فاطمة عليها السلام في نهج البلاغة المجلد 3

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 1351 لسنة 2016

مصدر الفهرسة: IQ – KaPLI ara IQ –KaPLI rda

رقم الاستدعاء: 2017 H37 F3.BP38.09

المؤلف: الحسني، نبيل قدوري ، 1965 -. مؤلف.

العنوان: فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله /

بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبعة: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2017 / 1438 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد ؛

سلسة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ سلسلة الدراسات والبحوث العلمية ( 12 ).

تبصرة ببليوغرافية : يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة- 40 هجريا – احاديث

-- دراسة تحليلية.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – فضائل – احاديث.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – مصائب.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – الوفاة والدفن.

مصطلح موضوعي: فقه اللغة العربية.

مصطلح موضوع: احاديث الشيعة الامامية -- دراسة تحليلية.

مؤلف اضافي: مستخلص ل )عمل( : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة -- جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

سلسلة الدرسات والبحوث العلمية (12)

وحدة فقه اللغة وفلسفتها - اللسانيات

فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله /

بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني

ص: 2

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

لطبعة الأولى

1439 ه/ 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة مؤسسة علوم نهج البلاغة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل: 07815016633

ص: 3

ص:4

المبحث الثالث والعشرون:المقاصدية في الإقامة عند قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ونفي سوء الظن بما وعد الله الصابرين

اشارة

ص: 5

قال (عليه السلام): «وإنِ أُقمِ فَلا عنَ سوُء ظَنٍّ بمِاَ وعَدَ اللَّه الصَّابرِين »َ

اشارة

ص: 6

يرشدنا النص الشريف هنا الى جانب اخر من حدود الاقامة والزيارة لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي نفي سوء الظن بما وعد الله الصابرين.

والسؤال الذي يفرضه البحث ماهي قصدية الامام امير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في ربط الاقامة بسوء الظن؟

وللإجابة عليه نتعرض للمسائل الآتية:

المسألة الاولى: هل كانت العرب تقيم عند قبور موتاها

إن العلاقة الإنسانية بين بني البشر تفرض تلازما روحيا ووجدانيا يكشف عن جملة من المشاعر والعواطف كالشوق والحنين والانس والالفة والمودة، وهذه المشاعر الانسانية نجدها عند فقدان الأحبة والأخوة والأبناء والآباء والأمهات

وغير ذلك من المشاعر كالألم والتفجع والجزع مما يدفع الى التعامل مع الفقيد بأطوار متعددة تكشف عما يختلج في النفس من مشاعر اتجاه هذا الانسان او ذاك.

من هنا:

نجد القرآن الكريم يرشد الى هذه الحالة الوجدانية التي عهدت لدى الناس عند فقد الاحبة حتى أصبح الأمر من المسلمات المجتمعات الانسانية ولان هذه الحالةكاشفة ايضا عن حجم العلاقة ومكانة الفقيد في المقيم عند قبره، جاء القران الكريم لينظم اثارها العقدية والاجتماعية في ذهن الناظر والتعامل مع صاحب القبر، فقال

عز وجل:

ص: 7

﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَی أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَی قَبْرهِ إنِّهمُ كَفَرُوا باِللَّه وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾(1)، بمعنى:

إنّ بعض الذين أماتهم الله تعالى كانوا من المنافقين وهؤلاء كانوا أعداءً لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولأن القرآن الكريم جاء لتنظيم الحياة واصلاح الإنسان فقد جاء الى معالجة الجوانب الوجدانية والنفسية والعاطفية.

فالحب يكون مرتكزه في النفس وطريقة قوامه الذي يرجع إليه الإنسان المسلم هو حب الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) ومنه تبنى العلاقات الانسانية في المجتمع وتكون هي الاساس والميزان الذي توزن به العواطف؛ وليس ميزان

القرابة وإن قَرُبَت كالوالدية أو الاسرية والعشائرية كما هو معهود لدى العلاقات الانسانية في معظم المجتمعات.

فقد نهى القرآن الكريم وحذر من هذا الاتجاه العاطفي فقال عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرفْتُمُوهَا وَتِجارَةٌ تَخشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِيلِهِ فَتَربَّصُوا حَتَّى يَأْتِ اللَّه بِأَمْرِهِ وَاللَّه لَا يَهدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(2).

وعليه:

يتكشف من خلال القرآن الكريم إن العلاقة مع الميت علاقة وجدانية وانسانية تتعاظم معها العواطف وتتجلى بأوضح صورها الدالة على الطبيعة الانسانية والتي تكونت وفق هذا التلازم النفسي مع الاخر.

ص: 8


1- سورة التوبة، الآية ( 84 ).
2- سورة التوبة، الاية ( 24 ).

بل ان هذه المشاعر هي مما يتفرد به الانسان عن غيره من المخلوقات وأن ألفت التعايش مع بعضها، وأرشدت بأمر الله تعالى الى تنظيم شؤونها كُلّا بحسب مقتضيات عيشه والمحافظة على جنسه فسبحان من فطر الخلائق بقدرته.

ومن ثم تصبح هذه العلاقة مع الفقيد علاقة خاصة تتعاظم بعظم العاطفة التي يكنها الحي للميت ولعل الشواهد التاريخية لهذا النوع من العلاقة ترسم حقيقة هذا

التربط مع الاخر.

فكان منها:

1-ملازمة فاطمة (عليها السلام) لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستمرار بكائها عليه (صلى الله عليه وآله) فقد روي عن امير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

(لما رمس رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاءت فاطمة (عليها السلام) فوقفت على قبره (صلى الله عليه وآله) واخذت قبضة من تراب القبر ووضعتها على عينيها وبكت وانشأت تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد*** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت علي مصائب لو أنها*** صبت على الأيام صرن لياليا(1).

2- تفجع الإمام علي (عليه السلام) -كما سيمر لاحقا- فقد قال: «آه آه لولا غلبت المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما والتلبث معكوفا،و لأعولت أعوال الثكلى على جليل الرزية .»(2).

ص: 9


1- اثارة الترغيب والتشويق للخوارزمي: ص 353 ط دار الكتب؛ المغني لابن قدامة: ج 2 ص 409 ؛فنون الادب للنويري: ج 5 ص 173 ؛ اخبار الدول للقرماني: ج 1 ص 271
2- اورده الشيخ المفيد والشيخ الطوسي في اماليهما.

3- ومن الشواهد المعبرة عن حجم العلاقة بالفقيد وملازمة قبره ما رواه ابن عساكر الدمشقي في تاريخه:

(إن ارطأة بن سهية المرّي مات له ابن فأقام على قبره حولا يأتيه كل غداة، فيقول: يا عمرو أن أقمت حتى أمسي هل أنت رائح معي؟ فيبكي وينصرف، ويأتي القبر عند المساء، فيقول يا عمرو إن أقمت حتى الصبح هل أنت غاد معي؟ ويبكي وينصرف، فلما كان عند رأس الحول تمثل شعر لبيد، فقال:

الى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد أعتذر ثم ترك قبره ومضى وقال:

وقفت على قبر ابن ليلى ولم يكن*** وقوفي عليه غير مبكي ومجزع

هل أنت ابن ليلى ان نَظَرْتُكَ رائح*** مع الركب او غاد غداة غد معي

على الدهر فأعتب أنه غير معتب*** وفي غير من وارث الارض فاطمع)(1).

وعليه:

يظهر أن هذه العلاقة العاطفية كاشفة عن الطبيعة الإنسانية في العلاقة مع الفقيد،وان الاقامة على قبر الميت وتعاهده بالزيارة قد جرت في معظم المجتمعات، ومن ثم فان اقامته (عليه السلام) عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكشف عن العواطف والمشاعر الانسانية من جهة، ومن جهة اخرى تكشف عن انها حالة عامة وسائرة في المجتمع العربي بدليل توجيه الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في التأسيس لقاعدة ربط العاطفة بالايمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله)

ص: 10


1- تاريخ دمشق: ج 8 ص 4.

فمنع النبي من الصلاة والاقامة والزيارة لقبور المنافقين لخروجهم عن الاستحقاق العاطفي وان قربت معهم العلاقة الانسانية.

ولكن يبقى السؤال قائما لماذا ربط الامام علي (عليه السلام) الاقامة بسوء الظن بالله تعالى؟ هذا ما سنعرض له في المسائل القادمة.

المسألة الثانية: نفي قصدية الجزع عنه (علیه السّلام) في ذهن الناظر وعصمته في المشاعر

اشارة

يرشدنا قوله (عليه الصلاة والسلام):

«وإن أقم فلا عن سوء ظن » الى أمرين شرعيين:

الأمر الأول- ضرورة جب الغيبة والمحافظة على مقامه في عين الناظر.

الأمر الثاني- عصمته في تقنين مشاعره وعواطفه.

ولمزيد من البيان نعرض لكل أمرٍ على حده كما يلي:

الأمر الأول: ضرورة جب الغيبة والمحافظة على مقامه في عين الناظر

يرشدنا النص في خصوصية جب الغيبة عن نفسه حينما ينظر اليه الناظر فيجده ملازما لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيظن أن مقامه نابع من تأثره بالمصيبة فيلازم قبر الفقيد كما جرت العادة لدى الناس فيوحى بذلك عن تألمه على ما نزل

به من المصائب.

ولكونه إمام المتقين هو يرى تقنين العواطف والمشاعر عند الناس حينما تنظر اليه فيراقبهم مراقبة الامام للمأموم، والراعي المشفق للرعية، وذلك إن الناظر إليه صنفان أما محب وموالي وأما مخالف ومعادي.

ص: 11

فأما لمحب والموالي فقد يستن بذلك الفعل حينما يبتلى بمصيبة فقد الاحبة فيلازم قبورهم معتذرا بذلك بفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس من لحاظ كونه نبي الامة (صلى الله عليه وآله) وإنما قد يفسر ذلك من لحاظ العلاقة القريبة والمنزلة الخصيصة لما صرّح (عليه السلام) بهذه العلاقة وخصوصيتها، فقال (عليه السلام):

«وقد علمتم موضعي من رسول اللَّه بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه

وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل »(1).

ومن ثم قد يتوهم المحب أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تعامل مع مصيبة فقده لحبيبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما تربطه به من قرابة الرحم والصهرية والوالدية للحسن والحسين (عليهما السلام).

ولذا:

أراد (عليه السلام) نفي هذه التوجهات في نفس الموالي، أي عدم الاستنان بسنة ملازمة قبر الفقيد القريب.

وأما الصنف الآخر فهو المخالف المعادي، فهذا الصنف يتربص بالإسلام وأهله يراقب الأمور كي يقلبها مبتغيا بذلك الفتنة، قال تعالى في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مبينا له خطر المنافقين:

﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأمُورَ حَتَّى جَاءَ الَحقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّه وَهُمْ كَارِهُونَ﴾(2).

ص: 12


1- نهج البلاغة: ج 2 ص 157 ، الخطبة القاصعة.
2- سورة التوبة، الآية ( 48 )

ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء المنافقون المعادون لعلي يتربصون به كما كانوا يتربصون بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فضلا عن بغضهم لعلي، كما نص المصطفى (صلى الله عليه وآله):

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق »(1).

ومن ثم: سيقول هؤلاء المنافقون إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد جزع -والعياذ بالله- من مصيبته في ابن عمه فلزم قبره لا يفارقه فيكون ذلك الفعل،أي إقامته (عليه السلام) وملازمته لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسوغا للمنافقين في اغتيابه واتهامه بالجزع -والعياذ بالله-.

قال (عليه السلام) كما مرّ سابقا:

«آه آه لولا غلبت المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما والتلبث معكوفا،و لأعولت أعوال الثكلى على جليل الرزية .»

فكان (عليه السلام) بحكم إمامته ورعايته للأمة أن يقنن للناظر رؤيته اليه ويعيد الذهن الى جادة الصواب فيحافظ على قلب الموالين وينكس الله قلوب الذين كفروا فيزيدهم بعدا عنه وعن رحمته -أجارنا الله من سوء المنقلب-.

الأمر الثاني: عصمته في تقنين مشاعره وعواطفه

قد يتبادر الى ذهن القارئ أن المعصومين (عليهم السلام) بحكم كونهم من البشر لديهم عواطف ومشاعر، فهم ليسوا من الملائكة وإنما مثلهم مثل غيرهم من الناس كما نص قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَر مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَّی﴾(2).

ص: 13


1- الآمالي للصدوق:ص 197 ؛ سنن الترمذي: ج 5 ص 306 .
2- سورة الكهف، الآية ( 110 ).

ومن ثم فإن هذه المثلية تقتضي مرور الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين بالمشاعر والعواطف كما يمر بها جميع الناس، ومن ثم فما هو الوجه في تقنين هذه المشاعر لدى المعصوم عن غيره من الناس؟

ونقول: يعرض لنا القرآن الكريم صوراً عديدة من العلاقات الانسانية والوجدانية التي يستكشف فيها الجانب النفسي والوجداني للأنبياء (عليهم السلام) في مختلف العالقات الانسانية.

ففي الوالدية هناك العديد من المواقت التي تظهر فيها هذه الصورة الانسانية الغنية بالمشاعر والعواطف.

1- في والدية نوح (عليه السلام) ومشاعره، نجده (عليه السلام) يسأل الله تعالى النجاة لولده من الغرق لكن في نفس الوقت يظهر لنا القرآن الكريم تقنين هذه المشاعر والعواطف الوجدانية، قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهِلی وَإِنَّ وَعْدَكَ الَحقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الَحاكِمِينَ( 45 ) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْر صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ إنِّی أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الَجاهِلِينَ( 46 ) قَالَ رَبِّ إنِّی أَعُوذُ بكِ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِی بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِی وَتَرْحَمنِي أَكُنْ مِنَ الَخاسِرينَ﴾(1).

وترشدنا الآيات المباركة الى ظهور العواطف الوالدية فنجد نبي الله نوح (عليه السلام) يظهر مشاعره الأبوية وعواطفه أتجاه ولده الذي راه يغرق بعد أن تأخذه العاطفة الى نصح ولده كما جاء في قوله تعالى:

ص: 14


1- سورة هود، الآية ( 45 - 47 ).

﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِی مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾(1).

فكان جواب ولده: سآوي الى جبل يعصمني من أمر الله وبعد أن وجد إن الموعظة لا تنفع معه، التجئ لفعل هذه المشاعر الأبوية تجاه ولده وهو يراه هالك لامحالة فتوجه الى الله بالدعاء سائلا إياه عز وجل النجاة والشفاعة لولده إلا أن

الجواب لهذا السؤال: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾(2).

لنجد القرآن الكريم يعطينا صورة حية و انموذجاً في بيان إمكانية المعصوم على ضبط مشاعره وتقنين عواطفه في حالة من أشد الحالات النفسية تأثرا على الإنسان وهي عاطفة الأبوة ومشاعر الوالدية.

لكن نوح (عليه السلام) يمتثل فورا دوان أن يحتاج الى دقائق بل ولا حتى الى ثوان في تقنين هذه المشاعر وضبطها بما يريد الله تعالى، فقال مخاطبا ربه عز وجل: ﴿رَبِّ إنِّی أَعُوذُ بكِ أَنْ أَسْألَكَ مَا ليَسْ لِ بهِ عِلْمٌ وَإلِّا تَغْفِرْ لِی وَتَرْحَمنيِ أَكُنْ مِنَ الَخاسِرينَ﴾(3).

2- في صورة آخرى يعرضها القرآن الكريم وبمشهد آخر في بيان ضبط العواطف وتقنينها وهي أيضا في عاطفة الأبوة فيقدم القرآن صورة جديدة كما في ابتلاء نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام) حينما جاءه الأمر في تقديم ولده اسماعيل قربانا لإقامة البيت الحرام، وامتثال اسماعيل لهذا الامر وضبطه للمشاعر اتجاه أبيه، قال تعالى:

ص: 15


1- سورة هود، الآية ( 42 ).
2- سورة هود، الآية ( 46 ).
3- سورة هود، الآية ( 47 ).

﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّی أَرَى فِی الَمنَامِ أَنِّی أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِی إنِ شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للِجَبيِنِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهوَ الْبَلَاءُ الُمبِينُ﴾(1).

فالحال هنا يختلف من حيث جهد الابتلاء كما أن يختلف من حيث تقنين المشاعر وضبط العواطف فإن كان نبي الله نوح (عليه السلام) يسأل الله تعالى عن ابنه الذي خشى عليه من الغرق، فإن نبي الله ابراهيم أمره الله تعالى أن يباشر بيده ذبح ولده الذي كان صبيا في الخامسة من عمره أو أكثر، لقوله تعالى ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾وحينما يبلغ الإنسان مرحلة السعي يكون طفلا صغيرا لعله في الخامسة

أو فما دون ذلك أو أكثر؛ ومن ثم فإن المشاعر الأبوية إتجاه هذا الأبن تكون أعظم بكثير مما لو كان الابن رجلا قادرا على شق طريقه ودفع الضر عن نفسه كما هو حال ابن نوح (عليه السلام).

ولذا: نجد القرآن الكريم يصف لنا حال ابراهيم (عليه السلام) وما مرَّ به جهد البلاء وذلك بالنظر الى التحكم بمشاعره وعواطفه الأبوية أتجاه ولده الصغير الذي أمره الله تعالى بذبحه قربانا للبيت الحرام.

فقال عز وجل: ﴿إِنَّ هَذَا لَهوَ الْبَلَاءُ الُمبِينُ﴾.

ولا ينحصر الأمر في نوح وابراهيم (عليهما السلام) في كونهما قد قدما انموذجا في ضبط المشاعر الانسانية والعواطف الوجدانية بل هناك العديد من الصور القرآنية

التي تدل على هذه الحقيقة كما في:

ص: 16


1- سورة الصافات، الآية ( 102 - 106 ).

أ- يعقوب وفقدان ولده يوسف (عليهما السلام).

ب- في مشاعر الإمومة يظهر لنا القرآن الكريم صورة ام موسى ورميها ولدها الرضيع في البحر.

ج- في بيان مشاعر المرأة وعواطفها أتجاه إبتلائها بمواجهة قومها وهي الناسكة المتعبدة وقد جاءتهم تحمل طفلا دون أن يكون له أب وضبط هذه المشاعر وتقنينهاكما هو حال مريم (عليها السلام).

د- في بيان فقدان الإنسان لأسرته ووالديه وغدر أخوته به كل هذه المشاعر الإنسانية يعرضها القرآن الكريم في حالة يوسف (عليه السلام).

ه - في العلاقة الأخوية بين هارون وموسى ووفاة هارون في حياة موسى وابتلائه بفقدان أخيه وناصره ومعينه في إبلاغ رسالة الله تعالى.

ي- في بيان القرآن للمظاهر الاجتماعية وإقامة حدود الله تعالى وانتهاك هذه الحدود بالمستوى الظاهري دون أن يدرك الانسان الحكمة فيما يرى فيعترض رافضا لما يراه كما في قتل الخضر (عليه السلام) للغلام واغراق السفينة، اما نبي الله موسى (عليه السلام) وضبطه لمشاعره بعد ذلك حينما ادرك الحكمة فيما رأى من حوادث وافعال قام بها الخضر (عليه السلام).

فهذه الصورة القرآنية تكشف عن قدرة المعصوم (عليه السلام) على تقنين مشاعره وعواطفه والتي تدل على إن الله عصمه من أرتكاب الخطأ في المستوى الأصعب لدى

كل إنسان، وهي مشاعره وعواطفه.

إذ لولا هذه العواطف والمشاعر والخلجات النفسية لكان الإنسان كالملائكة لا التي لا تقعفي المعصية لفقدانها لتلك الشهوات والمشاعر الوجدانية المتصلة بقوتي الغضب والشهوة.

ص: 117

إذن:

أراد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يقدم للناظر صورة حية عن تقنينه لمشاعره وعواطفه وان تكليفه الشرعي ازاء الابتلاءات والحوادث كتكليف الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، ومما لا ريب فيه ان المصيبة في فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتل بضعته وقلبه وروحه التي بين جنبيه امام ناظره (عليه السلام) وهو يشاهدها تذبل كما يذبل الورد لا يقدر ان يضع السيف

في العصابة القاتلة والظالمة، متقيداً بتكليفه الشرعي في النظر الى الاسلام وحفظه ودفع السوء عنه كما قال مصرحاً بذلك في كتابه الذي أرسله الى أهل مصر مع مالك

الاشتر لما ولاه أمارتها فقال (عليه الصلاة السلام):

«أما بعد فإن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين فلما مضى تنازع المسلمون من بعده.

فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه وآله) من أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس عن فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد

رجعت عن الإسلام، يدعون الى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله)، فخشيت أن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما، أو هدما تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت السراب، أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح

الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه(1)

فلذلك أمسك على الألم، وحبس عواطفه ومشاعره أبتغاء مرضاة الله تعالى وطوع امره في نصرة دينه، وفي نفس الوقت منع انصراف ذهن الناظر الى اتهامه بالجزع

ص: 18


1- نهج البلاغة: ص 451 بتحقيق صبحي الصالح.

لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنع المحب والموالي من الاستنان بسنة الإقامة على قبر الفقيد والعزيز متذرعا بذلك بفعل سيد الموحدين وامير المؤمنين (عليه السلام).

المسألة الثالثة: منشأ سوء الظن بالله وموارده في النفس

يرى علماء الاخلاق ان سوء الظن بالله تعالى منشائه القوة الغضبية (وهو من لوازم الجبن وضعف النفس، وربما كان من رداءة الكيفية وضده، حسن الظن بالله وبالمؤمنين وهو من آثار الشجاعة وكبر النفس)(1).

وقيل:

(إن سوء الظن ينشأ عن عدم معرفته تعالى بما هو اهله)(2).

وعليه:

يصبح سوء الظن بالله تعالى من الرذائل التي يحرم على الانسان الاتصاف بها ومن ثم يصبح وجودها عند المعصوم معدوما ومحالا لأنه موضع الكمالات ومصدر الفضائل وتعليمها للناس، إلاّ أن الحكمة في قوله هذا والذي يقارب مقاصديته في بيانه هو إبعاد ظنون الناس نحوه فقد يقول قائل:

إنه لزم قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يحتمل ما نزل به من المصيبة فنسي ما أعده الله من الأجر والثواب للصابرين لتحملهم المصائب والابتلاءات، فكان ذلك نفيا لظنون الاخر وليس لنفسه (صلوات الله عليه).

ص: 19


1- جامع السعادات لمحمد مهدي النراقي: ج 1 ص 84 .
2- اختيار مصباح السالكين لابن ميثم البحراني: ص 543 .

وانّى يحصل ذلك وهو مورد الاطمئنان ومعلم الفضائل ومقصد الكمالات لاسيما وان القرآن الكريم قد بين في جملة من الآيات المباركة الاثار السيئة التي يلحقها سوء الظن بالله تعالى في الدنيا والاخرة؛ قال تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الَخاسِرينَ﴾(1).

فكيف يتصور -والعياذ بالله- وانه لزم قبر فقيده لقلة صبره؟!

وعليه: فإن القصدية في وقوع سوء الظن عائد الى تصريح نظر الناظر لاسيما وقد جاءت الاحاديث الشريفة زاخرة في كتل الحديث لدى الطائفة الامامية (اعزها الله تعالى)

في توجيه النفس مما يكشف عن الاثر المعرفي في حقل الاخلاق وعلم النفس والسلوك حتى عده فقهاء الامامية في رتبة الحرمة ومعاملة النقيض بالواجب أي وجوب العمل بحسن الظن كما جاء ذلك جليا في الوسائل، فقد اورد الحر العاملي (قدس سره) جملة من هذه الاحاديث معنْونا لها:

(باب وجوب حسن الظن وتحريم سوء الظن به).

(1- محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أحسن الظن بالله، فان الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي إن خيرا فخيرا

وإن شرا فشرا.

2-وعن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن عمر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) -في حديث- قال:

ص: 20


1- سورة فصلت، الآية (23)

فأحسن الظن بالله، فان أبا عبد الله (عليه السلام) كان يقول:

من حسن ظنه بالله كان الله عند ظنه به، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل منه اليسير من العمل.

3- وعنهم، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال على منبره:

والذي لا إله إلا هو ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله،ورجائه له، وحسن خلقه، والكف عن اغتياب المؤمنين، والذي لا إله إلا هو لا يعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصير من رجائه له،وسوء خلقه، واغتياب المؤمنين. والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لان الله كريم بيده الخير يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه.

4- وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله ولا تخاف الا ذنبك.

5- وعن محمد بن أحمد، عن عبد الله بن الصلت، عن يونس، عن سنان بن طريف قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه مشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة، ثم قال، ان الله تبارك وتعالى عند ظن عبده به ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا.

ص: 21

6-محمد بن علي بن الحسين بإسناده إلى وصية علي (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية قال: ولا يغلبن عليك سوء الظن بالله عز وجل فإنه لن يدع بينك وبين خليلك صلحا.

7- وفي (ثواب الأعمال) عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن آخر عبد يؤمر به إلى النار فيلتفت فيقول الله عز وجل اعجلوه، فإذا اتي به قال له: عبدي لم التفت؟

فيقول: يا رب ما كان ظني بك هذا، فيقول الله عز وجل عبدي ما كان ظنك بي؟

فيقول: يا رب كان ظني بك ان تغفر لي خطيئتي وتدخلني جنتك، فيقول الله عز وجل: ملائكتي وعزتي وجلالي وآلائي وارتفاع مكاني ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيرا قط ولو ظن بي ساعة من حياته خيرا ما روعته بالنار، أجيزوا له كذبه

وأدخلوه الجنة، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام):

ما ظن عبد بالله خيرا الا كان له عند ظنه، وما ظن به سوء الا كان الله عند ظنه به،وذلك قول الله عز وجل: ﴿وَذَلكِمْ ظَنكُّمُ الذَّي ظَننَتْمُ برِبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأصَبحَتمُ مِنَ الَخاسِرينَ﴾(1)، ورواه البرقي في (المحاسن) عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه.

8- وفي (عيون الأخبار) عن جعفر بن نعيم بن شاذان، عن محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:

ص: 22


1- سورة فصلت، الاية ( 23 ).

قال لي: أحسن الظن بالله فان الله عز وجل يقول: انا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلا خيرا.

9-أحمد بن أبي عبد الله البرقي في (المحاسن) عن ابن محبوب، عن ابن رئاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يؤتى بعبد يوم القيامة ظالم لنفسه فيقول الله ألم آمرك بطاعتي؟ ألم أنهك عن معصيتي؟

فيقول: بلى يا رب، ولكن غلبت علي شهوتي فان تعذبني فبذنبي لم تظلمني فيأمر الله به إلى النار.

فيقول: ما كان هذا ظني بك.

فيقول الله عز وجل: ما كان ظنك بي؟

قال: كان ظني بك أحسن الظن فيأمر الله به إلى الجنة.

فيقول الله تبارك وتعالى: لقد نفعك حسن ظنك بي الساعة)(1).

وعليه:

فقد أرشد النص الشريف الى أن العمل بالصبر افضل واجمل مع المصائب وذلك لما وعد الله عز وجل الصابرين من الاجر على مصابهم، وان حسن الظن بالله تعالى بما وعد كاف في تخفيف الالم، بل وفي الحالات التي يمر بها المعصوم (عليه السلام) تكون النفس مطمئنة في نزول البلاء لانشغال النفس بالأجر والثواب والانس بما قدر الله تعالى كما ثبت في النصوص على الانس القلبي بما اعد الله تعالى للصابرين فقد قالت العقيلة زينب كاشفة عن هذا الاطمئنان القلبي فيما نزل بها من ابتلاءات يوم عاشوراء:

ص: 23


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 15 ص 229 - 232 .

«ما رأيت إلا جميلاً .»(1).

فيكيف يكون حال قلب مولى الموحدين وامير المؤمنين (عليه السلام)!.

المسألة الرابعة: كاشفية القرآن لما وعد الله الصابرين

يتمازج النص الشريف مع روح القرآن الكريم؛ فقد عرض القرآن في موارد كثيرة عن الثمار والنتائج التي يحصل عليه الانسان الذي أعتمد ألية الصبر كنظام حياتي وسلوكي يدر عليه فوائداً وثماراً كثيرة في الدنيا قبل الاخرة.

وللوقوف على مقاصدية النص الشريف في تمازجه مع روح القرآن ومصداق التعايش مع هذه الروح التي نزل بها الوحي، نورد لبعض هذه الآيات، وهو كالاتي:

1- ﴿وَتَمتَّ كَلمِةُ رَبِّكَ الُحسْنَى عَلَی بَنيِ إسِرائيِلَ بمِا صَبَروا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾(2).

والآية في معرض ما وعد لله الصابرين الذين تعرضوا للظلم سواء كان فرعون مصر او غيره من فراعنة الارض وذلك ان النتيجة التي حصل عليها بنو اسرائيل بما صبروا امرين، هما:

أ- تمت كلمة الله بالحسنى عليهم.

ب- تدمير ما كان يضع فرعون وقومه.

2- ﴿وَالَّذِينَ صَبَروا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِّما رَزَقْنَاهُمْ سِّرا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالَحسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾(3).

ص: 24


1- الفتوح لأبن اعثم الكوفي: ج 5 ص 122 .
2- سورة الاعراف، الآية ( 137 ).
3- سورة الرعد، الآية ( 22 ).

3-﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّه بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(1).

وهنا:

قد جاء وعد الله تعالى بأنه يجازي الصابرين اجرهم بأحسن ما كانوا يفعلون.

4- ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْر الرَّاحِمينَ * فَاتَّخذْتُموهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّ جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَروا أَنَّهمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾(2).

وهنا: يأتي وعد الله للصابرين بأنهم الفائزون.

5- قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( 74 ) أُولَئِكَ يُجزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحيَّةً وَسَلَامًا﴾ (3).

والآية المباركة من الآيات المخصوصة بالأئمة وذلك ان التقوى غاية ما يسعى اليه المؤمن حتى يصل الى تلك الرتبة فيكون من المتقين وهم الذين قد خاضوا جهاد النفس فبلغوا الكمالات النفسية واحرزوا الفضائل الاخلاقية فكانوا انموذجاً

للطاعة الحقة.

ص: 25


1- سورة النحل، الآية ( 96 ).
2- سورة المؤمنون، الآية ( 109 - 111 ).
3- سورة الفرقان، الآية ( 74 - 75 ).

وعليه:لا يتحقق عنوان الامام للمتقين إلاَّ من كان معصوما وهو النبي وعترته الائمة الاثني عشر وأمهم فاطمة الصديقة الكبرى فهم أئمة المتقين وهم الصابرين الذين وعدهم الله أن يجزيهم الغرفة ويلقون تحية وسلاما.

6-أما بخصوص ما وعد الله الصابرين في موضع الابتلاء بفقد الابناء والاباء والاخوان وكل عزيز وحبيب والذي عبر عنه القرآن الكريم بالمعنى الخاص ب (المصيبة) وبالمعنى العام بكل ما يعظم به المصاب، فقال عز وجل: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لَّله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ

مِنْ رَبِّهمْ وَرَحْمةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الُمهْتَدُونَ﴾(1).

وأيّ مصيبة أعظم من المصاب بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبه انقطع الوحي ورفع عن الامة الباب الاعظم لنزول الرحمة التي فتحه الله تعالى به للعالمين.

وعليه: فليس هناك أعظم مصيبة من علي (عليه السلام) بفقده لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك لأنه أعرف الخلق به وأحبهم عنده وأقربهم منه وأخصهم لديه.

ولذا قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمْرِنَا لَّما صَبَروا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾(2).

وهو مع هذا المصاب بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان له (عليه السلام) مصاب آخر تشاطره مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في قبرة لم يدعه هذا

ص: 26


1- سورة البقرة، الآية ( 156 - 157 ).
2- سورة السجدة، الآية ( 24 ).

المصاب لعظمه على قلبه إلاّ أن يجهر بآهاته ويصرخ بألآمه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يكاد المتلقي لهذه الكلمات يجزم بان هذه الآهات لم تكن تخرج من فم علي بن أبي طالب (عليه السلام) لولا أنها نفثت معها الروح قومها، فكأنه مع هذه الرزية جسدا بلا روح، فأي مصيبة هذه، و أي رزية هي التي جعلت علي بين أبي طالب (عليه السلام) بهذا الألم؟!؛ جواب هذا السؤال في المباحث القادمة.

ص: 27

ص:28

المبحث الرابع والعشرون : المقاصدية في تضمين الآهات وممانعة النفس ب (لولا)

اشارة

ص: 29

قوله (عليه السلام): « آه آه ، » وفي لفظ اخر:

اشارة

قوله (عليه السلام): « آه آه(1) ، » وفي لفظ اخر: «وآه وآها(2)؛ لَولا غَلَبةَ المُستْولْيِن علَينْا »

ص: 30


1- دلائل الإمامة للطبري: ص 138 .
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ج 5 ص 348 .

يأخذنا النص الشريف في عرضه لمظلومية سيدة نساء العالمين وابنة خير الخلق اجمعين (صلى الله عليه وآله) في تماسك البيان وتدرجه تصاعديا حتى يصل الى ذروة تهيج المشاعر وتجمير العواطف وكأن صاحب النص (عليه السلام) في هذا العرض يفرض حضوره الشخصي امام المتلقي مستجمعا لقلبه وعقله في آن واحد نافذاًاليهما في اثبات مظلوميته ومظلومية فاطمة (صلوات الله عليهما).

معريا لوجوه اولئك الظلمة وما جنته ايديهم في حرق قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتأليمه وايذاءه اشد الاذى وهو غاية ما يطمح اليه الظالمون ويروم الوصول اليه المتجبرون ويأنس به الجلادون في سماعهم لآهات الضحية وتأوه المظلوم.

فتلك الآهات التي خرجت من فم علي بن ابي طالب (عليه السلام) مع ما آتاه الله من جلادة في القلب وعزيمة في معترك الخطوب والصبر على البلاء والمحن، إلاّ أنه هاهنا ينفض صدره آهات متجمّرة من حرقة مصابه ببضعة سيد المرسلين (صلى

الله عليه وآله).

فهذه الآهات التي لم يستطع الظالمون سماعها من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خوفا من التنزيل وتحذرا من آيات الذكر الحكيم كما اخبر القرآن عن حالهم فقال عز وجل:

﴿ یحذَرُ المنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِی قُلُوبِهمْ﴾(1).

ص: 31


1- سورة التوبة، الآية ( 64 ).

فقد سمعوها من فم الوصي و أخ النبي (صلى الله عليه وآله)، فأي جرح قد احدثوا و أي ألم قد أنزلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانّى هم عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾(1).

وعليه:

كانت لهذه الآهات وتضمينها مجموعة من الدلالات وممانعة نفسه (عليه السلام)بمقتضى حكم (لولا) مقاصد محددة؛ ولكي نقف على قصدية هذه الآهات وممانعة النفس ب لولا ومعرفة حاله (عليه السلام) الذي اضمره في النص نعرض للمسائل الآتية:

المسألة الاولى: معنى التأوه وقصديته في اللغة والقرآن

اشارة

ورد التأوه في النص الشريف بلفظين:

الاول: (آه آه)؛ والآخر: (وآه وآها) فما دلالة كل منها عند علماء اللغة؟

أولاً: معنى (آه آه) في اللغة

1- قال الجوهري (ت 393 ه): (قولهم عند الشكاة: أوه من كذا، ساكنة الواو، انما هو توجع، قال الشاعر:

فاوه لذكراها اذا ما ذكرتها*** ومن بعد ارض بيننا وسماء.

وربما قلبوا الواو الفاً فقالوا: آه من كذا.

وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه من كذا.

ص: 32


1- سورة الاحزاب، الآية ( 57 ).

وربما حذفوا مع تشديد الهاء فقالوا: أوه من كذا، بلا مد، وبعضهم يقول: آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء، لتطويل الصوت بالشكاية، وربما

ادخلوا فيه التاء فقالوا: أوتاه، يمد ولا يمد.

وقد أوه الرجل تأويها، وتأوه تأوها، إذا قال: أوه، والأسم منه: الآهة بالمد.

قال المثقب العبيدي:

إذا ما قمت أرلحها بليل*** تأوه آهة الرجل الحزين.

ويروى: «أهة » من قولهم: آه، اي توجع.

قال الحجاج: بآهة كآهة الجروح؛ ومنه قولهم في الدعاء على الانسان؛ آهة لك، وأوة لك بحذف

الهاء ايضاً مشددة الواو)(1).

وفي أصل اللفظ يقول ابن فارس (ت 395 ه): واما (الهمزة والهاء) فليس بأصل واحد لأن حكايات الأصوات ليست أصولا يقاس عليها لكنهم يقولون أه، أهة، وآهة)(2).

وقال ابن منظور (ت 711 ه) وقد جمع أقوال أهل اللغة فأضاف الى ما مرّ ذكره: )وقولهم: آهةً وأميهةً هو: التوجع.

ص: 33


1- الصحاح للجوهري: ج 6 ص 2225 - 2226 .
2- معجم مقاييس اللغة: ج 1 ص 32 .

-وفي ذلك- يقول الازهري:

آه هو حكاية المتَأَهِّة في صورته، وقد يفعله الإنسان شفقة وجزعا؛ وأنشد:

آه من تياك آها*** تركت قلبي متاها

2- قال ابن المظفر: آوهَّ، و أَهه إذا توجع الحزين الكئيب فقال: آه أو هاه عند التوجع، وأخرج نفسه

بهذا الصوت ليتفرج عنه بعض ما به، قال ابن سيدة:

وعندي انه وضع الاسم موضع المصدر، اي تأَوَهَ تأَوُهْ الرجل.

والأهَّةُ: التَّحَزُّنُ.

وقد آه، أهّا، وأهّةً.

وقد ترد بمعنى التوجع، وقيل:التوجع يقال فيه آها، قال: ومنه حديث ابي الدرداء:

(ما نكرتم من زمانكم فيما غيرتم من أعمالكم أن يكن خيراً فواها واها وأن يكن شراً فآها آها)(1).

ويستفاد مما مرّ ذكره: أن (آه آه) أراد بها (عليه السلام) التوجع والشكاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتألمه لما أصابه من الحزن فأخرج صوته بهذه الآهات.

وهذه المعاني ترشد الى مقاصد غير التي اضمرتها لفضة (وآه، وآها) كما سيأتي في ثانياً.

ص: 34


1- لسان العرب: ج 13 ص 473 - 475 .
ثانياً: معنى (وآه وآها) في اللغة

قال الفراهيدي (ت 175 ه): (وآه): تلهف وتلدد، وينون أيضا كقول أبي النجم:

واها لرجا ثم واها واها*** يا ليت عيناها لنا وفاها(1).

وذكر ابن السكيت (ت 244 ه) إن (واها) تستخدم للتعجب(2)

وذلك أنّ الناس لهم في هذا الصوت معان أربعة ذكرها ابن الانباري (ت 328 ه)

فقال: (يقول الرجل للرجل: إنّه حدثنا، اذا استزاده؛ وأيها كف عنا، اذا سأله القطع؛ وويها أقصد الى فلان، إذا اغراه؛ وواها ما أعلم فلانا، إذا تعجب من علمه؛ ومعنى واها التعجب)(3).

بمعنى: إنّ القصدية في ذكره (عليه السلام) ل (وآه وآها) تعجبه مما فعله القوم تجريا على الله تعالى؛ أي أن كل هذه النصوص النبوية والتحذير الذي بلغ به النبي (صلى الله عليه وآله) من التعرض لحرمته وحرمة اهل بيته لم تكن حاجزا لهؤلاء في التجري

على الله تعالى وانتهاك حدوده؛ هذا من جهة ومن جهة اخرى: فإن تعجبه كان من الإساءة مقابل الإحسان، بمعنى:

ص: 35


1- العين: ج 4 ص 106 .
2- ترتيب اصلاح المنطق: ص 71 .
3- الزاهر في معاني كلمات الناس:

إن أهل البيت (عليهم السلام) لم يقدموا للناس إلا الإحسان فهم موضع الرحمة والسبب الموجب لنزولها على الخلق، والسبب المانع من نزول العذاب وذلك لقوله تعالى في بيان حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه السبب المانع من نزول العذاب، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَهمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(1).

إلاَّ إن أولئك الظلمة المنافقون الذين كذبوا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) قابلوا هذه الرحمة بالعذاب والاحسان بالإساءة ومن ثم كيف لا يتعجب (عليه السلام) مما وقع على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكيف لا يتفجع ويتوجع ويتألم مما وقع فيتأوه لذلك كما كان جده ابراهيم الخليل (عليه السلام) فقد كان أواها، وهو ما سنتناوله في ثالثا.

ثالثاً: التأوه في القرآن وقصديته الوجدانية والسلوكية

جاء ذكر التأوه في القرآن الكريم في موضع واحد واختص بيانه بسلوك نبي الله ابراهيم الخليل (عليه السلام)، قال تعالى:﴿وَمَا كَانَ اسْتغِفَارُ إبِرَاهِيمَ لِأبَيِهِ إلِّا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَهَا إيِّاهُ فَلَمَّا تَبيَّن لهَ أنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَّرأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾(2).

والآية المباركة تكشف عن قصدية فعل ابراهيم (عليه السلام) الوجدانية وسلوكه في حب الخير وشفقته على المسيء، وغير ذلك من الصفات السلوكية والشخصية.

ص: 36


1- سورة الانفال، الآية ( 33 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 114 ).

فقد جاء في بيان معنى صفته التي وصفه الله بها ثمانية أقوال، كما جاء في تفسير الشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت 460 ه):

1- قال ابن عباس في معنى (أواه): ثواب.

2- وقال ابن مسعود،معناه: دعّاء.

3- وقال الحسن البصري وقتادة في معناه: رحيم.

4- وقال مجاهد، معناه: موقف.

5-وقال كعب، معناه: إذا ذكر النار قال: أوه.

6- وقال الضحاك، معناه: المؤمن الموقن بالخشية، الرحيم.

7- وقال اخرون، معناه: فقيه.

8- وقال أبو عبيدة، معناه: التوجع والتحزن، تقول: تأوه، تأوها، وأوه، تأويها(1).

وأضاف الشيخ الطبرسي (رحمه الله) (ت 548 ه) فقال في معنى الآية: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، أي: كثير الدعاء والبكاء، وهو - مروي - عن ابن عباس والإمام الصادق (عليه السلام).وقيل معناه: الرحيم بعباد الله؛ وقيل: العفيف؛ وقيل أيضاً في معناه:

الراجع عن كل ما يكره الله عز وجل، والخاشع المتضرع، والمسبّح الكثير الذكر لله.

ص: 37


1- التبيان في تفسير القرآن: ج 5 ص 309 .

وذهب الزجاج الى أن (الأواه) هو: الحليم.

والحليم هو السيد، وأصله: الصبور على الاذى الصفوح عن الذنب)(1).

وهذه المعاني تكشف عن القصدية في بيان حال الإمام علي (عليه السلام) في تأوهه ومكنون نفسه وكاشفيته للعواطف والمشاعر التي أختلجت بنفسه المقدسة، وذلك:

إن من البداهة أن لا يتأوه الإنسان إلا إذا كان متألماً ومتوجعاً؛ إلا أن الفارق هنا: نوع الألم والتوجع فقد يتألم الإنسان من ضرر أصاب جسده أو أحد أعضائه بمرض أو تعب أو غيره فينحصر الأمر في ذهن الناظر، أن هذه الآلام لا تتعدى عن كونها محصورة في الحسد، وأن نفس المتألم تتأثر بنسبة محدودة لما يمر به الجسد، وذلك ان المشاعر والعواطف تتجاذبها النفس بمقتضى طبيعتها الانسانية؛ فألم الجسد غير ألم النفس.

بمعنى: إن الألم الذي يشعر به الإنسان حينما يصاب بالصداع أو الحمى غير الألم الذي يشعر به حينما يصاب بالحزن أو الفراق أو الوحدة أو بفقد حبيب أو عزيز وذلك أنّ الألم يكون أعظم وبقائه أدوم.

وهي حقيقة ذكرها القرآن الكريم وشهدتها الحياة الانسانية في مختلف بقاع الارض، فأما القرآن فقد قدم لنا صورتين تتحدثان عن اثنين من الأنبياء (عليهما

السلام) الأول أبتلاه الله تعالى بآلام الجسد الى الحد الذي لا يمكن أن يتحمله جسداً اخر، وهو نبي الله ايوب (عليه السلام) فقد تشقق جسده وهو ينظر اليه.

ص: 38


1- تفسير مجمع البيان: ج 5 ص 133 .

وهذه الالآم يظهرها القرآن الكريم ويقتصر في بيانها على امتياز صاحبها بصفة الصبر ويحصره بصفة (الضرّ) و (النصب)، فقال عز وجل: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّی مَسَّنيِ الضُّر وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ ( 83 ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فكَشَفنْاَ مَا بهِ منِ ضُّر وَآتَيَنْاَه أهَلهَ وَمثِلْهَمْ مَعهمْ رَحْمةَ منِ عنِدْناَ وَذكِرْى للِعْاَبدِينَ﴾(1).

وفي بيان منزلته وشأنه عند الله، قال تعالى:

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾(2).

واما النبي الثاني وهو ابراهيم (عليه السلام) فقد ابتلاه الله تعالى بآلام النفس فصبر عليها ولأنها أعظم من آلام الجسد وصفها القرآن الكريم ب (البلاء المبين).

فهذا البلاء جمع مشاعر الابوة والرقة على الطفل والرحمة به والحب والتعلق والخوف عليه وغيرها من المشاعر النفسية والاحاسيس الوجدانية جمعها هذا

لموقف الذي امتثل فيه لأمر ربه في ذبح ولده الصغير الذي طال انتظاره له وبعد ان كبر امام عينيه واخذ يساعده على كبر سنه ويسعى معه في قضاء حوائجه كما بيَّن القرآن الكريم في قوله تعالى:

﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنيَّ إنِّی أَرَى فِی المنْاَمِ أَنِّ أَذْبَحُكَ فَانْظرُ مَاذَا تَرَى﴾(3).

يأتيه الامر الالهي بتقديمه قربانا وفداءً للبيت الحرام ليبتليه في عواطفه ومشاعره واحاسيسه النفسية.

ص: 39


1- سورة الانبياء، الآية ( 83 - 84 ).
2- سورة ص، الآية ( 44 ).
3- سورة الصافات، الآية ( 102 ).

فلما صبر على هذا الألم وسلم أمره لله تعالى كشف الله عنه البلاء ثم بين عز وجل أن الإختبار الذي مرَّ به إبراهيم لا يقاس بما مرَّ به ايوب (عليه السلام).

فهناك اسماه الله تعالى ب (الضر) وهنا اسماه الله عز وجل ب (البلاء المبين) وذلك لاختلاف الاثار بين آلام الجسد وآلام النفس.

ومن هنا نجد أنّ الإنسان في الدول التي لا تسودها ثقافة الإيمان بالله تعالى وتعجز عن الصبر على هذه الآلام النفسية يلتجئ الى الانتحار أو التوحد أو الجنون وغيرها من الحلات، والسبب في ذلك عدم القدرة على تحمل هذه الآلام النفسية.

ولذا: نجد أن الإمام علي (عليه السلام)( في هذه الآهات والتأوه يكشف عن حجم الألم الذي اصاب نفسه المقدسة وبه تتجلى شأنيتة ومنزلته عند الله تعالى، فما أبتلي به لم يبتلى به نبي من الأنبياء (عليهم السلام) لنفسه المقدسة وهو مع هذا

البلاء كان مقوماً بالصبر والايمان لما تفرضه هذه الآلام من انعكاسات خارجية ظهرت مقاصديتها في أدخاله (عليه الصلاة والسلام) لفظ (لولا) على الآهات والتأوه فحجب نفسه عن القيام ببعض الأعمال؛ فما كان اثر (لولا) على نفسه وفعله

الخارجي؟

هذا ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: القصدية في ايراد (لولا)

اشارة

للوصول الى مقاربة قصدية منتج النص في ايراده (عليه الصلاة والسلام) للفظ (لولا) لابد من المرور بأهل اللغة وما جادت به أقلامهم، ثم نعرّج على دلالة المعنى وفلك معناه بغية الوصول الى تأثيره على الحقائق وكشف الدقائق.

ص: 40

أولاً: معنى (لولا) في اللغة

لمعرفة القصدية في ادخال (لولا) على التأوه نعرض لمعناه في اللغة: ف (لولا) من الحروف المركبة من (لو) ومعناه: امتناع الشيء لامتناع غيره.

و (لا) معناها النفي، فلما ركبوهما وجعلتا شيئاً واحداً(1). بطل معنيهما ودلت «لولا » على امتناع الشيء لوجود غيره(2).

نحو قولك: لولا زيد لأحسنت إليك.

والمعنى: إن الاحسان امتنع لحضور زيد، فترفعه بالابتداء والخبر مضمر(3).

وقيل: إنما تدل على امتناع شيء لثبوت غيره(4)، وقد استعمل العرب (لولا) في الخبر وكثر بها الكلام حتى استجازوا ان يقولوا: (لولاك) و (لولاي)(5) وهي من الحروف الشرطية التي تدل على امتناع الجواب لوجود الشرط(6).

ويكشف هذا المعنى عن إمتناع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بعض الامور التي كان يروم القيام بها؛ وهذا الإمتناع يكمن فيما يلي.

ص: 41


1- المقتضب للمبرد: ج 3 ص 76 .
2- امالي الشجري: ص 76 ؛ المفصل لأبن يعيش: ج 8 ص 145 .
3- كتاب الجمل في النحو للزجاج: ص 311 .
4- شرح الشافية: ج 3 ص 1650 .
5- معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 85 ؛ اللباب للصابوني: ص 15 .
6- اللباب للصابوني: ص 100 .
ثانياً: قصدية الممانعة وتقويم النفس

يتكشف لنا من خلال هذا البيان لمعنى التأوه والممانعة لمقتضى دلالة (لولا) أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أمتنع من القيام ببعض الأعمال لوجود غيرها اكثر تأثيرا عليه فكان تأوهه وتأمله من أنه لا يستطيع القيام بها.

بمعنى: إنّ غلبة المستولين عليه جعلته يمنع نفسه من القيام ببعض الأعمال، وهي:

1-الملازمة لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- الإعتكاف عند قبره (صلى الله عليه وآله).

3-العويل عند قبره (صلى الله عليه وآله).

وعليه:

فهو أمام أمرين أحلاهما أشد من العلقم مرارة على نفسه.

الأمر الاول: الرّزية العظيمة التي أصابته والتي تقتضي أن يلتجئ الى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكيا ملازما له عاكفاً على البقاء عنده.

الأمر الثاني: إنه لا يستطيع القيام بهذه الأعمال لوجود المستولين مما يزيد في حجم الرّزية والمصيبة عليه.

ومن ثم أصبح يكمد ألآمه ويحبس أوجاعه ويمانع نفسه المقدسة أشد الممانعة من الاستجابة إليها في أمور كلها حق، فهي في أصلها وواقعها حقوقه الشخصية الملازمة لشرع الله تعالى لكنه يمنعها، أي نفسه المقدسة من هذه الحقوق، وذلك تحسبا من وقوع امور تسيء الى مقام الإمامة فيتخذها الناس ذريعة في وصفهم الإمام بالجزع وقلة الصبر والشماتة به، وسرور العدو بما أنزلوا به من الأذى، لكنّه

ص: 42

علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) الذي حيّر العقول بشخصه وعجز الناس من الوصول الى حق معرفته.

ولذا: امتنع من ملازمة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعكوف عنده والعويل عليه وهذه تكشف عن حلمه المستتر عن التأوه والملازم له كما جاء في صفة ابراهيم (عليه السلام)، وهو ما سنت ناوله فيما يلي:

ثالثاً: الملازمة بين التأوه والحلم وظهوره اللفظي والافعالي
اشارة

إنَّ القرآن الكريم أقرن التأوه بالحلم فلازمهما في بيانه لصفات ابراهيم الخليل فكان التلازم ظاهرا فقال عز وجل:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾)(1).

وجاء الحلم مستترا في النص الشريف لكن ظهوره الأفعالي كان متجليا في كونه صبورا، ومحسناً، ورحيما، ومؤمناً، وموقناً، وفقيهاً، وتواباً، ودعّاءً، وعنيفاً وخاشعاً، ومتضرعاً، وبكّاءً، قد تجلت هذه الصفات المنضوية تحت (الاوّاه الحليم) في أفعاله (عليه السلام) وظهرت مصاديقها وتطبيقاتها فيما يلي:

الف - في كونه صبوراً

تختلف مراتب الصبر ودرجاته لدى الناس وباختلاف هذه المراتب يختلف الأجر عند الله تعالى.

وإنّ كنّا لا نريد أن نتحدث عن الصبر ومراتبه هنا إلاّ أننا نقول:

إنَّ الإنسان مرة ينزل به البلاء في جسده أو ماله أو أبناءه وأهله فيصبر عليه حتى يزول وينقضي ويتغير حاله فيكون متفاوتا في المدة.

ص: 43


1- سورة التوبة، الآية ( 114 ).

ومرة يكون صبره مستسلما لما نزل به دون أن تكون له القدرة على التكلم بهذا البلاء لاسيما إذا كان الأمر محصورا في وقوع الظلم من اناس اقوى منه في النفوذ والسلطة والقدرة على انزال الاذى فيصبح عاجزا عن دفع هذا البلاء فيصبر حتى يفعل الله ما يشاء.

ومرة يكون قادرا على معاقبة من اعتدى عليه واضره لكنه يصبر على ما نزل به ويفوض الامر لله تعالى ويحبس نفسه ويمنعها لأجل دين الله وشرعه مع أن أصل الضرر الذي وقع به هو لكونه داعيا الى الله تعالى، ومن ثم قد يجر وقوع البلاء على الانسان الإدلال على الله تعالى.

أي: قد يتصور كثير من المؤمنين انهم حينما يكونوا من الدعاة الى الله تعالى أن لا ينزل بهم البلاء فيدل على الله تعالى، أي: يكون مدللا، وهو مأخوذ من الدلال بفعل ما يقوم به المؤمن من اعمال وأقوال مسخرة في الدعوة الى دين الله وشرعه ويغفل

عن موارد الابتلاء في الصبر وما اكثرها في هذا الطريق.

وعليه:

يتكشف لنا مقاصد التأوه والحلم والظهور الافعالي عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مواضع عدة، نورد بعضا منها:

1-إنّ ما نزل به من الاذى والبلاء كان بدعوته لله تعالى ونصره لشريعته ومن ثم كان المقام يقتضي مواجهة اعداء الله تعالى والصبر على المواجهة.

أي حبس النفس عن الإنجرار الى الإدلال على الله تعالى والإرتقاء بها الى الإذلال في الله تعالى.

ص: 44

2-إن القدرة على أهلاك العدو كانت متحققة عند الامام امير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) من جهة الامكانات التي لم تشهد العرب والعجم مثلها ويكفي ذلك من الشواهد قلعه لباب خيبر وقتلة لعمر بن ود العامري في معركة الاحزاب، وهو القائل (عليه السلام): «انا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر .»(1).

والقائل ايضا: «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو امكنت الفرص من رقابها لسارعت اليها»(2).

وهذا من الناحية الاصطفائية التي تميز بها؛ أما ما آتاه الله تعالى من الولاية على الأشياء وهو ما يعرف ب (الولاية التكوينية) التي أتاها الله للمعصومين من الأنبياء والمرسلين والأئمة الأوصياء (عليهم السلام) ومن ثم تحقق القدرة على هلاك العدو بإذن الله تعالى.

وهو مع هذه القدرات إلاّ أنه صبر على عدوه وفوض أمره الى الله تعالى صابرا محتسبا، وهو الظهور الاول لمصداق الملازمة بين التأوه والحلم.

باء - في كونه محسناً

أشتهر في سيرته (عليه الصلاة والسلام) في أنْه لم يدخر جهدا في إبداء الإحسان الى عدوه ومخالفيه وظالميه، وهو في الوقت نفسه يكشف عن سمو نفسه في عالم

ص: 45


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.
2- هج البلاغة: من كتاب له الى عثمان بن حنيف.

الفضائل، إذ لم يزل باذلاً للنصح في كل معضلة ومرشداً للحل في كل مشكلة حتى اشتهر عن عمر بن الخطاب قوله:«لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن »(1).

فكان مع ما أنزلوه فيه من الظلم والعدوان لكنه لم يتوانى عن إبداء النصيحة لهم.

تاء - في كونه رحيماً

لم يختلف الإمام علي (عليه السلام) عن صفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد شابهه في خَلْقه وخُلَقه، فإما مشابهته للنبي (صلى الله عليه وآله) في خلقه فلم يختلف عنه في هيئته وصفته؛ وهو ما ثبت في التاريخ والسيرة فقد نام في ليلة الهجرة على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتغطى ببرده اليماني حتى أصبح والقوم يحيطون بالدار وينظرون اليه من شق الباب ينتظرون قيامه وخروجه، فلما ملّوا الانتظار أخذوا يرمونه بالحجارة كي يخرج إلا أنه صبر على الاذى وبقى مستلقيا على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يأسوا منه فاقتحموا عليه الدار

وكشفوا عن البرد فوجدوا أن النائم هو الإمام علي (عليه السلام) وليس رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهذا يدل بشكل قاطع على أنه (عليه السلام) لا يختلف عن هيئة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومشابهته له في خلقه قيد أنملة لاسيما وأن العرب قد أشتهر عنها أنها تتمتع بالفراسة والقيافة، إلاّ أنّهم هنا لم يستطيعوا أن يفرقوا بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسبب في ذلك هو الشبه النسخي من رسول الله

(صلى الله عليه وآله) وكأنهما توأمان.

ص: 46


1- أنساب الاشراف لللاذري:ج 2 ص 100 .

و أما في مشابهته في خُلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يدع على قومه على الرغم من حجم الأذى الذي أنزلوه به وقد اشتهر عنه قوله:

«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت »(1).

وقد شابه الإمام علي (عليه السلام) في هذا الأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقوله (عليه السلام): «وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين .»

وقوله: «فإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء .»

فهذا الفعل يدل على رحمته بالأمة، إذ لو دعا عليهم لأهلكهم الله وذلك يعود لأمرين: الأمر الأول: إنّ الله تعالى قد أعطى الإنبياء والمرسلين والائمة (عليه السلام) ومنَّ عليهم أنهم إذا دعوه لا يرد لهم دعوة بل تكون الاجابة منه عز وجل سريعة.

ومن هنا: فإن الانبياء (عليهم السلام) في شؤونهم الخاصة واحتياجاتهم الشخصية يفوضونها الى الله تعالى، مسلّمين له ما قدَّر لهم، راضين بما شاء أن يفعل بهم مسرعين في تلبية ما يريد.

وذلك أن المحبوب لا يرى إلاّ جميلاً من الحبيب، و أن البلاء هو الدوام في المعاهدة بين الحبيب ومحبوبه.

ص: 47


1- تفسير الفخر الرازي: ج 4 ص 175 .

ولذا:

نجد الإمام الحسين (عليه السلام) يقول في يوم عاشوراء:

«صبراً على قضائك لا معبود سواك يا غياث المستغيثين »(1).

الأمر الثاني: إنّ دعوة المظلوم لا ترد فقد ورد في الاحاديث الشريفة ما يكشف عن الدعوة فكيف إذا كانت صادرة عن ولي الله تعالى.

فقد أخرج أحمد في المسند عن ابن عباس، أنّه قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «واتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها بين الله عز وجل حاجب »(2).

لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يدعُ عليهم، بل شكاهم الى الله تعالى هو يفعل بهم ما يشاء؛ وهذا يدل على أنه رحيم بالأمة كالنبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) كجده ابراهيم (عليه السلام) ﴿أَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.

جيم - في كونه مؤمناً

لا يختلف اثنان من العقلاء في أن الإنبياء والمرسلين والائمة هم مؤمنون بالله تعالى؛ بل هم خيرة الله وصفوته على الخلق ومن ثم يصبح أمر إيمانهم بالله تعالى بديهيا.

إلاّ أنّ الحكمة في ذكر القرآن لهذه الصفة، أي: الحليم لإبراهيم (عليه السلام) ليس لبيان إنه كان مؤمناً، وذلك أن من معاني الحليم هو (المؤمن)؛ بل كان القصد

ص: 48


1- ينابيع المودة للقندوزي: ج 3 ص 82 .
2- مسند أحمد: ج 1 ص 233 .

من ذلك هو لبيان أن المؤمن يفوض جميع أموره الى الله تعالى، سواء كان في الشدة أو الرخاء، في العسر أو اليسر.

ولذا:

نجد أبراهيم (عليه السلام) يقابل قومه وعمه آزر بالصبر على الرغم من الوعدوالوعيد به والعزم على قتله بتلك القتلة التي أجمعوا فيها أطنانا من الحطب حتى احتاروا بعد اشعاله كيف يلقونه في النار فقذفوه بالمنجنيق، فخرج بإذن الله تعالى وهو يقول:

﴿إِنِّی ذَاهِبٌ إِلَی رَبِّی سَيَهْدِينِ﴾(1).

ولذا: وصفه الله عز وجل بالإيمان فقال:

﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمؤْمِنِينَ﴾(2).

وكذا كان حال الإمام علي (عليه السلام) في تفويض أمره الى الله تعالى وتسليم أمره له عز وجل، وبث شكواه إليه، فقال:

«سرعان ما فرق بيننا فإلى الله اشكوا .»

وقوله (عليه السلام):

«فإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك أجمل العزاء .»

دال - في كونه موقناً

يظهر النص الشريف في مواضع عديدة مصاديق كونه موقنا بما وهد الله عباده المؤمنين و اوليائه المنتجبين.

ص: 49


1- سورة الصّافات: الآية ( 99 ).
2- سورة الصافات: الآية ( 111 ).

وما هذه الآهات التي خرجت من صدره إلاّ لكونه موقنا بالله تعالى، لاسيما وأن أقواله وأفعاله دلّت على هذا اليقين الراسخ بما وعد الله الصابرين.

قال (عليه السلام) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله):

«إلاّ أن لي في التأسي بسنتك، بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، والحزن الذي حلبي لفراقك موضع تعزٍ .»

وقوله:

«وإنْ أقمْ فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين .»

وقوله:

«الصبر أيمن و أجمل .»

راء - في كونه فقيهاً

من المصاديق الاخرى التي انطوت تحت لفظ (الحليم) الفقه.

وهو في اللغة:

(العلم بالشيء والفهم له)(1).

وهو في الاصل: (الفهم)(2).

وقد سار العرف بتخصيص الفقه بعلم الشريعة وبالأخص الفروع منها.

ص: 50


1- لسان العرب لابن منظور: ج 13 ص 522 .
2- المصدر السابق.

والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو أعلم الناس بشريعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) و أعملهم بها إلاّ أن المصداق هنا لا يراد به هذا المفهوم وإنما فهمه (عليه الصلاة والسلام) لما كان يخطط له المخالفون والمحاربون لله ورسوله (صلى الله عليه وآله):

فقد أراد أولئك الظالمون من الهجوم على بيت النبوة، وترويع البضعة المحمدية فاطمة (عليها السلام) ومنعهم ارثها، وهضمهم حقها، حتى ماتت مجهولة القبر؛هو كي يصلوا الى ضرب مقام الإمامة وتعطيلها في أمة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وأن يسير الناس خلف الأمراء والسلاطين والخلفاء، فهؤلاء أئمة القوم

بالمفهوم الجديد الذي أرسى قواعده زعماء السقيفة.

ولذا:

نجده (عليه السلام) يتأوه من غلبة المستولين عليه إن أقدم على ملازمة المقام عند قبر رسول الله والتلبث عنده، ولأعول أعوال الثكلى على جليل الرزّية.

لكنه قطع الطريق عليهم بصبره وفهمه لما يخططون له في ضرب مقام الإمامة حينما يصفونه بالجزع _ والعياذ بالله_ وعدم القدرة على تحمل الرزية؛ وهو ما يتعارض مع عنوان الإمامة وأثرها في نفوس الناس.

فكان يتأوه كجده ابراهيم الخليل (عليه السلام).

سين - في كونه تواباً

في هذه الصفة التي أكتنزها التأوه وقصديته نجده (عليه السلام) في هذا النص قد رجع إلى الله تعالى وإلى رسوله (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن الأصل في (تاب) هو: (عاد الى الله ورجع و أتاب)(1).

ص: 51


1- لسان العرب: ج 1 ص 233 .

وهنا: نجده في هذه المصيبة التي حلت به والرزية التي نزلت عليه بقتل ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد عاد فيها الى الله تعالى والى رسوله (صلى الله عليه وآله) وأناب إليهما في بث همه وشكواه.

بل: إنَّ سبب صدور النص ومضامينه وخاتمته ومقدمته ومحتواه كله في الإنابة الى الله تعالى.

هاء - في كونه دعّاءً

وهذه هي الصفة الاخيرة المنطوية تحت لفظ (الحليم)، اي: الدّعاء، وهو كثيرالدعاء. وقد تجلى الدعاء في النص الذي بين أيدينا موضع الدراسة على أدعية ظاهرة ومستترة.

فأما المستترة: فهي في اللجوء والرجوع الى الله تعالى في الشكوى والتظّلم دعّاءً الى الله تعالى.

وأما الظاهرة فمنها قوله:

«أنّا لله وانا إليه راجعون .»

«فإلى الله يا رسول المشتكى .»

«صلى الله عليك وعليها السلام والرضوان، وصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته، صلوات الله عليك وعليها معك والسلام .»

وهذه المصاديق كلها كانت وراء المقاصدية في قوله:

«آه آه، وآه وآها .»

ص: 52

المسألة الثالثة: القصدية في غلبة المستولين ومن هم ؟

اشارة

يلتجئ الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) هنا الى بيان أكثر من أمر، وذلك من خلال الكناية ومقاصد اللفظ، اي (المستولين) دون أن يصرّح باسم أحد منهم مما يرشد المتلقي الى أجابات كثيرة بعد أن يثير في نفسه اسئلة عدّة ليندفع الى البحث عن أجاباتها؛ ومن ثم سيوصله (عليه السلام) بهذه الكناية الى حقائق عدة،

وهو ما سنتناوله في هذه المسألة.

أولاً: معنى الاستيلاء في اللغة :

جاء معنى الاستيلاء في المعاجم اللغوية بمعنى بلوغ الشيء والامساك به والغلبة عليه؛ ومما جاء في ذلك:قال الفراهيدي (ت 175 ه):

استولى فلان على شيء اذا صار في يده، استولى الفرس على الغاية، اي: بلغها(1).

ويأتي معنى الاستيلاء ايضاً في بيان الاستواء على الأمر، قال الجوهري: واستوى الى السماء، أي:استولى وظهر(2).

وقيل -كما هو عند ابن فارس- بمعنى القهر: (ومن قهر أمراً فقد اعتلاه واستعلى عليه؛ وبه كقولك: استولى الفرس اذا جاء الرهان فبلغ الغاية قيل استعلى على الغاية واستولى(3).

ومن الدلالة التي اكتنزها اللفظ هو كاشفيته عن حالة بعض الصحابة الذين تسابقوا للوصول الى الخلافة وبلوغ الغاية في جلوسهم على كرسي الحكم والإمارة.

ص: 53


1- كتاب العين: ج 8 ص 366 .
2- الصحاح: ج 6 ص 2385 .
3- معجم مقاييس اللغة: ج 4 ص 113 .

قال ابن منظور:

استولى على الأمر، اي بلغ الغاية.

ويقال: استبق الفارسان الى فرسيهما الى غاية تسابقا اليها فاستولى احدهما على الغاية اذا سبق الآخر، ومنه قول الذبياني:

سبق الجواد اذا استولى على الأمد، واستيلاؤه على الأمد أن يغلب عليه بسبقه اليه، ومن هذا يقال: استولى فلان على مالي، أي: غلبني عليه)(1).

من هنا:

يتضح إن قصدية منتج النص (عليه السلام) في (غلبة المستولين) هو أولئك الصحابة الذين تسابقوا الى الخلافة وهي حق علي وأولاده الحسن والحسين (عليهم السلام) وتسارعوا اليها من خلال السقيفة التي تنازعو فيها الأمر فغلبوا على عترة النبي (صلى الله عليه وآله) وهو توصيف دلالي دقيق جدأ للأحداث التي جرت

بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو ما سنتناوله فيما يلي:

ثانيا: من هم المستولون الذين لم يصرّح بهم الإمام علي (علیه السّلام)
اشارة

يرشد النص الشريف في قوله (عليه السلام):

«لولا غلبة المستولين علينا » عن وجود جماعة وليس شخصا واحدا، وأن هذه الجماعة قادرة على أن تؤثر في افكار الناس وعقيدتهم؛ بمعنى:

هذه الامكانات ستحقق هدفها من ضرب الإسس التي أقام عليها الدين فيما لو سنحت لهم الفرصة في ذلك.

ص: 54


1- لسان العرب: ج 15 ص 413 .

ولذا:

لا يتأوه الإمام علي (عليه السلام) إلاّ إذا كان الأمر يتعلق بوظيفته الشرعية في المحافظة على شريعة المصطفى (صلى الله عليه وآله).

ومن ثم نجده (عليه السلام) وانطلاقا من هذه الوظيفة يعمل بالتقية فلا يصرح بأسماء أفراد هذه الجماعة واستعان بتعريفها من خلال صفتها وهو (الاستيلاء) دافعا بذلك المتلقي الى تشخيص هذه الجماعة من خلال هذه الدلالات الثلاثة والتي سنعرض لها كالاتي:

الدلالة الاولى - التزين في الخلافة والتسابق إليها
اشارة

يتجلى التزين كصفة واضحة لهذه الجماعة في الوصول الى الخلافة، فمن خلالها تتحقق لهم الغلبة على البلاد والعباد، وهو أمر بديهي أثبتته الحياة على مر التاريخ.وقد سعى أولئك المستولون الى الخلافة وزين لهم الشيطان أمرهم ورغبت اليها أنفسهم فسارعوا اليها يتسابقون فيما بينهم، أيهم ينال الخلافة قبل الاخر، وهو ما اثبتته النصوص التاريخية الحديثية التي دونت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكشفت عن حقيقة هؤلاء المستولين، وهو ما نجده عند البخاري وغيره فقد روى في صحيحه عن عمر بن الخطاب قوله:

(وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه - صلى الله عليه وآله - أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة...)(1).

هذا السبق في الاجتماع يستوقف الباحث ويطرح العديد من الأسئلة، وهي:

ص: 55


1- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت: ج 8 ص 126 أفست دار الفكر.

1- لماذا يبادر الأنصار إلى هذا الاجتماع.

2- أو كأنهم أرادوا بذلك قطع الطريق على المهاجرين في الحصول على الإمارة؟!.

3-أو لعلهم علموا ومن خلال بعض العيون؛ بأن بعض المهاجرين ربما قد عزموا على نفس الأمر فاستبقوهم إليها؟!.

4- أو ربما هي الأحداث المروعة التي وقعت في أيام مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل بعض الرموز، فكانت مدعاةً ومحفزاً للسبق من الأنصار في اجتماع السقيفة؟!

5- أو لعله التخطيط المسبق بين بعض الرموز ومن كلا الطرفين لقطع الطريق على بني هاشم ورمزهم علي بن أبي طالب عليه السلام؟!

ترى أي الاحتمالات أرجح وفي أي منها تكمن الحقيقة؟!والواقع كلها راجحة، فكل واحدٍ من هذه الاحتمالات مرجح في كونه سبباً دفع

بالأنصار للاجتماع في السقيفة.

ولا سيما أن جميع هذه الاحتمالات قد دلت عليها الأحداث وأكدتها المصادر.

وإليك أيها القارئ الكريم بيانها:

الاحتمال الأول: إنّ الأنصار أرادوا قطع الطريق على المهاجرين

هذا الاحتمال دل عليه قول عمر بن الخطاب، في الخطبة التي ألقاها في المدينة بعد رجوعه من الحج؛ وقد بلغه: أن قوماً من أهل مكة قد تحدثوا في شأن السقيفة، وأن بعضاً منهم وصف بيعة أبي بكر بأنها فلتة فتمت؟!

ص: 56

فقال: «فلا يغرن إمرءٍ أن يقول، أن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت.. وإنها كانت كذلك!!.. إلا أن الله قد وقى شرها(1)!!.. ودفع عن الإسلام والمسلمين ضرها!!..

وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له، هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.... الخ .»

ثم يمضي في حديثه عن السقيفة، وكيف كانت مجريات الحديث فيها، إلى أن يقول: «وإذا هم - أي: الأنصار - يريدون أن يجتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر .»

إذن:

أراد الأنصار قطع الطريق على المهاجرين واجتيازهم من الأصل، وليغصبوهم الإمارة.

والملفت للانتباه: ان عمر بن الخطاب جاء بلفظ: «الغصب » ليدل على أن الأنصار أرادوا أخذ حق ثابت له!! أو فقل للمهاجرين.. أو لمن كان على مذهبه ومعتقده.الاحتمال الثاني: وجود عيون لكلا الطرفين مما سرع في الاجتماع في السقيفة.

وهذا الاحتمال دلت عليه بعض الروايات التي تحدثت بشكل أوسع عن مجريات السقيفة، وبخاصة لبعض رموز المهاجرين.

منها:

1 ما تحدث بشكل صريح عن مجيء اثنين إلى أبي بكر وعمر يخبرانهما باجتماع

ص: 57


1- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا: ج 8 ص 26 أفست دار الفكر، السيرة لابن هشام: ج 6 ص 80 ط دار الجيل بيروت، مسند أحمد بن حنبل: من حديث السقيفة ج 1 ص 55 المصنف لابن أبي شيبة: ج 7 ص 615 .

الأنصار في السقيفة، وهما: )معن بن عدي وعويم بن ساعدة)(1) وكانا من

الأنصار(2)، ثم يسدل عليهما الستار؟!

إذ سرعان ما تم تصفيتهما من قبل التاريخ! فقد قتلا كلاهما في اليمامة في خلافة أبي بكر(3).

2- ويبدو.. أن الأمر لم يقتصر عليهما، إذ من الروايات ما تحدث عن وجود عين أخرى لهذه الفئة من المهاجرين، وهو: (أسيد بن حضير) فقد نقل الخبر إلى أبي بكر خاصة، محدثاً إياه بهذا الوصف الذي سنعود لتحليله وبيان مراميه.

فقال لأبي بكر: «إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة!! فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم الأمر!! ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته لم يفرغ أمره؟!! وقد أغلق دونه الباب أهله !؟»

ولكن:

هذه العين التي بالغت في إخلاصها لهذه الفئة لم يغلق عليها الستار كما حدث لعويم بن ساعدة ومعن بن عدي؛ وإنما كان لها الدور المميز في الهجوم على دار بضعة رسول الله فاطمة عليها السلام وريحانتي النبي (صلى الله عليه وآله)(4).

الاحتمال الثالث: ان الاحداث التي وقعت في ايام مرض النبي هي التي كانت وراء استباق الانصار للاجتماع في السقيفة.

ص: 58


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 2 ص 7، العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: ج 4 ص 257 -258 ط دار الكتاب العربي.
2- الثقات للبستي: ج 2 ص 159 ط دار الفكر.
3- السيرة النبوية لابن هشام: ج 6 ص 82 ط دار الجيل بيروت.
4- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 12 ، سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 2 ص 245 - 246 المطبعة السلفية، الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 2 ص، العقد الفريد: ج 4 ص 259 .

وهذه الأحداث المروّعة التي وقعت في أيام مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل بعض الرموز؛ هي التي كانت مدعاة ومحفزاً لهذا السبق من الأنصار في اجتماع السقيفة.

وهذه الأحداث.. دلت عليها النصوص الصحيحة في كثير من المصادر الإسلامية ولا سيما ورود بعضها في صحيح البخاري وغيره؛ وسنعرض لها في مواضعها المناسبة ونتوقف عندها ونعرضها على طاولة البحث والتحليل.

ولكن نشير لها هنا إشارة:

الحدث الاول: وكان قبل وفاة النبي بثلاثة عشر يوماً

فأول هذه الأحداث المروعة: كان قبل وفاة رسول الله بثلاثة عشر يوما وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخالفة الكثير منهم لأمره بالخروج مع أسامة بن زيد! مما دعا به (صلى الله عليه وآله) الى الخروج إليهم فحضهم على السير، وعقد(صلى الله عليه وآله) اللواء، لأسامة بيده الشريفة تحريكاً لحميتهم(1).

الحدث الثاني: وكان قبل وفاة رسول الله بأربعة أيام !

رزية يوم الخميس!! حدثت هذه المصيبة العظيمة قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأربعة أيام؛ وقد حضر عنده بعض الصحابة وهو بأبي وأمي في فراش المرض.

فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فرد أحد الحاضرين

على طلبه: «إن رسول الله يهجر !؟»(2).

ص: 59


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 2 ص 12 ، سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 2 ص 245 - 246 المطبعة السلفية، الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 2 ص، العقد الفريد: ج 4 ص 259 .
2- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير، باب: جوائز الوفد، ج 2 ص 118 .

فطردهم النبي (صلى الله عليه وآله) من حضرته قائلاً: «قوموا عني »(1).

وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يذكرها ويبكي حتى تبل دموعه الحصى(2).

ولذا لم يرَ حدث أعظم من أن يوصف النبي (صلى الله عليه وآله) بالهجر!!

والوحي لم ينقطع بعد!!

وعليه: كيف لا يكون ذلك مدعاة للاجتماع في السقيفة.. فتسير إليها الأنصار سراعاً؟!

الحدث الثالث: وكان قبل وفاته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بيومين ؟

بعد أن سمع النبي الأعظم من بعض الحاضرين هذه الكلمة وهو في فراش المرض! وفي الساعات الأخيرة له معهم؛ عزم على تعجيل خروجهم والتحاقهم ببعث أسامة.

ولذلك صدرت من حضرته الرحمانية علائم الغضب - نعوذ بالله ونستجير بهمن غضبه وغضب رسوله (صلى الله عليه وآله) -؛ بعد أن بلغه أن قوماً منهم طعن في تأميره أسامة عليهم، وفيهم الشيوخ، وهو صبي.

فغضب غضباً شديداً فخرج إلى المسجد وهو في شدة المرض عاصباً رأسه، مدثراً بقطيفته، وألقى خطبة يرد بها على أولئك الذين طعنوا في فعله (صلى الله عليه وآله)(3) كما سيمر بيانه لاحقا بعون الله.

ص: 60


1- في باب قول المريض قوموا عني من كتاب المرض، ص 5 ج 4 من صحيح البخاري.
2- صحيح البخاري: كتاب الجزية، باب: إخراج اليهود: ج 4 ص 65 - 66 أفست دار الفكر.
3- نهاية الأرب للنويري: ج 17 ص 370 - 371 ، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 191 ، المغازي للواقدي: ج 3 ص 1619 ، السيرة الحلبية: ج 3 ص 307 ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1 ص 160 ط مصر.
الحدث الرابع: محاولة قتل رسول الله والتعجيل عليه قبل يوم واحد من وفاته

قال ابن سعد: فلما كان يوم الاحد اشتد برسول الله وجعه فدخل اسامة من معسكره والنبي مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه(1).

الحدث الخامس: النبي يخرج الى المسجد ليبطل صلاة ابي بكر بالناس قبل وفاته ببضع ساعات !!!

وهذه الاحداث سنتوقف عندها لاحقا لدراستها وتحليلها، إلا أنها -أي هذه الأحداث- قد تتفاوت فيما بينها في تسريع الاجتماع في سقيفة بني ساعدة لإعطاء البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج ونقيبهم قديماً وجواد الأنصار وزعيمهم حاضراً.

ولعل.. هذه الأحداث قد أعطت اليقين للأنصار أكثر من غيرها: أن المهاجرين سيقدمون على أمر مماثل.

لاسيما وقد اتهم النبي بالهجر.. ثم الطعن في تأميره لأسامة عليهم.. فضلاً عن اللعن للمتخلف منهم عن بعث أسامة! ومع هذا فقد تخلف البعض منهم!!

وعليه:كيف لا يستبق الأنصار المهاجرين للاجتماع في السقيفة ومبايعة أميرهم سعد بن عبادة؟!

ولكن بقي الاحتمال الأخير في سبب تسارع الانصار في البيعة لسعد بن عبادة واستباق المهاجرين، وهو:

ص: 61


1- الطبقات الكبرى:ج 2 ص 191 .

الاحتمال الأخير: الاتفاق بين بعض رموز الطرفين على إبعاد بني هاشم ولاسيما ورمزهم علي بن أبي طالب (علیه السّلام)

وهذا الاحتمال قد دلت عليه بعض أقوال الطرفين يوم السقيفة وإليك ايها القارئ الكريم بيانها:

1-قول عمر بن الخطاب: «إن الأنصار خالفونا»(1) !؟»

وهذا يدفع بالقارئ إلى الاعتقاد بوجود اتفاق مسبق؛ إذ غالباً لا يكون الخلاف إلا من بعد الاتفاق.

ومما يدل عليه:

2- قول سعد بن عبادة لأبي بكر حين سأله عن هذا الاجتماع، فرد قائلاً: «أنا رجل منكم»(2) !؟»

3- قول عمر بن الخطاب كما صرح به البخاري: «وكنت زورت كلاماً في نفسي»(3)

وهذا يدل على ان هناك أمراً مسبقاً قد تم الاتفاق عليه وان عمر بن الخطاب قد اعد العدة لمثل هذه المواقف في حال اتضح تخلف الانصار عما ابرم مسبقا في شأن الخلافة والانقلاب على وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)(.

وإلا ما معنى ان يقول عمر: وقد كنت زورت كلاما في نفسي. ليلقيه على الانصار.

4-وقوله أيضا حينما تكلم ابو بكر يوم السقيفة فعقب عليه قائلا: «فما ترك كلمة كنت زورتها في نفسي إلا تكلم بها»(4)

ص: 62


1- كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، ج 8 ص 26 من صحيح البخاري.
2- مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 312 ط دار القلم، العقد الفريد: ج 4 ص 257 ط دارالكتاب العربي.
3- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من الزنا إذ أحصنت، ج 8 ص 26 أفست دار الفكر.
4- المصدر السابق.

فضلا عن ذلك:

إن بعض المصادر قد أشارت إلى هذه الحقيقة التي صرّح بها الإمام علي (عليه السلام) أيام خلافة عثمان بن عفان رداً على كلام طلحة في شأن السقيفة. فقال (عليه السلام):

«يا طلحة، أما والله ما صحيفة ألقى الله بها يوم القيامة أحب إلي من صحيفة هؤلاء الخمسة الذين تعاهدوا وتعاقدوا على الوفاء بها في الكعبة في حجة الوداع، إن قتل الله محمداً أو مات، أن يتوازروا ويتظاهروا عليَّ فلا أصل إلى الخلافة»(1) .!؟

ولذلك:

نجده (عليه الصلاة والسلام) اختزل الحديث في لفظ «التسول » يدور في فلكه الباحث ليرى الصفة الاولى للمتسولين وهي التزين الذي اتضح من خلال تسابقهم الى السقيفة وتركهم لمواراة نبيهم (صلى الله عليه وآله) وهو امر اختص بهذه الجماعة.

الدلالة الثانية: الإغواء

الصفة الثانية الكاشفة عن هؤلاء المستولين أن الشيطان سوّل لهم فأغواهم بظلم ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا ما يحتاج الى بيان؛ وذلك أن عنوان الكتاب ومجريات البحث فيه هو لبيان ما احتواه النص من مقصديات ودلالات وحقائق أرتبطت بمرحلة مهمة من حياة الإسلام والمسلمين وكانت سببا رئيسيا في تفرق

المسلمين واقتتالهم.

ص: 63


1- كتاب سليم بن قيس: ص 80 - 81 ط مؤسسة البعثة، وقريب منه في الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 112 .

وعليه:

فبعد وصول أولئك المستولين الى الخلافة ومبايعة الناس لهم طوعا وكرها انعطفوا على محاربة بيت النبوة أشد المحاربة، والتنكيل بهم أشد التنكيل.

وإلا لأي أمر يتأوه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟

أليس لكونهم قد قتلوا البضعة النبوية وجرعوها الغصص، وهو القائل:

«ولأعولت أعوال الثكلى على جليل الرّزية، فبعين الله تدفن أبنتك سراً، وتهضم حقها قهراً، ويمنع أرثها جهراً، ولم يتباعد بك العهد، ولم يخلق منك الذكر .»

فهذه هي الصفة الثانية للمتسولين الذين لم يصرّح الإمام بأسمائهم أما الصفة الثالثة وهي التمني، فقد جاءت على النحو الأتي:

الدلالة الثالثة: التمني

وقد جاءت من حيث التسلسل في مجريات الأحداث في المرتبة الأخيرة، بمعنى:

إنّ المستولين بعد أن تمكنوا من الجلوس في مجلس الخلافة وتمت لهم البيعة، وبعد أن تمكنوا من الإنقضاض على بيت النبوة فمنعوا أرث فاطمة (عليها السلام)، فقطعوا المال عنها ومحاصرتها وبنيها، وبعد ظلمها بمنع حقها في الخمس الذي جعله الله مقسماً بين سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي يلزم أن يعود لها وللإمام علي (عليها السلام) من بعده فعزلوهما واضعفوهما.

أنتقلوا بعد ذلك الى مرحلة الهجوم المباشر، فدخلوا دارها وعصرت بين الباب والحائط، فأسقطت جنينها وماتت في غصتها عليلة مهضومة مجهولة القبر والقدر.

في المقابل كان المستولون ينتظرون أن يروا الإنكسار على الإمام علي (عليه السلام)

ص: 64

فيتشفون منه، لكنهم تفاجئوا أن ذلك من الأماني التي لا تتحقق لهم، وأن عظمت جرائمهم، وجلّت رزاياهم على الإسلام وأهله، فأنساهم الأمل أنه علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) الذي لم يروا منه الصبر والثبات.

وعليه:

كان (عليه الصلاة والسلام) عالما عارفا بهذه النفوس وماذا تريد، فقطع عليهم الطريق فلن ينالوا منه شيئا، فترك ملازمة قبر رسول الله والبكاء على جليل الرّزية التي حلت به كي لا يشعر المستولون بالنصر والغلبة.

فسلام الله وصلواته عليه، يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيا.

ص: 65

ص: 66

المبحث الخامس والعشرون : مقاصدية المقام عند قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ولزومه

اشارة

ص: 67

قوله (عليه السلام): «لَجعَلَت المقَام عنِدْ قَبرْك لزِاماً »

اشارة

ص: 68

للوقوف على دلالة الجعل هنا، أي في المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحري مقاصدية اللفظ، ومحاولة المقاربة لما عناه (عليه السلام)، فلا بد من المرور ببعض المسائل وهي:

المسألة الأولى: قصدية المقام في كون مصيبة فقد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )أعظم المصائب

ينتقل (عليه الصلاة والسلام) بعد شحن عواطف المتلقي في تأوهه وتصبره على المصيبة لاسيما وان الآهات هي صوت يخرجه المتألم يقصد فيه جمع مشاعر السامع وشد أنتباهه الى أمر في غاية الاهمية ويدفعه للسؤال عن سبب هذه الآهات ولان المعصوم (عليه السلام) يدور كلامه مدار أثر النص القرآني في كونهما ثقلين

يتعاضدان في نجاة الامة وهداية الناس الى شريعة الله تعالى، كان لهذه الآهات من الآثار النفسية في تحريك عقل السامع وحواسه كتأثير الحروف في أوائل بعض السّوَر القرآنية وما صحب بعض هذه الحروف من أحكام للمد أو القلقلة وغيرها بغية شد ذهن السامع وجوارحه لما سيتبع هذه الحروف في المصحف الشريف أو ما

يخرج من الآهات من فم المعصوم (عليه الصلاة والسلام).

وعليه:

سيستجيب ذهن المتلقي وجوارحه الى ما بعد هذا الافتتاح من الآهات وهي إيراده لجملة من الافعال المرتبطة بقضيته الاساس وهي ظلامة البضعة النبوية وطرق الاستعانة على تحمل هذه المصيبة وبيان حجم الجريمة التي اقترفها الجناة

ص: 69

بلحاظ النظر الى منزلة الضحية وشأنيتها عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله) فكانت المقاربة من القصدية للنص الشريف في الجعل المرتضوي (عليهالسلام) في الثلاث القاسمة لظهر المباني العقدية التي أستند عليها العدو فكانت:

1-الملازمة لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- التليث بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإعتكاف عنده.

3 - البكاء والعويل عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهذه الثلاثة ترتكز على تصبير النفس للمصيبة العظمى وهي فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنها كان منطلقه (عليه السلام) في التعامل مع مصيبته بفقد الزهراء (عليها الصلاة والسلام) وما جرى عليها من الظلم.

وقد ارشدت الاحاديث النبوية عنه (صلى الله عليه وآله) بهذه السنّة للاستعانة على المصائب التي تحل بالانسان، فكان من هذه الاحاديث ما يلي:

1- روى الحر العاملي (رحمه الله) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال في مرضه الذي توفي فيه:

«أيها الناس، أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بعدي فإن احداً من امتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي»(1).

2-أخرج الدارمي (ت 255 ه) في سننه عن مكحول(2)، والبيهقي (ت 458 ه) عن ابن عباس، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

ص: 70


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 3 ص 268 .
2- سنن الدارمي: ج 1 ص 40 .

«إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب » (1).

3-وأخرج أيضا عطاء قال:قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب .»(2).

4- وأخرج ابن عبد البر (ت 463 ه) عن عبد الرحمن بن باسط، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا أصابت أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي وليعزه ذلك من مصيبته » (3).

5-وأخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن عبد الله بن الوليد بإسناده قال: (لما أصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) تعز الحسن الى الحسين (عليه السلام) وهو في المدائن، فلما قرأ الكتاب قال:

(يا لها من مصيبة ما أعظمها مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بي فإنه لن يصاب بمصيبة أعظم منها ،» صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله)(4).

وهذه النصوص الشريفة تكشف عن حجم الألم الذي كان يشعر به الإمام علي (عليه السلام) والمصيبة التي أحلت به لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن

ص: 71


1- شعب الايمان: ج 7 ص 239 .
2- سنن الدارمي: ج 1 ص 40 .
3- الاستذكار: ج 3 ص 80 .
4- الكافي: ج 3 ص 220 .

هذه المصيبة هي مما هون على منتج النص (عليه السلام) مصيبته بفقد الزهراء (عليها السلام) من جهة، وما نزل عليها من جهة اخرى، كما بين النص الشريف في ذكره وبيانه للظلم الذي أصابها من (دفنها سراً، وهضم حقها قهرا، ومنع ارثهاجهرا) فمصيبة فقد رسول الله أعظم مما جرى ولذا قال:

«فإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك احسن العزاء .»

فكان عزائه برسول الله هوّن عليه عزائه بفقد فاطمة (عليه السلام) وما جرى عليها وهذا من اصدق الدلالات على درجة حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وايمانه بالله تعالى.

وهو أمر وجداني لا يحتاج الى تدليل كي نثبت العلاقة بين الحب والايمان ويكفي بذلك شاهداً، قوله (صلى الله عليه وآله):

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين »(1).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «ثلاث من كن فيك وجد حلاوة الإيمان، أنّ يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما، وأن يحب المرء الا وان يكره ان يعود في الكفر كما يكره ان يقذف في النار »(2).

فكيف اذا كان علي (عليه السلام) وهو ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) واخيه و ابو سبطيه الحسن والحسين (عليهما السلام).

ص: 72


1- صحيح البخاري، كتاب الايمان ج 1 ص 9.
2- المصدر السابق نفسه.

ولذلك:

كان يناشد اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويحتج عليهم بجملة من المزايا والخصائص التي حظي بها ولم ينالها غيره من بينهم وهو يكشف بذلك عن نوع العلاقة التي كانت بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيقول: «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة والمنزلةالخصيصة، وضعني في حجره وانا ولد، يضمني الى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل » (1).

وعليه:

يكون الجعل في المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتلبث والاعوال يرتكز على امرين اساسيين، وهما:

1-إيمانه بالله تعالى.

2-حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهذان الامران يسيران بالتوازي في المسيرة الحياتية لكل انسان.

فضلا عن ذلك فقد ارشد النص الشريف الى قضية جديدة في غاية الاهمية، الا وهي مشروعية زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبالكيفية التي بينها النص في:

1- ملازمة القبر الشريف ومستويات هذه الملازمة.

2-اللبث عند القبر النبوي ومستوياته.

وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

ص: 73


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 300 .

المسألة الثانية: قصدية المقام في تقرير مشروعية زيارة قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وفضلها

اشارة

إن من الخصائص التي أرتبطت بحياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وشخصه -وكذا حال بقية الائمة المعصومين (عليه السلام)- إستيعاب النص الوارد عنهم لحقول معرفية عديدة.

وكما قلنا سابقا أن حديث المعصوم وبمقتضى حديث الثقلين يكون له من الخصائص المعرفية ما للقرآن، ومن هذه الخصائص: الإخبار عن الحوادث المستقبلية، كالإخبار عنها عينا وتخصيصا، أو ضمنا وتنويها، كما جاء في الحديث مورد البحث.

أي قوله (عليه السلام):

«لجعلت المقام عند قبرك لزاما والتلبث معكوفا .»

فالحديث يكشف عن أمر غيبي من حوادث الزمن وما سيتعرض له القبر الشريف في المحاربة عقديا، وفي أزمان مختلفة وهي كالاتي:

أولاً: فتوى ابن تيمية في حرمة زيارة قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
اشارة

فقد أفتى ابن تيمية الحراني المحروم من رحمة ربه، بحرمة شد الرحال لزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغيره من قبور الأنبياء (عليه السلام)، كما جاء ذلك في مجموع فتاويه قائلا:

(ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر ليقف بالمسجد الأقصى، ولا للوقوف عند قبر أحد لا من الأنبياء، ولا المشايخ ولا غيرهم)(1).

ص: 74


1- مجموعة الفتاوى ابن تيمية: ج 26 ص 150 .

وقال ايضا:

(ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده)(1).

فسبحان من جعل العترة عدل القرآن، فهذا الرجل الذي يكذب علنا على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في قوله هذا؛ فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) –مورد البحث- لينقضه ويفضح كذبه:

«لجعلت المقام عند قبرك لزاما والتلبث معكوفا .»

فضلاً عن ذلك فقد أنبرى مجموعة من علماء المسلمين في الرد على هذه الفتوى الضالة والظالمة بحق سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) وبها تتجلى آثار قصدية منتج النص وقدرته على الإحاطة بالأمور قبل وقوعها وهي خاصية ينفرد بها النص المقدس الوارد عن المعصوم (عليه السلام).

ولذا فقد ردَّ بعض علماء المسلمين على هذه الفتوى لابن تيمية ، فكان منهم:

1- الحافظ السبكي (ت 756 ه).

فقد خصصَ كتابا مستقلا ضمّنه العديد من المسائل الخاصة في منزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخصائصه والصلاة عليه وغيرها، فكان مما جاء فيه للرد على اكاذيب ابن تيمية في منعه لشد الرحال والسفر لزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)

وتحت عنوان:

(الفقهاء يقررون السفر لزيارة القبر الشريف؛ وقال أبو بكر محمد بن حسين الآجري في كتاب الشريعة في باب دفن ابي بكر وعمر مع النبي (صلى الله عليه

ص: 75


1- مجموعة الفتاوى: ج 26 ص 147 .

وآله)، ما أحد من أهل العلم قديما وحديثا ممن رسم لنفسه كتابا نسبه اليه من فقهاء المسلمين، فرسم كتاب المناسك ألاّ وهو يأمر كل من قدم المدينة ممن يريد حجاً أو عمرة، أو لا يريد حجاً أو عمرة، وأراد زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) والمقام

بالمدينة لفضلها ألا وكل العلماء قد أمروه ورسموه في كتبهم، وعلموه كيف يسلم على النبي (صلى الله عليه وآله) وكيف يسلم على ابي بكر وعمر: علماء الحجاز قديما وحديثا، وعلماء أهل العراق قديما وحديثا، وعلماء أهل الشام قديما وحديثا، وعلماءأهل خراسان قديما وحديثا، وعلماء أهل اليمن قديما وحديثا، وعلماء أهل مصر قديما وحديثا، فلله الحمد على ذلك.

وقال قريبا من هذا الكلام أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري الحنبلي في كتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) في باب دفن أبي بكر وعمر مع النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا قال:

بحسبك دلالة على إجماع المسلمين واتفاقهم على دفن أبي بكر وعمر مع النبي (صلى الله عليه وآله): أن كل عالم من علماء المسلمين وفقيه من فقهائهم، ألف كتابا في المناسك، ففصله فصولا، وجعله أبوابا، يذكر في كل باب فقهه، ولكل فصل علمه، وما يحتاج الحاج إلى علمه والعمل به قولا وفعلا: من الاحرام، والطواف،

والسعي، والوقوف، والنحر، والحلق، والرمي، وجميع ما لا يسع الحاج جهله، ولا غنى بهم عن علمه، حتى يذكر زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيصف ذلك فيقول:

ثم تأتي القبر فتستقبله، وتجعل القبلة وراء ظهرك وتقول:

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، حتى يصف السلام والدعاء.

ثم يقول: وتقدم على يمينك قليلا وتقول: السلام عليك يا أبا بكر وعمر.

ص: 76

وإن الناس يحجون البيت من كل فج عميق وبلد سحيق، فإذا أتوا البيت لا يشكون أنه بيت الله المحجوج إليه، وكذلك ما يأتونه من أعمال المناسك وفرائض الحج وفضائله ينادي بعضه بعضا، حتى يأتوا قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسلمون عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر، وقد أدركنا الناس ورأيناهم، وبلغنا عمن لمن نره أن الرجل إذا أراد الحج فسلم عليه أهله وصحابته قالوا له: وتقرأ

على النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر منا السلام، فلا ينكر ذلك أحد ولا يخالفه.

هذا كلام ابن بطة، وقد أنبأنا به جماعة من شيوخنا عن الحافظ أبي الحجاج يوسف بن خليل بسنده إلى ابن بطة. ومقصوده ومقصود الآجري الرد على بعض الملحدة في إنكار دفن أبي بكر وعمر مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وأما زيارته (صلى الله

عليه وآله) فلم ينكرها أحد، وإنما جاءت في كلامهما على سبيل التبع، لأنه لم يظن أحد أن يقع فيها أو في السفر إليها نزاع في قرن الثمانمائة.

واستفيد من كلامهما أن سفر الحجيج إليها لم يزل في السلف والخلف، وأنها تابعة للمناسك؛ وأبو بكر الآجري هذا قديم، توفي في المحرم سنة ستين وثلاثمائة، وكان ثقة صدوقا دينا، وله تصانيف كثيرة، وحدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، انتقل

إلى مكة فسكنها حتى توفي بها. وابن بطة المذكور توفي في المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة بعكبرى، من فقهاء الحنابلة، كان إماما فاضلا عالما بالحديث، وفقهه أكثر من الحديث، وصنف التصانيف المفيدة؛ وهكذا قال غيرهما: قال القاضي عياض:

قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه:

ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتبرك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه، وينزل جبرئيل بالوحي فيه

ص: 77

عليه، وبمن عمره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين، والاعتبار في ذلك كله؛وقد ذكرنا في باب نصوص العلماء على استحباب الزيارة قول الباجي المالكي: إن الغرباء قصدوا لذلك، يعني قصدوا المدينة من أجل القبر والتسليم.

ذكر هذا في معرض الفرق بين أهل المدينة والغرباء لما فرق مالك (رحمه الله) بينهم، كما سبق؛ وسنذكر في الباب الرابع من كلام العبدي المالكي في (شرح الرسالة) أن المسير إلى المدينة لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس؛ وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممن حكينا كلامهم في باب الزيارة، يقتضي استحباب السفر، لأنهم استحبوا للحاج بعد الفراغ من الحج الزيارة، ومن ضروريها السفر)(1).

2- الحافظ الحصني الدمشقي (ت 829 ه).

ومن علماء المسلمين الذين تصدوا لافتراءات ابن تيمية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيان كذبه وسوء عاقبته وهو الحافظ الحصني الدمشقي فقد خصص هو الاخر كتابا في الدفاع عن الاسلام ورسوله (صلى الله عليه وآله) فكان مما جاء فيه في الرد على منع الزيارة لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحت عنوان:

(فتوى ابن تيمية بأن زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبره معصية) فقال: (ومن الامور المنتقدة عليه، قوله:

زيارة قبر النبي وقبور الانبياء معصية بالإجماع مقطوع بها، وهذا ثابت عنه انه قاله؛ وثبت ذلك على يد القاضي جلال الدين القزويني؛ فأنظر هذه العبارة ما اعظم الفجور فيها، من كون ذلك معصية، ومن ادعى الاجماع وان ذلك مقطوع به؟

ص: 78


1- شفاء السقام: ص 148 - 150 .

فهذا الزائغ يطالب بما ادعاه من إجماع الصحابة، وكذا التابعون ومن بعدهم منأئمة المسلمين إلى حين ادعائه ذلك.

وما أعتقد أن أحدا يتجاسر على مثل ذلك؛ مع أن الكتب المشهورة، بل والمهجورة، وعمل الناس في سائر الأعصار على الحث على زيارته من جميع الأقطار، فزيارته من أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين، وهي سنة من سنن المرسلين، ومجمع عليها عند الموحدين، ولا يطعن فيها إلا من في قلبه مرض المنافقين، ومن هو من أفراخ اليهود وأعداء الدين، من المشركين الذين أسفروا في ذم سيد الأولين والآخرين، ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شد الرحال إليه على ممر الأزمان، من جميع الأقطار والبلدان، سار في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبان، حتى ظهر في آخر الزمان مبتدع من زنادقة حران، لبس على

أشباه الرجال ومن شابههم من سيئي الأذهان، وزخرف لهم من القول غرورا، كما صنع إمامه الشيطان، فصدهم بتمويهه عن سبيل أهل الإيمان، وأغواهم عن الصراط المستقيم إلى ثنيات الطريق ومدرجة النيران، فهم برزيته في ظلمة الخطأ يعمهون، وعلى منوال بدعته يهرعون.

(فتاوى العلماء باستحباب زيارة القبور) وسأذكر ذلك ما تحقق به فجوره وبدعته وتضليل من مشى خلفه وهلكته، وأبين ما أظهره من القول الباطل وما رمز إليه وأوضحه لكل من سمعه ووقف عليه؛ ثم أردف ذلك بما يدل على المنهج من ذلك، فلا يزيغ عنه بعد ذلك إلا هالك؛ قال القاضي عياض في أشهر كتبه الذي شاع ذكره

في سائر البلاد، وقرئ في المجامع والجوامع على رؤوس الأشهاد:

(فصل في حكم زيارة قبره -عليه الصلاة والسلام- وفضل من زاره، وكيف يسلم عليه ويدعو؟ وزيارة قبره سنة من سنن المرسلين، مجمع عليها، ومرغب فيها).

وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه -وآله- وسلم): (من زار

ص: 79

قبري وجبت له شفاعتي).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه -وآله- وسلم): (من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري، وكنت له شفيعا يوم القيامة).

وفي حديث آخر: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي)، هذه ألفاظه بحروفها، وكذا ذكره الإمام العلامة هبة الله في كتاب (توثيق عرى الإيمان).

فهذا نقل الإجماع على خلاف ما نقله هذا الزائغ الفاجر المبالغ في فجوره وعزوه إلى السلف؛ وأما غير هذين الإمامين ممن نقل الندب إلى زيارته فخلق لا يحصون، وسأذكر بعضهم.

(استدلال ابن تيمية على أقواله بالباطل) على أنه ذكر في فتوى مطولة ما يناقض ما ادعاه من الإجماع والقطع هنا؛ وقد ذكرت المسألة في تنبيه السالك، وذكرت صورة الفتوى وجوابه، وهذا جواب مطول، وتعرضت لما فيه من الخلل وسوء الفهم وفجوره في النقل والعزو.

وها أنا ذا أذكر هنا بعض الجواب، وأبين ما فيه من الخطأ وعدم صحة الاحتجاج بما احتج به، كحديث (لا تشد الرحال)، ولا أدقق في الجواب، لأن قصدي بيان جهله، وأنه لا حجة له في الحديث جريا على القواعد التي عليها مدار الاستدلال صحة وبطلانا، وأذكر ما ذكره في أحاديث الزيارة وما ادعاه فيها من الفجور وما رمز إليه في تكفير الأئمة الذين رووها، وأنه قال قولا مفترى لم يسبقه إليه أحد، ولا رمز ولا أشار إليه، وبالله التوفيق.

فمما ذكره في الجواب بلفظ قوله: وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم)، كقوله: (من زار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) رواه الدارقطني وابن ماجة).

ص: 80

فانظر -أرشدك الله تعالى- كيف جعل هذين الإمامين ممن لا يعرف الحديث، وهو من أقبح البهتان؛ وقد احتج بهذا الحديث خلائق من أئمة الحديث غير هذين الإمامين، منهم القاضي عياض وصاحب (توثيق عرى الإيمان) وأبو الفرج ابن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن) ذكره في الباب الذي عقده لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم)، ومنهم ابن قدامة ذكره في

كتابه (المغني) في فصل (يستحب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم))، واستدل بحديث ابن عمر من طريق الدارقطني، ومن طريق سعيد بن منصور، وذكر أيضا حديث أبي هريرة: (ما من أحد سلم علي عند قبري)، وقوله: وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) فلم يورده أحد من

العلماء.

وهذا أيضا من البهتان البين والجهل، فقد روى هذا الحديث غير واحد من الأئمة بألفاظ متقاربة، منهم الحافظ أبو عبد الله بن النجار في كتابه (الدرة الثمينة)، من حديث علي (عليه السلام).

ومنهم الإمام الحافظ -المتفق على حفظه وعلو قدره في هذا الشأن- أبو سعيد عبد الملك النيسابوري، خرجه في كتابه (شرف المصطفى) من حديث علي (عليه السلام)، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني)، رواه ابن عساكر من طرق، وقوله:

وهو مثل (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة).

تنبه، يا من أشير إليه بالعلم، في قوله، فإنه يشير به إلى أن الحديث الأول كذب

ص: 81

على رسول الله (صلى الله عليه-وآله- وسلم)، لأنه سوى بينهما، وذكر الحديث الثاني توطئة لقصده الفاسد في إرادة تجاسره به، والتمويه على العوام والضعفاء من الطلبة، وهو شديد الاعتناء بهذا القصد الخبيث في الكلام على آيات الصفات وأحاديثها.

فليحذر الواقف على كلامه في الآيات المتشابه وأحاديثه غاية الحذر، فإن الخطأ فيها كفر بخلاف غيرها من مسائل الفروع.

وقوله: وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) وقبور الأنبياء: بأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يزور قباء، وأجاب عن حديث (لا تشد الرحال): بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب، وأما الأولون فإنهم محتجون بما في الصحيحين عن النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم)،

أنه قال: (إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي) وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به.

انظر -بصرك الله تعالى- ما في هذا الكلام من الإبهام والتدليس، فإنه قال:

(وقد احتج الشيخ أبو محمد على جواز السفر لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله):

بأن النبي كان يزور قباء).

ولم يذكر: (راكبا وماشيا)، لأن الراكب قد شد الرحل، وهو لا غرض له في ذلك؛وأيضا فلم يذكر غير الشيخ أبي محمد، وهو يوهم انفراده بذلك، ولم ينفرد كما أذكره من بعد، وقوله:

ص: 82

أجاب -يعني أبا محمد- عن حديث (لا تشد الرحال): بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب وهو يوهم: أن ذلك لم يقله إلا الشيخ أبو محمد، وهو من التدليس الذي هو كثير الاعتناء به، والمكر السيئ.

قوله: أما الأولون يعني القائلين بتحريم السفر، وعدم جواز القصر في سفر المعصية، فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم)، أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي) هذا، وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به.

وهو يوهم أنهم احتجوا لتحريم قبور الأنبياء وقبر النبي (صلى الله عليه -وآله -وسلم) به، وهو من التدليس الفاحش، وهو مطالب: بأن الأولين صرحوا: بأن شد الرحال وإعمال المطي إلى قبره وقبر الخليل إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- حرام ومعصية، ولا تقصر فيه الصلاة.

وهذا لا يجده، بل الموجود غيره والندب إلى ذلك، كما يأتي إن شاء الله، وقد خاب من افترى، ثم ما ذكره من انفراد الشيخ أبي محمد: بأن الحديث محمول على نفي الاستحباب، كذب وفجور وجهل، فإنه لم ينفرد بذلك، بل ولا الحديث مسوق لتحريم زيارة القبور، وإنما هو لبيان فضيلة المساجد الثلاثة دون غيرها، لأن المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والعمل فيها يضاعف

ما لا يضاعف في غيرها، وليس لزيارة القبور تعلق بالحديث.

ولما تكلم الأئمة على هذا الحديث، ومنهم الإمام العلامة أبو زكريا يحيى النووي رضي الله عنه في (شرح مسلم) قال: في الحديث فضيلة المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها، لأن معناه عند جمهور العلماء: لا فضيلة في شدها إلى مسجد غيرها.

ص: 83

وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: يحرم شدها إلى غيرها، وهو غلط، ومر بيانه في باب سفر المرأة.

فصرح بأن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة، وصرح بأنه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها، ولم يتعرض للزيارة، البتة.

قلت: وجزم الشيخ محيي الدين، بأن الشيخ أبا محمد جزم بالتحريم، وهو ممنوع، وإنما تردد في ذلك، فقال: ربما يحرم، وربما يكره، والله أعلم.

وقال -أعني النووي- في (شرح مسلم) في باب سفر المرأة:

(واختلف في شد الرحال وإعمال المطي إلى غيرها، لا الذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك).

فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم، وهذا الذي أشار إليه عياض مختارا له والصحيح عند أصحابنا، واختاره الإمام والمحققون لا يحرم ولا يكره.

والمراد: (أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة)؛ انتهى، فذكر أولا: أن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة، وذكر ثانيا: أنه قول المحققين، وأنه لا يحرم ولا يكره، وأن المراد: أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة خاصة، ولم يصرح بقبور الأنبياء.

وقوله: (وأن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة) يفيد أنشد الرحال إلى غير الثلاثة فيه فضيلة إلا أنها غير تامة)(1).

ص: 84


1- دفع الشبهة عن الرسول (صلى الله عليه-وآله-وسلم) للحصني الدمشقي: ص 174 .

فهذه الاقوال المتظافرة عن فقهاء المسلمين تبين مشروعية زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتظهر افتراء ابن تيمية وكذبه عن الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

إلاّ أنّ الأمر يقتصر على ابن تيمية فقد تبعه في ذلك الوهابية الذين زادوا عليه في النصب والعداء لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

إنهم أفتوا بحرمة الإنابة بالسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ما سيمر بيانه في ثانيا.

ثانيا: فتوى الوهابية بحرمة الانابة في السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إن الناظر الى سيرة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) ليدرك أنه كان من اشد الناس تعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصدقهم حباً وإيمانا به.

ففي الوقت الذي يتأوه فيه الى الله تعالى من وجود المستولين على الدين لجعل المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لزاما والتلبث عند القبر معكوفا نجد في المقابل الوهابية تحرم الانابة في السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهو ما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، فقد سَئَل احد المسلمين اللجنة ما يأتي:

(جاء في سؤالك عبارة:

(لي رجاء الى كل من يقرأ هذه الرسالة ان يسلم لي على الرسول (صلى الله عليه -وآله- وسلم)، وعلى ابي بكر وعمر) ونوضح لك:

ان تحميل الانسان غيره السلام على رسول الله (صلى الله عليه -وآله- وسلم) اوغيره من الاموات!!! ليس مشروعا!!! بل هو بدعة.

ص: 85

والنبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) يقول:

«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في نار »

فالواجب ترك هذا العمل وتنبيه من يقع فيه الى انه لا يجوز، ومن فضل الله علينا ان جعل سلامنا على نبينا محمد (صلى الله عليه -وآله- وسلم) يبلغه اينما كنا في مشارق الارض ومغاربها فقد ثبت ان النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) قال:

«إن لله في الارض ملائكة سياحين يبلغوني من امتي السلام ».رواه احمد والنسائي وغيرهما؛ وقال (صلى الله عليه -وآله- وسلم):

«خير ايامكم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم .»

وقال (صلى الله عليه -وآله- وسلم):

«لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني اين كنتم .»

والاحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق)(1).

وأعتمد أصحاب هذه الفتوى على التدليس والتضليل في الإجابة على سؤال السائل لتوهمه وغيره بحرمة الإنابة بالسلام على خير الأنام (صلى الله عليه واله) والدليل على ذلك:

1-إنطلقت (اللجنة الدائمة للبحوث) في مقدمة الإجابة من المساواة بين سيد الخلق وغيره من المسلمين في كونهم أموات، وهذا قولهم:

(إن تحميل الإنسان غيره السلام على رسول الله (صلى الله عليه -وآله- وسلم) أو غيره من الأموات!!! ليس مشروعاً).

ص: 86


1- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء - احمد بن عبد الرزاق الدويش ج 16 ص 30 .

ثم تقوم اللجنة بإيراد بعض الأحاديث التي تبين نقل الملائكة للسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أينما كان موقع صاحب السلام على الأرض.

والسؤال المطروح كيف تنقل الملائكة السلام لميت أو غيره من المسلمين؟!

إذ العلة المانعة من إلقاء السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو غيره أنهم أموات كما تقول اللجنة.

ومن ثم فنحن أمام خيارين:

الخيار الأول- إما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يسلم عليه بعد موته، وأن الله جعل ملائكةً تنقل السلام إليه ومن ثم فإن هذه العلة تكون منتفية وإلاّ لما كانت الملائكة تقوم بنقل السلام اليه في حياته ،و بعد مماته، وهي بذاك يكون عملها، أي الملائكة الإنابة بنقل هذا السلام عن المسلمين فما المانع من أن تكون الإنابة أيضا فيما بين المسلمين أنفسهم بالسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الخيار الآخر- أن يكون أصل الإنابة في الإسلام ممنوعة عند اللجنة الدائمة للبحوث والافتهاء، وهي بذلك تكون قد عطلت باباً من أبواب الشريعة في الإنابة في الحج والعمرة والزيارة وغيرها.

2-التناقض في الإستدلال على منع السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلة الموت، والحث بالسلام عليه بعلة أنّ ذلك يبلغه كما جاء في قول اللجنة (ومن فضل الله علينا أن جعل سلامنا على نبينا محمد (صلى الله عليه --وآله-- وسلم) يبلغه أينما كنا).

ص: 87

88ومن ثم يتضح أن الهدف الذي تسعى اليه اللجنة الدائمة هو منع زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإنابة عن الاخر في السفر والزيارة فلا تشد الرحال إليه ولا يناب بالسلام عليه تبعا لابن تيمية واشياخه من السلف الذين حاربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيا وميتا؛ وإن كنا نعتقد أنّ فضله (صلى الله عليه وآله) يجري على الخلق في حياته وبعد مماته، وأنه مصدر الغنى بعد الله تعالى.

قال عز وجل:

﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(1).

وقال سبحانه:

﴿ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه سَيُؤْتِينَا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَی اللَّه رَاغِبُونَ﴾(2).

أفهل يكون غنى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وفضلهما محدود بزمن معين ومتوقف في غيره من الأزمنة، أم أن لا حدود زمانية ومكانية لذلك؟!

ولذا:

نجد أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلا:

«لجعلت المقام عند قبرك لزاما والتلبث معكوفا .»

فكيف كان مستوى هذا الإلزام والتلبث عند أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، جوابه في المسألة القادمة.

ص: 88


1- سورة التوبة، الآية ( 74 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 59 ).

المسألة الثالثة: قصدية المقام في بيان مستويات الملازمة للقبر النبوي

اشارة

للوصول الى مقاربة القصد في ملازمة القبر النبوي فلا بد من الرجوع الى معناه اللغوي ودلالات المستويات لهذه الملازمة فقد جاء في معنى اللزوم والملازمة.

عدم المفارقة ف (رجل لُزَمَةٌ): يلزم الشيء فلا يفارقه، وعدم المفارقة اي: المقام عند القبر النبوي له مصاديق ثلاثة وهي كالاتي:

أولاً: الملازمة الوجوبية

وهذه الملازمة بمعنى الوجوب على نفسه خاصة في بعض الافعال التي يمكن ملاحظتها في سيرة الأنبياء وسيرة سيد الخلق (صلى الله عليه-وآله-وسلم) كما يمكن ملاحظتها عند كثير من الناس حينما يوجبون على أنفسهم القيام ببعض الأعمال التي يجدون فيها ضرورة ملحة كطالب العلم الذي أوجب على نفسه السهر فقد ورد في الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد اوجب على نفسه

صلاة الليل وذلك لقوله تعالى:

﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾(1).

وقال تعالى:

﴿يَا أَيُّها الُمزَّمِّلُ ( 1) قُمِ اللَّيْلَ إلِّا قَليِلًا ( 2) نصِفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَليِلًا ( 3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾(2).

وأوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين عليه السلام في الوصية الظاهرة اليه، فقال فيها:

ص: 89


1- سورة الاسراء، الآية ( 79 ).
2- سورة المزّمل، الآية ( 1- 4).

«وعليك يا علي بصلاة الليل، وعليك يا علي بصلاة الليل، وعليك يا علي بصلاةالليل »(1).

ومثال اخر يظهر ما لصلاة الليل من الأهمية الكبيرة في مقتضيات التشيع فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:

«ليس من شيعتنا من لم يصلِّ صلاة الليل »(2).

ولا يخفى أنّ صلاة الليل هي من الصلوات المستحبة إلاّ أنّا تحمل صفة خاصة واثاراً متعددة جعلت بمنزلة الإلزام والملازمة أي عدم المفارقة لصفة التشيع والإيمان.

وعليه:

يصبح المستوى الأول من الإلزام في المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الوجوب النفسي في ملازمة القبر النبوي وعدم تركه كأنه واجب عليه فيلزم نفسه الملازمة للقبر الشريف.

ثانياً: الملازمة الدائمية

يرشدنا النص الشريف الى دلالة ثانية من مستويات الملازمة وهي الملازمة الدائمة فقد ورد في معنى الدوام:

(هو إستمرار البقاء في جميع الأوقات، ولا يقتضي أن يكون في وقت دون وقت)(3).

ص: 90


1- الوسائل: ج 5 باب 49 .
2- الوسائل: ج 5 الباب 40 من بقية الصلوات المندوبة.
3- الفروق اللغوية لابي هلال العسكري: ص 239 .

وهذا المعنى يظهر الجانب الوجداني بصورة جلية وذلك أنّ الإنسان يظهر خلال سلوكه إن دوام بقائه في جميع الاوقات يكون المحل الذي ارتبط به نفسيا وعاطفي اكملازمة الأب لمحل العمل كادّاً عاملا بغية أن يوفر لأبنائه الحياة الكريمة وكذا ملازمة الأم للدار والأسرة وعكوفها على رعاية أبنائها.

والأمثلة على ذلك كثيرة فالإنسان كلما ازداد حبه وتعلقه بشيء ازداد بقائه وملازمته له.

وبذلك يكون قوله (عليه السلام): لجعلت البقاء عند قبرك لزاما، وهو دوام البقاء ولا يقتضي أن يكون في وقت دون وقت لأنه حالة وجدانية تدفع الانسان الى العمل بهذه الكيفية.

ثالثاً: الملازمة بكثرة الزيارة للقبر النبوي فيكون زواراً

هذا المعنى قد ورد من خلال المشاهدات والإستقراء لأفعال كثير من الناس عند تكرار زيارتهم لمكان من الأمكنة مما يرسم معنى في ذهن المشاهد والمراقب لتعدد هذه الحالة وهو معنى الملازمة لهذا المكان.

فقد يقوم الإنسان بتكرار الزيارة في اليوم الواحد لمكتبة عامة فيصدق عليه أنه ملازم لهذه المكتبة او قد يكرر الانسان دخوله الى مقهى في اليوم عدة مرات فيقال عنه انه ملازم للمقهى او تقوم المرآة بزيارة جارتها عدة مرات في اليوم فيصدق عليها معنى انها ملازمة لبيت الجار والجارة.

وقد دلت الروايات الشريفة في خصوص تكرار الزيارة لقبر سيد الشهداء (عليه السلام) في كربلاء ما يصدق عليه الملازمة للقبر الشريف ويصنف بكونه زواراً، أي كثير الزيارة.

ص: 91

فقد اخرج ابن قولويه (رحمه الله):

عن ابي بكر الحضرمي، عن ابي جعفر -الباقر- (عليه السلام)، قال سمعته يقول:«من اراد ان يعلن انه من اهل الجنة فليعرض حبنا على قلبه فإن قبله فهو مؤمن، ومن كان لنا محبا فليرغب في زيارة الحسين (عليه السلام)، فمن كان للحسين زوارا عرفناه بالحب لنا اهل البيت وكان من اهل اجنة، ومن لم يكن للحسين زواراً كان

ناقص الايمان »(1).

والحديث يكشف في نفس الوقت صفتان متلازمتان وهما الحب والايمان مما يدل على ان مقاصدية النص الشريف «لجعلت المقام عند قبرك لزاما » عن صفات ثلاثة:

1- كثرة الزيارة والمقام لوقت دائم تحقق الملازمة.

2- ان الدافع لهذه الملازمة خو الايمان والحب.

3- ان الايمان هو الحب لله ورسوله واهل بيته (عليهم السلام).

وان انصاف المؤمن بالحب لآل البيت (عليهم السلام) ومصداقه فعل أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في ملازمته لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد دفعه ايمانه وحبه لله ورسوله الى هذه الملازمة للقبر النبوي.

بل لم يكتشف (عليه الصلاة والسلام) من إلزام نفسه المقدسة في المقام عند القبر الشريف وانما انتهج منهجا تعبديا في التعامل مع القبر النبوي ليدحض بذلك تخرسات المبطلين ويرد زيغ المنافقين في شياعهم لثقافة تسطيح القيم الاسلامية

وضياع الهوية الايمانية ومحاربة الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً وهو ما سنعرض له في المبحث القادم.

ص: 92


1- كامل الزيارة: ص 356 .

المبحث السادس والعشرون: مقاصدية العكوف عند قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

ص: 93

قوله (عليه السلام) في لفظ الشيخ الكليني: «ولَو لَا غَلَبةَ المْسُتْولْيِن علَينْا لَجعَلَت المْقُام واللَّبثْ لزِاَماً معَكْوفاً »وفي لفظ الشيخ المفيد: «لَولا غَلَبةَ المُستْولْيِن علَينْا لَجعَلَت المْقُام عنِدْ قَبرْكَ لزِاماً، ولَلَبثَت عنِدْهَ معَكْوفاً »

اشارة

ص: 94

إنَّ النص الشريف يسير بنا الى قصدية جديدة ويوقفنا في محطة معرفية من محطاته العديدة التي يصحب فيها القارئ والباحث ليتزود منها ما يضفي على القلب والعقل نوراً وروحاً تمازجان معاً ويحرزان بذلك رضوان من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

واللفظ الشريف هنا يفتح لنا شأنية اخرى من الشؤون المعرفية المرتبطة بسيد الكائنات وأشرف الموجودات (صلى الله عليه وآله) ويرسم لنا منهجا جديدا في التعامل مع القبر النبوي لينعكس ذلك على الروح الايمانية والسلم اليقيني الذي يوصل السائر والمرتقي الى سمو المعرفة التي لولاها لما عرف الله سبحانه وتعالى كما

ورد في الدعاء عن الامام الصادق (عليه السلام):

«اللهم عرّفني نفسك فإنك إنْ لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرّفني نبيك فإنك إنْ لم تعرّفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إنْ لم تعرّفي حجتك ضلّلت عن ديني »(1) .

والنص الشريف هنا يفتح لنا باباً من ابواب المعرفة في شأنية رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه المعرفة جاءت من أعرف الخلق بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله) وكيف لا وهو باب مدينة علمه ووصيه وخليفته في امته وحجة الله على خلقه.

وعليه:

ينقسم البحث الى مسائل نحاول من خلالها الوصول الى مقاربة القصد المولولي لمولى الموحدين وأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام).

ص: 95


1- الكافي الكليني: ج 1 ص 339 .

المسألة الاولى: اللبث والعكوف في اللغة

أولاً: اللبث في اللغة

تكاد تكون كلمات أهل اللغة في بيان معنى (اللبث) مجتمعة على (الإقامة)، و (المكث)، و (التوقف).

1-قال الجوهري (ت 393 ه):

(اللبث، واللباث: المكث، وقد لَبَثَ يَلبْثُ لبثاً على غير قياس لان المصدر من فعل بالكسر، قياسه التحريك إذا لم يتعد، مثل تعب تعباً)(1).

2- قال ابن فارس (ت 395 ه):

(لبث) اللام والباء والثاء حرف يدل على تمكث، يقال:

لبث بالمكان أقام؛ قال الله تعالى:

﴿لَم يَلْبَثُوا إِلَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾(2).

3- وذهب ابن سيدة (ت 458 ه) الى ما ذكره ابن فارس فقال:

(إنّ الإعتكاف لبث واقامة، والشرعي، أي الإعتكاف الشرعي - ينضم اليه معنى آخر)(3).

4- في حين نرى ابن منظور يعطي معنى اخر للَّبث، فيقول:

ص: 96


1- الصحاح: ج 1 ص 291 ؛ معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص 288 .
2- سورة يونس، الآية ( 45 ).
3- المخصص: ج 4 ق 1 (السفر الثالث عشر): ص 85 .

(ولي على هذا الامر لبثة، أي: توقف، واستلبث الوحي، أي ابطأ وتأخر)(1).

وقد ورد في القرآن جملة من الآيات التي اظهرت معنى اللبث ودلالاته فكان منها:

1- ﴿وَلقَدْ جَاءَتْ رُسُلُناَ إبِرَاهِيمَ باِلبْشُرى قَالوُا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لبَثِ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾(2).

2- ﴿فَضَربْنَا عَلَی آَذَانِهمْ فِی الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ( 11 ) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الِحزْبَيْن أَحْصَی لِما لَبِثُوا أَمَدًا﴾(3).

3- ﴿وَلَبِثُوا فِ كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾(4).

4- ﴿قُلِ الله أعَلَمُ بمِا لبَثِوُا لهَ غَيبْ السَّمَاوَاتِ وَالْأرَضِ أبَصِر بهِ وَأسَمِعْ مَا لَهمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِّی وَلَا يُشْركُ فِی حُكْمِهِ أَحَدًا﴾(5).

5-﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الُمجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْر سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾(6).

والآيان المباركة تدل على عدة معان مترابطة، وهي (البقاء، والاقامة، والتوقف).

ومن ثم فقد أرشدنا النص في قوله (عليه السلام): «والتلبث معكوفا .»

ص: 97


1- لسان العرب: ج 2 ص 182 .
2- سورة هود، الآية ( 69 ).
3- سورة الكهف، الآية ( 11 - 12 )
4- سورة الكهف، الآية ( 25 ).
5- سورة الكهف، الآية ( 26 ).
6- سورة الروم، الآية ( 55 ).

أي: مقيما باقيا متوقفا عند القبر، وهذه المعاني ستفتح بإذن الله مقاصداً خاصة كما سيمر لاحقا، وذلك بعد أن نورد معنى العكف والمعكوف والإعتكاف.

ثانياً: العكوف والإعتكاف في اللغة

أشار أهل اللغة الى أنّ معنى الاعتكاف والعكوف هو البقاء والحبس ولزوم الشيء فكانت اقوالهم على النحو الآتي:

1- قال الفراهيدي:

(عكف يعكف عكوفا: هو اقبالك على الشيء لا تصرف عنه وجهك)(1).

2- قال الجوهري:

(الاعتكاف في المسجد: الاحتباس)(2).

3-قال الزمخشري:

(الإعتكاف والعكوف: الاقامة على الشيء وبالمكان ولزومهما)(3).

4- قال ابن منظور: (العكوف: الاقامة في المسجد، يقال لكم لزم المسجد واقام على العبادة فيه: عاكف ومعتكف)(4).

ص: 98


1- كتاب العين: ج 1 ص 305 .
2- الصحاح: ج 4 ص 1406 .
3- النهاية: ج 3 ص 284 .
4- لسان العرب: ج 9 ص 255 .
ثالثاً: الاعتكاف عند الفقهاء

وللاعتكاف معنى امتزجه المفهوم التشريعي لهذه الممارسة.

1- فقال المحقق الحلي (ت 676 ه):

الاعتكاف: هو اللبث المتطاول للعبادة(1)، وان من شروطه (استدامة اللبث في المسجد)(2).

2- قال الشيخ الجواهري (ت 1266 ه):

(الاعتكاف لغة هو الاحتباس، ومنه اللبث الطويل الذي هو احد افراد لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً كان او غيره؛ قال الله تعالى:

﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾(3).

أي: لازمون لها وحابسون أنفسكم عليها، نحو قوله: ﴿يَعْكُفُونَ عَلَی أصَناَمٍ لَهُمْ﴾.

وشرعا: على وجه النقل أو المجاز الشرعي (هو اللبث المتطاول للعبادة)، وفي المنتهى(4) لبث مخصوص للعبادة؛ وفي الدروس(5): لبث في مسجد جامع مشروط

بالصوم ابتداءً)(6).

ص: 99


1- شرائع الاسلام: ج 1 ص 158 .
2- المصدر السابق.
3- سورة الانبياء، الآية ( 52).
4- منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 9 ص 467 .
5- الدروس الشرعية للشهيد الاول: ج 1 ص 297 .
6- جواهر الكلام: ج 17 ص 159 .

وهذه المعاني والدلالات ترشد الى مقاصد اللفظ الشريف والتي جمعت في مقاصد اربعة وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: استظهار قصدية اللبث والعكوف

اشارة

يمكن إستظهار أربعة مقاصد من قوله (عليه الصلاة والسلام):

«والتلبث معكوفا » ومما أعاننا على استظهارها تلك المعاني والدلالات التي مرَّ ذكرها في المسألة السابقة، فكانت كالآتي:

القصدية الاولى: استدامة الإقامة عند القبر الشريف

قد ينصرف الذهن الى أن قوله (عليه السلام): «لجعلت المقام عند قبرك لزاماً » هو مترادف بالمعاني لقوله: «والتلبث معكوفاً » وذلك ان معاني المفردات وهي (المقام، لزاما، التلبث، معكوفاً) تسير في نسق واحد وهو الاقامة عند القبر الشريف ولكن واقع اللفظ يرشد الى مقاصد عدة تقارب ما اراده الامام علي (عليه السلام) في

خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

وذلك أن الإمام علي (عليه السلام) لا يريد في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكرار المعاني في قوالب المفردات وانما اراد كشف خبايا كثيرة يفهمها السامع ويعلم مقاصده هذا اللفظ، ومنها:

استدامة الاقامة عند القبر الشريف وهو بيان الكيفية العملية بعد بيان الكيفية النظرية.

بمعنى: إن السامع قد فهم من اللفظ انه (عليه السلام) اراد الاقامة عند القبر لكن كيف تكون هذه الاقامة؟ ومثال هذه الحالة جاء في القرآن الكريم في مواضع عدة، منها:

ص: 100

1-قال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلِی غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾(1).

فالآية المباركة تتحدث عن اقامة الصلاة لكنها لم تبين لكيفية العملية لهذه الاقامة.

2-وقوله عز وجل: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا﴾(2).

وغيرها من الآيات المباركة التي جاءت بالفروض والتكاليف الشرعية إذ نلاحظ أن الآيات جاءت بالأصل دون أنْ تبين الكيفية العملية لإقامة الصلاة أو إداء فريضة الحج أو الزكاة ومن ثم كانت الطريقة في هذه الاقامة وظيفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والائمة المعصومين وهم العترة النبوية (سلام الله عليهم اجمعين).

وهنا في هذا اللفظ الشريف نجد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يظهر الكيفية العملية في الاقامة وذلك من خلال «اللبث معكوفاً »، أي: أنه بينّ في اللفظ الأول: ملازمة البقاء وما أرتبط به من مقاصد مرّ بيانها في المبحث السابق، وهنا يبين (عليه السلام) أن هذه الإقامة بمقتضى دلالة اللبث والاعتكاف وهو استدامة الاقامة كمن شرع في العمل بسنة الاعتكاف في المسجد كما هو مفصل في مكتب الفقهاء والذي يقتضي بحسب التشريع والادامة في الاقامة لمدة ثلاثة ايام.

ص: 101


1- سورة الاسراء، الآية ( 78 ).
2- سورة الاسراء، الآية ( 78 ).

وهنا:

يظهر (عليه السلام) انه يريد البقاء بالكيفية العلمية التي يعمل بها المعتكف في المسجد فيصدق عليه أنه معتكف.

القصدية الثانية: الملاذ بقبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )قربة الى الله تعالى

يظهر النص الشريف مقاصدية اخرى وهي أن المسلم حينما يتعرض للابتلاء لاشك سيندفع الى البحث عن ملاذات أمنة أو ملاذات تحقق له الأمن وتكون وسيلة له للنجاة مما هو فيه، والإمام علي (عليه السلام) يسن للمسلمين هذه الوسيلة، أي اتخاذ قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملاذا للمبتلى ولكل ذي حاجة، سواء كانت من حاجات الدنيا أم حاجات الاخرة وبالكيفية التي حددها (عليه السلام) من الملازمة والاقامة عند القبر النبوي.

إلاَّ أنه وبحكم تقدير المصلحة في مواجهة خصٍومه والذين حددهم ووصفهم ب (المستولين) لجعل البقاء عند قبره (صلى الله عليه وآله) لزوما والتلبث معكوفاً؛ إلاّ أنَّ هذا المانع فرض عليه ترك البقاء والاقامة والعكوف عنده، فقدم تفويت الفرصة وسد الطريق على المستولين على ملازمة القبر الشريف والاقامة فيه والعكوف عنده.

ولا شك ان هذه المقاصدية يراد منها التقرب الى الله تعالى بل ان سنامها وقوامها القربة الى الله تعالى.

قال سبحانه:

﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّه وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾(1).

ص: 102


1- سورة التوبة، الآية ( 99 ).

وذلك ان القرابة هي (غاية الفعل المتعبد به، والمراد بها القرب الى رضاه او ثوابه)(1).

(وان المراد بالقربة اما موافقة ارادة الله تعالى، او القرب منه المتحقق بحصول الرفعة عنده، ونيل الثواب لديه مجازا عن القرب الكافي، وايثار القربة لتحصيل الاخلاص لتكرر ذكرها في الكتاب والسنة)(2).

وقد جاء في تفسير الآية عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت 460 ه):

إنَّ القرابة هي قلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة، وهي تدني من رحمة الله تعالى، والتقدير انه يتخذ نفقته وصلوات الرسول واستغفاره لهم.

وقال قتادة: معناه دعاؤه بالخير والبركة، قال الاعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا***يا رب جنب أبي الاوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي*** نوما فان لجنب المرء مضطجعا.

ثم قال:

ألا إنها، يعني صلوات الرسول، قربة لهم، اي تقربهم إلى ثواب الله، ويحتمل أن يكون المراد ان نفقتهم قربة إلى الله)(3).

فكانت المقاصدية الثانية في قوله:

«والتلبث معكوفاً .»

ص: 103


1- الحاشية الاولى على الالفية للشهيد الثاني: ص 521
2- جامع المقاصد للمحقق الكركي: ج 1 ص 201
3- التبيان في تفسير القرآن: ج 5 ص 286 .

قصد القربة لله تعالى واستحصال دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي تتحقق فيه القربة وينال الانسان الرحمة الواسعة.

القصدية الثالثة: حبس نفسه المقدسة على القبر النبوي

يمكن لنا الوصول الى مقاربة جديدة لقصد الامام (عليه السلام)( في هذا النص الشريف وذلك من خلال الوقوف عند مشاعره وعواطفه نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وذلك ان الإنسان لا يمكن له ان يحبس نفسه ويقف على امر واحد مالم يكن قد استجمع مشاعره اتجاه هذا الأمر.

والشواهد الحياتية كثيرة على ذلك بل لا نكاد نجد انساناً لم يمر بهذا الموقف على اختلاف الثقافات والامزجة والميولات نحو الاشياء، ابتداءً من حبس الأم نفسها على ابنائها وحبس طالب العلم على تحصيله، ورجل الامن على حراسته والعامل على عمله والتاجر لتجارته وانتهاء بمواضع اللهو والتسلية ابتداءً من الاطفال وانتهاءً بالشباب والرجال الذين عكفوا على اللهو بآلة محددة من آلات اللهو وغيرها والكل في ذلك فد اندفعوا من مشاعرهم وعواطفهم نحو هذه الاشياء التي حبسوا انفسهم وبذلوا وقتهم لأجلها.

من هنا:

يظهر النص الشريف الجانب الوجداني والمشاعري لعلي (عليه السلام) ومقدار حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعلقه به الى هذا الحد والمستوى العاطفي الذي يجعله ملازماً للقبر وحابساً نفسه عليه، وهو ما اكتنزه قوله: «والتلبث معكوفاً .»

ص: 104

القصدية الرابعة: اظهار شأنية رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )وارتكازها في الحقل المعرفي

يتصرف الناس مع ما يحيط بهم من منطلق معرفتهم بالأشياء، ومن خلال هذه المعرفة تتحد افعالهم وتصرفاتهم بين الاهتمام والاهمال وتفاوت كل منهما؛ إذ كلما عظمت المعرفة بالأشياء أرتكزت عليها التصرفات في الاقتراب والابتعاد ايضاً.

والأمثلة كثيرة على ذلك، منها:

يولد الانسان وتتولد معه المعرفة بما يحيط به، فالطفل في بدء سيره وتحصيله المعرفي ينجذب في بادئ أمره الى النار بفعل ما تنقله حاسة البصر من تلألئ نور النار وتوهجها فينجذب مسرعا اليها لكنه حينما يشعر بألم الاحتراق في يده يدرك أن هذا النور المتلألئ الوهاج يسبب له ألماً كبيراً فتنشأ لديه معرفة جديدة حول النار، وكلما عظمت هذه المعرفة بالنار من حيث حجم الدمار الذي تحدثه في الاشياء حال اشتعالها نجد الإنسان يبتعد عنها بنفس درجة الدمار الذي تحدثه.

في حين نفس هذه المعرفة تجعله يحنو الى النار ويقترب منها ويعشقها حينما يصيبه البرد في الشتاء، فنراه يلتصق بالموقد ويبذل جهده في ادامة اشتعالها، وهذا ايضاً مرتكز على المعرفة لكن المعرفة هنا عكسية.

بمعنى: كلما ازداد الانسان معرفة بآثار البرد وآلامه وما يسببه من تعطيل للحياة واصابة الامراض والآلام، كلما عظم اهتمامه بالنار، بلحاظ كونها المخلص له من البرد وآلامه واضراره.

وهكذا هي الاشياء التي تحيط بنا كلما عظمت معرفتنا بها كلما ازداد اهتمامنا وقربنا منها أو ازداد اهمالنا وابتعادنا عنها.

ص: 105

وهنا:

ينقلنا النص الشريف الى بيان معرفة الامام علي (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله) فهذا الاهتمام والقرب من القبر الشريف الذي يتعامل معه تعاملا خاصا يعكس شأنية رسول الله (صلى الله عليه وآله)( فكان على النحو الاتي:

1-ابتدأ أولاً من مرحلة الحضور عن القبر وضمن مستويات متعددة من حيث انه يكون ملازما له لبعض الوقت ثم انه زَوّاراً للقبر، أي كثير الزيارة، تم اوجبعلى نفسه الملازمة كما اوجب على نفسه صلاة الليل كما مرّ بيانه سابقا؛ وهذا ضمن مستويات الملازمة المرتكزة على المعرفة برسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- الإنتقال الى رتبة الاعتكاف والاقامة؛ وهنا انعطافة تشريعية جديدة، فمن الزيارة ومشروعيتها والحث عليها بهذا المستوى الذي بينه النص الشريف وقصدية المعاني في كونه زَوّاراً وملازماً ومراقباً لقلبه بين البقاء والأنصراف بدون ملل الى مرحلة تشريعية جديدة، وهي التلبث والاعتكاف عند القبر النبوي الشريف.

وهذا لعمري ليقدم صورة عقدية جديدة مرتكزة على معرفته بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرضت عليه هذا الاهتمام والقرب من القبر الشريف وصاحبه (صلى الله عليه وآله) والحبس والاقامة عنده.

3- إنّ هذه المعرفة بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرضت عليه أيضا إظهار الآثار العظيمة التي يحرزها المؤمن حينما يتأسى بإمامه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فيجعل من القبر الشريف ملجئً ومحلاً لنزول اللطف والفضل الإلهي، وهو ما نص عليه قوله تعالى:

ص: 106

1- ﴿وَلَوْ أَنَّهمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه سَيُؤْتِينَا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَی اللَّه رَاغِبُونَ﴾(1).

2- ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُن خَيْرا لَهمْ﴾(2).

4- إن أظهار هذه الشأنية للقبر الشريف، وجعله موضعاً للعبادة والقربة الى الله تعالى، وإنه أفضل من المساجد التي نصت عليها الشرعية وجعلتها موضعاً للاعتكاف والتقرب الى الله تعالى.وكيف يتقرب الى الله تعالى بالمساجد ويترك قبر الحبيب، كيف يتقرب الناس الى الملوك والوزراء والرؤساء؟، بالحراس والجند والخدام، أم من خلال الأحباب والخواص؟!

أو هل هناك أشرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الله مما خلق من ملك مقرب أو نبي مرسل؟!

أم أن هناك غيره حبيب للرحمن؟! فتعالى الله عمّا يصف الجاهلون المانعون لزيارته والباترون للصلاة على آله.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد كما صليت وسلمت وباركت على ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد.

ص: 107


1- سورة التوبة، الآية ( 59 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 74 ).

ص: 108

المبحث السابع والعشرون: مقاصدية الإعوال ومشروعيته

اشارة

ص: 109

قوله (عليه السلام): «ولأَعوْلَتْ إعِوْاَلَ الثَّكْلَى »

اشارة

ص: 110

في هذا الجزء من الخطاب الشريف تُسكب العبرات وتأن الروح أنين المفجوع بمولاه، فالمتكلم هو من عرفه التاريخ صلباً صلداً، وعرفته الانسانية رجلاً تركع لرجولته فحول الرجال، وتشير إليه الشجعان بالصولات والبطولات، وكفى به معرّفاً لنفسه فقد عرف علي بن ابي طالب نفسه كما عرف ربه، فقال عن نفسه معرفاً:«ينحدر عني السيل و لا يرقى إلي الطير ».

لكن هذا الجبل الذي ينحدر عنه السيل لولا وجود المستولين لرأيناه صارخاً يشق صياحه آذان الصم الصياخيد، ويتردد صدى صوته مصدعاً قلوباً أشد قسوة من الحجارة على جليل الرزية.

يا أيها العالم إنها الزهراء، فعليٌّ مفجوعاً بها وحسبك أن يكون عليا مفجوعاً ومعولا اعوال الثكلى تعريفا بفاطمة (عليها السلام).

ولذا:

لابد من المرور بأهل اللغة للوقوف على معنى الاعوال ودلالته لنقارب بذلك قصدية أمير المؤمنين (عليه السلام).

المسألة الاولى: الإعوال والثكل في اللغة

أولاً: الإعوال والعويل في اللغة

تناول اهل اللغة مفردة العول والعولة في كتبهم بمعنى رفع الصوت في البكاء والصياح، فكانت هذه اقوالهم.

ص: 111

1- قال الخليل الفراهيدي:

العولة من العويل: وهو البكاء.

أعولت المرأة أعوالاً: هو شدّة صياحها عند البكاء أو مكروه نزل به)(1)

2- قال ابن المنظور:

(و أعول الرجل وإمرأة وعولاً: رفعا صوتهما بالبكاء والصياح.

وقد تكون العولة: حرارة وجه الحزين والمحب من غير نداء ولا بكاء؛ قال مليح الهذلي:

فكيف تسلبنا ليْلى وتكندنا*** وقد تمنّح منك العولة الكُنُدُ

ويقال:

العويل يكون صوتاً من غير بكاء؛ ومنه قول أبي زبيد:

للصدر منه عويل فيه حشرجة.

أَي: زئير كأَنه يشتكي صدره.

وأعولت القوس صوتت)(2).

ثانياً: معنى الثكل في اللغة

وجاء معنى الثكل في اللغة بفقدان الحبيب، وفيه قال ابن منظور:

(الثُكل و الثَكل، بالتحريك: فقدان الحبيب، واكثر ما يستعمل في فقدان المرأة زوجها،

ص: 112


1- كتاب العين: ج 2 ص 248 .
2- لسان العرب: ج 11 ص 482 .

وفي المحكم: اكثر ما يستعمل في فقدان الرجل والمرآة ولدهما)(1).

وهو مأخوذ من قول الخليل الفراهيدي في كتاب العين:

وقد خصه: (بفقدان المرأة ولدها، فيقال:

ثكلته أمه، فهي به ثكلى.

واثكلت المرأة فهي مثكل، لازم لها الثكل، من غير ان يقال: اثكلت ولدها، واثكلها الله، فهي مثكلة بوالدها، والجميع: مثاكيل)(2).

وهذه المعاني ترشد الى بعض المقاصد التي اكتنزها هذا الجزء من اللفظ الشريف، فكانت كالآتي ضمن المسألة القادمة.

المسألة الثانية: المقاصدية في اعواله على فقد فاطمة (علیها السّلام)

القصدية الأولى: تشريع البكاء على مظلومية العترة النبوية

أشرنا فيما سلف: أنَّ كلام المعصوم (عليه السلام) بمقتضى حديث الثقلين يجري مجراه مع القرآن الكريم في كاشفيته لعناصر المستقبل وصلاح النص لكل زمان ومكان.

وكان الامام علي (عليه السلام) يخبر تضميناً لما سيأتي من بعده من المستولين على دين محمد (صلى الله عليه وآله) فيشرعون كما يحلو لهم فيحرمون ما أحل الله ويحللون ما حرم الله عز وجل.

ص: 113


1- لسان العرب: ج 11 ص 88 .
2- كتاب العين: ج 5 ص 349 .

ومنه مشروعية البكاء والجزع على الميت والمصائب التي نزلت بالعترة النبوية بشكل خاص والبكاء على الميت بشكل عام، كما هو مدون في كتب المذاهب وآرائهم الفقهية.

فقد ذهب الشافعي الى (جواز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة)(1). إلّا أنه ذهب الى كراهته بعد الموت(2)؛ ونهى عنه مالك(3)، وكذلك قال بجوازه، أي

البكاء على الميت إمام المذهب الحنبلي، وعدم جواز النياحة والندب وشق الثياب ولطم الخدود(4).

وقد اجمع علماء المسلمين من أبناء العامة على عدم جواز النياحة واللطم وشق الجيب على الميت؛ بخلاف فقهاء الإمامية في جواز النياحة واللطم والندب على مصائب العترة النبوية (صلوات الله وسلامه عليهم) وبالأخص سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام).

فقد قال الشيخ الجواهري (رحمه الله) (ت 1266 ه):(ثم إنه لا ريب في جواز البكاء على الميت نصا وفتوى للأصل، والأخبار التي

لا تقصر عن التواتر معنى من بكاء النبي (صلى الله عليه وآله) على حمزة وإبراهيم وغيرهما وفاطمة (عليها السلام) على أبيها وأختها وعلي بن الحسين (عليهما السلام) على أبيه حتى عد هو وفاطمة (عليهما السلام) من البكائين الأربعة، إلى غير ذلك مما لا حاجة لنا بذكره، بل ربما يظهر من بعض الأخبار استحبابه عند اشتداد الوجد،

ص: 114


1- المجموع للنووي: ج 5 ص 307 .
2- المغني لأبن قدامة: ج 2 ص 429 .
3- الموطأ: ج 1 ص 233 .
4- الشرح الكبير لأبن قدامة: ج 2 ص 429 .

وقول الصادق (عليه السلام) في حسن معاوية بن وهب المروي عن أمالي الحسن بن محمد الطوسي كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام) محمول على ضرب من التأويل، وأما ما روي من أن الميت يعذب ببكاء أهله فمع الطعن فيها بالعامية كما عن عائشة أولا، وبوهم الراوي واشتباهه ثانيا، وقصورها عن معارضة غيرها من وجوه عديدة ثالثا، ومنافاتها للعقل والنقل على أن لا تزر وازرة وزر أخرى رابعا، إلى غير ذلك - فقد أجاد في الذكرى في الكلام عليها -، فلاحظ، وكذا بعض الأخبار الدالة بظاهرها على النهي عن البكاء فلتحمل على المشتمل على علو الصوت والشق واللطم أو المتضمن للجزع وعدم الرضا بقضاء الله تعالى أو غير ذلك، كما في الأخبار إشارة إليه حيث اعترض على

النبي (صلى الله عليه وآله) في بكائه على إبراهيم بأنك قد نهيت عن البكاء. فتأمل جيدا. ولعله من جواز البكاء يستفاد جواز النوح عليه أيضا لملازمته له غالبا،مضافا إلى الأخبار المستفيضة حد الاستفاضة المعمول بها في المشهور بين أصحابنا، بل في المنتهى الاجماع على جوازه إذا كان بحق، كالأجماع على حرمته إذا كان بباطل، وروي أن فاطمة (عليها السلام) ناحت على أبيها، فقالت: يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه، يا أبتاه أجاب ربا دعاه كما روي عن علي (عليه السلام) أنه أخذت قبضة من تراب قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فوضعتها على عينها ثم

قالت:

ماذا على من شم تربة أحمد*** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبتّ عليَّ مصائب لو أنها*** صبتّ على الأيام صرن لياليا

ص: 115

وروي أن أم سلمة ندبت ابن عمها المغيرة بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن استأذنت منه للمضي إلى أهله، لأنهم أقاموا مناحة وقالت:

أنعى الوليد بن الوليد*** أبا الوليد فتى العشيرة

حامي الحقيقة ماجدا*** يسمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثا في السنين*** وجعفرا غدقا وميرة

فلم ينكر عليها وعن الصادق (عليه السلام) في الصحيح أنه قال أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى وقد يستفاد منه استحباب ذلك إذا كان المندوب ذا صفات تستحق النشر ليقتدى بها. وعن النبي (صلى الله عليه وآله) لما انصرف من وقعة أحد إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحا، ولم يسمع من دار عمه حمزة، فقال (صلى الله عليه وآله): لكن حمزة لا بواكي له فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولا يبكوه حتى يبدأوا بحمزة وينوحوا عليه ويبكوا، فهم إلى اليوم على ذلك إلى غير ذلك من الأخبار

الكثيرة الصريحة في المطلوب، وهي وإن كانت هناك أخبار في مقابلها تدل على خلافها، بل الشيخ وابن حمزة في المحكي عنه عملا بمضمونها من عدم الجواز، مدعيا الأول منهما الاجماع، لكنها مع ضعفها وعدم صراحتها محتملة للتقية، وللنوح بالباطل المشتمل على لطم الوجه والضرب وقول الهجر ونحو ذلك، كما يفهم من بعضها، ويقتضيه قواعد الاطلاق والتقييد، بل يحتمل تنزيل كلامهما عليه أيضا، ويرشد إليه دعوى الاجماع منه، لما عرفت من أن ما نحن فيه مظنة الاجماع لا العكس وبذلك يظهر أنه لا بأس بأجر النائحة نوحا محللا كما دلت عليه بعض الأخبار وتقتضيه الأصول والقواعد، ويأتي الكلام فيه في المكاسب إن شاء الله، لكن

يكره النوح بالليل لخبر خديجة بنت علي بن الحسين بن علي أمير المؤمنين (عليهم

ص: 116

السلام) قالت: سمعت محمد بن علي (عليهما السلام) يقول إنما تحتاج المرأة في المأتم إلى النوح لتسيل دمعتها، ولا ينبغي لها أن تقول هجرا، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة نعم لا يجوز اللطم والخدش وجز الشعر إجماعا حكاه في المبسوط، ولما فيه من السخط لقضاء الله تعالى، وخبر خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام) لا شيء في لطم الخدود سوى الاستغفار والتوبة بل في الأخيرين الكفارة كما يأتي في محله إن شاء الله.

(ولا شق الثوب على غير الأب والأخ) كما في الوسيلة والمنتهى والإرشاد، ونسبه في المبسوط إلى الرواية، وفي ظاهر المدارك نسبته إلى الأصحاب، وقضية هذا الاطلاق عدم الفرق فيه بين الرجل والمرأة، لكنه قد يشعر اقتصار العلامة في القواعد على

الأول كما عن الشيخين بجوازه للمرأة، بل على جميع الأقارب، وعنه في النهاية التصريح به، ومال إليه في المدارك وكذا الذكرى، كما عن المحقق الثاني في فوائدالكتاب اختياره. وكيف كان فلا أعرف خلافا معتدا به في حرمته بالنسبة للرجل في غير الأب والأخ، بل في المحكي عن مجمع البرهان دعوى الاجماع عليه كظاهر غيره، سوى ما يحكي عن كفارات الجامع لا بأس بشق الانسان ثوبة لموت أخيه ووالديه وقريبه، والمرأة لموت زوجها لكنه ضعيف محجوج بما عرفت من الاجماع المحكي صريحا وظاهرا الذي قد يشهد له التتبع المؤيد بكونه إتلافا للمال وتضييعا له ومنافيا للصبر والرضا بقضاء الله تعالى وبالمرسلة المروية في المبسوط المنجبرة به وبغيره مما ستسمعه إن شاء الله في المرأة، وبالمعلوم من وصايا النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) عند الموت ونهيهم عن الشق عليهم والخمش. فلا

وجه حينئذ للتمسك بالأصل بعد انقطاعه بما عرفت، كخبر خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام) بعد أن سأله عن رجل شق ثوبة على أبيه أو على أمه أو على أخيه أو على قريب له لا بأس بشق الجيوب قد شق موسى على أخيه هارون ولا

ص: 117

يشق الوالد على والده ولا زوج على امرأته وتشق المرأة على زوجها وإذا شق زوج على امرأته أو والد على ولده فكفارته حنث يمين ولا صلاة لهما حتى يكفر أو يتوبا من ذلك، إلى أن قال بعد ذكر الكفارة على الجز والخدش: ولا شيء في اللطم على

الخدود سوى الاستغفار والتوبة، ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليهما السلام)، و على مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب إذ هو وإن أطلق فيه نفي البأس أولاً، لكن المراد منه بقرينة ما بعده -مع الطعن في سنده ولا جابر- أنه لا بأس به في الجملة، فلذا كان الاستدلال به عليه من حيث تضمنه النهي عن شق الوالد على الولد متمما بعدم القول بالفصل أولى من العكس. وكذاما عساه يستدل له به أيضا من خبر الحسن الصيقل لا ينبغي الصياح على الميت، ولا شق الثياب من حيث ظهور لا ينبغي في الكراهة لوجوب إرادة الحرمة منه هنا بقرينة ما عرفت إن لم نقل بظهورها فيها بنفسها، بل قيل إنها شائعة في الأخبار بذلك، مضافا إلى ما في الحدائق من أن الظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب حرمة الصراخ، وإنما الجائز النوح بالصوت المعتدل، فيجب حينئذ إرادة الحرمة منها بالنسبة إليه، فيتبعه الشق، وإلا لزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو المشترك في معنييه أو غيرهما، مما هو موقوف على القرينة وليست. قلت: ومع ذلك فالموجود فيما حضرني من نسخة الوسائل ولا تشق الثياب فيكون حينئذ نهيا مستقلا، كما أن الموجود فيها بالنظر إلى السند عن امرأة الحسن الصيقل، إلا أن المعروف في كتب الفروع عن الحسن الصيقل، وفي الذكرى الصفار بدل الصيقل، والأمر سهل.

ومن استدلال الصادق (عليه السلام) بشق موسى على أخيه هارون (على نبينا -وآله-وعليهما السلام) ومرسلة المبسوط المتقدمة المنجبرة بفتوى الأصحاب عدا النادر، بل نسبه غير واحد إليهم بدون استثناء يستفاد حكم المستثنى أي جواز الشق

على الأب والأخ، مضافا إلى ما حكى في الفقيه وغيره مرسلا من شق العسكري

ص: 118

(عليه السلام) قميصه من خلف وقدام عند موت أبيه (عليه السلام) وعن كشف الغمة نقلا من كتاب الدلائل لعبد الله بن جعفر الحميري عن أبي هاشم الجعفري قال: خرج أبو محمد (عليه السلام) في جنازة أبي الحسن (عليه السلام) وقميصه مشقوق، فكتب إليه ابن عون من رأيت أو بلغك من الأئمة (عليهم السلام) شق قميصه في مثل هذا؟ فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام) يا أحمق وما يدريكما هذا، قد شق موسى على هارون ونحوه المحكي عن الكشي في كتاب الرجال مسندا، فما عن ابن إدريس من القول بالحرمة فيهما ضعيف، بل لا يبعد القول حينئذ بالاستحباب للتأسي. كما أنه من ذلك وما تقدم بل أولى منه يستفاد جوازه للمرأة أيضا فيهما، مع أنه لا خلاف فيه إلا منه أيضا، وهو ضعيف كسابقه، لما عرفت مما

تقدم، مضافا إلى ما في خبر خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام) ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليهما السلام)، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب إذ من المعلوم فيهن بناته وأخواته. وأما شقها

في غيرهما فالأحواط والأولى تركه إن لم يكن أقوى، لأصالة الاشتراك في الحكم، ولمرسلة المبسوط السابقة المنجبرة بإطلاق فتوى كثير من الأصحاب، وبمنافاته للصبر والرضا بقضاء الله، وبأنه تضييع، وبخبر الصفار بناء على ما وجدناه، وبما رواه في البحار عن دعائم الاسلام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه أوصى

عندما احتضر، فقال: لا يلطمن علي خد ولا يشقن علي جيب، فما من امرأة تشق جيبها إلا صدع لها في جهنم صدع، كل ما زادت زيدت وبما رواه في البحار أيضا عن مسكن الفؤاد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب وعن أبي أمامة أن رسول الله (صلى الله عليه

وآله) لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور وبما رواه فيه أيضا عن مشكاة الأنوار نقلا عن كتاب المحاسن عن الصادق (عليه السلام)

ص: 119

في قول الله عز وجل ولا يعصينك في معروف المعروف أن لا يشققن جيبا. ولا يلطمن وجها، ولا يدعون ويلا الحديث. كل ذا مع أنه لا دليل على الجواز سوى الأصل الذي لا يصلح للمعارضة، ورواية الصفار لا ينبغي وقد تقدم الكلام فيه، وما يحكى من فعل الفاطميات كما في ذيل خبر خالد بن سدير عن الصادق (عليه

السلام) بل ربما قيل إنه متواتر، وهو موقوف على فعل ذلك من غير ذات الأب والأخ وعلى علم علي بن الحسين (عليه السلام) وتقريره المفيد رضاه به، دونه خرط القتاد، على أنه قد يستثنى من ذلك الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) أو خصوص سيدي ومولاي الحسين بن علي (عليهما السلام) كما يشعر به الخبر المتقدم، وكذا

غيره من الأخبار التي منها حسن معاوية السابق عن الصادق (عليه السلام) كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام) المراد به فعل ما يقع من الجازع من لطم الوجه والصدر والصراخ ونحوها، ولو بقرينة ما رواه جابر عن الباقر (عليه السلام) أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز العشر إلى آخره مضافا إلى السيرة في اللطم والعويل ونحوهما

مما هو حرام في غيره قطعا، فتأمل. ما في خبر خالد المتقدم من جواز شق المرأة على زوجها، ولا قائل بالفصل، وهو -مع ضعفه ولا جابر له واستبعاد تحقق الاجماع المركب في المقام- قاصر عن معارضة ما سمعت، فتأمل جيدا)(1).

اذن:

يتضح من قوله (عليه الصلاة والسلام):

«ولأعولت اعوال الثكلى على جليل الرزية .»

إن الأصل في البكاء والعويل، أي: رفع الصوت والصياح كما نص عليه أهل

ص: 120


1- جواهر الكلام: ج 4 ص 364 - 371 .

اللغة جائز ومن فعل الأوصياء (عليهم السلام) وإن الروايات التي تعارض هذاالأصل كما فعل عمر بن الخطاب في نهيه النساء من البكاء على الميت او ما كان يدعيه ابنه ورد عائشة عليه واحتجاجها بقوله تعالى:

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.

فكيف يعذب الميت ببكاء اهله عليه وهو لم يفعل ذلك؛ كله مخالف للأصل لاسيما فيما يتعلق بالمصائب التي نزلت بالعترة النبوية اذ يعد البكاء والعويل كأعوال الثكلى من المستحبات المؤكدة للمؤمن إلاّ أن إمتناع أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) عنها كان لعلة غلبة المستولين عليه وقد مرّ بيانه سابقاً.

القصدية الثانية: حرارة وجده على مظلومية الزهراء البتول وكاشفية حبه لها

يكشف النص الشريف عن انقى المشاعر النفسية والعلاقة الروحية التي تنشأ بين الزوجين وذلك ان كثير من المشاعر التي تشهدها صفحات التاريخ والحياة بين الزوجين لا يمكن الوقوف على نقائها و خلوصها من الانا النفسية، فكل واحد من الرجال أو النساء وان حرص على صفاء مشاعره اتجاه الاخر دون ان تكون للانا

مدخلية في ذلك متعسر حدوثه؛ ما خلا العلاقة بين علي وفاطمة (عليهما السلام).

وذلك إن كلاهما قد اصطفاه الله تعالى لأداء مهمة الحفاظ على شريعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) وهي حالة خاصة تتجلى في كثير من الصور القرآنية التي تحدث عن انماط العلاقة الانسانية المتعددة كالوالدية والاخوية، وقد بينت هذه الصور نقاء هذه العلاقات وخلوها من الأنا النفسية على الرغم من صعوبة كاشفية

الأنا في كثير منها لاسيما في الوالدية، كما في حال نبي الله عيسى وأمه مريم (عليهما السلام)، أو حال يوسف ويعقوب (عليهما السلام)، أو حال إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، فقد أنتزعت الأنا النفسية من تلك المشاهد، وذلك لأن أصحابها

قد تم اصطفائهم للرسالة الالهية.

ص: 121

وهنا: في العلاقة الزوجية بين علي وفاطمة (عليها السلام) كانت الكاشفية النفسية المتجردة من الأنا صورة منفردة في تاريخ البشرية وذلك لما يحيط بكلا الزوجين من عناصر الاصطفاء والاجتباء.

وعليه:

فإن الإعوال والعولة عند اهل اللغة بالمعنى الذي رَكَزَ في نفوس الناس وهو حرارة وجد الحزين والمحب من غير نداء ولا بكاء، كان مما تجلى في مقاصدية النص الشريف وأعاض عن ألآلف من الكلمات نضماً ونثراً في حبه لفاطمة (صلوات الله عليها).

لاسيما وان جمالية النص قد سارت في رسم هذه العاطفة والحب مع المستمع في تدرج يجلله الحياء والحشمة فأضفى على هذه المشاعر عذوبة ورونقا يأسر النفس، ويعلم الزوجين كيف تكون حقيقة المشاعر الزوجية و النفسية.

فمن جمالية قوله:

«قل صبري .»

ورقتة:

«ضعف تجلدي .»

وحرارة مشاعره:

«استرجعت الوديعة .»

وحزنه ووجده:

«اخذت الرهينة »

ص: 122

وحسن جمالها في نفسه في:

«اختلست الزهراء »

وحرارة الشوق والحنين اليها في قوله:

«لا يبرح الحزن من قلبي »

الى التصريح عن المستور في وشاح الاعوال عن حبه للزهراء البتول (صلوات الله وسلامه عليهما) كانت المشاعر النفسية والعلاقة الروحية تسير جنبا الى جنب مع الصفاء والنقاء والعفة كانت حجر الماسة يأسر النفوس ويوظف الابصار.

القصدية الثالثة: حشرجة الصدر في فقدان الحق ووقوع الظلم

إن ما يفهمه الناطقون بالعربية ودلالتها يدركون أن أميرها وسيد بلغائها والمتبحر في فنونها ومعانيها قد حشد في المفردة الواحدة ما يحير به عقولهم ويلزم نفوسهم، وهم الذين اقروا بأن الاعوال من مقاصده زئير وحشرجة ومنه قول ابي زبيد الطائي في صفة الاسد:

للصدر منه عويل فيه حشرجة*** كأنما هو من احشاء مصدور(1)

وهذه الحشرجة في صدر علي (عليه السلام) كانت خير كاشف عن بيان مقصده في بيان حجم الظلم الذي نزل بالزهراء (عليها السلام) وضياع حق الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والتجري عليهما وهو ما اتبعه بقوله: «على جليل الرزية .»

ص: 123


1- البيان والتبيين للجاحظ: ص 189 .

وهو ممازجة بين العويل بقصدية (الحشرجة) وهو زئير الصدر من الحزن على فقدان حق عظيم وبين الاعوال خسارة كبرى وتجرٍ على الله تعالى.

فكانت هذه الثلاثة منظوية تحت:

«جليل الرزية » فما هي هذه الرزية وما تأثيرها في الاسلام واهله؟

جوابه في المبحث القادم وما يليه.

ص: 124

المبحث الثامن والعشرون: رزئية المصاب وجلالة المنزلة ومقاصدية كونه بعين الله

اشارة

ص: 125

قوله (عليه السلام): « ولأَعوْلَتْ إعِوْاَلَ الثَّكْلَى علَى جلَيِلِ الرَّزِيَّة ، فَبِعيَنْ اللَّه تُدفْن ... »

اشارة

ص: 126

ينقلنا النص الشريف الى قصدية جديدة من مقاصده المتعددة والتي سبقتها مقدمات اربعة كانت بمثابة السلم للارتقاء الى بيان شأنية جديدة من شؤون البضعة النبوية (صلوات الله وسلامه عليها).

فمن التأوه، الى المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الى التلبث والاعتكاف فيه، وصولا الى الاعوال كانت درجات اربعة تمهد الى مسألة محورية في قضية فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي رزئية المصاب الذي نزل بها وارتكازه على ما لديها من جلالة المنزلة عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

فكان ما نزل بها من:(الدفن سراً، والهضم قهراً، والمنع جهراً) انه بعين الله تعالى.

فلم يكن ما جرى على فاطمة من المصائب العظيمة إلا لكونه بعين الله تعالى مما كشف رتبتها ومنزلتها عند الله تعالى.

فما دلالة قصدية انه بعين الله عز وجل؟

المسألة الاولى: قصدية النسبة الى عين الله في القرآن الكريم

يعرض لنا القرآن الكريم جملة من الايات المباركة التي تظهر مقاصدية كون العملأ الشيء أنه بعين الله تعالى:

1- فمن البيان المتعلق بالعمل قال تعالى مخاطباً نبيه نوح (عليه السلام):

ص: 127

﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخاطِبْنِي فِی الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهمْ مُغْرَقُونَ﴾(1)،

وقد جاء في تفسيرها:

(واصنع السفينة بمراقبتنا وتعليمنا اياك)(2).

وقيل:

(والأعين، جمع قلة للعين، وانما جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدتها، فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع؛ وذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي، أعني قوله:

﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ حتى يكون وحيا للحكم، بل وحي في مقام العمل وهو تسديد وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير اليه، أن أفعل كذا وأفعل كذا، كما ذكره تعالى في الائمة من آل ابراهيم (عليه السلام) بقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الَخيْراتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾(3).

2-وفي خصوص السفينة قال سبحانه ﴿تَجرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمنْ كَانَ كُفِرَ﴾(4).

3-ومن البيان المتعلق بنبيه موسى الكليم (عليه السلام) قال سبحانه:

﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِی التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِی الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِی وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَی عَيْنِي﴾(5).

ص: 128


1- سورة هود، الآية ( 37 ).
2- تفسير الميزان: ج 10 ص 223 .
3- سورة الانبياء، الآية ( 73 ).
4- سورة القمر، الآية ( 14 ).
5- سورة طه، الآية ( 39 ).

وقد جاء في تفسير قوله عز وجل ﴿وَلتِصُنعَ عَلَی عَينْيِ﴾ عن الشيخ الطوسي، قال قتادة: معناه لتغذى على محبتي وإرادتي، وتقديره وأنا أراك، يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك، كما يقول القائل لغيره:

أنت مني بمرأىً ومستمع، أي أنا مراع لأحوالك)(1).

وقال السيد الطبطبائي في تفسيره:

(اللام في قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَی عَيْنِي﴾ للغرض والجملة معطوفة على مقدر، والتقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا وكذا، وليحسن إليك على عيني، أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك ولا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك وشفقتي عليك، وربما قيل: إنّ المراد بقوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَی عَيْنيِ﴾ الاحسان إليه بإرجاعه

إلى أمه وجعل تربيته في حجرها، وكيف كان فهذا اللسان وهو لسان كمال العناية والشفقة يناسب سياق التكلم وحده، ولذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير)(2)

4- وهناك مورد آخر، ذكره القرآن الكريم وهو مختص بالحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: ﴿وَاصْبِر لِحكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾(3).

وقد أجمع المفسرون في معنى قوله تعالى ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾:

إنَّك في حفظنا وحراستنا نحفظك ونكلأك فلا يصلوا إليك بمكروه.

ص: 129


1- التبيان في تفسير القرآن: ج 7 ص 173 .
2- تفسير الميزان: ج 14 ص 151 .
3- سورة الطور، الآية ( 48 ).

وفي ذلك يقول السيد الطبطبائي:

(أنك بمرأى منا، نراك بحيث لا يخفى علينا شيء من حالك، ولا نغفل عنك ففي تعليل الصبر بهذه الجملة تأكيد للأمر بالصبر وتشديد للخطاب.

وقيل: المراد بقوله: ﴿فَإنِّكَ بأِعْيُننِا﴾ أنك في حفظنا وحراستنا، فالعين مجاز عن الحفظ، ولعل المعنى المتقدم أنسب للسياق)(1).

أقول:

إن المعنى المتقدم الذي اورده السيد الطبطبائي (رحمه الله) (في تعليل الصبر بهذه الجملة تأكيد للأمر بالصبر وتشديد الخطاب) غير مناسب للسياق الذي جاءت به الآية، فهي في بيان مقام المصطفى عند الله تعالى وتطيبا لنفسه المقدسة لما يراه من

الاذى من قومه فخاطبه عز وجل و امره الصبر فإنه بعين الله.

فكيف يكون الانسب كما ذهب السيد الطبطبائي هو (التشديد في الخطاب) إلاّ أن يراد به التشديد بالمتابعة والرعاية له (صلى الله عليه وآله) وهو كاشف عن كون الحبيب.

وعليه:

يظهر من خلال الآيات المباركة إن المقاصدية في ايراد لفظ (بأعيننا) أنها لبيان العناية الالهية في موارد الأبتلاءات الشديدة كما ذكر القرآن في هذه المواضع، وهي:

1-صناعة السفينة الذي رافقها صعوبة صناعتها من الناحية الهندسية والفنية مع قلة الوسائل والامكانات آنذاك الى المستوى الذي يلزم ان تكون هذه السفينة مناسبة لأمرين:

ص: 130


1- تفسير الميزان: ج 19 ص 24 .

الأمر الأول: حجمها الذي يلزم أن يستوعب الرجال والنساء والاطفال الذين آمنوا بنوح (عليه السلام) مع ما أمر به من حمل زوجين من الحيوانات والنباتات والطيور والحشرات وغيرها مما يعلمه الله تعالى وذلك لضمان الحياة واعادة دورتها من جديد وهذا كله ضمن هذه السفينة ولذا قال سبحانه ﴿بوحينا﴾.

الأمر الاخر: قوة هذه السفينة ودقة صناعتها وهندستها بحيث تستطيع ان تواجه الامواج والمياه المتدفقة من الارض والسماء.

2-إنّ حجم البلاء وشدته الذي ستتعرض له السفينة وهي تحمل هذه الحمولة ضمن هذه المياه التي وصفها القرآن بقوله عز وجل:

﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّه مَجرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّی لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجرِي بِهمْ فِی مَوْجٍ كَالِجبَالِ﴾.

فهذه الامواج التي تضرب بالسفينة كانت كالجبال، ومن ثم فإن حجم البلاء وشدته أحتاج أن تكون السفينة بعين الله تعالى.

3- في قضية موسى الكليم (عليه السلام) كان البلاء بلاءً خاصاً وشديداً، وذلك أنه طفل رضيع في تابوت في قلب البحر، ليصل بإذن الله تعالى وعنايته وتقديره الىعدو الله، وعدو موسى، ومن ثم هو في قلب الموت والطغيان، فمن موت البحر وطغيانه، الى موت فرعون وطغيانه، ولشدة البلاء الذي يحيط به لزم أن يكون

موسى في نموه وحياته أنه بعين الله تعالى.

4-أما إذا جئنا الى حبيب الرحمن (صلى الله عليه وآله) فإن البلاء الذي كان يحيط به وشدّة ابتلائه بقومه وما كان يلقاه منهم حتى قال:

«ما أوذي نبي بمثل ما اوذيت »(1).

ص: 131


1- تفسير الرازي: ج 41 ص 175 ؛ تاريخ الاسلام للذهبي: ج 41 ص 333 .

ليقتضي أن يواسيه الله تعالى ويطيّب نفسه ويذكره بالصبر ويقر عينه مظهراً حجم شأنيته عنده عز وجل، وقرب منزلته لديه، فخاطبه بعد أن أمره بالصبر قائلاً له:

﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.

ومن ثم: يصبح ايراد لفظ بعين الله كاشفاً عن القصدية في حجم البلاء الذي ينزل بصاحبه ويكفي من ذلك من الشواهد بعد القرآن الكريم ما جاء عن سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) لما نحروا ولده الرضيع وهو في حجره انه قال: «هوّن عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله »(1).

من هنا:

فإن قصدية منتج النص في قوله (صلوات الله وسلامه عليه):

«فبعين الله تدفن ابنتك سراً وتهضم حقها قهراً ويمنع ارثها جهراً » هو حجم البلاء الذي نزل بها، وأنه بعين الله كما كان حجم البلاء عظيما في الموارد التي ذكرها القرآن الكريم.

المسألة الثانية: القصدية في رزية المصاب وبيان المنزلة

إنَّ الرجوع الى القرآن الكريم وسيرة الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) تكشف عن الملازمة فيما بين منزلة صاحب البلاء الايمانية وبين حجم البلاء.

وقد وردت احاديث كثيرة عن العترة النبوية في بيان هذه الملازمة بين الايمان والبلاء وإنّما تبعاّ لبعض، فإذا ازداد ايمان المرء زاد بلائه مما يكشف هنا عن قصدية منتج النص (عليه الصلاة والسلام) في قوله:

«على جليل الرزية، فبعين الله تدف أبنتك سراً.... »

ص: 132


1- اللهوف للسيد ابن طاووس: ص 69 .

هو إظهاره أمام كل مؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وبما جاء عنهما، أنَّ فاطمة (عليها السلام) قد بلغت في المستوى الإيماني ما جعل حجم بلائها مساويا لهذا الايمان، ولهذه العلة كان الابتلاء، لتجزى خير جزاء من الله تعالى، ويجزي الله أعدائها ما يستحقون من العقاب والخزي يوم القيامة.

ولعل ايرادنا لجملة من الروايات الشريفة الكاشفة عن هذه الملازمة هو من قبيل النافلة وحصول الاجر واتماما للمنفعة، وهو كالاتي:

1- روى الشيخ الكليني عن ابي جعفر الباقر (علیه السّلام)، انه قال:

«أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل »(1).

2- روى ايضاً عن البجلي قال:

(ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء وما يخص الله تعالى به المؤمن، فقال: سُئِل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟، فقال:

«النبيون ثم الأمثل فالأمثال، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله أشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه »(2).

3- عن سماعة عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال:«إن في كتاب علي (عليه السلام):

إن أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله أشتد بلاؤه، وذلك إن الله تعالى لم

ص: 133


1- الكافي: ج 2 ص 253 .
2- الكافي: ج 2 ص 252 .

يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه، إن البلاء أسرع الى المؤمن التقي من المطر الى قرار الارض »(1).

4- عن محمد بن بهلول بن مسلم العبدي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

«إنّما المؤمن بمنزلة كفتي الميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه »(2)

5-عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«إنّ الله تعالى إذا احب عبداً غته بالبلاء غتً، وثجه بالبلاء ثجا فإذا دعاء، قال لبيك عبدي لأن عجعلت لك ما سألت أني على ذلك لقادر ولأن ادخرت لك فما ادخرت لك خير لك »(3)

وعليه: فهذه المصائب العظيمة كانت بعين الله تعالى وتسليما لأمره ورضى بقضائه فيما أختار لسيدة نساء العالمين وأم الائمة المعصومين فكانت تلك المواضع الثلاثة التي حددها أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله:

«تدفن ابنتك سرًا وتهضم حقها قهراً، ويمنع أرثها جهراً .»

ومن ثم ما هي القصدية في اختياره لهذه الثلاثة دون غيرها مما جرى عليها؟،

وجوابه في المبحث القادم.

ص: 134


1- علل الشرائع للصدوق: ج 1 ص 44 .
2- تحف العقول للحراني: ص 408 .
3- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 3 ص 264 .

المبحث التاسع والعشرون : المقاصدية في دفنها (علیها السّلام)سراً

اشارة

ص: 135

قوله (عليه السلام): «تُدفْن ابنْتَك سرِاًّ »

اشارة

ص: 136

إن أول المصائب التي أوردها أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي صنفها بعظيم الرزية هي دفن فاطمة (عليها السلام) سراً، ومن ثم فإن هناك أمور أراد بيانها (عليه السلام) من إيراده لهذه المصيبة العظيمة والظلامة الجليلة التي نزلت ببضعة الهادي الأمين (صلى الله عليه وآله).

المسألة الاولى: قصدية أظهار مكنون وصية فاطمة (علیها السّلام) في تعرية وجوه المستولين وقطع الاعتذار عن الظالمين

اشارة

يشكل أمر دفن سيدة نساء الامة وسيدة نساء العالمين وقلب سيد الانبياء والمرسلين -وهي مع ما ذكرنا- مورداً من موارد اعلان حقيقة الصحابة الذين اقبلوا على بيت النبوة حرقا وضربا وتقتيلا، فهذه المأسآة التي لزم عنها اغلب المؤرخون وأرباب السير الصمت وأعتذر عنها كثير من الرموز الإسلامية كانت ما تزال نافذة الى ذهن

كل باحث أو قارئ للتاريخ الإسلامي، وترشق الفكر بالعديد من الأسئلة:

1- ترى اين قبر أبنة نبي الاسلام، وأم الحسن والحسين، وزوج علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟!

2- ولماذا تدفن ابنة رسول النبي سراً؟!

3- أترى أن هناك من يريد أن يعتدي على قبرها حتى بعد موتها؟.

4- أيعقل أن يصل حال بعض الصحابة الى هذا المستوى من الحقد كي يقدمواعلى نبش قبر ابنة نبيهم مثلا فأخفى علي بن ابي طالب قبرها؟!

ص: 137

5- أيعلّم قبر النبي (صلى الله عليه وآله) بعلامة ويعفى قبر بنته (صلوات الله وسلامه عليها)؟!

وعليه:

هناك العديد من المقاصد ارادها منتج النص )عليه السلام( في قوله:

«تدفن ابنتك سراً .»

وهي كالاتي:

أولاً: إلتزاماً بوصيتها وتحريكاً لذهن متلقي النص في أرجاعه لهذه الوصية
اشارة

يُظهر النص الشريف أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد بذلك تحريك ذهن السامع في أمرين:

1-هل تصرّف (عليه السلام) من وحي نفسه فدفن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرّاً، ومن ثم سيندفع السامع أو الباحث الى معرفة الأسباب التي دفعته الى هذا الفعل ومن ثم الوصول الى النتيجة التي أراد الإمام علي (عليه السلام) أن يعرّفها للسامع.

2- إنه تصرّف إلتزاما بوصية فاطمة (عليها السلام) فقد أوصته أن يدفنها سراً ولا يُعلم أحداً من الناس بموضع قبرها.

ومن ثم تكون النتيجة طبيعية في تحريك ذهن السامع وعواطفه ومشاعره سائلا: لماذا أوصت فاطمة بذلك؟

ص: 138

وعليه:

سيندفع متلقي النص الشريف الى معرفة أمرين مهمين:

الأول: قراءة وصية فاطمة في كتب المسلمين.

الثاني: صعقه بما سيقرئ في هذه الوصية، ومن ثم إعادة ترتيب أفكاره وحياته ومعطياته الفكرية وتصحيح مساره في الحياة الدنيا ليأمن على نفسه يوم يقف بين يدي الله تعالى، وقد وضع الصراط، ونصبت الموازين، وسعرّت النار، وزّينت الجنة للمتقين.

وعليه:

فما هي وصية فاطمة (عليها السلام)؟

لم يتسنَّ لبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدوام والبقاء بعد وفاة ابيها (صلى الله عليه وآله) طويلا وذلك لما جرى عليها من المصائب والظلم والرزايا التي وصفتها بقولها (عليها السلام):

صبتّ علي مصائب لو أنها*** صبتّ على الأيام صرن لياليا(1)

وقد وصف حالها الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام فقال:

«إنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) أسر إلى فاطمة عليها السلام أنها أول من

ص: 139


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 20 ؛ مسكن الفؤاد للشهيد الثاني: ص 103 ؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 181 ؛ تفسير الآلوسي: ج 19 ، ص 149 ؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 134 ؛ الاكتفاء للكلاعي: ص 62 .

يلحق به من أهل بيته فلما قبض صلى الله عليه-وآله-ونالها من القوم ما نالها لزمت الفراش ونحل جسمها وذاب لحمها وصارت كالخيال»(1).

وروي أنها ما زالت بعد أبيها مُعصبّة الرأس ناحلة الجسم مُنهدّة الركن باكية العين محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد ساعة وتقول لولديها:

«أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة، أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبدا ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما .»

ثم مرضت ومكثت اربعين ليلة وقيل خمس وسبعين وهو الاشهر؛ ثم دعت ام ايمن مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واسماء بنت عميس، وعلياً (عليه السلام) و اوصت الى الامام علي (عليه السلام).

وتنقسم وصيتها الى عدة محاور نكتفي بإيراد ما تعلق بوصيتها في نفسها وفي دفنها أما بقية وصيتها نترك ذكره خوفاً من الاطالة(2).

ألف - وصيتها بنفسها الى علي (علیها السّلام)

إن اول ما اوصت به فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) الإمام علي (عليه السلام) هي وصيتها بنفسها، وذلك بعد ان مرضت مرضاً شديداً، فلما نُعيت اليها نفسها اوصت عليها فقالت:

«يابن العم إنه قد نعيت إلي نفسي وإنني لا أرى ما بي، إلاّ أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي .»

ص: 140


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 361 .
2- للإطلاع على محاور وصيتها. ينظر: كتاب هذه فاطمة (عليها السلام) للمؤلف: ج( 7) ص( 313 - 320 ).

قال لها علي (عليه السلام):

«أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) .»

فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت:«يابن العم ما عهدتني كاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني .»

فقال (عليه السلام):

«معاذ الله، أنت أعلم بالله، وأبرُ واتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله، أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ علي مفارقتك وفقدك إلاّ أنه أمر لابد منه، والله جددت عليّ مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد عظمت وفاتك وفقدك .»

ف ﴿إِنَّا لَّله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (1).

«من مصيبة ما أفجعها، وآلمها، وأمضاها، وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء لها، ورزية لا خلف لها .»

ثم بكيا جميعاً ساعة وأخذ علي رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال:

«أوصيني بما شئت، فإنك تجديني فيها أمضي كما أمرتني به، واختار أمرك على أمري .»

ثم قالت:

«جزاك الله عني خير الجزاء؛ يا ابن عم رسول الله »(2) .

ص: 141


1- سورة البقرة، الآية ( 156 ).
2- روضة الواعظين: ص 181 ؛ البحار: ج 43 ، ص 191 .

«أوصيك في نفسي، وهي أحب الأنفس إليّ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ إذا أنا مت فغسلني بيدك، وحنطني، وكفني، وادفني ليلاً »(1)

باء - مناشدتها علياً (علیه السّلام) أن لا يحضر جنازتها أبو بكر وعمر ولا أحداً ممن ظلمها

ثم قالت لعلي (عليه السلام):

«إن لي إليك حاجة يا أبا الحسن .»

فقال (عليه السلام):«تقضى يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) .»

قالت:

«ناشدتك بالله، وبحق محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا يصلي عليّ أبو بكر وعمر، فإني لأكتمك حديثاً .»

فقالت:

«قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة! إنك أول من يلحق بي من أهل بيتي فكنت أكره أن أسوءك »(2).

ثم قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقّي، فإنهم عدوّي، وعدو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا تترك أن يصلي عليّ أحد منهم، ولا من أتباعهم، وادفني في الليل، إذا هدأت العيون، ونامت الأبصار»(3).

ص: 142


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 305 .
2- مسند فاطمة لحسين شيخ الإسلام: ص 480 ؛ البحار الطبعة الحجرية: ج 29 ، ص 112 ؛ مستدرك الوسائل: ج 2، ص 290 .
3- روضة الواعظين: ص 181 ؛ البحار: ج 43 ، ص 191 ؛ ناسخ التواريخ: ص 201 .

اذن:

الوصية صريحة في بيان الاسباب التي دعتها الى هذا القرار، ولمزيد من البيان نقول في ثانيا

ثانياً: ما زالت غاضبة على من ظلمها حية وميتة

إنّ التأمل في النص الشريف الذي جاء في وصيتها (صلوات الله عليها) أن الامر لم ينحصر في الشيخين أبي بكر وعمر بن الخطاب، ومن سار بأمرهما وآزرهما على ظلمهما لبنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما دوام ظلامتها بعد موتها؛ وذلكمن جهات:

1-إنّ بقاء قبرها مخفيا كاشف عن بقاء هذه الظلامة دون قصاص، أي تعليق الحكم الى يوم الوعد الموعود عند ظهور ولدها الامام المهدي الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه الشريف)

2-إنّ هناك ظالمون لم يقتصر وجودهم على زمانها بل يسري ذلك في كل زمان فما زال اشياعها الموالون لها يتبرؤون ممن ظلمها، ومازال اشياع الشيخين يترضون عليهما وهما صنفان:

الصنف الأول: جاهل بما جرى على بنت سيد الانبياء والمرسلين وانه غافل عن انه مسؤول لامحالة عن حق العترة وحق فاطمة (عليها السلام) وهي سنة أجراها الله تعالى في الخلق، قال تعالى:

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهمْ مَسْئُولُونَ﴾.

ومن شد ما يسأل عنه المسلم بعد التوحيد بعد التوحيد والنبوة هو الموالاة للعترة النبوية (عليهم السلام).

ص: 143

الصنف الثاني: علم ما جرى واطلع على ما حدث إلاّ أنه أصر عنادا وتجرياً على الله تعالى في المشايعة والمؤازرة لظالمي فاطمة (عليها السلام) ولو فسح له المجال لكان ضمن تلك الزمرة يجمع الحطب على باب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولاريب:

«من أحب قوماً حشر معهم »(1)

وأنه شريك لهم، لقوله )صلى الله عليه وآله(:«إن من أحب عمل قوم أشرك في عملهم »(2) فكيف بمن شايع، و آزر، وترضى على الظالمين.

وعليه:

أراد (عليه السلام) في قوله «تدفن ابنتك سراً » تحريك ذهن المتلقي للنص في السعي والبحث عن الأسباب التي أدت الى أن تدفن سيدة نساء العالمين وسيدة نساء الجنة سراً، فلا يعلم موضع قبرها.

المسألة الثانية: كيف جرى دفنها؟ وقصدية حث المتلقي على المعرفة

لم يبق لعلي (عليه السلام) من وصية فاطمة (عليها السلام) سوى المراحل الأخير منها فها هو عليه السلام قد حمل نعشها الذي خلي من المشيعين على كثرة من آمن بأبيها (صلى الله عليه وآله) وقلة الناصر لابنته في أمته حتى بدى المنظر في أقصى

درجات الغرابة، فبين كونها البنت الوحيدة للنبي (صلى الله عليه وآله) الذي أمنوا برسالته، وبين تركها وحيدة أيضا، فكانت وحيدة في الأمة.

ص: 144


1- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 18 .
2- بحار الانوار: ج 98 ص 196 .

أليس من الغرابة أن تكون خير أمة أخرجت للناس، أن لا يخلص من أهلها وهم أهل خير القرون إلا كهمل النعم.

أما الباقي من أهل خير القرون فيساقون بسياط من نار من ساحة المحشر إلى جهنم خالدين فيها أبداً.

هكذا أخبر نبي الإسلام عن أصحابه الذين كانوا في خير القرون(1)، وهكذا كان دفن وحيدة الأمة في خير القرون؟!

وتتسارع الدقائق ويمضي الوقت سريعاً فصاحبة النعش لم تثقل على حامليها فقد أصبحت من الحزن كالخيال فذاب بدنها ويبس لحمها، فها هم الحاملون لنعشها لم يجدوا غير وزن جرائد النخيل التي صنعتها أسماء بنت عميس على هيئة الصندوق فالقت عليها ملاءة فغطت بها صاحبة النعش الذي لم يبق من رسمها وجسمها

سوى هيئة تصرخ أن ها هنا امرأة مظلومة.

وقد بدى صوتها يتردد في الفضاء الذي ضاق بمصيبة ضلعها المكسور وقرطها المنثور وحمرة عينها وصرخت جنينها وهو ملفوفاً بقماش كان قد أعد ليكون قماطاً فصار كفناً فحملته الملائكة على اكفها قبل أن تضعه أمه الثكلى على صدرها وراح صوته الذي خفت مع صوتها فضاق بهما الفضاء الرحب.

وصوت المشكول بها يهمس في أذنها: «أوصيني يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله) » والدمع يعانق الآهات، وهي تكلمه بصوت ضعيف:

«إذا أنا مت فتول أنت غُسلي، وجهزني، وصل عليّ، وأنزلني قبري، وألحدني، وسو التراب عليّ، وأجلس عند رأسي قُبالة وجهي فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء، فإنها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء »(2).

ص: 145


1- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 16 ، ص 84 .
2- مستدرك الوسائل: ج 2، ص 339 .

فجاء بها فوضعها على شفير قبرها، ثم تولى إنزالها فقد تلقاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيديه، وعلي (صلوات الله عليه) يقول:

«بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، سلمتك أيتها الصديقة إلى من هوأولى بك مني، ورضيت لك بما رضي الله تعالى لك .»

ثم قرأ:

﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾(1).

(فلما سوى عليها التراب أمر بقبرها فرش عليه الماء)(2).

ثم (قام على قبرها وقال:

«اللّهم إني راض عن ابنة نبيك، اللهم إنها قد أوحشت فأنسها، اللّهم إنها قد هُجرت فصلها، اللّهم إنها قد ظُلمت فأحكم لها، وأنت خير الحاكمين »(3).

ثم عفا على موضع قبرها، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)،فقال:

«السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك... الخ( ماجاء في النص الشريف –موضع الدراسة-.

ص: 146


1- سورة طه، الآية ( 55 ).
2- مستدرك الوسائل: ج 2، ص 337 .
3- مستدرك الوسائل: ج 2، ص 241 ؛ الخصال للمفيد: ج 2، ص 588 .

ثم أنشد يقول:

أرى عِلَلَ الدنيا عليَّ كثيرةً*** وصاحِبُها حتى المماتِ عليلُ

لكل اجتماع من خليلين فُرْقَةٌ*** وإن الذي دون المماتِ قليل

وإنْ افتقادي فاطمٌ بعد أحمدٍ*** دليل على ألاَ يدومَ خَليلُ(1)

ثم جلس قبالة وجهها يقرأ لها القرآن كما أوصته ويدعوا الله تعالى لها، ولكن لم يمكث طويلاً، فقد أدركه عمود الصبح، ولابد له من الرحيل عن فاطمة (عليهما السلام) قبل أن ينكشف موضع قبرها، وهي التي أوصت أن يدفنها بالليل(2)؛ كي

ص: 147


1- الأمالي للصدوق: ص 491 ؛ زهر الآداب وثمر الألباب: ج 1، ص 18 ؛ الكامل للمبّرد: ج 3،ص 1390 ؛ التعازي والمراثي لابن حمدون: ص 205 ؛ التعليق من أمالي ابن دريد لشقران العذري: ص 98 ؛ منح المدح لابن سيد الناس: ص 189 ؛ البيان والتبين: ج 3، ص 181 ؛ الحماسة البصرية: ص 248 ؛ نهاية الأرب: ج 5، ص 167 ؛ بهجة المجالس: ج 2، ص 359 ؛ الثاني في الكامل للمبرّد: ص 1390 ؛التذكرة الحمدونية: ج 4، ص 237 ؛ العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 1، ص 345 ؛ مروج الذهب: ج 1، ص 286 ؛ المختار من شعر بشار: ص 72 .
2- السنن الكبرى للبيهقي: ج 4، ص 31 ، برقم 6702 ؛ عن ابن عباس: إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه-وآله-وسلم دفنت ليلاً؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 3، ص 31 ، (إن عليا دفن فاطمة ليلاً)، برقم 11827 ؛ مصنف عبد الرزاق: ج 3، ص 521 ، برقم ( 6554 )؛ حاشية ابن القيم: ج 8، ص 309 ، ط دار الكتب العلمية؛ تحفة الأحوذي: ج 4، ص 141 ، ط دار الكتب العلمية؛ معرفة الثقات للعجلي: ج 2، ص 458 ، ط مكتبة الدار بالمدينة المنورة؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 35 ، ص 252 ، ط مؤسسة الرسالة؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1898 ، ط دار الجيل؛ طبقات ابن سعد: ج 8، ص 29 ، غسلها علي وصلى عليها ودفنها ليلاً؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية: ج 1، ص 242 ، ط دار المعرفة؛ نصب الراية للزيلعي: ج 2، ص 251 ، ط دار الحديث؛ المغني: ج 2، ص 218 ، ط دار الفكر؛ المدونة الكبرى لمالك بن أنس: ج 1، ص 186 ، ط دار صادر، وج 4، ص 137 .

لا يؤذن بها ابو بكر وعمر خاصة(1)؛ فضلًا عن من تشيع لهما ووقف بجانبهما في ظلمها؛ فقد أرادت أن يبقى موضع قبرها مجهولاً ينطق بكل آن: إن ها هنا امرأة مظلومة.

ص: 148


1- سبل السلام للصنعاني: ج 2، ص 236 ؛ الجوهر النقي مطبوع في هامش السنن الكبرى للبيهقي: ج 3، ص 396 ، ط دار المعرفة؛ وفي الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 60 ، ط دار الجيل وجاء فيه (إن عليا صلى عليها ودفنها بليل بعد هدأة)؛ الفتح الرباني: ج 22 ، ص 97 ، نقلا عن الهيثمي والطبراني؛ حلية الأولياء: ج 2، ص 43 ؛ تهذيب التهذيب: ج 6، ص 554 ؛ المعجم الكبيرللطبراني: ج 22 ، ص 398 ؛ أنساب الأشراف: ج 1، ص 491 ، لم يعلم أبا بكر وعمر بذلك؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، ص 137 ، باب 23 ، وقال: (ولم يؤذن بها أبا بكر)؛ المغني لابن قدامة: ج 3، ص 503 ؛ معرفة الآثار والسنن للبيهقي: ج 5؛ الإصابة: ج 8، ص 60 ، ط دار الجيل؛ وفاء الوفاء: ج 3، ص 901 - 902 .

المبحث الثلاثون: المقاصدية في هضم حق فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

ص: 149

قوله (عليه السلام): «وتُهضْم حقَّهاَ قَهرْاً »

اشارة

ص: 150

المسألة الاولى: قصدية إكتفائه(علیه السّلام) بذكر هذه الرزايا الثلاثة

اشارة

ينتقل النص الشريف الى مصيبة أخرى من المصائب التي نزلت بفاطمة (عليها السلام) والتي كما ذكرنا سابقاً انه حددها بثلاثة من هذه المصائب دون غيرها، ولاريب أنه أراد شيئاً محدداً، وهو ما نحاول ان نقاربه من أصل مقصده (عليه السلام) في ذلك، وهو كما يظهر من التأمل في النص في نقاط، وهو كالاتي:

1- إنّ القصدية في اخباره لهذه الثلاثة، أي الرزايا لإختصاصها بذرية فاطمة (عليها السلام)، فضلاً عن اختصاصها بالأمة، فالتي تختص بذريتها، فهي: حقها وأرثها وقبرها.

والذي أختص بالأمة والمسلمين هو حقهم في تعاهد قبرها بالزيارة والتقرب الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في الدعاء عند القبر؛ كما هو الحال بالنسبة الى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من ولدها، أو كما هو حال كثير من قبور الأنبياء والأولياء والصالحين؛ والبحث هنا لا يدور مدار كلام الفقهاء في زيارةالقبور وإنّ مرَّ الحدث بشيء يسير في زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند البحث في قوله (صلوات الله وسلامه عليه):

«لجعلت المقام عند قبرك لزاماً والتلبث معكوفاً ».

وإنما يدور حول مقاصدية إيراده لهذه الرزايا دون غيرها هو لكونها ترتبط بحقوق الاخرين وهم ذريتها والمسلمين.

2-إنّ آثار هذه الرزايا مستمرة في الامة، حينما يكون الأثر دائما ومتعاظماً فإنه

ص: 151

سيكون مغطيا وحاجبا لغيره من الآثار كمنعهم لها من البكاء على أبيها (صلى الله عليه وآله) أو الهجوم على الدار أو لطمها على وجهها، وغير ذلك مما جرى عليها من الحرب المفتوحة والمعلّنة من السلطة وأزلامها(1).

3- لبيان حال الأُمة فقد اشتركوا جميعا في ظلم فاطمة (عليها السلام) وبتفاوت وأن هذا التفاوت وقع بحسب الرزية وحجمها ولذلك كانت اول العقوبات هي حججهم جميها من ان يشهدوا جنازتها او يصلّوا عليها باستثناء اربعة منهم كما هو ثابت في الروايات والنصوص.

ومن ثم فهم مشتركون جميعا في ظلمها ومنع ارثها جهراً ولم يحرك احد منهم أي ساكن، وفي هضمها حقها بالقهر والقوة والتسلط وفقدان الناصر، وذلك لو انها وجدت ناصراً لها في الوقوف بوجه اصحاب السقيفة لما هضمت حقها قهراً.

وعليه: كان القصد اظهار حال الامة واشتراكها في ظلم ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولذلك:لم يخلص منهم يوم القيامة إلاّ كهمل النعم، كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليسير مع ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام) في تحديده لهذه الرزايا جنباً الى جنب لبيان حقيقة إنقلاب الأمة وهو ما سنتناوله في أولاً.

ص: 152


1- لمزيد من الاطلاع ينظر كتاب: فاطمة )عليها السلام( الجزء السابع فقد تم تخصيصه لهذه المسألة.
أولاً: كاشفية الأحاديث النبوية في اشتراك الصحابة في ظلم فاطمة (علیها السّلام) وهضمها حقها

لعل المتأمل في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) حول الحوض ليجدها تركز على مسألة واحدة وهي تحذير الأمة من التعرض لحرمة أهل البيت (عليهم السلام) وخطورة ما سيتلقاه المسلم في الحياة الدنيا والآخرة من ظلمهم والتعدي عليهم وسلب حقهم وحق مواليهم وشيعتهم، وهي كالآتي:

1-أخرج البخاري عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إليّ رجل منكم حتى إذا هيت لأنا ولهم اختلجوا دوني فأقول أي رب أصحابي، يقول لا تدري ما أحدثوا بعدك »(1).

2-عن عطاء بن ياسر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه-وآله- قال:

«بينما أنا قائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال هلم.

فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله.

قلت: وما شأنهم؟

قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم.

قلت: أين؟ قال: إلى النار والله.

قلت: ما شأنهم؟

ص: 153


1- صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج 7، ص 206

قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم »(1).

3- أخرج البخاري: عن سهل بن سعد يقول: سمعت النبي صلى الله عليه- وآله-سلم يقول:

«أنا فرطكم على الحوض من ورده منكم شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم » (2).

4- وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول وهو بين ظهْراني أصحابه:

«إني على الحوض من يرد عليّ منكم، فو الله ليقطعن دوني رجالٌ فلأقولن: أي ربّ مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم » (3).

5-وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-:

«إني ممسك بحجزكم عن النار هلم عن النار وتغلبونني تقاحمون فيه تقاحم الفراش أوالجنادب فأوشك أن أرسل بحجزكم وأنا فرطكم على الحوض فتردون عليّ معا وأشتاتا فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريبة من الإبل في إبله ويذهب بكم ذات الشمال وأناشد فيكم رب العالمين فأقول أي رب أمتي،

فيقول: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقري على أعقابهم فلا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي: يا محمد

ص: 154


1- صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج 7، ص 209 .
2- صحيح البخاري: كتاب الفتن: ج 8، ص 87 ؛ صحيح مسلم، باب: إثبات الحوض: ج 7،ص 65 .
3- صحيح مسلم: ج 4، ص 1794 ، كتاب الفضائل باب إثبات الحوض حديث 28 ( 2249 ).

يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء فينادي يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة ينادي يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك فلا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك »(1).

6-عن عبد الرحمان بن عوف، فقال: لما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وآله- مكة انصرف إلى الطائف فحاصرها سبع عشرة، أو ثمان عشرة، فلم يفتحها، ثم ارتحل روحه، أو غدوة فنزل، ثم هجر، ثم قال:

«أيها الناس إني فرط لكم وأوصيكم بع تيتر خيراً، وإن موعدكم الحوض »(2).

7-وقالت أسماء بنت أبي بكر، قال رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم:

«إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب مني، ومن أمتي، فقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم، قال فكان ابن مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا »(3).

ثانياً: إنَّ الإيمان بالحوض فرض على جميع المسلمين

إنَّ الإعتقاد بالحوض ووقوف النبي (صلى الله عليه وآله) عنده يسقي بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) المسلمين فمن كان صادق الايمان ينال شربة منه، ومن كان كاذبا منافقا يضرب علي بن أبي طالب بالعصى على رأسه لتسوقه الملائكة بساط من نار الى جهنم.

ص: 155


1- صحيح الترغيب والترهيب للألباني: ج 1، ص 92 ، ح 784 .
2- المصنف لابن أبي شيبة: ج 8، ص 128 .
3- صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب: إثبات الحوض: ج 4، ص 1794 ، ح 2293 .

إن الاعتقاد بالحوض ووقوف النبي (صلى الله عليه وآله) يسقي من خلص إيمانه بيده، ويد وصيه علي بن أبي طالب عليه السلام؛ ومن ثم فإن حقيقة انقلاب كثير من الصحابة الذين لم يخلص منهم عند الحوض إلاّ مثل همل النعم وذلك لارتدادهم وانقلابهم على دينهم وإتباعهم للمحدثات التي أوجدوها في الشريعة وأمروا الناس باتباعها وغير ذلك مما مرّ ذكره ونصت عليه الأحاديث الصحيحة

التي أخرجها البخاري ومسلم كاشفة عن هذه الحقائق التي لا يردها إلاّ من أنكر ضرورة من ضرورات الدين والعياذ بالله.

وعليه:

فإن مصير الذين ظلموا العترة المحمدية، وقتلوا البضعة النبوية ليذادون يوم القيامة عن الحوض بسياط من نار إلى جهنم بصريح الحديث النبوي وتخريج البخاري في صحيحه.

ولعل: هذا الأمر لا يروق لمن يتولى أبي بكر وعمر وعصابتهما التي أحرقت بيت النبوة وقتلت البضعة النبوية فينكران الحوض والأحاديث الواردة فيه، ونحن نرجع من أنكر الحوض وأحاديثه التي تكشف عاقبة من ظلم العترة وشيعتهم ما قاله علماء السنة والجماعة.

قال الحافظ النووي في شرحه لأحاديث صحيح مسلم:

(قال القاضي عياض رحمه الله أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه؛ قال القاضي: وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمر، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وجندب، وعبد الله بن

ص: 156

عمرو بن العاص، وعائشة، وأم سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة،وحارثة بن وهب، والمتورد، وأبي ذر، وثوبان، وأنس، وجابر بن سمرة؛ ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر، وزيد بن أرقم، وأبي أمامة، وعبد الله بن زيد، وأبي برزة، وسويد بن جبلة، وعبد الله بن الصنابحي، والبراء بن عازب، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بنت قيس وغيرهم.

قلت -والقول للنووي- ورواه البخاري، ومسلم أيضاً، من رواية أبي هريرة، ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب، وعائذ بن عمرو، وآخرين، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهي في كتابه )البعث والنشور( بأسانيده وطرقه المتكاثرات؛ قال القاضي: وفي بعض هذه ما يقتضي كون الحديث متواتراً:

«أنا فرطكم على الحوض .»

قال أهل اللغة: الفرط والفارط هو الذي يتقدم الواردين ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها من أمور الاستقاء، فمعنى فرطكم على الحوض سابقكم إليه كالمهيئ له)(1).

فضلاً عما ذكره الحافظ النووي في وجوب الإيمان بالحوض، فقد تناول عدد من علماء أهل السنة والجماعة ذكرها واقروا بأنها من الأحاديث المتواترة وهذه أقوالهم:

1- أبو عمر ابن عبد البر، قال:

(تواتر الآثار عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الحوض، حمل أهل السنة والحق، وهم الجماعة، على الإيمان به وتصديقه).

ص: 157


1- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 5، ص 53 .

2- القاضي عياض، قال:

(وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة).

3- الحافظ ابن حجر العسقلاني، قال:

(وبلغني إن بعض المتأخرين أوصلها إلى رواية ثمانين من الصحابة).

4- البيضاوي، قال:

(الحوض على ظاهره عند أهل السنة، وحديثه متواتر يجب الإيمان به).

5- القرطبي، قال: (أحاديث الحوض متواترة).

6- الحافظ السيوطي قال: (من الأحاديث المتواترة، وذكر في كتابه قطف الأزهار المتناثرة خمسين صحابياً رووا هذه الأحاديث.

7- الكناني قال: (من الأحاديث المتواترة، وذكر سبعة وخمسين صحابياً لهم رواية في الحوض أو الكوثر)(1).

من هنا: نجد أن اهتمام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بهذا المنزل الآخروي متلاصقاً مع حقيقة الإيمان ونتيجة الأعمال وكشف الحقائق وارتباطه وملازمته لموقف الأمة

ص: 158


1- ما روي في الحوض والكوثر لابن مخلد القرطبي: ص 18 - 19 .

من عترة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهم الثقل الأصغر بعد القرآن اللذان أوصى الأمة باتباعهما وملازمتهما، وكان يوصي أمته بهما حتى آخر حياته كما دلت عليه الرواية التي أخرجها ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري، قال:

(بينما نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المرض الذي توفي فيه عاصباً رأسه بخرقة يمشي حتى قام على المنبر فلما استوى عليه، قال:

«والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة »)(1).

فهذه الساعة تحددت فيها مصائر كثير من الصحابة في تعاملهم مع رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام).

المسألة الثانية: قصدية التعريف بحق فاطمة الذي هضمته الأمة قهراً

اشارة

يرتكز حق فاطمة (صلوات الله عليها) الذي هضمته الصحابة قهراً بالقهر -وكما اسلفنا- لتسلّط أصحاب السقيفة وإلتفاف الصحابة من حولهم يتسابقون لنيل الحظوة لديهم والتنافس على حطام الدنيا؛ فقد ذهب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهم اليوم سلاطين على الناس، كما قال عمر بن الخطاب يوم السقيفة مهدداً

الانصار وراعداً في جمعهم:

(من ذا ينازعنا سلطان محمد و إمارته)(2).

فهم اليوم |أرباب السلطة وأشياعهم ينتزعون حق أبنة سيد الخلق (صلى الله عليه وآله).

ص: 159


1- المصنف لابن ابي شيبة: ج 7، ص 413 ؛ مسند أحمد: ج 3، ص 91 ؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 282 ؛ منتخب مسند عبد بن حميد: ص 299 ؛ ما روي في حوض الكوثر لابن مخلد القرطبي: ص 81 .
2- تاريخ الطبري: ج 2 ص 457 .

لكن ثمة سؤال مهم هنا يفرضه البحث، مفاده:

ما هو حق فاطمة الذي هضمه الصحابة، وماهي آثار هذا الحق الاقتصادية والسياسية، وكيف وجهة فاطمة هذا التجري على الرغم من أنها اليوم مهضومة ومغصوبة الحق؟!! لكنها لم تسكت عن ظلمهم بل وقفت تطالب بحقها الشرعي بما أوجع نفوسهم، وعرى وجوههم، وخزي فعالهم، وفي الاخرة يردون الى أحكم الحاكمين؟

هذه تجد جوابها ايها القارئ الكريم فيما يلي:

أولاً: قصدية التلازم بين مسار الوحي والنبي في إيصال حق فاطمة (علیها السّلام)
اشارة

ان الرجوع الى القرآن الكريم والسنة المطهرة في تلازم المسار في إيصال حق فاطمة (عليها السلام) يكاد يكون امراً بديهيا في بيان ما لفاطمة (عليها السلام) من الشأنية والجاه عند الله تعالى.

وهو أمر لم يكن القرآن ليغفله، أي: إنَّ الله تعالى جعل لبعض انبياءه ورسله واوليائه جاهاً و وجاهته عنده، قال تعالى:

1- ﴿إِذْ قَالَتِ الَملَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه يُبَشِّركِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الَمْسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الُمْقَرَّبِينَ﴾(1).

2- ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَّرأَهُ اللَّه مِّما قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّه وَجِيهًا﴾(2).

ص: 160


1- سورة آل عمران، الآية ( 45 ).
2- سورة الاحزاب، الآية ( 69 ).

ومن ثم فإن الوحي والنبي (صلى الله عليه وآله) متلازمان في بيان هذه الوجاهة وايصال حق فاطمة اليها واعلام الناس بذلك وهو ما جمع في قضية فدك ونزول امر الله تعالى في ايتائها فاطمة (عليها السلام)، فقال عز وحل مخاطبا رسوله الاعظم (صلى الله عليه وآله):

﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ...﴾(1).

وللوقوف على خصوصية فدك واغتصاب حق فاطمة (عليها السلام) ومصادرة السلطة لها قهراً نعرض ما يلي:

ألف - هوية فدك

1- فدك: بالتحريك: وآخره كاف؛ قال ابن دريد: فدكت القطن تفديكا إذا نفشته؛ وفدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة(2)، أفاءها الله

على رسوله (صلى الله عليه وآله) في سنة سبع صلحاً(3)

2- وقال ابن منظور: فدك قرية بخيبر، وقيل بناحية الحجاز فيها عين ونخل أفاءها الله على نبيه (صلى الله عليه وآله)(4)..

3- وقال الطريحي: فدك، بفتحتين، قرية من قرى اليهود بينها وبين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان وبينها وبين خيبر دون مرحلة(5).

ص: 161


1- سورة الاسراء، الآية ( 26 ).
2- أي ما يقارب مائة وأربعين كيلومترا عن المدينة.
3- معجم البلدان للحموي: ج 4، ص 238 .
4- لسان العرب: مادة (فدك)، ج 10 ، 473 .
5- مجمع البحرين للطريحي: ج 5، ص 283 ، بتحقيق أحمد الحسيني.

4-وجاء في المنجد قوله: فدك، واحة في الحجاز قرب خيبر، كان أهلها من المزارعين اليهود اشتهرت بتمرها وقمحها، أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) علياً لمحاربتهم ثم صالحهم على نصف أملاكهم سنة 7ه / 628 م(1).

5-قال عبدا لله بن خميس: (إن ارض فدك وردت ضمن الأماكن التي أحتلها الملك البابلي نيوبثد الذي حكم في القرن السادس قبل الميلاد من عام 556 إلى عام539(2).

6-وتعرف حالياً ضمن المخطط البلدي لمحافظة الحناكية في السعودية ضمن أودية المحرّة الشرقية، أودية الحويط (يديع) والحائط وهو الإسم الجديد الذي سميت به فدك في الوقت المعاصر(3)

باء - قيمتها الاقتصادية

تكشف الأقوال السابقة بأن أرض فدك كانت مكونة من قرية كبيرة قديماً وحديثاً وأنها عرفت بخصوبة أرضها وعذوبة مائها وذلك لوجود عين ماء فورة فيها مما أكسبها هذه الخصوبة والجودة في المحصول الزراعي المتمثل بأهم مادتين غذائيتين وهما التمر والحنطة.

ولقد قدر عدد نخيل فدك بعدد نخيل الكوفة في القرن السادس عشر(4).، وقدر عدد نخيلها قبل ستين عاماً بعشرين ألف نخلة(5).

ص: 162


1- المنجد في الاعلام: ص 407 ، الطبعة الحادية والعشرون.
2- معجم أودية الجزيرة لعبد الله بن خميس: ج 2، ص 316 .
3- فدک فی الماضی و الحاضر لعبد الله الیوسف : ص 14.
4- نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ، ص 210 .
5- معجم معالم الحجاز لعاتق البلادي: ج 2، ص 206 ، ط دار مكة المكرمة، الطبعة الأولى.

أما مقدار قيمتها الاقتصادية في زمن عمر بن الخطاب فقد قيمها مالك بن التيهان وسهل بن أبي حثمة وزيد بن ثابت ب(ستين ألف درهم)، في حين كان مقدار واردها الزراعي في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ب(مائة ألف درهم)(1).

مما يعطيها ثقلاً استراتيجيا ممثلاً في قيمتها الانتاجية وقوتها الدفاعية لمن يمتلكها في مواجهة خصومه.

وعليه: فكيف لا تندفع السلطة الجديدة بحبسها ومنعها من أن تكون بيد فاطمةوعلي عليهما السلام وهم الخصوم الأساسيون لهذه السلطة كما يعتقد أهلها.

جيم - كيف انتقلت لرسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

1- ذكر المؤرخون وغيرهم: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حاصر أهل خيبر في حصنيهم: الوطيح والسلالم، فلما أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ففعل، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد حاز الأموال كلها، الشق والنطاة، والكتيبة، وجميع حصونهم، إلاّ ما كان من هذين الحصنين، فلما سمع أهل فدك ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه آله وسلم)، فسألوه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل، وكان فيمن مشى بينه وبينهم محيصة بن مسعود(2).

2- وروي أيضا إن فدك أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) في سنة سبع صلحاً وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا

ص: 163


1- لسان العرب لابن منظور: ج 10 ، ص 473 ؛ معجم مااستعجم: ج 4، ص 239 .
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج 3، ص 301 ؛ الخراج ليحيى بن آدم: ج 1، ص 83 ، ح 103 ؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 302 .

ثلث واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل وبلغ ذلك أهل فدك فراسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيها عين

فوارة ونخيل كثيرة(1).

3- وروى الراوندي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:«إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)خرج في غزاة فلما انصرف راجعاً نزل في بعض الطريق فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطعم والناس معه إذ أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد قم فاركب فقام النبي (صلى الله عليه وآله) فركب وجبرئيل فطويت له الأرض كطي الثوب حتى انتهى إلى فدك فلما سمع أهل فدك وقع الخيل

ظنوا أن عدوهم قد جاءهم فغلقوا أبواب المدينة ودفعوا المفاتيح إلى عجوم لهم في بيت لهم خارج المدينة وحلقوا برؤوس الجبال فأتى جبرئيل العجوز حتى أخذ المفاتيح ثم فتح أبواب المدينة ودار النبي (صلى الله عليه وآله) في بيوتها وقرأها، فقال جبرئيل:

يا محمد هذا ما خصك الله به وأعطاك دون الناس وهو قوله:

﴿... مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...﴾(2).

ص: 164


1- معجم البلدان لياقوت الحموي: ج 4، ص 238 ، ط دار الفكر؛ التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 29 ، ص 284 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 16 ، ص 210 ؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6، ص 140 ؛ وفاء الوفاء للسمهودي: ص 1280 ؛ كتاب الأموال لأبي عبيد: ص 16 ، مطبعة الأزهر؛ عمدة الأخبار في مدينة المختار لأحمد بن عبد الحميد العباسي: ص 387 ، ط المدينة المنورة؛ فتوح البلدان لياقوت الحموي: ص 51 .
2- سورة الحشر، الآية ( 7).

وذلك في قوله:

﴿... فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَ رِكَابٍ وَلَكنِّ الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَی مَنْ يَشَاءُ....﴾(1).

ولم يغزُ المسلمون ولم يطأوها ولكن الله أفاءها على رسوله وطوف به جبرئيل في دورها وحيطانها وغلق الباب ودفع المفاتيح إليه فجعلها رسول الله في غلاف سيفه وهو معلق بالرحل ثم ركب وطويت له الأرض كطي الثوب فأتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم على مجالسهم لم يتفرقوا ولم يبرحوا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس:

«قد انتهيت إلى فدك وإني قد أفاءها الله عليّ فغمز المنافقون بعضهم بعضاً فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه مفاتيح فدك ثم أخرجها من غلاف سيفه ثم ركب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وركب معه الناس فلما دخل على فاطمة عليها

السلام فقال: يا بنية إن الله قد أفاء على أبيك بفدك واختصه بها فهي لي خاصة دون المسلمين أفعل بها ما أشاء وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر وإن أباك قد جعلها لك بذلك ونحلتكها تكون لك ولولدك بعدك، قال فدعا بأديم عكاظي ودعا علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أكتب لفاطمة بفدك نحلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهد على ذلك علي بن أبي طالب ومولى لرسول الله وأم أيمن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم إن أم أيمن امرأة من أهل الجنة وجاء أهل فدك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقاطعهم على أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة»(2) .

ص: 165


1- سورة الحشر، الآية ( 6).
2- لخرائج والجرائح للراوندي: ج 1، ص 112 - 113 .

وتتفق هذه الشواهد التاريخية التي أوردها المؤرخون مع أقوال المفسرين عند أهل الجماعة في تفسير آية الفيء في سورة الحشر.

1-(فقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسّم الفيء بينهم كما قسّم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالىالفرق بين الأمرين، وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب، بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعباً فكان الأمر فيه مفوّضا للرسول (صلى الله عليه وآله) يضعه حيث يشاء.

ثم يذكر وجهين لتفسير الآية:

الأول: أن الآية نزلت في يهود بني النضير وقراهم وليست للمسلمين يومئذٍ كثير خيل ولا ركاب ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ولم يركب إلا رسول الله فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل، أجراه الله مجرى ما لم يحصل فيها المقاتلة أصلاً فخصّ رسول الله بتلك الأموال وجعلها من الفيء.

الثاني: أنها نزلت في يهود فدك لأن أهل فدك انجلوا عنها فصارت تلك القرى والأموال بيد رسول الله من غير حرب فكان يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله(1).

2-وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى:

﴿مَا أَفَاءَ اللَّه...﴾.

يعني ما ردّ الله تعالى على رسوله من أموال بني النضير، فقال:

﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ...﴾.

ص: 166


1- التفسير الكبير: ج 1، ص 506 .

أو صنعتم عليه، يقول: لم تقطعوا إليها مشقة ولا لقيتم بها حرباً ولامشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين قاله الفرّاء، فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، إلاّ النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه ركب جملاً فافتتحها صلحاً وأجلاهم وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي (صلى الله عليه وآله) أن يقسّم لهم فنزلت:﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَی رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ...﴾(1).

فجعل أموال بني النضير للنبي (صلى الله عليه وآله) خاصة يضعها حيث يشاء وفي صحيح مسلم عن عمر كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وكانت للنبي خاصة(2).

3-ويذكر الطبري في تأويل قوله تعالى:

﴿مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَ رَسُولِهِ...﴾.

يقول تعالى ذكره: والذي ردّه الله على رسوله منهم، يعني من أموال بني النضير..

يقول فما أوضعتم فيه من خيل ولا إبل وهي الركاب، وإنما وصف جلّ ثناؤه الذي أفاءه على رسوله منهم بأنه لم يوجف عليه بخيل من أجل أن المسلمين لم يلقوا في ذلك حرباً، ولا كلفوا فيه مؤونة، وإنما كان القوم معهم، وفي بلدهم، فلم يكن فيه إيجاف خيل ولا ركاب وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل(3).

4- وذهب ابن كثير في تفسير الآية إلى أنّ الفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل

ص: 167


1- سورة الحشر، الآية ( 6).
2- الجامع لأحكام القرآن: ج 18 ، ص 10 -11 .
3- جامع البيان في تفسير القرآن: مج 12 ، ج 28 ، ص 24 .

نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأفاءه على رسوله، ولهذا تصرّف فيه كما يشاء، فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عزّ وجل في هذه الآيات فقال تعالى:﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَی رَسُولِهِ مِنْهُمْ...﴾.

أي من بني النضير.

﴿... فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ...﴾.

ثم قال تعالى:

﴿... مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى...﴾.

أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير، ولهذا قال تعالى:

﴿... فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالَمسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...﴾.

إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه(1).

5- وجاء في الدر المنثور في التفسير بالمأثور أنه قال: أخرج عبد الحميد عن قتادة قال في تفسير قوله تعالى:

﴿وَمَا أَفَاءَ...﴾.

الآية قال: ما قطعتكم إليها وادياً ولا سيّتم إليها دابة ولا بعيراً إنما كانت حوائط لبني النضير أطعمها الله رسوله.

ص: 168


1- تفسير القرآن العظيم: ج 16 ، ص 601 - 602 .

6- وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن منذر عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله فكانت لرسول الله خاصة(1).

ثم يذكر عدة روايات من مصادر مختلفة تدور حول نفس الموضوع.

7- وقد ذهب إلى مثل هذا القول غالب مفسري العامة، كالآلوسي البغدادي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، وتفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، لصاحبه علاّمة الشام محمد جمال الدين القاسمي.

وبناءً على هذا يمكن القول: بأن البلدان والأماكن التي يفتحها المسلمون، إما أن تفتح بواسطة القتال وركوب الخيل وسفك الدماء، وهي المسماة (مفتوح العنوة) وهذه نطبّق عليها أحكام الغنيمة يقول تعالى:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَیءٍ فَأَنَّ لَّله خُمسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالَمسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...﴾(2).

وإما أن يسيطر عليها المسلمون بغير قتال وبدون خيل وسفك دماء فينجلي عنها أهلها، أو يسلّموها إلى المسلمين بطريق آخر كالصلح ونحوه، وهي المسماة (غير مفتوح العنوة)، وهي ما أطلق عليها في القرآن الكريم والنصوص (الفيء) في الآية السادسة من سورة الحشر، وحكم هذه الأراضي أنها لرسول الله خاصة ولا توزع

على المسلمين كما يجري في الغنائم عادة)(3).

ص: 169


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: ج 6، ص 31 .
2- سورة الأنفال، الآية ( 41 ).
3- فدك هبة النبوة للشيخ حسن أحمد العاملي: ص 53 -56 .
دال - كيف انتقلت ملكيتها إلى فاطمة (علیها السّلام)

يمكن لنا معرفة الكيفية التي انتقلت فيها قرية فدك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فاطمة (عليها السلام) وذلك من خلال الرجوع إلى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي كالآتي:

1-روى الشيخ الصدوق رحمه الله قال:

(لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله):﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾(1).

قال: «أدعوا لي فاطمة .»

فدعيت له، فقال: «يا فاطمة .»

قالت: «لبيك يا رسول الله .»

فقال (صلى الله عليه وآله): «هذه فدك، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك »(2).

ص: 170


1- سورة الإسراء، الآية ( 26 ).
2- الأمالي للصدوق: ص 619 .

2- روى الشيخ الكليني عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، أنه قال: «إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيّه (صلى الله عليه وآله): ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾.

فلم يدر رسول الله من هم فراجع في ذلك جبرائيل وراجع جبرائيل ربه فأوحى الله تعالى إليه أن أدفع فدك إلى فاطمة عليه السلام فدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لها:

«يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك؛ فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك؛ فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1) .

3- روى محمد بن سليمان الكوفي (المتوفى سنة 300 ه) عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال:

«لما نزلت: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾.

أمر رسول الله صلى الله عليه-وآله-وسلم لفاطمة وإبنيها بفدك فقالوا: يا رسول الله أمرت لهم بفدك؟ فقال: والله ما أمرت لهم بها ولكن الله أمر لهم بها ثم تلا هذه الآية:

﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾(2).

ص: 171


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 543 ؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 4، ص 148 ؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 9، ص 525 .
2- مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 159 .

4- وروى أبو يعلى الموصلي والقاضي المغربي عن أبي سعيد الخدري:

(إن الله عزّ وجل لما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله):

﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾.

دعا فاطمة عليها السلام فأعطاها فدك)(1).

5-روى فرات الكوفي (عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لما نزلت هذه الآية:

﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾.

أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فدك.

فقال أبان بن تغلب: رسول الله أعطاها؟ فغضب الإمام جعفر الصادق (عليهالسلام) وقال: «الله أعطاها »(2).

فهذه الروايات الشريفة تظهر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى فدكا لفاطمة في حياته بأمر من الله تعالى حينما نزل قوله سبحانه:

﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾.

ص: 172


1- مسند أبو يعلى الموصلي: ج 2، ص 334 ؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 27 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، ص 49 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16 ، ص 268 ؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1، ص 439 .
2- تفسير فرات الكوفي: ص 239 .

وإنها كانت تتصرف بها وتقبض غلتها وتنفقها على الفقراء المساكين وابن السبيل في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولقد مرّت علينا سابقاً في مبحث كرامتها ومعاجزها كيف أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان حينما يأتيه سائل ولم يكن عنده ما يعطيه لهذا السائل كان يبعثه إلى فاطمة صلوات الله وسلامه عليها

والسبب في ذلك هو أن فاطمة كانت بيديها فدك لكنها لم تنل من فدك شيئاً فلقد كانت تحب من هذه الدنيا الإنفاق في سبيل الله فكانت تنفق ما يأتيها من خير فدك في سبيل الله.

ولأنها في جميع أمورها تقدم الله تعالى فقد كان الله سبحانه يتحفها من خيره فينزل عليها جفنة من الجنة أو ثماراً أو خاتما كما مرّ علينا بيانه سابقاً.

لكن السلطة الجديدة التي جلست في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدون وجه شرعي صادرت هذه القرية وحبست مالها وثمارها لصالحها تنفق هذا المال في تدعيم سلطانها الجديد وتجهيز جيش خالد بن الوليد الذي خرج لبسط البيعة على

القبائل العربية بعد أن أخذت البيعة عنوة وإرهاباً في المدينة.

فكذاك اليوم يأخذها خالد بن الوليد وتحت عنوان جديد اسمه (حروب الردة) فقد امتنع هؤلاء الذين قاتلهم خالد بن الوليد من تسليم الزكاة إلى السلطة الجديدة لكونها لم تكن شرعية بل غصبية غصبت الخلافة من علي بن أبي طالب الذي تمت

منهم له البيعة في يوم الغدير في حجة الوداع حينما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما أمره الله تعالى من إعلان الولي والوصي والخليفة في هذه الأمة فقال (صلى الله عليه وآله):

«ألست أولى بكم من أنفسكم؟ .»

ص: 173

قالوا: بلى، قال:

«فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه .»(1).

إلاّ أن بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) لم تكن لتهادن أو تماطل أو تتقاعس عن الدفاع عن شريعة الله تعالى وأحكامه فهذه الهبة الإلهية التي أعطاها الله تعالى لفاطمة عليها السلام لم تكن ابنة المصطفى (صلى الله عليه وآله) لتتركها لقمة سهلة يتلاقفها الظالمون، بل انتفضت على هذا الظلم والجور ودكت أركان السلطة بفصيح لسان النبوة وصولة الرسالة في مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.

ثانياً: قصدية إظهارتصدي فاطمة (علیها السّلام) للسلطة في جورها على شريعة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
اشارة

لم ينحصر خروج فاطمة ثائرة على السلطة الجديدة على المطالبة بحقها في قرية فدكوإنما كان لهذا الحراك الثوري أهداف أخرى كشفت عنها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبتها التي حاججت فيها رأس الهرم في السلطة الجديدة.

ففاطمة فضلاً عن مطالبتها بأرضها فقد طالبت بميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمواله التي مرّ بيانها والتي تمت مصادرتها بيد السلطة الحاكمة، كما طالبت فاطمة عليها السلام بالخمس الذي عطله أبو بكر ومنعه عن بني فاطمة صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 174


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 118 119 ، وج 4، ص 281 ، وص 372 ، وج 5، ص 370 ؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 297 ؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 14 ؛ مستدرك الحاكم: ج 3، 111 .

فهذه المطالب الشرعية كانت بكفة في هذه الانتفاضة الفاطمية وبكفة ثانية الدفاع عن أهم أصل من الأصول في الإسلام وهو إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام الذي به أي بهذه الإمامة في علي وولده الأحد عشر تأمن الأمة من الضلال، ومن الوقوع في الفتن وتحفظ بها شريعة النبي (صلى الله عليه وآله) من رموز الظلم وأئمة الجور والضلال.

وعليه: كان هذا الخروج الفاطمي النبوي للتصدي للسلطة التي عطلت الحدود وأدارت دفة الأمة إلى الضلال والتردي لتفترق بهذا التأسيس والقيادة إلى اثنتين وسبعين فرقة هالكة.

أما الكيفية التي خرجت بها فاطمة عليها السلام للتصدي للسلطة الحاكمة والوقوف بوجه هذا الجور فكانت كالآتي:

1-أخرج البخاري وغيره عن عروة عن عائشة:

(أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم أرسلت إلى ابي بكر تسألهميراثها من رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم

قال:

«لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال .»

وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة عليها السلام منها شيئاً، فوجدت فاطمة على ابي بكر في ذلك فهجرته، فلم

ص: 175

تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي -عليه السلام- ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي -عليه السلام-)(1).

والحديث ينص على مصادرة أبي بكر لأرض فدك وأموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة مما أفاء الله تعالى عليه، وسهم خيبر من الخمس.

2- وقد أخرج أحمد في المسند في بيان مطالبة فاطمة عليها السلام أبا بكر بإرثها؛(فعن أبي سلمة قال:

إن فاطمة -عليها السلام- قالت لأبي بكر:

«من يرثك إذا مت؟ .»

قال: ولدي وأهلي، قالت:

«فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم .»قال: سمعت النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم يقول:

«إن النبي لا يورث »)(2).

3- روى علي بن إبراهيم القمي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «لما بويع لأبي بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك فأخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها فجاءت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر فقالت:

ص: 176


1- صحيح البخاري، باب مناقب المهاجرين: ج 4، ص 209 ؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 9.
2- مسند أحمد: ج 1، ص 10 ؛ فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 35 36 ، ح 115 ، بلفظ آخر.

يا أبا بكر منعتني عن ميراثي من رسول الله وأخرجت وكيلي من فدك فقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله، فقال لها:

هاتي على ذلك شهودا؛ فجاءت بأم أيمن، فقالت: لا أشهد حتى أحتج يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه-وآله-وسلم)، فقالت أنشدك الله، ألست تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن أم أيمن من أهل الجنة؟ قال: بلى،

قالت فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله):

﴿فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾(1).

فجعل فدك لفاطمة بأمر الله وجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال أبو بكر: إن فاطمة ادّعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فاكتبت لها بفدك، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه وقال:هذا فيء المسلمين؛ وقال: أوس بن الحدثان وعائشة وحفصة يشهدون على رسول الله (صلى الله عليه-وآله-وسلم) بأنه قال إنا معاشر الأنبياء لا نورث ماتركناه صدقة، فإن عليا زوجها يجر إلى نفسه وأم أيمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه(2).

فخرجت فاطمة (عليها السلام) من عندهما باكية حزينة فلما كان بعد هذا جاء علي عليه السلام إلى ابي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار، فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال أبو بكر: هذا فيء المسلمين فإن أقامت شهوداً أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعله لها وإلا فلا حق لها فيه، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 177


1- سورة الروم، الآية ( 38 ).
2- ذكر البلاذري وغيره رد أبو بكر شهادة علي وأم أيمن: فتوح البلدان: ص 527 .

يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين، قال: لا قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة قال إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شيء وادعى فيه المسلمون فتسألني

البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله )صلى الله عليه وآله( وبعده ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوا عليّ شهوداً كما سألتني على ما ادعيت عليهم.

فسكت أبو بكر ثم قال عمر: يا علي دعنا من كلامك فإنا لا نقوى على حججك فإن أتيت بشهود عدول وإلا فهو فيء المسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال:

فأخبرني عن قول الله تعالى:﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾(1).

فيمن نزلت: أفينا أم في غيرنا؟ قال: بل فيكم، قال: فلو أن شاهدين شهدا على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر المسلمين قال: كنت إذا عند الله من الكافرين، قال: ولم؟

قال: لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها فدك وقبضته في حياته، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبه عليها فأخذت منها فدك وزعمت أنه فيء المسلمين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على من ادعى واليمين على من ادعى عليه.

قال: فدمدم الناس وبكى بعضهم فقالوا: صدق والله علي ورجع علي عليه السلام

ص: 178


1- سورة الأحزاب، الآية ( 33 ).

إلى منزله، قال: ودخلت فاطمة إلى المسجد، وطافت بقبر أبيها (صلى الله عليه وآله) وهي تبكي وتقول:

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا*** فغاب عنا وكل الخير محتجب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به*** عليك تنزل من ذي العزة الكتب

فقمصتنا رجال واستخف بنا*** إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فكل أهل له قرب ومنزلة*** عند الإله على الأدنين يقترب

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم*** لما مضيت وحالت دونك الكثب

فقد رزينا بما لم يرزَه أحد*** من البرية لا عجم ولا عرب

وقد رزينا به محضا خليقته*** صاي الضرائب والأعراق والنسب

فأنت خير عباد الله كلهم*** وأصدق الناس حين الصدق والكذب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت*** منا العيون بهمال لها سكب

سيعلم المتولي ظلم خامتنا*** يوم القيامة إني كيف ينقلب »1(1)

وهذه الروايات تكشف عن تحرك علي وفاطمة عليهما السلام للدفاع عن سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي عطلها أبو بكر؛ فضلاً عن تعطيل شريعة الله تعالى، فهذا المال الذي جعله الله خاصة لرسوله (صلى الله عليه وآله) يفعل فيه ما يشاء، كيف لأبي بكر أن يجمده ويصادره، وكأنه سلطان قد انقلب على سلطان آخر

وغلب عليه فوضع يده على ماله يتصرف فيه ما يشاء وليس نبياً ورسولاً منحه الله تعالى ما يشاء من فضله؟!

ص: 179


1- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 155 - 157 .

والعجيب في هذه التشريعات الجديدة للسلطة الحاكمة أن تبيح بيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأزواجه فيسكُنَّ فيها ولا يطالبن بالشهود ولا البنية ولا كونهن تزوجن من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ ومن ثم فالأنبياء لا تورث!

وكأنّ هذا القانون لا يسري إلاّ على فاطمة عليها السلام من دون أزواج النبي (صلى الله عليه وآله).

وكيف لأبي بكر أن يعطل شهادة أحد الزوجين للآخر ويردها وها هو النووي المدافع عن سنة الشيخين يقول:

(وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لأن النكاح سبب لا يعتق به أحدهما على الآخر بالملك فلم يمنع شهادة أحدهما للآخر)(1).

ولا ندري بأي شريعة حكم أبو بكر في رد شهادة علي على فرض أن لأبي بكر الحق في المطالبة بإحضار الشهود على تملك فاطمة عليها السلام لفدك وهي صاحبة اليد؛ ولذلك كان مجيئها بأم أيمن وعلي (عليه السلام) يكشف عن إلزام الجائر بماجار به على الشريعة؛ فضلاً عن قلة الناصر وخذلان الصديق فهل من أحد كان

لا يعلم أن فاطمة قد قبضت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدك لما نزل قوله تعالى: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾.

وهم بمسمع ومرأى من فعل النبي (صلى الله عليه وآله) وقوله؛ أم أنهم من ملة أخرى؟! فلم يروا ولم يسمعوا؛ أم إنهم يكتمون ما أنزل الله تعالى من شريعة؟!

ولذلك: لما لم تجد فاطمة صلوات الله عليها من ناصر أو خائف من الله واليوم الآخر، عزمت على التصدي لهذه السلطة بحراك نبوي ورسالي وتوجهت إلى

ص: 180


1- المجموع للحافظ النووي: ج 20 ، ص 235 .

المسجد النبوي لتحاجج القوم جميعاً فقد أصبح الجميع شركاء في هذا الظلم والجور الذي أنزلوه في شريعة أبيها محمد (صلى الله عليه وآله) فكيف كانت هذه الثورة المحمدية الفاطمية؟

ألف - الانتفاضة لحق الإمامة ورمزية فدك الثورة

حينما رأت ابنة الهادي الأمين (صلى الله عليه وآله) أن شريعة أبيها انتهكت وأن الحدود عطلت وأن السنة أميتت والبدعة أحييت وأن القوم اتفقت كلمتهم على تغيير مسار الإسلام، عزمت على تصحيح هذا المسار وصعق الأمة بصعقة محمدية فاطمية تعيد إليها توازنها وآلية تفكيرها وتحديد مسارها، إلقاءً للحجة وبياناً للنذارة

كي تسقط حجج القوم في الاعتذار وعدم معرفة عواقب الانجرار خلف الظالمين ومن بدلوا شريعة رب العالمين.

فخرجت ابنة الهادي الأمين (صلى الله عليه وآله) إلى المسجد، ولكن بأي كيفية؟تقول ابنتها عقيلة الهاشميين:

(لما أجمع أبوبكر وعمر على منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً، وبلغها ذلك لاثت خمارها(1) على رأسها، واشتملت بجلبابها(2)، وأقبلت في لمة(3) من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها(4)، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)(5)، حتى

ص: 181


1- اللوث: الطي والجمع، ولاث العمامة شدها وربطها، ولاثت خمارها لفته والخمار بالكسر: المقنعة، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطى.
2- الاشتمال بالشيء: جعله شاملًا ومحيطاً لنفسه؛ والجلباب: الرداء والإزار.
3- في لمة، أي: جماعة وفي بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير أي: في جماعة قليلة، والحفدة بالتحريك: الأعوان والخدم.
4- أي: إن أثوابها كانت طويلة تستر قدميها، فكانت تطأها عند المشي، وفي بعض النسخ تجر أدراعها والمعنى واحد.
5- الخرم بضم الخاء وسكون الراء: الترك، والنقص، والعدول.

دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم(1) فنيطت دونها ملاءة(2) فجلست ثم أنَّت أنة أجهش(3) القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم

أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (عليها السلام):

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها،وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته.

ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته وإعزازا لدعوته.

ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده من نقمته، وحياشة(4) لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن

ص: 182


1- الحشد: الجماعة.
2- نيطت: علقت وناط الشيء، علقه: والملاءة الإزار.
3- أجهش القوم: تهيئوا.
4- حاش الإبل: جمعها وساقها.

أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بما يلي الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على

نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد (صلى الله عليه وآله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها(1)، وجلى عن الأبصار غممها(2)، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم.ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد (صلى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي نبيه، وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته .»

ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت:

«أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغائه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائدا إلى الرضوان أتباعه،

مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة،

ص: 183


1- بهمها: أي مبهماتها وهي المشكلات من الأمور.
2- الغمم: جمع غمة وهي: المبهم والملتبس، وفي بعض النسخ (عماها).

وشرائعه المكتوبة، فجعل الله الإيمان: تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة: تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام: تثبيتا للإخلاص، والحج: تشييدا للدين، والعدل: تنسيقا للقلوب، وطاعتنا: نظاما للملة، وإمامتنا: أمانا للفرقة، والجهاد: عزا للإسلام، والصبر: معونة على استيجاب الأجر، والأمر

بالمعروف: مصلحة للعامة، وبر الوالدين: وقاية من السخط، وصلة الأرحام: منساة في العمر(1) ومنماة للعدد، والقصاص: حقنا للدماء، والوفاء بالنذر: تعريضا للمغفرة، وتوفية المكائيل والموازين: تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر:تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف: حجابا عن اللعنة، وترك السرقة: إيجابا

بالعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء .»

ثم قالت: «أيها الناس اعلموا: أني فاطمة وأبي محمد (صلى الله عليه وآله) أقول عودا وبدوا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا(2)، لقد جاءكم رسول من أنفسكم

عزيز عليه ما عنتم(3)، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.

فإن تعزوه(4)وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم،

ص: 184


1- منساة للعمر: مؤخرة.
2- شططا: الشطط بالتحريك: هو البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شيء.
3- عنتم: أنكرتم وجحدتم.
4- تعزوه: تنسبوه.

ولنعم المعزى إليه (صلى الله عليه وآله)، فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة(1)، مائلا عن مدرجة المشركين(2)، ضاربا ثبجهم(3)، آخذا بأكظامهم(4)، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف الأصنام(5)، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه(6)، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين(7)، وطاح وشيظ النفاق(8)، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص(9)، في نفر من البيض الخماص(10)، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب(11)،ونهزة الطامع(12)، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام(13)، تشربون الطرق(14)،

وتقتاتون القد(15)، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم،

ص: 185


1- صادعاً: الصدع هو الإظهار: والنذارة بالكسر الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف.
2- المدرجة: هي المذهب والمسلك.
3- ثبجهم: الثبج بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه.
4- أكظامهم: الكظم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق.
5- يجف الأصنام: في بعض النسخ (يكسر الأصنام) وفي بعضها (يجذ الأصنام) أي يكسر.
6- تفرى الليل عن صبحه: أي انشق حتى ظهر وجه الصباح
7- شقاشق الشياطين: الشقاشق: جمع شقشقة بالكسر وهي: شيء كالربة يخرجها البعير من فيه إذا هاج.
8- طاح: هلك، والوشيظ السفلة والرذل من الناس.
9- كلمة الإخلاص: كلمة التوحيد.
10- البيض الخماص: المراد بهم أهل البيت عليهم السلام.
11- مذقة الشارب: شربته.
12- نهزة الطامع: بالضم الفرصة أي: محل نهزته.
13- قبسة العجلان: مثل في الاستعجال؛ موطئ الأقدام: مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.
14- الطرق: بالفتح، ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر.
15- القد: بكسر القاف وتشديد الدال سير بقد من جلد غير مدبوغ.

فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله)، وبعد أن مني ببهم(1) الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان(2)، أو فغرت فاغرة من المشركين(3)، قذف أخاه في لهواتها(4)، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه(5)، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا

في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمراناصحا، مجدا، كادحا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون(6) فاكهون(7) آمنون، تتربصون بنا الدوائر(8)، وتتوكفون الأخبار(9)، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه،

ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق(10)، وسمل جلباب الدين(11)، ونطق كاظم الغاوين(12)، ونبغ خامل الأقلين(13)، وهدر فنيق المبطلين(14)،

ص: 186


1- بهم الرجال: شجعانهم.
2- نجم: ظهر؛ وقرن الشيطان: أمته وتابعوه.
3- فغرفاه: أي فتحه؛ والفاغرة من المشركين: الطائفة منهم.
4- قذف: رمى؛ واللهوات بالتحريك: -جمع لهاة-: وهي اللحمة في أقصى شفة الفم.
5- ينكفئ: يرجع؛ والأخمص: ما لا يصيب الأرض من باطن القدم.
6- وادعون: ساكنون.
7- فاكهون: ناعمون.
8- الدوائر: صروف الزمان، أي: كنتم تنظرون نزول البلايا علينا.
9- تتوقعون أخبار المصائب والفتن النازلة بنا.
10- في بعض النسخ (حسيكة).
11- وسمل جلباب الدين: سمل صار خلقا، والجلباب الإزار.
12- الكظوم: السكوت.
13- الخامل: من خفي ذكره وكان ساقطاً لا نباهة له.
14- الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته، والفنيق: الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان.

فخطر في عرصاتكم(1)، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم(2)، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا،وأحشمكم فألفاكم غضابا(3)، فوسمتم غير إبلكم(4)، ووردتم غير مشربكم(5)، هذا والعهد قريب والكلم رحيب(6)، والجرح لما يندمل(7)، والرسول لما يقبر، ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبة عنه تريدون(8)؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها(9)، ويسلس قيادها(10)، ثم أخذتم تورون وقدتها(11) وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي وإهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في

ص: 187


1- خطر البعير بذنبه إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه.
2- مغرزة: أي ما يختفي فيه، تشبيها له بالقنفذ فإنه يطلع رأسه بعد زوال الخوف.
3- أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه.
4- الوسم: أثر الكي.
5- الورود: حضور الماء للشرب.
6- الكلم بالضم: الجرح، الرحب بالضم: السعة.
7- أي: لم يصلح بعد.
8- في بعض النسخ (تدبرون).
9- نفرتها: نفرت الدابة جزعت وتباعدت.
10- يسلس: يسهل.
11- أي: لهبها.

ارتغاء(1)، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء(2) ويصير(3) منكم على مثل

حز المدى(4)، ووخز السنان في الحشاء، وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟

بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته.

أيها المسلمون أغلب على إرثي(5)؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟

إذ يقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَنُ دَاوُودَ...﴾(6).

وقال: فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال:

﴿... فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ( 5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ...)(7).

وقال: ﴿... وَأُولُو الْأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی كِتَابِ اللَّه...﴾(8).

ص: 188


1- الحصو: هو الشرب شيئا فشيئا، والارتغاء: هو شرب الرغوة وهي اللبن المشوب بالماء، وحسوا في ارتغاء: مثل يضرب لمن يظهر ويريد غيره.
2- لخمر بالفتح: ما واراك من شجر وغيره، والضراء بالفتح: الشجر الملتف بالوادي.
3- وفي بعض النسخ (يصير).
4- الحز: القطع، والمدى: السكاكين.
5- في بعض النسخ (إرثه).
6- سورة النمل، الآية ( 16 ).
7- سورة مريم، الآية ( 6).
8- سورة الأنفال، الآية ( 75 ).

وقال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّه فِی أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأنْثَيَيْن...﴾(1).

وقال: ﴿... إِنْ تَرَكَ خَيْرا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأقْرَبِينَ بِالَمعْرُوفِ حَقًّا عَلَی الُمتَّقِينَ﴾(2).

وزعمتم: أن لا حظوة(3) لي ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

فدونكها مخطومة مرحولة(4)، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد،

والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم .»

ثم رمت(5) بطرفها نحو الأنصار فقالت:

«يا معشر النقيبة وأعضاد الملة،(6) وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي(7)، والسنة عن ظلامتي(8)؟ أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول (المرء يحفظ في ولده)؟

ص: 189


1- سورة النساء، الآية ( 11 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 180 ).
3- الحظوة: المكانة.
4- مخطومة: من الخطام بالكسر، وهو: كل ما يدخل في أنف البعير ليقاد به، والرحل بالفتح: هو للناقة كالسرج للفرس.
5- في بعض النسخ (رنت).
6- النقيبة: الفتية.
7- الغميزة: بفتح الغين المعجمة والزاي - ضعفة في العمل.
8- السنة بالكسر: النوم الخفيف.

سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة(1)، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فخطب جليل: استوسع وهنه واستنهر فتقه(2) وانفتق رتقه، واظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت(3) الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة(4) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه، في أفنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في أفنيتكم هتافا، وصراخا، وتلاوة، وألحانا، ولقبله ماحل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حتم:

﴿وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُّر اللَّه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ﴾(5).

أيها بني قيلة(6)، أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى(7) ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة(8)، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة

ص: 190


1- إهالة: بكسر الهمزة الدسم؛ وسرعان ذا إهالة مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته
2- وهنة الوهن: الخرق، واستنهر: اتسع.
3- أكدت: قل خيرها.
4- بائقة: داهية.
5- سورة آل عمران، الآية ( 144 ).
6- بنو قيلة: قبيلتا الأنصار: الأوس والخزرج.
7- المنتدى المجلس.
8- الجنة بالضم: ما استترت به من السلاح.

التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم(1) البهم، لا نبرح أو تبرحون(2)، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا

دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين(3).

فأنى حزتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟

بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض(4)، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة(5)، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم(6)، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد.

ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم(7)، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة(8)، وبثة

ص: 191


1- في بعض النسخ (كالحتم).
2- لا نبرح: لا نزال.
3- استوسق: اجتمع.
4- أخلدتم: ملتم، والخفض: السعة والخصب واللين.
5- الدعة: الراحة والسكون.
6- الدسع: القيء، وتسوغ الشراب شربه بسهولة.
7- الجذلة: ترك النصر، خامرتكم: خالطتكم.
8- الخور: الضعف، والقناة: الرمح؛ والمراد من ضعف القناة هنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة.

الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة(1) الظهر نقبة الخف(2) باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون،

﴿... وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾(3).

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون .»

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان، وقال: يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، وعقابا عظيما، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء(4) آثر على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا سعيد، ولا يبغضكم إلا شقي(5) بعيد فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلا بإذنه، والرائد لا يكذب أهله، وأني أشهد الله وكفى به شهيدا، أني

سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

ص: 192


1- فاحتقبوها: أي احملوها على ظهوركم ودبر البعير أصابته الدبرة بالتحريك وهي جراحة تحدث من الرحل.
2- نقب خف البعير رق وتثقب.
3- سورة الشعراء، الآية ( 227 ).
4- الألف: هو الأليف بمعنى المألوف والمراد به هنا الزوج لأنه إلف الزوجة وفي بعض النسخ (ابن عمك).
5- في ذخائر العقبى: -لمحب الدين الطبري قال: قال رسول الله صلى الله عليه-وآله-وسلم: «لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي »، أخرجه الملا.

«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه »(1).

وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار،ويجالدون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم انفرد به وحدي، ولم استبد بما كان الرأي عندي(2)، وهذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، لا تزوى عنك،

ص: 193


1- نقل الإمام المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) في كتابه الجليل (النص والاجتهاد) عن الأستاذ المصري المعاصر محمود أبو رية ما يلي: قال: (بقي أمر لابد أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه-وآله-وسلم وما فعل معها في ميراث أبيها، لأنا إذا سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه-وآله-وسلم قد قال: «إنه لا يورث »، وإنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة عليها السلام بعض تركة أبيها صلى الله عليه-وآله-وسلم كأن يخصها بفدك، وهذا من حقه الذي ليس يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من يشاء بما يشاء). قال: (وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم على أن فدكا هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان)، هذا كلامه بنصه. ثم أعقب السيد رحمه الله قائلا: ونقل ابن أبي الحديد عن بعض السلف كلاما مضمونه العتب على الخليفتين والعجب منهما في مواقفهما مع الزهراء بعد أبيها صلى الله عليه -وآله- وسلم قالوا في آخره: (وقد كان الأجل أن يمنعهما التكرم عما ارتكباه من بنت رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم فضلاً عن الدين)، فذيله ابن أبي الحديد بقوله: (هذا الكلام لا جواب عنه)؛ النصوالاجتهاد: ص 123 - 124 .
2- خطر ببالي وأنا أفكر في قول الخليفة: (وذلك بإجماع المسلمين لم أنفرد به)، وقوله في آخر الحديث الذي تفرد بنقله عن النبي صلى الله عليه-وآله-وسلم، (وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر أن يحكم فيه بحكمه)، نعم خطر ببالي وأنا أفكر في هاتين الفقرتين وما إذا كانت فدك من حق المسلمين حتى يؤخذ رأيهم فيه أم من حقه الخاص حتى يحكم فيه بحكمه كما جاء في ذيل الحديث الذي استنكرته الصديقة الطاهرة عليها السلام وعدّته كذبا وزورا وافتراء على الرسول صلى الله عليه -وآله- وسلم اعتلالا منهم لما أجمعوا على الغدر بذريته كما عدّته طعنا في عصمته صلى الله عليه -وآله- وسلم لو صدر ذلك منه. وأسمع ذلك كله في جوابها لأبي بكر: «سبحان الله، ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم عن كتاب الله صادفا، ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل في حياته »، ثم إن كان من حقه الخاص فلماذا لم يعطها سيدة النساء وبنت سيد الأنبياء إكراماً لمقام أبيها صلى الله عليه-وآله- وسلم وإذا كان من حق المسلمين لماذا لم يؤخذ رأيهم أولاً في إعطائها إياها. نعم خطر ببالي وأنا أجيل الفكر في هذا وشبهه قول الشريف قتادة بن إدريس من قصيدته العصماء في رثاء سيدة النساء عليها السلام والتي يقول في أولها: إلى أن يقول:والتي يقول فيها: إلى أن قال -وهو محل الشاهد منها-: ما لعيني غاب عنها كراها*** وعراها من عبرة ما عراها الدار نعمت فيها زمانا*** ثم فارقتها فلا أغشاها إلى أن يقول: بل بكائي لمن خصها*** الله تعالى بلطفه واجتباها وحباها بالسيدين الجليلين*** العظيمين منه حين حباها ولفكري في الصاحبين اللذين*** استحسنا ظلمها وما راعياها منعا بعلها من الحل والعقد*** وكان المنيب والأواها والتي يقول فيها: وأتت فاطم تطالب بالإرث*** من المصطفى فما ورثاها إلى أن قال -وهو محل الشاهد منها-: أترى المسلمين كانوا يلومونهما*** في العطاء لو أعطياها كان تحت الخضراء بنت نبي*** ناطق صادق أمين سواها بنت من؟ أم من؟ حليلة من*** ويلٌ لمن سن ظلمها وأذاها

ص: 194

ولا ندخر دونك، وأنك وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لاندفع مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك (صلى الله عليه وآله) فقالت (عليها السلام):«سبحان الله ما كان أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادفا(1)،

ولا لأحكامه مخالفا! بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل(2) في حياته هذا كتاب الله حكما عدلا، وناطقا فصلا يقول:

﴿... يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ﴾(3).

ويقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَنُ دَاوُودَ...﴾(4).

وبيّن عزّ وجل فيما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما

ص: 195


1- صادفا: معرضا.
2- الغوائل: المهالك.
3- سورة مريم، الآية ( 6).
4- سورة النمل، الآية ( 16 ).

تصفون .»

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبد، ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة (عليها السلام) إلى الناس وقالت:

«معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل(1)، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من

أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأولتم، وساء ما به أشرتم، وشر ما منه اغتصبتم لتجدن والله محمله ثقيلا، وغبه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء وبان بأورائه الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون .»

ثم عطفت على قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقالت:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

وكل أهل له قربى ومنزلة*** عند الإله على الأدنين مقترب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم(2) ***لما مضيت وحالت دونك الترب

تجهمتنا رجال واستخف بنا*** لما فقدت وكل الأرض مغتصب

ص: 196


1- في بعض النسخ (قبول الباطل).
2- النجوى: السر.

وكنت بدرا ونورا يستضاء به*** عليك ينزل من ذي العزة الكتب

وكان جبريل بالآيات يونسنا*** فقد فقدت وكل الخير محتجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا*** لما مضيت وحالت دونك الكثب(1)

ثم انكفأت عليها السلام، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يتوقع رجوعها إليه، ويتطلع طلوعها عليه، فلما استقرت بها الدار، قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام):

«يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل(2)، فخانك ريش الأعزل(3)، هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي وبلغة(4) ابني! لقد أجهد(5) في خصامي، وألفيته ألد في كلامي(6) حتى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة، وعدت راغمة، أضرعت خدك(7) يوم أضعت حدك افترست الذئاب، وافترشت التراب، ما كففت قائلا، ولا أغنيت طائلا(8) ولا خيار لي، ليتني مت قبل

هنيئتي، ودون ذلتي عذيري الله منه عاديا(9) ومنك حاميا، ويلاي في كل شارق!

ص: 197


1- الكثب بضمتين : جمع الكثيب وهو: الرمل.
2- قوادم الطير: مقادم ريشه وهي عشرة والأجدل: الصقر.
3- الأعزل من الطير: ما لا يقدر على الطيران.
4- يبتزني: يسلبني، والبلغة: ما يتبلغ به من العيش.
5- في بعض النسخ (أجهر).
6- ألفيته: وجدته، والألد: شديد الخصومة.
7- ضرع: خضع وذل.
8- أي ما فعلت شيئاً نافعاً، وفي بعض النسخ (ولا أغنيت باطلا): أي كففته.
9- العذير بمعنى العاذر أي: الله قابل عذري، وعاديا، متجاوزا.

ويلاي في كل غارب! مات العمد، ووهن العضد(1)، شكواي إلى أبي! وعدواي(2) إلى ربي! اللهم إنك أشد منهم قوة وحولا، وأشد بأسا وتنكيلا .»

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«لا ويل لك بل الويل لشانئك(3)، ثم نهنهي عن وجدك(4) يا ابنة الصفوة، وبقية النبوة، فما ونيت(5) عن ديني، ولا أخطأت مقدوري(6) فإن كنت تريدين البلغة، فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك، فاحتسبي الله .»

فقالت: «حسبي الله وأمسكت »)(7).

ص: 198


1- الوهن: الضعف في العمل أو الأمر أو البدن.
2- العدوي: طلبك إلى وال لينتقم لك من عدوك.
3- الشانئ: المبغض.
4- أي كفي: عن حزنك وخففي عن غضبك.
5- ما كللت ولا ضعفت ولا عييت.
6- ما تركت ما دخل تحت قدرتي أي لست قادراً على الانتصاف لك لما أوصاني به الرسول صلى الله عليه -وآله- وسلم.
7- السقيفة وفدك للجوهري: ص 139 - 147 ، بتحقيق د. محمد هادي الأميني؛ بلاغات النساء لابن طيفور: ص 14 - 20 ؛ منال الطالب في شرح طوال الغرائب لابن الأثير: ج 2، ص 507 ، بتحقيق محمود الطحاني؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 132 ، تعليق السيد محمد باقر الخرسان؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 34 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16 ، ص 249 ؛ التذكرة الحمدونية: ج 6، ص 256 ؛ جواهر المطالب للدمشقي الباعواني: ج 1، ص 157 ؛ الشافي في الإمامة للشريف المرتضى: ج 4، ص 71 ؛ أعلام النساء لرضا كحالة: ج 3، ص 1208 .
باء - رمزية فدك الثورة

منذ أن عزمت السلطة التي جلست في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) على إصدار تشريعاتها الجديدة؛ ومنذ أن صادرت هذه السلطة أموال آل محمد (صلى الله عليه وآله) فاستولت على حقوقهم؛ ومنذ أن اقتحمت دارهم وأحرقت بابهم وقتلت ابنهم المحسن، فمنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا أصبحت فدك رمزاً

من رموز النضال والجهاد والتضحية والحرية التي أطلقت النسيم للأحرار الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر في تجدد الحياة والإباء ضد الظلم والجور.

هكذا هي فدك رمزية الثورة وعنوان التصدي للظلم ومنطلق الحراك من أجل الشريعة المحمدية، فكان أول من انتفض لأجلها، أي الشريعة، ابنة صاحب الشريعة وحجة الله على الحجج عليهم السلام أم الأئمة ومشكاة الأنوار الإلهية.

ولو أردنا الوقوف عند كلماتها في المسجد لاحتجنا إلى كتاب مستقل كما دأب على ذلك كثير من الفضلاء والباحثين والمحققين إلاّ أننا ارتأينا هنا أن نورد بعض الشواهد على رمزية فدك الثورة منذ أن اتخذتها كذاك بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم تبعها أمير المؤمنين علي عليه السلام فها هو في مسجد الكوفة يكشف

للتأريخ تعمد الخلفاء من قبله والذين جلسوا في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفتون الأمة بسنة جديدة عرفها الناس بسنة الشيخين وألحقوها ظلما وعدواناً بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأحدثوا حدثاً أماتوا فيه سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وأحيوا فيه البدعة التي سموها بالبدعة الحسنة.

وفي هذا التظلم يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

«سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

ص: 199

كيف أنتم إذا لبستم الفتنة، ينشؤ فيها الوليد، ويهرم فيها الكبير، ويجري الناس عليها حتى يتخذوها سنة، فإذا غير منها شيء قيل أتى الناس بمنكر، غيرت السنة، ثم تشتد البلية، وتنشؤ فيها الذرية وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحا بثقالها، يتفقه الناس لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا

بعمل الآخرة .»

ثم أقبل أمير المؤمنين عليه السلام ومعه ناس من أهل بيته، وخاصة من شيعته، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه-وآله-ثم قال: «لقد عمل الولاة قبلي بأمور عظيمة خالفوا فيها رسول الله متعمدين لذلك، ولو

حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها التي كانت عليها على عهد رسول الله لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي إلا قليلا من شيعتي، الذين عرفوا فضلي وإمامتي من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة سلام الله عليها، ورددت صاع رسول الله ومده إلى ما كان، وأمضيت إلى قطايع كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقطعها للناس سنين، ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته، وهدمتها وأخرجتها من المسجد، ورددت الخمس إلى أهله، ورددت قضاء كل من قضى بجور، ورددت سبي ذراري بني تغلب،

ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت ديوان العطاء، وأعطيت كما كان يعطي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء.

والله لقد أمرت الناس: أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، فنادى بعضأهل عسكري ممن يقاتل وسيفه معي: (أنعى الإسلام وأهله غيرت سنة عمر)، ونهى أن يصلى في شهر رمضان في جماعة، حتى خفت أن يثور في ناحية عسكري

ص: 200

على ما لقيت، ولقيت هذه الأمة من أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار.

وأعظم من ذلك سهم ذوي القربى، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَیءٍ فَأَنَّ لَّله خُمسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالَمسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...﴾(1).

وذلك لنا خاصة إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان، نحن والله عنى بذوي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه، ولم يجعل لنا في الصدقة نصيبا،أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس »)(2).

والخطبة مليئة بالدلالات على ظلم السلطة الحاكمة لشريعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) إلا أن الذي نحن بصدده:

1-رمزية فدك الثورة وعنوان ظلامة آل محمد.

2-سهم ذوي القربى، أي الخمس الذي أظهر في ذكره الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الحكمة في اختصاصه بهم.

لكن التشريعات الجديدة لسلطة الشيخين جعلتها عامة للمسلمين فأكلوا ما ليس لهم وفي ذلك يقول إمام المذهب الشافعي:

(إن الذين أعطاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخمس هم آل محمد (صلى الله عليه وآله) وهم آل محمد الذين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلاة عليهم معه، والذين اصطفاهم من خلقه بعد نبيه فإنه يقول:

ص: 201


1- سورة الأنفال، الآية ( 41 ).
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 393 ؛ كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 263 ؛ الكافي للكليني: ج 8، ص 59 ؛ البحار للمجلسي: ج 34 ، ص 168 .

﴿إِنَّ اللَّه اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالِمينَ ( 33 ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

فاعلم أنه اصطفى الأنبياء وآلهم)(2).

3- إن الله تعالى لم يكن ليضيع حق آل محمد (صلى الله عليه وآله) في الفيء ومال رسول الله مما أفاء الله تعالى عليه وكذاك قرية فدك.

ولقد بقيت فدك تحمل في معناها ودلالاتها على كرور الليالي والأيام عنوان الثورة والظلم الذي أنزله حكام المسلمين الذين جلسوا مجلس خلافة النبوة، فكانت منها أي من هذه الدلالات على حقيقة امتلاك فاطمة لهذه الأرض وما عليها ومصادرتها بفعل تشريعات سنة الشيخين ما يأتي:

ألف: إبقاء أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) في بيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يطالب أبو بكر وعمر منهنّ أن تأتي إحداهن ببينة أو شهود على تمليك النبي (صلى الله عليه وآله) لهن هذه البيوت، ولا حتى أوصى لهن بالسكن فيها، ولم

يجعلها من النفقة الواجبة ولا المستحبة عليهن إذا المرأة فارقت الرجل بالوفاة أو الطلاق ما لم تكن حاملاً أو لها حق الحضانة بالنفقة على الزوج؛ ومن ثم بأي شريعة إلهية سكنت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) في بيوته، وتمنع الزهراء من مال أبيها

(صلى الله عليه وآله) خاصة دون غيرها؟!!

باء: إن يهود فدك كانوا أحد الشهود على أحقية فاطمة عليها السلام بها وذلك أن عمر بن الخطاب لما أراد إجلاءهم من أرضهم وإخراجهم احتجوا عليه بما قسمفيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصالحهم عليه من نصف الارض وثمارها.

ص: 202


1- سورة آل عمران، الآية ( 34 ).
2- أحكام القرآن للشافعي: ج 1، ص 77 .

في حين كان أبو بكر يأخذ جميع خراج هذه الأرض بعد أن صادرها من فاطمة وذلك بعد تركه اليهود فيها فسكتوا لأنهم علموا حالها مع أبي بكر وأخذها من فاطمة فقد انتقلت بفعل السلطة الجديدة إلى الحاكم الجديد ومن ثم فإن المعاهدات السابقة قد سقطت بوجود السلطة الجديدة.

وفي ذلك أورد ابن سلام في كتاب الأموال، قال أبو عبيد:

(أجلى عمر بن الخاب يهود خيبر، فخرجوا منها ليس لهم من الثمر والأرض شيء، فأما يهود فدك فكان لهم نصف الأرض، لأن رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم كان صالحهم على ذلك، فأقام لهم عمر نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم كان صالحهم من ذهب وورق وإبل وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم.

قال أبو عبيد: إنما صار أهل خيبر لا حظ لهم في الأرض والثمر لأن خيبر أخذت عنوة فكانت للمسلمين، لا شيء لليهود فيها، وأما فدك فكانت على ما جاء فيها من الصلح، فلما أخذوا قيمة بقية أرضهم خلصت كلها لرسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، ولهذا تكلم العباس وعلي عليهما السلام)(1).

وقال أيضا: (كان أهل فدك قد أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم فبايعوه على أن لهم رقابهم ونصف أراضيهم ونخلهم، ولرسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم أراضيهم ونخلهم فلما أجلاهم عمر بعث معهم من أقام لهم حظهممن الأرض والنخل، فأداه إليهم)(2).

ص: 203


1- الأموال لابن سلام: ج 1، ص 25 ، ح 22 .
2- المصدر السابق.

في حين أن مطالبة الإمام علي عليه السلام والعباس بأرض فدك ورجوعهما إلى عمر بن الخطاب ليس لاختلافهما فيما بينهما كما يروج لذلك رواة الشيخين أبي بكر وعمر، وإنما لأنهما جاءوا يطالبون الحاكم الجديد الذي لم يستطع أن يرد على اليهود بما كان بينهن وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) من معاهدة، وإن هذه

الأرض تختلف من حيث الحكم عن أرض خيبر، ففدك مما لم يوجف عليها بخيل أو قتال وإنما جاءت صلحاً للنبي (صلى الله عليه وآله) فهي مما أفاء الله تعالى على نبيه خالصة له.

ولو أنكر عمر بن الخطاب هذه المعاهدة لكان هؤلاء شهوداً أمام الناس يأججون عليه اغتصاب أبي بكر لفدك من فاطمة مما يثير الفوضى واحتجاج بني هاشم والمتعاطفين معهم.

ولذا:

وجد عمر أن الأسلم أن يبقي على المعاهدة فيما بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم فلا يحرك ساكن ثورة فدك الذي ظهر في مجيء علي والعباس إليه يحاججانه في أرض فدك.

أي ليلزموا عمر بن الخطاب بما ألزم به نفسه مع اليهود فأما أنه يقر بأن صاحبه أبا بكر قد اغتصبها من فاطمة وأنها كانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا عمل بهذا مع اليهود؛ وأما أن يرجعها إليهما، فوجد أن إرجاع فدك إلى عليوالعباس أسلم من تحرك ثورة فدك وإثبات ظلامة فاطمة عليها السلام وحسب تصرفه اجتهاداً عند أشياع الشيخين.

جيم: تكذيب حديث (لا نورث) بلسان عثمان بن عفان وذلك بعد أن جاءته عائشة مطالبة بما كان يفرضه لها عمر بن الخطاب مع العطاء فما كان من عثمان إلاّ أن

ص: 204

يجد رأيه في هذا العطاء ويعمل باجتهاده فمنع عنها ما كان يبذله لها عمر بن الخطاب فكان سبب نقمتها عليه.

وفي ذلك يروي الشيخ المفيد (عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام، أنه قال: «جاءت عائشة إلى عثمان فقالت له: أعطني ما كان يعطيني أبي، وعمر بن الخطاب، فقال لها: لا أجد لك موضعا في الكتاب ولا في السنة، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما وأنا لا أفعل.

قالت له: فأعطني ميراثي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال لها: أو لم تجيئيني أنت ومالك بن أوس النصري فشهدتما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يورث حتى منعتما فاطمة ميراثها وأبطلتما حقها، فكيف تطلبين اليوم ميراثاً من النبي (صلى الله عليه وآله)؟

فتركته وانصرفت؛ وكان عثمان إذا خرج إلى الصلاة أخذت قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قصبة فرفعته عليها ثم قالت: إن عثمان قد خالف صاحب هذا القميص وترك سنته »)(1).

دال: كشف الإمام الكاظم عليه السلام لهذه الظلامة وبيان رمزية فدك الثورة والانتفاضة على ظلم آل محمد (صلى الله عليه وآله) فهذه المعاني جاءت واضحة في مخاطبة الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) للخليفة العباسي المهدي، حينما وجده يرد المظالم، (فقال له: «ما بال مظلمتنا لا ترد .»

ص: 205


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص 125 .

فقال له: وما هي يا أبا الحسن؟ فقال -عليه السلام-:

«إنّ الله عزّ وجل لما فتح على نبيه (صلى الله عليه وآله) فدكاً وما والاها ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فأنزل الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله): ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ …﴾(1).

فلم يدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هم، فراجع في ذلك جبرئيل عليه السلام فسأل الله عزّ وجل فأوحى الله إليه أن ادفع فدكا إلى فاطمة عليها السلام فدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لها:

يا فاطمة إنّ الله تعالى أمرني أن أدفع إليك فدكا، فقالت: قد قبلت يا رسول الله، من الله، ومنك .»

فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ فلما ولي أبو بكر أخرج عنها ولكاءها، فأتته فسألته أن يردها عليها، فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين وأم أيمن(2)، فشهدا لها فكتب لها بترك

ص: 206


1- سورة الإسراء، الآية ( 26 ).
2- قال ابن عبد البر في ترجمة أم أيمن: بكرة بنت ثعلبة، بن عمرو، بن حصن، بن مالك، بن سلمة، بن عمرو، بن النعمان، وهي أم أيمن، غلبت عليها كنيتها فكنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي بعدأم أسامة ابن زيد، تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي، فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، وخادم رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم بأم الظباء، هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة جميعا؛ وكانت لعبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، وصارت للنبي صلى الله عليه-وآله- وسلم. وكانت بمنزلة الأم لرسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم يقول: «أم أيمن أمي بعد أمي »؛ (الاستيعاب لابن عبد البر: ج 2، ص 78 ). وروى المازندراني عن علي بن معمر قال: خرجت أم أيمن إلى مكة لما توفيت فاطمة وقالت لا ارى المدينة بعدها فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، قال: فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت: يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك، قال فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت، ولم تجع ولم تطعم سنين؛ (مناقب آل أبي طالب: ج 3، ص 338 ؛ الخرائج للراوندي: ج 2، ص 530 ؛ الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 224 ). وقال ابن سعد: وقد حضرت أم أيمن أحداً وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى، وشهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم. وقال أبو نعيم قيل: كانت لأخت خديجة فوهبتها للنبي صلى الله عليه -وآله-وسلم؛ وقال ابن سعد: قالوا: كان ورثها عن أمه فأعتق رسول الله أم أيمن حين تزوج خديجة، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة فولد له أسامة. وأسند عن الواقدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه-وآله-وسلم يقول لأم أيمن: «يا أمه » وكان إذا نظر إليها يقول: «هذه بقية أهلي .» وقال ابن سعد: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف ودون الروحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلّ عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته حتى رويت فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت.وأخرج ابن سعد عن سفيان بن عيينة قال: كانت أم أيمن تُلطف النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم وتقدّم عليه، فقال: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن »، فتزوجها زيد بن حارثة. وأخرج البخاري في تاريخه، وابن السكن من طريق الزهري قال: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصفية لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه-وآله-وسلم، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم بعدما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضه حتى كبر، ثم أنكحها زيد ابن حارثة؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 224 225 ؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 3، ص 427 ؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 12 ، ص 408 ، ترجمة 9055 ).

التعرض، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟

ص: 207

قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة.

قال: أرنيه؛ فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه، ثم تفل فيه ومحاه وخرقه.

فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي؟ فقال:

«حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل .»

فقال له: كل هذا؟! قال:

«نعم يا أمير المؤمنين هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخيل ولا ركاب .»

فقال: كثير، وأنظر فيه)(1).

والحديث الشريف يكشف عن جملة من الحقائق وهي كالآتي:

1- ثبوت انتقال ملكية فدك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن أفاءها الله تعالى عليه إلى فاطمة عليها السلام بأمر من الله تعالى.

2- النبي (صلى الله عليه وآله) يجري عقداً بينه وبين فاطمة في العرض والقبول فقد قبضت منه بهذا العقد، فقالت: قد قبلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من

ص: 208


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 543 ؛ التهذيب للطوسي: ج 4، ص 148 ؛ وسائل الشيعة: ج 9، ص 525 ؛ عوالي اللآلي لابن أبي الجمهور الاحسائي: ج 2، ص 78 ؛ البحار للمجلسي: ج 48 ، ص 157 ؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 8، ص 580 ؛ تفسير القرآن المجيد للشيخ المفيد: ص 326 ؛ فقه القرآن للراوندي: ج 1، ص 248 ؛ التفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 3، ص 186 .

الله ومنك؛ وذلك توكيداً وتوثيقاً لانتقال ملكيتها من الله تعالى فهو سبحانه المالك وله ما في السماوات وما في الأرض وهو الذي منّ على رسوله فملكه هذه الأرض وغيرها فكانت من الفيء، وهو عزّ وجل نقل ملكيتها من رسوله (صلى الله عليه وآله) إلى فاطمة (عليها السلام).

3- تصرفها (عليها السلام) في هذه الأرض بعد أن تملكتها فقد جعلت فيها وكلاء ينظرون ويديرون شؤونها الزراعية والتسويقية وغير ذلك، وينفقون بأمرها في أوجه البر الكثيرة قربة إلى الله تعالى.

4-مطالبتها (عليها السلام) من أبي بكر بأن يرد عليها أرض فدك كان في المرحلة الأولى لإلقاء الحجة عليه ولتنظر ما هو الوجه الشرعي الذي استند إليه أبو بكر في مصادرة أرض فدك وإخراج وكلائها منها.

أما في المرحلة الثانية من المطالبة بحقها فكان التوجة إلى المسجد وإظهار المحاربة العلنية في محفل المهاجرين والأنصار، وذلك بعد أن جاءت إلى أبي بكر بالشهود وإلزامه بما ألزم به نفسه فقد طلب شهوداً فجاءته بما طلب، ولقد نزلت عند هذا الطلب كي تقطع الطريق عليه في التشريع الذي شرعه لنفسه ومخالفته الصريحةلسنة رسول الله )صلى الله عليه وآله( وشريعة الإسلام.

5-إن السبب الذي دفع أبا بكر بالمطالبة بالشهود إلى المستوى الذي كان فيه واثقا من عدم قدرة فاطمة على أن تأتي إليه بأحد فقال بصيغة المجاز: (ائتيني بأسود أو أحمر) ولم يحدد في ذلك المهاجرين والأنصار وإنما ذهب إلى استخدام الأعراق للدلالة على استحالة أن يأتي مع فاطمة (عليها السلام) من يشهد لها بامتلاكها لهذه الأرض والسبب في هذه الثقة عند أبي بكر:

ص: 209

أ- الآثار التي خلفها حرق بيت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها واقتحامه وإخراج أمير المؤمنين (عليه السلام) يقاد مع عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وغيرهم إلى البيعة إرهاباً وكرهاً وتعسفاً.

ب- قلة الناصر وخذلان المهاجرين والأنصار لعلي ولها ولولديها حينما كان يدور عليهم علي مع بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وولديه فلم يجد ناصراً مما أعطى هذا التخاذل من المهاجرين والأنصار كل هذا الزخم النفسي لأبي بكر.

جيم: إن من يتخاذل عن نصرة بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولديها وهي تستغيث فلا تغاث وتنتهك حرمة رسول الله في اقتحام بيت النبوة وحرقه، كيف له أن يحيا ضميره في لمحة من البصر فيأتي أمام محضر سلطان أبي بكر ليشهد لفاطمة عليها السلام بأن النبي (صلى الله عليه وآله) ملكها أرض فدك، وهل هذا

الأمر يحتاج إلى شهود والنبي (صلى الله عليه وآله) جاءته فدك في السنة السابعة، أي إن هذه الأرض بقيت ثلاث سنوات بيد فاطمة، وأن وكلاءها يعملون بها أمام المهاجرين والأنصار واليهود والنصارى.فلماذا يطلب من فاطمة أن تأتي بالشهود؟ إلا لأن الأمر أصبح أشبه بالمستحيل، فمن يشهد مع فاطمة بعد جريمة حرق بيت فاطمة (عليها السلام).

ولذلك: لم يأتِ معها ليشهد لها على ظلامتها واغتصابها حقها غير أمير المؤمنين (عليه السلام) ومولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم أيمن؛ وهذا يكشف عن حجم الظلم الذي نزل بها (عليها السلام) فلا من أحد، لا من المهاجرين، ولا الأنصار، ولا من بني هاشم، ولا زوجة من أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله)،

سوى علي (عليه السلام) وأم أيمن.

ص: 210

فمن يجرؤ على المجيء وقد هتكت حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا المستوى الذي فعله الشيخان وعصابة من الصحابة الذين خجل من بيانهم المؤرخون فقالوا: (جاء عمر بعصابة من المسلمين)، وكأننا في زمن آخر ليس بزمن الصحابة.

6-لما جاءته (عليها السلام) بما طلب، وجد نفسه ملزماً برد فدك، وذلك أن عدم الركون لهذا الطلب يكشف إصراره على ظلم فاطمة بشكل خاص، فإن كان دخوله لبيتها وحرقه بدافع جمع الصحابة على بيعة رجل واحد ومنعاً -كما يقولون- من شق عصا الأمة وتفرقها الذي أصبح واقع حال، وثمرة من ثمرات السقيفة.

فإن عدم تسليمه لأرض فدك بعد شهادة الشهود ليس له توجيه سوى التجاهر بحرب فاطمة عليها السلام، وعندها قد ينهض معها من ينهض ولو باحتمالية ضعيفة جدا.

فضلاً عن احتدام المواجهة من جديد لاسيما وقد استقر له الأمر وبايعه الناس واستقر مجلسه في السلطان الجديد.

7- لا أجد كلمات مناسبة تصف هذا الفعل الذي قام به عمر بن الخطاب حينما اعترض بضعة النبوة وروح المصطفى (صلى الله عليه وآله) فأرهبها وسلبها الكتاب، ثم ليتفل فيه ويمحوه ويمزقه ولعل الأمر لو كان مسجلاً بعدسة مصورٍ لكتب في أسفل الصورة (بدون تعليق) إذ يترك الكلام فيها للناظر.

8-إن تلك الحدود التي ذكرها الإمام أبو الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) إنما هي الحدود الشرعية بحسب قانون الفيء الذي جعله الله خاصة من خصائص رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 211

ومن ثم فكل ما هو داخل تحت هذا العنوان فهو من حق فاطمة وأبنائها فهم الورثة الشرعيون لمال رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وإن من انتفع من هذه الأموال بدون إذن منها أو منهم من بعدها فهو غاصب لمال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومال آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولذلك قال له المهدي: (كثير) أي

إن ما ذكرت من الحدود فهو كثير: وذلك: إن رمزية فدك كانت منطلقاً للثورة ورفع الظلم عن آل محمد (صلى الله عليه وآله).

9-إن إطلاق الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر بصفة (أمير المؤمنين) على المهدي العباسي ليس إقراراً له بالإمارة على المؤمنين، فأين هؤلاء الطواغيت والإيمان والمؤمنين، وإنما اتصافه بالصفة التي أطلقها على نفسه كمن يصف نفسه ل(ملك الملوك)، أو (صاحب الجلالة).

ص: 212

المبحث الحادي والثلاثون: مقاصدية ذكره للرزية الثالثة في منعهم إرثها جهراً

اشارة

ص: 213

قوله (عليه السلام): «وتُمنْعَ إرِثْهَاَ جهَرْاً »

اشارة

ص: 214

المسألة الاولى: القصدية في إيراده وقوع الأحداث تنازلياً من حيث وقوعها الزمني

يرشد النص الشريف الى أنه (عليه السلام) تناول ذكر هذه الرزايا الثلاثة من حيث الوقوع الزمني بعرضها تراجعيا؛ بمعنى:

1-إنَّ وقوعها الزمني وتسلسلها كان ابتداءً من منعها ارثها جهراً، ثم هضم حقها ثم دفنها سراً إلا أنّه (عليه السلام) قدم الدفن على الهضم والمنع لبيان النتيجة التي أدت الى المصيبة والرزية الثالثة وهي أن تدفن سراً، ومن ثم إظهار حقيقة إشتراك معظم الصحابة في ظلمها في الرزايا الثلاث.

إذ قد يتبادر الى ذهن القارئ للتاريخ الاسلامي والنصوص الحديثة وأقوال أتباع التضليل والتزييف للحقائق، أن الامر كان منحصرا بينها وبين الشخصين في منع ارثها بلحاظ أنّ أبي بكر سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) -كما يدّعي- أنه لا يورث.

ومن ثم تنتهي حقيقة تظافر الأمة على هضمها حقها وتظافرها على علي بن أبي طالب (عليه السلام).

اذن:كان المقصد في ايراده (عليه السلام) لهذا الترتيب العكسي في وقوع الاحداث لهذا الغرض وهو اظهار حقيقة الامة والصحابة وظلمهم لبنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 215

2-ان البعض قد توهم في ان ارض فدك وميراث فاطمة (عليها السلام) هما شيء واحد وهو مما دفعها للخروج الي المسجد في حين ان مسألة ارثها وحقها في قضية فدك امران منفصلان فقد اقدم ابو بكر في بادئ امره على منعها من ارثها وتصدير اموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحبس هذه الاموال.

في حين كانت ارض فدك واخراج عاملها منها وحبس سهم خيبر وسهم الفيء عنها وعن ولديها هما من حقوقها.

وعليه:

ما هو ارث فاطمة الذي صادره ابو بكر جهراً؟ وجوابه فيما يلي.

المسألة الثانية: قصدية التعريف بمصادرة السلطة لأموال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وماهي هذه الأموال ؟

أولاً: حقيقة قيام السلطة الحاكمة بحبس امول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )
اشارة

قبل التعرف على ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أموال منقولة ينبغي الرجوع أولاً إلى حقيقة قيام السلطة الحاكمة بحبس أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنع فاطمة عليها السلام من إرثها.

فعن عائشة، أنها قالت: (إن فاطمة (عليها السلام) أرسلت إلى أبي بكر تسأله عن ميراثها من رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم، وهي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر:

ص: 216

إن رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال: «لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال .»

وإني والله لا أغيّ شيئاً من صدقات رسول الله -صلى الله عليه وآله- عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله-.

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت من ذلك على أبي بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت)(1)..

دلالات الرواية:

1-إن أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

ألف: أمواله في المدينة.

باء: أرض فدك.

جيم: خمس خيبر.

وهذه الأموال جاءت فاطمة (عليها السلام) تطالب بها السلطة الحاكمة وذلك بعد حبسها ومصادرتها وجعلها من ضمن أموالها، والدليل على ذلك: هو مطالبة فاطمة (عليها السلام) فلو لم يصادرها أبو بكر ويحبسها عن فاطمة بكونها الوريث الوحيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لما جاءت تطالب بحقها منه.

2- إطلاق اسم جديد على هذه الأموال وعنوان فقهي تشريعي يمكن السلطة من مصادرة هذه الأموال لحسابه كي يتصرف فيها ما يشاء، فسميت ب(صدقات رسول الله صلى الله عليه -وآله-وسلم) أي: نفي الملكية الخاصة عن هذه الأموال إلى الملكية العامة فتنفق بحسب ما تراه السلطة التي وضعت يدها على هذه الأموال.

ص: 217


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين: ج 4، ص 210 .

ولذلك: نجد في كتب التاريخ والسيرة وغيرها أن هذه الأموال تسمى بصدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) كي يضيع معها أي حق لفاطمة عليها السلام يمكن أن يلتفت إليه المسلمون فيما بعد وعلى مرور الزمن.

3-إن أبا بكر كان يدرك جيداً أن هذه الأموال هي مما يستعين به آل محمد (صلى الله عليه وآله) على مؤونتهم وذلك أن الله تعالى كان قد حرم عليهم الصدقة وأباح لهم الخمس وما ورثته فاطمة من أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله تعالى عليه -كما سيمر بيانه-.

وعليه:

أصبح آل محمد (صلى الله عليه وآله) بين مطرقة حرمة الصدقات فلا يجوز لهم أكل الصدقة وبين حبس الخمس فمن أين يأكلون؟! ولذا: كان حصاراً بعنوان شرعي حتى يتم القضاء على أهل بيت فاطمة (عليها السلام).

4- إن فاطمة (عليها السلام) بحرمانها من حقها ومصادرة أموالها التي ورثتها ومنع الخمس عنها، نتج عنه غضبها على أبي بكر فلم تكلمه حتى انتقلت إلى بارئها لتشكو إليه ما نزل بها من الظلم، وقد ثبت في الصحاح عنه (صلى الله عليه وآله):

«إن الله يرضى لرضا فاطمة -عليها السلام- ويغضب لغضبها .»

ولكن ما هي أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة، وفدك، وخمس خيبر؟!

كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أموال كثيرة في المدينة المنورة وقد جاءت إليه هدية خالصة لنفسه وهي كالآتي:

ص: 218

ألف - الحوائط السبعة؛ أو أرض العوالي التي كانت لمخيريق اليهودي

وهذه الأرض مكونة من سبعة بساتين عامرة ومليئة بالنخيل والأشجار، فضلاً عن زراعتها بكثير من الحاصلات الأرضية كالخضار.

وقد جاءت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتقلت إليه من خلال وصية أوصى بها المالك لهذه الحوائط السبعة أي البساتين (مخيريق اليهودي) وقد نص على انتقالها أهل السير، فمما قالوا:

1- قال ابن إسحاق (المتوفى سنة 150 ه) وهو أول من صنف السيرة النبوية:

(وكان من حديث مخريق، وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله (صلى الله عليه -وآله- وسلم) بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم (وأصحابه) بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم، فأموالي لمحمد (صلى الله عليه -وآله- وسلم) يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم -فيما بلغني- يقول:

«مخيريق خير يهود .»

وقبض رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم أمواله، فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم بالمدينة منها)(1).

ص: 219


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 362 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 501 ؛ تاريخ المدينة لابن شبة: ج 1، ص 173 ؛ الأحكام السلطانية للماوردي: ص 169.

2- وروى ابن أبي شبة النميري في تاريخ المدينة أسماء هذه الحوائط السبعة وسبب تسميتها بهذه الأسماء فقال: (عن ابن شهاب الزهري، قال: كانت صدقات رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم أموالاً لمخيريق اليهودي، قال عبد العزيز بلغني أنه كان -أي مخريق من بقايا بني قينقاع- وأوصى مخريق بأمواله للنبي صلى الله عليه -وآله- وسلم، وشهد أحداً فقتل بها، فقال رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم:

«مخيريق سابق اليهود، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة .»

وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبي صلى الله عليه -وآله- وسلم: الدلال، وبرقة، والأعواف، والصافية، والمشيب، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم.

فأما الصافية والبرقة والدلال والمنيب، فمجاورات بأعلى السورين من خلف قصر مروان بن الحكم، فيسقيها مهزور.

وأما مشربة أم إبراهيم فيسقيها مهزور، فإذا خلفت بيت مدراس اليهود، فحيث مال أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الأسدي، فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وإنما سميت (مشربة أم إبراهيم) لان أم إبراهيم من رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم ولدته فيها، وتعلقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة، فتلك الخشبة اليوم معروفة في المشربة.

وأما حسنى فيسقيها مهزور وهي من ناحية القف.

وأما الأعواف فيسقيها أيضا مهزور، وهي أموال بني محمم.

- قال أبو غسان: وقد اختلف في الصدقات، فقال: بعض الناس هي أموال قريظة والنضير.

ص: 220

- فحدثني عبد العزيز بن عمران، عن أبان بن محمد البجلي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: كانت (الدلال) لامرأة من بني النضير، وكان لها سلمان الفارسي، فكاتبته على أن يحييها لها ثم هو حر، فأعلم ذلك النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم، فخرج إليها فجلس على فقير، ثم جعل يحمل إليه الودي فيضعه بيده، فما عدت

منها ودية أن أطلعت. قال: ثم أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه-وآله- وسلم.

قال: والذي تظاهر عندنا أنها من أموال النضير، ومما يدل على ذلك أن مهزورا يسقيها، ولم يزل يسمع أنه لا يسقي إلا أموال بني النضير.

- قال: وقد سمعنا بعض أهل العلم يقول: إن برقة والميثب للزبير بن باطا، وهما اللتان غرس سلمان، وهما مما أفاء الله من أموال بني قريظة ويقال: كانت (الدلال) من أموال بني ثعلبة من اليهود، و(حسنى) من أموالهم، و (مشربة أم إبراهيم) من أموال بني قريظة، و (الأعواف) كانت لخنافة اليهودي من بني قريظة، والله أعلم أي ذلك الحق، وقد كتبناه على وجهه كما سمعنا)(1).

باء - أرضه من أموال بني النضير

قال الماوردي:

(وهي أول أرض أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) فأجلاهم عنها وكف عن دمائهم وجعل ما حملته الإبل من أموالهم إلاّ السلاح، فخرجوا بما استقلت أبلهم إلى خيبر والشام وخلصت أرضهم كلها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ ما كان ليمين بن عمير وأبي سعد بن وهب فإنهما أسلما قبل الظفر،

ص: 221


1- تاريخ المدينة لابن شبة النميري: ج 1، ص 173 175 ؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1،ص 518

فأحرز لهما إسلامهما ثم قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما سوى الأرضين من أموالهم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة فإنهما ذكرا فقرا فأعطاهما وحبس الأرضين على نفسه فكانت من صدقاته

حيث يشاء وينفق منها على أزواجه، ثم سلمها عمر ابن الخطاب إلى العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب عليه السلام)(1).

جيم - ثلاثة حصون من خيبر

كانت خيبر من الأماكن التي استملكها اليهود وبنوا فيها مجموعة من الحصون بلغ عددها ثمانية حصون كانوا يتحصنون بها من كل عدو.

ولما فتح الله تعالى عليه خيبر جاءته ثلاثة منها سلماً وصلحاً، وفي ذلك يقول الماوردي (وَكَانَتْ ثَمَانِيَةَ حُصُونٍ: نَاعِمَ وَالْقُمُوصَ وَشَقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ وَالْوَطيحَ وَالسَّلالِم وَحِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ فَتَحَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَيْهِ -وآله- وَسَلَّمَ مِنْهَا نَاعِمٌ وَعَنْهُ قُتِلَ مَحمْودُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخُو مُحمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَالثَّانِی الْقُمُوصُ وَهُوَ حِصْنُ ابْنِ أَبِی الَحقِيقِ، وَمِنْ سَبْيِهِ

(اصْطَفَى رَسُولُ اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَيْهِ -وآله- وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِی الَحقِيقِ فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَيْهِ -وآله- وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا).

ثُمَّ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ أَعْظَمَ حُصُونِ خَيْبَر وَأَكْثَرَهَا مَالاً وَطَعَامًا وَحَيَوَانًا، ثُمَّ شَقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ فَهَذِهِ الُحصُونُ السِّتَّةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً، ثُمَّ افْتَتَحَ الْوَطْيحَ وَالسَّلالِم وَهِيَ آخِرُ فُتُوحِ خَيْبَر صُلْحًا بَعْدَ أَنْ حَاصَرهُمْ بِضْعَ عَشْرة لَيْلَةَ

ص: 222


1- الأحكام السلطانية للماوردي: ص 169 .

فَسَألَوهُ أنَ يَسِيرَ بِهمِ وَيْحقِنَ لَهُم دمِاءَهُمْ فَفَعَلَ ذَلكِ، وَمَلَكَ مِنْ هَذِه الْحصُونِ الثمَّانيِةَ ثَلاثَةَ حُصُونٍ الْكَتِيبَةَ وَالْوَطيحَ وَالسَّلالِم: أَمَّا الْكَتِيبَةُ فَأَخَذَهَا بِخُمُسِ الْغَنِيمَةِ.

وَأَمَّا الْوَطيحُ وَالسَّلالِم فَهُمَا مِّما أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ؛ لأنهُ فَتَحَهَا صُلْحًا، فَصَارَتْ هَذِهِ الُحصُونُ الثَّلاثَةُ بِالْفَيْءِ وَالْخمُسِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَيْهِ -وآله- وَسَلَّمَ فَتَصَدَّقَ بِها وَكَانَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ.

وَقَسَّمَ الْخمْسَةَ الْبَاقِيَةَ بَيْن الْغَانِمِينَ وَفِی جُملَتِهَا وَادِي خَيْبَر وَوَادِي السَّريرِ وَوَادِي حَاضِر عَلَی ثَمَانيِةَ عَشَر سَهْمًا، وَكَانَتْ عِدَّةُ مَنْ قُسِمَتْ عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَهُمْ أَهْلُ الُحدَيْبِيَةِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ خَيْبَر وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَلَم يَغِبْ عَنْهَا إلاّ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللِّه

قَسَمَ لَهُ كَسَهْمِ مَنْ حَضَرهَا، وَكَانَ فِيهِمْ مِائَتَا فَارِسٍ أَعْطَاهُمْ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَا سَهْمٍ لألفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ، فَكَانَتْ سِهَامُ جَميعِهِمْ أَلْفًا وَثَمَانِماِئَةِ سَهْمٍ، أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةٍ سَهْمًا فَلِذَلِكَ صَارَتْ خَيْبَر مَقْسُومَةً عَلَی ثَمَانِيَةَ عَشَر سَهْمًا)(1).

دال - أرض فدك

(كان النبي (صلى الله عليه وآله) لما فتح خيبر جاءه أهل فدك فصالحوه بسفارة محيصة بن مسعود على أن لهم نصف أرضهم ونخلهم يعاملهم عليه ولهم النصف الآخر، فصار النصف منها من صدقاته معاملة مع أهلها بالنصف من ثمرتها والنصف الآخر خالصاً لهم إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب فيمن أجلاه من أهل الذمة عن الحجاز فقوم فدك ودفع إليهم نصف القيمة فبلغ ذلك ستين ألف

درهم، وكان الذي قوّمها مالك بن التيهان وسهل بن أبي حتمة وزيد بن ثابت، فصار نصفها من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونصفها الآخر لكافة المسلمين، ومصرف النصفين الآن سواء)(2).

ص: 223


1- الأحكام السلطانية: ص 170 .
2- الأحكام السلطانية: ص 170 ؛ تركة النبي صلى الله عليه -وآله- وسلم لحماد بن إسحاق: ص 79 .

وقد نحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الأرض لفاطمة (عليها السلام) قبل وفاته بأمر من الله تعالى كما سيمر بيانه في المسألة القادمة.

هاء - الثلث من أرض وادي القرى

وهو وادٍ بين المدينة والشام، ما بين تيماء وخيبر؛ وسمي بوادي القرى: لأن الوادي من أوله إلى آخره مكون من عدة قرى، يقع قسمٌ منها على طريق حاج الشام وكان يسكنها اليهود.

وهذه الأرض كانت مقسمة إلى ثلاثة أثلاث فثلثها الأول كان لبني عذرة، وثلثها الثاني والثالث كان لليهود، فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على نصفه، فصارت أثلاثاً: ثلثها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو من صدقاته، وثلثها لبني عذرة، إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب، وقومت في زمانه فكانت قيمتها تسعين ألف دينار)(1).

واو - موضع سوق بالمدينة يقال له: مهروذ أو مهروز

واو - موضع سوق بالمدينة يقال له: مهروذ أو مهروز (2).

فهذا حجم أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير المنقولة وجميعها كانت في المدينة وقد قام أبو بكر بحبسها ومصادرتها وجعلها في ميزانية الحكومة الجديدة وجميعها من حق فاطمة عليها السلام تحت عنوان إرثها من أبيها (صلى الله عليه

وآله) فجعلها أبو بكر وعمر صدقة كي تخرج من يدي بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 224


1- الأحكام السلطانية: ص 170 .
2- المصدر السابق.

سعياً منهم بسد المنافذ على علي وفاطمة من التمكن في إنفاق درهم واحد في المطالبة بحق علي (عليه السلام) في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيستعين به كما استعان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمال خديجة في قيام الإسلام.

ثانياً: أموال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) غير المنقولة

وسوى هذه الأموال من الأراضي والبساتين كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أموال أخرى وهي منقولة فكانت كالآتي:

1-قال الحسن بن الوشاء: سألت مولانا أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام): هل خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير فدك شيئاً؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام):

«إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلف حيطاناً بالمدينة صدقة(1)، وخلف ستة أفراس، وثلاث نوق (العضباء، والصهباء، والديباج، وبغلتين: الشهباء والدلدل، وحماره اليعفور، وشاتين حلوبتين وأربعين ناقة حلوباً، وسيفه ذا الفقار، ودرعه ذات الفضول، وعمامته السحاب، وحبرتين يمانيتين وخاتمه الفاضل، وقضيبه

الممشوق، وفراشاً من ليف، وعباءتين قطونتين، ومخاداً من أدم.

فصار ذلك إلى فاطمة عليها السلام ما خلا درعه وسيفه وعمامته وخاتمه فإنه جعلها لأمير المؤمنين عليه السلام »)(2).

ص: 225


1- أطلق الإمام الرضا (عليه السلام) على هذه الحوائط السبعة ب(الصدقة) وذلك لأنها عرفت فيما بين الناس بصدقات رسول الله صلى الله عليه-وآله-وسلم ولذا أسماها للوشاء بما اشتهرت به وعرفت وهو لا يدل على كونها من الأصل كانت صدقة، لأن ذلك مخالف لما هو ثابت في العقيدة الإسلامية من عدم تصدق رسول الله منها على المسلمين فهي ماله الذي انتقل إلى ابنته فاطمة.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 26 ، ص 103 .

2- روى الشيخ الكليني والصدوق (رحمهما الله) عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب

وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال للعباس:

«يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ .»

فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق (صلى الله عليه وآله) هنيئة ثم قال:

«يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ .»

فقال: بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح، قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ثم قال:

«يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟ .»

فقال:

«نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي .»

قال: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال:

«تختم بهذا في حياتي .»

قال:

«فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم .»

ثم صاح:

ص: 226

«يا بلال علي بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب .»

قال:

«فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك يعني الأبرقة فجيء بشقة كادت تخطف الابصار فإذا هي من أبرق الجنة .»

فقال:

«يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال: يا محمد اجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة .»

ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعا أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف والقميصين: القميص الذي أسري به فيه والقميص الذي خرج فيه يوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجمع، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه، ثم قال:

«يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى والفرسين: الجناح .»

كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحيزوم وهو الذي كان يقول:

«أقدم حيزوم والحمار عفير .»

ص: 227

فقال:«أقبضها في حياتي .»

فذكر أمير المؤمنين (عليه السلام):

«أن أول شيء من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها فكانت قبره .»

وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«إن ذلك الحمار كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: بأبي أنت وأمي إن أبي حدثني، عن أبيه، عن جده، عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار »)(1).

فهذه أملاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنقولة وغير المنقولة والتي جاءته من خلال الخمس، والهبة، والفيء، والغنيمة وقد انتقلت ملكيتها إلى الزهراء صلوات الله عليها فبعضها انتقل إليها من عنوان الهبة والنحل، وبعضها كان بالإرث وقد حبسها جميعاً أبو بكر وعمر وصادراها، لاسيما أرض فدك التي كانت أعظم هذه الأموال وأكثرها أثراً على المستوى المالي والجباية وعلى المستوى الاستراتيجي والسياسي والعقائدي وذلك لكونها جاءتها أثناء حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأمر من الله تعالى وكانت تقبض إيرادها المالي وتنظر في إصلاحها وشؤونها أثناء حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 228


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 1، ص 237 ، ح 9؛ علل الشرايع: ج 1، ص 167 ؛ البحار: ج 1،ص 167 .

مما أكسبها أي هذه الأرض خصوصية وشأنية لأنها تحمل معها عنوان الشأنية والعناية الإلهية بفاطمة وذريتها ومن ثم أراد الحاكم الجديد قطع جذور هذه الحرمة والشأنية التي لفاطمة عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله) فضلاً عن الجانب المالي الذي كان لهذه الأرض.

وقد جاءت فاطمة (عليها السلام) تطالب بجميع هذه الأموال كما أسلفنا في حديث عائشة.

وعليه:

فهذا الارث منعت منه فاطمة(عليها السلام) جهراً امام الملئ من الصحابة فلم يحركوا ساكناً ولم يهتز لهم جفن فيما كان يرون ويسمعون.

ومن ثم كانت المقاصدية هي الكشف عن حقيقة أولئك الذين اتخذهم المسلمون ائمة يقدمون بهم على الله يوم القيامة.

ص: 229

ص: 230

المبحث الثاني والثلاثون: المقاصدية في نفي أخلولق الذكر وبعُد العهد

اشارة

ص: 231

أخرجه الشيخ الكليني بلفظ: قوله (عليه السلام): «ولَم يَتَبَاعَدِ العْهَدْ ولَم يخَلَق منِكْ الذِّكْرُ »ُوأخرجه الطبري الإمامي بلفظ: «ولَم يبَعْدُ بكِ العهَدْ ولَا أخلْولْق منِكْ الذكِرُ .» وأخرجه الشريف الرضي بلفظ: «هذا ولَم يطَلِ العهَدْ ولَم يخَلُ منِكْ الذكرُ»

ص: 232

قال (عليه السلام) في هذا الشطر من النص الشريف وبحسب ما جاء في رواية الشيخ الكليني، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي بلفظ:

«ولم يتباعد العهد ولم یخلَق منك الذكر »(1)

وأخرجه الطبري الإمامي بلفظ:

«ولم يبعد بك العهد و لا أخلولق منك الذكر »(2).

وأخرجه الشريف الرضي بلفظ:

«هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر»(3).

إن تعدد صيغة اللفظ كما أورده علماء الطائفة الإمامية (اعلى الله شأنهم)، يرشد مدلولات متعددة اكتنزها كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة، ومن ثم: فنحن نحتمل ورودها في أصل النص الشريف إلا أنَّ الاختلاف وَقَعَ تصحيفاً من النساخ لهذه المصنفات مما يلزم البحث في كل لفظ بغية الوصول الى المقاربة لمقصده (صلوات الله وسلامه عليه) بما يجود علينا المعنى من مدلولات في كل لفظ

على حدة، فكانت على النحو الاتي:

ص: 233


1- الكافي: ج 1 ص 459 ؛ الامالي للمفيد: ص 83 ؛ الامالي للطوسي: ص 110 .
2- دلائل الامامة: ص 138 .
3- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 320 .

المسألة الاولى: القصدية في (العهد) الذي لم يبعد

اشارة

بالرجوع الى معنى المفردة في اللغة، اي (العهد) نجد إن لها مدلولات كثيرة، منها:

1-الموثق، كقوله تعالى ﴿تُؤْتُونِ مَوْثِقًا﴾ في قظية اولاد يعقوب.

2- كل ما عوهد الله عليه.

3-كل ما امر به الله ونهى عنه.

4- الاقامة كما في الدعاء وانا على عهدك ووعدك ما استطعت.

5-والعَهْدُ: الوصية كقوله «عهدت اليه »، اي: اوصيته، وفي قول امير المؤمنين: عهد الي حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، اي: اوصاني.

6- العهد: الوفاء، كما في قول الله عزّ وجل ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأکثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾(1).

7- العهد: الإمان، كما في قوله تعالى ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(2).

8-العهد: الحفاظ ورعاية الحرمة.

وفيه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد دخلت عليه امرأة فأسر بها وأحفى، فجعل يأكل من الطعام ويضع بين يديها، فقالت عائشة: لا تغمر يديك؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«إنها كانت تأتينا ايام خديجة وأن حسن العهد من الايمان »(3).

9- واهل العهد، أي أهل الذمة، ومنه المعاهدة.

ص: 234


1- سورة الاعراف، الآية ( 102 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 124 ).
3- المعجم الكبير للطبراني: ج 23 ص 14 .

10- والعهد: الإلتقاء.

11- العهد: الرؤية، وعَهْدُه: رؤيته، ويقال: متى عهدك بفلان، أي متى رؤيتك اياه.

وللوقوف على هذه المعاني وأيهما الألصق والأقرب لمقصده الشريف بحسب ما يكتنزه اللفظ من دلالة نوردها بحسب ما جاء من صيغة، وهي كالاتي:

أولاً: القصدية في لفظ «ولم يتباعد العهد . »

ويراد به الرؤية وذلك بحسب المقاربة لقصدية المعنى في قول العرب:

(متى عهدك بفلان؟، أي متى رؤيتك اياه)(1).

- بن اليمان قال:

(سألتني أمي، منذ متى عهدك بالنبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم)؟

قال: فقلت مالي عهد به منذ كذا وكذا.

قال: فهمت بي ونالت مني وسبتني، قال: فقلت لها دعيني فاني آتي النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) فاصلي معه المغرب ثم لا أدعه حتى يستغفر لي ولك.

قال: فاتيت النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) فصليت معه المغرب فصلى النبي (صلى الله عليه -وآله- وسلم) العشاء ثم انفتل فتبعته فعرض له عارض فناجاه ثم ذهب فاتبعته فسمع صوتي فقال: من هذا؟

فقلت: حذيفة.

قال: مالك؟

ص: 235


1- لسان العرب لابن منظور: ج 3 ص 313 .

فحدثته بالأمر، فقال: غفر الله لك ولأمك.

ثم قال: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟

قال: قلت بلى.

قال: فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة فاستأذن ربه ان يسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)(1).

وعليه:

يكون القصد في هذا اللفظ أن هذه المصائب وقعت بعد فترة قصيرة من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث لم تتباعد رؤيتهم له.

ثانياً: القصدية في لفظ «ولم يبعد بك العهد . »

ومعنى العهد هنا هو: اللقاء.

إذ قالت العرب:

(العهد: الإلتقاء. وعَهِدَ الشيءَ عَهْداً: عرَفه؛ ومن العَهْدِ أَن تَعْهَدَ الرجلَ على حال أَو في مكان، يقال: عَهْدِي به في موضع كذا وفي حال كذا؛ وعَهِدْتُه بمكان كذا، أَي لَقِيتُه، وعَهْدِي به قريب؛ وقول أَبي خراش الهذلي:

ولم أَنْسَ أَياماً لَنا ولَيالِياً*** بِحَلْيَةَ إِذْ نَلْقَى بها ما نُحاوِلُ

فَلَيْسَ كعَهْدِ الدارِ يا أُمَّ مالِكٍ*** ولكِنْ أَحاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ

ص: 236


1- مسند احمد: ج 5 ص 391 ؛ فضائل الصحابة للنسّائي: ص 58 .

أَي: ليس الأَمر كما عَهِدْتِ ولكن جاء الإِسلامُ فهدم ذلك؛ وأَراد بالسلاسل: الإِسلامَ، وأَنه أَحاط برقابنا فلا نسْتَطِيعُ أَن نَعْمَلَ شيئاً مكروهاً.

وفي حديث أُم زرع:

ولا يَسْأَلُ عمَّا عَهِدَ، أَي: عما كان يَعْرِفُه في البيت من طعام وشراب ونحوهما لسخائه وسعة نفسه)(1).

ونلاحظ هنا:

إنهم جاءوا بلفظ العهد للدلالة على الالتقاء بالشخص أو المكان أو الأشياء.وعليه:

يكون القصد في هذا اللفظ: «ولم يبعد بك العهد .»

أي: اللقاء لم يكن بعيداً، وهو يكشف أيضا عن أن الصحابة لاسيما رموز السقيفة قد سارعوا الى ظلم فاطمة (عليها السلام) بعد لقائهم الأخير بالنبي (صلى الله عليه وآله).

بمعنى: إنَّهم أسرعوا في أنتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهضموا حقها، ومنعوا أرثها.

ثالثاً: القصدية في لفظ «ولم يطل العهد . »

ومعنى العهد هنا: الزمن.

وهذا العهد ذكره ابن منظور، فقال:

(والعَهْد: الزمانُ، وقريةٌ عَهِيدَةٌ أَي قديمة أَتى عليها عَهْدٌ طويلٌ.

ص: 237


1- لسان العرب لأبن منظور: ج 3 ص 313 .

ويقال في المثل: متى عهدكَ بأَسفلِ فيكَ؟ وذلك إِذا سأَلته عن أَمر قديم لا عهد له به.

ومِثْلُه: عَهْدُك بالفالياتِ قديمٌ.

يُضْربُ مثلاً للأَمر الذي قد فات ولا يُطْمَعُ فيه؛ وانشد الشاعر:

وعَهْدي بِعَهْدِ الفالياتِ قَديمُ)(1).

وعليه:

تكون القصدية هنا في قوله (عليه الصلاة والسلام):

«ولم يطل العهد .»

لم يطل الزمان على فراقك ووفاتك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يتم نسيانك ونسيان ذكرك كي يهجمون على بيت فاطمة ويرّوعونها، ويهضمون حقها، ويمنعون أرثها، فتدفن سراً وهي غاضبة واجدة على من ظلمها.

اذن:

القصدية هنا: الزمن.

فلم يكن الزمن الفاصل بين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وظلم الزهراء (عليها السلام) بعيداً بل بزمن قرب؛ لأن النفي في الأصل لول الزمن مما يدل على أن الأحداث وقعت بعد زمن قصير من وفاته (صلى الله عليه وآله)، ولعلها ساعات وليست ايام كما سيمر لاحقاً.

ص: 238


1- لسان العرب: ج 3 ص 315 .

المسألة الثانية: القصدية في «لم يخلولق الذكر » ظاهرة ومضمرة

إنَّ هذا الجزء من النص مرتبط من حيث الدلالة مع الجزء الذي سبقه، أي قوله (عليه السلام): «ولم يبعد بك العهد .»

ولكن يبقى لكل لفظ مقصده ومعناه المضمر في قوالب المفردات واستخدامها عند العرب، وللوقوف على هذا المعنى المضمر والمستتر بغية الوصول الى المقاربة في قصدية الامام (عليه الصلاة والسلام) نرجع الى أهل اللغة أولاً ثم نعرج على مكونات المعنى.

الخَلقْ و الاخلَوُلَق في اللغة .

1- قال الفراهيدي (ت 175 ه):

(خلق الثوب، يخلق خلوقة، أي: بلي

وثوب اخلاق: ممزق من جوانبه).(1)

2- قال ابن فارس (ت 395 ه):

(أخلق الشيء وخلق إذا بلي، وأخلقته: أنا أبليته)(2).

أمّا تخصيص اللفظة اسماً أو فعلاً، أي: خَلقَ أو يخلولق عند العرب فهو للزمن والدهر واثره في الاشياء.

ص: 239


1- العين للفراهيدي: ج 4 ص 152 .
2- معجم مقاييس اللغة: ج 2 ص 214 .

3- قال ابن سيدة (ت 458 ه):

(خَلُق الثوبُ خُلُوقةً وخُلُوقا وأخْلَق وجَمع الخَلَق: خُلْقانُ وأخْلاق؛ وقال الأصمعي: لا يُقال: خَلُقَ؛ وقال سيبويه: اخْلَولَق وأخْلَقه الدهرُ)(1).

إذن:

العرب تخصص اخلولق مع الدهر، بمعنى تأثير الزمن في الاشياء، ومنه ثوب خَلَقَ، أي: بالي وممزق بفعل ما مرَّ عليه من الزمن فأصبح قديماً عتيقاً.

ومن هنا: يتضح أنّ القصدية في قوله (عليه الصلاة والسلام):

«ولم يُخلَولَقْ مِنْكَ الذِّكْرُ »

أو: «ولَم يَخلُ مِنْكَ الذِّكْرُ .»

أو «ولم يخلق منك الذكر » ظاهرة ومضمرة؛ فأما القصدية الظاهرة، فهي الفترة الزمنية التي وقعت فيها هذه الرزايا العظيمة ما بين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما بين استشهاد الزهراء (عليها السلام) ودفنها والتي سنورد في ذلك ما جاء من النصوص في تحديد هذه الفترة الزمنية ومن ثم فهو (عليه السلام) يشير الى التسارع في وقوع هذه الاحداث.

وأمّا القصدية المضمرة، فهي دفع المتلقي الى البحث عن الاسباب التي أدّت الى هذه الاحداث المتسارعة والمفجعة والغريبة على واقع الاسلام والمسلمين حتى يقف المتلقي مع نفسه متسائلا كيف جرت هذه الاحداث وبهذه السرعة غير مصدق لما يسمع من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك بفعل تقيده بالموروث العقدي والفكري حول خير القرون، وعدالة الصحابة، ومكانتهم وفضلهم.

ص: 240


1- المخصص: ج 1 (ق 4 السفر الرابع) ص 92 .

وثم:

سيندفع لا محالة إن كان من أهل العقل والفطرة السليمة للبحث عن واقع هذه الفترة الزمنية وما جرى فيها، وهو ما يمثله القسم الموازي للقصدية، وهو: المقبولية.

بمعنى: إن دراسة النص الشريف في قصديته تلزم الباحث في دراسة مقبوليته وهو ما يدفع الى متابعة البحث في تلك الفترة الزمنية التي انحصرت بين وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أن تدفن ابنته وبضعته وسيدة نساء العالمين سراً.

وهذا ما سنجيب عنه بكوننا من المتلقين للنص وواقعين لا محالة تحت تأثير النص وما قصده منتجه (عليه السلام) لعلّنا نصل الى مقاربة قصده (صلوات الله وسلامه عليه) وهو ما سنتناوله في المسائل المتبقية في هذا المبحث، وهي كالاتي:

المسألة الثالثة: لم يبلَ ذكره لكن غيرت سنته في اليوم الثاني من وفاته(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

إنّ أول أثر يحدثه النص الشريف في هذا الجزء، أي:

«ولم يبعد ربك العهد ولم يخلق منك الذكر » او بألفاظه الاخرى التي أوردها علماء الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم) هو تحريك المشاعر الإنسانية وتحريك الذهن ودفعه للتفكّر والبحث والتأمّل.

وعليه:لسنا بمعزل عن أولئك المتلقين لهذا النص الشريف فذهبنا للبحث والدراسة فكانت النتيجة في طرح هذه الاسئلة:

ص: 241

أولاً: ماذا حدث في اليوم الثاني لوفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو لم يدفن بعد؟!

وجوابه:

بعد ان تمت البيعة لأبي بكر في يوم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سقيفة بني ساعدة؛ عزم هو وعمر بن الخطاب في اليوم الثاني لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يوم الثلاثاء بحسب ما نصت عليه كتب السيرة على اخذ البيعة العامة من الناس، وكونها عامة فهذا يتطلب أن تجري في المسجد النبوي.

فكيف كان مجيء الناس الى المسجد وهم قد فجعوا بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!!؛ وكيف تطيب لهم نفساً بالقدوم للبيعة والنبي (صلى الله عليه وآله) لم يوار الثرى، ولم يصل عليه بعد؟!.

ولقد كان الناس خلال اليومين اذا سمعوا بلال يؤذن ينتحبون عند قوله:

«اشهد ان محمد رسول الله » فما الذي حدث؟ وكيف اخذت البيعة لأبي بكر من الناس.. والناس هذه حالهم؟!.

فلنرَ هذه الصورة من خلال لسان البراء بن عازب، وزائد بن قدامة.

يقول البراء بن عازب:

(فلما صنع الناس ما صنعوا من بيعة أبي بكر -في السقيفة- أخذني ما يأخذ الواله الثكول مع ما بي من الحزن لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجعلت أتردد وأرمق وجوه الناس، وقد خلا الهاشميون برسول الله لغسله وتحنيطه، وقد بلغني الذي كان من قول سعد بن عبادة ومن اتبعه من جملة أصحابه فلم أحفل بهم وعلمت أنه لا يؤول إلى شيء(1).

ص: 242


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 1 ص 73 وج 2 ص 132 ط مصر، كتاب سليم بن قيس: ص 25 ط مؤسسة البعثة.

فجعلت أتردد بينهم وبين المسجد وأتفقد وجوه قريش، فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر)(1).

وصادف في هذا الوقت -والقول لزائدة بن قدامة-:

«إن جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليتماروا منها -أي: يشتروا التمر- فشغل الناس عنهم بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشهدوا البيعة وحضروا الأمر، فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم وقال لهم: خذوا بالحظ من المعونة على بيعة خليفة رسول الله وأخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا، فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه .»

قال البرّاء: (ثم لم ألبث حتى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية)(2).

يقول زائدة: «والله لقد رأيت الأعراب تخرموا واتشحوا بالأزر الصنعانية وأخذوا بأيديهم الخشب، وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطاً، وجاءوا بهم مكرهين إلى البيعة .»

قال البرّاء: ف «لا يمر بهم أحد إلا خبطوه فأنكرت عند ذلك عقلي جزعاً منه مع المصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله) !؟»

فخرجت مسرعاً حتى أتيت بني هاشم والباب مغلق دونهم فضربت الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: يا أهل البيت، فخرج إلي الفضل بن العباس فقلت: قد بايع الناس أبا بكر(3)؟.

ص: 243


1- كتاب سليم بن قيس: ص 25 ط مؤسسة البعثة، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1 ص 73 و ج 2 ص 132 ط مصر.
2- سليم بن قيس: ص 25 ، شرح النهج للمعتزلي: ج 1 ص 73 و ج 2 ص 132 .
3- كتاب سليم بن قيس: ص 25 - 26 ط مؤسسة البعثة.

«فسمع العباس وعلي التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

فقال علي: ما هذا؟!

قال العباس: ما رؤي مثل هذا قط؟! أما قلت لك(1) فقد تربت أيديكم منها إلى آخر الدهر، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني »(2).

إذن: هكذا يتم البرّاء بن عازب المشهد الذي رآه في يوم الثلاثاء وهو اليوم التالي لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3)!!

وبهذه الطريقة جمع الناس للبيعة.. فإن شئت سمها إرهاباً!.. وإن شئت سمها اجتهاداً.. ولكن مما لا يختلف فيه اثنان أن هذه الطريقة قد أرعبت أهل المدينة، وأدخلت في قلوبهم الذعر والخوف.

ثانياً: حكم من أخاف أهل المدينة في السنة النبوية

اشارة

إن من بديهيات الفكر الإسلامي هو قيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتنبيه أمته من المخاطر التي تحيط بها وتحذير المسلمين ومن يعايشهم في بلادهم من انتهاك حرمات الإسلام.

ومن هنا: فقد حدد النبي الهادي (صلى الله عليه وآله) هذه الحرمات فكان منها: حرمة المدينة المنورة، وحرمة أهلها، فأما حرمة المدينة الطيبة فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) ما يأتي:

ص: 244


1- العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 4 ص 257 - 258 ط دار الكتاب العربي، عيون الأخبار لابن قتيبة:ج 2 ص 165 .
2- كتاب سليم بن قيس: ص 29 ط مؤسسة البعثة.
3- سمط النجوم: ج 2 ص 245 - 246 ط السلفية، مروج الذهب: ج 3 ط دار القلم.
ألف - ما أخرجه البخاري ومسلم

أخرج البخاري ومسلم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور؛ فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً » (1).

باء - ما أخرجه أبو داود

ذكر أبو داود في السنن، من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام، عن النبي (صلى الله عليه وآله): «المدينة حرام ما بين عافر إلى ثور؛ فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا،ً لا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تلفظ لفظها إلا لمن أنشد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجلاً بعيره »(2).

وعليه:

اذا كان حال من اخاف اهل المدينة في السنة عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فكيف يكون حال من أخاف بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن ثم من يقدم على هتك حرمة بيت النبوة لن يكون أمامه مانعا من هتك بقية الحرمات؛ بل يصبح قطع الرؤوس وجلد الأبشار، أي: الاجسام امراً هيناً.

ص: 245


1- صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب: حرم المدينة برقم ( 1870 )، صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: فضل المدينة حديث ( 1366 ).
2- سنن أبي داود، باب تحريم المدينة، حديث ( 2034 ) ج 2 ص 529 ، مشير العزم الساكن لابن الجوزي: ص 235 مكتبة الصحابة بجدة.

وهذا الذي حدث من خلال الخطبة الاولى للخليفة ابي بكر بعد ان بايعه الناس في اليوم الثاني لوفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو لم يدفن بعد!!

ثالثاً: كيف جرت بيعة ابي بكر؟ وماذا اشتملت خطبته بعد البيعة ؟

بعد أن جُع قسم كبير من الناس في داخل المسجد النبوي في يوم الثلاثاء بتلك الطريقة المؤلمة، مع ما بهم من الألم والحزن لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

«جلس أبو بكر على المنبر -والرواية لأنس بن مالك- فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله.

وقال: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا من رأي، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولكن قد كنت أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا؛ وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.

فبايع الناس أبا بكر، البيعة العامة بعد بيعة السقيفة »(1).

والظاهر: إن التكبير الذي علا في المسجد كان من أولئك الأعراب الذين جمعوا الناس وأدخلوهم إلى المسجد بالخبط بالخشب كي ينالوا بالحظ الأوفر من البيعة للخليفة كما وعدهم عمر بن الخطاب.

ولعل هناك من كبر أيضاً من أولئك الناس بعد أن أحس بألم تلك الضربات على ظهره فوجد التكبير متنفساً عن هذه الآلام.

ص: 246


1- مختصر صفة الصفوة لابن الجوزي: ص 12 - 13 ط دار الحديث بالقاهرة، الثقات للبستي: ج 2ص 159 ط دار الفكر، نهاية الأرب للنويري: ج 19 ص 39 ط دار الكتب المصرية.

ولذا: نجد أن الإمام علياً (عليه السلام) يسأل عمه العباس بن عبد المطلب بعد سماعهما التكبير، قائلاً: ما هذا؟؟!

فيرد عم النبي (صلى الله عليه وآله): ما رؤي مثل هذا قط!!!

وبعد ان قام الحاضرون وبايعوا ابي بكر قام خطيباً:

(فحمد الله واثنى عليه، الى ان قال:

ألا وانكم ان كلفتموني ان اعمل فيكم مثل عمل رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )لم اقم به!!

كان رسول الله (صلَّی الله عليه وآله) عبدا أكرمه الله بالوحي؛ وعصمه.

الا وإنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم فراعوني، فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني.

واعلموا أن لي شيطانا يعتريني.. فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني.. لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم)(1).

رابعاً: إنّ قطع الرؤوس وجلد الجسوم هو ايسر ما يلاقيه المعارضون للخليفة، فكيف لا تدفن الزهراء سراً

إنّ النظر الى مضامين الخطبة الاولى للخليفة ابي بكر بعد بيعة الناس له في المسجد النبوي والتي حددها بالأمور الاتية:

1- عدم تكليفه بالعمل بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا تم تكليفه بالعمل بالسنة النبوية فأنه لم يعمل.

ص: 247


1- المنتظم لأبن الجوزي: ج 4 ص 68 - 69 (ط دار الكتب العلمية)؛ نهاية الارب للنويري: ج 19 ص 43 (ط المصرية).

2-إن الخليفة بشر وأنّ هناك من الصحابة من هو خير منه ومن ثم لا يقال له إنّ فلاناً عمل كذا أو كذا، فهو لن يستطيع ان يعمل عمل الخيرين من الصحابة، ومن ثم يلزم بهم مراعاته كما طالبهم بقوله:

(ألا وإنّما أنا بشر، ولست بخير من احدكم فراعوني).

3- إنّ زيغ الخليفة عن الطريق الذي رسمه القرآن والسنة وهو قطعي الحدوث ، ولذا: احتاج الى الرعية كي تقومه وتعيده الى الطريق، وهو قوله: (واذا رأيتموني زغت فقوموني).

4- إنّ للخليفة شيطانا يعتريه، فإذا اعتراه شيطانه فأقل ما يعمله في الصحابة الذين بايعوه هو قطع رؤوسهم وجلد جسومهم، وذلك لقوله: (واعلموا إنّ لي شيطاناً يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم).

5- إنّ تهديد الصحابة بقطع رؤوسهم اذا غضب الخليفة، قد قطع الطريق عليهم فيما سبق من الطلب بتقويمه إذا زاغ أو مطالبته بالعمل بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو المقارنة بينه وبين الخيرين من الصحابة فلا شك أنّ كل ذلك وغيره سيغضب الخليفة.

بل بدى لدى الصحابة الحيرة والخوف فهم لا يعلمون متى سيعتري الخليفة شيطانه فيغضب فيقطع رؤوسهم او يجلد أجسامهم.

بل أصبح من البداهة أن السنة الجديدة التي ترتكز على عدم اغضاب الخليفة تحرزاً من اعتراء الشيطان له هي السنة السائدة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 248

بل أصبح من البداهة ايضا ان يتساءل امير المؤمنين علي بن ابي طالب مشتكياً الى سيد الخلق اجمعين بدفن ابنته سراً، وهضم حقها قهراً، ومنع إرثها جهراً؛ بل أصبح من البداهة أن قصديته في قوله:

(ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر) هو سنة الخليفة الجديدة بعد اعتراء شيطانه الذي دفعه أن يأمر بالهجوم على بين النبوة بقيادة عمر بن الخطاب فوقع ما وقع فكان سبباً في صدور هذا النص الشريف.

ص: 249

ص: 250

المبحث الثالث والثلاثون: سرعة الانقضاض على بضعة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بعد وفاته بأيام يكشف القصدية المضمرة «لم يطل العهدولم يخل منك الذكر »

اشارة

ص: 251

قوله (عليه السلام): «هذَا ولَم يطَلِ العْهَدْ ولَم يخَلُ منِكْ الذِّكْر »ُ

اشارة

ص: 252

يتساءل ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 657 ه) في تلقّيه للنص الشريف في مدى مقبوليته لقوله (عليه السلام): «هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر .»

بقوله في شرح النهج:(اي لم ينس.

فإن قلت:

فما هذا الامر الذي لم ينس ولم يخلق، إن لم يكن هناك نص؟) (1).

ثم يجب ابن ابي الحديد المعتزلي على تساءله عن الذكر الذي لم ينس والذي سنناقشه في نهاية مباحث النص الشريف.

ولكن:

الذي نحن في صدده هنا، إنّ المعتزلي التفت الى وجود نص من النبي (صلى الله عليه وآله) وهو الذي قصده أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: «لم يطل العهد ولم يخل منك الذكر »، إلّا أن المعتزلي كعادته يراوغ ويوالف في المواقف.

ص: 253


1- شرح نهج البلاغة: ج 10 ص 270 ؛ وسنورد قوله هذا وغيره في مبحث مقبولية النص لاحقاً.

لكن هذا النص الذي يتساءل عنه المعتزلي قد خرج من أجله امير المؤمنين (عليه السلام) حاملاً معه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولدهما الحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) يطوف بهم على بيوت الصحابة من المهاجرين والانصار يستذكرهم العهد الذي اخذ عليهم في غدير خم، كما تفيد

النصوص الاتية:

1- روى الطبرسي، وسليم بن قيس الهلالي، عن الإمام علي(عليه السلام)، أنّه قال: «فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه، ثم آليت على نفسي يمينا أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت، ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة، فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط، سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي فأبوا عليّ إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم، وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه »(1).

2- وروى ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر (عليه السلام) جواب هؤلاء القوم إلى فاطمة (عليها السلام) حينما كانت تطلب منهم نصر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال:

«إنّ عليّاً حمل فاطمة (عليها السلام) وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.

ص: 254


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 98 ؛ سليم بن قيس الهلالي: ص 211 ؛ نهج الإيمان لابن حجر: ص 579 ؛ مستدرك الوسائل: ج 11 ، ص 74 .

فقال علي -عليه السلام-: أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟

وقالت فاطمة: «ما صنع أبو حسن إلاّ ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه »(1).

وفي لفظ آخر قالت:

«ما الله حسيبهم وطالبهم »(2).

3-وقد روى سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قد ناشدهم النصرة في ثلاث ليال، فكان يأتي يدور على بيوتهم في كل ليلة فيناشدهم فيقولون: (نصبحك بكرة) فما منهم أحد أتاه إلا هؤلاء الأربعة،وهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود(3).

فلما رأى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف والشظاظ والأسبار والرقاع فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع.

فبعث إليه علي (عليه السلام): «إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه .»

ص: 255


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6، ص 13 ؛ السقيفة وفدك للجوهري: ص 64 ؛ البحار للمجلسي: ج 28 ، ص 187 .
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج 1، ص 19 .
3- سليم بن قيس الهلالي: ص 146 .

فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله، فنادى علي (عليه السلام) بأعلى صوته:

«يا أيها الناس، إني لم أزل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد، فلم ينزل الله تعالى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلمني تأويلها .»

ثم قال لهم علي (عليه السلام): «لئلا تقولوا غدا:﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(1).

ثم قال لهم علي (عليه السلام):

«لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته .»

فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه ثم دخل علي عليه السلام بيته)(2).

وعليه:

فإن التحرك الذي قام به الامام علي (عليه السلام) أعقبه سرعة في الانقضاض على بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) بل على بيت النبوة بمن فيه، وهو ما سنتناوله في المسائل القادمة.

ص: 256


1- سورة الأعراف، الآية ( 172 ).
2- سليم بن قيس الهلالي: ص 146 - 147 .

المسألة الاولى: كونها البضعة لم يردع الخليفة في حربه لها

إن ما وعد به الخليفة في خطبته مع الصحابة في قوله:

(فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في اشعاركم وابشاركم).

لم يكن مجرد تحذير لهم، فها هو اليوم يمضي في وعيده للصحابة وليكن أول من يتلقى هذا التهديد هو أقدس بيت في الاسلام، بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ولذا:

لم يدرع الخليفة في حربه لهذا البيت كون أهله هم أهل بيت النبوة وموضع الرسالةومهبط الوحي والتنزيل.

لاسيما وهو يشاهد الإمام علي قد حمل فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) يدور بهم على بيوت الصحابة فيسألهم حقه وحرمة أهل بيته.

فأصحاب السقيفة وعلى رأسهم الخليفة لم يكونوا في غفلة من هذا التحرك لأهل بيت النبوة (عليهم السلام)، لاسيما وأنّ الامام علي (عليه السلام) حمل معه بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيدا شباب اهل الجنة، مما يدل على أنهم على مبدأ واحد وأنهم الشهود عليهم يوم القيامة، فقد سمعوا وشهدوا ما دار بين علي وبين الصحابة خلال ثلاث ليالٍ، ومن ثم قد يكسب علي (عليه السلام) الجولة حينما يجد المناصر له فيعيد الأمر إلى موضعه الصحيح، ولذا سيخسر هؤلاء الدنيا مع علمهم ويقينهم بأنهم خسروا الآخرة.

ص: 257

وعليه:

فلتكن إحدى الدارين قد ذهبت ولكن فلتبقَ الأولى وهي الدنيا التي كانت أكبر همهم وهي التي كان ثمنها الآخرة، فكيف يتركون عليّاً يكسب الجولة في هذه الحرب.

ولذلك:

بادروا إلى تحرك سريع إتجاه رأس المعارضة لانقلاب السقيفة وصاحب الحق في الخلافة ومواجهته بحرب مفتوحة وبمختلف الوسائل، وعلى جميع الأصعدة سواء كانت نفسية أو عسكرية أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو عقدية.

فضلاً عن ذلك فقد حرصوا على كسر حاجز القداسة عن لأهل هذا البيت،ونسف حدود الحرمة التي لديه والتي أثبتها القرآن والسُّنة منذ أن وطئت أقدام النبي (صلى الله عليه وآله) أرض المدينة.

وبهذا يكون أقطاب السقيفة قد حققوا بهذه الحرب المفتوحة أكثر من هدف فضلاً عن تحقيقهم للهدف الأسمى وهو الجلوس على كرسي الحكم ومسك زمام السلطة وسيادة العرب التي كان يحلم بها زعماء العرب وشيوخ قبائلها فكيف الآن وقد جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت راية واحدة وإن كانت راية دينية تختلف

عما كان عليه العرب من معتقدات وديانات قبل الإسلام.

أي إن تجمعهم على دين واحد أفضل من تفرقهم على أديان متعددة، ولذا اختاروا من الإسلام اسمه ومن القرآن رسمه ونهضوا بأيدلوجية جديدة في مظهرها الخارجي درء الفتنة في اختيار الخليفة لأنهم، تركوا بدون خليفة كما روجوا للأمر؛

ص: 258

وفي باطنها ملك عضوض وسلطان عقيم وإمارة ولو على حجارة(1).

إذن:

بدأت ساعة الصفر في عمر العهد الجديد فكانت الحرب المفتوحة على بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين وبتحرك سريع مقابل ذلك التحرك الذي قام به أهل هذا البيت عليهم السلام فكان عقابهم واحداً، ومصيرهم واحداً، وهو حرق دار النبوّة، وقتل البضعة (عليها السلام).

المسألة الثانية: جمع الحطب حول بيت فاطمة (علیها السّلام) وإضرام النار فيه لإحراق البيت بمن فيه

اشارة

بعد انتقال فاطمة (عليها السلام) إلى المدينة وقيام النبي (صلى الله عليه وآله) ببناء المسجد وبناء بعض الحجرات من حوله، كانت إحداها لفاطمة (صلوات الله عليها) فجعلها النبي (صلى الله عليه وآله) في داخل المسجد وجعل لبيتها باباً؛ ومن ثم فبيت فاطمة هو داخل المسجد(2).

ص: 259


1- ذكر الخرائطي: عن عمران بن موسى يقول: يروى عن كعب الأحبار: أنه دخل على عمر بن الخطاب وهو جالس على فراشه، وتحت الفراش حصير، وعن يمينه وشماله وسادتان، فقال له عمر: اجلس يا أبا إسحاق وأشار إلى الوسادة، فنحاها كعب وجلس دونها، ثم قال: إن فيما أوصى به سليمان بن داود عليه السلام: أن لا تغش السلطان حتى يملك، ولا تقعد عنه حتى ينساك...)؛ ولا يخفى أن الذي أراده كعب الأحبار من بيان لحال عمر وسلطانه لجلي على أهل المعرفة؛ (الملتقى من كتاب مكارم الأخلاق للخرائطي: ج 2، ص 234 ، ح 689 ).
2- لمزيد من الاطلاع والمعرفة: أنظر كتابنا (باب فاطمة عليها السلام بين سلطة الشريعة وشريعة السلطة)، وكتابنا: (وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه).

وعليه:

فبيت فاطمة وعلي صلوات الله عليهما هو في داخل المسجد، ولا يبتعد عن القبر النبوي الشريف سوى بضع سنتمترات، فضلاً عن أنه من ضمن الروضة التي بين حجرة النبي (صلى الله عليه وآله) وبين المنبر، مما يكشف عن أن هذا البيت له من الحرمة ما للمسجد، والروضة، والقبر النبوي الشريف.

فضلاً عما لأهله من الحرمة والقداسة والشأنية عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) والذي لم يزل يظهرها للناس قولاً وفعلاً فقد حدد النبي (صلى الله عليه وآله) ما لهذا البيت من الحدود الشرعية وفرضها على الأمة من خلال كيفية التعامل

مع أهل بيته منذ أن جمع تحت سقفه عليّاً وفاطمة (عليهما السلام).

فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتي إلى هذا البيت ويقف عند بابه في كلصباح فيقول:

«أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم »(1).

وبلفظ:

«أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم »(2).

وبلفظ:

«أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم »(3).

ص: 260


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 3، ص 208 ؛ تفسير فرات الكوفي: ص 340 ؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 6، ص 102 .
2- مسند أحمد: ج 2، ص 442 ؛ مستدرك الصحيحين: ج 3، ص 149 ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي، صحيح ابن حبان: ج 15 ، ص 435 .
3- سنن الترمذي: ج 5، ص 360 ؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 149 ؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 52 ؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 3، ص 40 ؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 1، ص 571 ؛ تفسير الثعلبي: ج 8، ص 312 .

ومن ثم فقد رسم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) تلك الحدود الشرعية لأهل هذا البيت وأظهر التكاليف التي فرضت على الأمة في التعامل مع عترته (عليهم السلام).

ولذا:

فإن هؤلاء الذين أعلنوا الحرب على هذا البيت وأهله فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر فاطمة وعليّاً وولديه الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين بما يجري عليهم من بعده ولقد ذكرنا في بداية هذا الجزء بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي أظهرت بيان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهذه الابتلاءاتالتي سيبتلى بها أهل بيته.

بل:

إن الملاحظ في تلك السيرة النبوية في هذا الخصوص: متابعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبيان هذه الأحداث وما سيلقى أهل بيته من بعده كي يهيئهم لتلقيّ البلاء، فمما جاء عنه (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:

1-« إن أهل بيتي هؤلاء سيلقون من بعدي تشريداً وتطريداً.... .»(1).

2-« وروى المعتزلي في شرح النهج عن أبي جعفر الإسكافي أنه قال: (إن النبي (صلى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام) فوجد عليا نائماً فذهبت تنبهه فقال (صلى الله عليه وآله):

ص: 261


1- مسند الشاشي: ج 1، ص 409 ، ح 337 .

«دعيه فرب سهر له بعدي طويل، ورب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة .»

فبكت فقال:

«لا تبكي فإنكما معي وفي موقف الكرامة عندي »).(1)

إلاّ أنّ كل هذا الكم من الأحاديث والنهي والتحذير لم تكن بمانعة (أصحاب السقيفة وأشياعهم) من المضي في حرب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وتحت غطاء شرعي فقد هبوا لدرء الفتنة، ولكن هيهات فقد قال سبحانه:

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِی وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(2).

أولاً: كيف جرت الحادثة وما هي المرحلة الأولى من جريمة قتل فاطمة (علیها السّلام)
اشارة

إنّ من البداهة بمكان أن يتم التعتيم على حادثة جمع الحطب حول بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين وإحراقه ومن ثم اقتحامه بشتى الطرق، وذلك أن حادثة بمثل هذا التجري على الله تعالى لا تختلف من حيث الجرم عن قتل الأنبياء عليهم السلام لاسيما والقرآن الكريم يستعرض في بيانه لتعظيم

حرمة الأنبياء وحلول نقمته على الظالمين في حادثة قتل ناقة صالح وفصيلها؛ فكيف يكون غضب الله في تلك الجريمة التي هتكت فيها حرمة الله وحرمة سيد الخلق أجمعين (صلى الله عليه وآله)، وقتلت فيها فاطمة وابنها المحسن، فمضت إلى

ربها وأبيها شهيدة(3)، وهو القائل لها:

ص: 262


1- شرح نهج البلاغة: ج 4، ص 107 .
2- سورة التوبة، الآية ( 49 ).
3- قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: «إن فاطمة صديقة شهيدة »، أنظر: الكافي للكليني: ج 1، ص 458 ؛ عوالم العلوم: ج 11 ، ص 260 .

«إنك أول من يلحقني من أهل بيتي، وأنت سيدة نساء أهل الجنة، وسترين بعدي ظلماً وغيظاً، حتى تضربی، ويكسر ضلع من أضلاعك، لعن الله قاتلك »(1).

من هنا:

لم تأتِ الحادثة ضمن تفاصيلها الدقيقة في كتب أهل العامة من المخالفين لمدرسة عترة النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وإنما وردت ضمن إشارات قليلة فيما لو قورنت مع روايات أهل البيت عليهم السلام؛ إلاّ أن هذه الإشارات على قلتها إلاّ أنها دقيقة وفيها الكفاية لثبوت هذه الجريمة في هتك حرمة الله وحرمة رسول الله

(صلى الله عليه وآله) حتى أصبحت من المسلمات في الفكر الإسلامي وإن اختلفت في الحادثة الأقوال بين محب ومبررٍ لما فعله أبو بكر وعمر بن الخطاب ومن تشيع لهما، وبين متبرّئ منهم ومما فعلوا.

ولكن: بين هذه الأقوال سنورد تلك النصوص والشواهد على وقوع هذه الجريمة ونتوقف إن أسعفنا الشاهد عند تسلسل الحدث وتداعياته، فمما كان في مقدمات الحادثة ما يأتي:

1- ذكرنا فيما مضى آنفاً أن القوم تركوا جسد النبي (صلى الله عليه وآله) وهو لم يبرد بعد وتسارعوا للاجتماع في السقيفة، وبعد أن جرت فيها المناورات في كسب الجولة والفوز بكرسي الرياسة في اليوم الأول فسيق الناس إلى بيعة أبي بكر في اليوم التالي بعد أن كان صاحب الصولة في سقيفة الانقلاب عمر ابن الخطاب الذي نال

من الخلافة بعد صاحبه الحظ الأوفر.

ص: 263


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي (بتحقيق الأنصاري): ج 2، ص 907 .

2- وقد رأينا فيما رسمته لنا النصوص من تفرغ أمير المؤمنين علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وبعض وجوه بني هاشم وعمار وسلمان وأبي ذر في تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومواراته في روضته المقدسة.

ولم يحضروا تلك الحلبة التي بايع فيها عمر بن الخطاب والأوس لأبي بكر ومن ثم بايع المهاجرون كي لا يفوتهم نصيب من كعكة الخلافة.

ومن ثم أصبح هناك مجموعة من المعارضة التي برزت بشكل واضح من خلال خروج أمير المؤمنين (عليه السلام) حاملاً الزهراء وولديها وهو يطلب النصرة من المهاجرين والأنصار على أقطاب السقيفة ومن شايعهم من الأعراب والمنافقين الذين نكثوا بيعة الله في غدير خم.

وعليه:

كان هذا الرد السريع من أقطاب السقيفة ورموزها في قمع الاحتجاجات ورأسها وهم آل محمد (صلى الله عليه وآله) وسلم لاسيما وهم ينظرون إلى اختلاف ورود بعض الصحابة إلى دار فاطمة (عليها السلام) يدخلون على علي عليه السلام

يتشاورون فيما حدث وكيف لهم المخرج منه في إرجاع الحق إلى أهله الذين اغتصبه هؤلاء النفر وساقوا الناس عنوة إلى بيعة أبي بكر في المسجد.

3- إن بيت فاطمة (عليها السلام) حينما بناه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند قدومه للمدينة وشروعه ببناء مسجده بنى من حوله حجرات ثلاث وذلك قبل أن تنتقل إليه عائشة، فكان منها، أي من هذه البيوت، بيت فاطمة (عليها السلام) الذي بناه داخل المسجد بين المنبر والحجرة التي دفن فيها (صلى الله عليه وآله)(1)،

ص: 264


1- لمزيد من الاطلاع، أنظر: وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه للمؤلف.

أي إنه كان من ضمن حدود الروضة، وهو أشرف موضع فيها كما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن الصلاة في بيت فاطمة (عليها السلام) أفضل أم في الروضة، فقال:

«في بيت فاطمة »(1).

وعليه:

يكون دخول بعض الصحابة المعارضين لانقلاب السقيفة إلى بيت فاطمة (عليها السلام) واضحاً بيناً لأبي بكر وعمر؛ بل: إن موقع بيت الزهراء (عليها السلام) في المسجد يجعل جميع تحركات أهل هذا البيت ظاهرة وأمام نظر أبي بكر وعمر؛ ومنثم فقد شهد دخول هؤلاء واجتماعهم مع علي (عليه السلام).

ولذا:

قرر البدء في المعركة مع أهل هذا البيت علانية وبمختلف الوسائل لأنهم يشكلون الخطر العظيم على الخلافة والسلطة.

وفي ذلك يروي سليم بن قيس الهلالي الكوفي الشيعي بعض أجزاء هذا التحرك الحربي على بيت فاطمة عليها السلام ومن ثم نورد ما رواه أهل السنة والجماعة من إشارات لهذه الحرب التي قادها أبو بكر ونفذها عمر بن الخطاب مع مجموعة من أشياعه.

ص: 265


1- وسائل الشيعة: ج 3، ص 547 .
ألف - ما روته أتباع مدرسة أهل البيت (علیهم السّلام) في جمع الحطب حول بيت فاطمة (علیها السّلام)

1- روى سليم بن قيس الهلالي (المتوفى في القرن الأول للهجرة) قائلاً:

(فلما رأى علي (عليه السلام) خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم إياه لزم بيته.

فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة.

وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا، والآخر أفضّهما وأغلظهما وأجفاهما.

فقال أبو بكر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذا، وهو رجل فض غليظ جاف من الطلقاء أحد بني عدي بن كعب.

فأرسله إليه وأرسل معه أعوانا وانطلق فاستأذن على علي (عليه السلام)، فأبىأن يأذن لهم.

فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر -وهما جالسان في المسجد والناس حولهما- فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا، فإن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذن فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة (عليها السلام): «أحرج عليكم أن تدخلوا علي بيتي بغير إذن .»

فرجعوا وثبت قنفذ الملعون، فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن، فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء، ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة

ص: 266

وابنيهما (عليهم السلام)، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا وفاطمة (عليهما السلام): (والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار).

فقالت فاطمة (عليها السلام):

«يا عمر، ما لنا ولك؟ .»

فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت:

«يا عمر، أما تتقي الله تدخل علي بيتي؟ .»

فأبى أن ينصرف)(1).

2-روى الطبرسي (المتوفى سنة 548 ه)، فقال:

(وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال: ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة فينثال الناس يبايعون فعرف أن جماعة في بيوت مستترون فكان يقصدهم في جمع كثير ويكسبهم ويحضرهم المسجدفيبايعون حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى، (فدعا عمر بحطب ونار، وقال: والذي نفس عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه).

فقيل له: إن فاطمة بنت رسول الله، وولد رسول الله، وآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه؛ وأنكر الناس ذلك من قوله)(2).

ص: 267


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 149 - 150 .
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 80 ؛ البحار للمجلسي: ج 28 ، ص 204 .

3- وروى ابن طاووس (المتوفى سنة 664 ه) فقال: (وذكر ابن جيرانة في غرره (قال زيد بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر( إلى باب فاطمة حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا.

(فقال عمر لفاطمة: أخرجي من في البيت وإلاّ أحرقته ومن فيه).

قال: وفي البيت علي والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي، فقالت فاطمة:

«أفتحرق علي ولدي .»

فقال: إي والله أو ليخرجن وليبايعن)(1).

باء - ما روته أبناء العامة في جمع الحطب حول بيت فاطمة(علیها السّلام)والتهديد بالحرق

أما ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة في بيان حادثة الهجوم على بيت النبوة وحرقه فقد جاء بالكيفية الآتية التي تظهر استخدام الراوي أسلوب التلطيف في الحدث والتخفيف من بشاعته وذلك من خلال تحسين صورة عمر بن الخطاب ببعض الملامح التي قد تساعد على قبول الحدث، أو على الأقل التماس العذر لوقوع

الجريمة، فكان بالكيفية الآتية:

1- فقد روى ابن أبي شيبة الكوفي، وابن عبد البر، وابن أبي عاصم وإمام الحنابلة وغيرهم (عن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه -وآله- وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول

ص: 268


1- الطرائف لابن طاووس: ص 239 ؛ نهج الحق للعلامة الحلي: ص 271 ؛ الشهاب الثاقب للمحقق البحراني: ص 231 .

الله صلى الله عليه -وآله- وسلم ما من أحد أحب إلينا من أبيك وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت، قال فلما خرج عمر جاؤوها فقالت:

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه فانصرفوا راشدين فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ .»

فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)(1).

2- روى الطبري، والجوهري، وابن أبي الحديد المعتزلي، عن زياد بن كليب، (قال: أتى عمر بن الخطاب إلى منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال والله (لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة)، فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه)(2).

3- روى ابن قتيبة الدينوري في الإمامة فقال:(وإن أبا بكر تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي -عليه السلام-، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، (فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب) وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن (أو لأحرقنها على من فيها)، فقيل له يا أبا حفص، (إن فيها فاطمة؟)، فقال: وإن)(3).

ص: 269


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 572 ؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91 ؛ الاستيعاب: ج 3، ص 975 ؛ فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 1، ص 364 ، ط مؤسسة الرسالة؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17 ، ص 167 ؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19 ، ص 40 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2 ص 45 ؛ السقيفة وفدك للجوهري: ص 41 ؛ كنز العمال للهندي: ج 5 ص 652 .
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 443 ؛ السقيفة وفدك للجوهري: ص 53 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 56 ؛ الإمامة وأهل البيت لمحمد بيومي: ج 1، ص 345 .
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1، ص 19 ؛ مسند فاطمة للسيوطي: ح 31 ؛ البحار للمجلسي: ج 28 ، ص 356 .
جيم - قراءة الحديث في جمع الحطب وتحليله

إن قراءة الحديث الذي أوردته كتب الفريقين ودراسته وتحليله ترسم لنا صورة واضحة عن مجريات هذه الجريمة العظمى في الإسلام وبيان تفاصيل وقوعها.

لاسيما وكما أسلفنا أن القوم قد حاولوا التضليل والتغيير والتعتيم على هذه الحادثة بشتى الصور ولذا وردت بصورة مختلفة عن الواقع فضلاً عن حذف كثيرٍ من التفاصيل حتى في المرحلة الواحدة من مراحل وقوع جريمة الهجوم على بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي ونزول القرآن.

وعليه:

فهذه المرحلة الأولى وهي (جمع الحطب حول بيت فاطمة وعلي وولديهما) جرتضمن اختصارات كثيرة في روايات أهل السنة والجماعة يمكن ملاحظتها، أي هذه الاختصارات من خلال المقارنة فيما بينها وبين الروايات الواردة في مدرسة العترة النبوية من جهة، ومن جهة أخرى مقارنتها فيما بينها أيضاً، أي: مقارنة هذه الروايات في نفس مصادر أهل السنة والجماعة لاسيما الحديث الأول فقد اتضح من خلال دراسته وتحليله ما يأتي:

1-أورده ابن أبي شيبة الكوفي في مصنفه وابن أبي الحديد المعتزلي بصورة كاملة في حين حذف منه التهديد بحرق البيت بمن فيه كلٌّ من ابن عبد البر، والصفدي، والنويري، فبدلا قول عمر بن الخطاب لفاطمة صلوات الله وسلامه عليها:

(وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت)(1).

ص: 270


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 57 ، ح 4؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 45 .

إلى قول آخر نسبوه لعمر بن الخطاب وهو: (ولإن بلغني أن هؤلاء من النفر يدخلون عليك، ولإن بلغني لأفعلن وأفعلن)(1)!!

واستبدلوا قول فاطمة عليها السلام الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم، والمعتزلي لهؤلاء الصحابة الذين التجؤوا إلى دارها من قولها لهم: «تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لإن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين »(2).

إلى قول آخر، فقالت لهم:

«إن عمر قد جاءني وحلف لان عدتم ليفعلنّ، وأيم الله ليفعلنّ بها، فانظروا فيأمركم »(3).

في حين قام الخطيب البغدادي بحذف جميع الحادثة في تهديد عمر لفاطمة (عليها السلام) بحرق بيتها بمن فيه وجوابها له، فقال مختصراً الأمر ومظهراً له بحلة جديدة، فقال: قال عمر بن الخطاب لفاطمة: يا بنت رسول الله ما كان أحد أحب من الناس إلينا من أبيك، وما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك)(4).

ص: 271


1- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 975 ؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17 ، ص 167 ؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19 ، ص 41 .
2- المصنف لابن أبي شيبة: ج 8، ص 57 ؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 45 .
3- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 975 ؛ الوافي بالوفيات: ج 17 ، ص 167 ؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19 ، ص 41 .
4- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 5، ص 168 .

ولا ريب أن القارئ لهذا الحديث يجد صورة جميلة جداً عن إيمان عمر بن الخطاب وذلك لمقدار حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنته من بعده، ومن ثم لا وجود لحادثة حرق بيت فاطمة بيد عمر بن الخطاب ولا أثر لخروج عمر ابن الخطاب عن سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فالنبي هو أحب الناس إليه وهو أكثر الصحابة وبفضل جهود الخطيب البغدادي اتباعاً لهذه السنة فقد صان عترة النبي (صلى الله عليه وآله) من بعده، ومن ثم يخرج القارئ لا يعلم شيئاً عن سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو أنه يجد سنة متضاربة ومتناقضة، وذلك بفضل تلك الجهود التي بذلها أولئك في إخراج المرويات بحسب المقاسات التي ترتضيها الساسة والدراهم والدنانير.

2-إن مما لا شك ولا ريب ولا شبهة فيه أن هذا الخطاب الذي توجه به عمر ابن الخطاب لبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواء بالكيفية التي أخرجها ابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم من التهديد الصريح بحرق دارها بمن فيه، وفيه فاطمة وعلي والحسن والحسين وبعض من المهاجرين والأنصار.

أو سواء بالكيفية التي أخرجها ابن عبد البر، أو الصفدي؛ ففي كلتا الكيفيتين فإن عمر بن الخطاب قد أرعب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولديها الحسن والحسين واذاهما اشد الأذى وأرعب الصحابة من المهاجرين والأنصار وأدخل عليهم الذعر والخوف، وأنه آلم بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو بهذا الصنيع يكون قد ارتكب مجموعة من الجرائم وهي كالآتي:

أ- إنه آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله):

1- لقوله (صلى الله عليه وآله):

ص: 272

«فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها»(1).

2- وقوله (صلى الله عليه وآله):

«فمن آذاها فقد آذاني... »(2).

والله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم في بيان جريمة من يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ شأنه ومنزلته وعقابه اللعن في الحياة الدنيا وفي الآخرة كذاك تكون عقوبته اللعن والعذاب المهين كما هو واضح وصريح في الآية المباركة:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾(3).

ب- إن عقوبة من يرعب أهل المدينة أو يحدث فيها حدثاً أو يخيف أهلها قد أظهره رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس، وقد أخرجه أئمة الحديث في صحاحهم، فمنها:

1-أخرج البخاري ومسلم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:

«المدينة حرم ما بين عير إلى ثور؛ فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا »(4).

ص: 273


1- صحيح البخاري، كتاب النكاح: ج 6، ص 158 .
2- المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 159 ؛ فتح الباري: ج 9، ص 287 .
3- سورة الأحزاب، الآية ( 57 ).
4- صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب: حرم المدينة برقم ( 1870 )، صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: فضل المدينة حديث ( 1366 ).

2-أخرج أبو داود في السنن، من حديث علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«المدينة حرام ما بين عافر إلى ثور؛ فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثا،ً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا،ً لا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تلفظ لفظها إلاّ لمن أنشد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجلاً بعيره »(1).

3-ذكر إمام المذهب الحنبلي في مسنده، عن ابن صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «من أخاف أهل المدينة ظلماً، أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً »(2) أي لا نفلًا ولا فرضاً » (3).

4-أخرج العباسي والجنيدي عن جابر بن عبد الله، قال: أشهد لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول: «من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين »(4).

ص: 274


1- سنن أبي داود، باب تحريم المدينة، حديث ( 2034 ) ج 2 ص 529 ، مشير العزم الساكن لابن الجوزي: ص 235 مكتبة الصحابة بجدة.
2- مسند أحمد: ج 4 ص 55 ، حديث ( 16622 ).
3- الدرة الثمينة لابن النجار: ص 46 ط دار الأرقم.
4- عمدة الأخبار في مدينة المختار للعباسي: ص 90 - 91 ط أسعد الحسيني، فضائل المدينة للجنيدي المكي: ص 30 ط دار الفكر.

وعليه:

لا يمكن تغيير الحقائق أو تحسين الجرائم أو تبرير الآثام لاسيما وأن الأمر متعلق بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فكيف يمكنهم أن يطفئوا نور الله:

﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(1).

4- من الذي أعطى لعمر بن الخطاب الحق في منع الناس من التصرف في بيوتهم فيحدد لهم من يدخل إليهم ومن يخرج، فيمنع من يشاء ويسمح لمن يشاء؛ أليس هذا الفعل تدخلاً سافراً في حقوق الناس؟

أليس هذا الفعل لو حدث اليوم مع أحد في المجتمعات المدنية لقيل لصاحب هذا الفعل دكتاتور إن كان في هرم السلطة ولو كان فرداً في المجتمع لألقي في السجن أو لقيل عنه ما يناسبه من الألفاظ.

إذن:

قدوم عمر إلى بيت النبوة وفيه بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي يؤلمه ما يؤلمها، والتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وتهديدها بحرق بيتها بمن فيه، وجمع الحطب من حوله لسبب واحد وهو أن علي بن أبي طالب، وبعض المهاجرين

والأنصار لم يبايعوا أبا بكر ليكون من حيث التسلسل الحدثي لجريمة قتل بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو المرحلة الأولى من الجريمة.

ص: 275


1- سورة التوبة، الآية ( 32 ).
ثانياً: المرحلة الثانية من جريمة قتل فاطمة (علیها السّلام(حرق بيتها بمن فيه)
اشارة

بعد أن قام عمر وعصابته بجمع الحطب حول بيت علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبعد تهديده لهم بحرق البيت بمن فيه إن لم يخرجوا ليبايعوا أبا بكر وبعد أن رأى امتناعهم ومواجهة بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) له عله يستحي ومن معه فيكفون بأسهم وغيهم عنها ولو من قبيل أنها امرأة لا حول لها ولا قوة وأنها أم لأربعة أولاد ومن حقها أن تدافع عنهم؛ إلاّ أنهم مع كل هذه الموانع الإنسانية والتي تتقاطع مع الشيم والأعراف العشائرية فضلاً عن شينها لصفة الرجولة وخزيها لمن كان في أصله حراً يأبى على نفسه الاستذلال فيقاتل امرأة وأطفالها مع كل هذه الموانع والحواجز وبغض النظر عن الحرمات والقيم الأخلاقية والإنسانية إلاّ أن عمر بن الخطاب وعصابته يقدمون على إضرام النار في هذا الحطب ومن ثم يقومون بالهجوم على بيت فاطمة وأطفالها يقاتلونهم على كرسي الخلافة.

ولكن كيف أضرموا النار في الحطب؟

ألف - ما ورد في مدرسة العترة النبوية في إضرام عمر بن الخطاب النار في الحطب لحرق بيت فاطمة بمن فيه

1- روى سليم بن قيس الهلالي الكوفي الكيفية التي جمع فيها الحطب ووضعه حول بيت فاطمة (عليها السلام) ومناداته لفاطمة وعلي ومن كان في دارهما من الصحابة وتهديده لهم بالحرق إذا لم يخرجوا لبيعة أبي بكر فلم يخرج أحد منهم وأبوا البيعة لأبي بكر، فقال:

(ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب)(1).

ص: 276


1- كتاب سيلم بن قيس الهلالي: ص 15 ؛ البحار للمجلسي: ج 28 ، ص 269 .

2- روى الشيخ المفيد في إضرام عمر النار في الحطب حول بيت فاطمة (عليها السلام) فقال:

(لما بايع الناس أبا بكر دخل علي (عليه السلام) والزبير والمقداد بيت فاطمة وأبوا أن يخرجوا، فقال عمر بن الخطاب أضرموا عليهم البيت نارا)(1)!!

3- روى الديلمي في الإرشاد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان اقتصاص الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من أبي بكر وعمر وعصابتهما التي اقتحمت دار فاطمة (عليها السلام) فيقول:

«ثم يؤمر بالنار التي أضرمتموها على باب داري لتحرقوني وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابني الحسن والحسين وابنتي زينب وأم كلثوم، حتى تحرقا بها، ويرسل عليكما ريح مرة فتنسفكما في اليم نسفا.... »(2).

باء - ما ورد في كتب العامة من إضرام النار في الحطب الذي وضع حول بيت فاطمة (علیها السّلام)

إن المرحلة الثانية من جريمة قتل فاطمة (صلوات الله عليها) وهي إضرام النار في الحطب الذي جمع حول بيت الزهراء (عليها السلام) جاءت في كتب العامةبتعتيم شديد خوفاً من إظهار حجم الجرأة على الله ورسوله في إحراق بيت النبوة من جهة، ومن جهة أخرى محاولة تلميع صورة تلك الرموز التي قادت هذا الهجوم وارتكبت الجريمة.

ولا يخفى على أهل الاختصاص في علم القانون ومكافحة الجريمة وعلم النفس أن التهديد بالقتل أخف حكما وعقوبة من الشروع في التهديد وتنفيذ الفعل وذلك

ص: 277


1- أمالي المفيد: ص 56 ، وص 30 ؛ البحار: ج 28 ، ص 232 .
2- إرشاد القلوب للديلمي: ج 2، ص 286 .

لأنه يكشف -أي الإقدام على تنفيذ التهديد- رسوخ الجريمة وانحراف الفاعل وترديه واتصافه بالجرم.

في حين أننا نجد القرآن الكريم والسنة النبوية تجعل إثم المؤسس لكل عمل سيّئ أعظم إثماً من نفس الفعل وذلك منعا لحدوث الانحرافات أو التهاون في الآثام لما يترتب عليها من التهاون والتغافل والاستقلال في حجم الجريمة فتعد صغيرة وهي عظيمة.

من هنا:

تجنبت مصادر أبناء العامة من إيراد حرق باب فاطمة (عليها السلام) الذي تولاه عمر بن الخطاب بيده حينما حمل قبساً من النار وأخذ ينادي في أهل بيت النبوة وقد جلس أبو بكر على المنبر يشرف بنفسه على هذه الحرب التي تشن على بيت فاطمة وعلي (عليهما السلام) وذلك أن بيت فاطمة في الروضة لا يفصل بينه وبين المنبر سوى أمتار قليلة.

فلا المسجد له حرمة، ولا الروضة، ولا القبر النبوي، ولا صاحبه، وذلك أن لاحرمة لله وشريعته من الأساس في معتقدات هؤلاء الذين جاءوا بالحطب والنار ليحرقوا بيت فاطمة (عليها السلام) بمن فيه.

1-روى أبو الفداء في تاريخه قائلاً:

(ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة -عليها السلام-، وقال: إن أبوا عليك فقاتلهم!!!

ص: 278

فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة -عليها السلام- وقالت:

«إلى أين يا بن الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟! .»

قال: نعم،....)(1).

2- روى ابن عبد ربه الأندلسي في حادثة حرق بيت فاطمة (عليها السلام) أنه قال:

(الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر علي والعباس والزبير وسعد بن عُبادة، فأما علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم.

فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة، فقالت:

«يا بن الخطاب، أجئت لتُحرق دارنا؟ .»

قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة)(2).

والمستفاد من قراءة الحدث بالكيفية التي نقله رواة مدرسة أهل السنة والجماعة بأن الحادثة بمجرياتها ومراحلها كانت تتداول فيما بين الرواة والمصنفين، وفي المجالس شفاهة لا كتابة وتدوينا إلى الحد الذي أصبحت هذه الحادثة متواترة عند أبناء العامة لاسيما تلك الطبقة التي اشتغلت في الكتابة والرواية والتصنيف في مختلف التخصصات كالحديثية والتأريخية والفقهية والأدبية.

ص: 279


1- تاريخ أبي الفداء: ج 1، ص 107 .
2- العقد الفريد لابن عبد البر: ج 2، ص 73 .

حتى تناولها شاعر النيل المعاصر والمتأخر عن الحادثة بأربعة عشر قرناً إلاّ أن تلك القرون الماضية لم تجعله في غفلة عن حادثة قتل الزهراء (عليها السلام) وحرق دارها بيد عمر بن الخطاب مما يكشف عن أن الحادثة متواترة شفاهة لا كتابة وتدويناً وأنها

مشهورة عند القوم تتناقلها الألسن في العراق والشام وأرض مصر إلى الأندلس.

ولذا: يقول شاعر النيل في قصيدته العمرية:

وقولة لعلي قالها عمر*** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أبقي عليك بها*** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها*** أمام فارس عدنان وحاميها(1)

وإن كان حافظ إبراهيم يتغزل بعمره وإمامه ويتفاخر به، إلاّ أن المقايسة هنا باطلة مما أعطت أبياتاً موزونة لكنها مختلفة ومضطربة في الحس الجمالي فضلاً عن العقدي.

فهنا لم تكن المقايسة بين من يستطيع أن يهدد فارس عدنان وحاميها فمن قبل خرج له صناديد العرب في بدر وأحد والأحزاب، وبرز له أسطورة اليهود في خيبر وغيرها؛ فهنا تصح المقايسة في مواجهة الفرسان.

لكنها هنا عند حافظ إبراهيم فالمقايسة سمجة ولزجة كلزوجة ماء فم المحتضر؛ وذلك أن المحل في هذه المقولة محل تجرٍ على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فمن أعظم من أبي حفص جرأة على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في حرق بيته وقتل

ابنته وريحانتيه وحرقهم بالنار؟!

ص: 280


1- ديوان حافظ إبراهيم: ج 1، ص 75 ، تحت عنوان (عمر وعلي) طبع دار الكتب المصرية بالقاهرة.

وعليه:

لو أدرك أدباء مصر والمشتغلون به آنذاك (كأحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الابياري، وعلي جارم، وعلي أمين، وخليل مطران، ومصطفى الدمياطي بك، وغيرهم)(1)، لما اعتنوا بنشر هذه الأبيات والتفاخر بها.

لكنها رب ضارة نافعة، إذ لو كان هؤلاء قد أدركوا سماجة هذه الأبيات وتجريها على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) لما قاموا بنشرها ولضاع بيان الصورة التأريخية التي تنطق بها الأبيات: بأن أبا حفص أشد الناس أذى لله ورسوله (صلى الله عليه وآله(؛ أفهناك أذى أكبر من حرق بيت بنت المصطفى على قلب المصطفى (صلى الله عليه وآله)؟!

المسألة الثالثة: هجوم عمر بن الخطاب وعصابته على بيت فاطمة (علیها السّلام) واقتحامه وما وقع عليها من الأضرار

اشارة

قبل المضي في بيان مجريات الحدث فقد أفردت لهذه المرحلة من قتل فاطمة عليها السلام مسألة مستقلة وذلك لتفرع الحدث وما لحقه من تبعات ونتائج.

إذ إن مرحلة الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام) واقتحامه والدخول إلى بيتها هو من أكثر المراحل دموية؛ وذلك أن المرحلتين السابقتين وهما جمع الحطب حول بيت الزهراء (عليها السلام)، وإضرام النار فيه؛ إنما كانتا مقدمة للقضاء على بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وولديها وزوجها، ليتم بذلك إنهاء كل ما له علاقة بالعهد القديم، عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرق جميع آثاره.

ص: 281


1- الغدير للعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني: ج 7، ص 86 .

لاسيما وأن التأريخ يحدثنا عن تلك الخطة والهدف المنشود من هذه العصابة وهو القضاء على كل ما يمت بصلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والبدء بعهد جديد اسمه سنة الشيخين بعد أن تهيّأت لهما الفرصة في جمع العرب تحت لواء واحد بعد

تفرق وشتات ليشكلا بذلك أكبر دولة في الجزيرة العربية وليعيدا بذلك ما كانا يسمعانه من أمجاد دولة النعمان بن المنذر ملك العرب، أو فخامة سلطان الفرس، أو إمبراطورية الروم وثراء قصورها.

وعليه:

1-كانت هذه الخطة أن تبدأ بحرق هذا البيت بمن فيه بحجة الدخول فيما دخلت فيه الأمة من الانقياد للسلطة الجديدة وقياداتها وحكامها الجدد.

2-حرق أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما فعل أبو بكر وهو ما تحدثت به عائشة (أنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمس مائة حديث،فبات ليلته يتقلب كثيرا، قالت تغمني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟

فلما أصبح، قال:

«أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك .»

فجئته بها، فدعا بنار فحرقها.

فقلت: لم أحرقتها؟!

قال:

«خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت(به) ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك .»(1).

ص: 282


1- لشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد للمؤلف: ص 117 ، ح 1؛ تذكرة الحفاظ للذهبي:ج 1، ص 5؛ الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 1، ص 200 ؛ كنز العمال: ج 10 ، ص 285 .

وهي حجة أخرى تتماشى مع حجة حرق بيت النبي بمن فيه.

وذلك: (كي يدخلوا فيما دخلت فيه الأمة( في الحكومة الجديدة.

3- منع رواية حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتحدث به وهو ما قام به أبو بكر أيضاً؛ فعن أبي مليكة )قال: إن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً! فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا

حلاله وحرموا حرامه)(1).

4- إمحاء أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعن يحيى بن جعدة: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه)(2).

5- معاقبة من يتحدث بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومما يدل عليه ما أخرجه الدارمي في سننه عن سليمان بن يسار: )إن رجلاً قدم المدينة يقال له ضبيع -وهو من أهل البصرة- فجعل يسأل عن تشابه القرآن، فأرسل إليه عمر بن الخطاب فأعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟

قال: أنا عبد الله، ضبيع.

قال: وأنا عبد الله، عمر.

ص: 283


1- الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد للمؤلف: ص 118 ، ح 2؛ تذكرة الحفاظ للذهبي:ج 1، ص 32 .
2- تقييد العلم: ص 53 ؛ حجية السنة: ص 395 ؛ من حياة الخليفة عمر بن الخطاب للبكري: ص 274 .

فضربه حتى دمى رأسه، فقال ضبيع : حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة)(1).

وعن سعيد بن المسيب: (فأمر به عمر فضرب مائة سوط، فلما برئ دعاه فضربه مائة أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى: حرّم على الناس مجالسته)(2).

وذكر السائب بن يزيد: (وكتب عمر إلى أبي موسى، يأمره أن يحرم على الناس مجالسته، وإن يقوم في الناس خطيباً، ثم يقول: إن ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه.

فلم يزل -الرجل- وضيعا في قومه حتى هلك)(3)!

6- حبس الصحابة ومنعهم من الخروج من المدينة كي لا يتحدث الناس بما فعله قادة العهد الجديد فضلاً عن منع الرواة من تحديث الناس بسيرة رسول الله وسننه.

ولذا: بدأ عهد جديد وسنة جديدة لم تحمل من الإسلام إلا اسمه مما دعا بعلي عليه السلام أن يرفض البيعة والخلافة على شرط السير بسنة الشيخين(4)؛ وقبلها عثمان

الذي عمل بسنة جديدة مما دفع الصحابة على محاربته والاعتراض عليه ومجابهته(5).

ص: 284


1- الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد للمؤلف: ص 118 ، ح 2؛ سنن الدارمي: ج 1، ص 54 ؛ نصب الراية للزيلعي: ج 3، ص 118 ؛ الدراية لابن حجر: ج 2، ص 98 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، ص 7؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، ص 319 ؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 23 ، ص 411 .
2- الإصابة لابن حجر: ج 3، ص 371 .
3- كنز العمال للمتقي الهندي: ج 2، ص 334 ؛ الغدير للأميني: ج 6، ص 292 .
4- لما دفن عمر بن الخطاب جاء أبو عبيدة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الشيخين؟ قال عليه السلام: «أما كتاب الله وسنة نبيه فنعم؛ وأما سنة الشيخين فأجتهد رأيي؛ (تاريخ مختصر الدول لابن العبري: ج 1، ص 54 .
5- تاريخ المدينة لابن شبة النميري: ج 3، ص 1093 .

وعليه:

لم يكن الهجوم على بيت الله، بيت النبوة والرسالة، بيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، هو نقطة النهاية بل هو نقطة البداية من القضاء على الإسلام ومحوه؛ إلاّ أن الفارق بين جميع هذه المراحل لمحو الإسلام هو اقتحام بيت النبوة والرسالة، بيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فكان كالآتي:

أولاً: ما ورد في كتب مدرسة أهل البيت (علیهم السّلام) حول اقتحام بيت فاطمة (علیها السّلام)

وردت روايات كثيرة في كتب مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) حول اقتحام بيت فاطمة (عليها السلام)، فمنها:

1- ما كان بلسان عمر بن الخطاب في رسالة بعث بها إلى معاوية ونقلها المجلسي عن الطبري فقال:

(بسم الله الرحمن الرحيم من عمر إلى معاوية..... إلى قوله: فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب، فقالت:

«أيّها الضالون المكذبون! ماذا تقولون؟ وأي شيء تريدون وما تشاء يا عمر؟ »

قلت: ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب، وجلس من وراء الحجاب؟ فقالت: «طغيانك يا شقيّ! أخرجني، وألزمك الحجة، وكل ضال غويّ .»

فقلت: دعي عنك الأباطيل وأساطير النساء، وقولي لعلي يخرج، فقالت: «لا حبّ ولا كرامة، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر؟! وكان كيد الشيطان ضعيفاً .»

فقلت: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل، وأضرمتها ناراً على أهل هذا البيت،

ص: 285

وأحرق من فيه، أو يقاد إلى البيعة، وضربت وأخذت سوط قنفذ، وقلت لخالد بن الوليد: أنت ورجالنا هلموا في جمع الحطب، فقلت: إني مضرمها. فقالت: «يا عدوّ الله، وعدوّ رسوله، وعدوّ أمير المؤمنين .»

فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرمته، فتصعّب عليّ، فضربت كفّيها بالسوط، فألّها، فسمعت لها زفيرا وبكاء، فكدت أن ألين وانقلب عن الباب، فذكرت أحقاد علي، وولوعه في دماء صناديد العرب، وكيد محمد وسحره، فركلت الباب وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه، وسمعتها قد صرخت صرخة حسبتها

قد جعلت أعلى المدينة أسفلها.

وقالت:

«يا أبتاه! يا رسول الله، هكذا يفعل بحبيبتك وابنتك، آه يا فضة، إليك، فخذيني، فقد والله قتل ما في أحشائي من حمل .»

وسمعتها تمخض وهي مستندة إلى الجدار فدفعت الباب ودخلت، فأقبلت إليّ بوجه أغشى بصري، فصفقت صفقة على خدّيها من ظاهر الخمار، فانقطع قرطها، وتناثرت إلى الأرض، وخرج علي فلما أحسست به، أسرعت إلى خارج الدار،

وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما: نجوت من أمر عظيم)(1).

2- روى سليم بن قيس الهلالي الكوفي، قال: (كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ومعنا جماعة من شيعة علي عليه السلام فحدثنا فكان فيما حدثنا أن قال: يا إخوتي

ص: 286


1- البحار للمجلسي: ج 30 ، ص 293 ؛ مجمع النورين للمرندي: ص 110 ؛ بيت الأحزان للشيخعباس القمي: ص 120 ؛ مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الاسلامي: ص 439 - 440 ، برقم 399 / 3.

توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا وأجمعوا على الخلاف واشتغل علي بن أبي طالب (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في

حفرته ثم أقبل على تأليف القرآن وشغل عنهم بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكن همته الملك لما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره عن القوم فلما افتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين فلم يبق إلا علي وبنو هاشم وأبو ذر

والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير.

قال عمر لأبي بكر: يا هذا إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر فابعث إليه، فبعث (إليه) ابن عم لعمر يقال له قنفذ فقال (له يا قنفذ) انطلق إلى علي فقل له أجب خليفة رسول الله، فانطلق فأبلغه.

فقال علي (عليه السلام):

«ما أسرع ما كذبتم على رسول الله (نكثتم) وارتددتم والله ما استخلف رسول الله غيري، فارجع يا قنفذ فإنما أنت رسول فقل له: قال لك علي: والله ما استخلفك رسول الله، وإنك لتعلم من خليفة رسول الله .»

فأقبل قنفذ إلى ابي بكر فبلغه الرسالة، فقال أبو بكر: صدق علي ما استخلفني رسول الله، فغضب عمر ووثب (وقام) فقال أبو بكر: اجلس، ثم قال لقنفذ اذهب إليه فقل له أجب أمير المؤمنين أبا بكر، فأقبل قنفذ حتى دخل على علي (عليه السلام) فأبلغه الرسالة فقال (عليه السلام):«كذب والله، انطلق إليه فقل له: (والله) لقد تسميت باسم ليس لك فقد علمت أن أمير المؤمنين غيرك .»

ص: 287

فرجع قنفذ فأخبرهما فوثب عمر غضبان فقال: والله إني لعارف بسخفه وضعف رأيه وإنه لا يستقيم لنا أمر حتى نقتله فخلني آتك برأسه.

فقال أبو بكر: اجلس، فأبى؛ فأقسم عليه، فجلس، ثم قال: يا قنفذ، انطلق فقل له: أجب أبا بكر فأقبل قنفذ فقال يا علي: أجب أبا بكر، فقال علي:

«إني لفي شغل عنه، وما كنت بالذي أترك وصية خليلي وأخي، وأنطلق إلى ابي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور .»

فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر فوثب عمر غضبان فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطبا ونارا، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقبل عمر حتى ضرب الباب ثم نادى يا ابن أبي طالب (افتح الباب) فقالت فاطمة:

«يا عمر ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه .»

قال: افتحي الباب وإلاّ أحرقناه عليكم، فقالت:

«يا عمر، أما تتقي الله عزّ وجل تدخل على بيتي وتهجم على داري .»

فأبى أن ينصرف، ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب، ثم دفعه عمر فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وصاحت:

«يا أبتاه يا رسول الله .»فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت، فرفع السوط فضرب به ذراعها، فصاحت:

ص: 288

«يا أبتاه .»

فوثب علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ بتلابيب عمر ثم هزه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصى به من الصبر والطاعة فقال:

«والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك لو لا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي .»

فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وسل خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة (عليها السلام) فحمل عليه بسيفه فأقسم على علي (عليه السلام) فكف وأقبل المقداد وسلمان وأبو ذر وعمار وبريدة الأسلمي حتى دخلوا الدار أعوانا لعلي عليه السلام حتى كادت تقع فتنة فأخرج علي (عليه السلام)

واتبعه الناس واتبعه سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة (الأسلمي رحمهم الله) وهم يقولون: ما أسرع ما خنتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخرجتم الضغائن التي في صدوركم.

وقال بريدة بن الخصيب الأسلمي: يا عمر أتثب على أخي رسول الله ووصيه وعلى ابنته فتضربها وأنت الذي يعرفك قريش بما يعرفك به فرفع خالد بن الوليد السيف ليضرب به بريدة وهو في غمده فتعلق به عمر ومنعه (من ذلك) فانتهوا بعلي إلى أبي بكر ملبياً فلما بصر به أبو بكر صاح خلوا سبيله فقال (علي) (عليه السلام):«ما أسرع ما توثبتم على أهل بيت نبيكم، يا أبا بكر بأي حق وبأي ميراث وبأي سابقة تحث الناس إلى بيعتك ألم تبايعني بالأمس بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) .»

ص: 289

فقال عمر: دع (عنك) هذا يا علي فو الله إن لم تبايع لنقتلنك فقال علي (عليه السلام): «إذا والله أكون عبد الله وأخا رسول الله المقتول .»

فقال (عمر) أما عبد الله المقتول فنعم، وأما أخو رسول الله فلا، فقال (عليه السلام): «أما والله لولا قضاء من الله سبق وعهد عهده إليّ خليلي لست أجوزه لعلمت أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً .»

وأبو بكر ساكت لا يتكلم فقام بريدة فقال: يا عمر ألستما اللذين قال لكما رسول الله (صلى الله عليه وآله): انطلقا إلى علي فسلما عليه بإمرة المؤمنين .»

فقلتما أعن أمر الله وأمر رسوله فقال:

«نعم .»

فقال أبو بكر: قد كان ذلك يا بريدة ولكنك غبت وشهدنا والأمر يحدث بعده الأمر فقال عمر: وما أنت وهذا يا بريدة وما يدخلك في هذا؟ فقال بريدة: والله لا سكنت في بلدة أنتم فيها أمراء، فأمر به عمر فضرب وأخرج.

ثم قال سلمان: يا أبا بكر اتق الله وقم عن هذا المجلس ودعه لأهله يأكلوا به رغدا إلى يوم القيامة لا يختلف على هذه الأمة سيفان، فلم يجبه أبو بكر فأعاد سلمان (فقال): مثلها فانتهره عمر وقال: ما لك ولهذا الأمر وما يدخلك فيما ها هنا فقال:

مهلا يا عمر قم يا أبا بكر عن هذا المجلس ودعه لأهله يأكلوا به والله خضرا إلى يوم القيامة، وإن أبيتم لتحلبن به دما، وليطمعن فيه الطلقاء والطرداء والمنافقون والله لو أعلم أني أدفع ضيما أو أعز لله دينا لوضعت سيفي على عاتقي ثم ضربت

ص: 290

به قدما، أتثبون على وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء ثم قام أبو ذر والمقداد وعمار فقالوا لعلي (عليه السلام): ما تأمر والله إن أمرتنا لنضربن بالسيف حتى نقتل؛ فقال علي (عليه السلام): «كفوا رحمكم الله واذكروا عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصاكم به .»

فكفوا؛ فقال عمر لأبي بكر وهو جالس فوق المنبر: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم (فينا) فيبايعك، أو تأمر به فيضرب عنقه والحسن والحسين -عليهم السلام- قائمان على رأس علي -عليه السلام- فلما سمعا مقالة عمر بكيا ورفعا اصواتهما:

«يا جداه يا رسول الله .»

فضمهما علي إلى صدره وقال:

«لا تبكيا فو الله لا يقدران على قتل أبيكم هما (أقل) وأذل وأدخر من ذلك .»

وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأم سلمة فقالتا: يا عتيق ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد؛ فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد وقال: ما لنا وللنساء، ثم قال يا علي قم بايع، فقال علي:

«إن لم أفعل .»

قال: إذا والله نضرب عنقك، قال (عليه السلام):

«كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك .»

فوثب خالد بن الوليد واخترط سيفه وقال: والله إن لم تفعل لأقتلنك فقام إليه علي (عليه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثم دفعه حتى ألقاه على قفاه ووقع السيف من يده فقال عمر: قم يا علي بن أبي طالب فبايع، قال (عليه السلام):

ص: 291

«فإن لم أفعل .»

قال: والله نقتلك واحتج عليهم علي عليه السلام ثلاث مرات ثم مد يده من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر ورضي (منه) بذلك ثم توجه إلى منزله وتبعه الناس)(1).

3- روى الطبرسي في حادثة اقتحام بيت فاطمة صلوات الله عليها بعد أن ذكر مجريات الحادثة من جمع الحطب وإضرام النار فيه فقال: (فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وبادر علي إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم، فكثروا عليه فضبطوه وألقوا على عنقه حبلاً أسود، وحالت فاطمة (عليها السلام) بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج من ضرب قنفذ إياها فأرسل أبو بكر إلى قنفذ أضربها فألجأها إلى عضادة بيتها فدفعها -أي:

الباب- فكسر ضلعها من جنبها وألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة)(2).

4- وروى العياشي في تفسيره عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن جده ما أتى علي يوم قط أعظم من يومين أتيا علي، فأما اليوم الأول فيوم قبض رسول الله (صلى

الله عليه وآله)، وأما اليوم الثاني فو الله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه، إذ قال له عمر يا هذا ليس في يديك شيء مهما لم يبايعك علي،فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك، فإنما هؤلاء رعاع فبعث إليه قنفذ فقال له اذهب فقل لعلي أجب خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذهب قنفذ فما لبث أن رجع

فقال لأبي بكر: قال لك ما خلف رسول الله أحداً غيري.

ص: 292


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 862 - 868 .
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 82 .

قال: ارجع إليه فقل أجب فإن الناس قد أجمعوا على بيعتهم إياه، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش، وإنما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم، فذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع فقال: قال لك إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي وأوصاني أن إذا واريته في حفرته لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله، فإنه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل، قال عمر: قوموا بنا إليه، فقام أبو بكر، وعمر، وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، وقنفذ، وقمت معهم، فلما انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة (عليها السلام) أغلقت الباب في وجوههم، وهي لا تشك أن لا يدخل عليها إلا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله فكسره وكان من سعف ثم دخلوا فأخرجوا علياً ملببا فخرجت فاطمة فقالت: «يا أبا بكر أتريد أن ترملني من زوجي والله لئن لم تكف عنه لأنشرن شعري ولأشقن جيبي ولآتين قبر أبي ولأصيحن إلى ربي .»

فأخذت بيد الحسن والحسين، وخرجت تريد قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فقال علي (عليه السلام) لسلمان:

«أدرك ابنة محمد فإني ارى جنبتي المدينة تكفيان، والله إن نشرت شعرها وشقتجيبها وأتت قبر أبيها وصاحت على ربها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها (وبمن فيها) .»

فأدركها سلمان رضي الله عنه، فقال: يا بنت محمد، إن الله إنما بعث أباك رحمة فارجعي، فقالت: «يا سلمان يريدون قتل علي، ما على علي صبر، فدعني حتى آتي قبر أبي فأنشر شعري وأشق جيبي وأصيح إلى ربي .»

ص: 293

فقال سلمان: إني أخاف أن تخسف بالمدينة، وعلي بعثني إليك ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك وتنصرفي، فقالت:

«إذا أرجع وأصبر وأسمع له وأطيع »)(1).

5- روى الشيخ عباس القمي في بيت الأحزان عن فاطمة (عليها السلام)، أنها قالت: «فجمعوا الحطب الجزل على بابي، وأتوا بالنار ليحرقوه، ويحرقونا، فوقفت و(أخذت) بعضادة الباب، وناشدتهم الله: بالله وبأبي (صلى الله عليه وآله) أن يكفوا عنا وينصرونا، فأخذ عمر السوط من يد قنفذ -مولى أبي بكر-، فضرب به على عضدي، (فالتوى السوط على عضدي) حتى صار كالدملج، وركل الباب

برجله، فرده عليّ وأنا حامل، فسقطت لوجهي، والنار تسعر وتسقع في وجهي، فضربني بيده حتى انتشر قرطي من أذني، وجاءني المخاض، فأسقطت محسناً قتيلاً

بغير جرم »(2)

6- روى الكليني (عن أبان بن تغلب عن ابي هاشم قال: لما أخرج بعلي (عليهالسلام) خرجت فاطمة عليها السلام واضعة قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسها آخذة بيدي ابنيها فقالت: «ما لي وما لك يا أبا بكر، تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي، والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي .»

ص: 294


1- تفسير العياشي: ج 2، ص 66 - 68 .
2- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلام: ص 443 444 ، برقم 11/407 ؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 173 .

فقال رجل من القوم: ما تريد إلى هذا ثم أخذت بيده فانطلقت به)(1).

7- روى أبو جعفر الطوسي (عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، وعن سلمان، أن قالا: لما أخرج أمير المؤمنين من منزله خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر، فقالت:

«خلوا عن ابن عمي، فو الذي بعث محمدا بالحق، لئن لم تخلوا عنه لأنشرنَّ شعري، ولأضعنَّ قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسي، ولأصرخنَّ إلى الله، فما ناقة صالح بأكرم على الله مني، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي .»

قال سلمان: فرأيت والله أساس حيطان المسجد تقلّعت من أسفلها، حتّى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ، فدنوت منها، وقلت: يا سيدتي! ومولاتي، إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة، فلا تكوني نقمة.

فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها، فدخلت في خياشيمنا)(2).

ثانياً: ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة في اقتحام عمر بن الخطاب لبيت فاطمة (علیها السّلام)

وكما هي العادة في روايات أهل السنة والجماعة وكما مرّ علينا في حديث جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام ودخول عمر عليها يهددها بالإحراق إن اجتمع بعض صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند علي (عليه السلام) ليحرقن عمر بيت فاطمة بمن فيه وكيف أن القوم حذفوا قول عمر في التهديد

والإحراق.

ص: 295


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 237 - 238 .
2- مسند فاطمة للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 444 - 445 ؛ برقم 409 / 13 .

وهنا ليس الأمر ببعيد عن ذلك المنهج الذي اعتمدوه لاسيما وأن مرحلة الاقتحام هي من أكثر المراحل خطورة لأنها تكشف عن دموية الحدث فضلاً عن حجم الفتنة الذي أقدم عليها أبو بكر وعمر في إرعاب فاطمة وولديها وإرعاب أهل المدينة وما تبعها من قتل لفاطمة (عليها السلام).

فكيف بهم وأنى لهم أن يرووا تلك الجريمة كما وقعت.

ولذلك: نجد القوم قد أشاروا إليها إشارة خفيفة هنا وهناك علهم بذلك يستطيعون أن يخفوا هذه الجريمة ويمحوا آثارها من أذهان الناس، ويأبى الله تعالى إلا أن يظهر الحق، وعليه فلنرَ كيف أشار إليها القوم.

1- روى اليعقوبي (المتوفى سنة 248 ه) في تاريخه فقال:

(وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت:«والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله! .»

فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً، ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلاّ بعد ستة اشهر وقيل أربعين يوما)(1).

2-روى الجوهري (المتوفى سنة 323 ه) فقال:

(حدثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال: جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد

ص: 296


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 126 ، ط دار صادر؛ ج 2، ص 11 ، ط الأعلمي.

الأنصاري ورجل آخر فندر السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره؛ ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر.

قال أبو زيد وروى النضر بن شميل، قال: حمل سيف الزبير لما ندر من يده إلى أبي بكر وهو على المنبر يخطب فقال: اضربوا به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: ولقد رأيت الحجر وفيه تلك الضربة والناس يقولون هذا أثر ضربة سيف الزبير.

قال أبو بكر، وأخبرني أبو بكر الباهلي، عن إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: قال أبو بكر: يا عمر، أين خالد بن الوليد؟ قال: هو هذا، فقال: انطلقا إليهما، يعني عليا والزبير فأتياني بهما؛ فانطلقا فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ قال: أعددته لأبايع عليا، قال: وكان في البيت

ناس كثير منهم المقداد بن الأسود، وجمهور الهاشميين، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره.

ثم أخذ بيد الزبير فأقامه، ثم دفعه فأخرجه، وقال: يا خالد دونك هذا؛ فأمسكهخالد، وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس أرسلهم أبو بكر رداءً لهما.

ثم دخل عمر فقال لعلي: قم فبايع فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: نعم؛ فأبى أن يقوم فحمله ودفعه كما دفع الزبير، ثم أمسكهما خالد، وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفا، واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال.

ورأت فاطمة ما صنع عمر فصرخت وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن، فخرجت على باب حجرتها ونادت:

«يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله»(1).

ص: 297


1- السقيفة وفدك للجوهري: ص 73 74 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6، ص 48 49 ؛غاية المرام للسيد هاشم البحراني: ص 326 .

3- وورد ذكر الحادثة كذلك في أبحاث بعض المعاصرين، فمما جاء في ذلك أن قال بعضهم:

(أما علي بن أبي طالب فقد امتنع عن مبايعة أبي بكر هو وجماعة من الهاشميين والزبير بن العوام، وتخلفوا في بيت فاطمة، فخرج إليهم عمر بن الخطاب في جماعة من الصحابة، وأرغموا بني هاشم والزبير على مبايعة أبي بكر، ثم استقدم علي إلى

أبي بكر وطلب منه أن يبايع، فامتنع بحجة أن أبا بكر اغتصب حقه في خلافة النبي (صلى الله عليه وآله)...

ولم يبايع علي أبا بكر بالخلافة إلا بعد أن توفيت فاطمة، أي بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وآله)(1).

ص: 298


1- تاريخ الدولة العربية للدكتور عبد العزيز سالم: ص 431 432 ، ط دار النهضة العربية بيروت؛وقريب منه أورده محمد عزه في تاريخ الجنس العربي: ج 7، ص 8 25 ، ط المكتبة العصرية لبنان.

المحتويات

المبحث الثالث والعشرون المقاصدية في الاقامة عند قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ونفي سوء الظن

بما وعد الله الصابرين

المسألة الاولى: هل كانت العرب تقيم عند قبور موتاها . ..7

المسألة الثانية: نفي قصدية الجزع عنه (علیه السّلام) في ذهن الناظر وعصمته في المشاعر ... 11 .

الأمر الأول: ضرورة جب الغيبة والمحافظة على مقامه في عين الناظر ... 11 .

الأمر الثاني: عصمته في تقنين مشاعره وعواطفه ... 13 .

المسألة الثالثة: منشأ سوء الظن بالله وموارده في النفس ... 19 .

المسألة الرابعة: كاشفية القرآن لما وعد الله الصابرين ... 24 .

المبحث الرابع والعشرون المقاصدية في تضمين الآهات وممانعة النفس ب (لولا)

المسألة الاولى: معنى التأوه وقصديته في اللغة والقرآن ... 32 .

أولاً: معنى (آه آه) في اللغة ... 32 .

ثانياً: معنى (وآه وآها) في اللغة... 35 .

ثالثاً: التأوه في القرآن وقصديته الوجدانية والسلوكية .... 36 .

المسألة الثانية: القصدية في ايراد (لولا) ... 40

ص: 299

أولاً: معنى (لولا) في اللغة . ... 41 .

ثانياً: قصدية الممانعة وتقويم النفس.... 42

ثالثاً: الملازمة بين التأوه والحلم وظهوره اللفظي والافعالي ... 43 .

المسألة الثالثة: القصدية في غلبة المستولين ومن هم ؟ .... 53 .

أولاً: معنى الاستيلاء في اللغة : .... 53 .

ثانيا: من هم المستولون الذين لم يصرّح بهم الإمام علي (علیه السّلام)...54

المبحث الخامس والعشرون مقاصدية المقام عند قبر رسول الله ) i( ولزومه

المسألة الأولى: قصدية المقام في كون مصيبة فقد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) أعظم المصائب ... 69 .

المسألة الثانية: قصدية المقام في تقرير مشروعية زيارة قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وفضلها .... 74 .

أولاً: فتوى ابن تيمية في حرمة زيارة قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...74

ثانيا: فتوى الوهابية بحرمة الانابة في السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...85

المسألة الثالثة: قصدية المقام في بيان مستويات الملازمة للقبر النبوي . .... 89 .

أولاً: الملازمة الوجوبية ...89

ثانياً: الملازمة الدائمية . ..90

ثالثاً: الملازمة بكثرة الزيارة للقبر النبوي فيكون زواراً . ..91

ص: 300

المبحث السادس والعشرون مقاصدية العكوف عند قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

المسألة الاولى: اللبث والعكوف في اللغة . .... 97 .

أولاً: اللبث في اللغة ...97 .

ثانياً: العكوف والإعتكاف في اللغة.... 99 .

ثالثاً: الاعتكاف عند الفقهاء ...... 100.

المسألة الثانية: استظهار قصدية اللبث والعكوف . ... 101.

القصدية الاولى: استدامة الإقامة عند القبر الشريف ... 101.

القصدية الثانية: الملاذ بقبر النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) قربة الى الله تعالى ..... 103.

القصدية الثالثة: حبس نفسه المقدسة على القبر النبوي . .. 105.

القصدية الرابعة: اظهار شأنية رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وارتكازها في الحقل المعرفي ... 106.

المبحث السابع والعشرون مقاصدية الإعوال ومشروعيته

المسألة الاولى: الإعوال والثكل في اللغة .... 112.

أولاً: الإعوال والعويل في اللغة .... 112.

ثانياً: معنى الثكل في اللغة . .... 113.

المسألة الثانية: المقاصدية في اعواله على فقد فاطمة (علیها السّلام)...114

القصدية الأولى: تشريع البكاء على مظلومية العترة النبوية . ... 114.

القصدية الثانية: حرارة وجده على مظلومية الزهراء البتول وكاشفية حبه لها.... 122.

القصدية الثالثة: حشرجة الصدر في فقدان الحق ووقوع الظلم . .. 124.

ص: 301

المبحث الثامن والعشرون رزئية المصاب وجلالة المنزلة ومقاصدية كونه بعين الله

المسألة الاولى: قصدية النسبة الى عين الله في القرآن الكريم . ... 128.

المسألة الثانية: القصدية في رزئية المصاب وبيان المنزلة .... 133.المبحث التاسع والعشرون...136.

المقاصدية في دفنها (علیها السّلام) سراً.... 136.

المسألة الاولى: قصدية أظهار مكنون وصية فاطمة (علیها السّلام) في تعرية وجوه المستولين ... 138.

أولاً: إلتزاماً بوصيتها وتحريكاً لذهن متلقي النص في أرجاعه لهذه الوصية . .... 139.

ثانياً: ما زالت غاضبة على من ظلمها حية وميتة . ... 144.

المسألة الثانية: كيف جرى دفنها؟ وقصدية حث المتلقي على المعرفة . ... 145.

المبحث الثلاثون المقاصدية في هضم حق فاطمة (علیها السّلام)

المسألة الاولى: قصدية إكتفائه ) g( بذكر هذه الرزايا الثلاثة .... 152.

أولاً: كاشفية الأحاديث النبوية في اشتراك الصحابة في ظلم فاطمة (علیها السّلام) وهضمها حقها . .... 154.

ثانياً: إنَّ الإيمان بالحوض فرض على جميع المسلمين . .... 156.

المسألة الثانية: قصدية التعريف بحق فاطمة الذي هضمته الأمة قهراً ... 160.

أولاً: قصدية التلازم بين مسار الوحي والنبي في إيصال حق فاطمة (علیها السّلام) ...161

ثانياً: قصدية إظهارتصدي فاطمة (علیها السّلام) للسلطة في جورها على شريعة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...175

ص: 302

المبحث الحادي والثلاثون مقاصدية ذكره للرزية الثالثة في منعهم إرثها جهراً

المسألة الاولى: القصدية في إيراده وقوع الأحداث تنازلياً من حيث وقوعها الزمني . ... 216.

المسألة الثانية: قصدية التعريف بمصادرة السلطة لأموال رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وماهي هذه الأموال ؟ ..... 217.

أولاً: حقيقة قيام السلطة الحاكمة بحبس أمول رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...217

ثانياً: أموال رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) غير المنقولة ..... 226.

المبحث الثاني والثلاثون المقاصدية في نفي أخلولق الذكر وبعُد العهد

المسألة الاولى: القصدية في (العهد) الذي لم يبعد . .... 235.

أولاً: القصدية في لفظ «ولم يتباعد العهد »...236

ثانياً: القصدية في لفظ «ولم يبعد بك العهد » . ...237

ثالثاً: القصدية في لفظ «ولم يطل العهد » ....238

المسألة الثانية: القصدية في «لم يخلولق الذكر » ظاهرة ومضمرة .... 240.

الخَلقْ و الاخلَوُلَق في اللغة ... 240.

المسألة الثالثة: لم يبلَ ذكره لكن غيرت سنته في اليوم الثاني من وفاته (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...242

أولاً: ماذا حدث في اليوم الثاني لوفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وهو لم يدفن بعد؟!.... 243.

ثانياً: حكم من أخاف أهل المدينة في السنة النبوية ... 245.

ثالثاً: كيف جرت بيعة ابي بكر؟ وماذا اشتملت خطبته بعد البيعة ؟... 247.

رابعاً: إنّ قطع الرؤوس وجلد الجسوم هو ايسر ما يلاقيه المعارضون للخليفة، فكيف لا تدفن الزهراء سراً ... 248

ص: 303

المبحث الثالث والثلاثون سرعة الانقضاض على بضعة النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بعد وفاته بأيام يكشف القصدية المضمرة «لم يطل العهد ولم يخل منك الذكر »

المسألة الاولى: كونها البضعة لم يردع الخليفة في حربه لها ... 258.

المسألة الثانية: جمع الحطب حول بيت فاطمة ) h( وإضرام النار فيه لإحراق البيت بمن فيه ... 260.

أولاً: كيف جرت الحادثة وما هي المرحلة الأولى من جريمة قتل فاطمة(علیها السّلام)...263

ثانياً: المرحلة الثانية من جريمة قتل فاطمة(علیه السّلام)(حرق بيتها بمن فيه) ..... 277.

المسألة الثالثة: هجوم عمر بن الخطاب وعصابته على بيت فاطمة (علیها السّلام) واقتحامه وما وقع عليها من الأضرار ...282 .

أولاً: ما ورد في كتب مدرسة أهل البيت (علیهم السّلام) حول اقتحام بيت فاطمة (علیها السّلام)...286

ثانياً: ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة في اقتحام عمر بن الخطاب لبيت فاطمة(علیه السّلام)...296

ص: 304

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.