السلام):

يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبيائه

ورسله وحججه (صلوات الله عليهم) هم الذين يتوجه بهم لله، والى دينه، ومعرفته، وقال الله عز وجل: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ »

وقال عز وجل: ﴿ كلُ شیءٍ هاَلكِ إلِّا وجَهْهَ﴾

فالنظر الى أنبياء الله ورسله وحججه (عليهم السلام) في درجاتهم ثواب عظيم

للمؤمنين يوم القيامة.

وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله):

«من أبغض أهل بيتي وعترتي، لم يرني ولم أره يوم القيامة ».

ص: 259

وقال (عليه السلام):

إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان و لا يدرك بالأبصار والأوهام)(1).

وعليه: فهذه الأحاديث تكشف عن القصدية في (وجه الله) تبارك وتعالى وهي أنبياء الله ورسله وحججه وهم العترة (سلام الله عليهم اجمعين).

ولذا: نجده (عليه السلام) قد خصص هذه التولية في أقواله في أبني فاطمة

(عليهما السلام) لكونهما من حجج الله على خلقه، فلزم البيان بأنهم المقصودون

بقوله «وأني أنما جعلت الذي جعلت لأبني فاطمة ابتغاء وجه الله عز وجل »، أنهما

وجه الله تعالى.

لكن ثمة سؤال: أليس هو من حجج الله، أيضا فما معنى تكرار (وجه الله) في الوصية؟

وجوابه فيما يلي من المسألة الآتية.

المسألة الثالثة: اختلاف القصدية في تكرار لفظ (وجه الله) في الوصية
اشارة

أختلفت القصدية في إيراده (عليه السلام) للفظ (وجه الله) في الوصية؛ فاللفظ

الذي جاء به (عليه السلام) في أول الوصية قائلاً:

«هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب امير المؤمنين في ماله إبتغاء وجه الله،

ليولجني به الجنة... »(2) عن القصدية في قوله (عليه السلام):

«وأني أنما جعلت القيام بذلك الى أبني فاطمة، ابتغاء وجه الله »(3)

ص: 260


1- الامالي للصدوق: ص 545 - 546 .
2- نهج البلاغة: رسائله وكتبه برقم 24 .
3- المصدر السابق.

فالقصدية في اللفظ الثاني كانت لبيان أن (وجه الله تعالى) هم أنبياء الله ورسله

وحججه (عليهم السلام)؛ كما مرَّ بيانه.

أما القصدية في اللفظ الأول فهي تعني:

الإخلاص في النية والعمل، وتجنب محبطاته كالرياء والسمعة.

أولاً:الإخلاص في النية
اشارة

وهو أمر تكاثرت فيه النصوص الشريفة وأسست عليه قاعدة فقهية عند الفقهاء،

وقد جمع قسماً منها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الهداية في باب النية، فقال:

1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « إنّما الأعمال بالنیات»

2- «إنّ نية المؤمن خیرٌ من عمله، ونية الكافر شرٌ من عمله .»

3-وروي: «إن بالنيات خلُدَ أهل الجنة في الجنة، وهل النار في النار .»

4-وقال عز وجل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَی شَاكلِتهِ﴾ يعني: على نيته، ولا يجب على

الانسان أن يجدد لكل عمل يعمله نية، وكل عمل من الطاعات إذا عمله العبد لم

يرد به إلّا الله عز وجل فهو عمل بنية، وكل عمل عمله العبد من الطاعات يريد به

غير الله فهو عمل بغير نية، وهو غير مقبول) (1).

وسنام هذه الأحاديث قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي كان اساساً لبناء

قاعدة فقهية اعتمدها الفقهاء واسندوا اليها الاعمال التي يقوم بها الانسان المسلم.

ص: 261


1- الهداية: ص 62 .

وقد أجاد الشهيد الاول (عليه الرحمة والرضوان) (ت 786 ه) في بيانه للفوائد

التي أكتنزتها هذه القاعدة والتي تظُهر مصداق أيراد الإمام أمير المؤمنين (عليه

السلام) لفظ (إبتغاء وجه الله) في أول وصيته، ولاسيما تلك الفوائد الأولى التي

أفاد بها الشهيد الأول في كتابه.

ولذا:

فقد كفانا المؤنة في البحث والدراسة للإظهار هذه القصدية فقد بذل جهده وعلى

الله اجره.

قال (رحمه الله) في القواعد والفوائد في بيان هذه القاعدة، -اي: تبعية العمل

للنية- وفوائدها:

(ومأخذها من قول النبي (صلى الله عليه وآله):

«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرء ما نوى ».

أي: صحة الاعمال واعتبارها بحسب النية؛ ويعلم منه أن من لم ينو،ِ لم يصح

عمله، ولم يكن معتبراً في نظر الشرع.

ويدل عليه -مع دلالة الحصر-: الجملة الثانية، فإنها صريحة في ذلك ايضاً.

وفي هذه القاعدة فوائد:

الفائدة الاولى:

يعتبر في النية التقرب إلى الله تعالى، ودل عليه الكتاب والسنة.

ص: 262

أما الكتاب: فقوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1).

وما أمر أهل الكتابين بما فيهما ألا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة، فيجب علينا ذلك، لقوله تعالى: ﴿وذَلَكِ ديِن القْيَمِّةَ﴾ِ(2).

وقال تعالى: «وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)» «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى »(3).

أي: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، إذ هو منصوب على الاستثناء المنفصل وكلاهما يعطيان أن ذلك معتبر في العبادة، لأنه تعالى مدح فاعله عليه.

وأما السنة: ففيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في الحديث القدسي: (من

عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكي)(4).

الفائدة الثانية

الفائدة الثانية(5) :

معنى الاخلاص: فعل الطاعة خالصة لله وحده وهنا غايات ثمان:

الأولى: الرياء، ولا ريب في(6) أنه يخل بالإخلاص. ويتحقق الرياء بقصد مدح الرائي، أو الانتفاع به، أو دفع ضرره.

فان قلت: فما تقول في العبادات المشوبة بالتقية؟

ص: 263


1- سورة البينة، الآية ( 5).
2- سورة البينة، الآية ( 5).
3- سورة الليل، الآية ( 19 - 20 ).
4- رواه أحمد بلفظ: (أنا خير الشركاء من عمل لي عملا فاشرك فيه غيري فانا منه برئ وهو للذي أشرك) مسند أحمد: 2/ 301 ، 432 وانظر أيضا: القرافي/ الفروق: 3/ 22 (باختلاف بسيط).
5- ( في (ك) و (م) و (أ): فائدة (من غير رقم) ولعل ما أثبتناه هو الصواب، لأنه يوافق عدد الفوائد المذكورة في هذه القاعدة، كما أنه يوافق الترقيم الوارد في (ك) من الفائدة العشرين وما بعدها.
6- زيادة من (ك) و (م).

قلت: أصل العبادة واقع على وجه الاخلاص، وما فعل منها تقية فان له اعتبارين:

بالنظر إلى أصله: وهو قربة، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر، وهو لازم لذل،

فلا يقدح في اعتباره. أما لو فرض إحداثه صلاة - مثلا - تقية فإنها من باب الرياء.

الثانية: قصد الثواب، أو الخلاص من العقاب، أو قصدهما معا.

الثالثة: فعلها شكرا لنعم الله واستجلابا لمزيده.

الرابعة: فعلها حياء من الله تعالى.

الخامسة: فعلها حبا لله تعالى.

السادسة: فعلها تعظيما لله تعالى ومهابة وانقيادا وإجابة.

السابعة: فعلها موافقة لإرادته، وطاعة لأمره.

الثامنة: فعلها لكونه أهلا للعبادة. وهذه الغاية مجمع على كون العبادة تقع بها

معتبرة، وهي أكمل مراتب الاخلاص، وإليه أشار الإمام الحق أمير المؤمنين

عليه الصلاة والسلام بقوله: (ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك،

ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(1) . وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب(2) بكون العبادة فاسدة بقصدها. وكذا ينبغي أن تكون غاية الحياء والشكر وباقي الغايات.

ص: 264


1- لم أعثر على هذا في المراجع المتقدمة عن عصر المؤلف، وإنما رواه مرسلا كل من الفيض الكاشاني في/ الوافي: 3/ 70 ، والمجلسي في/ مرآة العقول: 2/ 101 (بتقديم وتأخير بين بعض فقراته).
2- انظر: العلامة الحلي/ المسائل المهنائية: ورقة 2 ب، و 32 - 23 (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة في النجف، ضمن مجموع برقم 1107 ).

والظاهر أن قصدها مجز، لان الغرض بها في الجملة، ولا يقدح كون تلك الغايات

باعثا على العبادة، أعني: الطمع، والرجاء، والشكر والحياء، لان الكتاب والسنة

مشتملتان على المرهبات: من الحدود، والتعزيرات، والذم، والايعاد بالعقوبات،

وعلى المرغبات: من المدح والثناء في العاجل، والجنة ونعيمها في الآجل.

وأما الحياء فغرض مقصود، وقد جاء في الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله):

(استحيوا من الله حق الحياء)(1) و (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(2) . فإنه إذا تخيل الرؤية انبعث على الحياء والتعظيم والمهابة.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - وقد قال له ذعلب اليماني - بالذال المعجمة

المكسورة، والعين المهملة الساكنة، واللام المكسورة -: (هل رأيت ربك يا أمير

المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): أفأعبد ما لا أرى؟؟

فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بشاهدة الأعيان، ولكن تدركه

القلوب بحقائق الايمان، قريب من الأشياء غير ملامس(3) بعيد منها غير مباين،

متكلم بلا روية(4) ، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء،كبير لا يوصف بالجفاء بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتوجل القلوب من مخافته)(5) .

وقد اشتمل هذا الكلام الشريف على أصول صفات الجلال والاكرام التي عليه مدار

علم الكلام، وأفاد أن العبادة تابعة للرؤية، وتفسير معنى الرؤية، وأفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة حسن وإن لم يكن تمام الغاية، وكذلك الخوف منه تعالى.

ص: 265


1- انظر: صحيح الترمذي: 9/ 281 .
2- انظر: المتقي الهندي/ كنز العمال: 2/ 6، حديث: 124 .
3- في (ك): ملابس، وفي (م): ملاق، وما أثبتناه مطابق لما في نهج البلاغة.
4- في (ك): رؤية، وما أثبتناه مطابق لما في النهج.
5- انظر: نهج البلاغة: 2/ 120 - 121 )شرح محمد عبده( مطبعة الاستقامة بمصر.
الفائدة الثالثة:

لما كان الركن الأعظم في النية هو الاخلاص، وكان انضمام تلك الأربعة(1) غير قادح فيه، فحقيق(2) أن نذكر ضمائم أخرى، وهي أقسام:

الأول: (ما يكون منافيا)(3) له، كضم الرياء، وتوصف بسببه العبادة بالبطلان، بمعنى عدم استحقاق الثواب.

وهل يقع مجزئا بمعنى سقوط التعبد به، والخلاص من العقاب؟

الأصح أنه لا يقع مجزئا، ولم أعلم فيه خلافا إلا من السيد الإمام المرتضى(4)*قدس الله سره، فان ظاهره الحكم بالاجزاء في العبادة المنوي بها الرياء(5) .

الثاني: ما يكون من الضمائم لازما للفعل، كضم التبرد أو (التسخن أو التنظف)(6) إلى نية القربة؛ وفيه وجهان ينظران: إلى عدم تحقق معنى الاخلاص، فلا يكون الفعل مجزئا، وإلى أنه حاصل لا محالة، فنيته كتحصيل الحاصل الذي لا فائدة فيه؛ وهذا الوجه

ظاهر(7) أكثر الأصحاب(8) ؛ والأول أشبه، ولا يلزم من (حصوله نية)(9) حصوله.

ص: 266


1- وهي: الطمع، والشكر، والحياء، والرجاء.
2- في (ك): فخليق.
3- في (م) و (أ): ما تكون منافية.
4- (*) هو علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى الشهير بالسيد المرتضى ولد سنة 355 ه تقلد نقابة الشرفاء وإمارة الحج والحرمين والنظر في المظالم وقضاء القضاة توفي سنة 436 ه. خلف بعد وفاته ثمانين ألف مجلد من مقروآته ومصنفاته ومحفوظاته.(القمي/ الكنى والألقاب: 2/ 445 ).
5- انظر: السيد المرتضى/ الانتصار: 17 (طبعة النجف).
6- في (ح): التسخين أو التنظيف، وفي (م) و (أ): التسخين والتنظيف.
7- في (ح) و (م) زيادة: عند.
8- انظر: الشيخ الطوسي/ المبسوط: 1/ 19 ، والعلامة الحلي/ منتهى المطلب: 1/ 56 .
9- في (ك): حصول نيته.

ويحتمل أن يقال: إن كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ التبرد عند الابتداء

في الفعل، لم يضر، وإن كان الباعث الأصلي هو التبرد فلما أراده ضم القربة، لم

يجز؛ وكذا إذا كان الباعث مجموع الامرين، لأنه لا أولوية حينئذ فتدافعا، فتساقطا،

فكأنه غير ناو.

ومن هذا الباب ضم نية الحمية إلى نية(1) القربة في الصوم، وضم ملازمة الغريم إلى القربة في الطواف والسعي والوقوف بالمشعرين.

الثالث: ضم ما ليس بمناف ولا لازم، كما لو ضم إرادة دخول السوق مع نية

التقرب في الطهارة، أو إرادة الاكل، ولم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه

الأشياء، فإنه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكدا غير مناف، وهذه الأشياء إن

لم يستحب لها الطهارة بخصوصها إلا أنها داخلة فيما يستحب بعمومه؛ وفي هذه

الضميمة وجهان مرتبان على القسم الثاني، وأولى بالبطلان، لان ذلك تشاغل عما

يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه(2) . (3)

اذن: يتضح من خلال هذه الفوائد التي أوردها الشهيد الاول (عليه الرحمة والرضوان) أن القصدية في قوله (عليه السلام): «هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله إبتغاء وجه الله .»

كان لبيان أرتكاز الأعمال على الاخلاص في النية وان من قوام الاخلاص وتحققه

تجنب الرياء وذلك أن بعض الناس حينما.

ص: 267


1- زيادة من (م) و (أ).
2- انظر هذه الفائدة في الأشباه والنظائر/ للسيوطي: 23 .
3- الشهيد الاول: ج 1 ص 75 - 80

يقدم على الأعمال المختلفة في أوجه البر والخير انما يقصد في ذلك أن يرائي الناس لينال المدح والثناء والسمعة بين الناس ويكسب الشهرة والجاه وغير ذلك مما تدعوا اليه النفس وتمني به صاحبها فلا ينال من عمله هذا الا الجهد والتعب والنفاد.

ولذا: اقتضى البحث البيان لخطورة الرياء في النية، وهو ما سنتناوله في ثانيا.

ثانياً: أثر الرياء في النية وإحباط العمل

يعلمنا سيدنا ومولانا امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن نجاح

الأعمال وصعودها الى الله تعالى مقبولة مرضية عنده جل شأنه أنما يكون خالصاً لوجه الله تعالى، ولا يكون الإخلاص إلا بالنجاة من الرياء والسمعة.

وهو أمر أهتم به الفقهاء والعلماء وصنفوا فيه كتبا وتحدثوا عنه ضمنا ونبهوا عليه.

وذلك لما يشكله من خطورة بالغة على الاعمال والقلوب والعواقب؛ ومما صنف

في ذلك القول الشهيد الأول أيضاً، فقد خصص فائدة من فوائد قاعدة (تبعية العمل

للنية) والشيخ محمد مهدي النراقي (رحمه لله) والشيخ الفيض الكاشاني (رحمه الله) وغيرهم من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية كأبن عربي في الفتوحات المكية وغيره.

وعليه:

وجدنا أن الرجوع الى بعض الروايات الشريفة لاسيما ما رواه ابن بابويه في فقه

الرضا (عليه السلام)؛ والى الشهيد الاول (رحمه الله) في بيان اثر الرياء في النية كان هو الأنسب لبيان مقتضيات القصدية لإيراده (عليه السلام) هذا اللفظ (ابتغاء

وجه الله) في اول الوصية واختلاف هذه القصدية عن تكرار اللفظ في توليته (عليه

السلام) لابني فاطمة (عليهم السلام) على هذه الاموال والتصرف المشروط بها.

ص: 268

1-قال الشهيد الاول (رحمه الله): (يجب التحرز من الرياء في الاعمال فإنه يلحقها بالمعاصي؛ وهو قسمان: جلي، وخفي، فالجلي ظاهر، والخفي إنما يطلع عليه أولوا المكاشفة والمعاملة لله، كما يروى عن بعضهم: أنه طلب الغزو وتاقت نفسه إليه، فتفقدها فإذا هو يحب المدح بقولهم:

فلان غاز، فتركه، فتاقت نفسه إليه، فأقبل يعرض نفسه(1) على ذلك الرياء حتى أزاله، ولم يزل يتفقدها شيئا بعد شيء حتى وجد الاخلاص مع بقاء الانبعاث، فاتهم نفسه وتفقد أحوالها فإذا هو يحب أن يقال: فلان مات شهيدا، لتحسن سمعته في الناس بعد موته.

وقد يكون ابتداء النية إخلاصا وفي الأثناء يحصل الرياء، فيجب، التحرز منه فإنه

مفسد للعمل؛ نعم لا يكلف بضبط هواجس النفس وخواطرها بعد ايقاع النية في

الابتداء خالصة، فان ذلك معفو عنه، كما جاء في الحديث(2) . (3).

2- قال ابن بابويه القومي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 329 ه) فيما رواه عن

الامام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) في بيان آثار الرياء والسمعة والعجب

ما يلي:

(نروي(4) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، انه قال:

«قال الله تبارك وتعالى: انا اعلم بما يصلح عليه دين عبادي المؤمنين، ان يجتهد في عبادتي فيقوم من نومه ولذة وسادته، فيجتهد لي، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين،

ص: 269


1- زيادة من ( أ ).
2- انظر: الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 1/ 80 باب 24 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 3، وصحيح مسلم: 1/ 116 وما بعدها باب 58 ، 59 من كتاب الايمان، حديث: 201 - 207 .
3- القواعد والفوائد: ج 1 ص 120 .
4- اي: ان الامام الرضا (عليه السلام) يروي عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله).

نظرا مني له وإبقاء عليه، فينام حتى يصبح، فيقوم وهو ماقت نفسه، ولو خليت

بينه وبين ما يريد من عبادتي، لدخله من ذلك العجب، فيصيره العجب إلى الفتنة،

فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه، ألا فلا يتكل العاملون على أعمالهم، فإنهم لو اجتهدوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي، كانوا مقصرين غير بالغين كنه عبادتي، فيما يطلبونه عندي، ولكن برحمتي فليثقوا، وبفضلي فليفرحوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا، فإن رحمتي عند ذلك تدركهم، فإني أنا الله الرحمن الرحيم، وبذلك تسميت »(1).

ونروي في قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لقِاءَ رَبِّهِ فَلْيعَمَلْ عَمَلاً صَالِحاً

وَلَا يُشْركْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾(2) قال: ليس من رجل يعمل شيئا من الثواب، لا يطلب به وجه الله، إنما يطلب تزكية الناس، يشتهي أن تسمع به الناس، إلا أشرك بعبادة ربه3(3) في ذلك العمل، فيبطله(4) الرياء، وقد سماه الله تعالى الشرك.

ونروي: من عمل لله كان ثوابه على الله، ومن عمل للناس كان ثوابه على الناس،

إن كل رياء شرك(5) .

ونروي: ما من عبد أسر خيرا، فيذهب الأيام حتى يظهر الله له خيرا، وما من عبد

أسر شرا، فيذهب الأيام حتى يظهر الله له شراً (6).

ونروي: أن عالما أتى عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ قال: تسألني عن صلاتي

وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا! فقال له: كيف بكاؤك؟ قال: إني لأبكي حتى تجري

ص: 270


1- الكافي 2: 50 / 4، التمحيص: 57 / 115 ، عدة الداعي: 222 باختلاف يسير.
2- سورة الكهف، الآية ( 110 ).
3- الكافي 2: 222 / 4، تفسير العياشي 2: 352 / 93 ، الزهد: 67 / 177 باختلاف يسير.
4- في نسخة «ش « :» فيطلب » وفي نسخة «ض « :» فيطلبه » وما أثبتناه من البحار 72 : 300 / 36 .
5- الزهد: 67 / 177 وورد بتقديم وتأخير في الكافي 2: 222 / 3.
6- الكافي 2: 224 / 12 ، الزهد: 67 / 17 7 باختلاف يسير.

دموعي، فقال له العالم (عليه السلام): فإن ضحكك وأنت عارف بالله، أفضل من

بكائك وأنت تدل على الله إن المدل(1) لا يصعد من عمله شيء(2) .

ونروي: من شك في الله بعد ما ولد على الفطرة لم يتب أبدا(3) .

وأروي: أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) قال في كلام له: «إن من البلاء

الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب»(4).

أروي: لا ينفع مع الشك والجحود عمل(5).

وأروي: من شك أو ظن، فأقام على أحدهما، أحبط عمله(6).

وأروي في قول الله عز وجل: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم

لفاسقين)(7) قال: نزلت في الشكاك(8) .

وأروي في قوله تعالى: ﴿الذَّيِن آمَنَوُا وَ يلَبْسِوُا إيِمانَهُم بظِلُمْ﴾ٍ(9) قال: الشك(10)،

والشاك في الآخرة مثل الشاك في الأولى، نسأل الله الثبات وحسن اليقين.

ص: 271


1- المدل: المنان. انظر «الصحاح - دلل - 4: 1699 ».
2- الكافي 2: 236 / 5، الزهد: 63 / 168 ، قصص الأنبياء: 179 ، باختلاف يسير.
3- الكافي 2: 294 / 6 باختلاف يسير.
4- نهج البلاغة 3: 247 / 388 .
5- الكافي 2: 294 / 7.
6- الكافي 2: 294 / 8.
7- سورة الأعراف، الآية ( 102 ).
8- الكافي 2: 293 / 1، تفسير العياشي 2: 23 / 60 .
9- سورة الأنعام، الآية ( 82 ).
10- الكافي 2: 293 / 4، تفسير العياشي 1: 366 / 48 .

وأروي أنه سئل عنه رجل يقول بالحق، ويسرف على نفسه بشرب الخمر، ويأتي

الكبائر، وعن رجل دونه في اليقين، وهو لا يأتي ما يأتيه؛ فقال (صلى الله عليه وآله): أحسنهما يقينا كنائم على المحجة إذا انتبه ركبها، والأدون الذي يدخله الشك كالنائم على غير طريق، لا يدري إذا انتبه أيما المحجة)(1).

ص: 272


1- فقه الرضا (عليه السلام): ص 389 .

المبحث الثالث: المقاصدية في جعل التولية لأبني فاطمة (علیها السّلام) قربة الى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

ص: 273

ص: 274

ينفرد الشريف الرضي (رحمه الله) بهذه العبارة، أي قوله (عليه الصلاة والسلام):

«وقربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) » عن المصادر الأخرى التي أخرجت

ورَوَتَ هذه الوصية.

ومن ثم فالبحث لا يتناول علة تفرد الشريف (رحمه الله) بهذه العبارة، وإنما

أعتمدها كجزء من هذه الوصية التي أخرجها الشريف الرضي (رحمه الله) والتي

أكتنزت العديد من المسائل التي تقارب قصدية منتج النص )صلوات الله وسلامه

عليه).

وذلك من خلال الرجوع الى النصوص التي تناولت دراسة وبيان معنى القربة

والقرابة، أي: قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانعكاسات التعامل مع هذه

القرابة في الحياة الدنيا والاخرة.

المسألة الاولى: قصدية التقرب الى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالحسن والحسين(علیهما السّلام)
اشارة

إنّ الملاحظ في خطاب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) -موضع الدراسة-

أنه أثار عقول السامعين للوصية وحفز مشاعرهم لما سينطق به كي يتم التعامل

بدقة مع ما سيقوله فضلاً عن توجيههم نحو قصدية اللفظ والتفاعل معه.

ولذا:

استخدم -بحسب دراسة النص ومقتضيات منهج البحث- أمورا عدّة بغية

الوصول الى مجموعة من الثمار التي يروم الحصول عليها من المتلقين، منها:

ص: 275

1-إبتداءه بمفردة (الوصية) وهو أمر قد حثَّ عليه الإسلام ورّغب على العمل

به لما يترتب على الوصية من تكاليف شرعية وأجتماعية وأسرية.

2-تحديد موضع الوصية، وهو (المال) كما صرّح به (عليه السلام) كما جاء في

النص الشريف الذي أخرجه الشيخ الكليني وغيره:

«هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله علي بن أبي طالب » ومما لا يخفى على أهل المعرفة ما للمال من آثار على أهتمام الناس وقد جبلوا على حبة كما بين القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا »(1).

ومن ثم فإن النفس الإنسانية ستندفع بفعل فطرتها لحب المال على التفاعل مع

هذا الخطاب أو الوصية.

4-تحديد العلّة الموجبة لكتابة الوصية وهو قوله:

«إبتغاء وجه الله ليولجني به الجنة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عني يوم

تبيض وجوه وتسود وجوه .»

ومن ثم الاعتماد على تحريك الجانب الغيبي والإيمان باليوم الأخر وأغتنام المال

لهذا الغرض.

هذه الاجواء التفاعلية التي أحرزها الإمام (عليه السلام) كي يسخرها في بيان

القضية التي تكون بموازاة النتيجة التي ربطها بالمال والوصية، وهي رسول الله

(صلى الله عليه وآله) ورحمته، وتشريف ابني فاطمة وتعظيمهما، وارتكاز كل ذلك

على حرمة فاطمة (عليها السلام) التي هي عين حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 276


1- سورة الفجر، الآية ( 20 )

ومن ثم إحراز النتيجة العظمى وهي الولوج الى الجنة والنجاة من النار للعامل

بهذه الجزئية -مورد البحث- وذلك من خلال جملة من القصديات التي اكتنزها

قوله (عليه السلام): «قربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) »، فكانت كالاتي:

أولاً: القربة في القرآن واللغة

جاء ذكر (القربة) في القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1).

وقد جاء في تفسيرها ومعناها ما تناوله الشيخ الطوسي في تفسيره، فقال:

(قال الزجاج: يجوز في (قربات) ثلاثة أوجه -ضم الراء وأسكانها وفتحها- وما

قرئ إلا بالضم، والقربة هي طلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة،

وهي تدني من رحمة الله والتقدير أنه يتخذ نفقته وصلوات الرسول اي دعاؤه له

قربة إلى الله.

وقال ابن عباس والحسن: معنى وصلوات الرسول: استغفاره لهم، وقال قتادة:

معناه: دعاؤه بالخير والبركة، قال الأعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا *** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي*** نوما فان لجنب المرء مضطجعا(2) .

ص: 277


1- سورة التوبة، الآية ( 99 ).
2- ديوانه 720 القصيدة 13 وقد مر البيت الثاني في 1/ 193 .

ثم قال «ألا إنها » يعني صلوات الرسول «قربة لهم » اي تقربهم إلى ثواب الله؛

ويحتمل أن يكون المراد ان نفقتهم قربة إلى الله. وقوله «سيدخلهم الله في رحمته » وعد منه لهم بان يرحمهم ويدخلهم فيها، وفيه مبالغة، فان الرحمة وسعتهم وغمرتهم، ولو قال فيهم رحمة الله لأفاد انهم اتسعوا للرحمة من الله تعالى.

وقوله «إن الله غفور رحيم » معناه إنه يستر كثيرا على العصاة ذنوبهم ولا يفضحهم

بها لرحمته بخلقه «وغفور رحيم » جميعا من ألفاظ المبالغة فيما وصف به نفسه من المغفرة والرحمة) (1).

وجاء في معنى القرب ومشتقاته في القرآن الكريم ما يوضح تعدد معاني هذه

اللفظة ومن ثم تعدد قصديتها، وفي ذلك قال الراغب الاصفهاني (ت 425 ه):

(القرب والبعد يتقابلان، يقال قربت منه اقرب وقربته اقربه قربا وقرباناً،

ويستعمل ذلك في المكان والزمان وفي النسبة وفي الخطوة والرعاية والقدرة، فمن الأول نحو (ولا تقربا هذه الشجرة - ولا تقربوا مال اليتيم - ولا تقربوا الزنا -

فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا). وقوله (ولا تقربوهن( كناية عن الجماع

كقوله (لا يقربوا المسجد الحرام)، وقوله: (فقربه إليهم) وفي الزمان نحو (اقترب

للناس حسابهم) وقوله (وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون( وفي النسبة نحو:

(وإذا حضر القسمة أولوا القربى)، وقال: (الوالدان والأقربون) وقال: )ولو كان ذا

قربى - ولذي القربى - والجار ذي القربى - يتيما ذا مقربة) وفي الحظوة (والملائكة المقربون) وقال في عيسى (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين - عينا يشرب بها المقربون - فأما إن كان من المقربين - قال نعم وإنكم لمن المقربين - وقربناه نجيا) ويقال للحظوة القربة كقوله (قربات عند الله ألا إنها قربة لهم - تقربكم

ص: 278


1- التبيان: ج 5 ص 286 .

عندنا زلفى) وفى الرعاية نحو (إن رحمة الله قريب من المحسنين) وقوله (فإني قريب أجيب دعوة الداع) وفى القدرة نحو (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقوله

(ونحن أقرب إليه منكم) يحتمل أن يكون من حيث القدرة، والقربان ما يتقرب

به إلى الله وصار في التعارف اسما للنسيكة التي هي الذبيحة وجمعه قرابين، قال: (إذ قربا قربانا - حتى يأتيا بقربان) وقوله: (قربانا آلهة) فمن قولهم قربان الملك لمن يتقرب بخدمته إلى الملك، ويستعمل ذلك للواحد والجمع ولكونه في هذا الموضع جمعا قال آلهة، والتقرب التحدي بما يقتضى حظوة وقرب الله تعالى من العبد هو بالافضال عليه والفيض لا بالمكان ولهذا روى أن موسى (عليه السلام) قال إلهي أقريب أنت فأناجيك؟ أم بعيد فأناديك؟ فقال: لو قدرت لك البعد لما انتهيت إليه، ولو قدرت لك القرب لما اقتدرت عليه، وقال: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقرب العبد من الله في الحقيقة التخصص بكثير من الصفات التي يصح أن يوصف الله تعالى بها وإن لم يكن وصف الانسان بها على الحد الذي يوصف تعالى به نحو: الحكمة والعلم والحلم والرحمة والغنى وذلك يكون بإزالة الأوساخ من الجهل والطيش والغضب والحاجات البدنية بقدر طاقة البشر وذلك قرب روحاني لا بدني، وعلى هذا القرب نبهّ عليه الصلاة والسلام فيما ذكر عن الله تعالى: «من تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا » وقوله عنه «ما تقرب إلى عبد بمثل أداء ما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلى بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه » الخبر وقوله: ﴿ولَا تقَرْبَوُا ماَل اليْتَيِم﴾ِ هو أبلغ من النهى عن تناوله، لان النهى عن قربه أبلغ من النهى عن أخذه، وعلى هذا قوله: ﴿ولَا تقَرْبَاَ هذَهِ الشجَّرَةَ﴾َ وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ كناية عن الجماع ﴿ولَا تقَرْبَوُا الزنِّاَ﴾(1).

ص: 279


1- المفردات للراغب: ص 398 - 399 .

وهذه المعاني للفظ (القربة) وما أرتبط بها من موارد ومقاصد في القرآن الكريم

يدفع الرجوع الى كتب الفقهاء بغية معرفة حكمها ومتعلقاتها في الاعمال ومن ثم

الوصول الى قصديته (عليه السلام) في جعل امر التولية في هذه الاموال لأبني

فاطمة (عليهما السلام).

ثانياً: معنى القربة عند الفقهاء

إن للّفظ خصوصية خاصة وذلك لإرتباطه بروح الشريعة والعقيدة؛ لما للفظ

-اي: (القربة)- من مسافة واسعة تداخلت مع الفرائض والمندوبات والحث على

العمل في مختلف أوجه البر.

فجميع ذلك مرتبط أرتباطا وثيقا وأساسياً ب(القربة) الى الله تعالى؛ فهي -أي

(القربة)- مدار الاعمال والاعتقاد باليوم الاخر.

وعليه: يصبح قوله (عليه السلام):

«قربة الى رسول الله » مورداً خصباً لمجموعة من المقاصد التي أراد من خلالها

توجيه المتلقي الى بناء العقيدة ونظام الحياة الدينية؛ وذلك أن المتلقي ومن خلال

هذا اللفظ سيواجه العديد من المفاهيم التي أدخلت إلى المنظومة الفكرية للإسلام فكانت سببا في تغيير جملة من المفاهيم والتي أصبحت واقعاً ملموساً لدى النخبة من أهل القرن الأول الهجري.

الهجوم على بيت فاطمة وترويعها مع ولديها الحسن والحسين (عليهم السلام)، وبين جعلهما وسيلة للتقرب الى رسول الله مساحة واسعة وهوّة عظيمة

سقط فيها من سقط من الناس والصحابة كما أخبر عن ذلك رسول الله (صلى الله

عليه وآله) في حديث الحوض:

ص: 280

«فلا أراه يخلص منهم إلّا کهمل النعم»(1).

ومن ثم نحتاج الى الرجوع الى مفهوم القربة عند الفقهاء كي نصل الى قصدية

منتج النص (صلوات الله وسلامه عليه) في جعل ابني فاطمة (عليهما السلام) قربة الى سيد الانبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولعل الرجوع الى الجواهر الذي جمع فيه الشيخ الجواهري (رحمه الله) جواهر

الفقهاء ليكفينا المؤنة في البحث والاستقصاء عن اقولهم (اعلى الله درجاتهم)؛ قال (رحمه الله) وتحت عنوان (إعتبار القربة في النية):

(ومن الكيفية أن ينوي (القربة) بلا خلاف اجده فيها، بل في المدارك أنه موضع

وفاق، وكأن عدم ذكر البعض لها لعدم تعرضه لأصل النية لا يشعر بالخلاف، بل

إما لاكتفائهم باشتراط الاخلاص في العبادة المستلزم لها أو غير ذلك، وكان خلاف

المرتضى )رحمه الله( الآتي إن شاء الله في صحة العبادات الريائية وإن كان لا ثواب

عليها ليس نزاعا في اشتراط التقرب، لأنه على ما يظهر من نقل بعضهم له أن نزاعه في ضميمة الرياء، والظاهر أن المراد من القربة العلة الغائية بمعنى أنه يقصد وقوع الفعل تحصيلا للقرب إلى الله تعالى الذي هو ضد البعد المتحقق بحصول الرفعة عنده استعارة من القرب المكاني، لكن فيه من الاشكال ما لا يخفى، لأن دعوى وجوب نية القرب بهذا المعنى مما لا يمكن إقامة الدليل عليها من كتاب أو سنة، بل هي إلى البطلان أقرب منها إلى الصحة، لما نقل عن المشهور بل في القواعد للشهيد نسبته إلى قطع الأصحاب، بل نقل أنه ادعى عليه الاجماع أنه متى قصد بالعبادة تحصيل الثواب أو دفع العقاب كانت عبادته باطلة، لمنافاته لحقيقة العبودية، بل هي من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مرتبة السيد سيما مثل هذا السيد، ولا ريب أن

ص: 281


1- صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج 7 ص 209 .

القرب بالمعنى المتقدم نوع من الثواب، فيجري فيه ما يجري فيه، نعم اختار بعض

متأخري المتأخرين في مثل تلك العبادة الصحة، عملا بظواهر الآيات والروايات،

كقوله تعالى(1): ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ و﴿ويَدَعْوُننَاَ رغَبَاً ورَهَبَاً﴾(2) وقد روي عنهم (عليهم السلام)(3) «إن من بلغه ثواب على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أويته وإن لم يكن كما بلغه » وما ورد(4) من تقسيم العباد إلى ثلاثة، منهم عبادة العبيد، وهي أن يعبد الله خوفا، ومنهم عبادة الأجراء، وهم وجميع ما ذكر محمول على إرادة إيقاع الفعل بقصد الامتثال، وموافقة الإرادة والطاعة، وجعل ذلك وسيلة إلى تحصيل ذلك الثواب كما هي سيرة سائر العبيد مع ساداتهم، إنما الممنوع عندنا القصد بالفعل لتحصيل الثواب، ومما يؤيده أنه إن أريد القربة بالمعنى الأول كان لا ينبغي الاجتزاء بعبادة قاصد الإطاعة والامتثال مقتصرا عليهما لفقد الشرط وهو مما لا يلتزم به فقيه، أو يراد بوجوبها الوجوب المخير بينها وبين غيرها، وهو خلاف الظاهر منهم.

إذا عرفت ذلك فالمتجه حينئذ تفسير القربة بما يظهر من بعضهم من موافقة الإرادة وقصد الطاعة والامتثال، فإنه حينئذ يدل عليه جميع ما دل على وجوب الاخلاص كتابا وسنة، كقوله تعالى(5): ﴿ومَاَ أمُرِوُا إلِا ليِعَبْدُوُا ا لله مخلصِينِ لهَ الديِّن﴾َ مضافا إلى توقف تحقق قصد الطاعة والامتثال المأمور بهما في الكتاب والسنة عليها، لا يقال:

أن القول باشتراط القربة بالمعنى المتقدم قد يكون منشؤه الاجماع على وجوبها مع ظهورها في ذلك، وبه تمتاز عن نية غيرها من قصد جلب الثواب أو دفع العقاب، بل

ص: 282


1- سورة السجدة، الآية ( 16 ).
2- سورة الأنبياء، الآية ( 90).
3- الوسائل، الباب ( 18 ) من أبواب مقدمة العبادات.
4- الوسائل، الباب ( 9) من أبواب مقدمة العبادات.
5- سورة البينة، الآية ( 4).

مما يرشد إليه ما نقل عن ابن طاووس في البشرى أنه قال: لم أعرف نقلا متواترا ولا آحادا يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة، لكنا علمنا يقينا أنه لابد من نية القربة، ولولا ذلك لكان هذا من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه »(1) انتهى.

فإن قوله ولولا ذلك إلى آخره ظاهر في إرادة القربة بالمعنى الأول، وإلا ففي

المعنى الثاني لا يكون من باب (اسكتوا عما سكت الله عنه) لأنا نقول أما دعوى

الاجماع على اشتراط نية القربة بالمعنى المتقدم إن لم يكن ممنوعا فهو محل الشك، وما ذكره من كلام ابن طاووس لا دلالة فيه على ذلك، لأنه قد يكون المقصود منه المعنى الثاني، ولولا ما ذكرنا من الأدلة عليه من توقف الإطاعة والامتثال وأدلة الاخلاص التي أفادتنا اليقين بذلك لكان من باب (اسكتوا عما سكت الله عنه) وهو كذلك، واحتمال القول أنه لا فرق معنوي بين المعنى الأول للقربة والثاني فيه ما لا يخفى، نعم قد يظهر من ابن زهرة في الغنية إيجاب معنيي القربة، متمسكا للأول منهما بنحو قوله تعالى(2)«وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ »وقوله تعالى(3): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » فإن المعنى

افعلوا ذلك على رجاء الفلاح، وقوله تعالى(4): ﴿ويَتَخَّذِ ماَ ينُفْقِ قرُبُاَت عنِدْ الله وصَلَوَاَت الرسَّوُل ألَا إنِها قرُبْةَ لهُم﴾ْ وفيه ما لا يخفى، بل الاجماع على خلافه، إذَ هو مؤد إلى فساد عبادة الأولياء الذين لا يخطر ببالهم ذلك، فتأمل)(5).

أقول: وخلاصة قوله (رحمه الله) في القربة فهي:

ص: 283


1- تفسير الصافي، سورة المائدة الآية ( 101 )، والبحار الباب ( 33) من أبواب كتاب العلم (حديث 5).
2- سورة العلق، الآية ( 19 ).
3- سورة الحج، الآية ( 76 ).
4- سورة التوبة، الآية ( 100 ).
5- جواهر الكلام: ج 2 ص 86 - 89 .

(أرادة إيقاع الفعل بقصد الإمتثال، وموافقة الإرادة والطاعة، وجعل ذلك وسيلة

الى تحصيل ذلك الثواب).

وهذا القول مهم جداً لأنه يرشد الى قصدية قوله:

(قربة الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

أي: إيقاع فعل التولية لأبناء فاطمة (عليهم السلام) بقصد الإمتثال لما أمر به

رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تعظيم شأنهما واداء حقهما وحق امهما فاطمة وموافقة الارادة والطاعة لما أمر به الله تعالى في قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وجعل هذه التولية وسيلة لنيل الولوج الى الجنة والصرف عن النار، وذلك لترتب

نفس الاثر الذي تعلق بالإنفاق.

ومن ثم: توجيه المتلقي الى قضية مهمة وهي: إنّ انفاق المال الذي حدد ثماره منتج النص (عليه السلام) في مستهل وصيته لا يداني ثمار القربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحسن والحسين (عليهما السلام).

وبذلك يتضح ما يترتب على المخالف لهذه الحرمة وصيانتها والتعرض لمقامها

(عليها السلام) من الإبتعاد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ بل أن توقف

أرتفاع الاعمال وقبولها الذي به تتحقق القربة من الله لا يختلف من حيث معنى

القربة ومقصدها فيما يتعلق بالقربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبني فاطمة (عليهم السلام).

بمعنى: إنّ النتيجة واحدة في قبول العمل أو أحباطه، وذلك لأتحاد المنشأ وهو ما

سنتناوله في القصدية القادمة.

ص: 284

المسألة الثانية: قصدية التلازم بين القربة الى الله والقربة الى رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ووحدة المنشأ بينهما

إنّ الوصول الى مقام (وجه الله) تعالى الذي جعله الإمام أمير المؤمنين (عليه

السلام) غاية في قصدية الانفاق لينال بذلك الرفعة عند الله تعالى متحقق في القربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وذلك (إن القربة والتقرب طلب الرفعة عند الله تعالى بواسطة نيل الثواب)(1) .

وهذه القصدية متحققة في القرب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بمعنى:

إن القربة والتقرب التي تحقق الرفعة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي في حقيقتها وغايتها تحقق الرفعة عند الله تعالى.

وذلك لوحدة المنشأ بين القربين، القرب لله والقرب لرسول الله (صلى الله عليه

وآله).

وقد دلت عليه كثير من الآيات المباركة، منها:

1- ففي وحدة الإتباع قال تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »(2).

2-وفي وحدة الطاعة، قال تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»(3).

ص: 285


1- ذكرى الشيعة في احكام الشريعة للشهيد الاول: ج 2 ص 103 .
2- سورة آل عمران، الآية ( 31 ).
3- سورة آل عمران، الآية ( 32 ).

ونلاحظ هنا ان الطاعة جاءت في توجيه المسلم بدون فاصلة بين الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله)، وقال تعالى في امر الطاعة له ولرسوله (صلى الله عليه وآله): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»(1).

﴿ياَ أيَها الذَّيِن آمَنَوُا أطَيِعوُا الله ورَسَوُلهَ ولَا توَلَوَّاْ عنَهْ وأَنَتْمُ تسَمْعَوُن﴾َ(2).

وغيرها من الآيات الخاصة في التلازم بين طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

3-وفي وحدة التحذير من معصية الله ومعصية الرسول (صلى الله عليه وآله)

قال سبحانه: ﴿ومَنَ يعَصْ ا لله ورَسَوُلهَ ويَتَعَدَ حدُوُدهَ يدُخْلِهْ ناَراً خاَلدِاً فيِهاَ ولَهَ عذَاَب مهُينِ﴾(3).

4-وفي وحدة الحكم والقضاء بين الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) قال تعالى:

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا »(4).

5- وفي وحدة اعلان الحرب على العدو، قال تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ»(5).

ص: 286


1- سورة النساء، الآية ( 59 ).
2- سورة الانفال، الآية ( 20 ).
3- سورة النساء، الآية ( 14 ).
4- سورة الاحزاب، الآية( 36 ).
5- سورة البقرة، الآية ( 278 ).

6-وفي تحديد الوجهة والهجرة ووحدة التلازم فيهما الى الله ورسوله (صلى الله

عليه وآله)، قال تعالى: «وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا »(1).

7- وفي وحدة التبرّي من المشركين والمنافقين قال تعالى: «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »(2).

8- وفي وحدة التفضيل على الخلق قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ »(3).

وغيرها من الآيات الكثيرة التي تقدم حقيقة الملازمة في النيات والاعمال والاثار

والنتائج والمقاصد بين الله تعالى ورسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله).

ومنها القربة الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) كما جاء في النص الشريف عنه (عليه الصلاة والسلام) بقوله: «قربة الى رسول الله .»

ص: 287


1- سورة النساء، الآية ( 100 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 1).
3- سورة التوبة، الآية ( 59 ).

أي: إن القربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ابني فاطمة (عليهم السلام) هو قربة الى الله تعالى، وانها مصداق قوله تعالى:

﴿ومَاَ أمُرِوُا إلِا ليِعَبْدُوُا الله مخلْصِينِ لهَ الديِّن.َ...﴾(1).

بمعنى: إن الاخلاص في الدين والذي جعل قاعدة واساسا للامتثال في عبادته يكون من خلال ما اراد الله ومن خلال ما امر الله تعالى به.

ومن امره عز وجل اعطاء الاقرب احقيته في نيل القربة الى رسول الله (صلى الله

عليه وآله) وتشخيصهم كي لا يشتبه على الناس كما قال امير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الوصية.

بمعنى ادق: إنّ جميع أبناء علي بن أبي طالب (عليه السلام) لهم القرابة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلّا أن تحديد الأقرب الذي نال حق القرابة والتقرب والقرب لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) كان ابني فاطمة (عليهم السلام) كما أراد القرآن الكريم في هذا التشخيص.

أي: اتحاد القصدية في القرابة وتشخيصها بين القرآن والنص الشريف، هو ما

سنتناوله في المسألة القادمة.

ص: 288


1- سورة البينة، الآية ( 5).
المسألة الثالثة: إتحاد القصدية بين القرآن ومنتج النص في تشخيص قرابة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والتعريف بهم

يسير القرآن الكريم ومنتج النص الشريف في اظهار قصدية حق قرابة رسول

الله (صلى الله عليه وآله) وتشخيصهم في الامة لغرض بيان جملة الحدود والاحكام

والفرائض المرتبطة بهم في رقبة كل مسلم.

فالقرآن الكريم اظهر من خلال جملة من الآيات ما يترتب على الامة من فرائض

في حق قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنها هذه الآيات:

قال تعالى: « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى »(1).

فقد روي: انّها لما نزلت قیل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟

قال (صلى الله عليه وآله): «علي وفاطمة وابناهما »(2).

قال الثعلبي (ت 427 ه) بعد ان اورد الرواية: (فثبت ان هؤلاء الاربعة اقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم)؛ واذا ثبت هذا وجب ان يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم)(3).

ص: 289


1- سورة الشورى، الآية ( 23 ).
2- الكشاف للزمخشري: ج 3 ص 467 ؛ تفسير ابن ابي حاتم: ج 10 ص 3276 ؛ المعجم الكبير: ج 11 ص 351 .
3- الكشف والبيان: ج 8 ص 37 ، وعنه الفخر الرازي: ج 7 ص 166 .

2- وقال الفخر الرازي (ت 606 ه):

لاشك ان النبي كان يحب فاطمة (عليها السلام)، قال (صلى الله عليه وآله):

«فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها .»

وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه كان يحب علياً والحسن والحسين؛ واذا ثبت ذلك وجب على كل الامة مثله؛ لقوله:

﴿واَتبَّعِوُه لعَلَكَّمُ تهتْدَوُن﴾َ(1).

وقوله تعالى: ﴿فلَيْحَذْرَ الذَّيِن یخاَفِوُن عنَ أمَرْهِ﴾ِ(2)

ولقوله عز وجل: ﴿قلُ إنِ كنُتْمُ تحبِوُّن ا لله فاَتبَّعِوُن﴾ِ(3).

ولقوله سبحانه: ﴿لقَدَ كاَن لكَمُ فی رسَوُل الله أسُوْةَ حسَنَةَ﴾(4).

3- أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في

الصلاة وهو قوله: «اللهّم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد .»

ص: 290


1- سورة الاعراف، الآية ( 158 ).
2- سورة النور، الآية ( 166 ).
3- سورة آل عمران، الآية ( 31 ).
4- سورة الاحزاب، الآية ( 21 ).

وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب.

وقال الشافعي:

يا راكباً قف بالمحصب من منى***واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ***فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد*** فليشهد الثقلان أنّی رافضي)(1)

وعليه:

فقصدية القرآن في بيان منزلة القرابة انما يراد بها التقرب الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

وهي نفسها القصدية التي اكتنزها اللفظ واراد بيانها منتج النص في تولية ابني

فاطمة (عليهم السلام).

مما يستلزم تقديم جملة من الحدود للتعامل مع ابني فاطمة، بمعنى:

اذا كان تعظيمهما وتشريفهما والتقرب بهما الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) له مجموعة من النتائج والآثار في الدنيا والآخرة، فإن التعرض لهما وانتهاك حرمتهما يؤدي الى نتائج عظيمة ومنها البعد عن الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

ولذا: وجب تحذير الامة بقصدية التعظيم.

بمعنى: إن القرآن الكريم والسنة النبوية حينما وضعت جملة من الحدود والمحاذير

المتعلقة بحرمة الشريعة والفرائض والاماكن كبيت الله الحرام والاشهر كشهر

ص: 291


1- تفسير الرازي: ج 27 ص 166 .

رمضان وليلة القدر وليلة عرفة وغيرها من المقدسات التي كانت تبتغي حفظ هذه

المقدسات وتعظيمها وتقديسها بواسطة تلك المحاذير من جهة، ومن جهة أخرى

كلما اظهرت الشريعة حرمة الاشياء كلما اشتد التحذير من التعرض لهذه الحرمات.

وعليه: من المقاصد التي تقارب قصدية منتج النص في هذا الشطر من خطابه (عليه السلام) تحذير الامة؛ وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسالة الرابعة: قصدية القربة لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بتحذير الأمة من المساس بهذه القربة

إنّ مما يرشد الى هذه القصدية ويقارب مبتغى منتج النص -فضلا مما مرَّ بيانه من

المقاصدية المرتبطة بهذا اللفظ- هو تحذير الامة من التعرض لحرمة الحسن والحسين (عليهما السلام) وعدم الاكتراث لما يترتب على الامة من حقوقهما، ومنها بيان هذه الشأنية والمنزلة التي لهما عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله).

فقد ارشد القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الى اظهار هذه القصدية، أي:

تحذير الامة من التعرض لأبني فاطمة (عليهم السلام) وذلك بعد بيان منتج النص

(عليه السلام) للتقرب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهما فمما جاء في قصدية التحذير ما اخرجه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره لجملة من الروايات الشريفة في بيان معنى قوله تعالى: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ »

، فقال:

ص: 292

1-عن ابي جعفر -الباقر (عليه السلام)- في قوله: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ »؟ قال:

«قتل في مودتنا »(1).

2-وعنه (عليه السلام) في الآية نفسها، انه قال:

«هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(2).

3- وعنه ايضاً،أي: الامام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

«وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ »، يقول:

«أسألكم عن المودة التي انزلت عليكم وصلها مودة ذي القربى بأي ذنب

قتلتموهم»(3).

4- واخرج فرات الكوفي عن الفزاري معنعنا عن ابي عبد الله الصادق (عليه

السلام) في قوله عزّ ذكره: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ» يعني:

«مودتنا اهل البيت »، ﴿بأِيَ ذنَبْ قتُلِتَ﴾ْ قال:

«ذلك حقنا الواجب على الناس، (وب) حبنا الواجب على الخلق قتلوا مودتنا »(4).

ص: 293


1- تفسير فرات الكوفي: ص 541 - 542 .
2- المصدر السابق.
3- تفسير فرات الكوفي: ص 541 - 542 .
4- تفسير فرات الكوفي: ص 542 .

والاحاديث الشريفة واضحة الدلالة في التحذير من التعرض للعترة النبوية اذ

اظهر الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) التحذير للأمة من المساس بحرمة

العترة من خلال التعظيم في حق المودة وحدودها وشأنها عند الله تعالى وهو نفس الغرض والقصد الذي اراده منتج النص (عليه السلام) في قوله «قربة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) .»

ومما يدل على هذه القصدية ويعاضدها:

1- إن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) لمّا قُتِلِ امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) قام فخطب بالناس فقال:

«وإناّ من أهل البيت افترض الله مودتهم على كل مسلم، حيث يقول:

﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلِّا الموَدَّةَ الْقُرْبَى﴾ ﴿وَمَنْ يَقْترفَ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ

فيِهاَ حسُنْاً﴾.

فاقتراف الحسنة مودتنا اهل البيت»(1).

فإذا كان اقتراف الحسنة مودة اهل البيت التي جعلها في الاصل فرض على كل

مسلم، فكيف يكون حال من تعرض لهم بالقتل؟

2- ان هذا المعنى عينه والقصدية نفسها نجدها في حديث الامام زين العابدين

بعد مأساة يوم عاشوراء وقد أدُخل مكتوفا ومقيدا بالحبال مع بنات النبوة، يساقون

في البلدان ويطاف بهم في ازقة دمشق والشام.

ص: 294


1- مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): ص 328 .

فقد اخرج الطبري (ت 310 ه) والثعلبي (ت 427 ه) وابن كثير الدمشقي (ت

774 ه)؛ واللفظ لأبن جرير الطبري، انه قال: عن ابي الديلم قال:

(لما جيء بعلي بن الحسين [عليه السلام] اسيراً، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من اهل الشام فقال:

الحمد الله الذي قتلكم، واستأصلكم، وقطع قربى الفتنة.

فقال علي بن الحسين [عليه السلام]:

«أقرأت القرآن ؟»

قال: نعم.

قال: «أقرأت آل حم »(1)؟

قال: قرات القرآن وما قرأت آل حم.

قال: « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى »؟

قال: وانكم لأنتم هم؟!!

قال: «نعم »(2)

3- إن من المصاديق التي تكشف عن هذه القصدية، أي: تحذير الامة من المساس بحرمة الحسن والحسين ولم تحفظ قرابتهما وقربهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)

ص: 295


1- سورة بني اسرائيل.
2- جامع البيان للطبري: ج 25 ص 33 ؛ تفسير الثعلبي: ج 8 ص 311 ؛ تفسير ابن كثير: ج 4 ص 121 ؛ تفسير السوطي: ج 6 ص 7.

هي الدعاء الذي دعا به الامام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء بعد استشهاد

ولده علي الاكبر (صلوات الله وسلامه عليهما) فقد اخرج ابن اعثم الكوفي والعلامة

المجلسي (رحمه الله): (رفع الامام الحسين شيبته(1) نحو السماء، وقال:

«اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا

ومنطقا برسولك، كنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه، اللهم أمنعهم بركات

الأرض، وفرقهم تفريقا، ومزقهم تمزيقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة

عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا .»

ثم صاح الحسين بعمر بن سعد: «ما لك؟ قطع الله رحمك! ولا بارك الله لك في

أمرك، وسلط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ

قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) »، ثم رفع الحسين (عليه السلام) صوته وتلا: «إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية

بعضها من بعض والله سميع عليم »)(2).

اذن:

كانت القصدية الجديدة في قوله (عليه السلام):

«قربة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) » هي تحذير الامة من المساس بهذه

القرابة والقربة التي لابني فاطمة (عليه السلام) من سيد الخلق اجمعين (صلى الله عليه وآله).

ص: 296


1- وورد في البحار بلفظ (سبابته).
2- البحار: ج 45 ص 43 ؛ الفتوح لابن اعثم الكوفي: ج 5 ص 114 .

لكن الامة لم تنصاع لهذا التحذير المكتنز من دلالة اللفظ وقصدية منتج النص كما

لم تطع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في العمل بالمودة والقربى ولم تحفظ حرمة ابني فاطمة (عليهم السلام).

ولذا: تحملت الآثار الدنيوية والآخروية للمساس بهذه القرابة فكانت هذه الآثار

كالاتي وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الخامسة: قصدية التلازم في الآثار المرتبطة بالتعامل مع قرابة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في الدنيا والآخرة

إنّ لكل عمل من الاعمال آثاره المرتبطة به سواء كانت هذه الآثار دنيوية ام

آخروية لاسيما تلك الاعمال الخاصة بقصدية الشريعة ورموزها كالأنبياء والمرسلين

والحجج والمعصومين (سلام الله عليهم اجمعين) كما مرَّ بيانه في مسألة التولي والتبري عند دراسة مقبولية النص عند العلّامة المجلسي (رحمة الله عليه) في الباب الاول من الكتاب.

وإن الاثار المرتبطة بقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي من اخطر الاثار

تأثيراً وفعالية في الدارين الاولى والآخرة؛ ولقد كشفت المصادر الاسلامية في

التاريخ والسيرة والتراجم وغيرها مما تناولت حياة المسلمين ورموزهم عن سرعة

ظهور هذه الآثار في الحياة الدنيا حينما اقدم بعض المسلمين على انتهاك حرمة رسوله الله (صلى الله عليه وآله) في التعامل مع قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولقد مرَّ في المسألة السابقة حديث الإمام الحسين (عليه السلام) ودعائه على عمر بن سعد وكيف نال آثار هذا التعرض لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 297

وكذا حال الذين تعرضوا لحرمة بقية الائمة (عليهم السلام) وابنائهم ويكفي في

ذاك كاشفا عن هذه الاثار ما نال الذين تعرضوا لفاطمة بنت رسول الله (صلى الله

عليه وآله) وكيف انقلب الذين ظلموها.

من هنا: فان الروايات التاريخية والوقائع الحياتية كاشفة عن اظهار هذه الاثار المرتبطة بالتعامل مع قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

بمعنى: مثلما جعل الله تعالى للإنفاق اثارا دنيوية وآخروية تلحق العامل بها، كذا هو حال التعامل مع أبني فاطمة (عليهم السلام).

ولذا: لازم بينهما منتج النص (صلوات الله وسلامه عليه)، اي: لازم في تلك الاثار

منبها على خطورة اغفال هذه المسألة الهامة حيث ينصرف الانسان الى عمل الانفاق بالمال والموقوفات والصدقات بغية الانتفاع منها بعد الموت ويغفل عن نفس هذه الاثار المرتبطة بالتعامل مع قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الموت.

إذ سيجني الانسان بعد موته إما خيراً وفيراً ورحمة من الله واسعة فيكون في قبره

منعما في روضة من رياض الجنة او في حفرة من حفر النار؛ كما أخبر المصطفى (صلى الله عليه وآله) عن حال الإنسان في قبره، فقال:

«إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار »(1).

ص: 298


1- الخرائج والجرائح للراوندي: ج 1 ص 172 ؛ سنن الترمذي: ج 4 ص 55 .

وقد كشفت الروايات الشريفة ايضا مثلما كشفت الوقائع الحياتية منذ استشهاد

رسول الله (صلى الله عليه وآله) والى قيام الساعة عن هذه الآثار ما بعد الموت،

ومنها، اي من هذه النصوص ما يلي:

1- أخرج العياشي (رحمه الله) (ت 320 ه) عن أبي عمرو الزبيري عن الإمام

الصادق (عليه السلام)، انه قال: «من تولى آل محمد (صلى الله عليه وآله) بما قدم من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو من آل محمد لتوليه آل محمد لا أنه من القوم بأعينهم وانما هو منهم بتوليه اليهم وأتباعه اياهم، وكذلك حكم الله في كتابه: ﴿ومَنَ يتَوَلَهُم منِكْمُ فإَنِهَّ﴾ُ.

وقول ابراهيم: ﴿فمَنَ تبَعِنَيِ فإَنِهَّ منِيِّ ومَنَ عصَاَنی فإَنِكَّ غفَوُر رحَيِم﴾»(1)

ونلاحظ هنا اثار تولية آل محمد (صلى الله عليه وآله) وتقديمهم على النفس

والناس لقرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه منهم لهذه التولية؛ ومن

ثم له بذلك ان يكون في زمرتهم وجوارهم في الآخرة.

2- روى المحدث النوري في المستدرك نقلا عن التفسير المنسوب للأمام الحسن

العسكري (عليه السلام)، انه قال:

(ان رجلا جاع عياله فخرج يبغي لهم ما يأكلون، فكسب درهما فاشترى به خبزا

وادما(2) ، فمر برجل وامرأة من قرابات محمد وعلي صلوات الله عليهما فوجدهما

ص: 299


1- تفسير العياشي: ج 2 ص 231 .
2- في المصدر: وإداما.

جائعين، فقال: هؤلاء أحق من قراباتي فأعطاهما إياهما ولم يدر بماذا يحتج في منزله، فجعل يمشي رويدا يتفكر فيما يعتذر(1) ، به عندهم، ويقوله(2) لهم، ما فعل بالدرهم إذا لم يجئهم بشيء؟ فبينا هو في طريقه إذا بفيج(3) يطلبه، فدل عليه فأوصل إليه كتابا من مصر وخمسمائة دينار في صرة، وقال: هذه بقية حملت(4) إليك من مال ابن عمك، مات بمصر وخلف مائة ألف دينار على تجار مكة والمدينة، وعقارا كثيرا ومالا بمصر بأضعاف ذلك، فأخذ الخمسمائة دينار فوسع على عياله، ونام ليلته فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليا (عليه السلام)، فقالا له:

« كيف ترى اغناءنا لك، لما(5) آثرت قرابتنا على قرابتك!؟ » إلى أن ذكر أنه وصل إليه من أثمان تلك العقار ثلاثمائة ألف دينار، فصار أغنى أهل المدينة، ثم أتاه رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

« يا عبد الله، هذا جزاؤك في الدنيا على ايثار قرابتي على قرابتك، ولأعطينك في

القيامة(6) بكل(7) حبة من هذا المال، في الجنة ألف قصر، أصغرها أكبر من الدنيا، مغرز كل إبرة منها خير من الدنيا وما فيها)(8).

ص: 300


1- في المصدر: يعتل.
2- في المصدر: يقول.
3- الفيج: هو الذي يحمل الاخبار من بلد إلى بلد، فارسي معرب، وهو ساعي البريد بتعبير عصرنا الحاضر (لسان العرب (فيج) ج 2 ص 350 ).
4- في المصدر: حملته.
5- في المصدر: بما.
6- في المصدر: الآخرة.
7- في المصدر: بدل كل.
8- مستدرك الوسائل النوري: ج 12 ص 382 .

والحديث غني عن البيان في تدعيم مصاديق هذه القصدية التي تقارب ما قصده

منتج النص (صلوات الله وسلامه عليه) في جعل التولية لأبني فاطمة (صلوات

الله عليهم اجمعين) في الدنيا والاخرة متقربا بهما الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع ما لديه من المنزلة الخصيصة والقرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو القائل:

«وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة والمنزلة

الخصيصة، وضعني في حجره وانا ولد، يضمني الى صدره، ويكنفني في فراشه،

ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل.....»(1).

هذا هو حال امير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) مع رسول الله (صلى الله عليه

وآله) وهذا حال معرفته بمنزلة ابني فاطمة (عليهم السلام) وموضعهما منه ليس

بلحاظ كونهما سبطاه وانما لأنهما متلازمان مع حرمته (صلى الله عليه وآله) وان

حرمته متلازمة مع حرمة الله (صلى الله عليه وآله).

ولذا: عرّج (عليه السلام) الى مقاصدية اخرى، فقال:

«وتكريما لحرمته ».

فما هو مبتغاه من هذا اللفظ، وكيف سيتحقق هذا التكريم لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في توليتهما على الاموال؟ وجوابه في المباحث القادمة.

ص: 301


1- نهج البلاغة الخطبة القاصعة: ج 2 ص 156 .

ص: 302

المحتويات

المبحث الرابع والثلاثون مقاصدية التلازم بين الشكوى و التعزية

المسألة الاولى: القصدية في مخاطبة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بياء النداء بعد موته ... 7.

أولاً: إن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) حي في قبره ... 9

ثانياً: تشريع الاستغاثة برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...14

المسألة الثانية: قصدية التعزية لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بعد موته ... 26.

أولاً: إن المعزى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )فهو صاحب المصاب... 26

ثانياً: إن القصدية في قوله (وفيك أحسن العزاء) هو التأسي ...32

المبحث الخامس والثلاثون المقاصدية في ملازمة الصلاة على النبي وفاطمة (علیها السّلام)

المسألة الاولى: إن حرمة النبي وحرمتها واحدة ... 38

أولاً: تعدد ألفاظ حديث البضعة ... 42

ثانياً:حديث الشجنة ... 45

ثالثاً: حديث المهجة... 48

رابعاً: حديث الشعرة ... 51

خامساً: حديث (أحب أهله إليه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...56

ص: 303

سادساً: حديث (وهي قلبي وروحي) ....58

المسألة الثانية: إنّ صلتها في الصلاة عليها تكون صلة لأبيها (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...65

أولاً: الصلاة عليها والطواف عنها ...66

ثانياً: كيفية الصلاة عليها ... 68

ثالثاً: الآثار الغيبية لفضل الصلاة عليها ... 69

رابعاً: الطواف عنها ... 70

خامساً: إهداء الصلاة إليها ... 71

المسالة الثالثة: زيارة قبرها كما فعل أمير المؤمنين (علیه السّلام)...72

المسألة الرابعة: القصدية في بدء الخطاب بالصلاة على النبي وعلى فاطمة (عليهما الصلاة والسلام) ... 82.

أولاً: جمع مشاعر المتلقي حول القضية الأساس وهي حرمة رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) التي أنُتهكت . .. 82

ثانياً:إن المستهدف الاول في هذه الحرب هو رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...83

ثالثاً: تقديم أنموذجين من الاعتقاد بالله ورسوله عن اهل القرن الاول ... 84

رابعاً: إن الصلاة على النبي وفاطمة تقطع الطريق على القائلين بالفصل بين النبي والآل في الصلاة ... 85

خامساً: إنّ الصلاة على فاطمة تدفع المسلم عن ظلم العترة في انتهاك حقّها ... 86

ص: 304

الفصل الثاني: مقبولية النص لدى المتلقي عند دفنه فاطمة (علیها السّلام)

المبحث الأول مقبولية النص عند ابن أبي الحديد المعتزلي

المسألة الاولى: مناقشة قول ابن أبي الحديد لبيان مستوى مقبولية النص لديه ...109

أولاً: مقبولية المعتزلي لقوله (علیه السّلام) «وفاضت بين نحري وصدري نفسك . »...109

ثانياً: محاولته اليائسة في الجمع بين حديث الإمام علي (علیه السّلام) وحديث عائشة في وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...110

ثالثاً:تفاعله مع قوله (علیه السّلام) « لقد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة »...111

رابعاً: تفاعله مع لفظ «اخذت الرهينة »...111

خامساً: حجم تلقيه ومقبوليته لقوله (علیه السّلام) « فأما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد »...112

سادساً: في تلقيه لقوله (علیه السّلام)« فأحفها السؤال واستخبرها الحال » وتفاعله معه .... 113

المسألة الثانية: تأثير النص بالمتلقي دفعه للانقلاب على الذات فكشف المستور ... 115 .

أولا: محاولة المعتزلي الممازجة بين حق علي(علیه السّلام) في الخلافة وتصحيح بيعة أبي بكر ... 116

ثانياً: استتاره من التصريح بحق علي (علیه السّلام) والتجائه الى النصوص النبوية في تعظيمه وتبجيله.... 117

ثالثاً: مناقشة قول ابن أبي الحديد (أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر ..) .... 117

رابعاً: أمّا قول المتلقي (على ان يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه، إما له أو لأبي بكر، أو لغيرهما) :.... 118

خامساً: عودة المتلقي للانقلاب ذاته هروبا من قصدية النص... 126

ساددساً: في قول المتلقي (وما أنكر إلا منكرا) ومناقشته ... 127

سابعاً: مناقشة المعتزلي في عدم وجود نص عند علي(علیه السّلام) ...130

المسألة الثالثة: تساءل المتلقي عن جواز ترك أبي بكر الأنصار في الوثوب على الخلافة..... 136 .

أولاً: من أعطى أبي بكر الحق في منع الأنصار من الاجتماع الى سيدهم وشيخهم سعد بن عبادة؟ ... 137

ثانياً: إقرار المتلقي بترك الصحابة مواراة نبيهم(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) فلم يصلوا عليه، ولم يدفنوه .... 143

ثالثاً: إن الخاسر الأكبر هم الأنصار في قراءة المعتزلي للحدث .... 147

المسألة الرابعة: محاولات يائسة من المتلقي لصرف النص عن قصديته .... 150 .

أولاً: منهجه في التعامل مع النص في صرفه عن قصديته الاساس وهي قتل بضعة النبي(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...152

ثانياً: منهجه في التعامل مع جريمة قتل فاطمة (علیها السّلام) في شرحه لنهج البلاغة .... 155

ص: 305

المبحث الثاني مقبولية النص عند العلّامة المجلسي(عليه الرحمة والرضوان)

المسألة الأولى: موارد استشهاد المجلسي (رحمه الله) بالنص وظهور تفاعله معه ... 168 .

أولاً: تفاعله مع النص في كتاب مرآة العقول .... 169

ثانیاً: تفاعله مع النص في كتاب روضة المتقين .... 193

المسألة الثانية: إبداء ذروة التفاعل مع النص بين حدّي التولي والتبري .... 195

أولاً: نصوص التولي والتبري في القرآن والعترة(علیهم السّلام)...196

ثانياً: إرتكاز مقبولية النص عند المجلسي على عقيدة التولي والتبري ... 204

المبحث الثالث مقبولية النص عند المرجع الديني الشيخ جواد التبريزي (عليه الرحمة والرضوان)

أولاً: اعتماد النص في اثبات ظلامة فاطمة (علیها السّلام) وصحة ما نزل بها من المصائب على أيدي الصحابة .... 211

ثانياً: إن ما جرى على فاطمة الزهراء (علیها السّلام) من الظلم والجور مرتبط بعقيدة الموالاة والبراءة ... 213

ص: 306

الباب الثاني: ما رواه الشريف الرضي في وصية علي (علیه السّلام) في أمواله وابنيَ فاطمة (علیهم السّلام) وما رواه في حجاجه (علیه السّلام) لمعاوية في نفي ما لعلي (علیه السّلام) من الفضل . 

الفصل الاول: ما رواه الشريف الرضي (رحمه الله) في وصية علي (علیه السّلام) في أمواله وابنيَ فاطمة (علیه السّلام)

المبحث الأول سبب صدور النص الشريف وبيان مكان صدوره وزمانه

المسألة الاولى: سبب صدور النص (الوصية في أمواله )...227

المسألة الثانية: زمان صدور النص الشريف ومكانه .... 234 .

أولاً: مكان صدور النص .... 234

ثانياً: زمان صدور النص .... 235

المسألة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تضمنت الوصية ... 238 .

أولاً: ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) (ت 329 ه) .... 239

ثانياً: ما رواه ابن شبة النميري (ت 262 ه) .... 241

المبحث الثاني المقاصدية في قوله (علیه السّلام) «أبتغاء وجه الله  »

المسألة الأولى: قصدية الإنفاق في سياق العرض القرآني... 250 .

المسألة الثانية: قصدية الملازمة بين تولية أبني فاطمة (علیها السّلام) ووجه الله تعالى... 253 .

أولاً: لا يحصل رضا الله في الأعمال إلّا برضا فاطمة وأبنائها (علیهم السّلام)...235

ثانياً: إن القصدية في إبتغاء (وجه الله) هي عترة آل محمد (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ...255

المسألة الثالثة: اختلاف القصدية في تكرار لفظ (وجه الله) في الوصية .... 260 .

أولاً: الإخلاص في النية ...261

ثانياً: أثر الرياء في النية وإحباط العمل .... 268

ص: 307

المبحث الثالث المقاصدية في جعل التولية لأبني فاطمة (علیها السّلام) قربة الى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

المسألة الاولى: قصدية التقرب الى رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بالحسن والحسين (علیهما السّلام)...275

أولا: القربة في القرآن واللغة ... 277

ثانيا: معنى القربة عند الفقهاء ... 280

المسألة الثانية: قصدية التلازم بين القربة الى الله والقربة الى رسوله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ووحدة المنشأ بينهما .... 285 .

المسألة الثالثة: إتحاد القصدية بين القرآن ومنتج النص في تشخيص قرابة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) والتعريف بهم .... 289 .

المسالة الرابعة: قصدية القربة لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بتحذير الأمة من المساس بهذه القربة .... 292 .

المسألة الخامسة: قصدية التلازم في الآثار المرتبطة بالتعامل مع قرابة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في الدنيا والآخرة ... 297 .

ص: 308

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.