فاطمة عليها السلام في نهج البلاغة المجلد 2

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 1351 لسنة 2016

مصدر الفهرسة: IQ – KaPLI ara IQ –KaPLI rda

رقم الاستدعاء: 2017 H37 F3.BP38.09

المؤلف: الحسني، نبيل قدوري ، 1965 -. مؤلف.

العنوان: فاطمة في نهج البلاغة : مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله /

بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبعة: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2017 / 1438 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد ؛

سلسة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ؛ سلسلة الدراسات والبحوث العلمية ( 12 ).

تبصرة ببليوغرافية : يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة- 40 هجريا – احاديث

-- دراسة تحليلية.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – فضائل – احاديث.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – مصائب.

موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 هجريآ – الوفاة والدفن.

مصطلح موضوعي: فقه اللغة العربية.

مصطلح موضوع: احاديث الشيعة الامامية -- دراسة تحليلية.

مؤلف اضافي: مستخلص ل (عمل) : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة -- جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الدرسات والبحوث العلمية (12)

وحدة فقه اللغة وفلسفتها - اللسانيات

فاطمة (عليها السلام) في نهج البلاغة مقاربة تداولية في قصدية النص ومقبوليته واستكناه دلالاته وتحليله /الجزء الثانی

تالیف: السید نبیل الحسینی الکربلایی

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه/ 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

مؤسسة علوم نهج البلاغة

www.inahj.org

Email: inahj.org@gmail.com

موبايل: 07815016633

ص: 4

المبحث الحادي عشر:مقاصدية ضعف تجلده و مركوزة بشأنية سيادتها على نساء العالمين

اشارة

ص:5

قوله (عليه السلام): «قَلَّ ياَ رسَوُلَ اللَّه عنَ صفَيِّتكِ صبَرْي، وضَعفُ عنَ سيَّدةَ النسِاَء تجَلَّديِ »

اشارة

ص: 6

إنَّ الملاحظ في هذا النص مورد البحث، أي قوله (عليه السلام): «وضعف عن سيدة النساء تجلّدي »، وما سبقه، أي قوله (عليه السلام): «قل يا رسول الله عن صفيتك صبري »، هو ارتكازهما على بيان شأنية فاطمة (عليها السلام)، فقد اتّضح من خلال البحص والدراسة في معنى الصفوة وما تبعه من ذكره (عليه السلام) لسيدة نساء العالمين وارتباطهما بشخصه ومشاعره في قلّة صبره وضعف تجلّده هو اظهار قصدية حجم الخسارة المرتكزة على حجم شأنية بضعة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو امر في غاية الحكمة وذلك لتحريكه مشاعر المتلقي في تتبع هذه الشأنية ومعرفتها، فلو اكتفى منتج النص بذكر مشاعره ووجدانياته دون الربط بذكر صفة كونها (صفية رسول الله (صلى الله عليه وآله)) وكونها (سيدة النساء) لأصبح المتلقي في دائرة الوجدانية التي ترافق صاحب العزاء وهو امر لا يحرك

ذهنية المتلقي، ولذلك اقرن هاتين الصفتين بمشاعره في قلّة الصبر، وضعف التجلّد ليظهر للمتلقي قصدية الحقيقة في بيان شأنية فاطمة (عليها السلام).

المسألة الأولى: الملازمة بين قصدية منتج النص في كونها سيدة النساء مع الحديث النبوي

اشارة

لم تقتصر الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة بفاطمة (عليها السلام) في بيان منزلتها في الأمة وإنما تعدّتها إلى بيان منزلتها على العالمين كي لا يبقى عذر لمعتذر في نكران فضلها، وجحد حقها، وهذه الاحاديث الخاصة بصفة كونها سيدة نساء العالمين وإن كانت قد مرّت في المبحث السابق الخاص بقصدية (الصفوة) والاصطفاء، إلا أنها هنا دلالتها وغرضها الذي قصده منتج النص (عليه السلام)

ص: 7

في ارشاد المتلقي الى الملازمة بين قصديته (عليه السلام) والحديث النبوي بهذا الشأن الفاطمي وتعدد مناسباته ودوافعه فقد تعدد صدور الحديث عنه (صلى الله عليه وآله) في شأن فاطمة وخصوصية انحصار السيّديّة بها دون تجزئتها على بقية النساء

المنتجبات والمفضلات في العوالم المتعددة، ليظهر النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) بهذا البيان عن أن فاطمة وبعلها وبنيها هم خاصة شرع الله وأمناؤه على دينه، وحملة وحيه، الذي نزل به الروح الأمين على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذا: ليس بالغريب على من تعصب للباطل، وكره الحق وإظهاره، أن ينكر على آل النبي (صلى الله عليه وآله) كل هذا الكم الكبير من الأحاديث الشريفة

في العترة. ممّا دفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -ومن خلال ما أطلعه عليه الوحي من انقلاب الأمة بعد وفاته وظهور الفتن فيها ومحاربة أهل بيته ومعاداتهم أيما عداوة- أن يعمد إلى استخدام وسائل متعددة في حث الناس على التمسك بأهل بيته واتباعهم وملازمتهم ونصرهم؛ ففي ذلك نصر الإسلام والشريعة.

فنجده يلتمس الأوقات والأماكن المناسبة ليبث في الأمة روح الإيمان والتذكير، كي لا يقع أحد منهم في التهلكة أو يتبع الباطل، وها هو القرآن يصرح بالعديد من الحقائق التي تذكر وقائع الأيام والأمم السالفة التي وقعت فيها الفتن فكانت سبباً لهلاكها وضياعها.

من هنا: عمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أساليب عديدة في التبليغ لما يرتضيه الله تعالى لهذه الأمة، فكانت كالآتي:

ص:8

أولاً- أخباره الناس من خلال المسجد النبوي في بيان منزلة فاطمة (علیها السّلام)

وقد أخذ بيدها وقال:

«من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها هي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني،وهي قلبي الذي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله جل وعلا .»(1).

فكان هذا الاخبار العام هو وسيلة في نجاة الأمة من الوقوع في الفتنة وحفظ حرمته (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأن فيها حرمة الله وحرمة الإسلام؛ فضلاً عن ان أهل بيته، هم آل ياسين الذين اصطفاهم الله لشرعه، وجعلهم حججاً على خلقه.

ثانياً: اصطحابه بعض الصحابة لزيارة بيت فاطمة (علیها السّلام)

وكان ذلك من خلال اصطحابه لعمران بن حصين كما أخرج ابن شاهين عنه قائلاً: (خرجت يوماً فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم فقال لي:

«يا عمران فاطمة مريضة هل لك أن تعودها .»

قال: قلت فداك أبي وأمي وأي شرف أشرف من هذا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانطلقت معه حتى أتى الباب فقال:

«السلام عليكم أأدخل؟ .»

قالت: وعليكم أدخل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أنا ومن معي .»

ص: 9


1- المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 234 . البحار للمجلسي: ج 43 ، ص 54 .

قالت: «والذي بعثك بالحق ما علي إلا هذه العباءة .»

قال: «ومع رسول الله ملاءة خلقة .»

فرمى بها إليها فقال:

«شدي بها على رأسك .»

ففعلت ثم قالت: «أدخل .»

فدخل ودخلت معه فقعد عند رأسها وقعدت قريباً منه فقال:

«أي بنية كيف تجدك؟ .»

قالت: «والله يا رسول الله إني لوجعة وإني ليزيدني وجعاً إلى وجعي أن ليس عندي ما آكل .»

قال: فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبكت وبكيت معهما.

فقال لها: «أي بنية اصبري »؛ مرتين أو ثلاثة.

ثم قال لها: «يا بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ .»

قالت: «يا ليتها ماتت فأين مريم بنت عمران؟! .»

ص: 10

قال لها: «أي بنية تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك والذي بعثني بالحق لقد زوجتك سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة لا يبغضه إلاّ كل منافق »(1).

ثالثاً: بيانه لمنزلتها في محضر أزواجه وفي اللحظات الأخيرة من حياته

وهذا يدل على أهمية الموضوع الذي يتحدث عنه النبي (صلى الله عليه وآله)؛ لأن الإنسان يهتم في هذه اللحظات بأهم الأشياء لديه، ولذا نجده (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دخلت عليه فاطمة (عليها السلام)، وهو في مرضه الذي توفي فيه، قال لها:

«يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء هذه الأمة وسيدة نساء المؤمنين؟ »(2).

المسألة الثانية: قصدية انحصار السيادة على نساء العالمين بفاطمة (علیها السّلام)

إن الذي يرشد إليه حديث عمران بن حصين في كون فاطمة سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها يحتاج إلى توجيه ينسجم مع نصوص أخرى واردة عن المعصومين (عليهم السلام) لاسيما الأحاديث النبوية الشريفة التي تنص على ان

فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وهي كالآتي:

ص: 11


1- فضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين: ص 25 . الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1895 . نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 179 . تاريخ ابن عساكر: ج 42 ، ص 134 . الجوهري للبري: ص 17 . تاريخ الإسلام للذهبي: ج 3، ص 46 . بشارة الإسلام لمحمد بن أبي القاسم الطبري: ص 118 . ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 134 . ذخائر العقبى: ص 43 . إحياء علوم الدين: ج 10 ، ص 74 .
2- المستدرك:ج 3، ص 156 . الفردوس للديلمي: ج 3، ص 145 . الكنز: ج 12 ، ص 110 ، ح 24232 . وفي الجمع بين رجال الصحيحين: ج 2، ص 611 . الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 56 . وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن سعد: ص 270 . وفي الاستيعاب: ج 4، ص 1893 ، ح 1895 .

1- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن علياً وصيي وخليفتي، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولداي، من والاهم فقد والاني، ومن عاداهم فقد عاداني، ومن ناواهم فقد ناواني، ومن جفاهم فقد جفاني، ومن برهم فقد برني،وصل الله من وصلهم، وقطع الله من قطعهم، ونصر الله من أعانهم، وخذل الله من

خذلهم »(1).

2-عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال:

«ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين »(2).

3- وروى الطبرسي في مسائل اليهودي للإمام علي (عليه السلام) كان من بينها قوله: فإن هذا يعقوب (عليه السلام) أعظم في الخير نصيبه إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه ومريم بنت عمران من بناته قال علي (عليه السلام):

«لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم في الخير نصيبا إذ جعل فاطمة سيدة نساء العالمين من بناته والحسن والحسين من حفدته »(3).

ص: 12


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 4، ص 420 .
2- معاني الأخبار للصدوق: ص 107 ، دلائل الإمامة للطبري: ص 54 .
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 214 .

عن ابن عباس قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا سيد الأنبياء والمرسلين، وأفضل من الملائكة المقربين، وأوصيائي سادة أوصياء النبيين والمرسلين، وذريتي أفضل ذريات النبيين والمرسلين، وأصحابي الذين سلكوا منهاجي أفضل أصحاب النبيين والمرسلين، وابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين »(1).

6-وذكرها (عليها السلام) ضمن سيدات أهل الجنة أو العالمين وباللفظ الذي يدل على اشتراكها في هذه السيادة كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسبك من نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة

بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم .»

7-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خير نساء العالمين أربع؛ مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم .»(2).

8- وعن عائشة قالت لفاطمة (عليها السلام): ألا أبشرك، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه -وآله- وسلم) يقول:

«سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد وخديجة بنت خويلد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(3) .

ص: 13


1- التحصين لابن طاووس: ص 561 .
2- سنن الترمذي كتاب: 62 ، ح 3878 . السمط الثمين للطبري: ص 34 . درر السمط في خبر السبط لابن الأبار: ص 77 . وسيلة الإسلام لابن قنفذ: ص 54 .
3- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 185 . مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 201 . المعجم الكبير للطبراني: ج 11 ، ص 328 .

إنَّ هذه الأحاديث الشريفة التي وردت في حق فاطمة (صلوات الله عليها) وبيان منزلتها والتي يظهر فيها اختصاصها بمنزلة السيادة على العالمين مرة، واشتراكها مع مريم، وخديجة، وآسية مرة أخرى، وتجزؤ هذه السيادة في المرة الثالثة.

لتحتاج إلى توجيه يقرب المعنى ويوصل إلى الدلالة التي ترشد إليها هذه الأحاديث والتي تقارب قصدية منتج النص في بيان الملازمة بين غرضه وغرض الاحاديث النبوية -كما مر في المسألة الاولى، فضلاً عن قصدية انحصار السيّديّة بها

على نساء العالمين، فكانت كالآتي:

1. إنّ معنى سيادتها على العالمين من الأولين والآخرين مع اختصاص مريم (عليها السلام) بذاك لاسيما ما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَی نِسَاءِ الْعَالِمينَ﴾(1).

وبيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هذا الاصطفاء على العالمين مقيد في زمانها فإن مثاله كمثال الشمس والكواكب، فكل كوكب هو سيد عالمه، لكنه بالنسبة

للشمس لا يرقى في سيادته على سيادتها، وفي نفس الوقت تكون الشمس سيدة عالمها، وعالم غيرها من الكواكب مع ملاحظة ان الجميع ضمن مجرة واحدة وعالم واحد وكذا حال فاطمة (عليها السلام) فهي كالشمس في عالم النساء مع وجود نساء أخريات كمريم، وخديجة، وآسية، هنّ كالكواكب.

ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى في اصطفاء بعض الأنبياء وآل الأنبياء (عليهم السلام)، فقول سبحانه:

ص: 14


1- سورة آل عمران، الآية ( 42 ).

﴿إِنَّ اللَّه اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالِمينَ ) 33 ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

وهذا لا يعني أنَّ بقية الانبياء والمرسلين (عليهم السلام) هم خارج دائرة الاصطفاء، ولكنهم متفاوتون في عوالمهم وأممهم التي اصطفيوا منها، ليكون الاصطفاء الاعلى والمهيمن على جميع هذه العوالم وكوكبها هم محمد وعترته (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين).

2. إن سيادة فاطمة صلوات الله عليها على نساء العالمين من الأولين والآخرين يقتضيه قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالَمعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الُمنْكَرِ﴾(2).

وهذه الخيرة التي لهذه الأمة تقتضي خيرية فاطمة على بقية نساء الأمم.

أي: إننا إذا حملنا سيادتها على عالمها بكونها من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وانها سيدة نساء هذه الأمة أو المسلمين فسيلزم ذلك سيادتها على غيرها من الأمم

السابقة أو العوالم النسوية الماضية واللاحقة إلى قيام الساعة، بعلّة كون هذه الأمة هي خير أمة أُخرِجَت للناس جميعاً وهو ما يتسق مع قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) في وفاته: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين »(3).

ولا شك ان الجنة تجمع نساء جميع العوالم من الأولين والآخرين، وبهذا تكون فاطمة سيدة نساء العالمين.

ص: 15


1- سورة آل عمران، الآية ( 33 - 34 ).
2- سورة آل عمران، الآية ( 110 ).
3- صحيح البخاري، باب: علامات النبوة: ج 4، ص 183 .

3. إنّ كون هذه الأمة هي الأمة الوسط من بين الأمم كما صرّح به القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَی النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شهِيدًا﴾(1).

فان ذلك يقتضي المحورية التي يرجع إليها نظم الأمم وإصلاحها، وحالها كحال النواة في الخلية، ولاشك من الناحية الفيزيائية، أن الرعوية والسياديّة في الخلية تكون للنواة، وبذلك جعلها الله في الوسط من المكون الخليوي، وكذا حال هذه الأمة وكذا حال فاطمة (صلوات الله عليها) من نساء الأمة، ونساء العالمين.

ولعل أقرب المعاني لهذه السيادة على العالمين ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيانه لمعنى اسم «الزهراء » حينما ابتلى الله الملائكة بظلمة شديدة فلم

تكد ترى حينها أولها من آخرها وحينها ضجت الملائكة إلى الله بالدعاء ونادت: «إلهنا وسيدنا، بحق الأشباح التي خلقتها الا ما فرجت عنا هذه الظلمة فعند ذلك تكلم الله بكلمة أخرى فخلق منها روحاً، فاحتمل النور الروح فخلق منه الزهراء، فاطمة فأقامها أمام العرش، فأزهرت المشارق والمغارب، فلأجل ذلك سميت الزهراء »(2).

أي: بسيادة نورها على المشارق والمغارب، كما سيمر بيانه بمزيد من التفصيل في مقاصدية قوله (عليه السلام):

«واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء .»

ص: 16


1- سورة البقرة، الآية ( 143 ).
2- البحار للمجلسي: ج 36 ، ص 73 . الروضة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لابن شاذان: ص 113 .

وعليه:

فإن مقاصديته كانت لإلفات انتباه ذهن المتلقي الى هذه الشأنية والمنزلة الجلية لبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن ثم يتضح عندها امران:

الامر الاول: حجم الخسارة التي منيت بها هذه الامة، فلقد افتقدت بشكل سريع سيدة نساء العالمين دون أن نتنفع منها في شؤون الحياة لاسيما فيما ارتبط بالمرأة والاسرة، وما ارتبط بهما من حقول معرفية متعددة في الفقه والاقتصاد والاجتماع والتربية والاخلاق والنفس والسلوك وغيرها، فضلاً عن كونها باباً من ابواب نزول الرحمة واللطف الإلهي للعالمين بمقتضى البضعية التي لها دون غيرها من العترة النبوية ومن ثم فما للمصطفى (صلى الله عليه وآله) من خصائص يكون لها

منها البضع بمقتضى حديثة (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بضعة مني.. » ومن هذه الخصائص رفع العذاب ومنع وقوعه على الأمة لقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ..﴾، ففقدانها كان خسارة للأمة وللمسلمين جميعاً.

الأمر الثاني: خسارته الشخصية التي ضعف معها تجلّده، أي قوّته وشدّته، كما سيمر في المبحث القادم.

ص: 17

ص: 18

المبحث الثاني عشر:مقاصدية ارتباط تفجعه لفقدها بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحزنه عليه

اشارة

ص: 19

قوله (عليه السلام) «إلِا أَنَّ ليِ فيِ التَّأَسِّي بسِنُّتكِ بعِظَيِمِ فُرقْتكِ وفَادحِ مصُيِبتَكِ والحُزنْ الّذي حلَّ بيِ لفِرِاقكِ موَضْعِ تعَزَّ »

اشارة

ص: 20

المسألة الأولى: حجم البلاء يوازي حجم المصلحة في وقوعه

إن النظر إلى سيرة الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم وما مرّوا به من مصائب وابتلاءات متنوعة ومتعددة كان له آثار عدّة في بناء الإنسان، فضلاً عن بيان شؤون وخصوصيات ارتباط هذه الذوات بالسماء والشرع الإلهي.

ومن ثم فكل ما ارتبط بهم كان بنظر الله وبتسديد منه لبلوغ هدف محدد؛ إذ قد يرتبط نوع البلاء بصلاح المجتمع كما في ابتلاء نبي الله ابراهيم (عليه السلام) حينما أُلقي في النار فكانت بأمر الله برداً وسلاماً، وهو بلاء يوازي حجم الفساد العقدي للمجتمع، وذلك من خلال تغلغل الوثنية في أرض الرافدين وتعدد مذاهبها، فمن عبادة الشمس وعبادة القمر وغيرها من الكواكب، أو عبادة الأصنام وتعددها،وظهور معتقد الثالوث البابلي(1) إلى دعوت النمرود للألوهية وغيرها، من المذاهب الوثنية التي استدعت أن يكون حجم البلاء موزياً لحجم الإصلاح وهو التوحيد.

بمعنى: إن الذين يعتقدون بالشمس والقمر والأوثان وبالنار وغيرها آلهة، فإنهم لا يصمدون أمام منظر قذف إبراهيم (عليه السلام) بالنار التي تأكل الحجر والبشر؛ ومن ثم فأي قوة تلك التي عطلت النار وغيرت ماهيتها وسنتها في الإحراق إلى

البرد الذي لا يضر أيضاً فكانت سلاماً على إبراهيم (عليه السلام).

أو كما في حال نوح عليه السلام الذي أبتلي بطول فترة التبليغ صابراً طوال هذه السنين التي لبث فيها مئات من السنين، فكانت كما أخبر الوحي في محكم التنزيل:

ص: 21


1- لمزيد من الاطلاع: ينظر كتاب (تكسير الأصنام بين تصريح النبي وتعتيم البخاري دراسة في الميثولوجيا والتاريخ ورواية الحديث، لمؤلف).

﴿..فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّ خَمسِينَ عَامًا..﴾(1).

فكان حجم الطوفان كاشف عن حجم الفساد الذي وقعت فيه أمة نوح، ولذا كان العلاج هو الطوفان، قال تعالى:

﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَی الْأرَضِ مِنَ الْكَافرِينَ دَيَّارًا * إنِّكَ إنِ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَ يَلِدُوا إِلَّ فَاجِرًا كَفَّارًا﴾)(2).

فأهلكهم الله جميعاً كي لا يضلوا من آمن ولا يلدوا الفجار والكفار، وذلك لتلبس الكفر بهم وتحولهم تحولاً تاماً إليه فاقتضى الحكم الإلهي إبادتهم جميعاً ببلاء الطوفان.

وعليه:

فحجم البلاء في مصيبة فقد فاطمة (عليها السلام) وما جرى عليها يوازي المصلحة في حجم بقاء الاسلام وشريعة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلولا هذا الابتلاء لما عُرِف اهل الضلال وائمته، وأهل الباطل وقادته، ولسارت الأمة بحسب ما اراده هؤلاء لها من ارجاع الناس الى حكم الجاهلية وارجاسها منتفعين من اجتماع الناس على كلمة لا اله إلا الله التي جاهد من اجلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجدوا أن العرب مجتمعة على هذه الكلمة متفرقة في الايمان بها وهي حقيقة كشفها القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَم تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَّما يَدْخُلِ الْأيمَانُ فِی قُلُوبِكُمْ..﴾(3)، فأصبح لهم بهذا الاجتماع عوامل قيام المملكة او السلطان او

ص: 22


1- سورة العنكبوت، الآية ( 14 ).
2- سورة نوح، الآية ( 26 - 27 ).
3- سورة الحجرات، الآية ( 14 ).

الامارة ليتطور المصطلح مع مقتضيات تمرير الامارة والتسلط المشرعن الى مفهوم الخلافة؛ فهذا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي له الحق -بحكم هذا العنوان- تصدير الاحكام وتفسيرها بحسب اجتهاده، ورأيه قاعدة، فإن اخطئ

فله أجر واحد، وإن اصاب فله أجران حتى اصبح الاسلام الذي جاء به النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) ولما خلص منهم احد من المسلمين.

ولذا:

كان لابد من وقوع ابتلاء عظيم يهز الضمائر ويبث الروح فيها ويعيد الاسلام الى مجراه الذي سنَّه الله تعالى فينجو من نجى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة فاختار الله تعالى لهذا البلاء اهل دينه وخاصته من خلقه وخفائه في ارضه فقتلت فاطمة (عليها السلام) وانكشف حال الجناة الذين ادعوا الصلاح فأصبحوا أهل الفساد والخراب.

من هنا:

فإن مقاصدية منتج النص في نقل هذا التفجع والتصبر الى المتلقي يكمن في افهامه أن هذه المشاعر النفسية التي يظهرها منتج النص لا تنحصر في الوجدانيات والعواطف مع ما أوتيَّ علي بن ابي طالب (عليه السلام) من امكانات نفسية التي اكتنزها لفظ (قل صبري) (ضعف تجلدي) -كما سيمر لاحقاً- وإنما ابتغى (عليه السلام) نقل المتلقي الى معرفة هذه المعادلة وهي السنّة الالهية، اي: سنة الإفداء بغية

الابقاء على دين الله وشرعه كما في قوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ فكان افداء الاسلام بفاطمة ولا يعرف المتلقي قيمة الاسلام مالم يعرف قيمة فاطمة (عليها السلام) التي قدمت فداءً لبقاء الاسلام.

ص: 23

ومن ثم: كيف لا يتفجع امير المؤمنين (عليه السلام) ويبحث عن ما يشد به جرحه بفقد فاطمة (عليها السلام) غير التعزي بأبيها (صلى الله عليه وآله) كما سيمر لاحقاً.

المسألة الثانية: قصدية تعزّيه وحزنه على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

إنَّ الاطلاع على سيرة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وقراءة شخصيته،وما عرف عنه من شدة البأس في الحروب، وجلادة النفس في مقارعة الأبطال، ومنازلة الشجعان، فرساناً كانوا أم رجّالة، في بدر وحنين والأحزاب التي ينبئك قتله لعمر بن عبد ود عن أخبارها، ويكفيك في ذاك عن البيان قوله تعالى: ﴿إذِ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذِ زَاغَتِ الْأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الَحنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّه الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلَی الُمؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾(1).

فكان قتله (عليه الصلاة والسلام) لصنديد الأحزاب (ابن ود) كفيلاً في تغيير ميزان القوى وإحراز النصر على المشركين والمنافقين.

أما شدة بأسه في مقاتلة اليهود وفتح حصونهم، وقلعه لباب خيبر الذي عجز عن تحريكه أكثر من أربعين رجلاً، وقتله لمرحب فارس فرسانهم لَشاهد آخر عن جلادة نفسه في المواطن التي تضعف فيها النفوس، وترقّ القلوب حتى تبلغ الحناجر.

فهذه الشدّة والصلابة والقوة التي تدل عليها (الجلادة)(2) التي عُرِف بها علي (عليه السلام) واشتهر بها، فكان صفة ملازمة لاسمه فأينما ذكر اسمه تبادر إلى الذهن

مباشرة شجاعته وقوته وشدة بأسه، حتى وصفه صعصعة بن صوحان قائلاً:

ص: 24


1- سورة الأحزاب: الآية ( 10 - 11 ).
2- للمزيد، ينظر: لسان العرب لأبن منظور، مادّة (التجلّد): ج 3 ص 125 .

(کان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه)(1).

ووصفه قيس بن سعد بن عبادة حينما قال له معاوية بن أبي سفيان: (رحم الله أبا حسن كان هشاً بشاً ذا دعابة)، أي أنه لا يصلح للخلافة -وهي كلمة قالها من قبله عمر بن الخطاب-، فرد عليه قيس بن سعد بن عبادة الانصاري قائلاً:

(نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء، وتعيبه بذلك؛ أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، ليس كما يهابك طغام أهل الشام)(2).

وقد أراد (عليه الرحمة والرضوان) بقوله: (أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى) هو الأسد الذي مسه الجوع، وإذا مسه الجوع لن يقف شيء بوجهه.

وغيرها من الصفات الكاشفة عن شدته وقوته وصلابته في الحق والحرب والعبادة والابتلاءات العديدة.

إلا أنه هنا في هذا الابتلاء الذي نزل به والمصيبة التي حلت فيه يقول متفجعاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة نساء العالمين تجلدي .»

فكان حجم المصيبة في قتل الزهراء (عليها السلام) ووفاتها يوازي حجم شدة بأس علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقوة نفسه وصلابته وشدّته في المواطن كلها فكان مصابه ببضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم من تلك المواطن

ص: 25


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1 ص 25 ؛ البحار للمجلسي: ج 41 ص 147
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1 ص 25 .

والمواقف، ولذا: فقد قل صبره، وضعف تجلده، ورقّ تصلبه، ليُعلم المتلقي ويُدلّه على حجم المصيبة التي أصابت بيت النبوة.

وهي مصيبة تحتاج إلى ما يجبرها ويستقوي عليها، فكان ذلك متحققاً من خلال التعزي بمصيبة أعظم من هذه المصيبة ألا وهي مصيبته بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:

«إلا إن لي في التأسي بسنتك بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، والحزن الذي حل بي لفراقك موضع تعزّ .»

بمعنى: أن الحزن بخسارة الزهراء يقهر ويتغلب عليه بالحزن والتعزي بالخسارة الأعظم وهي فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما دل عليه معنى (التعزي)، (فالعزّة هي: القوة والغلبة، وفي التنزيل الحكيم: ﴿وَعَزَّنِی فِی الِخطَابِ﴾ اي: غلبني في الاحتجاج، وعزه يعزه عزاً: قهره وغلبه، والعَزَّاءُ: الشدّة)(1).

بمعنى أوضح: فإن فراق فاطمة (عليها السلام) كان له من الآثار الكبيرة على نفس امير المؤمنين (عليه السلام) ما يحتاج للتغلب عليها وقهرها بما هو اعظم واقوى، وهو موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك أنّ فراقه أعظم من فراق فاطمة (عليها السلام) وأن حجم المصيبة في خسارة نعمة وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) هي أعظم الخسارات وافجع المصائب وبذلك يقوم منتج النص (عليه

السلام) بنقل المتلقي من تعريفه بشأنية فاطمة (عليها السلام) وحجم خساراته وما تركه مصابها عليه الى تعريفه بشأنية النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) ومنزلته

وما تسبب امر وفاته عن بلاء عظيم عليه.

ص: 26


1- لسان العرب لأبن منظور: ج 5 ص 375 ، 378 ، مادة: (عزز).

من ثم: فهذا المصاب يهوّن المصاب الآخر بضياع بضعة النبوة وبقيتها فاطمة الزهراء البتول (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).

ص: 27

ص: 28

المبحث الثالث عشر: مقاصدية ذكره لمراسيم تجهيز النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

ص: 29

قوله (عليه السلام) «فَلَقَد وسَّدتْك فيِ ملَحوُدةَ قَبرْكَ، وفَاضَت بيَنْ نحَرْي وصدَرْي نفَسكُ،َوغَممَّضْتُك بيِدَي، وتَوَلَّيت أَمرْكَ بنِفَسيِ،بلَى، وفَيِ كتِابِ اللهِ أَنعمَ القَبوُلِ، إنِّا للهِ وإنِّا إلِيهْ راجِعوُن »ْ

اشارة

ص: 30

إنَّ من الملفت للإنتباه في قراءة قوله (عليه الصلاة والسلام) وهو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الفاجعة أن يستعرض لنا وللتاريخ مراسم تجهيزه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند وفاته، فقال:

«فلقد وسدّتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي، بلى، وفي كتاب الله أنعم القبول، إنا لله وإنا إليه راجعون .»

فماذا أراد في ذلك (عليه الصلاة والسلام) أو ماذا يدل هذا القول منه في هذاالموضع الذي اجتمع فيه الزمان والمكان على تحديد أمرٍ واحد وهو حجم الظلامة التي نزلت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته أهل بيته (عليهم السلام)؟!

وللإجابة على هذه التساؤلات يلزم التوقف عند بعض الحوادث التاريخية التي انتشرت في كتب المسلمين وثبتت عليها متعقداتهم ؛ وكأنه بذاك أراد وضع أدوات التصحيح لمن أراد أن يلقى الله بقلب سليم، فكانت هذه الحوادث والحقائق كالآتي:

المسألة الاولى: تصحيح المسار في حدث وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في بيت عائشة

إنَّ من الامتيازات التي امتاز بها النص هو تغلغل قصدية منتج النص في الحوادث المستقبلية، وفي ميزة ينفرد بها النص الوارد عن القرآن والعترة النبوية عن بقية النصوص، إلا اننا هنا في بيان قصدية منتج النص في هذا المورد تحديداً وليس في

صدد امتيازات هذه النصوص الشريفة.

ص: 31

وعليه: يكشف النص الشريف عن القصدية في تصحيح المسار التاريخي لحدث وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعصمته من التزوير والتحريف الذي سيطرأ عليه في مرويات اتباع مدرسة السقيفة وهو أمر من الامور الغيبية التي تتكشف بأمر الله تعالى لأنبيائه وأوصيائهم وحججه على خلقه، وهو أمر وقع حقيقة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد تم تغيير مسار الحدث التاريخي لوفاته

(صلى الله عليه وآله)، فلقد شاع في كتب أبناء العامة والجماعة لا سيما في صحاحهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مات في بيت عائشة وأن رأسه بين نحرها

وصدرها(1)؛ وهو كذب وافتراء على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد منه مبغضوا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تغيير الحقائق وكسب الناس لصالحهم في إدامة سلطانهم وتأمرهم عليهم فبمثل هذه الأحاديث جلس من جلس على كرسي الخلافة وحكم من حكم حتى يومنا هذا وعليه:

أراد (عليه السلام) من ذكره لهذه الحوادث وعرضه لمراسيم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حفظ مجهوده واختصاصه بشؤون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه وصيه الشرعي وخليفته في امته، وان الصحابة تركوا نبيهم وانصرفوا للمخاصمة والمنازعة حول الخلافة، فضلاً عن كشف هذه الادعاءات وبيان حقيقة القائلين بها.

وهو أمر صرّح به غير واحد ممن شهد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان كالآتي:

1- قيل لعبد الله بن عباس: (أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي ورأسه في حجر أحد؟

ص: 32


1- صحيح البخاري، باب ما جاء في عذاب القبر: ج 2 ص 106 ؛ مسند أحمد، من حديث عائشة: ج 6 ص 48 .

قال: نعم، توفي وإنه لمستند إلى صدر علي عليه السلام.

فقيل له: إن عروة يحدث عن عائشة أنها قالت: توفي بين سحري ونحري!؟

فأنكر ذلك وقال للسائل: أتعقل!؟ والله لتوفي وإنه لمسند على صدر علي وهو الذي غسله)(1).

2- وأخرج ابن سعد عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طال (عليه السلام) أنه قال: «قبض رسول الله ورأسه في حجر علي عليه السلام »(2).

3-وأخرج أبن سعد أيضاً عن الشعبي، أنه قال: (توفي رسول (الله صلى الله عليه وآله وسلم) ورأسه في حجر علي (عليه السلام) وغسله علي)(3).

4- أخرج الحاكم النيسابوري، والحافظ النسائي، والذهبي، والهيثمي، وغيرهم بسند صحيح عن أم المؤمنين أم سلمة، أنها قالت: (والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدناه غداة، وهو

يقول: «جاء علي، جاء علي » مراراً.

فقالت فاطمة: «كأنك بعثته في حاجة .»

قالت أم سلمة: فجاء بعد، فظننت أنه إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 33


1- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 51 ؛ القسم الثاني ط ليدن، وج 2 ص 263 ط دار صادر.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

وجعل يسارّه ويناجيه، ثم قبض من يومه (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

ولذا كان الإمام علي (عليه السلام) يفتخر على صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن النبي توفي ورأسه في حجره وكان يخطب بذاك على رؤوس الملأ من الناس، فقد جاء في خطبة له قوله (عليه السلام): «ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني لم

أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها، ولقد قُبض صلى الله عليه

وآله وسلم، وأن رأسه لَعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله صلى الله عليه وآله وسلم والملائكة أعواني، فضجّت الدار والافنية، ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هنيمة منهم يصلون عليه،

حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً »(2).

فهذه حقيقة مسار حدث وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي قصدها منتج النص وابتغى من ذكره لها هو قطع الطريق على هؤلاء المنافقين الذي سيدّعون انهم كانوا بقرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وفاته وهو أمر خاص في

خصوصية هذا النص الشريف، فقد عالج الاحداث ونبّه عليها قبل وقوعها بسنين عديدة، فضلاً عن تعرية وجوه الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو لم يدفن بعد، يتسارعون للسقيفة كما سيمر بيانه في المسألة القادمة.

ص: 34


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3 ص 138 أوفسيت على طبعة حيدر أباد، وأقر بصحته؛الذهبي في تلخيصه على المستدرك: ج 3 ص 138 ؛ خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص 40 ط التقدم بمصر؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 112 ؛ ترجمة الإمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3 ص 16 .
2- ربيع الابرار للزمخشري، باب المراثي؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2 ص 541

المسألة الثانية: بيان حقيقة ترك الصحابة دفن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وانشغالهم بكرسي الخلافة

اشارة

إن القصدية الثانية التي تتكشف في سبب إيراده لهذه المراسيم في دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي بيان حقيقة ترك الصحابة دفن رسول الله (صلى

الله عليه وآله وسلم) وذهابهم إلى سقيفة بني ساعدة للحصول على كرسي الخلافة.

وهي حقيقة دلت عليها كثير من المصادر الإسلامية وحاولت غيرها التغطية عليها وأخرى حاول مصنفوها التماس العذر أو التبرير لهذا الفعل الذي قامت به الصحابة بتركهم جثمان نبيهم وانشغالهم عنه بالصراع حول كرسي الخلافة ومما يدل عليه:

أ- ما اخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب في حدث السقيفة

(وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه (صلى الله عليه -وآله- وسلم) أن الأنصار خالفونا واجتمعوا باسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما)(1).

والسبب الذي جعل الإمام علي (عليه السلام) يخالفهم فيه ولم يحضر اجتماع السقيفة هو انشغاله بدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي تركه المهاجرون والأنصار لغرض الخلافة التي دار الصراع حولها في سقيفة بني ساعة.

ولذلك لم تعلم عائشة ولا أبيها بدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يروي ابن هشام عنها كما في باء.

ص: 35


1- صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى: ج 8 ص 26 .
ب- تصريح عائشة بأنها لم تعلم بدفن رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

وهذا التصريح رواه أبن هشام، وأحمد، والترمذي، وغيرهم، عن عائشة أنها قالت: (ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء)(1).

ج- إن أبا بكر وعمر لم يشهدوا دفن النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

روى ابن أبي شيبة وهو من شيوخ البخاري: (إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي ، كانا في الأنصار فدفن قبل أن يرجعا)(2).

وهذا يعني أنهما لم يكن لهما أي علاقة بهذه المراسيم التي ترافق تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تغسيله، وتكفينه، والصلاة، عليه وتشيعه، ودفنه؛ فهذه المراسيم التي ذكرها الإمام علي (عليه السلام) عند دفنه لفاطمة (عليها السلام) والتي هي محل الدراسة لم يكن لهما فيها أي حضور كما صرّح بذلك شيخ البخاري وإخراجه في مصنفه.

د- بيان حال الأنصار في مراسيم دفن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) برواية البخاري

أما الأنصار فلم يكن حالهم بأحسن من حال المهاجرين في تركهم جثمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتراكضهم للإجتماع في سقيفتهم عند أميرهم سعد بنعبادة، فقد أخرج البخاري في صحيحه في بيان حالهم، أنهم: (انحازوا بأجمعهم إلى سقيفة بني ساعدة، منزل سعد بن عبادة)(3).

ص: 36


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 4 ص 1078 ؛ مسند أحمد: ج 6 ص 62 و 242 ؛ الشمائل للترمذي: ص 204 ؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 3 ص 409 ؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 3 ص 227 ؛ المصنف للصنعاني: ج 3 ص 520 .
2- المصنف لابن أبي شيبة: ج 7 ص 432 برقم 37046 .
3- صحيح البخاري، باب رجم الحبلى من الزنا: ج 8 ص 26 .

ومن ثم فقد شغلهم كرسي الخلافة عن الحضور لدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورجح فوق مواراته في روضته المقدسة، وهو سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أمر يدفع بالمسلم المنصف إلى أن يقف ملياً عند هذا الحدث ويطيل البحث والدراسة حوله كثيراً.

فلو كان الميت من عامة المسلمين لوجب إكرامه ودفنه، فكيف به وهو سيد الأنبياء والمرسلين والمبعوث رحمة للعالمين!!

وعليه: فكم من سؤال وسؤال يطرق الذهن قائلاً: ألم يكن بمقدورهم تأخير البيعة ولو ليوم واحد؟!

ولكن.. أنى لهم بذلك وصدى كلمات أسيد بن حضير تطرق مسامعهم مرددةً: (إن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم الأمر ورسول الله في بيته لم يفرغ أمره، وقد أغلق دونه الباب أهله)(1) ؟!

ولأجل ذلك: اختلفت القراءات لحدث السقيفة وما تبعه من اقتحام بيت فاطمة (عليها السلام)(2).

ص: 37


1- سمط النجوم للعاصمي: ج 2 ص 244 ط المكتبة السلفية.
2- راجع في معرفة حادثة اقتحام بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1 ص 586 شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 1 ص 134 العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 3 ص 64 تاريخ ابي الفداء: ج 1ص 156 تاريخ الخميس للديار بكري:ج 1 ص 134 مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 100 تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل في التاريخ: ص 113 .

فمنهم من عده عاصمة عصم الله بها الأمة(1)، ومنهم من رآه اجتناباً من الوقوع في

الفتنة(2)، وتسكين نارها، وإغماد سيفها(3)، ومنهم من قد وجده تحريكاً لهذا التسكين(4).

بينما وجد البعض الآخر أنهم معذورون فيما فعلوا: (لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين! وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة! ولهذا أخروا دفن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى عقدوا البيعة!!

لكونها كانت أهم الأمور! كيلا يقع نزع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه! ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء)(5).

ولا أدري كيف أصبح القوم أحرص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مصالح المسلمين وقد وصفه الباري عز وجل بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالُمؤْمِنيِنَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(6).

ولا أدري.. كيف أصبحوا أخوف منه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمته من وقوع الخلاف والنزاع بترك البيعة التي يترتب على تركها مفاسد عظيمة؟!

أغَفَل عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعياذ بالله؟!.

أم كانوا أهدى منه لصلاح الأمة، نعوذ بالله؟!

ص: 38


1- العواصم من القواسم:ص 66 .
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 81 ط مؤسسة عز الدين.
3- الرياض النضرة للطبري: ج 2 ص 214 .
4- سمط النجوم للعاصمي: ج 2 ص 245 - 246 ط المطبعة السلفية.
5- شرح النووي على صحيح مسلم: ج 12 ص 78 ط دار إحياء التراث العربي.
6- سورة التوبة، آية، ( 128 ).

ولذلك.. نحن أمام حالتين:

1-إما أنه عين لهم الخليفة ونص عليه حفاظاً لهم من وقوع الخلاف والنزاع وما يترتب على ترك تعيينه من مفاسد عظيمة، لكنهم خالفوا قوله وعصوا أمره لأنه جاءهم بما لا تهوى أنفسهم فكانوا كما قال تعالى: ﴿..أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بمِا لَا تَهوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾(1).

2- وإما أنه لم يعين لهم!.. فيكونون بذلك أوفق منه صلى الله عليه وآله وسلم لصلاح الأمة! نستجير بالله.

ولا أدري.. وإني لمحتار فيما تناقلته مصادر المسلمين، ومتسائلاً: ترى لو لم يُبقِ الله علياً والعباس بن عبد المطلب على قيد الحياة فكم يوماً يبقى جثمان رسول الله (صلى

الله عليه وآله وسلم) دون أن يدفن؟! حتى يتمكن الجميع من البيعة التي بتأخيرها على دفن النبي (صلى الله عليه وآله) تترتب عليه مفاسد عظيمة كما يقولون؟!

وأعجب من هذا كله.. أن تعقد البيعة لغرض رفع النزاع في دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغسله، والصلاة عليه!!

وها هو شيخ البخاري في مصنفه يقول: (إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي كانا في الأنصار فدفن قبل أن يرجعا)(2).

وها هو ابن عبد البر يقول: (ولم يلِهِ إلا أقاربه! وقد شغل الناس عن دفنه بشأن الأنصار)(3).

ص: 39


1- سورة البقرة، الآية ( 87 ).
2- المصنف لابن أبي شيبة: ج 7 ص 432 برقم ( 37046 ).
3- التمهيد لابن عبد البر: ج 24 ص 396 ط وزارة عموم الأوقاف بالمغرب.

ولم يشأ ابن عبد البر أن يسمي أحداً!! فنسب الأمر إلى الناس؛ ولم يسأل أين صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الوقت؟!

وها هو شيخ البخاري مرة أخرى يصرح بكل ألم وفاجعة قائلاً: «إن الذي ولي دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة دون الناس، علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! .»(1).

فأين ذهب المهاجرون؟! وبماذا انشغل الأنصار عن دفن نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وهل كان عنده أحد منهم حتى يكون هناك نزاع أو خلاف؟!.

ولعل الذي اعتذر عن أهل السقيفة يملك الإجابة؟!.

أو لعل اكتفاء المسلم والباحث والقارئ بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) في هذا الموضع من دفنه للبضعة النبوية وهو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: «فلقد وسدتّك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنّا لله وإنا إليه راجعون .»

فيه كفاية لم أراد أن يلقى الله بقلب سليم ويدرك ما نزل بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الظلم.

ص: 40


1- المصنف لابن أبي شيبة: ج 3 ص 15 برقم 11645 ط مكتبة الرشد بالرياض.

المبحث الرابع عشر: مقاصدية كونها وديعة عند الإمام علي (علیه السّلام)

اشارة

ص: 41

قوله (عليه السلام) «فَلَقَد استْرجْعتَ الوْدَيِعةَ»

اشارة

ص: 42

إن قراءة هذا الجزء من النص الشريف ودرايته، أي قوله عليه الصلاة والسلام: «فلقد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة .»

ترشد إلى مقاصدية جديدة ودلالات عديدة في بيانه (عليه السلام) لخصوصيات فاطمة (عليها السلام) وشأنيتها وذلك من خلال حقول تتجدد فيها المعرفة التي تنوعت في مقتضيات هذا النص ومكوناته ومعطياته الفكرية ليخلق بذاك ثقافة اسلامية جديدة توصلت اليها الدراسة وذلك بعد أن امتنع الكثير من الباحثين الخوض في مكنونات هذه النصوص التي ارتبطت ببضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل خاص، وبالعترة جميعاً بشكل عام.

وربما يكون مرد ذلك إلى جملة من الأمور، منها:

1- تجنباً للاتهام بالغلو، وهذه عند الخاصة من اتباع مدرسة أل البيت (عليهم السلام).

2- أو دفعاً للاتهام بالرفض، وهذا عند العامة من أتباع مدرسة الصحابة.

3-أو الاكتفاء بالفضائل والمناقب والجوانب السيريّة العامة لحياة آل البيت (عليهم السلام) وهذا عند الطرفين.ولذا: نسأل الله تعالى أن يوفقنا لدراسة هذه النصوص دراسة دلالية وتحليلية وذلك بحسب الضوابط التي يقتضيها هذا المنهج العلمي، والفكر التداولي في مقاصدية النص ومقبوليته.

ص: 43

وعليه:

ينقلنا هذا الجزء من الحديث إلى مسائل جديدة، ألا وهي إيراده (عليه السلام) إلى مفردات اعتمدها الفقهاء في المعاملات ضمن حقل (العقود) وهما (الإيداع) (والرهن).

ومن ثم فنحن أمام منحنىً جديداً من البيان الذي اكتنزه خطاب أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) ومن الله التسديد.

المسألة الأولى: الوديعة في اللغة والقرآن

يرشد المعنى اللغوي لمفردة (الوديعة) إلى ارتباط الشيء بالحفظ سواء كان ثمنه معنوي أو مالي؛ وإلا لكان دافع الحفظ منتفي؛ أي: لوكان الشيء فاقداً لقيمته المعنوية أو المالية، لانتفت الحاجة إلى ايداعه، أي: حفظه.

وفي هذا المعنى والمفهوم جاءت لفظة (الوديعة) في المعاجم اللغوية بهذه الأقوال:

1- قال الفراهيدي: (الوديعة ما تستودعه غيرك ليحفظه)(1).

-2 قال الجوهري: (أستودعته وديعة إذا أستحفظته إياها)(2).

3- قال ابن منظور: (الوديعة، واحدة الوداع، وهي ما استودع، واستودعه مالاً وأودعه إياه ليكون عنده وديعة، والمستودَع: المكان الذي تجعل فيه الوديعة)(3).

وهذا المعنى يرتبط بالنص القرآني المرتكز على مفهوم حفظ الشيء في موضع محدد، وهو كما جاء في الآيات المباركة الآتية:

ص: 44


1- كتاب العين: ج 2 ص 224 .
2- الصحاح: ج 3 ص 1296 .
3- لسان العرب: ج 8 ص 387 .

1-قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذَّي أنَشَأكَمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة فَمُسْتقَرٌّ وَمُسْتوَدَعٌ قَدْ فَصَّلْناَ الْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾(1)

قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله): قرئ (مستقر) بفتح القاف وكسرها وهو على القراءة الأولى، أي: بفتح القاف اسم مكان، بمعنى: محل الاستقرار، فيكون (مستودع) أيضاً اسم مكان، بمعنى محل الاستيداع وهو المكان الذي توضع فيه الوديعة.

فالمعنى: وهو الذي أوجدكم معشر الإناسي من نفس واحدة وعمر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقراً فيها وبعضكم مستودع في الأصلاب والأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها)(2).

وهنا يكون الرحم الذي يودع فيه الجنين لكي يتم حفظه إلى حين خروجه أو في الأصلاب تودع فيها النطف فتكون مستودعاً لحفظها وخروجها من بعد حين.

2-قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِ الْأرْضِ إلِّا عَلَی اللِّه رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِی كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(3). .

قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله): (الدابّة على ما في كتب اللغة كل ما يدّب ويتحرك، ويكثر استعماله في النوع الخاص منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، ولذلك عقب قوله:

﴿..أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهمْ يَعْلَمُ مَا يُسِّرونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(4).

ص:45


1- سورة الأنعام، الآية ( 98 )
2- تفسير الميزان: ج 7 ص 288 .
3- سورة هود، الآية ( 6).
4- سورة هود، الآية ( 5).

وهذا المعنى، أعني: كون ذكر وجوب رزق كل دابّة على الله لبيان سعة علمه لكل دابّة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله: ﴿ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ بمنزلة عطف التفسير لقوله: ﴿عَلَی اللَّه رِزْقُهَا﴾ فيعود المعنى: إلى أن كل دابّة من دواب الأرض على الله أن يرزقها ولن تبقى بدون رزق فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت واستقرت فيه من الأرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرها وهي في مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابّة في الأرض وكيف لا وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة منه بما حل فيه من محل دائم أو معل ومستقر أو مستودع.

ومن هنا: يظهر أن المراد بالمستقر والمستودع المحل الذي تستقر فيه الدابّة ما دامت تدب في الأرض وتعيش عيشة دنيوية والمحل الذي تحل فيه ثم تودعه وتفارقه)(1).

ويستفاد من هذا التفسير والبيان أن كل دابّة على الأرض فرزقها محفوظ لها لأن الله تعالى يعلم بحالها سواء كانت ظاهرة للعيان أو مودعة في محل، كالنمل فمنه ما هو ظاهر في حركته أو مستتر في باطن الأرض ومستودع فيها، أو كحال البكتيريا بالقياس إلى غيرها من الدواب، فتكون البكتيريا مستودعة وغيرها مستقر وبالنتيجة فجميع ما يتحرك فحاله معلوم عند الله وهذا العلم الإلهي يقتضي إيصال الرزق إليها في أي حالة كانت.

ص: 46


1- تفسير الميزان: ج 10 ص 148 .

المسألة الثانية: الوديعة في كتب الفقهاء .

اشارة

تناول الفقهاء عنوان (الوديعة) في كتبهم وخصصوا لها مسائلاً عدّة، بلحاظ كونها من العقود الجائزة التي تجري بين الناس ومن ثم لا بد من بيان لهم في حفظ حقوقهم في المعاملة، أي: (الوديعة) ونكتفي بثلاثة فقهاء، فمما جاء في ذلك:

أ - قطب الدين الراوندي (قدس سرّه) (المتوفى 573 ه)

قال (عليه الرحمة والرضوان) في كتابه الموسوم ب(فقه القرآن)، باب الوديعة والذي خصصه لآيات الأحكام: (إن الوديعة حكم في الشريعة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَ أَهْلِهَا..﴾(1).

وقال تعالى: ﴿.. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمنِ أَمَانَتَهُ..﴾(2).

والوديعة مشتقّة من ودع، يدع: إذا استقر وسكن، يقال أودعته أودعه إذا أقررته واسكنته، ويروى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت عنده ودائع بمكة،فلما أراد أن يهاجر أودعها أم أيمن وأمر علياً (عليه السلام) بردها على أصحابها،

فإذا ثبت ذلك فالوديعة أمانة لا ضمان على المودع ما لم يفرط، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليس على المودع ضمان .»

ص: 47


1- سورة النساء، الآية ( 58 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 283 ).

فأمّا قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكتِابِ مَنْ إنِ تَأْمَنْهُ بقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلِيْكَ﴾، يعني به النصارى لأنهم لا يستحلون أموال من خالفهم، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إنِ تَأْمَنْهُ بدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾، يعني اليهود لأنهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمً﴾ على رأسه بالتقاضي والمطالبة، قائما بالإجماع والملازمة.

والفرق بين تأمنه بقنطار وعلى قنطار أن معنى الباء الصاق الأمانة، ومعنى على استعلاء الأمانة، وهما متعاقبان في هذا الموضع لتقارب المعنى كما يقال (مررت به وعليه).

ويمكن أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الأمانة لاستحلالهم ذلك، لقوله ﴿ذَلِكَ بأِنَّهمُ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِ الْأميِّينَ سَبيِلٌ﴾. وسائر الفرق -وإن كان منهم من لا يؤدي الأمانة- لا يستحلها.

وقال جماعة: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، وهم يعلمون أن هذا هو الكذب على الله.

فإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين، من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل. فإذا ردها على المودع أو على وكيله فلا شيء عليه، وإنّ ردها على الحاكم أو على ثقته مع القدرة على الدفع إلى المودع أو إلى وكيله فعليه الضمان، فإن لم يقدر على المودع ولا على وكيله، فلا يخلو أما أن يكون له عذر أو لم يكن له عذر، فإن لم يكن له عذر برده فعليه الضمان، وإن كان له عذر برده على الحاكم أو على ثقته فلا ضمان عليه.

ص: 48

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «صاحب الوديعة وصاحب البضاعة مؤتمنان، وكل ما كان من وديعة ولم تكن

مضمونة فلا تلزم .»

ورد الوديعة واجب متى طلبها صاحبها وهو متمكن من ردها، وليس عليه في ردها ضرر يؤدي إلى تلف النفس أو المال، سواء كان المودع كافرا أو مسلما)(1).

ب - المحقق الحلي (قدس سرّه)(المتوفى 676 ه)

قال (عليه الرحمة والرضوان) في كتابه الموسوم ب(شرائع الإسلام) كتاب الوديعة والذي يسهب فيه ببيان الأحكام الفقهية التي انطوت تحت عنوان الوديعة، نورد منه بعض الفقرات ولمن شاء الاستزادة فليراجع الموضوع في مضانه.

قال رحمه الله (والنظر في أمور ثلاثة:

الأمر الأول: العقد: وهو استنابة في الحفظ. ويفتقر إلى إيجاب وقبول. ويقع بكل عبارة دلت على معناه. ويكفي الفعل الدال على القبول.

ولو طرح الوديعة عنده، لم يلزمه حفظها إذا لم يقبلها. وكذا لو أكره على قبضها، لم تصر وديعة، ولا يضمنها لو أهمل.

وإذا استودع، وجب عليه الحفظ. ولا يلزمه دركها، لو تلفت من غير تفريط، أو أخذت منه قهرا. نعم، لو تمكن من الدفع، وجب. ولو لم يفعل، ضمن. ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع، كالجرح وأخذ المال.

ص: 49


1- فقه القرآن: ج 2 ص 61 - 62 .

ولو أنكرها، فطولب باليمين ظلما، جاز الحلف موريا، بما يخرج به عن الكذب.

وهي عقد جائز من طرفيه، يبطل بموت كل واحد منهما وبجنونه، وتكون أمانة.

وتحفظ الوديعة، بما جرت العادة بحفظها، كالثوب والكتب في الصندوق، والدابة في الإصطبل، والشاة في المراح، أو ما يجري مجرى ذلك.

وتجب إعادة الوديعة على المودع مع المطالبة، ولو كان كافرا، إلا أن يكون المودع غاصبا لها فيمنع منها. ولو مات فطلبها وارثه، وجب الإنكار، ويجب إعادتها على المغصوب منه إن عرف. وإن جهل عرفت سنة، ثم جاز التصديق بها عن المالك.

ويضمن المتصدق إن كره صاحبها. ولو كان الغاصب مزجها بماله، ثم أودع الجميع، فإن أمكن المستودع تمييز المالين، رد عليه ماله ومنع الآخر. وإن لم يمكن تمييزهما، وجب إعادتهما على الغاصب.

الأمر الثاني: في موجبات الضمان وينظمها قسمان: التفريط والتعدي.

أما التفريط، فكأن يطرحها فيما ليس يحرز، أو يترك سقي الدابة أو علفها، أو نشر الثوب الذي يفتقر إلى النشر، أو يودعها من غير ضرورة، ولا إذن، أو يسافر بها كذلك

مع خوف الطريق ومع أمنه وطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها. وكذا لو ترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليها في العادة، فماتت به.

القسم الثاني: في التعدي: مثل أن يلبس الثوب، أو يركب الدابة، أو يخرجها من حرزها لينتفع بها، نعم، لو نوى الانتفاع، لم يضمن بمجرد النية، ولو طلبت منه، فامتنع من الرد مع القدرة، ضمن، وكذا لو جحدها، ثم قامت عليه بينة أو اعترف

بها، ويضمن لو خلطها بماله، بحيث لا يتميز)(1)....الخ

ص: 50


1- شرائع الاسلام، كتاب الوديعة: ج 2 ص 402 .
ج - الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني العاملي (المتوفى 786 ه)
اشارة

قال (عليه الرحمة والرضوان) في اللمعة الدمشقية (الوديعة: وهي استنابة في الحفظ.

وتفتقر إلى إيجاب وقبول، ولا حصر في الألفاظ الدالة عليهما، ويكفي في القبول الفعل، ولو طرحها عنده أو أكرهه على قبضها لم تصر وديعة فلا يجب حفظها، ولو قبل وجب الحفظ.

ولا ضمان عليه إلا بالتعدي أو التفريط، ولو أخذت منه قهرا فلا ضمان، ولو تمكن من الدفع وجب ما لم يؤد إلى تحمل الضرر الكثير كالجرح وأخذ المال، نعم يجب عليه اليمين لو قنع بها الظالم فيوري. وتبطل بموت كل منهما وجنونه وإغمائه،

وتبقى أمانة شرعية لا يقبل قول الودعي في ردها إلا ببينة.

ولو عين موضعا للحفظ اقتصر عليه إلا أن يخاف تلفها فيه فينقلها ولا ضمان.

وتحفظ الوديعة بما جرت العادة به كالثوب والنقد في الصندوق، والدابة في الاصطبل، والشاة في المراح ولو استودع من طفل أو مجنون ضمن ويبرأ بالرد إلى

وليهما.

وتجب إعادة الوديعة على المودع ولو كان كافرا، ويضمن لو أهمل بعد المطالبة، أو أودعها من غير ضرورة، أو سافر بها كذلك، أو طرحها في موضع تتعفن فيه)(1).

دلالة أقوال الفقهاء في معنى الوديعة وأحكامها
اشارة

هذه الأقوال التي أوردها الفقهاء الذين مرّ ذكرهم (رحمهم الله) وما أورده غيرهم إلى وقتنا هذا ترشد إلى مجموعة من الدلائل تتكشف معها دلالة قوله (عليه الصلاة والسلام) «فلقد استرجعت الوديعة » ومقاصديته:

ص: 51


1- اللمعة الدمشقية:، كتاب الوديعة: ص 132 - 133 .
أولاً: هي عقد للاستنابة في الحفظ

يرشد هذا اللفظ الذي نص عليه الفقهاء في أحكام الوديعة إلى وجود طرفي نجرى عقد بينها لغرض أن ينوب المستحفظ عن صاحب الوديعة في حفظها وهنا: يكون صاحب الوديعة هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمستحفظ هو الإمام علي (عليه السلام) والوديعة هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ومن ثم يلزم أن يكون بينهما عقد بحسب مقتضى أحكام الوديعة فكيف جرى العقد بينهما (صلوات الله وسلامه عليهما)؟

يروي العلامة المجلسي (رحمه الله) عن عيسى الضرير، عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في ذكر خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمما جاء فيه، أنه قال: (قلت لأبي: فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

قال: ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم اسلام) وقال لمن في بيته: «أخرجوا عني .»

وقال لأم سلمة: «كوني على الباب فلا يقربه أحد .»

ففعلت ثم قال: «يا علي أدنوا مني .»

فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً، وأخذ بيد علي بيده الأخرى

ص: 52

فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام غلبته عبرته، فلم يقدر على الكلام، فبكت فاطمة بكاء شديداً وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) لبكاءرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقالت فاطمة: «يا رسول الله قد قطّعت قلبي، وأحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيين من الأولين والآخرين ويا أمين ربه ورسوله ويا حبيبه ويا نبيه، من لولدي بعدك؟ والذلّ ينزل

بي بعدك، من لعلي أخيك وناصر الدين؟ من لوحي الله وأمره؟ .»

ثم بكت وأكبت على وجهه فقبلته وأكب عليه علي والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) فرفع رأسه (صلى الله عليه وآله) إليهم ويدها في يده فوضعها في يد علي وقال له:

«يا أبا الحسن هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك، فاحفظ الله واحفظني فيها وإنك لفاعله .»)(1).

والحديث الشريف له تتمة إلا إنني توقفت عند هذا الموضع لبيان كيفية وقوع العقد بين النبي والوصي (صلوات الله عليهما وآلهما) وفيه يظهر طرفي العقد وتحقق شروطه وهو استنابة الإمام علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حفظ فاطمة (صلوات الله عليها) وإيداعها عنده.

وهذه الاستنابة في الحفظ لم تقتصر على كون الوديعة تعود لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما هي في الأصل تعود إلى الله تعالى؛ ولذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد فاحفظ الله، واحفظني فيها .»

فما دلالة كونها وديعة الله؟

سيمرّ جوابه في المسألة الثالثة.

ص: 53


1- البحار للعلامة المجلسي: ج 2 ص 484 .
ثانياً: هل كان موقف الإمام علي (علیه السّلام) القبول كي يتحقق العقد لافتقاره للإيجاب والقبول

إن مما يتبادر إلى الذهن هو معرفة موقف الإمام علي (عليه السلام) من هذا العرض وهو الإنابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حفظ الوديعة كما ورد في الفاظ الفقهاء في تحقق العقد بين الوادع والمودع؟

وجواب ذلك: إن فعل الإمام علي (عليه السلام) دليل على قبوله وتحقق العقد بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي ذلك أشار الفقهاء في كتبهم:

1- قال الشهيد الأول: (ويكفي في القبول الفعل).

2- قال المحقق الحلي: (ويقع بكل عبارة دلت على معناه، ويكفي الفعل الدال على القبول).

ويرشد فعله (عليه السلام) إلى قبوله الوديعة وتحقق العقد بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يلزم تحقيق مقتضى العقد وهو الحفظ وهو ما سنبحثه في ثالثاً.

ثالثاً: لو قَبِلَ وجب الحفظ

إن من بين أهم الامور التي يكشفها (عقد الوديعة) هو وجوب الحفظ على المستحفظ، وهذا يكشف عن موضوع عقدي مهم، وهو أن الإمام علي (عليه السلام) كان خير مؤتمن عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذا يكون مقتضى الكفئية بينهما متحقق، أي في بيان شأن الوديعة والمودع، وهو ما نص عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«فاحفظ الله واحفظني فيها، وإنك لفاعله .»

فكشف عن تحقق مقام الكفئية، وتحقق الحفظ وأداء ما كُلف به صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 54

رابعاً: سريان العقد بينهما بعد وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يكشف عن أحد خصائص رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )الفريدة

ورد في ألفاظ الفقهاء في شرط دوام صحة العقد البقاء على قيد الحياة لكلا الطرفين الوادع والمودع، وهي كالآتي:

1- قال المحقق الحلي: (وهي عقد جائز من طرفيه، يبطل بموت كل واحد منهما).

2-قال الشهيد الثاني: (وتبطل بموت كل منهما، وجنونه، وإغمائه، وتبقى أمانة شرعية لا يقبل قول الودعي في ردها إلا ببينة).

وبمقتضى هذا الشرط يلزم أن يكون النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على قيد الحياة وهو أمر عقدي يكشف عن أن معنى وجوده واقع وأن كان جسده (صلى الله عليه وآله) مغيّباً تحت التراب، وإلا لما معنى لسريان العقد بينهما، كما لا

معنى لرد الوديعة بحسب ما ورد في النص الشريف عنه (عليه السلام): «لقد استرجعت الوديعة .»

وقد دلّت كثير من النصوص على هذه الخاصية الفريدة لسيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله تعالى:

1- ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالُمؤْمِنُونَ وَسَتُردُّونَ إِلَی عَالِم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1).

1-﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَی النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..﴾(2).

ص: 55


1- سورة التوبة، الآية ( 105 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 143 ).

2- ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

3- ﴿وَإذِا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأمَنِ أَوِ الَخوْفِ أَذَاعُوا بهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلِی الرَّسُولِ وَإلِی أُولِی الْأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..﴾(2).

4- ﴿..وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ..﴾(3).

وقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تكشف عن هذه الخاصية الفريدة له، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم »(4).

وبلفظ: «وحيثما كنتم فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني »(5).

فكيف يأمرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة عليه حيث ما كنا، فإن صلاتنا تبلغه؟ وكيف يكون على الأمم شهيداً؟ وعلى هذه الأمة الوسطى بين الأمم؟ وكيف يغني المؤمنين من أمته؟

وعليه: فحكم عقد الوديعة لم يزل قائم بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوصي (عليه السلام) ولذا: وجيب رد الوديعة، وهو ما نص عليه الفقهاء: قال المحقق الحلي: (وتجب أعادة الوديعة على المودع مع المطالبة).

ص: 56


1- سورة النساء، الآية ( 41 ).
2- سورة النساء، الآية ( 83 ).
3- سورة التوبة، الآية ( 74 ).
4- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 367 .
5- المعجم الأوسط للطبراني: ج 1 ص 117 .

قال الشهيد الثاني: (وتجب أعادة الوديعة على المودع(.

من هناك قال )عليه السلام): «لقد استرجعت الوديعة .»

المسألة الثالثة: دلالة كونها وديعة الله

اشارة

للوقوف على معنى كونها وديعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بد من الوقوف عند جملة من الأمور التي ارتبطت من جانب بمعنى الوديعة ومقتضياتها، ومن جانب آخر بدلالة هذه النسبة إلى الله تعالى وإلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي: إن هذه النسبة كما ورد في الحديث الشريف تعود إلى الله تعالى، وتعود أيضاً إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بلحاظ أن النبي هو كذلك له

نسبة بالارتباط إلى الله تعالى فيقال له (نبي الله) و(رسول الله)، وهنا كما ورد في الحديث الشريف عنه قد أعاد النسبة في الوديعة إلى الله تعالى مرة وفي المرة الأخرى إليه؛ فقال:

«هذه وديعة الله ووديعة رسوله محمد .»

فما دلالة هذه النسبة؟

أولاً: دلالة نسبتها إلى الله تعالى
اشارة

يعرض القرآن الكريم جملة من الأشياء فيربطها بالله تعالى وينسبها إليه، وهي كثيرة منها:

1- ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّه..﴾(1).

ص: 57


1- سورة البقرة، الآية ( 27 ).

2-﴿..فَقُلْنَا اضْربْ بِعَصَاكَ الَحجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْربَهمْ كُلُوا وَاشْربُوا مِنْ رِزْقِ اللَّه وَلَا تَعْثَوْا فِی الْأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(1).

وتظهر خصوصية هذه النسبة في الرزق إلى الله تعالى على الرغم من أن الأصل في الأرزاق هو بيد الله تعالى، لكن خصوصية هذه النسبة ودلالتها لإرتباطها بفعل الإعجاز الإلهي من خلال ضرب موسى الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة

عيناً فأصبحت النسبة في الرزق إلى الله تعالى إذ لم تكن هذه العيون قد حفرت بأيدأحد من الناس فينسبها إليه، وإنما بفعل نبي الله موسى والإذن في ضرب الحجر ليتفجر منه الماء.

1- ﴿مَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(2).

2- ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِّمنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّه أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ..﴾(3).

3- ﴿وَلَّله الَمشْرقُ وَالَمغْرِبُ فَأَيْنَمَ تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه..﴾(4).

4- ﴿..قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّه هُوَ الُهدَى﴾(5).

5- ﴿صِبْغَةَ اللَّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّه صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾(6).

ص: 58


1- سورة البقرة، الآية ( 60 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 101 ).
3- سورة البقرة، الآية ( 114 ).
4- سورة البقرة، الآية ( 115 ).
5- سورة البقرة، الآية ( 120 ).
6- سورة البقرة، الآية ( 138 ).

6- ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمنْ يُقْتَلُ فِی سَبِيلِ اللَّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(1).

7- ﴿إنِّ الصَّفَا وَالمرْوَةَ مِنْ شَعَائرِ الله فَمَنْ حَجَّ البْيَتْ أَوِ اعْتمَرَ فَلَ جُناَحَ عَلَيهْ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهمَا﴾(2).

8- ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّه وَالَملاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمعِينَ﴾(3).

9- ﴿..تِلْكَ حُدُودُ اللَّه فَلَا تَقْرَبُوهَا..﴾(4).

10- ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه وَاللَّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(5).

وغيرها من الآيات المباركة والتي بينت نسبة كثير من الأشياء إلى الله تعالى ك(آيات الله-نصر الله-نعمة الله-رحمة الله-كتاب الله-هدى الله-دين الله-حبل الله-رضوان الله-ناقة الله-أولياء الله) وغيرها، وفي المقابل ورد في السنّة دلالات كثيرة على هذه النسبة ك(بيت الله تعالى-أو بيوت الله-شهر الله- أيام الله) وغير ذلك، وهذه النسبة ترشد إلى ما يلي:

1 - التعظيم :

وقد ورد هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّه فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(6).

ص: 59


1- سورة البقرة، الآية ( 154 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 158 ).
3- سورة البقرة، الآية ( 161 ).
4- سورة البقرة، الآية ( 187 ).
5- سورة البقرة، الآية ( 207 ).
6- سورة الحج، الآية ( 32 ).

فقد أظهرت الآية أن الغرض من تعظيم الشعائر هو التقوى وهذه التقوى مخصوصة بأهم ما يقبل به الإنسان على الله وهو القلب، ومن ثم يكون تحصيل التقوى القلبي من أثر تعظيم الشعائر، وهذا يجري في جميع الأشياء التي كانت

نسبتها إلى الله تعالى كتعظيم المساجد، وبيت الله، وأولياء الله، وكتاب الله، وشرع الله وهكذا.

وعليه:

فكونها (وديعة الله) يلزم تعظيمها مضاف إليه معرفة أن الوديعة في دلالتها ومعناها ومصداقها هي الأمانة ومما يكسبها تعظيماً أكبر.

وذلك لارتباطها بأمرين، الأول: إن كل أمانة لها جانب تعظيمي يكشف عن قيمتها المعنوية والمادية؛ والجانب الآخر: ارتباطها بصاحبها فتضاف عظمة المالكإلى عظمة الوديعة.

2 - الشأنية :

الشأن في اللغة هو (الخطب والأمر والحال، وجمعه شؤون، وشأنان)(1)، ويتكشف من خلال هذه المعاني أن لفاطمة (عليها الصلاة والسلام) عند الله تعالى خطباً وحالاً خاصاً أقتضى أن تحاط بالحفاوة والتكريم، وأن لها أمراً يتلزّم أن تحفظ من أجله.

ولذا: يكشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «وديعة الله ووديعة رسوله »، إنها ذا شأن لا يُقدّر بثمن وقد وجب حفظها.

ص: 60


1- لسان العرب: ج 13 ص 231 ، فصل الشين المعجمة.
3 - الحرمة :

وهذا المعنى من أكثر المعاني وضوحاً والتصاقاً بالوديعة وذلك لمحاكاته الضوابط الشرعية في ألزام ذمة المستحفظ عند ايداع الوديعة عنده، وبها يتجلى مصداق الأمانة، فيكف إذا اضيفت إلى الله تعالى وإلى رسوله وسيد أنبيائه ورسله (صلى الله عليه وآله وسلم).

بمعنى مضاعفة حرمتها من كونها مرتبطة بإشغال ذمة المستحفظ، إلى حرمة صاحبا ونسبتها إليه وهو الله (جلت قدرته)، إلى حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن ثمة جمعت فيها هذه الحرمات الثلاثة والتي تُظهر معنى آخر في هذه الحالة يضاف إلى المعاني السابقة، أي (التعظيم والشأنية والحرمة) وهو:

4 - التقديس والإجلال :
اشارة

فكما أن للكعبة حرمة وتعظيماً وشأنية وتقديساُ لإرتباطها بالنسبة إلى الله تعالى فيقال لها: (بيت الله)؛ ويقال للتوراة والإنجيل والقرآن: (كتاب الله)، فقد وجبحفظها وتعظيمها وتقديسها واجلالها، لأن لها بهذه النسبة شأن وحرمة فيعظم عند ذلك حقّها، وفي نفس الوقت فإن الله تعالى أظهر حرمتها وشأنها إلى الناس أجمعين كي يترسّخ في أذهان الناس ووجدانهم تقديس هذه الأشياء المرتبطة والمنسوبة إلى

الله تعالى، والأمثلة على ذلك والشواهد كثيرة، منها

أ- أصحاب الفيل :

وقد بين القرآن الكريم في سورة الفيل ما جرى لتلك الفئة الباغية التي أرادت تحطيم بيت الله الحرام فكشفت بدرس عملي سار به الناس لبيان حرمة هذا البيت فرسَّخ في أذهانهم ووجدانهم هذه الحرمة والتي تدفع بالعقل والقلب إلى تقديس

ص: 61

الكعبة لكونها (بيت الله)، وقد جاءت الآيات واضحة الدلالة في ذلك قال تعالى: ﴿أَلَ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأِصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَم يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِی تَضْليِلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبَابيِلَ * تَرْمِيهِمْ بحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾(1).

ب- أصحاب الناقة :

في أمرٍ آخر مشابه في عرض الحرمة التي اكتسبتها الأشياء المنسوبة إلى الله تعالى في أماكن وأزمان مختلفة كناقة نبي الله صالح (عليه السلام) التي ابتُلَی بها قومه فكانت

وسيلة للاختبار في صون الحرمات، هذه الحرمات التي نالت هذه الصفة لنسبتها إلى الله تعالى، كما نص القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِه نَاقَةُ الله لكَمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأكْلْ فِی أرَضِ الله وَلَ تَسَّموهَا بسِوءٍ فَيأَخْذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( 64 ) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَتَّمعُوا فِی دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْر مَكْذُوبٍ ( 65 ) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّينْاَ صَالِحا وَالذَّينَ آَمَنوُا مَعَهُ برِحْمةٍ مِناَّ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئذِ إنِّ رَبَّكَ هُوَ القْوِيُّ العْزِيزُ ( 66 ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِی دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(2).

في حين نجد أن المغايرة بين الكعبة (بيت الله) وبين ناقة قوم صالح (ناقة الله) من حيث الزمان والمكان والوظيفة واضحة، إلا أن عدم حفظ هذه الأشياء وانتهاك حرمتها أدى إلى الهلاك الجماعي، فالكل مشترك في الجرم مع أن المنفذ واحد في عقر الناقة، وقائد الجيش في أصحاب الفيل واحد.

من هنا، نجد أن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) تستشهد بناقة صالح ونسبتها إلى الله تعالى بكونها (ناقة الله) وبينها بلحاظ كونها (وديعة الله) وشتان بين الحرمتين والشأنيتين والوظيفتين، فالمغايرة كلية هنا لا جزئية، فمن حيث الجنس فالإنسان في

ص: 62


1- سورة الفيل.
2- سورة هود، الآية ( 64 - 67 ).

الأصل مكرم عند الله تعالى ومفضل على كثير من الخلق، قال تعالى: ﴿وَلقَدْ كَرَّمْناَ بَنيِ آَدَمَ وَحَملْناَهُمْ فِی البْرِّ وَالبْحَرِ وَرَزَقْناَهُمْ مِنَ الطيَّبِّاَتِ وَفَضَّلْناَهُمْ عَلَی كَثِيرٍ مِّمنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً﴾(1).

فكيف إذا كان هذا الإنسان ممن اصطفاهم الله تعالى على خلقه! وقد ورد في الحديث الشريف أن فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء اهل الجنة، وفي الجنة مريم وخديجة وآسيا وغيرهن.

وهذا المعنى بينته الزهراء (عليها السلام) لما وقع عليها ما وقع من هجوم القوم على دارها واخراجهم علياً (عليه السلام) عنوةً كي يبايع أبي بكر في المسجد مما دعاها

ذلك إلى الخروج خلف ابن عمها وأبو ولديها (حتى انتهت إلى القبر النبوي فقالت: «خلوا عن ابن عمي فوالله الذي بعث محمداً بالحق لإن لم تخلوا عنه لأنشرنّ شعري، ولأضعنّ قميص رسول الله على رأسي، ولأصرخنّ إلى الله تعال،ى فما ناقةصالح بأكرم من ولدي .»

قال الحافظ محمد بن جرير الطبري الإمامي (المتوفى 400 ه)، والحافظ الطبرسي (المتوفى 548 ه)، والمازندراني (المتوفى سنة 588 ه) عن سلمان المحمدي (رضوان الله تعالى عليه) في بيان أثر هذه الصرخة الفاطمية أنه قال: (فرأيت والله أساس حيطان المسجد تقلعت من أسفلها حتى لو أراد رجل أن ينفد من تحتها نفد، فدنوت منها وقلت: يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكني نقمة،

فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في خياشيمنا)(2).

ص: 63


1- سورة الإسراء، الآية ( 70 ).
2- مناقب أل أبي طالب للمازندراني: ج 3 ص 118 .

وهنا: استشهدت (عليها الصلاة والسلام) بناقة صالح وما لحق قومه من الهلاك عند التعرض لها بالسوء في هذا الموقف إنما لبيان أنها أعظم حرمة عند الله وأجل شأناً فكيف سيكون حال هذه الأمة التي انتهكت حرمة (وديعة الله)!؟

ثانياً: أول من قام بحفظها ربّ العزّة جلّ شأنه

إنَّ في العودة إلى معنى الوديعة لغة، وعند الفقهاء، وهو (استحفاظ الشخص،واستنابته في الحفظ) يكشف عن أن الوديعة هي في الأساس كانت محفوظة عند صاحبها ثم أودت عند شخص آخر لينوب عنه في حفظها.

وعليه:

يلزم هذا المعنى أن تكون فاطمة (صلوات الله عليها) هي في الأصل كانت محفوظة عند الله تعالى قبل أن تودع عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم عند امير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، وإلا يصبح كلام أهل اللغة والفقه لغواًوهذا مخالف لمقاصد الشريعة ومداركها وأصولها.

ولذا:

لا بد من روايات تكشف عن هذه الحقيقة وتظهر أن فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) هي في الأصل كانت محفوظة عند ربها (جل شأنه) ومنه أطلق عليها صفة الوديعة، وهو ما وقع صدقاً وحقاً، ومنها هذه الرواية الآتية:

أخرج الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان) بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن سدير الصيرفي عن الصادق جعفر بن محمد، عن ابيه، عن جده (عليهم السلام)، قال:

«خُلقَ نور فاطمة عليها السلام قبل أن تُلق الأرض والسماء .»

ص: 64

فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي إنسية؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فاطمة حوراء إنسية .»

فقالوا الناس: يا نبي الله وكيف هي حوراء إنسية؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم، إذ كانت الأرواح، فلما خلق الله

عز وجل آدم عرضت على آدم .»

قيل يا نبي الله، وأين كانت فاطمة؟؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «كانت في حقه تحت ساق العرش .»

قالوا: يا نبي الله، فما كان طعامها؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم:«التسبيح والتهليل والتحميد، فلما خلق الله عز وجل آدم واخرجني من صلبه، أحب الله عز وجل أن يخرجها من صلبي، وجعلها تفاحة في الجنة وأتاني بها جبرئيل عليه السلام فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد.

قلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته حبيبي جبرئيل، فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، قلت منه السلام وإليه يعود السلام.

قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال يا محمد يقول الله جل جلاله كلها.

ص: 65

ففلقتها فرأيت نوراً ساطعاً ففزعت منه، فقال: يا محمد مالك لا تأكل؟ كلها ولا تخف، فإن ذلك نور المنصورة في السماء، وهي في الأرض فاطمة، قلت حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة؟

قال: سميت في الأرض فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم اعداءها من حبها، وهي في السماء المنصورة وذلك قول الله عز وجل: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الُمؤْمِنُونَ * بِنَصْر اللَّه يَنْصُر مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾(1).

يعني نصر فاطمة لمحبيها »(2).

ثالثاً: حجم الأمانة القيمي يكشف عن حجم الإيمان

إن مما يرشد إليه النص الشريف هو إن حجم الأمانة القيمي يكشف عن حجم الإيمان الذي يلزم تواجده في الوديع.

بمعنى: أن الوادع للأمانة وصاحبها يكون على بينة ولو وجدانياً بإيمان الوديع الذي ستوضع عنده الوديعة ويتعاقد معه لحفظها وردها إلى مالكها عند المطالبة بها.

ولأن منزلة فاطمة (عليها السلام) وشأنها عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستلزم أن يكون الوديع بتلك المنزلة والشأنية، وإلا يكون الوادع في حال معرفته بحال الوديع ملاماً.

ص: 66


1- سورة الروم، الآية ( 4- 5).
2- معاني الأخبار للصدوق: ص 396 ؛ البحار للمجلسي: ج 43 ص 4.

ولقد دلّت كثير من النصوص على هذه الكاشفية والتلازمية بين الوديعة والوديع، فكل شيء غلا ثمنه وعظم قدره وارتفع شأنه لزم عقلاً ووجداناً أن يُستحفظ في أماكن يحرز معها قصد الإيداع، وهو الحفظ.

من هنا: دلّت بعض النصوص على هذه الحقيقة، منها:

1- قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأمَانَةَ عَلَی السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ وَالِجْبَالِ فَأَبَيْن أَنْ يَحمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَملَهَا الْأنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾(1).

وهذه الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض كانت (ولاية محمد وآله).

2-قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فمؤمنوا امتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة .»

والحديث يحدد ملامح الوديع وصفاته وهي الإيمان فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «فمؤمنوا أمتي ». ولم يقل المسلمون أو أصحابي وذلك من جهة التخصيص فاصبح الإيمان ملازماً لحفظ الأمانة، وهي الوديعة التي حددها هنا النبي (صلى الله

عليه وآله وسلم) بأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

ومن ثم تكون النتيجة أن المسلمين لا يحفظون أهل بيته (عليهم السلام) كما دلّ عليه القرآن الكريم، والواقع التاريخي والحياتي، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَم تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَّما يَدْخُلِ الْأيمَانُ فِی قُلُوبِكُمْ..﴾(2).

ص: 67


1- سورة الأحزاب، الآية ( 72 ).
2- سورة الحجرات، الآية ( 14).

ثم يبين القرآن الكريم العلة من عدم دخول الإيمان وحجب هذه الرتبة عنهم فقال عز وجل: ﴿الْأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّه﴾(1).

أما الواقع التاريخي فيكفي بالباحث والقارئ وكل منصفٍ ان يرى هذا النص الذي وفقنا الله لدراسته، فقد كفى به دليلاً قاطعاً على ما لاقته العترة من المنافقين والأعراب بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلاً عن مأساة كربلاء في يوم عاشوراء فكان لرأس ابن بنت رسول اله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة مواضعاً متعددة في البلاد، في مصر، وعسقلان، وبعلبك، ودمشق،والكوفة: ﴿إِنَّا لَّله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

وعليه: يكشف النص الشريف:

«إن وديعة الله عند ولي الله أمانة مستحفظة .»

وإنه (عليه السلام) بموجب عقد الوديعة ولزوم إرجاعها إلى الوادع وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الإمام علي (عليه السلام) يبرء ذمته في ردها إلى صاحبها ولذا قال:

«لقد استرجعت الوديعة .»

ص: 68


1- سورة التوبة، الآية ( 97 ).

المبحث الخامس عشر:المقاصدية في كونها رهينة ودلالة الأخذ

اشارة

ص: 69

قوله (عليه السلام):«وأُخذِت الرَّهيِنةَ»

اشارة

ص: 70

ما زال الحديث في حقل جديد من حقول المعرفة التي زخر بها هذا النص الشريف الا وهو الحقل المعرفي الفقهي وكاشفية هذا التمازج المعرفي بينه وبين الحقل العقدي

والسيري وغير ذلك من المعارف.

قال (عليه الصلاة والسلام): «وأُخِذت الرهينة »

والبحث في هذا الجزء من النص الشريف يتفرع الى مسائل ثلاثة وهي كالاتي:

المسألة الاولى: تعريف الرهن عند اهل اللغة و الفقه

اولاً: ما ورد في اللغة
1-قال الفراهيدي (توفي 175 ه):

(الرهن المعروف، تقول: رهنت الشيء فلاناً رهنا، فالشيء مرهون، وأرهنت فلانا ثوابا اذا دفعته اليه لرهنه، وأرتهنه فلاناً اذا اخذه رهناً.

والرهون، والرهان، والرهن: جمع الرهن، والمراهنة والرهان أن يراهن القوم على سباق الخل وغيره. وأرهنت الميت قبرا: ضمنته إياه. وكل إمرءٍ يحتبس به شيء فهو رهنه، ومرتهنه، كما أن الإنسان رهين عمله) (1).

ص: 71


1- العين للفراهيدي: ج 4 ص 44
2-قال ابن فارس (توفي 395 ه) :

(رهن) الراء والهاء والنون أصل يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره من ذلك الرهن الشيء يرهن. تقول رهنت الشيء رهناً، ولا يقال أرهنت، والشيءالراهن الثابت الدائم. ورهن لك الشيء اقام وارهنته لك اقمته)(1).

3- واضاف ابن سيده (توفي 458 ه) :

(الرهن): ما وضع على الانسان مما ينوب مناب ما أخذت منه)(2).

أقول: ويمكن الجمع بين هذه الاقوال للخروج بمعنى واحد وهو: احتباس شيء اخذ من الراهن ليثبت به حقه وينوب عنه المرتهن.

ثانياً: ما ورد في كتب الفقهاء
1- قال المحقق الحلي (رحمه الله) (المتوفى سنة 676 ه) :

(الرهن) وهو: وثيقة لدين المرتهن ويفتقر الى الايجاب والقبول. فالإيجاب: كل لفظ دل على الارتهان كقوله رهنتك او هذه وثيقة عندك أو ما أدى الى هذا المعنى ولو عجز عن النطق كفت الإشارة: ولو كتب بيده والحال هذه وعرف ذلك من قصده جاز، والقبول هو الرضا بذلك الايجاب)(3).

وله (رحمه الله) تفصيلاً واسعا في الموضوع والذي يهمنا هنا تعريفه للرهن وحصره في كونه وثيقة لدين المرتهن وقد نص على هذا التعريف غير واحد من الفقهاء.

ص: 72


1- معجم مقاييس اللغة: ج 2 ص 452 .
2- المخصص: ج 4 السفر الثالث عشر/ ص 22 .
3- شرائع الاسلام: ج 2 ص 329 .
2- قال الفاضل الآبي (رحمه الله) (المتوفى سنة 690 ه) :

في الرهن وأركانه أربعة: (الأول): في الرهن، وهو وثيقة لدين المرتهن ولا بد فيه من الايجاب والقبول...

(الثاني): في الحق ويشترط ثبوته في الذمة مالا كان أو منفعة.....

(الثالث): في الراهن ويشترط فيه كمال العقل وجواز التصرف والاختيار....

(الرابع): في المرتهن ويشترط فيه كمال العقل وجواز التصرف... (1)

3- قال الشيخ الجوهري (رحمه الله) (المتوفى 1266 ه) :

(في الرهن، وهو لغة الثبات والدوام، وفي المسالك، وعن المصباح المنير: الحبس باي سبب كان. قال الله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بمِا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(2) وأخذ

الرهن الشرعي من هذا المعنى أنسب أن أفتقر الى المناسبة.

قلت: ليس له معنى شرعي جديد يحمل عليه لفظه في الكتاب والسنة كما حرر في محله، وان طفحت عباراتهم بانه شرعا: (وثيقة لدين المرتهن).

لكن لا يريدون انه بذلك حقيقة شرعية، بل المرتد حقيقة عند المتشرعة.

ولذا: نسب في المحكي عن مجمع البحرين الى عرف الفقهاء، وتسامحوا في تعريفه، المقصد منه مجرد التصوير والتمييز ولو بذلك الشرائط فيه، فلا يناسب الإيراد عليه

بلزوم الدور فيه...

والمراد من الوثيقة للدين ما يستوفي منها، لا أن المراد يستوفي بسبب حبسها، وأن لم يصلح الاستيفاء منها، كأم الولد، والعين الموقوفة ونحوهما.

ص: 73


1- كشف الهوز: ج 1 ص 540 - 548 .
2- سورة المدثر، الآية ( 38 ).

ولا اشكال في ثبوته: اي الرهن في الجملة، بل الاجماع بقسميه عليه، بل لعله من ضروريات الدين والمذهب)(1).

أقول: والذي يستفاد من هذه الاقوال: أن الرهينة بمعناها الشرعي يتركز على كونها وثيقة لحفظ حق المرتهن كي يستوفي حقه من الراهن.

و ارتكاز معناها على كونها وثيقة لا ينحصر على تعلقها بالمال فقط، وإنما يتعداه الى عنوانها الأعم وهو حفظ الحقوق، فكل ما يمكن جعله وثيقة لحفظ الحقوق يصبح بمنزلة الرهينة ودليله قوله تعالى:﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثقِا مِنَ اللِّه لَتَأْتُنَّنيِ بهِ إلِّا أَنْ يُحاطَ بكِمْ فَلَمَّ آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّه عَلَی مَا نَقُولُ وَكِيل﴾(2).

من هنا: يمكننا الوقوف عند قول منتج النص (عليه الصلاة والسلام): «اخذت الرهينة » ودلالة كونها (عليها الصلاة والسلام) ب (رهينة)، من خلال عدة معاني كما في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: دلالة كونها رهينة بقصدية الحبس

لقد مر أنفاً: أن من المعاني والدلائل التي ارتبطت ب (الرهينة) هو الحبس وذلك لقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بمِا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(3)ومنه ذهب بعض العلماء في شرحهم لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنها كانت محبوسة بعملها, وفي ذلك يقول ابن ميثم البحراني (توفي 679 ه):

ص: 74


1- جواهر الكلام للجواهري: ج 25 ص 95 .
2- سورة يوسف، الآية ( 66 ).
3- سورة المدثر، الآية ( 38 ).

(إنَّ كل نفس رهينة على الوفاء بالميثاق الذي وثقاها الله تعالى به، والعهد الذي اخذ عليها حين الاهباط الى عالم الحبس والخيال أن ترجع اليه سالمة من سخطه،

عالمة بأوامره غير منحرفة من صراطه الوضوح على لسان رسوله (صلى الله عليه واله)، فأن وفيت بعهدها خرجت من وثاق الرهن وضوعف لها الاجر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه يَدُاللَّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(1).

وأن نكثت وارتكبت بما نهيت عنه بقيت رهينة بعملها، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، والرهينة تصدق على الذكر والانثى)(2).

وهذا المعنى لا ينطبق على سيدة النساء المعصومة من الزلل والمطهرة من الرجسفي القول والعمل.

في حبسها بالعمل ورهنها بالميثاق والعهد الذي اخذ عليها، وان ترجع اليه سالمة من سخطه.

و أي سخط هذا وهو (عزَّ شأنه) يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها؟!!

ومن ثم لابد أن يكون هناك معنى آخر يدل على المعنى الذي جاءت به الفاظ الفقهاء والمرتكز على جملة من المعاني منها الحبس، ويراد به هنا:

(القيومية التي لأمير المؤمنين (عليه السلام) عليها بميثاق عقد الزواج).

وذلك أن الله (سبحانه وتعالى) لم يجعل على أهل العصمة ولاية أحد من الناس يكون خارجا عن هذه الصفة.

ص: 75


1- سورة الفتح، الآية ( 10 ).
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 4 ص 4.

فالأنبياء لم يكن عليهم ولاية أحد تجب طاعته، ومن أوجب الله عليه منهم طاعة غيره جعله كذلك معصوما ايضا، كطاعة الوالدين وقيمومتهم و ولايتهم.

كشيث، واسماعيل، و اسحاق، وسليمان، ويحيى، وعيسى، فقد كانوا مرهونين بولاية ابائهم الانبياء المعصومين، وهم:

ادم، وابراهيم، وداوود، وزكريا، ومريم (عليهم السلام)، ولعل الرجوع الى قوله تعالى على لسان عيسى (عليه السلام) ليكفي في بيان هذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِی وَلَم يَجعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾(1).

أما في حال اسماعيل الذبيح وتعرضه لمحنة الاختبار في الطاعة لوالده في تسليم نفسه بين يديه صابراً لأمر الله تعالى ليغني اللبيب في معرفة أنه كان رهينة لأمر الله

في طاعة ابيه نبي الله ابراهيم (عليه السلام)، قال تعالى عن لسان اسماعيل: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِی إِنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ﴾(2).

وحينما نأتي الى سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) نجدها كانت رهينة لأمر الله في حبسها بميثاق عقد الزواج وما يفرضه التبعل من قيود على المرآة وهو ما انفردت به عن مريم (عليها السلام) فكلاهما كانتا معصومتان إلا أن مريم لم يجعل الله عليها قيومية عقد الزواج ولم تتعرض لهذا الاختبار في إتِّباع ما فرضه الله (عز وجل) من حقوق الزوج.

في حين أن الانبياء والمرسلين تفاوتوا في التفضيل لما مروا به من ابتلاءات، ففضل منهم خمسة سماهم الله بأهل العزم، لما حملوا به من فروض وتكاليف شرعية في امر تبليغ الرسالة.

ص: 76


1- سورة مريم، الآية ( 32 ).
2- سورة الصافات، الآية ( 102 ).

من هنا:

نجد أن فاطمة (عليها السلام) بما فضلها الله تعالى على مريم هو أمر الابتلاء في التكاليف الشرعية فيما يفرضه حسن التبعل فكانت رهينة بهذا الاختبار الذي خرجت منه راضية مرضية بشهادة من علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك في:

1- مسيرتها الزوجية مع علي (عليه السلام).

2- في وصيتها له واقراره لها بحسن التبعل حيث قالت له:

«يبن العم ما وجدتني كاذبة ولم اخالف لك امراً .»

3- بعد تفجعه وتألمه وشكواه الى الله ورسوله (صلى الله عليه واله) بعد دفنها وهو موضع البحث ومدار الدراسة في الكتاب.

وعليه:

تكون قصدية منتج النص بدلالته الأولى في قوله (عليه السلام): «أُخذت الرهينة »، أنها مرهونة بما يفرضه حسن التبعل وحبس العمل فيه.

اما المعنى الثاني فهو: بقصدية الوثيقة، وفيه دلالات متعددة، وهو ما سنبحثه في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: دلالة كونها رهينة بقصدية الوثيقة

أجمع الفقهاء في عباراتهم في مبحث الرهينة بأنه شرعا:

(وثيقة لدين المرتهن) وهذا يكشف عن أن العلة في تشريعها هو حفظ الحقوق بين الطرفين وان جرى العرف في الرهن هو الانتفاع من العين المرهونة لاسترداد حق المرتهن.

ص: 77

وهذا يرشد الى امرين مهمين متعلقين بكون فاطمة رهينة، فالأول أن هناك حق بين طرفين، والثاني ان هذا الحق قد انتهك ولم يحفظ؛ ولذا جعله الفاضل الآبي، أي (الحق) هو الركن الثاني من أركان تحقق عقد الرهينة ولذا: يلزم (استيفاء الحق) من الوثيقة.

أما كونها وثيقة فهو كالاتي:

إنَّ الله تعالى جعل بلطفه وتفضّله لعباده حقوقاً لهم عليه، منها حق هدايتهم،فبعث إليهم الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) فقال سبحانه: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَی اللَّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حكِيمًا﴾(1).

والآيات الكريمة في ذلك كثيرة وهي تظهر أن الله تعالى جعل بلطفه وتحننه ورحمته بعباده حقوقا لهم عليه وفي المقابل جعل له حقوقا عليهم، ومنها طاعته واتباع شرعه في الأتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه.

ثم جعل بين هذه الحقوق مواثيق عديدة، منها:

1- ميثاق الاقرار بالتوحيد، وهو قوله تعالى: ﴿وَإذِ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنيِ آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَی أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ

بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (2).

2- ميثاق الأنبياء بالإقرار برسالة المصطفى (صلى الله عليه واله) والإيمان به ونصرته وجاء في قوله تعالى:

ص: 78


1- سورة النساء، الآية ( 165 ).
2- سورة الاعراف، الآية ( 172 ).

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَما آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لَماِ مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بهِ وَلَتَنصْرنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَی ذَلِكُمْ إصِري قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 81 ) فَمَنْ تَوَلَّی بَعْدَ ذَلكِ فَأوُلئَكِ هُمُ

الْفَاسِقُونَ﴾(1).

وهذه الآيات تظهر خطورة الميثاق الذي أخذ الله على الأنبياء، كما تظهر شأنية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنزلته عند الله تعالى فلو قصّ أحد الأنبياء (عليهم السلام) في الوفاء بهذا الميثاق لأصبح عاصيا لله تعالى.

3-الميثاق الذي أخذ من أُولي العزم (عليهم السلام)، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(2).

وتدل هذه المواثيق على وجود حق بين الله وعباده بنحو عام، وبنيه (عزَّ شأنه) بين النبيين، وبينه سبحانه وبين أُولي العزم، وهذه المواثيق داخلة ضمن مفهوم الرهينة وحدودها، وذلك لقوله تعالى في قضية يوسف عن أبيه يعقوب، حينما خاطب بنيه لما طلبوا منه أخذ ولده بنيامين معهم الى مصر، فقال -كما اخبر الوحي بذلك ونزل به على قلب المصطفى (صلى الله عليه وآله)-، فقال تعالى: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ

حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثقِا مِنَ اللَّه لَتَأْتُنَّنيِ بهِ إلِّا أَنْ يُحاطَ بكِمْ فَلَمَّ آَتَوْهُ مَوْثقِهُمْ قَالَ اللَّه عَلَی مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾(3).

ص: 79


1- سورة آل عمران، الآية ( 81 - 82 ).
2- سورة الاحزاب، الآية ( 7- 8).
3- سورة يوسف، الآية ( 66 ).

(والمَوثِقْ بكسر الثناء ما يوثق به ويعتمد عليه والموثق من الله هو أمر يوثق به ويرتبط مع ذلك بالله، وإيتاء موثِق الهي وإعطاؤه هو أن يسلّط الانسان على أمر الهي يوثق به كالعهد، واليمين بمنزلة الرهينة، والمعاهدة، والقسم بقوله (عاهدت الله أن أفعل كذا بالله، أو بالله لأفعلن كذا) يراهن على كرامة الله وحرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده، أو ليقسم له، ولو لم يفِ بما قال خسر رهينته وهو مسؤول

عند الله لا محالة)(1).

وعليه:

لزم ان يكون هناك موثقا أو وثيقة بين الله تعالى وعباده الذين شملتهم رحمته تعالى فكانوا من اُمة حبيبه محمد (صلى الله عليه واله)، والغاية منها -أي من الوثيقة- هو: حفظ الحقوق بين الطرفين، أي بين الله والمسلمين فقد وفى الله (عزَّ وجل)لعباده فخصَّهم بخير رسله وأشرفهم فقال سبحانه:

1- ﴿لقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهْ مَا عَنتِمُّ حَرِيصٌ عَلَيكْمْ باِلمؤْمِنيِنَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(2)

2- ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِی الْأمّيِّينَ رَسُولًا مِنهْمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالِحكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(3)

3- ﴿وَكُنْتُمْ عَلَی شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهتَدُونَ﴾(4)

ص: 80


1- تفسير الميزان للطباطبائي: ج 11 ص 216 .
2- سورة التوبة، الآية ( 128 ).
3- سورة الجمعة، الآية ( 2).
4- سورة آل عمران، الآية ( 103 ).

4- ﴿اليْوَمَ أكَمَلتْ لكَمْ ديِنكَمْ وَأتَمَمتُ عَليَكْمْ نعِمْتيِ وَرَضِيتُ لكَمُ الْأسْلَامَ ديِناً﴾(1)

وغيرها من الآيات التي تبين نِعَم الله الكثيرة التي منَّ بها على هذه الاُمة والتي تفرض على المتنعّم والمستفيد منها أن يفي بما عليه من حقوق الله تعالى.

وبما أن الانسان كثير الجدل فقال سبحانه ﴿وَكَانَ الْأنْسَانُ أَكْثَرَ شَیءٍ جَدَلًا﴾(2)

وهو من كونه اكثر شيء جدلا كان خصما لله مبين فقال تعالى: ﴿أَوَلَم يَرَ الْأنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾(3).

وكون الانسان خصيما ومجادلا يكشف عن وجود حقوق بينه وبين الله وذلك أن الجدال يرجع الى وجود حق ضائع وكذلك الخصام والمخاصمة، فهو ناشئ من تضييع الخصم للحق الذي عليه.

ولذا: لزم ان يكون بين الطرفين رهينة، هذه الرهينة فرضها حفظ الحقوق كماعرفها الفقهاء فقالو: (وثيقة لدين المرتهن)، فكانت النِعَم الالهية التي قدمها الله تعالى لعباده هي بمنزلة الدين الذي يلزم العبد بإيفائه لربه، وبإرجاعه اليه، ووفاء

العبد يكون بحفظ هذه النِعَم وصونها وصيانة حرمتها فلا تنتهك ولا تضيع ولا يساء اليها، بل يعظَّم شأنها ومنزلتها.

وبناءاً عليه: لزم أن تكون هذه النعم رهينة عند العبد، وأنَّ الله عليه حق الإيفاء، فإن وفى العبد بالحقوق التي عليه الى الله كان نصيبه بالمقابل الزيادة، وإنْ قصَّر أو اعتدى كان مصيره العقاب، وأول العقوبات هي سلبه هذه النعمة وأخذها منه،

ودليله قوله (صلى الله عليه وآله):

ص: 81


1- سورة المائدة، الآية ( 107 ).
2- سورة الكهف، الآية ( 54 ).
3- سورة يس، الآية ( 77 ).

«كل مولود مرهون بعقيقته »

وفسرها العلامة المجلسي في البحار فقال:

(الظاهر أن المراد أنه ان لم يعق عنه، فلله الخيار في قبضه وتركه، كما أنه إذا لم يؤدِ الراهن الدين يجوز للمرتهن أخذ الرهن).

اذن: معنى قوله (صلوات الله عليه): «اخذت الرهينة »

يكشف عن أن هناك حقوق بين الله وهذه الامة وهما الطرفان اللذان بينهما الرهن، وأن فاطمة هي بمنزلة الوثيقة التي بها يتم حفظ الحقوق بين الله وهذه الامّة.

لكن ثمة سؤال اخر:اذا كانت فاطمة بمنزلة الوثيقة التي اتُّخِذَت بين الطرفين لحفظ دين المرتهن) فهذا يلزم ان يكون معنى قوله (عليه السلام) «اخذت الرهينة » أن هذه الامة لم تفي بما عليها من حق؛ ولذ لزم أخذ الرهينة وهذا ما سنتعرض له في المسألة القادمة.

المسألة الرابعة: دلالة أخذ الرهينة بقصدية عدم استيفاء الامة لحق الله

إنَّ أجلّ المعاني والدلالات في الرهن والرهينة هو استيفاء الحق، وأخذ الرهينة يدل على عدم الوفاء وضياع الحق.

فالراهن حينما يرهن مالا او منفعة مقابل شيئا اخذه من المرتهن فان هذا الشيء الذي يسمى رهينة يبقى امانة محبوسة حتى يقوم الراهن برد ما عليه من حق للمرتهن وحينما يقوم الراهن بتضييع ما عليه من حق المرتهن وعدم وفائه فان من حق المرتهن اخذ الرهينة لمدة اطول وتبقى محبوسة عنده ودوام حبسها، أي اخذها ويعني عدم الوفاء.

ص: 82

وهنا أراد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في مخاطبته لرسول الله (صلى الله عليه واله) بقوله «اخذت الرهينة » اظهار عدم وفاء الامّة بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه واله) بحق الله ورسوله وهو المعنى الثالث الذي يقارب قصدية منتج النص (عليه السلام) بعد أن كان المعنى الاول: الحبس، والثاني: الوثيقة، والثالث: هو عدم الوفاء، أو بمعنى أدق كما جاء في كتب الفقهاء: (استيفاء الحق) وبما أن الناس كلهم ملكٌ لله تعالى، فهو خالقهم فلا يكون في الأصل لهم حق على الله تعالى.

لكنه بلطفه وكرمه ورأفته وتحننه على عباده وهو الرؤف الرحيم، جعل لهم حقوقا عليه كهدايتهم لما يصلح شؤونهم في الدنيا، وينجيهم من الآخرة، و رزقهم وغيرهامن الأمور التي تستقيم بها منظومة الحياة.

وفي المقابل جعل عليهم حقوقا وواجبات وفروضا فأمر ونهى وهداهم النجدين فإما شاكراً وإما كفورا، وذلك ليحيي من حيا عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة.

ومن ثم: فالأصل أن كل شيء يعود اليه سبحانه، ومن ثم يصبح الكل لله (تعالى الرهينة) والمرتهن ومثاله في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّه اشْتَرى مِنَ الُمؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهمُ الَجنَّةَ﴾(1).

فهُنا الآية المباركة تتحدث عن عقد من العقود التي نصت عليها الشريعة وجرت بين الناس، فهناك طرفان بائع ومشتري، وثمن ومثمن؛ فالمشتري هو الله تعالى، والبائع المؤمنون، والثمن الجنة، والمثمن انفسهم واموالهم، وهي بهذا تكون معاملة صحيحة الشروط والأركان.

ص: 83


1- سورة التوبة، الآية ( 111 ).

ولكنها في الحقيقة كلها ملك لله تعالى، فالأنفس والأموال والمؤمنون والجنة ملك الله تعالى لكنه بلطفه وكرمه منح ووهب وأعطا وأجاز وأسترد وأفاض كرما وتفضلاً وهو العزيز الحكيم.

والحال نفسه يجري في عقد الرهينة الذي اظهره الامام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال: «اخذت الرهينة » فهوأراد أن يكشف عن مسألة مهمة ارتبطت بروح الرهينة، وهي استيفاء الحق وعدم وفاء الراهن لحق المرتهن، فأخذت منه

الرهينة، وانطباق هذا المعنى يكون في تضييع الامّة لحق الله ورسوله وحفظ عترته وذلك للدلائل الاتية، منها:

1- إن مناسبة كلام الإمام علي (عليه السلام) هي التظلّم والشكوى الى رسولالله (صلى الله عليه وآله) بما جرى على بضعته فاطمة وولداها وعليه من الظلم والجرائم، ومن ثم يكفي بهذا التظلم والشكوى الذي جاء بعد وقوع جريمة قتل

الى الزهراء (عليها السلام) دليلا على تضييع الامة لحق الله ورسوله (صلى الله عليه واله) وعدم وفائها للحقوق التي فرضها الله تعالى.

2- إنَّ الأصل الذي عليه الفقهاء هو أن (الرهن أمانة في يد المرتهن) وقد بلَّغ النبي (صلى الله عليه واله) وأعذر في بيانه للامة في حفظ أهل بيته وأمّنهم أمانة في عنق كل مسلم، ولذا: وردت النصوص الكثيرة في ذلك منها:

أ- ما اخرجه مسلم في صحيحه في حديث الثقلين، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): «أُذكّركم الله في أهل بيتي، أُذكّركم الله أهل بيتي، أُذكّركم الله أهل بيتي »(1).

ص: 84


1- باب: من فضائل علي (عليه السلام): ج 7 ص 123 .

ب- قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فأنظروني بِمَ تخلفوني فيهما » (1).

ج- قوله (صلى الله عليه آله): «فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2).

3- وصيتها للإمام علي (عليه السلام) بأن تدفن ليلا إذا نامت العيون وهجعت الأنفس، وأن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها، وأن يعفى موضع قبرها، لتجعل من ذلك دليلا قاطعا على مرور الأيام أن الامة والسلف ظلموها واشتركوا في

قتلها، وهضمها، وسلبها حقها، وهو حق الله ورسوله (صلى الله عليه واله) فتحقق بذاك عدم وفاء الامة لحق الله ورسوله (صلى الله عليه واله) المرتكز على أخذ الرهينة وتضييع الأمانة.

المسألة الخامسة: قصدية الملازمة بين الوديعة والرهينة والاسترجاع والأخذ

اشارة

إنَّ من التساؤلات التي رافقت هذا المبحث هو ايراد الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) للوديعة والرهينة في موضع واحد وكأنه يريد أن ينقل الى السامع قضية أساسية ومتلازمة بين الايداع والرهن، أو تحديداً بين الوديعة والرهينة وقد ثبت في قواعد الفقهاء أنَّ (الاحكام تتبع العناوين)، بمعنى: أنَّ الاحكام تختلف وتتغير بتغير العناوين.

لكن العجيب هنا أنّ الإمام (عليه السلام) وهو الشريعة التي جاء بها القرآن فهو ناطقه وترجمانه وبابه الذي حدده المصطفى (صلى الله عليه وآله) فجمع بذلك القرآن والسنة، أنّه جمع في هذه العين، أي فاطمة (عليها السلام) وأطلق عليها عنوانان، وهما (الوديعة والرهينة) ورتب لكل عنوان لوازمه الشرعية.

ص: 85


1- مسند احمد بن حنبل، من مسند ابي سعيد الخدري: ج 3 ص 17 .
2- سنن الترمذي، باب: مناقب اهل البيت (عليهم السلام): ص 329 .

ففي الوديعة أردفها بما يستوجبه العنوان من أحكام شرعية فقال: (استرجعت)، وفي (الرهينة) أردفها بما يستوجبه العنوان فقال: (أُخِذت) وهذا يرشد الى امور ثلاثة، الأول مرتبط بشخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، والثاني مرتبط بفاطمة

(عليها السلام)، والثالث بالأمة، وهي المقاربة الأخيرة في قصدية منتج النص في (الوديعة والرهينة)، فكانت هذه الامو هي ما يلي:

الأمر الأول: ما ارتبط بشخص علي (عليه السلام) وعنوان الوصاية

لا يخفى على أهل العلم والمعرفة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل الإمام علي (عليه السلام) وصيا فهذا يلزم أن تكون الودائع التي كانت عند النبي (صلى الله عليه وآله) تنتقل بعد وفاته الى وصيه، وقد مرّ خلال المبحث السابق بيان أن فاطمة (عليها السلام) وديعة الله ووديعة رسوله (صلى الله عليه واله). ولذا: انتقلت اليهكما جرى ذلك في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما خرج من مكة مهاجراً

فقد جعل عنده الودائع.

ومن ثم يلزم ارجاع هذه الودائع الى أصحابها، وهو الامر الذي كشفه (عليه السلام) بقوله (استرجعت الوديعة) فأرجع فاطمة الى صاحبها وهو رسول الله (صلى الله عليه واله).

اذن: يرشدنا النص الى بيان هذه الكينونية وما يترتب عليها من أحكام، اي (الوصاية).

الأمر الثاني: ما ارتبط بشخص فاطمة (عليها السلام)

إنَّ التلازم بين روح الوديعة وجوهرها، وبين الرهينة وجوهرها هو كون الاثنتان في الاصل (امانة)، فالوديعة هي (امانة) وكذلك الرهينة.

ص: 86

وهذا يكشف عن أنَّ فاطمة (عليها السلام) بالعنوانين هي فالأصل أمانة، وأن هذه الأمانة استرجعها صاحبها وأخذها.

الأمر الثالث: ما ارتبط بالأمة وعنوان الخيانة للحق

إنَّ كون فاطمة (عليها السلام) أمانة سواء بعنوان الوديعة أو الرهينة فهذا يقتضي أن تكون معها -أي مع عنوان الأمانة- طرفان أخلاقيان، وهما (الوفاء والخيانة).

فالاسترجاع يكشف عن فضيلة الوفاء للأمانة، والأخذ يكشف عن الخيانة للأمانة.

ولأن الحال الذي عليه الإمام (عليه السلام) وأهل بيته ومنطوقه وفعله في شكواه وتظلّمه، ودفنه فاطمة سراً واخفائه لقبرها لدليل قاطع على أن الامة خائنة لما أُؤتمنت عليه، فاُخِذت منها الرهينة.

ص: 87

ص: 88

المبحث السادس عشر: المقاصدية في اختلاسهم الزهراء (علیها السّلام)

اشارة

ص: 89

قوله (عليه السلام): «وأُخلْسِتَ الزَّهرْاَء،ُ فَماَ أَقْبحَ الخْضْراَء والغْبرْاَء »

اشارة

ص: 90

بقي من هذا الحقل المعرفي -أي: الفقه- عنوان أخير، على الرغم من أن النص الشريف لو أفرد له البحث في المسائل الفقهية بأبوابه العديدة لخرج الكتاب عن منهج البحث.

ولكن أوردنا هنا العناوين الفقهية الصريحة، وهي: الوديعة، والرهينة،والاختلاس فقط؛ ولذا: جعلناه -أي: (الاختلاس)- العنوان الأخير ضمن هذا الحقل المعرفي، والذي سنتناول فيه المسائل الاتية، وهي:

المسألة الاولى: معنى الاختلاس في اللغة والقرآن

أ - معنى الاختلاس في اللغة

قال الجوهري (المتوفى سنة 336 ه) في بيان معنى الاختلاس، هو: الاستلاب.

ثم بیَّن الفرق بين الاختلاس والاستلاب، فقال:

(قيل: المختلس: هو الذي يأخذ المال من غير الحرز، والمستلب: هو الذي يأخذ جهرا ويهرب مع كونه غير محارب )(1) ، والحرز: ما يتحرز به الانسان لحفظ ماله كوضع الاقفال وغيراها في حفظ المال.

وللفقهاء راي اخر وتفصيل ادق واوضح في بيان الفرق بين الاختلاس،والمختلس والاستلاب والمستلب، هو كما يرد في المسألة القادمة.

ص: 91


1- تاج العروس: ج 1 ص 149 .
ب - معنى الاختلاس في القران

جاء بمعنى الاختطاف، في قوله تعالى: ﴿إلِّا مَنْ خَطفِ الَخْطفْةَ فَأتَبعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾(1)، وهو وصف للشياطين المسترقة للسمع، وقوله ﴿فَتَخْطَفُهُ الطَّيُر أَوْ

تَهوِي بِهِ الرِّيحُ فِی مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾(2)، ﴿يَكَادُ الْبْرقُ يْخطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾(3) وقوله ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهمْ﴾(4).

قال الراغب الاصفهاني(5): خطف: الخطف والاختطاف: الاختلاس بالسرعة، يقال: خَطِف يَطِف، والخطّاف: الطائر الذي كأنه يخطف شيئا في طيرانه، ولما يخرج به الدلو كأنه يختطفه وجمعه خطاطيف؛

وباز مخطف يختطف ما يصيده.

والخطيف سرعة انجذاب السير.

المسألة الثانية: الاختلاس في كتب الفقهاء ومعناه وحكمه

اشارة

تناول الفقهاء موضوع الاختلاس والمختلس وبحثوا العلاقة بينه وبين السلب والاستلاب وما يترتب عليه من عقوبة وغير ذلك، فكان من اقوالهم ما يلي:

1- قال القاضي ابن البراج (رحمه الله)، (توفي سنة 481 ه) :

المختلس: فهو الذي يستلب الشيء من الطرق والشوارع ظاهراً، فإذا فعل شيئا من ذلك، وجب أن يعاقب عقوبة ترتدعه عن مثل ما فعله، وذلك يكون بحسب

ص: 92


1- سورة الصافات، الآية ( 10 ).
2- سورة الحج، الآية ( 31 ).
3- سورة البقرة، الآية ( 20 ).
4- سورة العنكبوت، الآية ( 67 ).
5- المفردات في غريب القرآن (ص 150 ).

ما يراه الإمام أصلح وأردع، ولا يجب عليه قطع في ذلك على وجه من الوجوه(1).

2-قال ابن حمزة الطوسي (رحمه الله)، (توفي سنة 560 ه) :

المختلس: من يستلب الشيء ظاهراً، فإن أظهر السلاح فهو محارب، وإن لم يظهر استحق العقوبة الرادعة دون القتل والقطع.(2)

3- قال السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله)، (توفي سنة 1414 ه) :

الاختلاس: هو الذي يأخذ بغير حق من غير حرز، والاستلاب ما يؤخذ جهرة ويهرب(3).

وقد ورد اللفظ في القاموس الفقهي بمزيد من البيان فجاء فيه:

خلس الشيء خلسا: استلبه في نهزة ومخاتلة.

الاختلاس: أخذ الشيء بسرعة.

وفي تفسير الفقهاء: هو أن يستغل صاحب المال فيخطفه.

وعند الشافعية: أخذ الشيء ظلما مجاهرة والهرب به، والمختلس: هو من يأخذ المال سلبا ومكابرة. وقيل: هو الذي يخطف الشيء من غير غلبة، ويهرب، ولو مع معاينة المالك له.

وعند المالكية: هو الذي يخطف المال بحضرة صاحبه في غفلته، ويذهب بسرعة جهرا (4).

ص:93


1- المذهب، ج 2 ص 554 .
2- الوسيلة، ص 423 .
3- مذهب الاحكام، ج 28 ص 60 .
4- القاموس الفقهي، ص 119 .94

أمّا حكم عقوبة المختلس فهي:

1- عند الامامية الاثني عشرية: يفرق الإمامية بين كون المختلس شاهرا لسلاحه أم أعزل حال قيامه بالاختلاس، فمع وجود السلاح عُدَّ محارباً ومع عدمه يعاقب بعقوبة يراها الإمام أصلح للمختلس في ردعه عن فعله، وليس عليه قطع اليد،واستعادة المال منه (1).

2-اما حكمه عند الحنفية والمالكية والشافعية: (القطع -أي: قطع يد المختلس- إذا اختلس في الوديعة والعارية)(2).

وهذه المعاني والدلالات والأحكام ترشد الى بيان حقيقة جديدة ارتبطت بظلامة فاطمة (صلوات الله عليها) فضلا عن بيان شأنيتها عند الله ومراحل تكوينها وبدء خلقها كما سيمر في المسائل القادمة.

المسألة الثالثة: القصدية في إيراده (علیه السّلام) مفردة «الزهراء » في عنوان الاختلاس وما يترتب عليه من حكم شرعي

اشارة

إنَّ الملفت للانتباه: أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يورد مفردة «الزهراء » وهي أحد أسماء بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) التسع كما ورد في الرواية عن الصادق

(عليه السلام )(3)، أي: لم يقل:

(اختلست البتول) أو (الصديقة) أو (فاطمة)، وإنما (الزهراء)، مما يرشد الى حقيقة

ص: 94


1- ينظر: المذهب لابن البراج، ج 2 ص 554 ؛ الموسوعة الفقهية للانصاري، ج 1 ص 363 .
2- جامع الخلاف لعلي بن محمد القمي، ص 591 .
3- قال (عليه السلام): «لفاطمة تسعة اسماء عند الله عزّ وجل، فاطمة، والصديقة، والمباركة والطاهرة، والزكية، والمرضية، والراضية، والمحدثة، والزهراء »، ينظر: الخصال للصدوق: ص 414 .

اُخرى من الحقائق التي ارتبطت بهذا الحدث، أي: استشهادها (عليها السلام) أو بشخصها وشأنيتها، وذلك من خلال دلالات هذا التمازج بين عنوان الاختلاس ومعناه، وبين معنى الزهراء، وهو كما يلي:

أولاً: إنَّ مصداق الاختلاس هو عين مال الزهراء الذي سلب منها

إنَّ المعنى العام وسياق النص الشريف ومناسبة الحدث وما يفرضه عنوان الاختلاس وأحكامه لدى الفقهاء يرشد الى ان هناك مالاً لفاطمة (عليها السلام) قد سلب جهراً، ظاهراً أمام الناس من جهة، وأمامها (عليها السلام) من جهة اخرى وهو ما كشف عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) من خلال هذا الحديث كما سيرد في البحث، وهو قوله: «فبعين الله تدفن ابنتك سراً، ويهضم حقها قهراً، ويمنع إرثها جهراً .»

أو من خلال تصريحه بذلك في مناسبات عديدة, منها في كتابة الذي كتبه الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف، فمما جاء فيه: «بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس اخرين، ونِعْم الحكم الله »(1).

وقيام أبو بكر بمصادرة أرض فاطمة (عليها السلام) وسلبها منها جهاراً قد أخرجه البخاري عن عائشة، أنها قالت:

(أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه واله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس

خيبر)، فقال أبو بكر:

ص: 95


1- نهج البلاغة، ج 3 ص 7، شرح محمد عبده.

إنَّ رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: «لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل ال محمد من هذا المال .»

واني والله لا اغير شيئا من صدقة رسول الله (صلى الله عليه واله) من حالها،ولأعملنَّ فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه واله).

فأبى ابو بكر ان يدفع الى فاطمة (عليها السلام) منها شيئا، فوجدت فاطمة على ابي بكر في ذلك فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه واله) ستة اشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي (عليه السلام) ليلا ولم يؤذن بها ابا بكر وصلى عليها علي (عليه السلام).

والحديث صريح في مصادرة ابي بكر لأرض فدك واموال رسول الله (صلى الله عليه واله)، في المدينة مما افاء الله تعالى عليه، وسهم خيبر من الخمس.

ويكفي في دلالة اختلاس أموال الزهراء (عليها السلام) أنها «أرسلت الى ابي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر .»

ومطالبتها بأموالها كان نتيجة لاختلاس ابي بكر لهذه الأموال وإلّ لما كان هناك سببا وداعيا يدعوها للمطالبة بهذه الأموال لو لم يقوم ابو بكر باختلاسها جهراً.

ولأنها مغلوب على أمرها لاسيما وانها ستواجه السلطة ونفوذها العسكري احتسبت أمرها الى الله تعالى، وماتت وهي غاضبة على ابي بكر واعوانه على الرغم من علمهم بحرمتها عند الله ورسوله (صلى الله عليه واله) الذي قال فيها: «يرضى الله لرضى فاطمة ويغضب لغضبها »(1).

ص: 96


1- الامالي للصدوق: ص 467 ؛ مناقب الإمام علي (عليه السلام) لأبن المغازلي الشافعي؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3 ص 154

وهذا هو المعنى الاول لإيراده (عليه السلام) لمفردة (الزهراء)، اما المعنى الثاني كما في ثانياً.

ثانياً: إنَّ مصداق الاختلاس هو عين شخص الزهراء الذي سلب منها الحياة فقتلت

إنَّ مما مر في معنى الاختلاس في كتب الفقهاء، فكان من جملة ما قالو: (خلس الشيء أو اختلسه، أي: استلبه في خفية أو اختطفه بسرعة عن غفلة).

ومما ورد في كتب اللغة: (أخذ الشيء بحضرة صاحبه جهرا مع الهرب به).

وهذا يكشف عن أن الزهراء اختطفت بسرعة بحضرة علي (عليه السلام)، فقد قتلت وهي في الثامنة عشر من عمرها فكان غيابها سريعا فأصبحت حياة أميرالمؤمنين (عليه السلام) بفقدها لا تزهر ولذا قال: «فما أقبح الخضراء والغبراء » وهو توصيف لحال الدنيا فقد أصبحت بعدها (عليها السلام) مظلمة لا نور فيها وذلك لأنها كانت تزهر لعلي في اليوم ثلاث مرات -كما نصت عليه الروايات الشريفة- ومنه كان أحد أسباب تسمتها بالزهراء (عليها السلام)، وهو كما سيمر في المسألة القادمة.

أما علاقة استخدام لفظ الزهراء مع عنوان الاختلاس وتمازجه فيرجع الى دلالته على الشيء المتلئلئ الثمين، مما يكشف عن الجانب النفسي لمن يقدم على الاختطاف،فقد زهر الشيء في نفسه وانجذب الى اختطافه.

ص: 97

المسألة الرابعة: قصدية تسميتها بالزهراء ومعناه وأثره في تماسك النص

اشارة

يعد هذا الاسم -أي: الزهراء- من أشهر أسمائها التسعة، حتى أصبح ملاصقاً لها فما إن قيل فاطمة حتى أُردِف بالزهراء (عليها السلام)؛ وقيل في فقه اللغة: إن الإنسان إذا كان أبيض بياضاً محموداً أدنى صفرة كلون القمر والدر فهو أزهر، وفي حديث أنس في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (كان أزهر ولم يكن أمهق أي شديد البياض)(1).

أما السبب وراء اتصافها وتسميتها بالزهراء، فقد وردت عن العترة النبوية بعض الأحاديث الكاشفة عن ذلك، وهي كالآتي:

أ- بنورها زهرت السماوات السبع والأرضون السبع

عن سلمان الفارسي قال: (كنت جالساً عند النبي المكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل العباس بن عبد المطلب فسلم، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه ورحب به فقال: يا رسول الله بم فضل علينا علي بن أبي طالب عليه السلام أهل البيت والمعادن واحدة؟ فقال له النبي المكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «إذاً أخبرك يا عم إن الله تبارك وتعالى خلقني وخلق عليا ولا سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا لوح ولا قلم.

ولما أراد الله تعالى بدو خلقنا فتكلم بكلمة فكانت نورا ثم تكلم بكلمة ثانية فكانت روحا فمزج فيما بينهما فاعتدلا فخلقني وعليا منهما.

ثم فتق من نوري نور العرش فأنا أجل من نور العرش.

ص: 98


1- فقه اللغة للثعالبي: ج 1، ص 14 .

ثم فتق من نور علي نور السماوات، فعلي أجل من نور السماوات.

ثم فتق من نور الحسن نور الشمس؛ ومن نور الحسين عليه السلام نور القمر فهما أجل من نور الشمس ومن نور القمر.

وكانت الملائكة تسبح الله وتقدسه وتقول في تسبيحها: سبوح قدوس من أنوار ما أكرمها على الله تعالى.

فلما أراد الله جل جلاله أن يبلو الملائكة أرسل عليهم سحابا من ظلمة فكانت الملائكة لا ينظر أولها من آخرها، ولا آخرها من أولها، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا منذ خلقنا ما رأينا مثل ما نحن فيه فنسألك بحق هذه الأنوار إلا ما كشفت عنا؟

فقال الله تبارك وتعالى: وعزّتي وجلالي لأفعلن.

فخلق نور فاطمة عليها السلام يومئذ كالقنديل وعلقه في قرط العرش فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع ومن أجل ذلك سميت فاطمة (الزهراء).

وكانت الملائكة تسبح الله وتقدسه فقال الله عزّ وجل: وعزتي وجلالي لأجعلن ثواب تسبيحكم وتقديسكم إلى يوم القيامة لمحبي هذه المرأة وأبيها وبعلها وبنيها »(1).

ب- إنَّ الله تعالى خلقها من نور عظمته

عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قلت له لم سمّيت فاطمة الزهراء (زهراء)؟ فقال: «لأن الله عزّ وجل خلقها من نور عظمته فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها وغشيت أبصار الملائكة وخرت الملائكة لله ساجدين وقالوا إلهنا وسيدنا ما

ص: 99


1- إرشاد القلوب للديلمي: ج 2، ص 403 .

لهذا النور فأوحى الله إليهم هذا نور من نوري أسكنته في سمائي خلقته من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري يهدون إلى حقّي وأجعلهم خلفائي في ارضي بعد انقضاء وحيي »(1).

ج- إنها تزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام)

عن أبان بن تغلب قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يا ابن رسول الله لم سمّيت الزهراء (عليها السلام) (زهراء)؟ فقال: «لأنها تزهر لأمير المؤمنين عليه السلام في النهار ثلاث مرات بالنور.

كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فرشهم فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك فيأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عما رأوا فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع من محرابها من وجهها فيعلمون أن الذي رأوه كان من نور فاطمة.

فإذا انتصف النهار وترتبت للصلاة زهر وجهها عليها السلام بالصفرة فتدخل الصفرة حجرات الناس فتصفر ثيابهم وألوانهم فيأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عما رأوا فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيرونها قائمة في

محرابها وقد زهر نور وجهها عليها السلام.

فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس احمر وجه فاطمة عليها السلام فأشرق وجهها بالحمرة فرحا وشكرا لله عز وجل فكان يدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمر حيطانهم فيعجبون من ذلك ويأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه

عن ذلك فيرسلهم إلى منزل فاطمة فيرونها جالسة تسبح الله وتمجده ونور وجهها

ص: 100


1- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 179 ؛ دلائل الإمامة: ص 54 .

يزهر بالحمرة فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة عليها السلام.

فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين عليه السلام فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام »(1).

ويستفاد من الحديث بعض الأمور، وهي:

1- لا شك أن السياق العام للحديث يقتضي وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدار كي يتمكن القادم إلى بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) من الاستئذان والدخول ولكونه من الأمور البديهية لدى حياة الناس فلم يتعرض الإمام لذكره

وبيانه في أثناء الحديث.

2-إن القادم إلى بيت علي (عليه السلام) لكي يدخل إلى بيت فاطمة (عليها السلام) ليرى ذلك النور إنما قدم بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذا: نجد من البديهي الذي عليه حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنها قائمة على الامتثال لأمره (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي: يكون أمر الدخول إلى بيت علي وفاطمة

(عليهما السلام) قد حصل بالملازمة لطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

3- لا شك أن خروج هذا النور ودخوله إلى بيوت القوم وبتلك الكيفية التي أشار إليها الإمام الصادق (عليه السلام) إنما كان الغرض منه إرشاديّاً كي يعلم الناس ما لفاطمة من الشأنية عند الله ومثاله مثال مريم ابنة عمران (عليها السلام)حينما اقتضت الضرورة والحكمة الإلهية في إظهار منزلتها للناس لغرض حفظ حرمتها وعدم التعرض لتلك الحدود الإلهية.

ص: 101


1- علل الشرايع: ج 1، ص 181- 182 .

4- كي يعلم الناس أن فاطمة (عليها السلام) هي المخصوصة بحمل نور الأئمة كما كانت مريم مخصوصة بنور النبوة، ولذا لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الإمام الحسين ذهب النور منها إلى ولدها الإمام الحسين (عليه السلام) وذلك أن الإمامة

في صلبه فعلم الناس حينها لما وجدوا أن هذا النور الزاهر قد انقطع من الظهور في بيوتهم عند ولادة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ أي إنه هو المخصوص بحمل هذا النور، نور الإمامة من بعده.

وهذا كله لغرض إلزام الحجة على الناس في البيان والتذكير والبشارة والوعد والوعيد في أن هذا البيت وأهله هم أهل بيت النبوة والإمامة والقرآن، أي الشريعة.

د- إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء

روى الصدوق عن محمد بن عمارة عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله عن فاطمة لم سمّيت زهراء؟، فقال:

«لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض »(1).

ه- لأنها زهرة المصطفى(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

ذكر المناوي أن السبب في تسميتها بالزهراء: «لأنها زهرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) »(2)..

من هنا: كان إيراده (عليه السلام) لهذا الاسم هو بيان الأثر الذي تسببه هؤلاء المجرمون بحق الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في اختطاف هذا النور الإلهي من

ص: 102


1- معاني الأخبار للصدوق: ص 64 .
2- إتحاف السائل للمناوي: ص 24 .

بيت النبوة فضلاً عن بيانه لتماسك النص حول هذه الحقوق التي استلبها هؤلاء،فكان التمحور حول بيان حقيقة الجناة وما جنوه يكمن في المفردات الثلاثة التي تتابعت في النص، وهي (الوديعة، والرهينة، والزهراء).

المسألة الخامسة: دلالة قوله (علیه السّلام) «فما أقبح الخضراء والغبراء . »

اشارة

أشار بعض الشراح للنص الشريف في بيان معنى قوله «فما اقبح الخضراء » الى أن المراد ب(الخضراء) السماء.

واستندوا في ذلك الى قول رسول الله (صلى الله عليه واله) في حق ابي ذر الغفاري: «ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من ابي ذر » (1).

وفي رثاء الزهراء يقول الشيخ ابراهيم المبارك (ت 1399 ه) في رثاء الزهراء (عليها السلام): (فما أفجع الخضراء إن غاب بدرها.. وما أكدر الغبراء إن جف منبت)(2).

أما دلالة قوله (عليه السلام) فقد جاء فيها، قولهم:

1-قال العلامة المجلسي (ت 1111 ه) :

(« فما أقبح »: صيغة التعجب، والخضراء (السماء) والغبراء (الأرض)، والفرض اظهار كمال الوحدة والحزن، وعظيم المصيبة وقبح أعمال المنافقين والظالمين والتشوق الى اللحاق بسيد المرسلين وسيدة نساء العالمين؛ والسرمد: الدائم)(3).

ص: 103


1- مسند أحمد: ج 5 ص 197 ؛ سنن الترمذي: ج ص 334 ؛ علل الشرايع للصدوق: ج 1 ص 176
2- موسوعة ادب المحنة للسيد محمد علي الحلو: ص 253 .
3- مرآة العقول: ج 5 ص 327 .
2- قال صالح المازندراني (ت 1081 ه) :

(من شأن العرب أنه إذا شاع الشر في أهل الأرض، وانتشر الجور فيهم واشتهر القبح منهم، وأرادوا المبالغة في ذمهم والاشعار بعموم قبائحهم نسبوا ذلك الى الزمان والمكان والسماء والارض لقصد التعميم والشمول في ذمهم وليس في قصدهم من ذلك ذم الأشياء، وأمثال ذلك كثيرة شائعة في كلام الفصحاء والبلغاء)(1).

وقد كشف الحدث الذي كان سببا لصدور هذا النص عن امير المؤمنين (عليه السلام)، أي: ما جرى على فاطمة منذ ان قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى هذه اللحظات التي وقف فيها أمير المؤمنين يخاطبه (صلى الله عليه وآله) ان الجميع مشترك بظلم بضعته واضطهادها وقتلها؛ ولذا: لم يشهد جنازتها ولم يؤذن بها غير ولداها،وسلمان المحمدي، وعمار بن ياسر، وابو ذر، والمقداد، وأن هؤلاء الاربعة لم يتمموا المسير في تشيعها الى مثواها حرصا منه (عليه الصلاة والسلام) على تنفيذ وصيتها: «وعفي موضع قبري .»

فكيف لا تكون الدنيا بسمائها وارضها قبيحة لا جمال فيها بعد فقد الزهراء ومواراتها الثراء؟ ف﴿إِنَّا لَّله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾(2).

ص: 104


1- شرح اصول الكافي: ج 7 ص 216 .
2- سورة البقرة، الآية (156 ).

المبحث السابع عشر:المقاصدية في سرمدية حزنه (علیه السّلام) وكاشفيته لحقيقة الحدث

اشارة

ص: 105

قوله (عليه السلام):«أَمَّا حزُنْيِ فَسرَمْدَ،وأَمَّا لَيلْيِ فَمسُهَّدٌ،لَا يبَرْحَ الحُزنْ منِ قَلْبِي »

اشارة

ص: 106

ينتقل منتج النص (عليه السلام) في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه واله) الى مقاصدية اخرى من مقاصدية هذا الخطاب، وذلك ببيان حقيقة جديدة ارتبطت -هنا في هذا الجزء من النص- ببيان حزنه على فراق فاطمة (عليها السلام) وكاشفية ذلك عن صبره ووجدانه وملازمته مع سيرة الانبياء والمرسلين (عليهم السلام) كما بينها القرآن الكريم؛ فيمهد للمتلقي الاجواء ويهيئه الى كشف حقيقة ما جرى على فاطمة (عليها السلام) في كونها لم تفارقه بعلة الموت وبظروف طبيعية وإنما قتلت دون أن يصرّح بأسماء الجناة؛ وهذا ما سنتناوله في هذا المبحث ضمن بعض المسائل، وهي كالاتي:

المسألة الاولى: الحزن، والسرمد، والسهاد، في اللغة

أولاً: الحُزْن في اللغة

الحَزَنُ: نقيض الفرح، وهو خلاف السرور(1).

وللعرب في الحزن لغتان، اذا فتحوا ثقلوا، واذا ضموا خففوا.

يقال: اصابه حزن شديد، وقال ابو عمرو: إذا جاء الحزن منصوبا فتحوه، واذا جاء مرفوعا او مكسورا ضموا الحاء كقول الله عز وجل: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحزْنِ﴾(2) ، أي: أنه في موضع خفض.

ص: 107


1- لسان العرب ج 13 ص 111 .
2- سورة يوسف، الآية ( 84 ).

وقال: تفيض من الدمع حزنا: اي انه في موضع النصب، وقال (بثي وحُزني الى الله، ضموا الحاء هنا).

وفرق قوم بين الهم و الحزن، وقال المناوي: الحزن، الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي، ويضاده الفرح.

وقال الراغب: الحزن خشونة في النفس لما يحصل في الغم(1)

ثانياً: السَرْمَد في اللغة

السرمد: دوام الزمان من ليل أو نهار(2)، وليل سرمد، اي طويل، ويستفاد من قوله تعالى:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّه عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْر اللَّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرونَ﴾(3).

هو دوام النهار وعدم انقطاعه الى يوم القيامة؛ يكشف هذا المعنى عن دوام حزنه (عليه السلام) وعدم انقطاعه الى وفاته.

ثالثاً: السُهَاد في اللغة

السُّهْدُ و السٌّهادُ: هو نقيض الرقاد، قال الأعشى:

أرِقْتُ وما هذا السُّهادُ المؤرقُ(4).

ص: 108


1- تاج العروس للزبيدي ج 18 ص 140 .
2- لسان العرب ج 3 ص 21 .
3- سورة القصص، الآية ( 72 ).
4- لسان العرب، ج 3 ص 224 .

وقال الجوهري: السُّهادُ الأرقُ(1).

والسُّهدُا بضم السين والهاء: القليل من النوم.

وسَهِدَ بكسر الهاء: لم ينم.

وفلان يسّهُدُ: أي لا يُترَك أن ينام(2).

والذي يستفاد من هذا المعنى:أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان أرِقاً يقظا طول ليله، وأن هذا الحزن الذي نزل به لا يتركه أن ينام، ولا شك أن حزنه إنما كان لأمر فظيع قد وقع، وهو جريمة قتل فاطمة الزهراء (عليها السلام).

المسألة الثانية: قصدية إيراده حال حزنه بالسرمد مع الفعل (يبرح)

اشارة

إنَّ النظر الى مفردات النص الشريف ترشد الى أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشكواه يريد أن يكشف الكثير من الحقائق المرتبطة به من جهة، ومن جهة اخرى بالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ومن جهة ثالثة بحقيقة الحدث، بل بجزئياته المتعددة والكثيرة، ومن هذه الجزئيات في هذه المفردات القليلة التي لم تتجاوز سوى بضعة اسطر، ومنها هنا في هذا الجزء من النص الشريف ما ارتبط به شخصيا من ألم، وما أرتبط بعلاقته القلبية والوجدانية بأم عياله فاطمة (عليها السلام) فضلاً عن تحفيز المتلقي الى التأمل وتحريك ذهنه في البحث وتقصي الحقائق فيما وقع في هذه الفترة الزمنية التي أعقبت استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجميع هذه الجزئيات سنتوقف عندها، فكانت كالاتي:

ص: 109


1- الصحاح للجوهري، ج 2 ص 492 .
2- لسان العرب لابن منظور، ج 3 ص 224 .
أولاً: ما ارتبط به شخصيا من آثار نفسية

لقد كان بالإمكان أن يكتفي منتج النص (عليه السلام) بقوله:

«أما حزني فسرمد » في كاشفية حزنه الدائم والثابت بدلالة معنى لفظ (السرمد) ومقتضى معناه فيقدم عندها صورة لهذا الاثر أي: الحزن في نفسه، ألّا أنه (عليه السلام) اردفه بالفعل (يبرح) لينقل السامع الى بيان حجم الحزن من جهة، آثاره على نفسه وقلبه من جهرة ثانية ليقدم بذاك صورة فريدة في آثارها النفسية فاقت ما أصاب كثير من الأنبياء من الظلم والمصائب التي نزلت بهم.

ومن ثم بيان لحجم صبره الذي كان يوازي حجم ايمانه وشأنيته عند الله تعالى وذلك لقوله (صلى الله عليه وآله) في حديث المنزلة(1)ومقتضاه في نزول البلاء واشتداده عليه، ولمقتضى قوله (صلى الله عليه واله):

«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت »(2).

وغيرها من الاحاديث الشريفة التي تقتضي أن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) أشد الناس بلاءً بعد سيد الانبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله)، أي: من اشتداد

البلاء هي مصيبة اقتحام بيت النبوة وحرقه وضرب بضعة الرسالة وقتلها (صلوات الله عليها).

وإلّا فمفردة (الحزن) قد تكفي لبيان خال الإنسان وأنّه متألم لوقوع مكروه عليه أو اصابته بأذى في ماله او ولده او نفسه، وأن هذا الألم والحزن قد يبقى لفترة محددة تختلف باختلاف الألم وأسبابه.

ص: 110


1- قال (صلى الله عليه واله) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي.
2- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 42 ؛ تفسير الرازي: ج 4 ص 175 .

لكننا هنا أمام ألم وحزن من نوع آخر، لم يتحدث القرآن عن شبيه له أو ما يقاربه،ولم يرد في سيرة الأنبياء نظيراً له، كما سيمر لاحقاً.

ولذا: أَورد (عليه السلام) في كاشفية هذا الحجم من الألم لفظ (السرمد) ولفظ (يبرح) والذي يدل على دوام هذا الحزن وانَّه متحرك في نفسه وغير جامد ولذلك أورده بصيغة المضارع.

ثانياً: ما ارتبط بعلاقته القلبية بأم عياله (علیها السّلام)

إنَّ أجمل ما يمكن معرفته من صفاء الرابط الروحي والقلبي بين الزوج والزوجة هي تلك العلاقة التي كانت بين الامام علي (عليه السلام) وفاطمة (صلوات الله عليها).

إذ اعتاد الناس بنحو عام أن يستمر بهم الحزن لفقد احبائهم، لاسيما فقد الزوج أو الزوجة الى فترة من الزمن قابلة للزوال ومتفاوتة في البطئ والسرعة بحسب ما يتجدد لدى الانسان من شريك حياتي.

لكننا هنا: نتحدث عن حالة فريدة في كاشفيتها عن تغلغل حب الزوجة في نفس الزوج وملازمة هذا الحب الى حد انقضاء العمر دون أن يطرأ عليه تغيير أو برود عاطفي.

بل: قد دلّت النصوص السيرية والتاريخية التي تناولت حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تجدد هذا الحب والعلاقة القلبية التي كانت تربطه بسيدة النساء فاطمة (عليها السلام) حتى مضى شهيدا الى لقاء ربه وأحبَّتِهِ فاطمة وأبيها (صلى الله عليه واله) على الرغم من تجدد الحياة الزوجية له (عليه السلام) فقد تزوج بعد فاطمة

ص: 111

(عليها السلام) لكن هذا التجدد الاسري والعاطفي لم يكن قادرا على اطفاء جمرة حزنه وآلامه لفقد فاطمة (عليها السلام).

ولذا، قال: «لا يبرح الحزن من قلبي .»

ولم يخضب لحيته بالسواد أو بغيره كي يذكر الناس جميعاً، الموالين له و لآل النبي (صلى الله عليه وآله) أم المخالفين أنَّ قلبه يتجمر، لا ينقضي حزنه، وأنَّم المسؤولون يوم القيامة عن هذ الآلام التي أنزلوها على قلبه، والتي فاقت حزن يعقوب على يوسف ولم ترقَ الى حجم ما نزل به من المصائب، وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: القصدية في نفي زوال الحزن وديموميته في بيان التفضيل بينه وبين نبي الله يعقوب (علیهما السّلام)

اشارة

ينقل لنا القران الكريم صورة عن الاثر النفسي الذي حل بنبي الله يعقوب (عليه السلام) عند فقده لولده يوسف، ويعرضه من جوانب انسانية مختلفة، فضلاً عن بيانه لشأنية يعقوب ومنزلته الإيمانية التي تتلازم مع البلاء، وذلك لقول الإمام

الصادق (عليه السلام): «انما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه »(1).

وقول الإمام ابي جعفر الباقر (عليه السلام): « إنَّ الله عزّ وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية »(2)

فأما الجوانب الانسانية التي يعرضها القرآن في حزن يعقوب هي كالاتي:

ص: 112


1- الكافي للكليني: ج 2 ص 254 .
2- الكافي للكليني: ج 2 ص 255 .

1-بيان العلاقة الابوية وحنو الأب على ولده على الرغم من أن يعقوب كان لديه اكثر من ولد، إلّا أن هذه الكثرة لم تكن لتخفف من هذه العاطفة اتجاه الأبناء.

2-تجلى هذا الحس الوجداني والانساني في بيان حجم تأثر الأب على فقدان ولده الصغير مما يعكس أن حجم هذا الألم كان من اسبابه صغر سن يوسف.

3-إنَّ دوام هذا الحزن والتأسف على فقد يوسف هو نوع من انواع التربية والتهذيب النفسي الذي اتَّبعه الأب في اصلاح شأن أبناءه الذين دفعتهم رذيلة الحسد الى التخلص من يوسف وزوال ما كان يتنعم به من عاطفة ابوية، كما في قوله

تعالى ﴿قَالُوا تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الَهالِكِينَ﴾(1)

فكان هذا التذكير بما فعلو وسيلة تأديبية.

4- يظهر القرآن كذلك آثار رؤية الابناء اتجاه بعضهم البعض فيما يرتبط الأمر بمصدر الحنان والرعاية -أي: الابوين-، أي أنَّ كل إمرءٍ يرغب في الاحتكار العاطفي الصادر من الوالدين، وأنَّ الابناء حريصون منذ الصغر على التملك والاحتكار العاطفي وكلفهم ذلك الى ممارسة سوء الخلق والفعل حفاظا على هذه العلاقة التي دافعها الانانية وحب الذات.

في المقابل يعرض القران شأنية يعقوب ومنزلته الايمانية من خلال هذا البلاء فكانت كالاتي:

أ- في صدد بيانه لحجم البلاء أفصح القرآن عن ذهاب بصر يعقوب (عليه السلام) من كثرة البكاء على ولده يوسف (عليه السلام) فقال عز وجل: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الُحزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾(2).

ص: 113


1- سورة يوسف، الآية ( 85 ).
2- سورة يوسف، الآية ( 84 ).

ب- في مقام ايمانه وبيان منزلته في حجم صبره، قال تعالى:﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْر جَميِلٌ عَسَى اللُّه أَنْ يَأْتيِنيِ بِهمِ جَميِعًا إنِّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الَحكِيم﴾(1).

وهذان الامران هما ما يتميز به الانبياء ويفاضل الله تعالى بينهم، وهي حقيقة قرآنية وسنة الهية تقتضي تهذيب النفوس وترسيخ المفاهيم العقدية في اذهان المؤمنين، فضلاً عن ارشادها التربوي والقيمي لبني الانسان، ولذا قال تعالى:

1-﴿تلِكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللُّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾(2).

2- وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَی بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾(3).

ومن ثم يندرج التفضيل فيما بينهم على حجم ما نزل بهم من البلاء والصبر عليه وعلى ما كلفوا به من تأدية الرسالة.

قال تعالى في مواساة رسوله الاكرم (صلى الله عليه وآله):

﴿فَاصْبِر كَمَ صَبَر أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾(4).

ومن ثم فأن دراسة ما نزل بأمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وما نزل بنبي الله يعقوب وبيان آثاره الوجدانية والايمانية ليكشف عن شأنية أمير المؤمنين عند الله تعالى ومنزلته لديه، وهي كالاتي:

ص: 114


1- سورة يوسف، الآية ( 83 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 253 ).
3- سورة الاسراء، الآية ( 55 ).
4- سورة الاحقاف، الآية ( 35 ).
أولاً: التفاضل بين اثار حزن علي (علیه السّلام) وآثار حزن يعقوب (علیه السّلام)

إنَّ اخضاع تلك الآثار الى الدراسة يرشد الى نتيجة مهمة تكشف عن أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك لما يلي:

1- إنَّ حجم الألم الذي نزل على قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) أعظم مما نزل على قلب نبي الله يعقوب (عليه السلام)، وذلك لأن يعقوب كان يدرك بأن ولده لم يقتل على ايدي اخوته وأنه على قيد الحياة، وذلك بالاستناد الى عدة من القرائن والدلائل التي اجتمعت لديه، منها:

2- قد بين القرآن الكريم أنَّ يعقوب (عليه السلام) ادرك أنهم غير صادقين فيما يدَّعون، فقال عز وجل: ﴿وَجَاءُوا عَلَی قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْر جَميلٌ

وَاللَّه الُمسْتَعَانُ عَلَی مَا تَصِفُونَ﴾(1).

فمقامه ومحله من النبوة يغنيه في معرفة نوع الدم الذي استخدمه ابنائه، ولذا قال عز وجل عن لسانه:

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾.

3- إنَّ اخوة يوسف انطلقوا من نفس النوع الذي تخوف منه ابيهم وهو (الذئب) ومن ثم فأن اعتمادهم على ايراد وحكاية ضياع يوسف قتلاً بأداة الذئب اوقعهم في دائرة التساؤل والشكوك، لاسيما وانهم قد نفوا لأبيهم امكانية حصول مثل هذه الحادثة وبواسطة الذئب فلو كان قد قال لهم -على سبيل الافتراض- أخاف ان يقع في البئر لقالوا له نفس قولهم، أي بمعنى افتراضي آخر -لأنه وقع في البئر ونحن عصبة-.

ص: 115


1- سورة يوسف، الآية ( 18 ).

ولذا:يرشد القرآن الى أنَّ اعتماده (عليه السلام) على ذكر الذئب كان نتيجة لمقدمة ما انبرت عليه نفوسهم من نية التخلص من يوسف طمعا في احتكار عاطفة أبيهم.

فجاءوا يسألونه عن سبب عدم ثقته بهم على يوسف فقالوا كما أخبر القران: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَل تَأْمَنَّا عَلَی يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾، أي لا نريد له الا الخير.

ومن ثم كان يعلم انهم يكذبون في مدعاهم بقتل الذئب ليوسف (عليه السلام) مما يقدم حقيقة حجم الحزن الذي اصابه وأنه محصور بحادثة ضياعه لا قتله، ولا شك أنَّ ذلك أخفُّ وطئه وحجما من حادثة قتله، وذلك أنه مقرون بأمل العودة اليه ولقائه.

فضلاً عن هبوط جبرائيل (عليه السلام) وأخباره بحال يوسف، إلّا أنه لا يؤذن له بالكشف عن محل وجوده لبيان صبره وايمانه.

في حين كان حزن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعظم أثراً وأشد ألماً وذلك لما يلي:

1- إنَّ فاطمة (عليها السلام) لم تغيب عن حياة علي (عليه السلام) بالخطف وانما بالقتل، وشتان بين من غاب عن العين وتصلك أخباره وبين من غيب في الثرى قتيلاً.

2- إنَّ حادثة قتل فاطمة كانت حقيقة ولم تكن بدم كذب، بل غطت بدمائها وقد كُسِر ضلعها وأُسقِط جنينها المحسن (عليه السلام).

3- إنَّ جريمة حرق الباب والهجوم على بيت النبوة وعصر البضعة النبوية بين الحائط والباب وما تبعه من أحداث، كان بمرأى من علي (عليه السلام) وبمحضره

ص: 116

ولا شك أنَّ ذلك لا يقاس بغيره من الحوادث التي تشهدها العين فتبقى صورة ما جرى راسخة في ذهن الرائي لا تفارق باله ولا تزول من قلبه، ولذا قال (عليه السلام):«لا يبرح الحزن من قلبي .»

بمعنى: إنَّه شاهد ما جرى على أُم عياله من القتل والمصائب وأنَّ تلك المشاهد تتجدد في الحضور والدوام والاستمرارية، وهو ما دعاه الى أن يورد لفظ (يبرح) على صيغة المضارعة في التفعيل مما حقق سرمدية هذا الحزن.

في حين كان يعقوب يقول لأبنائه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ

مِنْ رَوْحِ اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ﴾(1).

وذلك كاشف عن أمله بعودة يوسف اليه وأنه على قيد الحياة وفي حال جيدة، وشتان بين حال نبي الله يعقوب وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) مما يرجح من خلال الدراسة افضليته في حجم الابتلاء بالحزن وما ترتب عليه من آثار نفسية وقلبية.

ثانياً: التفاضل في حجم البلاء وآثاره في النفس وكاشفيته للصبر
اشارة

يدل ايراده (عليه السلام) للفظ (الكمد، والهم) على حجم صبره وعظيم ابتلائه (عليه السلام) وذلك لما يلي:

أ - الكمد في اللغة

الكمد: بالتحريك الحزن المكتوم، يقال: كمد الشيء يكمد من باب تعب فهو كمدٌ، وكميد.

ص: 117


1- سورة يوسف، الآية ( 87 ).

ومعناه: حزن دائم غير مفارق.

والكمدة: بالضم تغير اللون وذهاب صفائه، والحزن الشديد ومرض القلب(1).

ب - الهمّ في اللغة

ذكر ابن منظور: (الهم: الحزن، وجمعه هموم، وهمّه الأمر همّاً وأهمّه فاهتم واهتمَّ به ).

(واهمَّني الأمر، إذا اقلقك و حزنك، والاهتمام: الاغتمام، واهتمَّ له بأمره، وهمّهُ السقمُيهمّه همّاً اذابه وأذهَب لحمه)(2).

وقال الطبرسي (رحمه الله): الهم: هو الفكر الذي يغم، وجمعه هموم، واهمه الامر إذا عني به فحدَّث نفسه به.

والفرق بين الهمّ بالشيء والقصد اليه، أنه قد يهم بالشيء قبل أن يريده ويقصده بأن يحدث نفسه به وهو مع ذلك مقبل على فعله(3).

ويخلص مما تقدم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان حزنه مكتوم بقلبه وملازم له لا يزول عنه، وغير مفارق له، وحارق للقلب، يتقلب بسببه على جوانبه في الليل فلا نوم لديه؛ فليله مسهد وهو مع حاله هذه مشغول الفكر مهتما بما جرى على فاطمة من المصائب مهموما بها؛ وهذا يدل على أن صبره كان أعظم من صبر نبي الله يعقوب لقوله تعالى عن لسان ابنائه: ﴿قَالُوا تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الَهالِكِينَ﴾(4).

ص: 118


1- مجمع البحرين للطريحي، ج 3 ص 137 لسان العرب لابن منظور، ج 3 ص 212 .
2- لسان العرب، ج 12 ص 620 .
3- تفسير مجمع البيان، ج 3 ص 292 .
4- سورة يوسف، الآية ( 85 ).

بمعنى أنَّ يعقوب (عليه السلام) كان كثير الشكوى لما أصابه من حزن لفراق ولده يوسف (عليه السلام)؛ وبمعنى أدق: كان يظهر حزنه لأبنائه ولأسرته بدوام بكاءه وذكره ليوسف، في حين كان الامام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حزنه في قلبه مكتوم وهو ما عبر عنه بلفظ (الكمد)، فإذا جن عليه الليل لا يجد للنوم طعما.

ومما لا ريب فيه أنَّ كتمان الألم والحزن والهم في القلب وعدم اظهاره مع دوامه في القلب والنفس لأعظم أذىً وألماً على الانسان، مما يتطلب حجماً أكبر من الصبر والجلادة والتحمل وذلك (أنَّ الهم: حزن يذيب الانسان، فهو أخص من الحزن)(1).

وبهذا تكشف الدراسة عن أن صبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على قتل فاطمة (عليها السلام) اعظم من صبر يعقوب على فقد يوسف (عليهما السلام).

ثالثاً: أدب الأنبياء والأوصياء مع الله في شكواهم وكاشفيته العقدية

قد يتبادر الى ذهن بعض الناس أنَّ شكوى الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ناجم عن اتباع اهوانهم -والعياذ بالله- أو عدم ضبط القوى النفسية و غلبة العواطف على الاحكام فظهرت بهذا الشكل الذي عبر عنه القرآن في مواقع عدة،منها ما تعلق بحياة سيد الخلق (صلى الله عليه واله) أو منها ما كان متعلق بالأنبياء من قبله أو بأوصيائهم، كما هو حال أمير المؤمنين الامام علي (عليه السلام).

ففي قوله عز وجل وهو يواسي عن شأن حبيبه المصطفى (صلى الله عليه واله): ﴿فَلَا يَحزُنْكَ قَوْلُهمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِّرونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾(2).

ص: 119


1- تحفة الاحوذي للمار كفوري، ج 9 ص 320 .
2- سورة يس، الآية ( 76 ).

وقوله: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِی إِلَی اللَّه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(1).

خير بيان عن ادبهم (عليهم السلام) مع الله تعالى، وصلابة ايمانهم، وحسن هديهم وهدايتهم الناس لشريعة ربهم كي لا يخرجهم ما ينزل بهم من المصائب والآلام عن عقيدتهم وايمانهم بالله تعالى.

وفي ذلك يقول الطباطبائي في بيان معنى قول الله تعالى على لسان أولاد يعقوب وتذمرهم من شكواه المستمر على فقد ولده يوسف (عليهما السلام): ﴿قَالُوا تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الَهالِكِينَ ( 85 ) قَال َإِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِی إِلَی اللَّه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(2).

(يقول لبنيه: إنَّ مداومتي على ذكر يوسف شكاية من سوء حالي إلى الله ولست بائس من رحمة ربي أن يرجعه، أي: من حيث لا يحتسب، وذلك أن من أدب الأنبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم، ويوردوا عامة حركاتهم وسكناتهم في سبيله، فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطا مستقيما، قال: ﴿أولئك الذين هدى الله﴾(3)؛ وقال في خصوص يعقوب: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا﴾(4)، ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله، فقال تعالى:

﴿وَلَا تَتَّبِعِ الَهوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه﴾(5).

فالأنبياء وهم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتّة، فعواطفهم النفسانية

ص: 120


1- سورة يوسف، الآية ( 86 ).
2- سورة يوسف، الآية ( 85 - 86 ).
3- سورة الآنعام، الآية ( 90 ).
4- سورة الانعام، الآية ( 84 ).
5- سورة ص، الآية ( 26 ).

وأميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح ومأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله وسبيل نسيانه.

والأنبياء (عليهم السلام) إذ كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الامر إليه تعالى لا انهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقاً، فإن ذلك مما لا مطمع فيه، ولا أنهم يرون ذوات الأشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الانسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالاً، ويضع كل شيء موضعه الذي وضعه الله فيه.

وإذ كان حالهم (عليهم السلام) ما ذكرنا من تعلقهم بالله حق التعلق تمكن منهم هذا الأدب الإلهي ان يراقبوا مقام ربهم ويراعوا جانب ربوبيته فلا يقصدوا شيئا إلا الله، ولا يتركوا شيئا إلا لله، ولا يتعلقوا بسبب الا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه

وبعده، فهو غايتهم على كل حال.

فقوله (عليه السلام): «إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله » يريد به أن ذكري المستمر ليوسف وأسفي عليه ليس على حد ما يلغو أحدكم إذا اصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعا ولا ضرا بجهل منه، وانما ذلك شكوى مني إلى لله فيما دخلني من فقد يوسف، وليس ذلك مسألة مني في أمر لا يكون فإني اعلم من الله ما لا تعلمون)(1).

ص: 121


1- تفسير الميزان، ج 6 ص 275 .

من هنا:

نجد أنَّ شكوى أمير المؤمنين (عليه السلام) من الجانب العقدي تكشف عن التجائه الى محل نزول الفيض والروح الامين (عليه السلام) موضع رضا الله رب العالمين وغضبه وسخطه، وهو مقام حبيبه المصطفى المختار على العالمين (صلى الله عليه واله وسلم)، فهو محل الشكوى ومنه الى الله تعالى تعرج الملائكة بالأعمال واليه تنزل بالأمور ﴿تَنَزَّلُ الَملَائكِةُ وَالرُّوحُ فيِهَا بإِذِنِ رَبِّهمِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ وبين يديه

الأعمال معروضة، والأحوال مشهودة، والله خير الشاهدين.

لذا: قال (عليه السلام) «سرعان ما فرق بيننا فإلى الله اشكو .»

أي: حينما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يبث حزنه ويشكو المه وهمه ومصابه الى رسول الله (صلى الله عليه واله) فهو في الحقيقة إنما يشكو الى الله، ولذلك وقف

بين يديه مخاطبا واليه شاكيا قتل بضعته فاطمة (عليها السلام) مواظبا على شكواه باكيا بلواه الى ان يختار الله له داره الذي بها مقيم، (أو) يختار الله له داره الذي بها

مقيم، والفرق بينهما أي: بين قوله (الى أن يختار الله) (او يختار الله) يكشف عن حجم حزنه وبلائه بمصاب فاطمة (عليها السلام) كما سيمر في المبحث القادم.

ص: 122

المبحث الثامن عشر :المقاصدية في قوله «إلِى أَن يخَتَار اللَّه ليِ » وكاشفيته لعظم مصيبته وشأنيته عند الله تعالى

اشارة

ص: 123

قوله (عليه السلام) «إلِى أَن يخَتَار اللَّه ليِ داَركَ الَّتيِ أَنتْ بهِاَ مقُيِمٌ »

اشارة

ص: 124

اختلفت دلالة مقاصدية النص ومقاربته لما ابتغاه منتج النص (عليه السلام) تبعاً للألفاظ التي وردت في النص الشريف؛ فقد جاء بلفظين في هذا الجزء من خطابه (عليه الصلاة والسلام) مع رسول الله (صلى الله عليه واله) اللفظ الأول هو قوله: «الى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم .»

وقد ورد في نهج البلاغة وشروحه(1) ، والمناقب لابن شهر(2).

واللفظ الثاني هو قوله (عليه السلام):

«أو يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم .»

وقد ورد في أمالي المفيد(3) ، والكافي(4) ، ودلائل الامامة(5) .

ودلالة كل لفظ ترشد الى قصدية محددة وحقيقة جديدة، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: قصدية (إلى) و (أو) في البقاء بعد فاطمة (علیها السّلام)

أولاً: قصدية (إلى) ودلالتها في بقاء الحزن

يكشف قوله (عليه الصلاة والسلام): «الى أن يختار الله لي دارك التي انت بها مقيم .»

ص: 125


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، ص 320 .
2- المناقب لابن شهر اشوب، ج 3 ص 139 .
3- الاماني للمفيد، ص 282 .
4- الكافي، ج 1 ص 459 .
5- دلائل الامامة، ص 138 .

إنَّ هذا الهم الذي أصاب قلبه لا ينتهي من حياته، وهو دائم معه الى الوقت الذي ينتهي به عمره، فهو دائم بدوام بقائه في الحياة الدنيا مقرون مع هذا البقاء الذي هو بيد الله، فقد يبقى في الحياة الدنيا، بعد فقد الزهراء (عليها السلام) عام واحد، او مائة عام او اكثر من ذلك، فطول السنين او قصرها لا علاقة له بهذا الحزن.

أي بمعنى: إنّ عامل الوقت والزمن لا مدخليه له ولا أثر له في تغيير حاله (عليه السلام) فهذا الحزن دائم من جهة، ومتجدد من جهة اخرى والذي -كما مر بيانه- «لا يبرح » من قلبه، وهو بهذه الحالة أراد أن ينبه ذهن المتلقي الى أنه في حال مختلف غير ما جرت عليه عادة الناس في استعانتها بالوقت لتغيير حالها وأحزانها وهمومها بلحاظ ان الزمن لكفيل بإمحاء الآلام والهموم عن الانسان مهما كان مصابه عظيما

وفقده للأحبة عزيزاً وكبيراً؛ إلا علي بن ابي طالب (عليه السلام) فهمه لفقد الزهراء (عليها السلام) دائم وحزنه سرمد.

وعليه: تصبح الدلالة في هذه الحالة كاشفة عن الزمن وآثاره في تغيير الأحوال.

وأما في الحالة الثانية فالكاشفية والدلالة تختلف، وهي كما يلي في ثانياً.

ثانياً: دلالة قوله «أو يختار الله لي » وكاشفية «أو . »

يكشف هذا اللفظ بهذه الصيغة «أو يختار الله » لي عن حالة مغايرة للحالة السابقة،ففي الأولى كاشفيتها عن تعطيل عامل الزمن واثاره من جهة، وعن صلابة صبره وتحمله من جهة ثانية.

وفي هذه الحالة يكشف اللفظ عن تمني الموت مما يرشد الى حجم الأثر الذي أنزله مصاب الزهراء ومصيبتها على قلبه الى الحد الذي يتمنى فيه الموت.

ص: 126

وذلك أنّ الفظ لم ترد فيه اي دلالة للزمن، ولا يرغب بالبقاء بعد مصابه بقتل فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولأن أمر الحياة والموت بيد الله تعالى فقد فوض أمره الى الله في حياته أو مماته؛ فإن اختار له البقاء فحزنه وهمّه دائم، وإن اختار له

الموت ففيه فرجه.

وقد ارشدت النصوص عن تمنيه للموت وشوقه للالتحاق بدار الآخرة في موارد كثيرة، واشتهر عنه قوله (صلوات الله وسلامه عليه): «متى يبعث اشقاها فيغضب هذه من هذه »(1)

وقد أشار الى رأسه ولحيته؛ أي: تتغضب لحيته بدم رأسه.

وعليه: يكشف ايراده للفظ «او » الى حجم أثر هذه المصيبة على قلبه الذي افقده طعم الحياة والرغبة في البقاء، وهو ما صرّح به في هذا الخطاب مع رسول الله (صلى الله عليه واله) حينما قال: «قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وعفا وضعف عن سيدة نساء العالمين تجلدي .»

فهذه المصيبة اضعفت تجلده وقوة قلبه الذي قارع به صناديد العرب وشجعانها وفرسان الحرب ورجالها، يطحنهم طحن الرحى، ويذرهم كعصف مأكول، ألّا أنه هنا بفقد الزهراء يتمنى الرحيل الى الآخرة الى دار المصطفى (صلى الله عليه واله).

وهو مع هذا التمني والتفويض في أمره لله رب العالمين يحدد موضع نزوله في الاخرة موقناً وعارفاً أين سيكون، وهو أمر ينفرد به الامام علي (عليه السلام)، وهو ما سنتناوله فيما يلي.

ص: 127


1- مناقب الامام علي (عليه السلام): لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 2 ص 63 .

المسألة الثانية: قصدية الاختيار في قوله «يختار الله لي » بمعنى «التفويض »أو التعيين

اشارة

يرشد قوله (عليه الصلاة والسلام): «يختار الله لي دارك التي انت بها مقيم » الى معنيين، وهما: «التفويض » و «التعيين » وكلاهما يكشفان عن حقائق خاصة بشخصه (عليه السلام) وشأنيته عند الله تعالى وتقارب قصديته (عليه السلام) في انجاز العملية التواصلي مع المتلقي.

أ - الاختيار بمعنى: «التفويض . »

إنَّ الاختيار الالهي في هذا المعنى -اي: (التفويض) اليه عزّ وجل- يراد به ترك أمر الحياة والممات الى الله تعالى، ولا مدخلية للإنسان بهذا، فالأمر محصور بيد الله تعالى.

ومن ثم لا علاقة له ببيان حجم حزنه وهمه، فهذا الحزن باقٍ ببقائه في الحياة الدنيا، فهو لم يسأل الله كشف هذا الحزن وتفريج هذا، وانما يسأله عز وجل التفويض في البقاء أو الممات، ومن ثم يرشد المعنى الى بيان منزلة التسليم لقضاء الله تعالى وحكمه، كما نصت الآية المباركة: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَی اللَّه إِنَّ اللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(1).

ب - الاختيار بمعنى «التعيين . »

في هذا المعنى الذي يكون الاختيار فيه بقصد (التعيين) يكشف الامام علي (عليه السلام) عن تعيين مكانه في الاخرة بصورة القطع في معرفة هذا المكان الذي سيقيم

فيه، وهو دار رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 128


1- سورة غافر، الآية ( 44)

وهذه الرتبة من القطع في بيان مكانه في الآخرة هي خاصة بشخص الامام علي (عليهالسلام)، إذ يدرك الانسان موضعه المحدد بعينه كما هو حال الامام (عليه السلام).

نعم قد جاء القرآن الكريم والاحاديث النبوية ببيان مكان الشهداء والصديقين والأنبياء والصالحين بنحو العموم، وهي الجنة.

أما بنحو الخصوص فهذا خاص بعلي بن ابي طالب (عليه السلام) فمكانه ملازم لمكان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأين ماحلَّ رسول الله (صلی الله عليه واله) يحلّ معه الامام علي (عليه السلام)، سواء كان داره الذي فيه مقيم في جنة عدن التي خلقها الله لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله) كما روي عنه(1)، أَم كان في جنة الفردوس، أو غير ذلك مما لم يرد فيه نص على نحو التعيين، فدارُ علي (عليه السلام) هي دار رسول الله (صلى الله عليه وآله).

المسألة الرابعة: قصدية الإقامة في دار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) البرزخية أم الفردوسية

اشارة

ينتقل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) الى بيان حقيقة عقدية جديدة في هذا الجزء من خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وشكايته له بما نزل به من المصائب والبلاء بعد وفاته (صلى الله عليه واله وسلم).

وهنا: يظهر (عليه السلام) حقيقة عقدية مرتبطة بشأنية رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الله تعالى والمحل الذي لديه، فيظهر أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعد انقضاء مدته في عالم الشهادة والحياة الدنيوية قد انتقل الى داره في الجنة.

إلّا أنَّ السؤال المطروح: هل هو مقيم في داره في جنة البرزخ أم في جنة الفردوس التي يدخلها أهلها بعد انقضاء عمر الدنيا وقيام يوم الحساب؟!

ص: 129


1- وهو قوله (صلى الله عليه واله): من اراد ان يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن.

والإجابة على هذا التساؤل:إنَّ كلا الأمرين يعاضده مجموعة من النصوص التي ترشد الى قصديه تحققه، وهي كما يلي:

أ - ما يدل على أنها الدار البرزخية

إنَّ دار النبي (صلى الله عليه واله) التي بها مقيم هي الجنة البرزخية، وقد دلَّت عليها جملة من النصوص، منها:

1- قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الَجنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( 26 ) بمِا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِي مِنَ المكْرَمِينَ﴾(1)

2- قوله (صلى الله عليه واله): «إذا مات ابن آدم قامت قيامته .»

3-قوله (صلى الله عليه واله): «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة .»

ومن ثم فداره (صلى الله عليه واله) التي قصدها أمير المؤمنين (عليه السلام) هي الدار البرزخية؛ ومن ثم فمحل الامام علي (عليه السلام) بعد استشهاده في جنة البرزخ في دار رسول الله (صلى الله عليه واله) التي بها مقيم ومقامهما ودارهما واحد.

وهذه شأنية وحدانية ومنزلة فردانية لم يحض بها لا نبي مبعوث ولا رسول مصطفى أن يكون داره ومقامه مع سيد الخلق اجمعين (صلى الله عليه وآله).

ب - ما يدل على انها الدار الفردوسية

قد نصت كثير من النصوص الشريفة على أنهما لم يزالا منذ أن خلقهما الله تعالى في محل واحد، وأنَّ تنقلهما في العوالم لم يباعد بينهما (صلوات الله وسلامه عليهما)، فكان من هذه النصوص:

ص: 130


1- سورة يس، الآية ( 26 - 27 ).

1-قال (صلى الله عليه واله): «خلقت أنا وعلي من نور واحد .»(1).

2- وحياتهما في مكة والمدينة متلازمة وفي ذلك يقول امير المؤمنين (عليه السلام):«ولَقَدْ عَلِمَ الُمسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)- أَنِّی لَم أَرُدَّ عَلَی اللَّه ولَا عَلَی رَسُولِه سَاعَةً قَطُّ- ولَقَدْ وَاسَيْتُه بِنَفْسِی فِی الَموَاطِنِ- الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الأَبْطَالُ- وتَتَأَخَّرُ فِيهَا الأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللَّه بِهَا- ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله) وإِنَّ رَأْسَه لَعَلَی صَدْرِي- ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُه فِی كَفِّي فَأَمْرَرْتُها عَلَی وَجْهِي- ولَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه (صلى الله عليه وآله) والَملَائِكَةُ أَعْوَانِی- فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ- مَلأٌ يَهبِطُ ومَلأٌ يَعْرُجُ- ومَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ- يُصَلُّونَ عَلَيْه حَتَّى وَارَيْنَاه فِ ضَريحِه- فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِه مِنِّي حَيّاً ومَيِّتاً »(2).

3- في البرزخ مكانهما واحد وهو ما دل عليه قوله (عليه السلام): «دارك التي أنت بها مقيم .»

4- في الجنة الفردوسية كذلك لقوله (صلى الله عليه واله) لفاطمة (عليها السلام): «وانّی وايّاكِ وهما وهذا الراقد -وقد اشار الى علي (عليه السلام)- في مكان واحد في الجنة .»(3).

ج - قصدية الإقامة بمعنى الحياة

يدل قوله (عليه السلام) وخطابه لرسول الله (صلى الله عليه واله) -(بها مقيم)- على قصدية الحركة وليس الجمود الذي هو من لوازم الموت والسكون؛ ومن ثم لا ينسجم هذا المعنى مع القبر فلا يراد من مخاطبة صاحب القبر بالإقامة أي الحلول والجمود.

ص: 131


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 307 .
2- نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، خطبة 197 ، ص 311 .
3- الأمالي للطوسي: ص 594 ؛ مسند أحمد: ج 1 ص 101 .

بمعنى اخر:إنَّه (عليه السلام) أراد أن يدل على معنى آخر ينسجم مع شأنية رسول الله (صلى الله عليه واله) ومنزلته التي تقتضي حياة ما بعد عالم الدنيا وله مهام يقوم بها وهو ما أرشد اليه القرآن في جملة من الآيات التي بينت قصدية الإقامة.

1-قال تعالى في بيان دعوة إبراهيم (عليه السلام):

﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾(1).

2-وفي حال أهل الجنة قال سبحانه: ﴿يُبَشِّرهُمْ رَبُّهمْ بِرَحْمةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾(2).

3- وفي بيان حال اهل النار، قال تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخزِيهِ وَيَحلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(3).

وهذا يدل على الدوام والاستمرارية والتجديد في العمل، والتي تكون من لوازم الحركة ونفي الجمود والسكون، أي: من لوازم الحياة.

من هنا: مقتضى السلام على رسول الله (صلى الله عليه واله) في التشهد من الصلاة،والصلاة عليه في كل حال أن يسمع السلام ويرد الجواب فهذا في حاسة السمع، كما ورد في النص الشريف: (أشهد أنك تسمع كلامي وترد جوابي)(4).

ص: 132


1- سورة ابراهيم، الآية ( 40 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 21 ).
3- سورة هود، الآية ( 39 ).
4- رسائل الشريف المرتضى: ج 1 ص 407 ؛ متشابه القرآن لابن شهر آشوب: ج 1 ص 59 .

وأما في حاسة البصر والرؤية قال تعالى:﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالُمؤْمِنُونَ﴾(1).

وغيرها من الآيات التي ترشد الى قصدية الحياة وليس الموت الذي خص به رسول الله (صلى الله عليه واله)، وهو الدافع الذي كان -من الاصل- في مخاطبته والشكوى اليه والتظلم بين يديه لأخذ القصاص من الجناة والظالمين.

د - إنَّ ذهاب الحزن من لوازم الجنة التي بها النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) مقيم

إنَّ اختياره (صلوات الله وسلامه عليه) لمفردة «القيم » يرشد الى أن رسول الله (صلى الله عليه واله) هو الآن في الجنة الآخروية وليست جنة البرزخ، وذلك أنَّ الحزن من لوازم الحياة الدنيا، وأنَّ البرزخ مرحلة انتقالية كونه محلاً للعذاب والنعيم

لقوله (صلى الله عليه واله):

1-«اذا مات الميت قامت قيامته »(2).

2-«إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار .»(3).

إلّا أنَّ منتهى ذهاب الحزن يكون في الجنة الآخروية لانتهاء مراحل البرزخ والبعث والنشور والحساب والقيامة والميزان وتطاير الصحف والصراط وغيرها من أهوال الآخرة التي ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ب «مائة هول، أهونها الموت»(4).

ص: 133


1- سورة التوبة، الآية ( 105 ).
2- تخريج الاحاديث والآثار للزيلعي: ج 1 ص 436 .
3- سنن الترمذي: ج 4 ص 55 .
4- البحار للمجلسي: ج 84 ص 5.

وبناءاً عليه:

يبين القران هذه الحقيقة في اختصاص ذهاب الحزن بالجنة، فقال تعالى:﴿وَقَالُوا الَحمْدُ لَّله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الَحزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الُمقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾(1).

ولذا قال (عليه السلام): «لا يبرح الحزن من قلبي الى ان (أو) يختار الله لي دارك التي انت بها مقيم .»

المسألة الخامسة: قصدية سرعة التفريق بينه وبين فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

إنَّ من البداهة التي يفرضها النص الشريف أن الامام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه وسلم) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يتظلم بين يديه،

ويبث حزنه والامه بحضرته، ويكشف من خلال هذا التظلم حقيقة ما جرى عليه وعلى فاطمة (عليهما السلام)، كي لا يتعذر المتعذرون، ويدلسون المخالفون، ويكذب المنافقون في نفي حقيقة قتل البضعة النبوية فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها).

من هنا: جاءت الألفاظ في النص الشريف كاشفة عن هذه الحقيقة، وقاطعة للطريق الذي يحاول أن يسلكه البعض على مر السنين في نفي هذه الجريمة والرزية العظيمة.

من هنا: يستعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) مفردة خاصة تدل على حقيقة الحدث وترشد السائل اليها، وهي قوله (عليه السلام) -(فرّق بيننا)- فما دلالة اللفظ وكاشفيته

لجزيئات الحدث؟

ص: 134


1- سورة فاطر، الآية ( 34 - 35 ).
أولاً: معنى (فرّق) في اللغة

الفرق: خلاف الجمع، فرقه يفرقه فرقاً وفرّقة، وانفرق الشيء وتفرق وافترق.

والتفرّق والافتراق سواء، ومنهم من يجعل التفرّق للابدان، والافتراق في الكلام،يقال فرّقت بين الكلامين فافترقا، وفرّقت بين الرجلين فتفرقا(1).

وقال ابن فارسي في مقاييس اللغة: (فرّق): الفاء والراء والقاف أصيل صحيح يدل على تمييز وتزييل بين شيئين، من

ذلك الفرق، فرّق الشعر، يقال: فرّقته فرقا، والفرقان كتاب الله تعالى فرّق به بين الحق والباطل(2).

وعليه: يكون إيراده (عليه السلام) لهذا الفعل (فرَّق) هو لبيان أنّ الامر لم يكن بفعله (عليه السلام)، وإنما بفعل خارجي وهذا ما سنتناوله في ثانيا.

ثانياً: دلالة الفعل (فرّق) في كاشفية قتلها (علیها السّلام)

يرشد اللفظ المكون من دلالة (السرعة) و (التفرق) و (الشكوى) الى أنّ فاطمة (عليها السلام) لم تمت بظروف طبيعية، كأن يكون فراقها بسبب الموت بالمرض، أو الحزن على ابيها، أو ضعف بدنها وذهاب قواها، وذلك أنّ هذه الأسباب المتعددة هي خارجة عن دلالة (السرعة) و (الشكوى) اللتان اوردهما (عليه السلام) في كلامه.

ص: 135


1- لسان العرب، ج 10 ص 300 .
2- معجم مقاييس اللغة، ج 4 ص 495 .

فالمرض وبحسب النصوص التاريخية غير مطروح في سيرتها وحياتها وبيان حالها بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله)، بل نصت هذه الروايات على حزنها الشديد وبكائها المستمر على فقد ابيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلاً عن ذلك فأن هذه الاسباب المحتملة في وفاتها لا تتبعها شكوى الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام)، أفيعقل أن يتقدم الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) بشكواه الى الله

ورسوله (صلى الله عليه وآله) لأنّ فاطمة (عليها السلام) كانت مريضة؟

حاشا لله ما هذا شأن الوصي، ولا حال الولي وهو حجة الله على خلقه وأمينه في أرضه أن يشكو لله موت فاطمة بالمرض أو الحزن أو غيرها من الاسباب التي يقدرها الله تعالى ويبتلي العباد بها، وانما شكواه الى الله لأنها قتلت؛ فقد فرق الاعداء

بينها وبينه (عليهما السلام) وأسرعوا في الانقضاض عليها ضرباً وتلويعاً وتكسيراً وقتلاً، فماتت هي وجنينها المحسن (عليهما السلام).

فعلى هذا يشكو الامام علي (عليه السلام) الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما نزل به، وحاله في هذا الشأن والحدث الكاشف عن فعل الجناة حال نبي الله يعقوب

حينما جعل سبب بث حزنه وشكواه الى الله ما فعله ابنائه في التفريق بينه وبين ولده يوسف (عليهما السلام)، ثم أتبَعوا ذلك بفراق ولده بنيامين، وبالرجوع الى الآيات المباركة يتضح أنّ الأنبياء والأوصياء لا يشكون من الموت ولا المرض ولا غيره،

إنما يشكون ما ينزل بهم من الظلم وانتهاك حرمتهم، قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْر جَميِلٌ عَسَى اللُّه أَنْ يَأْتيِنيِ بِهمِ جَميِعًا إنِّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الَحكِيمُ ( 83 ) وَتَوَلَّی عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَی يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ

الُحزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ( 84 ) قَالُوا تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الَهالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِی إِلَی اللَّه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

ص: 136

ولذا:

نجده (عليه السلام) في تعميق هذه الحقيقة يردف شكواه ببيان يُظهر فيه ما فعلته الصحابة بفاطمة وبه، فيقول:«وستنبئك ابنتك بتظافر أُمتك عليَّ وعلى هضمها حقّها .»

فما هي قصديته في استخدام مفردة (النبأ) ولم يقل (ستخبرك)؟!!

وهذا ما سنتناوله في المبحث القادم.

ص: 137

ص: 138

المبحث التاسع عشر: القصدية في تنبيئ النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بتظافر أمتّه على هضم فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

ص: 139

قوله (عليه السلام): «وستَنبَّئُك ابنْتَك بتِضَافُرِ أُمَّتكِ علَيَّ وعلَى هضَمهِاَ حقَّها »

اشارة

ص: 140

لمعرفة مقاصدية منتج النص (عليه السلام) وما يرشد اليه النص الشريف في هذا الجزء منه فلا بد من الوقوف عند بعض المسائل ودراستها، ومنها لفظ (النبأ) وذلك انه (عليه السلام) قد استخدم مفردة (النبأ) دون استخدامه لمفردة (الخبر) ولا شك أن في ذلك دلالة وقصدية يريدها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي كالاتي:

المسألة الاولى: معنى النبأ لغة وما هو الفرق بينه وبين الخبر

أولاً: النبأ لغةً

قال الفراهيدي (ت 175 ه): النبأ، مهموز: الخبر، وان فلان نُبِّأ، أي: خبرا، والفعل: نبأته، وانبأته، واستنبأته، والجمع: الأنباء.والنبأة، والبغمة، والطغيمة، والعضرة، والنغية، بمعنى واحد والنبوة لولا ما جاء في الحديث لهمز والنبي (صلى الله عليه واله) ينبئ الأنباء عن الله عز وجل)(1) .

والنبوة والنباوة: ما ارتفع من الارض، فإن جعلت النبي مأخوذ منه، أي أنه شرِّف على سائر الخلق فأصله غير الهمزة، وهو فعيل بمعنى مفعول، وتصغيره نبي، والجمع انبياء) . (2).

ص: 141


1- العين للخليل، ج 3 ص 382
2- الصحاح للجوهري، ج 6 ص 2500 .

قال سيبويه: ليس أحد من العرب الا ويقول: تنبأ مسيلمة، بالهمزة، غير انهم تركوا الهمزة في النبي تركوها في الذرية والبرية والخابية، إلّا أهل مكة، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ويهمزون غيرها، ويخالفون العرب في ذلك.

قال: والهمزة في النبيء لغة رديئة، يعني لقلة استعمالها لا لان القياس يمنع من ذلك.

ألا ترى الى قول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قيل، يا نبيء الله فقال له: لا تنبر باسمي فإنما انا نبيُّ الله.

وفي رواية، فقال: «لست بنبيء الله ولكني نبيُّ الله .»

وذلك أنه (صلى الله عيه وآله) أنكر الهمزة في اسمه فرده على قائله لأنه لم يدر بما سماه، فأنشق ان يمسك على ذلك، وفيه شيء يتعلق بالشرح فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور أو حاضر مباح(1).

ثانياً: الفرق بين النبأ والخبر
اشارة

إلّا أن هذه المعاني للفظ (النبأ) لم توصل الى دلالة قوله (عليه السلام): «وستنبئك ابنتك »، بمعنى: لو كان معنى (النبأ): الخبر، لقال (عليه السلام) وستخبرك ابنتك، وهذا لا ينسجم مع منطوق الإمام علي (عليه السلام) الذي عرفه العرب بأنه سيد البلغاء.

ولذا: هناك فرق بين (النبأ) و (الخبر) وان الفرق بينهما يدل على معنيين:

ص: 142


1- لسان العرب لابن منظور، ج 1 ص 162 .
المعنى الاول: عدم العلم من قبل

إنَّ النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبر، ويجوز أن يكون المخبر بما يعلمه وبما لا يعلمه، ولهذا يقال: تخبرني عن نفسي، ولا يقال تنبئني عن نفسي، وكذلك تقول تخبرني عما عندي ولا تقول تنبئني عما عندي، وفي القرآن ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وإنما استهزءوا به لانهم لم يعلموا حقيقته ولو علموا ذلك لتوقوه يعني العذاب.

وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ﴾، وكان النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لم يكن يعرف شيئا منها، وقال علي بن عيسى: في النبأ معنى عظيم الشأن وكذلك أخذ منه صفة النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم.

قال أبو هلال (أيّده الله): ولهذا يقال: سيكون لفلان نبأ ولا يقال خبر بهذا المعنى؛وقال الزجاج في قوله تعالى ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، أنباؤه تأويله والمعنى سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم. قلنا وإنما يطلق عليه هذا لما فيه من عظم الشأن؛ قال أبو هلال: والانباء عن الشيء أيضا قد يكون بغير حمل النبأ عنه تقول هذا الامر ينبئ بكذا، ولا تقول يخبر بكذا لان الاخبار لا يكون إلا بحمل الخبر)(1).

وهذا هو الفرق الاول بين الخبر والنبأ.

المعنى الثاني: الشأن العظيم

فالنبأ: الخبر الذي له شأن عظيم، ومنه اشتقاق النبوة لان النبي مخبر عن الله تعالى ويدل على قوله تعالى: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾(2).

ص: 143


1- الفروق اللغوية، ص 539 .
2- سورة القصص، الآية ( 3).

وقوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الَخصْمِ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾(2).

فوصفه بالعظمة، وصف كاشف عن حقيقة.

وقال الراغب: النبأ: الخبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم او غلبة ظن. ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الاشياء، وحق الخبر الذي قال فيه نبأ لن يتعرى عن الكذب كالمتواتر،

وخبر الله عز وجل وخبر النبي (صلى الله عليه واله)(3).

وفي الواقع أنّ هذه الفروق ترشد الى أربعة دلالات، وهي: (اخبار المتلقي بأمور لا يعلمها، اخباره بأمور عظيمة، تحقق فائدة عظيمة، تعري الخبر عن الكذب) فهذه الفوارق مجتمعة في النبأ، وعليه:

فهذه الدلالات تكشف عن حقائق مهمة انضوت تحت قوله (عليه السلام): «وستنبك ابنتك »، وتقارب المتلقي من قصدية منتج النص (عليه السلام)، وهو ما سنتعرض له في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: قصدية تنبيئ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ودلالته العقدية والسيريّة

اشارة

اكتنز قوله (صلوات الله وسلامه عليه): «وستنبئك ابنتك » على أربعة دلالات ترشد الى حقائق مهمة ارتبطت بهذه الحادثة الاليمة، وهي كالاتي:

ص: 144


1- سورة ص، الآية ( 21 ).
2- سورة النبأ، الآية ( 1) و ( 2).
3- الفروق اللغوية، ص 530 .
الدلالة الاولى: اخبار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأمور لا يعلمها
اشارة

وهذه الدلالة مع أهميتها إلّ أنّا تحتاج الى بيان خاص وذلك أن شأنية سيد الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وما اظهره القرآن الكريم من شأنية علمه، كقوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(1).

قد لا يتقبلها الفكر مع اخبارها (عليها السلام) بأمور لا يعلمها رسول الله (صلى الله عليه واله)؟ وجواب ذلك:

أ - إنّه (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يعلم بجزء من الحدث أو عمومه

لقد دلت النصوص الشريفة التي أخرجها علماء المسلمين من الفريقين سواء على نحو التفصيل أو الايجاز أنه (صلى الله عليه وآله) كان يعلم بما يجري على بضعته الزهراء (عليها السلام)، فمنها ما أخرجه الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان):

«واني لما رأيتها ذكرت ما يضع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها، انتهكت حرمتها وغصب حقها ومنعت ارثها وكسر جنبها واسقط جنينها وهي تنادي يا محمداه فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية.....»(2) .

ص: 145


1- سورة النجم، الآية ( 5).
2- الامالي، ص 176 البخار للمجلي، ج 31 ص 620 - بشارة المصطفى لابي القاسم الطبري،ص 307 .

ومنها ما جاء بنحو الايجاز والذي اخرجه حفاظ المسلمين من المدارس الاسلامية، كقوله:

1- فاطمة بضعة مني فمن اغضبها أغضبني.

2- يؤلمني ما يؤلمها.

3- أنا حرب لمن حاربهم.

4- من آذاها فقد آذاني.

ومن ثم فهذه النصوص ترشد الى أنه (صلى الله عليه واله) كان يعلم بهذه الأحداث، وقد أخبره بها جبرائيل على نحو العموم لا على نحو الخصوص، والتفصيل لجزيئات الحدث وهو ما يتناسب مع بقية الأحاديث التي كانت تتحدث عن المستقبل كما في استشهاد الامام علي (عليه السلام)، وانه يُضرب على رأسه ويغضّب بدمه(1).

ومنها مما تعلق باستشهاد عمار بن ياسر(2)، ومما يصيب الأمّة من الشجرة الملعونة(3)

ص: 146


1- اخرج الموصلي في مستنده: ج 1 ص 377 ؛ والطبراني المعجم الكبير: ج 8 ص 38 ؛ الزيلعي في تخريجه للاحاديث: ج 1 ص 464 .قال علي (عليه السلام) قال لي رسول الله (صلى الله عليه واله)(: من اشقى الاولين؟ قلت: عاقر الناقة،قال: صدقت، فمن اشقى الاخرين؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله قال: الذي يضربك على هذه،واشار بيده الى يافوخه؛ وكان يقول: وددت انه قد انبعث اشقاكم مخضب هذه من هذه، يعني لحيته من دم رأسه.
2- وهو قوله (صلى الله عليه واله)(: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية): صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، ج 3 ص 207 .
3- اخرج ابن مردوية عن عائشة انها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله يقول لابيك وجدك (انكم الشجرة الملعونة في القرآن) ينظر: مناقب علي بن ابي طالب لابن مردوية، ص 164 ،

بني امية وبني العاص(1)، او أخباره باستشهاد الامام الحسين (عليه السلام)(2)، او

حال أصحابه يوم القيامة(3).

فهذه الأحاديث وغيرها كلها على كيفية واحدة وهي أخباره (صلى الله عليه واله) بوقوع الحدث، أما جزيئاته فغالبا لم يكشفها النبي (صلى الله عليه واله).

وهذا لا يتقاطع من الناحية العقدية مع كونه ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ وانه عالم بهذه الاحداث على نحو العموم او بعض الجزيئات والشؤون الخاصة بحسب ما يراه (صلى الله عليه واله) مناسباً.

ب - إنّه حُجب عنه تفاصيل الحدث رأفةً به

أما الناحية الثانية فأنه (صلى الله عليه واله) قد حُجب عنه تفاصيل الحدث الذي وقع في بيت فاطمة (عليها السلام) وما جرى عليها من المصائب لعلة مهمة، وهي رأفةً به، فهو لا يتحمل ما ينزل ببضعته والتي اخذت منه منزلة الروح والقلب كما صرح بذلك فقال: «فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي .»(4)

ص: 147


1- وجاء في تفسير قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الَملْعُونَةَ فِی الْقُرْآَنِ﴾ ينظر تفسير القرطبي، ج 10 ص 283 ؛ تفسير الرازي، ج 20 ص 236 .
2- مسند احمد، ج 6 ص 294 (حديث بعض ازواج النبي (صلى الله عليه واله)؛ مستدرك الحاكم على الصحيحين، ج 4 ص 398 ؛ منتخب مسند عبد بن حميد، ص 443 .
3- اخرجه البخاري في صحيح عنه (صلى الله عليه واله): (... وان اناسا من اصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول اصحابي أصحابي!! فيقال: انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فاقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) ينظر كتاب بدء الخلق، ج 4 ص 110 .
4- كتاب الغدير للشيخ الاميني: ج 7 ص 235 .

ولذا فقد حَجَب عنه جبرائيل جزيئات مصيبة قتل فاطمة وتفاصيلها الدقيقة،وما جرى عليها من الأمّة من بعده حتى لحقت به، مما تطلب اخباره بما لا يعلم من هذه التفاصيل، وهو ما ستُنبئُه به فاطمة (عليها السلام).

الدلالة الثانية: إنّها ستخبره (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأمور عظيمة

إنّ من الدلائل التي يرشد اليها لفظ (النبأ) انها ستخبره بأمور عظيمة وقعت عليها بعد وفاته (صلى الله عليه واله).

وهذه الامور منها ما كشف عنها الامام امير المؤمنين (عليه السلام) من خلال هذا النص؛ وهي في امرين:

أ- «تضافر امتك عليَّ وعليها » وفيه بيان خاص سيرد إن شاء الله.

ب- «هضمها » وفيه أيضاً بيان خاص سيرد في المبحث القادم.

وهذان الأمران ستخبر فاطمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهما مع امور عظيمة اخرى لم يرد ذكرها في هذا النص الشريف، ولذلك يطلب (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه واله) أن «يستخبرها » الحال و «يحفّها السؤال .»

والسبب في ذلك أنّا (صلوات الله عليها) وقعت عليها من المصائب والآلام ما لم تكشفها لأحد حتى لعلي (عليه السلام) وهو ما صرّح عنه الامام علي (عليه السلام) قائلاً:

«فكم من غليل مقبلح بصدرها لم تجد الى بثهِ سبيلا .»

وهذه الأمور كلها عظيمة وداخلة ضمن دلالات قوله (عليها السلام): «وستنبئك ابنتك »، ومنها الدلالة الاتية:

ص: 148

الدلالة الثالثة: تحقق فائدة عظيمة من الخبر
اشارة

وهذه الدلالة التي اكتنزها لفظ «ستنبئك » يمكن الوقوف عندها من خلال أمورثلاثة، أي تحقق فوائد عظيمة ثلاثة، وهي:

الفائدة الاولى: بيان حال الامة وبعض الصحابة بشكل خاص

إنّ أعظم كاشف عن حال الأمّة لجميع المسلمين سواء من شهدوا الحدث ومصيبة قتل الزهراء ورزية اقتحام دارها وحرقه، أو سواء من لم يشهدوا ذلك من الأجيال المتعاقبة.

فإن اعظم كاشف عن حال الأمّة آنذاك وحال بعض الصحابة لاسيما تلك الرموز التي تولت الجلوس في مجلس رسول الله (صلى الله عليه واله) لقيادة الامة وهم الخلفاء الثلاثة وغيرهم ممن التف بهم وشايعهم وناصرهم واعانهم على هذه الرزية؛

إنّ خير كاشف لكل ذلك هو حال فاطمة وما جرى عليها، ومن ثم فقد حددت هذه الحادثة مسار الحق وأهله والباطل وأهله، أي: مسار رضا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وغضب الله ورسوله (صلى الله عليه واله)؛ لاسيما وأنّ هذه الحالة لو أُرجعت الى القرآن الكريم والسنة في بيان حال من عصى الله ورسوله(1)، واغضبهما(2)،

واذاهما(3) سيخرج بفائدة عظيمة يدرك من خلالها وبيقين قاطع اين سيضع قدمه،وما هو مساره، ومن أين يأخذه دينه الذي سيقبل به على الله تعالى يوم القيامة.

ص: 149


1- قال تعالى ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِيٌن﴾؛سورة النساء، الآية ( 14 ).
2- قال عز وجل ﴿أَلْم تَرَ إلِی الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللُّه عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيْحلفِونَ عَلی َالْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾؛ سورة المجادلة، الآية ( 14 ).
3- قال عز وجل ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه فِی الدُّنْيَا وَالَأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾؛سورة الاحزاب، الآية ( 57 ).

وذلك أنّ الخلق جميعا مسئولون وهو قوله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهمْ مَسْئُولُونَ﴾(1).

الفائدة الثانية: الشهودية يوم القيامة

ومن الفوائد التي اختص بها النبأ الذي ستقوله فاطمة لرسول الله (صلى الله عليه واله) وهو شهوديتها على الأمّة يوم القيامة، لاسيما وأنّا صاحبة الظلامة الأعظم التي تشاطرت فيها مع علي و ولديها (صلوات الله وسلامه عليهم).

ولذا: قال (عليه السلام): «وستقول ويحكم الله والله خير الحاكمين »، كما سيمر بيانه مفصلاً إن شاء الله تعالى.

الفائدة الثالثة: حجم صبرها المقرون برتبتها الايمانية

لاشك أن حجم الايمان ورتبته لدى الأنبياء والمرسلين والأولياء (عليهم السلام) مقرون بحجم الصبر على البلاء والمصائب، فكلما علا الايمان رتبة علا معه البلاء والاذى، لغرض كاشفية الصبر الذي هو من الايمان منزلة الرأس من الجسد كما

قال امير المؤمنين (عليه السلام): «وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الايمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا

رأس معه، ولا في ايمان لا صبر معه »(2)

ص: 150


1- سورة الصافات، الآية ( 24 ).
2- نهج البلاغة، من وصية له بخمسة اشياء: ج 4 ص 18 بشرح الشيخ محمد عبدة.

ومنه قوله (صلى الله عليه واله): «ما اوذي نبي مثل ما اوذيت »(1).

وقولها (عليها الصلاة والسلام): صبت علي مصائب لو انها صبت على الايام صرن لياليا(2).

ومن ثم فإن النبأ الذي ستقوله الزهراء (عليها السلام) يحمل هذه الفوائد وغيرها.

الدلالة الرابعة: تعري الخبر عن الكذب

أمّا الدلالة الأخيرة التي يكشف عنها لفظ (النبأ) ويمتاز به عن لفظ (الخبر) وهو أنّ النبأ يكون متعرياً عن الكذب، فهو صادق لا يشوبه اي كذب، بعكس الخبر فهو يحتمل الصدق والكذب معاً.

أما النبأ فيكون كالمتواتر الذي عرفه الناس بأنه صدق، ولكن هنا أراد الامام أمير المؤمنين أن يقدم للمتلقي دلالة اخرى، وذلك أنّ بضعة المصطفى (صلى الله عليه واله) هي صادقة في الاصل.

بمعنى: إنّ شأنها وما خصها الله به من العصمة لا يقتضي إلّ الصدق، فهي الصديقة الكبرى، ومن ثم فكل ما تقوله هو الصدق بعينه سواء ما تعلق بحالها ومصابها أو سواء ما تعلق بعموم حديثها (صلوات الله عليها).

ولذلك: فقد أراد الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع هذه المسلَّمات ايصال معنى آخر ودلالة ثانية، وهي ما احيط بنفس الحدث الذي نزل ببضعة المصطفى (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ).

ص: 151


1- المناقب لابن شهر: ج 3 ص 42 .
2- البحار للمجلسي: ج 79 ص 106 .

بمعنى:إنَّ التكذيب يكون في الأمّة منذ وقوع ما نزل برزية عصرها بين الباب والحائط وقتل جنينها المحسن (عليه السلام) وحرق دارها والى يومنا هذا، بل وسيستمر تكذيب الأمّة بما وقع على الزهراء من مصائب على أيدي أصحاب السقيفة.

وإنّ هذا التكذيب للحدث جملة وتفصيلا لم يقتصر على أشياع الشيخين ابي بكر وعمر، وانما يتعداه الى المتشيعة، فكم من متشيع يتبجح بنكران المصيبة وما وقع على بضعة المصطفى (صلى الله عليه واله) بغض النظر عن مستوى هذا المتشيع في المجتمع خطيبا كان أم باحثا، أم طالباً للعلم، أم من العامة.

ولذا: يرشد النص الى قصدية الامام علي (عليه السلام) من خلال استخدامه للفظ (النبأ) فقال لرسول الله (صلى الله عليه واله): «وستنبئك ابنتك » ولم يقل له «ستخبرك ابنتك » أنّ هذا الذي ستقوله فاطمة (عليها السلام) وهي الصادقة الصدّيقة قد كذّبته وستكذّبه الأمّة.

لكن الشاهد على ما ستقول من أنباء هو الله تعالى، وهو خير الشاهدين، ولفاطمة (عليها السلام) في ذلك أسوة بحال رسول الله (صلى الله عليه واله) فقد كذبه قومه وهو الصادق الامين، وشهد الله له بالصدق و علي بن ابي طالب (عليه السلام).

قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلً قُلْ كَفَى بِاللَّه شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(1)، وهو الامام علي (عليه السلام).

ص: 152


1- سورة الرعد، الآية ( 43 ).

فسلام من الله وصلوات على المظلومة المهضومة المتضافر عليها بالأذى والهضممن أمة ابيها (صلى الله عليه وآله).

وهذا ما سنتناوله إن شاء الله في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: قصدية تضافر الأمة على علي وفاطمة (علیها السّلام)

اشارة

إنّ المعاني التي احتواها لفظ «الضفر » تكشف عن قصدية منتج النص وتظهر مكنون ما أراد بيانه سيد البلغاء والمتكلمين من خلال التمازج بين هذه المعاني في لفظ (الضفر) وبين المعاني في لفظ (النبأ) وتكامل البنية المفاهمية في كشف

مجريات الحدث.

ولا شك أنّ حجم هذه الجريمة وتخلي الناس عن علي (عليه السلام) وتحزبهم لأرباب السقيفة والسلطة التي ضربت بالسيف والنار، وتكليفه الشرعي بحفظ الاسلام وحفظ أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما

السلام)، وغير ذلك من الموانع التي أجبرته على اتخاذ جملة من المواقف للتعامل مع الواقع الجديد مع عدم التخلي عن بيان ما وقع من ظلم والجور على بضعة المصطفى (صلى الله عليه واله) كل ذلك جعله يختار من الألفاظ في خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه واله) وتظلمه له ما يحقق كشف الجريمة والمجرمين دون ان يصرح بالأسماء أو يخوض في التفاصيل.

ومن ثم فقد قطع الطريق على المنافقين والمتخاذلين المداهنين وانصاف المثقفين أو المتفيهقين في نفي الحدث، أو تبسيطه أو إعذار المجرمين.

ص: 153

وعليه:

نجده (عليه الصلاة والسلام) أردف مفردة (النبأ) ودلالتها الكاشفة عن: (عظمة قولها (عليها السلام) الذي ستقوله لأبيها (صلى الله عليه واله)، والذي لم يكن يعلمه من قبل، وتحقيق فائدة عظمية من هذا القول الذي لا يقبل الشك او

الظن او الكذب)، فكان قولها بمقتضى دلالة (النبأ) الذي يتلقاه رسول الله (صلى الله عليه واله) وقد أردفه منتج النص (عليه السلام) بمفردة مكملة لهذه المنظومة المفاهيمية التي أراد أن يقدمها للمسلمين الذين يسمعون حديثة مع رسول الله

(صلى الله عليه واله).

فبيّن أنّ هذا النبأ بدلالاته الجامعة ومصاديقه يرشد السامع -وإن لم يكن من أهل البحث والخوض في مكنونات معاني اللفظ ودلالاته- الى أنّ جميع المسلمين الذين أدركوا فاطمة هم مشتركون بهضمها وايذائها؛ وهذا بحد ذاته يحقق جانبا مهما من البيان في كشف الجريمة والمجرمون الظالمون لبضعة النبوة (عليها السلام).

أما ما اكتنزه لفظ (الضفر) أو (التضافر) من دلالات ومعاني لحقيقة ما حدث فهي كالاتي:

أولاً: معنى (الضفر) لغةً
1- قال الجوهري (توفي سنة 393 ه) :

الضفر: نسج الشعر وغيره عريضاً، ويقال: انضفر الحبلان اذا التويا معا وتضافروا على الشيء تعاونوا عليه(1).

ص: 154


1- الصحاح: ج 2 ص 722 .
2- قال ابن فارس (توفي سنة 395 ه) :

(ضفر): الضاد والفاء والراء أصل صحيح وهو ضم الشيء الى الشيء نسجاً أو غيره عريضاً، ومن الباب ضفائر الشعر وهي كل شعر ضفر حتى يصير ذؤابة.

ومن الباب، قولهم: تضافروا عليه، اي: تعاونوا.

واصله عندي: من ضافر الشعر وهو أن يتقاربوا حتى كأن كل واحد منهم قد شدضفيرته بضفيرة الاخر، وهذا قياس حسن في المساعدة والمظاهرة وغيرهما.

ويقال اكنانة ممتلئة، وأصلها من تضافر ما فيها من السهام، وهو تجمعها (1).

3- قال ابن سيدة (توفي سنة 458 ه) :

(الضفرة كالعقدة وجمعها ضفر، والضفيرة قطعة بين الحبلين تنقاد وتنبت الشجر وهو الضفر)(2).

4- قال ابن منظور (توفي سنة 711 ه) :

الضفر: نسج الشعر وغيره، والضفر الفتل، وانضفر الحبلان اذا التويا، يقال: تضافر القوم على فلان وتضافروا عليه وتظاهروا، كله بمعنى واحد اذا تعاونوا وتجمعوا عله وتألبوا وتصابروا(3).

5-قال ابن الاثير نقلا عن الزمخشري :

المضافرة: هي عندي مفاعلة، اي المعاودة والملابسة، والمعاونة كما في حديث علي (عليه السلام):

ص: 155


1- معجم مقاييس اللغة: ج 3 ص 66 .
2- المخصص، ج 3 ص 135 .
3- لسان العرب، ج 3 ص 489 .

«مضافرة القوم » اي معاونتهم(1).

وهذه المعاني ترشد الى دلالات تبين حقيقة ما حدث وهو ما سنتناوله في ثانيا.

ثانياً: قصدية تضافر الامة على علي (علیه السّلام) وبها تتضح مصاديق اللفظ ودلالته
اشارة

عند الرجوع الى معاني لفظ (الضفر) في اللغة وتحديد هذه المعاني ودلالاتها نجد انها ترشد الى جملة من المصاديق في وقوع الحدث ومجرياته من الإعداد له، والاشتراك فيه وتنفيذه، وما نتج عنه من آثار على العترة النبوية بشكل خاص،

وعلى الاسلام بشكل عام، وهذه المعاني في اللفظ ودلالتها تخص الامام علي (عليهماالسلام) وفاطمة في مصير واحد.

ولذا قال (عليه الصلاة والسلام): مخبرا عن هذا التضافر الذي حدث من الامّة بقوله: «عليَّ وعلى هضمها حقها .»

فكان الحال واحد في تلقي هذه الاشارة من وقوع التضافر وظهور مصاديقه، وهي على النحو الاتي:

أ - اتحاد أقطاب الناس ورموزهم

إنَّ المصداق الأول الذي يتلازم مع دلالة الضفر ومعناه الذي جاء به الجوهري في الصحاح ب (انضفر الحبلان اذا التويا معا) فأصبحا حبلاً واحداً متعاضداً، كان هذا المعنى متجسدا في رموز اصحاب السقيفة واقطابها لاسيما الشيخان، اي: أبي

بكر وعمر، فقد تعاضدا كأنهما رجل واحد على دفع علي (عليه السلام) عن حقه في

ص: 156


1- النهاية في غريب الحديث، ج 3 ص 92 -تاج العروس، ج 7 ص 129 .

الجلوس بمجلس رسول الله (صلى الله عليه واله) ويكفي في ذلك من المصاديق على هذا التضافر والتعاون بين القطبين هو قول عمر بن الخطاب في يوم السقيفة موقفه من اجتماع الأنصار فيها، وهم يريدون تنصيب شيخهم سعد بن عبادة فعارضتهم قريش من المهاجرين بقولهم:

(منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا الأمر ابدا)(1).

فلما سمعها عمر منهم أقبل الى منزل رسول الله (صلى الله عليه واله) فأرسل الى ابي بكر، و ابو بكر في الدار، فقال عمر بن الخطاب أتيناهم وقد كنت زويت كلاما أردت أن أقوم به فيهم، فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق فقال لي أبو بكر:رويدا حتى أتكلم ثم أنطق بعد بما أحببت، فنطق؛ فقال عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه)(2)

وهذا يكشف عن اجتماع الأقطاب وتعاونهم على إبعاد علي (عليه السلام) عن الخلافة على مستوى من الاصرار من تضافرهما الحقيقي هو قوله: (من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته)(3).

فضلا عن ذلك فقد روى سليم بن قيس الهلالي (توفي في القرن الاول للهجرة) في مخاطبة الامام علي (عليه السلام) لأقطاب السقيفة بعد ان خرجوا من داره كي يبايع فقال (عليه لسلام) لهم: (لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة):

ص: 157


1- تاريخ الطبري، ج 2 ص 456 .
2- تاريخ الطبري، ج 2 ص 456 - 457 .
3- المصدر السابق.

«إنْ قتل الله محمداً أو مات لتزوون هذا الأمر عنا أهل البيت .»

فقال ابو بكر: فما علمك بذلك ما أطلعناك عليها.

فقال (عليه السلام): أنت يا زبير، وأنت يا سلمان، وأنت يا أبا ذر، وأنت يا مقداد، أسألكم بالله أما سمعتم رسول الله (صلی الله عليه وآله) يقول ذلك وأنتم مستمعون (أن فلانا وفلانا حتى عد هؤلاء الخمسة قد كتبوا بينهم كتابا وتعاهدوا فيه وتعاقدوا ايمانا على ما صنعوا إن قُتلت أو مت)؟

فقالوا: اللهم نعم، سمعنا رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول ذلك:(إنهم تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا، وكتبوا بينهم كتابا إن قُتلت أو مت أن يتظاهروا عليك وأن يزووا هذا عنك يا علي)(1).

وهذا أحد المصاديق والدلالات التي اكتنزها لفظ (الضفر، والتضافر عليه).

ب - انضمام الناس بعضهم الى بعض كالنسيج في اتحادهم وتعاونهم

إنّ من المعاني والدلالات التي اكتنزها اللفظ، اي (الضفر): هو انضمام كثير من الناس بعضهم الى بعض كالنسيج حتى حققوا نسبة كبيرة من الاتحاد فيما بينهم وهذا المصداق ظهر جليا في البيعة العامة التي تمت في المسجد النبوي حينما جاءوا لمبايعة ابي بكر بالخلافة، وتخلف علي (عليه السلام) عن البيعة وبعض الصحابة وهم قلة منهم عمار بن ياسر، وابو ذر الغفاري، وسلمان المحمدي، والمقداد بن الاسود، وبعض بني هاشم والزبير؛ أما عامة المهاجرين والانصار قد تعاونوا

ص: 158


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 155 .

وتظاهروا حتى اصبحوا كالنسيج في دفع علي (عليه السلام) عن حقه، ويتضح هذا المصداق على ارض الواقع حينما خرج الامام علي (عليه السلام) الى المسجد وخاطب ابي بكر وعمر ومن ناصرهما وتحزب لهما ونادى فيهم بأعلى صوته:

«ايها الناس اني لم ازل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه واله) مشغولا يغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد، فلم ينزل الله على رسوله اية منه الا ووقد جمعتها، وليست منه آية إلّا وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلمني تأويلها، ثم قال علي (عليه السلام) لئلّا تقولوا غدا، إنا كنا عن هذا غافلين.

ثم قال لهم علي (عليه السلام): لا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي، ولم أذكركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فقال له عمر: ما أغنانابما معنا من القرآن عما تدعونا إليه، ثم دخل علي (عليه السلام) بيته وقال عمر لأبي بكر: أرسل إلى علي فليبايع، فانا لسنا في شيء حتى يبايع، ولو قد بايع أمناه، فأرسل إليه أبو بكر أجب خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأتاه الرسول فقال له

ذلك، فقال له علي (عليه السلام): سبحان الله ما أسرع ما كذبتم على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري، وذهب الرسول فأخبره بما قال له، فقال: اذهب فقل له أجب أمير المؤمنين

أبا بكر، فأتاه فأخبره بما قال: فقال علي (عليه السلام): سبحان الله! ما -والله- طال العهد فينسى، والله إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي، ولقد أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو سابع سبعة فسلموا علي بإمرة المؤمنين فاستفهم هو وصاحبه من بين السبعة فقالا: أمر من الله ورسوله؟ فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): نعم حقا من الله ورسوله، إنه أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وصاحب لواء الغر المحجلين، يقعده الله عز وجل يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار، فانطلق الرسول فأخبره بما قال فسكتوا عنه يومهم ذلك. قال:

ص: 159

فلما كان الليل حمل علي (عليه السلام) فاطمة (عليها السلام) على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام) فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أتاه في منزله، فناشدهم الله حقه، ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل غيرنا أربعة فإنّا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته، فلما أن رأى علي (عليه السلام) خذلان الناس إياه وتركهم نصرته، واجتماع كلمتهم مع أبي بكر، وتعظيمهم إياه، لزم بيته)(1).

وقد روى ابن قتيبة والجوهري وغيرهم خروج الامام علي (عليه السلام) مع بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) وولديهما الحسن والحسين (عليهما السلام) وفاطمة تناشد الاصحاب لنصرة الامام (عليه السلام) فيمتنعون من ذلك فكان صورة جلية في تعاونهم وتقاربهم في العقيدة والراي على خذلان علي ومناصرة اصحاب السقيفة(2).

واللفظ للجوهري، قال: حدثنا ابو عوف عبد الله بن عبد الرحمن عن ابي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام):

«إنَّ علياً حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلاً الى بيوت الانصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق الينا ابا بكر ما عدلنا به. فقال علي (عليه السلام): اكنت اترك رسول الله ميتا في بيته لا اجهزه واخرج الى الناس انازعهم في سلطانه،وقالت فاطمة: ما صنع ابو الحسن الا ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه »(3).

ص: 160


1- البحار للمجلسي: ج 28 ، ص 265 .
2- الامامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 19 ؛ السقيفة وفدك.
3- السقيفة وفدك للجوهري: ص 63 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 6 ص 13 .

ويتضح مصاديق اللفظ بصورة جلية حينما يقرن بمعنى الهضم ودلالته وهو الاصل في تحقق تضافر الامة على الامام علي (عليه السلام) وفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الرابعة: قصدية هضم الأمّة لحق فاطمة (علیها السّلام) ودلالته

اشارة

تناول علماء اللغة مفردة (الهضم) وأوضحوا معانيها فجاءت في كتبهم على النحو الاتي:

1-قال الجوهري (توفي سنة 393 ه) :

هضمت الشيء: كسرته، يقال هضمه حقه واهتضمه، اذا ظلمه وكس عليه حقه وهضمت لك من حقي طائفة، اي تركته؛ وتهضمه: ظلمه.

ورجل هضيم ومهتضم: اي مظلوم.

والهضيمة ان يتهضمك القوم شيئا اي يظلموك(1).

2- قال ابن فار س (توفي سنة 395 ه) :

الهضم يدل على كسر وضغط وتداخل، وهضمت الشيء هضما: كسرته(2).

3- قال ابن السكيت (توفي سنة 244 ه) :

الهضم: مصدر هضمه اهضمه، اذا ظلمته، والهضيمة: أن يتهضمك القوم شيئا،اي يظلمونك(3).

ص: 161


1- الصحاح، ج 5 ص 2059 .
2- معجم مقاييس اللغة، ج 6 ص 55 .
3- ترتيب اصلاح المنطق: ص 409 .
4- قال الثعالبي (توفي سنة 429 ه) في فقه اللغة :

(هصر الغصن، هضم القصب، شدخ الرأس)(1).

اي: اختصاص الهضم في الكسر وهو ما يرتبط بالقصب والمخصوص به هو مرتبط في الاصل بما يخرجه القصب عند كسره من صوت يميزه عن الهصر والشدخ.

5-قال العسكري (توفي سنة 395 ه) :
اشارة

الفرق بين الهضم والظلم:

ان الهضم نقصان بعض الحق ولا يقال لمن اخذ جميع حقه قد ظلم(2).

قال الزمخشري (توفي سنة 538 ه):

(هضم الشيء الرخو شدخه وكسره)(3).

ويدل معنى (الهضم) كما اورده علماء اللغة في الدلالة والمعنى والبلاغة، والفقه على ثلاثة معان اساسية تتكشف معها حقيقة ما جرى على بضعة رسول الله (صلى الله عليه واله) وما ارتكبته الامة بعد استشهاد نبيها الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) وهي كالاتي:

أولاً: الهضم بمعنى الظلم وتعاون المسلمين على ذلك

إنّ دلالة معنى اللفظان (الهضم والتضافر) يرشدان الى حقيقة تعاون المسلمين على ظلم سيدة نساء العالمين وبنت سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) وهو أمر في

ص: 162


1- فقه اللغة، ص 215 .
2- الفروق اللغوية للعسكري، ص 557 .
3- أساس البلاغة، ص 1061 .

غاية الخطورة، فضلاً عن جانبه الوجداني المرتبط بحجم الرزية والمصيبة التي حلّت بالإسلام من جراء هذا الفعل الذي أقدم عليه السلف؛ ومصداق ذلك يظهر في سريان سنة عاقر الناقة وفصليها في الامة.

إذ يُظهر القرآن الكريم في معرض بيانه للسنن الالهية التي اجراها في الأمم السابقة، وهو سنة شمول المجتمع الواحد أو الامة الواحدة بجريرة الفاعل وإثمه بصورة جلية في حال قوم نبي الله صالح (عليه السلام).

وذلك لرضاهم بما فعل القاتل أو المجرم او المنتهك للحقوق والحدود الالهية أو سكوتهم عنه وعدم اعتراضهم، او تسليمهم للأمر وكأنه لا يعنيهم، ومن ثم فإن هذه الحالات هي في موازين الشريعة الاهية تكون واحدة ويصبح الكل شركاء

ومتعاونون في الجرم كما حدث في قوم نبي الله صالح (عليه السلام)، فقد وقع الجرم من رجل واحد فعقر الناقة وفصيلها، إلّا أنّ سكوت الناس ورضاهم بما فعل أوقعهم جميعا في العقاب مما يدل على تلبسهم بالجريمة، فنالوا حكماً واحداً كما تظهر الآيات الكريمة بذلك:

قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( 11 ) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ( 12 ) فَقَالَ لَهمْ رَسُولُ اللَّه نَاقَةَ اللَّه وَسُقْيَاهَا ( 13 ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهمْ بذِنْبهِمْ فَسَوَّاهَا ( 14 ) وَلَا

يَخافُ عُقْبَاهَا﴾(1)

وتكشف الآيات بشكل جلي أن المذنب واحد وهو عاقر الناقة فكان (أشقاها)، أي: اشقى الامة لكن الذنب كان قد شمل الجميع، فقال سبحانه (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) فأصبحوا في الحد والحكم والعقاب سواء.

ص: 163


1- سورة الشمس، الآية ( 11 - 15 ).

وفي موضع اخر يظهر القرآن الكريم انهم جميعا ظالمون فقال عز وجل: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِی دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(1)

وعليه: فإن حال المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحكم سواء كحال قوم نبي الله صالح (عليه السلام)، فالذي انبعث لحرق بيت فاطمة (صلوات الله

عليها) واحد، فقيل: إن في الدار فاطمة، فقال: « وإنْ »(2).

وفي لفظ آخر اخرجه شيخ البخاري، ابن ابي شيبة الكوفي (توفي سنة 235 ه) أن عمر بن الخطاب قال:(وايم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك ان امرتهم ان يحرق عليهم

البيت)(3).

فحرق بيت بضعة المصطفى (صلى الله عليه واله) وكسر جنبها واجهض جنينها المسمى بالمحسن فمضت الى ربها ورسوله (صلى الله عليه واله) تشكو اليهما ما نزل بها.

﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهمْ بِذَنْبِهِمْ﴾(4).

فوقع الخلاف بينهم، وتفل بعضهم في وجه البعض وكفروهم واحلوا دمائهم

ص: 164


1- سورة هود، الآية ( 67 ).
2- الامة والسياسة لابن قتيبة، ج 1 ص 19 .
3- المصنف، ج 8 ص 57 .
4- سورة الشمس، الآية ( 14 ).

واموالهم واعراضهم(1) ويكفيك ذلك من ذاك قتلهم لابي بكر بالسم وهو خليفتهم

الاول، وبقر بطن خليفتهم الثاني عمر بن الخطاب وهجومهم على دار خليفتهم الثالث عثمان بن عفان وقتله بين نساءه، وحمل جثته على خشبة ليدفن في مقابر اليهود في كوكب.

بعد أن تضافروا على ظلم بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) وهضمها حقها،فجرت فيهم سنة الذين ظلموا انبيائهم واوليائهم من قبلهم كعاقر ناقة نبي الله صالح (عليه السلام) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾(2).

ثانياً: الهضم بمعنى نقصان الحق
اشارة

إنّ من المعاني والدلالات التي ذكرها علماء اللغة ل (الهضم) هو نقصان بعض الحق.

وقد تكشف هذا المعنى من خلال تعاون الامّة على حجب حق بضعة النبي (صلى الله عليه واله) في بادئ الأمر في ممارسة حقها في كونها جزءً مهماً ومكون اساس من مكونات المنظومة الفكرية في الاسلام، فضلاً عن حقها في الارث، وسهم النبي (صلى الله عليه واله) وامواله، وأرض فدك وغيرها مما سنتناوله لاحقا في مبحث قوله (صلوات الله وسلامه عليه): «فبعين الله تدفن ابنتك سرا، ويهضم حقها قهرا، ويمنع ارثها جهرا .»

لكننا هنا في صدد بيان هضمها حقها في المنظومة الفكرية وذلك فيما يلي:

ص: 165


1- الغيبة للشيخ الطوسي: ص 438 .
2- سورة فصلت، الآية ( 46 ).
أ- منع حديثها ومعارفها وروايتها عن ابيها (صلى الله عليه واله)

إنّ اول مظاهر المنع الذي اجتمعت على هضم حق فاطمة هو منع حديثها ومعارفها وروايتها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلا ما قدر من البيان الذي لا يتناسب مع منزلتها وشأنها وهي سيدة نساء العالمين وخير شاهد على ذلك صحاح المسلمين ومسانيدهم ومستدركاتهم وسننهم التي حرصوا على ايراد ماغث وسمن من اقوال بعض النساء وحديثهن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ب- تفضيل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)

إنَّ تفضيل نساء النبي (صلى الله عليه واله) عليها لاسيما عائشة وعدَّ ذلك من المسلّمات وإن لم يصرِّح به البعض من علماء الأُمة إلّا ما خرج من يديه من تصانيف وتعبئتها بأحاديث عائشة يغني عن التصريح في تفضيله لعائشة على سيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين (صلى الله عليه واله).

ج- الترضي على قتلة فاطمة (عليها السلام)

إنَّ الترضي والتولي لقتلها وظالميها وتعظيمهم قد سرى في معظم الأمّة كابراً بعد كابر وخلفاً بعد سلف حتى أصبحوا وكأن لا ظلامة لهم لنبيهم (صلى الله عليه واله) وكأن فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) من بنات الاعاجم ولا لها في أعناقهم فرض المودة والاتباع، فتضافروا على نكرانها وداوموا على هجرانها،وسيكون لهم النبي (صلى الله عليه واله) يوم القيامة لأنكر، وعند الحشر والحساب،وتطاير الصحف، وطلب الشفاعة، وسيدرك المبطلون مغبة ما أسسه الأولون.

ص: 166

ثالثاً: الهضم بمعنى الكسر

وهذا المعنى والدلالة التي وردت عند ابن فارس والثعالبي نجد مصداقها وكاشفيتها عن حقيقة ما جرى من هجوم القوم على دارها وضربها وكسر جنبها كما مر هذا اللفظ أي الكسر في قول رسول الله (صلى الله عليه واله) الذي أخرجه الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان): «كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصب حقها، ومنعت ارثها،

وكسر جنبها، واسقط جنينها... »(1)

فالكسر الذي دلَّ عليه علماء اللغة هو ضلعها المكسور، وكفى بذلك دلالة على حقيقة ما جرى عليها؛ وأنَّ تعاون الأمّة على ظلمها بإخفاء هذه الجريمة ومحوها من كتبهم فقد ارشد اليها مولى الموحدين وأول الصابرين من آل النبي الأمين (صلى الله

عليه واله) في تظلمه وشكواه لرسول الله (صلى الله عليه واله) وهو يواري الثرى أُم الحسن والحسين (صلوات الله عليهم اجمعين).

وما تعون الأمّة جيلاً بعد جيل على ظلم ابنائها من قتل وتشريد وهتك؛ فقبورهم شتى مفرقون في الأوطان ويتلمسون الأمن في البلدان، فلا أمن لهم ولا أمان؛ وهذا

دليل آخر على كسر قلبها وايذائها، فكان سنة في الأمّة، والله الحكم يوم القيامة.

ص: 167


1- الامالي: ص 176 .

ص: 168

المبحث العشرون: المقاصدية في الحف والاستخبار والاعتلاج ودلالة سكوت فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

ص: 169

قال (عليه السلام): «فَأَحفْهِاَ السؤُّاَلَ واستْخْبِرهْاَ الحْاَلَ،فَكَم منِ غَليِلٍ معُتْلجِ بصِدَرْهاَ لَم تجَد إلِى بثَّه سبَيلاً »

اشارة

ص: 170

في هذا الجزء من النص الشريف ينتقل الامام علي (عليه السلام) من التمهيد لما تقوله فاطمة لرسول الله (صلى الله عليه واله) بقوله (عليه السلام): «وستنبئك ابنتك بتضافر أمّتك عليَّ وعلى هضمها حقها »

الى الطلب من رسول الله (صلى الله عليه واله) بأتباع طريقة انتزاع دقائق الحدث وجزيئاته، فما هي قصديته في ذلك؟

وجوابه: إ نّها(صلوات الله عليها) قد لا تتحدث عن كثير مما جرى عليها وذلك امتناعا من ادخال الأذى على رسول الله (صلى الله عليه واله) الذي يؤذيه ما يؤذيها كما أخبر النبي (صلى الله عليه واله) وتناقلته كتب الحديث . (1)

ومن ثم فإن حبها لرسول الله (صلى الله عليه واله) سيمنعها من الحديث عما جرى عليها من القوم، ولذلك يطلب الامام (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتزاع الكلام من فاطمة (عليها السلام) وبذلك يضمن الامام (عليه

السلام) اخباره (صلى الله عليه واله) بما جرى بعد ان يندفع المانع في سكوتها وهو خوفها إنْ تكلمت آذت النبي (صلى الله عليه واله)، في حين أنه هو الذي سيحفها بالسؤال.

وبهذه الطريقة ستتحدث فاطمة كما قال (عليه السلام) بعد ايراده الطلب بأنها: «ستقول وسيحكم الله وهو خير الحاكمين .»

ص: 171


1- اخرجه البخاري عن المسور بن مخرمة في كتاب النكاح، ج 6 ص 158 / عنه (صلى الله عليه واله): «... فإنما هي بضعة مني يربيني ما ارابها ويؤذيني ما اذاها .»

ولكن السؤال المطروح: لماذا جاء الامام (عليه السلام) بلفظ «الحف » فما هي قصديته، وما هي دلالة اللفظ؟

المسألة الاولى: القصدية في الحف

اشارة

جاءت لفظة (الحف) في كتب اللغة ببعض الدلالات التي تكشف عن مكنون ما اراده الامام (عليه السلام) في ايراده لهذه اللفظة في كاشفية الآثار التي لحقت بالبضعة النبوية، إذ كثيراً مما جرى عليها كتمته الزهراء (عليها السلام) ولم تظهره

لأحد، ومنها -أي: من هذه الدلالات- ستظهر قصدية منتج النص (عليه السلام)، وهي كالاتي:

القصدية الاولى: تحديد موضوع السؤال

وهذه القصدية يستدل عليها من خلال قول العرب (حف سمعه): أي، ذهب كله فلم يبق منه شيء(1)؛ أي: عدم ترك شيءٍ مما وقع على جسدها إلّ وسيسأل النبي (صلى الله عليه وآله) عنه الزهراء، وهذه القصدية ترشد الى أن ما يراه النبي (صلى الله عليه واله) من حالها سيكون عظيماً، مما سيدفعه الى أنه سيسأل عن جميع ما وقع عليها فلا يبقي شيئاً الا وسيعرفه.

بمعنى: إنّ هيئتها الكاشفة عن حجم الاضرار التي وقعت عليها تحقق هذه القصدية وهو أمر وجداني، فاصفرار الوجه يدل على المرض او الارهاق والاجهاد والتعب، اما احمرار الوجه كاشف عن الخجل او الغضب وكذلك بقية صور هيئة

الانسان وشكله.

ص: 172


1- لسان العرب، مادة حف: ج 9 ص 49 - 50 .

وعليه: فإن رؤية النبي (صلى الله عليه واله) لحال فاطمة وهيئتها وصورتها ستدفع النبي (صلى الله عليه واله) الى التدقيق في السؤال.

ولذلك جاء معنى قولهم (حف سمعه) مرتبطا بهيئة الانسان وظواهره الجسدية ومنها حاسة السمع.

وعليه: يكشف النص أنَّ حالها تغير ونزل بجسدها اضرار عطلت موضعاً أو عضواً أو حاسة أو ذهاب عافيتها وصحتها جميعا فلم تبق لها صحة في جسدها فأصبحت عليلة الجسد.

وعلة الجسد لا تقع إلّا بحدث كبير يكون وقوعه مباشراً على الجسد كالهجوم عليها في حادثة الباب، وكسر ضلعها وما تسبب في اتلاف جسدها واعلاله، ولاسيما أن رسول الله (صلى الله عليه واله) قد فارقها وهي على حال حسن، وفي

عافية؛ ومن ثم فأن مصيبة فقدها لرسول الله )صلى الله عليه واله( وإن عظمت لا تجعلها عليلة أو قد أتلَفت مصيبته (صلى الله عليه وآله) أحد حواسها او أعضائها،مما يرشد الى قصدية قوله (عليه السلام): «فأحفها السؤال » وضمن سياق الدلالة

والقصدية الاولى للفظ، وهي: (اختصاص ذهاب هيئتها التي كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله)) مما يستلزم معرفة ما جرى عليها وغ حالها،وأضرَّ بجسدها، وسلب عافيتها؛ وهو ما سيرد في هذه الدراسة لاحقاً.

القصدية الثانية: في بيان مقبولية تلقي الاسئلة وردود الاجابة

إنَّ ما سيسمعه النبي (صلى الله عليه وآله) من فاطمة (عليها السلام) له دوي على مسامعه ويظهر حجم الآثار التي ستترتب على ما تقوله فاطمة (عليها السلام).

ص: 173

ويستدل على هذه القصدية لقول العرب (حف الفرس، يحف حفيفا، واحففته أنا إذا حملته على أن يكون له حفيف، وهو دوي جرتيه، وكذلك حفيف جناح الطائر، وحفيف الريح في كل ما مرت به)(1).

وهذا يرشد الى أمرين، الأول: إنّ تلقي فاطمة (عليها السلام) للأسئلة سيكون له دوي، وهو يكشف عن حال رسول الله (صلى الله عليه واله) حينما يرى فاطمة بهذه الحال، فسيكون لأسئلته في الكثرة والتعدد كالدوي على مسامع فاطمة، فيكون هنا الكاشف عن مقبولية فاطمة لهذه الاسئلة.

والأمر الثاني: يكون المتلقي هو رسول الله (صلى الله عليه واله)، وهذا يرشد الى أنَّ ما سيسمعه النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) من إجابات فاطمة (عليها السلام) له دوي وذلك لشدة هول وفداحة ما نزل بها، أي الكاشفية عن عظيم

المصيبة والرزية.

بمعنى: ترددات ما تقوله الزهراء (عليها السلام) على مسامع النبي (صلى الله عليه واله) وما سيتبعه من آثار خارجية سيكون له دوي كصوت الريح في كل مامرت به.

القصدية الثالثة: الكاشفية التعددية

وللحف قصدية اخرى في هذا المورد، وهي الكاشفية التعددية في حركة جناح الطائر، أي: تعدد طرح الأسئلة من النبي (صلى الله عليه واله)على فاطمة (عليها السلام) كتعدد جناح الطائر في حركته اثناء الطيران، وهو يحقق المقصد في استخدامه (عليه السلام) للفظ (الحف) من هذه الناحية.

ص: 174


1- لسان العرب، مادة (حف)، ج 9 ص 49 - 50 .
القصدية الرابعة: طريقة طرح الاسئلة

ومن المقاصد التي اكتنزها اللفظ هو الطريقة التي يعتمدها النبي (صلى الله عليه واله) في طرح الاسئلة على فاطمة (عليها السلام) لمعرفة ما جرى عليها هو الذهاب والعودة في طرح السؤال بمعنى: قد لا تتكلم فاطمة (عليها السلام) بمجرد سماعها للسؤال وذلك خشية انزال الأذى على رسول الله (صلى الله عليه واله) أو حياءً منه، او أرجاء الامر الى يوم القيامة، فعند أعادة السؤال الواحد عليها مرات عدة كطريقة

تركها لفترة ثم تسأل مرة اخرى نفس السؤال؛ وهذه الحالة يمكن ملاحظتها في كثير من المواقع الحياتية، في البيت، في المدرسة، في الجامعة، في الحوارات والمناقشات، وفي حالات التحقيق والبحث سواء في مواقع الحكم والقضاء، او في مواقع البحث والتحقيق والتأمل والتفكير فيما يبحث عنه الانسان و يدرسه؛ فنجده يعيد تكرار السؤال الواحد لمرات عديدة، وفي فترات زمنية متفاوتة، ويعاود الكرّة حتى يصل

الى الاجابة، ويحصل على مبتغاه.

وهذه القصدية ورد مدلولها من خلال معنى (الحَفَّة) وهو: المنوال، والمنوال هو: الخشبة التي يلف عليها الحائك الثوب.

والحِفَّة: بالكسر وهي التي يضرب بها الحائك كالسيف.

والحَفُّ: القصبة التي تجيء وتذهب(1).

وهذا يكشف عن القصدية في كيفية طرح الاسئلة على فاطمة (عليها السلام) كما ذكر انفاً.

ص: 175


1- لسان العرب، مادة (حف)، ج 9 ص 49 - 50 .
القصدية الخامسة: الاتيان على جميع المواضيع

إنَّ هذه القصدية جاءت من خلال وصف العرب لقيام المرآة بحف وجهها، (حَفّاً وحفافاً، تزيل عنه الشعر بالمواسي وتقشره)(1). فلا يبقى لموضع واحد في وجهها أو بدنها تواجد فيه الشعر الغير مرغوب به إلّ وأزالته بالقشط.

وهذا المعنى يرشد الى قصدية منتج النص في مبتغاه من الحف بالسؤال، أي: يا رسول الله لا تبقي شيء إلّا وسل فاطمة عنه حتى تأتي على جميع المواضيع والأسئلة

فتجيب عليها.

القصدية السادسة: انتزاع الإجابة

إنَّ مجريات الحدث وما نتج عنه من آثار على بيت النبوة والإسلام، وما كتمته فاطمة وعلي (عليه السلام) عن البوح به والتصريح عنه يستلزم أن يقوم النبي (صلى الله عليه واله) بانتزاع الاجابة من فاطمة (عليها السلام).

وهذه القصدية مأخوذة من خلال انتزاع الشعر عن الوجه بواسطة الخيط في حف المرآة لوجهها.

ومن ثم يكون القصد في طلبه (عليها السلام) (فأحفها السؤال) أي انتزاع الاجابة من البضعة النبوية لأنها ستبقى ساكتة عن ما جرى عليها، وحينها سيكون الجناة في مأمن من العقوبة.

وعليه: سيكون الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حقق تَكَلُّم فاطمة (عليها السلام) وقولها لرسول الله (صلى الله عليه واله) بما جرى عليها من مصائب قد أتْبعتها هموماً

ص: 176


1- المصدر السابق.

عظيمة ملأت صدرها وأحرقت قلبها، فكتمتها عن علي (عليه السلام) وأولادها فلم تفرّج عن هذه الالام والهموم والاحزان.

ويبقى السؤال قائما: ما هي هذه الهموم، وما هو حجمها، وما هو اثرها على حال فاطمة (عليها السلام)؟! هذا ما سنتعرّض له في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: استخبار حال فاطمة (علیها السّلام)

اشارة

بعد هذه المقاصد التي اكتنزها لفظ (الحف) في سؤال النبي لفاطمة (عليها السلام) ينتقل الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى إلفات انتباه السامع والقارئ الى مقاصد اخرى للتعاضد مع ما جاء من قبلها وما بعدها ليوصل المتلقي كاشفية الى ما حدث وآثاره القوية في الإسلام ماضياً ومستقبلاً.

من هنا: ينقل المتلقي الى مقاصد اخرى جاءت في لفظ (الاستخبار) وأصله (الاستفعال) وهو طلب الفعل.

وللوقوف على هذه المقاصد في الاستخبار أو الاستفعال فلا بد من الرجوع الى بعض استعمالات اللفظ في القرآن والحديث النبوي وأقوال العلماء، وهي كالاتي:

أ - صيغة الاستفعال في القرآن الكريم

إنَّ صيغة الاستفعال جاءت في آيات عديدة في محكم التنزيل وقد أفادت كلها واجتمعت على معنى واحد وهو طلب الفعل، فكانت كالاتي:

1-قال تعالى ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِی ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرونَ﴾(1).

ص: 177


1- سورة البقرة، الآية ( 17 ).

وقد ورد عن الشيخ الطوسي (المتوفى سنة 460 ه) في بيان معنى استوقد فقال: (معناه: أوقد ناراً كما يقال استجاب بمعنى أجاب؛ الوقود: الحطب والوقود: مصدر وقدت النار وقودا، والاستيقاد: طلب الوقود)(1).

2-قال تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللُّه يُفْتيِكُمْ فِی الْكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَم يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْن فَلَهُمَ الثُّلُثَانِ مِّما تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ

أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّه بِكُلِّ شَیءٍ عَلِيمٌ﴾(2).

قال الشيخ الطوسي: (الاستفتاء، السؤال عن الحكم، وهو استفعال من الفتيا،ويقال: أفتى في المسألة إذا بيّن حكمها فتوى وفتيا)(3).

3- وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾(4).

والاستعاذة: طلب المعاذ، استفعال من العوذ والعياذ(5).

وغيرها من الآيات المباركة.

ب - صيغة الاستفعال في الحديث النبوي

يمكن لنا اخذ بعض الشواهد من الحديث النبوي الشريف للاستدلال على ورود صيغة الاستفعال في هذه الاحاديث والتي تنص جميعها على طلب العقل، فكان منها:

ص: 178


1- التبيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 86 .
2- سورة النساء، الآية ( 176 ).
3- مجمع البيان للطبرسي: ج 3، ص 25 .
4- سورة النحل، الآية ( 98 ).
5- مجمع البيان: ج 6، ص 196 .

1- روى احمد عن ابن مدرك قال: سمعت أبا زرعة يحدث عن جرير وهو جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع: (يا جرير استنصت الناس)(1).

قال العيني: (أمر من الاستنصات، استفعال من الانصات، أي: طلب السكوت)(2).

2- روى أحمد عن عمار بن ياسر (عليه الرحمة والرضوان) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن من الفطرة المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وتقليم

الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، والاستعداد؛ والاختتان، والانتضاح .»

قال ابن سلام: (إنّ أصل الاستحداد، والله العالم، إنما هو الاستفعال من الحديد،يعني الاستحلاق بها، وذلك عن القوم لم يكونوا يعرفون النورة)(3).

3- روى البخاري عن يونس بن جبير، سألت ابن عمر فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مره أن يراجعها ثم يطلق من قبل عدتها .»

قلت: أفتعتدّ بتلك التطليقة؟ قال: «أرأيت إن عجز واستحمق .»(4)

قال العيني: (استحمق، إشارة إلى أنه تكلف الحمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض)(5).

ص: 179


1- مسند أحمد: ج 4، ص 358 .
2- عمدة القاري للعيني: ج 2، ص 186 .
3- غريب الحديث لابن سلام: ج 2، ص 37 .
4- صحيح البخاري: ج 6، ص 185 .
5- عمدة القاري للعيني: ج 2، ص 228 .
ج - ورود صيغة الاستفعال في بعض اقوال الفقهاء

جاءت صيغة الاستفعال في بعض اقوال الفقهاء: وقد بينوا دلالة الصيغة ما ترشد اليه قصدية ومعنى، وهذا بعض اقوالهم في ذلك:

1- قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف: (ان لفظ الاستفعال ان يطلب منه الخدمة هذا موضوعها في اللغة)(1).

2- قال الشهيد الثاني في الروضة: (إن صيغة الاستفعال موضوعة غالباً للطلب كما يقال: استخرج الماء استوطن البلد، أي طلب خروج الماء، وطلب التوطن في المدينة)(2).

3-وقال أيضا: (إن الاستفعال حقيقة في طلب الفعل فلا يصدق بدون الطلب)(3).

4-وله أيضاً: (وقع الاستفعال بمعنى الفعل لغة كما في قوله تعالى: ﴿... اسْتَوْقَدَ نَارًا...﴾ (4).

بمعنى أوقد)(5).

5- قال الفخر الرازي: (الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة، وأصل الاستفعال طلب الفعل، فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة).

6-قال الشيخ المظفر: (الاستصحاب في أصل اشتقاقها من كلمة الصحبة من باب الاستفعال، فتقول استصحبت هذا الشيء، أي حملته معك وإنما صح إطلاق

ص: 180


1- الخلاف للطوسي: ج 6، ص 181 ؛ الزائر لابن ادريس: ج 3، ص 56
2- الروضة البهية: ج 7، ص 13 .
3- مسالك الإفهام للشهيد الثاني: ج 11 ، ص 167 .
4- سورة البقرة، الآية ( 17 ).
5- مسالك الإفهام: ج 11 ، ص 267 .

هذه الكلمة على هذه القاعدة في اصطلاح الأصوليين، فبأي اعتبار أن العالم بها يتخذ ما يتقن به سابقاً صحبيا له إلى الزمان اللاحق في مقام العمل)(1).

7- قال السيد محمد سعيد الحكيم في معنى الاستصحاب: (وينبغي التمهيد له بذكر أمور.

أولاً: الاستصحاب لغة استفعال من الصحبة ومن الظاهر مناسبة البقاء والاستمرار الذي هو مفاد الاستصحاب للمادة وهي الصحبة بنحو يصحح إطلاقها في المقام.

وأما هيأة الاستفعال فهي: ألف: تارة: تفيد طلب المادة، كما هو في الاستغفار، والاستشارة والاسترفاد، والأخرى: تفيد جعلها وتحقيقها خارجاً بوجه، كما في استعمال الشيء والاستكثار من الخير.

وثانياً: تفيد ادعاءها والحكم بها والبناء عليها كما في الاستكبار والاستحسان والاستقذار)(2).

8- قال السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): (فإن هناك جماعة من اللغويين يقولون بجواز اختراع ألفاظ وكلمات في اللغة

العربية على وزن الألفاظ والكلمات الموجودة فيها، كما يقولون بجواز الزيادة والنقيصة فيها على حسب الزوائد أو النقائص اللغوية الأخرى، مثل صرف الباب الثلاثي إلى باب الانفعال، أو التفعيل، أو المفاعلة، أو الاستفعال، وكذلك أبواب الرباعيات ونحوها)(3).

ص: 181


1- أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر: ج 4، ص 276 .
2- المحكم في أصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم ج 5، ص 9.
3- فقه العولمة للسيد محمد الشيرازي: ص 31 .

وعليه: نستدل بما ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأقوال الفقهاء أن أصل صيغة الاستفعال ترتكز على إرادة الطلب سواء كان هذا الطلب صريحاً أو تقديرياً.

وهنا يريد الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) من النبي الأعظم (صلى الله عليه واله) معرفة حال فاطمة (عليها السلام) وأن يطلب خبر ما جرى عليها فغير حالها.

وذلك ان (الحال هو كينَة الإنسان وهو ما كان عليه من خير أو شر، يذكر ويؤنث،والجمع أحوال وأحولة).

ومن ثم معرفة هذا التغيير المفجع الذي أصبحت عليه فاطمة (عليها السلام) وهو يقدم بذاك صورة الى السامع أنّ من يرى فاطمة (عليها السلام) قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) ويراها بعد وفاته الى يوم استشهادها سيفجع بما

يرى من تغير حالها، وسيندفع بلا أدنى شك الى السؤال والطلب في معرفة ما غير حالها هذا التغيير المفجع!!

وعليه:

فلا بد من معرفة الأسباب والدلالات والآثار التي أدت الى هذا الحال، وهو ما سنتناوله في دلالات قوله (عليه السلام):

«فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثه سبيلا » وقصديته من هذا القول.

ص: 182

المسألة الثالثة: الغليل المعتلج وقصدية آثاره النفسية والجسدية وحكمه في الشريعة

اشارة

إنّ هذه المقدمات من المعاني ومقاصدها والالفاظ ودلالتها جاءت بالمتلقي تقوده أسيراً اليها للوصول الى هذا المطلب الذي اكتنزه قوله (عليه السلام): «فكم من غليل .»

مبينا أنّ ما جرى عليها لم يكن أمراً واحداً ظاهرا للعيان أو مخفيا عنهم وانما هي امور كثيرة كان واقعها وحقيقة أمرها جمراً متلهبا لم يزل يحرق ما يحيط به وإن كان مغطاً بالرماد مستوراً عن الناظر حتى يظنه بارداً وساكناً، كما جرى ذلك في

قصدية الحالة النفسية وما ترتب عليها من آثار بيّنها القرآن الكريم في حال نبي الله زكريا (عليه السلام) وقد جاء ذلك ظاهراً لدى القارئ العارف بدلالات الألفاظ ومقاصدها، فقال تعالى مبينا حاله في محكم كتابه: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ﴾(1).

وهنا يورد الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) حال فاطمة وما جرى عليها من رزايا و مصائب واضراراً نفسية وجسدية في إيراده لمفردات (الغليل) و (المعتلج) ليقدم بذلك الى كل عاقل منصف عارف بلغة العرب أنّ ما وقع على بضعة المصطفى

(صلى الله عليه واله) من اضرار على يد بعض الصحابة لا يمكن أن تنصفه ألْسِنَةُ الرواة وان جادت قرائحهم بالبيان وشهدته اعينهم من مجريات للحدث، فهم غير قادرين على معرفة ما أصابها وعاجزين عن ادراك الآمها وضرّها؛ وأنّى لهم بذلك

والزهراء البتول قد كتمته عن ابن عمها وابو ولديها ولم تقوله لاحد.

من هنا: جاء قوله (عليه الصلاة والسلام): «فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثه سبيلا .»

ص: 183


1- سورة مريم، الآية ( 4).

كاشفا عن البيان في حجم الأضرار الجسدية والآلام النفسية التي أنزلها القوم بها،وذلك بمقتضى ما يدلّ عليه لفظ (الغليل) من دلالة كما ورد بيانه في اللغة.

فالغليل: حرّ الجوف(1).

وجاء في الصحاح: الغلّة: حرارة العطش، والغليل: تقوّل منه(2).

أما قصدية منتج النص (عليه السلام) فتكمن في امور، منها:

القصدية الأولى: في بيان حجم الأضرار النفسية دون غيرها

لا شك أنَّ وصف الحالة النفسية مرتبط بمجريات ما وقع على الانسان من حوادث خارجية، بلحاظ أنّ داخل الانسان مكتوم عن العيان، ومن ثم يمكن أن يستدل العاقل والعارف من خلال الحالة النفسية على تقدير حجم الاضرار الخارجية التي لحقت بالإنسان.

ولاسيما وأن النبي الأعظم (صلى الله عليه واله) قد ركز فيما يخص العترة النبوية وبضعته على وجه الخصوص بالألم النفسي والأذى القلبي، فقال في موارد وألفاظ متعددة:

«يؤذيني ما آذاها .»

«يؤلمني ما يؤلمها .»

«يبسطني ما يبسطها .»

والبسط هو حالة مخصوصة بالنفس في الفرح والإرتياح والتي يقابلها القبض في موارد الحزن والألم بما يقع على الانسان في الخارج وبما يراه من أحداث أو يسمعه من كلام.

ص: 184


1- كتاب العين للفراهيدي، ج 2 ص 347 .
2- الصحاح للجوهري، ج 5 ص 178 .

ومن ثم ينتج عن ذلك:إنّ قصدية اللفظ الشريف: «فكم من غليل » جاء لبيان أنّا تعرضت لجملة من الاعتداءات شملت الحواس الثلاثة البصر والسمع واللمس.

1- قفد شاهدت من الصحابة من الأفعال ما جعل قلبها يحترق.

2- وسمعت منهم من الكلام ما ترك جوفها يلتهب ألماً.

3- وتلقت من الضرب ما خلف ناراً في جوفها لم تطفئ.

ومن ثم فان هذه الآلام النفسية لم تزل كالجمر في داخلها حتى لحقت بأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذه الأضرار التي كانت من خلال الحواس الثلاثة قد نصت عليها بعض النصوص التاريخية والحديثية.

ففي خصوص ما شاهدته البضعة النبوية هو:

أ- محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) الأعظم في أيام مرضه في حادثة اللّد التي أقدمت عليها بعض أزواجه(1).

ب- انقلابهم على بيعة الغدير في يوم السقيفة.

ج- ترك الصحابة لجثمان النبي (صلى الله عليه واله) وتسابقهم الى الخلافة

د- التنازع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة.

ه- الهجوم على دارها وحرقه.

ص: 185


1- لمزيد من الاطلاع على مجريات الحدث ينظر كتابنا الموسوم ب (وفاة النبي وموضع قبره وروضته).

و- إخراج علي (عليه السلام) من الدار وولداها يلوذان بها.

ي- حبس مؤنتها وولديها من الخمس لغرض تجويعهم.

وغير ذلك لكثير ولكن هذا بعض ما ذكرته النصوص وسنقف عنده إن شاء اللهتعالى في بحوث هذه الدراسة.

أما بخصوص حاسة السمع:

أ- تهديد عمر بن الخطاب لها بحرق دارها على من فيه إن دخل عليها بعض الصحابة كما يرويه شيخ البخاري بن أبي شيبة الكوفي(1) وغيره.

ب- قول عمر بن الخطاب لها لما سألته وقد جاء بالنار ليضرمها في الحطب، فقالت: «أتَراك محرق عليَّ بابي !؟»

فرد قائلاً:

(نعم، وذلك أقوى فيما جاء به ابوك)(2)!!!.

ج- بعد ان القت فاطمة (عليها السلام) خطبتها في المسجد، صعد ابو بكر المنبر فردّ عليها، فقال: (يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها اليها البغي ...)(3)!!!

وغير ذلك مما كتمته الزهراء البتول (صلوات الله عليها).

ص: 186


1- المصنف: ج 8 ص 572 ؛ المذكر والتذكير لابن ابي عاصم: ص 91 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3 ص 975 ؛ فضائل الصحابة لأبن حنبل: ج 1 ص 364 .
2- انساب الاشرف للبلاذري: ج 1 ص 586 ؛ الشافي في الامامة للشريف المرتضى: ج 3 ص 241 .
3- السقيفة وفدك للجواهري: ص 104 ؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16 ص 215 .

أما بخصوص حاسة اللمس والتي ارتبطت بالجسد وما يصيبه من آلام، فقد نقلت النصوص أنّا تعرضت الى:

أ- عصرها بين الحائط والباب.

ب- كسر ضلعها.

ج- اسقاط جنينها المحسن.

د- تلويعها بالصوت على يدها.

ه- لطمها على عينها بغمد السيف.

وغير ذلك.

وقد خلفت هذه الأداث والمجريات من الأضرار النفسية ما جعل قلبها يحترق ونفسها تلتهب ناراً مكمودة؛ ومن ثم فإن هذا الكمد والكتمان للألم كان له صورة اخرى عرفتها العرب في مقاصد (الغلّ) وهو ما سنتعرض له في القصدية القادمة.

القصدية الثانية: في بيان حجم الاضرار الجسدية وارتباطها بالألم الدائم

يظهر ابن فارس (توفي سنة 395 ه) في دلالة اللفظ ما عنته العرب في قولهم: غللت الشيء، وظهور قصدية النص الشريف اتكاءً على هذه الدلالة فيقول: (غل): الغين واللام أصل صحيح يدل على تخلل شيء وثبات شيء يغرز؛ ومن ذلك قول العرب:

غللت الشيء في الشيء: إذا أثبته فيه كأنه غرزته(1).

ص: 187


1- معجم مقاييس اللغة: ج 4 ص 375 .

وبه يظهر أنّ هناك أضراراً وقعت على الجسد قد خلفت آلاماً دائمة من حين وقوعها الى حين استشهاد فاطمة (عليها السلام) وهو ما يدل على حقيقة ما وقع عليها من:

اولاً: كسر ضلعها، وهو الألصق لهذا المعنى والأقوى دلالة لهذه القصدية في غرز الضلع في اللحم عند كسره.

ثانياً: إصابة صدرها بالمسمار، وهذا من أصدق الدلالات التي اكتنزها الغلّ، فقدغرز المسمار في صدرها واثبت فيه، ولم يزل ألمه دائما ومستمراً الى حين لحاقها بأبيها (صلى لله عليه واله).

ثالثا: إصابة عينها باللطمة التي وجهها اليها قنفذ لما خرجت خلفهم تنادي (خلّو ابن عمي) كما يروي سليم بن قيس الهلالي ذلك فقال:

رابعا: تلويعها بالسوط على يدها حتى أصبح كالدملج وهو ما نص عليه الحديث....

وعليه: تكون هذه الأضرار الجسدية كاشفة عن قصدية الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في إيراده للفظ (الغلّ)، فقد غرزت هذه الآلام في جسدها ونفسها.

القصدية الثالثة: في بيان كثرة الأضرار وتعددها ودوامها حتى ماتت (علیها السّلام)

إنَّ الترابط في دلالة «الغليل والمعتلج » تكشف عن قصدية جديدة، وهي أن هذه الأضرار كانت متنوعة وعميقة في النفس ودائمة وضارة جدا، فآلامها لم تتوقف، بل أنّها كانت في ازدياد، وهو عكس ما يتوقعه البعض في تغيير أحوال الانسان بمرور

الوقت، فإن كان اليوم قد حزن من أمر أو غصب على إمرء فللوقت وللزمن أثره في تبديل الاحوال وتغيير الأمزجة وهو أمر حاول ابو بكر وعمر الحصول عليه.

ص: 188

فقد حاولا الدخول عليها في أيامها الأخيرة وقد اشتدّ بها المرض كي يسترضيانها،ضناً منهما أن الوقت كفيل بتبديل الأحوال، فضلاً عن أن ما وقع أصبح واقع حال وقد استقرت امور الخلافة والبيعة، فجاءا الى علي (عليه السلام) كي يطلب لهما الاذن في الدخول عليها (عليها السلام) واسترضائها، فدخل عليها امير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً:

«أيتها الحرّة، فلان وفلان بالباب، يريدان أن يسلّما عليكِ فما ترين؟

قالت (عليها السلام): البيت بيتك، والحرة زوجتك، فافعل ما تشاء.

فقال (عليه السلام): (شدّي قناعك)؛ فشدّت قناعها وحوّلت وجهها الى الحائط، فدخلا وسلّما وقالا: ارضي عنّا، رضي الله عنكِ.

فقالت: ما دعاكما الى هذا؟

فقالا: اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنّا وتخرجي سخيمتك.

فقالت: فإن كنتما صادقين فأخبراني عمّا اسألكما عنه، فإنّ لا اسألكما عن أمرٍ إلّا وأنا عارفة بأنكما تعلمانه، فإن صدقتما علمت إنكما صادقان في مجيئكما.

قالا: سلي عمّ بدا لكِ.

قالت: نشدتكما بالله، هل سمعتما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول: (فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني ) ؟

قالا: نعم.

ص: 189

فرفعت يدها إلى السماء فقالت: (اللهم إنهما قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك؛ لا والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بما صنعتما، فيكون هو الحاكم فيكما » (1).

والحادثة كاشفة عن قصدية النص الشريف في ادماجه للفظتي (الغليل والمعتلج).

فقد جاء في بيان معنى المعتلج:

1- اعتلج الموج: التطم وهو منه.

2- اعتلج الهمّ في صدره كذلك على المثل.

3- اعتلجت الأرض طال نباتها.

4- الارض المعتلجة: الارض التي استأسد نباتها والتف وكثر.

5-نقي معتلج الريب: وهو من اعتلجت الأمواج إذا التطمت، أو من اعتلجت الأرض.

6- والعالج هو ما تراكم من الرحل ودخل بعضه في بعض(2).

فيكون بذلك أنّ هذه الأضرار لم تكن آنية وقليلة الضرر أو لفترة محدودة، بل كانت كبيرة وبالغة ودائمة وفي تزايد في حجمها وآثارها على النفس والقلب والجسد حتى لحقت برسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 190


1- كتاب سليم بن قيس: ص 392 ؛ الدر النظيم للمشغري العاملي: ص 484 ؛ البحار للمجلسي: ج 28 ص 303 .
2- لسان العرب، مادة: (علج).

ولكن السؤال المطروح لماذا تكتمت فاطمة على هذه الالام ولم تبح ولم تبح بها الى أحد حتى زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو ما نص عليه قوله: «لم تجد الى بثه سبيلا » هذا ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الرابعة: مقاصدية بث الغليل وتعذر السبيل «لم تجد الى بثه سبيلا . »

اشارة

يُرجع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) السامع والقارئ للنص الشريف الى مقاصد جديدة اكتنزها لفظ (البث)، وذلك ارتكازاً على مجموعة من المعاني والدلالات التي فهمتها العرب واستخدمتها في خطابها وحوارها مع بعضها.

ومن ثم فهناك جملة من الآثار التي حركت ذهن المتلقي الى قصدية منتج النص الشريف (عليه السلام) فكانت كالاتي:

القصدية الأولى: التعريف والتجزيء للألم

حينما استخدم الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) معاني الاعتلاج ودلالته التي مرَّ بيانها، ومنها التشابك والالتفاف في النبات، أو التراكم في الرمال بعضها فوق بعض؛ أردفه (عليه السلام) بما يخلق في ذهن المتلقي من احتياج صاحبة الشأن

وهي فاطمة (عليها السلام) الى ما يعالج هذه الصورة من الآلام والهموم والاحزان المعتلجة في صدرها ويزيلها عنها.

وهذه المعالجة والازالة تبدأ أولا بتفريغ هذه الآلام والهموم وتجزئتها بعد أن التفت وتشابكت كما في النباتات المتشابكة في أغصانها، فهي تحتاج في البدء الى التفريق بين هذه الأغصان أو التعريف بين هذه الرمال التي تراكمت فوق بعضها.

وهنا في حالة فاطمة (عليها السلام) لابد لها أولا من تفريق هذه الهموم وفك تشابكها وتجزئتها، إذ قالت العرب في هذا المعنى:

ص: 191

(بث الشيء، والخبر يَبُثُّهُ ويبثُه بثاً بمعنى فانبث فرقة فتفرق)(1).

وهذا يعطي صورة عن حقيقة الاحداث ومجرياتها.

بمعنى: وإنَّ فاطمة (عليها السلام) كانت في كل يوم ولعلَّه وهو الأصح في كل ساعة تمر عليها كانت آلامها وآحزانها وهمومها تزداد وتتراكم كتراكم الرمال بعضها فوق بعض.

ولعل الرجوع الى قولها (عليها السلام) عند دخول مجموعة من نساء المهاجرين والأنصار لعيادتها يحقق هذه الصورة التي مرّ ذكرها، أي أنّا كانت في كل ساعة تزداد همهاً وآلاماً.

ولذا: قالت لهنّ بعد أن سألنها: كيف أصبحتِ يا بنت رسول الله: «أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، لفظتهم قبل أن عجمتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحد، وخور القناة، وخظل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.... »(2).

وهذا النص الشريف اثار في نفوس المتلقي المعاني المكونة للصورة الحقيقة التي كان عليها حال المسلمين والصحابة وما جنته ايديهم.

وعليه: فهذه الهموم المتراكمة والمتشابكة تحتاج أولاً الى التفرقة والتجزئة وهو المرحلة الاولى من زوالها وتغير حال فاطمة (عليها السلام).

ص: 192


1- لسان العرب، مادة: (بث).
2- معاني الاخبار للصدوق: ص 354 ؛ بحار الانوار للمجلسي: ج 43 ص 158 .
القصدية الثانية: نشر هذه الآلام بين الناس لمعرفة حقيقة ما جرى

إنً الوضع الوجداني الذي عليه الناس رجالاً ونساءاً حينما يصاب احدهم بأحزان وهموم والام تسبب في وقوعها شخص ما، أو مجموعة من الاشخاص، هو حاجتهم الى نشر هذه الهموم والآلام كي يطلع السامع أو المتلقي على حقيقة ما جرى على المظلوم من ظلم واذى، فينتصر له ولو من قبيل اطلاع المتلقي على حجم الظلم الذي نزل بالضحية وما جنته أيدي الجناة.

بمعنى: مقتضى دلالة اللفظ ومعناه هنا يكون نشر الخبر وذياعه بين الناس ولا يقتصر الإخبار على شخص واحد؛ وذلك أن بعض هذه الهموم والأحزان والآلام تحتاج الى نشرها

بين الناس، وبعضها الآخر -أي هذه الآلام- تحتاج أن تذكر الى شخص واحد.

ولذا:نجده (عليه الصلاة والسلام) قال: «كم من غليل » بمعنى: لم يكن هماً واحداً ولا ألماً واحداً أو حزناً أو مصاباً واحدا؛ وانما هناك كثرة في هذه الآلام والهموم والاحزان وهي بحاجة الى النشر؛ لكن ليست كلها يمكن أن يطّلع عليها الناس، فبعضها لا يمكن البوح بها إلّ الى رسول الله (صلى الله عليه واله).

ولذلك: أردفه (عليه السلام) بلفظ (السبيل)، وهذه القصدية في النشر بين الناس مع كثرة الآلام والهموم جاءت من خلال قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء﴾(1).

ص: 193


1- سورة النساء، الآية ( 1).

اي: نشر وكثر(1)؛ وقوله تعالى ﴿وَزَرَابِّی مَبْثُوثَةٌ﴾(2) أي كثيرة.

وهذا المعنى في القصدية الثانية يكوّن صورة جديدة لواقعين مختلفين في مجال تحقق المعنى، الصورة الاولى مراحل علاج هذه الالام تبدأ بالتفريق ثم النشر في مكان آخر، كأغصان الشجر حينما تتشابك فيلزم أولاً فك الأغصان وتفريقها

عن بعضها، ثم نشرها في اتجاه آخر كي لا تعود فتتشابك أو تتراكم كما في الرمال وتراكمها، وكما في قوله تعالى:

﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾(3).

والصورة الاخرى حول اختيار متلقي هذه الآلام والهموم والأحزان، فبعض هذه الهموم لا ينبغي أن يسمعها غير رسول الله (صلى الله عليه واله) وبعضها يلزم أن يسمعها الناس رجالاً ونساءً، أي من مقاصد (البث) اختلاف المتلقي مع اختلاف ما يلقى اليه من حديث.

القصدية الثالثة: اختصاص اللفظ بكاشفية حال المرض والحزن ودرجته

وهذه القصدية جاءت من خلال قول العرب لمن يفضي بهمه وحزنه الى صاحبه ب (البَثُّ).

و (البَثُّ) في الأصل شدة الحزن والمرض الشديد، كأنه من شدته يبثه الى صاحبه(4).

وهو كاشف عن حال فاطمة (عليها السلام) وما اصحابها من الحزن واظهار حجم هذا الحزن والمرض الذي نزل بها.

ص: 194


1- لسان العرب، مادة (بث).
2- سورة الغاشية، الآية ( 16 ).
3- سورة الواقعة، الآية ( 6).
4- لسان العرب، مادة (بث).

بمعنى قد يتبادر الى ذهن المتلقي من خلال النصوص التاريخية والحديثة بأنها كانت مريضة وحزينة لكن هذه النصوص غير قادرة على بيان درجة هذا الحزن والمرض ومن ثم اراد الامام امير المؤمنين (عليه السلام) من خلال قوله «لم تجد الى بثه سبيلا » بيان حجم المرض والحزن، أي: قصد في ذلك حال المرض وانعكاسه على فاطمة، فالحزن شديد، والمرض شديد، الى الحد الذي أصبحت فيه بحاجة الى أن تتكلم عن مرضها.

بمعنى: بلغ بها الحزن والمرض الى درجة لا تستطيع التحمل معه؛ ومن ثم لابد أن تتكلم وتتحدث عن هذا الحزن والمرض.

ولكن هذا الحال الذي بلغ أعلى درجات التحمل، لم تجد فاطمة (عليها السلام) من تخبره به؛ أو أنها وجدت من تخبره بحزنها ومرضها لكنها لم تفعل لأسباب أكبر من هذا المرض والحزن وهو ما سنتناوله بعد ايراد القصدية الرابعة في قوله «لم تجدالى بثه سبيلا .»

القصدية الرابعة: إنّ لديها أسراراً لم يكن ليطلع عليها غير رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

وهذه القصدّية التي أكتنزها (البث) في معانيه ودلالته جاءت من خلال اضافة أهل اللغة الألف الى اللفظ، فيقال: (أَ بَثَثت فلانا سري ابثاثا، أي: اطلعته عليه وأظهرته له)(1).

وهو أمر في غاية الاهمية وذلك أنّ النصوص وإن كانت نقلت جانبا من ظواهر الحدث إلّا أنّها لن تستطيع بأي شكل من الاشكال أن تطّلع على دقائق الامور لاسيما وأنّ الأمر مرتبط ببنت رسول الله (صلى الله عليه واله) والذي يلزم أن تحاط

بجملة من الحدود الشرعية التي جاء بها القرآن والنبي (صلى الله عليه واله).

ص: 195


1- لسان العرب، مادة (لبث).

الا الحدث كشف عن حقيقة ايمان هذه الزمرة التي اقتحمت أقدس بيت في الوجود، فهو مهبط الأملاك ومنزل الوحي ومزار الأنبياء ومعدن الرسالة وأصل النبوة وغيرها من الشؤون الالهية، ولكن الحدث كان كفيلاً بتعري تلك الوجوه عن حقيقة ارتباطها بالإسلام ونبيه (صلى الله عليه واله).

ومن ثم: يعد الحدث بجملته كاشفا عن سرائر النفوس التي اجترمت واجترأت على رسول الله (صلى الله عليه واله) وهذا هو السر الأول الذي ستبثه فاطمة الى رسول الله (صلى الله عليه واله).

من هنا: نجد القرآن والنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) قد كشفا جانبا من هذه الاسرار التي تبثها فاطمة الى رسول الله (صلى الله عليه واله)، فالوحي اخبر عن حال بعض هؤلاء في اكثر من موضع كما في قوله تعالى:﴿وَمَا مُحمَّدٌ إلِّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی

أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُّر اللَّه شَيْئًا﴾(1).

والنبي أخبر عن حال بعضهم كما في الصحيح الذي أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق:

«وإنّ أُناساً من اصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي؟!!

فيقال: إنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ أن فارقتهم .»(2).

وسَتُطلع فاطمة أبيها (صلى الله عليه وآله) على أولئك الأصحاب الذين ارتدّوا منذ أن فارقهم رسول الله (صلى الله عليه واله) ستقول له (فلان وفلان) وتعدّ له أسمائهم.

ص: 196


1- سورة آل عمران، الآية ( 144 ).
2- صحيح البخاري: ج 4 ص 110 .

ومن الأسرار التي سَتُطلِعه عليها:

هي مجريات ما حدث عليها بالتفصيل والتي أشارت النصوص الى بعضها بمعنى:

إنّ فاطمة (عليها السلام) كتمتها على علي (عليه السلام) وعلى أولادها، ولم تطلع أحداً عليها، ومنها لطمها على خدها، واصابة عينها بغمد السيف الذي كان بيد قنفذ، حيناً وبكف عمر بن الخطاب حيناً، اخر عندما خرجت خلف القوم، وهم يقودون الامام علي (عليه السلام) الى ابي بكر كي يبايعه على أنه الخليفة عنوة وقهراً ولان القوم اقتحموا الدار بعد أن أضرموا النار فيه؛ ولان عمر بن الخطاب كان قد هددها من قبل بحرق دارها بمن فيه إن دخل عليها بعض الصحابة الرافضين للسقيفة وبيعة الخليفة كما يروي ابن شيبة الكوفي(1).

ولان عمر بن الخطاب لما جاء بالنار قيل له: (يا أبا حفص إنّ في الدار فاطمة)،فردَّ قائلاً: «وإن »(2).

ولهذا وغيره كان الحدث عند فاطمة في قتلهم لعلي (عليه السلام) أقرب الى البداهة في الوقوع، لاسيما وقد خذله الناصر، وتخلى عنه القريب، وقيده الصبر على ما نزل به، وأوثقه حفظ الاسلام، وإن مدوا عنقه حينها ليضربوه فلن يبالِ،

ولم يكن ليرفع بوجههم السيف وهو القادر على ابادتهم وتجزيرهم كالأضاحي، فيراكم اجسادهم ويبعثر رؤوسهم، وهو المجرّب في ساحات الوغى والمتمرس على مقارعة الشجعان وان تكاثروا؛ فكيف به في مواجهة خوانع العرب وجبنائها،

ويكفيك في ذاك من عاد يوم خيبر يجبن الناس ويجبنونه.

ص: 197


1- المصنف، ج 8 ص 572 ؛ المذكر والتذكير لابن ابي عاصم، ص 91 ؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، ج 1 ص 364 .
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة بتحقيق الزيني: ج 1 ص 19 .

وعليه: فأن فاطمة (عليها السلام) خرجت خلف علي (عليه السلام) لا لعدم معرفتها بعلي وصولاته، وانما لعلمها قاطعة بطاعته ومولاته لرسول الله (صلى الله عليه واله) وإن مقتضى الحال الذي أصبح عليه الاسلام واهله أنّ علياً (عليه السلام)

لن يرفع السيف بوجه أحد منهم، ولذا خرجت (عليها السلام) خلفه كي تدافع عن إمامها وتضحي بنفسها من أجله إن أقدمت الصحابة على قتله.

أو لعلها خرجت خلف علي (عليه السلام) لتحرك الرجولة فيهم فيرون أنّها إمرأة جاءت تذود عن زوجها القتل وتدفع عنه شرهم وجرمهم، لكنها تلقت منهم ضربة بغمد السيف على وجهها، فقد أرادوا عدم قدومها خشية انقلاب الناس عليهم وهم ينظرون الى بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) تذود عن علي (عليه السلام).

من هنا: كانت قد كتمت على أمير المؤمنين (عليه السلام) ما لحق بعينها وخدها من اضرار بفعل ضربة ابن الخطاب.

القصدية الخامسة: تعذر السبيل مع وجود الامام علي (علیه السّلام) فسكتت (علیها السّلام)

إنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه واله) كان قد أخبرها والامام علي (عليه السلام) وولداهما بما يجري عليها، ولكن هذا البيان لم يكشف عن حجم الأضرار، أو أنه لم يكشف عن الجزئيات الدقيقة.

كما يروي الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان) عن الامام علي (عليه السلام) قال:

ص: 198

«بينما أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله (صلى الله عليه واله) إذ ألتفت الينا فبكى، فقلت: ما يبكيك يا رسول الله؟

فقال: أبكي مما يصنع بكم بعدي.

فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟

قال: أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدها، وطعنة الحسن في الفخذ والسم الذي يسقى، وقتل الحسين.

قال: فبكى أهل البيت جميعا، فقلت يا رسول الله:

ما خلقنا ربنا إلّ للبلاء؟، قال:

أبشر يا علي، فإن الله عز وجل قد عهد اليَّ أنّه لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّمنافق »(1).

ولذا: لم تجد الى (بثه سبيلا)، أي أنَّ القصدية في فقدان السبيل في بث هذه الالام وما جرى عليها من أضرار كانت تكمن في الاسباب الاتية:

1- أن بثَّته الى علي (عليه السلام) أدخلت عليه الاذى ولأنها انموذج الزوجة الصالحة كتمت عن زوجها أحزانها وهي العالمة أنّ ذلك من أشد ما يتعرض له الرجل حينما تضرب زوجته.

2- إنّ الامام علي (عليه السلام) كان يدرك حالها ولكن لم يطلب منها أن تتحدث كي لا يهيج الآمها وأوجاعها كالجمر الذي غطّاه الرماد فأي حرمة لرفع الرماد يظهر نار الجمر.

ص: 199


1- الامالي للشيخ الصدوق، ص 197 .

فكان يتجنب اذاها، علما منه بجلالة قدرها، وأن هذا الألم سيدخل على قلب رسول الله (صلى الله عليه واله) فكيف له أن يعصي الله طرفة عين.

3- إن تكلمت فاطمة (عليها السلام) لزم من علي الانتصار لها ممن ظلمها، ولأنها تدرك أنّ واجبه ليس القصاص ممن ظلمها وإنما العمل بما أوصاه به النبي (صلى الله عليه واله) بالصبر على ما نزل بهم آل البيت حتى يحكم الله؛ فلذا سكتت

ولم تجد السبيل الى الكلام.

4- إنهّا عملت بتكليفها الشرعي في اعانة علي (عليه السلام) على حفظ الهدف الأكبر وهو الاسلام، فهي والإمام علي شركاء في حفظ دين النبي (صلى الله عليه واله)، فهي تحملت ما نزل بها وصبرت على كتمه عن علي (عليه السلام)، وهو كتم ما نزل به من الاعتداء على فاطمة على حليلته و أُم عياله ولم تأخذه الحميّة على الانتصار ممن ظلمها على الحمية على الدين وحفظه.

ومما لا ريب فيه أن لفاطمة كثير من الأسرار التي ستطلع أبيها عليها، وتبثها له (صلى الله عليه وآله) فهو السبيل الوحيد لما اعتلج بصدرها من غليل أحرق قلبها.

ولذا:أتبعه (عليه الصلاة والسلام) بقوله:

«وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين .»

لتكتمل بذلك قصديته فيما يعقب هذا القول من آثار أراد بيانها لدى المتلقي وهو ما سنتناوله في المبحث القادم إن شاء الله تعالى.

ص: 200

المبحث الحادي والعشرون: مقاصدية الملازمة بين قول فاطمة (علیها السّلام) وحكم الله (عزوجل)

اشارة

ص: 201

قوله (عليه السلام) «وستَقُولُ ويحَكْم اللَّه »

اشارة

ص: 202

يرشد النص الشريف في هذا الموضع الى التركيز في تأثير ما تقدم على المتلقي، وذلك أنّ المتلقي للنص كان يسير معه في ثلاثة امور، وهي:

أولاً- بيانه (عليه الصلاة والسلام) لشأنية فاطمة وبيان منزلتها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضمن الدلالات الاتية:

(ابنتك، حبيبتك، قرة عينك، زائرتك، النازلة في جوارك، البائتة الثرى ببقعتك،صفيتك، سيدة نساء العالمين).

ثانيا- بيانه لآثار وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفقده وما قام به (عليهاالسلام) من تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن مصابه برسول الله (صلى الله عليه وآله) هوّن عليه مصابه بفقد فاطمة (عليها السلام) كما جاء في المفردات

الاتية: «إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك، والحزن الذي حل بي لفراقك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي، بلى وفي كتاب الله أنعم القبول: ﴿انا لله وانا اليه راجعون﴾ .»

ثالثا- بيانه لآثار مصيبة فقد الزهراء عليه، وما نزل به من الالم والحزن لفقدها مقرونا ذلك ببيان بعض شانيتها عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) كما جاءت به المفردات الاتية:

ص: 203

(استرجعت الوديعة، اخذت الرهينة، اختلست الزهراء)

ثم ينتقل الى بيان ما نزل به لفقدها:

«أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي الى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم .»

هذه المقاطع الثلاثة كانت ترشد الى حقلين معرفيين أساسيين لدى المتلقي، وهما:

أ- الاثار المعنوية المرتبطة بشأنيتها ومنزلتها، وهي تختص بحقل المعارف العقدية.

ب- الاثار المعرفية في التعريف عن شخصيته وعاطفته، وهي تختص بحقل المعارف النفسية والمكونات الشخصية.

ومن ثم فإن هذان الحقلان المعرفيان كانا تمهيدا لما سيأتي من بيان حول تاريخ الأمة وما عملته الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واجتماعهم علىسلب حق العترة (عليهم السلام) وانتهاك حدود الله تعالى من جهة، ومن جهة

اخرى ما يتبع هذه الافعال من أثار على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعقدية.

بمعنى: فتح (عليه السلام) ذهن المتلقي الى حقلين معرفيين جديدين هما:

1- الحقل التاريخي والسيرّي والسياسي في أنقلاب الأمة على العهود والمواثيق التي أخذت عليهم في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- الحقل القانوني والقضائي والجزائي في معاقبة الجناة ومن رضى بهذه الجرائم ووقف مع الظالم ولم ينصر المظلوم.

ص: 204

وقد جاء هذان الحقلان المعرفيان في المفردات الاتية:

اولاً- في الحقل التاريخي والسيرّي والسياسي:

(وستنبئك أبنتك بتظافر امتك عليّ، وعلى هضمها حقها)

ثانيا- في الحقل القانوني والقضائي والجزائي:

(وستقول، ويحكم الله، وهو خير لحاكمين)

وهذا الحقل المعرفي له آثاره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعقدية فضلا عن الاثار الاخروية، وهو ما سنتناوله في هذا المبحث، اي:

الوقوف عند هذه الاثار في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعقدية ضمن مجموعة من المسائل، وهي كالاتي:

المسألة الاولى: قصدية الاستقبال القريب بين قولها والحكم الالهي «ستقول ويحكم الله . »

اشارة

إنّ لحرف السين في الاستعمال الدلالي في اللغة تفيد في وقوع الأمر أو الفعل في الزمن الحاضر أو الزمن القريب؛ ولا يفيد التأخير أو التأجيل كما تدل (سوف).

ولذا: يدل النص الشريف في تقديم ال(سين) في الفعل (تقول) وعطف الفعل «يحكم » الى الملازمة في دلالة معنى الفعلين ووقوعهما الزمني، بمعنى:

أنها ( عليها السلام) الأن تقول ويلازمه الحكم في نفس الوقت من حين صدور قولها، وهذا يكشف عن القصدية في هذه الملازمة بين قول فاطمة وصدور الحكم الالهي والمحددة هنا بأمرين:

ص: 205

الأمر الأول: رضا الله لرضا فاطمة (عليها السلام) وغضبه عز وجل لغضبها.

الأمر الثاني: مصاديق الملازمة في صدور العقوبة الالهية في القرآن والتاريخ وبيان الأمرين، كما يلي:

أولاً: الملازمة بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة (علیها السّلام)

إنّ ما بين تجليات المقاصدية التي اكتنزها النص في (ستقول ويحكم) هو أن الملازمة بين القول والحكم كان نتيجة لسنتين الهيتين، السُّنة الأولى (العدمية في التبديل)، والسُّنة الآخرى (العدمية في التحويل).

وقد جاء ذلك في قوله تعالى:

أ- ﴿تجدَ لِسُنَّةِ اللَّه تَبْدِيلًا﴾(1).

ب- ﴿وَلَنْ تَجدَ لِسُنَّةِ اللَّه تَحوِيلًا﴾(2).

وعليه: لن تتغير هذه السنة فمن ذلك ان الله قد اجرى غضبه عند غضب انبيائه ورسله واوليائه ومنهم فاطمة (عليها السلام) التي نص على وجود الملازمة بين غضبها وغضب الله تعالى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جملة من النصوص، منها:

1- (ان الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)(3).

ص: 206


1- سورة الاحزاب، الآية ( 62 ).
2- سورة فاطر، الآية ( 43 ).
3- عيون اخبار الرضا (علیه السّلام) للصدوق: ج( 2) ص( 46 )؛ المناقب لابن شهر اشوب: ج( 3) ص( 325 )؛ الامالي للمفيد: ص 94 - 95 ؛ صحيفة الرضا (علیه السّلام) للصدوق: ص( 45 )؛ عوالي اللآلئ: ج( 4) ص( 93 )؛ الاصابة لابن حجر: ج( 4) ص( 39 ) و ج( 8) ص( 56 - 57 ) ط: دار الجبل؛ المعجم الكبير للطبراني: ج( 2) ص( 401 )، حديث 1001 ؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ج( 3) ص( 43 )؛ الحاكم النيسابوري في المشترك: ج( 3) ص( 153 - 154 )؛ جمع الزوائد للهيثمي: ج( 9) ص( 203 )؛ اسد الغابة: ج( 7) ص( 1224 ).

2- (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني)(1).

3-(إنّما هي بضعة مني يريبها ما أرابها ويؤذيني ما أذاها)(2).

وقد نص القران الكريم على أن أذى النبي (صلى الله عليه وآله) هو أذى الله تعالى وإن النتيجة لهذه الملازمة في استحقاق الآثار وتبعات الأذى هي اللعنة الإلهية والعذاب الأليم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾(3).

وعليه:

فإن من السنن الألهية أن يرضى الله تعالى لرضى فاطمة (عليها السلام) ويغضب لغضبها، ومن ثم أين تكمن العلاقة، وأين تكون المغايرة بين غضب الخالق وغضب المخلوق، أي بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة (عليها السلام)؟

وجوابه فيما يلي:

1- لابد أولاً من التفريق بين المغايرة التي يراد بها اتصاف الخالق بالمخلوق، وبين المغايرة التي يراد بها الشريعة، يعني: أننا حينما نريد أن نصف الغضب من حيث كونه غضباً فلابد أن نلتفت إلى أن هناك تغايرا في منشئ الغضب وظهوره وتحققه

في الخارج، بحيث يلحق منشئ الغضب لدى الإنسان وظهوره وتحققه في الخارج بالخالق عزّ وجل وهذا لا يجوز شرعاً، فغضب الخالق مغاير بالكلية لغضب المخلوق.

ص: 207


1- صحيح البخاري، باب مناقب المهاجرين: ج( 3) ص( 219 )، صحيح مسلم، باب فضائل فاطمة: ج( 7) ص( 141 ).
2- صحيح البخاري، باب النكاح: ج( 6) ص( 158 )، صحيح مسلم، باب فضائل فاطمة؛ ج( 7) ص( 141 ).
3- سورة الاحزاب، الآية ( 57 ).

أما أن يكون غضب الأنبياء والمرسلين الحادث لانتهاك الشريعة، وتعدي الحدود الإلهية، فهو في الواقع غضب الله تعالى وبه تنشئ العلاقة بين الغضبين والرضاءين،لأن المحرك لهذا الغضب هو الحكم الشرعي.

إلاّ أن تبعات هذا الغضب والرضا بين الخالق سبحانه والمخلوق مختلفة؛ ومغايرة، وهي المغايرة الشرعية، بمعنى: أن تبعات غضب الخالق سبحانه: هو الدخول في النار، وتبعات رضاه، هو الدخول في الجنة، أما الأنبياء والمرسلون والأئمة فهم لا

يملكون جنة ولا نار وإنما هم السبل المؤدية إلى الجنة والنار.

وهذا المعنى قد دلّ عليه الحديث الشريف للإمام الصادق (عليه السلام) في بيانه لقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمعِينَ﴾(1).

فقال:

(إنّ الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مدبرون، فجعل رضاهم لنفسه رضى، وسخطهم لنفسه سخطا، وذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال أيضا: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها، وقال أيضا: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمَنْ تَوَلَّی فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(2).

ص: 208


1- سورة الزخرف، الآية ( 55 ).
2- سورة النساء، الآية ( 80 ).

وقال أيضا:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه يَدُ اللَّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَی نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَی بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّه فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).

وكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، هكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك ولو كان يصل إلى المكون الأسف والضجر وهو الذي أحدثهما وأنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إن المكون يبيد يوما ما، لأنه إذا دخله الضجر

والغضب دخله التغيير وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا، هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة

استحال الحد والكيف فيه، فافهم ذلك إن شاء الله)(2).

والحديث الشريف واضح الدلالة والمعنى في بيان العلاقة بين غضب الله تعالى وبين غضب أولياءه، وإن المناط في ذلك هو الحكم الشرعي فهؤلاء الأنبياء والمرسلين والأئمة غضبهم لله ورضاهم له ولذلك جعلهم لنفسه سبحانه.

2- لا يكون الغضب من الله تعالى إلا بهتك الحرمات، وحرمات الله تعالى تحددها الشرائع السماوية بحسب الضرورة الشرعية والمصالح الدينية التي يحددها الله تعالى لكل نبي من الأنبياء وإن كانوا جميعاً قد بعثوا لمحاربة الوثنية والإشراك بالله تعالى

وقاموا بالدعوة إلى التوحيد.

فكان انتهاك هذه الحرمات وتعدي حدود الله تعالى هي الموجبة للغضب الإلهي وبها ينزل العذاب على المقترفين لهذه الانتهاكات، وبصونها تنزل الرحمة وتفتح أبواب السماء وينال رضا الله تعالى.

ص: 209


1- سورة الفتح، الآية ( 10 ).
2- كتاب التوحيد للشيخ الصدوق: ص 169 .

ولقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في مواضع كثيرة تظهر اختلاف هذه الحرمات من دين إلى دين آخر حتى إذا جئنا إلى الإسلام كانت الحرمات التي ذكرها القرآن خمسة، وهي:

(البيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل)(1).

ثم كان التعظيم لهذه الحرمات فقال سبحانه:

﴿الشَّهْرُ الَحرَامُ بِالشَّهْرِ الَحرَامِ وَالُحرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه مَعَ الُمتَّقِينَ﴾(2).

كي يبتلى المسلم في هذه الحرمات فيرى الله سبحانه كيف يعظمها عباده فيختبرهم ويمتحنهم بها كما امتحن الذين من قبلهم.

وهذه الحقيقة والحكمة في هذا الابتلاء بيّنها الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) حينما تحدث عن القرآن ومن تكلم فيه من الناس بدون علم ولا هدى فقال (عليه السلام):«إن ناسا تكلموا في هذا القرآن بغير علم وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿هُوَ الذَّي أنَزَلَ عَلَيكْ الكْتِاَبَ مِنهْ آيَاتٌ مُحكْمَاتٌ هُنَّ أمُّ الكْتِاَبِ وَأخُرُ مُتشَاَبَهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِی قُلُوبِهمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْألْبَابِ﴾(3).

فالمنسوخات من المتشابهات، والمحكمات من الناسخات إن الله عز وجل بعث نوحا إلى قومه:

ص: 210


1- زبدة البيان للمحقق الأردبيلي: ص 229 .
2- سورة البقرة، الآية ( 194 ).
3- سورة آل عمران، الآية ( 7).

﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾(1).

ثم دعاهم إلى الله وحده وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم بعث الأنبياء (عليهم السلام) على ذلك إلى أن بلغوا محمدا (صلى الله عليه وآله) فدعاهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وقال:

(شَرعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّی بهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَينْاَ إلِيكْ وَمَا وَصَّينْاَ بهِ إبِرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُر عَلَی الُمشْركِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّ يَجتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(2).

فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء (به) من عند الله فمن آمن مخلصا ومات على ذلك أدخله الله الجنة بذلك، وذلك أن الله ليس بظلام للعبيد، وذلك أن الله لم يكن يعذب عبدا حتى يغلظ عليه في القتل والمعاصي التي

أوجب الله عليه بها النار لمن عمل بها، فلما استجاب لكل نبي من استجاب له منقومه من المؤمنين، جعل لكل نبي منهم شرعة ومنهاجا، والشرعة والمنهاج سبيل وسنة وقال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله): إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده.

وأمر كل نبي بالأخذ بالسبيل والسنة وكان من السنة والسبيل التي أمر الله عز وجل بها موسى (عليه السلام) أن جعل الله عليهم السبت وكان من أعظم السبت ولم يستحل أن يفعل ذلك من خشية الله، أدخله الله الجنة ومن استخف بحقه

واستحل ما حرم الله عليه من عمل الذي نهاه الله عنه فيه، أدخله الله عز وجل النار وذلك حيث استحلوا الحيتان واحتبسوها وأكلوها يوم السبت، غضب الله عليهم

ص: 211


1- سورة نوح، الآية( 3 ).
2- سورة الشورى، الآية ( 13 ).

من غير أن يكونوا أشركوا بالرحمن ولا شكوا في شيء مما جاء به موسى (عليه السلام)، قال الله عز وجل:

﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِی السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(1).

ثم بعث الله عيسى (عليه السلام) بشهادة أن لا إله إلا الله والاقرار بما جاء به من عند الله وجعل لهم شرعة ومنهاجا فهدمت السبت الذي أمروا به أن يعظموه قبل ذلك وعامة ما كانوا عليه من السبيل والسنة التي جاء بها موسى فمن لم يتبع سبيل عيسى أدخله الله النار وإن كان الذي جاء به النبيون جميعا أن لا يشركوا بالله شيئا، ثم بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) وهو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد (صلى الله عليه وآله) على ذلك إلا من أشرك بالرحمن وتصديق

ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة:

﴿وَقَضَی رَبُّكَ أَلَّا تَعْبدُوا إلِّا إيِّاهُ وَباِلوْالدِيْنِ إحِسَانًا إمِّا يَبلْغَنَّ عِندْكَ الكْبِر أَحَدُهَما أَوْ كلِاهُما فَلَا تَقُلْ لَهمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهمَا قَوْلًا كَرِيمًا ( 23 ) وَاخْفِضْ لَهمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمهُمَا كَمَا رَبَّيَانِی صَغِيرًا ( 24 ) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بمِا فِی نُفُوسِكُمْ

إِنْ تَكُونُوا صَالِحينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْاوَّابِينَ غَفُورًا ( 25 ) وَآتَ ذاَ القْرُبىَ حَقهَّ وَالمسْكيِنَ وَابنْ السَّبِيلِ وَلَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ( 26 ) إِنَّ الُمبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ

كَفُورًا ( 27 ) وَإمِّا تُعْرِضَنَّ عَنهْهمُ ابْتغِاءَ رَحْمةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهمْ قَوْلًا مَيسْورًا ( 28 ) وَلَا تَچعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلِی عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحسُورًا( 29 ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾(2).

ص: 212


1- سورة البقرة، الآية ( 65 ).
2- سورة الإسراء، الآيات ( 23- 30 ).

أدب وعظة وتعليم ونهي خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء مما نهى عنه وأنزل نهيا عن أشياء حذر عليها ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا

كَبِيرًا ( 31 ) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( 32 ) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللُّه إلِّا بِالَحقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( 33 ) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتيِمِ إلِّا باِلَّتيِ هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ

أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ( 34 ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الُمسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ( 35 ) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ إنِّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ( 36 ) وَلَا تَمشْ فِی الْأرْضِ مَرَحًا إنِّكَ لَنْ تَخرِقَ الْأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الِجبَالَ طُولًا ( 37 ) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ( 38 ) ذَلكِ مِمّا أوَحَى إلِيَكْ رَبُّكَ مِنَ الِحكْمَةِ وَلَا تَجعَلْ مَعَ الله إلِها آخَرَ فَتُلْقَى فِی جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾(1).

وأنزل في:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( 1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجلَّی ( 2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأنْثَى ( 3) إِنَّ سَعْيكَمْ لشَتىَّ ( 4) فَأمَّا مَنْ أعَطىَ وَاتقَّى ( 5) وَصَدَّقَ بِالُحسْنَى ( 6) فَسَنيُسَّرهُ للِيْسُرى ( 7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتغَنىَ ( 8) وَكَذَّبَ بِالُحسْنَى ( 9) فَسَنيُسَّرهُ للِعُسْرى ( 10 ) وَمَا يُغْنيِ عَنْهُ مَالُهُ إذِا تَرَدَّى ( 11 ) إنِّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ( 12 ) وَإنِّ لَنَا لَلْأخِرَةَ وَالْاوُلَی ( 13 ) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ( 14 ) لَا يَصْلَهَا إِلَّا الْأشْقَى ( 15 ) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّی﴾(2).

ص: 213


1- سورة الإسراء، الآيات: ( 31 - 39 ).
2- سورة الليل، الآية ( 1- 16 ).

فهذا مشرك وأنزل في:

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( 1) وَأذَنِتْ لرِبِّها وَحُقَّتْ ( 2) وَإذِا الْأرَضُ مُدَّتْ ( 3) وَألَقْتْ مَا فِيهَا وَتَخلَّتْ ( 4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ( 5) يَا أَيُّها الْأنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلِی رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقيِهِ ( 6) فَأمَّا مَنْ أُوتِی كتِاَبَهُ بيِمَينهِ ( 7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( 8)

وَيَنْقَلِبُ إلِی أَهْلِهِ مَسْرورًا ( 9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِی كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( 10 ) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( 11 ) وَيَصْلَی سَعِيرًا ( 12 ) إنِّهُ كَانَ فِی أَهْلهِ مَسْرورًا ( 13 ) إنِّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحورَ ( 14 ) بَلَ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾(1).

فهذا مشرك وأنزل في (سورة) تبارك:

﴿تَكَادُ تَمیزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فيِهَا فَوْجٌ سَأَلَهمْ خَزَنَتُهَا أَلَم يَأْتكِمْ نَذِيرٌ ( 8) قَالُوا بَلَ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّه مِنْ شَیءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِی ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾(2).

فهؤلاء مشركون وأنزل في الواقعة:

﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الُمكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فنَزُلٌ منِ حَميِمٍ ( 93 ) وَتصَليِةَ جَحِيمٍ﴾(3).

فهؤلاء مشركون وأنزل في الحاقة:﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِی كتِاَبَهُ بشِمَالهِ فَيقَولُ يَا ليَتْنَيِ لَم أُوتَ كتِاَبيِهَ ( 25 ) وَلَم أَدْرِ مَا حِسَابيِهَ ( 26 ) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ( 27 ) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ( 28 ) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( 29 ) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( 30 ) ثُمَّ الَجحِيمَ صَلُّوهُ ( 31 ) ثُمَّ فِی سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ

ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ( 32 ) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّه الْعَظِيمِ﴾(4).

ص: 214


1- سورة الانشقاق، الآية ( 1- 15 ).
2- سورة الملك، الآية ( 8 - 9).
3- سورة الواقعة، الآية ( 92 ).
4- سورة الحاقة، الآية ( 25 - 33 ).

فهذا مشرك، وأنزل في طسم:

﴿وَبُرِّزَتِ الَجحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( 91 ) وَقِيلَ لَهمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ( 92 ) مِنْ دُونِ اللَّه هَلْ يَنْصُرونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرونَ ( 93 ) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( 94 ) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمعُونَ﴾(1).

جنود إبليس ذريته من الشياطين وقوله:

﴿وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الُمجْرِمُونَ﴾(2).

يعني المشركين الذين اقتدوا بهم هؤلاء فاتبعوهم على شركهم وهم قوم محمد (صلى الله عليه وآله) ليس فيهم من اليهود والنصارى أحد وتصديق ذلك قول الله عز وجل:

﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ﴾(3).

﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأيْكَةِ الُمرْسَلِينَ﴾(4).

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الُمرْسَلِينَ﴾(5).

ليس فيهم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، ولا النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّه وَقَالَتِ النَّصَارَى الَمسِيحُ ابْنُ اللَّه ذَلِكَ قَوْلُهمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(6).

ص: 215


1- سورة الشعراء، الآية ( 91 - 95 ).
2- سورة الشعراء، الآية ( 99 ).
3- سورة الحج، الآية ( 42 ).
4- سورة الشعراء، الآية: 176 .
5- سورة الشعراء، الآية ( 160 ).
6- سورة التوبة، الآية ( 30 ).

سيدخل الله اليهود والنصارى النار ويدخل كل قوم بأعمالهم، وقولهم:

﴿وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الُمجْرِمُونَ﴾(1).

إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عز وجل فيهم حين جمعهم إلى النار:

﴿قَالَ ادْخُلُوا فِ أمُمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلْكِمْ مِنَ الِجنِّ وَالْأنْسِ فِی الناَّرِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أمُّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَميعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِاولَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(2).

وقوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾(3).

وقال: ﴿الُمنَافِقُونَ وَالُمنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالُمنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الَمعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهمْ نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الُمنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(4)

فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولات حين نجاة والآيات وأشباههن مما نزل به بمكة ولا يدخل الله النار إلا مشركا، فلما أذن الله لمحمد (صلى الله عليه وآله) في الخروج من مكة إلى المدينة بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها وأنزل في بيان القاتل:

ص: 216


1- سورة الشعراء، الآية ( 99 ).
2- سورة الأعراف، الآية ( 38 ).
3- سورة الاعراف، الاية ( 38 ).
4- سورة التوبة، الاية ( 67 ).

﴿وَمَنْ يَقْتلُ مُؤْمِناً مُتعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنمَّ خَالدِا فيِهَا وَغَضِبَ الله عَلَيهْ وَلعَنهَ وَأعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(1).

ولا يلعن الله مؤمنا قال الله عز وجل:

﴿إِنَّ اللَّه لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهمْ سَعِيرًا ( 64 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(2).

وكيف يكون في المشيئة وقد ألحق به حين جزاه جهنم الغضب واللعنة وقد بين ذلك من الملعونون في كتابه وأنزل في مال اليتيم من أكله ظلما.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِی بُطُونِهمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾(3).

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما وذلك أن آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم وأنزل في الكيل:

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾(4).

ولم يجعل الويل لاحد حتى يسميه كافرا، قال الله عز وجل:

﴿فَاخْتَلَفَ الْأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(5).

ص: 217


1- سورة النساء، الآية ( 93 ).
2- سورة الأحزاب، الآية ( 64 ).
3- سورة النساء، الآية ( 10 ).
4- سورة المطففين، الآية ( 1).
5- سورة مريم، الآية ( 37 ).

وأنزل في العهد:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَنِهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهمْ فِی الْأخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّه وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1).

والخلاق: النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة وأنزل بالمدينة:

﴿الزَّانِی لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانيِةً أَوْ مُشْركَةً وَالزَّانيِةُ لَا يَنْكِحُهَا إلِّا زَانٍ أَوْ مُشْركٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَی الُمؤْمِنِينَ﴾(2).

فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال:

«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص ». ونزل بالمدينة: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(3).

فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالايمان، قال الله عز وجل: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾(4)

ص: 218


1- سورة آل عمران، الآية ( 77 ).
2- سورة النور، الآية ( 3).
3- سورة النور، الآية( 4).
4- سورة السجدة، الآية ( 18 ).

وجعله الله منافقا، قال الله عز وجل:

﴿الُمنَافِقُونَ وَالُمنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالُمنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الَمعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهمْ نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الُمنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(1).

وجعله عز وجل من أولياء إبليس، قال:

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِأدَمَ فَسَجَدُوا إلِّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الِجنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِی وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلًا﴾(2).

وجعله ملعونا فقال:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الُمؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 23 ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بمِا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(3).

وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب،فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل:

﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بإِمِامِهِمْ فَمَنْ أُوتِی كتِاَبَهُ بيِمَينهِ فَأوُلئَكِ يَقْرَءُونَ كتِاَبَهمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾(4).

أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء:

ص: 219


1- سورة التوبة، الآية ( 67 ).
2- سورة الكهف، الآية ( 50 ).
3- سورة النور، الآية ( 23 ).
4- سورة الإسراء، الآية ( 76 ).

﴿وَاللّاتِی يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِی الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الَمْوْتُ أَوْ يَجعَلَ اللَّه لَهنَّ سَبِيلًا﴾(1).

والسبيل الذي قال الله عز وجل:

﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِی فَاجْلدِوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهْمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهمِا رَأْفَةٌ فِ دِينِ الله إنِ کنتْمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهمَا طَائِفَةٌ مِنَ الُمؤْمِنِينَ﴾(2).(3).

وهنا نجد بوضوح كيف أن الله تعالى قد أجرى حكمته في ابتلاء الأمم السابقة في تعظيمها للحرمات التي حددها الله سبحانه كحرمة يوم السبت ثم نسخه لهذه الحرمة في أمة عيسى (عليه السلام) وكيف كان تدرج الأحكام في هذه الأمة وابتلاء

المسلمين بها منذ أن بعث (صلى الله عليه آله) وحتى توفي وقد صدع بالنذارة وبلغ بالرسالة فكانت أعظم الحرمات التي ابتلي بها المسلمون هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته أهل بيته.

فكانت طاعته (صلى الله عليه وآله) طاعة الله التي ينال بها رضاه وجنته؛ ومعصيته (صلى الله عليه وآله) هي معصية الله تعالى التي ينزل بها سخط الله وتوجب الخلود في النار والعياذ بالله.

لأن العاصي لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكون قد هتك أعظم الحرمات وذلك لعظم حرمة الإسلام عند الله تعالى؛ وأن المطيع لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكون قد صان أعظما لحرمات عند الله تعالى.

ص: 220


1- سورة النساء، الآية ( 15 ).
2- سورة النور، الآية ( 1).
3- الكافي للكليني: ج 2، ص 28 - 33 .

وهي حقيقة نص عليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها:

1-قال الله تبارك وتعالى:﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَمَنْ يُطِعِ اللَّه وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الْأنْهارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(1).

2- قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(2).

3- وقد جعل الله الهجرة إليه وإلى رسوله فقال سبحانه:

﴿وَمَنْ يهُاَجِرْ فِی سَبيِلِ الله يَجدِ فِی الْأرَضِ مُرَاغَمًا كثَيِرًا وَسَعةَ وَمَنْ يَخرْجْ مِنْ بيَتْهِ مُهَاجِرًا إِلَی اللَّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الَموْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللَّه وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا﴾(3).

4-وجعل سبحانه حرب رسوله هي حرب له عزّ شأنه فقال:

﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِی الْأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبوُا أوَ تُقَطعَّ أيَدِيهمِ وَأرَجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أوَ يُنفْوْا مِنَ الْأرَضِ ذَلكِ لَهمْ خِزْيٌ فِی الدُّنْيَا وَلَهمْ فِی الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(4).

5-وجعل شقاهما أمر واحد فقال سبحانه:

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهمْ شَاقُّوا اللَّه وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّه فَإِنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(5).

ص: 221


1- سورة النساء، الآية ( 13 ).
2- سورة النساء، الآية ( 14 ).
3- سورة النساء، الآية ( 100 ).
4- سورة المائدة، الآية ( 33 ).
5- سورة الأنفال: الآية ( 13 ).

6- وإن تحريم الرسول هو تحريم الله سبحانه فقال تعالى:

﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَلَا يُحرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الَحقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الِجزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(1).

7- وإن الله جعل العطاء والخير والرزق وما يحتاجه العباد هو من الله ورسوله فقال سبحانه:

﴿وَلَوْ أَنَّهمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه سَيُؤْتِينَا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَی اللَّه رَاغِبُونَ﴾(2).

8-وقد جعل الله سبحانه الغنى منه ومن رسوله فقال:

﴿يَحلِفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَّموا بِمَا لَم يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرا لَهمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهمُ اللُّه عَذَابًا أَلِيمًا فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمَا لَهمْ فِی الْأرْضِ مِنْ وَلِّی وَلَا نَصِيرٍ﴾(3).

9-وقال سبحانه في الذين يحاربون رسوله (صلى الله عليه وآله): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللَّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِی الْأذَلِّينَ﴾(4).

ص: 222


1- سورة التوبة، الآية ( 29 ).
2- سورة التوبة، الآية ( 59 ).
3- سورة التوبة، الآية ( 74 ).
4- سورة المجادلة، الآية ( 20 ).

10- وقد سخط الله على أهل الكتاب فأخرجهم من ديارهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وجعلهم يقدمون على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وأجلاهم من الأرض والسبب في ذلك أنهم شاقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال سبحانه:

﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمُ الَجلَاءَ لَعَذَّبَهمْ فِی الدُّنْيَا وَلَهمْ فِی الْأخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3) ذَلِكَ بِأَنَّهمْ شَاقُّوا اللَّه وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّه فَإِنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(1).

وغيرها من الآيات الكريمة التي تظهر أن أعظم الحرمات عند الله تعالى هي حرمة رسوله الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، وأن بطاعته يكون المسلم قدصان أعظم الحرمات، وأن بمعصيته (صلى الله عليه وآله) يكون العاصي قد هتك

أعظم الحرمات.

قال تعالى:

﴿إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّه وَرِسَالَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾(2).

والآية لا تنطق بعقوبة الإشراك بالله تعالى ولم تتحدث عن الصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد وغيرها من الفروع وإنما مطلق المعصية لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) تدخل العاصي النار وتقضي عليه بالخلود فيها.

فكيف بمن آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ماذا سيكون مصيره في الدنيا والآخرة.

قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللُّه فِی الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾(3).

ص: 223


1- سورة الحشر، الآيتان( 3 و 4).
2- سورة الجن، الآية ( 23 ).
3- سورة الأحزاب، الآية ( 57 ).

وأي أذى أكبر من أن تقتل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيها يقول النبي: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني »(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها »(2).

وعليه:قد لا يبقى مجال لدى البعض في نكران أن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة (عليها السلام) بعد أن ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي يغضب لغضبها ويتأذى لأذاها، والسؤال المطروح هل أن الله تعالى سيجعل انفكاكاً وتجزءً بين رضا رسوله (صلى الله عليه وآله) ورضا بضعته فاطمة (عليها السلام) بعد كل هذا البيان الذي نزل به الوحي في محكم الكتاب في إظهار حرمة رسول الله (صلى الله عليه

وآله) وبيان هذا التلازم بين طاعة الله ومعصيته وحربه، وشقاقه، وحداده، وأذاه،ورضاه، وبين رسوله (صلى الله عليه وآله)، الذي لا ينفك ولا يتجزأ عن رضا بضعته وقلبه وروحه التي بين جنبيه فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلهاوبنيها؟

ص: 224


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين: ج 3، ص 219 ؛ صحيح مسلم، باب: فضائل فاطمة عليها السلام: ج 7، ص 141 .
2- صحيح البخاري، باب: النكاح: ج 6، ص 158 ؛ صحيح مسلم، باب: فضائل فاطمة عليها السلام: ج 7، ص 141 .

إذن:

العلة في أن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها، ويتألم لألمها، ويتأذى لآذاها، ويفرح لفرحها، وغير ذلك مما يحيط بها صلوات الله عليها وعلى أبيها

وبعلها وبنيها.

ثانياً: مصاديق الملازمة في إلحاق العقوبة لمنتهكي الحدود الإلهية في القرآن والتاريخ
اشارة

يعرض القران الكريم جملة من المصاديق التي ترشد المتلقي الى سنة الهية جرتفي الامم السابقة وتجري في هذه الامة، وهي الحاق العقوبة لمنتهكي الحدود الالهية،اما انيا ساعة وقوعها بحيث لا يستغرق وقوعها وقتا طويلا، واما تأخيرها لما بعد ثلاثة ايام او لزمن ابعد من ذلك، وذلك بحسب مكانة المقدسات او بحسب الامر الارشادي للناس كي يعودوا الى جادة الصواب والرجوع الى الله تعالى.

ويمكن الوقوف على هذه المقاصدية فيما يلي:

ألف - أسرع العقوبات الإلهية وقوعا في عقد النية الجماعية

جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾(1)

فقد أستغرق أمر وقوع العقوبة في الحادثة التي وقعت في قوم لوط (عليه السلام) بضع ساعات جزاءً لما جَنوه من عقد النية على انتهاك الحدود حينما عزموا على أن يتعدوا على ضيوف لوط (عليه السلام) وهم الملائكة الذين دخلوا عليه بهيئة البشر كما تبين الآيات المباركة:

ص: 225


1- سورة هود، الآية ( 81 ).

﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهرَعُونَ إلِيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّه وَلَ تُخزُونِ فِی ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( 78 ) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِی بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 ) قَالَ لَوْ أَنَّ

لِی بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إلِی رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 ) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلِيْكَ فَأَسْر بأِهْلكِ بقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلِّا امْرَأَتَكَ إنِّهُ مُصِيبُهَا مَا أصَابَهمْ إنِّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبحْ ألَيَسْ الصُّبحْ بقِرِيبٍ ( 81 ) فَلَمَّ جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا

سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ( 82 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمينَ بِبَعِيدٍ﴾(1).

والحادثة في بيانها لمصداق وقوع العقوبة وملازمتها لانتهاك المقدسات والحدودالالهية متفردة في البيان عن بقية الآيات الاخرى وذلك أنها ترشد الى خطورة النية والعزم في العمل.

فقوم لوط لم يتعدوا على الملائكة ولكن بمجرد عزمهم على إنتهاك حدود الله في الاعتداء على ضيوف نبي الله لوط (عليه السلام) عاجلهم الله تعالى في العقوبة وهي من خلال العرض القرآني تكون العقوبة الاسرع في الوقوع ان لم تستغرق

سوى بضع ساعات بين العزم على الفعل وبين رميهم بحجارة من سجيل جزاء على اجتماعهم على نية واحدة، فضلا عن أن هذا العزم في أتحاد نياتهم كان نتيجة لتلبس السيئات فيهم حتى وصلوا جميعاً الى شاكلة واحدة بسبب فعلهم السيئات.

باء - أقرب العقوبات وقوعا يكون بعد ثلاثة أيام

يكشف القرآن الكريم جانبا آخر من استحقاق الجناة والظالمين للعقوبة الالهية ومعاجلتهم بها فيحدد الفترة الزمنية بين اقتراف الجرم وصدور العقوبة ووقوعها

ص: 226


1- سورة هود، الآية ( 78 - 83 ).

وهو ثلاثة ايام وذلك حينما يتعلق الامر بالرضا بانتهاك الحرمات والمقدسات الالهية كما جاء ذلك في قضية نبي الله صالح وعقر الناقة، حيث قال تعالى:

﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّه لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِی أَرْضِ اللَّه وَلَا تَمسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( 64 ) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمتَّعُوا فِی دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْر مَكْذُوبٍ ( 65 ) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمةٍ مِنَّا وَمِنْ

خِزْيِ يَوْمِئذِ إنِّ رَبَّكَ هُوَ القْوِيُّ العْزِيزُ ( 66 ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِی دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(1).

وقد بين نبي الله صالح لقومه تعجيل العقوبة حينما يرتبط الامر بانتهاك المقدسات واشتراكهم جميعا فيه وان كان الفاعل واحدا في عقر الناقة كما جاء في قوله تعالى:﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( 11 ) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ( 12 ) فَقَالَ لَهمْ رَسُولُ اللَّه نَاقَةَ اللَّه وَسُقْيَاهَا ( 13 ) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهمْ بذِنْبهِمْ فَسَوَّاهَا ( 14 ) وَلَا يَخافُ عُقْبَاهَا﴾(2).

فبين قوله ﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ وقوله ﴿تَمتَّعُوا فِی دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْر مَكْذُوبٍ﴾ فكان الغريب في القران الكريم هو ثلاثة ايام.

وبين قوله ﴿إذِ انْبعَثَ أشَقَاهَا﴾، وقوله﴿فَعَقَرُوهَا﴾ وهو اشراكهم في الفعل وإن كان المنفذ واحداً؛ وبين قوله ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهمْ بِذَنْبِهِمْ﴾ بيان لوقوع العقوبة واختصاص الجميع بها حينما يتعلق الامر بالسكوت والرضا على انتهاك ما ارتبط وجوده بالله تعالى واختص به، كبيت الله، وشهر الله، وناقة الله، وهذا كله في الوجود المعنوي، أما الوجود الذواتي كأنبياء الله تعالى، ورّسلُ الله، و أولياء الله، فالعقوبة

ص: 227


1- سورة هود، الآية ( 64 - 67 ).
2- سورة الشمس، الآية ( 11 - 15 ).

أشد وأسرع مالم يتم ترجيح بقاء الإمة أو القوم الذين وقعت بين ظهرانيهم الجريمة في انتهاك المقدسات كقوم النمرود ورميهم لإبراهيم في النار أو في عزمهم على قتل عيسى بن مريم؛ وإيذائهم للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم:

1- يعرض القرآن الكريم استحقاق الظالمين للعقاب ونزوله ووقوعهم فيه في دلالة الزمن القريب هو ثلاثة ايام وان الفاصل الزمني للعقوبة وبين الجرم يتحدد بحسب قدسية الشيء من جهة وبين تقديم المصلحة في تجزئة العقوبة وتوقيتاتها

التنفيذية بين عقد النية الجماعية.

2- والرضا الجماعي بالجريمة.

المسألة الثانية: فاطمة (علیها السّلام) تحدد العقوبات التي استحقها الجناة وقصديةالزمن في وقوعها

اشارة

تظهر قصدية استحقاق العقوبة من خلال الحكم الإلهي في معاقبة الجناة في قوله (عليه الصلاة والسلام):

«وستقول ويحكم الله .»

وذلك من خلال تحديدها (عليها السلام) للعقوبات التي استحقها الجناة في خطبتها التي ألقتها في المسجد وقد اردفتها (عليها السلام) في اظهار قصدية الزمن في وقوعها كما مرّ بيانه في المسألة السابقة في اظهار الزمن في وقوع العقوبة كما في الرضا بوقوع الجرم بعقر الناقة.

ومن ثم فإن هذه الانتهاكات والاعتداء على الحرمات المقدسات التي وقعت على بيت النبوة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابد لها من بيان يربط بنوع العقوبات وتحديد الزمن الذي يعقب وقوع الجريمة فكان البيان لذلك من خلال

خطبتها (عليها الصلاة والسلام) في المسجد، فكانت على النحو الاتي:

ص: 228

أولاً: تحديد الزمن الذي أعقب وقوع الجرم وصدور الحكم وتنفيذه
اشارة

يختلف الزمن في تحديده من حيث المدة التي أعقبت انتهاك حرمة بيت النبوة والاعتداء على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يحددها قول امير المؤمنين (عليه السلام) في هذا النص الشريف -موضع البحث- والذي سنتعرّض له

مفصلا من خلال جملة من المسائل.

ومن ثم فإن المدة الزمنية التي أعقبت هذه الاعتداءات والانتهاكات للحرمات والمقدسات تختلف عن الذي أظهره القرآن الكريم كما مرَّ سابقا والعلة في ذاك تعود الى جملة من الأسباب، منها:

1- إن الإسلام هو خاتمة الأديان ومن ثم لا يكون التعجيل في العقوبة مثلما كانت الاديان السابقة والامم الماضية إذ جرت السنّة الألهية بتعاقب الاديان ونسخها لما يأتي من بعدها، أما دين الإسلام فهو خاتم الأديان ولذا لا يكون التعجيل في

العقوبة.

2- إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان وجوده يرفع العذاب لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِّبَهمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللُّه مُعَذِّبَهمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(1). ومن ثم وجود النبي (صلى الله عليه وآله) يرفع العذاب وكذا الاستغفار؛ والاول متحقق بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بوجود نفس النبي وهو الامام علي (عليه السلام) بنص اية المباهلة في قوله تعالى (وانفسنا وانفسكم) فلم يخرج معه في الاختصاص بالأنفس غير الإمام علي (عليه السلام) لمباهلة نصارى نجران.

ص: 229


1- سورة الانفال، الآية ( 33 ).

فوجود الإمام علي (عليه السلام) في هذه الخاصية لرفع العذاب العاجل في الأمة متحقق ومانع لوقوعه في الامة والحال هذا يجري مجرى المعصومين من بعده فهم

الأمناء على الخلق في رفع العذاب العاجل بإذن الله تعالى.

إلاّ إن هذه الانتهاكات لبيت النبوة وان كانت العقوبات متحققة كما سيمر إلاّ أنها خارجة عن نطاق التعجيل في العذاب، وعليه:

يصبح تحديد الزمن متفاوت إلاّ أنه لن يطول كثيرا كما بينته الزهراء في خطبتها في موضعين، وهما:

الموضع الاول - في قولها (علیها السّلام)

(ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها وسيلس قيادها)(1).

وهذا القول فيه قصديتين:

القصدية الأولى: التلبث المقرون بالنية المبينة للانقضاض على بيت النبوة وسلب الخلافة والجلوس في مجلس الحكم والأثرة بالملك كما صرّح بذلك عمر بن الخطاب في يوم السقيفة، فقال (من ذا ينازعنا سلطان محمد وأمارته)(2).

فكان تسارعهم للسقيفة والنبي (صلى الله عليه وآله) لم يدفن بعد كاشفاً للتربص والإصرار على هتك الحرمات والاعتداء على المقدسات.

القصدية الثانية: تحديد المدة الزمنية التي تعقب نزول العقوبات على الجناة والتي تقتضي بحسب النص الشريف الى بضع سويعات وذلك من خلال دلالة انقياد الفرس النافرة عن الإنقياد لصاحبها حتى يسهل قيادها وهو ما استعارته (عليها الصلاة والسلام) كناية عن المماثلة بين بقائهم وسكن نفرة الدابة وسلس قيادها.

ص: 230


1- الاحتجاج للطبرسي: ج( 1) ص( 138 ).
2- تاريح الطبري:ج 2 ص 457 .
الموضع الثاني - قوله (علیه السّلام) (أما لعمري لقحت فنظرة ريثما تنتج)

الموضع الثاني - قوله (علیه السّلام) (أما لعمري لقحت فنظرة ريثما تنتج)(1).

وهذه القصدية في تحديد المدة الزمنية لنزول العقاب حددته (عليها الصلاة والسلام) في بضع شهور كما هي العادة في لقاح النبات حتى تثمر وتنتج، أو في الحيوان والإنسان إذ الأمر غالبا في معظم الحيوانات لم يتعد السنة لاسيما في المألوف

من الحيوان عند العرب كالأغنام والأبقار والإبل، وغير ذلك مما ألف الناس رؤيته ومعايشته.

وعليه: فالمدة الزمنية التي اعقبت تنفيذ العقوبات الالهية في الجناة والامة كانت بضع شهور.

ثانياً: نوع العقوبات التي استحقها الجناة

أما نوع العقوبات فقد حددتها (عليها السلام) بما يلي:

«ثم احتلبوا ملئ القعب دماً عبيطا وذعافاً مبيدا، هناك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسسه الأولون ثم طيبوا عن دنياكم انفسا، واطمئنوا للفتنة جأشا.

وابشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين،يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيأصره لكم، وانى بكم وقد عميت عليكم ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ﴾ »(2).

ويتضح من ذلك جملة من العقوبات الالهية لهذه الانتهاكات والاعتداءات على المقدسات، وهو كالاتي:

ص: 231


1- الاحتجاج للطبرسي: ج( 1) ص( 148 ).
2- الاحتجاج للطبرسي: ج( 1) ص( 148 ).

الف- نتائج هذه الاعمال.

1- الإحتلاب من الدماء حتى الإمتلاء.

2- الموت الغاشم.

3- الفتنة الدائمة بين المسلمين.

باء- تسلسل العقوبات.

1- السيف الصارم.

2-سطوة الأعداء، اي: اعداء المسلمين.

3- الهرج الشامل.

4-استبداد الظالمين.

5- الفرقة الدائمة.

المسألة الثالثة: قصدية إظهار الآثار النفسية التي يعيشها الجناة

اشارة

ينقلنا النص الشريف في قوله (عليه السلام): «ستقول ويحكم الله » الى قصدية جديدة مرتبطة بالآثار النفسية التي يعيشها الجناة بعد ارتكابهم الجرم، وخاصة حينما يدركون أن العقاب واقع بهم لامحالة لاسيما إذا كان الأمر مرتبطاً بالضحية

من جهة، ومن جهة ثانية مرتبط بنوع العقوبة، وهو ما سنتناوله في هذه المسألة.

أولاً: شأنية الضحية ومنزلتها تزيد في المعاناة النفسية للجناة.
اشارة

إن القصدية في هذه الناحية، أي الآثار النفسية المرتبطة بالجناة تتكشف من خلال نفس الضحية التي تعرضت للاعتداء.

ص: 232

بمعنى: إنّ الارتدادات النفسية التي يعيشها الجناة تتعاظم كلما تعاظم شأن الضحية والأمثلة على ذلك في الحياة متعددة وعلى مر الزمان، ومنها:

ألف - الشأنية الدنيوية

ويظهر ذلك لأصحاب المنازل المرموقة كأرباب الملك وشؤن المملكة او الحكام وأرباب الحكومة، فهؤلاء بحكم مناصبهم في الدولة تصبح لهم شأنية تفرض على الاخرين جملة من الحدود والقيود في التعامل معهم في تعظيمهم والاحتفاء بهم،

ومن ثم فإن المساس بهم والتعرض لهم بما يمس بهذه الشأنية المعنوية من جهة وبما يمس بشخوصهم وذواتهم من جهة ثانية ليترتب عليه مجموعة من الآثار النفسية التي تتناسب في حجمها مع حجم تلك الشأنية.

ومن ثم يعيش الجاني أو المعتدي على شأن الملك والحاكم أو الوزير معاناة نفسية أكبر مما يعيشها نفس الجاني فيما لو أعتدى على موظف صغير في عنوانه الوظيفي في دائرة

من الدوائر الخدمية كأن يكون عاملاً في بلدية لناحية من النواحي التابعة للاقضية.

إذ الاختلاف قائم ولو كان من هذا العنوان، بمعنى: إنّ العامل في نظافة قصرالملك ولو كان عنوانه الوظيفي حاملاً للقمامة إلا أنه لا يقاس بنفس الشأنية التي يحملها من يحمل القمامة من شوارع الناحية التي تعود في نظامها الإداري للقضاء،

وهذا القضاء خاضع للمحافظة.

من هنا:

تختلف المعاناة النفسية التي يعيشها الجاني أو المعتدي في حالة الترقب لوقوع العقاب والقصاص باختلاف شأن الضحية ومنزلتها في الحياة الدنيا وذلك ليقينه أن العقوبة ستكون كبيرة في الإعتداء على الخادم في قصر الملك ولا تقاس في حجمها

في الاعتداء على عامل للنظافة في قرية من القرى.

ص: 233

باء - الشأنية الآخروية

في هذا الاتجاه تكون المعاناة النفسية للجناة كبيرة أيضا لاسيما وأن القرآن الكريم قد ركز على الجانب النفسي كنوع من العقوبة الأولية في موارد متعددة.

وذلك من خلال إمهالهم للوقت الفاصل بين وقوع الجريمة وتنفيذ العقوبة ولقد كان من شأن الانبياء (عليهم السلام) بيان الزمن الفاصل بين وقوع الجريمة وتنفيذ العقوبة كما مرَّ بيانه سابقا؛ كقوله تعالى:

1- ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾(1).

2- ﴿تَمتَّعُوا فِی دَارِكُمْ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْر مَكْذُوبٍ﴾(2).

وخلال هذه الساعات التي يعيشها الجناة فإن الدقائق التي تمضي عليهم كلما أنقضت دقيقة منها أزداد معها حالات الترقب لوقوع العقوبة، وهذا الترقب هو في حد ذاته عقوبة شديدة للنفس فقد عاشت معاناة الألم النفسي في الإنتظار وأن هذه

المعاناة تزداد كلما كانت الضحية عظيمة الشأن عند الله تعالى.

على الرغم من أن الجناة والظالمين وإن كانوا يتظاهرون بالجلادة والعزة بالإثم والتحدي لوقوع العقوبة إلا أن الحقيقة النفسية أنهم في معاناة نفسية نتيجة تلك الإرتدادات التي يخلفها الزمن المحدد لوقوع العقوبة لاسيما إذا كانت العقوبة

بالإعدام أو أنها تكون مجهولة وهي في هذه الحالة تكون أكثر أثراً على النفس إذ يزداد معها الترقب لجهالة الجناة بنوع العقوبة.

ص: 234


1- سورة هود، الآية ( 81 ).
2- سورة هود، الآية ( 65 ).

وهذه المعاناة النفسية كشفها القرآن الكريم من خلال تحديده للزمن الذي يسبق تنفيذ العقوبة فضلا عن اخفائه نوع العقوبة اذ لا يعلم الجناة كما في حادثة خروج أبرهة لتهديم بيت الله وكقوم لوط عن نوع العقوبة، إذ لم يكونوا يعلمون أنهم سيعاقبون برميهم بحجارة من سجيل كما لم يكن كثير من الامم يعلمون أنهم سيعاقبون بنوع محدد، في حين كان غيرهم قد أخبروا بذلك كقوم صالح ﴿ فَأَصْبَحُوا فِی دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾.

وعليه:

تكون القصدية هنا من مجموعة المقاصدية في قوله (عليه السلام): (وستقول ويحكم الله)

هو بيانه واظهاره للمعاناة النفسية التي يعيشها الجناة الذين انتهكوا حرمة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وحرمة سيدة نساء العالمين هذه المعانة النفسية للجناة تكون من جهة العقوبة وزمان تنفيذها كما مرَّ بيانه.

ثانياً: ترقب الجناة لسكوت الضحية أو نطقها يزيد في عقوبة المعاناة النفسية

ولها وجهة نظر ثانية تزيد في حجم المعاناة النفسية للجناة وهي من جهة الضحية نفسها وهل أنها ستتكلم أم أنها ستسكت وذلك أن سكوتها يمنع وقوع العقوبة أو على أقل التقادير إنه يخفف في حجمها وذلك بلحاظ ما يمكن أن تتكلم به الضحية أمام القضاء.

ص: 235

وعليه:

فقوله: (ستقول ويحكم الله)، بمعنى: رفع التوهم وقطع الظنون لدى الجناة والظالمين من أنها (عليها السلام) لمم تتكلم عما جرى عليها ولن تتحدث عما اجترموا بحقها وذلك أنهم عايشوها فترة من الزمن فوجدوها ساكتة لم تألب الناس عليهم أو لم تدفع فحل الفحول ومجندل صناديد العرب الإمام علي (عليه

السلام) للأخذ بحقها كما مرَّ بيانه في سبب كتمانها ما جرى عليها حتى عن علي (عليه السلام) وهو ما بحثناه في قوله (عليه السلام): «فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثه سبيلا .»

ومن ثم قد أصبح لدى الظالمين والجناة قناعة بأنها لن تتكلم ولم تحرك ساكنا سوءا لدى علي (عليه السلام) أو لدى بني هاشم بلحاظ ما تفرضه القوانين العشائرية من قوانين

المطالبة بحق ابن العشيرة في الاعتداء عليه وهذا في اقل التقادير أو سواء على المستوى الجماهيري بتحريك الناس وهس التي تمتلك من الوسائل التي تمكنها من تأجيج

المجتمع وقيادة الحراك الجماهيري ضد أصحاب السقيفة إلا أنها اختارت السكوت في أغلب حالها وإن كانت (عليها السلام) قد قادت الحراك السياسي والجهادي ضد السلطة من خلال خروجها الى المسجد وألقاء خطبتها الإجتماعية فيه أو من خلال خطبتها في مجمع من نساء الأنصار والمهاجرين حينما جئن لزيارتها في مرضها.

إلا أنها في أصل الموضوع كانت ساكتة عن الكثير مما جرى عليها منه جاء قوله (عليه السلام): «فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثه سبيلا .»

وعليه: فالإمام امير المؤمنين (عليه السلام) يقطع طريق على الجناة في رفعهم لهذه المعانة ودفعهم لحالات الترقب من خلال عدم اطمئنانهم بأنها لن تتكلم مبين أنها (علیها السّلام):

«ستقول ويحكم الله .»

ص: 236

أي نقلهم الى المعاناة النفسية لما اقترفوه في التعدي وانتهاك حرمتها.

من هنا: اجتمع عليهم جملة من الاثار النفسية كما مر بيانة، وهي:

1- الآثار النفسية المرتبطة بشأنية فاطمة (عليها السلام) الاخروية والدنيوية.

2- الآثار النفسية المرتبطة بالزمن الفاصل بين وقوع الجريمة و وقوع العقوبة.

3- الآثار النفسية المرتبطة بما تقوله الضحية، أي فاطمة (عليها السلام).

4- الآثار النفسية المرتبطة بنوع العقوبة الالهية.

ومنها ما أرتبط بأصحاب الجريمة والجناة الاساسيين الذين اقترفوا جريمة قتلها كما سيمر لاحقا؛ ومنها ما أرتبط بالأمة، والذي حددته الزهراء (عليها السلام) بجملة من العقوبات العامة التي ستقع في الامة لسكوتها على الجريمة ورضاها

بفعل الجناة ومشايعتهم وهو ما سنتناوله في المسالة القادمة.

المسألة الرابعة: القصدية في تنوع الحكم الالهي

اشارة

تظهر قصدية قوله (عليه السلام):

«ويحكم الله » في اختلاف الحكم الى شقين أو قسمين، القسم الأول خاص بالجناة الاساسيين أصحاب السقيفة وبعض الذين تعرضوا مباشرة للاعتداء على بيتالنبوة وانتهاك حرمة بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وهؤلاء كانت العقوبات

الدنيوية بحقهم مختلفة عن العقوبات التي لحقت بالأمة جميعا، فأما العقوبات الاولى الخاصة بالجناة فكانت على النحو الاتي:

ص: 237

القصدية الاولى: ظهور الحكم الالهي في الجناة الاساسيين الذين انتهكوا حرمة بيت النبوة
اشارة

يمكن استجلاء قصدية تنفيذ الحكم الألهي في حق الجناة الاساسيين الذين انتهكوا حرمة بيت النبوة من خلال قراءة سيرتهم وخواتيم اعمالهم.

بمعنى الوقوف عند تلك اللحظات الاخيرة التي ودعوا فيها الحياة الدنيا ليطأوا أول أعتاب الحياة الاخرة لاسيما حالات الاحتضار والكيفية التي ماتوا بها وختموا حياتهم، ومن ثم:

تقديم صورة واضحة المعالم عن عاقبة الجناة الاساسيين الذين ظلموا فاطمة (صلوات الله عليها)، فقد ذكرت النصوص التاريخية والحديثية تهديد عمر بن الخطاب لفاطمة (عليها السلام) في حرق دارها بمن فيه واقدامه من بعد ذلك على تنفيذ التهديد.

وذكرت النصوص أيضا أن الآمر بالهجوم واقتحام بيت النبوة كان بأمر من أبي بكر ومن ثم لا بد من اجراء السنة الالهية في اختصاص اهل هذا البيت بالنبي الاعظم (صلى الله عليه وآله)، أي: تحقيق مصداق قوله (صلى الله عليه وآله):

(هؤلاء اهل بيتي؛ اني سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم)(1).

وعليه: فإن عاقبة هؤلاء القادة والجناة الاساسيين الذين ظلموا فاطمة (عليها السلام) كانت وبحسب مقتضى قوله (عليه السلام):(وستقول ويحكم الله)، على النحو الآتي:

ص: 238


1- مسند أحمد:ج 2 ص 442 ؛ سنن الترمذي: ج 5 ص 360 ؛ مستدرك الحاكم: ج 3 ص 149
ألف - كيف كانت عاقبة ابي بكر في آخر أيام حياته وماذا قال في احتضاره ؟

أختلفت الروايات في كيفية موت أبي بكر، فمنها ما جعلت سبب الوفاة فنسبته إلى دس السم إليه فقضى مسموما(1)؛ ومنها ما قيل: إنه توفي بالسّل(2).

ومنها ما قيل: إنه مرض بسبب لسعة الحية التي لسعته ليلة الغار(3).

لكن الأشهر عند المؤرخين، إنه مات مسموماً، وقد احتضر فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف فسمع منه اعترافه وندمه على ما فعل ببيت فاطمة (عليها السلام) وكم تمنى أنه لم يقتحم هذا الدار ولم يؤمر باقتحامه، قائلاً له: (وودت أني لم أكن كشفت عن بيت فاطمة، وتركته ولو أغلق على حرب...)(4).

باء - كيف كانت عاقبة عمر بن الخطاب في آخر حياته؟ وماذا قال في احتضاره ؟

قبل وصول عمر بن الخطاب إلى اللحظات الأخيرة من عمره كان له موقفاً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما مضى وقد سأله رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حاله في القبر وحضور الملكان إليه ليسألانه عن التوحيد والنبوة والإمامة فما

كان جوابه.

قال عمر، قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«كيف أنت إذا كنت في أربع أذرع في ذراعين، ورأيت منكراً ونكيراً؟ .»

ص: 239


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، ص 395 .
2- تاريخ القضاعي: ص 277 ؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 64 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 198 ؛ تاريخ القرماني: ج 1، ص 281 .
3- الفخري في الآداب السلطانية: ج 1، ص 34 .
4- السقيفة وفدك للجوهري: ص 43 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 47

قال: قلت يا رسول الله وما منكر ونكير؟ قال (صلى الله عليه وآله): «فتانا القبر يبحثان الأرض بأنيابهما، يطآن في أشعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يطيقوا رفعها، هي أيسر عليهما من عصاي هذه .»

قلت: يا رسول الله وأنا على حالي هذه؟ قال:

«نعم .»

قلت: أكفيكهما(1).

والسؤال المطروح لماذا يتوجه النبي (صلى الله عليه وآله) بالسؤال إلى عمر عن حال القبر وحضور منكراً ونكيراً ويصفهما له ومن ثم يبيّ له النبي (صلى الله عليه وآله) بناءً على سؤاله أنه على حاله هذه فقد كفيهما لكنه بعد ترويعه لفاطمة بتهديها في حرق دارها بمن فيه، أي القضاء على أهل البيت النبوي وابادتهم، ولم يثنه شيء من حرقه لبيت النبوة واقتحامه له وقتله للمحسن وأمه، وترويع الحسن والحسين (عليهما السلام)، قطعاً قد تغير حاله، هذا الحال الجديد في القبر أخبر عنه عمر بن الخطاب حينما رآه أحد الناس في المنام بعد قتله على يد أبي لؤلؤة وكان قد طعنه في بطنه فبقرها.

إنها حالاً جديدة قال عنها ابن الخطاب: حينما سئل في الرؤيا: (كاد يُثَلُّ عرشي) وهو مثل يضرب للرجل إذا ذل وهلك(2).

أما حاله في الاحتضار فقد أخبر عنها البخاري عن المسور بن مخرمة، إنه قال: (إنّ عمر لما طعن جعل يألم، فقال له ابن عباس وكأنّه يجزّعه فرد عليه عمر قائلاً:

ص: 240


1- الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 82 . كنز العمال للهندي: ج 15 ، ص 741 .
2- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 1، ص 220 ، ط دار إحياء التراث.

وأما ما ترى من جزعي، فهومن أجلك وأجل أصحابك، ووالله لو أن طلاع الأرض لي ذهباً لافتديت به من عذاب الله من قبل أن أراه)(1).

وكان يقول:

وقد أخذ تبنة من الأرض: يا ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أكن شيئاً، ليتني كنت نسياً منسياً)(2).

فهذه حال عمر بن الخطاب في اللحظات الأخيرة من حياته وعند احتضاره وانتقاله إلى الآخرة.

القصدية الثانية: معاقبة من رضا بظلمها فكانت العقوبة الجماعية
اشارة

يمكن بيان هذه القصدية في قوله (عليه السلام) (ويحكم) من خلال ما عايشته الامة من مظاهر تتجلى فيها العقوبات الالهية الجماعية فكانت على النحو الاتي:

أ- ظهور حروب الردة عند الايام الاولى لتولي الخلافة و وقوع السيف بين المسلمين

إن أول مظهر من مظاهر معاقبة الذين ظلموا فاطمة عليها السلام هي وقوع السيف بين المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك حينما قام أبو بكر بتجهيز جيش بقيادة خالد بن الوليد لإجبار المسلمين على بيعته بحجة

ارتداد هؤلاء عن الإسلام أو امتناعهم من إعطاء الزكاة إلى السلطة الجديدة.

فكان ما كان من أمر خالد بن الوليد وقتله للمسلمين لاسيما قتله لمالك بن النويرة والمبيت مع زوجة مالك في نفس الليلة التي قتل خالد فيها زوجها(3).

ص: 241


1- صحيح البخاري، باب مناقب المهاجرين: ج 4، ص 201 .
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 360 ؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 10 ، ص 437 .
3- مرآة الجنان لليافعي: ج 1، ص 55 . الإيضاح للفضل بن شاذان: ص 134 . الاستيعاب لابن عبد البر:ج 3، ص 1362 . فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 117 .

والسؤال المطروح: ماذا سمي هذا المبيت هل هو اغتصاب، أم زواج مدني، أم نكاح جاهلي، أم زنى؟! لا أحد يعلم ما كانت الشريعة التي أتبعها خالد بن الوليد آنذاك سوى الذي نصبه قائداً على الجيش ولذلك لم يعاقبه.

ب- عمر بن الخطاب يغتال سيد الأنصار سعد بن عبادة بعد حادثة السقيفة

إن من الآثار التي ظهرت في الأمة بعد قيامها بظلم فاطمة بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وظلم بعلها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، هو وقوع القتل لسيد الأنصار سعد بن عبادة الذي جلس في سقيفة بني ساعدة يتفاوض في أمر البيعة والخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي لم يحرك ساكناً وهو يرى انتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما اقتحم عمر بن الخطاب بيت فاطمة (عليها السلام) بعد أن أضرم النار فيه.

هذا السكوت عن الظلم وترك نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعرضه وحرمته كان من نتائجه أن يُقتل سعد بن عبادة غيلة بسهم أصابه من رجل بعثه إليه عمر بن الخطاب كمرحلة من مراحل الإنقلاب وتصفية رموز المعارضة.

فعن ابي المنذر هشام بن محمد الكلبي، قال:

(بعث عمر رجلاً إلى الشام فقال: أدْعه إلى البيعة، واحمل له بكل ما قدرت عليه، فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط(1)، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع

قرشياً أبداً.

ص: 242


1- الحائط: البستان.

قال: فإني أقاتلك: وإن قاتلتني.

قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟

قال: أما البيعة فأنا خارج؛ فرماه بسهم، فقتله.

وعن ميمون بن مهران عن أبيه قال: (رمي سعد بن عبادة في حمّام بالشام فقتل).

وعن ابن سيرين قال: رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده، فمات؛فبكته الجنّ فقالت:

وقتلنا سيد الخزْ*** رج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمي*** ن فلم نخطئ فؤاده(1)

ولا يخفى على أهل البحث والفكر أن هذين البيتين إنما قيلا كي يضيع معهما دم سعد بن عبادة فتقيد الجريمة ضد مجهول؛ وتبرء ساحة عمر بن الخطاب الذي كان الباعث والمدبر لوقوع هذه الجريمة؛ أو لعل عمر كان له أعواناً من الجن ينفذون

أوامره بقتل المخالفين له سواء كانوا من المهاجرين أم من الأنصار وإنهم، أي هؤلاء الجن كانوا يحسنون الرمي وقول الشعر ليكون فعل الجن يشد الانتباه أكثر من وقوع الجريمة فيشغل الرواة بالجن ويتركون الضحية كما وقع لسعد بن عبادة

زعيم الأنصار وسيدهم!!

ص: 243


1- العقد الفريد لابن عبد البر الأندلسي: ج 2، ص 74 ، وج 4، ص 259 260 .
ج- عثمان بن عفان يكشف عن بطش عمر بن الخطاب بالصحابة فلم يتمكنوا من الاعتراض عليه

لا شك أن الساكت عن الظلم كالعامل به، ولا شك أن آثار الظلم لتسري في المجتمع كما يسري النار في الهشيم، سُّنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا ولاتجد لها تبديلا.

فالذين سكتوا عن ظلم فاطمة (عليها السلام) ورضوا بفعل عمر بن الخطاب قد إبتلاهم الله بعمر بن الخطاب فأذاقهم الذل كما أخبر بذلك خليفة المسلمين عثمان بن عفان فقال:

(إن لكل شيء آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وإن عاهة هذا الدين عيابون ظنانون يظهرون لكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون طغام مثل النعام يتبعون أول ناعق أحب مواردهم إليهم النازح.

لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم عليّ ولكنه وقمكم وقمعكم وزجركم جزر النعام المخزمة، والله إني لأقرب ناصراً وأعز نفراً وأقمن إن قلت هلم أن تجاب دعوتي من عمر هل تفقدون من حقوقكم شيئاً فما لي لا أفعل في الحق ما أشاء

إذا فلم كنت إماما)(1).

وله موقف آخر مع الصحابة وأبنائهم حينما أراد توسعة مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له مروان بن الحكم:

ص: 244


1- إعجاز القرآن للباقلاني: ص 216 217 ، ط دار المعارف بمصر؛ البيان والتبيين للجاحظ: ج 1، ص 377 .

(فداك أبي وأمي أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال ويحك! إني أكره أن يروا إني استبدّ عليهم بالأمور، فقال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ فقال: أسكت إن عمر أشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم حُجْرَ ضبٍّ

دخلوا، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم، قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يُسمع هذا منك فيجترأ عليك)(1).

د- عائشة تألب الناس على عثمان بن عفان

لعل الناظر إلى الفترة الزمنية التي أعقبت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمحصورة في زمن خلفاء المسلمين يجد أن زمن الخليفة الثالث من أكثر الأزمنة ظهوراً للتناحر بين الرعية والخليفة لاسيما وإن هذا الزمن قد شهد الظهور الأول

لتحرك عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) بأكثر من اتجاه؛ منها ما كان برواية الحديث والإفتاء، ومنها ما كان في الجانب السياسي والتدخل في شؤون السلطة وتكفير الخليفة ووصفه بالخروج عن السنة ومحو الشريعة، إذ كانت في زمن عثمان

بن عفان (تخرج قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشعره، وتقول: هذا قميصه وشعره لم يبليا، وقد بلي دينه، أقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلا)(2).

(وكانت عائشة بمكة، خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها أنصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟

قال: قتل! قالت: بعدا وسحقاً! قالت: فمن بايع الناس؟ قال: طلحة، قالت: أيها ذو الأصبح.

ص: 245


1- وفاء الوفاء: ج 2، ص 252 ، ط مؤسسة الفرقان.
2- تجارب الأمم لابن مسكويه الرازي: ج 1، ص 469 ؛ تاريخ أبي الفداء: ج 1، ص 172 ؛ أخبار الدول للقرماني: ج 1، ص 271 .

ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بايعوا علياً.

قالت: والله ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه، ثم رجعت إلى مكة، وأقام علي أياماً، ثم أتاه طلحة والزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج.

وروى بعضهم أن علياً قال لهما، أو لبعض أصحابه:

«والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة .»

فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت ابي أمية، زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: إن ابن عمي وزوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوماً، وأن أكثر الناس لم يرض ببيعة علي، وأن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا،فلو خرجت بنا لعل الله أن يلم أمر أمة محمد على أيدينا؟

فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات النساء غض الأبصار،وخفض الأطراف، وجر الذيول.

إن الله وضع عني وعنك هذا، ما أنت قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك؟ فنادى مناديها: إلا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا.

وأتاها طلحة والزبير وأزالاها عن رأيها، وحملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، ومعها طلحة والزبير في خلق عظيم، وقدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة والزبير،

فاستعانا به، وسارا نحو البصرة.

ص: 246

ومرَّ القوم في الليلة بماء يقال له: ماء الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم: ماء الحوأب، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ردوني ردوني! هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكون التي تنبحك كلاب الحوأب،فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب)(1).

فأحدث هذا الخروج شرخاً عميقاً في صرح الإسلام لم تزل الأمة تدفع ضريبته من دماء المسلمين ولن ينتهي، وذلك أن سنة ظلم فاطمة صلوات الله عليها لم تتغيرولم تتبدل حتى يغير الله تعالى حال الأمة.

المسألة الخامسة: القصدية في قوله (وهو خير الحاكمين) وآثارها العقدية والسّيريّة

اشارة

يرشدنا النص الشريف في قوله (عليه الصلاة والسلام):

«وهو خير الحاكمين » الى جملة من الأمور يمكن جمعها في حقلين معرفيين وبهما ستتضح ملامح القصدية في قوله (عليه السلام).

الحقل الاول: في إظهار الآثار العقدية في ارجاء الحكم لله تعالى، وثانيا: في الحقل السّيري، أي أظهار الآثار السّيرية في زمن الحادثة وكاشفيتها للنجاة في المستقبل فيما سينزل بالظالمين والمشايعين لهم والراضين بفعالهم، وهذا من خلال العقوبات التي تبعت الحادثة وشملت أولئك ومن خلال القصاص الذي سينزل بهم في محكمة ابن فاطمة (عليها السلام) المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما ورد

في النصوص الشريفة.

ص: 247


1- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 178 .
أولاً: الآثار العقدية التي تظهر قصدية القول في ضوء القرآن الكريم

عند الرجوع الى القرآن الكريم للوقوف على دلالات هذه الصفة، أي أنه تعالى (خير الحاكمين) نجدها قد جاءت في ثلاثة مواضع:

الموضع الاول في سورة الاعراف في قوله تعالى:

﴿ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَم يُؤْمِنُوا فَاصْبِروا حَتَّى يَحكُمَ اللَّه بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْر الَحاكِمِينَ﴾(1).

الموضع الثاني في قوله تعالى:

﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِر حَتَّى يَحكُمَ اللَّه وَهُوَ خَيْر الَحْاكِمِينَ﴾(2).

الموضع الثالث في قوله تعالى:

﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبيِرُهُمْ أَلَم تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثقِا مِنَ اللِّه وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِی يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِی أَبِی أَوْ يَحكُمَ اللَّه لِی وَهُوَ خَيْر الَحاكِمِينَ﴾(3).

والآيات الثلاثة ترشد الى دلالات متعددة، منها:

1- إن المجال الذي تدور في فلكه الآيات هو الحقوق وانحصار هذه الحقوق إما فيما بين الناس والأنبياء في تبليغ الرسالة؛ وأما بين الله والانبياء(عليهم السلام).

ص: 248


1- سورة الاعراف، الآية ( 87 ).
2- سورة يونس، الآية ( 109 ).
3- سورة يوسف، الآية ( 80 ).

فإما بين الله والانبياء (عليهم السلام) فقد بين القرآن انهم لا يحكمون لأنفسهم وان كانوا قادرين على ذلك ولكن هم عباد الله المكلفون بتبليغ شرعه الى الناس، ومن ثم فالمعترض عليهم في التبليغ للشريعة فهو معترض على صاحب الشريعة

أي الله عز وجل وهو سبحانه المتكفل بالانتصار لشريعته وبهذا الانتصار ينتصر لأنبيائه ورسله (عليهم السلام).

وعليه: لم يكن الأنبياء يقتصون من فئة أو جماعة أو أشخاص حينما يتعلق الأمربالرسالة فالأمر الى الله تعالى وحده والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة وإن اظهرت هذه الشواهد القرآنية دعوة بعض الانبياء على قومهم وأممهم كما في دعوة نوح (عليه السلام) على قومه، قال تعالى:

﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَی الْأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.

والآية لم تكشف تحديده للعقوبة والاقتصاص؛ ولم يكن نوح قد علم بما سيحكم الله عليهم كأن يكون العقاب بالخسف أو المسخ أو الصيحة أو الطوفان حتى أستجاب الله دعوته فأمره ببناء السفينة وغير ذلك من العقوبات التي لم يتحدث

عنها القرآن.

وأما أن يكون الأمر بين الأنبياء والناس؛ أي للأنبياء (عليهم السلام) حقوقا على الناس وان التعرض لهذه الحقوق يتبعها قضاء وقصاص وان الحاكم في ذلك هو الله تعالى كما سيمر بيانه.

2- ترشد الآيات المباركة الى الاقتران والملازمة بين حكم الله تعالى والصبر فقد ورد اللفظ في الآيات الثلاثة ظاهرا ومستورا:

ص: 249

أ- ﴿وَاصْبِر حَتَّى يَحكُمَ اللَّه﴾.

ب- ﴿فَاصْبِروا حَتَّى يَحكُمَ اللَّه﴾.

ج- ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِی أَبِی أَوْ يَحكُمَ اللَّه لِی﴾.

وهنا كان الصبر مستورا، إذ مقتضى الحال يلزم ان يكون صابر حتى يأذن به نبي الله يعقوب بالرجوع أو لعله لا يأذن له بالرجوع وإنما سيظهر الله الحق فيما ينسب إليهم من سرقة صواع الملك.

3-الدلالة الثالثة هي العهود والمواثيق التي جاءت أيضا ظاهرة ومستورة، ففي الآية التي تخبر عن قوم نبي الله شعيب (عليه السلام) جاءت العهود والمواثيق مستورة، قال تعالى:

﴿وَإلِی مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه مَا لَكُمْ مِنْ إلِهٍ غَيْرهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالِميزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِالْأرْضِ بَعْدَ إِصْلَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْر لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(1).

وفي قضية يوسف (عليه السلام) قال تعالى:

﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَم تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾.

فقد جاءت المواثيق ظاهرة في الآية.

ومن ثم فإن النتيجة الكاشفة عن القصدية في قوله (عليه السلام):

«وهو خير الحاكمين » في آثارها العقدية في ضوء الآيات المباركة أن الأمر مرتبط بما يلي:

ص: 250


1- سورة الاعراف، الآية ( 85 ).

أ- التعدي على الحقوق التي أوجبها الله تعالى على العباد في حفظ الشريعة وإن التعرض للمصطفين لشرع الله انما هو تعرض لله تعالى، «وهو خير الحاكمين .»

ب- انتهاكهم للعهود والمواثيق التي يفرضها وجود المعصوم سواء كان نبيا ام رسولا أم إماما، أم مخصوصا ومنصوصا عليه بالعصمة كفاطمة (عليها السلام) وإن الله تعالى قد فرض هذه العهود والمواثيق على الناس أجمعين سواء آمنوا أم لم

يؤمنوا كوجوب التوحيد على جميع الناس وأن كفروا وانكروا فإن نكرانهم وكفرهم لم يعفهم عن حق التوحيد لله تعالى.

ومن ثم تصبح المعرفة تلازمية مع حق التوحيد فكلما ازداد الإنسان معرفة بالله ازداد التوحيد الرتبي به عز وجل.

وعليه: فالذين عايشوا النبي (صلى الله عليه وآله) وصحبوه وسمعوا حديثه ورأوا فعله لا يعذرون في التهاون بهذه الحقوق التي فرضها الله تعالى عليهم في حفظ شريعته وأهلها، وهم محمد (صلى الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام) لاسيما

بضعته النبوية وقلبه وروحه التي بين جنبيه وأن الأمة أنتهكت العهود والمواثيق التي اخذت عليهم في حفظ عترة النبي (صلى الله عليه وآله) وموالاتهم واتباعهم.

بل قد اقدموا على ترويعهم وقتلهم، كما اقدمت بنو اسرائيل على قتل انبيائهم فاستوجبوا القصاص والعقاب من الله.

ج- إنّهم، أي: العترة النبوية صبروا كما صبر الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) لما اضطهدوا وحوربوا، أي أن فاطمة والإمام علي (عليهما السلام) كانوا على صبر كبير وتحمل غير محدود لما جرى عليهم من المصائب وذلك لانهم فوضوا الامر في

العقاب والقصاص الى الله تعالى (وهو خير الحاكمين).

ص: 251

ثانياً: تعدد الحكّام والأحكام لكن الله خير الحاكمين

يرشد النص الى قصدية مهمة وهي أن الإمام علي (عليه السلام) كان قادرا على ان يحكم لكن الله خير الحاكمين؛ كما أن الوضع الطبيعي لما يفرضه العرف العشائري في الإقتصاص ممن يتعرض لأحد أبناء العشيرة يعد هو الآخر أحد الحكام في

المجتمعات العربية.

ومن ثم: يصبح لدينا مجموعة من الأحكام في قضية الزهراء (عليها السلام) وظلامتها، وهم كالاتي:

1- الإمام علي (عليه السلام) وهو صاحب الحق الأول لكونها زوجته وأم ولده.

2-بنو هاشم وهم عشيرتها، ولها عليهم حق الرحم والدم.

3- بنو زهرة، وهم أخوالها ولهم الحق في المطالبة بحق فاطمة (عليها السلام).

-4 الانصار الذين بايعوا الرسول (صلى الله عليه وآله) في العقبة الاولى والثانية على حفظه في نفسه وماله واهله وقدموا العهود والمواثيق له بذلك فهاجر اليهم من مكة.

5- المهاجرون فلهم الحق في محاكمة من قام بانتهاك حرمة فاطمة (عليها السلام)فهم قرابتها من قريش.

6- المسلمون جميعا لهم الحق أيضا في محاكمة ظالمي فاطمة (عليها السلام).

7- ابناؤها وذريتها.

8- شيعتها وموالوها ومحبوها.

9- التأريخ وهو الحاكم الذي لا يرحم وأن طال الزمان وتعددت الأقلام وتلونت بتلون وجوه أصحابها، لكنه في النهاية حاكما من الحكام.

ص: 252

وعليه:

تعدد الحكام وفي تعددهم تتعدد الأحكام لكن حكم الله تعالى هو الأعدل و الأقص في العقاب لأنه كما قال امير المؤمنين (عليه السلام): «وهو خير الحاكمين .»

ثالثاً: الآثار السيريّة في قصدية النص
اشارة

في الآثار السيريّة الكاشفة عن حقيقة الحدث، وهو ضمناً يكشف عن قصدية النص الشريف في هذا الجزء منه، أي قوله (وهو خير الحاكمين)، أي: غياب من ينتصر بهم أهل البيت عليهم السلام فوضوا ظلامتهم الى الله تعالى؛ كانت هذه

الآثار على النحو الاتي:

أ - فقدان الناصر للعترة النبوية (علیهم السّلام) ومؤداه في توسيع دائرة تظلمهم

إنَّ من البداهة التي يكشف النص أن سكوت فاطمة وعدم تكلمها كان لفقدان الناصر عنها وعن علي (عليه السلام) وهذا فضلا عما مر ذكره سابقا في علة سكوتها.

والا لو كان للعترة ناصرا لما سكتوا عن المطالبة بحقوقهم، بل لما تجرأ اقطاب سقيفة بني ساعدة من هذا التجرّي العظيم على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)وعليه:

يودي ذلك في مجمل الحوادث في الحياة عند فقدان المعين والناصر الى السكوت والانتظار حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

وفي المقابل يصبح الشاهدون للحدث دون مد يد العون لدفع الظلم عن المظلوم شركاء في عمل الظالم كما مر بيانه في حادثة عقر الناقة وفصيلها فعاقبهم الله جميعا.

ص: 253

من هنا:

نجد بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) تخاطب الامام علي (عليه السلام) لمّا رجعت من المسجد النبوي وقد ألقت خطبتها في جمع من المهاجرين والانصار مخاطبة أبي بكر وهو الخليفة الذي بايعه المسلمون فلم تجد حينها معينا أو ناصرا

فقالت مخاطبةً الإمام علي (عليه السلام): (مات العمد، ووهن العضد، شكواي الى أبي وعدواي الى ربي؛ اللّهم إنكّ أشد

منهم قوة وحولاً، وأشد بأساً وتنكيلا)(1)

ب - اشتراك الأنصار والمهاجرين في ظلامة فاطمة (علیها السّلام)

تتكشف الآثار السيريّة في مقاصدية النص من خلال صريح قول فاطمة (صلوات الله عليها) في خطبتها في المسجد النبوي فقد كشفت عين حقيقة اشتراك الانصار والمهاجرين في ظلامتها وتحديدها للكيفية في الاشتراك بهذا الظلم، فقالت لعلي (عليه السلام) تشكوا تظلمها وآلامها مما لاقته من أبي بكر وقد اظهرت الحجج القاطعة في المطالبة بحقها:

(هذا ابن ابي قحافة يبتزني نحلة أبي وبلغة أبني لقد أجهد في خصامي، وألفيته أَلدَّ في كلامي حتى حسبتني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وخضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة وعدت راغمة).

والنص الشريف مع وضوحه وصراحته في بيان التظلّم من الصحابة فقد حدد بالدقة نوع الظلم الذي مارسه القوم بحقها، فكان على النحو الاتي:

ص: 254


1- الامالي للطوسي: ص( 683 )؛ الاحتجاج للطبرسي: ج( 1) ص( 145 )؛ المناقب لابن شهر: ج( 2)ص( 51 ).

1- تخلي الانصار عن عهودهم في نصر النبي (صلى الله عليه وآله) وعترته بعد أن قدموا تلك العهود في بيعة العقبتين فاكتسبوا بذلك لقب (الانصار)، ولذا:

نجد الزهراء (عليها السلام) قد أرجعتهم الى نسبهم للمدينة، وهم بني قيلة وكان دورهم مرتكزاً على نصر الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا ما تعرض للحرب أو المخاصمة.

وهنا: تكشف الزهراء (عليها السلام) أنها في حرب قد سلب حقها وتحتاج الى من ينصرها على عدوها وخصمها.

أي: كان الواجب الشرعي الذي ألقي في أعناق الصحابة من أهل المدينة (بنو قيلة) نصر بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكنهم حبسوا النصر وتركوها للعدو والخصم الذي هو أَّلدَّ في خصام فاطمة (عليها السلام) كما صرّحت بذلك.

2-لاشك ان لبضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) على قريش حق صلة الرحم وان حق الرحم يقتضي في الشرع والعرف والخلق دفع الظلم عن الرحم والوقوف معها في وجه العدو ومنعه من الاستمرار في عدوانه إلا أن الواقع السيري للحادثة يكشف عن أن المهاجرين قطعوا الرحم وامتنعوا عن الوقوف بجانب بضعة النبي (صلى الله عليه وآله).

ولذا قالت (عليها السلام):

(والمهاجرة وصلها)

3- تخلي جميع المسلمين ممن لم يكونوا من أهل المدينة أو مكة من بضعة نبيهم (صلى الله عليه وآله) لتواجه خصمها الذي أبتزها أرضها وسهم ولديها الحسن والحسين

(عليهما السلام) من واردات هذه الارض وأموال رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 255

وعليه:

تظهر قصدية النص الشريف في قوله (عليه الصلاة والسلام):

(وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين)

إنّ المشتركين في ظلم فاطمة (عليها السلام) والذين ستذكرهم في قولها وشكايتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والذين سيحاكمهم الله هم (الانصار والمهاجرين

والجماعة) فبين حابس للنصر، وقاطع للرحم، وغاض طرفه عن الحق وساكت عنه.

من هنا:

لم يشهدوا جميعهم جنازتها ولا دفنها ولا يعلمون موضع قبرها؛ وإنَّ الخلف من المسلمين اليوم مقتدّون بالسلف وفعالهم بالأمس غير مكترثين لبضعة نبيهم (صلى الله عليه وآله) وغير متفلتين من حكم الله:

﴿وَهُوَ خَيْر الَحاكِمِينَ﴾.

ص: 256

المبحث الثاني والعشرون قصدية التكرار في السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأثره في تماسك النص

اشارة

ص: 257

قوله (عليه السلام):«والسلام عليك يا رسول الله سلَامَ موُدَّعٍ لَا قَالٍ ولَا سئَمِ، فَإِن أَنصْرَف فَلا عنَ ملَالة »

اشارة

ص: 258

إنّ قراءة النص الشريف بصيغته ومظهره الذي اخرجه الشريف الرضي أو الشيخ المفيد أو الطوسي أو الطبري الإمامي (رحمهم الله) كما مرّ في أول الكتاب يلحظ فيه ظهور التكرار في السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات، الاولى: كانت في بداية النص، والثانية: في وسط النص وهو موضع البحث،والثالثة: في خاتمة النص؛ فضلاً عن ذلك فإن الإمام (عليه السلام) يكرر السلام على فاطمة في أول حديثه، وعند أخره مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهذا التكرار لاشك يرشد الى مقاصدية ودلالات أرادها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وللوقوف على هذه المقاصدية والدلالات نورد المسائل الاتية:

المسألة الأولى: اسلوب التكرار وأثره في ايصال المعنى

إهتم البلاغيون قديما وحديثا بظاهرة التكرار للمفردات او المضامين في النص الواحد وقد جاء معنى التكرار في المعاجم اللغوية بما يفيد المعاودة والرجوع بغية اظهار امرا مهما لدى التكرار، اي: الراجع أو المعاود.

قال ابن منظور (توفي سنة 117 ه):

(الكرُّ: الرجوع، وهو مصدر كرَّ عليه: يكرُّ كراً، وكروراً وتكرارً: عطف.

وكرَّ عنه: رجع؛ وكرَّر الشيء وكرَّ الشيء وكرّره: اعادة مرة بعد اخرى ومنهالتكرار)(1).

ص: 259


1- لسان العرب، مادة: كر، ج( 5) ص( 135 ).

ومنه جاء المعنى في وصف اسلوب القاتل في الحروب بالكر والفر، أي معاودة الهجوم والرجوع الى المنازلة.

من هنا:

كان التكرار مصب اهتمام المشتغلون بعلم اللغة العربية منذ القرن الثالث الهجري، فقد اشار الخطابي (ت 388 ه) الى اهمية التكرار واثره في توكيد المعنى لدى المتلقي مشافهة او تدوينا وجاذبا اهتمامه مبتعداً ورود الغلط لديه او النسيان

لما يريده صاحب النص(1).

واتساقا لهذا المعنى المرادف من وجود التكرار، قال ابن جني (ت 392 ه):

ان العرب تلجئ الى التكرار في الالفاظ في كلامها حينما تريد معناً محدداً بغية حصر ذهن المتلقي في هذا المعنى(2).

ولم ينحصر الامر في هذه الرؤية لدى علماء اللغة القدماء، بل تبعهم على ذلك كثير من المعنيين بها في الوقت الحاضر.

فقد ذهب (ديفاتير) الى بيان اهمية التكرار في ايصال المعنى الذي قصده الناص في ذهن المتلقي ولذا فهو للم يقع اعتباطا في النص، فيقول:

(لو ان الظواهر الاسلوبية تقع اعتباطا دون عرف ترد اليه لما امكن ادراكها)(3).

ص: 260


1- ثلاث رسائل في اعجاز القران، د. محمد زغلول.
2- الخصائص لابن جني: ج( 3) ص( 101 ) طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 4، ص( 52 ) طبع دار المعارف، مصر، الطبعة 3
3- اساليب التكرار في ديوان سرحان لمحمود درويش: ص( 106 ) (رسالة ماجستير) لعبد القادر علي زروقي جامعة الحاج كلية الاداب، الجزائري: السنة 2011 م.

وذهبت احدى الدراسات المعاصرة الى اكتناز ظاهرة التكرار في وجودها على تحقيق قاعدتين:

الاولى: الجمع بين بينات النص الواحد ويربط الكلام.

الثانية: اهتمام المتلقي وشد انتباهه الى اهمية هذا الكلام بحيث لا يمكن ان يغفل مراد الناص أو المتكلم(1).

وعليه:

يكون أثر التكرار في المفردات او المضامين ضمن النص الشريف مرتكزا في تحديد جملة من الوظائف، منها:

1- القصدية في ترابط المفاهيم وان تعددت.

2- بلورة القضية الاساس في سبب صدور النص؛ وتكون هنا حادثة قتل الزهراء (عليها السلام) وظلامتها.

3-تقييد ذهن المتلقي وجمع مداركه فيما يريده الناص.

4- حجز الشبهات في تخلل بعض المفاهيم التي اكتنزتها الالفاظ وتحصينها ضمن قصدية واحدة وهي التي ارادها الناص أي الإمام علي (عليه السلام) في هذا الخطاب.

5-الأثراء المفاهيمي والدلالي في اجزاء قضية الناص وتماسكه الصلد.

وهذه الفوائد والاثر في التكرار ما سنعرض له في المسائل القادمة.

ص: 261


1- لسانيات النص مدخل الى انسجام النص لمحمد الخطابي: ص( 179 ) طبع ونشر المركز الثقافي العربي، بيروت ط السنة 1991 .

المسألة الثانية: أثر التضمين الدلالي في اظهار قصدية التعامل مع قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

احتوى النص الكامل -مادة البحث- على تضامين دلالية كثيرة ونحن وان اغفلنا ذكرها سابقا بغية التركيز عليها هنا وذلك لإظهار جانب عقدي مهم في كيفية التعامل مع قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما يرشد الى قضية في غاية الخطورة

وهي الكشف عن حقيقة مرة ألا وهي ان المحارب الاساس في هذه الحادثة ليس شخص علي ابن ابي طالب (عليه السلام) بتخلفه بسبب ما يسوق له البعض عن البيعة لأبي بكر او كما صرح بذلك عمر بن الخطاب حينما خاطبته البضعة النبوية:

(أو محرق عليَّ داري)؟!!

قال: (نعم، وذاك لأقوى فيما جاء به أبوك)(1).

بمعنى: إنّ إخراج علي (عليه السلام) من داره ومن كان معه ليبايعوا أبي بكر هو افضل مما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقوى لديه من تقوية كرسي الامارة الذي سيجلس عليه خلفاً لأبي بكر،والعلة فيه هو ليس جمع المسلمين على

بيعة أبي بكر وإنّما كي يليهم من بعده، فالملك عند ابن الخطاب أفضل مما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدليل قوله الذي لم يفتأ يصرح به ويجاهر به بين الصحابة، وهو قوله:

1- في يوم السقيفة: (من ذا ينازعنا سلطان محمد وأمارته)(2).

2- في جلوسه للخلافة كان يسأل الصحابة:

ص: 262


1- أنساب الاشراف: ج 6 ص 586 ؛ الشافي في الامامة للشريف الرضي: ج 3 ص 241 .
2- تاريخ الطبري: ج 2 ص 457 .

(والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك، فإن كنت ملكاً فقد ورطت في أمرٍ عظيم)(1).

فالرجل كان صريحا في إظهار مكنون نفسه وقصديته في الهجوم على بيت النبوة والرسالة إلا أن كثيراً من الناس يلتمسون له العذر فيما فعل فكانوا شركاء له في عمله.

وعليه:

يتضح لنا أن المُحارَب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس علي وفاطمة (عليها السلام)؛ ومن ثم لابد من اعادة الناس الى رشدهم في بيان منزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطورة محاربته، فتلك الجراءة التي أحدثها أبو بكر وعمر

في الهجوم على بيت النبوة وذلك من خلال بيان حدود وآداب السلام على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكيف في التعامل معه، وهذا الذي قصده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكان التضمين الدلالي في هذا الوضع من النص الشريف جليا في اظهار هذه القصدية.

ولكن ما هو التضمين الدلالي؟

أولاً: التضمين الدلالي وقصدية التمحور حول معانِ محددة
اشارة

يذهب علماء اللسانيات الى أن النص يكون في مجموعة من اشكال العلاقات الدلالية والتي بمجموعها تخلق التماسك النصي؛ والتضمين هو مجموعة من خيوط المعنى داخل النسيج النصي ضمن معنى عام، ويهيمن التضمين الدلالي على المعنى العام فيكون بمثابة الساتر للكلمة المحورية التي يتفرع منها بيانات وتفريعات واشارات ضمن النص الواحد.

ص: 263


1- الطبقات الكبرى: ج 3 ص 306 ؛ انساب الاشراف للبلاذري:ج 10 ص 360

فيكون هنا المعنى العام لهذا النص هو: التجرّي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي تفرع الى مجموعة من العناقيد في المعنى الواحد اي مجموعة من الدلالات التي ترشد الى تلك الحقيقة التي وقعت بها الامة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن هذه الدلالات الضمنية:

أ- تضييع الامة لحق علي بن ابي طالب (عليه السلام).

ب- إظهار ما جنته الامة واشتراكهم في ظلم فاطمة (عليها السلام) وما نزل بها من اضرار.

ج- ما نزل بعلي من المصائب وعظم رزيته.

د- اظهار منزلة فاطمة (عليها السلام) التي تعيد الاذهان الى حدود الحرمة التي فرضها الله تعالى وتمنع وقوع التجرّي مرة اخرى.

ه- إظهار حدود التعامل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

و- إظهار حقه في الوصاية والخلافة.

والشواهد على هذه الشبكة من التضمين الدلالي في النص الشريف هي:

ألف - في تضييع الامة لحق علي بن أبي طالب (عليه السلام)

قال (عليه السلام): (وستنبئك أبنتك بتظافر أمتك عليَّ وعلى هضمها حقها فأحفها السؤال و (ستخبرها الحال) فكان التضمين في (تضافر أمتك عليَّ) و (هضمها حقها)

يكشفان عن حال الأمة في الانقلاب والتعدي على قطبي بيت النبوة علي وفاطمة ضمن الحقل العام وهو التجري على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

ص: 264

باء - في التضمين الدلالي لإظهار ما جنته الأمة واشتراكهم في ظلم فاطمة (عليها السلام)

قال (عليه السلام): (فأحفها السؤال واستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثه سبيلا، وستقول ويحكم الله، وهو خير الحاكمين).

ونلاحظ هنا:

(احفها، استخبرها، الغليل، المعتلج، ستقول، ويحكم، وهو خير الحاكمين).

وقال أيضا في شبكة من التضمين الدلالي في الحقل العام:

(استرجعت الوديعة، واخذت الرهينة، واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء)، وقال ايضا: (تدفن سراً، وتهضم حقها قهرا، ويمنع ارثها جهرا)، ونلاحظ التضمين الدلالي:

(الوديعة، الرهينة، الزهراء) يقابلها (الاسترجاع والاخذ والاختلاس) وهو كما مرَّ في حقل الفقه وما ترتب عليه من أحكام فيما فرضه الله تعالى على الامة.

جيم- في التضمين الدلالي لما نزل بعلي )عليه السلام( من المصائب وعظيم رزيته.

وفي هذه الشبكة من الدلالات داخل النص العام قال (عليه السلام) لإظهار مصائبه وما نزل به من الرزايا لفقد الزهراء وما أصابها مكررا ذلك فيقول:

1- (قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة النساء تجلدي إلا أنّ لي في التأسّی بسنتك بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك، والحزن الذي حل بي لفراقك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري

نفسك، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي، بلى وفي كتاب الله أنعم القبول إنا لله وإنا إليه راجعون).266

ص: 265

ونلاحظ هنا هذه الدلالات التي تضمنها النص العام (قل صبري، ضعف تجلدي، عظيم فرقتك، فادح مصيبتك، الحزن الذي حل بي لفراقك، إنا لله وإنا اليه راجعون).

2-وتكرار هذا التضمين الدلالي ببيانه لما نزل به في المصيبة وعظيم الرزية فيقول:

(يا رسول الله أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي الى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، سرعان ما فرق بيننا فإلى الله أشكو).

ونلاحظ هنا الدلالات الاتية:

(حزني، ليلي، سرعان ما فرق بيننا) يقابلها:

(سرمد، مسهد، لا يبرح من قلبي، فإلى الله اشكو)؛ ثم يأخذ بأنفاس المتلقي للخطاب في حالة وجدانية خاصة فيزيد من حجم التأثير النفسي والعاطفي لديه في تصعيد شجونه وهو يكشف عن حجم الأمه (عليه السلام) فيقول:

(آه، آه، واه واها، لولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما، والتلبث معكوفا، و لأعولت أعوال الثكلى على جليل الرزية).

ونلاحظ تضمينه الدلالة على الأمه واستمرارها في الافعال الماضية (جعلت، اعولت) يقابلها (المقام، التلبّث)، ثم ابتدائه في هذه الشبكة في التضمين أو الحقل المعرفي بدلالة، واختتامه لهذا التضمين بصورة تجعل المتلقي يقطع موقنا

بعظيم الرزية وفادح المصيبة فيبدأ بالآهات ويختتم بالعويل، و أي عويل؟، عويل الثكلى ليوصل المتلقي الى حقيقة الاحداث دون الغوص في الجزيئات والمجريات واختلاف الرواة، فواحد يؤكد، والآخر ينفي، والثالث محايد، والرابع متعدٍ وهذاهو حال الأحداث التي اشترك فيها رموز الامة.

ص: 266

ومن ثم:

كان هذا النص الشريف بما تضمنه من حقول معرفية وشبكات من الدلالات ليكشف الغطاء عن الحدث الذي وقع في بيت النبوة وبعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بساعات أو أيام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة كما سيمر بيانه من خلال هذا النص الشريف.

وعليه:

تكون بقية الموارد من التضمين الدلالي واضحة وبينة وليست بحاجة الى السرد والبيان كما مرّ انفاً.

ثانياً: أثر الحقل الدلالي في تكوين المعنى واتساق النص

تناول الدارسون لعلم اللسانيات تكرار المضامين ضمن متطلبات اتساق النص وبناء المعنى.

ويمثل الحقل الدلالي (سياجا عميقا للمعنى حيث يشتمل على مفردات ذات سمات دلالية عامة تتسع وتضيق بحسب مكوناتها الدلالية ولها رابط دلالي يجمعها، وهنا لا نقصد فقط اعادة استعمال مفردة بعينها، وانما يشمل ذلك استعمال مفردات او الفاظ ترتبط بها معنويا)(1).

والنص الشريف -موضع الدراسة- حشد مجموعة من الحقول الدلالية ضمن فكرة واحدة وهي العمود الفقري للنص وهو ظلامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانه المقصود بهذه الحرب على بيت فاطمة وعلي وولداهما (عليهم السلام).

فبين الحقل الدلالي المخصوص بظلم الزهراء (عليها السلام) وضياع حقهاواستشهادها كقوله (عليه السلام):

ص: 267


1- اثر التكرار في التماسك النصي: ص 60 بتصرف.

«استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء .»

وقوله:

«وستنبئك أبنتك بتظافر أمتك علي وعلى هضمها حقها، فأحفها السؤال واستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثه سبيلا وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين .»

وقوله (عليه السلام):

«فبعين الله تدفن أبنتك سراً، وتهضم حقها قهراً ويمنع ارثها جهراً » يقابله حقل دلالي اخر في تظلمه وحزنه فيقول:

(قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة النساء تجلدي »

وقوله (عليه السلام):

«اما حزني فسرمد واما ليلي فمسهد لا يبرح الحزن من قلبي الى ان [أو] يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم .»

وقوله (عليه السلام):

«آه آه لولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، والتلبث معكوفاً، و لأعولت عوال الثكلى على جليل الرزية .»

وبين الحقل الدلالي الخاص ببيان منزلة فاطمة (عليها السلام) كقوله (عليه السلام) في بيان هذه المنازل في كونها (أبنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصفيته وحبيبته، وقرة عينه، وسيدة نساء العالمين، الوديعة، والرهينة والزهراء) وغيرها من الحقول ليوردها ضمن الفكرة الاساس والعمود الفقري لقوام النص وبناءه وهو

ص: 268

ظلامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانه هو المقصود بهذه الحرب فنجده (عليه السلام) يحشد هذه الدلالات في النص منذ بدايته والى نهايته، فنلاحظ الخطاب الموجه له (صلى الله عليه وآله) قائلاً: «السلام عليك يا رسول الله عني والسلام

عليك عن ابنتك » ثم نلاحظ خطابه للنبي (صلى الله عليه وآله):

«ابنتك، قرة عينك، زائرتك، النازلة في جوارك، البائتة في الثرى ببقعتك، السريعة اللحاق بك، صفيتك، ستنبئك، امتك »، وقوله:

«احفها، استخبرها »

وقوله: «ولم يتباعد بك العهد، ولم يخلولق منك الذكر، فإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك اجمل العزاء .»

وفي هذا يرشد (عليه السلام) الى أن الحقيقة التي أراد إخفائها الظالمون هي الحرب المفتوحة على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو الفكرة الأساس في هذا النص الشريف.

ثالثاً: أثر المرادف في تأكيد المعنى

يأتي المرادف في النص الشريف لغرض تأكيد المعنى الذي أراده منتج النص (عليه السلام)؛ وهو في هذا المورد كان في حدود قصدية الإجلال والإكبار والتأدب بمحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي سيمر بيانها لاحقا؛ قال (عليه السلام) في ايراد المترادف في تأكيد المعنى:

«والسلام عليك يا رسول الله، سلام مودع لا قالٍ ولا سئم، فإن انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ضن بما وعد الله الصابرين، والصبر أيمن وأجمل .»

ونجد هنا (القال، والسئم، والملل) الفاظ مترادفة لتأكيد المعنى في حدود الزيارة،

ص: 269

وقوله (عليه السلام):

«لجعلت المقام عند قبرك لزاما، والتلبث معكوفا .»

ونجد هنا:

(المقام والتلبث) و (اللزام، والعكوف)

جاءت في هذا التكرار لتأكيد المعنى في البقاء عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وإنه هو المعني فيما جرى على عترته وأهل بيته (عليهم السلام).

وإن لهذا البقاء أو المكوث حدودا وشرائطا تعبدية تجعل المسلم يدرك معنى أنه بين يدي سيد الخلق اجمعين (صلى الله عليه وآله) كما سيمر بمزيد من البيان في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: القصدية في تكرار السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

اشارة

إنّ دراسة النص الشريف ترشد الى إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قد أورد السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في موارد ثلاثة من الخطاب، المورد الاول: في بداية خطابه فقد بدأ بالسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله)،

والمورد الثاني: وسط خطابه، وقد أشرنا الى موضعه في المسألة السابقة، وفي المورد الثالث: كان في نهاية خطابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي سيمر بيانه

إن شاء الله.

ولا شك أن هناك قصدية في هذا الايراد وتكرار السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو ما سنتناوله في النقاط الاتية:

ص: 270

القصدية الأولى: ربط المتلقي برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنه الملجأ في التظلم

يشعر المتلقي للنص الشريف بحالة وجدانية تربطه برسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذه الحالة يفرضها سياق النص من خلال تكرار الألفاظ والإشارات منذ أول النص الى نهايته برسول الله (صلى الله عليه وآله) لاسيما فيما يتعلق بالسلام عليه

وقصده في الخطاب كما مرّ في المسألة السابقة من تكرار الضمير في المفردات:

(أبنتك، حبيبتك، قرة عينك، زائرتك، جوارك، بقعتك، للحاق بك، صفيتك، فرقتك، فراقك، وسدّتك، قبرك، نفسك، غمضتك، أمرك، دارك، ستنبئك، ولم يتباعد بك).

فَالخطاب كله موجه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وانه المعني الاول بما جرى ويجري في الأمة وإنه الملجأ في التظلم، وهو الحاكم الذي يقتص من الظلمة.

وهذا الإعتقاد قد أسس له القرآن الكريم والناكر له يكون قد أخل بإيمانه بالله تعالى.

بمعنى: أنّ المؤمن يجب عليه الاعتقاد بأن الحاكم في أموره والقاص الذي يقتص من الظالمين في إصدار الاحكام ورفعها لله تعالى هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما أمر القرآن بذلك، قال تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ

بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَ يَجدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(1).

والآية المباركة واضحة الدلالة والحكم في الإعتقاد في كونه الحاكم الذي يقضي فيما شجر بين الصحابة وانه (صلى الله عليه وآله) بمقتضى الآية المرجع الذي يرجع اليه المسلمون في الخصومات سواء في حياته أو بعد مماته كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه وشكى إليه كما ورد صريحا في قوله (عليه السلام).

ص: 271


1- سورة النساء، الآية ( 65 ).

إلّا أن الفارق بين المقامين إنه (صلى الله عليه وآله) في الحياة الدنيا يصدر حكمه وقضائه فيما بينهم بمسمع منهم فمن سلّم منهم لحكمه (صلى الله عليه وآله) ولم يجد حرجا مما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مؤمناً.

ومن وجد حرجا في نفسه من هذا القضاء ولم يسلّم له كان غير مؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

ولذا: نجد الله سبحانه وتعالى يقدم القسم في أول الآية المقرون بالنفي قبل القسم وبعده، فقال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

فتكرر النفي للإيمان دلالة على خطورة التعامل مع سيد الانبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) وأن حكمه وقضاءه وهو حكم الله وقضائه.

ومن ثمَّ: فإن القصدّية الأولى في تكرار السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو المقبولية لدى المتلقي وربطه بمقتضيات الآية الكريمة في كونه (صلى الله عليه وآله) الملجأ في التظلم سواء في حياته كما مرّ أو بعد مماته والفارق بعد مماته أنه (صلى الله عليه وآله) يقتضي بالأمر على نحوين:

النحو الاول: يكون من خلال رفع الأمر الى الله تعالى وذلك إنه سبحانه قد فوض الى النبي (صلى الله عليه وآله) الحكم فيما يشجر من خلافات بين المسلمين فيكون قضاءه (صلى الله عليه وآله) بينهم هو عينه قضاء الله تعالى؛ لكن تنفيذ العقوبة

واختيار الزمان والمكان والألية في ذلك يكون لله تعالى وان اقتضى عنوان القاضي وما جرى في الاعراف وفي القوانين الوضعية والشرائع ان تحديد الزمان والمكان والألية هي من صلاحيات القضاة.

ص: 272

إلاّ أن الأمر لله من قبل ومن بعد، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(1).

فهذا النحو الاول، أما النحو الثاني: فيكون من خلال الوصي الشرعي والخليفة المنصوص عليه من قبل الله تعالى

ورسوله (صلى الله عليه وآله) وهنا يكون الحاكم فيما شجر بين الصحابة والمسلمين هو الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لو كانوا مؤمنين بالله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) واليوم الاخر.

ومن بعده يكون الحاكم هم الأئمة الأحد عشر أولهم ولداه الحسن والحسين (عليهما السلام) ثم التسعة من بعد الحسين (عليهم السلام).

القصدية الثانية: الآثار في سلام المقبل على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )غير سلام المودّع له

يفتح لنا هذا الجزء من النص الشريف باباً معرفيا جديدا، وهو آثار السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) اثناء الاقبال عليه وبيان قصدية هذه الاثار وكذا اثار السلام في الوداع والانصراف عنه ضمن دلالة جديدة:

1- إن الاقبال يكمن في الاجلال والاكبار وانه الملجأ والمستغاث؛ بمعنى: يلزم الزائر للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون في إلقاء السلام مجلاً ومكبراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن يكثر من السلام عليه حين جلوسه كما كان

امير المؤمنين (عليه السلام) يكرر السلام خلال هذا الخطاب.

2- أنْ يستحضر في قلبه حاجته، وأن المسلّم لما سيحكم ويقضي في أموره وحاجته (صلى الله عليه وآله)، ولا يجد حرجاً في قضاء حاجته أم حبسها أم تأخيرها.

ص: 273


1- سورة الانبياء، الآية ( 23 ).

3- إنّ هذا الإعتقاد يدعم الايمان بالله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) واليوم الآخر، ومن ثم فالمسلّم بحاجة لحفظ إيمانه أن يكون دائم الاتصال برسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع أموره وشؤونه.

أما قصدية السلام في الانصراف، فهو:

1- الاذن بالانصراف من محضره الشريف.

2- دوام النية وهذا يكشف عن قبول العمل أو احباطه عند انقطاع النية، أي: أن تكرار السلام في أول الحضور بين يديه (صلى الله عليه وآله) وفي وسط الخطاب وفي ختامه ناتج عن استمرار النية في الزيارة ودواعي حضور القلب في قصد القربة

لله تعالى، فما زال الحاضر في عبادة، وان صحة العبادة متوقفة على النية الدائمة.

المسألة الرابعة: زيارة قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بين حدود الاقامة والانصراف وشرائطهما

اشارة

إنّ المتأمل في النص الشريف يجد أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ينقل المتلقي الى معارف جديدة مع كل مفردة ينطق بها.

والمعارف الجديدة التي أفاضها بلطفه على المتلقي في هذا الموضوع من خطابة هي حدود الاقامة والانصراف عن قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي سنتعرض لها في ما يلي من المفردات:

ص: 274

أولاً: المعنى اللغوي للقال والسَّئِم والمَلِل

وردت في هذا الجزء من النص الشريف المفردات الأتية:

1-القال: القلة، وهو مقلوب مغير(1)، أي أراد (عليه السلام) في هذا المعنى بيان قصدية الوقت في الاقامة والبقاء عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ فقد تكون الزيارة قليلة في الوقت فيصبح الزائر مقلاً للحضور والوقت المطلوب منهفي البقاء، ومن ثم يصبح مقصرا.

2- السئم، سأم: سأم: سَئِمَ الشيء و سَئِمَ منه، وسَئِمْتُ منه أسأَمُ سأماً و سَأمة، و سآماً و سآمةً؛ مَلَّ(2).

وقال ابن الاثير في بيان الحديث الشريف: (ان الله لا يسأم حتى تسأموا).

أي: لا يَمَلُّ حتى تَملّوا (3).

وجاء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا﴾(4).

أي: لا تملوا.

يقال سئمت من الشيء، من باب: تعب، ورجل مسؤوم، أي: ملول(5).

ص: 275


1- لسان العرب: ج 11 ص 577
2- لسان العرب: ج 12 ص 280
3- غريب الحديث: ج 2 ص 328 .
4- سورة البقرة، الآية ( 282 ).
5- مجمع البحرين: ج 6 ص 82 .

3- الملالة: قال الفراهيدي: الملل والملال، ان تمل شيئاً وتعرض عنه(1).

قال ابن المنظور: الملل: الملال وهو ان تمل شيئاً وتعرض عنه، قال الشاعر: واقسم ما بين من جفاء ولا ملل.

ورجل ملة: اذا كان يمل اخوانه سريعا.

مللت الشيء ملة وملالة: برمت به.

-4 الفرق بين السأمة والملالة.

إن الترادف في معنى السئم والملل قد يرشد السامع الى أن المعنى هو نفسه لكن الصحيح أن هناك اختلافاً في القصدية لكل منهما؛ فالسأم يقصد به أن يتعب الانسان من أمر ثقيل عليه فيتركه.

اما الملل: فيقصد به (تكرار الشيء على النفس حتى تضجر) وان اضجر الانسان من شيء أعرض عنه.

وهنا في مورد زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجعل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حدودا لهذه الزيارة وشرائط ترشد الزائر الى جملة من المعارف العقدية، وهو كما في الفقرة الاتية.

ثانياً: زيارة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بين حد الإقامة والإنصراف
اشارة

يرشد النص الى أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أورد حدودا للزائر في زيارته لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك ضمن هذه المعاني للمفردات ودلالاتها، وهي:

ص: 276


1- العين: ج 8 ص 324 .

1- حد الإنصراف من الزيارة.

فالزائر مقيد بالنظر الى حد القلة، أي يلزم أن لا يكون بقائه قليلاً فيسرع بالخروج مما يؤثر على روحية الزائر فيحرم من الاستفادة من النفحات الرحمانية التي تحيط بالمكان وتشمل الحاضرين فيه.

فضلاً عن أن ذلك يدفع بالنفس الى التهاون بمقام سيد الخلق (صلى الله عليه وآله) فلا يلتفت الى انه بين يديه وفي محضره، ومن ثم قد جرت العادة والأعراف في زيارة العظماء والملوك والأمراء وكل من لديه شأنية عظيمة أن يفرض على

الزائرين والحاضرين وقتا محددا في البقاء أو الانصراف وذلك من خلال الحاجب او المسؤول عن التشريفات، فأما أن يأذن هو بنفسه للزائر أو الحاضر بالإنصراف،وأما أن يأذن له بالدخول وبما أن الزائر هنا بي يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكون الامر وجدانيا ومحددا بما هو مقرر بالأعراف الإجتماعية في حدود الوقت الذي يبذله الانسان عند الزيارة.

ولذا:

يسلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الانصراف مبينا أنه يطلب الاذن في ذلك، وأنه ملتزم بحدود الزيارة وأنه غير مقلٍ بوقت الحضور بين يديه (صلى الله عليه وآله).

2- حد البقاء بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله).

بعد بيانه (عليه السلام) حد الانصراف من الزيارة وانه يلزم ان لا يعد عرفا بالقلة او القليل من الوقت، ينتقل (عليه السلام) الى بيان حد البقاء فيقيده بما يلي:

ص: 277

الف- عدم الشعور بالثقل بالحضور فيندفع الى ترك الزيارة

وهذه الحالة الوجدانية مصاحبة للإنسان في زيارته وعلاقاته الاجتماعية فحينما يشعر الانسان بثقل البقاء والحضور يندفع الى الخروج والانصراف، ولكن هذا الشعور بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحوّل الأجر الى أثم؛ وسيعاقب على تقصيره في حق زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بترك زيارته والخروج سريعا، مما يوحي الى الناظر أنه مقل بالحضور.

باء- الاقامة الزائدة تقود الى الضجر

إنّ الاقامة إذا تجاوزت الحد العرفي في الزيارة فإنها تقود الى الضجر فتدفع النفس الى الملل فينصرف الانسان وقد ملَّ البقاء بين يديه (صلى الله عليه وآله).

ولا شك أن ظهور الضجر والملل في الوضع الحياتي الاجتماعي والشخصي في علاقات الإنسان يترك أثرا سيئا على هذه العلاقات والزيارات مما يقود الى الجفاء والنفور، فكيف يكون الانعكاس في العلاقة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)

حينما يشعر الانسان بالملل من الاقامة عنده فيندفع الى الانصراف.

ثالثاً: إن القصدية في حد الاقامة والانصراف هي المراقبة القلبية
اشارة

يظهر من خلال الدلالة التي اكتنزها لفظ (السأم والملل) إن المؤمن في حالة زيارته لرسو الله (صلى الله عليه وآله) يلزمه الإلتفات الى قلبه فيراقبه وهو المناط والضابطة في زيارته (صلى الله عليه وآله)، فيشغل قلبه بذكر الله والصلاة على

رسول الله (صلى الله عليه وآله) كي لا يقع القلب في الملل أو الضجر حينما يكون فارغا من الذكر.

ص: 278

كما أن الإقلال من الذكر والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) تقود الى تقصير الاقامة ومن ثم يهم الانسان بالخروج مما يترك اثرا سيئا على الايمان ويحرم الانسان من الخير والرحمة والمغفرة والتوفيق في الحياة الدنيا.

وأما في الآخرة فسيحرم من الشفاعة لكونه يمل من الأقامة والذكر والصلاة عليه (صلى الله عليه وآله) في الحياة الدنيا.

من هنا:

نجد الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان يكثر من السلام والصلاة على النبي في هذا الخطاب كي يجعل القلب مشغولا بالمقام الذي هو فيه وإنه بينيدي سيد الخلق أجمعين مستزيداً بهذه الصلاة من الخير الوفير الذي يحف بالزائر

لقبره (صلى الله عليه وآله) فضلا عن ذلك فقد أرشد (عليه الصلاة والسلام) الى بعض الشرائط التي يتحقق بها هذا الأستحقاق الرباني في فضل الزيارة والصلاة على النبي واله، ومن هذه الشرائط:

ألف - الإعتقاد بمقام الشهودية التي جعلها الله للنبي الأعظم (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) كما نص عليها القرآن الكريم

قال تعالى:

1- ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

2- وقال عز وجل ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَی النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(2).

ص: 279


1- سورة النساء، الآية ( 41 ).
2- سورة البقرة، الآية ( 143 ).

إذ لولا هذا الإعتقاد لما جاء الإمام علي (عليه السلام) الى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويخاطبه بهذه الكلمات التي اكتنزت الكثير من الحقائق والمعارف والمجريات التي جرت بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) وليكون الشهيد الذي شهد

حال الامة بعد وفاة نبيها (صلى الله عليه وآله) ويؤتى به يوم القيام مع الانبياء والمرسلين وهم يشهدون على اممهم ويكون الامام علي (عليه السلام) من بينهم شهيدا على الامة وما جرى فيها بعد وفاة رسول الله ليكون المصطفى هو الشهيد

على هؤلاء الشهداء.

ولعل سائل يقول: كيف للشهودية قبل بعثته (صلى الله عليه وآله) ان تتحقق؟ وجوابه:

1- اما ان يكون ذلك من خلال نوره الذي سبق خلق الخلائق فهو اول ما خلق الله تعالى(1)، فيكون نور النبوة المحمدية شاهدا لانوار الانبياء والمرسلين (عليه السلام).

2- وإما ان جبرائيل (عليه السلام) كان قد عرض عليه سيرة الانبياء والمرسلين واعمال الامم كافة، كما جاء في قوله تعالى:

أ- ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾(2).

ب- ﴿تلِكَ مِنْ أنَباَءِ الغْيبْ نُوحِيهَا إلِيَكْ مَا كُنتْ تَعْلَمُهَا أنَتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبلْ هَذَا فَاصْبِر إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾(3).

ج- ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾(4).

ص: 280


1- السيرة الحلبية: ج 1 ص 50 ؛ بحار الانوار: ج 15 ص 24 .
2- سورة آل عمران، الآية ( 43 ).
3- سورة هود، الآية ( 49 ).
4- سورة هود، الآية ( 100 ).

د- ﴿وَكُلًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِی هَذِهِ الَحقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(1).

وغيرها من الآيات التي تبين تحقق مقام الشهودية على جميع الامم.

3- وأما من خلال كل القرآن الكريم الذي أخبر الله عن إحاطته لكل شيء، فقال عز وجل: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِی الْكِتَابِ مِنْ شَیءٍ﴾(2).

فقد جعل الله سبحانه فيه علم كل شيء وما علم السيرّ وأحوال الأمم إلا شيئاً يسيراً مما جمعه القرآن الكريم.وعليه:

يلزم الاعتقاد بهذا المقام الذي خص الله تعالى به حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله) وإلا لما وقف أمير المؤمنين بين يديه.

باء - الاعتقاد بمقام الحاكمية

ويلزم الاعتقاد بأنه (صلى الله عليه وآله) الحاكم الذي فوض الله اليه أمر التظلم وقد مرَّ آنفا بيان هذه المسألة في قوله تعالى:

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(3).

ص: 281


1- سورة هود، الآية ( 120 ).
2- سورة الانعام، الآية ( 38 ).
3- سورة النساء، الآية ( 65 ).
رابعاً: الاخلال بحد الإقامة والإنصراف يحبط الأجر

إنَّ من أهم ما يكشفه النص الشريف من المقاصد المتعددة هو المحافظة على الايمان من خلال تجنيب القلب من السأم والملل والاقلال في الاقامة..

وذلك أنّ القرآن الكريم يظهر في جملة من الآيات المباركة خطورة التعامل مع مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشأنيته عند الله تعالى؛ وقد مرّ في المبحث الاول من الدراسة عرض لهذه المسألة مفصلاً وذكرنا أن الله تعالى فرض جملة من الحدود في التعامل معه (صلى الله عليه وآله) وذلك من خلال كيفية الحديث معه والتأدب بمحضره أو تعظيمه و أجلاله وغيرها من الأمور التي ربطها القرآن الكريم ربطا

تلازميا مع الايمان بالله تعالى وهذه الآيات كما جاءت بتلك الحدود، فمنها:

1-﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيِ اللَّه وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّه إِنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1) يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَ تَجهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( 2) إِنَّ الَّذِينَ

يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهمْ لِلتَّقْوَى لَهمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(1).

2- ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْر لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَم تَجدُوا فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).

والآيات الشريفة تظهر جملة من المحاذير التي تربط بمصير الانسان في الاخرة واثر هذه المحاذير على القلب وتقواه.

ص: 282


1- سورة الحجرات، الآية ( 2- 3).
2- سورة المجادلة، الآية ( 12 ).

ومن ثم فإن الاخلال في الزيارة والشعور بالسأم والملل الباعث على الانصراف يؤديان الى مرض القلب وذهاب الاجر ان لم يؤدي الى احباط العمل دون ان يشعر الانسان.

ص: 283

ص: 284

المحتويات

المبحث الحادي عشر مقاصدية ضعف تجلده و مركوزة بشأنية سيادتها على نساء العالمين

المسألة الاولى: الملازمة بين قصدية منتج النص في كونها سيدة النساء مع الحديث النبوي ... 7 .

المسألة الثانية: قصدية انحصار السيادة على نساء العالمين بفاطمة (علیها السّلام)...11

المبحث الثاني عشر مقاصدية ارتباط تفجعه لفقدها بفقد رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وحزنه عليه

المسألة الأولى: حجم البلاء يوازي حجم المصلحة في وقوعه ...21

المسألة الثانية: قصدية تعزّيه وحزنه على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...24

المبحث الثالث عشرمقاصدية ذكره لمراسيم تجهيز النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )

المسألة الاولى: تصحيح المسار في حدث وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) في بيت عائشة ...31

المسألة الثانية: بيان حقيقة ترك الصحابة دفن رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وانشغالهم بكرسي الخلافة ...35

ص: 285

المبحث الرابع عشرمقاصدية كونها وديعة عند الإمام علي (علیه السّلام)

المسألة الأولى: الوديعة في اللغة والقرآن ... 44.

المسألة الثانية: الوديعة في كتب الفقهاء ... 47.

أولاً: هي عقد للإستنابة في الحفظ ... 52.

ثانياً: هل كان موقف الإمام علي (علیه السّلام) القبول كي يتحقق العقد لافتقاره للإيجاب والقبول؟ ...54

ثالثاً: لو قَبِلَ وجب الحفظ ... 54.

رابعاً: سريان العقد بينهما بعد وفاة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) يكشف عن أحد خصائص رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) الفريدة ... 55 .

المسألة الثالثة: دلالة كونها وديعة الله ... 57.

أولاً: دلالة نسبتها إلى الله تعالى ... 57.

ثانياً: أول من قام بحفظها ربّ العزّة جلّ شأنه ... 64.

ثالثاً: حجم الأمانة القيمي يكشف عن حجم الإيمان ... 66.

المبحث الخامس عشر المقاصدية في كونها رهينة ودلالة الأخذ

المسألة الاولى: تعريف الرهن عند اهل اللغة و الفقه ...71

اولاً: ما ورد في اللغة...71

ثانياً: ما ورد في كتب الفقهاء ... 72.

المسألة الثانية: دلالة كونها رهينة بقصدية الحبس ... 74

المسألة الثالثة: دلالة كونها رهينة بقصدية الوثيقة ... 77.

المسألة الرابعة: دلالة أخذ الرهينة بقصدية عدم استيفاء الامة لحق الله .... 82.

المسألة الخامسة: قصدية الملازمة بين الوديعة والرهينة والاسترجاع والأخذ ... 85.

ص: 286

المبحث السادس عشرالمقاصدية في اختلاسهم الزهراء (علیها السّلام)

المسألة الاولى: معنى الاختلاس في اللغة والقرآن ... 91.

المسألة الثانية: الاختلاس في كتب الفقهاء ومعناه وحكمه ... 92

المسألة الثالثة: القصدية في إيراده (علیه السّلام) مفردة «الزهراء » في عنوان الاختلاس .... 94.

أولاً: إنَّ مصداق الاختلاس هو عين مال الزهراء الذي سلب منها... 95.

ثانياً: إنَّ مصداق الاختلاس هو عين شخص الزهراء الذي سلب منها الحياة فقتلت ... 97.

المسألة الرابعة: قصدية تسميتها بالزهراء ومعناه وأثره في تماسك النص .. 98.

المسألة الخامسة: دلالة قوله (علیه السّلام)«فما أقبح الخضراء والغبراء » ...103

المبحث السابع عشر المقاصدية في سرمدية حزنه (علیه السّلام)وكاشفيته لحقيقة الحدث

المسألة الاولى: الحزن، والسرمد، والسهاد، في اللغة ... 107

أولاً: الحُزْن في اللغة ...107

ثانياً: السرمَد في اللغة ...107

ثالثاً: السُهَاد في اللغة ...108

المسألة الثانية: قصدية إيراده حال حزنه بالسرمد مع الفعل (يبرح) ... 109.

أولاً: ما ارتبط به شخصيا من آثار نفسية .... 110.

ثانياً: ما ارتبط بعلاقته القلبية بأم عياله (علیه السّلام)...111

المسألة الثالثة: القصدية في نفي زوال الحزن وديموميته في بيان التفضيل بينه وبين نبي الله يعقوب (علیهما السّلام)...112

أولاً: التفاضل بين اثار حزن علي (علیه السّلام) وآثار حزن يعقوب (علیه السّلام)...115

ثانياً: التفاضل في حجم البلاء وآثاره في النفس وكاشفيته للصبر ... 117.

ثالثاً: أدب الأنبياء والأوصياء مع الله في شكواهم وكاشفيته العقدية ... 119

ص: 287

المبحث الثامن عشر المقاصدية في قوله «إلِى أَن يخَتَار اللَّه ليِ » من قوله: «أَو يخَتَار اللَّه ليِ » وكاشفيته لعظم مصيبته وشأنيته عند الله تعالى

المسألة الأولى: قصدية (إلى) و (أو) في البقاء بعد فاطمة (علیها السّلام)...125

أولاً: قصدية (إلى) ودلالتها في بقاء الحزن ... 125.

ثانياً: دلالة قوله «أو يختار الله لي » وكاشفية «أو » ...126

المسألة الثانية: قصدية الاختيار في قوله «يختار الله لي » بمعنى «التفويض » أو التعيين ... 128

المسألة الرابعة: قصدية الإقامة في دار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )البرزخية أم الفردوسية ...129.

المسألة الخامسة: قصدية سرعة التفريق بينه وبين فاطمة (علیها السّلام).. 134

.أولاً: معنى (فرّق) في اللغة ... 135.

ثانياً: دلالة الفعل (فرّق) في كاشفية قتلها (علیها السّلام) ...135

المبحث التاسع عشر القصدية في تنبيئ النبي (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بتظافر أمتّه على هضم فاطمة (علیه السّلام)

المسألة الاولى: معنى النبأ لغة وما هو الفرق بينه وبين الخبر .... 141.

أولاً: النبأ لغةً ...141.

ثانياً: الفرق بين النبأ والخبر ... 142.

المسألة الثانية: قصدية تنبيئ رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) ودلالته العقدية والسيريّة ...144

الدلالة الاولى: اخبار رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )بأمور لا يعلمها وقعت من بعده ... 145.

الدلالة الثانية: إنها ستخبره (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بأمور عظيمة ... 148

ص: 288

الدلالة الثالثة: تحقق فائدة عظيمة من الخبر ... 149.

الدلالة الرابعة: تعري الخبر عن الكذب ... 151.

المسألة الثالثة: قصدية تضافر الأمة على علي وفاطمة (علیه السّلام)...153

أولاً: معنى (الضفر) لغةً ... 154.

ثانياً: قصدية تضافر الامة على علي (علیه السّلام) وبها تتضح مصاديق اللفظ ودلالته ... 156.

المسألة الرابعة: قصدية هضم الأمّة لحق فاطمة (علیها السّلام) ودلالته ...161

المبحث العشرون المقاصدية في الحف والاستخبار والاعتلاج ودلالة سكوت فاطمة (علیه السّلام)

المسألة الاولى: القصدية في الحف ... 172

القصدية الاولى: تحديد موضوع السؤال ... 172.

القصدية الثانية: في بيان مقبولية تلقي الاسئلة وردود الاجابة .. 173.

القصدية الثالثة: الكاشفية التعددية ... 174.

القصدية الرابعة: طريقة طرح الاسئلة ... 175.

القصدية الخامسة: الاتيان على جميع المواضيع ... 176.

القصدية السادسة: انتزاع الإجابة ... 176.

المسألة الثانية: استخبار حال فاطمة (علیها السّلام)...177

المسألة الثالثة: الغليل المعتلج وقصدية آثاره النفسية والجسدية وحكمه في الشريعة ... 183.

القصدية الأولى: في بيان حجم الأضرار النفسية دون غيرها ... 184.

القصدية الثانية: في بيان حجم الاضرار الجسدية وارتباطها بالألم الدائم ... 187.

القصدية الثالثة: في بيان كثرة الأضرار وتعددها ودوامها حتى ماتت (علیها السّلام)...188

المسألة الرابعة: مقاصدية بث الغليل وتعذر السبيل «لم تجد الى بثه سبيلا » ...191

ص: 289

القصدية الأولى: التعريف والتجزيء للألم ... 191.

القصدية الثانية: نشر هذه الآلام بين الناس لمعرفة حقيقة ما جرى... 193.

القصدية الثالثة: اختصاص اللفظ بكاشفية حال المرض والحزن ودرجته .... 194.

القصدية الرابعة: إنّ لديها أسراراً لم يكن ليطلع عليها غير رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...195

القصدية الخامسة: تعذر السبيل مع وجود الامام علي (علیه السّلام)فسكتت(علیها السّلام)...198

المبحث الحادي والعشرونمقاصدية الملازمة بين قول فاطمة (علیها السّلام)وحكم الله (عزو جل)

المسألة الاولى: قصدية الاستقبال القريب بين قولها والحكم الالهي «ستقول ويحكم الله » ....205

أولاً: الملازمة بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة (علیها السّلام)...205

ثانياً: مصاديق الملازمة في إلحاق العقوبة لمنتهكي الحدود الإلهية في القرآن والتاريخ ... 225.

المسألة الثانية: فاطمة (علیها السّلام) تحدد العقوبات التي استحقها الجناة وقصدية الزمن في وقوعها ... 228.

أولاً: تحديد الزمن الذي أعقب وقوع الجرم وصدور الحكم وتنفيذه ..... 229.

ثانياً: نوع العقوبات التي استحقها الجناة ... 231.

المسألة الثالثة: قصدية إظهار الآثار النفسية التي يعيشها الجناة ... 232.

أولاً: شأنية الضحية ومنزلتها تزيد في المعاناة النفسية للجناة..... 232.

ثانياً: ترقب الجناة لسكوت الضحية أو نطقها يزيد في عقوبة المعاناة النفسية ... 235.

المسألة الرابعة: القصدية في تنوع الحكم الالهي ... 237.

القصدية الاولى: ظهور الحكم الالهي في الجناة الاساسيين الذين انتهكوا حرمة بيت النبوة ... 238.

القصدية الثانية: معاقبة من رضا بظلمها فكانت العقوبة الجماعية ... 241.

المسألة الخامسة: القصدية في قوله (وهو خير الحاكمين) وآثارها العقدية والسّيريّة ... 247.

أولاً: الآثار العقدية التي تظهر قصدية القول في ضوء القرآن الكريم . .... 248.

ثانياً: تعدد الحكّام والأحكام لكن الله خير الحاكمين ... 252.

ثالثاً: الآثار السيريّة في قصدية النص ... 253.

ص: 290

المبحث الثاني والعشرون قصدية التكرار في السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأثره في تماسك النص

المسألة الأولى: اسلوب التكرار وأثره في ايصال المعنى ... 259.

المسألة الثانية: أثر التضمين الدلالي في اظهار قصدية التعامل مع قبر رسول الله(صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...262

أولاً: التضمين الدلالي وقصدية التمحور حول معانِ محددة .... 263.

ثانياً: أثر الحقل الدلالي في تكوين المعنى واتساق النص ... 267.

ثالثاً: أثر المرادف في تأكيد المعنى ... 269.

المسألة الثالثة: القصدية في تكرار السلام على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )...270

القصدية الأولى: ربط المتلقي برسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) وأنه الملجأ في التظلم ... 271.

القصدية الثانية: الآثار في سلام المقبل على رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ )غير سلام المودّع له ... 273.

المسألة الرابعة: زيارة قبر رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بين حدود الاقامة والانصراف وشرائطهما ...274.

أولاً: المعنى اللغوي للقال والسَّئِم والمَلِل .... 275.

ثانياً: زيارة رسول الله (صلّی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ) بين حد الإقامة والإنصراف ... 276.

ثالثاً: إن القصدية في حد الاقامة والانصراف هي المراقبة القلبية .... 278.

رابعاً: الاخلال بحد الإقامة والإنصراف يحبط الأجر ... 282

ص: 291

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.