تفسیر سورة هل أتی المجلد 1

اشارة

تفسیر سورة هل أتی

نويسنده: عاملی، جعفر مرتضی

تعداد جلد: 2

زبان: عربی

ناشر: المرکز الإسلامي للدراسات - بیروت - لبنان

سال نشر: 1424 هجری قمری

سال نشر: 2003 میلادی

کد کنگره: BP 102/933 /ع 2 ت 7

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الاول

تقديم:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الحمد للّه،و الصلاة و السّلام على خير خلقه،و أشرف بريته محمد و آله الطيبين الطاهرين.

و بعد..

فهذه خلاصة دروس من تفسير سورة«هل أتى».و هي دروس أسبوعية كانت قبل سنوات قد خصصت لبعض المؤمنين الواعين من شبابنا حفظهم اللّه تعالى،و أيدهم.

و كان الأخ الكريم«وفيق سعد»قد اهتم بتسجيلها،ثم باستخراجها من أشرطة التسجيل،فجزاه اللّه خير جزاء و أوفاه.

و قد ظهرت لدى الأخوة رغبة ملحة في نشرها،رجاء أن ينفع اللّه تعالى بها،فاستجبت لرغبتهم،مقدرا لهم ثقتهم هذه،شاكرا لهم هذا الإخلاص،و مكبرا فيهم هذا الإيمان،و ذلك الاندفاع الصادق لخدمة دينهم.وفقهم اللّه تعالى لكل خير و صلاح،و فتح في وجوههم أبواب النجاح و الفلاح،إنه خير مأمول،و أكرم مسئول.

و سيلاحظ القارئ الكريم:أننا نعتمد طريقة التفسير التجزيئي، بالإضافة إلى سعينا لاستخراج كوامن المعاني بأسلوب الاستدلال الاقتراحي،ثم بذل المحاولة للمقارنة،و تسجيل الملاحظة..

ص: 5

و نعني بالاستدلال الاقتراحي،أننا بعد أن نفترض بدائل للتعبير الوارد في الآية،نقارن بين الخصوصيات في البدائل،و بين خصوصيات المعنى الوارد،لنكتشف من ثم بعض جهات المعنى التي تجعل من اختيار التعبير الوارد في الآية هو المتعين،الذي لا بد منه،و لا غنى عنه..

و إنما لم نعتمد التفسير الموضوعي لأننا قد اعتقدنا أن ذلك سابق لأوانه،إذ إنه يتوقف على حصحصة المعاني،و استخراجها،و جمعها،ثم المقارنة فيما بينها،ليمكن استخراج قواعد عامة و شمولية منها بصورة سليمة و قويمة..

و من الواضح:أن القفز من هذه المرحلة إلى تلك لن يكون سوى مجازفة غير منطقية،و لا يعدو كونه اقتحاما عشوائيا غير مبرر،و سيبقى يعيش الحرمان من الحد الأدنى من الوثوق بأية نتيجة يتوصل إليها،أو يهيأ لها،إلا إذا بقي المفسر يتردد بين المعاني القريبة،التي يتداولها الناس،و التي هي على درجة من الوضوح و البداهة..

و ليقتصر الجهد من ثم على تبديل الأساليب،و إعادة تنظيم و رصف نفس الأفكار المتداولة،دون أي تصرف حقيقي فيها..

و أخيرا..فإن رجائي الأكيد من القارئ الكريم هو أن يغض الطرف عن التقصير،و أن يتحفني بما يرى ضرورة للتنبيه عليه،و أن يلفت نظري إلى ما ينبغى لفت النظر إليه.و ليتقبل مني عذري،و إليه أهدي خالص شكري..و السّلام عليه و على كل المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته..

حرر بتاريخ:شهر رمضان المبارك سنة 1423 ه

عيثا الجبل-لبنان

جعفر مرتضى العاملي

ص: 6

سورة(هل أتى)المباركة:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً* إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً* إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً* وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا* قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً* وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً* وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً* وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً* عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً* إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً

ص: 7

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً* فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً* وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً* إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً* نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً* إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

«صدق اللّه العلي العظيم»

***

ص: 8

تمهيد:

اشارة

إننا قبل أن نشرع باستعراض المعاني التي نزعم أننا بأفهامنا القاصرة قد استفدناها من آيات هذه السورة المباركة..

نود التمهيد لذلك بذكر بعض الأمور التي ترتبط بهذه السورة، فنقول:

تسمية هذه السورة:

إنّ التشرف بقراءة الأحاديث التي رويت لنا عن أهل البيت عليهم السّلام يعرفنا أنهم عليهم السّلام يعبرون عن هذه السورة بسورة«هل أتى».

و بما أن تسميات السور القرآنية ليست مزاجية،و إنما لها دلالات و إيحاءات تتجاوز موضوع التمييز بين سورة و أخرى،فإن تسمية هذه السورة ب«هل أتى»تبقى مثيرة للانتباه،حيث جاءت على شكل استفهام،ينقطع عن متابعة بيان ما وقع في مورد السؤال،كما أظهرته التسمية لسورة أخرى بسورة«براءة»،أو تسمية سورة«الأحزاب»ب «الفاضحة»،حيث يظهر من هذا:أن الهدف هو التركيز على معان و مفاهيم بعينها تستبطنها التسميات،و تشكل حافزا للسامع أو القارئ يدفعه إلى نيل هدف بعينه،و إدراك غاية بخصوصها.و ذلك بطريقة تشير للقارئ بضرورة متابعة الكلام،ليتمكن من فهم معنى تام و مقبول.

و تزيد تسمية هذه السورة ب«هل أتى»على غيرها:أنها جاءت على شكل سؤال يجر وراءه سلسلة من الأسئلة،حيث تبقى كلمة«هل أتى»

ص: 9

تلحّ عليه بمعرفة ذلك الذي يسأل عن إتيانه:ما هو؟!و ما حقيقته؟! و لما ذا يسأل عنه؟!و من المخاطب؟!و هل المخاطب هو نفس المسئول؟!و من المجيب؟!

و في الإنسان فضول،خصوصا في مثل هذه الحالات،حيث يلتقي فضوله فيها مع حب المعرفة و العلم،و مع حب اكتشاف المجهول..

فهي إذن تسمية..أريد لها أن تعطي الحافز للمعرفة،و تدفع كل سامع أو قارئ للمتابعة..فيتحرك لمواصلة التحري،برغبة و جهوزية تامة، الأمر الذي يؤهله لأن يلاحظ خصوصيات و تفاصيل،لم يكن ليلتفت إليها لو ترك على حالة من الاسترخاء و الركود،بل إن السؤال نفسه سوف يحرجه و يثيره،و يجعله أمام مسئولية البحث عن الإجابة.

أما تسمية هذه السورة بسورة«الدهر»و«الإنسان»،فهي قاصرة عن إفادة ذلك كله،إذ إن السامع لن يجد في نفسه الحافز للبحث و التقصي، و لن يشعر أنّه مسئول عن شيء،بل سيكون قادرا على حسم خياره، فيقرر الإحجام أو الإقدام.و يكون إحجامه أو إقدامه مرتبطا بحوافز و دواع أخرى،و منها عدم وجود الداعي للإقدام..

و لأجل هذا..فنحن نرى أن علينا أن نلتزم بخصوص التسمية الواردة عن أهل البيت عليهم الصلاة و السّلام،و لا نتعداها.

أما لما ذا أريد أن يكون لاسم هذه السورة هذا الإيحاء،فقد يكون هو التأكيد على الاهتمام الإلهي بتعريف الناس بحقائق إيمانية أساسية، ربما تكثر الصوارف لهم عن متابعة مسيرة التعرف عليها..لارتباطها بأهل البيت عليهم السّلام الذين سوف تكثر العداوات لهم من قبل أهل الدنيا..

و طلاب اللبانات..

ص: 10

ثواب و آثار قراءة سورة«هل أتى»..

1-في مجمع البيان:قال أبو جعفر[عليه السّلام]:من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس،زوجه اللّه من الحور العين مائة عذراء،و أربعة آلاف ثيب.و كان مع محمد[صلّى اللّه عليه و آله].

و في كتاب ثواب الأعمال،بإسناده عن أبي جعفر[عليه السّلام] مثله،غير أنه قال:ثمان مائة عذراء..

2-أبي بن كعب،عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]قال:و من قرأ سورة«هل أتى»كان جزاؤه على اللّه جنة و حريرا.

3-في أمالي الطوسي،بإسناده إلى علي بن عمر العطار،قال:

دخلت على أبي الحسن العسكري[عليه السّلام]يوم الثلاثاء،فقال:لم أرك أمس!

قال:كرهت الحركة في يوم الاثنين.

قال:يا علي،من أحب أن يقيه اللّه شرّ يوم الاثنين فليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ .

ثم قرأ أبو الحسن[عليه السّلام]: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (1).

4-روي عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]أنه قال:من قرأ هذه السورة كان جزاؤه على اللّه جنة و حريرا.و من أدمن قراءتها قويت نفسه الضعيفة.و من كتبها و شرب ماءها نفعت وجع الفؤاد،و صح جسمه، و برئ من مرضه.

********

(1) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 467.

ص: 11

5-قال رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:من قرأها أجزاه اللّه الجنة، و ما تهوى نفسه على كل الأمور.و من كتبها في إناء و شرب ماءها نفعت شرّ وجع الفؤاد،و نفع بها الجسد.

6-قال الصادق[عليه السّلام]:قراءتها تقوّي النفس و تشد،و إن ضعف في قراءتها كتب و محيت و شربها،منعت من النفس(كذا) و يزول ضعفها عنه بإذن اللّه تعالى (1).

7-محمد بن الحسن،بإسناده عن الحسين بن سعيد،عن ابن أبي عمير،عن أبي مسعود الطائي،عن أبي عبد اللّه[عليه السّلام]:أن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]كان يقرأ في آخر صلاة الليل هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (2).

سبب نزول هذه السورة:

و قد حفلت الروايات الكثيرة،بأن سبب نزول سورة«هل أتى»:هو أن الحسنين عليهما السّلام مرضا،فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعض من أصحابه.و جعل علي على نفسه،و كذلك الزهراء،و الحسنان عليهم السّلام،و فضة رحمها اللّه:إذا عافاهما اللّه أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا للّه تعالى.

فألبسهما اللّه سبحانه عافية،فأصبحوا صياما،و ليس عندهم طعام، فحصل علي عليه السّلام على ثلاثة أصوع من شعير،جاء بها للزهراء

********

(1) تفسير البرهان ج 4 ص 409 و 410 و راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 467.

(2) وسائل الشيعة(ط دار إحياء التراث العربي)ج 4 ص 796 و ج 3 ص 40 عن التهذيب للشيخ ج 1 ص 170 و عن عيون أخبار الرضا ص 308.

ص: 12

عليها السّلام مقابل أن تغزل جزة صوف..

فغزلت ثلث الصوف،و طحنت صاعا من الشعير،و خبزت منه خمسة أقراص بعددهم.فصلى علي عليه السّلام مع النبي صلّى اللّه عليه و آله،ثم أتى منزله،و وضع الطعام،فأول لقمة كسرها علي عليه السّلام إذا مسكين قد وقف على الباب،و طلب أن يطعموه،فوضع علي عليه السّلام اللقمة من يده..و دفعوا ما على الخوان إلى المسكين،و أصبحوا صياما لم يذوقوا إلا الماء القراح.

و في اليوم التالي تكرّرت القضية برمتها،حيث جاءهم يتيم هذه المرة،و ذلك بمجرد أن كسر الإمام علي عليه السّلام اللقمة،فأعطوه ما على الخوان،و باتوا جياعا لم يذوقوا إلا الماء القراح.

و هكذا جرى أيضا في اليوم الثالث،حيث جاءهم أسير من أسراء المشركين،و قال:السّلام عليكم يا أهل بيت محمد،تأسروننا،و تشدوننا، و لا تطعموننا.

فوضع علي اللقمة من يده،و أعطوه ما على الخوان.و باتوا جياعا.

و أصبحوا مفطرين،و ليس عندهم شيء.

و أقبل علي عليه السّلام بالحسن و الحسين عليهما السّلام نحو رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]،و هما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع.

فقال[صلّى اللّه عليه و آله]:يا أبا الحسن:أشد ما يسوؤني ما أرى بكم،انطلق إلى ابنتي فاطمة.

فانطلقوا،و هي في محرابها،قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، و غارت عيناها..

فلما رآها رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]ضمها إليه،و قال: وا غوثاه،

ص: 13

باللّه أنتم منذ ثلاث فيما أرى؟

فهبط جبرئيل،فقال:يا محمد،خذ ما هيأ اللّه لك في أهل بيتك.

فقال:و ما آخذ يا جبرئيل؟.

قال: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (1).

و ذكرت بعض النصوص:أن هذه السورة قد نزلت في الخامس و العشرين من ذي الحجة (2).

و هناك تفاصيل و خصوصيات مختلفة وردت في الروايات،لا مجال لتقصيها و تتبعها..لأن المقصود هنا مجرد الإشارة..

لما ذا أعطوا جميع الطعام؟!

و قد يتساءل البعض عن سبب إعطاء جميع الطعام للسائل،مع أنه كان يكفيه بعضه،و يكتفي الباقون بما بقي منه..

و ستأتي الإجابة على هذا السؤال،حيث سيظهر أن المقصود لم يكن هو مجرد إشباع ذلك السائل،بل المقصود هو إعطاؤه ما يجد معه الأمن و السكينة لأطول فترة ممكنة،ليجد الفرصة للتحرك باتجاه الخروج من الحالة التي هو فيها إلى ما هو أفضل..

السورة مدنية:

إن من المعلوم:أن هذه السورة مدنية،و لكن بعض الذين في

********

(1) راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 474 و 477 عن الأمالي للشيخ الصدوق و البرهان (تفسير)ج 4 ص 412 و 413.

(2) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 473 عن مناقب آل أبي طالب..

ص: 14

قلوبهم زيغ يحاولون ادّعاء أنها من السور المكية،و لعل منشأ ذلك هو البغض و الحسد لأهل البيت[عليهم السّلام]،الذين نزلت هذه السورة فيهم،لأنّ نزول السورة في مكة،يبطل-بزعمهم-الروايات الكثيرة جدا،و المروية بطرق مختلفة عند السنة و الشيعة،و التي تؤكد نزولها فيهم [عليهم السّلام].

و لكن اللّه تعالى يقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ .. (1).

مستند أهل الزيغ:

لعل أول من ادعى نزول السورة في مكة هو ابن الزبير (2).الذي كان قد حارب عليا[عليه السّلام].و كان معروفا بانحرافه عنه،و بغضه له..

أما ما روي من ذلك عن ابن عباس (3)،فيشك في صحته،إذ إن الرواية قد وردت عنه بخلاف ذلك أيضا..كما سيأتي.

ثم جاءنا أخيرا من حاول أن يستدل لذلك،و يجمع له المؤيدات و الشواهد،فهو يقول:

«في بعض الروايات:أن هذه السورة مدينة..و لكنها مكية،و مكيتها ظاهرة جدا،في موضوعها و في سياقها،و في سماتها كلها.لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها.

بل نحن نلمح من سياقها:أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي..

********

(1) سورة الصف الآية 8.

(2) الدر المنثور ج 6 ص 297 عن ابن مردويه.

(3) المصدر السابق عن النحاس.

ص: 15

تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة،و صور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول[صلّى اللّه عليه و آله]إلى الصبر لحكم ربه، و عدم إطاعة آثم منهم أو كفور،مما كان ينزل عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها في مكة،مع إمهال المشركين،و تثبيت الرسول[صلى اللّه عليه و آله]على الحق الذي نزل عليه،و عدم الميل إلى ما يدهنون به..كما جاء في سورة القلم،و في سورة المزمل،و في سورة المدثر،مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.

و احتمال أن هذه السورة مدنية-في نظرنا-هو احتمال ضعيف جدا،يمكن عدم اعتباره» (1)انته..

و نقول:

أولا:لقد فند السيد الطباطبائي[رحمه اللّه]هذه المزاعم.فقال ما ملخصه:إنّ صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة،و صور العذاب الغليظ لا تختص بالسور المكية،بل هي موجودة في السور المدنية أيضا،-مثل سورتي الرحمن،و الحج-بصورة أكثر مما ورد في سورة هل أتى.

ثانيا:و أما ما ذكره من أمر النبي[صلّى اللّه عليه و آله]بالصبر،و أن لا يطيع آثما أو كفورا،و أن لا يداهنهم،و أن يثبت على ما نزل عليه من الحق.فهو في نهايات هذه السورة.فلتكن نهاياتها مكية-لو صح أن هذا الأمر يوجب مكية الآيات-لأن النزول كان تدريجيا.

و لو سلم أن السورة قد نزلت دفعة واحدة،فإننا نقول:إن الأمر بالصبر لا يختص بالسور المكية،فإنه تعالى يقول في سورة الكهف في

********

(1) في ظلال القرآن ج 6 ص 377 ط دار الشروق سنة 1402 ه

ص: 16

الآية 28: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.. و قد روي أن هذه الآية مدنية.

و هي متحدة المعنى مع قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ (1)،مع شدة التشابه في السياق في الموردين.

و ما كان يلقاه النبي من أذى المنافقين و غيرهم من الجفاة و ضعفاء الإيمان،لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة.

و لا دليل أيضا على انحصار الآثم و الكفور في مشركي مكة.بل إن بعض المسلمين كان يكسب الآثام،كما صرحت به الآيات.(انته كلام العلامة الطباطبائي).. (2).

ثالثا:إن المعيار في مكية السورة و مدنيتها هو النقل و الرواية،لا القياسات و الاستحسانات.فإن كان ثمة من رواية تدّعي أنّ السورة مكية، فلا بد من محاكمتها كرواية،و ملاحظة ما فيها من نقاط ضعف و قوة على هذا الأساس..

و قد أشرنا إلى ذلك فيما سبق..

و على كل حال..فإن ثمة العديد من الأدلة على عدم صحة الرواية التي ذكرت:أن عبد اللّه بن الزبير قد اعتبر هذه السورة مكية،بالإضافة إلى أن ابن الزبير متهم في ما يرويه،خصوصا إذا كان في سياق إنكار فضائل علي[عليه السّلام]و آله الطاهرين.فإنه هو المحارب لأمير

********

(1) سورة القلم الآية 48.

(2) تفسير الميزان ج 20 ص 136/135 و راجع:سورة النور الآية 11 و سورة النساء الآية 112.

ص: 17

المؤمنين و المعلن بالتنقص له،و لأهل بيته الطاهرين،حتى إنه ترك الصلاة على النبي في أربعين صلاة جمعة،بحجة:أن له[صلّى اللّه عليه و آله]أهيل سوء يخاف أن يتلعوا بأعناقهم،أو نحو ذلك.

و كذلك الحال بالنسبة للرواية بذلك عن ابن عباس،الذي كان في زمنه[صلّى اللّه عليه و آله]صغيرا لا عبرة بما يرويه في ذلك السن..

خصوصا و أنها معارضة بمثلها عنه،كما سنرى.

رابعا:لقد روي عن الإمام علي[عليه السّلام]:أن السورة مدنية (1).

و كذلك روي عن ابن عباس،و عكرمة،و الحسن (2)فراجع..

خامسا:قد ذكرت الروايات الكثيرة المروية من طرق أهل البيت [عليهم السّلام]و غيرهم:أن السورة قد نزلت في مناسبة مرض الحسنين [عليهما السّلام]،و صيام علي و الزهراء،و الحسنين[عليهم السّلام]ثلاثة أيام،و صدقتهم بطعامهم في هذه الأيام الثلاثة المتوالية.

و الحسنان[عليهما السّلام]إنما ولدا في المدينة كما هو معلوم.

سادسا:إن آيات السورة ذكرت إطعام الطعام للأسير،و لم يكن في مكة أسرى..

إلا أن يقال:إن الكلام قد جاء في الآية على سبيل الافتراض،لا على سبيل الحقيقة.

********

(1) راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 468 و تفسير الميزان ج 20 ص 133 كلاهما عن مجمع البيان.

(2) راجع الدر المنثور ج 6 ص 297 عن البيهقي،و ابن مردويه،و تفسير الميزان ج 20 ص 131 و 132 عن الدر المنثور،و عن الإتقان أيضا عن البيهقي في الدلائل،و عن ابن الضريس.

ص: 18

و لكنه احتمال ضعيف يخالف سياق آيات السورة..كما أنه يخالف الروايات التي تحدثت عن سبب نزولها.

و أما احتمال أن يكون الأسير أسيرا عند قريش،فهو بعيد أيضا،إذ لم نعرف عن قريش أنها كان لديها أسرى من حروب خاضتها.

سابعا:و حتى لو كانت هذه السورة مكية،فإن ذلك لا يضر في صحة رواية نزول السورة في أهل البيت[عليهم السّلام]،فقد أثبتنا أن السورة كانت تنزل أولا..ثم و بعد مضي مدة من الزمن تحصل الأحداث التي ترتبط آيات تلك السورة بها،فينزل جبرئيل بتلك الآيات مرة ثانية.. (1).

********

(1) فراجع كتابنا:مختصر مفيد ج 4 ص 45-83.

ص: 19

ص: 20

الفصل الأول: الخلق..و الهداية..

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً

ص: 21

ص: 22

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »:

إننا نعتقد وفقا لما ورد في الروايات المباركة الواردة عن أهل بيت العصمة[عليهم السّلام]أن بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزء و آية من كل سورة، (1)باستثناء سورة«براءة»..

و قد حاولنا تفسير مفردات هذه الآية المباركة،أعني آية بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في تفسير سورة«الفاتحة»،و قد عرضنا هناك ما لعله يكون مفيدا،و رأيناه سديدا..و لكي لا يلزم التكرار،فإننا نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الكتاب،ملتمسين منه العذر،و العذر عند كرام الناس مقبول إن شاء اللّه تعالى.

و لنشرع في بيان ما فهمناه من سائر آيات سورة«هل أتى»،فنقول:

«هل»للإنكار أو التقرير:

تبدأ آيات هذه السورة المباركة بعد آية: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

********

(1) و قد ذكرنا بحثا وافيا بينا حول هذا الموضوع في كتابنا حقائق هامة حول القرآن ص 382 حتى ص 389.

ص: 23

بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.

فبدأ تعالى بكلمة:«هل»فقيل:إن كلمة«هل»هنا بمعنى«قد»،أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..و ذلك قبل أن يخلقه اللّه..أو قبل أن تنفخ فيه الروح..أو حينما كان لا يزال نطفة.

و قيل:هي استفهامية،جوابها الإثبات،أي نعم قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا.

فلا فرق من حيث النتيجة بين هذا القول و بين سابقه.

و نقول:

لعل الصحيح هو ذلك و عكسه معا..أي أنه بالنسبة لهذه النشأة الإنسانية قد أتى عليه زمان لم يكن شيئا مذكورا،كما قال الإمام الحسين عليه السّلام في دعاء يوم عرفة:ابتدأتني بنعمك قبل أن أكون شيئا مذكورا،خلقتني من التراب،ثم أسكنتني الأصلاب الخ..

و هو من جهة أخرى مذكور عند اللّه في جميع نشئاته..أي أن«هل» استفهامية،لكن المقصود من الاستفهام،الانكار على من يزعم أنه قد أتى على الإنسان زمان لم يكن مذكورا فيه..و إظهار أنه قد أخطأ بزعمه هذا..

و يكون نفس الإنكار مؤذنا بالإجابة،فلا يحتاج إلى التصريح بها،أو يقصد به التقرير،و تسجيل الاعتراف ممن يحتمل في حقه الإنكار،أو ممن يكون إقراره حجة على غيره..فيسأل هذا السؤال ليقرّ بالحقيقة، و يقول:لا،لم يأت على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، بل كان مذكورا في كل حين و زمان.

ص: 24

و على كل حال،فإن جواب إنكار الإثبات هو النفي،و جواب إنكار النفي هو الإثبات.

فالأول:كقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 1؟

فالجواب:لا.

و كقوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ ...

فالجواب:لا،لم أفعل ذلك.

و الثاني:كقوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (2)؟!

فجواب هذا التقرير،-الذي دخلت فيه همزة الاستفهام على النفي ب«لم»-هو الإثبات،فيقال:بلى،قد جعلت له عينين.

و لازم التقرير المبدوء بكلمة«لم»هو الإقرار بما دخل عليه حرف النفي،كما ظهر من قوله في الجواب:نعم جعلت له عينين..فالنتيجة جاءت عكس ما دخل عليه الاستفهام،فإن دخل على النفي أجيب بالإثبات،و إن دخل على الإثبات أجيب بالنفي.

و معنى الآية:أن هذا الإنسان،منذ بدء وجوده ما زال مذكورا عند اللّه،في مختلف مراحل وجوده،من خلال استمرار الرعاية و العطاء الإلهي له..فهو تعالى لم يزل يرعاه و يربيه،و ينميه،و يحافظ عليه،و يسيّر أموره.

فالآية لا تتحدث عن الإنسان قبل أن يخلق..حتى يقال:إن كلمة

********

(1) سورة الزمر الآية 9.

(2) سورة البلد الآية 8.

ص: 25

هل:بمعنى قد.أو يقال:إنها استفهام،جوابه الإثبات..فإنه قبل أن يخلق لم يكن شيئا أصلا،فضلا عن أن يكون شيئا مذكورا.

هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يختص بهذا الإنسان،بل جميع المخلوقات كذلك.فإن عدم ذكرها إنما هو لعدم وجودها.

إلا أن يقال:إن المراد التذكير بنعمة الخلق و الذكر معا.

و نقول في جوابه:إنه كلام لا محصل له،إذ لا معنى لقولك،إنك قبل أن تخلق لم تكن شيئا مذكورا.بل اللازم أن يقال:لم تكن شيئا أصلا.و هذا معناه أن تصير القضية سالبة بانتفاء موضوعها..فهو من قبيل قولك:إن لم يكن لك ولد ذكر فلا تختنه،أو فلا تلبسه قميصا.و هي ليست سوى قضية لفظية صورية من دون أي معنى،و ليس لها فائدة،لأن الحديث ليس عن وجود الإنسان التخيلي الافتراضي،بل هو تعالى يريد أن يمتن على هذا الإنسان،و يذكره بنعمه الجليلة،و أياديه الجميلة.و هذا يناسب أن يسأله عن أنه هل مر عليه حين،لم يكن اللّه سبحانه يمده بالنعم،و يتعاهده بالرعاية..فيكون الجواب:لا بل الإنسان دائما محل العناية و الرعاية الإلهية..

هل البسيطة و هل المركبة:

و قد بدأت السورة بصيغة سؤال: هَلْ أَتى .. و السؤال يثير في الإنسان،الرغبة في المتابعة و المراقبة الدقيقة.فإذا كان السؤال موجها إليه مباشرة،فإن ذلك سيزيده تحفزا،و يقظة،و تنبها،و سيجعله أمام مسئولية لا بد من التصدي لها.و يتأكد الاهتمام بالسؤال إذا كان السائل هو اللّه، الخالق،العالم بالسر و ما يخفى،لأنه يعلم أنه ليس استفهاما حقيقيا،بل إما تقريري أو إنكاري،فبأي شيء يطلب منه أن يقر أمام اللّه؟و أي

ص: 26

شيء ينكره اللّه عليه،و يريد ردعه عنه؟

و ما ذا يريد اللّه سبحانه من وراء هذا التقرير،أو ذلك الإنكار؟!..

لما ذا اختار كلمة:«أتى»؟:

و قد يسأل سائل:لما ذا قال تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ و لم يقل:هل مر على الإنسان.

و نجيب:

أولا:إن كلمة: هَلْ أَتى تشير إلى أن السؤال إنما هو عن الإنسان،أو عن الشيء الموجود و الثابت،و أنه هل أتى عليه في الماضي البعيد و المستمر حتى ساعتنا هذه،لحظة أو زمان لم يكن شيئا مذكورا؟!.

فكلمة أَتى تشير إلى هذا التحول المستمر آنا فآنا،من السابق إلى اللاحق،مع وجود الإنسان في جميع هذه الآنات.

و لو أنه قال:هل مر على الإنسان.فإن مفاده أن ما جعل موضوعا للكلام قد مر عليه هذا الأمر،و لكن هل هذا الموضوع-و هو الإنسان- موجود الآن،أو ليس بموجود،بل هو قد زال و انقضى،فهذا ما لا يدل عليه الكلام،فالقدر المتيقن هو مرور هذا الأمر على الشيء الذي جعل موضوعا في الكلام في وقت سابق..

و لكنك إذا بدلت كلمة:«مرّ»،بكلمة«أتى»،فإن الكلام يدل على ثبات و وجود هذا الإنسان في جميع الآنات التي تسأل عنها،فهو نظير قولك فلان أتى عليه مائة سنة،فالحديث عنه إنما هو في حال كونه لا يزال موجودا،و حيا يرزق..

ثانيا:إنك حين تأتي بالاسم الظاهر،و تجعله محورا للكلام،فلا بد أن تأتي بضميره الآتي بعده بصيغة الغائب.فلاحظ قوله: لَمْ يَكُنْ

ص: 27

و نَبْتَلِيهِ و هَدَيْناهُ فهذه الغيبة في مقام الذكر و الخطاب،قد توحي للإنسان الغافل بتوافق الخصوصية اللفظية،و هي الغيبة عن مقام الخطاب و الذكر،مع الخصوصية الخارجية،و هي الغيبة في الواقع.

فاذا جاء التعبير بكلمة«مر»،فقد يتأكد هذا الإيحاء الذي ظهر في الأمرين السابقين أيضا لدى الإنسان الغافل،الذي قد ينساق مع هذا التخيل ليفهم الكلام على أنه حديث عن مخلوق سابق..

أما كلمة أَتى ، فقد أزالت كل شبهة في ذلك،و أفهمت:أن موضوع الحديث هو طبيعي هذا الموجود في كل زمان.و ليس الحديث عن إنسان مضى..

ثالثا:و لنفرض أن المراد الحديث عن فترة ما قبل خلق الإنسان..

فذلك لا يفرض أن يكون المراد ب هَلْ هو الإثبات..أو التقرير الذي جوابه الإثبات..إذ إنه حتى قبل أن يوجد الإنسان،فإنه كان مذكورا عند اللّه مذ كان في علمه تعالى.فكل هذا الوجود،بما فيه،قد خلق من أجله،و ليكون في خدمته..

و قد خلق اللّه روح النبي[صلّى اللّه عليه و آله]،و أرواح أهل بيته [عليهم السّلام]،و جعلهم بعرشه محدقين،و أشهدهم خلق كل شيء..ثم أرسل الأنبياء من لدن آدم[عليه السّلام]و إلى الخاتم[صلّى اللّه عليه و آله]من أجل هذا الإنسان،و ليكونوا له نموذجا و قادة،و هداة،و أسوة، و قدوة،و أنزل الكتب السماوية،و فرض تعلم العلم،و أوجب تعليمه، ليكون ذلك للبشر منار هداية،و سبيل نجاة..

ثم إنه حين يقترب وقت إفاضة الوجود الفعلي على الإنسان،ليكون حيا،مدركا،فاعلا،مختارا،فإنك تجد أوامر اللّه تلاحقه،و ترشده إلى أن

ص: 28

يختار والدته الصالحة من أفضل الأصول،و أطهرها،و يرشده أيضا إلى كل ما يسهم في إبعاد الأبوين عن كل ما من شأنه أن يلحق أي ضرر في النطفة في ابتداء تكوينه..و يبين له حتى حالات المقاربة الصحيحة،التي تنتهي بزرع نطفته في رحم أمه،حيث يحرص على منع أبويه مما له أدنى تأثير على روحه،و نفسه و جسده،حتى في احتمالاته البعيدة..

فراجع آداب العلاقة بين الزوجين في توجيهات النبي[صلّى اللّه عليه و آله]و الأئمة[عليهم السّلام]،حتى قبل أن تتكون نطفته،و بعد تكوينها،ثم صيرورته علقة،ثم مضغة،إلى آخر مسيرته في عالم الجنينية،ثم ولادته،و تربيته،و رعايته التامة إلى أن يموت..

إنه في هذه المراحل كلها موضع رعاية اللّه سبحانه و عنايته،و هو مذكور عنده،و يفهمه أن بناء الكون،و تسييره و تدبيره،يجري وفق الضوابط التي تهيّئ أفضل المناخات،لإيصاله إلى درجات الفوز و السعادة..

و ذلك يعرفنا بعمق معنى قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.

«عَلَى الْإِنْسانِ »:

و التعبير بكلمة: عَلَى يشير إلى أن الزمان شيء عارض على الذات الإنسانية،و أن له ملابسة لهذه الذات،متصرم عنها..

و لكن،هل يريد-فقط-أن يفهمنا مجرد ملابسة الزمن للموجودات المادية،و عروضه لها،و ارتباطها به؟!أم أن هناك حقيقة أهم و أعظم،يريد لفت النظر إليها؟!..

الحق هو هذا الأخير،فإنه جعل محور الكلام هو الإنسان المستمر

ص: 29

في وجوده من الماضي إلى الحاضر،و جعل الإنسان الموضوع لكلامه أيضا و ليس البشر-ربما-ليفيد أنه لا يقصر نظره على وجوده الجسماني المادي.بل هو ينظر إليه،بما له من خصائص إنسانية،من روح و نفس،و بما له من مشاعر،و قوى،و ملكات،و أحاسيس.

إنه يريد أن يفهمنا:أن بقاء هذا الإنسان الباقي و المستمر،الذي يذكره اللّه بالنعم،ليس بسبب وجود طاقة البقاء في داخل ذاته و حقيقته، و ذلك لأنه موجود ملابس للزمان،و الزمان مهيمن عليه،و هو يفرض عليه التصرم و الزوال،فحدوثه المتجدد إنما هو من خلال محدثه و موجده،و هو اللّه سبحانه..

و بذلك يتضح لنا السبب في أنه لم يعبر بكلمة بشر،الذي يمر عبر مراحل:فيكون نطفة،ثم علقة،ثم مضغة،ثم يكسو اللّه العظام لحما.بل عبر بكلمة إنسان!حيث تبدأ مرحلة أخرى أرقى من هذه المراحل كلها، قد عبر اللّه عنها بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. و هي مرحلة نفخ الروح التي تؤهله لأن يجد خصائصه الإنسانية وفقا للسنن الإلهية في ذلك.

و بذلك يتضح أيضا لما ذا أدخل الزمان في الحديث عن حياة الإنسان،فإنه مفيد في بيان هيمنته و تأثيره في واقعه الإنساني.

«الإنسان»:

إن الإنسان بما هو إنسان،موضع عنايته تعالى،و ليس الحديث عن حالات أفراده:كزيد،و بكر،من كبر و صغر،و لا عما يطرأ عليه من موت أو حياة،و نحو ذلك.و هذا معناه:أن الكلام الوارد يصدق على من خلق حين نزول الآيات،و على غيره..

أما الآية الثانية،و هي قوله: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ،

ص: 30

فقد لاحظت الخصوصيات الفردية في الإنسان..فإنه هو الذي يخلق، و يكون نطفة،و تمر بمراحل،و هو الذي يصير له سمع و بصر،و تمييز، و غير ذلك.

و لأجل هذا الاختلاف،كان لا بد من تكرار كلمة الإنسان في الآيتين، فلم يقل«خلقناه»..

سؤال..و جوابه:

و قد يقال:لما ذا لا نقول:إن الحديث القرآني جار وفق مصطلحات العرفاء في معنى الإنسان..

و يجاب:بأن ذلك لا يصح،فقد قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا.. (1)،و قال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (2)،أي أنه تعالى يتحدث بلغة البشر بما هم بشر،فرضت حاجاتهم عليهم لغة يتخاطبون بها،لا بمصطلحات وضعها أرباب هذا العلم أو ذاك.و إلا،فإن ذلك السؤال يستتبع سؤالا آخر هو:لما ذا لا يتحدث اللّه تعالى بمصطلحات الفلاسفة، أو المتكلمين،أو الفقهاء،أو أصحاب أي علم آخر؟!..

على أن اللغة إنما يحتاجها الناس من حيث هم بشر..و هي موضوعة في الأصل لمعان حسية،أو قريبة من الحسّ..و هي المعاني التي نعرفها بآثارها،كالكرم و الشجاعة و العدالة،و الحسد..و العقل..

و الغضب و الفرح و ما إلى ذلك..و هناك معان أبعد من هذه،و هي نتاج تفكير عميق،و دقة ملاحظة،فيحتاج للتعبير عنها إلى التوسل ببعض

********

(1) سورة يوسف الآية 2.

(2) سورة الشعراء الآية 192.

ص: 31

التراكيب،أو إلى بعض المجازات،أو الكنايات..

و في كليهما استعمل اللّه تعالى مصطلحات الإنسان بما هو إنسان..

لا الأصولي،و لا النحوي،و لا الفيلسوف..و لأجل ذلك تجد أن المجازات و الأمثال و نحوها موجودة لدى البشر جميعا.و هي شديدة التقارب.لكونها تعبر عن حالاته البشرية و الفطرية.

كما أنك حين تريد أن تخاطب الناس،فلا بد أن تخاطبهم باللغة التي تفرضها فطرتهم و إنسانيتهم،و لا تخاطبهم بلغة فئة خاصة،قد لا يعرف الكثيرون عن مصطلحاتها الشيء الكثير،فلا مجال لمخاطبتهم بلغة أهل العرفان مثلا،أو أية فئة خاصة أخرى..و لأجل ذلك،كانت اللغة المعتمدة هي اللغة العامة التي تعتبر من المشتركات الإنسانية،ما دامت تعتمد الألفاظ المعبرة عن المعاني الفطرية..

و قد أراد الإسلام أن تكون لغته هي ذلك المشترك الإنساني العام، فاختار اللغة العربية،لتكون لغة الصلاة،و التسبيح،و القرآن،و غير ذلك..

لأن الإنساني هو اللغة و ليس هو المصطلح،و لأجل ذلك تشابهت المجازات،و الأمثال،و الاستعارات،حتى كأنك تظن أنها أخذت من لغتك،و الحقيقة هي أنها إنما كانت كذلك،لأنها نتاج حركة الفطرة، و العقل،و المشاعر في الحياة،و هذه الأشياء واحدة لدى البشر جميعا، فجاءت المعاني متشابهة،و إن اختلفت الحروف،و الأصوات التي اختيرت لحمل تلك المعاني..لأن اللغة بمعنى الحروف و الأصوات قد فرضت على الإنسان في مرحلة اللاوعي،أما المعاني فليست كذلك.

و لأجل ذلك تجد أن الكل يصف الشجاع بأنه أسد..و يكنى عن الكثرة بالبحر،و عن السعة بالصحراء..و..و الخ..و إن اختلف الحروف التي عبرت عن الأسد،و عن البحر،من لغة إلى أخرى.

ص: 32

عودة إلى كلمة«الإنسان»:

و نعود لتوضيح ما نرمي إليه هنا،فنقول:

لو أن كلمة اَلْإِنْسانِ في الآية استبدلت بكلمة«البشر»لا نصرف الذهن إلى الإنسان المتجسد في الأفراد،كزيد،و بكر،و لدخل في وهم السامع:أن الحديث هو عن هذا الوجود المادي للإنسان.فهو من حيث جسميته له بشرة بادية..و لا بد أن يتحصص و يتشخص في مكان، و يتقيد بزمان..و لا بد أن له حالات و أطوارا،من قيام و قعود،و صحة و مرض..و كبر و صغر،و لحم،و دم،و عظم،و عضلات،و يشبع،و يجوع..

فيمكن أن يكون الحديث عن بشريته،بمعنى تكوين جسمه،و عن عوارض الأمراض،و عن خريطة عروقه و شرايينه،و عن عظامه،و حالاتها و أمراضها،أو عن كونه حيا،له روح،و نفس،و مشاعر،و أحاسيس.فما هي حقيقة تلك الروح أو النفس،و ما هي حالاتها،و كيف تتأثر و تؤثر..

إلخ،أو عن مدى تأثيره بغيره،أو عن علاقته بربه،و بمجتمعه و محيطه، و نشاطه السياسي،و علاقاته الاجتماعية،أو عن النظم و الأجهزة، و المؤسسات،و السياسات التي يحتاجها..أو عن مكوناته الإنسانية،بما له من ملكات،و مزايا،كالشجاعة،و الكرم،و العدالة،و غير ذلك.

مع أن ذلك كله ليس هو محط النظر الأساس في هذه الآية المباركة، و إن كان غير بعيد عن أجواء الحديث،بل المقصود هو تناول طبيعة الإنسان، و حقيقته،بما له من مزايا إنسانية..من دون أي تركيز على خصوصية بعينها من كل ذلك الذي ذكرناه آنفا،أي أن السؤال هو عن الإنسان مطلقا في أي مرتبة من مراتب وجوده،و في أية حالة كان،و بأية صفة اتصف،و على أي مزية حصل..لا من حيث كونه موجودا ماديا و حسب،بل من حيث كونه حاصلا على مزاياه الإنسانية كلها،أو في طور الحصول عليها كلها،أو بعضها،

ص: 33

في أي مستوى كانت تلك الميزات.و من دون أن يتوقف عند أي من مراتبها أو حالاتها..

فهو بما أنه موجود إنساني،مورد الاهتمام،لا بما هو موجود مادي، فخصائصه الإنسانية محل رعاية اللّه سبحانه..فهو إذن مقصود و مرعي، في أية حالة،و مع كل مزية،في حال فقده لها،و في حال حصوله عليها على حد سواء.

أما الإنسان في الآية التالية،فيقصد به ذلك المعنى الأول،أي من حيث هو بشر،و لذلك أعاد التصريح بكلمة اَلْإِنْسانِ ، و لم يكتف بذكره بواسطة إرجاع ضميره إليه..

اَلْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ :

و قد قال تعالى في آية أخرى: نَذِيراً لِلْبَشَرِ (1)و لم يقل:نذيرا للإنسان،لأنه لا يستحق و سام الاستحقاق الإنساني ما لم يستجب للنذير، و للهداية الإلهية،إذ بدون ذلك يكون كالأنعام،بل أضل سبيلا،إذ إن:

لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها (2) ،أي لا يدركون بها المعاني الواقعية.و لا يتفاعلون معها بالمشاعر القلبية،من خوف و رجاء،و نحو ذلك.

و لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها (3)لأن المطلوب هو النفوذ إلى الأسرار و الحقائق،لا النظرة المادية السطحية.

فهم إذن فاقدون لما يستحقون به وصف الإنسانية الذي أعلن عنه

********

(1) سورة المدثر الآية 36.

(2) سورة الأعراف الآية 179.

(3) سورة الأعراف الآية 179.

ص: 34

في سورة التين،حين قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (1).

و في سورة العصر: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (2).

فالإنسان الذي يجمع صفات الإيمان،و العمل الصالح،و التواصي بالحق،و بالصبر،يبقى على صفة الكمال الإنساني،و لا يخسر شيئا منه، و يبقى في أحسن تقويم،و لا يرد إلى أسفل سافلين.

و في هذه السورة أيضا،أعني سورة هَلْ أَتى : قد جعل اللّه الإنسان سميعا بصيرا،فإذا فقد هذه السميعية و البصيرية،و أصبح له عينان لا يبصر بهما،و أذنان لا يسمع بهما،بسبب كفره،فإنه يحجب عن نفسه نور الهدى،وفقا للسنّة الإلهية القائمة في البشر.

كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (3) .

خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (4) .

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (5) .

********

(1) سورة التين الآيتان 6/4.

(2) سورة العصر.

(3) سورة المطففين الآية 14.

(4) سورة البقرة الآية 7.

(5) سورة البقرة الآية 18.

ص: 35

إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (1) .

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (2) .

نعم،إن ذلك كله يعطي أن اللّه سبحانه قد أفاض على الإنسان وجودا إنسانيا كامل الخصائص و المزايا.لكنّ الإنسان هو الذي ينحطّ عن درجات إنسانيته و عن تقويمه الأحسن،و يبدأ بخسران مزاياه، و خصائصه الإنسانية،بسبب أعماله بالتدريج.و قد ينتهي به الأمر إلى أن يخسرها جميعها،فيصبح كالأنعام،بل أضل.

أما المؤمن الصالح،فهو يحفظ ذلك كله بكل وجوده،و لا يفرط فيه،رغم كل ما يواجهه من مصاعب و أخطار..و لو أنّه أخفق في بعض الحالات،فإنّه سيحاول أن يستعيد ما فقده،و يرمّم ما خرّبه،و يسد الثغرة و الخلل العارض بسبب تلك النزوة العارضة.

و لعل هذا هو الذي عناه اللّه بكلمة:«الإنسان»في قوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ.... و بيّن أنّه حين يتعرّض للنشوء و للوجود..فإنه سيكون في جميع مراحل وجوده،و في كل مستويات نشأته و حالاتها،مذكورا عند اللّه سبحانه،و محلا لألطافه و عناياته..

«حين من الدّهر»:

و قد يسأل سائل:لم لم يقل:هل أتى على الإنسان حين،أو وقت،لم يكن شيئا مذكورا؟!.فما هو وجه الحاجة لكلمة:«من الدّهر»يا ترى؟!

********

(1) سورة الفرقان الآية 44.

(2) سورة التين الآيتان 6/5.

ص: 36

و يمكن أن يجاب:بأن الحين هو الآن و الجزء الزمني الصغير، و الدهر هو مجموع تلك الأجزاء و اللحظات الزمنية الممتدة و المستمرة في التعاقب و التكثّر و الامتداد.فكلمة الدهر تشمل أجزاء و آنات الزمان السابق و الحاضر،و اللاحق.و قد أريد في الآية الاستفهام عن كل الآنات التي كان للإنسان-بما هو إنسان-حضور فيها،و يلاحظها المجيب في إجابته جزءا بعد جزء،و آنا بعد آن.

و ما ذلك إلا لأن الإنسان إنما يبدأ بالشعور و الإدراك الفعلي منذ ولادته،و ربما قبل ذلك،حيث يطوي مراحل استعداده لهذه الولادة و يستمر هذا الشعور إلى حين موته..حيث تبدأ حياته البرزخية..غاية الأمر:أن شعوره-بعد اكتمال و تبلور خصائصه-بما هو خارج دائرة ما بين الولادة و الوفاة يبقى غير واضح المعالم له،بل هو أقرب إلى التخيل و الافتراض منه إلى الإحساس الحقيقي،و الرؤية الواضحة..مع أن مراتب وجوده و مراحله قد تكون أبعد من ذلك بكثير..

مع استثناء أولئك الصفوة الذين كان ابتداء خلق أرواحهم و حلولها في الأشباح قبل خلق الخلق،بدهور،و هم أهل البيت[عليهم السّلام]..

و قد كانوا مورد العناية الإلهية في كل تلك الدهور.

فالتصريح في الآية المباركة بكلمة مِنَ الدَّهْرِ يراد به التأكيد على رؤية حركة الإنسان في عامود الزمان المستمر في الامتداد و الجريان، لاستغراق آناته كلها..لكي لا يخيل للإنسان:اقتصار الرعاية الإلهية على فترة نشأته المادية الفعلية،بل هي رعاية شاملة لكل عوالمه التي مرّ فيها، و لجميع منازله،و مراتبه الوجودية،حتى حينما كان لا يزال في علم اللّه، ثم ما تلى ذلك من انتقاله من عالم إلى عالم،و من منزلة إلى أخرى، و سيستمر ذلك إلى أن يستقر في الدار الآخرة..

ص: 37

و اللافت:أن الإنسان إنما ينظر إلى إحدى مراتب وجوده،و التي هي الحياة الدنيا،و بها يشعر،و لا يلتفت إلى امتدادات وجوده الإنساني،التي قد تكون أهم،و أثبت،و أسمى،و أرسخ،ف إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و فيها يكشف الغطاء،و يصبح البصر حديدا.

«شيئا»:

و قد كان يمكن أن يقول: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، و لكنه تعالى أراد بهذا الاستفهام التقريري أو الإنكاري،أن يثبت الذكر للإنسان أو ينفيه عنه بما هو شيء.و شيئيته تساوق تشبثه بالوجود الخارجي،في بعض أطواره،و أدواره..

و بذلك يكون الحديث عن شيء واقع..و ليس حديثا عن أمر افتراضي،كالسالبة بانتفاء الموضوع التي لا فائدة منها و لا عائدة،حسبما أسلفناه..و لا هو حديث عن بعض مراتب الوجود التي لا ترتبط بشيئيته و لا بتحققه في الواقع الخارجي العيني..بل تكون نسبتها إليه نسبة عرضية،مجازية،لا حقيقية..كالوجود اللفظي،و الكتبي،و الذهني،فإن ذكر الإنسان على هذا النحو في هذه الأدوار،ليس ذكرا حقيقيا له،و ليس ذلك من الأمور التي يصح امتنان اللّه سبحانه بها عليه،كما هو سياق الآيات الكريمة.

«مذكورا»:

هل المراد:بالذكر هو أن يخبر عنه و يذكره أمام الآخرين؟..

أو المراد:كونه ذا قيمة و له أهمية في نفسه؟..

أو المراد بذكره الاهتمام بشأنه..بشكل دائم و مستمر؟!.بغض النظر عن كونه ذا قيمة في نفسه،أو غير ذي قيمة!

ص: 38

ظاهر الآيات أن المراد هو الاهتمام بشأنه و رعايته،بما يتناسب مع شأنه و حاله،و مقامه،و يتناسب مع شأن الذاكر،من كيفيات الذكر و مفرداته و مستوياته..لأن مجرد ذكر الإنسان في المحافل،ليس مما يصح الامتنان به من رب العالمين،ما لم يكن من الثناء الجميل المظهر لميزاته من حيث هو مؤمن..كما ورد في الدعاء:«و كم من ثناء جميل لست أهلا له نشرته»..إذ إن أهل السوء و الانحراف ليس فيهم ما يصلح للثناء..

كما أن كون هذا الشيء ذا قيمة ليس مما يمتن به،إلا إذا كان له دور و وظيفة يؤديها،فتتحدد قيمته و أهميته من خلال ذلك،فإن الذهب مثلا،إذا لم يكن له مورد يستفاد فيه منه،فإنه لا ينفع و لا يجدي،و لا يصح الامتنان بوجوده على أحد..

فالامتنان من اللّه إنما يناسب حالة الاهتمام و الاعتناء بشأنه،و رفده بالعطايا و النعم التي يحتاجها.

و مجرد ذكر الشيء في المجالس،لا يلازم الاهتمام،و العناية و الرعاية..لأن الاهتمام قد يتعلق بفرضية لا وجود لها،يراد لها أن تتحقق،فيسعى الإنسان لتحديد حدودها،و الارتقاء بها بيانيا إلى حيث تصبح قابلة للتلمس لمجرد حب المعرفة،و الاكتشاف،و لو لم يكن لها أية قيمة أو شأن يذكر عنده..

و قد يهتم بشيء موجود،لكنه غير واضح المعالم،فيسعى لتحديد معالمه،و مشخصاته،و معرفة مواصفاته،لكي يخرجه من حالة الغموض و لأجل أن يحسن التحرز منه،و التوقي من مخاطره..

و كلا هذين الأمرين لا يصح نسبتهما في هذا المورد بالذات إلى اللّه سبحانه.

ص: 39

فينحصر الأمر بأن يكون المراد بالذكر في الآية هو متابعة رعاية واقع الشيء بكل خصائصه و مزاياه،و كمالاته الوجودية،فذكره ليس بالسعي لتوضيح،معالمه،و وضع حدود وجوده..بل برعايته و بجعله شيئا له أهلية الرقي المستمر و الحضور الدائم..و ذلك إنما يكون بإفاضة كل ما يحتاج إليه من مزايا و كمالات و ألطاف تناسب وجوده..

الامتنان الإلهي..هداية،و رعاية:

و لعلك تقول:لقد نهى اللّه عن المن على الآخرين،فقال: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ.. (1)،و قال: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ (2)..

ثم يقول: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ . فيكف ينهاهم سبحانه عن المنّ،ثم يمنّ هو عليهم؟!..

و نقول في الجواب:

بما أن اللّه سبحانه هو الرب الهادي،و هو الخالق و المالك،و المنعم المتفضل،فامتنانه تعالى كمال،و هداية،و رعاية،و ربوبية.

و أما امتنان الناس على غيرهم،فهو نقص،و عجز،و هوان..

و ذلك لأن امتنانه تعالى علينا لم يرد في سياق الادعاء،و لا هو بهدف التحقير و الإذلال.كما أنه ليس ناشئا عن عجب أو رياء،أو غرور، أو أي عيب آخر..كما هو الحال في الامتنان الصادر عن البشر.

و إنما الامتنان منه تعالى قد جاء ليعيد الإنسان إلى حالة التوازن، و يفتح عينيه على واقعه،و هو للتذكير بالنعمة على سبيل إظهار حيثيات

********

(1) سورة المدثر الآية 6.

(2) سورة الحجرات الآية 17.

ص: 40

رفع الحاجة و سد الخلل بها،من مصدر التفضّل و العطاء.فهو جار في سياق تعريف الإنسان بنفسه،و بخالقه،بهدف سوقه نحو الكمال.

فالامتنان إنما هو بداعي اللطف به،و من منطلق الحب،و الرعاية و الهداية،و التربية له،و الإحسان إليه،فهو نعمة أخرى له عليه،لا بدّ للإنسان من شكره عليها.

إنه بهذا الامتنان يذكره بعجزه،و نقيصته،و حاجته..ليضعه على الطريق الصحيح،حيث يشعر بعجزه أمام قدرته تعالى و بضعفه أمام قوته تعالى،و بفقره أمام غناه،و بجهله أمام علمه،و بنقصه أمام كماله.

فيبعده بذلك عن حالة العجب،و الرياء و الغرور،ليكون بذلك أبعد عن الشرك،الذي هو أخفى فيه من دبيب النمل،كما جاء في الروايات الشريفة..لأنّ هذه العاهات:العجب و الرياء و الغرور،تجعله يشعر باستغنائه عن اللّه تعالى،و تدفع به إلى الاعتقاد بأن ما لديه من خصائص و مزايا و كمالات،إنما هو من الأمور الذاتية له،تماما كما قال قارون:

إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (1) .فهو يشعر أنه ليس بحاجة إلى اللّه سبحانه،لأن لديه القدرات التي تمكّنه من التأثير في الأشياء.فلما ذا يخضع للّه،و يجهد نفسه في عبادته،و يؤاخذ نفسه بتنفيذ أوامره و نواهيه؟!

و لا شك في أن هذه حالة من الشرك الكامن في عمق ذاته،و هي من أهم أسباب رده إلى أسفل سافلين،و أن يكون في خسر مستمر..

فالامتنان من اللّه هداية و تفضّل يعيد الإنسان إلى الارتباط بمصدر الفيض الحقيقي..فيصحو بعد غفلة،و يعلمه بضعفه بعد جهل،و يوحّد

********

(1) سورة القصص الآية 78.

ص: 41

اللّه بعد شرك..و يؤمن به بعد كفر.و يتجه نحو شكر اللّه سبحانه بعد كفران،و نحو عبادته بما يستحقه سبحانه،بعد تمرد و عصيان..و يتوسل إليه بأحب الخلق إليه،و للّه الحجة البالغة في كل حين و زمان..و صدق اللّه العلي العظيم حيث يقول: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ..

***

ص: 42

الفصل الثاني: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً

اشارة

ص: 43

ص: 44

قال تعالى:

إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً.

في هذه الآية المباركة دلالات هامة،و إشارات دقيقة،لا بد من الوقوف على ما يتيسر الوقوف عليه منها،فنقول:

«إِنّا خَلَقْنَا»:

إن أول ما يواجهنا في هذه الآية المباركة،هو أنه تعالى قد بدأها بالإشارة إلى نفسه بصيغة الجمع،فقال: إِنّا خَلَقْنَا.. و لم يقل:أنا خلقت،أو لقد خلقت.فهل هناك من خصوصية اقتضت ذلك؟!

و ما الفرق بين الموارد التي يذكر اللّه سبحانه فيها نفسه بصيغة الجمع،و الموارد التي يأتي فيها بصيغة المفرد؟!.

و للإجابة على ذلك نقول:

هناك آيات تكلّم اللّه سبحانه فيها عن نفسه بصيغة المفرد،نذكر منها ما يلي:

إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1) .

وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ (2) .

********

(1) سورة طه الآية 14.

(2) سورة طه الآية 82.

ص: 45

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1) .

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا (2) .

إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (3) .

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (4) .

أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ (5) .

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (6) .

و مما ورد بصيغة الجمع،نذكر منها:

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (7) .

وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (8) .

أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (9) .

********

(1) سورة الذاريات الآية 56.

(2) سورة المؤمنون الآية 111.

(3) سورة البقرة الآية 30.

(4) سورة البقرة الآية 30.

(5) سورة البقرة الآية 31.

(6) سورة البقرة الآية 33.

(7) سورة الحجر الآية 9.

(8) سورة الحجر الآية 22.

(9) سورة عبس الآية 25.

ص: 46

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (1) .

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً (2) .

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا (3) .

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (4) .

لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ (5) .

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما (6) .

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (7) .

وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ (8) .

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى .. (9) .

و الآيات كثيرة..

فنلاحظ:أنه تعالى حين ذكر العبادة،أو تحدث عن إثبات مقام

********

(1) سورة المؤمنون الآية 12.

(2) سورة المؤمنون الآية 18.

(3) سورة المؤمنون الآية 27.

(4) سورة المؤمنون الآية 31.

(5) سورة المؤمنون الآية 49.

(6) سورة المؤمنون الآية 50.

(7) سورة المؤمنون الآية 55.

(8) سورة المؤمنون الآية 77.

(9) سورة طه الآية 55.

ص: 47

الألوهية و نفي التأثير لغيره سبحانه،و عن الوحدانية،و نفي الشرك و الشريك،و الصاحبة،و الولد،نلاحظ:أنه في مثل هذه الموارد قد جاء بصيغة المفرد،لأن المقام مقام تحديد،فهو يقول: لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً (1).

و يقول: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2).

و يقول: وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (3).

و يقول: إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (4).

و يقول: وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (5).

و لكنه حين يريد أن يثبت مقام القدرة و الاختيار،و العطاء،و الفيض الإلهي في موارد الرحمة،و النعمة،و الرزق و التدبير،و جميع الموارد التي يريد أن يخاطب الإنسان فيها من موقع الكبرياء،و العظمة..و العزة، و القدرة،و الربوبية و شئونها،التي تتجلى في العناية و الرعاية،و التدبير، فإنه تعالى في جميع تلك الموارد يتكلم عن نفسه بكلتا الصيغتين.

و ذلك لأن الأمور التي تدخل في هذا السياق على قسمين:

أحدهما:ما لا بد من التدخل الإلهي المباشر فيه،و لا مجال لتوسيط أية جهة في إنجازه،و ينحصر التأثير به تعالى،كالمغفرة،و الجزاء الآتي

********

(1) سورة الحج الآية 26.

(2) سورة الذاريات الآية 56.

(3) سورة يس الآية 61.

(4) سورة طه الآية 14.

(5) سورة الأنبياء الآية 92.

ص: 48

على سبيل الكرامة الإلهية (1)،و جعل الخليفة في الأرض،و الاختصاص بعلم الغيب،و نحو ذلك..

فجاءت الآيات في هذا القسم بصيغة المفرد،فقد:

قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ (2).

و قال: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا (3).

و قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (4).

و قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (5).

و قال: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (6).

و قال: عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ (7).

********

(1) و قد قيدنا بذلك لنشير إلى أنه إذا كان المراد هو إعطاء الجزاء المقرر،من دون الإشارة إلى خصوصية الكرامة الإلهية،أو الإشارة إلى مشاركة الملائكة و غيرهم في إيصال الجزاء إليه،فيدخل ذلك في القسم الآتي،حيث لا مانع من الإتيان بصيغة الجمع،كقوله تعالى: سَنَجْزِي الشّاكِرِينَ .. و قوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ..

(2) سورة طه الآية 82.

(3) سورة المؤمنون الآية 111.

(4) سورة البقرة الآية 30.

(5) سورة ص الآيتان 72/71.

(6) سورة البقرة الآية 30.

(7) سورة المؤمنون الآية 92.

ص: 49

الثاني:ما يمكن فيه توسيط وسائط من الملائكة أو غيرهم،ممن أذن اللّه لهم في التصرف،أو عن طريق تسبيب أسباب،و إجزاء سنن إلهية..و قد تحدث اللّه عن نفسه في هذا القسم بصيغة الجمع..كما أنه قد تحدث بصيغة الجمع في مقامات إظهار العزة و الهيبة و الجبروت.

و جاء أيضا بضمير الجمع حين كان الغرض الإشارة إلى مقام العزة و العظمة الإلهية،أو أريد الإشارة إلى مشاركة الملائكة في كتابة الأعمال عن قرب و معاينة،فهو يقول: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (1)..

قال تعالى: أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ (2).

و قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3).

و قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (4).

و قال تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً (5).

و قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (6).

و قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (7).

********

(1) سورة ق الآية 16.

(2) سورة الواقعة الآية 64.

(3) سورة الحجر الآية 9.

(4) سورة الحجر الآية 22.

(5) سورة الأنبياء الآية 69.

(6) سورة المؤمنون الآية 12.

(7) سورة المؤمنون الآية 13.

ص: 50

و قال تعالى: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (1).

و عن مريم قال تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا.. (2).

و قال تعالى: وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا (3).

و يلاحظ في هذه الآية الأخيرة:أنه تعالى قد جمع فيها كلا الأمرين:

حيث لوحظت فيها تارة قدرة اللّه سبحانه على الخلق..

و يلاحظ فيها تارة أخرى تهيئة وسائل إظهار هذه الآية للآخرين، و جعلها وسيلة هداية لهم وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ (4)حيث بينت أن اللّه تعالى قد يحيي الميت،و لكن بتوسط إرادة النبي عيسى[عليه السّلام]أو غيره،بمعنى أن اللّه قد تعهد بالإحياء حين تتعلق إرادة النبي عيسى[عليه السّلام]به،فإرادة النبي عيسى واقعة في سلسلة العلل التي إذا وجدت جاء الفيض الإلهي و حصلت الحياة.

و نظائر هذا التوسيط كثيرة،فإن إنزال الذكر،يكون بوسائط منها جبرائيل[عليه السّلام]،كما أن إنزال الماء،مما يتدخل فيه الملائكة،بعد أن يحمله السحاب أيضا،و يمر بمراحل معروفة.

و الزراعة تتم بواسطة إنزال المطر على التراب،ثم يتفاعل التراب مع البذور،فيحصل النبات،و يكون الحمل بعد مقاربة الرجل زوجته..

و لكن المشيئة الإلهية تبقى هي الحاكمة،و لأجل ذلك قد ينزل

********

(1) سورة مريم الآية 9.

(2) سورة مريم الآية 17.

(3) سورة مريم الآية 21.

(4) سورة مريم الآية 21.

ص: 51

المطر و لا ينبت شيء،و قد تضرم النار،و يمنعها اللّه من الإحراق،و قد يقارب الإنسان زوجته،ثم لا يحصل الحمل،لأن اللّه تعالى لم يأذن في ذلك كله..فناسب التعبير عن الذات الإلهية في مثل هذه الموارد بصيغة الجمع..إظهارا للعزة الإلهية من جهة،و إظهارا لما للأسباب التي جعلها اللّه سبحانه من دور في هذا النظام الكوني العتيد،من جهة أخرى..

و فيما يرتبط بالآية المباركة التي هي موضع البحث نقول:

إنه قد لوحظ فيها طريقة نشوء الإنسان،و أنه من نطفة أمشاج،في إشارة إلى أنه جار وفق سنة طبيعية،و دور إعدادي،و تهيئته بصورة تجعله قابلا للفيوضات الإلهية في مراحل تكونه الإنساني الذي يؤهله للاختبار،الذي ينشأ عنه صيرورته سميعا بصيرا.

«خلقنا»:

و نصل إلى قوله تعالى خَلَقْنَا، فنقول:إن الخلق قد يستعمل و يراد به إبداع الشيء من العدم..و لعل قوله تعالى: وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (1)و كذا قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ (2)قد جاء بهذا المعنى..

و لكن الفرق بين الخلق و الإبداع،الوارد في قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3)..هو أن الإبداع يلحظ فيه مجرد خروج الشيء من العدم،أما الخلق فيلاحظ خروجه من العدم بما له من مادة و هيئة.

********

(1) سورة مريم الآية 9،و راجع نفس السورة الآية 67.

(2) سورة الأعراف الآية 11.

(3) سورة البقرة الآية 117.

ص: 52

فالخصوصية الوجودية ملحوظة في الخلق.

و قد يستعمل الخلق و يراد به التصوير،و إعطاء الهيئات،و الأشكال.

و في هذا السياق هناك آيات كثيرة تحدثت عن مراحل الخلق التكوينية و تطوراته،و التشكلات التي مرت بذلك المخلوق..

و هذه الآية التي هي مورد البحث،من هذا القبيل،حيث ذكرت بداية خلق الإنسان حين يكون نطفة،ثم تتلاقح مع البويضة.و قد تعدّت كلمة:«خلقنا»بواسطة كلمة:«من»التي يقال لها«من»النشوية،أي التي تشير إلى المنشأ و المبدأ فقال: مِنْ نُطْفَةٍ .. و هي من قبيل كلمة«من» في قوله تعالى عن النبي عيسى[عليه السّلام]: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ (1)و هي نفسها الواردة في قوله تعالى: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (2)فالمراد:أن المبدأ و المنشأ،هو السلالة،و النطفة،و الطين..

ففي الآية المباركة التي تحدثت عن خلق الطير،يقول النبي عيسى [عليه السّلام]:إنه يجعل و يخلق لهذا الطين الذي هو موجود،صورة تشبه الطير،ثم ينفخ في هذا المجعول فيصير طيرا..

فالنبي عيسى[عليه السّلام]لم يقل:أجعل لكم من الطين مثل الطير،لأن جعل الهيئة للطير لا تعني وجود الطير نفسه،ليصح أن يقال:

إن هذا الذي عملته هو مثل الطير..

كما أنه[عليه السّلام]لم يقل:أنا أنفخ الطيرية و أوجدها في تلك

********

(1) سورة آل عمران الآية 49.

(2) سورة المؤمنون الآية 12.

ص: 53

الهيئة،بل قال:إنه بعد نفخه فيه توجد حقيقة الطير بإذن اللّه.

فإرادة اللّه سبحانه،هي سبب وجود حقيقة الطير،و نفخة النبي عيسى[عليه السّلام]لها أثر في تحريك السبب لإيجاد المسبب.

فالذي تعلق به الخلق و التصوير هو الهيئة المماثلة لهيئة الطير..

و في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (1).

تحدثت الآيات الشريفة عن انتقال و تطور من حالة إلى حالة،و من كيفية و صورة إلى أخرى أرقى منها و أكمل..أي أنه يبين لنا طريقة الخلق،لا الإبداع و الخروج من العدم،الذي يقابله البقاء في العدم.

و في خلاصة توضيحية نقول:

إنه حينما يأتي بكلمة«خلق»فتارة يريد بها الإبداع للشيء من العدم- و لكن على هيئة خاصة-مثل قوله: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها (2).

و مثله ما جاء لبيان مراحل النشوء و التشكلات في نطاق الإبداع الكيفي و الإبداع من العدم أيضا،كآية: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً (3)و أمثالها..

********

(1) سورة المؤمنون الآيات 16/12.

(2) سورة لقمان الآية 9.

(3) سورة المؤمنون الآية 12.

ص: 54

و تارة يتعلق الخلق بالهيئة فقط،كما في قوله: أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.. (1)و كذا الآيات التي أشارت إلى تطورات الخلق في مراحله كقوله تعالى: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (2)و نحوها.حيث تظهر أن الخلق قد أتى بصورة تدريجية،وفقا لما تفرضه الحكمة في التطوير المناسب لحاله،و استعدادته التي تتنامى،فتحتاج إلى الصور التي تناسبها في كل حال من تلك الأحوال..

و قد ألمحت آية أخرى إلى أن التخليق هو إيجاد هذه الأشكال و الهيئات،و ذلك في قوله تعالى: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ (3).

ثم اعتبر تعالى نفخ الروح في الإنسان إنشاء لخلق آخر فقال في آية أخرى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ (4).

و حين يتعلق الخلق بالهيئات،فإن ذلك لا ينحصر باللّه سبحانه، و لأجل ذلك نسب اللّه الخلق للنبي عيسى[عليه السّلام]في سورة آل عمران،كما أنه تعالى في سورة المؤمنين بعد ذكر مراحل نشوء الإنسان، قال: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (5).في إشارة إلى أن اللّه هو أحسن المصورين،الذين يتصدون لإعطاء الهيئات.

و في هذا إشارة إلى أن الخلق بمعنى التصوير يصح إطلاقه على اللّه

********

(1) سورة آل عمران الآية 49.

(2) سورة السجدة الآية 7.

(3) سورة الحج الآية 5.

(4) سورة المؤمنون الآية 14.

(5) سورة المؤمنون الآية 14.

ص: 55

تعالى و على غيره..

غير أن اللّه تعالى يتصرف في الكيفية من خلال اقتضاء التصرف في المادة له.فخالقية اللّه أعمق من خالقية غيره،لأنه تعالى يتصرف في الذات و الحقيقة بنحو يقتضي التبدل في الكيفيات،و أما غيره فلا قدرة له إلا على التصرف في الهيئات.

«الإنسان»:

و قد اتضح مما تقدم،السبب في أنه تعالى لم يقل:إنا خلقناه ليكون بذلك قد أشار إلى الإنسان الذي تقدم ذكره بضميره العائد إليه،بل عاد فصرح بكلمة:«الإنسان»فإن ذلك إنما هو لاختلاف الجهة التي يريد التركيز عليها في الموردين.

حيث إنه مرة يتحدث عن الإنسان بالحمل الأولي،الذاتي،أي عن حقيقته و ذاته،فيثبت أن هذا الإنسان ما زال في رعاية اللّه في كل آن و حين،بغض النظر عن خصوصيات أفراده،و عن كيفية النشوء و التدرج في الخلق لهم..

و مرة يتحدث عن الإنسان بالحمل الشائع،أي بما هو حاك عن أفراده،بما لهم من نشوء و تكوين مادي،و بما هم لحم،و دم،و عظام، و شكل و روح و نفس،و مشاعر،و أحاسيس،و قوى،و ملكات،و هذا المعنى هو الذي أريد الحديث عنه في هذه الآية الثانية..

و لكنه حديث عن خصوص التنشئة الإلهية التي تسبق اختيار الإنسان،و تحلّيه بصفات الشعور الإنساني،و وصوله إلى مرتبة الشاكر و الكفور..

ص: 56

دور الإنسان في صنع خصائصه:

و لتوضيح ما نرمي إليه نقول:

إن من الضروري أن نجيب في البداية على سؤال يراود ذهن الكثيرين،و هو:

ما ذنب ذوي العاهات؟:

ما ذنب ذوي العاهات؟و هل خلقهم مشوهين ينسجم مع عدل اللّه، و رحمته،و رأفته؟!..

و نجيب:

إننا باختصار شديد،نقول:

إن اللّه حين خلق الكون و الحياة،قد أوجده خاضعا لنواميس، و تهيمن عليه نظم و قوانين،لولاها لم يمكن بناء الحياة،و لم يكن لدى الإنسان أي طموح،أو تخطيط،أو سعي لتطوير الحياة،بالاعتماد على ضمانات تجعل ذلك السعي وسيلة إلى تحقيق مفردات ذلك الطموح..

و لا شك في أن للأشياء بالنسبة إلى ما سواها تأثيرا و تأثرا بها.و قد تكون هذه التأثيرات على درجة عالية من الخفاء بالنسبة لنا.و كمثال على ذلك نذكر أنه لو كان هناك اثنان يجلسان في غرفة واحدة،فإن نفس وقوع نظر أحدهما على ألوان و أشكال تختلف-و لو جزئيا-عما يقع عليه نظر الآخر-سيترك آثارا على نفس و روح أحدهما تختلف عن الآثار التي سوف تكون لدى الآخر.كما أن ما يفكر به الإنسان و ما يأكله،و يشربه،و يلبسه،و الكلمات التي يسمعها،و الأصوات التي تمر على سمعه،و كذلك الروائح و الملموسات و غير ذلك،إن لكل ذلك و سواه تأثيراته الإيجابية،أو السلبية،على روح، و عقل،و مشاعر،و انفعالات الناس..

ص: 57

و لأجل ذلك كثر تعرض أهل بيت العصمة[عليهم السّلام]لإرشاد الناس إلى المنافع و المضار.و رسم الشارع المقدس للناس مفردات تعاملهم مع كل ما يحيط بهم بصورة تفصيلية.و كان فيها ما ألزمهم بمراعاته،و فيها ما ندبهم إليه،و ما حرمه عليهم،و ما كرهه لهم..و تلك هي أقوال النبي الأكرم و الأئمة الطاهرين خير شاهد على ذلك،فإنهم لا يقولون شيئا من عند أنفسهم،بل كل ذلك بوحي إلهي،و بيان،و توفيق و تسديد رباني..

و قد خلق اللّه تعالى النبي آدم[عليه السّلام]،و هو أول إنسان على هذه الأرض ليكون النموذج الأكمل و الأتم،الذي استحق أن يعطى خمسة و عشرين حرفا من الاسم الأعظم،كما ورد في الروايات،و أعطاه جميع الهدايات التي يحتاجها البشر ليوصلوا الكون إلى كماله الأتم.

فكانت الهداية التكوينية،و الإلهامية،و الغريزية،و الفطرية،و الحسية، و العقلية،و الشرعية،فأعطاه أيضا الاختيار و الإرادة،لأن ذلك من موجبات كماله،و لما امتد النسل في ذريته عليه السّلام،بدأت تظهر منهم المخالفات المؤثرة في تشويه خلقه و خلقه،و لو أنه استفاد هدايات اللّه تعالى،و لم يبادر إلى اختيار المخالفة،و التعدي،فإنه سوف لن يوجد مشوه و لا مجرم،بل لم يوجد من الجمادات و الحيوانات و النباتات إلا ما هو تام الخلقة و صحيحها..و لكنه لما اختار التعدي و شرع في الفساد، و الإفساد..بدأت التشوهات الخلقية،و الخلقية تظهر في روحه و مشاعره، و جسده،و أخلاقه،و نفسه،و في الموجودات المحيطة به،من نبات، و حيوان،و جماد.فإنه حتى الأنفاس لها تأثيرها الإيجابي في الحيوان و النبات و كل شيء.و قد قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ .. و قتل قابيل هابيل،و بدأت وراثة العاهات

ص: 58

و التشوهات،و لا تزال..

و هذا معناه:أن اللّه تعالى ليس مسئولا عن هذه العاهات،بل المسئول هم الآخرون.

غير أنه سبحانه قد وضع عقوبات صارمة على من خالف.كما أنه لم يحمّل صاحب العاهة مسئوليات المعافى..و عوضه في الدنيا ما يمكن تعويضه..و إن كان من أهل الإيمان،و العمل الصالح،فإنه لا يحرمه في الآخرة من فضله،و لا بد أن تشمله رحماته الغامرة،و التي أهّل نفسه للاستفادة منها،و مكّنه من طلبها و استنزالها..

و إذا أردنا أن نقترب قليلا من مورد الكلام في الآية المباركة،فإننا نقول:

الفطرة..و الإنسان:

إن اللّه سبحانه حين يزود الإنسان بالفطرة،فإنه يعطيه إياها صافية من الشوائب،بريئة من العيوب،فيستقبلها كيانه،الذي قد تكون فيه تشوهات تمنع من استقباله للفطرة بصورة سليمة و قويمة..

و لعل هذه التشوهات نشأت من خلل عارض على آلية تكوين النطفة،كأن تكون قد تكونت من حرام،أو في ظروف نفسية غير مواتية، أو في حالات و بأساليب حذّر الشارع منها..أو من خلال وراثة خصائص غير سليمة،من خلال عدوان الآخرين على نواميس الخلق و الفطرة،وفقا للمروي عنهم[عليهم السّلام]:اختاروا لنطفكم،فإن الخال أحد الضجيعين..

أو لغير ذلك من أسباب..

و على كل حال،فإن الكيان الذي تنشأ فيه الفطرة،إنما هو بمثابة

ص: 59

المرآة التي تستقبل الصورة،فإنها قد لا تكون على درجة مرضية من الصفاء،و قد تعاني من بعض التلوثات،أو الندوب و التعرجات التي تمنع من استقبالها بصورة سليمة..

غير أن هذه الفطرة،تستمر في الكمون..إلى أن يملك الإنسان قراره و اختياره،بعد أن زوده اللّه بالهدايات،و منها:العقل،ليكون مرشدا و هاديا له..ثم يوجه إليه الخطاب الإلهي،و يصبح مكلفا بإصلاح نفسه، و تصفيتها لتتمكن الفطرة من ممارسة دورها،حتى لا تعيقها تلك التشوهات،و لا تعمي عليها طريقها هاتيك التلوثات.فإنه بجلاء هذه المرآة تصبح الفطرة قادرة على التألق،و على التعبير عن نفسها بصورة أتم و أبه..

و حيث يكون اللّه سبحانه قد هيأ لهذا الإنسان القدرة على التصرف في كل اتجاه،و أعطاه الاختيار و الإرادة،فقد يبادر هذا الإنسان باختياره إلى الاعتداء على فطرته و تشويهها،و إلحاق الأضرار الفادحة بها،بل و القضاء على منجزاتها،و إبطال كل جهودها و مصادرة دورها،و منعها من التأثير في صنع خصائصه،و إفساح المجال لتأثير ما عداها بها، و إخضاعها لإرادات الآخرين..و قد ورد عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]:

كل مولود يولد على الفطرة إنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه،أو يمجّسانه (1).

و بذلك يكون قد تسبب في حجب الفيض الإلهي عنه،حيث يوكل إلى نفسه،و تحل به الكارثة..

********

(1) منتهى المطلب ج 2 ص 932،و الحدائق الناضرة ج 1 ص 425،و راجع:المجموع للنووي ج 9 ص 326 و المبسوط للسرخسي ج 10 ص 62 و المغني لابن قدامة ج 10 ص 473.

ص: 60

«من نطفة»:

قد تقدم أن كلمة«من»الواردة هنا هي«من»النشوية،أي لتشير إلى أن نشأة الإنسان و بداية تكوينه تبدأ من نطفة.

و ليس المراد أن الإنسان بعض من النطفة،أو من جنس النطفة، لتكون كلمة«من»تبعيضية،أو جنسية..

«نطفة أمشاج»:

النطفة هي الماء القليل..ثم أطلق على ماء الرجل أو الحيوان الذي يتولد منه مثله.و قد أشارت كلمة أمشاج إلى أن لهذه النطفة اختلاطا و امتزاجا متكررا في عمق ذاتها،و كذلك مع غيرها،كبويضة المرأة،التي تكون لها أيضا أمشاجية،و اختلاط،و امتزاج ذاتي مع نطفة الرجل،و قد يكون ذلك في عرض واحد،و قد يكون في ضمن امتزاجات ممتدة عبر مراحل الخلق:العلقة،ثم المضغة:مخلقة،أو غير مخلقة،ثم العظام،ثم كسوتها لحما،ثم بعث الروح في هذا الموجود،ليصبح خلقا آخر..

و هي امتزاجات لا تقتصر على النواحي المادية،بل هي تمتد لتشمل النواحي و الخصائص المشاعرية،و الإدراكية،و غيرها،ثم تستمر في سيرها في عملية ابتلاء و اختبار،ينقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة أرقى منها،ليصبح بعد ذلك سميعا بصيرا..

إعراب كلمة«أمشاج»:

و اختلفوا في إعراب كلمة أمشاج،فزعم الزمخشري:أنها وصف مفرد لموصوف مفرد،فإن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد و التثنية و الجمع..

لكن غير الزمخشري قال:إن العرب قد تصف المفرد بالجمع مثل:

ص: 61

ثوب أسمال..

و نقول:

أما بالنسبة لوصف المفرد بالجمع،فقد قيل:إن هذا شاذ فلا يقال مثلا:رجل أبطال،أو امرأة أخيار.

أما كلمة أمشاج:فقد تكون اسم جنس له واحد من لفظه،فيكون معناه الجمع،و إن كان لفظه مفردا،و لعل هذا هو السبب في أنهم قالوا:

إن واحده مشيج،و لم يقولوا:مفرده مشيج..فلا مانع إذن من إعرابه وصفا لكلمة نطفة..

كما لا مانع من إعرابه بدلا،كما ذكره البعض..و يكون تفسيره بكلمة أطوار،قد جاء على سبيل استخراج معناه،لا لأجل أنه جمع و له مفرد،بل لأنه مفرد معناه الجمع..

«أمشاج نبتليه»:

الأمشاج واحده مشيج.و هو الخلط.

و قد فسر الأمشاج بأخلاط من ماء الرجل و ماء المرأة،عن ابن عباس،و غيره.

و قال قتادة:معنى أمشاج أي أطوار:طورا نطفة،و طورا مضغة، و طورا عظما إلى أن صار إنسانا ليختبره بهذه الصفات.

و نقول:

إن كلمة أمشاج قد جاءت وصفا لكلمة نطفة..مما يشير إلى أن الأمشاجية موجودة أولا و بالذات،في ذات النطفة،و لا ينافي ذلك عروض أمشاجية أخرى لها من خلال تلاقح نطفة الرجل ببويضة المرأة، كما ربما يقال..

ص: 62

كما أن الابتلاء قد رتب على الأمشاجية،لتكون هي مقدمة له،فلا بد أن تكون هذه النطفة،بملاحظة أمشاجيتها،لها قابلية الابتلاء و الاختبار المباشر،بحيث يكون هذا الابتلاء ناشئا من واقع تلك النطفة المختلطة، و هو الذي نشأ عنه كون الإنسان سميعا بصيرا،ثم يكون أهلا لأن يهديه اللّه السبيل،إما شاكرا و إما كفورا..

و واضح:أن ذلك لا يتحقق من مجرد اختلاط نطفة الرجل ببويضة المرأة..فإن هذا النوع من التلقيح لا ينحصر بالإنسان..بل هو أمشاجية تفترق عن أمشاجية النطفة الحيوانية،في أن ذات النطفة تحمل في داخلها مزايا،و كمالات،و خصائص،و صفات إنسانية بالقوة.و قد اختلط بعضها ببعض أكثر من مرة سواء كانت الاختلاطات عرضية للعديد من الخصائص الموجودة في النطفة،أم طولية في نطاق تحولاتها إلى علقة حاوية لتلك الخصائص،ثم إلى مضغة إلخ..

فإن هذه الاختلاطات لتلك العناصر الخاصة بالتكوين الإنساني عرضا و طولا تؤثر جميعها في جعل الإنسان صالحا لأن يكون موردا للاختبارات،ثم أن يجعله اللّه مختارا،يستجيب لتلك الاختبارات من موقع اختياره،ثم تكون نتيجة ذلك هي أن يصبح هذا الإنسان شديد السمع،حديد البصر جدا نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً..

لا بد من إجابة:

و تبقى أسئلة في الآية المباركة تحتاج إلى إجابة،مثل السؤال عن السبب في أنه تعالى لم يقل:سامعا مبصرا،بل قال: سَمِيعاً بَصِيراً؟!..

و السؤال عن سبب تقديم السمع على البصر؟!..

و لما ذا فرعهما على الابتلاء؟!..

ص: 63

و لما ذا عبر بالجعل؟

و لما ذا كان هذا الجعل منه تعالى،فلم يقل:فكان سميعا بصيرا؟!..

و لما ذا السمع و البصر دون غيرهما من الحواس؟!..

أو لما ذا لم يقل:جعلناه عاقلا،أو جعلناه ذا شعور و إدراك؟!.مع أن العقل من أعظم نعم اللّه على الإنسان..

كما أنه حين ذكر هدايته السبيل،لم يقل:إما شاكرا،و إما كافرا،بل جاء بصيغة المبالغة،فقال:إما شاكرا،و إما كفورا؟!..

و أشار أيضا إلى الشكر و الكفر،لا إلى الهداية و الضلال؟!..

و كل ذلك سيتضح إن شاء اللّه فيما يأتي من مطالب..

الأمشاجية للمزايا الإنسانية،لا المادية:

ثم إننا نستطيع أن نؤكد ما ذكرناه ببيان آخر،هو كما يلي:

أولا:إنهم يقولون:إن نطفة الرجل تهاجم بويضة المرأة في القرار المكين،و تمتزج بها،ثم تبدأ بالنمو و التطور في مراحل الخلق خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ . و في هذه الأطوار قد يبتلى ببعض البلاءات التي تفرض عليه وراثيا،بفعل السنن الإلهية الحاكمة،و تكون النتيجة هي إرث أمراض و عاهات،و إرث مواصفات جسمانية،أو حيوانية،كاللون و الشكل، و الطول..و إرث بعض الحالات النفسانية كقلة الحياء،أو نحو ذلك..و قد لا يعرض له شيء من ذلك،بل يبقى يسير في مراحل النشأة بصورة طبيعية،وفقا للسنن الإلهية الحاكمة،في هذه الأحوال أيضا..

و ليس ذلك كله هو المقصود بقوله في هذه الآية نَبْتَلِيهِ ، لأن احتمال انتقال تلك الحالات و الابتلاءات،مساوق لاحتمال عدم عروضها للإنسان،لأن الآية قد فرضت حصول الابتلاء المصاحب للخلق

ص: 64

و التكوين،على نحو لا بد معه من حصول السميعية و البصيرية التي هي من مظاهر الإدراك و الشعور و الوعي العميق،و الفهم للدقائق..

فهذه الحتمية،و ذلك الترديد في الحصول تعطينا أن هذه الأمشاجية ليست من ذلك النوع الآنف الذكر،بل هي من نوع آخر.

ثانيا:إن هذا النوع من البلاء و الابتلاء،يترتب عليه صيرورة الإنسان سميعا بصيرا،كما دلت عليه فاء التفريع في قوله: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً.. و ليس ما ذكر آنفا مما يترتب عليه ذلك،لعدم وجود سنخية بين تلك الابتلاءات و بين هذه النتيجة..

كما أنه ليس المراد أن هذا الابتلاء قد أوجب أن يجعل اللّه له حاسة السمع و البصر،إذ لو كان كذلك لقال:«فجعلناه سامعا مبصرا»..

بل المراد:أنه قد جعل له رهافة السمع و شدته،و قوة البصر وحدته، بعد الفراغ عن أصل وجود تلك الحاسة لديه..و الرهافة إنما هي من أوصاف حاسة السمع و البصر في مجال العمل..و لكن لا لمجرد آليتهما التي تربط بين الإنسان،و بين الأشياء،ثم تغيب عنه،ليتدبر أمره معها،بل من حيث دورهما في عمق إدراكه للحقائق،و شدة حساسيته تجاهها و تجاه كل حالاتها و خصائصها..

فاتضح:أن النشأة للمزايا و الكمالات المادية الحيوانية،الكامنة في النطفة من حيث تكوينها الذاتي التي اكتسبتها النطفة عن طريق الوراثة، و هي مرحلة يشارك فيها الإنسان غيره من الحيوانات-إن هذه النشأة- ليست هي المقصودة في هذه الآية،بل المقصود هو أن تلك النطفة تحمل في داخلها مزايا أخرى،تختص بإنسانية الإنسان،و منها تتكون فطرته الإنسانية،فهذه النطفة،بهذا اللحاظ،هي التي اختلطت،و تفاعلت،

ص: 65

و انتقلت من مرحلة إلى مرحلة،حتى جاء دور النشوء الأكبر،الذي أشار إليه تعالى بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (1).

فانفصل بذلك عن غيره من الحيوان،ليتدرج في الحصول على خصائصه و ميزاته،من حيث هو إنسان،مريد،مختار،عاقل،مفكر إلخ..

و هذا بالذات ما ترتب عليه الابتلاء و الاختبار الذي نشأت عنه السميعية و البصيرية..

آدم أبو البشر:

و قد يسأل سائل:هل كان خلق النبي آدم[عليه السّلام]أيضا من نطفة أمشاج؟!..أم أنه مستثنى من هذه الآية؟!،لأنها تتكلم عن الإنسان المولود من النطفة،و النبي آدم إنما خلق من تراب!!..

و يجاب عن ذلك:بأن الأمشاج تعني الاختلاطات المختلفة،و يراد بالنطفة الماء القليل،أو كل ما هو قليل..

و هذا الأمر يمكن تصوره أيضا بالنسبة للنبي آدم عليه و على نبينا و آله الصلاة و السّلام..فإنه خلق من شيء قليل،و فيه اختلاطات تستبطن مزايا..تؤهل هذا المخلوق للابتلاء،الذي تنتج عنه السميعية و البصيرية.

«الابتلاء»:

و قد قلنا:إن محور الكلام في الآية الكريمة هو الإنسان بما له من صفة إنسانية،لا البشر،و لا خصوصيات الحيوانية في الإنسان،و ذلك لأن الإنسان هو الذي يصح ابتلاؤه و اختباره.

********

(1) سورة المؤمنون الآية 14.

ص: 66

فالأمشاجية في الإنسان أكمل منها في الحيوان،من حيث إن فوق الصفات التي يشترك فيها الإنسان و الحيوان،صفات أخرى تختص بالإنسان،هي التي أهّلته للابتلاء،و هي التي تنشأ عنها السميعية و البصيرية،و الإرادة،و الاختيار،و لأجلها ظهرت حاجته إلى الهدايات على أنواعها،مما يعني أنها أمشاجية لمزايا إنسانية،و حيوانية ترتقي إلى مستوى التأثير في إنسانيته إلى حد إبطالها،أو حفظها و تكاملها.فبعد خلق الإنسان من النطفة الأمشاج الجامعة لتلك المزايا و يصير أمامنا إنسان ماثل للعيان،تبدأ عملية الابتلاء له..

و لعل عملية الابتلاء تبدأ حين يبدأ الإنسان بالسعي لاستجماع خصائصه و مزاياه الإنسانية،و الحصول على كمالاته بإرادته،و اختياره، بما له من فطرة هادية،و عقل راشد و مرشد،فيواجه في داخله غرائزه، و منها حب المال،و الجنس،و الأنا،و نحوها من النوازع التي تدعوه إلى الإغراق و الإفراط إلى حد السير في غير ذلك الاتجاه.

و لحالات الجسد تأثيرها على حالات الروح و النفس،فيكون الاحتكاك و الصراع فيما بين هذين..و يكون للعقل و للفطرة دور الهادي و المرشد..

و ينشأ عن ذلك التصدي تمييز بين الأمور،و إدراك لدقائق القضايا، و حصول على معارف و خبرات جديدة..

و يصبح الإنسان بعد أن تبلورت في شخصيته مزاياها بأبهى و أجلى مظاهرها،و بعد أن صفت و زكت،و طهرت،سميعا بصيرا،ثاقب النظر، عميق الفكر،عارفا بالحسن و القبيح،مميزا للخطإ من الصحيح..واقفا على مواضع الخلل و النقص،و الحاجة و العجز في داخل ذاته،و في قدراته..

ص: 67

و يفترض فيه أن يتعامل مع الأمور من موقع المتطلب لما هو أصوب،و الساعي لما هو أزكى و أطيب،و لما هو أتم و أكمل في الإنسانية،ملبيا لنداء عقله و فطرته،قبل أن يلبي أية دعوة أخرى،غرائزية كانت أو غيرها..

و هذا معناه:أن عليه أن يدرك مزايا الأشياء،و يعرف مدى ما تسهم به في معالجة مواضع النقص،و العجز،و الخلل،التي يواجهها.

و لكنه قد يشذ عن الطريق،و يتخذ سبيل الاستجابة لأهوائه و غرائزه، زاعما أن ما تدعوه إليه هو ما يحقق الكمال له،مستخدما في ذلك يده، و رجله،و عينيه،و سائر ما أعطاه اللّه إياه من قوى ظاهرية و باطنية، ليستخدمه في الوصول إلى الخير و الصلاح و الهدى،فيتوصل به إلى الشرور و الآثام،و يقهرها على الاستجابة له،فتطيعه رغما عنها،و تقوم بما تقوم به،و هي تسبح اللّه و تلعن من قهرها،و تسجل ذلك عليه،لتشهد به في يوم القيامة،فينتهي به الأمر،بسبب الكفر و الطغيان،إلى فقدانه لمزاياه الإنسانية،حتى يصير كالأنعام،بل أضل سبيلا.

فظهر:أن السميعية و البصيرية قد جاءت على شكل نتيجة طبيعية لذلك الابتلاء،فقال تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً...

و ظهر أيضا:أن الابتلاء ليس بمعنى الابتلاء بالمصائب و الرزايا في دائرة الجسد،بل هو ابتلاء في دائرة المسئولية،ينتج عنه كمال،و وعي، و رهافة إحساس،و سميعية،و بصيرية،و بلورة مزايا،و نشوء خصائص عن هذا السبيل.

فاذا كلفك بالصدق مثلا،فإنه يشير بذلك إلى نقاط الضعف التي لو أثيرت،فإنها ستذهب ببعض سعادتك،و تصدك بعض الصدود عن

ص: 68

هدفك..ثم هو يدلك بذلك على ما يتلافى به هذا الضعف،و يتدارك به ذلك الخلل،لتستقيم حياتك،و تطّرد حركتك بقوة و ثبات،نحو تحقيق طموحاتك،و أنت تدرك حجمك و مستواك،و تعرف مواضع الضعف و القوة،و النقص و الكمال في عمق وجودك..

نبتليه!!بما ذا؟!:

و كلمة«نبتليه»جملة في موقع الحال:أي أن هذا الخلق قد صاحبه ابتلاء نتج عنه في نهاية المطاف السميعية و البصيرية مع ملاحظة:

أولا:إن ابتلاء كل مرحلة إنما هو بما يناسبها.

ثانيا:إن الابتلاء قد بدأ من النشأة الطينية،ثم النشأة الحيوانية،ثم النشأة الإنسانية.

و بعبارة أخرى:هناك نظرتان للابتلاء الذي أشارت إليه الآية المباركة..

النظرة الأولى:

إن للابتلاء مراحل مختلفة،و لكل مرحلة مستوى و نوع يناسبها..ثم تكون له نتائج،تختلف و تتفاوت أيضا..

فهناك ابتلاء يؤهل لمقام النبوة،أو لمقام أولي العزم من الأنبياء،أو لمقام أدنى من ذلك بدرجات تكثر و تقل..

و لكن مما لا شك فيه أن ثمة مرحلة من الابتلاء يمر بها البشر جميعا بنسبة واحدة،و هي التي تؤهلهم للخطاب الإلهي و التكليف بالأحكام.

ص: 69

النظرة الثانية:

ثم إن الابتلاء من حيث ترتبه على خلق الإنسان من نطفة أمشاج، قد جاء ليثير كوامن الإنسان،في صراط نموه و تكامله المتمثل في حصوله على خصوصياته و مزاياه الإنسانية،و في ترميم و إصلاح ما وجده مشوها أو منقوصا،و في الحفاظ على حالة السلامة فيه بعد إصلاحه..

و يتجلى هذا الابتلاء تارة في مواجهة الإنسان بالمغريات المحرمة، و بالمصائب و البلايا،فإن هذه المصائب و البلايا إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها،هي من أسباب تكاثر النعم،بل هي بنفسها نعم،من حيث أنها من أسباب تكامل الإنسان،و من موجبات صقل شخصيته.

ثم يتجلى تارة أخرى في مواجهة الإنسان بالنعم نفسها،لتكون هي مادة الابتلاء و الاختبار له:فيعطيه اللّه القوة و الجمال و المال،و الغرائز،ثم يعطيه العقل،و الفطرة الهادية إلى الكمال.بالإضافة إلى الهدايات التشريعية،التي يحتاجها،من حيث إن إعطاء تلك النعم له قد جعله بحاجة إلى هدايات تناسبها،و لينظر،أ يشكر أم يكفر.

و قد روي:أن أول ما ابتلى اللّه به عباده هو نعمة خلقهم،حيث يفرض عليهم أن يحسنوا التصرف بأنفسهم،و أن يشكروا اللّه المتفضل عليهم بهذا الخلق،ثم الاستفادة منه في دائرة تكامل خصائصهم الإنسانية و الروحية،و حتى الجسدية،و حفظها.

و المناسب لسياق الآيات هنا هو إرادة الابتلاء بالنعم،لا الابتلاء بالمصائب و البلايا..فإن الآيات تحدثت عن الشكر للنعمة،و الكفر بها.

فقال تعالى: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

ص: 70

الاختبار و الاختيار:

و يأتي في الدرجة التالية حالة المواجهة و الصراع بين الخصوصيات للأفراد و الجماعات،و هو الأمر الذي تفرضه حاجات الحياة،و حركتها المستمرة..

غير أن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة صريحة و صحيحة هو:هل أن الابتلاء و الاختبار الذي ذكر في هذه الآية المباركة،يأتي في دائرة اختيار الإنسان؟أم أنه يحصل خارج دائرة اختيار الإنسان؟!بمعنى أن الاختبار و الابتلاء أمر تكويني و تصرف إلهي قاهر للإنسان،و مفروض عليه تماما كما يختبر الإنسان المعادن و يجري عليها تجاربه،لكي تأتيه النتائج من خلالها،من دون أن يكون لتلك المعادن أي دور في القبول أو الرد..

و الجواب:

أن الاختبار إنما هو في دائرة اختيار الإنسان،و من خلال رفضه و قبوله و ممارسته،و على أساس ذلك و من خلاله تتكون خصائصه و تتنامى و تتكامل ميزاته..مما يعني أن الاختلاط و الأمشاجية في النطفة، لا يعني الجبرية،و لا يسلب الاختيار (1)،و نقصد بها نطفة الرجل و بويضة

********

(1) فإن ما يزعمون أنه أسباب شر في الإنسان،و هي غرائزه،و ملكاته،و ميوله،ما هي إلا أسباب الخير له و فيه..بل هي نعم كبرى عليه،و من أهم أسباب حفظ وجوده،و بناء حياته..إذا أحسن الاستفادة منها،و لم يستعملها في غير السبيل الصحيح..

فإذا أعطاك طبيبك دواء،و أسأت استعماله،و جلب لك الضرر،فذلك ليس ذنب الدواء، و لا هو ذنب الطبيب،بل الطبيب ناصح متفضّل،و الدواء نافع و لازم.و المذنب هو من أساء استعماله.و لم يدر لنصائح الطبيب باله..

ص: 71

المرأة،التي تحمل بدورها خصائص تتشارك،فيتشاركان في أمشاجية مؤثرة،في صنع خصائص الكيان الإنساني،لأن الأمشاجية هي تصرف يوقظ مقتضيات الغرائز،و تتبلور من خلاله الحالات النفسية و الروحية، و الصفات المختلفة للإنسان..

فالتنشئة تحصل في خضم صراع الخصوصيات.و هي لا توجب سلب الاختيار،و إنما هي توجب تأكيده.و لذا قال تعالى: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

و إنما قلنا:لا يصح الاختبار إلا للمختار،لأن الإنسان يتنامى بصورة تدريجية،و في هذه النشأة تستيقظ غرائزه التي أنعم اللّه عليه بها لتقوم بها حياته،كغريزة حب التملك،و حب الذات،و الغريزة الجنسية و غير ذلك، و تنمو قواه الجسدية،و تصير لديه حالات،و صفات مختلفة،كالخوف و الكرم و الشجاعة و الجبن،و ما إلى ذلك..

و تحصل صراعات،و تتصادم خصوصيات الأفراد فيما بينها داخليا، ثم مع خصوصيات الجماعات.و يحتاج إلى الهدايات لتحدد له كيف و متى يتحتم عليه التنازل عن الخصوصية الفردية لصالح القواسم المشتركة فيما بينه و بين الآخرين،ليكون المحور هو اللّه،و ليكون الذي يتحرك في الحياة هو الإنسان الإلهي لا الفرد،المحكوم بالأنا،و بغير ذلك من الغرائز.فيمنّ اللّه عليه بما يحتاجه من هدايات،و يكون له الخيار و الاختيار بين الكفر أو الشكر،و يكون عليه أن يحسن الاختيار لمكونات شخصيته الإنسانية،فيختار أن يكون شجاعا لا بخيلا،و أن يكون ودودا لا حسودا،من خلال الهداية الإلهية في تحديد موارد الإقدام و الإحجام التي تستند إلى نظرة واقعية إلهية عميقة و مؤثرة..

فإذا وقع في المحذور،و استخدم غرائزه بالطريقة الخاطئة،فإنها

ص: 72

ستكون مفسدة لحياته،فغريزة الجنس الضرورية لحياته،ليس له أن يمارسها بالطريقة المحرّمة-كالزنى مثلا-و غريزة حب الذات،ضرورية لاندفاع الإنسان لنيل الكمالات،فإذا تجاوز الأمر ذلك،فأصبحت الذات معبوده و إلهه،كانت الآثار سلبية و مدمرة..

فهي كالدواء الذي يفرط الإنسان في تناول جرعاته،فإنه بدل أن يكون نافعا،سيكون ضارا،بل مهلكا له أحيانا.

هذا كله بالنسبة للخصوصيات التي تحدّث عنها في قوله:نطفة أمشاج.

و أمّا الخصوصيات الموروثة،التي لها ارتباط بالروح و النفس،أو التي يكتسبها بالتربية،أو بالتعامل الاجتماعي،فهي،و إن كانت تجعله أميل إلى هذا الجانب أو ذاك..و لكنها لا تبرر انسياقه مع ميوله،إذ إنه لا يفقد معها عامل الاختيار و الإرادة،و لا تبرؤه من مسئولياته الوجدانية و العقلية،و الشرعية أيضا،و تفرض عليه أن يقوم بمهمة إزالة التلوثات التي لحقت بمرآة نفسه،و إعادة الرونق و الصفاء لها،و ليكون ذلك من أسباب كماله،و من أسباب نيله للمزايا،و رفع درجته،و زيادة كرامته و سؤدده،و ليصبح من ثم من عباده المكرمين،المخلصين.

و سوف يجد أن ما يملكه من مزايا و هبات و ملكات،سيكون له دور في ترميم،و تقوية المزايا الأخرى،ليصل من ثم إلى حالة التوازن و الاعتدال.

و لو أنه أهمل ذلك،فإنه لن يكون معذورا في التعدي على الحرمات،لأن مجرد ميله إليها لا يجعله مجبرا على الارتطام بها..

و لو أنه فعل ذلك،فإنه سيواجه آثار المعاصي في الدنيا و في

ص: 73

الآخرة،بما في ذلك آثارها على النفس و الروح،و القلب،و الفكر،و الحياة كلها،و قد أشارت الروايات إلى أن بعض المعاصي يوجب القسوة في القلب،و بعضها يوجب الزيغ،و بعضها يوجب ذهاب حب أهل البيت [عليهم السّلام]..و غير ذلك.

و التكليف الإلهي أيضا هداية و نعمة،و لكنه في نفس الوقت ابتلاء له أثره في تكامل الإنسان..و في ترشيد و توجيه طموحه،و هو حركة، و غنى،و نماء،و صفاء،إذ ليس الإنسان بمثابة لوحة فنية معلقة على جدار..بل هو مخلوق له..قلب،و حياة،و إرادة و اختيار،و هي معه تعمل و تؤثر حتى آخر لحظة من حياته..و كم رأينا من إنسان ينحرف بعد عشرات السنين من الاستقامة،أو يستقيم و يهتدي بعد عشرات السنين من الانحراف،و كلاهما بقرار و اختيار.

«فجعلناه»:

إن هناك فرقا بين كلمة:«جعل»،و كلمة:«خلق»،إذ إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية،فسنرى:أن كلمة«خلق»مثلا ترد أحيانا على نفس الشيء مباشرة،فيقال:خلق السماء،و خلق الأرض مثلا..ثم إنه و بعد ورود الخلق عليه يصبح محورا لأمور أخرى،تضاف إليه،أو تنشأ منه، أو تحل فيه و تطرأ عليه،و ترد أحيانا أخرى لبيان عروض الهيئات و الحالات على الأمر الموجود..

أما كلمة«جعل»فتتعلق أولا بالأمر الطارئ على أمر آخر،كالسميعية و البصيرية الطارئة على الإنسان،بعد أن تفرضه كمحور ثابت و مرتكز.

فكلمة«جعل»تضيف إلى هذا المرتكز أمرا آخر،أو تحوله من حالة إلى حالة أخرى،أو توجد فيه حالة ما،أو نحو ذلك..

ص: 74

و نجد لهذا و ذاك،شواهد في الآيات المباركة..

فأما بالنسبة لكلمة«جعل»،فلاحظ الآيات التالية:

1- جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ (1).

2- جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2).

3- هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً (3).

4- وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً (4).

5- أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (5).

6- ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (6).

7- وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً (7).

و غير ذلك كثير..

و أما بالنسبة لكلمة«خلق»فلاحظ الآيات التالية:

1- وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً (8).

********

(1) سورة الانعام الآية 96.

(2) سورة النحل الآية 78.

(3) سورة الرعد الآية 30.

(4) سورة الجاثية الآية 23.

(5) سورة البلد الآيتان 9/8.

(6) سورة المائدة الآية 48.

(7) سورة المائدة الآية 48.

(8) سورة فاطر الآية 11.

ص: 75

2- أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (1).

3- هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً (2).

4- إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً.

كما أن الجعل قد أطلق على التوليد لشيء من شيء،كقوله تعالى:

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ .

و أطلق على التحويل من شيء إلى شيء كقوله: جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ..

و أطلق على تشكيل الشيء نفسه،و إعطائه صورته،كقوله تعالى:

وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً.. و قوله: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ ..

و أطلق على إضافة خصوصية لشيء ما،كقوله: وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً.. (3).

و قد جاء التعبير بجعلناه بصيغة جمع المتكلمين في إشارة إلى مقام العزة و العظمة الإلهية من جهة،و ليعرفنا:أن تضافر الأسباب و تكاملها وفقا للسنن الإلهية الجارية،لا يعني أن يصبح الإنسان سميعا بصيرا استنادا إلى تلك الأسباب و حسب،بل دور تلك الأسباب هو أن تؤهله ليصبح محلا و قابلا للفيض الإلهي.فاللّه هو الذي يجعله كذلك،بعد اكتمال أسبابه،مع قدرته على حجب الفيض عنه،حتى مع اكتمال تلك الأسباب..

********

(1) سورة المرسلات الآية 21.

(2) سورة الفرقان الآية 54.

(3) سورة مريم الآيتان 31/30.

ص: 76

فالابتلاء المصاحب للتكليف و المسئولية يجعل الإنسان مستعدا لإفاضة المزيد من الإدراك،و الفهم،و الوعي،و السميعية و البصيرية عليه.

و لذا قال: فَجَعَلْناهُ و لم يقل:فيصير سميعا بصيرا.

تقديم كلمة سميع على بصير:

و بالمراجعة إلى الآيات القرآنية يتضح:أن ديدن القرآن قد جرى على تقديم السمع و السميعية على البصر و البصيرية..

فلعل من أسباب ذلك:

أن درجات الإحساس بالأشياء تختلف و تتفاوت،باختلاف صاحب الحاسة،و باختلاف الحاسة نفسها،و باختلاف المحسوس أيضا،نوعا، و كما،و كيفا.

و لتوضيح ذلك نقول:

إن الإبصار يتم بارتسام صورة لشيء ما،ثم يتم إرسال هذه الصورة إلى القوة المدركة،لتمييز ألوانها،و أشكالها،و أحجامها،و نحو ذلك..

أما السمع،فهو يحصل بصورة أكثر تعقيدا،و ذلك لأن احتكاك المسموعات يحدث ارتجاجات،يصل مداها إلى قوى الإدراك التي تقوم بالتمييز بين حالات و مستويات و ميزات ذلك الصوت،الذي نشأ عن ذلك الاحتكاك من خلال ملاحظة حالات و خصوصيات تلك الارتجاجات..

فإذا كان البصر يعكس صورة،ثم تتلقفها قوة الإدراك،و تضعها على المشرحة،و تميز بين حالاتها،و ألوانها،و أشكالها..

فإن السمع ليس كذلك،بل إن الصوت يصل أولا إلى مناطق الإحساس،و يتفاعل معها،و تتفاعل معه..و يثيرها،و يؤثر فيها..ثم تتلقفها

ص: 77

قوى الإدراك و التمييز عن هذا الطريق.و تتولى هذه القوة بيان الحدود و الحالات و الخصوصيات التي تميز ذلك الصوت،عما عداه،و يدرك كثيرا من الأمور المرتبطة بذلك الصوت فيدرك آثاره،و يدرك أيضا أن ما يسمعه هو صوت طفل،أو صوت رجل،أو امرأة،و أن صاحب هذا الصوت خائف،أو مستبشر،و أنه قريب أو بعيد،و أنه في هوة بعيدة،أو على رأس جبل..و أن مصدره هو هذه الجهة أو تلك..

كما أن بعض الأصوات حتى حينما تكون على درجة من الخفوت، قد لا يستطيع الإنسان أن يتحملها،و يشعر:أن قلبه يتقطع بسببها،بل قد تصل حاله-لو استمرت-إلى درجة الانهيار..كما أن بعض الأصوات تستفزه بصورة لا شعورية،أو تؤثر على مشاعره،فيتمايل طربا لها،و قد يقوم بحركات لا شعورية،انسياقا مع أنغامها المثيرة للطرب،و المحركة لأحاسيسه.و قد توجب تلك الأصوات كآبته،أو خوفه،أو الانبساط و التراخي،و الاستسلام،إلى آخر ما هناك..

و الصوت الذي تسمعه إذا كان آتيا من بعيد،فإنه يتلاشى بصورة حقيقية.لكن ما تبصره في المبصرات لا يتلاشى..حتى و إن رأيته صغير الحجم كالطائرة التي تراها و هي في علوها الشاهق..

و البصر قد يقرّب لك البعيد،و يبعّد لك القريب،و يريك الكبير صغيرا،و الصغير كبيرا..كما أن هذا البصر قد يخطئ في المبصرات، بخلاف السمع،فإنه أكثر دقة في إدراكه للمسموعات..شاهدنا على ذلك:

أنك لو وضعت عصا نصفها في الماء،و نصفها في خارجه،فسترى أنها عوجاء،كالمكسورة.كما أنك قد تجد أنها مرتفعة عن المستوى الذي يفترض أن تكون فيه..

ص: 78

و إذا نظرت إلى حيوانات البحر،كالسمك مثلا،فإنك ترى السمكة في مكان،مع أنها في واقع الأمر ليست فيه..فهي تبدو قريبة إلى سطح الماء مع أنها بعيدة عنه..

و في حر الشمس ترى السراب الذي يبدو لك،و كأنه مستنقع ماء، حتى إنك لترى ظلال الأشجار و غيرها من الأجسام في ذلك السراب..

و أما فيما يرتبط باختلاف درجات الإحساس من شخص لآخر..

فنوضحه بالمثالين التاليين:

الأول:لو دخل رجلان،أحدهما مرهف الحسّ،يرسم بريشته أبدع الصور و أجملها،و الآخر إنسان عادي،إلى حديقة غناء،من أجمل ما خلق اللّه..فستجد اختلافا كبيرا في تلذذهما بتلك الحديقة،تبعا لما يدركانه من جمالياتها،فإن الفنان سيكون أعرف بجمالياتها،و أشد ابتهاجا بها،لأنه يدرك بصورة أعمق حالات التناسق،و دقائق الصنع، و بدائع التراكيب ذات الإيحاء التي تلامس شغاف القلب،و تغمر النفس و الروح بالرضى و البهجة،و سيدرك الكثير من ميزات تلك الصورة العامة التي تتماوج جمالا بارعا،و أخّاذا،و رائعا..

و لنفترض:أن طفلا تردى من شاهق أمام عيني أمه،و عمه،و رجل غريب،و رجل جلاد يتولى تعذيب الأبرياء من السجناء في حكومة أهل الطغيان..

فإن الصورة الذهنية لما يعانيه هذا الطفل واحدة عند كل هؤلاء.

و لكن مما لا ريب فيه:أن انفعالهم،و تحسسهم لما يعانيه ذلك الطفل من آلام،لن يكون في مستوى واحد..بل سيكون إحساس الأم بالألم أعظم من إحساس العم،و إحساس العم به سيكون أشد من إحساس الرجل

ص: 79

الغريب..و سيكون أقلهم إحساسا بآلامه ذلك الجلاد القاسي.

و ببيان آخر نقول:

إن المحسوس قد يكون هو نفسه في داخل ذاتك،كالألم،و الجوع، و الفرح،و الخوف،و الحزن،و العطش و غير ذلك..

و قد يكون في غيرك،كمريض تراه،و تسمع أنينه و شكواه..فلا شك في أن علمك و إحساسك بالألم الموجود في داخلك أعمق و أقوى من علمك و إحساسك بألم غيرك،و أنت تراه يتألم..

و إحساسك بألم من هو أمامك قد يكون أعمق،و أقوى من إحساسك بألم رجل غائب عنك،و ينقل لك خبره،كما أن علمنا بالآخرة الغائبة عنا فعلا،يكون أضعف من علم الأنبياء و الأوصياء بها..حتى إن أمير المؤمنين[عليه السّلام]يقول:لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا.

و قد أشار اللّه إلى أننا لا نعلم حقيقة الآخرة فقال: وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .. (1)

و حين تتساقط الحجب المانعة من الإدراك،و يصبح النظر حديدا.

كما قال تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (2)..يصبح الإدراك أشد و التفاعل مع المدركات أعمق..

و المعاصي أيضا تحجب الإنسان عن فهم معاني القرآن الكريم، و التكبر و الغرور يقللان من مستوى إدراك الواقع،و الإحساس به.

********

(1) سورة العنكبوت الآية 64.

(2) سورة ق الآية 22.

ص: 80

«سَمِيعاً بَصِيراً»، بصيغة المبالغة:

و سبب التعبير ب سَمِيعاً بَصِيراً هو:

1-إن الهدايات الإلهية تحتاج إلى السميعية،و البصيرية العميقتين، و لا يكفي فيها مجرد السمع و البصر..

و على ذلك جاء قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (1).

و قال سبحانه: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها (2).

و قال: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (3).

و سبب ذلك أن هناك آيات و معجزات و كرامات تحتاج إلى إدراك عميق،و إلى ضمير حي،و وجدان طاهر،يستطيع أن يحوّل تلك الإدراكات إلى محفزات و بواعث،توقظ الفطرة،و تجعلها تتفاعل و تنشدّ إليها،و تلتذ و تسعد بها.

و لأجل ذلك نلاحظ أن الخطاب الإلهي المرتبط بالأمور العقائدية، كالتوحيد مثلا،يحول الأمر العقائدي إلى أمر واقعي،و حياتي تنشد إليه الفطرة،و تستعيده كقوة محركة في داخل وجودها..

و بما أن الهدايات كلها،و منها العقلية و التشريعية،لا بد أن تنتهي إلى

********

(1) سورة الملك الآية 10.

(2) سورة الأعراف الآية 179.

(3) سورة البقرة الآية 7.

ص: 81

الهداية الفطرية،فإنه تعالى لم يتحدث للإنسان عن التوحيد مثلا،و عن صفات اللّه،و عن الآخرة،و عن..و عن..بالطريقة الفلسفية أو النظرية المجردة،فلم يستدل له بالدور أو التسلسل،أو بغير ذلك من مصطلحات.

بل اتخذ في حديثه عن الآخرة أسلوب: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ * لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ * أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (1).

و قال تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (2).

و من الواضح:أن الليل و النهار،و الماء،و الزرع،و النار،و نحو ذلك هي من صميم حياة الإنسان-و لها ارتباط مباشر ترتبط بحركته، و نشاطه،و عمله،و نومه،و راحته،و أكله و شربه،و نحو ذلك..

و حتى حين قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (3)فإنه

********

(1) سورة الواقعة الآيات 72/63.

(2) سورة القصص الآيتان 72/71.

(3) سورة الأنبياء الآية 22.

ص: 82

إنما أثار أمام الإنسان موضوع الفساد الذي يخشاه«الإنسان».

و قال تعالى أيضا،فيما يرتبط بالتوحيد: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ * وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

و قال: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (2).

و قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً (3).

فهو تعالى يقدم لنا التوحيد على أساس أن نومنا و أكلنا و شربنا و كل مفردات حياتنا و سعادتنا،مرتبط به.

و هذا هو الأسلوب الذي يفهمه البشر كلهم،و يريد اللّه من خلاله أن يستدرجهم إلى الهدى جميعا.

أما الأسلوب الفلسفي،أو أي أسلوب آخر،فهو خاص بفئة من الناس،لا يصلح لأن يخاطب به جميع الناس.

تماما كما هو الحال في قضية«عاشوراء»،فإنها مفهومة للبشر جميعا،لكن صلح الإمام الحسن[عليه السّلام]إنما يفهمه فريق من

********

(1) سورة الروم الآيات 24/21.

(2) سورة الغاشية الآية 17.

(3) سورة يونس الآية 67.

ص: 83

الناس،و ذلك بسبب تدني مستوى الوعي و المعرفة من جهة،و لأن كثيرا من الحقائق قد طمست،أو أثيرت حولها الشبهات من قبل الطغاة، و الظالمين،و أهل الأهواء،من جهة أخرى..

و إذا كانت المعرفة متمازجة مع فطرة الإنسان،و متجذرة في عمق ضميره و وجدانه،و ليست مجرد معادلة عقلية،أو تصورات ذهنية، فسيكون لها التأثير العميق في كيان الإنسان،تماما كتلك المعرفة باللّه، التي تشعر بها الأم بعد استجابة دعائها بشفاء ولدها،و نجاته من موت محتم،فإن هذه المعرفة تغنيها عن كل دليل فلسفي أو غيره،بل إن الفيلسوف قد لا يشعر بعظمة اللّه مثلما تشعر بها تلك المرأة،و إنما يكون إيمان الفيلسوف مجرد استسلام للدليل القاهر لعقله،من دون أن يكون أي تفاعل مع وجدانه و فطرته.

فدليله بمثابة الآيات المعجزة التي تقهر العقل،أما انسجامه مع اللّه و فناؤه فيه،فله سبل و وسائل أخرى.

2-لعل من أسباب اختيار صيغة المبالغة،و هي سميع و بصير أيضا، أن البصر إنما يوصل إلى الإنسان الأشكال و الألوان و الأحجام؛و يمكّنه أيضا من إدراك جزئي لبعض المسافات..و لكنه يحتاج لكي يكون بصيرا إلى قوة و حدّة في البصر،تمكنه من إدراك دقائق و خفايا قد يعجز عنها البصر العادي.فما يدركه من خلال حدّة البصر،هو أمور أخرى تضاف إلى ما كان قد أدركه أولا..

أما السمع..فإن أصل حصول السمع يحتاج إلى حاسة السمع،ثم ينعدم المسموع بمجرد حصوله..ثم ينتقل منه إلى حصة وجودية أخرى،فيدركها السمع أيضا،ثم تتلاشى لتأتي حصة أخرى بعدها، و هكذا..

ص: 84

فإذا دق الصوت و خفت،فقد يدركه السمع الرهيف القوي،و قد يعجز عن إدراكه فيتلاشى لتأتي حصة أخرى مماثلة يكون لها نفس الحالة..

فالسمع و المسموع متحدان في الوجود،و في التلاشي.و الاختلاف بينهما إنما هو في طرف النسبة،و ليس الأمر كذلك في المبصرات دقت أو جلت،فإن المبصرات تبقى موجودة،سواء نالتها الأبصار،أم عجزت عن نيلها..

و السميعية تبقى هي الأهم،و الأولى بالملاحقة،لأن فوات السمع مساوق لفوات المسموع،لأن الصوت يتلاشى بصورة تدريجية كما قلنا..

3-و من جهة أخرى:فإن المسموع إذا علمنا بوجوده عن غير طريق السمع،فإنما نعلم به-إذا لم يكن هناك إخبار غيبي-بعد انقضائه و تلاشيه..أما المبصرات،فيمكن أن نعلم بوجودها مع بقائها.فيكون وجودها سابقا على علمنا،و مصاحبا و مرافقا له،و باقيا بعده..

حاسة السمع هي الأسبق:

و عن حاسة السمع نفسها نقول:إن ثمة حديثا بين أهل الاختصاص عن أن حاسة السمع هي الأسبق ظهورا و نشاطا عند الجنين،و هي آخر الحواس موتا في الإنسان.

و هناك من يسعى إلى تأكيد ذلك،بما ثبت عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]،من أنه قد خاطب قتلى بدر،و هم في البئر.كما أن الإمام عليا [عليه السّلام]قد خاطب بعض القتلى في حرب الجمل،و قد أخبرا صلوات اللّه و سلامه عليهما و على آلهما:أن أولئك المخاطبين قد سمعوا و وعوا ذلك الخطاب،و لكنهم لا يقدرون على الجواب.

ص: 85

و ورد في الشرع استحباب تلقين الميت معتقداته بعد موته،و أن الملائكة الذين يأتون لسؤال الميت عن ذلك يعودون من حيث أتوا، حيث يرون أن الميت قد لقن حجته،و أصبح قادرا على الإجابة الصحيحة.

و لكن قد يقال:إن هذا إما جار على سبيل الإعجاز،كما فيما جرى للنبي[صلّى اللّه عليه و آله]و للإمام علي[عليه السّلام]،أو هو نشأة خاصة بالنشأة الأخرى،أو أن الكلام إنما هو مع الروح،و ليس لحاسة السمع لدى الميت دور في ذلك،كما في المثالين الأخيرين.

سامع أم سميع؟:

و لأنه لا يكفي في الهداية بواسطة الأنبياء مجرد وجود سمع و بصر،بل تحتاج إلى سميعية و بصيرية،فقد أراد أن يبين مدى و حدود فعالية حاستي السمع و البصر،من حيث إن الابتلاء قد أنتج شدة رهافة في السمع،وحدة في البصر،بسبب حالة من الاحتكاك و الصراع بين متطلبات الجسد، و متطلبات الفطرة الإنسانية،التي تنشد الحصول على كمالاتها،و قد نشأ ذلك عن تلك الأمشاجية،بما فيها من مزايا روحية و نفسية،و ملكات،هي مبادئ للإدراك،ثم الاختيار و الإرادة،التي هي مبدأ صدور الأفعال من الإنسان..

و حتى في الاستعمالات العرفية،فإنه فرق بين قولك:بصرت الشيء أو بصرت به،بمعنى وقع نظرك عليه،و بين قولك:أنا بصير بالشيء،أي خبير به،أي عارف بخفاياه و أسراره،سواء أ كانت خبرتك أتت عن طريق البصر،أم السمع،أم القراءة،أم اللمس،أم الوحي،أم غير ذلك.

فكلمة بصير عندهم كناية عن عمق الخبرة بالشيء.و لأجل ذلك لم يكف قوله:«سامعا مبصرا»،عن قوله:«سميعا بصيرا»..

ص: 86

نظرة إجمالية لمسار الخطاب في الآيات:

قد يغفل الإنسان عن أمور لا ينبغي له أن يغفل عنها،فتذكيره بها يكون إحسانا إليه و مساعدة له..

و قد يجهل الإنسان بأمور يكون علمه بها ضروريا،فيحتاج إلى أن يتعلمها..

و قد يكون عالما بالأمور،لكنه يتعامل معها معاملة الجاهل أو الغافل،لأسباب يرى أنها تبرر له ذلك،فيحتاج إلى من يناقشه في تلك الأسباب،و يوقفه على عدم قدرتها على تبرير موقفه هذا..

و يكون من يتصدى لذلك قد أسدى إليه خدمة جليلة،لأنه يكون قد ثبته على ما في ثباته عليه مصلحة له،أو جنّبه الآثار و الأوضاع السلبية،التي يجب أن يتخلص منها،سواء في ذلك منها ما له أثر سلبي على روحه،أم على فكره،أم على أي شأن من شئون حياته..

و من الواضح:أن الأحوال النفسية،و الروحية،و الحياة الاجتماعية، و القدرات و الإمكانات في مختلف المواقع و المواضع،لا تطلب لنفسها، و إنما تطلب لأجل دورها،و آثارها في الأعمال و المواقف.

و المواقف و الأعمال أيضا لا تطلب لذاتها،بل تطلب لغاياتها الشريفة و الفاضلة،و هي الوصول إلى اللّه سبحانه،و الحصول على مواقع القرب و الزلفى لديه.و تحقيق ما يرضيه،و تجنب ما يسخطه..

و العلم باللّه سبحانه له قيمة حقيقية كافية فيه و في نفس حصوله، لكن العلم بغير اللّه،فإن قيمته ليست في بداياته،و في نفس حصوله لدى العالم،و إنما هي في نهاياته،و غاياته..

و إذا نظرنا إلى قضية الإيمان و الكفر،فسنجد أنهما تعبير آخر عن

ص: 87

العلم بالمعنى المشار إليه..فالكفر يمثل حالة الجهل المركب،المعتضد بالاستكبار و العناد..و أخرى يكون غفلة و احتجابا حقيقيا،و ابتعادا و غربة عن الحق..

أو أن الكفر هو حالة من التمرد و التعدي على مقام العزة الإلهية، و أخذ موقعه،و استبدال الحق الصادر عنه بباطل يفسد الحياة،ثم السعي لوأد ذلك الحق،أو لا أقل إلى إبعاده عن ساحة العمل و التداول،و عدم الاعتراف به،حتى مع رؤيته له..كما قال اللّه تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (1)..

فإن من الواضح:أن هذا الاحتجاب هو العمق الواقعي لكلمة الكفر.

فالزارع كافر،لأنه يحجب البذر بالتراب،و يغطيه به.و الليل كافر،لأنه يحجب الأشياء عن أن ينالها النظر..

أما الإيمان،فهو يمثل حالة الوعي و اليقظة،و التزام الحق،و السكون إليه..

و حين يتحدث اللّه سبحانه عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج،فإنما يريد أن يعالج حالة الغفلة التي تعيشها هذه النفس الإنسانية،المؤمنة و الكافرة على حد سواء..

فأما الكافرة التي احتجبت عمدا أو غفلة و جهلا عن الحق،أو حجبت الحق عن الحضور في مواقع الحركة في الحياة،فيحاول دفعها إلى إزالة ذلك الحجاب،للخروج عن حالة التحدي للسنن الإلهية، و التمرد على إرادة اللّه،و السعي لإفساد الحياة،و العبث بنواميسها..

********

(1) سورة النمل الآية 14.

ص: 88

و أما النفس المؤمنة المطمئنة التي تعيش السّلام بكل معانيه،فيريد أن يزيدها يقظة،و حصانة،و اندفاعا،و توثبا نحو العمل الجاد للرقي في مدارج الكمال،و نيل المعارف،و الحصول على التوفيقات،و الهدايات، و الألطاف الإلهية،في كل موقع تكون فيه،للتحرك منه إلى مواقع تطمح لأن تصل إليها..

فهذا الخطاب الإلهي للمؤمن و للكافر،هو خطاب تربوي تدبيري، تعليمي،يهدف إلى فتح قلب الكافر ليستقبل إشراقة النور،ثم إلى تثبيت المؤمن،و تقويته،ليزداد إيمانا،و يقينا،و إبعاده عن مواقع الخطر، و تحصينه في مواجهة كل التحديات الشيطانية.

على أن من الواضح:أن العلم وحده لن يكون كافيا لتحقيق الهداية، بل هو قد يكون سببا في الضلال،و الإضلال..كذلك الذي أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ (1).. اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها (2)..

و ذلك لأن الشيطان يأتيه عن طريق هذا العلم بالذات،فيضخم له نفسه،و يخرجه من حالة التوازن،و يدعوه إلى العجب،و الزهو،و العلو، و يدفعه لأن يدعي ما ليس فيه،و ما ليس له،و يتجاوز حدوده..

و إنما تمكن الشيطان منه،لأنه إنما أشغله ببدايات العلم،فبهرته أحجامه،و أقسامه،و طمس و عمّى عليه غاياته الكبرى و السامية و النبيلة..

كالذي يريد تفسير القرآن،فيشغل نفسه بعدّ حروفه،و كلماته..

و خصوصيات النغم الصوتي حين أداء الكلمات،و يغفل عن المعاني،

********

(1) سورة الجاثية الآية 23.

(2) سورة الأعراف الآية 175.

ص: 89

و عن الأوامر و الزواجر،و عن القيم و المثل و المآثر التي يدعوه إليها القرآن..و عن الغايات التي يدفعه إليها..

و قد جاءت هذه الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج الخ..،لإعادة هذا الإنسان إلى دائرة التوازن،و إلى حجمه الطبيعي،لكي يتأمل و يفكر،بعيدا عن أي خيلاء أو عجب مهلك،و استكبار مقيت..

و قد نصبت له الغايات و النهايات أمام عينيه،و جعلت الخيار و الاختيار إليه..و قالت له:هذه بدايتك،و هذه نشأتك،فلم تستكبر (1)؟! و لم تزهو؟و لم تطلب ما ليس لك بحق؟!و هل يجوز لك أن تستكبر و تتمرد على من أعطاك القوة،و خلقك،و رباك،و نشأك؟!أ ليس ذلك يعد خروجا عن مقتضيات فطرتك؟!..

ثم وجه إليه التهديد بعيدا عن حالة التحدي،و المواجهة،و إنما بصورة ترتيب النتائج على مقدماتها،بعد كشف الواقع أمامه،و إعادته إلى التوازن،و إرجاعه إلى حجمه الطبيعي،و تنفيس الانتفاخات الكاذبة التي كان يرى نفسه فيها،من خلال إدخاله في حسابات دقيقة،و تفاصيل لا بد له من وعيها،مع تعريفه بأن هذه المراحل ليس له هو أي تدخل فيها،و لم يبذل فيها أي جهد.

و لأجل ذلك،فإنه يصبح بإمكانه أن يفهم بعمق معنى قوله له:إنه إن أساء الاختيار،فله السلاسل،و الأغلال،و السعير..و بشّره،إن أحسن الاختيار،بما يبشر به المؤمنون الأخيار،و المتقون الأبرار..

و في سياق هذه الآيات المباركة،نلاحظ:أن اللّه سبحانه قد أغرى

********

(1) الاستكبار هو أن يطلب أن يكون كبيرا،مع أنه فاقد لذلك في الواقع.

ص: 90

هذا الإنسان بالرجوع إلى ربه،و إنشاء العلاقة معه،حيث عرّفه بأنه لم يزل يرعاه،و يهتم به في كل لحظة و آن..و أنه هو الذي يربيه و ينميه، و ينشؤه..و يتفضل عليه بالنعم،من دون أن يقهره على شيء،بل هو يعطيه كل القدرات و كل الإمكانات،ثم يعطيه حق الاختيار،و يمكّنه من أن يتصرف في كل شيء،و أن يحدد موقفه و موقعه..حتى لو كان ما يختاره يتعارض مع ما يريده اللّه منه،و ما يدعوه إليه..

و تلمس في هذه الآيات المباركة كيف أنه تعالى لا يبادر إلى التهديد و الوعيد،في أسلوب قمعي،قاس،و صاعق..بل هو يمهد إلى إخراج الإنسان من جهله و غفلته،و استكباره،و عجبه،و كفره،و ضلاله، و انحرافه،بأسلوب رضي عطوف،يهيئه لتلمس واقعه بنفسه،ممسكا بيده برأفة،و بلطف،و عطف،مذكرا إياه بمحبة اللّه و رعايته له،مثيرا كوامن وجدانه،و بريء مشاعره و أحاسيسه،و صافي فطرته،بصورة السؤال،لا بصورة الخبر المفروض: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً..

و آيات السؤال عن الخلق و كيفياته كثيرة:

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟!

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (1) ؟!

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (2) ؟!

أ لم..أ لم..

********

(1) سورة القيامة الآية 37.

(2) سورة البلد الآيتان 9/8.

ص: 91

فلما ذا الصدود منه إذن؟و لما ذا الاستكبار؟!..و لما ذا الكفر؟!..

و لما ذا؟!..و لما ذا؟!..

ثم هو يترك الخيار له في أن يجعل نفسه مع أي فريق شاء..فهو الذي يختار-بعد هذا البيان-الاستكبار و العناد،فيكون كافرا..فيواجه مصير الكافرين..أو يختار الإيمان،فيكون من و مع المؤمنين..

ثم يعرض عن الخطاب مع هؤلاء لكي تستمر الآيات في بيان أحوال أهل الإيمان،لأنهم هم الذي يجسدون الإنسانية الحقيقية..مقدما لهم المثل و النموذج الأعلى للإنسانية،و هم أهل البيت[عليهم السّلام]، ليكونوا لهم الأسوة و القدوة و المثال..

فيرغب الإنسان العاقل بالتأسي بهم.و السير على نهجهم..

و هذا ما سيتضح في تفسير الآيات التالية..

***

ص: 92

الفصل الثالث: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً

اشارة

ص: 93

ص: 94

قال تعالى:

إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً.

«إنّا»:

و يرد هنا سؤال،و هو:

لما ذا قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ و لم يقل:«فهديناه».أو«ثم هديناه»..

و قد يقال في الجواب:

إن سبب ذلك هو أن السميعية و البصيرية تعبير عن درجة عالية من الإدراك،يستطيع الإنسان من خلالها أن يبصر المعجزات،و يتفاعل معها، و يبصر و يسمع كل ما من شأنه أن يفتح باب هداية،سواء كان ذلك بالتعليم له،أم بالتدبر و التفكر في خلق اللّه،و ربط المقدمات بالنتائج، و الوسائل بالغايات و الأهداف.

و ذلك معناه:أن الهداية المذكورة هنا هي نتيجة تلك السميعية و البصيرية،التي نشأت عن الابتلاء،المستند إلى الأمشاجية في النطفة.

فالمراد هنا كل ما يوجب الهداية،من شرع و عقل،و تفكر،و تدبر و ما إلى ذلك،و لا ينحصر الأمر بالهداية التشريعية..

لكن قد يقال:إن ثمة فهما آخر للآيات،و هو أنه تعالى قد ابتدأ كلامه بصورة الاستئناف في قوله: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ موازيا لقوله تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ .. فلعله لكي يشير إلى

ص: 95

أن الهداية للإنسان قد بدأت مذ خلقه اللّه نطفة،حيث صاحب هذا الخلق له إعطاءه الحالات و الميزات التي بدأ من خلالها مسيرته التكاملية،فهو خلق لوحظ فيه مضمون المخلوق،و حالاته،و أشكاله، و تفاصيله..و روعيت أيضا في كيفية خلقه،و أوضاعه،و كونه أمشاجا،أن يكون أهلا للابتلاء،ثم انتقل إلى الابتلاء الذي من شأنه أن ينقله إلى مراتب أعلى..فأوصله ذلك إلى درجة السميعية و البصيرية..

فالهدايات إذن قد بدأت منذ نشأة الإنسان،فكانت له الهداية التكوينية،ثم الإلهامية،ثم الحسية،ثم الفطرية،ثم الغريزية،ثم العقلية،ثم التشريعية،و هذا معناه أنه لو قال:فهديناه السبيل،لكان المراد بالهداية هنا هي الهداية التشريعية،لكنه لما قال: إِنّا هَدَيْناهُ .. عرف أن المراد:

أن هدايته قد صاحبته منذ بداية خلقه..

غير أن التأمل الدقيق في هذين الفهمين لمسار الكلام في الآيات يعطي:أن كلا من هذين السياقين متمم للآخر،و ليس مختلفا معه.فإن وجود الهدايات للإنسان منذ بدء تكوينه،لا يأبى عن كونه لا يزال محتاجا إليها أيضا حتى بعد حصوله على السميعية و البصيرية،و ذلك ظاهر لا يخفى..

«هديناه»:

و الهدايات التي أشرنا إليها آنفا،هي التالية:

1-الهداية التكوينية،و نشوء الإنسان وفق السنن،و لا يتعلق غرضنا بالحديث عنها..

2-الهداية الإلهامية،و مصدرها اللّه سبحانه..من قبيل هداية الجنين إلى مص إصبعه،و هو في الرحم،ثم اندفاعه بعد ولادته لالتقام ثدي أمه.

ص: 96

3-الهداية الفطرية-و تدخل فيها الغرائزية..و هي تنبع من داخل الإنسان،من قبيل ميل الإنسان إلى العدل،و الكمال،و العلم،و الفقه، و حب الذات و غير ذلك من ميول طبيعية جبلّية،نابعة من صميم الذات الإنسانية،بلا حوافز من خارج ذاته..

4-هداية الحواس الظاهرة،فالسمع يهدي إلى الأصوات الرخيمة، و المنكرة.و البصر يهدي إلى الأشكال،و الأجسام،و الألوان.و الذائقة تهدي إلى أصناف الطعوم،كالحلاوة،و المرارة،و الملوحة،و نحو ذلك.

و الشامّة تهدي إلى الروائح الكريهة و الطيبة.و اللامسة تهدي إلى الخشونة و النعومة،و الصلابة،و الليونة،و الحرارة و البرودة إلخ..

5-هداية الحواس الباطنة،لمعان قائمة بالنفس،كالإحساس الوجداني بالخوف،و الحزن،و الفرح،و الأمن،و ما إلى ذلك.

أو هداية الحواس الباطنة لمعان قائمة في الذات-الجسد-كإدراك الجوع،و العطش،و الألم،و التعب،و النشاط،و الإحساس بثقل الأجسام و خفتها،و ما إلى ذلك.

6-الهداية العقلية:و هي تتمثل في قوة يمن اللّه بها على هذا الإنسان،تدرك له الكثير من المعاني التي لا تنال بالحس الظاهري و لا الباطني،و ربما كانت هذه المعاني نتيجة للمدركات الحسية أحيانا،أو تكون المدركات الحسية طريقا إليها..و قد تخرج عن هذا و ذاك كما سيتضح.

هذه المعاني يحتاج إليها الإنسان في مسيرته الحياتية،و في بنائها على أسس صحيحة و سليمة.

و هي معان تفيد في تأسيس قواعد و منطلقات،و في وضع ضوابط

ص: 97

و رسم حدود لا مجال لتجاوزها..و هذه الصور العقلية هي الأرقى و الأتم في سلسلة الصور الوجودية التي يتعامل معها الإنسان..

بيان ذلك:أن الصور العينية الخارجية لها حظ من الوجود،ثم تأتي الحواس لتأخذ عنها صورا حسية..

ثم يترقى مستوى الإدراك إلى حد إدراك أحوال المحسوسات، و ربما يتصرف في الصور أيضا،فيدرك أن هذا أكبر من ذاك،أو أطول، أو يؤلف من خلالها صورا تشتمل على عناصر مؤتلفة،فيتخيل المدينة الفلانية التي لم يرها،من خلال صور ما رآه بالفعل.

ثم هذا القسم و الذي سبقه هو عبارة عن صور حسية و خيالية للأعيان الخارجية،لكن صورها تكون في الذهن،سواء أ كانت الصورة لنفس الشيء،أم لحالة من حالاته..

و هناك قسم ثالث:أرقى من القسمين السابقين،و هو إدراك معان جزئية،ليس لها منطبق خارجي محسوس بالحواس الخمس..لكنه موجود حقيقي يدرك بآثاره،و ذلك كإدراك حب أبويه له،و خوف الخائف،و حزن الحزين..

و هناك معان كلية ليس لها موطن إلا الذهن،و ليست صورا للأعيان الخارجية،و لا هي من قبيل التصرف في صور المحسوسات،و لا هي معان جزئية.و هي على قسمين:

أحدهما:معان كلية ذهنية،محضة،مثل مفهوم الكلي و الجزئي، و الجنس،و الفصل.

الثاني:معان كلية موطنها الذهن،و ظرف وجودها الخارج،مثل:

الصغير و الكبير،و الحسن و القبح..و الوحدة و الكثرة،و الوجود و العدم.

ص: 98

و العدل و الظلم.فكأن لها قدما في الذهن،و قدما في الخارج..

و كل تلك الدلالات إنما تنطلق من داخل الإنسان..

7-الهداية الشرعية،و هي لا تأتي الإنسان من داخله-كما هو الحال في الهدايات السابقة-بل تأتيه من خارج،لتأخذ بيده إلى حيث لا يجد العقل،و لا غيره من وسائل الهداية الداخلية سبيلا للوصول إليه، أو التعرف عليه..و لتصوب له ما اشتبه الأمر فيه،بسبب حيلولة الغرائز و الشهوات،حتى ظن الحق باطلا و الباطل حقا،و ظن السراب ماء،فلما جاءه لم يجده شيئا..

و بعد هذا التوضيح نقول:

إن كل ما يوصل إلى الغرض،فهو هداية إليه،سواء أ كان بالقول أم بالعمل،شرط أن يكون للواصل درجة من المشاركة في ذلك.و بذلك تكون الهدايات التكوينية،و الإلهامية،و الحسية،و العقلية،و ما شابه؛داخلة في ذلك..

و إذا كانت هذه الهدايات قد صاحبت الإنسان مذ كان نطفة،فإنه منذئذ يصبح موردا لقوله تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ .. و تستمر معه الهدايات،و هو يمر في مراحل الابتلاء،إلى أن يصبح سميعا بصيرا،ثم يحتاج إلى هدايات جديدة تضاف إلى ما سبق،فتأتيه الهداية العقلية،ثم يحتاج إلى الهداية الشرعية..فاللّه سبحانه قد هداه السبيل لحظة فلحظة، و آنا بعد آن..و تمت عليه الحجة.و عليه هو أن يقرر،و يختار،فيكون إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

فالهداية للسبيل إذن لم تبدأ بعد السميعية و البصيرية..و إلا،لكان المناسب أن يقول:ثم هديناه السبيل،أو فهديناه،بل بدأت منذ بداية خلقه،و استمرت معه..

ص: 99

ظاهرة الجحود و الإيمان:

و نريد أن نشير هنا إلى أن الهداية التشريعية قد جاءت في سياق الهدايات الأخرى،لتؤكدها،و لتركز مضامينها،و تستجيب لمقتضياتها، فدورها ليس سوى الإرشاد و الدلالة إلى ذلك،و لا شيء أكثر من هذا..

فمن لم تستيقظ فطرته،و تتعرف على مقتضياتها التي تسانخها،بل بقيت منفصلة عنها،بإملاءات الغرائز،و الأهواء.و الشوائب،و الأغشية العازلة التي صنعتها المعاصي و غيرها،فإن سبيله الذي سيتخذه هو الجحود..و سيجنّد العقل و كل ما يملكه في خدمة تلك الغرائز،فيمتثل أوامرها،و يلبي حاجاتها..و يكون وسيلة دفاع عن كل انحرافاتها..

فإذا ما كسرت شرته،بالمعجزة القاهرة،فإنه سيندحر و يأرز في حجره..و لكنه يبقى بانتظار الأوامر التي تصدرها له تلك الغرائز و الأهواء،لأنه قد فقد السميعية و البصيرية،و أصيبت فطرته بالضعف و الضمور،و ألمت بها عاهات ذهبت بقوتها،و أبطلت حركتها،أو ألمت بها تشوهات جعلت حركتها باتجاهات خاطئة،و منحرفة.

و هذا ما يفسر لنا استجابة الإمام علي[عليه السّلام]،و خديجة،و أبي طالب،و جعفر،و حمزة للهدايات الإلهية،من دون حاجة إلى رؤية المعجزة،بل بتلمس فطرتهم للحق و الدين،و إدراكهم الوجداني لمزاياه، و إحساسهم العميق بانسجامه مع واقع الخلق و التكوين،و حقائق الوجود، و مع الفطرة الصحيحة..مما يجعل من كل هذه المخلوقات منظومة واحدة،تسير باتجاه واحد،وفقا للهداية الإلهية للخلق و للوجود بكل ما و من فيه..

كما أن هذا يفسر لنا النهج القرآني،و البيان البرهاني،لأمور العقيدة

ص: 100

فيه،ثم هو يظهر صدقية و انسجام البيان النبوي و الإمامي لشئون الدين، و حقائق الإيمان من حيث إنها تخاطب الفطرة،و الوجدان،و الضمير، و العقل،و تفرض النظرة التأملية لحالات الواقع و مزاياه،للانسجام معه في كل حركة تعنيه،و في كل اتجاه.

أما أبو جهل،و أبو سفيان،و كذلك فراعنة قريش الذين قتلهم بغيهم في بدر،و أحد،و الأحزاب،و غيرها..فقد كانوا يرون المعجزات و الكرامات في أتم تجلياتها..و لكنهم اتخذوا سبيل الجحود و العناد،و لم يسلم من أسلم منهم،و لكنه استسلم للأمر الواقع،و بقي يسبح في مستنقع آسن من الكيد و التآمر على الحق،و أهل الحق..

«السّبيل»..و ليس الطريق!:

و أما لما ذا قال تعالى:هديناه«السّبيل»،و لم يقل:«الطريق».

فلعل سببه هو أن كلمة الطريق،إنما تدل على مجرد وجود موضع ممتد يسلكه الناس،و هو قد يكون واضحا،و قد يكون خفيا،و قد يكون واسعا،و قد يكون ضيقا،أما السبيل فهو الطريق و ما وضح منه (1).

فخصوصية الوضوح إذن مأخوذة في السبيل،و لا تفهم من كلمة «الطريق».

و الهدايات الإلهية هي الأوضح و الأظهر و الأصوب،و ليس هداية الفطرة، و الإلهام،و الحس،و المشاعر و الوجدان،و العقل،و الشرع،إلا ضمانات يعضد بعضها بعضا،و يشد بعضها أزر بعض..فكلما عجزت وسيلة جاءت الأخرى الأقوى منها لتحل محلها..و تنجز ما عجزت عنه،فإن عجزت هداية الإلهام،

********

(1) لسان العرب ج 6 ص 162 ط دار إحياء التراث.

ص: 101

جاء دور الحس،فإن عجز الحس جاء العقل.فإن عجز العقل جاء الشرع، فهداية اللّه تامة،و حجته بالغة،تحفظ الإنسان في جميع حالاته،و تصونه من الخطل و الزلل في مختلف تقلباته..

هديناه السبيل..أو إلى السبيل؟:

و ليست الدلالة على السبيل من قبيل الإشارة إليه من بعيد،مع عدم وضوح معالمه،و من دون معرفة خصوصياته سعة و ضيقا،حزونة و سهولة..و ما إلى ذلك..

بل الهدايات الإلهية يقينية و واقعية،تجعل السبيل واضحا لا لبس فيه،سوف يلمس المهتدي بها هذا السبيل،و يجده حاضرا عنده،و كأنه قد حلّ هو فيه..

و بذلك يكون تعالى قد سدّ على هذا الإنسان منافذ الاعتذار و التعلل،و للّه الحجة البالغة في كل وقت و حين..

(أل)عهدية أم جنسية؟:

و قد يسأل سائل:هل المراد بالسبيل،السبيل المعهود؟فتكون«أل» عهدية..أم المراد به جنس السبيل؟!.

و يجاب عن ذلك:بأنه قد يدعى أنها عهدية،و ذلك لأن اللّه حين خلق الكون و الحياة قد رسم لهما غاية،و لا بد من سلوك طريق موصل إليها،و من تعريف و هداية لذلك الطريق.

و قد بين اللّه تعالى البداية،و السبيل و الغاية،بأوضح بيان،و هدى إليه أتم هداية.

و واضح:أن أي اعوجاج و انحناء في ذلك السبيل سوف يفقده صلاحية الإيصال.و في الانحراف و العودة هدر للوقت و تضييع للجهد،

ص: 102

و عبثية غير مقبولة.قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (1)..

و هذا معناه:أن الهداية الإلهية إنما تكون إلى سبيل واحد،و هو الصراط المستقيم المتصل بالهدف،دون سواه..و الذي إذا اتضح و عرف، فإن الطرق الموجبة للضلال عن الهدف تصبح واضحة أيضا..

و يصح التعبير عنها بكلمة«سبيل»لأن ذلك هو ما يقتضيه انحصار الطريق الموصل إلى الهدف بواحد..

و ذلك كله يشير إلى أن كلمة«أل»عهدية..

و ذلك غير دقيق،و الصحيح هو أن كلمة«أل»جنسية،و ذلك لما يلي:

إنه تعالى لم يقل:«إنا هديناه السبيل،إما مهتديا أو ضالا»،مع أن قوله تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ قد يغري الأوهام القاصرة.بتوقع أن يقول:إما ضالا،أو مهتديا،لأن جعل الإنسان يتلمس السبيل بهذا المستوى من الوضوح،و التعيّن و التبيّن،لا يبقي مجالا للضلالة عنه،أو تضييعه،أو ادعاء الغفلة عن خصوصياته و حالاته،فهو مهتد إليه بصورة حتمية،فإذا حاد عنه،فإنما هو عناد،و كفر،و استكبار،و جحود.

فنسبة الوضوح في سبيل الهداية،هو في مستوى نسبة الوضوح في سبيل الضلالة.قال تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (2).فإذا كان قد هداه النجدين،فكيف يمكن تصور ضلاله،إلا على سبيل العناد و الجحود؟

********

(1) سورة الأنعام الآية 153.

(2) سورة البلد الآية 10.

ص: 103

و قد قال تعالى: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1).

و قال: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (2).

و بذلك يتضح:أن«أل»في كلمة«السّبيل»جنسية،أي أنه تعالى قد بيّن سبيل الغي و الضلال،الذي لا يوصل،بواسطة بيانه للسبيل المستقيم الموصل،فأصبحت السبل واضحة،و عليه هو أن يختار.

لما ذا بدون فاء التفريع؟:

و يبقى سؤال:لما ذا لم يقل اللّه تعالى: «إِمّا شاكِراً» .مع فاء التفريع، بل قال: إِمّا شاكِراً؟!..

و نقول:لعل السبب في ذلك:أنه تعالى يريد أن يبرز عنصر القصد و الاختيار و الإرادة،فكأنه قال:قد دللتك،و لك الخيار،في أن تفعل،و أن لا تفعل،فأنت الذي تقرر و تختار،و تبادر.

و لو أنه جاء بفاء التفريع فلربما يتخيل أن الشكر و الكفر يأتي كنتيجة طبيعية و حتمية الحصول،سواء أ كان ذلك بسبب الغفلة عن الأمر،فينساق بعفوية إليه و بدون التفات،أم بسبب النسيان بعد الالتفات،أم بسبب العمد إلى الشكر و الكفر،ثم يتكرر منه فعل الكفر،حتى يصير كفورا..

السميعية و البصيرية لا تغني عن الهداية:

و قد يقال:إذا كان اللّه قد جعل الإنسان سميعا بصيرا،فإنه لا يحتاج بعد إلى الهداية،و ذلك لأن سميعيته الفائقة،و كذا بصيريته سوف تجعلانه يلتفت لكل شيء،و يدرك كل ما حوله..فلما ذا عاد فقال: إِنّا

********

(1) سورة الأنعام الآية 149.

(2) سورة النمل الآية 14.

ص: 104

هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً؟!

و يجاب عن ذلك:

إن سميعية و بصيرية الإنسان لا تعني إحاطته بالأمور،و معرفته بأسرار الخلق،و لا وقوفه على الغيوب،و لا على واقع تأثيرات الأشياء بعضها ببعض،و لا على المصالح و المفاسد الواقعية..

فيحتاج إلى الهداية التشريعية الإلهية،ليضمن عدم الوقوع في الخطأ الكبير و المهلك..لأن غاية ما يحصل عليه الإنسان هو هداية التكوين، و الفطرة،و العقل.و هداية التكوين محكومة بعللها و أسبابها..و هداية الفطرة محدودة في نطاق الدعوة إلى عناوين و مبادئ،و أهداف عامة و عالية، تكتنفها دواع غريزية،تحتاج إلى ما يضبط حركتها في مسارها إلى تلك الأهداف و المبادئ،حتى لا تتجاوز الخط أو الهدف الذي حددته الفطرة لها.

و هداية العقل تبقى أيضا مفتقرة إلى توفير المخزون الذي يستطيع العقل من خلاله أن يعطي حكمه الإرشادي من خلال التصرف فيه..

و يبقى الإنسان بعد هذا و ذاك في موقع المحتاج إلى الدلالة و الهداية الإلهية..فبعث اللّه له الأنبياء مبشرين و منذرين..و عرّفوه السبيل: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

و يكون هذا المستوى من السميعية و البصيرية بمثابة التأهيل لتلقي الهداية الإلهية..ثم التفاعل معها من موقع المختار المريد..لا من موقع الجبر التكويني،و التحريك القسري،كما هو الحال بالنسبة لبعض الكائنات،كالنباتات،و لا من موقع التحرك التكويني،و الفطري، و الغريزي،و حسب،كما هو الحال بالنسبة للحيوانات..

ص: 105

وَ إِمّا كَفُوراً:

و لا بد أن يلتفت قارئ هذه الآية إلى أن اللّه سبحانه بالنسبة للشكر قد عبّر بصيغة اسم الفاعل..لكنّه بالنسبة لغير الشاكر جاء بصيغة المبالغة فقال: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً.. أي كثير الكفر و شديده..

و هذا التعبير هو الصحيح و الأولى،لأن الإنسان شديد الكفر،من حيث إن الحقائق التي يحاول طمسها و تجاهلها،هي من الظهور و الوضوح إلى الحد الذي تحتاج إلى جهد كبير و شدّة،ليتمكن من طمسها و حجبها.و هو أيضا كثير الكفر،و ذلك لكثرة الحقائق التي يعمل على إبعادها،و إسدال الحجاب عليها.سواء أ كانت هذه الحقائق مما تدعوه إليها فطرته،أم مما يرشده إليها عقله،أم مما أوضحها له التشريع و البيان الإلهي..

قوة الوضوح في البيان القرآني:

و إن أعظم ما يواجه الإنسان في قضايا الإيمان و الكفر هو الشأن العقيدي،لأنه يرتبط بأمور الغيب،و يحتاج إلى إدراك عقلي،و رؤية قلبية،و تلمس وجداني،يصل إلى حد صيرورة ذلك واضحا و بديهيا..

و هذا ما أشير إليه في قوله تعالى: أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1)..و عنهم[عليه السّلام]:«عميت عين لا تراك»..

و قد قلنا:إن القرآن في بياناته لأمور العقيدة،يدفع بها لتصبح شأنا حياتيا،و واقعا عمليا،يتلمسه الإنسان في كل موقع و كل اتجاه..و لا يتحدث له عنها بطريقة تجريدية،فلسفية،فراجع الآيات التي تتحدث

********

(1) سورة إبراهيم الآية 10.

ص: 106

عن وجود اللّه،و عن توحيده،و عن صفاته،و عن النبوة و عن الإمامة، و عن اليوم الآخر..كقوله تعالى مثلا: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (1)،فإنه تعالى قد تحدث عن فساد الكون و الحياة؛بالشرك،و أن الإنسان سوف يفقد القدرة على العيش،و على إعمار الكون،و سيفتقد السعادة،و يعجز عن الوصول إلى كمالاته التي ينشدها..

و لم يقل:إن تعدد الآلهة يستتبع الالتزام بفقدان أحدها،في المكان الذي يوجد فيه الآخر،و لم يشر إلى أن ذلك يستلزم حاجة الآلهة إلى المحل،أو لزوم تقدم المكان على المكين،و لا إلى لزوم وجود ما يميز هذا عن ذاك،و لا إلى غير ذلك من أمور تبقى في دائرة التأمل الفكري..

بل ترك البيانات الفكرية،التي تحصن هي الأخرى الإنسان من شبهات أهل الضلال،ترك بيانها للأئمة الطاهرين،و لذلك نجد الإمام عليا[عليه السّلام]يتصدى لها،فيقول:أيّن الأين فلا يقال له أين،و كيّف الكيف فلا يقال له كيف (2)..

و قال[عليه السّلام]أيضا:مع كل شيء لا بمقارنة،و غير كل شيء لا بمباينة (3)..و غير ذلك.

و قد بيّن[عليه السّلام]ذلك،بعد أن بيّن لنا أيضا أنه تعالى لا يمكن دخوله في تصوراتنا و أوهامنا،فقال:«كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق

********

(1) سورة الأنبياء الآية 22.

(2) بحار الأنوار ج 36 ص 283.

(3) نهج البلاغة ج 1 ص 16،و اثنا عشرة رسالة للداماد ج 2 ص 43 و بحار الأنوار ج 4 ص 247 و ج 54 ص 177 و ج 74 ص 300 و تفسير نور الثقلين ج 5 ص 260.

ص: 107

معانيه،مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» (1).

فاللّه إذن يريد لنا أولا أن نشعر به بقلوبنا،و نحس بآثاره في حياتنا، ليصبح واقعا حياتيا فاعلا و قويا.و هكذا فعل في سائر الأمور العقائدية، كالقيامة و النبوة و غيرهما،و كذا المفاهيم الإيمانية،و الدينية،بصورة عامة..

و لذلك تجد الإنسان يعيش الشعور باللّه سبحانه و بقدرته،و محبته، و سائر المعاني الإيمانية في حالات الخوف و الرجاء،و في حالات الصحة و المرض،فيتوجه إليه بالدعاء،و يشعر بالفرح و بالامتنان حين يستجيب له.

فالمطلوب إذن هو الإحساس باللّه سبحانه،و ليس المطلوب هو تصوره سبحانه،لأن ذلك مستحيل.كما أن المطلوب هو امتلاك القدرة على دفع شبهات المضلين،و التحصن من ضلالاتهم.

هذا:و قد جاءت هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها،في نفس هذا السياق،كما يظهر من ملاحظة المعاني التي أشارت إليها،في مفرداتها،و في سياقها العام.

لما ذا قال:شاكرا؟!

و السؤال هو:لما ذا قال:«شاكرا»،مع أن الحديث هو عن الهداية و الضلال؟!..و لما ذا أيضا جاء بها بصيغة اسم الفاعل؟!..

و الجواب:

1-إن اختيار الشكر في هذا المورد،إنما هو لأنه من قبيل إطلاق الدعوى مع دليلها،لأن التعبير بالشكر يوجب أن يكون هناك ما يفرض الشكر،و هو النعم.فإذا أثبتت الشاكرية،فإن ثبوتها يوجب ثبوت قبح

********

(1) بحار الأنوار ج 66 ص 293.

ص: 108

الكفر بصورة أوضح و أتم،لأن وجود النعم أوجب حتمية الشاكرية..

و حتمية الشاكرية و قيمتها يجعل الكفر من أقبح الأشياء،فإن الكفر للنعمة،و انجرار ذلك إلى الكفر بالمنعم و صفاته،و كل ما يصدر عنه، يصبح جريمة كبرى..فكيف إذا كان الإنسان كفورا،أي شديد الكفر و كثيره؟فإن الأمر يصير أعظم قبحا،و أسوأ صنعا..

و في هذا الأسلوب من التنفير من الكفر،و الحث على الطاعة ما يغني عن أي بيان.

2-إن أرقى حالات العبادة و الطاعة هي تلك التي تكون نابعة من صميم الذات الإنسانية.فالالتزام بالسبيل الواضح،هو ما يدعو إليه الخلق الإنساني،و تقتضيه الفطرة الصافية،حيث لا بد أن يختار طريقة الشكر باقتضاء من داخل ذاته،و من دون حاجة إلى إلزام بأمر من الخارج.فإذا جاء الأمر التّكريمي من قبل اللّه سبحانه،فإن اندفاعه إلى امتثاله سيكون أيضا من مقتضيات طبعه،و خلقه الإنساني الرفيع..لا طمعا بنوال،و لا خوفا من عقوبة، و لا لأجل الخروج من حالة الإحراج و الإلزام حيث لا مناص.

و قد روي عن أمير المؤمنين[عليه السّلام]أنه قال:«إن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار،و إن قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار» (1).

فحالة الشاكرية حالة إرادية اختيارية،أخلاقية،و إنسانية.و هي تعبير

********

(1) راجع:نهج البلاغة ج 3 قسم الحكم،الحكمة رقم 237 و البحار ج 41 ص 14 عنه و ج 75 ص 69 عن المناقب لابن الجوزي و عن تحف العقول.و راجع ج 67 ص 18 و 197 و 255 و ج 8 ص 200 عن الكافي،و عن عقائد الصدوق و عن علل الشرائع ج 1 ص 12.

ص: 109

فطري صادق،ينبع من داخل الذات،بما لها من أصالة،و ما للمزايا و الكمالات الإنسانية و الأخلاقية من تجذر و عمق.

أما لما ذا عبر باسم الفاعل،فقال:«شاكرا»و لم يقل شكورا،ليتجانس مع كلمة«كفورا»..فلعله ليفيد أمرين:

أحدهما:أن الإنسان لا يمكن أن يكون شكورا،أي كثير الشكر، على نحو الحقيقة،بل هو لا يستطيع إنجاز شكر واحد للّه تعالى..لأن كل شكر يحتاج إلى وسائل لإنجازه،و هذه الوسائل هي نعم جديدة، يحتاج أيضا إلى أداء شكر كل واحدة منها،و ما أكثرها.

ثانيهما:أن اسم الفاعل«شاكرا»يشبه الفعل المضارع«يشكر»في إفادة فعلية التلبس بالشكر..

كما أنه لكونه اسما مجردا عن إفادة التجدد،فهو يدل على الثبات و الدوام،لهذا الشكر،و ليس فيه دلالة على التصرّم و الانقضاء.

كما أنه لم يقل:إما أن يشكر أو يكفر،لأن ذلك يدل على مجرد صدور الفعل منه،و لو مرة واحدة،و لا يفيد أية خصوصية أخرى مع أن المقصود هو بيان ذلك بلحاظ خصوصيته الأخلاقية،و غيرها مما ألمحنا إليه..

لما ذا: «وَ إِمّا كَفُوراً»؟!

و أما السبب في أنه تعالى قد جاء بصيغة المبالغة في قوله: وَ إِمّا كَفُوراً فلعله:

أولا:فيما يرتبط بالنعم،فإن كثرة النعم تتطلب من الكفور كثرة المحاولات لإخفائها،و كل نعمة لها سترها الخاص بها..

و فيما يرتبط بالحقائق و الاعتقادات،و سواها،فإنه أيضا يحتاج إلى كثرة الستر للحقائق..و تعدد الإنكار للأمور العقائدية و غيرها..

ص: 110

فكلمة كفور تشمل كفر النعمة،و كفر المنعم،و الكفر بالنبي الذي يخبر عنه،و بالأئمة الذين يسعون إلى إقامة دينه،ثم الكفر بيوم الجزاء، ليتخلص و يتملص من المسئولية..

فالقول بأن المقابلة بين الشاكر و الكفور تجعل المعنى الأول،و هو كفر النعمة،أنسب بالمعنى..

قول غير دقيق..بل التعميم هو الأنسب،خصوصا و أن شكر النعمة هو الآخر يستبطن الاعتراف بكل الاعتقادات الآنفة الذكر،و منها صفات اللّه تعالى،لأن النعم تثبت تلك الصفات،لأنها من مظاهرها و تجلياتها، غير أن الشكر لا يتعرض لتلك النعم،و إن كان يستلزم الاعتراف بها من قبل الشاكر،كما أن جحود صفات اللّه لا يمكن أن يتحقق معه الشكر..

و بذلك يتضح:لما ذا لم يقل:مؤمنا أو كافرا،إذ إن ذلك يوجب اختصاص الكفر بالكفر العقائدي.فهذه الآية تستبطن تحويل الشأن العقيدي إلى أمر حياتي.

فجاء بصيغة المبالغة،لأجل بيان هذه الكثرة الحقيقية لكفره..

ثانيا:إن كثرة صدور الطمس و الإخفاء للنعم يكشف عن خلل حقيقي في أخلاقيات ذلك الشخص و في إنسانيته،و يدل على خبث باطنه،و شدة طغيانه،و حرصه على طمس نعم اللّه سبحانه،و التنكر لها، مع أن اللّه تعالى يقول لنبيه[صلّى اللّه عليه و آله]: وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (1)،لأن إظهارها يزيد في معرفة الناس باللّه،و في توجههم إليه بحوائجهم.و لأجل ذلك قلنا:إن التعبير بالشاكر و الكفور،هو الأصح من

********

(1) سورة الضحى الآية 11.

ص: 111

التعبير بقوله:إما ضال أو مهتد..

و أخيرا..فإننا بالنسبة لقوله: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً نلاحظ:أنه تعالى لم ينظر إلى جهة صدور الفعل،و حركته الخارجية،و خصوصياته، بل نظر إلى طبيعة الشكر،و الكفران،من حيث كونهما صفتين أخلاقيتين داخلتين في تكوينه النفسي الداخلي..

فالشكرية حالة إنسانية أخلاقية،و الكفورية حالة لا أخلاقية و لا إنسانية.

الأخلاق أساس الدين:

و نحن نعلم:أن الأخلاق هي أساس الدين،لأن الهدايات كلها:و منها الفطرية،و الإلهامية،و العقلية،و التشريعية قد تتوفر للإنسان،و لكنه-مع ذلك-لا يهتدي بهداها،و ذلك بسبب خلل أخلاقي،و نقص في المزايا الإنسانية في داخل نفسه..ففرعون مثلا،و كذلك إبليس،قد توفرت لهما جميع أنواع الهدايات،لكن الخلل الأخلاقي المتمثل باستكبارهما و علوهما قد أوصلهما إلى الإبليسية،و إلى ادعاء الربوبية و الفرعونية،رغم أنهما يملكان أقوى الأدلة المثبتة للقضايا العقائدية.و منها رؤية المعجزات القاهرة،و معاينة الكرامات الباهرة،و البراهين العقلية،و الفطرية كلها،و لكن ذلك كله لم يؤثر في هدايته،و اختار الجحود الذي تحدث اللّه عنه حين قال: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ .

و ذلك كله يعطينا:أن الكفر حالة عناد و استكبار،و خلل أخلاقي بالدرجة الأولى..

فرق آخر بين الكفر و الشكر:

و هناك فرق آخر بين الكفر و الشكر،و هو أن من لا يعترف

ص: 112

بالشهادتين،فهو ينكر جميع الحقائق المترتبة على التوحيد.بنفس إنكاره للتوحيد،و ينكر ما يترتب على النبوة بنفس إنكارها أيضا..

و أما إذا أقر بالتوحيد،فهو يحتاج إلى ممارسة كل مفردات الشكر، ليكون شاكرا بالفعل..إذ إن اعترافه بالتوحيد إنما يكفي عن التوحيد دون سواه.أما العبادات مثلا،كالصلاة،و الزكاة،و الصدق..و..و..فلا يغني عنها شيء،حتى التوحيد..

فظهر أن كفره بالتوحيد يسقط كل ما عداه عن الصلاحية،و هو بمثابة تعدد صدور الكفر منه بالنسبة لكل واحدة،واحدة..لكن إيمانه به لا يغني عن شيء مما عداه،فلا بد من الإتيان به على حدّه الذي قرره اللّه عزّ و جل..

المجبرة،و آية الهداية:

و أخيرا..نشير إلى أن المجبرة قد ادّعوا:أن اللّه سبحانه لم يهد الكافر..لكن هذه الآية قد جاءت صريحة في تكذيب هذه الدعوى، حيث قررت أن الهداية الإلهية تشمل الكافر و المؤمن بلا فرق..

***

ص: 113

ص: 114

الفصل الرابع: إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً

اشارة

ص: 115

ص: 116

قال تعالى:

إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً.

في هذه الآية المباركة حديث عما يواجه الكافر من عقاب،فكيف، بالكفور،و نحن نجمل الحديث فيها على النحو التالي:

«إنّا»:

قد تكرر استعمال كلمة«إنّ»التي هي حرف تأكيد،مع إدخالها على «نا»التي هي ضمير جمع المتكلمين،لا على ضمير المفرد،و قد قال هنا:

«إنّا»،و لم يقل:«إني».

كما أنه اختار التأكيد ب«إن»و لم يقل:«قد»أو«لقد أعددنا».

فأما بالنسبة للملاحظة الأولى،فقد ذكرنا،أكثر من مرة:أن المناسب في مثل هذا المقام الذي يراد به الردع و الزجر،أن يكون في الخطاب إظهار للعزة و العظمة الإلهية..

و أما بالنسبة للملاحظة الثانية،فإن التعبير بكلمة قد،و لقد،و إن كان يفيد التأكيد،إلاّ أنه يفقد الإشارة إلى مقام العزة الإلهية..

و قد قلنا:إن التأكيد عليه،و تركيزه في ذهن السامع،بتكرار الحديث عنه،بهذه الطريقة التعظيمية مطلوب في تحقيق الردع و الزجر..

«أعتدنا»:

و أما لما ذا قال:«أعتدنا»،و لم يقل:«أعددنا»..

ص: 117

فلعله لأجل أن كلمة أعددنا تتحدث عن مجرد الإعداد،من دون تعرّض لما يكون موردا و محلا له..أما كلمة«أعتدنا»،فإنها تحمل معنى الإعداد،و تشير أيضا إلى العتاد الذي يتم تهيئته،و أنه أمر حسي موجود فعلا،و ليس مجرد تهديد و وعيد بأمر قد يكون مفترض الوجود..

الإعداد لا ينافي القدرة:

و قد يقال:إن اللّه تعالى هو القادر و القاهر فوق عباده،فلا يحتاج إلى إعداد عدة،و لا إلى تهيئة مقدمات لشيء..فإن العاجز هو الذي يحتاج إلى إعداد و تهيئة الأمور التي قد يفقدها حين العمل..فكيف قال تعالى:

إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ و..الخ؟!

و جواب ذلك هو:أن المقصود من الإعداد هنا،ليس هو رفع النقص عن المعدّ،بل المقصود هو تحقيق الردع للعاصي،و التأثير عليه لتصحيح مساره،و ذلك هو الأسلوب التربوي الصحيح الذي يقتضيه موقع الربوبية، و سوق الإنسان نحو كماله،و إبعاده عن مواقع الخطر بالحكمة الهادية، و بالأسلوب الصحيح.

الوعيد بغير المحسوس،يلغي الفرق:

و قد يقال:بما أن السلاسل،و الأغلال،و السعير،ليست حاضرة أمام الإنسان،بل هو سوف يواجهها يوم القيامة،فالحاضر الآن ليس إلا التهديد بها،و التهديد بالشيء لا يفرق فيه بين أن يقول:«أعددنا» و«أعتدنا»..و ذلك لأن وقت التنفيذ غير حاصل بالفعل.

و يجاب:بأن الوعيد على نحوين،أحدهما أضعف تأثيرا من الآخر.

فالوعيد المجرد عن الإعداد،يبقى مجرد محاولة لإيجاد تصور للعقاب، و لكيفياته،و حالاته،و مستواه،تدفعه للعزم على المضي فيه.فقد يتصوره

ص: 118

في مستوى أقل مما هو عليه،مع احتمالات حصول عفو أو بداء،أو أي شيء يصرف عن المضي في ذلك العزم.

و أما الوعيد الذي يصاحبه إعداد و تهيئة وسائل..فإن هذا الإعداد، يستبطن إفهام العاصي بأن الأمور غير قابلة لأي احتمال،فقد حددت مستويات العقاب،و حالاته،و كيفياته.و جسّده بدرجة ما،من خلال ما تهيأ من وسائل..مع تضاؤل احتمالات الانصراف عن العقوبة،لوجود الوسائل المذكّرة بها،و المحرّضة عليها بدرجة من التحريض ماثلة للعيان.

كما أن إحضار الوسائل يعطي للعاصي بصيرة في درجة التصميم و الإصرار و الجدية في هذا الوعيد،حيث يرى:أن مراحل تنفيذه قد بدأت،و أن الخطوات الأولى قد أنجزت.

فإذا كان واقع الأمر يفرض هذا الفرق بين الحالتين،فالإخبار بهما أو بإحداهما،لا بد أن تختلف تأثيراته على النفس الإنسانية تبعا لذلك..

الإعداد و العفو:

و يبقى سؤال يقول:هل هذا الإعداد يمنع من العفو؟!

و يجاب:بأنه لا مانع من حصول العفو،لكن المهم هو أن هذا الأسلوب التربوي من شأنه أن يجعل الناس أكثر جدية في التزام أوامر اللّه تعالى..لأن عنفوان الكفر يتضاءل،و تضعف شوكته،و ضعفها هذا، و حرص الإنسان على أن لا يعرض نفسه لغضب اللّه،يجعله أهلا للعفو فيما لو اجتمعت شرائطه و موجباته.

«أعتدنا»صيغة الماضي!

و أما لما ذا عبّر بصيغة الماضي،لا بصيغة المضارع،فقال:«أعتدنا»..

فلعله لأجل أن يفهم العصاة:أنه تعالى قد أعد العدة،و انته الأمر،فهو

ص: 119

يخبر عن أمر قد حصل في الماضي،و لا يريد أن يسجل تهديدا مجردا، إذ لو قال:سوف نعد للكافرين كذا و كذا،لا نفتح باب الأمل على مصراعيه بتغير الأمور،و لذهب العصاة باتجاه الاستخفاف و الاستهتار بالأمر و بالآمر..

فقوله تعالى:«أعتدنا»أصلح في التربية،و أوكد في الزجر،و أشد في الردع.

«للكافرين»:

و قد كان الحديث في بداية الأمر عن الكفور..و لكنه حين أراد أن يتحدث عن العقوبة الرادعة عبر بلفظ الكافرين..

و هو يختلف عن الكفور من جهتين.

الأولى:أن الكفور من صيغ المبالغة،الدالة على الشدة و على الكثرة..

الثانية:أن الكفور صفة للمفرد.أما الكافرون فهي صفة للجمع..

و ربما يكون الداعي للعدول إلى هذا النحو من البيان هو إظهار:أنه إذا كان هذا هو عقاب الكافر،فكيف يا ترى سيكون عقاب الكفور الذي هو أشد كفرا،و الذي كثر صدور الكفر منه،إلى أن صار كفورا..فكشف ذلك عن شدة طغيانه،لا بالقول و إظهار الجحود و حسب،و إنما بالفعل و الممارسة أيضا؟!..

و يؤكد ذلك قوله تعالى: وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (1)..حيث دل على أن عقاب الكفور مفروغ عنه،و لا مجال للعفو أو للتخفيف عنه،في

********

(1) سورة سبأ الآية 17.

ص: 120

أي من الظروف و الأحوال..و لا يريد أن يقول إن الجزاء منحصر بها، و أن الكافر لا يجازى..

أضف إلى ذلك:أن هذه العقوبة ليست حالة استثنائية،و لا تختص بهذا الفرد على سبيل التجني عليه،و إنما هي قانون عام و شامل،يؤخذ به الجميع.

و صفته القانونية هذه تأبى احتمالات التبدل في القرار،و تجعل ذلك العاصي أكثر اقتناعا بحتمية هذا المصير،حيث لا استثناء لأحد من القوانين و السنن العامة من دون مبرر ظاهر و حاسم..مع أن المبرر لعدم الاستثناء موجود،و هو شدة و كثرة كفره،فهو كفور،و ليس مجرد كافر..

و هذا يعطي أن قوله: إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ .. قد أريد به نفس الطبيعة التي قد تختلف منطبقاتها شدة و ضعفا،أو قلة و كثرة..

فيكون قوله أو كفورا بمثابة البيان للمراد من كلمة:«الكافرين»..

الترتيب و الاختيار:

و يلاحظ أنه تعالى قد اختار من وسائل العقاب ثلاث فقط،هي:

1-السلاسل.

2-الأغلال.

3-السعير.

فلنا هنا أسئلة ثلاثة،هي:

1-لما ذا اختار خصوص هذه الثلاث يا ترى؟!

2-ما الفرق بين السلاسل،و الأغلال؟!

3-لما ذا قدم السلاسل و الأغلال،على السعير؟!

ص: 121

و يمكن أن يجاب على ذلك بما يلي:

سبب اختيار أنواع العذاب:

أولا:هناك نوعان من العقاب،هما:

1-العذاب الروحي.

2-العذاب الجسدي.

و السلاسل و الأغلال ليستا وسيلة عقاب فاعلة و مؤثرة في الجسد، و إن كانت توجب بعض الألم،و الحرج على صعيد الحركة..

أما السعير،فهي عذاب جسدي بالدرجة الأولى،و الأذى الروحي فيها ليس نابعا من ذاتها،بل هو بسبب بعض العناوين الأخرى التي تصاحب العذاب الجسدي فيها..

و الأذى الروحي للمستكبر العاتي هو المطلوب الأول و الأهم.أما الأغلال،فهي وسيلة لأسر الحرية،و هي من وسائل الإذلال،و التحقير و المهانة..

و اختياره هذه العقوبة بالذات إنما هو لأن الاستكبار لذّة روحية له، و هي لذّة محرمة..فيصح مقابلتها بعقوبة روحية عادلة،هي الإذلال و المهانة و التحقير،فتتقابل اللذة الروحية بالمهانة الروحية.

ثم إنه إضافة إلى هذا الإذلال يلقى في السعير،لينال الجسد ما نالته الروح،فتذكو تلك النار،و تسعّرها الأدران و الخبائث التي نمت في كل كيانه،بسبب استسلامه للغرائز و الشهوات،و النزوات و الأهواء،التي أوصلته إلى العناد و الاستكبار..

و كما أن للمعاصي لذات جسدية،فقد ناسب أن يكون لها عقوبة بالسعير التي تنتج له أذى جسديا أيضا..

ص: 122

الفرق بين السلاسل و الأغلال:

و عن الفرق بين السلاسل و الأغلال نقول:

إنه لا شك في أن تلك السلاسل و الأغلال سيكون عذابها الجسدي عظيما و هائلا،كما دلت عليه الآيات أيضا،لكن الجانب المعنوي هو الأبرز في هذه الناحية،فإن إذلال الكافرين هدف هام و مقصود بذاته.

و على كل حال نقول:إن الأغلال جمع غل.و هو في الأصل طوق يوضع في العنق.و السلاسل جمع سلسلة،و هي عبارة عن حلقات منتظمة تأسر حركة و حرية المأسور،ضمن دائرة معينة،يحددها طول و قصر السلسلة،و طريقة التفافها على أجزاء جسده،ثم هو يسحب و يجر بواسطتها.قال تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ (1).

و قال سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ (2).

و قال عزّ من قائل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (3).

سبب تقديم السلاسل على الأغلال:

ثم إن تقديم السلاسل على الأغلال..قد جاء على سبيل التدرج و الترقي في مواجهة الكافر بالعذاب،فإن الذل الذي يواجهه الإنسان حين يوضع الغل

********

(1) سورة غافر الآيتان 72/71.

(2) سورة الرعد الآية 5.

(3) سورة الحاقة الآيات 32/30.

ص: 123

في عنقه أعظم من الذل الذي يشعر به حين يربط بالسلاسل..

«وَ سَعِيراً»:

و قد عبر بكلمة«سعيرا»،و لم يقل نارا مثلا،ربما بهدف الإلماح إلى زيادة استعار تلك النار،ليدل على التجدد المستمر من جهة،و على الشدة و التأجج من جهة أخرى.

و في ذلك تأكيد ظاهر على الردع الحازم،من خلال القرار الجازم..

و الملاحظ هنا:أن التصعيد كان باتجاه الآلام الحسية،لأنها هي التي يدركها الإنسان بصورة أعمق،و أشد و أوضح..

الأبرار و الفجار..إطناب و اقتضاب:

و قبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية المباركة نشير إلى ملاحظة هامة هي:أنه تعالى قد أجمل و اختصر في حديثه عن عقاب الكافرين..

و لكنه فصّل و بيّن أمورا كثيرة في حديثه عن جزاء الشاكرين الأبرار، و أشار إلى كثير من خصوصياتهم،و صفاتهم و مزاياهم،و كمالاتهم الإنسانية،و النعم التي تنتظرهم..

و لعل سبب ذلك هو:بالإضافة إلى ما في إهمال أمر الكفار من التحقير،و الخزي و المهانة لهم،في مقابل ما للأبرار من التعظيم،و المجد و الكرامة،و في ذلك أيضا إيلام روحي للكافرين..

و بالإضافة إلى ما في إيكال الأمر إلى خيال الإنسان العاصي،ليذهب كل مذهب في الحيرة و الضياع،و الرهبة و الخوف.

نعم بالإضافة إلى ذلك نقول:

أولا:إننا إذا رجعنا إلى ما ذكرناه في تفسير آيات هذه السورة

ص: 124

المباركة،فسنجد أن النقطة الحساسة و المركزية،التي تتمحور حولها الآيات الشريفة في هذه السورة،هي النشأة الطبيعية للإنسان في مسيرته التكاملية نحو اللّه سبحانه،و هي المسيرة المنسجمة مع هذا الخلق كله، بما أودع اللّه فيه من استعدادات و طاقات،محاطة بالرعاية الإلهية من البداية إلى النهاية: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً؟!..

فقد خلقه اللّه تعالى من نطفة أمشاج اقتضت ابتلاء،ينتج رهافة في السمع،و حدّة و قوّة في البصر،ليكون إنسانا مدركا و واعيا،بل في منتهى الإدراك و الوعي «سَمِيعاً،بَصِيراً»..

و قد أحاطه تعالى بأنواع من الهدايات،ليس فقط على سبيل الإشارة و الدلالة،بل أعطاه أيضا:الهداية التكوينية،و الإلهامية،و الفطرية، و الحسية،و الوجدانية،و العقلية و الشرعية،لكي لا يضل عن الصراط المستقيم.و تفضي به إلى السبيل الواضح إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، فلا أصح و لا أصوب،و لا أقرب إلى الهدف منه،و بذلك أصبحت الحوافز كلها متوفرة لديه،و تفرض عليه أن يلتزم بهذه الهدايات العظيمة.

فالآية الشريفة قد ركزت على هذا السير الطبيعي للإنسان،و أكدت على بيان حالاته،و خصوصياته،و أجوائه،التي لا بدّ أن تغري بالاهتمام بذلك الهدف الاسمى و السعي إليه.

أما إذا اختار التنكر لما تفرضه عليه تلك الهدايات كلها..و أصر على الخروج على مقتضيات الفطرة،و التمرد على الوجدان،و على العقل، و الدين،و على اللّه،فهذا هو النشاز و الاستثناء،الذي لا يستحق الالتفات إليه إلا بهذا المقدار من اللفتة العابرة،ليكون دائما في موقع الخزي، و المهانة،و السقوط،و ليكون عبرة لأولي الألباب،الذين يطمحون إلى

ص: 125

الكمال،و ينالون تلك النعم الباهرة..

و هذا بالذات هو ما يبرر الاختصار هناك،و التفصيل هنا..

ثانيا:هناك أمر آخر يحسن الالتفات إليه،و هو:أن الحديث عن الأبرار قد تضمّن أمورا تتناسب مع أنواع أفعالهم التي أنتجتها الهدايات الآنفة الذكر،فاقرأ في السورة ما يشير إلى أفعالهم الجارية على مقتضيات الهداية الحسية،أو التي ترضي الوجدان،و التي يفرضها التشريع عليهم،كالوفاء بالنذر،بالإضافة إلى الهداية العقلية،و الوجدانية، كما في إطعام الطعام على حبه،و كلزوم الأمن و الطمأنينة،و ما إلى ذلك..

فإنك تجد في مقابلها نعيما يجانسها،مثل النعيم الحسي،كقوله:

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، و نعيم الأمن،كما في قوله تعالى: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً..

و من يقرأ سائر آيات السورة يجد صحة ما قلناه..

لما ذا تحدث عن العقوبة أولا:

لما ذا قدم الكلام عن عقاب الكافرين،مع أن التقسيم الذي سبقه قدّم فيه الشاكر بالذكر على الكفور؟!

فقد كان النظم يقتضي أن يتحدث أولا عن الأبرار،ثم عن الكافرين، ليتوافق مع التقسيم الوارد في البداية..

الجواب:

و في مقام الإجابة على هذه الأسئلة،نقول:

إن السورة مسوقة لبيان النشأة الإنسانية،المحفوفة بالهدايات، و الألطاف الإلهية،التي رسمها اللّه تعالى لهذا الوجود كله لكي يصل إلى غاياته القصوى،و إلى كماله الأتم،و ذلك من خلال تجليات أنوار النبي

ص: 126

[صلّى اللّه عليه و آله]و أهل بيته الأطهرين فيه،الذين هم العلة الغائية لهذا الوجود،وفقا لما أشار إليه الحديث القدسي:«لولاك لما خلقت الأفلاك» (1).

ثم هو تعالى يريد أن يهدينا بهم صلوات اللّه و سلامه عليهم ببيان ما أعده اللّه سبحانه لهم من كرامة،و نعيم،ليثير فينا الشوق للتأسي، و الارتباط القلبي بهم.

و كما يريد اللّه سبحانه أن يجعل معرفتهم[عليهم السّلام]بعذاب الكافرين،و اطلاعهم على حالهم من وسائل النعيم لهم،فإنه يريد أن يكون ذلك من وسائل خزي الكافرين.مع التأكيد على أن شفاء صدور المؤمنين لم يكن لأمور شخصية بل هو في سياق التشفي ممن يتمرد على اللّه و يستكبر عليه سبحانه..

ثم هو يريد أن يكون من وسائل الترهيب الموجب للانضباط لدى الذين قد يضعفون أمام شهواتهم و ميولهم،و إغراءات الحياة الدنيا،و كما أنه تعالى يريد أن يجعل الحديث عما أعده للأبرار،و هم أهل البيت عليهم السّلام،من أسباب إثارة الرغبة بالتأسي و الارتباط بهم،فإنه أيضا يريد أن يكون ذلك من أسباب إكرامهم و رفعة شأنهم.

و لأجل ذلك كان الحديث أولا عن مصير أولئك الكافرين و الجاحدين، ثم عقبه ببيان أنواع الكرامات لهم،و النعم عليهم[عليهم السّلام].

***

********

(1) بحار الأنوار ج 16 ص 406،و مستدرك سفينة البحار ج 2 ص 166.

ص: 127

ص: 128

الفصل الخامس: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً

اشارة

ص: 129

ص: 130

قوله تعالى:

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً.

«إِنَّ الْأَبْرارَ»:

و بعد أن بين سبحانه ما أعده للكافرين من سلاسل،و أغلال،و سعير..

و استبدل الحديث عن الشاكرين،بالحديث عن الأبرار.و هنا سؤالان:

الأول:ما المقصود بالأبرار؟!

الثاني:لم استبدل الشاكرين بالأبرار؟!..

الجواب:

إننا بالنسبة لهذين السؤالين نقول:

إن كلمة الأبرار جمع«برّ»و«بار».و هي تستعمل في المعاني التالية:

الصادق،المطيع،المحسن،الواسع،الصالح،القاهر.

و ليس بالضرورة إرجاع هذه المعاني إلى معنى واحد،فإن وضع العرب اللفظ الواحد للمعاني المتضادة،أمر شائع،مثل كلمة:«جون»التي تقال:للأسود و الأبيض،و كلمة:«قرء»التي تقال:للطهر و للحيض في المرأة و غير ذلك.

و في جميع الأحوال نقول:

إنه لكي يصدق على البار أنه بارّ،لا بد أن يصدر عنه فعل البر بقصد و اختيار،بأي معنى استعملت كلمة البر..

ص: 131

و بهذا القيد الأخير يعرف الفرق بين البر،و بين الخير.فإن الإنسان قد يفعل الخير،و لكن من دون قصد إليه،بل يتخيل أنه شر،أو أنه ليس متصفا بالخيرية،و لأجل ذلك تجده تعالى يقول: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ (1).

و إذ قد اتضح لنا المراد بالبر،فإنه يتضح لنا الجواب على السؤال عن سبب استبدال كلمة الشاكرين،بكلمة الأبرار.

فإن كلمة شاكر خاصة بمعنى من ظهر منه العرفان بالجميل،كردة فعل طبيعية تجاه المنعم،فيبادر إلى فعل ما يظهر حالة الشكر هذه..

لكن كلمة الأبرار تستبطن كل هاتيك المعاني الواسعة في دلالتها، و في إيحاءاتها..

و بذلك يتضح أيضا:لما ذا لم يعبر بكلمة«المؤمنين»بدلا من كلمة «الأبرار»،إذ قد لا يفهم من هذه الكلمة سوى حالة واحدة،هي الإشارة إلى الحصول على حالة الأمن في ظل اعتقاد بعينه،و هو معنى قد حشر في زاوية صغيرة و محدودة..و بذلك ينحسر المعنى عن الآفاق الرحبة التي تتولى كلمة الأبرار الكشف عنها،و الدفع إليها..

انسجام المعاني..مع الآيات:

فاتضح:أن كلمة الأبرار تستبطن معان واسعة لها أهميتها البالغة،و لها ارتباط وثيق بمعان و صفات و مزايا تريد الآيات التالية أن تؤكد عليها.

و هي كما قلنا ستة معان،مشروطة أيضا بالقصد و الاختيار،فهي تشير إلى معنى القاهرية،الذي يلمح إلى قهر الإنسان للشيطان،و لجم

********

(1) سورة البقرة الآية 216.

ص: 132

نفسه الأمارة بالسوء،و السيطرة عليها،و كبح جماح الشهوات،و الغرائز و الرغبات،و ذلك معناه:أن هذا الإنسان يملك قوة،و عزيمة،و إرادة، و حرية اختيار،و مبادرة عملية.

و صفة الصالح التي تذكر في جملة معاني البر،تشير هي الأخرى هنا إلى صلاح الفاعل،و أنه متوازن في نفسه،منسجم مع ما يؤمن به من معان و قيم،و لا يدخل مداخل السوء،بل هو يصلح الخلل في كل مورد يدخل فيه،تربويا كان أو اجتماعيا،أو سياسيا،أو غير ذلك،لأن دخوله هذا يكون في موقعه..

و اللافت هنا:أن من الأمور التي تظهرها الآيات القرآنية،هو:أن الصلاح هو المرتكز و الأساس الثاني بعد مرتكز الإيمان..

و هذا ما يفسر لنا السبب في أن اللّه سبحانه يقرن بين الإيمان و بين العمل الصالح في مختلف الموارد.و العمل الصالح هو ذلك الذي يأتي في محله و في موقعه المناسب،بحيث يوجب فقدانه منه خللا فيه..

أما صفة الواسع،التي هي معنى آخر لكلمة«البر»،فهي تعني هنا رحابة الأفق،و الوعي الشامل،و سعة الصدر،و فتح القلب للغير،و القدرة على استيعاب الآخرين،و على التعامل معهم،فلا انغلاق و لا انطواء، و ليس ثمة من قيود أو حدود لميزاته و صفاته:في روحه،و في عقله، و في أخلاقه،و في كل خصائصه الإنسانية.

و المطيع أيضا يحمل هنا معنى العبودية للّه سبحانه،و الطاعة له، و الانسجام معه،على أساس ما يملكه من معرفة عميقة بكماله المطلق سبحانه،و بالحاجة الحقيقية إليه تعالى..

أما الشاكرية فهي تعني الشعور الحقيقي بالنعم،و الألطاف،و العنايات

ص: 133

الربانية.و هذا يحتاج إلى التحمل،و الصبر و المكابدة،ثم هو تعبير صادق عن الإيمان الحقيقي،و الوفاء،و الرجاء،و الخوف من يوم كان شره مستطيرا..

و الإطعام الذي ظهر منهم هو من مظاهر الشكر من جهة،و من مظاهر البر بجميع معانيه من جهة ثانية،و بذلك يكون تعالى قد أشار إلى جميع المعاني و الجهات المفترضة و المطلوبة..

و المحسن،و كذلك سائر الصفات التي ذكرت لكلمة«البر»تحمل في طياتها معاني السماحة و الكرم،و الإيثار و الشعور بآلام الآخرين،و الزهد.

و أخيرا،فإنه قد ذكر في جملة تلك المعاني كلمة الصادق،و هو معنى هام جدا،و له دلالاته المختلفة في تأكيد صحة ما سيخبر به الأبرار في قصة إطعامهم للطعام..

و تلك المعاني كلها تجدها،أو تجد ما يعبر عنها،أو ينطلق منها،أو ينتهي إليها في آيات السور المباركة التي تتحدث عن الأبرار،و ما قاموا به،و ما أعده اللّه سبحانه و تعالى لهم..

فكلمة الأبرار تعني القاهرية.و الأبرار من خلال قاهريتهم،و من موقع اختيارهم و إرادتهم يفجرون عيون الخير تفجيرا،و هم أيضا يفعلون ذلك من خلال عبوديتهم له تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ لا لأجل دنيا،و لا لأجل الانقياد لغريزة أو غيرها..

ثم إن كلمة الأبرار تستبطن السيطرة على النفس،إلى درجة عدم الاستجابة لرغبتها الشخصية،و تقديم مصلحة الغير على مصلحتها،لأنهم:

يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً..

كما إن من معاني البر«المحسن»،فالآية إذن تستبطن الإيثار،و الكرم، و الإحسان،لأنهم يطعمونه،لا طمعا بمكافأة،بل انقيادا للّه،و طاعة له..

ص: 134

و هم يفعلون ذلك بوعي،و عن قصد و اختيار،كما تفيده كلمة الأبرار-كما أسلفنا..

و هم يخافون يوما عبوسا قمطريرا،أو كان شره مستطيرا..

و هم مسيطرون على شهواتهم،و قاهرون لأنفسهم،و للشيطان..في ميلها و حبها للطعام،بسبب حاجتها له،و هو أيضا من وسائل قربهم إلى اللّه تعالى،فهم لا يأكلون استجابة لشهواتهم،بل لحفظ أنفسهم،و هو واجب عليهم،و للتقوّي على الطاعات،و هو محبوب للّه أيضا..

و هم يوفون بالنذر،و هذا ما تستبطنه كلمة الأبرار،لأنهم صادقون..

إذن فكلمة البر تستبطن جهات عديدة:

منها ما هو إنساني..

و منها ما هو اجتماعي في مجالات التكافل،و الشعور مع الآخرين.

و منها ما هو إيماني..كالخوف من اليوم الآخر..

و منها ما هو داخل في التكوين النفسي،و قوة الشخصية و سيطرة الإنسان على نفسه و على شهواته..

و منها ما يتعرض للحالة الأخلاقية..

و كل ما ذكرناه يدلنا على أنه لا مجال لاستبدال كلمة الأبرار بأية كلمة أخرى أبدا،و ذلك لما تحمله من إشارات،و دلالات،و إيحاءات،لا توجد في أي كلمة سواها..

استعمال المشترك في أكثر من معنى:

و لعلك تقول:إن هذا الكلام في بيان سبب اختيار كلمة«الأبرار» يبتني على إمكانية استعمال المشترك في أكثر من معنى،و قد نفى ذلك

ص: 135

صاحب كتاب كفاية الأصول،و غيره،على اعتبار أن الاستعمال هو لحاظ اللفظ فانيا في المعنى،و بعد أن فني في المعنى الأول،فيستحيل لحاظه فانيا في غيره في آن واحد،و في استعمال واحد.

و نقول في الجواب..

أولا:إن تفسير الاستعمال بذلك غير ثابت،بل ربما يكون خلافه هو الأصح،أو أنه-على الأقل-هو الأرجح..

ثانيا:إن الوقوع أدل دليل على الإمكان،و نحن نرى:أن العرب يستعملون التورية في محاوراتهم.و التورية هي القصد إلى معنى،مع إرادة إفهام السامع معنى آخر منه،و قد يكون المراد إفهام كل فريق معنى،يختلف عما يراد إفهامه لفريق آخر.

فمن الثاني:ما ذكروه من أن بعضهم أجاب على سؤال:من كان الخليفة بعد الرسول[صلّى اللّه عليه و آله]،بقوله:من كانت ابنته تحته (1)..

فالسني فهم أن الخليفة هو أبو بكر،لأن ابنته كانت تحت رسول اللّه [صلّى اللّه عليه و آله].و الشيعي فهم أنه الإمام علي[عليه السّلام]لأن ابنة الرسول[عليها السلام]كانت زوجة للإمام علي[عليه السلام].

و من الأول:ما روي عن الإمام الصادق[عليه السّلام]،حين سئل عن الهلال،فقال[عليه السّلام]:ذاك إلى الإمام،إن صام صمنا،و إن أفطر أفطرنا..

و حين طلب معاوية من عقيل أو من غيره:أن يلعن عليا على المنبر،قال:ألا إن معاوية قد أمرني بلعن علي بن أبي طالب،ألا فالعنوه.

و أمثال ذلك كثير..

********

(1) بحار الأنوار ج 104 ص 17،و شجرة طوبى ج 1 ص 267.

ص: 136

ثالثا:إن دلالة كلمة الأبرار على معانيها،لا يجب أن تكون بنحو استعمال المشترك في المعاني المتباينة،بل قد تكون الدلالة من خلال وجود حالات و خصوصيات للفظ تمكنه من تحمل المعاني المختلفة..

كما أن من الممكن إرجاع العديد من المعاني إلى معنى أوسع،يصلح للانطباق عليها جميعا،كل في موقعه،و هو ما يعبر عنه بالقدر المشترك،الذي تتعاقب عليه،أو حتى تلتقي فيه الخصوصيات المختلفة،بل المتباينة..

«يشربون»:

و اللافت هنا:أن اللّه سبحانه حين ذكر جزاء الأبرار بدأ بالشراب،لا بالقصور،و لا بالأشجار و الأنهار،و لا بغير ذلك من أنواع الفاكهة، و المطعومات،و لا غير ذلك من النعم المختلفة.

و لعل سبب ذلك هو ما ثبت من طرق السنة و الشيعة،من أن أول علامات النجاة في يوم القيامة،هي الشرب من حوض الكوثر،من يد إمام الأبرار،و قسيم الجنة و النار،الإمام علي أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام،و ذلك هو المنقذ في يوم العطش الأكبر (1)..

و بالمناسبة،فإن البشارة التي بشّر بها علي الأكبر أباه،حين استشهاده هي قوله:«هذا جدي رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها» (2)،أو بقوله:«إن لك كأسا مذخورة» (3).

********

(1) راجع كتاب المزار ص 335.

(2) بحار الأنوار ج 45 ص 44،و العوالم ص 287.

(3) راجع:مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 و العوالم(مقتل الحسين عليه السّلام)ص 95 و مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ص 324.

ص: 137

و من جهة أخرى:فإن بعض الروايات تذكر:أن آخر ما يحاول فيه إبليس أن يضل به الإنسان هو:أنه حين يحضره الأجل يعطش عطشا شديدا،فيعرض عليه إبليس قدحا من ماء،و يقول له:

«إن سجدت لي أسقيك منها،فإذا سجد له،لم يسقه أيضا منها، و يموت كافرا»..

«من كاس»:

ثم إنه قد جاء التعبير في الآية بكلمة«كأس»دون كلمة قدح،أو كوب.ثم إنه قال: مِنْ كَأْسٍ ، و لم يقل بكأس..فلما ذا يا ترى كان ذلك؟

و للإجابة على ذلك نقول:

يقول أهل اللغة:إن القدح قد يكون مملوءا،و قد يكون فارغا.

و كذلك الكوب.أما الكأس،فلا تكون إلا مملوءة،فلا يقال:أعطني كأسا فارغة مثلا..

و ذلك يوضح لنا:أن اختيار كلمة«كأس»إنما هو لأجل بيان حالة الوجدان المستمر و الدائم لما يشربونه،فهي دائمة الاتصاف بكونها كأسا..

و بذلك يكون تعالى قد جعل الأبرار يعيشون:

1-لذة الشرب..

2-لذة الطمأنينة إلى وجدان مشروبهم..

3-لذة استمرار وجدانهم له.

فما دامت الكأس موجودة،فلن يواجههم عطش بعد الآن،فتتوافق اللذة القلبية الشعورية مع لذة الحس بالمشروب،و موافقته للمطلوب..

و بهذا يتضح أيضا سبب التعدية ب«من»لا ب«الباء»..

ص: 138

فأولا:إن الباء في مثل هذه المواضع يفهم منها أن في مدخولها معنى الآلة و الوسيلة لإيصال الشارب إلى مشروبه،و ذلك معناه:أن الوسيلة و الآلة شيء،و ما يراد التوسل بها إليه ليس موجودا فيها بالفعل، بل هي فاقدة له،مع أن كلمة«كأس»تشير إلى حصول الامتلاء لها، و أن ما يريده الشارب موجود فيها فعلا.فالإتيان بالباء لا يصلح هنا،إذ قد يتوهم من الباء،ما يتنافى مع إرادة التطمين بوجود المقصود كما أشرنا..

و ثانيا:إن كلمة«من»تفيد التبعيض،ففيها إيحاء،بأن المشروب لن ينفد من ذلك الكأس،بسبب الشرب منه،مهما تعدد هذا الشرب،أو تواصل..فهي دائمة الاتصاف بكونها كأسا..و دائمة الاحتواء على ما يشرب،ما دام أن ما يشرب هو بعض ما فيها،حسبما أفادته كلمة«من» التبعيضية..

«كان مزاجها»:

أما لما ذا جاء بكلمة«كان»في قوله كَأْساً كانَ مِزاجُها، مع أنه كان يمكن أن يقول:«كأسا مزاجها».

فقد يقال:إن السبب فيه هو أن تصير كلمة«كافورا»منصوبة،مراعاة للناحية الجمالية،الناشئة عن التناسق الظاهر من رعاية القافية في الآيات السابقة و اللاحقة..

غير أننا نقول:

إننا لا نمانع في أن تكون الناحية الجمالية مقصودة أيضا،لما لذلك من تأثير في الراحة النفسية للقارئ و السامع،و لغير ذلك..

و لكن ليس ذلك هو كل السبب،إذ لعل السبب الأولى و الأهم هو

ص: 139

أن كلمة«كان»تدل على الكينونة و التحقق.و لا شك أن إفهام هذه الكينونة للأبرار،و من يريد اللّه تعالى أن يهديهم سبيل الأبرار مطلوب و محبوب،أي أنه يريد أن يقول لهم:إن هذا المزاج ليس أمرا عارضا، يمكن أن يزول و يتخلف،بل هو أمر داخل في كينونة تلك العين،و في عمق حقيقة ما يحويه ذلك الكأس..

و لأجل ذلك جاءت كلمة«عينا»..لتؤكد على أن هذه الكأس لا تقبل النضوب،بل هي عين تتفجر،و المزاج الكافوري داخل في حقيقة تلك العين،و تلك الكأس،و في كينونتها و وجودها..

و كلمة«كان»هنا..هي نظير كلمة«كان»الواردة في قوله تعالى:

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً، حيث تفيد ثبوت ذلك و تحققه بصورة لا تقبل التغير و التبدل.

«مزاجها كافورا»:

و يبقى سؤال:لما ذا قال:«مزاجها كافورا»،و لم يقل:«مزجت بكافور»؟.

و يمكن أن يكون الجواب:هو إرادة بيان هذه الكينونة،و الأصالة، و الثبات للمادتين الممتزجتين،و أن المزاجية أيضا قد جاءت في أصل التكوين و النشأة..

و لو أنه قال:مزجت،لكان المزج عارضا على أمرين كانا منفصلين بالأصالة،و ليس للتمازج أصالة في نفسه.مع أن المقصود هو بيان أن التمازج أصيل في نشأة هذه الحقيقة القائمة فيما يشربونه من هذا الكأس.

و الخلاصة:أن المراد هو إفهامنا:أن الأصالة للمزاج و للممزوج، و ليست للممزوج وحده..

ص: 140

و أما السؤال عن السبب في أنه يريد بيان هذه الأصالة لكلا الأمرين؟!.

فتتضح الإجابة عنه من خلال وضوح السبب في اختيار الكافور هنا، و الزنجبيل فيما يأتي..

«كافورا»:

و يلاحظ أنه تعالى قد ذكر الكافور هنا،دون الزنجبيل الذي ذكره في آية ستأتي..

و لعل سبب ذلك هو:أن للكافور خصوصية تناسب حياة الأبرار في هذه الدنيا،و للزنجبيل خصوصية تتناسب مع اعتباره جزاء للأبرار في الآخرة..

إذ إن للطيب المسمى بالكافور خصوصيات،و يرمز لأمور يحسن للأبرار اختيارها،و التحلي بها،لأنها تناسب حالة البر فيهم.

فالكافور طيب طيّب الرائحة،يبعث في النفس نشوة و ارتياحا..

و من خصوصياته:أن فيه صفة البياض و النقاء..

و هو يرمز إلى الطهارة و الصفاء.

و من خصوصياته:أنه يطغى على كل ما عداه،و يهيمن عليه،فلا مجال لما هو كريه،و مؤذ،بل لا بد له من أن يتلاشى و يختفي..

و منها:أنه كافور،أي قادر على أن يغطي،و يطمس،و يخفي كل ما لا يكون مناسبا،و كل ما هو مكروه و منفر..

و هو يهيمن حتى على بعض الغرائز،و يقهرها،و يضعف من طغيانها،حيث يقال:إن له بعض الأثر في الغريزة الجنسية..

و فيه أيضا صفة البرودة،التي قد يقال:إنها ترمز إلى حالة الهدوء

ص: 141

و التأمل و التعقل..

و كل ذلك يرمز إلى حالات نفسية،و صفات و مزايا يرغب بها الأبرار،و يسعون إليها،بحسب المعاني المتكثرة التي تختزنها كلمة:

«الأبرار»حسبما ألمحنا إليه فيما سبق.

و لكن ذلك كله في الحدود التي رسمها اللّه لعباده،من دون ابتداع في الدين لما لم يكتبه اللّه على الناس..

و الأبرار هنا هم الذين يشربون،أي يختارون الشرب من كأس مزاجها كافورا،كما يختارون سواه،مثل أنهم يوفون بالنذر،و يطعمون الطعام،و يخافون،و..الخ.

فكلمة«يشربون»كأنها تشير إلى معنى كنائي عن دخول الإيمان و الإخلاص و التقوى،و العمل في عمق وجودهم،فهو كما يقال:شرب كأس الموت،و شرب كأس العلم،و ما إلى ذلك..

فهي عين لا تنضب،بل تستغرق كل وجودهم،و تفجر فيهم الطاقات الإنسانية،تفجيرا،كما سيأتي.

حذف متعلق الشرب:

و ربما يمكن تأييد أن الحديث إنما هو عن فعل الأبرار في هذه الدنيا، بأن المتعلق للشرب لم يذكر في الآية.فلم يقل:يشربون أي شيء!!فهل يشربون ماء ممزوجا بالكافور؟أم يشربون لبنا،أم عسلا،أم ما ذا؟!

و ربما يكون ذلك لإفساح المجال لفهم ذلك المعنى الكنائي المستوعب،لكل ما تقتضيه صفة الأبرارية،التي تتسع للعديد من المعاني،و تكون معاني الأبرارية فيهم هي التي جعلتهم يفجرون تلك العين تفجيرا عظيما..

ص: 142

المزاج متأصل في عمق الذات:

و إذا تابعنا المعنى في سياقه الكنائي هذا،و تجاوزناه إلى كونه قادرا على الإلماح إلى المعاني التي يراد الإيحاء بها إلينا على سبيل التعلم و الإرشاد لكونها ممكنة في حقنا،و إن كانت غير متصورة في حق الأبرار،و هم الأئمة الأطهار عليهم السّلام،فإذا تابعنا المعنى في هذا السياق فإنه يصبح بإمكاننا تصوره حقيقة كامنة في داخل وجود البشر و ذواتهم..فنتصور النفس الأمارة،التي تسعى في العادة لإثارة روائح كريهة،قد أصبحت أسيرة النفس اللوامة،و يهيمن عليها العقل،و الشرع، و الفطرة الهادية،و غير ذلك من وسائل الهداية،التي أصبحت بمثابة الكافور الذي يهيمن على وجودهم كله بروائحه الطيبة و الذكية،و القاهرة و القوية،و يبعث في النفس طمأنينة و سكونا،و بردا،و هدوءا،يحجزها عن التوثب لما هو حرام،و تحتفظ-من ثم-بحالة النقاء و الصفاء، و الطهارة،التي تتجلى للناس طيبا كافوريا،رائعا و قويا..

و تصبح النفس الأمارة مع الكافورية في عناق،و في انسجام،و تمازج حقيقي،و تصير أمارة بالصلاح و بالخير و بالتقوى،بعد أن كان من المفروض أن تكون على ضد ذلك،و تتحول بذلك هي و النفس اللوامة إلى بركان يفجر و يثير كل كوامن الخير و الصلاح في تلك العين الغزيرة، و يفجرها تفجيرا قويا بوسائل قادرة على هذا التفجير..

و هذه الأصالة الحقيقية،و التمازج الراسخ،و النابع من عمق الذات،يجعل كل قوى النفس:من غريزة،و طموح،و ميزات و صفات-يجعلها-طافحة بالخير،و تمثل طاقة و عنفوانا له،و ثورة فيه،و تصبح كل هاتيك الغرائز و الطموحات يهيمن عليها كافور النفس اللوامة،مغمورة به،يتعاونان على إنتاج المزيد من النقاء،و الطهر،و الخلوص،و الصفاء..

ص: 143

الأبرار..و عباد اللّه:

ثم إنه تعالى قد عبر أولا بالأبرار،ثم ساق الحديث باتجاه عباد اللّه، فقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ ..

و ربما يكون ذلك-وحده-مبررا للاعتقاد بأن المراد بالأبرار في الآية،موجودات عالية جدا،تجلت بهم صفات البر بصورة حقيقية و تامة،فاستحقوا هذا المقام المحمود..و هم خصوص أهل البيت[عليهم السّلام]الذين لا بد أن يكونوا الأسوة و القدوة للناس جميعا.

و الحقيقة هي:أن أبرارية أولئك الأطهار صلوات اللّه و سلامه عليهم، كانت هي الطريق الذي أوصلهم إلى درجة العبودية الحقيقية،التي هي أسمى مقام،و أشرف و سام..كما أشرنا إليه أكثر من مرة..

فالعبودية بالمعنى الأتم،قد تجلت في النبي الأكرم[صلّى اللّه عليه و آله]،في أهل بيته الأبرار الأطهار عليهم الصلاة و السّلام..

و هذا يعطينا:أن الآية لا تريد فقط أن تحدد الأسوة و القدوة للناس..

و إنما تريد أن تقول أيضا:إن الأبرارية قد أوصلت الأبرار إلى مقام العبودية..

و أخيرا نقول:

إنه تعالى قد تحدث عن فعل الأبرار بصيغ تناسب الحياة الأخروية.

فقال سبحانه: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.. و ذلك لكي يجسد لنا مدى فاعلية و تأثير تلك الصفات،و مدى أهميتها،و حسنها،و خلوصها..ليدفعنا إلى سلوك طريقهم،و الالتزام بنهجهم،و الاهتداء بهديهم،و الاقتداء بهم..

ص: 144

اختلاف سياق الآيات:

و الذي يقرأ آيات هذه السورة يجد أن السياق قد اختلف في بيان النعم الإلهية للأبرار..

فهو حين ذكر صفات أفعال الأبرار،لم يذكر أي نعمة،إلا نعمة الشرب من عين كان مزاجها كافورا..كما أنه قد اعتبر أن هذا الشرب هو فعل للأبرار،يمارسونه باختيارهم و بإرادتهم..و أنهم هم الذين يثيرون العين التي يشربون منها،و يفجرون ماءها تفجيرا..

و هذا السياق منسجم تماما مع السياق الذي بيّن به صفات أفعالهم في الدنيا..

و كأنه يريد أن يقول لنا:إن هذا الشرب،و إن كان أخرويا،لكنه لم يأت على سبيل الجزاء،و إنما جاء تجسيدا لفعلهم في الدنيا،فهو شبيه بفعل المطاوعة الذي هو نتيجة الفعل من الفاعل،كما في قولك:كسرته فانكسر،أو لويته فالتوى،و نحو ذلك..

و لأجل ذلك،نسب الشرب إليهم،و أنه..بفعلهم و اختيارهم،ثم ذكر أن ما يشربونه يكون مزاجه من جنس الكافور.أما الذي سوف يعطى لهم على سبيل الجزاء،فهو من جنس آخر،و هو الزنجبيل،و سيأتي إن شاء اللّه الحديث عن الفرق بينهما،و عن سبب اختيار«الزنجبيل»بالذات..

للتوضيح و البيان:

و لكي تتضح الخصوصية التي أراد اللّه سبحانه أن يفهمنا إياها من خلال التبديل السياقي للآيات،نقول:إنه تعالى حين أراد أن يصف حالهم و أعمالهم قال: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.

ص: 145

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.

وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً...

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً* إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً.

و حين جاء دور الجزاء الإلهي لهم،نجد السياق يتغير،فهو تعالى يقول:

فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ .

وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً.

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً.

و يقول أيضا:

لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً.

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها.

وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً...

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ...

و يقول سبحانه:

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً.

فلم يقل:يشربون.بل قال: يُسْقَوْنَ ، فنسب الفعل لغيرهم.

و لم يقل:بكأس.و لم يقل:كافورا.كما أنه،و إن كان قد وصفها بأنها عين،و لكنه لم يذكر تفجيرها من قبل الأبرار..

ص: 146

ثم إنه تعالى يتابع بيان ما يجزيهم به..إلى أن يقول: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.

و ذلك كله يفيد:أن ثمة معان،و خصوصيات معينة،يريد اللّه سبحانه لنا أن نتوجه إليها،لأنها ذات قيمة و أهمية تفرض علينا أن نثقف أنفسنا بها.

كل ما في القرآن مهم لنا:

و ملاحظة أخرى نسجلها هنا هي:أن نفس اختيار اللّه سبحانه من الأواني ما هو من الفضة،و من الأكواب ما هو قوارير،و من العين ما يسمى بالسلسبيل..يؤكد لنا على حقيقة:أن ثمة معان دقيقة يريد لنا أن نتلمسها،و مقاصد هامة يريد لنا أن ننالها،و غوامض يريد لنا سبر غورها، و أن ثمة أسرارا لا بد من الوصول إليها.

و حيث إن الحديث قد بلغ بنا إلى هنا،فإنني أحب لفت النظر إلى أمر هام،هو:

أن البعض قد يدّعي:أن أمثال هذه الأمور التي نتوقف عندها ليست بذات أهمية..ثم هو يحاول التشنيع علينا بالقول:إن الغربيين قد وصلوا إلى القمر،و فقهاؤنا و علماؤنا لا يزالون يبحثون في أحكام الحيض و الاستحاضة..

فلما ذا ندقق في المراد من الأرائك،و لما ذا نبحث عن السلسبيل، و عن القطوف الدانية،و عن الأكواب من فضة،و عن عرش بلقيس،و عن الطوفان،و عن صنع السفينة،و عن قصة الهدهد،و عن آية تحريم ما حرمه النبي[صلّى اللّه عليه و آله]على نفسه يبتغي مرضاة أزواجه،و عن الحيض،و عن شكوك الصلاة،و عن الاستئذان قبل صلاة الفجر،و عن آية

ص: 147

الدين التي هي أطول آية في القرآن..إنه يقول:إن البحث عن ذلك و عن نظائره:لا يجدي،و لا يفيد شيئا.

و أن اللازم هو البحث عن الإسلام السياسي،و عن النظرية الاقتصادية الإسلامية،و عن دور المرأة في السياسة،و عن ديمقراطية الإسلام،و عن العولمة،و عن حركة الأرض،أو حركة الشمس،و عن..و عن..

و نقول:

إن هذا كلام باطل جزما،و لا يحق لأحد أن يطلق مثل هذه الدعاوى،التي تستبطن الاعتراض على اللّه سبحانه..فإنه إذا كان اللّه سبحانه يريد أن يفهمنا هذه الأمور،و إذا كان الرسول هو الذي ذكر لنا ذلك كله،و غيره حتى أحكام الحيض و غيرها،فإن اللّه و رسوله أعلم بما يصلحنا،و إن البشر أذل و أحقر من أن يعترضوا على مقام العزة، و الجلال،و العظمة الإلهية،و على ساحة قدس الرسول الأعظم[صلّى اللّه عليه و آله]..

على أن من البديهي:أن أحدا ممن يسعى لكشف الحقائق القرآنية و غيرها،لم ينكر لزوم ممارسة جميع العلوم النافعة الأخرى أيضا..و لكن بشرط واحد،و هو حفظ التوازن و معرفة الناس لأحجامهم،و لحدودهم، فلا ينصبون أنفسهم آلهة،و يحكمون بدون روية،و من دون علم،في أمور يقول خالق الكون و الحياة،و الحكيم العليم،و البصير الخبير،إنها ضرورية،و هامة،و حساسة،و لا بد منها،و لا غنى عنها..

علما أنه حتى الثقافة الدينية أيضا،لا بد أن تكون متوازنة و شاملة للأخلاق،و العبادات،و التفسير،و الحديث،و الأحكام،الخ..فإنه لا يغني شيء عن شيء،فكل شيء لا بد منه في موقعه،إذ إن الإخلال به،فيه

ص: 148

إدخال للنقص على موقع يفترض أن يكون على غير تلك الصفة،و لربما يكون الإخلال به إخلالا بالمسيرة الحياتية،و بسعادة الإنسان،فإنه لا يمكن أن يسد الصعود إلى القمر،الفراغ الذي يحدثه الجهل بأحكام الحيض،أو بأحكام الشكوك في الصلاة،أو بأحكام البيع،أو ما إلى ذلك.و لا تسدّ أحكام الحج الفراغ في أحكام الصوم،و في النواحي الأخلاقية،أو في فهم معاني القرآن و مراميه..الخ..

كما أن ما هو ضروري في الحياة لا ينحصر في الأمور المادية،و لا في اختراع الآلات المتطورة.فقد يستغني الإنسان عن هذه الاختراعات، و يستغني عن الصعود إلى القمر،و لكنه لا يستغني عن الصلاة،و لا عن أحكام الحيض و الجنابة مثلا..

و قد عاشت البشرية المئات و الآلاف من السنين،بدون كل تلك الاختراعات،و لكنها لم تستغن عن الصدق،و عن الوفاء بالوعد،و عن..و عن..

إن كل ما يريد اللّه أن يعلمنا إياه مهم جدا لنا أما الذي لا يهتم اللّه تعالى و رسوله[صلّى اللّه عليه و آله]به،فإن بإمكاننا تأجيله،أو حتى الاستغناء عنه..

إن اللّه سبحانه يريد أن يبني الشخصية الإنسانية(على المستوى الشخصي،و الاجتماعي،و السياسي،و غير ذلك)بناء متوازنا..لأن أي خلل يحدث في أي جهة من جهات وجود الإنسان،و حياته،فإنه سيؤثر سلبا على الجهات الأخرى،حتى في حياته الاقتصادية و الاجتماعية،و غير ذلك.

كما أنه حين يستجمع الإيمان بالغيب كل عناصره،فسيكون أثره الإيجابي في حياة الإنسان أكثر بروزا مما لو كان في بعض جوانب هذا الإيمان خلل أو نقص،فإن ذلك سيؤثر على درجة الالتزام،و على

ص: 149

التفاعل مع العبادة،و على الطاعة،و على درجة الإخلاص في العمل، و الخلوص في النوايا..

بل نحن بحاجة إلى جميع ما حكاه اللّه عن الماضين،و عن أحوال الدنيا..كقصة الطوفان،و عرش بلقيس،و ما جرى للهدهد.و تهديدات سليمان له..ثم اكتشافه عرش بلقيس..و حمله إليها رسالة النبي سليمان [عليه السّلام].و إلى المعرفة بصناعة النبي نوح[عليه السّلام]للفلك،و ما إلى ذلك،لأن القرآن قد حكى ذلك كله لنا،ليثقفنا به،و ليبني به شخصيتنا و مفاهيمنا،و مشاعرنا و الخ..و ما ذلك إلا لأن الإسلام كل متكامل،يريد أن يبني عقل الإنسان،و فكره،و عقيدته،و ثقافته،و عاطفته، و مشاعره،و مفاهيمه،و مزاياه،و خصائصه الأخلاقية،و غرائزه،و حتى بنيته الجسدية أيضا..

و يريد أن يبني المجتمع الإنساني وفق ضوابط و قواعد،و قيم.و إن أي خلل يحدث في أي موقع و أية جهة،فسوف يؤثر سلبا على الجهات الأخرى،و ليس بالضرورة أن نكتشف نحن ذلك الفساد و كيفياته، و حالاته،و تأثيراته..

فليس لأحد أن يصنف قضايا الدين و الإيمان،و معارف القرآن، فيقول:هذا مهم،و هذا ليس بمهم.فإن إثارة شعور من هذا القبيل فينا سيؤثر على طاعتنا للّه،و على معرفتنا به،و قربنا منه،و على حميمية مشاعرنا تجاهه.

فإذا كان هناك ما ليس بمهم،فاللّه تعالى هو الذي يحدده،و يشير إليه.و أما ما اهتم اللّه و رسوله به،فسجله اللّه في كتابه الكريم،و كلّف جبرئيل بتنزيله،و أوكل إلى النبي[صلّى اللّه عليه و آله]تبليغه،و كتاب الوحي بتدوينه،و الألسن بتلاوته،و الملائكة بتسجيل الثواب عليه؟!..

ص: 150

فلا بد أن يكون مهما لنا،تجدر بنا معرفته،و الاستفادة منه،و الاهتمام به..

و أ لا تعتبر هذه النظرة إلى ما جاء به الرسول الأكرم[صلّى اللّه عليه و آله]عن اللّه سبحانه،نوعا من الاستهتار و الاستخفاف باللّه و برسوله،.

و أ لا تدل على خلل في البنية الإيمانية،و نقص في الثقافة القرآنية؟!..

إن عدم إدراكنا لأهمية بعض الأمور،و عدم إحساسنا المباشر بفائدتها،لا يعني أنها عديمة الفائدة،أو قليلة الأهمية-أ ليس نعلم أن اللّه يقبل الصلاة بقراءة سورة الكوثر،و لا يقبلها بقراءة سورة البقرة،إذا نقصت منها آية واحدة؟!.

إن هذه التصنيفات المرتجلة،و التي تفوح منها روائح كريهة لنزعات الهوى،و تأثيرات إبليسية،و وسوسات شيطانية،لم تستند إلى أي دليل شرعي أو عقلي قطعي،و هي تحدث قطعا أضرارا بالغة في مختلف الحالات،و على جميع المستويات.

إن القرآن هدى للمتقين بكل كلماته و حروفه،و إشاراته و دلالاته، و في مختلف قضاياه،و قصصه و إخباراته،و في كل المجالات التي تحتاج إلى الهداية:و منها الأخلاق،و العقائد،و الأحكام..و..

إن مشكلتنا هي نقص الثقافة القرآنية و الحديثية عن الرسول الأكرم [صلّى اللّه عليه و آله]و الأئمة الطاهرين[عليه السّلام]ثم في التخمة القاتلة بالأفكار المسمومة التي تلقاها هؤلاء الناس عن أهل الضلال و الانحراف،و الانبهار غير الواعي بما يلقونه إليهم من زخرف القول غرورا،مع أنهم لو رجعوا إلى أنفسهم لوجدوا أنه ليس في كلام اللّه تعالى و رسوله[صلّى اللّه عليه و آله]و الأئمة[عليه السّلام]لغو و لا هذر،بل كله يأتي وفق الحكمة،و المصلحة،غير أن هؤلاء يقولون:نؤمن

ص: 151

ببعض الكتاب،و نكفر ببعض.

إن الإسلام يريد لنا ثقافة واحدة،منسجمة،و متوازنة،و عميقة، و صحيحة،و واقعية،لها طابع واحد،هو الواقعية التي لا يمكن إدراكها بدون الهداية الإلهية..و بدون ذلك فسيكون الخلل العظيم،و الخطر الجسيم في الوعي،و في الالتزام،و في التفكير،و في المشاعر،و في الصفات و المزايا،و في الصفاء الروحي،و في العلاقات،و في المواقف،و في السلوك،و في كل شيء..لأن للثقافة التأثير القوي و العميق في ذلك كله..

و آخر كلمة نقولها هي:

إن الجهل بالعقيدة ينعكس جهلا باللّه،و بالدين،و بالأحكام، و بالعبادات،و بالمعاملات،التي يكون لها بدورها انعكاساتها و آثارها السلبية على الفرد،و على المجتمع..

و الخلل في البنية الإيمانية ينعكس خللا في الأخلاق و السلوك و التعامل مع الآخرين،التي بدورها لها انعكاساتها و آثارها السلبية على العلاقات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية.

و الخلل في البنية الثقافية القرآنية يحدث تفاوتا في الفهم،و تباينا و انقساما في الآراء و المواقف،و يخلق حالة من عدم الانسجام،و عدم التوازن في المجتمع،لا يعود ينفع معها الحديث عن أولويات اقتصادية، أو سياسية،أو اجتماعية،أو غيرها..

و اللّه تعالى يريد أن يبني الإنسان بما هو إنسان من الداخل،كما يريد أن يبنيه من الخارج في وقت واحد،و يريد أن يبنيه في كل شئونه الروحية،و النفسية،و العقلية،و الفكرية،و المفاهيمية،و الثقافية،و العقائدية، و الأخلاقية،و المشاعرية،و العاطفية،الخ..

ص: 152

كيف يتحدث القرآن عن الغيب؟

و مهما يكن من أمر،فإن اللّه تعالى حين يخبرنا في كتابه الكريم عن الأمور الغيبية،التي لا ينالها العقل و الحس،فإنه يصوغ الفكرة بقوالب لفظية،كنائية،أو مجازية،أو غيرها،لتتمكن عقولنا من أن تنالها،ثم يحول هذا المعقول إلى شأن حسي،مشاعري،حياتي،و حيوي للإنسان..

فالقوالب اللفظية تقرب الغيب إلى العقل،ثم يحولها إلى الحس، لتنساب في المشاعر،و لتصبح جزءا من الكيان و الذات.

و هكذا الحال في مختلف شئون الدين،و الإيمان،و التشريع،و غيرها مما حملته لنا الآيات الشريفة،و الروايات الكريمة.

و قد جاءت بيانات هذه السورة المباركة وفق هذه القاعدة،فلنتابع البحث عن معاني آياتها،من خلال وعي مفرداتها..

***

ص: 153

ص: 154

الفصل السادس: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً

اشارة

ص: 155

ص: 156

قال تعالى:

عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.

و لنبدأ بالحديث عن مفرداتها فنقول:

«عينا»:

1-هل هذه الكلمة«عينا»بدل من كلمة«كأس»؟!..أم هي بدل من كلمة«كافور»؟!أم هي منصوبة على المدح،أم بنزع الخافض؟!..

بحث لا نريد الخوض فيه،و إن كنا نرى أن بدليتها من كلمة كأس أكثر انسجاما مع المعنى الذي يراد التركيز عليه،كما سيتضح..

2-على أننا قد أشرنا فيما سبق:إلى أنه تعالى يريد أن لا يتوهم أحد:

أن الكأس إذا شرب منه أو أريق بعض شرابه،سوف ينقص،أو سوف ينضب،الأمر الذي يجعل الطالب محتاجا إلى البحث عن بديل لما فقده..

فلذلك أخبر:أن هذه الكأس هي عين تفجر تفجيرا-لكي يفيدنا أربعة أمور،هي من الصفات الملازمة للعين..و هذه الأمور هي التالية:

الأول:أن العين نابعة،دائمة العطاء..

الثاني:أنها لا تنقص أبدا..لأنها دائمة التفجر..

الثالث:أن المدد لها لا يأتي من الخارج،بل هو ذاتي فيها..فلا خوف من الانقطاع،و لا من عدم الوصول..

الرابع:إفادة حالة التجدد و الاستمرار.

ص: 157

«يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ »:

ثم إنه تعالى،بعد أن أخبر عن فعل يصدر من الأبرار،جاء بهذه الآية لتفيد من خلال كيفية تركيبها،و من خلال التعبير بالفعل المضارع «يشرب»الدال على التجدد،و التوالي:أن هذا الشرب متيسر للأبرار باستمرار،فهو ليس أمرا عارضا،بل هو طريقة حياة،و قاعدة مطردة..فلا خوف من الحرمان،و الانقطاع،و لن يكون ثمة أي إحساس بالفقدان، و لذلك فلن يكون ثمة تشوق منهم لأمر غير حاضر و لا حاصل..

و قد أكد ذلك قوله«عينا»،حسبما تقدم،فانسجم الظهور السياقي، مع سائر الظهورات،و مع إيحاء الكلمات..

العبادية..و الشرب من العين:

ثم قدم سبحانه الدليل و التعليل،فذكر أن الأبرار إنما يشربون بتلك العين لكونهم عبادا للّه تعالى..فعباديتهم تقتضي أن يكون شربهم من عين لها تلك الميزات و الصفات..

«بها»:

و قد قال سبحانه: يَشْرَبُ بِها، و لم يقل:«يشرب منها»..مع العلم بأن اختلاف حروف التعدية يشير إلى اختلاف الخصوصية،فشربه، و شرب منه،و شرب به،و شرب فيه،كلها تشير إلى خصوصيات تختلف و تتفاوت،باختلاف حروف التعدية المستخدمة في المورد..

فلا مجال إذن لقبول قول بعضهم:إن شرب بها،و شرب منها،و شربها بمعنى واحد..

إذ إن شربها يفيد:أنه يشرب ما فيها كله،أو بعضه..

و يشرب منها،معناه:أنه يشرب من مائها..

ص: 158

و يكون المقصود من هاتين الجملتين هو بيان حالة العين و الكأس المشروبة..

أما لو قال يشرب بها..فالمقصود بيان حالة الشرب نفسه،على سبيل إشراب اللفظ لمعنى آخر غير معناه،ثم يتعدى هذا اللفظ بواسطة حرف جر يناسب هذا المعنى الجديد..

بيان ذلك:

إنك إذا أشربت كلمة«شرب»معنى الارتواء مثلا،فيصح تعدية كلمة «شرب»بالباء،فيقال:شرب بها،لتصبح دالة على أنه قد وصل إلى حد الارتواء بها..و أن هذا الارتواء إنما كان بواسطة الشرب،لا بشيء آخر..

إذ إن:الشرب قد يتحقق،و لكن لا يحصل الارتواء،كما أن الارتواء قد يحصل بغير الشرب.

و يكون المعنى في الآية:عينا يرتوي بها عباد اللّه.

و يكون المقصود بالباء معنى السببية،أي يرتوي عباد اللّه بسبب العين-ارتواء ناشئا عن الشرب منها..

فتضمين و إشراب كلمة«شرب»معنى الارتواء هو الذي أعطانا هذه الخصوصيات.

و لو أنه قال:يرتوي بها..فقد يتخيل:أن الارتواء قد حصل بغير الشرب.

فقولك:يشرب بها-قد مكنك من الاحتفاظ بالمعنيين،و الاستفادة منهما معا،و هما معنى الشرب و معنى الارتواء،في آن واحد..

و قد اتضح بما ذكرناه:أنه لا يصح أن يقول:يشرب منها،لأنه لو قال ذلك لدلت كلمة«من»على التبعيض،مع أن المقصود هو السببية.

ص: 159

و لمعنى التبعيض إيحاء مرغوب عنه في هذا المقام بالذات،و هو الإيحاء بدخول النقص على الشراب الذي في الكأس،بواسطة الشرب، مع أن الآية بصدد إبعاد هذا الوهم كما قلنا..

عباد اللّه،أم عبيد اللّه:

و جاء التعبير بكلمة«عباد»لا بكلمة«عبيد»،لأن العبيد إنما يرتبطون بأسيادهم من موقع مالكية الأسياد لهم،و سلطتهم،و سيطرتهم، و حكومتهم عليهم،و قد تكون هذه الحكومة غير مرضية من قبل المحكوم،حيث يشعر بالقهر،و يرغب من التخلص من ربقة هذه العبودية،ربما لأنه لا ينسجم مع سيده أو لأنه لا يحبه،و لا يرضاه في باطنه،و إن كان ربما يتظاهر بذلك لسبب أو لآخر..

أما العباد،فالرابطة بينهم و بين سيدهم هي الطاعة،و الانقياد، و الرغبة،و المحبة،و الأنس و الوله و الانسجام،و الاندفاع إلى التقرب من السيد..عن اختيار و رغبة من العبد..

فلا فرق بين العباد و العبيد،من حيث لزوم الالتزام بالطاعة للسيد، و الانقياد له،و لا في الإقرار بمالكيته و سلطانه.

لكن الفرق هو في جهات أخرى،تدخل في نطاق دواعي و دوافع هذه الطاعة،و في طبيعة العلاقة التي بين العبد و سيده.

و لأجل ذلك نلاحظ:جاء القرآن بكلمة«العبيد»في خمس آيات فقط، و ذلك في سياق كلامه عن الجزاء الذي لا بد أن يأتي من موقع السلطة، و القاهرية،و المالكية..

و أن ذلك الجزاء إنما هو بما قدمت أيديهم،فهو يقول: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (1).

ص: 160

و أن ذلك الجزاء إنما هو بما قدمت أيديهم،فهو يقول: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (1).

و يقول: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (2).

و قال: وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (3).

و قال سبحانه: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (4).

و لكنه قد عبّر بكلمة«عباد»فيما يقرب من مائة مورد..حيث إنه تعالى يريد أن يظهر ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة العلاقة بين الربّ و عباده..و أنها علاقة كرامة،و محبة و طاعة،و تقرب له من قبل العبد، فلاحظ: فَبَشِّرْ عِبادِ.

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ (5) .

يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ (6) .

و غير ذلك من الموارد التي تعد بالعشرات..

بل إنه سبحانه حتى حينما قال: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (7).

إنما نفى صفة الشكورية عن عباده،و لم ينف،و لا ينفي عنهم صفة الطاعة و الانقياد،و الرغبة في التقرب منه تعالى،و الأنس به..

********

(1) سورة آل عمران الآية 182.

(2) سورة الحج الآية 10.

(3) سورة فصلت الآية 46.

(4) سورة ق الآية 29.

(5) سورة الحجر الآية 42.

(6) سورة الزمر الآية 53.

(7) سورة سبأ الآية 13.

ص: 161

الأبرار..و عباد اللّه:

و قد أشرنا في ما سبق إلى ما ربما يكون سببا في التحول عن التعبير بكلمة«أبرار»إلى كلمة«عباد»..و قد قلنا:

إن البر يطلق على عدة معان،مثل:المحسن،و المطيع،و القاهر، و الواسع إلخ..و لكنها معان تبقى مطلقة و عامة..و قد أراد سبحانه أن يحددها، و يوجهها،و يربطها به تعالى،و يبين أن هذه الصفات للأبرار قد نشأت من كونهم عبادا للّه،يمارسون هذا البر كعبادة لهم،مختارين لها،و بدوافع الحصول على القرب و الزلفى..و مع مزيد من الحب للّه تعالى،و الأنس به.

«اللّه»:

و قد صرحت الآية بلفظ الجلالة،و أظهرته،حيث قالت: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ ، مع أن السياق يتجه بنا إلى توقع الإتيان بضمير المتكلم بصيغة الجمع،فيقول:«عينا يشرب بها عبادنا»..ليتوافق مع الآيات السابقة: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ .

نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ .

إِنّا أَعْتَدْنا.

فهذا الإظهار في موقع الإضمار،و تحول الكلام من كونه كلاما عن الحاضر المتكلم بصيغة الجمع إلى التصريح بالاسم،الذي يعني تحول مسار الكلام إلى الغائب،لعله يرجع إلى جهتين:

[التصريح بالاسم،الذي يعني تحول مسار الكلام إلى الغائب،لعله يرجع إلى جهتين:]

الجهة الأولى:

إن إظهار الاسم بدل إضماره،قد يكون:

1-لأجل التبرك به،مثل اللهم صل على محمد و آل محمد،فإن

ص: 162

العدول عن ضمير الغائب إلى التصريح مرة أخرى بكلمة«محمد»هو لأجل ذلك..

2-و قد يكون لأجل الاستئناس و التلذذ بذكره،و لعل المثال المذكور آنفا،آت هنا أيضا..و لعل منه قوله[صلّى اللّه عليه و آله]:

«حسين مني و أنا من حسين»،بدل أن يقول:«و أنا منه».فإن ذكر الحبيب باستمرار أمر لذيذ و محبب للنفس.

3-و قد يكون من أجل إظهار أهميته و قيمته العالية،و عظيم شأنه..

4-و قد يكون لمجموع ذلك كله،بالإضافة إلى الإيحاء بخصوصيات معان يحتاج الطرف الآخر إلى استحضارها.قد ذكرنا طرفا منها في عرضنا هذا..

فالتصريح بلفظ الجلالة في هذه الآية المباركة يحدث في ذهن المخاطب تداعيات لمعان كثيرة و متنوعة..فهو يحضر إلى الذهن معنى الألوهية،التي تستجمع صفات الذات و صفات الفعل،أو فقل:صفات الكمال:الجلالية،و الجمالية،بأسمى و أعمق معانيها..

و الإله هو العزيز،و هو الجبار،و هو الخالق،و الرازق،و الشافي، و العالم،و القادر،و الكريم،و الرءوف،و الرحيم،و الحي،و القيوم،و هو مصدر الحياة،و مصدر المعارف الحقة،و غير ذلك مما هو معلوم.

فهو إذن المستحق للعبادة،الذي يرغب الأبرار في تعظيمه و تكريمه لنفس مقام ألوهيته و حبا لذاته المقدسة،فإن هذه هي عبادة الأحرار، الذين وجدوا اللّه أهلا للعبادة فعبدوه و لم يعبدوه لمقام ربوبيته و حسب..

أما لو ذكره بصيغة الضمير،فقد لا يلتفت السامع إلى أي من المعاني و الخصوصيات التي ذكرناها.كما أنه استبدل كلمة«إله»،بكلمة«ربّ»،فإن

ص: 163

الإيحاء سيقتصر على خصوصية الربوبية،التي هي الخصوصية الأبرز،و هي تعني الرعاية من موقع الحكمة،و الفضل،و الحب.

و هذا نظير اسم حاتم الذي أصبح عند بعض الناس،يوحي بالكرم و السخاء،و اسم عنتر،الذي يذكّر بعض الذين يجهلون التاريخ، بالشجاعة-مع تحفظنا على صحة نسبة ذلك لعنترة و لحاتم،لأكثر من سبب ليس هنا مكان بيانه-فالتصريح بهذين الاسمين يحمل تداعيات الشجاعة و الكرم،إلى ذهن هؤلاء الناس بصورة عفوية..لكن لو تحدثت عنه بواسطة الضمير العائد إليه،فسوف تغيب هذه التداعيات عن ذهنك.

الجهة الثانية:

قد يقال:لو أنه جاء بالضمير فقال:«عبادنا»،فقد لا يلتفت إلى أنهم هم الذين اختاروا ذلك و فعلوه..بل قد يتخيل أن هذا الأمر قد عرض لهم بسبب الإلف،أو العادة،أو المحيط،أو الغفلة،فانساقوا إلى العبادية عن غير شعور،و اختيار،أو من دون تأمل و تفكير منهم..

و لكن إذا صرح بلفظ الجلالة،و قال:«عباد اللّه»،فإن ذلك يذكّر بالألوهية و بصفاتها،و بالجلال و الكبرياء،و يشعرنا بأن ألوهيته تعالى هذه هي التي جعلتهم يعبدونه،و يسعون للحصول على رضاه،و يتقربون إليه..

فشربهم من العين هو شرب استحقاق و جزاء على عبادتهم الاختيارية..و ليس لأجل أن معبودهم قد وضعهم في مواقع معينة،أو فرض عليهم وضعا أو سلوكا بعينه،ثم أعطاهم هذه العين في مقابل ذلك إرضاء لهم،و إن لم يفعلوا ما يوجب استحقاقهم لذلك..

و بتعبير آخر:لو قال«عبادنا»،لأمكن توهم أن عباديتهم قد لا تكون باختيارهم..أما مع التصريح بلفظ الجلالة،فلا يبقى مجال لاحتمال

ص: 164

كهذا..لأن العبادية منطلقة من معرفتهم بأنهم أمام مقام الألوهية الحقيقية.

فمن الطبيعي أن لا يختاروا سواها،و أن يندفعوا إليها،و أن يؤدوا مراسم العبودية لها..باختيارهم.

فتكون عباديتهم للّه من موقع الوعي،و المعرفة،و الاختيار،و الاندفاع.

«يفجّرونها»:

و لا شك في أن القرآن كتاب هدى و بيان..و علينا أن نستخرج دقائق المعاني من كل كلمة،و كل حرف فيه.

و قد ذكر سبحانه في هذه الآية الشريفة:أن عباد اللّه هم الذين يفجرون تلك العين،باختيار منهم..

و قد ألمحنا إلى أن التعبير بالعين أيضا يشير إلى الغزارة و إلى الاستمرار في العطاء،و عدم الانقطاع..

و قد يستظهر من الآية أيضا:أن عباديتهم للّه تعالى هي التي منحتهم القدرة على تفجيرها..إذ إن الذي جعل موضوعا للحكم في الكلام التام له حالتان:

الأولى:أن لا يكون له خصوصية سوى الإشارة إلى من ثبت الحكم له..مثل:أكرم هذا الجالس.فليس لصفة الجلوس أثر في وجوب الإكرام..

الثانية:أن يكون للموضوع مدخلية في الحكم،و سببية فيه،مثل:

أقتل القاتل،أو اقطع يد السارق،و مثل المسكر حرام،و أكرم العالم..

و نحو ذلك..

فالإسكار له مدخلية في الحرمة،و كذلك موضوعات باقي الأمثلة..

و الأمر في الآية التي نتحدث عنها من هذا القبيل،فإن سر التفجير

ص: 165

للعين يكمن في كونهم عبادا للّه سبحانه،إذ إن من لا يكون مطيعا لهواه، و لا عبدا للشيطان،و لا يفقد توازنه عند ما يرى المال،و الجاه،و المنصب، و سائر المغريات..و يكون عابدا و عبدا للّه سبحانه فقط..فإنه سوف يتمكن من الوصول إلى اللّه،و من الشرب من عين الخيرات،شربا هانئا رويا،يعطيه القدرة على تفجير تلك العين بصورة مؤكدة و قوية،و يحقق الرضا و الاكتفاء و الوصول إلى درجة السّلام،و الأمن،و الغنى الذاتي،و كل ذلك يحصل بإرادة و اختيار منهم..

و تفجيرهم لهذه العين تفجيرا،معناه:أنها تملك مخزونا عظيما و هائلا،لا ينتهي.و نفس كونها عينا،معناه:أنها غزيرة،و أن فيها قوة و اندفاعا،و هو اندفاع دائم و مستمر،كما دل عليه المفعول المطلق،و هو قوله«تفجيرا»الذي جيء به لتأكيد عامله..

و كونها عينا،يشير أيضا إلى الغنى بها،فلا يحتاجون إلى غيرهم، و أصبح مستقبلهم بيدهم،بل هم الذين ينتجون ما يسعدهم،و لا يخشون من حرمان الآخرين لهم.

و هذه الأمور كلها حين يشعر بها الإنسان،فإنه يعيش حالة الأمن و السّلام،و الرضا،و الاطمئنان للمستقبل.

و قد قلنا:إن الآية تتحدث عن الأمور بواسطة الكنايات و الاستعارات، التي هي أبلغ من التصريح،لأنها تتضمن الدعوى مع مبرراتها الموضوعية، و أدلتها الحسية..

و خلاصة ما ذكر في هذه الآيات عن الأبرار:أن عباديتهم للّه تعالى، تؤهلهم للشرب من عين الخيرات،حتى إنهم يفجرونها تفجيرا،و يحصلون على الاكتفاء الذاتي بسبب ارتباطهم باللّه سبحانه،الذي هو مصدر

ص: 166

الفيوضات،و القدرات كلها،و مصدر المعرفة،و العطاء،و القوة،و الخلق، و الرزق،و كل نعمة.و هم يملكون مستقبلهم،و لا يحتاجون إلى أحد سوى اللّه..و هم يوفون بالنذر،و يخافون.و يطعمون إلخ..

و ذلك كله يجعلهم يستحقون الجزاء و العطاء،و الكرم،و اللطف، و الفوز بالتالي بمقامات القرب و الرضا منه تعالى.

***

ص: 167

ص: 168

الفصل السابع: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً

اشارة

ص: 169

ص: 170

قال تعالى:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً.

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ»:

و تستمر الآيات في بيان أسباب نيل الأبرار الفيوضات خاصة،و النعم في الدنيا..

و هي توجب بدورها نيلهم لفيوضات و خيرات تكون جزاءهم في الآخرة.

و بعد أن ذكر اللّه سبحانه أن من صفة الأبرار،أنهم: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، و أشار أيضا إلى أن هذه الكأس هي عين تحقق الري،و الاكتفاء،و الغنى..و هم يختارون تفجيرها..لارتباطهم بمصدر العطاء و الفيض،و هو اللّه سبحانه.

إنه تعالى بعد أن ذكر ذلك و سواه مما تقدمت الإشارة إليه،قال:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.

و المقصود في هذه الآيات،جماعة بعينها،هم محور الحديث في هذه السورة..و السؤال هو:

إنه حين بدأ بذكر صفات الأبرار،قدم صفة الوفاء بالنذر على سائر الصفات،التي منها كونهم: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ .. إلى آخر الآيات؟.

ص: 171

فلما ذا قدم هذه الصفة بالذات يا ترى؟!

و لعل الجواب على هذا السؤال هو:

أن النذر هو تعهد،و التزام أمام اللّه سبحانه بالعمل بأمر ما..

و الذي نعرفه عن البشر أنهم في تعهداتهم لبعضهم أو فى منهم في تعهداتهم أمام اللّه سبحانه..

و ذلك لغفلتهم،أو لضعف معرفتهم به تعالى،أو لغير ذلك من أمور، يمكن أن يكون الجامع فيما بينها:

أن إيمانهم باللّه سبحانه لم يتجاوز حدود الخضوع للحكم العقلي، و التعهد بالالتزام بهذا الحكم،و الوقوف عنده.و هذا هو الحد الأدنى الذي يخرجهم عن دائرة الكفر،و ليحملوا صفة الإيمان و الإسلام،و تترتب عليهم أحكامه..

و انتهاؤهم إلى هذا الحد يعطي:أنهم لم يصل الأمر بهم إلى حد حضور اللّه في قلوبهم،و انسيابه في أعماق وجودهم،و هيمنته على مشاعرهم و أحاسيسهم..بل بقي أمرا غيبيا بالنسبة إليهم.كما أن إيمانهم بالنبوة،و النبي،و صفاته،و بالآخرة،و حسابها،و ثوابها،و عقابها،و نعيمها، و جحيمها،لا يبتعد عن هذا الحال..

فلم تتحول العقيدة باللّه،و بالآخرة،و بالأنبياء،و الأوصياء إلى حالة وجدانية،و ضميرية.و لم تمازج الفطرة،و المشاعر،لتصبح حركة عفوية، و طريقة حياة،و ليكون ذلك المعتقد إنسانا إلهيا يعيش الإسلام و القرآن، واقعا حيا يتلمسه في كل ما يواجهه أو يحيط به..

و لأجل هذا الضعف الظاهر،في مستوى الوعي و الإيمان،نجد أنهم عند الممارسة تتناقض أفعالهم مع أقوالهم،و مع اعتقاداتهم.

ص: 172

و هذا بالذات هو السبب في سعي الإسلام إلى تحويل الشأن العقيدي، و قضايا الإيمان إلى شأن حياتي،حيث يحدثنا عن اللّه،و عن صفاته،و عن الآخرة،و غير ذلك..بأسلوب التجسيد لها في الواقع الخارجي.و كأن الإنسان يراها و يتلمسها و يحس بها عن قرب..

و ما أكثر التعبير في القرآن الكريم،فضلا عن كلمات النبي[صلى اللّه عليه و آله]و الأئمة[عليهم السّلام]بكلمة:أ فرأيتم..و أ أنتم..

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (1) .

أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ (2) .

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (3) .

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (4) .

أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (5) .

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (6) .

أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ (7) .

********

(1) سورة الملك الآية 30.

(2) سورة الواقعة الآية 71.

(3) سورة الواقعة الآية 72.

(4) سورة الواقعة الآية 58.

(5) سورة الواقعة الآية 59.

(6) سورة الواقعة الآية 63.

(7) سورة الواقعة الآية 64.

ص: 173

أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (1) .

أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (2) .

و غير ذلك..

و الخلاصة:أن الاعتقاد ليس مجرد خضوع و استسلام عقلي،بل هو عقد قلبي مستقر في النفس:حاضر في عمق الذات،متمازج مع الفطرة، و مع المشاعر،ليصبح هو العين التي يبصر بها،و الأذن التي يسمع بها، و اليد التي يبطش بها..

كما أن الإسلام ليس مجرد نظام اقتصادي،أو سياسي،أو تربوي،أو عبادي أو غير ذلك.بل هو دين يريد أن يصنع الإنسان كله،وفق الإرادة الإلهية،ليمكّنه من تحقيق الأهداف العليا التي خلق من أجلها.

و لأجل هذا..كان النبي آدم[عليه السّلام]-الإنسان الأول-هو النموذج،الذي يحمل مواصفات الإنسان الكامل،الذي يسعى إلى نيل رضا اللّه،و الوصول إلى مقامات القرب و الزلفى..

فكأنه تعالى يقول لنا:هكذا أريد لبني البشر،أن يكونوا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى،خالصين و مخلصين للّه سبحانه.كالنبي آدم[عليه السّلام]..

و حين يقول سبحانه عن هؤلاء الأبرار العباد:إنهم يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، فإنما يريد أن يفهمنا أن ذلك دليل وصولهم في إيمانهم،و وعيهم، و خلوصهم إلى أن أصبحوا أناسا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى،

********

(1) سورة الواقعة الآية 68.

(2) سورة الواقعة الآية 69.

ص: 174

و أن اللّه حاضر في قلوبهم،و في وعيهم،و في كل وجودهم حضورا حقيقيا و تاما،فلا يمكن أن يخلفوا أو أن يتوانوا في الوفاء بتعهداتهم أمامه جلّ و علا..

قيمة الوفاء بالنذر:

و قد يزعم زاعم أنه ليس في الوفاء بالنذر ما يميزه عن غيره،فإن الصلاة مثلا،عمود الدين،فهي أهم منه،و هي أولى بالذكر من الوفاء بالنذر،و كذلك الحال بالنسبة للجهاد في سبيل اللّه،و الحج إلى بيت اللّه..

و غير ذلك..

فلما ذا جاء التنصيص على خصوص الوفاء بالنذر،دون سواه..

و نقول في الجواب:

إن ما تقدم من إشارة إلى أهمية و قيمة الوفاء بعهود اللّه سبحانه قد يكون كافيا في بيان لزوم البدء بهذا الأمر هنا،من حيث إن الوفاء بعهود اللّه هو العنوان الأوسع و الأتم،و الأكمل،لسائر عناوين الطاعة و الانقياد،و منها فريضة الصلاة،و الحج،و الزكاة،و ما إلى ذلك،غير أننا نود أن نزيد هنا:أن اللّه سبحانه لا يريد أن يعطي هنا صورة عن حجم العمل و صعوبته،و إنما يريد أن يقدم لنا كواشف وجدانية و واقعية عن الحد الذي وصل إليه ذلك البرّ العابد في بناء إنسانيته،و في تأثير ميزاته الإيمانية و الإنسانية،في ممارسته العملية،و في بناء وجدانه.حتى إن نذرهم في مورد نزول السورة،كان هو خصوص الصوم.المقرب إليه تعالى،بما للصوم من رمزية للكثير من المعاني،و لم ينذروا بذل مال،أو نحوه..

و قد تكون هذه الأمور التي نتخيل أنها غير ذات أهمية،أعظم و أقوى في كشف هذه الحقيقة.

ص: 175

فإن الأعمال الكبرى،قد تكون الحوافز التي تدعو إليها قوية..و قد يكون للحوافز الخارجة عن ذات،و شخصية،و وجدان الإنسان،تأثير كبير في ذلك أيضا.و لأجل ذلك فقد يكون كشفها عن واقع تلك المزايا أضعف من كاشفية تلك الأمور التي تخلو من ذلك كله..

و لأجل ذلك..فإن اللّه حين جعل أعظم و أخطر مقام لأمير المؤمنين [عليه السّلام]و هو مقام الولاية العظمى،لم يشر إلى جهاد الإمام علي [عليه السّلام]،و لا ربطه بقلعه لباب خيبر،أو قتل عمرو بن عبد ود،و لا ربطه بعلم علي،و تضحياته الجسام،أو غير ذلك من فضائله،بل هو قد جعل له ذلك في سياق التذكير بصدقة كانت منه على فقير أثناء الصلاة، قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (1).

فكان هذا العمل الإنساني،و الإيماني من علي[عليه السّلام]دليلا واقعيا و عمليا على كماله في الإيمان،و العلم،و التقوى،و الوعي،ثم هو دليل على صحة و شمولية مفاهيمه،و سلامة مشاعره،و تفوقه في كل مزاياه الإنسانية،فاستحق بذلك أن يكون وليا و إماما..

هذا،و قد ذكر القرآن الإمام عليا[عليه السّلام]أكثر من مرة بما يشبه هذه المناسبة أيضا،و ذلك كآية النجوى،و آية الصدقة سرا و جهرا، و ليلا و نهارا.و آيات سورة هل أتى بدءا من هذه الآية.ثم الآيات التي تليها،و منها آيات إطعام الطعام للمسكين،و اليتيم،و الأسير..

و خلاصة القول:أن الوفاء بالنذر يكشف بصورة واقعية عن كمال

********

(1) سورة المائدة الآية 55.

ص: 176

حضور اللّه سبحانه في قلب هؤلاء الأبرار،و في كل وجودهم.و عن أنهم قد بلغوا درجة الكمال في مزاياهم..حتى أصبح الوفاء بتعهداتهم هو السمة المميزة لهم،و لكن لا خوفا من عقاب،و لا طمعا في ثواب،بل لأن هذا هو خلقهم الأصيل.

و لعل ذلك يوضح السبب في أنه تعالى قدم قوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ على ما عداه،حيث قال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ . و لم يقل:يخافون من ربهم يوما عبوسا قمطريرا،و يوفون بالنذر.

فإن هذا هو السياق الطبيعي لحياة هؤلاء الأبرار،و لعباديتهم له تعالى.و لارتباطهم به سبحانه،و مستوى هذا الارتباط..

لا يوجد عاطف:

و قد رأينا:أنه تعالى لم يأت بعاطف،فلم يقل:يشربون و يوفون بالنذر،بل رتب الوفاء على نفس الشرب من الكأس التي هي عين.

و اعتبر هذه الجملة هي المورد الأول الذي يسوقه ليشرح لنا من خلاله، كيف أن شرب الأبرار من تلك العين،و تفجيرهم لها يتحول إلى وفاء بالنذر،و إلى خوف من يوم الجزاء،و إلى إطعام الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا إلخ..

حيث إن أبراريتهم بكل المعاني التي تتضمنها،قد اقتضت ذلك كله..

فهذا التفصيل لذلك الإجمال،و ارتكاز الوفاء على الشرب،لا يتلاءم مع ذكر الواو الدالة على أن الموردين في عرض واحد..

«يوفون»:

و قد قال:«يوفون»،و لم يقل«يفون»،لأن كلمة«يفون»مأخوذة من وفى، و مضارعها يفي،و كلمة«يوفون»مأخوذة من أوفى،و مضارعها هو يوفي.

ص: 177

و همزة أوفى يقال لها:همزة التعدية،فهي مثل علم و أعلم،و كرم و أكرم.

و المراد بالإيفاء هنا الإتمام بحيث يظهر قصد الفاعل إلى ذلك، و تعمده حصوله..

أما كلمة يفون،فتدل على مجرد حصول الوفاء كيفما اتفق..

فكلمة الإيفاء:تشير إلى الفاعل،و إلى اختياره و قصده من جهة..

و تشير من جهة أخرى،إلى صفة و حالة ما وقع عليه هذا الفعل،و قد قال يوسف لإخوته: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ (1).فوجه نظرهم إلى حالة الامتلاء التي يكون عليها الكيل الذي وقع عليه فعل الإيفاء.و ذلك ترغيبا لهم في الاستجابة إلى ما طلبه منهم..

و نظير ذلك كلمة: تُخْسِرُوا، في قوله تعالى: وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (2).المأخوذة من أخسر،لا من خسر..

و هذا يعطينا:أن ثمة قصدا إلى بيان معنى الوفاء و التمامية الحقيقية الفعلية بأجلى و أقصى مراتبها.

و النذر كما هو معلوم هو أن يجعل الإنسان على عهدته أمرا لشخص آخر أو لجهة أخرى،بحيث يصبح هذا الشيء ملكا لذلك الآخر،لا بد من إيصاله إليه في الموقع المحدد..

و قد يكون سبب الإقدام على هذا التعهد هو دعوة الطرف الآخر إلى إنجاز أمر ما،بحيث يكون هذا المنذور في مقابل إنجاز ذلك الأمر.

********

(1) سورة يوسف الآية 59.

(2) سورة الرحمن الآية 9.

ص: 178

و هذا بالذات هو ما جرى في مناسبة نزول سورة«هل أتى»..

إذ إن الحسنين[عليهما السّلام]مرضا،فنذروا:لئن شافاهما اللّه تعالى،أن يصوموا للّه ثلاثة أيام،فلما شافاهما اللّه.صامت السيدة الزهراء [عليها السّلام]،و صام معها علي،و الحسنان[عليهم السّلام].

فلما حان وقت الإفطار،و وضعوا الطعام أتاهم مسكين،فتصدقوا عليه به.و باتوا بلا طعام.

و حصل لهم في اليوم الثاني مع اليتيم مثل ذلك..

و هكذا جرى لهم في اليوم الثالث مع الأسير أيضا..

فصاموا ثلاثة أيام بلياليها،لا يجدون طعاما سوى الماء..

فشفاء الحسنين[عليهما السّلام]قد جاء استجابة لنذرهم[عليهم السّلام]فأصبح في عهدتهم له تعالى صوم ثلاثة أيام،و لا بد لهم من الوفاء بالنذر.

و لأجل هذه المعادلة الواقعية التي نشأت بين الشفاء،و بين الصوم..

و لا يصح إحداث أي خلل في هذه المعادلة..بعد أن أصبح هذا في مقابل ذاك،و تعادلا ككفتي ميزان في عالم الواقعيات و الحقائق..

و هذه المعادلة الواقعية تحتم الإيفاء لا الوفاء.لأن المهم هو إعطاء ما لزم في الذمة،إلى حد،يفي بذلك الشفاء الذي حصل،حبة في مقابل حبة و من دون أية نقيصة،و بخس في الميزان،لأنهم أخذوا شيئا و تعهدوا بإعطاء مقابله،فلا بد أن يأتي هذا الصوم الذي هو المقابل وافيا و تاما،في أعلى درجات الخلوص و الإخلاص و السلامة،و التوجه القربي في كل آناته و جميع حالاته،و ذلك ليوازي في آثاره و في أهميته شفاء مثل الحسنين[عليهما السّلام].

ص: 179

و هذا لا يتأتى إلا من أبرار قد بلغوا أعلى الدرجات،في الارتباط باللّه،و المعرفة به سبحانه..

فقوله تعالى عنهم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي يأتون به وافيا،وفق المطلوب،يعتبر غاية في مدح هؤلاء الصفوة،و الثناء عليهم.و بدون هذا الوفاء التام..فإن ثمة خللا سيحدث في المعادلة..و لا يعرف كيفيات و حجم هذا الخلل،إلا اللّه..فلعله خلل و نقص في البركات،أو في الألطاف،أو في التوفيقات للتقوى،أو في المشاعر،أو في الإيمان،أو في العلاقات الاجتماعية،أو في الحالة الاقتصادية،أو في الزرع،أو في الماشية،أو غير ذلك.إن ذلك كله لا نعرفه نحن،و لا يمكن تحديده، و لا التكهن به.

النذر أيضا سنة إلهية:

و لا بد لنا هنا من تسجيل حقيقة هي:أن الدعاء،و العهد،و النذر، و التوسل بالأنبياء و الأولياء،و غير ذلك..-إن كل ذلك-هو من السنن الإلهية التي تؤثر حتى في النواميس الطبيعية،و في الماديات..فمثلا قد تقتضي السنن الطبيعية أن لا يولد للشخص الفلاني ولد،أو أن لا يكون له مال..أو أن يمرض،أو يموت،و لعل ذلك كان هو الأصلح له،و لمن يحيط به.و الأصلح لنسله..

و لكنه إذا سعى،و بذل جهده،و طلب من اللّه سبحانه،أن يتدخل و يبطل تأثير ذلك القانون الطبيعي،فإن اللّه يغير في الأمور بحيث يصير الأصلح هو عكس هذا الواقع القائم بالفعل..

و قد تكون وسيلته التي يقدمها هي نذر بديل أو عديل،أو توسل بنبي أو وصي..أو التجاء إلى الانقطاع إلى اللّه بالدعاء،أو نحو ذلك-

ص: 180

فإن هذا أيضا من السنن الإلهية-فيستجيب اللّه له.و يغيّر في السنن الطبيعية لصالحه،فيشفي المريض،أو يجعل المرأة العاقر تحمل..

و هذا التدخل و التغيير في السنن الطبيعية،لا بد أن يحدث ما يحتاج إلى ترميم و جبر،و تلاف و تعويض..لكي لا يترك أثرا سلبيا على الواقع العام،أو على من تسبب به،و لم يف بتعهداته..

و لا بد أن يأتي هذا العوض وافيا،و كافيا..

و قد اتضح بذلك:أن قوله[عليه السّلام]:الصدقة تدفع القضاء و قد أبرم إبراما..قد جاء منسجما مع الناحية الواقعية في تسبيب الأسباب، و التصرف في السنن..

الوفاء بالنذر..و الوفاء بالوعد:

و لم يعد خافيا بعد هذا،الفرق بين الوفاء بالنذر،و الوفاء بالوعد.فإن الوفاء بالوعد يأتي منسجما مع مقتضيات السنن الحاكمة..أما النذر فيراد منه الدعوة للتصرف في تلك السنن بسنن أقوى منها،أو بدونها،حيث يكون نفس التصرف الإلهي استجابة للنذر أو الدعاء،سنة أيضا..ثم يأتي الوفاء به من قبل الناذر ليرمم و يعالج آثار ذلك التصرف،فيما يشبه التقايض و التبادل حسبما أشرنا إليه..

أما العهد و اليمين،فهما ينسجمان مع تلك السنن،و لا يعارضانها، بل يستجيبان لها،لأنهما عبارة عن إلزام للنفس بشيء،بحيث يجعل ضامنه و كافله،و السائل عنه،و المطالب به،هو اللّه سبحانه..و ليس فيه أي تعرض للسنن،أو تصرف فيها.

لما ذا جاء بالباء«بالنذر»؟!:

و قد يسأل هنا:لما ذا قال تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، و لم يقل:«يوفون

ص: 181

النذر»؟!..

و يجاب:أن هذه الباء قد جاءت لبيان هذه المعادلة،و هو أن يكون ما يأتي به من عمل قد نذره،معادلا لما طلبه في مقابله،و وافيا به.فهي باء التعويض،و تشبه إلى حد ما الباء في قولك:كافأته بألف درهم،أو قولك:بعت الفرس بألف.

«يوفون»بصيغة المضارع:

و عن السبب في أنه تعالى قال:«يوفون»بصيغة الفعل المضارع،لا بصيغة الماضي،فلم يقل:وفوا بنذرهم..

نقول:

ربما يكون ذلك لبيان ما يلي:

أولا:إن هذه هي طبيعتهم و سجيتهم،فإن وفاءهم لم يكن لأمر عارض فرض عليهم ذلك.

ثانيا:إن هذا الوفاء ليس مجرد حدث قد مضى و انقضى،بل هو متجدد و مستمر،فهم يقومون بوفاء بعد وفاء،بل هم لا يزالون يشعرون بالحاجة إلى رضا اللّه سبحانه،و أنهم مدينون له،و أن شفاء الحسنين [عليهما السّلام]لا يقابله مجرد صوم الثلاثة أيام،و لو في مثل تلك الظروف الصعبة.فإن هذا الشفاء منة عظيمة تبقى للّه في أعناقهم،و لا بد أن يبقى شعورهم بها..و بالحاجة إلى شكرها،و إلى تقديم العوض المناسب عنها،و لا يرون أي شيء في الوجود يفي بشكر هذه النعمة، و يوفي هذه المنة..

ثالثا:إن المضي و الانقطاع اللذين يشار إليهما بكلمة:«وفوا بالنذر»قد يفسح المجال لتوهم..تجدد الحاجة إلى الوفاء،و أنه ربما تكون قد استجدت

ص: 182

أمور جعلتهم في موقع المدين له تعالى بنذر جديد..و ليس هناك إشارة إلى وفائهم فعلا،فضلا عن أن يكون مشيرا إلى ذلك في المستقبل..

رابعا:إن التعبير بيوفون،يوحي بأن وفاءهم[عليهم السّلام]في المستقبل أيضا مضمون.من حيث إنه أخبر عن أن طريقتهم و سجيتهم الدائمة و الملازمة هي الوفاء..و هو ملكة لهم،و بذلك يكون دالا على وفائهم في المستقبل أيضا،و هذا إخبار من عالم الغيب و الشهادة، و شهادة تكريم كبرى لهم.

الوفاء بالنذر صفة أخلاقية:

إن الدافع إلى العمل بمقتضى النذر هو التعهد الذي أنشأه الناذر على نفسه،حيث تدعوه أخلاقه و التزامه إلى الوفاء بذاك التعهد.

و هذا التعهد إنما نشأ عن معرفة بأن اللّه سبحانه قوي عزيز،مالك عليم حكيم،بيده الخير و هو على كل شيء قدير.و عن شعور بالفقر و بالحاجة إليه،و عن التجاء له،و توكل عليه،و ثقة به،تدفع إلى أن يطلب منه المعونة،و التسديد،و العطاء.

فلزوم الوفاء بالنذر إذن،أمر يدركه الإنسان بفطرته،و بعقله، و بوجدانه،و بكل وجوده..فليس هذا الوفاء كسائر الواجبات المفروضة عليه،و التي قد لا يدرك مراميها،و لا يجد الدافع في كثير من الأحيان، إلى الالتزام بها..إلا الخوف من العقاب،أو الطمع في الثواب.

و الفطرة،و العقل،و الشرع،و الوجدان،و خصوصا الأخلاق،هي العناصر الأهم في الإيمان،و في الالتزام بأحكامه،و العمل بشرائطه..

و الخلل الأخلاقي و الاستكبار هو الذي جعل إبليس شيطانا،و أوصل فرعون إلى ادعاء الربوبية،و ممارسة ذلك الظلم العظيم على بني

ص: 183

إسرائيل،و غير ذلك.

إن الخلل الأخلاقي مهما بدا في ظاهر الحال بسيطا،فإنه قد يهلك الإنسان..و يقضي على كل نبضات الحياة فيه،و استكبار فرعون خير شاهد على ذلك،كما أن للحسد و الشح،و غير ذلك من صفات؛التأثير الكبير في إفساد حياة الناس،بل و في إهلاكهم أيضا..

«يخافون»:

و قد أشار اللّه سبحانه،في آيات هذه السورة،إلى نواح إنسانية في شخصية الأبرار،و أخرى إيمانية..و الحديث عن الناحية الثانية،هو في هذه الفقرات و قد قلنا فيما سبق:إن الخوف من الآخرة له أثره في سعي الإنسان لضبط حركته،و الهيمنة على نفسه الأمارة بالسوء..

و ذكرنا:أن المشركين كانوا لا يأبون عن الاعتراف بكثير مما يدعوهم النبي[صلّى اللّه عليه و آله]إليه،لكنهم كانوا يكذبون بيوم الدين،لأنهم يريدون أن يأخذوا حريتهم في الفجور،و اقتراف الآثام،و لا يريدون أن يصبح قرارهم بيد من يحاسبهم..

و هو ما أشارت إليه الآيات الكريمة في سورة القيامة.. أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (1).

إذ إن المشركين يرون:أن مشكلتهم الكبرى لم تكن هي ترك الأصنام،التي قالوا:إنهم يعبدونها لتقربهم إلى اللّه زلفى..و لم يكن لديهم مشكلة كبيرة في إعطاء الامتيازات لرسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]،

********

(1) سورة القيامة الآيات 5/3.

ص: 184

حتى لقد عرضوا عليه أن يملّكوه عليهم..

فكان جوابه:لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه،أو أهلك فيه ما تركته (1).

و لكن ما يرون أنه مشكلتهم الحقيقية هي أنهم يريدون أن يكون لهم القرار في أي تصرف،و لا يريدون أن يكونوا مسئولين عن شيء و لا مطالبين بشيء..فيوم القيامة هو الذي يخيفهم،و يرعبهم،فكان أن أنكروه بشدة،و عناد،و استكبار.لأن الاعتقاد بيوم القيامة يقيد حرياتهم..

و يفرض عليهم التعامل مع الآخرين بالإنصاف و العدل.و يتطلب منهم الانقياد لنظام عملي،و تقديم حسابات،و يشعرهم بالرقابة..و أن قرارهم لا يرجع إليهم.

و هذا لا ينسجم مع طموحاتهم،لأن جعل العقاب في الآخرة..يركز في الإنسان الإحساس بأنه لا خلاص له منه،و لا مناص له عنه،إلا بالتوبة،أو بالشفاعة،إن كان ممن يستحقها..خصوصا مع كون هذا الحساب و ذلك الجزاء بالثواب أو بالعقاب،من المالك القادر القاهر، و العالم بكل شيء..

و هذا لا يناسب أهل الأهواء،و لكنه يناسب المؤمنين،و يهيئ لهم حياة مطمئنة،لها قانون،و لها نظام،و تخضع لضوابط..

إيمان أم خوف؟!

و يلاحظ:أنه تعالى قد ذكر الخوف من يوم كان شره مستطيرا،و لم

********

(1) الغدير ج 7 ص 359 و تاريخ الطبري ج 2 ص 67 و البداية و النهاية ج 3 ص 63 و السيرة النبوية لابن هشام الحميري ج 1 ص 172،و السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 474.

ص: 185

يشر إلى الاعتقاد،أو العلم،أو الإيمان بيوم هذه صفته..

و لعل سبب ذلك هو:أن العلم بالشيء ليس بالضرورة أن يكون دائما فعليا.فقد يكون ارتكازيا،لا يتنافى مع حالات الغفلة،أو الانشغال بأمور أخرى،و لكنه قادر على استحضار صورة ذلك الشيء مباشرة، بمجرد حاجته إليه..

كما أن العلم قد لا يكون له أثر في حياة الإنسان،و لا بإيمانه،فإن علمك بأن الأربعة زوج،و بأن الكل أعظم من الجزء،علم بقضية عقلية، ثابتة على مر العصور و الدهور،و لكن لا أثر لهذا العلم لا في الإيمان،و لا في المشاعر،و لا في أي جهة من جهات وجود الإنسان،و تكوينه الداخلي،و لا في شيء مما يواجهه..

و أما الإيمان،فهو العلم بالشيء مع تبنيه و الالتزام به..فقد يصاحب ذلك سكون و طمأنينة نفسية: أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (1)..و قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (2).و قد يترقى الأمر إلى أن يصبح لهذا الإيمان و هذا السكون تأثير في المشاعر،ضعيف تارة،و قوي أخرى،و قد لا يحصل شيء من ذلك..

أما حالة الخوف،فإنما تعني وجود إحساس داخلي،و انفعال نفساني، يدعو الإنسان للتحرز،و طلب الأمن.و هذا ملازم لليقظة و الالتفات،ما دام ذلك الخوف موجودا،فهو يدعوه إلى إعمال المراقبة المستمرة،و الرصد الدائم لكل حركة يخشى أن تكون تعنيه،أو أن يكون لها أي تأثير عليه..

********

(1) سورة الرعد الآية 28.

(2) سورة البقرة الآية 260.

ص: 186

ثم إنه يدعوه إلى إعداد العدة،و تهيئة كل ما من شأنه أن يحميه و يدفع عنه.

و هذا الإعداد يختلف و يتفاوت،كاختلاف و تفاوت محيط و أدوات الرصد و المراقبة،بحسب خطورة و حجم الموارد التي يتهددها الخطر، فقد يكون الخوف على النفس،أو على المال،أو على الولد،أو على العشيرة،أو على البلد،أو على الدين،أو..أو..أو على ذلك كله.

و هذا بالذات هو الذي يبين ضرورة اقتران قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ (1)بقوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (2)..لأن القناعة العقلية بيوم القيامة لا تكفي للالتزام بخط الطاعة،بل هو بحاجة إلى دخول هذه القناعة إلى وجدانه،و إلى مشاعره،و كل كيانه،لأن هذا هو الذي يوجد داخل الإنسان رقابة و رصدا من قبل النفس اللوامة على النفس الأمارة بالسوء،و يقيم الموانع القوية أمامها،لكي لا تتسبب بإيقاعه في المحذور.

و لو أن نفسه الأمارة غلبته أحيانا،فإنه سوف يندفع للتلافي و التصحيح..

فمجرد سكون النفس لا يكفي،لأنه قد ينشأ عن غفلة،و قد ينشأ عن جرأة،و قد ينشأ عن جهل..بل المطلوب هو السكينة و الطمأنينة بالمعاني ذاتها من خلال العمل بمقتضاها و الانصهار بها..بحيث تكون هي المنشأ و هي المرتكز..و هذا هو المراد بالنفس المطمئنة،و هو يعني أن القناعة بالقضايا الإيمانية لا بد أن تدخل إلى عمق الكيان الإنساني، و تتحكم بالمشاعر و الأحاسيس،و أن توجد الأمل و الرجاء،و الحب

********

(1) سورة القيامة الآية 2.

(2) سورة القيامة الآية 1.

ص: 187

و البغض،و توجد الخوف أيضا،فإن الخوف ينتج التحرز،و الرقابة و التصحيح،كما أن لأعمال الخير أيضا،دورا كبيرا في ترسيخ هذا الإيمان و تعميقه في داخل النفس الإنسانية..

و بذلك نعرف السبب في أنه تعالى،قد بدأ بالحديث عن الخوف، الذي هو انفعال في المشاعر و الأحاسيس،التي تتصل بالقلب،المحتضن للقناعة،التي هيأتها له الهدايات الأخرى،مثل الفطرة،و العقل،من خلال الدليل..

فالذين يخافون يوما كان شره مستطيرا،قد تجاوزوا و قطعوا كل تلك المراحل بنجاح.

و بذلك يتضح:أن الدليل العقلي،و الفطري،و كذلك الشرعي في بعض المراحل،يثبت الأمور الغيبية التي هي الركائز الأساسية،مثل:

وجود اللّه و صفاته،و النبوة،و العصمة،و صفات النبي،و الحساب، و العقاب،ثم يثبت الإمامة و غير ذلك من شئون العقيدة..و يتلقى ذلك القلب بالقبول و الرضا،و يحصل له السكون و الرضا،ثم تتكون المشاعر و الأحاسيس،و تتربى و تنشأ،وفقا لما رفدها به القلب،حتى تترسخ في عمق وجود الإنسان،و تصبح هي حركاته العفوية،و عينه التي يبصر بها، و أذنه التي يسمع بها.و يكون الخوف من منتجاتها،و تكون الرقابة و الرصد،و التحرز و التمنع..و التصحيح..و الإعداد و الاستعداد لكل طارئ..

و هذا الخوف يكشف عن أن كل تلك المراحل قد كانت سليمة، خالية من أي ضعف،قادرة على التأثير.و قد أثرت بالفعل.

بل إن ثبوت وصف الخوف،لهؤلاء الصفوة الأبرار،خصوصا إذا كان شاملا لكل موارد احتمال التكليف و المسئولية..يجعله في عداد ما

ص: 188

يمكن الاستدلال به على عصمتهم الشاملة،خصوصا إذا انضم إلى سائر الأوصاف المذكورة قبله و بعده،كقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.. و قوله:

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ .. لأن ذلك كله يدل على أنهم قد بلغوا في إنسانيتهم أسمى الغايات،و في إيمانهم أعلى الدرجات..بل هم قد تجاوزوا حدود العصمة كما سيتضح في شرح قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً.. إن شاء اللّه تعالى..

«يَخافُونَ يَوْماً»:

و قد قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً و لم يقل:من يوم..فلما ذا؟و ما هو الفرق؟!

و الجواب هو:أنك إذا قلت:يخافون من يوم،فيحتمل أن يكون خوفهم من أعمالهم،لأجل أن العدل يجري عليهم في ذلك اليوم..

و يحتمل أيضا:أن يكون نفس اليوم مخيف،من حيث هو زمان، و أن العذاب و المصائب،تكمن في عمق ذاته،و حقيقة وجوده..تماما كما يخاف الإنسان من الأسد المفترس،فإن الشر كامن في ذات الأسد.

و لا يفرق الأسد بين أحد من الناس،مع أن المخيف في ذلك اليوم هو تلك الأمور الهائلة،التي جعلها اللّه فيه،مثل نار جهنم و زفراتها،و أهوال يوم القيامة..

و هذا كقولك:أخاف من السلطة،فإنه قد يكون لأجل أن في السلطة جبارية،و ظلم و تعد،و قد يكون لأجل أنها تجري العدالة،و تأخذ الناس بذنوبهم..

أما نفس اليوم،و نفس المكان،من حيث هو زمان،و مكان،فليس هو الذي يخيف،و إنما الذي يخيف هو ما يوجد فيه،و سيئات أعمالنا،

ص: 189

و آثار تلك الأعمال تقرب تلك المهالك إلينا،و تمكنها من النيل منا، حيث تكون سببا في سقوط الدفاعات،و الموانع عنا،و تدمير الحواجز فيما بيننا و بينها..

فالتعبير ب«يخافون»يوما،يبقى هو الأنسب و الأقرب،من حيث إن فيه إشارة إلى أنه ليس في حقيقة ذات نفس اليوم ما يخيف..

الخوف من اللّه!أم من اليوم؟!:

ثم إنه قد جعل الخوف متعلقا باليوم،فقال: يَخافُونَ يَوْماً، و لم يقل:يخافون من اللّه..

فلعل سبب ذلك هو أن اللّه سبحانه رحيم بعباده،و لا خوف من الرحيم..و هو نفسه عزّ و جل،قد جعل الكلمة التي يطلب الابتداء بها في كل شيء هي: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ..

و اللّه تعالى لا يظلم أحدا،فلا معنى للخوف منه،بل الناس إنما يخافون من سيئات أعمالهم التي ستظهر و تتجسد لهم في ذلك اليوم، على شكل عذاب،و حرمان من مقامات القرب و الرضا..

أما قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ (1)،فلا ينافي رحيميته، و رءوفيته..فإنه إنما جاء لبيان سوء عملهم من حيث إن فيه إظهارا للاستخفاف بمقام العزة الإلهية،فذكرهم اللّه سبحانه بنفسه،و أنه لا يعجزه باغ و لا طاغ،و أن بغيهم إنما هو على أنفسهم..

فليس التخويف بذاته سبحانه،من حيث إنه-و العياذ باللّه-يبطش بالضعفاء بلا مبرر..بل من حيث إنه قادر على مجازاة الباغين و الطاغين بأعمالهم.

********

(1) سورة آل عمران الآية 28.

ص: 190

لما ذا«يوما»..بتنوين التنكير؟!:

و قد قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً، و لم يقل:يخافون اليوم الذي كان شره مستطيرا،و كذلك لم يقل:يخافون يوم القيامة.

فلعل السبب في ذلك هو أنه أراد التصريح بتنوين التنكير في قوله «يوما»لكي يعطي المزيد من الرهبة،و التهويل،و التعظيم..من حيث إن عدم التحديد لأهوال ذلك اليوم،يجعل الذهن يستنفر كل طاقاته، و يذهب كل مذهب في تخيل أوصاف ذلك اليوم،و حالاته،و أهواله، و شدائده..و هو مناسب جدا لقوله:«كان شره مستطيرا».

مناشئ الخوف:

و إن للخوف بمعنى الانفعال النفساني مناشئ و محركات مختلفة..

فقد يكون مبعث الخوف هو النفس الأمارة بالسوء،كالذي يخشى فوات فرصة التلذذ بالجنس،فيقدم على الزنى،و قد يكون مبعثه التحرز من التعرض للأذى بعد ارتكاب جريمة ما.كالسارق الذي يخاف من انكشاف أمره،و ملاحقته بالعقوبة..

و قد يكون الباعث على الخوف هو النفس اللوامة..كمن يخاف من غلبة دواعي الهوى عليه..مع سعيه للتخلص منها..

و قد يكون الباعث له هو النفس المطمئنة التي تبحث عن الخير، و تخاف من فواته منها،كمن يخشى فوات فرصة الحج،أو نحو ذلك..

فالحالة الشعورية التي هي انفعال و خشية نفسانية موجودة في هذه الموارد على نحو واحد..

و لذلك جاء التحديد لمنشإ الخوف لدى الأبرار في الآية الشريفة، حيث قال تعالى: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

ص: 191

الذين عبدوا اللّه خوفا:

و الخوف من عقاب الآخرة،و الامتناع عن المآثم،و المبادرة لفعل الواجبات مطلوب و محبوب للّه تعالى..

و لكن قد يتخيل:أن أمير المؤمنين[عليه السّلام]لم يلتزم بذلك، حيث ورد عنه أنه قد ذم العبادة التي تأتي بداعي الخوف و الرهبة،حيث ذكر أن قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد (1)..و قال[عليه السّلام]:

إلهي ما عبدتك خوفا من نارك،و لا طمعا في جنتك،و لكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (2).

و لكن الحقيقة هي:أن الخوف الذي نفاه الإمام علي[عليه السّلام] عن نفسه،دون أن يسجل ذما صريحا له،هو الخوف من العقوبة و مواجهة الآلام،بحيث يكون ذلك منشأ و أساسا،و باعثا على العبادة..

أما الخوف الذي يدعو إلى التحرز،و إلى الهيمنة على النفس، و رصد حركاتها،فإنه قد يكون أيضا داعيا إلى العبادة..و قد يكون الداعي لها هو أنه قد وجد اللّه سبحانه للعبادة أهلا..

فعبادة اللّه لأنه أهل لها:شيء،و التحرز من تسويلات و تزيينات النفس الأمارة،و الاحتياط لها،شيء آخر،فهما أمران يجتمعان و لا يتنافران،كما هو واضح لا يخفى.

********

(1) نهج البلاغة ج 4 ص 53،الكافي ج 2 ص 84،و علل الشرائع ج 1 ص 12،و الخصال ص 188،وسائل الشيعة ج 1 ص 63 ط مؤسسة آل البيت.

(2) بحار الأنوار ج 41 ص 14 و ج 67 ص 186.

ص: 192

«كان»لما ذا؟!

قال تعالى: كانَ شَرُّهُ فلما ذا جاء بلفظ«كان»؟

و لما ذا أيضا جاء فعل الكون بصيغة الماضي،لا المضارع..

و قد يكون الجواب على السؤال الأول هو:أن الإتيان بلفظ كان، يهدف إلى التأكيد على تحقق هذا الأمر،و حصوله..فلا محل للبداء في هذا القرار الإلهي.

ثم أن يفهمنا أيضا:أن ما يحصل في ذلك اليوم ثابت و مستمر، فليس هو من الأمور التي تتجدد،و تحتاج في تجددها إلى تجدد إرادة، و إلى صدور قرار جديد،و إلى تسبيب أسباب غير تلك التي كانت.

و بالنسبة للسؤال الثاني نقول:إن الإجابة السالفة الذكر قد تكون كافية فيه،إذ إن من المفيد جدا إفهام الناس أن هؤلاء الأبرار يرون ذلك الأمر بهذا المستوى من الوضوح و اليقين،و كأنه حاضر لديهم،أو كأنهم كانوا قد مروا فيه،و أن ذلك اليوم،و إن كان شره سيأتي في المستقبل..

لكن لا بدّية إتيانه هي من الثبوت لهم،بحيث يرون أنه قد تحقق و انته، كما أن ذلك يعطي انطباعا عن مدى اهتمامهم به،و عمق شعورهم بالمسئولية تجاهه.حتى أصبح بإمكانهم الإخبار عنه..

هذا كله إذا كان الكلام مسوقا لبيان شعورهم بذلك اليوم،و كيفية و مستوى تعاطيهم معه..و أما إذا كان إخبارا إلهيا ابتدائيا،لم يلحظ فيه حال أحد،فإننا نقول أيضا:

إنه لا معنى للزمان في علم اللّه سبحانه،فإن علمه بالمستقبل و حضوره لديه،هو على حد علمه تعالى بما مضى.

و هذا ما ربما يوضح لنا قوله تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (1)جاء بها بصيغة الإثبات،و لم يلحظ فيها واقع الزمان،و أنه في المستقبل،حيث لم يقل سبحانه:إنها ستحيط..و كذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً (2)،و غير ذلك..

ص: 193

و هذا ما ربما يوضح لنا قوله تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (1)جاء بها بصيغة الإثبات،و لم يلحظ فيها واقع الزمان،و أنه في المستقبل،حيث لم يقل سبحانه:إنها ستحيط..و كذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً (2)،و غير ذلك..

«شرّه»:

و قد قال تعالى: كانَ شَرُّهُ .. فعبّر بالشر،و لم يقل:عذابه مثلا،أو مصائبه،أو نحو ذلك.

و لعل سبب ذلك هو أنه قد يفهم من كلمة«عذاب»خصوص الأذى الذي يتعرض له الجسد..و قد يفهم من كلمة«مصائب»ما ينال الآخرين ممن لهم تعلق بصاحب المصيبة،أي أن المصيبة تقع في غيره، و يتألم هو لأجلهم..و لا أقل من أن ذلك محتمل في مثل هذه الموارد و هذه الاحتمالات لا ترد في كلمة«شر»،فهي تجمع بين جميع أنواع المساءات،الجسدية منها و المعنوية،و الروحية سواء أ كانت تقع على الإنسان نفسه،أم تلحقه بسبب غيره.و لذلك كان اختيار هذه الكلمة متعينا في هذا المورد..

«وَ يَخافُونَ يَوْماً.. ..فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »:

و قد يلاحظ هنا:أنه تعالى قد ذكر أنهم يخافون من اليوم ذي الشر، و لكنه عاد فعبر في الآيات التالية بقوله: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ .

فالخوف من اليوم الذي فيه الشر،لكن الوقاية تعلقت بالشر مباشرة، فلما ذا هذا التنوع في التعبير يا ترى؟!

********

(1) سورة التوبة الآية 49.

(2) سورة المعارج الآيتان 7/6.

ص: 194

و نقول:

لعل سبب هذا التنوع التعبيري هو:أن الذي لا بد أن يواجهه الأبرار هو نفس ذلك اليوم..و لكن ليس بالضرورة أن ينالهم شره،إذ إنهم قد يتمكنون من التحرز من شروره بالأعمال الصالحة،أو بوقاية منه تعالى لهم،قد استحقوها.

فهم يخافون يوما قادما عليهم،و يعرفون أن فيه شرورا و محاذير.

و لكن ليس بالضرورة أن يلحقهم من تلك الشرور شيء بسبب وقاية اللّه تعالى لهم منها.فلا محذور في التعبير هنا بقوله: يَخافُونَ يَوْماً.. ثم يقول تعالى: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ..

«مستطيرا»:

ثم إنه تعالى يصف ذلك الشر بقوله:«مستطيرا»أي يتطلّب أن يطير، و أن ينتقل من مكان إلى مكان..و هذا التعبير يشير إلى سرعة في الانتقال من جهة..

و إلى تطلّب هذا الانتقال،و السعي إليه،من جهة أخرى..

و لعل هذا التطلّب للانتقال السريع،إلى حد الطيران،و الذي جاء من دون تحديد للمكان الذي ينتقل إليه،يدل على:

أن الانتقال سيكون في كل اتجاه..

و أنه لا معنى للتنبؤ به..

و أنه ليس مما يخضع للسيطرة من خلال ذاته..

و أنه لا يمكن التنبؤ بالمواقع التي يطير إليها..

و أنه يصل إليها بسرعة فائقة..

ص: 195

و هذا بلا شك يثير الخوف الحقيقي من يوم يكون هذا حال الشر فيه،فإن الشر غير محدد النوع،كما أنه لا مجال للشعور بالأمن في ظروف كهذه..لأن توقعه صعب،فلا يعرف متى يصل و من أي جهة يأتي،و لا أين يحل..

و الخوف من أمر كهذا.يتطلب درجة عالية من الحذر،كما أنه يحتاج إلى إعداد قوي،و متنوع الاتجاهات،بحيث يستطيع أن يواجه جميع الاحتمالات..

كما أنه يجب أن لا يقتصر على أنواع معينة من القدرات،في ماهيتها،و في كيفياتها،و في تأثيراتها،فإن جميع الأنواع يجب أن تكون حاضرة،و قادرة،و مؤثرة،و فاعلة..

فليس الخوف هنا مجرد خشية قلبية،بل هو يحمل معه:الحذر العملي،و الرصد،و الممارسة،و التحصن،و الاستعداد.

و في المقابل فإن استطارة هذا الشر،و قدرته على الانتشار،و عدم التحكم به و السيطرة عليه،إنما يستند إلى أسبابه و علله.فإن كونه كذلك لم يكن على سبيل العبث،و الصدفة.بل له مكوناته،و يعتمد على مؤثرات أوجبت ذلك فيه..لأن الشر ليس من خصوصيات ذات ذلك اليوم من حيث هو زمان.بل هناك مثيرات له،و محركات،و مؤثرات فيه، هي التي أوجدته،و حركته،و أعطته خصائصه تلك التي أشرنا إليها.

و من هذه المؤثرات و المثيرات نفس أفعال الإنسان في هذه الدنيا.

كما أنه سبحانه حتى حينما أوجد جهنم ليعاقب بها العصاة،فإنه قد أعطى للبشر وسائل الوقاية منها..

فالبشر كلهم سوف يمرون من فوق جهنم،و لكن هناك من تهيّئ له

ص: 196

أعماله مناعة منها،و حصانة تجاهها،و هناك من يبقى بدون دفاع،و ليس له من دونها قناع،بل تجعله أعماله أكثر قابلية للتفاعل مع تلك النار، و بحساسية بالغة أيضا..

و لأجل ذلك عبر تعالى بكلمة: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ .. أي أوجد ما يحجز عنهم ذلك الشر،و يمنعه من الوصول إليهم.و لم يقل تعالى:إنه قد أزال الشر،و أبطل وجوده..كما أنه لم يقل:وقاهم من شر، لأن هذا التعبير إنما يعني أن الشر آت إليهم،و هو قد منعه من الوصول إليهم،و حال بينهم و بينه..

و ذلك يستبطن أمرا باطلا،و هو:أن ثمة معاص لدى الأبرار،اقتضت وصول الشر إليهم،لكن التفضل و العفو الإلهي قد حال دون ذلك..

مع أن اللّه تعالى لا يريد ذلك جزما..

و لذلك قال: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ، دون أن يأتي بكلمة (من)إذ إن أعمالهم لم تتسبب في إثارة الشر.و لم توجد أسباب استطارته،بل إن ورعهم و تقواهم قد منع من توجهه إليهم من الأساس.

فهو لا يصل إلى مكان وجودهم،و لا يطير إليها.فهم محفوظون منه بأعمالهم،بل إن أعمالهم هي التي تخمده و تزيله،و تطفئ ثائرته.

***

ص: 197

ص: 198

الفصل الثامن: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً

اشارة

ص: 199

ص: 200

قال تعالى:

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً.

و قد أجملت الآية السابقة حال الأبرار،و أنهم يوفون بالنذر،ثم جاءت هذه الآية لتذكر شاهدا تفصيليا،و لتكون شاهدا حيا على ذلك الوفاء،و على تأصل حالة البر و الأبرارية فيهم.و هذا الشاهد هو قضية إطعام المسكين،و اليتيم،و الأسير..

حادثة الإطعام:

و قد ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أن هذه الآية بالذات قد ذكرت الحادثة التي كانت سبب نزول السورة بأكملها.و هي باختصار شديد:

أن الحسنين[عليهما السّلام]مرضا،فنذروا صيام ثلاثة أيام إذا شافاهما اللّه سبحانه..و بعد شفائهما أرادوا الوفاء بالنذر،فصام الجميع حتى الحسنان[عليهما السّلام]..و لم يكن عندهم طعام سوى أقراص شعير هيأتها الزهراء[عليها السّلام]للإفطار،فلما أرادوا الشروع جاءهم مسكين فأعطوه ما هيئوه،و أفطروا على ماء،و باتوا بدون طعام،و أصبحوا صياما.

فلما حضر إفطار اليوم الثاني،جاءهم يتيم فأعطوه أيضا ما هيئوه، و طووا ليلتهم كسابقتها،و أصبحوا صياما.

و في اليوم الثالث جاءهم أسير،فأعطوه طعامهم،و باتوا بدون طعام..

ص: 201

غدوا على رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]،و شاهد[صلّى اللّه عليه و آله]حالهم،فنزلت السورة في حقهم صلوات اللّه و سلامه عليهم..

شرح مفردات الآية:

و قبل أن نتحدث عن الأجواء العامة لهذا الحدث الهام،لا بد أن نستنطق مفردات الآية،و نقف على بعض ما يمكن أن يستفاد منها..

فنقول:

الإجمال ثم التفصيل:

بداية نشير إلى أن من يلاحظ آيات السورة المباركة،سيجد قضية الصيام و الإطعام قد ذكرت في السورة مرتين:

أولاهما:على سبيل الإجمال،و ذلك حين أشار إليها تعالى بقوله:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، و هذه القضية هي التي كانت وفاء بالنذر،فهي من مصاديق تلك الآية..

الثانية:حين ذكرها تعالى تفصيلا هنا بقوله: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً..

و في هذا تكريم لهم،و تأكيد على هذه المزية العظيمة فيهم صلوات اللّه و سلامه عليهم.

«وَ يُطْعِمُونَ »:

لقد بدأت الآية المباركة بكلمة:يطعمون.و قد يكون من المفيد تفصيل الكلام حول هذه الكلمة ضمن المطالب التالية:

ألف:لم يقل:يعطون الطعام:

قد يقال:إنه يظهر من الروايات،أن ما حصل،إنما هو إعطاء الطعام

ص: 202

للسائلين،و ليس هو الإطعام..و لكن التعبير القرآني قال:«يطعمون»،فما هو السبب في ذلك؟!..

و الجواب:أن إعطاء الطعام لا ينافي أن يكون الآخذ قد أكل ذلك الطعام أمام أعينهم،فالذي حصل فعلا و إن كان هو الإعطاء،و المناولة..

لكنه انته بالإطعام.

فالتعبير ب«يطعمون»يتناول الإعطاء و المناولة..و الإطعام عن قصد و إرادة،و نحن في مقام توضيح ذلك،نقول:

إن الإنسان إذا تخلى عن طعامه،لأي شخص،و أعطاه إياه،فإن فعله يكون حسنا و ممدوحا..فيأخذه ذلك الشخص،و يتصرف فيه كيف يشاء،و لكنه إذا تخلى عنه ليطعمه إياه،فإن قيمة هذا العمل تكون أعلى من مجرد صرف نظره عنه..

فإذا أطعمه إياه أمام عينيه،فإن قيمته تصبح أعلى و أغلى..

فإذا كان المعطي صائما،و آثر به على نفسه،فإن الدرجة ستكون أكثر علوا.

خصوصا إذا كان إعطاؤه للطعام في وقت الإفطار،لا في وقت الصيام..

و خصوصا إذا كان الصائم قد وضعه أمامه لكي يفطر عليه..

و خصوصا إذا لم يكن عنده سواه..

و خصوصا إذا كان سيحرم منه ولده الصغير..

و خصوصا إذا كان في ولده مواصفات و ميزات الحسن و الحسين [عليهما السّلام]..

و خصوصا إذا كان الآخذ سيأكل الطعام أمام أعينهم،كما هو المحتمل جدا في الآية..

ص: 203

و هذا يعطي أن الذي أطعم الطعام،يمتلك نفسا،و قلبا،و إنسانية،لا نظير لها.و لا يمكن تحديد قيمتها.

ب:الإطعام وقت الإفطار:

و قد أشرنا قبل قليل إلى أن أولئك الصائمين،قد أعطوا طعامهم الذي كان أمامهم وقت الإفطار..و نحب أن نشير إلى أمر مفيد هنا،هو:

أن المال حين يكون نقودا،فإن التخلي عنه يكون أسهل مما لو تحول إلى سلعة،مثل:قميص،ساعة،قلم،بيت،خاتم،سبحة..إذ إن تجسّد المال على هذا النحو يعمق العلاقة به.فالصدقة بثمن الخاتم أسهل من الصدقة بالخاتم نفسه.

و ذلك لأن للمال مغريات توجب المزيد من التعلق به،فللشكل جاذبيته،و للألفة تأثيرها،و للأنس به،و للأحداث التي ترتبط به،التي تتحول إلى ذكريات لذيذة،دورها..ثم لارتباطه بأمور عزيزة كالآباء و الأجداد،و الأبناء..و للقدم و الغموض،دوره..و الأثر الكبير في الارتباط و التعلق به..

فإذا انضم إلى ذلك أو إلى بعضه الحاجة الغريزية الجسدية لهذه السلعة،كما لو كان طعاما يحتاجه الإنسان لسدّ جوعه.و تدعوه إليه حاجته الطبيعية..

و إذا انضم إلى ذلك أن له روائح،و أن له شكلا أو طعما،يشد الإنسان إليه،و يداعب خياله،فإن التعلق به سيزداد،وفقا لتوافر المعاني، و الخصوصيات الكامنة فيه،و الاعتبارات التي يوحي بها ذلك المال المتجسد..و لا بد أن نتصور مدى تعلق الباذلين بالطعام الحاضر، خصوصا بعد أن مر عليهم ثلاثة أيام بلا طعام.

ص: 204

أما النقود..فإن مغرياتها تبقى محدودة في حدود قيمتها الكامنة فيها،و في مستوى القدرة الشرائية لها،لا أزيد..

و هذا الذي ذكرناه:يبين كيف أن إعطائهم الجامع لهذه الخصوصيات، و في هذا الوقت،و لخصوص الطعام..يجعلنا نتلمس حقيقة هؤلاء الصفوة من الخلق صلوات اللّه عليهم..

ج:«يطعمون»..بصيغة المضارع:

صحيح:أن كلمة«يطعمون»تفيد أن الجميع-حتى الحسنين عليهما السّلام،رغم صغر سنهما-قد مارس هذا الإطعام بكل شئونه و حالاته، و لكن التعبير بصيغة المضارع،حيث قال:«يطعمون»،لا بصيغة الماضي، فلم يقل:«أطعموا»..إنما جاء ليفهمنا:أن هذا الإطعام يستمر،و يتجدد بإرادة،و التفات،و اختيار،و مبادرة منهم..

و هذا الاستمرار الذي شهدت له الحادثة المشار إليها نفسها أيضا يعطي:أن هذا الإطعام،هو سجية لهم،و طبيعة فيهم،و ليست القضية مجرد حدث عابر قد انته و انقضى،و قد يكون مجرد أريحية اهتزت، أو مؤثرات توفرت،فأنتجت هذا الحدث،بهذه الميزات،و بتلك المواصفات،حيث صادف كونهم صائمين،و صادف أيضا أنه حصل ثلاث ليال متوالية،و بهذه الطريقة..

إن هذا الاستعداد،و هذه السجية المؤثرة.و هذا الاستمرار في العطاء، في كل وقت و كل حين،و تجدد العطاء بإرادات مؤثرة و فعلية،و إمكانية المشاهدة له-إن كل ذلك-هو من خصوصياتهم الفريدة،و خصالهم الحميدة.

ص: 205

لام العهد!أم لام الجنس؟:

و عن كلمة«أل»في كلمة«الطعام»نقول:إنه قد يكون المقصود بها العهد..أي أنهم يطعمون طعامهم المعهود،الذي ارتضوه لأنفسهم، و واسوا به الفقراء..

و قد يكون المقصود به الجنس،أي أن كل طعام يكون لهم،فإنهم يطعمونه للمسكين،و اليتيم،و الأسير..

ما المراد ب«الطعام»:

و لعل بعضهم يريد أن يقول:إن المقصود بكلمة:«الطّعام»هو القمح و الشعير،و أن هذا هو معناها في أصل اللغة،ثم توسع الناس في إطلاقها، على غيرهما،فيكون على عكس كلمة دابة التي هي اسم لكل ما يدب على الأرض،لكنها حين الاستعمال يراد منها الفرس،لأنها هي التي كانت محل الحاجة،و ألف الناس إطلاق هذا اللفظ عليها..

و لكن لا مجال لتأكيد هذا الأمر،و لا يصح المصير إليه،فإنه مجرد اجتهاد في اللغة،فالظاهر:ما جرى لكلمة طعام،هو نفس ما جرى لكلمة «دابة»و أن المقصود بكلمة«الطعام»هو كل ما يطعم..فيكون القمح و الشعير،و سواهما من مصاديقه..

و مما يؤكد ذلك،قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ (1).فأطلق الطعام على ما يستخرج من البحر للطعام..و لا يستخرج منه قمح و لا شعير..

********

(1) سورة المائدة الآية 96.

ص: 206

«على»:

و تواجهنا كلمة«على»،حيث دلت على أن إطعامهم هذا الطعام قد كان برغم وجود المانع و الرادع عنه.و هو الحب لذلك الطعام..و هذا يزيد في أهمية ما فعلوه،لأن القضية لم تقتصر على العطاء بصورة طبيعية و مجردة،بل تجاوزتها إلى التغلب على الموانع و الروادع.التي أضيفت إليها..و هي هذا الحب الجديد للطعام..الذي أضيف إلى الاشتهاء الطبيعي،و إلى سائر الخصوصيات الآتية في الفقرة التالية.

«على حبّه»جملة اعتراضية:

و من يتأمل الآية يجد:أن عبارة«على حبّه»جملة اعتراضية،قد جاءت لبيان المزيد من الصعوبة التي يواجهها الباذلون في بذلهم ذاك..

أي أنهم يطعمون الطعام،على الرغم من حبه.

و هذه الجملة الاعتراضية لا بد منها لإفادة معنى الإيثار،الذي يمارسه أناس هم بأمس الحاجة إلى هذا الطعام،و هم يطوون ثلاثة أيام بدونه.

و هناك فرق بين من يطعم الطعام،و هو في غنى عنه،بل هو يملك الخزائن الملأى،و بين أناس لو فقدوا طعامهم،فسوف لا يجدون سواه، و سوف يتسبب ذلك بمشكلة و إحراج شديد لهم.

كما أنه ليس كل من يعطي الطعام يكون دافعه هو الشعور و الإحساس الإنساني بحاجة الآخرين،فإن لبذل الطعام دوافع مختلفة غير ذلك أيضا،و لا حاجة إلى البيان..

حب الطعام المذموم:

و قد يقال:إن ثمة إشكالا،لا بد من الإجابة عليه و هو:أن الباذلين كان لديهم ميل للطعام،بهدف سد الجوع..ثم يزول الاشتهاء بتناوله،

ص: 207

و حصول الشبع بذلك..

و لكن الأمر لم يقتصر على الاشتهاء،بل تحدثت الآية عن حب الطعام..و هذا الحب يحتاج إلى مكونات أخرى تزيد على ما يتطلّبه الاشتهاء.

و المعروف أن حب الطعام مذموم،و قد كانت فدك في يد السيدة الزهراء[عليها السّلام]،و لم تدخر طعاما منها،تواجه به هذه الحالة و أمثالها،بل كانت تتصدق بغلاتها على أهل الحاجة..

و الإمام علي[عليه السّلام]قد أعلن أكثر من مرة:أنه لا يفكر بهذه الطريقة..

فقد أرسل إلى واليه على البصرة،عثمان بن حنيف،يقول:«بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة،فأسرعت إليها،تستطاب لك الألوان،و تنقل إليك الجفان..».

إلى أن قال:

«ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه،و من طعمه بقرصيه»..

إلى أن قال:

«لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل،و لباب هذا القمح،و نسائج هذا القز،و لكن هيهات أن يغلبني هواي،و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة،و لعل بالحجاز أو اليمامة،من لا طمع له بالقرص،و لا عهد له بالشبع..أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى؟! و أكباد حرى؟!».

إلى أن قال:

«فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات،كالبهيمة المربوطة همها علفها،

ص: 208

أو المرسلة شغلها تقممها،تكترش من أعلافها،و تلهو عما يراد بها».

و الإمام علي[عليه السّلام]و السيدة فاطمة[عليه السّلام]هما على رأس الذين نزلت فيهم آية: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ .. و ذلك يدل على أن حبهم لهذا الطعام ليس مذموما..لأن لهذا الطعام خصوصية جعلتهم يحبونه-لا أنهم يشتهونه-.

فما هو هذا الحب للطعام،الذي ليس بمذموم يا ترى؟!

و للجواب عن ذلك نقول:

إن حب الشيء تارة يكون لأجل ذاته..و تارة يكون لأجل أنه موصل إلى أمر محبوب.فالمذموم هو الأول،أما الثاني فهو ممدوح.

و الذي أريد بهذه الآية الشريفة هو الثاني..

فهم[عليهم السّلام]لا يحبون الطعام لأنه شهي و لذيذ.أو لأية خصوصية تزيد الرغبة فيه،كاللون،و الرائحة،أو الشكل،فإن طعامهم إنما كان أقراصا من شعير..و هو لم يكن شهيا،و لا مثيرا.بل هو أحد مفردات الطعام العادية،التي يتبلّغ بها الفقراء،ليحفظوا بها خط حياتهم، الذي فرض اللّه عليهم أن يحفظوه.و كان هذا هو طعام أهل البيت [عليهم السّلام]المفضل..

فحبهم للطعام،إنما هو بهذا المعنى،فليس هو حب التلذذ و الاشتهاء،ليكون مذموما..

بل هو طعام محبوب لهم،لأنه يحفظ لهم القدرة على إنجاز الواجب و التكليف الإلهي..و يعطيهم القوة على نيل رضا اللّه سبحانه..

و لو كان الحب هو لنفس الطعام من حيث هو لذيذ،أو نحو ذلك، فقد كان بإمكانهم الاستفادة من فدك و غيرها للحصول على لذائذ

ص: 209

الأطعمة،و فاخر الألبسة،و فخيم المساكن..

و لأجل ذلك قال تعالى: عَلى حُبِّهِ ، و لم يقل:على اشتهائه،أو على حاجته.أو نحو ذلك..

و هذا بالذات السبب في أنه تعالى:قد أورد ذلك مورد المدح، مقرونا بقوله:يوفون بالنذر،و يخافون يوما كان شره مستطيرا..

ثم أعلن بمكافأتهم عليه كأعظم ما تكون المكافأة.

الضمير في كلمة:«حبّه»:

و قد ظهر مما تقدم:أن الضمير في كلمة:«حبّه»راجع إلى الطعام، و يبعد رجوعه إلى لفظ الجلالة،إذ لم يتقدم للفظ الجلالة ذكر في الكلام،مع لزوم نوع من التكرار في قوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ..

إلا أن يقال:إن حب اللّه شيء،و وجه اللّه شيء آخر،فالأول يرتبط بالدافع الطبيعي،و الثاني يرتبط بالغاية و الهدف الذي يكون الإطعام من أجله..

و لكننا نقول:حتى لو قبلنا بذلك،فإنه لا معنى للتعدية بكلمة:

«على»،و ذلك ظاهر.

كما أن البعض قد قال:إن مرجع الضمير في كلمة«حبه»هو المصدر المفهوم من قوله:«يطعمون»،و هو«الإطعام»،تماما كما هو الحال في قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1)فإن كلمة«هو» ترجع إلى العدل المستفاد من كلمة اعدلوا..

و لكن لا مجال لقبول هذا الكلام إن كان منشأ حب الإطعام هو

********

(1) سورة المائدة الآية 8.

ص: 210

ذات الإطعام..لأن كلمة«على»إن كانت بمعنى مع،أي مع وجود حب الإطعام،فان هذا و إن كان يستبطن بعض المدح،من حيث إن هذه الحاجة الشديدة لم تؤثر على حبهم للإطعام..و لكنه يستبطن أيضا شيئا من الانتقاص من حقهم،لأنهم إنما يطعمون،انسجاما مع دواعي حب ذات الإطعام..فليس في ذلك فضيلة متميزة لهم،و لا يوجد جهد في هذا البذل..

كما أنه إذا كان الإطعام مصاحبا لحبه،فليس فيه خلوص،و إخلاص يستحق هذا الثناء،فلا يصح الحصر بكلمة«إنما»في قوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لأن الإطعام ليس لوجه اللّه فقط،بل هو لأجل وجود دوافع أخرى لديهم،تدعوهم إليه.

و إن كانت كلمة«على»داخلة على محذوف،ليصير المعنى:على رغم الحب الموجود للإطعام..

فضعفه أوضح و أبين،إذ لا معنى لقولك:أنا أطعم رغم أني أحب أن أطعم..بل المناسب القول:أنا أطعم رغم أني لا أحب أن أطعم.

هذا كله إذا كان المقصود أن الحب ذات الإطعام هو الداعي،و أما إن كان حب الإطعام لا لذاته،و إنما لأجل تحصيل رضا اللّه به،أي أنه رغم جوعه،فإنه يحب إطعام هذا الطعام لليتيم،لأنه يرى أن ذلك يرضي اللّه تعالى،فهذا يكون غاية في المدح لهم،و الثناء عليهم..و لكن بشرط أن تكون كلمة«على»بمعنى مع الدالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى..

هل يحب أهل البيت عليهم السّلام الطعام؟!

و على تقدير رجوع الضمير إلى الطعام،لا إلى الإطعام،قد يقول قائل:إنه لا معنى لنسبة حب الطعام إلى أهل البيت[عليهم السّلام]،فإن

ص: 211

نسبة ذلك إليهم لا تنسجم مع ما يقال من زهدهم..و تعلقهم باللّه وحده..

و لكنه كلام غير دقيق،فإن المقصود بالحب هنا ليس هو حب الطعام الذي يعني التعلق بزينة الدنيا،و ملذاتها..بل هو حب فرضه الجهد في العبادة و النشاط في طلب رضا اللّه في النهار،على قلة في الطعام،و جشوبة في العيش،و هو حب لا ينشأ من الرغبة بالتلذذ بل منشؤه الحاجة إليه لحفظ الحياة،الذي هو تكليف إلهي شرعي،لا بد لهم من امتثاله.فحبهم للطعام لا لذات الطعام،و إنما لغيره..على طريقة:

و ما حب الديار شغفن قلبي و لكن حب من سكن الديارا

حبب إلي من دنياكم ثلاث:

و بذلك يعلم المراد من الرواية عن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:

«حبب إلي من دنياكم الثلاث:النساء،و الطيب،و جعلت قرة عيني في الصلاة» (1).

فإنه[صلّى اللّه عليه و آله]لم يكن ليحب النساء،و الطيب،لو لا أن اللّه سبحانه قد حبب ذلك إليه..مما يعني أن ثمة تصرفا إلهيا في الشخصية النبوية،و هو تصرّف تكويني-ربما من خلال اقتضاء الغريزة و الفطرة-لا بد أن وراءه مصلحة كبرى،لبناء حياة البشر،وفق ما يحبه اللّه تعالى و يريد..

فهذا التحبيب إذن،لا يعني أن له[صلّى اللّه عليه و آله]تعلقا بتلك الأمور،من حيث زينتها،أو من أجل أنها تحقق له لذة دنيوية،بل هي

********

(1) الحدائق الناضرة ج 1 ص 264 و 265،و راجع:المهذب البارع ج 3 ص 173،و رسائل المحقق الكركي ج 3 ص 225.

ص: 212

بمعنى لزوم تلبية الحاجة التكوينية التي فرضتها طبيعة الحياة.و امتثالا للتكليف الإلهي،و استجابة لما يوجبه حفظ الحياة و استمرارها.

و لعل من مصلحة ذلك أيضا:أن لا يفهم بعض الناس من عزوف الأنبياء عن النساء معنى الرهبانية،الذي لا ينسجم مع ما يريد اللّه سبحانه أن تكون عليه حياة الناس في بناء الأسرة و تكافلها،و اطراد الحياة الإنسانية،مفعمة بالعاطفة،تنعم بالدفء،و بالحيوية،و السّلام،و السلامة النفسية و الأخلاقية..

كما أن من ثمرات هذا التصرف الإلهي التمهيد لولادة الزهراء الكبرى،سيدة نساء العالمين صلوات اللّه و سلامه عليها و على أبنائها الأئمة الميامين الطاهرين..

و إذا كان هذا التصرف الإلهي لن يخرج في مجال فعليته عن حدود الشرع،و هو لا يعدو كونه أمرا يرتبط بالشخص..و لا يؤثر على حياته العامة،و لا على موقعه كقائد،و مرب،و معلم،و مرشد،و هاد،و لا يؤثر على مقامه،و لا على سلوكه الإنساني،و الإيماني،و الشرعي،بل هو يبقى في القمة في ذلك كله..

إذا كان كذلك..فإن هذا في حد نفسه يكون مثلا يحتذى،و قدوة تتبع،و أسوة لبني البشر جميعا..و هو قاطع للعذر،و ملزم بالحجة،لكل من يريد أن يتعدى حدود اللّه،و ينتهك حرمة شرائعه..بحجة أنه واقع تحت تأثير الغريزة و الشهوة،أو ما إلى ذلك..

و يبقى قوله[صلّى اللّه عليه و آله]:و جعلت قرة عيني الصلاة، تجسيدا لطموحه[صلّى اللّه عليه و آله]الأعظم و الأهم،الذي يجد فيه غنى الروح،و طمأنينة القلب،و رضا و راحة الوجدان..

ص: 213

«مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً»:

و في هذه الكلمات مباحث،و خصوصيات عديدة،نأمل أن نتمكن من أن نبين بعضا منها،بحسب ما تصل إليه أفهامنا،و تتسع له صدور و وقت الإخوة الأكارم.

فنقول:

1-تنوين التنكير لما ذا؟!:

إن أول ما يواجهنا هنا:أنه تعالى..قد أورد هذه الكلمات: مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً، منونة بتنوين التنكير،و لم يوردها محلاة بالألف و اللام..

و ربما يكون السبب في ذلك هو أنه إذا قال:«المسكين،و اليتيم، و الأسير»فقد يوهم ذلك:إرادة خصوص المعهودين لديهم،و المعروفين عندهم،فيكون إطعامهم لهم ناشئا عن عدة دواع متمازجة،و متعاضدة في التأثير،و في الاندفاع إلى الإطعام..لأن المعرفة بالشخص قد تدعو لإجابة طلبه،و كذا لو كان ذا قرابة مثلا،أو من قومه،أو من بلده،أو مرتبطا بذي قرابة،أو بصديق،أو جارا،أو ما إلى ذلك..

أما تنوين التنكير فهو صريح في أنهم يطعمون أي مسكين،و أي يتيم،و أي أسير كان،ممن لا لون له،و لا طعم،و لا رائحة.

و ذلك يدل على أن اليتم و المسكنة و الأسيرية هي المحرك الإنساني، و على أن الغاية هي وجه اللّه.و ليس ثمة أية شائبة في هذا الخلوص، و ذلك الإخلاص..فليس في نفوسهم أية آثار لمؤثرات دنيوية أرضية غير إلهية،أو غير إنسانية.

فالدافع إنساني مرتبط بالمشاعر،و الهدف إلهي،و قد تناغم هذا الهدف مع ذلك الداعي،فكان هذا الإيثار العظيم..

ص: 214

2-توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي:

و قد حدثتنا الروايات:عن أن الواقعة التاريخية،قد حدثت وفق الترتيب الذي أورده القرآن،فقد جاء المسكين أولا،ثم اليتيم،ثم الأسير..

و ذلك هو التوفيق و التسديد الإلهي الظاهر..لكي لا يبقى أي مجال للتفكير في أن ما هو افتراضي،قد لا يكون منسجما مع حركة الواقع الخارجي،خصوصا حينما تتوافر الدواعي في الاتجاه المعاكس كما سنبينه..

كما لا يبقى أيضا مجال للقول:بأن الحديث هنا جار في ما هو مثالي..و قد لا يتوافق المثالي مع مقتضيات الواقع و شروطه.

بل نقول:

إنه حتى لو لم يكن الترتيب في الآية مطابقا لما حصل بالفعل،فإن نفس أن يأتي سياقها القرآني على هذا النحو،ستكون له أهدافه و أغراضه التكريمية،أو البيانية لمعان يريد اللّه لنا أن نتلمسها و نعرفها فيهم[عليهم السّلام]..و قد تكون هذه المعاني الغيبية التي يكشفها اللّه لنا،رحمة بنا،و امتنانا منه تعالى علينا..

و حيث يأتي البيان على سبيل الإخبار عن طبيعة و سجية و ديدن هؤلاء الصفوة،فإنه لا بد أن يزيد ارتباطنا بهم،و تعريفنا بحقيقتهم، ليكونوا لنا الأسوة و القدوة و المثل الأعلى..فكيف،و قد تطابق الواقع الخارجي،مع السجية و الطبيعة،فجاء المسكين،ثم اليتيم،ثم الأسير..

ليكون ذلك أدعى في الإقناع،و أوثق في الدلالة..

3-حالتان تصاعديتان تتعاكسان:

و حين نريد أن نبحث الموضوع بعمق،فسنجد أن هناك حالة

ص: 215

تصاعدية في جهة السائلين،تقابلها حالة تصاعدية في ناحية الباذلين..

بمعنى أن الانتقال كان في ناحية السائلين من الأعلى إلى الوسط،ثم إلى الأدنى.

و لكن الانتقال في ناحية الباذلين كان من الأدنى..و انته بالأعلى..

و هذا هو سر عظمة هذا الحدث،و هو أقوى تعبير عن حقيقة هؤلاء الصفوة الأطهار،حيث إنه يؤسس بصورة حية لفهم سرّ كل هذه الكرامة التي اختصهم اللّه بها،و هذا التشريف العظيم الذي حباهم سبحانه به..

و توضيح ذلك يكون على النحو التالي:

4-المسكين..و الباذلون في اليوم الأول:

إننا إذا أردنا أن نوضح ذلك،برسم صورة تطبيقية،فسنجد:

أن الذي أتى للصائمين في وقت إفطارهم،في اليوم الأول،هو «مسكين»،فمن هو هذا المسكين،و ما هي حالته؟!

إن المسكين هو إنسان بلغ به الفقر أقصى مداه.إلى درجة أنه أسكنه،و جعله عاجزا.

و قد روى أبو بصير رحمه اللّه عن الإمام الصادق[عليه السّلام]أنه قال:

«الفقير الذي لا يسأل،و المسكين أجهد منه،و البائس أجهد منهما» (1).

و صيغة«مسكين»،تفيد التكثير..أي يكثر سكونه،لأنه كلما أراد أن يتحرك للحصول على شيء أحسن بعجزه،فيسكن..

و معنى ذلك:أنه قد جرب حظه في الحياة أكثر من مرة،و بذل أكثر

********

(1) بحار الأنوار ج 93 ص 57 و تفسير نور الثقلين ج 3 ص 491.

ص: 216

من محاولة للخروج من المأزق،فلم يفلح.

و واضح:أن الإنسان إذا بلغ هذا الحد،فإن أمله يتضاءل و يذوي..

كما أنه يفقد شيئا من عنفوانه،و من قوة شخصيته.

إذن،فحالة هذا الشخص تثير العطف الشديد،و توجد اندفاعا قويا لمساعدته،ممن يرى ذله،و عجزه،و حاجته،و انكساره..

و في المقابل كان الباذلون للطعام،الذي تتحدث عنه الآية الشريفة، قد صاموا يوما كاملا،و احتاجوا إلى الطعام بصورة حقيقية و فعلية، و ضعفت أجسادهم،و لا سيما أجساد الأطفال الذين في جملتهم،و كانوا صائمين أيضا..

و هؤلاء الأطفال لا كسائر الأطفال،بل هم خيرة اللّه سبحانه من خلقه،و صفوته من عباده..

و قد كان من الطبيعي أن يتنازع أولئك الباذلين عاملان..أحدهما يدفعهم للبذل،و هو حالة المسكين الصعبة للغاية..و حالة حاجتهم الذاتية للطعام..و ثانيهما الحاجة العاطفية للاحتفاظ به لأجل طفلين هما الغاية في الكمال،و النبل،و الفضل،و الصفاء..و لا شك في أن أحدا على وجه الأرض،لا يملك مواصفاتهما،و ميزاتهما.

فإمكانية الاستجابة للعامل الأول تبقى موجودة،و فيها شيء من القوة..فإذا استجابوا له،فإنهم-و لا شك-يكونون قد قاموا بعمل عظيم،و لكنه ليس مستحيلا،بسبب قوة التحريك للعطاء،من خلال الانسجام العاطفي و الإنساني،مع حالة المسكين.

و من جهة أخرى،فقد كان بالإمكان أن يعطوا المسكين بعضا من طعامهم على سبيل المشاركة،و التسوية بالنفس..و لكنهم لم يفعلوا ذلك،

ص: 217

بل اندفعوا بالإيثار إلى أقصى مداه،فأعطوه جميع ما أعدوه لإفطارهم.

لأنهم أرادوا له أن يجد الفرصة لمراجعة حساباته،و استئناف تحركاته في سبيل عمل يخرجه مما هو فيه..

أضف إلى ذلك،أن هذا العطاء كان بالنسبة للباذلين،في ساعة حرجة جدا.و بالذات في ساعة الإفطار،حيث تلح النفس بالمطالبة بالطعام،و تدعو للاحتفاظ به،إذ لو طلب منهم بذل الطعام،قبل حلول ساعة الإفطار،فإن التخلي عن الطعام يكون أيسر،لعدم وجود هذا الإلحاح على الاحتفاظ به،بفعل قوة الحاجز،مع الإفساح في الأمل بإمكانية الحصول على البديل فيما تبقى من الوقت..

و لكن الطلب قد جاء في الساعة الحرجة و الصعبة،و حيث يشتد تعلق النفس بالطعام،فكيف إذا مازج ذلك عامل الحضور و المشاهدة و العيش بالأجواء،حتى لتكاد الأيدي تمتد إليه،فإن التعلق به سيكون- بلا شك-أقوى،و التخلي عنه أصعب..

و لكن حالة المسكين و ضعفه،و شدة حاجته،فيها أيضا شيء من قوة الدعوة للبذل،و درجة من التأثير المعاكس في أحوال كهذه..

5-اليتيم و الباذلون في اليوم الثاني:

و في اليوم الثاني..حيث لم يذق الصائمون طعاما طيلة يومين كاملين.بل اكتفوا بشرب الماء في الليلة السابقة.قد أصبح واضحا:أن الحاجة إلى الطعام قد اشتدت،و دواعي الاحتفاظ به قد ازدادت، و الحرص عليه قد تنامى و عظم،لا سيما مع وجود صبيين معهم،هما الحسنان بالذات..و هما سيدا شباب أهل الجنة،و ريحانتا رسول اللّه [صلّى اللّه عليه و آله].

ص: 218

و كان وقت الإفطار قد حضر أيضا،و طبيعي أن يزداد التطلع للطعام، و البحث عنه،و بعد حضوره يزيد التعلق بما حضر منه..فكيف إذا وضع أمامهم،و تكاد الأيدي تتحرك باتجاهه،و تمتد إليه.

و إذا بسائل جديد،هو في هذه المرة«يتيم»،و ليتمه تأثيره على النفوس.و لكن الاندفاع إلى مساعدته يكون في العادة أضعف من الاندفاع لمساعدة المسكين،لأن احتمالات الحاجة فيه أقل و أضعف.إذ إن يتمه لا يدل على حاجته المادية..

فإن نفس الحالة الظاهرة للمسكين هي حالة حاجة و فقر،و عجز عن إيجاد ما يتبلّغ به،و هي فورية،و حادة،و هي بنفس ظهورها فيه تمثل دعوة لمساعدته بلسان الحال،و هي شاهد صدقه في ما يدعيه،بلسان المقال..

أما اليتيم،فإن هناك شفقة عليه،لأجل يتمه،و حاجته للعاطفة و الطمأنينة،لا لأجل حاجة ظاهرة له،تستبطن دعوة بلسان الحال لمساعدته..إذ لعله كاذب في دعواه الفقر..

و حتى لو كان صادقا،فإن الفقر الذي يخبر عنه لا يصل في حدته إلى درجة ظهور ذلك في حالته.كما كان الحال بالنسبة إلى المسكين..

بل هو لا يزال في مقتبل العمر،و الفرص أمامه،و لم يمارس بعد إمكاناته،و قدراته،بل هو لم يكتشفها بعد.و لعل مشكلته ناشئة من فقد التوجه الصحيح له،بعد أن فقد كافله..ففرص النجاح أمامه متوفرة، و أمله كبير،و طموحه عارم.

و تحرك العاطفة لأجل فقر اليتيم،ليس بدرجة تحركها لأجل ذل و مسكنة المسكين..و يتمه،لا يحرك الإنسان ليتخلى له عن طعامه،حتى

ص: 219

في الحالات العادية.فكيف بعد طي يومين من الصيام المتواصل، و اشتداد الحاجة للطعام؟!..

و حتى لو أراد أن يتخلى ذلك الصائم له عن شيء،فإنه سيقنع نفسه بأنه لا حاجة لأن يتخلى له عن جميع ما هيأه..فضلا عن أن يعطيه إياه ساعة الإفطار،و بعد أن وضع أمامه،و بعد مضي يومين على الصيام.

و إذا أعطاه شيئا،فإنما يعطيه طعام نفسه،و لا يعطيه طعام غيره كزوجته،و ولده..فكيف إذا كانت السيدة الزهراء[عليها السّلام]هي الزوجة،و كان الولدان الوحيدان له طفلين صغيرين،ثم كانا هما الحسنان بالذات،في ميزاتهما،و في موقعهما من الدين،و من الإسلام كله،و ليس لهما على وجه الأرض مثيل،لا من الأيتام،و لا من غيرهم.و هما اللذان تتجلى فيهما ميزات الإمامة و خصائصها،بأجلى و أبه مظاهرها..

و أبواهما كانا أعرف من كل أحد بهما،و بقيمة مزاياهما،و بكرامتهما على اللّه سبحانه،فهل يمكن أن يخاطرا بحياتهما،لمجرد احتمال حاجة يدّعيها يتيم،ليس هو مثل الحسنين قطعا،و هي حاجة-حتى لو كانت واقعية-فليس ثمة ما يدل على أنها تبلغ درجة الإحراج و العسر..

إذن..فقد ازدادت المثبطات،و توافرت الموانع عن الإعطاء،سواء فيما يرتبط بالاعتبارات التي تزداد قوة و تنوعا،في ناحية الباذلين،أم فيما يرتبط بضعف المشجعات في جانب السائلين،حيث تضاءلت و انحسرت و ضعفت تلك الخصوصيات التي تثير و تحرك.

و لكن و برغم ذلك كله،فإن العطاء و البذل،قد بلغ أيضا أقصى مداه، حيث أعطوا[عليهم السّلام]في اليوم الثاني أيضا جميع ما يملكون، و آثروا اليتيم به على أنفسهم مع شدة الحاجة و الخصاصة.و بذلك فقد

ص: 220

أصبح هذا الإطعام أعظم قيمة،و أشد أهمية،إذا لوحظت جميع الخصوصيات التي أشرنا إليها..

6-الأسير..و الباذلون:في اليوم الثالث:

و يطوي الصائمون ليلتهم،و لا يقدرون على شيء إلا على شرب الماء،و يصومون يوما ثالثا هو الأشد،و الأقسى،و الأمض،و قد أصبحت الأخطار الجسام تتهدد صفوة الخلق،و صبية هم خيرة اللّه،و حججه على عباده،بصورة أعظم و أقوى..

و يحين وقت الإفطار،و هو ما يجعل النفوس أيضا تهفوا و تتطلع إلى الطعام،فكيف إذا كان ذلك بعد ثلاثة أيام من الطوى.ثم يوضع الطعام أمامهم،و لا يحول بينهم و بينه شيء..

و قد بلغت خطورة الموقف حدا قاسيا،يدعوهم ليس فقط إلى عدم بذل الطعام،و إنما إلى بذل كل الجهد و التضحية في سبيل الاحتفاظ به..

و إذا بسائل جديد يطرق الباب..غير أن حالة هذا السائل كانت أخف الحالات و أهونها،فإنها ليس فقط لا تثير شعورا قويا بالرغبة في مساعدته،بل ربما تكون المثبطات و الموانع عن إعطاء هذا السائل،أكبر و أظهر..

و لا نريد أن نتحدث عن الحالات،و لا عن الخصوصيات التي كانت في جانب الباذلين،فقد ظهر جانب منها في البيانات السابقة،بل نريد فقط أن نلمح إلى ما كان منها في ناحية السائل..فنقول:

إنه عدا عن جميع ما لاحظناه من خصوصيات في جانب اليتيم و المسكين..فإن الأسير رجل مكتمل قوي البنية،قادر على مواجهة الآخرين،حتى بالقتال،و له قدرة على تحمل الصعاب،و مكابدة المشاق..

ص: 221

و الزهراء[عليها السّلام]في هذا الجانب امرأة،و الحسنان[عليهما السّلام]أيضا لم يكونا قد بلغا سن الأقوياء،فيما يعرفه الناس من ذلك..

و مشكلة الأسير تبقى محصورة في مدة أسره،المانع له من بعض ضروب السعي..و هي مشكلة لها أمد،و لها مخرج.و سينتهي الأمر به إلى الخروج من هذه الحالة،و العودة إلى أهله،و أملاكه،و إلى الذين لديهم أكثر من دافع لمد يد العون له..بخلاف المسكين الذي ليس لديه ما ينعش به،و بخلاف اليتيم الذي لن يجد مثل كفيله الذي فقده كفيلا، و حاميا،و راعيا،و حبيبا..

ثم إنه ليس في الأسير أية جهة أخرى-سوى ما يدّعيه من الحاجة- تدعو إلى العطف عليه،كما كان الحال بالنسبة ليتم اليتيم..

بل هناك ما يدعو إلى النفور منه،و إلى حرمانه،فإنه مجرد أسير، و الأسير في واقع الأمر محارب للإسلام و للمسلمين..و ربما لا يكون قد تخلى عن عدائه لهم،و لا ذهب حقده عليهم..بل ربما لا يكون قد تخلى عن كفره،أو شركه،أو انحرافه.

و إذا كان قد أسر في ساحة الحرب،فلعله قد قتل بعض الأحبة، و الأصفياء،أو شارك في قتلهم..

و لعل اليتيم الذي جاءهم بالأمس قد فقد كافله،و حاميه في الحرب التي شارك فيها هذا الأسير نفسه،أو شارك هو في قتله،أو في الأجواء التي تمكن القتلة من القيام بجريمتهم..

أضف إلى جميع ذلك،أن نهاية هذا الأسير ستكون هي الرجوع إلى قومه،و لعله يعود معهم إلى حرب الإسلام و المسلمين من جديد..

و كل هذا الذي ذكرناه،قد يكون معذرا مقبولا أمام الوجدان،

ص: 222

و تبريرا معقولا لرد طلبه عند العرف و العقلاء..

ثم إنه لم يظهر من حال هذا الأسير ما يشي بصدقه فيما يدّعيه من الحاجة..و حتى لو كان صادقا،فإن حاجته ليست بمستوى حاجة من طوى ثلاثة أيام بدون طعام،فكيف إذا كان هذا الطاوي هو طفلان صغيران.ثم كانا هما الحسن و الحسين،و معهما الزهراء،و علي أمير المؤمنين عليهم السّلام.

ثم إنه قد كان يمكنهم[عليهم السّلام]أن يعطوه بعضا من ذلك الطعام،و يحتفظوا لأنفسهم بالباقي،أو يحتفظوا بطعام الحسنين عليهما السّلام على الأقل..

فكل هذه العوامل التي ذكرناها تدعو إلى الاحتفاظ بالطعام..تضاف إليها العوامل المضادة و المانعة من العطاء،و من بينها ما هو قوي، و متناغم مع العواطف و المشاعر الإنسانية،و مع كثير من النقاط التي سجلناها من ابتداء الحديث إلى هنا..

و بعد هذا كله..فقد جاءت المفاجأة و أعطى هؤلاء الصفوة ذلك الأسير كل ما لديهم،و عرّضوا أنفسهم للأخطار الجسام.مع أنه قد كان يكفيه بعض ما أعطوه،غير أنهم أرادوا له أن يجد لنفسه قوتا في أطول زمن يمكنهم أن يمدوه بالقوت فيه..

و البذل في مثل هذه الحالات،و بملاحظة كل تلكم الخصوصيات،هو منتهى الكمال الإنساني،و الإيماني،و الروحي،و هو الحد الذي لا يصل إليه بشر.

إلا إذا كان ذلك البشر هو الرسول الأعظم[صلّى اللّه عليه و آله]رغم أن عطاءهم في ظاهر الأمر،كان بضعة أقراص من شعير..لكن الحقيقة هي أن في هذه الأقراص،كل حياتهم،و كل وجودهم،و كل الطهر،و الإيمان و الإخلاص..

ص: 223

7-السائلون..هل هم مسلمون؟!:

و قد يحاول البعض أن يدعي:أن المسكين،و اليتيم،و الأسير،كانوا من المسلمين.

و نقول:

إنه لا مبرر لهذا التخصيص،و لا دليل يثبته،بل إن الأمور التي ركزت الآيات عليها ترجع إلى شعور إنساني فياض،و نبيل،لا يفرق بين مسلم و غيره،فإن لكل كبد حرّى أجر،و من خلال هذا الشعور الإنساني يتحرك الإنسان في الاتجاه الصحيح،يرفده بالدفقات الروحية و بالمشاعر الإنسانية حتى يبلغ به إلى الهدف الأقصى،و هو أن يصبح عمله كله للّه سبحانه..

هذا كله فضلا عن أن بعض الروايات قد أشارت إلى أن الأسير الذي سأل هؤلاء الصفوة فأعطوه..قد أسره المسلمون أنفسهم،و لم نجد في تاريخ الإسلام أن أحد المسلمين قد أسره الرسول[صلّى اللّه عليه و آله]مع المشركين حتى احتاج إلى زيارة بيوت الناس للاستجداء..

8-الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى:

و بعد..فإن هذه الآية قد ذكرت المسكين أولا،ثم اليتيم،ثم الأسير..

و لكننا نجد أنه تعالى حين يعدد أصناف المستحقين للزكاة و الخمس..

رتبهم بطريقة مختلفة،فهو يقدم الفقراء،أو اليتامى مثلا على المساكين..

فما هو السبب يا ترى؟!

و قد يمكن الجواب عن هذا:بأن النظر في تلك الآيات المباركة يحتاج إلى إثبات أن هذا الصنف مستحق لهذا القسط من الخمس..أو الزكاة،أو الصدقات.و ليس ثمة أي اختلاف في ناحية المقدار فيما بين جميع الأصناف.و قد جيء بالعناوين لمجرد أن تكون مشيرة إلى

ص: 224

موضوعاتها،ليتعلق الحكم بها.

و لكن الأمر هنا ليس كذلك،إذ إن لنفس هذه العناوين دورا في إفهام الخصوصيات المطلوبة في المعنى الذي هو بصدد بيانه و التأكيد عليه،و هو ذلك المعنى الإنساني الإلهي العظيم،الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه..

9-الإكرام أم الإطعام؟:

و قد ركزت هذه الآيات على إطعام اليتيم،و لكنه تعالى في آيات أخرى قد تحدث عن إكرامه..

ثم إنه تعالى حين تحدث عن إطعامه أخّره بالذكر عن المسكين.

و لكنه حين تحدث عن إكرامه قدمه بالذكر على المسكين،فقال: كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (1).

و قال تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (2).

فالدعّ هو الدفع..و عدم التقبّل..و هذا يعتبر عدوانا على من يفترض في الإنسان المتوازن أن يبادر إلى الترحيب به و إكرامه..

و عدم الحض على طعام المسكين يأتي في المرتبة التالية..لأن الحالة الظاهرة في المسكين هي حاجته لما يزيل حالة السكون الناشئة عن شدة حاجته..

أما اليتيم فإنه بحاجة إلى المعالجة الروحية،و إلى أن يخرج من

********

(1) سورة الفجر الآية 18.

(2) سورة الماعون الآية 2.

ص: 225

دائرة الصدمة،و الخوف من المستقبل،و أن يشعر بأنه ليس وحده في هذه الحياة،بل الجميع معه،و إلى جانبه..

فلا بد من ذكره أولا،لأن سلامة الحالة النفسية،هي الأهم..و بها يكون قوام و سلامة شخصيته..فكيف إذا كان هناك دعّ له،و ممارسة درجة من العدوان عليه.

أما حين تكون القضية مجرد قضية الحاجة إلى المال..فإن الأولوية إنما تكون لمن تشتد حاجته للمال..و المسكين هو الحالة الأصعب بالنسبة لليتيم،و الأسير..

10-قصة الإطعام..و هدف السورة:

هذه السورة تتحدث عن النشأة الإنسانية،و مسيرتها إلى غاياتها في ظل الهداية الإلهية،لتتجلى من ثم أنوار أشرف المخلوقات،من سماء الكرامة و المجد،لتضيء هذه الحياة بأنواع الهدايات إلى صراط اللّه العزيز الحميد..

و قد ذكر اللّه سبحانه ذلك،تارة بطريقة البيان لمنازل كرامتهم،و تارة أخرى بأسلوب التجسيد الحي،الذي تتجلى فيه كمالاتهم،و إنسانيتهم، موقفا و سلوكا،و طريقة حياة..

فجاءت قصة إطعامهم اليتيم و المسكين و الأسير،لتجسد أمام عين الإنسان تلك المضامين.لكي يحس بها،و يتلمسها،و يتمازج لديه المحسوس بالمعقول،ليكون ذلك أوقع في النفس،و أشد في الإقناع، و أرسخ في اليقين..

تبدل السياق:

ثم تبدل السياق،من الحديث بصيغة الغائب:يوفون،يخافون،

ص: 226

يطعمون..إلى صيغة المخاطب: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ .

و لكن طريقة التغيير في السياق،قد جاءت فريدة و متميزة،إذ إنه لم يذكر هنا أي نحو من الأنحاء التي يتم بها الانتقال من الغيبة إلى الخطاب!!

فهل يريد أن يقول:إن لسان حالهم هو هذا: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ؟!.

أم أنه يريد أن يقول:إنهم كانوا يقولون للسائلين هذه الكلمات؟!..

فإن كان سبحانه و تعالى،قد قال ذلك على سبيل أن هذا هو لسان حالهم،فنقول:إن ذلك يحتاج إلى أن يقترن بشاهد يبينه،فإذا قال الراوي،مثلا:إن لسان حال الإمام الحسين[عليه السّلام]هو:

إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني

فشاهد ذلك هو تضحيته عليه السّلام،بأخوته و بولده،حتى الطفل الرضيع،و صبره على آلام الجراح..

و في واقعة إطعام الطعام-تجد أن هناك ما يشهد للسان الحال هذا، فإن حياتهم[عليهم السّلام]كلها للّه سبحانه،و في سبيله..كما أن نفس المفردات و الخصوصيات التي قررناها في شرحنا لحال الباذلين،و لحال السائلين تشهد بذلك أيضا.

و إن كان المراد بالآيات هو أنهم[عليهم السّلام]كانوا يقولون- فعلا-للسائلين هذه الكلمات: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ، فقد يكون الوجه في ذلك هو أنهم[عليهم السّلام]كانوا يريدون للسائلين أن يطمئنوا إلى أنهم سيعاملونهم بما يحفظ لهم ماء وجههم و كرامتهم،إذ إنهم لا يريدون منهم جزاء،بل هم لا يريدون منهم حتى الشكر،و لو

ص: 227

بأدنى حالاته،و أقل مستوياته..

و لكن..أن يصدر هذا القول منهم،لكل سائل أتاهم،فذلك قد يكون غير مألوف.

و الذي نراه هو:أن من الممكن أن يكونوا قد قالوا لهم ذلك،حين رأوا علامات الدهشة و الخجل ترتسم على وجوههم،و هم يرون هذا الإيثار العظيم من هؤلاء الصفوة،فتأتي هذه الكلمات لكي تطمئنهم إلى أنهم غير مطالبين برد هذا الجميل،لأنهم إنما يطعمونهم لوجه اللّه تعالى..

إن الإحسان حسن في حد ذاته،و لكن شرط أن لا يشعر السائل بالمن و الأذى..لأن السائل شديد الحساسية تجاه من يعطيه،حتى إنه قد يفسر احترامه له على أنه حركات تهدف إلى تذكيره بما أعطاه.

فإعلامه بأنه لا منة لأحد عليه،إحسان آخر إليه،فكيف إذا بلغ ذلك حدا جعله يشعر بأنه هو المتفضل على من أعطوه،لأنه كان سببا في نيلهم الثواب و الفضل عند اللّه تعالى،فإن ذلك سوف يؤنسه،و يدخل السرور و البهجة على قلبه..

و لأجل ذلك كان يهتم الأئمة[عليهم السّلام]بالتزام سرّية العطاء، حتى إن الإمام السجاد[عليه السّلام]كان يعول مائة أهل بيت،يحمل لهم ليلا أجربة الدقيق على ظهره،و لم يعرفوه حتى مات (1).

********

(1) راجع:سفينة البحار ج 6 ص 245 عن مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص 293،و الكافي ج 1 ص 468،و العلل ج 1 ص 232 و الخصال ص 517 و الوسائل ج 9 ص 397 و 402 و غيرها من المصادر.

ص: 228

فالأئمة[عليهم السّلام]يريدون بذلك أن يصونوا السائل عن أن يفكر بطريقة خاطئة.

أسئلة تحتاج إلى جواب:

هناك عدة أسئلة وجهها أخ كريم،نذكرها،ثم نجيب عليها،و الأسئلة هي التالية:

السؤال الأول:

إن مجتمع المسلمين آنئذ كان لا يزال صغيرا و محدودا،و كان النبي صلى اللّه عليه و آله قد آخى بين المسلمين على الحق،و المواساة..

و من الواضح:أن من أجلى مظاهر ذلك هو المواساة بالمال،حيث يبادر كل منهم لمعونة أخيه،بمجرد رؤيته لعجزه،أو لضعفه،أو حاجته..

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يحث الناس باستمرار على التكافل و التعاون،و قضاء حاجات بعضهم البعض،و لم يكن صلّى اللّه عليه و آله، ليرضى أن يكون في حضرته محتاج.أو ليسمح بنشوء حالة من هذا القبيل..

لا سيما و أنه مظهر يوجب الشك و الترديد في واقعية و صدقية التوجيهات الإسلامية،مثل ما ورد عنهم عليهم السلام:لو مثل لي الفقر رجلا لقتلته.. (1).

و قوله:«ما آمن باللّه و اليوم الآخر،من بات شبعانا و جاره جائع..» (2).

********

(1) شرح إحقاق الحق ج 32 هامش ص 213 عن كتاب علي إمام المتقين ج 2 ص 23 النظام السياسي في الإسلام ص 247.

(2) بحار الأنوار ج 74 ص 191،وسائل الشيعة(الإسلامية)ج 12 ص 153.

ص: 229

السؤال الثاني:

لو أن المسلمين لم يقوموا بواجبهم،تجاه إخوانهم..فإن المفروض:

أن يتكفلهم النظام الإسلامي المتمثل برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فينفق عليهم من أموال الدولة..تماما،كما نقل عن الإمام علي عليه السّلام،حين رأى رجلا من أهل الكتاب يسأل الناس،فقال:«أ لم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي هذا و أمثاله؟!»..

السؤال الثالث:

و سؤال يطرح نفسه أيضا:و هو أنه كيف يكون الذي جاءهم في المرة الثالثة أسيرا،و يكون طليقا يدور على البيوت،حتى بعد دخول الليل؟!أ لا يحتمل أن يبادر إلى الفتك ببعض المسلمين؟!أو إلى الغدر بهم،في بعض مجالات حياتهم ثم الهرب؟!..

و قد سجل لنا التاريخ:أن العباس كان موثقا بعد أسره؟!و لم ينم النبي صلّى اللّه عليه و آله،لأنه كان يسمع أنين العباس في وثاقه.فلما أرخوا من وثاقه،و سكن أنينه،نام صلّى اللّه عليه و آله..

السؤال الرابع:

أنه إذا كان أسيرا،فلما ذا يكون هو المسئول عن تحصيل لقمة عيشه؟!أ ليس من المفترض أن يكون المسئول عنه هو النظام الذي أسره؟!..فيتولى هو إطعامه،و الإنفاق عليه،و تأمين مختلف حاجاته، و منها الملبس،و المسكن،و غير ذلك؟!..

السؤال الخامس:

لما ذا أتاهم واحد من هؤلاء في كل ليلة؟!ثم لم يرجع إليهم أحد منهم في الليلة التالية،و التي بعدها؟!..

ص: 230

جواب السؤال الأول:

نجيب بما يلي:

أولا:إن المسلمين في تلك الفترة كانوا قلة قليلة،و لم يكن لديهم مصادر للتوسع في العيش،ثم العود بالفضل على إخوانهم،و ليس فيهم أغنياء بالمستوى الذي يسمح باستئصال جذور الفقر و الحاجة في مجتمعهم..

و كانت مسئولياتهم أكبر من قدراتهم،و قد أضافت الحروب أعباء أخرى أثقلت كواهلهم،بما كانت تحتاج إليه من نفقات،مع ما توجبه من توقف عن العمل..ثم ما تحمله لهم من مشكلات اجتماعية، و اختلال علاقات،بالإضافة إلى فقد بعض العوائل للكافل و المعين، و ابتلاء بعض المقاتلين بإعاقات بدنية،أو نقص بعض الأعضاء،و ما إلى ذلك..

ثانيا:إن التاريخ يحدثنا عن فترات من القحط الشديد،كان الناس يبتلون بها آنئذ،و كان ذلك يضر بالحالة العامة،و يزيد من صعوبة حصول الناس على ما يتبلغون به،بل يذكرون أن النبي صلّى اللّه عليه و آله نفسه كان يشد الحجر على بطنه من شدة الجوع.. (1)و لعل قضية هؤلاء قد حصلت في هذه الفترة..

جواب السؤال الثاني:

نجيب بما يلي:

بأن تكفل النظام الإسلامي للمحتاجين،و الاستشهاد بقول أمير

********

(1) بحار الأنوار ج 12 ص 28 و ج 16 ص 227 مناقب أمير المؤمنين ج 1 ص 58.

ص: 231

المؤمنين عليه السّلام،يدل على ما نقول،إذ إن فعل أمير المؤمنين عليه السّلام قد أظهر:أن بيت مال المسلمين،كان هو الذي يتكفل بمعالجة مثل هذه الحالات..

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله،هو سيد المسلمين،و هو أولى الناس بالعمل بهذا المفهوم الإسلامي الرصين،فلما رأيناه لم يفعل ذلك علمنا:أن بيت مال المسلمين كان في تلك الفترة عاجزا حتى عن معالجة مثل هذه الحالة،بسبب عدم وجود المال فيه..حسبما أشرنا إليه..

جواب السؤال الثالث:

نجيب بما يلي:

أن الأسير إذا كان قادرا على العمل،و على السعي بنفسه،فما الذي يمنع من أن يفسح له آسره المجال لطلب لقمة عيشه بنفسه،فيخفف من درجة أسره من أجل ذلك..

فإذا أعطاه قسطا من الحرية،فإن ذلك يفرض عليه أن يعطي في مقابل ما حصل عليه من حرية محدودة،امتيازا للطرف الآخر على شكل مال يقدمه له،أو عمل يقوم به،أو أي شيء آخر..

و يكون إيكال أمر معيشته إليه في هذه الحالة هو أدنى ما يمكن أن يقوم به لنفسه،و لكن لا يصح أن يعد ذلك في جملة ما يتوجب عليه تقديمه،مقابل ذلك القسط من الحرية.و إلا فقد كان يمكن لآسره أن يحتفظ به في غياهب السجون،و ليس لأحد أن يلومه في ذلك..

جواب السؤال الرابع:

نجيب بما يلي:

إنه ليس من العدل أن يقاتل الأسير أهل الحق،و يعتدي على

ص: 232

كرامتهم،و أرواحهم،و يسعى في إبطال دين اللّه،و إلى أن يسلبهم الحق الذي جعله اللّه تعالى لهم،في العيش بكرامة،في ظل رعاية اللّه،و رفض حكم الطاغوت،و التحرر من هيمنة الباطل و أهله..

نعم..ليس من العدل أن يفعل هو ذلك،ثم يكلّف هؤلاء المظلومون،المعتدى عليهم،بالإنفاق عليه،و بذل أموالهم في سبيله، لمجرد أنهم استطاعوا أن يبطلوا كيده،و أن يمنعوه من مواصلة العدوان..

خصوصا،إذا كان لا يوجد ما يضمن عدم معاودته الكرة عليهم،بمجرد امتلاكه عناصر القدرة على ذلك،و ارتفاع الموانع..

و مع غض النظر عن هذا و ذاك،نقول:إن الواجب هو الإنفاق على الأسير،حيث تتوفر القدرة على ذلك..أما مع العجز،فإن إعطاء بعض الحرية،ليتولى هو بنفسه شئون نفسه،لا بد أن يعتبر من أعظم الإحسان إليه،و من مظاهر التفضل عليه..

إن الحديث عن مسئولية النظام الذي أسره عنه،غير دقيق،و ذلك لما يلي:

أ:إنه لم يكن هناك أي مبرر لنشوء بيت مال للمسلمين،في تلك الظروف الصعبة التي ألمحنا إليها..

ب:إن الإسلام يرى:أن للآسر حقا في الأسير،و في فدائه،ما دام أنه هو الذي تمكن من أسره..خصوصا في ذلك الزمان الذي كان قتل الأعداء و أسرهم مستندا إلى فعل الأشخاص مباشرة،و هو نتيجة جهدهم،و تضحياتهم،و بطولاتهم..

و حتى في هذه الأيام،فإن المفروض هو إيجاد صيغة تسمح لكل من شارك في الحروب المشروعة بأن يستفيد من غنائمها،على أن

ص: 233

تتناسب تلك الصيغة مع المستجدات في سياسات الحروب..و لهذا البحث مجال آخر..

جواب السؤال الخامس:

و أما بالنسبة للسؤال الخامس،فإننا نقول:

قد يكون السبب في عدم عودتهم لطلب المعونة من أهل البيت الظاهر في اليوم التالي،هو اكتفاؤهم بما أعطوهم إياه لأكثر من يوم..أو يكون السبب هو وقوفهم على الواقع الصعب الذي كان يعيشه أولئك الصفوة..و قد يكون السبب غير ذلك..

***

ص: 234

الفصل التاسع: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً

اشارة

ص: 235

ص: 236

قال تعالى:

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.

«إنّما»:

ثم إنه تعالى قد بين أن الغاية التي كان يتوخاها أولئك الأبرار من إطعام الطعام محصورة في أنها وجه اللّه سبحانه..و ذلك من خلال كلمة «إنّما»الدالة على الحصر.

«نطعمكم»:

و قد جاء التعبير ب«نطعمكم»،و لم يقل:«نعطيكم»،لأن اللذة الحقيقية للباذلين و أنسهم،إنما يكون في أن يأكل السائلون هذا الطعام دونهم..

و ليست لذتهم في مجرد البذل و الأخذ،لأنهم أرادوا أن يكون أكل السائل لذلك الطعام بديلا عن أكلهم هم له.

«لِوَجْهِ اللّهِ »:

و قد قال تعالى: «لِوَجْهِ اللّهِ »، و لم يقل: «نطعمكم لله » لأنه يريد أن يفهمنا:أن المقصود هو جعل الشيء باتجاه اللّه،بمعنى إحداث صلة له به تعالى،ليكون مقربا إليه.و بإحداث هذه الصلة..يصبح ذلك الفعل متصلا بالمطلق و اللامتناهي.و بالباقي غير الزائل،فيكتسب منه صفة الإطلاق و البقاء.و لعل هذا هو المقصود من قوله تعالى: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ .

ص: 237

و لو قال: «نطعمكم لله »، فإن هذا المعنى الدقيق،سوف يضيع،إذ ليس المراد أننا نطعمكم لأجله سبحانه،و إكراما له،و محبة به..

بل المراد:أن نجعل الطعام متصلا به،مكتسبا منه صفة البقاء و اللاانتهاء،و اللامحدودية..

و ثمة فهم آخر لقوله تعالى: لِوَجْهِ اللّهِ ، و هو أن يكون المراد:أن الإطعام قد كان لأجل الحصول على إقبال اللّه تعالى عليهم بوجهه الكريم الرحيم،و بكل أسمائه و صفاته.

بمعنى أن اللّه سبحانه يقبل بوجهه،أي بألطافه و رحماته،و نعمه، و خيراته،و رعايته،و عنايته على المطعم،و العامل..و لذلك قال سبحانه:

فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ .. أي ستجدونه تعالى مقبلا عليكم بألطافه التي تعرفكم إياه،بنحو من أنحاء التعريف،فإن وجه الشيء،هو ما يعرف الشيء به،و يستدل به عليه،قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ .. لأن عمل الخير متصل به تعالى..باق ببقائه..لأن الهالك هو ما ليس فيه جهة إلهية تمنحه البقاء.

لما ذا الحصر ب«إنّما»؟!:

و قد سأل سائل عن سبب اختيار كلمة«إنّما»لإفادة الحصر،دون الحصر بما و إلا..فلم يقل:ما نطعمكم إلا لوجه اللّه تعالى..

و نقول في الجواب:

هناك إجابتان على هذا السؤال،هما:

الأولى:أن الحصر ب«إنّما»هو الراجح،بل المتعين هنا،و قد يمكن تقريب رجحانه،بالقول:إن كلمة«إنّما»صريحة في إثبات حصر الإطعام بوجه اللّه،من بداية الكلام إلى نهايته.

ص: 238

و أما الحصر بما و إلا،فهو يبدأ بالنفي للإطعام.ثم يعود إلى حصره، و إثباته في دائرة وجه اللّه سبحانه..

و من الواضح:أن السائل متلهف لسماع كلمة الإيجاب،فلا يحسن استقباله بالنفي لأحب شيء إلى قلبه،و هو الإطعام.فإن ذلك سوف يثير رعشة خوف في القلب و لو للحظة..و لا يريدون[عليهم السّلام]لهذه الرعشة أن تكون.لمزيد من الرأفة منهم،و الرحمة بالسائل..

و الحفاظ على مشاعر السائلين،و لو بهذا المقدار،يعتبر إحسانا آخر بالقول إليهم،يضاف إلى الإحسان بالفعل..و سيزيد ذلك في سرورهم، خصوصا إذا كان هذا قد قيل للسائلين فعلا،و ليس هو مجرد لسان حال يحكيه اللّه سبحانه لنا عنهم.

الثانية:إن الحصر بواسطة«إنّما»يأتي نصا في المطلوب..أما الحصر بواسطة ما و إلا،فإنه لا يحسم الاحتمالات التي تثير مخاوف السائل حتى بعد إكمال عناصر الحصر..

فإنك إذا قلت له:لا أطعمك إلا في هذه الحالة..فقد يفهم السامع من ذلك:أنه سيحرم من الطعام،و يمنع منه في سائر الحالات..

و لكن إذا قلت:سوف أطعمك على كل حال،لكن نيتي و هدفي هو كذا و كذا،فالهدف من الإطعام هو مورد الحصر..و ليس نفس الإطعام.

القيد التوضيحي:

و هنا سؤال هو:هل إن قولهم: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً قيد توضيحي أو احترازي؟!،قد يقال:إنه توضيحي لأنه إذا كان الإطعام سينتج للمعطين اتصالا بمصدر النعم و الألطاف،و سيوجب لهم نيل أعظم المكافآت،و هي مكافئات باقية،نامية،زاكية،لأنها متصلة بالمنعم الباقي،

ص: 239

و بالمطلق،و اللامتناهي،و إذا كان ما ينفقه الناس من خير يوف إليهم،فلا يبقى مورد للجزاء من قبل السائل الآخذ،لأن الجزاء قد حصل،و هو جزاء واف«يوف إليكم»،فالمطالبة بجزاء آخر،تكون مطالبة جزافية،بل و ظالمة أيضا.

و كأنك قلت:«إنما نطعمكم لا نريد الجزاء»،ثم قدمت الدليل القاطع على ذلك،و هذا الدليل هو أن معرفتك باللّه راسخة و عميقة،و قد أصبحت أعمالك خالصة له..و من كان كذلك،فلا يعقل أن يريد جزاء أو شكورا من غيره تعالى..

و هذا المستوى من إزالة الشوائب،و دفع الأوهام،يجعل العمل أكثر صفاء،و يجعل العطاء طيبا..

بل إن الأمر بالنسبة إلى الشكور أبين و أظهر،إلى حد أنه قد يقال:

إن الذي ينبغي أن يقدم الشكر هو المعطي،لأن السائل قد هيأ له فرصة لنيل أعظم الكرامات،و أسنى العطايا الإلهية،و أفضلها..فينبغي عليه أن يكافئه،و أن يشكره..

و قد ظهر بذلك:أنه ليس هناك موضوع للشكر و لا للجزاء،لتتعلق به الإرادة.إلا على سبيل الطموح و الطلب لأمر لا مبرر للطموح إليه،و لا معنى لطلبه و السعي إليه،لانتفاء الاستحقاق للجزاء،و عدم وجود مورد للشكر..

و من جهة أخرى،فإنه قد يدخل في و هم الناس:أن الناس في إطلاقهم للتعميمات لا يلتزمون جانب الدقة،و لا يراعون الحدود،بل يكتفون بالصدق العرفي،و لا يلتفتون إلى الأفراد القليلة التي تخرج عن طريقة الأعم الأغلب،بل يلحقونها بالعدم،و يعتبرون أنها غير موجودة.

ص: 240

فيأتي هذا القيد هنا ليؤكد على:أن عملهم قد كان لوجه اللّه في كل مراتبه و حالاته،و أن ذلك متحقق في جميع أفراده مائة بالمائة،و لم يشذ عنه و لو مفردة واحدة..

لما ذا قال:«لا نريد»؟:

ثم إنه تعالى قد نفى هنا إرادة الجزاء،و إرادة الشكر..و لم ينف نفس الجزاء،و الشكر،فلم يقل:إنما نطعمكم لوجه اللّه،لا للجزاء،و لا للشكر..بل قال: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً..

و لعل سبب ذلك أنه لو قال:نطعمكم لا للجزاء و لا للشكر..قد يفهم منه:وجود استحقاق للجزاء و مبرر للشكر،لكنهم صرفوا النظر عنه.

و من شأن هذا أن يحمّل السائل منّة جديدة لهم عليه،و أن يزيد في إحراجه..

و لكنه حين قال:لا نريد،فإن ذلك قد يفهم منه:أنه بصدد الاستدلال لهم على انتفاء تلك الإرادة،إذ إن كون العمل لوجه اللّه،قد أسقط استحقاقهم للجزاء و للشكر من أساسه.فنفي الإرادة إنما هو بسبب انتفاء متعلقها،و هو الاستحقاق.

و لو قال:إننا نفعل ذلك،لكن ليس لأجل الجزاء،فإن ذلك معناه أن الجزاء ثابت لنا،و نحن نستحقه،لكننا لا نقصده حين الإعطاء،مع أن الهدف هو أن لا يلوّح للسائلين حتى بهذا الأمر..حسبما أوضحناه.

«لا نريد»مرة أخرى:

و ثمة إشارة أخرى هنا،و هي أنهم يقولون:«لا نريد»و لا يقولون:«لا نطلب منكم جزاء».

و لعل سببه هو أنك إذا قلت:لا أطلب منك جزاء و لا شكورا.

ص: 241

فذلك يختزن احتمالين:

أحدهما:أنك تستحق الجزاء و الشكر،و لكنك لا تطلبهما منه.و لعله لو أعطاك الجزاء من عند نفسه،فلا تكون منزعجا،بل قد تكون مسرورا.

الثاني:أنك لا تريد ذلك،بسبب عدم الاستحقاق،فهو من قبيل القضية السالبة بانتفاء موضوعها.و حيث إن هذا النوع من القضايا مما لا ضرورة لإجراء الكلام على وفقه،فينحصر الأمر في الاحتمال الأول..

«لا نريد»مرة ثالثة:

و هنا أيضا سؤال آخر في الآية،و هو أنه لما ذا قال تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً..

و لم يقل:لا تجازوني و لا تشكروني،أ لا يكون ذلك أوقع و أشد في رفض الجزاء و الشكر،و في تطمين السائلين إلى سلامة النوايا؟!..

و يمكن أن يجاب:بأن هذا التعبير«لا تجازوني،و لا تشكروني» يستبطن تعليما سيئا،و خطأ جسيما..لأن المفروض بالإنسان هو أن يعيش المعاني الإنسانية في داخل ذاته،و أن يشعر مع الآخرين، و يشاركهم في قضاياهم..

و قولك له:أريد منك أن تكون غير شكور و غير شاعر بالامتنان تجاه من يحسن إليك،يماثل قولك له:أريد أن لا تكون إنسانا،يشعر بقيمة الإحسان.

فكأنك تقول له:انقض أحكام عقلك،و فطرتك،و أخلاقك،و لا تصغ لقوله تعالى:

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ !!

فهل يعقل هذا؟!..

ص: 242

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ »:

و الناس حين يسخون و يبذلون أموالهم للمسكين،أو اليتيم،أو الأسير،قد يفكرون،أو يفكر بعضهم:أن يكون هذا المسكين،أو ذلك اليتيم،و حتى الأسير عونا و سندا،و عضدا لهم في يوم ما،و لو بأن يؤيدهم في موقف،أو يرد عنهم،و لو بكلمة..أو يحسّن صورتهم أمام الآخرين..و قد يصبح الأسير أقل تحمسا للعودة إلى مناجزتهم الحرب في مستقبل الأيام.لا لأجل القناعة الفكرية بما هم عليه،بل لأجل هذا الإحساس بالمديونية للباذلين..

و لكن هذه الآيات الشريفة،قد أظهرت أن هؤلاء الباذلين لا يريدون ممن يبذلون له،ما هم أحوج إليه منه،جزاء،و لو بهذا المقدار،بل حتى و لو في حد الشكر..و سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى..

بل إن الأهم في هذا البيان القرآني،و الهدي الإلهي،هو أنه تعالى يريد أن يبين لنا كيف يريد الإسلام أن يصنع قلب الإنسان،فهو يريده رءوفا،رحيما،عطوفا،ودودا ،فياضا بالحب،زاخرا بالمشاعر الإنسانية، عامرا بالإيمان باللّه،مؤثرا له على كل شيء في هذا الوجود.

إن الإسلام يريد أن يغرس ذلك في كيان الإنسان،و في عمق وجوده،ليصير هو العنصر الفاعل و الحي في تكوينه الداخلي.إذ إن إنسانية الإنسان لا تفرض عليه قسرا،كما أنها لا تأتيه مجانا..و بلا طلب و سعي و جهد..بل هي تحتاج في الحصول على كثير من ميزاتها و خصائصها إلى المبادرة و الاختيار منه،و إلى جهد،و عمل،و كد،و تعب، و بذل..و عطاء..

كما أن ما يكون كامنا في فطرة الإنسان،و ما يفيضه اللّه عليه ابتداء،

ص: 243

يحتاج أيضا إلى حراسة و حفظ،و تهيئة الظروف الموضوعية لبقائه،قويا و سالما،و فاعلا و متناميا.

فإذا قصر في ذلك كله،فقد لا يحصل على شيء جديد..و قد يخسر أيضا أو يشوّه ما أعطاه اللّه إياه ابتداء،أو باقتضاء الفطرة،و ربما نجده يحاول أن يسقطها،أو أن يبعدها عن دائرة التأثير في أكثر من موقع،وفقا لما روي عن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه،أو ينصرانه،أو يمجسانه.

أما الحيوان فلا دور له في الحصول على خصائصه الحيوانية،و لا في تنشئتها و ترشيدها،و لا في حفظها،و حراستها،أو خسرانها، و تشويهها.

لا رياء و لا سمعة:

و على كل حال،فإنه حين لا يسعى الإنسان للجزاء و لا للشكر،فإن الرياء لن يجد طريقه إليه،و سيكون عمله للّه،و للّه فقط،و لا مجال بعد لأن يتخذ من عطائه و بذله ذريعة لإظهار شخصيته،و اكتساب السمعة عن هذا الطريق.لأن هذا يدخل تحت عنوان الجزاء.كما أنه لا يسعى لأن يعترف المبذول له بالفضل،و أن يلهج بالحمد و الثناء عليه،لأن ذلك يدخل في الشكر،الذي لا يريده ذلك الباذل..

و قد قلنا:إن قوله تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً قيد توضيحي لقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ .. لأن إرادة الجزاء و الشكور تمنع من أن يكون الإطعام خالصا لوجه اللّه تعالى.

«منكم»:

و أما لما ذا قال تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً؟!، و قد كان يمكن أن

ص: 244

يقول:لا نريد جزاء.

فجوابه:أنهم[عليهم السّلام]يريدون الجزاء،و لكن لا من السّائلين،بل من اللّه سبحانه.و قد صرحوا بذلك حين قالوا: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ..

فإرادة الجزاء و الشكر من الناس غير محبذة،بل هي نقص أحيانا، و لكن طلبها من اللّه سبحانه عين الكمال،لأنه إنما يطلب-في واقع الأمر-رضا اللّه سبحانه،و يسعى للفوز بكرامته،و ألطافه،و حبه،و رعايته، و رفعة شأنه لديه.

«جزاء»لما ذا؟!

و نلاحظ هنا:أن كلمة«جزاء»تختزن الإشارة إلى عدة أمور،هي:

1-تنوين التنكير:

إن كلمة«جزاء»قد جاءت مع تنوين التنكير لتفيد:التعميم لكل أفراد أو أنواع الجزاء،على سبيل البدل،فجميع أفراد و مقادير و أنواع الجزاء غير مرادة،فلا نطلب منه قليلا و لا كثيرا،و لا عظيما،و لا حقيرا، و لا نوعا دون نوع،و لا فردا منه دون آخر..

2-الجزاء هو مقتضى العدل و الحق..

و الجزاء أمر يحكم به العقل،و تقضي به الفطرة،كما ألمح إليه قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ، فطرح الآية لهذا السؤال،كأن فيه إرجاعا إلى الوجدان و إلى الفطرة الإنسانية،مما يعني أن هذا السؤال لو طرح على ملحد لأجاب بنفس ما يجيب به المؤمن الموحد..

3-تقديم الجزاء لما ذا؟!

و أما لما ذا قدم ذكر الجزاء على الشكر،فلعله لأجل أن الجزاء هو

ص: 245

الإتيان بما يعادل الفعل الذي في مقابله..فإذا أعطاك مائة،فالجزاء لا بد أن يكون مائة.

و هذا هو أول ما يطلبه الباذل،و يطالب به،و يسعى إليه،و لذا كان المناسب أن يبدأ به قبل أن يذكر الشكر.

أيهما أصعب!!

و قد يقال:لعل تقديم الجزاء،لأجل أن إعطاء البديل و الجزاء،قد يكون أصعب من تقديم الشكر،الذي هو خفيف المئونة..

و لكننا نقول:

إن ذلك غير دقيق..فإن الشكر ليس مجرد تحريك اللسان بكلمات الثناء و العرفان بالجميل،بل هو أمر قد يكون أصعب على بعض النفوس،من إعطاء المقابل مهما كان عظيما..لأن الشكر يمثل أحيانا اعترافا بالأخذ،و يدعو إلى إظهار الشعور بالامتنان،لمن قد لا يحب المبذول له أن يقوم به تجاه بعض الباذلين..

و ربما يبلغ الأمر حدا يجعل إعطاء الجزاء و الخروج من حالة الشعور بالمديونية،أيسر على النفس من إبقاء هذا الشعور.

الجزاء مرتبط بالشكر و عكسه:

و الجزاء له صفة مادية،و هو أمر يتطلبه العدل و الحق.أما الشكر فطابعه معنوي أخلاقي،تفرضه إنسانية الإنسان،و يدعوه إليه خلقه، و مشاعره،و حالته النفسية..

فإذا أعطى الجزاء و المقابل،فذلك لا يعفيه من شكره،من الناحية الأخلاقية،و لا يزيل حالة الشعور بالامتنان..

ص: 246

و معنى ذلك:أن نفي الجزاء بقوله: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً.. لا يعني أنه لا يطلب الشكر،و لذا احتاج إلى التصريح بأنهم كما لا يريدون الجزاء،كذلك هم لا يريدون الشكر أيضا.

و لكن لو طلب الباذل الشكر،فذلك معناه أنه لا يريد الجزاء و المقابل..

و لذلك نجد العقلاء لا يستسيغون من الباذل الذي يطلب الشكر،أن يطلب الجزاء بعد ذلك..بل هم يقبحون طلبه هذا..و لكنهم لا يقبحون طلب الشكر بعد الحصول على الجزاء.

الشكور:

قلنا:إن الجزاء هو مقتضى الحق و العدل..و العدل مرحلة لا بد من إنجازها،ليتوصل من خلالها إلى ما هو أرقى،و أسمى منها..

غير أن العدل يمثل الخط الذي لا بد من الالتزام به،ليتمكن الإنسان من الخروج من دائرة الخطر و الهلاك.

لكن درجات الصعود على السلم للوصول إلى الغايات السامية، تحتاج إلى جهد،و عمل آخر يتمكن الإنسان من خلاله من الصعود عليها،درجة إثر درجة،و لهذا صح تشريع الجهاد،و صح طلب الإيثار على النفس،الذي مدحه اللّه سبحانه بقوله: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ..

و ذلك لأن إعطاء الإنسان ماله لغيره،يحتاج إلى دافع قوي،حتى لو كان المعطي غير محتاج إلى ذلك المال..

أ ما كان هو محتاجا له..فإن إعطاءه للغير يحتاج إلى دافع أقوى و أشد،ليقدم حاجة غيره،على حاجة نفسه.و هذا هو الإيثار الذي

ص: 247

أشارت إليه الآية المباركة..

فاذا كانت حاجته إليه ماسة جدا،فإن بذله للغير يصبح في غاية الصعوبة.

فإذا طلب منه أن يبذله لغيره،حتى في هذه الحال،فذلك يعطينا:أن الهدف ليس هو العدل،بل ما هو أسمى من العدل.ألا و هو بناء إنسانية الإنسان،و صياغة مشاعره لتكون مشاعر نبيلة و طاهرة.ثم السمو بفكره و بطموحاته،و فتح الآفاق الرحبة أمامه،بالإضافة إلى تربية وجدانه،و رفع مستوى إحساسه النبيل،و شحنه بالعاطفة الفياضة،بالخير و العطاء.

لما ذا«شكورا»؟!:

و لعلك تسأل لما ذا قال: «وَ لا شُكُوراً». و لم يقل:«و لا شكرا»..

و قد يجاب عن ذلك،بأن الشكر مصدر يدل على أصل طبيعة الشكر،التي قد تتجسد بأي فرد كان.أما الشكور فهو مصدر أيضا، كالدخول و الخروج،فلا فرق بينه و بين الشكر في المعنى.

فنفيه بأي منهما إنما يكون نفيا للطبيعة.و نفي الطبيعة إنما يتحقق بانتفاء جميع أصنافها و أفرادها.

و لعل اختيار هذه الصيغة دون تلك،من أجل تحقيق التناسب اللفظي بين الآيات..

و نقول:

إن هذا،إنما يفرض في صورة ما،إذا قبلنا ما قاله المفسرون،من أن كلمة شكور مصدر.و قد جاء على غير قياس،مثل:قعود.

و أما إذا قلنا:إنها جمع شكر،مثل:برد،و برود،فهي جمع للمصدر، الذي هو الشكر.فالمعنى:أننا لا نريد منكم أي نوع من أنواع الشكر،

ص: 248

فيصير نفي إرادة الشكور من الباذلين،أشد من نفي إرادة الشكر،لأن النفي يكون متوجها لجميع أنواع الشكر..

و هذا أدل على المراد،و أوفق بالمقصود..

و هو المناسب لمقام الامتنان عليهم من موقع الفيض و العطاء، و الربوبية لهم،و الألوهية المستغنية بذاتها و بصفاتها..

و بذلك يعلم أنه لا مجال لتخيل:أن نفي الجمع لا يستلزم نفي الفرد، و أن قوله: «لا نريد شكورا».. يجامع قوله:«نريد شكرا واحدا،أو شكرين»..

و بتوضيح آخر نقول:إنه يمكن التعدد في أصناف الشكر كمّا و كيفا، فهناك شكر قلبي،و عرفان بالجميل،و شعور بالامتنان،و هناك شكر لساني،و هناك أيضا شكر عملي..

أما الجزاء فهو نوع واحد،يؤخذ فيه المكافأة بالمثل،و بنفس المقدار..

و اختلاف أشكال و كيفيات المقابلة بالمثل،إنما هو بتراض من الطرفين.أما الزائد من الجزاء،فهو تفضل و تكرم.و الناقص بخس للحق.

و الجزاء تارة يلاحظ فيه الأخذ بالمقابل.ففي مثله يلاحظ مقدار ما يعطى،و مقدار ما يؤخذ.و أخرى يلاحظ فيه الجزاء المقرر،ففي مثله قد يقرر جاعل الجزاء أن يكون الجزاء أكثر من المماثل و المساوي،فيجعل الحسنة بعشرة،أو بسبع مائة،بل يضاعف ذلك لمن يشاء..

ففي مثل هذا المورد،يكون التفضل في أصل الجعل،و بعد الجعل يصبح حقا و جزاء لمن جعل له،يطالب به،و يسأل و يسأل عنه.قال تعالى: إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .

ص: 249

و لكنه حق نشأ عن التفضل،لا عن العدل.أما بعد الجعل فيصير موضوعا للعدل أيضا.

و قد يكون السبب في جعل الزائد هو الإغراء بعمل الخير،و صرف الهمم إليه،أو غير ذلك..

و الحاصل:أنه إذا كان هناك عطاء تفضلي،فمرة تطلب المجازاة عليه،بأن يعطي لفاعله ما يماثله،و مرة يطلب الشكر عليه.

و الشكر قد يختلف و يتفاوت،كما،و كيفا في مراتبه و حالاته..

فإذا أريد نفيه،فلا بد من نفيه بجميع مراتبه و حالاته تلك،سواء في ذلك الأفراد الظاهرة،أم الأفراد الخفية التي قد لا تخطر على بال،فقد تنفي الشكر اللساني،لكن لا تنفي الشكر القلبي،الذي يراه الناس غير قابل للنفي،إما لخفائه،و عدم الالتفات إليه،أو لأنهم يرونه غير قابل للنفي من حيث إنه من مقتضيات خلق و طبع الإنسان،أو لأنه لا يجوز رفضه و رده.

فإذا قال:لا أريد أن تشكرني على الإحسان،فإنما يرون أنه يقصد الشكر اللساني عادة،أو الشكر بواسطة الفعل،و لا يقصد نفي الشعور بالامتنان و التفضل.لأنه غير قابل للإزالة..

أو لأنه ليس من حقه رفضه و ردّه،إذ لا بد أن يكون الإنسان شكورا،لأن ذلك من مكونات شخصيته الإنسانية،التي لا بد من تأكيد وجودها في شخصيته المتوازنة في مزاياها،فلا يصح أن تطلب من الإنسان أن لا يكون شكورا،لأن ذلك يستبطن الطلب منه أن لا تكون لديه مشاعر إنسانية نبيلة،و هو نهي عن التحلي بالفضائل الأخلاقية.

و النهي عن مثل هذا و إزالته من نفس الطرف الآخر معناه إحداث

ص: 250

خلل إنساني و أخلاقي لديه..

فاتضح:أنه إنما يصح أن يقال:لا نريد بعض أصناف أو أفراد الشكور،أي لا نريد الأصناف و الأفراد القابلة للنفي،و التي لا يستلزم نفيها إساءة للأخلاق و للإنسانية.

و لا يصح نفي إرادة طبيعة الشكر فيه،من حيث هي إرادة للطبيعة، لأن نفيها يستلزم نفي بعض الأفراد و الأصناف التي يكون التعرض لها بالنفي مباشرة أو بالواسطة يمثل اساءة للأخلاق و للإنسانية،لأنها تختزن في داخلها قيمة لا بد من حفظها.

***

ص: 251

ص: 252

الفصل العاشر: إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً

اشارة

ص: 253

ص: 254

قال تعالى:

إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً.

«إِنّا نَخافُ»:

و تأتي كلمة«إنّا»لتوكيد وجود الخوف لدى هؤلاء الصفوة من يوم بعينه.و قد زادوا في تأكيد ذلك حين ذكروا مبررات هذا الخوف،و هو أنه يوم عبوس قمطرير،كما سيأتي..

و قد يقال:إنه لا مبرر للخوف من ذلك اليوم..فقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (1)..

و يمكن أن يجاب:

أولا:بأن خوفهم هذا في الدنيا هو الذي جعلهم يأمنون في الآخرة.

ثانيا:إن المراد بالخوف،الاحتياط و الحذر،و إعداد العدة لمواجهة أخطار ذلك اليوم بما يناسبها.

و من مفردات وسائل الوقاية:إطعام اليتيم،و الأسير،و المسكين..إذ فرق بين خوف إنسان من الغرق حين يلقى في البحر،و هو لا يعرف السباحة،و لا يملك ما يعينه على التخلص..و بين خوف إنسان يعرف السباحة،و قد أعد العدة لمواجهة أي احتمال.فيقال:إنه قد أعد العدة،

********

(1) سورة يونس الآية 62.

ص: 255

لأنه يخاف من البحر..

«نخاف يوما..و..نخاف من ربنا»:

و يلاحظ هنا:أنه قد قال في سياق الآيات السابقة: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

لكنه قال في هذه الآية: إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً..

فكان الخوف هناك من نفس اليوم..و الخوف هنا من الرب،فما الفرق؟!

و لما ذا قال: مِنْ رَبِّنا. و لم يقل:من«إلهنا».أو من«اللّه»؟.

و لما ذا قال: نَخافُ مِنْ رَبِّنا. و لم يقل:«نخاف ربنا»؟.

و يمكن أن يقال في الجواب عن هذه الأسئلة:

ألف:بالنسبة إلى قوله: يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..

نقول:إن اللّه سبحانه حين كان يتحدث عن الأبرار،قال:«يخافون»، أما هنا فإنهم هم الذين يخبرون عن أنفسهم،و يقولون: نَخافُ مِنْ رَبِّنا. فهم يشيرون إلى ربوبيته تعالى لهم،تعبيرا عن وعيهم للحقائق، و عميق معرفتهم بها.و عن المحبة له تعالى،و صدق الإيمان به،و طلب رعايته و ألطافه،ليتكاملوا بها..

كما أن جهرهم بذلك سوف يعرف الناس بدرجة اليقين التي وصلوا إليها،حتى كأنهم يرون ذلك اليوم و كأن العبوس فيه ظاهر لهم،يرونه كما يرى الإنسان وجه جليسه..كما قال الإمام علي[عليه السّلام]:«لو

ص: 256

كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» (1).

لقد كان لا بد لهم أن يلهجوا بذكر اللّه،و أن يدلّوا عليه،و على رعايته،و حبه،و حكمته،و تدبيره،و عنايته،و إشرافه،و مراقبته،و توجيهه، و تسديده لهم على صراط تكاملهم في إنسانيتهم و أخلاقهم.

إن اللّه ليس هو منشأ خوفهم من حيث هو ربّ،بل منشأ الخوف هو نفس اليوم المرتبط باللّه سبحانه،من جهة أنه سبحانه هو الجاعل لذلك اليوم،و المعد له.و المقرر و الحاكم بالعذاب و الثواب فيه..

و إنما جعل اللّه سبحانه ذلك اليوم،بهذه المواصفات من حيث هو ربّ،حافظ،و مدبر،و عطوف،و رؤف،و رحيم،و حكيم،و عادل،وفق ما تقتضيه حكمة الخلق،و التكليف،و الأمر،و النهي..فحكمة اللّه و رحمته، و عدله،و علمه،و تدبيره،قد اقتضت وجود هذا اليوم،و ذلك رحمة بالبشر،و حفظا للحياة،و ضبطا لحركتها،و إذكاء للطموح فيها..

ب:و نجيب على السؤال الثاني،فنقول:

قد اتضح أن هذا اليوم هو من قبل ربنا،لكن لا من حيث إنه يريد الانتقام منا،و إنما هو من موقع ربوبيته لنا،و حبه،و تدبيره،و اهتمامه بحفظنا، و لأنه يريد لنا أن ننمو و نتكامل،و أن ننال الخيرات كلها،و نصل إلى منازل الكرامة،و أن يبعد عنا الشرور و الأسواء،و يمنع من فساد الحياة.و ذلك كله يوضح لنا السبب في أنه اختار كلمة«ربّنا»دون كلمة:«إلهنا».

********

(1) منتهى المطلب للعلامة الحلي(الطبعة الجديدة،مجمع البحوث الإسلامية-ايران- مشهد)ج 3 ص 44 و مناقب ابن شهرآشوب ج 1 ص 317 و مستدرك سفينة البحار ج 5 ص 163.

ص: 257

فالربّ إذن قد جعل نظام الحياة بحيث ينشأ عن الأعمال في الدنيا عقوبة و مثوبة،يجدهما الإنسان في مستقبل حياته،و لا يمكنه أن يتجاوز تلك العقوبة،أو أن يتخلص منها إلا بتصحيح مساره بالتوبة،و بالعمل الصالح.

لأن المحاسب و المراقب هو علام الغيوب،و أقرب إليه من حبل الوريد.

و هذا من أهم أسباب ضبط حركة الإنسان،و سوقه نحو تصحيح سلوكه..

ج:و نجيب على السؤال الثالث:أنه تعالى قال: نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً.. و لم يقتصر على قوله: نَخافُ مِنْ رَبِّنا، ليشير إلى أن هذا النظام الذي جعله اللّه لنا لنتكامل به و معه،و لينقلنا من حسن إلى أحسن، و ليحمينا من الانحراف-إن هذا النظام هو الذي يختزن في داخله هذا اليوم العبوس،لأن ذلك هو الذي يجعل النظام فاعلا و مؤثرا،و مربيا فعلا.

و الخلاصة:

إنه لم يقل:«من إلهنا»،لأنه يريد أن يشير إلى الربوبية،فهم لا يخافون من اللّه من حيث كونه إلها،فردا،صمدا..إلخ..و إنما يخافون الألوهية من جهة ما تقتضيه من أفعال ربوبية،فيها تدبير و حكمة،و جعل نظام،فيه مثوبة و عقوبة.

فاليوم الآتي من جهة الربوبية-بحسب ما تقتضيه من تدبير لأمرهم و إصلاح لشأنهم-هو الذي يخافونه..

«إِنّا نَخافُ..» هل هي تعليل؟! قد يقال:إن قوله تعالى: إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً تعليل لقوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ، كأنه قال:لما ذا جعلتم غاية الإطعام هي وجه اللّه؟!فجاء الجواب: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ إِنّا نَخافُ..

إلخ..

ص: 258

و قد يقال:هي تعليل لقوله: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.. أي أن السبب في أننا لا نريد جزاء،هو أنا نخاف ذلك اليوم العبوس.

و قد يقال:إنها جملة مستقلة،ليس فيها تعليل،لا لهذه الفقرة،و لا لتلك.بل هي تقول:هناك أمران:

أحدهما:الداعي،و المحرك..

و الآخر:الهدف.

و نوضح ذلك بأن نقول:إن لدينا شعورا إنسانيا..هو الإحساس بحاجة اليتيم..و قد دفعنا هذا الشعور إلى الإطعام،و قد جعلنا له هدفا هو الحصول على رضا اللّه سبحانه..لأن الصفات الإنسانية،كالكرم و الشجاعة و غيرها..إنما تكون فضيلة بملاحظة هذين الأمرين..و هما الداعي و الهدف..فإذا فقدتهما،فإن وجد ضدهما،أصبحت رذيلة..و إن لم يوجد ذلك الضد،فإنها لا تكون فضيلة و لا رذيلة..

فإذا كان الداعي و المحرك لإعطاء المال مثلا،هو الشعور بحاجة الآخرين،و التألم لهم..ثم يجعل هدفه و همه و جهده،هو رضا اللّه،و الوصول إليه سبحانه،و تكون وسيلته إليه هو هذا الإطعام مثلا-فإن ذلك يكون فضيلة بلا ريب،حيث قد اجتمع فيه نبل الداعي مع جلال الغاية..

و أما إن كان المحرك للإعطاء هو الحقد و الاستدراج،و كان الهدف مثلا هو إذلال الآخرين أو استعبادهم،أو إيقاعهم في فخ منصوب لهم.

فالفعل يكون رذيلة،و أي رذيلة..

و ثمة صورة أخرى،هي أن يعطي الإنسان طعامه،لأنه قد صرف النظر عنه لعدم حاجته إليه..أو يكون هدفه هو التخلص من ثقله،أو من نفقة حمله.أو يبدله لمجرد الحصول على ثمنه،فلا يكون الإطعام في

ص: 259

مثل هذا الحال،فضيلة و لا رذيلة.

و أما إن كان المحرك للإعطاء،هو الحس الإنساني،كالشعور بآلام الآخرين،من دون أن يربط ذلك باللّه سبحانه،فإنه يستحق المدح الدنيوي،بمعنى مدح كماله في صفاته البشرية،و يكون عمله استجابة لهذا الكمال،و لكنه لا يستحق ثوابا في الآخرة،لأنه قد بقي بلا هدف، و بدون امتداد،فلا يوجد في ذلك العمل أية خصوصية من شأنها أن تصله بالباقي،و الدائم تبارك و تعالى..

و في جميع الأحوال نقول:

إن الإسلام قد اهتم بتوجيه الإنسان نحو الاسمى،و الأنمى،و الأبقى، و الأزكى،في مسيرة التكافل الإنساني.و لكنه جعل لصلة الرحم وجهة عبادية و إلهية،و منطلقا إنسانيا،و اعتمدها كوسيلة بناء،بدلا من أن تكون منطلقة من العصبية العمياء،و جعل للعطاء و الإطعام،و جهة عبادية، و وجهة إصلاحية،و دوافع إنسانية،تجعله أكثر ملاءمة،و تأثيرا إيجابيا في المسيرة السليمة لحياة الإنسان،بدلا من أن يكون البذل بهدف التسلط، و الإذلال،و الإفساد.

و هذا الخوف من اللّه،إشفاقا من ذلك اليوم،و حذرا منه،هو بمثابة صمام أمان،يجعل الإنسان مهتما بضبط حركته،و مراقبتها،للاطمئنان إلى أنها في الصراط المستقيم،فهو يراقب اللّه،من موقع إدراكه لربوبيته التي هي تعني الإدراك لحكمته،و محبته،و رعايته،و علمه،و رحمته،و لطفه.

و الأبرار إنما يريدون أن يتكاملوا في ظل هذه الرعاية الإلهية، و التربية الربانية.

كما أن قول الأبرار:«لوجه اللّه»قد جاء ليضبط حركة الإطعام،

ص: 260

و يجعلها تتمحض بالدواعي و الحوافر الإنسانية،التي لا تتقاذفها الغايات الدنيوية المنحطة،بل يضبطها هدف و غاية واحدة،لا بد من توجيه السلوك و العمل إليها،و هي وجه اللّه تعالى..

و كل هذا الذي ذكرناه يوضح كيف أن هذه الآية لا تريد تعليل الإطعام لوجه اللّه بالخوف،بل الإطعام لوجه اللّه يسير جنبا إلى جنب مع الخوف المنتج للحذر و الانضباط..لأن علة الإطعام لوجه اللّه هي أن اللّه سبحانه أهل لأن يعبد و يتقرب إليه بالصالحات.

و بذلك يصبح لدينا قاعدتان شاملتان،أصيلتان في معناهما..و هذا هو ما يناسب مقام الأبرار،و يسانخ واقعهم و تفكيرهم.

«يوما عبوسا قمطريرا»:

و يأتي التساؤل الحائر:عن السبب في ذكر تفاصيل صفات هذا اليوم.و قد كان بالإمكان أن يقول:«إنا نخاف من عقاب ربنا».

و قد يمكن الإجابة عن ذلك،بأن ذكر هذه التفاصيل مطلوب..لأن أصل العقوبة للمتمرد أمر تحكم به العقول،و يقرّه الوجدان.

و ليس الأمر هنا من موارد العقوبة،فلا يصح أن يقال:إنا نخاف من عقاب ربنا،لأن عدم إطعام السائلين ليس فيه تمرد على المولى،و لا هتك لحرمته،بل الآية تتعرض لأمر سام و جليل،يفوق في أهميته موضوع الطاعة و الانقياد للأوامر و الزواجر.فإن هذا الإنفاق إنما يطلب ليكون وسيلة لنيل المقامات و المراتب السامية عند اللّه..و دوافعه مشاعر إنسانية،و غاياته الاتصال باللّه سبحانه..

«عبوسا»:

و كلمة«عبوسا»هي صيغة مبالغة،أي شديد العبوس،أو كثيره..

ص: 261

فالشدة تشير إلى شدة التكرّه له،و عمق النفرة،و عظيم الخوف منه، كما أنها تشير إلى وجود أمر عظيم يدفع إلى التشدد في العبوس فيه.

أو تكون بمعنى كثير العبوس،و في ذلك إشارة إلى تعدد المناشئ الموجبة لظهور هذا الأثر المكروه في وجه ذلك اليوم..

«يَوْماً عَبُوساً»:

و اليوم من حيث هو زمان و لحظات لا يوصف بالعبوس و لا بالبشاشة..و إنما نسب إليه العبوس،و وصف بهذا الوصف على سبيل الكناية و المجاز،فهو كوصف السماء بالكآبة و التجهم،في قول الشاعر:

قال السماء كئيبة و تجهّما قلت ابتسم،يكفي التجهم في السما..

فإذا كان الإنسان يرى في هذا اليوم أمورا يكرهها،و مصائب و آلام ينفر منها،فإنه ينسب ذلك إلى اليوم الذي احتواها،و كان ظرفا لها.

فكأنه ينظر إلى صفحة هذا الزمان،فيشبهها بالوجه،فيرى فيها تلك الشدائد،فيشبهها بالتجاعيد المستكرهة.التي يعبر عنها بالعبوس،الذي يشير إلى وجود خلفيات و نوايا مستكرهة لدى العابس،فيخاف منه.

و بذلك يظهر عدم صحة قولهم:

إن المراد:هو أنهم يخافون يوما يكون الإنسان فيه عابسا بسبب الشدائد..

رؤية واضحة:

و هذه الآية تشير إلى شدة وضوح أمر يوم القيامة للأبرار،حتى كأنه حاضر لهم،يرون وجهه رأي العين،و يميزون بين قسماته،و يدركون حالاته.تماما كما قال أمير المؤمنين[عليه السّلام]:لو كشف لي الغطاء

ص: 262

ما ازددت يقينا.

مع أن يوم القيامة هو من الأمور الغيبية،التي لا يسهل اليقين بها، فضلا عن أن يصبح كأنه يراها رأي العين،إذ إن ما لا يكون من الأمور الحسية،و لا الفطرية،و لا من الأحكام العقلية،بل هو من الأمور السمعية، يكون اليقين به صعبا،فضلا عن أن يصبح كأنه مشاهد بالعيان،فإذا بلغ اليقين إلى هذا الحد..فذلك أقصى درجات الإيمان و المعرفة،و هو يعبر عن الأدوار الصعبة،التي قطعها أولئك الأبرار،حتى بلغوا هذه المراتب، فإن للمعرفة دورها في صفاء الإيمان،و في رهافة الشعور،و في دقة الإدراك،و صحة اليقين..

الحديث عن الشدائد لما ذا؟!:

و يلاحظ:أن الحديث هنا قد جاء عن الخوف من ذلك اليوم العبوس القمطرير،لا عن المثوبات العظيمة للمطعمين،فلم يقل:

نطعمكم رغبة في الجنة،أو في الثواب الجزيل،و الأجر الجميل مثلا.

و ربما يكون السبب في ذلك:

أنهم لا يريدون جعل عملهم تجاه اليتيم،و الأسير،و المسكين، ذريعة للمثوبة،بحيث تكون المثوبة جزاء له،لأن إيكال المثوبة إلى فضل اللّه سبحانه هو الأمثل و الأولى..

و ذلك لأن المهم عندهم هو الحصول على رضا اللّه سبحانه..لا الحصول على المكافآت و النعم لأنفسهم.فإن ذلك قد يشير إلى شيء من الاهتمام منهم بالذات،و حب اكتساب المنافع لأنفسهم كأشخاص.

مع أن رضا اللّه أعظم النعم..فقد قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1).

ص: 263

مع أن رضا اللّه أعظم النعم..فقد قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1).

و أول خطوة على طريق الوصول و الحصول على هذا الرضا هو الابتعاد عن مواقع سخطه سبحانه.

«قمطريرا»:

القمطرير هو الأمر الشديد..فكلمة عبوس أشارت إلى الشكل، و كلمة قمطرير أشارت إلى المضمون..

و قد فسر بعضهم«قمطريرا»بشديد العبوس..

و لكن ذلك غير دقيق،فإن كلمة«عبوس»صيغة مبالغة تفيد كثرة أو شدة العبوس،فما معنى تكرار نفس هذا المعنى بكلمة«قمطريرا»؟!

فالأولى حملها على معنى تأسيسي،تكون قادرة على تأديته،إذ لا معنى للتكرار و الإعادة من دون إفادة.

و فسر القمطرير بالملتف أيضا..

و لعله من جهة أن الالتفاف يستبطن شدة و تقوّيا للأشياء بعضها بالبعض الآخر..

و هذا المعنى ينسجم مع ما قلناه،من أن المراد بها الشدة في مضمون و حقيقة ذلك اليوم،سواء أ كان منشأ الشدة هو تعقيد الأمور و تشابكها،أم كان منشؤها شيئا آخر.

الإيمان بالغيب:

و واضح أن الإيمان بالغيب شيء،و الإيمان بالمجهول،و الغامض،

********

(1) سورة التوبة الآية 72.

ص: 264

و المبهم،و الغائم،شيء آخر..

فإن الغيب واقع يقيني،يفرض نفسه على الواقع الحياتي..و الإيمان بالحقائق الغيبية واجب و مطلوب في الإسلام.قال تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (1).

فنلاحظ:أن ثمة ارتكازا في البيان القرآني إلى الغيب لينطلق منه إلى الواقع الحياتي،مبتدأ من ممارسة الإنسان للعبادة الصلاتية التي تصل العبد باللّه،و بصفاته،و علمه،و حكمته،و تدبيره،و بملائكته و رسله من جهة،ثم بالآخرة و بكل تداعياتها،و كل ما يرتبط بها من جهة أخرى..

ثم انطلق ليبني الحياة في علاقاتها،و في مرافقها و حاجاتها،على أساس الاستفادة الصحيحة مما مكنه اللّه منه،و هيأه له..حين قال: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ .

فليس الغيب مجرد حالة خوف من مجهول مبهم،و غامض، و مخيف..بل هو غيب ظاهر و مكشوف لنا إلى حد أن الإمام عليا[عليه السّلام]يقول:«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا».

و عن أولياء اللّه المتقين يقول الإمام علي[عليه السّلام]:«و هم و النار كمن قد رآها،فهم فيها معذبون..» (2).

إنه غيب لا خوف معه،بل يشعر الإنسان معه بالأمن و السّلام، و السكينة،و الراحة،و السعادة..

غيب ليس فيه قهر و خضوع عشوائي ظالم،بل هو استسلام على

********

(1) سورة البقرة الآية 3.

(2) نهج البلاغة ج 2 ص 161 خطبة رقم 193 ط دار المعرفة،و البحار ج 64 ص 315.

ص: 265

أساس الوضوح و الرؤية،و الإحساس..في العقل،و في الفطرة، و الوجدان..

إنه غيب مجسد في الكعبة المشرفة،و بالحجر الأسود،الذي أودعه اللّه ميثاق الخلائق.و قد جسده اللّه جنات و أنهارا،و فواكه،و أشجارا..

و كأسا دهاقا،و حوضا،و صراطا،و ميزانا..و ما إلى ذلك.

و جسده أيضا زقوما و ضريعا،و زمهريرا و نارا،و يوما عبوسا قمطريرا.

أخبرك اللّه به،و وصفه لك نبيه الناطق عنه.

و هو مرحلة قد تجاوزت ما تحكم به الفطرة،و تهدي إليه العقول، و يقرره الوجدان.

إنه غيب لا بد لك من احتضانه في قلبك،و في عمق حناياك،ثم الحنو عليه.و التفاعل معه،و الاستفادة منه..و ليس هو من المجهول،لأن المجهول لا يمكن احتضانه،و لا الفناء فيه،و لا الانسجام و لا التفاعل معه..أو عقد القلب عليه.

إن علينا أن لا نخطئ في فهم معنى الإيمان،فليس الإيمان هو الشعور بالخوف من مجهول،ثم الاستسلام لهذا الخوف..بل الإيمان سلام،و أمن،و سكينة و رضا..

و بعد ما تقدم نقول:

إنه لا حاجة إلى التذكير بأن الخضوع و الاستسلام للدليل،ثم تبنيه و الالتزام به،و عقد القلب عليه،يسمى إيمانا..لما في ذلك من سكون قهري،و استسلام لما تقضي به الفطرة،و ما يحكم به العقل..ثم يبدأ بالتنامي و الرقي إلى أن يبلغ مراحل،هي الأصفى و الأنقى،و الأجلى و الاسمى،و ذلك حين يصبح سكينة و طمأنينة للنفس و الروح،و يترك

ص: 266

آثاره في المشاعر و الأحاسيس.و تتولد من خلال ذلك في النفس حالات الخوف و الرجاء،و يوجد حالة رقابة ذاتية،و تنشأ عنه المواقف و الممارسات،و الإقدام و الإحجام،على أساس مبدأ التكامل،و كل ذلك يتم في ظل الرعاية الربوبية بما تمثله من تدبير يرتكز إلى العلم، و الحكمة،و القدرة،و..و..

و هذا هو الإيمان الحقيقي الذي عبرت عنه الآية الكريمة: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1).

و هو الإيمان الذي أمر اللّه به المؤمنين حين قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا (2).

***

********

(1) سورة البقرة الآية 260.

(2) سورة النساء الآية 136.

ص: 267

ص: 268

الفصل الحادي عشر: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً

اشارة

ص: 269

ص: 270

قال تعالى:

فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً.

«فَوَقاهُمُ اللّهُ »:

هناك عدة نقاط لا بد من الإشارة إليها،و هي التالية:

ألف-إن الوقاية هي جعل ما يمنع من وصول ما يكره وصوله إلى شيء ما..

و قد اختير التعبير بالوقاية هنا،ربما ليشير تعالى به إلى أن شر ذلك اليوم سوف لا يتعرض له أحد بما يوجب بطلانه و إزالته،بل هو يبقى قائما مستمرا،و فاعلا و مؤثرا..و إنما يكون التعامل معه بطريقة إيجاد المانع من تأثيره..و ليس بالاستهداف المباشر له،للقضاء عليه،أو إسقاطه عن التأثير..

و هذا معناه:أن وجود ذلك الشر مستند إلى مقتضيات،و أن موجبات وجوده قائمة،فلا يصح التعرض له مع بقاء تلك الموجبات..

ب-إن التصرف الإلهي ليس في ذات أولئك الأبرار،حيث لم يبعدهم تعالى عن الشر بصورة قاهرة،و إنما جعل لهم ما يقيهم و يحفظهم منه..و معنى هذا أن تواجدهم في مواقعهم على حالة الحفظ و الوقاية هو الآخر مطلوب و محبوب..

و لعل من أسباب مطلوبيته إظهار فضلهم و كرامتهم،و سرور المؤمنين

ص: 271

بهم و طمأنينتهم لوجودهم،و عذاب الحسرة لغيرهم،و هم يرون ذلك.

ج-إن هذه الوقاية هي فعل اللّه سبحانه بهم،من موقع ألوهيته،أي أنه يقي من النار،أو يعاقب بها بما هو مالك،و قادر،و عالم،و حكيم، و عادل،الخ..

أما جهة الربوبية،فإنها تمثل التدبير،و التفضل،و الرحمة،و الكرم، و الهداية،و المحبة و الحكمة.و هي قد أسهمت في تربيتهم،و رعايتهم في دور تكاملهم،و ترشيد قدراتهم،و إعدادهم بصورة أهلتهم للأعمال الصالحة التي استحقوا بسببها و من خلالها هذا التكريم و التشريف الإلهي..

د-لقد جاء تعالى بصيغة الماضي،فقال: وَقاهُمْ و لم يقل:

سيقيهم اللّه،ربما للإشارة إلى أن هذا الأمر هو من الأمور المقضية التي لا شك في حصولها،إلى حد أنه يمكن الإخبار عن حصولها و تحققها بالفعل.

يضاف إلى ذلك:أن الزمان لا معنى له بالنسبة لما يختص بالذات الإلهية،فإن كل شيء حاضر لديه تعالى خارج دائرة الزمان..و إن لم نستطع نحن أن نتعقل ذلك،فإن عجز عقولنا عن إدراك الذات الإلهية، و صفاتها،و غير ذلك مما يرتبط بها،إنما هو بسبب قصور عقولنا،لا لأجل أن تلك الأمور ليس لها عينية و ثبوت في الواقع..

ه--قد جاء التعبير بالفاء،و بصيغة الإخبار عن أمر حاصل فَوَقاهُمُ .. ربما لكي لا يكون التعبير بصيغة يفهم منها السامع:أنها وعد بأمر مستقبلي،لأن البشر قد يتخوفون من تبدل مقتضيات الوفاء بالوعود، أو من حصول موانع من ذلك..

ص: 272

فجاءت الفاء لتربط الحدث الذي هو إخبار عن حصول،بالحالة التي يعيشها الأبرار،و بالعمل الذي أنجزوه بصورة مباشرة،حتى لا يبقى الإنسان في حالة انتظار و توقع،فإن سياق إنشاء الكلام-بسبب الفرق بين ثم و الفاء، أو بين الفاء و بين أي تعبير آخر-يشير إلى الفصل و التراخي..

و-و يرد هنا سؤال هو:أن الآية قد ذكرت:أن اللّه هو الذي يقي الأبرار من شر ذلك اليوم..مع أن الآية السابقة قالت:إن اليوم الذي يخافون منه،إنما هو من قبل اللّه تعالى..فكيف يكون اليوم من جهته، ثم يكون هو الواقي منه؟!أ ليس الأولى هو:أن يلغي ذلك اليوم من أساسه،بدلا من أن يوجده ثم يقي منه؟..

و الجواب:أن وجود هذا اليوم ليس لأجل أن يخاف منه الأبرار،فإن غير الأبرار أيضا لهم دور في وجود ذلك اليوم،و سوف ينالهم منه ما يناسب أعمالهم،و لن يقيهم اللّه سبحانه شره..فلا ضير،و لا محذور،في أن يكون ذلك اليوم من قبل اللّه..و هو الذي يقي منه الأبرار.

ز-إن أعمال الأبرار هي التي جعلتهم أهلا للكرامة الإلهية،و بها تكون لهم الوقاية و الرعاية.و لو لا أعمالهم فلا وقاية لهم.فالوقاية سنة إلهية،و اللّه يجري الأمور بأسبابها،لكن سببية هذه الأسباب مجعولة من قبله سبحانه،و إثارة هذه الأسباب و تحريكها إنما يكون بفعلنا نحن،و قد جعلت النار و خلقت لمعالجة الذنوب،و خلقت الجنة للثواب على الطاعات..و قد روي عنهم[عليهم السّلام]:اتقوا النار و لو بشق تمرة..

الوقاية و التفضل:

و لكن اعتبار الوقاية نتيجة للعمل.و جزاء عليه..لا يعني عدم وجود أي تفضل إلهي..بل التفضل قد يكون في نفس مقدار الجزاء،و ذلك

ص: 273

حين يقرر أن الحسنة بسبع مائة،و أن اللّه يضاعف لمن يشاء..و أن ذلك يصير حقا لهم بعد تحقق الجعل..

كما أنه قد يكون هناك تفضل زائد على أصل الجزاء،بعد تقريره، و جعله..و هو ما أشار إليه تعالى بقوله: وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (1)..

التقوى..حذر و استعداد:

و بمناسبة حديثنا عن الوقاية،نشير إلى أن البعض قد يتخيل:أن التقوى معناها الخوف و الفزع من اللّه تعالى،فمعناها قريب من معنى الخشية..

و لكن الظاهر هو أن التقوى مأخوذة من طلب الوقاية،فهي أقرب إلى معنى الحذر الذي يدعو إلى التماس الحرز و الواقي..

بين صيغتين:

هذا..و قد قال تعالى هنا: فَوَقاهُمُ جَزاهُمْ ، بصيغة الماضي..

و قال قبل ذلك: يشربون ، يطعمون ، نطعمكم ، يخافون ، بصيغة المضارع.و ما ذلك..إلا لأنه سبحانه حين استعمل صيغة المضارع،أراد أن يبين:أن هذه سجية فيهم،و أنه أمر مستمر و متجدد، لكنه حين استعمل صيغة الماضي،فهو إنما كان يتحدث عن الجزاء، فجاء بما يفيد التحقق و الحصول و الثبوت،لأن من آثار و نتائج الأفعال، دوامها و بقاؤها و ثباتها.

«فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »:

قال في مجمع البيان:«أصل الشر الظهور،فهو ظهور الضرر،و منه

********

(1) سورة البقرة الآية 261.

ص: 274

شررت الثوب إذا أظهرته للشمس،أو الريح..إلى أن قال:و منه شرر النار لظهوره بتطايره».أي و انفصاله..

و قد يذكر للشر تفاسير أخرى،هي إما تطبيقات و مصاديق،أو إشارات إلى لوازم هذا المعنى..ككونه الاسم الجامع للرذائل،و الخطايا، و السوء،و الفساد،و الظلم،و الشر،و أيضا:إبليس،و الفقر،و الحمى..

و إذا أردنا أن نسوق الكلام هنا وفق ما قاله الشيخ الطبرسي..فنقول:

إن الفطرة،و العقل،و الهداية الشرعية،و سائر الهدايات الإلهية،و رعاية اللّه سبحانه،و تدبيره و ألطافه الربوبية،نعم-إن ذلك كله يفرض على هذا الإنسان أن يسير باتجاه معين،و في ضمن نطاق النظام التكويني، و الفطري،و التشريعي،و العقلي.و يفرض حالة من التناسق في الخلق، و الوجود،و في الحياة،ليصل الإنسان إلى كماله،و ليتمكن من تحقيق ذاته،فأي خروج عن هذا،سوف يكون نشازا،له بروزه و ظهوره المميز..

و يمكن تقريب هذا الأمر بمثال هو:أنك لو جسدت إنسانا في تمثال،فإذا أنقصت منه بعض أعضائه الظاهرة،مثل يده،أو أنفه،أو شفته،أو عينه،فإن ذلك سيكون هو النقطة الأظهر فيه،و ستنصب الأنظار عليها بشكل لافت و غير عادي.و سوف يستتبع ذلك أذى للنفس، و انفعالات خاصة لدى الناظر،و شعورا مختلفا،و لعله يؤذي مشاعره،و قد لا يلتفت إلى أية ناحية جمالية مميزة أخرى موجودة في ذلك التمثال.

لأن هذا النقص نشاز،لا بد أن يظهر،و أن ينشر آثار النقص الظاهرة فيه في كل اتجاه،بخلاف ما لو كان التمثال تاما،فإنك قد لا تلتفت،لا إلى أذنه،و لا إلى عينه،و لا..و لا..إلخ..

فلو كان هناك إنسان عابد،زاهد،عالم،تقي إلخ..و لكنه حسود فإنك ستجد أن هذا النقص هو الذي يلفت نظر الناس،و ستكون له

ص: 275

تأثيرات سلبية على علاقتهم به،و نظرتهم إليه،تفوق تأثيرات صفات الإيجاب فيه،و لسوف ينقص ذلك من تلذذهم بصفات الإيجاب.بل ربما يكون وجود صفات الكمال فيه هو الموجب لزيادة ألمهم و تأذّيهم بصفات النقص..

و بما أن شرور ذلك اليوم،قد أنتجتها أعمال الناس..و اختلالات في سلوكهم،و نقائص و تشوهات في شخصيتهم الإنسانية و الإيمانية.

فإن ظهور النقص الذي في شخصية الإنسان على حركاته،و أفعاله، كان هو الذي كان هو السبب في تسرب الشر إلى حياته في الآخرة، و هو الذي أوجد هذا الشر..

أما الأبرار فليس فيهم أي خلل أو نقص،و لا يوجد في حياتهم أية ثغرة يمكن للشر أن يتسرب منها إليهم،فهم في وقاية حقيقية منه..

فالشر إذن لا يمنع و لا يكفّ عنهم..بل هم في حصن حصين منه، و ليس فيهم منفذ يستطيع الشر أن ينفذ منه إليهم.

«وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً »:

و قد فسروا كلمة«لقّاهم»بلاقاهم..مع أن كلمة«لقّاهم»إنما تعني:

أنه جعلهم يتلقون النضرة بصورة متتابعة و تدريجية،و مرة بعد أخرى، و التلقي هو التقبل و الأخذ،باختيار و سابق إرادة..

فالنضرة لم تعرض عليهم عروضا عابرا..بل بقيت فيهم و استمرت..

أما كلمة«لاقاه»،فإنما تعني حصول مواجهة بين هذا و ذاك،و لو صدفة، و لا تعني التدرج،و لا التوالي و التعاقب..و كذا الحال بالنسبة لتلقاه فإنها قاصرة عن إفادة المراد،لأن معناها:تلقاهم بالنضرة و بالسرور،مع أن المراد:أنهم هم الذين يتلقون النضرة و السرور،ليحل بهم،و يكون فيهم.

ص: 276

كما أن«لقّاه»..معناها جعله يتلقى شيئا آخر،أما«لاقاه»،فمعناها أنه هو نفسه قد التقى معه.

أضف إلى ما تقدم:أن«لاقاه»تحتاج في تعديها إلى النضرة،إلى توسيط حرف الجر،فتقول:لاقاهم بالنضرة،أما كلمة«لقّاه»فتتعدى بنفسها فتقول:لقاهم نضرة..

بقي أن نشير إلى أن كلمة«لقّاهم»بمعنى جعل فيهم أهلية التلقي، مع فعلية إفاضة النضرة و السرور عليهم،و ليس المراد بها مجرد جعل الأهلية،و لذلك لم يقل:و أهّلتهم للنضرة و السرور،كما لم يقل:

و أعطيتهم نضرة و سرورا،أو سررتهم و نضرتهم.

و قد قلنا:إن نفس عملهم في الدنيا هو الذي أوجب لهم هذا الجزاء،و هذا اللطف الإلهي في الآخرة،و تسبب باللطف و الكرامة لهم، و العناية بهم،بصورة تدريجية و مستمرة،مما يدل على وجود إرادة إلهية مستمرة الفيض عليهم.

و إن إحساسهم ببقاء هذا الرضا،و بقاء اللطف،هو نعيم آخر لهم.إذ هناك فرق بين أن يعمل الإنسان عملا،و يأخذ أجرته،و تنتهي العلاقة به، و بين أن يوجب ذلك العمل علاقة مستمرة.و ما نحن فيه من هذا القبيل، ففيه لذة الشعور المستمر بهذه العلاقة،فاللّه سبحانه لا يريد أن يدخلنا الجنة لكي نتنعم بها،ثم ينفذ ذلك النعيم،و ينقطع عنا،إذ إن لذة إحساسنا بدوامه هي الأتم،و هي الأهم.

«نضرة»:

و النضرة تحتاج-بحسب طبيعتها-إلى بقاء و استمرار،لأن النضرة هي:الحسن،و الرونق،و اللطف،و الإشراق.و الناضر هو الناعم الذي له

ص: 277

بريق في صفائه..

و هذه نعمة حباهم و كرمهم اللّه تعالى بها..و هي تكون تامة،نامية، زاكية،إذا استمرت..

و قد جاءت كلمة«نضرة»منكّرة،ليثير أكثر من سؤال حول حقيقة هذه النضرة،و أفق و مدى ذلك السرور..فهي نضرة تحير العقول في أوصافها،و سرور لا يمكن وصفه أيضا.و في هذا لذة الطمأنينة و هي لذة لا حدود لها،بل هي تصل إلى درجة الرضا و الإشباع.

لما ذا بدأ بالنضرة؟:

و يبقى سؤال هو:لما ذا قدم ذكر النضرة،التي قدمنا تفسيرها على السرور؟..

و يمكن أن نجيب:بأن النضرة تعبر عن تغير حقيقي في الذات،إلى حالات لها درجة من الثبات،فهي ليست كالسرور الذي هو مجرد انفعال نفسي،ليس من طبيعته البقاء و الثبات،بل هو قد يزول و ينتهي.

كما أن النضرة هي من أسباب و مبادئ حدوث الطمأنينة و الرضا، و هي علامة من علامات النشاط،و ظهور الحيوية،و تبلور الإحساس بكمونها في واقع الذات..

و ذلك بطبيعة الحال سبب من أسباب السرور،لأنه يعطي الإيحاء و الإشارة إلى أن وجود هذه الحالة،إنما هو من خلال اللطف،و من مظاهر و تجليات الرضا الإلهي و الكرامة الربانية،و ذلك مثار اعتزاز، و سبب لتباهي أهل الجنة،و هم ينافسون أهل النار،و يجعلون منه سبيلا لإثبات الحق،و إبطال الباطل،و زيادة حسرة و عذاب أهل النار،الذين كانوا يستضعفون،و يذلون و يحتقرون المؤمنين في الدنيا،فها هم يرون

ص: 278

الآن نعيمهم و عزّهم،فيؤذيهم ذلك و يكون خزيهم،و عذابهم الشديد نعيما و شافيا لصدور أهل الإيمان في الجنة،لأنهم يحبون أن يروا عواقب هتك حرمات اللّه،و التمرد عليه سبحانه..

و قد حدثنا القرآن عن حوارات هامة فيما بين أهل الجنة و أهل النار، لربما نوفق إلى الإلماح إليها في مقام آخر،يلاحظ فيها أن الكفار يكذبون في الآخرة في بعض الأحيان،و يحاولون التملص و التخلص مما هم فيه بلطائف الحيل.

مما يعني:أن حرية القول و حرية التصرف تبقى للناس،حتى و هم يعذبون أو ينعّمون.

و خلاصة القول:إن النضرة و سام ظاهر في أهل الإيمان،يزيد من بهجتهم..و يزيد من حسرة أهل النار،و من عذابهم و ألمهم.و هي تحمل معها موجبات السرور بلطف اللّه بالأبرار،و بكرامته لهم،و عطفه عليهم.

ما خافوا منه..و ما لقّاهم إياه:

و قد يمكن القول بوجود سنخية من نوع ما بين ما خاف الأبرار منه:

إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أي شديد العبوس الظاهر في الوجه،و بين ما لقّاهم اللّه تعالى إياه،و هو النضرة،التي هي الرواء، و الرونق،و البهاء الثابت و المستمر،و الحيوية الدائمة المتجددة..

كما أن الشدة و الصعوبة في المضمون المعبر عنه بالقمطرير.يقابله سرور و ابتهاج نابع من الداخل،و من أعماق النفس،طافح على الجوارح، ظاهر في التصرفات و الحركات.

«و سرورا»:

و قد قيل:إن السرور هو اعتقاد وصول المنافع في المستقبل..

ص: 279

و نقول:إن السرور ليس مجرد اعتقاد،بل هو حالة انفعالية،و ارتياح و انبساط،و تلذذ قلبي و روحي،يطفح حتى تظهر آثاره على الجوارح، حركة و سلوكا.و تقابلها حالة الكبت،و الانكماش،و الأسى..

و حالة السرور هذه تحتاج دائما إلى متعلق،حيث يسر الإنسان بولده، أو بماله،أو بشفاء مريض،أو بكرامة اللّه له..و هذا يعني أن هذا السرور باق ببقاء متعلقه،الذي يختزن المنشأ و المقتضي له،و هو سبب حدوثه..

فإكرامك إنسانا و خدمتك له ساعة،سيكونان سببا في سروره طيلة هذه الساعة،فإذا أكرمته يوما،فسروره يبقى يوما أيضا..و هكذا..لأن السرور دائر مدار الوجود الفعلي لمتعلقه،و منشئه،و بواعثه.

و لذلك نلاحظ:أن التعبير في الآية الشريفة هنا قد جاء بالتلقي، الظاهر في إرادة التجدد المستمر،و الحدوث مرة بعد أخرى.

و بذلك يتضح:أن تفسير السرور باعتقاد وصول المنافع في المستقبل غير دقيق من جهتين:

الأولى:أن السرور ليس مجرد اعتقاد،بل هو انفعال حقيقي،و ابتهاج فعلي،و لذة قلبية حاضرة.

الثانية:أنه ليس سرورا بأمر سيحصل،بل هو سرور بأمر حاضر،قد حصل بالفعل،فالسرور يدور مداره وجودا و عدما،لأنه باق ببقائه..

و إرادة بقاء هذا السرور تستلزم بقاء ما يوجبه..

و الذي يوجبه في مورد الآية هو أن من سجية الأبرار إطعام الطعام على حبه مسكينا،و يتيما،و أسيرا،لوجه اللّه..و من سجيتهم الوفاء بالنذر،و من سجيتهم الخوف من ذلك اليوم العبوس القمطرير..و..الخ..

فإذا كان هذا هو حالهم المستمر،فإن نتيجته نضرة مستمرة و متجددة،

ص: 280

و سرور مستمر و متجدد أيضا.خصوصا..إذا كان مصدر هذا العطاء و هذه الكرامة هو اللّه سبحانه،الذي لا حدود لكرمه،و لا نهاية لعطائه: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1).

و قد قلنا:إن تنوين التنكير في كلمتي«نضرة»و«و سرورا»إنما هو لإفهام الإنسان أنه لا حدود لعطاء اللّه سبحانه..فإذا كان يتخيل الأمور محدودة،و يتطلب ما هو محدود،فإن اللّه سبحانه حين يريد أن يكرم الإنسان،فإنما يكرمه بما يناسب ذاته المقدسة،و إن لم يستطع الإنسان نفسه إدراك حجم،و نوع،و حالات،و خصائص،و مزايا ذلك الإكرام الذي يختاره اللّه له،و يخصه به.

***

********

(1) سورة هود الآية 108.

ص: 281

ص: 282

المحتويات

تقديم:5

سورة هَلْ أَتى المباركة:7

تمهيد:9

تسمية هذه السورة:9

ثواب و آثار قراءة سورة«هل أتى»11

سبب نزول هذه السورة:12

لما ذا أعطوا جميع الطعام؟!14

السورة مدنية:14

مستند أهل الزيغ:15

الفصل الأول:الخلق..و الهداية..

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »: 23

«هل»للإنكار أو التقرير:23

هل البسيطة و هل المركبة:26

ص: 283

لما ذا اختار كلمة:«أتى»؟:27

«عَلَى الْإِنْسانِ »: 29

«الإنسان»:30

سؤال..و جوابه:31

عودة إلى كلمة«الإنسان»:33

الإنسان في أحسن تقويم:34

«حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ»: 36

«شيئا»:38

«مذكورا»:38

الامتنان الإلهي..هداية،و رعاية:40

الفصل الثاني

إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً

«إِنّا خَلَقْنَا»: 45

«خلقنا»:52

«الإنسان»:56

دور الإنسان في صنع خصائصه:57

الفطرة..و الإنسان:59

«مِنْ نُطْفَةٍ »: 61

«نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ»: 61

إعراب كلمة«أمشاج»:61

ص: 284

«أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ »: 62

لا بد من إجابة:63

الأمشاجية للمزايا الإنسانية،لا المادية:64

آدم أبو البشر:66

«الابتلاء»:66

نبتليه!!بما ذا؟!:69

النظرة الأولى:69

النظرة الثانية:70

الاختبار و الاختيار:71

«فجعلناه»:74

تقديم كلمة سميع على بصير:77

«سَمِيعاً بَصِيراً»، بصيغة المبالغة:81

حاسة السمع هي الأسبق:85

سامع أم سميع؟:86

نظرة إجمالية لمسار الخطاب في الآيات:87

الفصل الثالث

إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً

«إنّا»:95

«هديناه»:96

ظاهرة الجحود و الإيمان:100

ص: 285

«السّبيل»..و ليس الطريق!:101

هديناه السبيل..أو إلى السبيل؟:102

(أل)عهدية أم جنسية؟:102

لما ذا بدون فاء التفريع؟:104

السميعية و البصيرية لا تغني عن الهداية:104

و إمّا كفورا:106

قوة الوضوح في البيان القرآني:106

لما ذا قال:شاكرا؟!108

لما ذا:«و إمّا كفورا»؟!110

الأخلاق أساس الدين:112

فرق آخر بين الكفر و الشكر:112

المجبرة،و آية الهداية:113

الفصل الرابع

إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً

«إنّا»:117

«أعتدنا»:117

الإعداد لا ينافي القدرة:118

الوعيد بغير المحسوس،يلغي الفرق:118

الإعداد و العفو:119

«أعتدنا»صيغة الماضي!119

ص: 286

«للكافرين»:120

الترتيب و الاختيار:121

سبب اختيار أنواع العذاب:122

الفرق بين السلاسل و الأغلال:123

سبب تقديم السلاسل على الأغلال:123

«وَ سَعِيراً»: 124

الأبرار و الفجار..إطناب و اقتضاب:124

لما ذا تحدث عن العقوبة أولا:126

الفصل الخامس

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً

«إِنَّ الْأَبْرارَ»: 131

انسجام المعاني..مع الآيات:132

استعمال المشترك في أكثر من معنى:135

«يشربون»:137

«مِنْ كَأْسٍ »: 138

«كانَ مِزاجُها»: 139

«مِزاجُها كافُوراً»: 140

«كافُوراً»: 141

حذف متعلق الشرب:142

المزاج متأصل في عمق الذات:143

ص: 287

الأبرار..و عباد اللّه:144

اختلاف سياق الآيات:145

للتوضيح و البيان:145

كل ما في القرآن مهم لنا:147

كيف يتحدث القرآن عن الغيب؟153

الفصل السادس

عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً

«عينا»:157

«يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ »: 158

العبادية..و الشرب من العين:158

«بها»:158

عباد اللّه،أم عبيد اللّه:160

الأبرار..و عباد اللّه:162

«اللّه»:162

الجهة الأولى:162

الجهة الثانية:164

«يفجّرونها»:165

الفصل السابع

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ»: 171

ص: 288

قيمة الوفاء بالنذر:175

لا يوجد عاطف:177

«يوفون»:177

النذر أيضا سنة إلهية:180

الوفاء بالنذر..و الوفاء بالوعد:181

لما ذا جاء بالباء«بالنذر»؟!:181

«يوفون»بصيغة المضارع:182

الوفاء بالنذر صفة أخلاقية:183

«يخافون»:184

إيمان أم خوف؟!185

«يَخافُونَ يَوْماً»: 189

الخوف من اللّه!أم من اليوم؟!:190

لما ذا«يوما»..بتنوين التنكير؟!:191

مناشئ الخوف:191

الذين عبدوا اللّه خوفا:192

«كان»لما ذا؟!193

«شرّه»:194

«وَ يَخافُونَ يَوْماً.. ..فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »: 194

«مستطيرا»:195

ص: 289

الفصل الثامن

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً

حادثة الإطعام:201

شرح مفردات الآية:202

الإجمال ثم التفصيل:202

«وَ يُطْعِمُونَ »: 202

ألف:لم يقل:يعطون الطعام:202

ب:الإطعام وقت الإفطار:204

ج:«يطعمون»..بصيغة المضارع:205

لام العهد!أم لام الجنس؟:206

ما المراد ب«الطّعام»:206

«على»:207

«عَلى حُبِّهِ » جملة اعتراضية:207

حب الطعام المذموم:207

الضمير في كلمة:«حبّه»:210

هل يحب أهل البيت عليهم السّلام الطعام؟!211

حبب إلي من دنياكم ثلاث:212

«مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً»: 214

1-تنوين التنكير لما ذا؟!:214

2-توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي:215

ص: 290

3-حالتان تصاعديتان تتعاكسان:215

4-المسكين..و الباذلون في اليوم الأول:216

5-اليتيم و الباذلون في اليوم الثاني:218

6-الأسير..و الباذلون:في اليوم الثالث:221

7-السائلون..هل هم مسلمون؟!:224

8-الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى:224

9-الإكرام أم الإطعام؟:225

10-قصة الإطعام..و هدف السورة:226

تبدل السياق:226

أسئلة تحتاج إلى جواب:229

السؤال الأول:229

السؤال الثاني:230

السؤال الثالث:230

السؤال الرابع:230

السؤال الخامس:230

جواب السؤال الأول:231

جواب السؤال الثاني:231

جواب السؤال الثالث:232

جواب السؤال الرابع:232

جواب السؤال الخامس:234

ص: 291

الفصل التاسع

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً

«إنّما»:237

«نطعمكم»:237

«لِوَجْهِ اللّهِ »: 237

لما ذا الحصر ب«إنّما»؟!:238

القيد التوضيحي:239

لما ذا قال: «لا نُرِيدُ»؟: 241

«لا نُرِيدُ» مرة أخرى:241

«لا نُرِيدُ» مرة ثالثة:242

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ »: 243

لا رياء و لا سمعة:244

«منكم»:244

«جزاء»لما ذا؟!245

1-تنوين التنكير:245

2-الجزاء هو مقتضى العدل و الحق 245

3-تقديم الجزاء،لما ذا؟!245

أيهما أصعب!!246

الجزاء مرتبط بالشكر و عكسه:246

الشكور:247

ص: 292

لما ذا«شكورا»؟!:248

الفصل العاشر

إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً

«إِنّا نَخافُ»: 255

«نخاف يوما.. نَخافُ مِنْ رَبِّنا»: 256

«إِنّا نَخافُ..» هل هي تعليل؟!258

«يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً»: 261

«عبوسا»:261

«يَوْماً عَبُوساً»: 262

رؤية واضحة:262

الحديث عن الشدائد لما ذا؟!:263

«قمطريرا»:264

الإيمان بالغيب:264

الفصل الحادي عشر

فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً

«فَوَقاهُمُ اللّهُ »: 271

الوقاية و التفضل:273

التقوى..حذر و استعداد:274

بين صيغتين:274

«فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ »: 274

ص: 293

«وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً »: 276

«نضرة»:277

لما ذا بدأ بالنضرة؟:278

ما خافوا منه..و ما لقّاهم إياه:279

«وَ سُرُوراً»: 279

المحتويات:283

ص: 294

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.