الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام المجلد 19

اشارة

الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام

نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي

مکان نشر: لبنان - بيروت

سال نشر: 2009م , 1430ق

چاپ:1

موضوع:اسلام، تاریخ

زبان :عربی

تعداد جلد: 20

کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

الجزء التاسع عشر

اهداف و آثار النهضة الحسينية

أهداف النهضة الحسينية

خلاصة النهضة الحسينية

اشارة

لقد وردت عبارة في زيارة أربعين الإمام الحسين عليه الصلاة و السلام تنطوي على مغزى عميق و هي جديرة بالتأمل و التدبر كسواها من العبارات الكثيرة الواردة في مثل هذه الزيارات و الأدعية،حيث إنها ناظرة إلى أهداف النهضة الحسينية.و هذه العبارة هي"و بذل مهجته فيك".

و قد وردت في زيارة الأربعين التي تأتي فقراتها الأولى على صورة دعاء يناجي به المتكلم المولى سبحانه و تعالى فيقول"و بذل مهجته فيك"أي الحسين بن علي (عليهما السلام)"ليستنقذ عبادك من الجهالة و حيرة الضلالة".فهذا هو أحد جوانب القضية و هو المتعلق بصاحب النهضة أي الحسين بن علي عليه السلام.

و أما الجانب الآخر فيرد في الفقرة التالية التي تقول"و قد توازر عليه من غرته الدنيا و باع حظه بالأرذل الأدنى"في وصف للواقفين على الجبهة المضادة،و هم الذين غرتهم الدنيا بالمطامع المادية و الزخارف و الشهوات و الأهواء النفسية فباعوا حظهم من السعادة الدنيوية و الأخروية بالأرذل الأدنى.

و هذه هي خلاصة النهضة الحسينية.

و بالتدقيق في هذا الكلام،يدرك المرء أن بإمكانه النظر إلى النهضة الحسينية بمنظارين في الواقع،و كلاهما صحيح،سوى أن مجموعهما يكشف عن الأعباء

ص: 3

العظيمة لهذه النهضة؛فالنظرة الأولى تكشف عن الحركة الظاهرية للحسين بن علي عليه السّلام،و التي قام بها في مواجهة حكومة فاسدة و منحرفة و ظالمة و قمعية و هي حكومة يزيد.

و أما باطن القضية و عمقها فتكشف عنه النظرة الثانية،و هي الحركة الأعظم و الأعمق لأنها ضد جهل الإنسان و ضلالته.فمع أن الإمام الحسين عليه السّلام قام بمقارعة يزيد في الواقع،إلا أنّ هذه المقارعة الواسعة التاريخية لم تكن ضد يزيد الفرد الفاني الذي لا يساوي شيئا،بل كانت ضد جهل الإنسان و انحطاطه و ضلالته و ذلّه،و هو ما يكافحه الإمام الحسين عليه السّلام في الحقيقة.

مميزات حكومة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله

لقد جاء الإسلام بحكومة مثالية.و لو أردنا اختصار قضية الإمام الحسين في سطور لقلنا بأن الظلم و الجهل و العنصرية كانت تسود البشرية؛فالحكومات الكبرى التي كانت تسيطر على العالم في ذلك الزمان-حكومة قيصر في الأمبراطورية الرومانية و حكومة كسرى في إيران-و كانت تمثل حكومات النبلاء، و هي حكومات غير شعبية و حكومات مفروضة بحد السيف دون الخضوع للعقل و المنطق غايتها نشر الجهل و الفساد،و سواها من الحكومات الصغيرة على غرار ما كان في الجزيرة العربية،و غيرها من الحكومات التي كانت تفوقها سوءا و شرّا، كانت كلها حكومات جاهلية أخضعت العالم لسيطرتها.

و في هذه الأثناء أضاء رسول الله صلّى اللّه عليه و اله العالم بنور الإسلام،و استطاع بفضل المدد الإلهي و الجهاد الجبار و العظيم الذي قام به هو و الذين معه أن يبث النور في إحدى مناطق الجزيرة العربية،ثم ما لبث أن عمّها هذا النور الإلهي بالتدريج؛فعندما رحل الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله عن هذه الدنيا كانت الحكومة التي ثبت عمادها حكومة

ص: 4

قوية و مستقرة يجدر بها أن تكون نموذجا للحكومات على طول امتداد التاريخ الإنساني.

و لو كان الاستمرار قد قدّر لهذه الحكومة لتغيّر وجه التاريخ بلا ريب،و لتحقق في ذلك الزمان ما سيحققه إمام الزمان عجل اللّه فرجه لدى ظهوره بعد ذلك بقرون في عالم يسوده العدل و النقاء و الصدق و الإخلاص و المحبة،حيث البداية الحقيقة للحياة البشرية.

إنّ الحياة الحقيقة للإنسان في هذا العالم تعود إلى مرحلة ما بعد ظهور إمام الزمان عليه السّلام،و يعلم الله ما ستبلغه البشرية من عظمة و ازدهار يومذاك.

و لهذا فإن هذه الحكومة لو كان قد كتب لها الاستمرار و الدوام و ظلت باقية في تلك العصور الأولى و تغيّر تاريخ البشرية،لكان مصير البشرية قد خطا خطوات واسعة نحو الأمام،إلاّ أنّ هذا لم يحدث للعديد من الأسباب.

إن مميزات حكومة الرسول صلّى اللّه عليه و اله أنها كانت قائمة على العدل بدلا من الظلم، و مستندة إلى التوحيد و التمحور حول عبودية الذات الإلهية المقدسة بدلا من الشرك و التفرقة الفكرية للإنسان،و مبنية على العلم و المعرفة بدلا من الجهل، و قائمة على المحبة و التواصل و الرفق و المداراة بدلا من عداء الإنسان للإنسان؛أي كانت حكومة قويمة في ظاهرها و باطنها يشبّ فيها الإنسان في ظلال التقوى و الشرف و العلم و البصيرة و النشاط و التحرك و السعي نحو الكمال.

حكومة النبي بعد خمسين عاما

و لكن كل شيء كان قد تغير بمرور خمسين عاما،فلم يبق من الإسلام سوى الإسم دون المعنى و المضمون،و عادت حكومة الظلم بدلا من حكومة العدل،

ص: 5

و عادت العنصرية و التحزب و الطبقية بدلا من المساواة و الأخوّة،و بات الجهل بدلا من العلم و المعرفة.

لقد كان كل شيء يعود إلى الوراء خلال تلك الأعوام الخمسين،و هناك آلاف الشواهد و النماذج التي تفصح عن هذا الإنحدار؛و يتحمّل الباحثون و المحققون مسؤولية إيضاحها للعقول الشابة و تبيانها لطلاب الحقيقة.

الفرق بين الإمامة و السلطنة

لقد تحوّلت الإمامة إلى سلطنة مع ما بينهما من تناقض و تفاوت و اختلاف و تضاد؛فالإمامة تعني القيادة الروحية و المعنوية و الارتباط مع الناس بالرباط العاطفي و العقائدي.

و أما السلطنة فتعني حكومة القوة و الشدة والخداع بلا أدنى علاقة معنوية أو عاطفية أو عقائدية.

فالإمامة و السلطنة تقفان على طرفي نقيض تماما.

إن الإمامة حركة بين الأمة من أجل الأمة و لا تستهدف سوى الخير.

بينما تعني السلطنة تلك السلطة المتجبرة الآخذة بأعناق الناس و التي تهدر حقوقهم و تتجاهل مصالحهم من أجل فئة خاصة و عملا على ثراء الطبقة الحاكمة و إشباع نزواتها.

حكومة يزيد سلطنة

فالذي نراه في زمن ثورة الإمام الحسين عليه السّلام هي تلك الثانية و ليست الأولى،أي أن يزيد الحاكم لم يكن على علاقة مع الناس،و لم يكن من أهل العلم،و لم يكن تقيا

ص: 6

و لا نقيا و لا حكيما،كما لم تكن له سابقة في الجهاد في سبيل الله،و لم يكن يؤمن قدر ذرة بمعنويات الإسلام،و لم يكن يتصرف في سلوكه كالإنسان المؤمن،و لم يكن قوله كأقوال الحكماء؛أي أنه كان عاريا عن أي شبه برسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

و في مثل هذه الظروف سنحت الفرصة للإمام الحسين عليه السّلام ليقوم بثورته،و هو الإمام الذي كان يجب أن يخلف رسول الله صلّى اللّه عليه و اله في أداء مهمته.

إننا لو نظرنا إلى هذه القضية من حيث الظاهر فإنّ هذه الثورة ثورة على حكومة يزيد الفاسدة و اللاشعبية،و أما من حيث الباطن فإنها ثورة من أجل القيم الإسلامية و في سبيل العلم و الإيمان و الكرامة و بغية إنقاذ الناس من الفساد و الانحطاط و الجهالة.

و لهذا فإن الإمام الحسين عليه السّلام لدى خروجه من المدينة كتب وصيته التاريخية لأخيه محمّد ابن الحنفية و التي قال فيها:«إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما،إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي» (1).6.

ص: 7


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:93-96.

ثورة الحسين عليه السلام بوجه السلطنة

«إن نظام السلطنة و ولاية العهد هو نفس ذلك النمط المشئوم من الحكومة التي ضحى سيد الشهداء عليه السلام و استشهد من أجل الحيلولة دون استمرار بقائه، و لما لم يكن يرغب في الخضوع لولاية العهد التي أسندت ليزيد و لم يرغب الاعتراف رسميا بسلطنته،فقد قام و ثار و دعا المسلمين إلى القيام و الثورة،فهذه الأمور(السلطنة و ولاية العهد)ليست من الإسلام،إذ ليس في الإسلام سلطنة و ولاية عهد.

«لم تكن القضية قضية غصب الخلافة فحسب،لقد كان قيام سيد الشهداء سلام الله عليه و ثورته قياما ضد السلطة الطاغوتية...تلك السلطنة التي كانت تريد أن تصبغ الإسلام بصبغة أخرى و لو أنها نجحت في ذلك لأصبح الإسلام شيئا آخر تماما،و لصار مثل النظام الأمبراطوري الذي كان قائما لألفين و خمسمائة عام(في إيران).

إنهم أرادوا مواجهة الإسلام الذي جاء للقضاء على النظام الملكي و إزالة حكم السلاطين و إقامة الحكم الإلهي في العالم،و تحطيم الطاغوت.أرادوا أن يعيدوا عبادة الطاغوت و نفس الأوضاع التي كانت سائدة في الجاهلية.

إن شهادة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن هزيمة،فثورة سيد الشهداء (سلام الله عليه)كانت قياما لله،و ليس في القيام من أجل الله أية هزيمة» (1).

ص: 8


1- كتاب نهضة عاشوراء،ص 40-42.

أبعاد ثورة الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

قال الإمام الخميني:ينبغي لنا أن ندرك أبعاد هذه الشهادة و نعي عمقها و تأثيرها في العالم و نلتفت إلى أن تأثيرها ما زال مشهودا اليوم أيضا.فلو لا وجود مجالس الوعظ و الخطابة و العزاء و الاجتماعات هذه لما تمكّن بلدنا من تحقيق النصر.لقد نهض الجميع تحت لواء الإمام الحسين(سلام اللّه عليه)و أنتم تشاهدون الآن كيف أن جند الإسلام-حينما يعرض التلفزيون صورهم-إنما يساهمون في الإبقاء على نشاط الجبهات من خلال حبهم للإمام الحسين عليه السّلام.

إن على المبلّغين الأعزاء و العلماء و الخطباء أن يبينوا للناس-خلال الاجتماعات و المجالس التي تعقد في شهري محرم و صفر-القضايا المعاصرة،أن يبينوا لهم القضايا السياسية و الاجتماعية و يبينوا لهم تكليفهم في مثل هذا الوقت الذي نعاني فيه من كل هؤلاء الأعداء،و عليهم أن يفهموا الناس أننا ما زلنا في منتصف الطريق و أن علينا الاستمرار في المسيرة حتى النهاية إن شاء اللّه.

و لو بقي الوضع الحالي و بقي الحضور الفعال الذي سجّله أفراد الشعب-و للّه الحمد-في ساحة الأحداث،لو واصلنا السير على هذا المنوال فإننا سنتمكن في النهاية من تحقيق النصر المطلق و لكن علينا أن لا نتراخى أو نضعف.

عندما نهض شعبنا و ثار أعلن منذ البداية أنه يريد إقامة الجمهورية الإسلامية و الإستقلال الكامل و أنه يرفض الميل للشرق و للغرب و أعلن للعالم كله أننا لا نريد أن نكون تحت حماية أمريكا و لا في ظل حماية الاتحاد السوفيتي و لا غيرهما من القوى.نريد الاعتماد على رعاية اللّه تبارك و تعالى و السير تحت راية التوحيد التي

ص: 9

هي راية الإمام الحسين عليه السّلام فلا شك أن العالم سيتحرك للوقوف بوجهكم عندما يرى أنكم أعلنتم ذلك.

إن عليكم أن تدركوا ذلك منذ البداية فمثلما نهض الحسين عليه السّلام و ثار بوجه كل تلك الأعداد المدججة بالسلاح حتى استشهد،فعلينا نحن أيضا أن نثور و أن نوطّن أنفسنا للشهادة و نحن مستعدون لذلك.

و إنكم ترون كيف يعرب السادة الأجلاء من أئمة صلاة الجمعة و بكل رحابة صدر و طلاقة محيّا عن استعدادهم للبقاء في مواقعهم و أداء واجباتهم،و إن بلغ الأمر الشهادة التي نالها أقرانهم بعد انتصار الثورة الإسلامية في 22 بهمن ه ش (11 شباط 1979)فإن الاستكبار العالمي بزعامة أمريكا وضع و نفذ العديد من الخطط و المؤامرات للقضاء على الثورة الإسلامية الفتية.و كان من بينها-إضافة إلى إيجاد الفرقة-التخطيط لانقلاب عسكري و فرض الحرب التي استمرت مدة ثمان سنوات و القيام بتفجيرات و اغتيالات بواسطة عملائه المتغلغلين(منظمة مجاهدي خلق)و خسرت الجمهورية الإسلامية خلال هذه العمليات اللاإنسانية عددا من أفضل مؤيديها و مسؤوليها.

و كان من بين أولئك الشهداء،الشهيد آية اللّه مدني إمام جمعة تبريز و الشهيد آية اللّه دستغيب إمام جمعة شيراز و الشهيد آية اللّه صدوقي إمام جمعة يزد و الشهيد آية اللّه أشرفي أصفهاني إمام جمعة كرمانشاه،على الجميع أن يكونوا على هذه الحال (1).

و قال السيد الخامنئي:إنّ العارف بحركة الحسين بن علي عليه السّلام يدرك طبيعة هذه العزة التي حصلت من ثورة عاشوراء،و بالوسع الإطلالة على النهضة الحسينية الكبرى التي خلّدها التاريخ من خلال عدة أبعاد تؤطرها ثلاث رؤى،و إن ما يملأء.

ص: 10


1- انظر كتاب نهضة عاشوراء.

الأنظار أكثر من غيره في كلّ من هذه الأبعاد هو الشعور بالعزة و الشموخ و الفخار:

البعد الأول:هو ثورة الحق بوجه باطل قوي؛و هذا ما قام به الإمام الحسين و نهضت به الحركة الثورية الإصلاحية للحسين بن علي عليه السّلام.

و البعد الآخر:هو أن نهضة الحسين بن علي عليه السّلام تجسيد للمعنويات و الأخلاق، و ما عدا الجانب الاجتماعي و السياسي و التحرك الثوري و المواجهة الصريحة بين الحق و الباطل،ثمة ميدان آخر للصراع في هذه النهضة هو نفوس الناس و سرائرهم و بواطنهم؛فحيثما تراكمت نقاط الضعف و المطامع البشرية و الضعة و الشهوات و الأهواء النفسية في كيان الإنسان صدّته عن المبادرة للخطوات الكبرى،و هذا ميدان حرب أيضا و هي حرب مضنية للغاية؛و حيثما يقتفي المؤمنون المضحّون من الرجال و النساء أثر الحسين بن علي عليه السّلام إذ حينذاك تتضاءل في أعينهم الدنيا و ما فيها من متع و زخارف في قبال الشعور بالتكليف، و تنتصر المعنويات الكامنة المتبلورة في أعماق البشر و سرائرهم على جنود الشيطان القابعة في باطنهم-و هم جنود العقل و الجهل الذين تذكرهم رواياتنا- و هكذا كانت غلبة العقل على الجهل في بواطن ثلة من العظماء الأماجد الذي خلدوا كأنموذج عبر التاريخ.

هذا هو البعد الثاني.

و البعد الثالث:هو المصائب و الفجائع و الغصص و الأحزان و حسرات القلوب التي تطبع يوم عاشوراء و كثيرا ما تهيمن على الناس،و على هذا الصعيد غالبا ما نقتصر على قراءة المصيبة،غير أن في هذا البعد الثالث الذي هو منظر للمصائب عزة و مجد أيضا؛فعلى ذوي التمعن و الرأي و الفكر البحث في هذه الأبعاد الثلاثة.

ص: 11

1-عزة و مجد في الثورة ضد الباطل

ففي البعد الأول حيث قام الإمام الحسين بحركة ثورية،و في عمله هذا مظهر العزة و المجد،و لكن من الجهة أو الشخص الذي يقف في الطرف المقابل للحسين بن علي عليه السّلام إنها تلك الحكومة الظالمة الفاسدة المنحرفة المتجسد عملها في:"يعمل في عباد الله بالجور و العدوان"،فقد كانت تتعامل مع الأمة الرازحة تحت نيرها و مع عباد الله و خلقه بالظلم و العدوان و الغرور و التكبر و الأنانية،فكانت تتميز بتنكرها للمعنويات و الإلتزام بحقوق الإنسان و تبديل الحكومة الإسلامية إلى حكومة طاغوتية هي عينها التي كانت سائدة في الأرض قبل الإسلام على مر حقب التاريخ، في حين أن من أبرز مزايا النظام الإسلامي هي الحكومة،و إن من أبرز مرافق المجتمع المثالي الذي يصبو الإسلام لبنائه عبارة عن شكل الحكومة و طبيعتها و سيرة الحاكم.

لقد وصف عظماؤنا الأمر يوم ذاك بالقول:إنهم بدّلوا الإمامة إلى سلطنة..

و الإمامة إنما تعني قيادة ركب الدين و الدنيا؛ففي القافلة التي تسيّر الجميع صوب هدف سام واحد و باتجاه واحد يوجد من يرشد الباقين؛فإن ضلّ منهم أحد انتشله و أعاده إليها،و إذا تعب أحد حثّه على مواصلة الطريق،و إن أصيبت قدم أحد منهم عالجها له،و يرفد الجميع بالعون المعنوي و المادي؛و هذا ما يصطلح عليه في القاموس الإسلامي"الإمام"؛أي إمام هدى.

و تقابله السلطنة التي ينحصر معناها بالملكية الموروثة فهي نوع من السلطنة، لذلك لا يطلق على بعض السلاطين في العالم اسم سلطان،لكن بواطنهم سلطوية

ص: 12

تضمر التسلط و التجبر على البشر؛فأيّما شخص جاء و في أية حقبة تاريخية و أيا كان اسمه إذا ما قابل شعبه أو سائر الشعوب بمنطق القوة فذاك ما يسمى"سلطنة"، و أيّما زعيم دولة-في عصرنا هذا أمريكا،و فيما سبق من أزمنة التاريخ كانت هنالك دول مستكبرة أيضا-يخوّل لنفسه تحديد واجبات سائر الشعوب دون صلاحية أخلاقية أو علمية أو حقوقية يتمتع بها و يؤثر مصالحه و مصالح الشركات التي تمدّه على مصالح الملايين من أبناء البشر فتلك سلطنة،سواء حمل اسم السلطان أم لا.

و في عهد الإمام الحسين عليه السّلام بدّلوا الإمامة الإسلامية إلى ما يناظر ذلك"يعمل في عباد الله بالجور و العدوان"،فكان أن انبرى الإمام الحسين عليه السّلام لمقارعة هذا الوضع؛و قد تمثلت مقارعته هذه في البيان و الإيضاح و الهداية و التمييز بين الحق و الباطل،سواء في عصر يزيد أو من سبقه،غاية الأمر أن ما وقع في عهد يزيد و زاد على سابقه أن إمام الجور و الضلال و الإنحراف هذا كان يتوقع من إمام الهدى الإعتراف بحكومته!و هذا ما تعنيه البيعة؛إذ يبادر لإعلان تأييده لحكومة ذلك الجائر و يعترف بها بدلا من إرشاد الناس و هدايتهم و بيان ضلال تلك الحكومة لهم، فكان يزيد يحاول إرغام الإمام الحسين عليه السّلام!و من هنا كان منطلق ثورة الإمام الحسين عليه السّلام.

و لو لا تلك التوقعات الهوجاء البلهاء من تلك الحكومة لكان ممكنا أن يرفع الإمام الحسين عليه السّلام راية الهدى فيرشد الأمة و يتكفل هدايتها و يبين لها الحقائق-كما فعل الأئمة من بعده،و مثلما صنع هو في عهد معاوية أيضا-و يستمر على ذلك،لكنه تقدم خطوة إلى الأمام بسبب ما حصل من جهل و تكبر و ابتعاد عن الفضائل و المعنويات الإنسانية.

لقد توقع يزيد من الإمام الحسين عليه السّلام التوقيع على تلك الوثيقة السوداء القاضية

ص: 13

بتبديل الإمامة الإسلامية بالسلطنة الطاغوتية بما تحمله من معنى البيعة،لكن الإمام الحسين عليه السّلام رد قائلا:"مثلي لا يبايع مثله".فالحسين عليه السّلام لا يصدر منه هذا الاعتراف وراية الحق لا تقف مع صف الباطل و لا تقبل صبغته،و ذلك ما صرّح به الإمام الحسين بقوله:"هيهات منا الذلة".فلقد كانت حركة الإمام الحسين عليه السّلام حركة العزة؛أي عزة الحق و عزة الدين و عزة الإمامة و عزة ذلك الدرب الذي رسمه النبي صلّى اللّه عليه و اله.

لقد كان الإمام الحسين عليه السّلام مظهرا للعزة،و لصموده أضحى مصدر تمجيد و فخار،و هذه هي العزة و المجد الحسيني..

فلعلّ هنالك من يدلي بدلوه أو أطلق كلاما ما،لكنه لا يصمد عليه فيعلن انسحابه، فهذا لا يسعه التفاخر،بل الفخر من نصيب الإنسان أو القوم و الأمة التي تقف عند ما تقول،و لا تسمح للعواصف أن تسقط تلك الراية التي ترفعها أو تقضي عليها، و تحافظ عليها بكل صلابة؛و لقد حافظ الإمام الحسين على عليه السّلام تلك الراية و صمد إلى الحد الذي تعلمون،صمد حتى استشهد أعزاؤه و سبيت عياله،و هذه هي العزة و المجد على صعيد التحرك الثوري و تبلور المعنويات.

ص: 14

2-عزة و مجد في تجسيد المعنويات

اشارة

إنّ الكثيرين كانوا يأتون الإمام الحسين عليه السّلام و يلومونه على إصراره هذا، و هؤلاء لم يكونوا أناسا طالحين أو من البسطاء،بل كانوا من عظماء الإسلام، لكنهم أساءوا الفهم و غلبت عليهم نوازع الضعف البشري،لذلك أرادوا للحسين بن علي عليه السّلام أن يستسلم لتلك النوازع!لكنه لم يغلب و صبر.و جميع من كانوا مع الإمام الحسين عليه السّلام ظفروا بالنصر في هذا الصراع الباطني و المعنوي،فالنصر كان من نصيب تلك الأم التي أرسلت ابنها الشاب إلى ساحة المعركة و هي فخورة مستبشرة،و ذلك الشاب الذي تخلّى عن لذائذ الدنيا الظاهرية و دخل ميدان الجهاد و الصراع هو المنتصر في هذه المعركة،و أولئك الشيوخ من قبيل حبيب من مظاهر و مسلم بن عوسجة الذين أعرضوا عن دعة الشيخوخة و أحضان الأسرة الدافئة و تجرّعوا الشدة هم المنتصرون في هذا الصراع الباطني و المعنوي،و ذلك القائد الشجاع-الحربين يزيد الرياحي-الذي كان يتبوأ منزلة لدى الأعداء و لكنه أعرض عنها و التحق بالحسين بن علي عليه السّلام هو المنتصر في هذه المعركة.

تقديم الفضيلة على الرذيلة

إن المنتصرين في ذلك اليوم و هم يخوضون الصراع المعنوي بين فضائل الأخلاق و رذائلها،و أولئك الذين استطاعوا-يومها-تغليب جنود العقل على جنود الجهل حينما التقت مع بعضها،هم أولئك القلة،لكن وجودهم و صمودهم و ثباتهم على الاستقامة في ميدان الشرف ذاك هو الذي حدا بالملايين على مر التاريخ

ص: 15

لاستلهام الدرس منهم و اقتفاء ذات الدرب؛فلو لا ما فعله أولئك،و لو لا تغليبهم للفضيلة على الرذيلة في وجودهم لجفّت شجرة الفضيلة عبر التاريخ،لكنهم هم الذين روّوا شجرة الفضيلة.

درس من كربلاء

و في زمانكم عاصرتم الكثيرين ممن غلّبوا الفضيلة على الرذيلة في كيانهم و هزموا الأهواء النفسية لصالح المشاعر و الرؤية و الفكر الديني السليم و العقلائي، فكان أن شهد معسكر"دوكوهه"هذا و غيره من المعسكرات في البلاد و سوح الحرب و ربوع الوطن عشرات بل مئات الآلاف من هؤلاء.

و الآن فقد تعلّم الآخرون منكم،فليسوا قلّة أولئك المستعدون في ربوع العالم الإسلامي لنصرة الحق على الباطل في دواخلهم و في المواجهة بين الحق و الباطل الحاصلة في باطن الإنسان؛فثباتكم أثناء فترة الدفاع المقدس أو سائر التجارب الكبرى التي شهدها الوطن هو الذي رسّخ هذه الفضائل في زماننا،زمن الاتصالات المتقاربة التي لا تصب في منفعة الشيطان و شيطنته على الدوام و إنما فيها منفعة للمعنويات و المبادئ أيضا.

و لقد تعلّمت شعوب العالم منكم الكثير،و ما تلك الأم الفلسطينية التي كانت تقبّل ابنها و ترسله إلى ساحة الحرب إلاّ نموذج لذلك؛ففلسطين و طوال سنوات متمادية كانت زاخرة بأبنائها و رجالها شيبا و شبانا،لكنها كانت تعاني الذلّة و حاق بها هذا الوضع نتيجة لحالات الضعف و بسبب عجز جنود العقل عن تحقيق النصر على جنود الجهل في ميدان المواجهة المعنوية بينهما،فتسلّط الأعداء عليها،بيد أنّ الوضع قد تغير اليوم في فلسطين؛فلقد انتفضت فلسطين و استطاع شعبها بنسائه و رجاله تحقيق النصر للبعد المعنوي في ذواتهم على صعيد المواجهة المعنوية،

ص: 16

و سينتصر هذا الشعب.

3-عزة و مجد رغم المصائب و الفجائع

اشارة

و على صعيد البعد الثالث الذي يمثّل صورة الفاجعة في عاشوراء تشاهد أيضا ملامح العزة و الشموخ و الفخر؛فبالرغم من المصيبة و الاستشهاد،و بالرغم من أن استشهاد أيّ من شباب بني هاشم و أطفالهم و صغارهم و الأنصار الطاعنين بالسن إلى جانب أبي عبد الله الحسين عليه السّلام يعد مصيبة و فاجعة كبرى،إلاّ أن كلا منها تحمل جوهرة من العزة و المجد...

من الذي مثل الشاب المضحي في كربلاء؟إنه علي الأكبر بن الإمام الحسين عليه السّلام الشاب الذي كان متألقا و أنموذجا بين شباب بني هاشم،الشاب الذي اجتمع فيه توأم الجمال الظاهري و الباطني و حاز المعرفة ممزوجة بالشجاعة و التضحية..لقد كان شابا من هذا الطراز؛و معرفته الحقة بإمامة و ولاية الحسين ابن علي عليه السّلام و استعداده لمبارزة عدوه الشقي،هما اللذان دفعا بهذا الشاب الأوحدي المتألق إلى ساحة المعركة ثم يرجع إليهم جسدا مضرجا بدمائه في مرأى من أبيه و النسوة اللاتي كنّ يضطربن قلقا عليه؛فليس هينا مثل هذه المصيبة و هذا العزاء،لكن تقدّم هذا الشاب نحو الميدان و هذا الاستعداد للجهاد من قبله هو أمثولة عزة و عظمة و فخار بالنسبة للمسلم،و هو تجسيد لقول الله عزّ و جلّ: وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1)فمظهر العزة أن يكرس طاقته و نشاطه و شبابه لهدفه و مبدئه السامي،و في ذلك غاية الأهمية.

ص: 17


1- سورة المنافقون:8.

و إن الحسين بن علي عليه السّلام بإرساله هذا الشاب إلى ساحة المعركة جسّد بدوره العزة المعنوية؛أي إن الإمام الحسين عليه السّلام حافظ بقوة على اللواء الذي رفعه،و هو لواء الإباء و حاكمية الإسلام،لواء التمييز بين الإمامة الإسلامية و السلطنة الطاغوتية؛إنه بذلك يحافظ على هذا اللواء بقوة و إن كان ثمنه روح ابنه الحبيب.

مواقف كربلاء دروس خالدة للبشرية

لقد سمعتم خلال هذه الأيام ما تكرر من القول من أن الإمام الحسين عليه السّلام لم يكن يأذن بسرعة لأي من صحابته و أنصاره عندما كانوا يأتون و يستأذنونه للتوجه إلى ساحة المعركة و البراز،بل كان يمانع البعض و يشير على آخرين بالإنصراف من كربلاء بالمرّة،و هكذا كان يتصرف سواء مع شباب بني هاشم أو مع الأصحاب،بيد أن حبيبه و ولده الغالي عليا الأكبر لما جاء يستأذنه للتوجه إلى المعركة لم يتوان الإمام الحسين عليه السّلام لحظة و سرعان ما أذن له،و هنا يتسنى إدراك معرفة الابن و عظمة الوالد.

في البداية لمّا وصل دور التضحية و الاستشهاد إلى بني هاشم-لأن الأنصار كانوا لا يسمحون لبني هاشم بالتوجه إلى ساحة المعركة قائلين نحن فداكم، و مادام الأصحاب على قيد الحياة لم يؤذن لأبناء أمير المؤمنين و الإمام الحسن و الإمام الحسين عليه السّلام بالبروز إلى الميدان،فالأصحاب ما كانوا يسمحون بذلك،بل كانوا يقولون نحن الذين نبرز أولا،ثم إذا ما قتلنا ابرزوا أنتم إن شئتم-في ذلك الوقت كان أول من تقدّم مستأذنا هو ذلك الشاب العارف بمسؤوليته(علي الأكبر) و هو ابن الإمام و أقرب الناس إليه،فهو إذن أحق من الجميع بالشهادة فتقدّم لها..

و هنا يتجلى مظهر من مظاهر الإمامة الإسلامية؛فهذا ليس محلا يتقاسمان فيه الدنيا و المنافع المادية و الأرباح الاقتصادية و الشهوات النفسية،بل هو موقع

ص: 18

الجهاد و الشدة،و أول المتقدمين هو علي بن الحسين الأكبر،و هذا ما يبرهن على معرفة هذا الشاب،و يقابله الإمام الحسين عليه السّلام بتجسيد عظمته الروحية؛فبمجرد أن يطلب الإذن يسمح له الإمام الحسين عليه السّلام بالبروز إلى الميدان،و في ذلك عبرة لنا.

و هذه هي الدروس الخالدة عبر التاريخ و المواقف التي تحتاج إليها البشرية في حاضرها و مستقبلها؛فمادامت أنانيات الإنسان هي الغالبة عليه فهو يزداد خطرا كلما تنامت قدراته التنفيذية،و مادامت الأهواء النفسية هي الطاغية على الإنسان و يحاول الإستحواذ على كل شيء فإن من تعاظمت قدرته تعاظم خطرا و وحشية و بشاعة،و ها أنتم تشاهدون نماذج ذلك في العالم.

و إن إبداع الإسلام يتمثل في اختياره لمن يتسلّقون سلّم السلطة ممن أفلحوا في خوض الامتحان و بلوغ النجاح في بعض مراحله على أقل تقدير؛فالشرط الذي يضعه الإسلام لتسلّم المسؤوليات هو التجرد عن الكثير من هذه الأهواء و النوازع.

فعلينا-نحن المسؤولين-الاهتمام بأنفسنا و مراقبتها و ضبط أيدينا و ألسنتنا و أفكارنا و أنظارنا و أعمالنا أكثر من غيرنا،أي أنهم(المسؤولين)يفوقون الآخرين في إلزامية التقوى لديهم،فإذا ما طغى انعدام التقوى على الإنسان تضاعف خطره على البشرية كلما تنامت قدرته،و عندما يمتلك من لا أهمية عنده لأرواح البشر و حقوقهم و لا يعد الزهد عن النزوات النفسية مكسبا أو ذا شأن بالنسبة له،عندما يمتلك مثل هذا الإنسان صلاحية الضغط على أزرار القنبلة النووية يكون ذا خطر على البشرية..فحري بالذين يمتلكون القوة النووية و الأسلحة المدمرة في عالم اليوم السيطرة على أنفسهم و عواطفهم،و ذلك مما لا وجود له و للأسف،و هذا ما يروج له الإسلام و يمثل السبب في عداء السلطويين للإسلام (1).7.

ص: 19


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:107.

4-إصلاح الدنيا و الآخرة

اشارة

من أبعاد ثورة الإمام الحسين عليه السّلام-و هو الهدف الرابع-أن يستطيع الإمام التغلب على حكومة يزيد و استرداد السلطة من يد أولئك الذين يقمعون الناس و يتلاعبون بمصيرهم و وضع الأمور في نصابها الصحيح؛فلو كان قد حدث ذلك لتغيّرت مسيرة التاريخ.

لكن لم يتمكن الإمام الحسين عليه السّلام من إحراز هذا النصر السياسي و العسكري لأي سبب من الأسباب،و عندئذ لم يكن أمامه سوى استبدال القول بالدم و المظلومية و تحمّل الخسارة التي لن ينساها التاريخ على مدى الزمان،لتبقى كلمته تيارا جارفا لا ينقطع إلى أبد الدهر.و هذا هو ما فعله الإمام الحسين.

و في الحقيقة فلو كان الذين يدعون الإمام قد وقفوا موقفا آخر غير الذي اتخذوه مع الإمام الحسين عليه السّلام لتحقق هذا البعد(الأول)للثورة و لاستطاع الإمام الحسين عليه السّلام إصلاح الدنيا و الآخرة في ذلك الوقت،و لكنهم قصّروا في حقه!أما لماذا قصّروا،و كيف قصّروا،فإن ذلك من الأبحاث الطويلة و المريرة،و قد ذكرنا بعض جوانبه تحت عنوان"الخواص و العوام"؛أي من الذين قصّروا،و على من يقع هذا التقصير،و كيف كان،و أين كان؟

و على هذا الأساس فقد وقع التقصير من البعض و هو ما حال دون تحقق الهدف الأول،بينما تحقق الهدف الثاني،و هو ما لم يكن بوسع أية قوة كانت سلبه من الإمام الحسين،حيث إن قوة التوجه إلى ميدان الشهادة،و التضحية بالنفس و الأعزة،هو ذلك الحدث العظيم الذي تضاءلت و تلاشت أمام عظمته قوة العدو

ص: 20

و عظمته،و هو الذي يمنح الشمس المزيد من الازدهار و التألّق يوما بعد آخر في عالم الإسلام و يحيط بكل البشرية.

و اليوم،و بعد مرور قرون طويلة،بات الإمام الحسين بن علي عليه السّلام و الإسلام و أنتم أنصار الحسين عليه السّلام علما في شتّى أصقاع العالم.و لقد أصبح الأمر الآن بحيث يشعر المفكرون و المثقفون و أصحاب الرأي المستقل بالخضوع عندما يطالعون تاريخ الإسلام و يقفون على حقيقة قضية الإمام الحسين عليه السّلام.

إنّ الذين يجهلون الإسلام لكنهم يدركون مفهوم الحرية و العدالة و العزة و الرقيّ و القيم الإنسانية السامية ينظرون بهذا المنظار فيجدون الإمام الحسين عليه السّلام ذروة الإنسانية في الدعوة إلى الحرية و العدالة و مقاومة المساوئ و القبائح و مكافحة الجهل و الذل و المهانة.

الإصلاح كان هدف الإمام الحسين الأول

لقد جعل الإمام الحسين عليه السّلام هدفه الأول:"لنري المعالم من دينك و نظهر الاصلاح في بلادك".و لكن ما المقصود بالاصلاح؟المقصود به طبعا اجتثاث جذور الفساد.و أيّ فساد هذا؟إنّ الفساد على أنواع و أقسام شتّى،منها:السرقة،و الخيانة، و العمالة،و الطغيان،و التحلل الخلقي،و الخيانة في المال،و العداء بين صفوف الخندق الواحد،و التواطؤ مع أعداء الدين،و الميل إلى ما فيه إضرار بالدين.في حين أن كل شيء يتحقق في ظل وجود الدين.و يواصل عليه السّلام كلامه بالقول:"و يأمن المظلومون من عبادك".أيّ يأمنون على كرامتهم و على أموالهم في حياتهم الاجتماعية و على صعيد الشؤون القانونية و العدلية،و هذا ما يفتقر إليه عالم اليوم.

كان الإمام الحسين عليه السّلام يتطلع إلى تحقيق مثل مناقضة لما كان سائدا في ظل تسلط الطواغيت في عصره؛و لو أنكم نظرتم إلى ظروف عالم اليوم لوجدتموها

ص: 21

مثلما كانت عليه يومذاك،إذ أنهم يظهرون معالم الدين بالمقلوب،و يمارسون مزيدا من الجور ضد المضطهدين،و يغمس الظلمة أيديهم في دماء المظلومين أكثر من ذي قبل.

سببان لترك العزّة

إنه كلما تلقّى الناس في عالم اليوم،ضربة-سياسية كانت أو عسكرية أو إقتصادية-فإن الأمر لا يعود إلاّ إلى سببين عندما نتتبع جذوره:إما الجهل،و إما المهانة.

أي إما أنهم يجهلون و لا يملكون المعرفة الضرورية،أو أنهم يعرفون لكنهم باعوا أنفسهم رخيصة و ابتاعوا المذلة و رضوا بالحقارة و الدناءة!و لهذا فقد ورد عن أمير المؤمنين و الإمام السجاد عليه السّلام:"ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة،فلا تبيعوها إلاّ بها" (1).

فهذا هو ثمن النفس و إلاّ لبخسها الإنسان حقها.

كما أنه لا يجوز للإنسان امتلاك الدنيا بأكملها مقابل الرضى بالانحطاط و الذلة النفسية؛إنّ الذين استسلموا لأرباب المال و القوة في شتى أنحاء العالم و رضوا بهذا الذل-سواء منهم العالم أو السياسي أو المثقف أو أصحاب النشاطات السياسية و الاجتماعية-لم يكن ذلك منهم إلاّ لأنهم لم يعرفوا أنفسهم فباعوها بثمن بخس.

إنّ الكثيرين من السياسيين في العالم قد باعوا أنفسهم.

و إن العزة ليست هي مجرد اعتلاء عرش السلطنة أو الرئاسة؛فكم من أصحاب

ص: 22


1- نهج البلاغه:105/4.

السلطان ينظرون إلى الآخرين بتكبر و خيلاء و يفرضون عليهم منطق القوة، و لكنهم في الوقت نفسه أذلاء و أسرى سلطة و قوة أخرى أو أسرى الأهواء النفسية، حتى إن بعض أسرى السياسة في عالم اليوم لا يصلون إلى تلك الدرجة الثانية،بل إنهم أسرى السلطة و المناصب..!

إنكم لو ألقيتم نظرة اليوم على هذا البلد الواسع لوجدتم أن وجوه الشباب فيه تطفح بالحبور و السعادة بسبب الشعور بالعزة و الاستقلال.و ليس بوسع أحد الإدعاء بأن الأجهزة السياسية في هذا البلد تتلقى أقل الأوامر من أية قوة في العالم.

كما أنّ الدنيا بأجمعها تدري أنّ هذا البلد الذي يتمتع الآن بالعزة و العظمة كانت تسيطر عليه قبل الثورة حكومة فرعونية مستكبرة تدّعي لنفسها القوة و العظمة و الجبروت و ترى أن على الشعب أن يركع أمامها في ذلة و خضوع،مع أن أرباب تلك الحكومة كانوا أسرى للآخرين و أذلاّء أمامهم!

فها هنا في طهران كان بإمكان السفير الأمريكي الالتقاء بالشاه متى شاء و إملاء ما يريد عليه و توجيه الأوامر إليه،فإذا تخلّف عن التنفيذ تغير الوضع معه!لقد كان ظاهرهم ينمّ عن الجلال و الجبروت،و لكنهم كانوا أذلاّء في عيون الشعب و الضعفاء!و إن الإمام الحسين عليه السّلام كان يريد أن يخلّص البشر من هذا الذل.

لقد كان رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يأكل أكل العبد و يجلس جلسة العبد لا كمثل النبلاء؛ و مع أنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله كان ينتمي للأشراف و النبلاء إلاّ أنه كان يتعامل مع الناس بتواضع و ينظر إليهم باحترام بعيدا عن الغرور و الخيلاء،غير أن أباطرة ذلك الزمان كانوا يرتعدون من مجرد إشارته أو نظرته في السنوات الأخيرة من حياته،و هذه هي العزة.

ص: 23

الموقف الذي خطّه الحسين عليه السلام في سجلّ التأريخ

فالإمامة هي ذلك الجهاز الذي يضفي العزة الإلهية على الناس و يمنحهم العلم و المعرفة و ينشر الرفق بينهم و المداراة و يحافظ على عظمة الإسلام و المسلمين أمام الأعداء.

و أما السلطة و الحكومات الجائرة فعلى الضد من ذلك.

إنّ الكثيرين من حكام العالم اليوم لا يسمّون بالملوك،لكنهم ملوك في الواقع.

كما أنهم لا يسمّون بالسلاطين،و تراهم يحافظون على المظاهر الديمقراطية، و لكنها هي السلطنة في الحقيقة،أي التعامل مع الشعب بتجبّر،و مع من فوقهم بذلّ و مهانة!حتى إنكم لتجدون رؤساء بعض البلدان القوية و المقتدرة واقعين هم أيضا بذلة و قهر في أيدي أصحاب الشركات و بؤر الشبكات العالمية الخفية و تجمعات المافيا و المراكز الصهيونية و مضطرين للعمل وفقا لإرادتهم و اتخاذ المواقف طبقا لرغبتهم حتى لا يتضايقوا؛فهذه سلطنة.

و عندما تسيطر الذلّة و المهانة على قمة السلطنة فلابد من وجود الذل و الهوان أيضا في الهيكل و القاعدة،و هذا هو ما ثار ضده الإمام الحسين عليه السّلام.

لم يكن خروج الحسين عليه السلام للحرب

إن الحسين بن علي عليه السلام لم يتوجه إلى كربلاء بهدف القتال؛فالذي يذهب إلى ميدان القتال لابد له من الجنود؛و لكن الإمام الحسين بن علي عليه السلام كان قد حمل معه أهل بيته من النساء و الأطفال،مما يعني أن حادثة ستقع في ذلك

ص: 24

المكان و ستدغدغ عواطف البشرية على طول التاريخ حتى تتضح عظمة ما قام به الإمام الحسين عليه السّلام.

لقد كان الإمام الحسين عليه السّلام يدري أن أعداءه حقراء و سفهاء،و كان يرى أنّ الذين جاءوا لقتاله ليسوا سوى شرذمة من أراذل و أوباش الكوفة طمعا في الحصول على عطية تافهة و حقيرة هي التي دفعتهم إلى هذا المسلك و ارتكاب مثل هذه الجريمة العظمى،و كان يعلم بما سيحلّ بنسائه و أبنائه.

فالإمام الحسين عليه السّلام لم يكن غافلا عن كل هذا،و لكنه لم يكن مستعدا للاستسلام و العودة عن قراره،بل كان يحثّ على مواصلة الطريق مما يدل على أهمية هذا الطريق و عظمة هذا العمل (1).9.

ص: 25


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:109.

5-تشخيص الوظيفة العملية و أثره

اشارة

الهدف الخامس في ثورة الإمام عليه السلام هو تشخيص الوظيفة العملية التي كانت في زمانه أو الأزمنة التي تأتي.

هناك نكات كثيرة في قضية ثورة عاشوراء بحيث لو بحثها العالم الإسلامي و المفكرون الإسلاميون من أبعادها المختلفة و دققوا النظر في ظروفها المختلفة و مقدماتها و لواحقها و ما أحاط بهذه الحادثة فسيصبح بالإمكان تحديد سبل الحياة الإسلامية و وظائف الأجيال المسلمة في جميع الأزمنة.

و أحد هذه الدروس هي هذه النكتة المهمة و هي أنّ الحسين بن علي عليه السّلام قد شخّص في وقت حساس جدا من تاريخ الإسلام الوظيفة الرئيسية من بين الوظائف المتنوعة و التي لها مراتب متفاوتة من الأهمية،و أنجزها و لم يخطئ أو يشتبه في معرفة ما كان العالم الإسلامي في ذلك اليوم بحاجة اليه.

لقد كان تشخيص الوظيفة الأصلية دائما أحد نقاط الخلل و الضعف في حياة المسلمين في العصور المختلفة.

الخلل في تشخيص الوظيفة الأصلية يعني أنّ أفراد الأمة و القيادة و الرجال البارزين في العالم الإسلامي يخطئون في تشخيص الوظيفة الأصلية في مقطع من الزمن بمعنى أنهم لا يعلمون ما هي الوظيفة الأصلية و أنه يجب الشروع بها و حتى إذا لزم الأمر يجب التضحية بسائر الأمور في سبيلها و لا يعلمون ما هي الوظيفة الفرعية و التي تأتي في الدرجة الثانية.يجب أن يعطى كل عمل الأهمية التي يستحقها و يسعى في سبيل تحقيقها.

ص: 26

في نفس الوقت الذي تحرك به حضرة أبي عبد الله عليه السّلام كان هناك أشخاص إذا قيل لهم:هل ننتفض أو لا؟فإنّ جوابهم سيكون بالنفي لعلمهم بأن وراء هذا العمل مشاكل و متاعب كثيرة و يذهبون وراء وظائف من الدرجة الثانية كما رأينا أنّ البعض قد قام بهذا العمل فعلا.

لقد كان هناك أشخاص مؤمنون و ملتزمون بين الذين لم ينهضوا مع الإمام الحسين عليه السّلام.

فليس من الصحيح أن يعدّوا جميعا من أهل الدنيا،لقد كان بين رؤساء و رموز المسلمين في ذلك الوقت أشخاصا مؤمنين و أشخاصا يرغبون بالعمل وفقا للتكليف.لكنهم لم يدركوا التكليف الرئيسي،و لم يشخّصوا أوضاع ذلك الزمان.

و لم يعرفوا العدو الرئيسي و كانوا يخلطون بين الوظيفة الرئيسية المحورية و الوظائف التي هي من الدرجة الثانية أو الثالثة.و لقد كان هذا الأمر أحد الإبتلاءات العظيمة للعالم الإسلامي،و يمكن أن نبتلى نحن-اليوم-بذلك أيضا.

من الممكن أن نخطئ في تشخيص ما هو أهم فنعالج أشياءا أقل أهمية.يجب اكتشاف تلك الوظيفة الأساسية و التي يعتمد عليها قوام و حياة المجتمع.

ذات يوم كان يطرح في بلادنا الصراع ضد الاستعمار و الاستبداد و ضد جهاز الطاغوت الكافر،لم يكن البعض يشخصّون الوظيفة الأصلية،و يتمسكون بأعمال أخرى.هؤلاء الأشخاص الذين ربما كان عندهم دروس أو مؤلفات أو كانوا يديرون حوزة علمية تبليغية صغيرة،أو أنهم كانوا يتحملون مسؤولية إرشاد جمع قليل من الناس،هؤلاء كانوا يعتقدون أنهم لو خاضوا في قضية الصراع فإنّ هذه الأعمال ستبقى معطلة!لقد كان هؤلاء يتركون النضال على عظمته و أهميته من أجل أن لا تتوقف تلك الأعمال!و هذا يعني الخطأ في تشخيص الواجب المهم و الأهم.

ص: 27

لقد أوضح الإمام الحسين بن علي عليه السّلام في بيانه للجميع أن أهم وظائف العالم الإسلامي في تلك الظروف هو الصراع مع رأس القوة الطاغوتية و الإقدام على إنقاذ الناس من سلطتها الشيطانية.

من البديهي أنّ الحسين بن علي عليه السّلام عندما يتجه الى العراق لأجل واقعة كواقعة عاشوراء،فإنّه سوف يحرم من البقاء في المدينة و تبليغ الاحكام الإلهية للأمة و بيان معارف أهل البيت عليه السّلام و تعليم و تربية المسلمين،و لن يستطيع أن يعلّم الناس الصلاة و ينقل لهم أحاديث الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله و بالطبع سوف تتعطل حوزته العلمية و نشره للمعارف و سوف يحرم من تقديم العون للأيتام و المساكين و الفقراء في المدينة.

ص: 28

تكليف الإمام الحسين عليه السلام

كل هذه كانت وظائف يقوم بها الإمام عليه السّلام قبل حركته بإتجاه العراق و لكنه جعلها جميعا فداء للوظيفة الأكثر أهمية،و حتى إنه ضحّى بحج بيت الله في سبيل التكليف الأهم،و هذا في وقت شرعت فيه الناس بالوفود الى بيت الله الحرام.فماذا كان ذلك التكليف؟لقد كان-حسبما قال ذلك الإنسان العظيم بنفسه-هو الصراع مع الجهاز الحاكم الذي هو منشأ الفساد.

«أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أسير بسيرة جدي"هذا هو التكليف.أو كما قال في خطبة أخرى في طريقه"أيها الناس إن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله قال:من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا بعهد الله...فلم يغير عليه بقول و لا فعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله».

التكليف عبارة عن تغيير سلطان الظلم و الجور و القدرة التي تعيث في الأرض فسادا و تجر البشرية بإتجاه الهلاك و الفناء المادي و المعنوي.هذه هي فلسفة نهضة الحسين بن علي عليه السّلام و التي اعتبرت المصداق الحقيقي للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يجب الإنتباه الى هذه النقاط.

حضرة أبي عبد الله عليه السّلام تحرك على ضوء التكليف الأهم و ضحّى بالتكاليف الأخرى في سبيل التكليف الأهم.كان يشخّص العمل الواجب في وقته.هناك حركة في كل زمان للمجتمع الإسلامي.في كل عصر هناك عدو و جبهة و خصم يهدد الإسلام و المسلمين و يجب أن يعرف ذلك العدو.فلو اشتبهنا في معرفة العدو

ص: 29

و الجهة التي يتعرض منها الإسلام للأذى و الهجوم فسوف نخسر خسارة كبيرة لا يمكن جبرانها.و لو غفلنا عن ذلك فإنّ فرصا كثيرة ستضيع من أيدينا.

الحذر في تشخيص العدو

نحن موظفون بأن نخلق حالة قصوى من الحذر و الانتباه و تحديد الأعداء و معرفة التكاليف لدى شعبنا و العالم الإسلامي.اليوم و نظرا لإقامة الحكومة الإسلامية و ارتفاع راية الإسلام-الأمر الذي لا سابقة له في طول التاريخ الإسلامي بعد الصدر الأول-فإن الإمكانات متوفرة للمسلمين و لا يحق لنا بعد الآن أن نغفل عن معرفة العدو و نخطئ في تشخيص الجهة التي يهجم منها.

لقد كان جلّ سعي إمامنا العزيز(ره)و الأشخاص الذين كانوا يرافقونه في نهضته-على إختلاف مراتبهم و على حسب إمكانياتهم و مستوياتهم-هو أن يعلّم العالم الإسلامي و مجتمع إيران الإسلام و قاعدة الحق و العدالة ما هو الخطر الأكبر الذي يحدق بهم و ما هو العدو الأكثر تهديدا لهم.

و اليوم كسائر ما مضى فإنّ الهجمة العظمى و الخطر الجارف ينشأ من الهيمنة العالمية و القوى الكافرة و المستكبرة.هذا أكبر الأخطار التي تهدد وجود المسلمين.صحيح أنّ الضعف يمكن أن يفرضه العدو بإمكاناته الضخمة على ذلك المجتمع.

لا ينبغي لنا أن نشتبه،يجب أن تكون مسيرة المجتمع الإسلامي في الإتجاه المخالف للإستكبار و الهيمنة العالمية و التي تسود هذه الأيام على العالم الإسلامي.

القوى العظمى تعادي الإسلام و يقظة المسلمين،إنهم يحاربون إيران الإسلام بسبب إسلاميتها،إن كل سعيهم لإخماد الحركة الإسلامية في العالم،و بالطبع فإنّ

ص: 30

أميركا هذه الدولة المتجبرة و المعتدية تقف في رأس قائمة أعدائنا و يتلوها سائر القوى الصغيرة و الكبيرة التي لها خصومة تاريخية و تضاد مصلحي مع الإسلام أو أنهم يخشون منه.

إنّ خصومتهم مع إيران الإسلامية ناشئة عن انطلاق الصحوة الإسلامية من هذا المكان،فجميع الشعوب الإسلامية و في كل أرجاء الدنيا تستمد اليوم آمالها من هذه الحركة و الثورة المنتصرة و ترسّخ خطواتها و تتقدم.فلو استطاع الأعداء- و العياذ بالله-أن يهزموا الإسلام في هذه النقطة من العالم فإنهم سيحققون أكبر نصر لهم مقابل موجة الصحوة الإسلامية العالمية.

هذه حقيقة ملموسة اليوم لا ينبغي أن نخطئ في تشخيص عدونا و لا ينبغي توهم أنّ العدو قد صرف نظرا عن عدائه للإسلام و المسلمين.

انظروا اليوم الى ما فعله الأعداء مع مسلمي أوروبا و الدول الإسلامية الصغيرة في قلب أوروبا أعني"البوسنة و الهرسك".فهنالك الآلاف من المدنيين يتعرضون للقتل و الإغارة في أقسى الظروف و المصائب و في عقر دارهم.

و لو لم نقل أنّ الدول الكبرى تشجع المعتدين الصرب و تقدم لهم المعونة فعلى الأقل إنها جلست مكتوفة الأيدي حتى يتسنى لهم الإبادة التامة للمسلمين في تلك المنطقة و القضاء عليهم بما يمتلكه الصرب من الأسلحة المتنوعة و الجيش النظامي و الدعم الواسع.

هدفهم هو عدم إبقاء هذا المجتمع المسلم على شكل دولة إسلامية في قلب أوروبا.

ص: 31

تكليف المسلمين

هذه أحد مظاهر العداء للإسلام و أجلى مظهر لها هو الضغط المتواصل على الجمهورية الإسلامية،و كما ورد في القرآن الكريم وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (1).

حقا إنّ هذا البيان لمن معجزات القرآن،فإن الأعداء لن يرضوا عن المسلمين إلا إذا تخلّوا عن الإسلام.

و المقصود من التخلّي عن الإسلام هو انعدام الروح الإسلامية و الأحكام الإسلامية و القوة الحياتية للإسلام بين المسلمين.فلو كان المسلمون أمواتا و غير عارفين بالمباني العالية للإسلام-و إن كانوا يطبّقون بعض ظواهره فقط-فإن الأعداء لا يأبهون بنا كثيرا و لا يعادوننا.و لكن ذلك ليس هو الإسلام،ليس ذلك الإسلام الذي جاء به النبي صلّى اللّه عليه و اله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ (2).

أما أن تجلس فئة من الناس يتفرجون فقط على حوادث العالم بل يتفرجون حتى على القضايا الداخلية في مجتمعهم فلا يتطابق هذا مع الإسلام.

إنّ المسلمين اليقظين و ذوي الإطلاع و الذين يستعملون قواهم لأجل بناء العالم بشكل صحيح و لا يرهبون شيئا في هذا المجال هؤلاء يبغضهم الإستكبار العالمي، و قد لمسنا هذا البغض خلال السنوات الأخيرة و بأشكال مختلفة،و نشاهد اليوم

ص: 32


1- سورة البقرة:120.
2- سورة آل عمران:110.

أيضا أشد هذه الأعمال الحاقدة في مختلف المجالات الثقافية و الإقتصادية و السياسة و الإعلامية.

اليوم لا يوجد هجوم عسكري علينا،لقد تكاتف الأعداء أمامنا طوال ثماني سنوات من الحرب المفروضة و بصورة علنية.في الظاهر كان العراق فقط و لكن أمريكا و الناتو و سائر الدول الرجعية،كلها كانت خلف العراق.هذه الحقيقة التي ذكرناها مرارا و تكرارا و طوال ثماني سنوات و لكن كان الكثيرون غير مستعدين لأن يصدقوا كلامنا،و لكن نفس الجهات التي كانت تجهز العراق تعترف اليوم بهذا الأمر.

في ذلك الوقت كانت الحرب العسكرية و في الحقيقة كان كل عالم الإستكبار و الكفر يحارب الإسلام و الجمهورية الإسلامية.و اليوم توجد هجمات شديدة أخرى لا سابقة لها،و يجب أن تكون الأمة الإسلامية في مقابل هذه الهجمات حية يقظة،محصنة،واثقة بالنفس و مستعدة لتوجيه ضربتها القاصمة و مقاومة الهجمة الشاملة.

ص: 33

6-الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

اشارة

الهدف السادس في ثورة الإمام عليه السلام هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي أعلنه الإمام بقوله:«إنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما،إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي،آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر».

إنّ حياة المجتمع منوطة بوجود الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و إن قوام المجتمع الإسلامي بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.فإما أن ينجز هذا العمل «أو ليسلّطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم» (1)قوام الحكومة الإسلامية و بقاء حاكمية الأخيار مرهونان بمسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و ليس الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو التلفظ بكلمتين أو أكثر لأجل إسقاط التكليف في مقابل المنكرات التي لا يعلم كونها أخطر المنكرات.

عندما يكلف جميع أفراد الأمة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،فما معنى ذلك؟متى يمكن أن يكون كل أفراد المجتمع آمرين بالمعروف و ناهين عن المنكر؟ الجواب هو عندما يحضر الجميع في خضم قضايا البلاد حضورا حقيقيا جادا، يجب أن يهتم الجميع بمسائل المجتمع و يعتنوا بها.يجب أن يصبح الجميع خبراء في هذا المجال.

يجب أن يكون الجميع على اطلاع بالمعروف و المنكر.و هذا بمعنى رقابة

ص: 34


1- ميزان الحكمة:1945/3،و كنز العمال:557/13 ح 37445.

و حضور و تعاون الجميع.و بمعنى الإطلاع الكافي لدى الجميع.هذا هو معنى الأمر بالمعروف،و إلا فلو أمرنا بالمعروف في دائرة ضيقة و حصرناها ضمن أفراد مشخصين،و العدو ينفث سمومه و يقول أن إيران قد قررت التعامل بهذه الوسيلة مع من لا يرتدين الحجاب الكامل،فهذا ليس صحيحا.

هل أنّ معنى الأمر بالمعروف هو أن يطبق هذا الواجب العظيم و الذي يتقوم به كل شيء في دائرة ضيقة في شوارع طهران و بالنسبة لبعض الناس ممن لا يراعون الزي الإسلامي؟هل هذا هو معنى حضور القوى المؤمنة في ميادين المجتمع المختلفة؟كلا،القضية أبعد من هذه الكلمات،فإن المخالفات ليست بمستوى واحد.المخالفات ليست فقط هي المخالفات الفردية.أخطر المخالفات و الجرائم تلك التي تضعف أساس النظام القائم.

فبث اليأس في نفوس الناس و القلوب المتفائلة،و الإيحاء بإنحراف الصراط المستقيم و إضلال المؤمنين و المخلصين،و سوء الإستفادة من الأوضاع و الأحوال المتنوعة في المجتمع الإسلامي،و إعانة العدو،و معارضة ترسيخ الأحكام الإسلامية و مقررات الإسلام،و السعي لجر الشباب المؤمن للفساد،هذه كلها منكرات مهمة و خطيرة.

اليوم تسعى أياد خفية لترويج الفساد بين الشباب بطرق جماعية و بتوجيه من الأعداء-لا بالشكل الذي ترونه في الشارع و تشاهدونه-يجرون أولادنا للفساد و اللامبالاة.

هذه منكرات،المنكرات أخلاقية و سياسية و إقتصادية كذلك.و كل مكان أيضا قابل للنهي عن المنكر فيه.يستطيع الطالب أن ينهي عن المنكر في بيئته العلمية الدراسية،الموظف الشريف يتمكن من النهي عن المنكر في المحيط الذي حوله، و الكاسب المؤمن قادر على النهي عن المنكر في محيط عمله،و الفنان أيضا ينهي

ص: 35

عن المنكر بوسائله الفنية،و الروحانيون من أهم عوامل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و في مختلف الأجواء،لا يجوز حصر هذا الواجب العظيم في دوائر ضيقة.هذا العمل،وظيفة الجميع،و لا يختص بفئة مثل القوات المسلحة أو السلطات المحلية،إنه عمل الجميع..يجب أن تنهوا عن المنكر،و تقفوا في مقابل أي منكر،هذا العمل وظيفة الأمة،نعم على علماء الدين أن يوجهوا الناس،و يشرحوا لهم كيفية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و مواردهما.

يجب أن نحدد موارد الخطر جميعا،المواضع التي منها يهدد الخطر مجتمعنا الإسلامي،يجب أن نحددها بدقة،ينبغي أن نحلل لأنفسنا و للناس كل العبر التي استقيناها من الصدر الاول للاسلام،و أهم وظيفة في طريق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هي ضرورة تواجد القوات المؤمنة الآمرة بالمعروف و الناهية عن المنكر و كل من لهم دوافع مماثلة في ميدان النظام الإسلامي و في كل الميادين الأخرى.

الإنتماء الى حزب الله يعني الإستعداد لأداء التكليف الإلهي،و هذه أحد القيم الثورية في النظام الإسلامي،كل من يملك روحية(حزب الله)مفضّل على من لا يملك هذه الروحية.

في نظام الجمهورية الإسلامية،المدير و الاستاذ و المسؤول و الآمر و الفنان و الكاتب المنتمي الى حزب الله مفضّل على الآخرين.لا ينبغي أن يتوهم أنّ المنتمي الى(حزب الله)،شاب متهور مشاغب لا حصيلة ثقافية لديه،كلا ليس الأمر كذلك.

فبين الكوادر المتخصصة و المتفوقين و المدراء و العلماء و الأساتذة يوجد الكثير من أعضاء حزب الله.لا ينبغي أن نرسم صورة خاطئة في أذهاننا عن حزب الله، يجب أن يتميز حضور العناصر المختلفة من حزب الله في الميادين المختلفة، و يجب على الأجهزة التنفيذية بما فيها القضائية و الحكومية أن تعمل بأسلوب علمي على ترسيخ هذه القيم لدى المسؤولين و العناصر التنفيذية فيها.

ص: 36

كيف يتمّ الأمر بالمعروف

مسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مثل مسألة الصلاة،يجب أن يتم تعلّمها؛و يجب أن تذهبوا و تتعلموا مسائلها.توجد مسائل تحدّد كيفية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في كلّ مورد من الموارد.بالطبع أنا أؤكّد كالسابق أن تكليف عامّة الناس في إطار المجتمع الاسلامي هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بواسطة اللسان،و أما إذا آل الأمر الى المواجهات فيوكل الأمر حينئذ الى المسؤولين الذين يجب عليهم التدخل و انجاز ذلك العمل.

و لا شكّ في أنّ الدور الأهمّ للإنسان الذي يصلح المجتمع هو النهي عن المنكر باللسان.إذا نهى الناس شخصا مسيئا مذنبا يريد أن يجعل من الذنب شيئا مرضيا به في المجتمع إذا نهاه عشرة أو مائة أو ألف شخص و بشكل عام إذا انهال عليه الرأي العام للمجتمع فإنّ هذا أمرّ شيء عليه.

لو لم تكن هذه القوات المؤمنة من التعبئة و(حزب الله)أيّ عامّة الناس المؤمنين،تلك الغالبية العظمى في بلادنا العزيزة التي أدارت الحرب و التي صمدت بوجه كلّ الأحداث منذ بداية الثورة الى الآن.و لو لم تكن التعبئة و لا قوات حزب الله العظيمة لكنّا خسرنا الحرب و المواجهة مع الأعداء المتنوعين خلال السنوات الماضية و لكنّا تضرّرنا كثيرا.

عندما كانوا يريدون تعطيل المصانع كانت تتصدى لهم قوات(حزب الله)من داخل المصانع.عندما كانوا يريدون إحراق مزارعنا تنبري لهم(قوات حزب الله)من البراري و القرى و المزارع فتصفعهم على وجوههم.

ص: 37

و عندما كانوا يريدون خلق الفتن و الإضطرابات في الشوارع(حزب الله)هو الذي كان يحول دون غاياتهم،و أما في الحرب فأمرهم معلوم.

هذه هي القوة الرئيسية في البلاد و النظام الاسلامي يعتمد عليها.إذا كان الشعب أعلن هذه القوى المؤمنة مع النظام و الدولة-و الحمد لله هم كذلك-فإنّ أيّ عدوّ لن يستطيع أن يحقّق شيئا.

إذا كانت هذه القوة العظيمة الفولاذية الشعبية خلف المسؤولين و الى جوارهم- و الحمد لله هم كذلك-فإنّ أية قدرة لن تستطيع أن تواجه الجمهورية الاسلامية، فأعداؤنا يخافون من هذه القوة.

اقتدار النظام الاسلامي مستمدّ من اقتدار قوات(حزب الله) (1).3.

ص: 38


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:123.

7-التصدي للطواغيت

اشارة

من الأهداف المهمة لثورة الإمام الحسين عليه السّلام هو التصدي للطواغيت:

لقد أظهر الإنسان و على مرّ التاريخ أفدح أخطائه و خطاياه و تجرده عن التقوى في مجال الحكم،و إن الخطايا التي صدرت عن الحكام و من بيدهم زمام الأمور و المتسلطين على مصائر البشر مما لا يمكن مقارنته بأعظم الذنوب الصادرة عن البسطاء و العامة من الناس،و قلّما تحلّى الإنسان بالتعقل و الأخلاق و الحكمة في هذا المضمار،و قلّما عمّ المنطق فيه قياسا إلى سائر ميادين الحياة البشرية،و كان عموم الناس-تارة من أبناء مجتمع واحد و أخرى من مجتمعات متعددة-هم الذين دفعوا ضريبة هذا التجرد عن التعقل و المنطق و هذا الفساد و الانغماس في الخطيئة.

و لقد تبلورت هذه الحكومات بادئ الأمر بصورة استبداد فردي ثم انتقلت إلى الإستبداد الجماعي المنظّم بفعل التطور الحاصل في المجتمعات البشرية.لهذا فإن أبرز مهام أنبياء الله كان التصدي للطواغيت و لمن فرّطوا بالنعم الإلهية؛ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ (1)؛بهذه التعابير المثيرة تتحدث هذه الآية القرآنية عن هذه الحكومات الفاسدة التي سعت إلى أن يستشري الفساد.

و قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ*

ص: 39


1- سورة البقرة:205.

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (1) ؛فهؤلاء بدّلوا النعم الإلهية و الإنسانية و الطبيعية كفرا و أحرقوا البشر-الذين كان يفترض بهم التنعم بهذه النعم-في نارهم التي أعدّوها بكفرهم.

و الأنبياء عليهم السّلام إنّما وقفوا بوجه هؤلاء؛و لو لا التصدي الحازم من قبل الأنبياء عليهم السّلام لطواغيت العالم و عتاة التاريخ لما كانت هنالك حاجة إلى الحروب و النزاعات.يصرح القرآن الكريم وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (2)،فضد من كانت هذه الحروب؟

إنّ العدو الذي استهدفه الأنبياء عليهم السّلام في حربهم هو الحكومات الفاسدة و القوى المخرّبة و طغاة التاريخ الذين جرّعوا البشرية الشقاء و أهلكوها؛فالأنبياء هم منجّو الإنسانية؛لذا فقد ذكر في القرآن الكريم إقامة العدل على أنها أحد أسمى أهداف النبوات و الرسالات لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ (3)؛فإنزال الكتب و إرسال الرسل إنّما كان بالأساس لكي يسود العدل و القسط البشرية،أي تزال مظاهر الظلم و الغطرسة و الفساد من الوجود.

و هكذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السّلام؛فلقد قال عليه السّلام:«إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي» (4).

و قال كذلك:«من رأى سلطانا جائرا مستحلاّ لحرام الله تاركا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان،ثم لم يغيّر عليه بقول و لا فعل،1.

ص: 40


1- سورة إبراهيم:28-29.
2- سورة آل عمران:146.
3- سورة الحديد:25.
4- شرح إحقاق الحق:602/11.

كان حقا على الله أن يدخله مدخله» (1).

أي من رأى بؤرة فساد و ظلم و تنحّى عنها غير مكترث اصطفّ معها في المصير-و هو الذي صرّح بأنه لم يخرج ظالما و لا أشرا-و لقد كانت دعوة أهل العراق للإمام الحسين عليه السلام من أجل هذا،بحيث يتوجه إلى هناك و يقيم الحكم،فاستجاب الإمام عليه السّلام لدعوتهم هذه.

و لم يكن الأمر بحيث إن الإمام الحسين عليه السّلام كان تاركا التفكير بالحكم،بل كان عليه السلام يصبو للقضاء على الحكومات الطاغوتية،سواء باستلام الحكم أو الإستشهاد و التضحية بالدماء.

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام على علم بما سيجرّه إقراره و سكوته من ويلات على الإسلام؛فإذا ما استحوذت قوة على مقدرات الشعوب أو واحد من هذه الشعوب و اختطّت لها طريق الطغيان و مضت فيه،فإن لم يعبّر رجال الحق و دعاته عن وجودهم و الإعلان عن خطأ حركتها فإنهم يكونون بعملهم هذا قد اعترفوا بفعلها-بما يعنيه ذلك من اعتراف أهل الحق بالظلم-دون إرادة منهم؛و هذه هي الخطيئة التي ارتكبها يومذاك الأكابر من سادة بني هاشم و أبناء القادة الكبار في صدر الإسلام،غير أن الإمام الحسين عليه السّلام،لم يتحمل ذلك فثار.1.

ص: 41


1- شرح إحقاق الحق:603/11.
أثر عدم تصدي الحسين عليه السلام للطواغيت

و لقد روي أن الإمام السجاد عليه السلام و بعد عودته إلى المدينة عقب واقعة عاشوراء-و ربما بعد مضي عشرة أو أحد عشر شهرا من مغادرة قافلة أبيه المدينة و عودتها إليها-جاءه رجل و قال له:يا بن رسول الله،أرأيت ما صنع بكم بخروجكم هذا؟!

و حقا قال؛فالقافلة حين خروجها كان على رأسها و يتوسطها الحسين بن علي عليه السّلام شمس أهل البيت الزاهرة و ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و حبيبه،و خرجت بنت أمير المؤمنين عليها السّلام معززة مكرّمة؛و خرج في القافلة أيضا أبناء أمير المؤمنين- العباس و إخوته-و أبناء الإمام الحسن عليه السّلام و خيرة شباب بني هاشم و صفوتهم.

ثم عادت هذه القافلة و معها رجل واحد فقط و هو الإمام السجاد عليه السلام، و تجرّعت النسوة الأسر و رأين المصائب و الأحزان؛فلا الإمام الحسين عليه السّلام و لا علي الأكبر و لا حتى الطفل الرضيع مع تلك القافلة..

فأجابه الإمام السجاد عليه السّلام(بما مفاده)تأمّل بما سيحصل لو لم نخرج.

أجل،إن لم يخرج هؤلاء ستبقى أجسامهم،و لكن تفنى الحقيقة و تنصهر الروح و تسحق الضمائر و يدان العقل و المنطق على مر التاريخ،بل و لا يبقى ذكر للإسلام أيضا (1).

ص: 42


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:128.

8-رؤية جديدة لثورة الحسين عليه السلام

اشارة

عن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله أنّه قال:«حسين منّي و أنا من حسين» (1).و عنه صلّى اللّه عليه و اله أنّه قال:

«إنّ الحسين مصباح الهدى و سفينة النجاة» (2).

لقد قيل الكثير عن نهضة هذا العظيم،لكنّ الإنسان كلّما فكّر و تدبّر في هذا الموضوع،كلّما اتّسع مجال التفكير و البحث و التحقيق و المطالعة عنده،فقد بقي الكثير ممّا لم يقال عن هذه الحادثة العظيمة و العجيبة الّتي لا نظير لها.فعلينا أن نتدبّر و نتفكّر فيه ثمّ نقوله للآخرين.

لو نظرنا الحادثة منذ أن خرج أبو عبد الله عليه السّلام من المدينة و توجّه نحو مكّة إلى أنّ استشهد في كربلاء،لأمكننا أن نقول إنّ الإنسان يستطيع عدّ مائة درس مهمّ في هذا التحرّك الّذي استمرّ أشهرا معدودة فقط.

و لا أودّ القول آلاف الدروس و إن أمكن قول ذلك حيث تعتبر كلّ إشارة من ذلك الإمام العظيم درساّ،لكن عندما نقول مائة درس أي لو أردنا أن ندقّق في هذه الأعمال لأمكننا استقصاء مائة عنوان و فصل،و كلّ فصل يعتبر درسا لأمة و تاريخ و بلد و لتربية النفس و إدارة المجتمع و للتقرّب إلى الله تعالى.

هكذا هو الحسين بن علي(أرواحنا فداه و فداء اسمه و ذكره)كالشمس الساطعة بين القديسين،أي إن كان الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام و الشهداء و الصالحين كالأقمار

ص: 43


1- كشف الغمّة:305.
2- مدينة المعاجز:52/4،ح 1080.

و الأنجم،فالحسين عليه السّلام كالشمس الطالعة بينهم،كلّ ذلك لأجل هذه الامور.

و إلى جانب المائة درس هذه،هناك درس رئيسي في هذا التحرّك،سأسعى لتوضيحه لكم و هو لماذا ثار الحسين عليه السّلام؟لماذا ثرت يا حسين رغم كونك شخصيّة لها احترامها في المدينة و مكّة،و لك شيعتك في اليمن،إذهب إلى مكان لا عليك بيزيد و لا ليزيد عليك شيء،تعيش و تعبد الله و تبلّغ؟

هذا هو السؤال و الدرس الرئيسي،و لا نقول إنّ أحدا لم يشر إلى هذا الأمر من قبل،فقد حقّقوا و تحدّثوا كثيرا في هذه القضيّة،و ما نودّ قوله-و في رأيي-هو استنتاج جامع و رؤية جديدة للقضيّة.

ليس الهدف هو إسقاط حكومة يزيد

إنّ البعض يقول:إنّ هدف ثورة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام هو إسقاط حكومة يزيد الفاسدة و إقامة حكومة بدلها.

هذا القول شبه صحيح و ليس خطأ،لأنّه لو كان القصد من هذا الكلام هو أنّ الحسين عليه السّلام ثار لأجل إقامة حكومة و عندما يرى عدم إمكانيّة ذلك،يقول لم نتمكّن من ذلك،فلنرجع.

إنّ من يثور لأجل إقامة حكومة،سيستمرّ مادام يرى إمكانية ذلك،فإن احتمل عدم الإمكان أو عدم وجود احتمال عقلائي،فوظيفته أن يرجع.فالّذي يقول إنّ هدف الإمام عليه السّلام من هذه الثورة هو إقامة الحكومة العلويّة الحقّة،فهذا غير صحيح؛ لأنّ مجموع هذا التحرّك لا يدلّ على ذلك.و سابين ذلك لا حقا.

ليس الهدف هو الشهادة

و البعض على العكس من ذلك،قالوا:ما الحكومة؟إنّ الحسين كان يعلم بعدم

ص: 44

تمكّنه من إقامة الحكومة،إنّه جاء لأجل أن يقتل و يستشهد.لقد شاع هذا الكلام على الألسن كثيرا فترة من الزمن،و كان البعض يصنع ذلك بتعابير جميلة،ثمّ رأيت أنّ بعض كبار العلماء قد قالوا ذلك أيضا،فهذا لا يعتبر كلاما جديدا و هو أنّ الإمام عليه السّلام ثار لأجل أن يستشهد،لأنّه رأى أنّه لا يمكنه عمل شيء بالبقاء،فقال يجب أن أعمل شيئا بالشهادة.

هذا الرأي أيضا لا يوجد في المصادر الشرعيّة الإسلاميّة ما يؤّيد حجّة إلقاء الإنسان نفسه للقتل.إنّ الشهادة الّتي نعرفها في الشرع المقدّس و الآيات و الروايات معناها أن يتحرّك الإنسان و يستقبل الموت لأجل هدف مقدّس واجب أو راجح،هذه هي الشهادة الإسلاميّة الصحيحة.أمّا أن يتحرّك الإنسان لأجل أن يقتل فلا،إذن هذا الأمر و إن كان فيه جانبا من الحقيقة لكن لم يكن هدف الحسين عليه السّلام.

إقامة الحكومة و الشهادة نتيجة و ليست هدفا

إذن-باختصار-لا يمكننا القول:إنّ الحسين عليه السّلام ثار لأجل إقامة الحكومة،و لا أن نقول:إنّه ثار لأجل أن يستشهد.و إنّني أتصوّر أنّ القائلين بأنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف و النتيجة.فالهدف لم يكن ذلك، بل كان للإمام الحسين عليه السّلام هدف آخر،كان الوصول إليه يتطلّب طريقا و حركة تنتهي بإحدى النتيجتين:الحكومة أو الشهادة،و كان الإمام مستعدّا لكلتا النتيجتين،فقد أعدّ مقدّمات الحكم و كذا مقدّمات الشهادة،فإذا تحقّق أيّ منهما،كان صحيحا،لكن لم يكن أيّ منهما هدفا،بل كانا نتيجتين.

الهدف الحقيقي:أداء تكليف من نوع خاص

إذن ما هو الهدف؟أقوله باختصار ثم أبدا بتوضيحه.

ص: 45

لو أردنا بيان هدف الإمام الحسين عليه السّلام،فينبغي أن نقول:إنّ هدف ذلك العظيم كان أداء واجب عظيم من واجبات الدين لم يؤّده أحد قبله،لا النبي صلّى اللّه عليه و اله و لا أمير المؤمنين عليه السّلام و لا الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام،واجب يحتلّ مكانا مهمّا في البناء العام للنظام الفكري و القيمي و العملي للإسلام.

و رغم أنّ هذا الواجب مهمّ و أساسي،لكنّه لماذا لم يقم بهذا الواجب حتّى عهد الإمام الحسين عليه السّلام؟كان ينبغي على الإمام الحسين عليه السّلام القيام بهذا الواجب ليكون درسا على مرّ التاريخ،مثلما أنّ تأسيس النبي صلّى اللّه عليه و اله للحكومة الإسلاميّة أصبح درسا على مرّ تاريخ الإسلام،و مثلما أصبح جهاد النبي صلّى اللّه عليه و اله-بنفسه-في سبيل الله درسا على مرّ تاريخ المسلمين و تاريخ البشريّة إلى الأبد.فكان ينبغي أن يؤدّي الإمام الحسين عليه السّلام هذا الواجب ليصبح درسا عمليّا للمسلمين على مرّ التاريخ.

و لماذا قام الإمام الحسين عليه السّلام بهذا الواجب؟لأنّ أرضية هذا العمل قد مهّدت في زمن الإمام الحسين عليه السّلام،فلو لم تمهّد هذه الأرضيّة في زمن الإمام الحسين عليه السّلام، كأن مهّدت-و على سبيل المثال-في زمن الإمام علي الهادي عليه السّلام لقام الإمام علي الهادي عليه السّلام بهذا الواجب،لصار هو ذبيح الإسلام العظيم،و لو اتّفق ذلك في زمن الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام لقام به،أو اتّفق في عصر الإمام الصادق عليه السّلام لقام به الإمام الصادق عليه السّلام،لكنّ لم يتّفق ذلك في زمن الأئمّة حتّى عصر الغيبة إلاّ في عصر الإمام الحسين عليه السّلام.

إذن كان الهدف أداء هذا الواجب،فعندها تكون نتيجة أداء الواجب أحد الأمرين إمّا الوصول إلى الحكم و السلطة و كان الإمام الحسين عليه السّلام مستعدّا لذلك؛ليعود المجتمع كما كان عليه في عصر رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أمير المؤمنين عليه السّلام،أو يصل إلى الشهادة و كان الإمام الحسين مستعدّا لها أيضا.

ص: 46

فإنّ الله قد خلق الحسين و الأئمة عليهم السّلام بحيث يتحمّلون مثل هذه الشهادة لمثل لهذا الأمر،و قد تحمّل الإمام الحسين عليه السّلام ذلك.

هذا خلاصة الأمر.

ص: 47

شرح أبعاد هدف الثورة الحسينية

اشارة

و أمّا توضيح هذا الأمر:

إنّ النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و اله-و كذا أيّ نبيّ-عندما بعث،أتى بمجموعة من الأحكام، بعضها فرديّة لإصلاح الفرد،و بعضها اجتماعية لبناء المجتمعات البشريّة و إدارة حياتها.

هذه المجموعة من الأحكام يقال لها النظام الإسلامي.فعندما نزل الإسلام على القلب المقدّس للنبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و اله،فجاء بالصلاة و الصوم و الزكاة و الإنفاقات و الحجّ و الأحكام الاسريّة و العلاقات الفرديّة،ثمّ جاء بالجهاد في سبيل الله و إقامة الحكومة و النظام الاقتصادي و علاقات الحاكم بالرعيّة و وظائف الرعية تجاه الحاكم.هذه المجموعة من الأحكام عرضها الإسلام على البشر،و بيّنها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله:«ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة و يبعدكم من النار إلاّ و قد أمرتكم به» (1).

و لم يبيّن النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و اله كلّ ما يسعد الإنسان و المجتمع الإنساني فحسب، بل طبّقها و عمل بها،فقد أقام الحكومة الإسلاميّة و المجتمع الإسلامي،و طبّق الاقتصاد الإسلامي،و أقيم الجهاد و استحصلت الزكاة،فشيّد نظاما إسلاميّا و أصبح النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و خليفته من بعده معمارا و قائدا لهذا النظام.كان الطريق واضحا و بيّنا،فوجب على الفرد و على المجتمع الإسلامي أن يسير في هذا الطريق و على هذا النهج،فإن كان كذلك بلغ الناس الكمال،أصبحوا صالحين

ص: 48


1- المحاسن للبرقي:278/1،ح 399.

كالملائكة عليهم السّلام،و ذهب الظلم و الشرّ و الفساد و الفرقة و الفقر و الجهل بين الناس، و وصل الناس إلى السعادة الكاملة ليصبحوا عباد الله الكمّل.

حسنا،يبقى-هنا-سؤال و هو:لو صرفت يد أو حادث القطار الّذي سيّره النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله عن مسيره،فما هو التكليف؟؟لو انحرف المجتمع الإسلامي و بلغ الانحراف درجة بحيث خيف انحراف أصل الإسلام و المبادئ الإسلاميّة-لأنّ الانحراف على قسمين،فتارة ينحرف الناس،و هذا ما يقع كثيرا،لكن تبقى أحكام الإسلام سليمة،و تارة ينحرف الناس و يفسد الحكّام و العلماء و مبلّغو الدّين، فيحرّفوا القرآن و الحقائق،و تبدّل الحسنات سيّئات و السيّئات حسنات.و يصبح المعروف منكرا و المنكر معروفا،و يحرّف الإسلام 180 درجة-فلو أبتلي النظام و المجتمع الإسلامي بمثل هذا الأمر،فما هو التكليف حينئذ؟

لقد بيّن النبي صلّى اللّه عليه و اله و حدّد القرآن التكليف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (1)إضافة إلى آيات و روايات كثيرة أخرى لكن هل تمكّن النبي صلّى اللّه عليه و اله من العمل بهذا الحكم الإلهي؟كلاّ،لأنّ هذا الحكم الإسلامي يطبّق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلامي و يبلغ حدّا يخاف فيه من ضياع أصل الإسلام،و المجتمع الإسلامي لم ينحرف في عهد رسول الله صلّى اللّه عليه و اله،و لم ينحرف في عهد أمير المؤمنين بتلك الصورة،و كذا في عهد الإمام الحسن عليه السّلام عند ما كان معاوية على رأس السلطة،و إن ظهرت الكثير من علائم ذلك الانحراف،لكنّه لم يبلغ الحدّ الّذي يخاف فيه على أصل الإسلام.نعم،يمكن أن يقال إنّه بلغ في برهة من الزمن الحدّ،لكن في4.

ص: 49


1- سورة المائدة:54.

تلك الفترة لم تتح الفرصة و لم يكن الوقت مناسبا للقيام بهذا الأمر.

إنّ هذا الحكم الّذي يعتبر من الأحكام الإسلاميّة لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، لأنّ الحكومة تعني إدارة المجتمع،فلو انحرف المجتمع و فسد،و تعطّل الحكم الإلهي،و لم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الوضع و تجديد الحياة أو بتعبير اليوم (الثورة)،فما الفائدة من الحكومة في الإسلام.

فالحكم الّذي يرتبط بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخطّ الصحيح لا يقلّ أهميّة عن الحكومة ذاتها،و يمكن أن يقال إنّه أكثر أهمّية من جهاد الكفّار و من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الطبيعيين في المجتمع الإسلامي،بل و حتّى من العبادات الإلهيّة العظيمة كالحج.لماذا؟لأنّ هذا الحكم-في الحقيقة-يضمن إحياء الإسلام بعد أن أشرف على الموت أو مات و انتهى.

حسنا،من الّذي يجب عليه أداء هذا الحكم و هذا التكليف؟إنّه خليفة النبي الذي يقع في عصره هذا الانحراف بشرط أن يكون الوقت مناسبا للقيام بذلك،لأنّ الله لا يكلّف بشيء لا فائدة فيه.طبعا ليس معنى(أن يكون الوقت مناسبا)هو عدم وجود الخطر،كلاّ،ليس هذا هو المقصود.يجب أن يكون الوقت مناسبا،يعني أنّ الإنسان يعلم أنّ هذا العمل الّذي يقوم به تترتّب عليه نتيجة يعني إبلاغ النداء إلى الناس و إفهامهم و عدم بقائهم على خطأهم.و ربّما أنّ الإسلام قد انحرف في عصر الإمام الحسين عليه السّلام و كان الوقت مناسبا،لذا وجب على الحسين عليه السّلام أن يثور.

ص: 50

التكليف لا تسقطه المخاطر

فالشخص الّذي توّلى السلطة بعد معاوية لم يراع حتّى جوهر الإسلام،و كان منغمسا في الخمر و المجون و التهكّم بالقرآن و ترويج الشعر الإباحي المرفوض من قبل الإسلام،فكان يخالف الإسلام علنا،و كان بعمله هذا كنبع الماء العفن الّذي يفسد ما حوله.هكذا يكون الحاكم الفاسد،فبما أنّه يتربّع على قمّة المرتفع،فما يصدر منه لا يبقى في مكانه،بل ينتشر ليملأ ما حوله،خلافا للناس العاديين حيث يبقى فسادهم لأنفسهم أو للبعض ممّن حولهم،طبعا كلّ من شغل مقاما و منصبا أرفع في المجتمع الإسلامي كان ضرر فساده أكبر.لكن لو فسد من يقع على رأس السلطة لانتشر فساده و شمل كلّ الأرض،كما أنّه لو كان صالحا،لا متدّ الصلاح إلى كلّ مكان.

فشخص كهذا أصبح خليفة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله،فهل هناك انحراف أكبر من هذا؟ إذن الأرضيّة ممهّدة؟و ما معنى أنّ الأرضيّة ممهّدة؟هل معناه عدم وجود الخطر؟كلاّ،فالخطر موجود.

فلا معنى أن يبقى من هو على رأس السلطة ساكتا أمام معارضيه و لا يخلق لهم المخاطر،بل من البديهي أن يوجّه لهم الضربات،فعندما نقول الوقت المناسب، فمعناه أنّ الظروف في المجتمع الإسلامي مؤاتية لأن يبلّغ الإمام الحسين عليه السّلام نداءه إلى الناس في ذلك العصر و على مرّ التاريخ.

فلو أراد الإمام الحسين عليه السّلام الثورة في عصر معاوية لما سمع نداؤه؛و ذلك لأنّ الحكم و السياسات كانت بشكل لا يمكن للناس فيها سماع قول الحقّ،لذلك فإنّ

ص: 51

الإمام الحسين عليه السّلام لم يقدم على شيء و لم يثر أيّام خلافة معاوية،مثلما أنّ الإمام الحسن عليه السّلام لم يثر على معاوية،لأنّ الظروف لم تكن مؤاتية،لا أنّ الإمام الحسن عليه السّلام لم يكن أهلا لذلك،فلا فرق بين الإمام الحسن عليه السّلام و بين الإمام الحسين عليه السّلام،و لا بين الإمام الحسين و الإمام السجّاد عليه السّلام،و لا بين الإمام الحسين عليه السّلام و الإمام عليّ الهادي عليه السّلام أو الإمام الحسن العسكري عليه السّلام،طبعا منزلة الإمام الحسين عليه السّلام-الّذي أدّى هذا الجهاد-أرفع من الّذين لم يؤدّوه،لكنّهم سواء في منصب الإمامة،و لو وقع في عصر أيّ منهم هذا الأمر لثار ذلك الإمام و نال تلك المنزلة.

فالإمام الحسين عليه السّلام واجه مثل هذا الانحراف،و الظروف كانت مؤاتية،فلا محيص للإمام عليه السّلام من تأدية هذا التكليف.لهذا فعندما قال له عبد الله بن جعفر و محمّد ابن الحنفيّة و عبد الله بن عباس-الّذين كانوا من العلماء و العارفين بأحكام الدّين-أن تحرّكك فيه خطر فلا تذهب،أرادوا أن يقولوا:إنّ التكليف قد سقط عنك لوجود الخطر.

لكنّهم لم يدركوا أنّ هذا التكليف ليس بالتكليف الّذي يسقط بوجود الخطر،لأنّ مثل هذا التكليف فيه خطر دوما،فهل يمكن لإنسان أن يثور ضدّ سلطة مقتدرة في الظاهر و لا يواجه خطرا.

ص: 52

تقارب ثورة الحسين و الخميني في الهدف و افتراقهما في النتيجة

اشارة

لقد كانوا يقولون للإمام الخميني رضوان اللّه عليه،إنّ الخطر في مواجهتكم للشاه،فهل أنّ الإمام لم يكن يعلم بالخطر؟ألم يكن الإمام يعلم أنّ جهاز الأمن البهلوي يعتقل،يقتل،يعذّب،يقتل زملاء الإنسان و ينفيهم؟بلى فالّذي حدث في عصر الإمام الحسين عليه السّلام حدث في عصر الإمام(الخميني)لكن بصورة أصغر.

فقد كان هدف الإمام الحسين عليه السّلام و هدف إمامنا العظيم مشتركا و هو إرجاع الإسلام و المجتمع الإسلامي إلى الصراط المستقيم و الخطّ الصحيح بعد أن انحرف عن المسير و انحرف المسلمون نتيجة جهل و ظلم و استبداد و خيانة البعض و كانت الظروف مؤاتية في عصرنا مثلما كانت مؤاتية في زمن الإمام الحسين عليه السّلام،فأقدم الإمام(ره)على نفس العمل،لكن مع فارق و هو أنّ الثورة ضدّ الحكم الباطل في عصرنا انتهت بإقامة الحكومة الإسلاميّة و الحمد للّه،لكن ثورة الإمام الحسين عليه السّلام كانت نتيجتها الشهادة،فهل أنّ الثورة في الصورة(الثانية)لا تصبح واجبا؟و هل أنه لا فائدة منها إن كانت نتيجتها الشهادة؟كلا،إنّ الثورة واجبة و إن انتهت بالشهادة،و لا فرق في ذلك انتهت بالشهادة أو الحكم،لكن لكلّ منهما نوع من الفائدة.

خلاصة القول

إذن يمكننا أن نلخّص القضيّة بهذه الصورة و هي:أنّ ثورة الإمام الحسين عليه السّلام كانت لتأدية واجب عظيم هو إعادة الإسلام و المجتمع الإسلامي إلى الخطّ الصحيح

ص: 53

أو الثورة ضدّ الانحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلامي.

و هذا ما يتمّ بالثورة و عن طريق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،بل هو مصداق عظيم للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.طبعا-و كما قلت-فقد تكون نتيجتها إقامة الحكومة،و قد تكون الشهادة،و قد كان الإمام الحسين عليه السّلام مستعدّا لكلتا النتيجتين (1).1.

ص: 54


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:132-141.

أدلة رؤيتنا في ثورة الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

قال السيد الخامنئي:و دليلي على ذلك هو ما استنتجته من أقوال الإمام الحسين عليه السّلام نفسه،إنّني انتخبت بعض أقوال أبي عبد الله عليه السّلام و كلّها تشير إلى هذا المعنى:

الدليل الأول

:

1-عندما استدعى و الي المدينة(الوليد)الإمام الحسين عليه السّلام ليلا و قال له:إنّ معاوية قد مات و عليك بمبايعة يزيد،فردّ عليه الإمام عليه السّلام:«نصبح و تصبحون و ننظر و تنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة» (1).

و عند الصباح عندما لقي مروان أبا عبد الله عليه السّلام طلب منه مبايعة يزيد و عدم تعريض نفسه للقتل،فأجابه الإمام عليه السّلام:«إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،و على الإسلام السلام إذ قد بليت الامّة براع مثل يزيد» (2).

فالقضيّة ليست شخص يزيد،بل مثل يزيد،و يريد الإمام الحسين عليه السّلام أن يقول:

لقد تحمّلنا كلّ ما مضى،أمّا الآن فإنّ أصل الدّين و الإسلام و النظام الإسلامي في خطر،إشارة إلى أنّ الانحراف خطر جدّي،فالقضيّة هي الخطر على أصل الإسلام.

ص: 55


1- شرح إحقاق الحق:615/33.
2- المجالس الفاخرة:189.

الدليل الثاني

:

2-في وصيّته إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة عند خروجه من مكّة-فأبو عبد الله عليه السّلام قد أوصى أخاه محمّدا ابن الحنفية،مرّتين:الاولى عند خروجه من المدينة،و الثانية عند خروجه من مكّة،و أتصوّر أنّ هذه الوصيّة كانت عند خروجه من مكّة في شهر ذي الحجّة-فبعد الشهادة بوحدانية الله و رسالة النبي صلّى اللّه عليه و اله و...

يقول الإمام عليه السّلام:«و إنّي ما خرجت أشرا و لا بطرا و لا ظالما و لا مفسدا و إنّما خرجت أريد الإصلاح في أمّة جدّي» (1)أي أريد الثورة لأجل الإصلاح لا للوصول إلى الحكم حتما أو للشهادة حتما،و الإصلاح ليس بالأمر الهيّن،فقد تكون الظروف بصورة بحيث يصل الإنسان إلى سدّة الحكم و يمسك بزمام السلطة و قد لا يمكنه ذلك و يستشهد،و في كلتا الحالتين فالثورة تكون لأجل الإصلاح.

ثمّ يقول عليه السّلام:«أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أسير بسيرة جدّي».

و الإصلاح يتمّ عن هذا الطريق،و هو ما قلنا أنّه مصداق للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

الدليل الثالث

:

3-عند ما كان الإمام عليه السّلام بمكّة،بعث بكتابين،الأوّل إلى رؤساء البصرة و الثاني إلى رؤساء الكوفة،جاء في كتابه إلى رؤساء البصرة:«و قد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب و أنا أدعوكم إلى كتاب الله و سنّة نبيّة،فإنّ السنّة قد أميتت و البداعة قد أحييت،

ص: 56


1- معالم الفتن:296/2.

فإن تسمعوا قولي أهديكم إلى سبيل الرشاد» (1).

أي يريد الإمام الحسين عليه السّلام تأدية ذلك التكليف العظيم و هو إحياء الإسلام و سنّة النبي صلّى اللّه عليه و اله.

و جاء في كتابه إلى رؤساء الكوفة:«فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائر بالحقّ و الحابس نفسه عن ذات الله،و السلام» (2).

أي بيّن الإمام عليه السّلام هدفه من الخروج،و كان الإمام عليه السّلام يخاطب الناس في كلّ منزل ينزل فيه بعد خروجه من مكّة.

الدليل الرابع

:

4-عند ما(واجه الحسين عليه السّلام جيش الحرّ)و سار بأصحابه في ناحية و الحرّ و من معه في ناحية حتّى بلغ«البيضة»،خاطب الإمام عليه السّلام أصحاب الحر،فقال:

«أيّها الناس إنّ رسول الله صلّى اللّه عليه و اله قال:من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان فلم يغيّر عليه بفعل و لا قول كان حقّا على الله أن يدخله مدخله» (3).

فالنبي صلّى اللّه عليه و اله بيّن ما يجب عمله إذا انحرف النظام الإسلامي،و قد استند الإمام الحسين عليه السّلام إلى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله هذا.

إذن التكليف هو«يغيّر عليه بفعل أو قول»،فإن واجه الإنسان هذا الأمر و كان الظرف مؤات كما قلنا،وجب عليه أن يثور ضدّ هذا الأمر و لو بلغ ما بلغ،يقتل،يبقى حيّا،ينجح في الظاهر أو لا ينجح.

ص: 57


1- معالم الفتن:258/2.
2- شرح إحقاق الحق:603/11.
3- شرح إحقاق الحق:158/27.

يجب على كلّ مسلم أن يثور أمام هذا الوضع،و هذا تكليف قال به النبي صلّى اللّه عليه و اله.

ثمّ قال عليه السّلام:«و أنا أحق من غيّر»لأنّي سبط النبي صلّى اللّه عليه و اله فإن كان النبي صلّى اللّه عليه و اله قد أوجب على المسلمين فردا فردا هذا الأمر،كان سبط النبي صلّى اللّه عليه و اله و وارث علمه و حكمته الحسين بن علي عليه السّلام أحقّ أن يثور،فإنّي خرجت لهذا الأمر.فيعلن عن سبب و هدف ثورته و هو لأجل«التغيير»أي الثورة ضدّ هذا الوضع السائد.

الدليل الخامس

:

5-لمّا نزل الإمام الحسين عليه السّلام«الغريب»التحق به أربعة نفر،فقال لهم الإمام عليه السّلام:«أمّا و الله إنّي لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله بنا قتلنا أم ظفرنا» (1).و هذا دليل على قولنا عندما قلنا لا فرق سواء انتصر أو قتل،يجب أداء التكليف.

الدليل السادس

:

6-في أوّل خطبة له عليه السّلام عند نزوله بكربلاء،يقول عليه السّلام:«و قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون»إلى أن يقول:«ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به و إلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّا...»إلى آخر الخطبة (2).

إذن ثورة الإمام الحسين عليه السّلام كانت تأدية لواجب و هو عبارة عن وجوب الثورة على كلّ مسلم حال رؤية تفشّي الفساد في جذور المجتمع الإسلامي بحيث يخاف من تغيير كلّي في أحكام الإسلام،و كانت الظروف مؤاتية،و علم بأنّ لهذه الثورة نتيجة، و ليس شرطا البقاء حيّا و عدم القتل و عدم التعرّض للتعذيب و الأذى و المعاناة.

ص: 58


1- تاريخ الطبري:306/4.
2- شرح إحقاق الحق:605/11.

فالإمام الحسين عليه السّلام قد ثار و أدّى هذا الواجب عمليّا ليكون درسا للجميع،و قد تتوفّر الظروف المناسبة لأي أحد للقيام بهذا العمل على مرّ التاريخ،طبعا الظروف لم تكن مؤاتية في عصر سائر الأئمة عليهم السّلام من بعد الإمام الحسين عليه السّلام،و هذا الأمر له تفسير و هو وجود أعمال مهمّة أخرى وجب القيام بها.فلم تتوفر هذه الظروف بعد ذلك في المجتمع الإسلامي إلى أواخر عصر الإئمة عليهم السّلام و بداية عصر الغيبة، لكن قد تتوفّر مثل هذه الظروف في الدول الإسلاميّة على مرّ التاريخ،و قد تكون الأرضيّة في بعض أقطار العالم الإسلامي-الآن-مهيّئة لقيام المسلمين بذلك أيضا.فإن قاموا بذلك،فقد صانوا الإسلام و ضمنوا بقاءه،و قد يواجه واحد أو اثنان الفشل،لكن عندما يكثر هذا التغيير و هذه الثورة و الحركة الإصلاحيّة،فثقوا باجتثاث جذور الفساد و الانحراف.

إنّ الإمام الحسين عليه السّلام قد علّم التاريخ الإسلامي درسا عمليّا عظيما،و ضمن بقاء الإسلام في عصره و سائر الأعصار.فأينما وجد مثل هذا الفساد،كان الإمام الحسين عليه السّلام حيّا حاضرا هناك يعلّمنا بأسلوبه و فعله ما يجب علينا عمله.لهذا يجب أن يبقى إسم الحسين عليه السّلام حيّا و تبقى ذكرى كربلاء حيّة؛لأنّ ذكرى كربلاء تجعل هذا الدرس العملي نصب أعيننا (1).2.

ص: 59


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:142.

أهداف نهضة عاشوراء

اشارة

قال الإمام الخميني (1):لقد بعث الأنبياء لإصلاح المجتمع،و كلهم كانوا يؤكدون أنه ينبغي التضحية بالفرد من أجل المجتمع مهما كان الفرد عظيما،و حتى لو كان الفرد أعظم من في الأرض،فإذا اقتضت مصلحة المجتمع التضحية بهذا الفرد، فعليه أن يضحي.و على هذا الأساس نهض سيد الشهداء عليه السّلام و ضحى بنفسه و أصحابه و أنصاره،فالفرد يفدى في سبيل المجتمع،فإذا اقتضت مصلحة المجتمع و توقف إصلاح المجتمع على تضحية وجب التضحية،إن العدالة ينبغي أن تحقق بين الناس (لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ) .(تقول الآية 25 من سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.

كان هدف الإمام الحسين عليه السّلام من الاستشهاد إقامة العدل الإلهي و صيانة بيت اللّه الحرام.

إن حياة سيد الشهداء عليه السّلام و حياة الإمام المهدي صاحب الزمان(سلام اللّه عليه) و جميع الأنبياء من آدم عليه السّلام حتى الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه و اله كانت تدور حول محور إرساء و إقامة حكومة العدل في مقابل الظلم.

لقد أعلن سيد الشهداء عليه السّلام بصراحة أن هدفه من قيامه هو إقامة العدل،

ص: 60


1- في كتابه نهضة عاشوراء.

فالمعروف لا يعمل به و المنكر لا يتناهى عنه.

(روي عن الإمام الحسين عليه السّلام أنه وقف خطيبا في منطقة"ذي حسم"فقال:أما بعد فقد نزل من الأمر بنا ما ترون و إنّ الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها، و لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء و خسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به،و إلى الباطل لا يتناهى عنه،ليرغب المؤمن في لقاء اللّه،فإني لا أرى الموت إلا سعادة و الحياة مع الظالمين إلا برما"راجع تحف العقول:ص 249.، لذا فهو يريد إقامة المعروف و محو المنكر،فجميع الانحرافات منشؤها من المنكر، و ما عدا خط التوحيد المستقيم فكل ما في العالم منكرات،و يجب أن تزول.

و نحن الموالون لسيد الشهداء عليه السّلام السائرون على نهجه ينبغي أن ننظر في حياته،و في قيامه،الذي كان الدافع إليه النهي عن المنكر و محوه،و من المنكر حكومة الجور،و هي يجب أن تزول.

لقد ضحى سيد الشهداء عليه السّلام بكل حياته من أجل إزالة المنكر و محوه و مكافحة حكومة الظلم و الحيلولة دون المفاسد التي أوجدتها الحكومات المنحرفة في العالم،كما سعى بجد للإطاحة بحكومة الجور و إزالتها و نشر المعروف و النهي عن المنكر.

لقد ضحى سيد الشهداء عليه السّلام بكل ما يملك و ضحى بنفسه و أطفاله و بكل شيء و كان يعلم أن الأمر سيؤول إلى ما آل إليه،و إذا رجعنا إلى أقواله و تصريحاته و هو يهمّ بمغادرة المدينة إلى مكة و عندما خرج من مكة إلى كربلاء سنجد أنه بصير بما كان يفعل.

لم يكن يريد أن يجرب و يجازف في تحركه ليعلم هل ينجح أم لا،بل إنّه كان قد تحرك ليتسلم زمام الحكومة،و هذا مبعث فخر له و مدعاة افتخار،و الذين يتصورون أن سيد الشهداء عليه السّلام لم ينهض لأخذ زمام الحكم فهم مخطئون،فسيد الشهداء عليه السّلام إنما جاء و خرج مع صحبه لتسلم الحكم لأن الحكومة يجب أن تكون

ص: 61

لأمثال سيد الشهداء عليه السّلام و أمثال شيعته.

لقد رأى سيد الشهداء عليه السّلام إن الدين يوشك أن ينمحي،و قضية قيام سيد الشهداء عليه السّلام بوجه يزيد و قيام أمير المؤمنين عليه السّلام ضد معاوية،و قيام الأنبياء عليهم السّلام بوجه المتسلطين و الكفار لم تكن قضية سيطرة و تحكم أو طلب سلطة و رئاسة، فالعلم كله ليس له أية قيمة بنظرهم،و ليس همهم طلب الرئاسة و الرغبة في السلطة و فتح البلدان للسيطرة عليها.

إن ما أوصل سيد الشهداء عليه السّلام إلى ذلك المصير هو الدين و العقيدة،و قد ضحى (سلام اللّه عليه)بكل شيء من أجل العقيدة و الإيمان،و كانت النتيجة أن قتل و هزم عدوه بدمه.

لقد ثار سيد الشهداء عليه السّلام ضد يزيد و ربما لم يكن متيقنا من أنه سيتمكن من الإطاحة بيزيد و إزاحته عن السلطة و تحدّثنا الروايات الواردة عنه عليه السّلام بأنه كان مطّلعا على هذا الأمر(ثمة روايات عديدة تشير أن اللّه جل جلاله أخبر الأنبياء بشهادة الإمام الحسين عليه السّلام و أشار الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و الأئمة الأطهار عليه السّلام إلى ذلك أيضا.

و في رسالة شخصية بعثها الإمام الحسين عليه السّلام إلى واحد من بني هاشم:"أما بعد فمن لحقني استشهد و من لم يلحق بي لم يبلغ الفتح..و السّلام"راجع اللهوف على قتلى الطفوف:ص 69.)،لكنه في الوقت ذاته قرر النهوض و الثورة ضد نظام ظالم حتى لو أدى ذلك إلى مقتله،و فعلا تحرك و قام بوجه النظام الظالم و قدّم الضحايا و قتل من قتل من أعدائه و قتل هو بعد ذلك.

لقد كان الحسين عليه السّلام يفكر بمستقبل الإسلام و المسلمين باعتبار أن الإسلام سينتشر بين الناس نتيجة لتضحياته و لجهاده المقدس و أن نظامه السياسي و الاجتماعي سيقام في مجتمعنا،فرفع لواء المعارضة و النضال و التضحية.

لقد رأى سيد الشهداء عليه السّلام أن تكليفه يقتضي أن يقاوم تلك السلطة و يقتل لكي

ص: 62

يغيّر الأوضاع السائدة آنذاك و لكي يفضح تلك السلطة من خلال تضحيته و تضحيات أنصاره الذين كانوا معه.لقد رأى أن حكومة جائرة قد هيمنت على مقدرات الدولة و أن التكليف الإلهي يقتضي منه أن ينهض و يتحرك و يرفع لواء المعارضة و الإستنكار مهما كلّفه ذلك-و مع أنه كان يعلم و طبقا للقواعد المتعارفة -بأن مثل هذا العدد القليل لا يمكنه مواجهة ذلك الجيش الجرار إلاّ أن التكليف كان يقتضي تلك النهضة.

كان التكليف يوجب على سيد الشهداء عليه السّلام،أن يقوم و يثور و يضحي بدمه كي يصلح هذه الأمة،و يهزم راية يزيد،و هذا ما فعله و أنجز ما كان يريد.لقد ضحى بدمه و دماء أبنائه و كل شي من أجل الإسلام.

لم تكن لدى الإمام الحسين عليه السّلام قوة تذكر و مع ذلك نهض و ثار،و لو كان -و العياذ باللّه-كسولا لكان بإمكانه الجلوس و الانزواء جانبا و الادعاء بأن هذا ليس واجبه الشرعي و أن تكليفه الشرعي لا يحتم عليه الثورة،لو أن هذا هو الذي كان حصل لفرح البلاط الأموي،فالبلاط الأموي يسعده كثيرا بأن يلجأ سيد الشهداء عليه السّلام إلى القعود و السكوت و تركهم ليفعلوا ما يحلو لهم.

إلاّ أنّه عليه السّلام بعث مسلم بن عقيل(أرسل الإمام الحسين عليه السّلام ابن عمه مسلم بن عقيل الذي كان من الأبطال و العلماء و أصحاب الرأي إلى الكوفة ليأخذ البيعة من الناس للإمام عليه السّلام و تمكّن مسلم أن يأخذ من أهل الكوفة 18000 بيعة للإمام الحسين عليه السّلام و كتب له رسالة يدعوه للتحرك نحو الكوفة.و مع دخول عبد اللّه بن زياد إلى الكوفة و تعيينه من قبل يزيد حاكما لها تفرق الناس عن مسلم و تركوه وحيدا و استغل عبد اللّه بن زياد الظرف الحاصل و دعا الناس إلى عدم مبايعة الإمام الحسين عليه السّلام و قتل مسلما.

و قد استشهد مسلم بن عقيل عليه السّلام في التاسع من ذي الحجة عام 60 للهجرة «680 م»)يدعو الناس إلى مبايعته لكي يقيم حكومة إسلامية و يقضي على تلك

ص: 63

الحكومة الفاسدة.و لو أنه كان قد جلس في مكانه و لم يغادر المدينة و رضي بمبايعة و الي يزيد التافه على المدينة-و العياذ باللّه-لفرح بنو أمية و ابتهجوا و لقبّلوا يديه.

ضحّى سيد الشهداء بنفسه من أجل الإسلام

لقد ضحّى سيد الشهداء(سلام اللّه عليه)بجميع أصحابه و شبّانه و بكل ما يملكه،في سبيل اللّه و لتقوية الإسلام و مكافحة الظلم،و معارضة الأمبراطورية التي كانت قائمة آنذاك و هي أكبر من الأمبراطوريات الموجودة الآن.

و قد قتل سيد الشهداء عليه السّلام،و لم يكن طامعا في الثواب،فهو عليه السّلام لم يعر هذا الأمر كثير الإهتمام،لقد كانت نهضته لإنقاذ الدين و لإحياء الإسلام و دفع عجلته إلى الأمام.

لقد تعرّض النبي صلّى اللّه عليه و اله في بعض الحروب للهزيمة العسكرية،و كذا أمير المؤمنين عليه السّلام في مقابل معاوية كما أن سيد الشهداء عليه السّلام قتل أيضا،إلا أن مقتله كان طاعة منه و تقربا للّه و في سبيل اللّه،و كل ما حصل كان مزيدا من السمو له عليه السّلام،لذا فليس في الأمر هزيمة أو انكسار للإمام عليه السّلام،كل ما كان هو نوع من الطاعة للّه (1).

ص: 64


1- انظر كتاب نهضة عاشوراء.

هدف الإمام الحسين عليه السلام و شعاره و سبيله

قال السيد مرتضى العسكري:رفع الإمام شعار بطلان حكم الخلافة القائم و إن فيه خطرا على الإسلام حيث قال:"و على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد".

قال ذلك في جواب من قال له:بايع أمير المؤمنين يزيد فهو خير لك في الدارين.

قال ذلك في ظرف كان يقال له:يا حسين ألا تتقي اللّه تخرج من الجماعة و تفرّق بين هذه الأمة!قال ذلك في ظرف قال له ابن عمر:اتق اللّه و لا تفرّق جماعة المسلمين (1).

في هذا الظرف قال الإمام الحسين عليه السّلام:و اللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية أبدا.

و كان مؤدى هذا الشعار صحة أمر الإمامة و بطلان أمر الخلافة القائمة و يتضح ذلك بأجلى من هذا في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية حيث كتب فيها:"إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلّى اللّه عليه و اله أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق و من رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين".

أسقط الإمام الحسين في هذه الوصية ذكر الخلفاء أبي بكر و عمر و عثمان

ص: 65


1- الطبري 191/6.

و معاوية و ذكر سيرتهم،و صرّح بأنه يريد أن يسير بسيرة جده و أبيه.

و تتلخص سيرة الخلفاء في:مجيئهم إلى الحكم استنادا إلى بيعة المسلمين إياهم كيف ما كانت البيعة ثم حكمهم المسلمين وفق اجتهاداتهم الخاصة في الأحكام الإسلامية.

و تتلخص سيرة أبيه و جده في:حملهما الإسلام إلى الناس و دعوتهما الناس إلى العمل به،و وقوفهما عند أحكام الإسلام،كان هذا سيرتهما في جميع الأحوال، سواء أكانا حاكمين مثل عهد الرسول في المدينة و الإمام علي بعد مقتل عثمان،أو غير حاكمين مثل حالهما قبل ذلك،فقد كان للرسول سيرة في مكة و للإمام علي سيرة قبل أن يلي الحكم،و سيرتهما في كلتا الحالين حمل الإسلام إلى الأمة، أحدهما بلّغه عن اللّه و الآخر عن رسول.

في كلتا الحالين دعوا إلى الإسلام و أمرا بالمعروف و نهيا عن المنكر.

و الإمام الحسين عليه السّلام يريد أن يسير بسيرتهما كذلك،و لا يريد أن يسير بسيرة الخلفاء،فمن قبله بقبول الحق فاللّه أولى بالحق،و من رد عليه ذلك صبر حتى يقصى اللّه بينه و بين عصبة الخلافة بالحق.

يعرف مما أوردنا و من سائر أعمال الإمام و أقواله في أيام قيامه أنه كان قد حمل إلى الناس شعار بطلان أمر الخلافة القائمة و صحة أمر الإمامة و هدفه من كل ما قال و فعل أن يؤمن الآخرون بهذا الشعار فمن آمن به اهتدى و من لم يؤمن بعد أن بلغه نداء الإمام تمت الحجة عليه،و من ثم كان يعمل جاهدا في سبيل نشر قضيته.

كان هذان شعار الإمام و هدفه و اتخذ الشهادة سبيلا للوصول إلى هدفه،و لنعم ما قال الشاعر على لسانه:

إن كان دين محمد لم يستقم إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني

و مما يدل على ذلك ما ورد في كتابه إلى بني هاشم:أما بعد،فإن من لحق بي

ص: 66

استشهد و من تخلّف لم يدرك الفتح.

صرّح الإمام في هذا الكتاب بأن سبيله الشهادة و مآلها الفتح و كذلك كان شأن سائر أقواله و أفعاله في هذا القيام فإن كلها توضح ما حمله من شعار و ما اتخذ من سبيل و هدف و كان حين يدعو و يستنصر يدعو و يستنصر من يشاركه في كل ذلك على بصيرة من أمره،مثل قصته مع زهير بن القين فإن الإمام حين دعاه ذهب إلى الإمام متكارها ثم:ما لبث-كما قال الراوي-أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه فحمل إلى الحسين عليه السّلام،ثم قال لامرأته:أنت طالق!الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير،ثم قال لأصحابه:من أحب منكم الشهادة فليقم و الا فإنه آخر العهد.

أخبر زهير بمصيره قبل أن يصل إلى ركب الإمام خبر استشهاد مسلم و هانئ و انقلاب أهل الكوفة على أعقابهم و أخبرهم انه سمع في غزوة بلنجر من الصحابي سلمان الفارسي أن يستبشروا بإدراك هذا اليوم.

كان الإمام يدعو أنصارا من هذا القبيل و يبعد عن نفسه من اتبعه أملا بوصول الإمام إلى الحكم (1).

أعلن الإمام عن سبيله هذا،و رفع شعاره ذلك،مرة بعد أخرى،و في منزل بعد منزل.

فقد قال في جواب ابن عمر:يا عبد اللّه أما علمت أن من هوان الدنيا على اللّه أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل...:فلم يعجل اللّه عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر!ثم يقول له:اتق اللّه،يا أبا عبد الرحمن و لا تدعن نصرتي.

كأن الإمام يشير في حديثه إلى أن شأنه شأن يحيى و يدعو ابن عمر إلى نصره6.

ص: 67


1- راجع قبله ص 206.

في من اختار لنفسه من سبيل.

و قال الإمام في خطبته عند توجهه إلى العراق:خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة،و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف،و قد خير لي مصرع أنا لاقيه،كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا،فيملأن مني أكراشا جوفا،و أحوية سغبا،لا محيص عن يوم خط بالقلم.

رضى اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفينا أجور الصابرين،لن تشذ عن رسول اللّه لحمته،و هي مجموعة له في حضيرة القدس،تقرّ بهم عينه و ينجز بهم وعده.

من كان باذلا فينا مهجته،و موطنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا.

و ما نزل الإمام منزلا و لا ارتحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريا و مقتله (1).5.

ص: 68


1- معالم المدرستين للعسكري:302/3-305.

لبى الإمام نداء أهل الكوفة إتماما للحجة

كان الإمام يعلم بالبداهة و بحسب حكم طبايع الأشياء و مع صرف النظر عما كان قد علمه من الأمور الغيبية بأنباء رسول اللّه عن اللّه عز اسمه بمقتله كان يعلم أن عليه أن يختار أحد اثنين لا ثالث لهما إما البيعة أو القتل،و كان يشير إلى ذلك في أقواله مرة بعد أخرى و قد بان ذلك منذ أول مرة طلب منه البيعة بعد موت معاوية حيث أشار مروان على والي المدينة أن يأخذ منه البيعة و أن يقتله إن أبى،ففر منهم الإمام إلى مكة و التجأ إلى بيت اللّه الحرام.و تبين له في مكة أن يزيد يريد أن يغتاله و خشي أن يكون الذي يستباح به حرمة البيت كما صرّح به لأخيه محمد ابن الحنفية و قاله أيضا لابن الزبير حين قال له:و أيم اللّه لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم و اللّه ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت.

و اللّه لئن أقتل خارجا منها أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر.

و قال لابن عباس:لئن أقتل بمكان كذا و كذا أحب إلي من أن أقتل بمكة و تستحل بي.

إذا فإن الإمام كان يعلم أنه لا محيص له عن القتل أينما كان،لا زال ممتنعا عن بيعة خليفة المسلمين يزيد بن معاوية فاختار سبيل الشهادة لنفسه و لمن تبعه!أما أهل الكوفة،فإنهم بعد أن توالت كتبهم إلى الإمام الحسين عليه السّلام يقولون فيها أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الحق،و النعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة و لا عيد،و لو قد بلغنا أنك قد أقبلت أخرجناه

ص: 69

حتى نلحقه بالشام.

و يقولون:إلى الحسين بن علي من شيعته المؤمنين و المسلمين أما بعد فحي هلا،فإن الناس ينتظرونك و لا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل.

و كتب إليه رؤساء أهل الكوفة:فأقدم على جند لك مجند.

و كتبوا إليه:أنه معك مائة ألف سيف.

بعد ما توالت عليه أمثال الكتب الآنفة من الرجل و الاثنين و الأربعة و من رؤساء أهل الكوفة و تكاثرت حتى ملأت خرجين.بعد كل ذلك لو أن الإمام لم يلب دعوة أهل الكوفة،و بايع يزيد،أو أنه لم يبايع يزيد و لكنه استشهد بمكان آخر،كان عندئذ قد فرط في حق أهل الكوفة،و كان الناس أبد الدهر و جيلا بعد جيل يسجّلون لأهل الكوفة الحق على الإمام،و في يوم القيامة كانت لهم الحجة على اللّه جل اسمه، و للّه الحجة البالغة على خلقه.

إذن فما فعله الإمام الحسين عليه السّلام مع أهل الكوفة كان من باب إتمام الحجة عليهم و ليس غيره،و لو لم يكن هذا بل كان سبب توجّه الإمام الحسين عليه السّلام إلى العراق انخداعه بكتب أهل الكوفة و طلبهم الحثيث،لرجع حين بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة،و من قبل أن يصل إليه الحر بن يزيد و يلازمه بأيام (1).

أجل إن الإمام الحسين عليه السّلام قد أتم الحجة بما فعل على أهل العراق و على غيرهم و قال اللّه سبحانه"لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل" (2).3.

ص: 70


1- راجع قبله ص 204-28.
2- معالم المدرستين للعسكري:306/3.

ذهب إلى العراق لاتمام الحجة لا لقول بني عقيل

و قد يتوهم متوهم و يقول:كان سبب ذهاب الإمام إلى العراق بعد وصول نبأ مقتل مسلم و هانئ إليه قول بني عقيل:"لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا"و أن الإمام بسبب هذا القول عرّض نفسه و نفوس من معه للقتل،فالحق أن هذا ليس بصحيح و لا ينبغي أن يقوله من له مسكة من عقل،و إنما الصحيح أنه لما كان سيان للامام أن يتوجّه إلى العراق أو إلى أي بلد آخر بالنسبة إلى المصير الذي كان ينتظر الإمام،و هو القتل،لا زال ممتنعا عن بيعة خليفة المسلمين يزيد و كان من واجبه إتمام الحجة على أهل العراق و لما تتم يومذاك،و إنما تمت بعد أن ألقى عليهم هو و أصحابه الخطبة بعد الخطبة منذ أن قابل جيش الحر حتى يوم عاشوراء و عند ذاك فقط تمت الحجة عليهم.

إذا كان لابد للامام أن يذهب إلى كربلاء بعد اطلاعه على مصرع مسلم و هانئ أيضا دون الرجوع من حيث أتى أو الذهاب إلى أي بلد آخر.

و قد أتم الإمام الحجة على أهل الكوفة و على من بلغه خبره من معاصريه في إنكاره على الطاغوت يزيد إنكارا دوى صداه على وجه الأرض و بقي مدويا ما كرّ الجديدان فإنه لم يكتف بالامتناع عن بيعة يزيد و الجلوس في داره حتى يقتل فيها و يذهب ضحية باردة ثم تطمس أجهزة الخلافة على حقيقة خبره،بل قام بكل ما ينشر خبره،و يعلن حقيقة أمره و أمر الخلافة،كما نشرحه في مايلي (1).

ص: 71


1- معالم المدرستين للعسكري:302/3-307.

نظرة أخرى في الأهداف العظيمة

اشارة

قال السيد محمد باقر القرشي:أما الأهداف العظيمة التي رفعوا شعارها، و ناضلوا ببسالة و إيمان من أجلها فهي:

1-الدفاع عن الإسلام

و هبّ أنصار الإمام بكل إخلاص و إيمان للدفاع عن الإسلام و صيانة مبادئه التي استهترت بها السلطة الأموية،و قد أخلصوا في دفاعهم كأعظم و أروع ما يكون الإخلاص،و أدلة ذلك متوفرة في جميع مواقفهم المشرفة فالعباس عليه السّلام الذي كان من أمسّ الناس رحما بالإمام و ألصقهم به لم يندفع بتضحيته الفذة بدافع الأخوة و غيرها من الاعتبارات الخاصة،و إنما اندفع بحماس لحماية الإسلام،و حماية إمام من أئمة المسلمين فرض الله مودته و طاعته على الناس أجمعين،و قد أدلى بذلك في ميدان القتال بعد أن برى القوم يمينه فقال مرتجزا:

و الله إن قطعتم يميني إني أحامي أبدا عن ديني

و عن امام صادق يقيني نجل النبي الطاهر الأميني

و معنى هذا الرجز-بوضوح-أنه لم يندفع بجهاده بدافع الأخوة،و إنما اندفع لحماية الدين،و حماية إمام صادق على سبيل اليقين،و أعلن غير العباس من أصحاب الامام هذه الحقيقة.

لقد غذاهم أبو عبد اللّه عليه السّلام بروحه و هديه،و غمرهم بأخلاقه فابتعدت أرواحهم عن الدنيا و تجردوا من مادية الجسد،و تحررت قلوبهم و عواطفهم من شواغل

ص: 72

الحياة...فأي معلم كان الحسين؟و أي مدرسة ملهمة كانت مدرسته؟و هل تستطيع أجيال الدنيا أن توجد مثل هذا الطراز ايمانا بالله،و إخلاصا للحق.

2-حماية الإمام و الدفاع عنه

الوحوش الذين تضافروا على قتله،و قد تفانى أصحاب الإمام في الولاء و الإخلاص له،و ضربوا بذلك أروع الأمثلة للوفاء،فهذا مسلم بن عوسجة،و هو من أفذاذ أنصار الإمام لما برز إلى القتال،و وقع صريعا على الأرض قد تناهبت السيوف و الرماح جسمه مشى إليه الإمام مع حبيب بن مظاهر و كان البطل يعاني آلام الاحتضار،فطلب منه حبيب أن يوصي إليه بما أهمه،فقال له بصوت خافت حزين النبرات:

«أوصيك بهذا-و أشار إلى الإمام-أن تموت دونه».

أي وفاء هو معرض للزهو و الفخار مثل هذا الوفاء؟لقد أعطى لأجيال الدنيا الدروس في الولاء الباهر للحق،فهو في لحظاته الأخيرة و حشرجة الموت في صدره لم يفكر إلا بالإمام،و أعرض عن كل شيء في حياته.

و هذا البطل العظيم سويد بن أبي المطاع الذي هو من أنبل الشهداء و أصدقهم في التضحية هوى جريحا في المعركة فتركه الأعداء،و لم يجهزوا عليه لظنهم أنه قد مات،فلما تنادوا بمصرع الإمام لم يستطع أن يسكن لينجو،فقام و التمس سيفه فإذا هم قد سلبوه،و نظر إلى شيء يجاهد به فوقعت يده على مدية،فأخذ يوسع القوم طعنا فذعروا منه،و حسبوا أن الموتى أعيدت لهم حياتهم ليستأنفوا الجهاد ثانيا مع الإمام،فلما تبين لهم أن الأمر ليس كذلك،انعطفوا عليه فقتلوه،فكان-حقا-هذا هو الوفاء في أصحاب الإمام حتى الرمق الأخير من حياتهم.

و لم يقتصر هذا الوفاء على الرجال،و انما سرى إلى النساء اللاتي كن في

ص: 73

المعركة،فكانت المرأة تسارع إلى ابنها تتضرع إليه ليستشهد بين يدي الإمام، و الزوجة تسارع إلى زوجها ليدافع عن الإمام،و هن لم يحفلن بما يصيبهن من الثكل و الحداد.

و مما يثير الدهشة أن الأطفال من الأسرة النبوية قد اندفعوا نحو الإمام و هم يقبلون يديه و رجليه ليمنحهم الإذن في الشهادة بين يديه،و من بينهم عبد الله بن الحسن و كان له من العمر إحدى عشرة سنة لما رأى الأعداء قد اجتمعوا على قتل عمه لم يستطع صبرا و أسرع فاندفعت عمته زينب لتمسكه فامتنع عليها،و أخذ يركض حتى انتهى إلى عمه،و قد أهوى أبحر بن كعب بسيفه ليضرب الإمام فصاح به الغلام.

«يا بن الخبيثة أتضرب عمي؟».

فانعطف عليه الخبيث الدنس فضربه بالسيف على يده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ورمى الغلام بنفسه في حجر عمه فسدد له حرملة سهما غادرا فذبحه و هو في حجر عمه لقد استلذ الموت في سبيل عمه...و كثير من أمثال هذه الصور الرائعة التي لم تمر على شاشة الدهر قد ظهرت من أصحاب الحسين و أهل بيته.

3-تحرير الأمة من الجور

و كان من أهداف معسكر الإمام الحسين تحرير الأمة من طغيان الأمويين و جورهم فقد أذاعوا الظلم و أشاعوا الفساد في جميع أنحاء العالم الإسلامي،و قد هبّ أصحاب الإمام للإطاحة بذلك الحكم،و إعادة حكم الإسلام،و قد ألمعنا إلى ذلك بصورة موضوعية و شاملة عند البحث عن أسباب ثورة الإمام.

ص: 74

4-النزعات الفذة

اشارة

و تمتع أصحاب الحسين بكل نزعة كريمة قد امتازوا بها على غيرهم من سائر الناس،و من بينها:

1-الإباء و العزة

و من ذاتيات أولئك الأحرار الإباء و عزة النفس فقد استطابوا الموت في سبيل كرامتهم،يقول سيد الاباة الإمام الحسين:«و الله لا أرى الموت إلا سعادة و الحياة مع الظالمين إلا برما»و يقول ولده البار علي الأكبر في رجزه الذي كان نشيدا له يوم الطف:

أنا علي بن الحسين بن علي نحن و رب البيت أولى بالنبي

و الله لا يحكم فينا ابن الدعي

لقد أفرغ الإمام الحسين على أصحابه و أهل بيته قبسا من روحه فاستقبلوا الموت بسرور من أجل العزة و الكرامة و الإباء.

2-البسالة و الصمود

و ظاهرة أخرى من نزعات معسكر الإمام هي البسالة،فقد كانوا من أندر أبطال العالم فهم على قلتهم قد صمدوا في وجه ذلك الجيش الجبار فحطموا معنوياته، و أنزلوا به أفدح الخسائر،يقول المؤرخ الانكليزي«ض ر س سايكس»:«ان الإمام الحسين و عصبته المؤمنة القليلة عزموا على الكفاح حتى الموت،و قاتلوا ببطولة

ص: 75

و بسالة ظلت تتحدى إعجابنا و إكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا».

لقد غمرهم الإمام بمعنوياته و روحه الوثابة،و من الطبيعي أن لشخصية القائد أثرا مهما في بث الروح المعنوية في نفوس الجيش،فإن جهاز القيادة إنما هو رمز السلطة التي تدفع بالجنود إلى القتال و قد اندفع أصحاب الإمام بعزم ثابت لا يعترف بالعقبات و لا بالحواجز نحو الجيش الأموي حتى ضاقت عليه الأرض،و لاذ أكثرهم بالهزيمة،يقول بعض جنود ابن زياد لشخص عاب عليه اشتراكه في حرب الإمام:

«عضضت بالجندل إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا و شمالا،و تلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان،و لا ترغب في المال،و لا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك،فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس المعسكر بحذافيره فما كنا فاعلين لا أم لك».

و كان كعب بن جابر الأزدي من جنود ابن زياد،و قتل سيد القراء في الكوفة برير بن خضير،و أعان على قتل سيد الشهداء،و قد نظم مقطوعة أشاد فيها بشجاعة أصحاب الإمام يقول:

سلي تخبري عني و أنت ذميمة

غداة حسين و الرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت و لم يخل

على غداة الروع ما أنا صانع

معي يزني لم تخنه كعوبه

و أبيض مخشوب الغرارين قاطع

فجردته في عصبة ليس دينهم

بديني و اني بابن حرب لقانع

ص: 76

أشد قراعا بالسيوف لدى الوغا

الا كل من يحمي الذمار مقارع

و قد صبروا للضرب و الطعن حسرا

و قد نازلوا لو أن ذلك نافع

فابلغ عبيد الله أما لقيته

بأني مطيع للخليفة سامع

قتلت بريرا ثم حملت نعمة

أبا منقذ لما دعا من يماصع

و قد أبدى كعب إعجابه البالغ ببسالة أصحاب الإمام فهو و لا غيره لم يشاهدوا مثلهم في شجاعتهم و صمودهم،فقد صبروا على الضرب و الطعن،و ملاقاة الحتوف...و كان من شجاعتهم النادرة-فيما يقول بعض المؤرخين-إنه ما انهزم واحد منهم،و لا قتل إلا و هو مقبل غير مدبر،و قد بذلوا قصارى ما يمكن من البطولة و الشجاعة و الثبات و صدق النية و مضاء العزيمة لحماية الإمام و الدفاع عنه،و قد نهي عمرو بن الحجاج الزبيدي عن مبارزتهم يقول لأهل الكوفة:

«أتدرون لمن تقاتلون؟تقاتلون فرسان المصر و أهل البصائر،و قوما مستميتين لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم».

و قد حفل كلامه بالصفات الماثلة فيهم،و من بينها:

أ-إنهم فرسان أهل الكوفة،بل هم فرسان العرب على الإطلاق.

ب-إنهم من ذوي البصائر الحية،و النفوس اليقظة و قد خفوا لنصرة الإمام على بصيرة من أمرهم لا طمعا في المال و لا الجاه.

ج-إنهم يقاتلون قتال المستميت الذي لا أمل له في الحياة،و هم بذلك أقدر على إنزال الهزيمة بأعدائهم الذين تطعموا بالخيانة و الغدر.

و يقول العقاد في بسالتهم:«و كان مع الحسين نخبة من فرسان العرب كلهم لهم

ص: 77

شهرة بالشجاعة و البأس،و سداد الرمي بالسهم،و مضاء الضرب بالسيف،و لن تكون صحبة الحسين غير ذلك بداهة و تقديرا،و لا يتوقفان على الشهرة الذائعة و الوصف المتواتر لأن مزاملة الحسين في تلك الرحلة هي وحدها آية على الشجاعة في ملاقاة الموت».

إنه من المؤكد أنه ليس هناك أحد من أصحاب الإمام من يطمع في عرض من أعراض الدنيا،و لا يلتمس أجرا غير ثواب الله و الدار الآخرة... (1)0.

ص: 78


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:97/3-100.

آثار ثورة عاشوراء

هل تحققت آثار ثورة عاشوراء؟

ماذا كان هدف الحسين عليه السلام من الثورة

الإمام الحسين كان أتقى الأتقياء و لكنّه استشهد مع أنّ اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (1)و قال عزّ من قائل: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (2)فمن الممكن أن يقول شخص:إذن لماذا لم يتوفّر للإمام الحسين عليه السّلام مخرج من المأزق الذي واجهه في كربلاء؟

و الجواب:أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يواجه أيّ طريق مسدود في تحرّكه، و المخرج و الفرج الذي حصل عليه كان يتناسب مع أهدافه.

فهدف الإمام الحسين عليه السلام من الذهاب إلى كربلاء لم يكن الوصول الى السلطة،بل إنّه عليه السلام و في مثل تلك الظروف الخاصة التي كانت تعيشها الامة أراد أن يعطي درسا خالدا لتاريخ الإسلام عمّا يجب فعله و اتّخاذه من موقف في مثل تلك الظروف التي يتعرّض فيها الإسلام للخطر؛و لهذا فإنّ الإمام الحسين حقّق هدفه و نجح في تعليم الأمة ما يجب اتّخاذه من مواقف.

ص: 79


1- سورة الطلاق:2.
2- سورة الطلاق:4.

إذن لم يكن هدف الإمام الحسين عليه السلام هو تجنّب الشهادة،فالشهادة كانت تعدّ فوزا عظيما لأمثال الإمام الحسين عليه السلام.

و بالطبع لو كان هدف الإمام الحسين عليه السلام هو تجنّب الشهادة لكان يلزمه اتّخاذ بعض التدابير التي لو عمل بها-بمعنى إعمال التقوى التي يستلزمها هذا الأمر-فسيكون له مخرجا من دون أيّ ريب.

و بطبيعة الحال فإنّ العمل بالمستلزمات يجب أن يكون عن الطريق الشرعي و الصحيح؛لكي يصدق عليه تقوى الله سبحانه و تعالى.

يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى كلماته الملهمة للحكمة:«لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمن» (1).

و في حديث آخر يبيّن لنا عليه السّلام هذا المعنى بعبارة أخرى قائلا:«من ركب مركب الصبر اهتدى الى ميدان النصر» (2).

و في حرب صفين قال عليه السّلام في خطبة يحث و يعبىء الجند:«...فاستعينوا بالصبر و الصلاة و الصدق في النية فإن اللّه تعالى بعد الصبر ينزل النصر» (3).

فهل حقا أن النصر و الثبات موجب للوصول الى الهدف؟و إذا كانت هذه قاعدة عامة و قانونا ثابتا لا يقبل التخلّف لماذا نشاهد طوال التاريخ أفرادا أو جماعات لم يصلوا الى أهدافهم مع أنهم كانوا في ميادين العزة يبذلون ما ينفع الثبات و المقاومة،و لم يحققوا النصر أو يذوقوا حلاوته؟.

في صدر الإسلام يوجد حوادث ليست بالقليلة شاهد على هذا الأمر مثل ثورة1.

ص: 80


1- ميزان الحكمة:1559/2-2169،باب الصبر و الظفر.
2- بحار الأنوار:96/68 ح 61.
3- الإرشاد للمفيد:266/1.

الإمام الحسين عليه السّلام في عاشوراء،و مثل شهادة زيد بن علي عليه السّلام،و ثورة التوابين...

و لكي يتضح الجواب عن هذا السؤال الذي يطرحه بعض الناس نحتاج الى شيء من الدقة،فلعل هؤلاء الناس الذين يطرحون مثل هذا التساؤل و يعتبرون هذه الأحداث التاريخية التي لم تثمر أو تصل الى غايتها بحسب الظاهر هي أمور تنقض هذا القانون العام(قانون الصبر و الظفر).

إنّ هؤلاء لم يدركوا بشكل صحيح هدف و غاية كل واحد من هذه الحوادث و الوقائع،و التي يكون تحقيقها لهذا الهدف أو تلك الغاية هو الانتصار و الفوز.

لهذا لا بدّ من الإجابة أولا عن هدف هذه الحوادث التاريخية ليتضح أن أصحابها لم يهزموا أصلا.

و كمقدمة ينبغي أن نلتفت الى أن الأهداف تختلف من حيث قربها و بعدها عن التحقق،فبعضها تكون نتيجتها سريعة و قريبة،و الآخر يحتاج الى أزمنة طويلة كغرس نبتة و تأمين كل ما تحتاجه حتى تنمو و تثمر.

فإذا توفرت هذه المقدمات و لم يحصل أي تقصير في إعدادها من خلال مواجهة العوامل السلبية المفسدة فإنها ستثمر حتما.

و لكن بعض الأشجار مثلا تحتاج الى أكثر من عشر سنوات لتعطي الثمار المطلوبة.

نعم المزارع يعتني بهذه الشجرة سنة بعد سنة و يراها تقترب من بلوغ هدفها الى إثمارها لكن المراقب عن بعد و بعد مرور سنتين مثلا يخطّىء المزارع انطلاقا من اليأس،لأن الشجرة لم تثمر بعد سنتين،و يقول أين الظفر بعد الصبر؟.

و هكذا بالنسبة لثورة عاشوراء و كل الوقائع التي كانت امتدادا لها،فقد حققت كل أهدافها.

ص: 81

فهذه الوقائع كانت كل واحدة خطوة ناجحة باتجاه القضاء على السلطات الغاصبة و إقامة المجتمع الإسلامي المنشود،و لا شك أنه بعد هذه الخطوات الأولى لو استمر اللاحقون بالمسيرة لتحققت الغاية المطلوبة من وراء مجموع هذه المساعي و التحركات،أما أن نتوقع تحقق مثل هذا الهدف من شخص واحد أو عدة أفراد في مرحلة ما فإنه في غير محله.

و في المثال المتقدم يمكن أن نقول لذلك المشاهد القليل الصبر و الخبرة:أن أولئك الذين أدركوا متاعب المزارع و أشرفوا على هذه الأعمال يعلمون جيدا أن كل يوم يمضي و كل ساعة ستكون مفيدة و منتجة و هم يدركون نتائج الصبر في كل لحظة قبل أن تأتي أختها.

فمرور سنتين من العمل يعني اقتراب الغرسة من النضج،و لو لم يكن هذا السعي في هذه السنتين مثلا لتأخرت الثمار سنة أو أكثر و لعله يضيع الهدف النهائي و لا يصل الى المطلوب،فهل الواقع غير ما ذكرنا؟.

و الى جانب هذه الحقيقة يوجد حقيقة أخرى و هي أنه بعد بروز مانع يمنع المزارع الحريص الصبور من الإستمرار في عمله إذا لم يتابع مزارع أخر عمله و لم يكمل أعمال السنة الثالثة و الرابعة فإن هذا الغرسة أو الشجرة لن تنضج أبدا.

و لا شك أن نتيجة الصبر في السنة الأولى قد حصل كما أن قلع أو قطع شجرة متجذرة أو إزالة صخرة كبيرة بدون التجهيزات اللازمة و اليد القوية ليس ممكنا، و لن تعطي أية نتيجة بدون وجود الصبر.

و لو أنجزت أول يد قوية و صبورة المقدمات الأولى اللازمة و بسبب مانع ما توقفت ثم أكملت الأيدي الأخرى العمل فإنها ستقترب نحو النتيجة المطلوبة.

و قد قام زيد بن علي عليه السّلام بسبب ظهور علامات نصر و لكنه لم ينتصر و إنما حقق

ص: 82

ما كان متوقعا من مثل نهضته فإن قيامه و استشهاده كان ضربة على الصخرة الصلبة لحكم بني أمية،هذه الصخرة التي يتطلب تحطيمها عدة ضربات متتالية، و عندما توالت الضربات على أثر تلك الضربة انهارت هذه الصخرة السوداء التي كانت تجثم على صدر الأمة الإسلامية.

و لا شك بأنه لو لم تكن الضربة الأولى لما حققت الضربات اللاحقة مطلوبها أو أنها ما كانت لتحدث تلك الضربات.

و كأنّ الحديث يشير الى ما نتحدث عنه بأن شهادة الحسين بن علي عليه السّلام كانت سببا لسقوط التيار السفياني و شهادة زيد بن علي عليه السّلام سببا لسقوط الحكم المرواني (1).7.

ص: 83


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:147.

آثار ثورة عاشوراء التاريخيّة

بركات طريق الإمام الحسين عليه السلام

إنّ طريق الحسين عليه السلام لم يغلق أبدا في بلادنا و أمّتنا طوال القرون،و لم يتمكّن المخالفون و المعاندون من فعل شيء.

إنّ هذا الطريق مليء بالبركات،و لو أنّ علماء الدين و المبلّغين و الخطباء سعوا في هذا الطريق بما يليق بشهر محرم و أبدعوا و ابتكروا و قاموا بجهود مخلصة مصحوبة بالأعمال الفكرية و العلمية القيّمة لازدادت البركات على ما كانت عليه بأضعاف مضاعفة.لذا فعلينا جهد إمكاننا أن نسعى جميعا في هذا المجال.

و قد ظهرت الآثار العميقة و الأساسية لهذه الحادثة تدريجيا منذ اليوم الأوّل لوقوعها،فعرف البعض بوظائفه منذ تلك الأيّام،فقامت حركة التوّابين،و وقعت حوادث الجهاد الطويل لبني هاشم و بني الحسن عليهم السلام،حتى أنّ ثورة العباسيين-الذين ثاروا ضد بني أميّة في أواسط القرن الثاني للهجرة،و أرسلوا الدعاة إلى أطراف العالم الإسلامي آنذاك خصوصا إلى المناطق الشرقية من إيران كخراسان و التي نجمت في القضاء على الحكومة الأموية الظالمة و المستكبرة و العنصرية،-قد بدأت باسم الحسين بن علي عليه السّلام.

فلو طالعتم التاريخ للاحظتم أنّ دعاة بني العباس عندما كانوا ينتشرون في أطراف العالم الإسلامي،كانوا يتّخذون من دم الحسين بن علي عليه السّلام و استشهاده و من الإنتقام لدم ابن الرسول صلّى اللّه عليه و اله و بضعة الزهراء عليها السلام وسيلة لتنظيم

ص: 84

حملاتهم الإعلامية،حتى أنّ السواد الذي أصبح شعارا و لباسا رسميا لبني العباس طوال خمسمائة عام من حكمهم،قد انتخب كلباس حداد على الإمام الحسين عليه السّلام، حيث كانوا يقولون:هذا حداد آل محمّد صلّى اللّه عليه و اله.

هكذا بدأ العباسيّون ثورتهم و أوجدوا هذا التغيير،و إن كانوا قد انحرفوا و انتهجوا نفس سياسة بني أميّة بعد ذلك.

إذن هذه من تأثيرات عاشوراء،و هكذا كانت على طول الزمان.

و ما وقع في عصرنا-أي عصر سيطرة الظلم و الكفر و الإلحاد على العالم أجمع، عصر أصبحت العدالة فيه مخالفة للقانون،و الظلم قانونا على الصعيد العالمي- كان أعظم من كل تلك الأحداث؛فما ترونه من تجبّر القوى الكبرى و رغبتهم في إيجاد نظام عالمي جديد هي عين ذاك الظلم،و ما يقع في العالم من الظلم و سحق الحقوق و ازدواجية التعامل كلها نتيجة لهذه الأسماء القانونية كالدفاع عن حقوق الإنسان.

و هذا أسوأ أنواع طغيان الظلم،أي سيطرة الظلم على العالم بإسم العدالة و الحق.

ففي مثل هذا العصر خرقت حجب الظلام و تجلّت شمس الحقيقة و وصل الحق إلى الحكم،و أعلن الإسلام الحقيقي و الأصيل تواجده و أجبر العالم على قبول تواجده في شكل نظام إسلامي بعد أن كانت الأيادي كلّها تسعى لإبعاده عن الساحة.

إستطاع إمامنا العظيم(رض)-و بالاستعانة بشهر محرم و حادثة عاشوراء-أن يوصل نداء الحق النابع من قلبه إلى أسماع الناس و يغيّرهم.و شهداؤنا-تلك الأيام- في طهران و ورامين و بعض المدن الاخرى كانوا من معزّي الحسين عليه السّلام،فأول الشهداء في حادثة 15 خرداد كانوا من الذين تعرّضوا لهجوم أعداء عاشوراء،و قد

ص: 85

شاهدتم في عام 1357 ه.ش(1978 م)كيف استفاد إمامنا العظيم و استخلص الدروس من محرم،و طرح قضية انتصار الدم على السيف و حقّق ما أراده،أي تلقّى الشعب الإيراني باتّباعه للحسين بن علي عليه السّلام الدرس من عاشوراء فانتصر الدم على السيف.

و إنّنا اليوم ورثة و أمنة هذه الحقيقة التاريخية؛أي أنّ الناس ترغب في سماع ذكريات حادثة عاشوراء و تتلقّى منها الدروس من على لسان العلماء و المعمّمين و المبلّغين و المبلّغات.فماذا يمكننا فعله في هذا المجال؟هنا تطرح قضية التبليغ، فالقضية مهمّة جدا.فإن تمكّن الطلبة الشباب و الفضلاء في الحوزات العلمية و المبلّغين و الخطباء و المدّاحين يوما ما من الإستفادة من حادثة عاشوراء-كحربة لمواجهة الظلامات المتراكمة و المسيطرة على حياة البشر،و خرق حجب الظلام بهذه الحربة الإلهية القاصمة،و إظهار شمس الحق في صورة حكومة إسلامية كما ظهرت هذه الحقيقة في عصرنا و شوهدت هذه المعجزة،فلماذا لا يتوقّع و ينتظر أن يشهر علماء الدين و المبلّغون و الخطباء-في كل عصر-سيف الحق و ذو فقار علي بوجه كل باطل؟و لماذا نستبعد هذا الأمر حتى لو كان إعلام العدو في تلك البرهة أقوى و أوسع و الظلمات أشد تراكما؟

صحيح أن الإعلام المعادي قد شغل اليوم أذهان جميع البشر،و صحيح أنّ الأموال الطائلة تصرف لتشويه صورة الإسلام و بالخصوص الشيعة،و صحيح أن كل من له مصالح غير مشروعة في حياة الشعوب و الدول،قد وظّف نفسه للتحرّك ضد الإسلام و الحكومة الإسلامية،أي أنّ الكفر-رغم تفرّقه و تشتّته-قد اتّفق على محاربة الإسلام الأصيل؛حتى أنّهم جعلوا الإسلام المحرّف في مواجهة الإسلام الأصيل،كل ذلك صحيح،لكن رغم كل هذا الإعلام المعادي الخبيث،ألا يمكن لجناح الحق و جبهة الإسلام الأصيل-و ببركة روح و نداء و حقيقة عاشوراء

ص: 86

و رسالة محرم-أن يكرّر تلك المعجزة مرة أخرى؟!نعم،إنّه عمل شاقّ،لكنّه ممكن و تلزمه الهمّة و التضحيات،و هذه وظيفتنا نحن (1).7.

ص: 87


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:157.

عاشوراء قمة المعارف

عاشوراء بذاتها شعيرة تخلق لدى الإنسان الحماس و الحركة و النمو الفكري؛ فعاشوراء ليست شعائر جافة فارغة،و إنما هي مراسم تنطوي على الفكر و التخطيط و الهدفية و الوعي و المعرفة.

إن العالم متعطّش للحقيقة اليوم،و ليس هذا كلام عالم دين أو مسلم متعصّب، بل كلام أناس هم على ارتباط و علاقة بالثقافة الغربية ممن أحسنوا الظن بتلك الثقافة و منظّريها يقولون:إنّ الشرائح الحسّاسة في العالم الغربي عطشى لحقيقة الإسلام،و المقصود من الشرائح الحسّاسة هم العلماء و المفكّرين و أصحاب الضمائر و المثقّفين و الشباب.

فهؤلاء هم الأجزاء الحسّاسة لهيكل المجتمعات الغربية-إنهم عطشى لدرس في الحياة يخلّصهم من آلاف المشاكل الحقيقية و الواقعية،فالكثير من مشاكل الحياة ليست مشاكل واقعية،إنّ المشكلة الواقعية هي الشعور بعدم الأمن الروحي،الشعور بالغربة،بالكآبة،بالتزلزل و عدم الإطمئنان و السكينة.

هذه هي المشاكل الحقيقية للبشرية حيث يجبر شخص ما على الإنتحار و هو في قمة الثراء و الشهرة،فلماذا ينتحر ذلك الشاب الثري الذي يملك إمكانيات التنعّم و التمتع؟!و أي ألم أصعب من فقد المال و عدم توفّر إمكانيات المتعة الجسمية و اللذة الجنسية؟!!

فعدم الإطمئنان و عدم السكينة،عدم وجود نقطة اتكاء روحي،عدم الأنس و التواصل بين الناس،الشعور بالغربة،و الشعور بالإنكسار،كلها آلام ابتليت بها

ص: 88

المجتمعات المادية و الغربية في العالم اليوم،و تشعر بها الشرائح الحسّاسة أكثر من غيرها؛لهذا فهم يترقّبون الخلاص من هذه الآلام.

إنّ الأنظار قد توجهت إلى الإسلام أينما توفّر فيه الوعي؛رغم وجود بعض من غير الواعين الذين لا يعرفون الإسلام،لكن الأرضية مهيّأة لاعتناق الإسلام،فالذين عرفوا الإسلام سوف يتكئون عليه فقط.فأحد المفكرين الإيرانيين الذي انتقل إلى رحمة اللّه أخيرا،قال في أواخر عمره:إنّ الغرب يبحث اليوم عن شخصيات أمثال الشيخ الأنصاري و ملا صدرا،فحياتهم و معنوياتهم و قيمهم قد جذبت الشخصيات و المفكرين الغربيين إليها.

إن النبع الزاخر لهذه القيم و المعارف الإسلامية كامنة هنا،و قمة هذه المعارف هي«عاشوراء»،فيجب معرفة قيمة هذه الامور إذ أننا نرغب في تقديم هذه المعارف للعالم.

و هنا أشكر جميع الذين أستجابوا لدعوتنا و قاموا بتنزيه مراسم العزاء يوم عاشوراء من التحريف،و إنني أؤكد مرة أخرى على هذه المسألة،أيّها الأعزاء!أيها المؤمنون بالحسين بن علي عليه السّلام!أنّ بإمكان الحسين بن علي عليه السّلام أن ينقذ العالم اليوم بشرط أن لا نشوّه صورته بالتحريفات.

لا تدعوا المفاهيم الخاطئة و التحريفات تصرف الأعين و القلوب عن وجه سيد الشهداء عليه السّلام المبارك و المنوّر.فيجب التصدي للتحريف.

ص: 89

تبيين ثورة الحسين عليه السلام

يجب متابعة قضية عاشوراء و الحسين بن علي عليه السّلام من على المنبر و خلال الرثاء،بالصورة التقليدية السابقة،ببيان وقائع ليلة و يوم العاشر،فعادة ما تندثر الحوادث حتى الكبيرة منها مع مرور الزمن،لكن حادثة عاشوراء باقية بكل جزئياتها و ذلك ببركة هذه المجالس.طبعا يجب أن يكون بيان الوقائع بصورة متقنة على ما ورد في كتابي اللهوف لابن طاووس و الإرشاد للمفيد،لا الامور المختلقة.

إذن يجب نقل الأحداث و قراءة الرثاء و المديح و اللطميات و بيان حادثة عاشوراء و هدف الإمام الحسين عليه السّلام من خلالها،كتلك التي وردت في كلمات الإمام عليه السّلام مثل:«إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا ظالما و لا مفسدا و إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي».

أو قوله الشريف:«أيّها الناس إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قال:من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه فلم يغيّر عليه بقول و لا فعل،كان حقا على اللّه أن يدخله مدخله» (1).

أو قوله عليه السلام:«فمن كان باذلا فينا مهجته و موطّنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا» (2).

ص: 90


1- شرح إحقاق الحق:603/11.
2- أبصار العين في أنصار الحسين عليه السّلام:27.

فالكلام هنا عن لقاء اللّه،و الهدف من خلق البشر،و«إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه».كل هذه المساعي و المشاقّ لأجل هذا الأمر«فملاقيه»،فمن كان موطّنا على لقاء اللّه فليرحل مع الحسين،و لا يجوز له المكوث في البيت و التعلّق بالدنيا و متاعها و الغفلة عن طريق الحسين عليه السّلام.

فيجب أن نتحرّك،و هذا يبدأ بتهذيب النفس ثم التحرك إلى المجتمع و العالم.

فهذه أهداف و خلاصة ثورة الحسين.

إنّ خلاصة ثورة الحسين عليه السّلام هي أنه مرّ يوم على الإمام عليه السّلام كانت الدنيا فيه تحت سيطرة الظلم و الجور،و لم يجرؤ أحد على بيان الحقائق،كان الجو و الأرض و الزمان مظلما و أسودا؛حتى أنّ ابن عباس و عبد اللّه بن جعفر لم يرحلا مع الإمام عليه السّلام،فما معنى ذلك؟ألا يدل على وضع الدنيا حينها؟

فالإمام الحسين عليه السّلام قد وقف وحيدا في مثل تلك الظروف-طبعا مع نفر قليل، و حتى و إن لم يبقى النفر القليل-بوجه الظلم.افرضوا أنّه عندما قال الإمام عليه السّلام ليلة عاشوراء لأصحابه:ليس عليكم منّي زمام،ذهب الجميع و ذهب أبو الفضل العباس و علي الأكبر و بقي الإمام وحيدا،فماذا كان يحدث يوم عاشوراء؟هل يتراجع الإمام عليه السّلام؟أم أنّه يقف و يقاتل؟

و لقد ظهر في عصرنا رجل قال:لو بقيت وحيدا و تقف الدنيا كلّها بوجهي،فلن أتراجع عن طريقي،و كان ذلك هو إمامنا الخميني،و قد فعل و صدق فيما قاله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (1)،رأيتم ماذا فعل رجل ترعرع في مدرسة الحسين عليه السّلام و عاشوراء.

فلو كنا جميعا من مدرسة عاشوراء،لسارت الدنيا نحو الصلاح بشكل سريع3.

ص: 91


1- سورة الأحزاب:23.

جدا،و لمهّدت الأرض لظهور ولي الحق المطلق.

إذن يجب بيان هذه المفاهيم للناس من خلال الوعظ و الرثاء و المديح،يجب على المبلّغين بيان هدف الإمام الحسين عليه السّلام للناس في القرى و المدن،في البلاد و في أرجاء الدنيا،من على المنابر و تأسيس منابر الإلقاء و بالصور المختلفة،ليذكر المبلّغ حديثا أخلاقيا أو يشرح سياسة البلاد و السياسة العالمية،فلا بأس في ذلك، لكن يجب أن يكون خطابه بشكل بحيث يتم فيه بيان حادثة عاشوراء تصريحا أو تلميحا،منفصلا أو ضمنيا،كي لا تبقى خافية و مكتومة.

ص: 92

إحياء الإسلام و بيان حقائقه

ينبغي الإستفادة من هذه الفرصة للقيام بما قام به الإمام الحسين عليه السّلام،أي إحياء الإسلام ببركة جهاده فقد جدّد الإسلام حياته و نال حريّته بفضل ثورة و دم الحسين بن علي عليه السّلام.

و اليوم عليكم أنتم-و بالاستفادة من ذكر و اسم و منبر الإمام الحسين عليه السّلام- بيان حقائق الإسلام و التعريف بالقرآن و الحديث و قراءة نهج البلاغة للناس،فمن الحقائق الإسلامية هي هذه الحقيقة المباركة التي تجسّدت اليوم في إيران الإسلامية،أي نظام الجمهورية الإسلامية،النظام النبوي و العلوي و الولائي،فإنّ حكومة الحق من أسمى المعارف الإسلامية،فلا يتصوّر أحد أنّه يمكن تبيين حقائق الإسلام،مع بقاء حاكمية الإسلام التي تجسّدت اليوم في هذا البلد مغفول عنها (1).

ص: 93


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:163.

صبر الإمام الحسين صان الإسلام

إن صبر الإمام الحسين عليه السّلام هو الذي صان الإسلام على مر التاريخ حتى يومنا هذا؛و في الحقيقة لو أن الإمام الحسين عليه السّلام لم يصبر ذلك الصبر التاريخي في كربلاء و قبيلها و أثناء ما سبق واقعة عاشوراء فلا شك في عدم بقاء اسم للإسلام بمرور قرن واحد من الزمان،بيد أن الإمام الحسين عليه السّلام أحيا الدين ببركة صبره الذي لم يكن صبرا هيّنا؛فالصبر ليس أن يتعرض الإنسان للتعذيب أو يعذّبون أبناءه أو يقتلونهم أمام عينيه و يصمد الإنسان-و هذه بالطبع مرحلة مهمة من الصبر-غير أن الأهم من ذلك الوساوس و التصريحات التي تبدو بظاهرها في نظر البعض منطقية فتصد المرء عن مواصلة الطريق،و ذاك ما فعلوه مع الإمام الحسين عليه السّلام،فقالوا له:إلى أين أنت ذاهب؟إنك تعرّض نفسك للخطر؛و تعرّض أهلك للخطر،و تدفع العدو لأن يتجرأ و تتطاول أيديهم على دمائك.و كل من يأتي عند الإمام الحسين عليه السّلام يضع إرادة الإمام في مواجهة هذا المحظور الأخلاقي و هو أنك بخطوتك هذه إنما تخاطر بأرواح فئة من الناس و تجعل العدو أكثر تسلطا و تدفعهم لأن يلطّخوا أيديهم بدمائك.و هذه قضية على قدر كبير من الأهمية.

إنها حرب غير واضحة المعالم أن يقول المرء إنني ذاهب كي أقتل،فثمة محاذير من ورائها،و ربما كانت معلومة بالنسبة للإمام الحسين عليه السّلام أو أثير عنده أن إذا قتلت سيبادرون لإبادة شيعتكم في الكوفة،فيجب أن تبقى حيا لتكون ملاذا لهم، فأنت سبط النبي صلّى اللّه عليه و اله،و بالمحافظة على حياتك تحافظ على حياة مجموعة من الناس،و قد تكرر هذا بعينه مع الإمام الخميني"رضوان الله عليه".

ص: 94

لست أنسى اعتقال الإمام بعد واقعة الخامس عشر من خرداد و وقوع ذلك الحدث الدامي،فقال لي أحد مشاهير الأعلام و من الشخصيات البارزة:هل إن هذا عمل صحيح،إذ إن كل هؤلاء الشباب الذين تعج بهم البلاد و هم في غالبيتهم فاسدون و الأفضل بينهم هم المتدينون،و خيرة المتدينين هم الذين نزلوا إلى الشوارع،و إن فلانا بحركته هذه قد وضع الخيرة أمام حراب العدو فأريقت دماؤهم!

أمنطق هذا؟من يتغلب على هذا المنطق و يلتزم الصبر أزاء هذا المنطق الرهيب يكون قد صبر صبرا عظيما،و إنه لصبر الإمام الحسين عليه السّلام الذي تحلّى به الإمام الخميني(رض).

عاشوراء و بقاء الإسلام

تدبّروا عوامل بقاء الإسلام،فأحد عوامل البقاء قضية عاشوراء و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.ففي كل مجتمع ينشأ فساد إذ لا يخلو مجتمع بشري منه،فكيف يمكن القضاء على هذا الفساد؟البعض ما إن تقع عينه على الفساد حتى يقول:إذن أين المسؤولون حتى يقضوا على الفساد!طبعا ما يرى من الفساد بالعين أقل غالبا بكثير من المفاسد التي لا يمكن مشاهدتها ممّا يحصل في الأزقة و الطرق العامة و الأسواق و لا يعرفها إلا المطّلعون،لكن هذا البعض ما إن يرى هذا المقدار البسيط حتى يبحث عن المسؤولين!كلا،على المجتمع أن يطوي و يزيل الفساد الذي في داخله كما تصنع تيّارات الماء الهدّارة.

تدبّروا أنهار العالم العظيمة تجدون أن تيّاراتها الهدّارة تطوي كل ما يلقى فيها من الأدران و الأقذار و تبدّلها إلى مواد حيوية فيطهر الماء.

فعلى المجتمع أن يكون كذلك و أن يصل إلى المستوى الذي يقضي فيه حتى

ص: 95

على قطرة الفساد الواحدة.

بقاء الدين حيّ بفضل تضحية الحسين عليه السلام

إنّ فرصة التبليغ في شهر محرم الحرام فرصة ثمينة و فريدة،و الفضل فيها يعود لسيد الشهداء و أبي الأحرار أبي عبد الله الحسين عليه السّلام و أصحابه الغرّ الميامين.لقد بقي أثر تلك الدماء-التي أريقت ظلما-خالدا على مدى التاريخ؛لأن الشهيد-الذي يضع روحه على طبق الاخلاص و يجود بها في سبيل الغايات النبيلة للدين-لابد و أن يتّسم بالإخلاص و النقاء.و أيّ مخاتل و مخادع مهما بلغت به القدرة على تطويع اللغة و البيان على إظهار نفسه و كأنّه مناصر للحق،لابد و أن يتراجع عندما تتعرض مصالحه الذاتية لأيّ تهديد،و خاصة إذا كان في ذلك التهديد خطورة على نفسه و أنفس أعزائه،و لا يبدي عند ذلك أيّ استعداد للتضحية و البذل.

و أمّا من يسير على طريق التضحية و الفداء و يجود بنفسه بصدق و إخلاص في سبيل الله،كان حقا على الله أن يكتب له الحياة،إذ أنه قال في كتابه الكريم: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (1)و قال أيضا وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (2)و أحد أبعاد الحياة هو هذه المعالم التي لا يمحى أثرها و لا ينتكس لواؤها.

أجل،إنّها قد تبهت ألوانها لمدّة من الزمن بفعل أساليب القهر و العنف التي تمارسها القوى المتجبّرة المستبدة،إلاّ أنّ الله تعالى كتب لها البقاء و الخلود.و قد قضت سنّة الله بديمومة سبيل النزهاء و الصالحين و المخلصين؛فالإخلاص صفة

ص: 96


1- سورة البقرة:154.
2- سورة آل عمران:169.

ذات آثار مدهشة،و لهذا بقي الدين حيّا بفضل تضحية الحسين بن علي عليه السّلام و بفضل دمه و دماء أصحابه التي أريقت ظلما و عدوانا.

من غير المرتجى طبعا أن يقتات جيل ما على مواريث مفاخر و مآثر الأجيال الأخرى،و إذا ما كان هناك مثل هذا الجيل فهو بلا ريب آيل إلى الانحطاط،إذ مادامت هذه الحركة متسارعة في سيرها يفترض بالأجيال البشرية المؤمنة أن يؤدّي كل منها دوره المطلوب فيها،و لا شك طبعا في أن دور المؤمنين و المخلصين يختلف باختلاف الأزمان و حسب متطلبات كل عصر؛و تلك الأداور على ما فيها من التفاوت تعتبر كلها جهادا في سبيل الله،لأن الكل فيها معرّضون للبذل و التضحية و من جملتها التضحية بالنفس؛و قد يكون ذلك في ميدان الحرب تارة و في الحوزات العلمية تارة أخرى،و قد تكون التضحية على غرار تضحية الشهيدين الأول و الثاني مرّة،أو قد تكون في الساحة السياسية مرّة أخرى،أو في ميدان التقدم الاجتماعي،أو أثناء أحداث ثورة كبرى كهذه الثورة الإلهية،و قد تكون ثالثة لأجل تبيين حقائق الدين،كما هو الحال بالنسبة للشهيدين مطهّري و بهشتي؛إذ أنّ لكّل عصر متطلباته.

أجل،إنّ هذا الطريق دائم لا نهاية له،و لكن من الذي ينهض بمهمة ديمومة هذه الحركة؟.

ص: 97

تحقيق الحسين متطلبات الإنسان في ظل أحكام الدين

و واصل عليه السّلام كلامه بالقول:"و يعمل بفرائضك و أحكامك و سننك" (1).

إني أتساءل من أين يأتي البعض-رغم عدم معرفتهم بمبادئ الإسلام و لا بكلمات الإمام الحسين و لا باللغة العربية-بآراء يزعمون فيها أنّ الإمام الحسين عليه السّلام ثار من أجل كذا غاية أو كذا هدف.

فهذا كلام الإمام الحسين عليه السّلام بين أيدينا و يقول فيه"و يعمل بفرائضك و أحكامك و سننك".بمعنى أنّ الإمام الحسين عليه السّلام ضحّى بنفسه و بنفوس أكرم و أطهر الناس في عصره من أجل أن يعمل الناس بأحكام الدين،لأن السعادة رهينة بالعمل بأحكام الدين،و العدالة متعلقة بالعمل بأحكام الدين،و حرية الناس منوطة بالعمل بأحكام الدين؛فمن أين لهم الإتيان بالحرية؟إن جميع متطلبات الإنسان تتحقق في ظل أحكام الدين.

إنّ إنسان اليوم لا يختلف في متطلباته الأساسية عن إنسان ما قبل ألف سنة،و لا حتى عن إنسان ما قبل عشرة آلاف سنة،لأن متطلبات الإنسان الأساسية واحدة؛ فهو يتطلع إلى الأمان،و المعرفة،و الحرية،و الحياة الرغيدة،و ينفر من التمايز و الظلم.أمّا المتطلبات الأخرى العارضة أو الطارئة في حياة الإنسان،فيمكن ضمان تحقيقها في ظل و في إطار تلك المتطلبات الأساسية.

و هذه المتطلبات الأساسية يمكن ضمانها في ظل دين الله فحسب،و ليس هنالك

ص: 98


1- تحف العقول:239.

من مذهب من المذاهب البشرية ذات التسميات الرنانة له القدرة على استنقاذ الإنسان و حتّى إذا افترضنا أن لديهم القدرة على توفير الأموال لعدد من الناس،فهل المال هو كل ما تتطلبه حياة الإنسان؟و هل حياة الإنسان اليوم تتطلب أن يبلغ الإنتاج القومي الكلّي في بلد معيّن مبلغا خياليا،في حين يعجز هذا الإنتاج القومي الكلّي عن أن يفي بالمستلزمات الغذائية لذلك الشعب؟فهل نقنع بهذا؟و هل هذا هو كل ما نطمح إليه؟!

ما فائدة أن يكون بلد ما غنيّا،في حين يوجد فيه جياع كثيرون؟و يكون لديه إنتاج وافر،و لكنه يضجّ بالتمييز بين أبناء الشعب؟و تستطيع فئة صغيرة الإستعانة بتلك الثروات لإنزال الظلم بحق جموع كثيرة من ذلك الشعب و التسلط عليهم و استغلالهم؟و هل لمثل هذه الظروف يعمل الإنسان؟و لمثل هذه الأوضاع يبذل و يضحّي؟!إنّ التضحية يجب أن تكون في سبيل العدالة و الحرية و السعادة؛ و هذا هو ما يضمن الدين تحقيقه.و التضحية يجب أن تكون في سبيل أن يتحلّى الناس بالفضائل و الأخلاق الحسنة،و لتشيع في أجواء الحياة معاني الإخلاص و النقاء.و لمثل هذا يجب أن يعمل العاملون،و يجب أن ينصبّ عملكم التبليغي و الإعلامي في هذا الإطار.

ص: 99

أوّل استفادة من عاشوراء

لقد استغلّت هذه التجربة(عاشوراء)مرّة واحدة بشكل صحيح و تحقّق فيها النصر المطلق،ألا و هي الثورة الإسلامية في عصرنا،لقد خلق الباري تعالى إمامنا العظيم بشكل لم تكن تلك الشخصية تشعر بالتعب و الهزيمة،و لم يكن للفشل أثر على روحه أبدا،بل كان يحاول التقدّم حتّى في أصعب الظروف،فقد رأيتم عن قرب طوال الأعوام الثمانية من الحرب أنّ الذي لم يقرّر الإنسحاب في أصعب الظروف هو شخص الإمام(ره)،فكان صامدا كالجبل الراسخ،و الإنسان يجاهد بسهولة لو كان وراءه جبل راسخ كالإمام،و قد كان الإمام هكذا في مرحلة الكفاح أيضا، فاستمرّ في الكفاح رغم الكثير من الهزائم و الصعاب و التعذيب و الضغوط و النفي و كبر السنّ،حيث لم يكن الإمام شابّا عند ما دخل ساحة الكفاح،بل كان يبلغ ثلاثة و ستين عاما عندما بدأ الكفاح،و أتذكّر في خطاباته عام 1341 ه ش 1962(م)حيث كان يقول:لماذا و ممّ أخاف؟فإن قتلوني فعمري 63 و سأموت و أنا في عمر النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و أمير المؤمنين عليه السلام،فأيّة سعادة أعظم من هذه؟هكذا كان منطقه.

لقد بدأ الإمام الكفاح و هو كبير في السنّ حيث كان يبلغ ثلاثة و ستين عاما،و بما أنّ ذلك اليوم كان مناسبا،فقد استطاع تحمّل جميع المشاقّ في الكبر،و عند ما تسلّم قيادة الثورة العظيمة كان في الثمانين من عمره،و قادها بتبعاتها العظيمة التي شاهدتموها حتّى سنّ التسعين.و لم تهزّ هذا الجبل الراسخ أبدا تهديدات أمريكا و الإتحاد السوفياتي و اتحاد القوتين العظميين و حرب الثمان سنوات و الهجوم

ص: 100

على طبس و الحظر الإقتصادي و الإعلامي و السياسي و غيره،«لا تحرّكه العواطف»،لهذا استطاع أن ينتصر.

لقد استغلّت هذه التجربة مرة واحدة و هي في ثورتنا،واصطفّ الشعب و المناضلون خلف هذا الرجل و رصّوا الصفوف حتّى أنّ أضعف الناس قد التحق بهم،و بالتالي انهزم العدو.

إنّ العدو منهزم منّا و من ثورتنا الإسلامية اليوم،فهذا الصخب و الضجيج الإعلامي و التظاهر بالقوة دليل على هزيمتهم أمام الثورة،و تسابق زعماء أمريكا للتصريح ضدّ الجمهورية الإسلامية و النظام الإسلامي و وضع الخطط و اتّخاذ القرارات دليل على شعور تلك القوة العظمى بالهزيمة أمام الثورة الإسلامية، و دليل على صمود و انتصار الشعب الإيراني المسلم في هذا الميدان العظيم طوال سبعة عشر عاما.

لكن العدو يراقب بشدّة الثورة،فإن رأى-و لو للحظة-ضعفا في الشعب،هاجم دون أدنى رحمة.

و الامور التي تطرح في هذه الأيام لا تعتبر هجوما،و ليست لها أدنى أهمية أو اعتبار.يقولون نفرض عليكم حظرا اقتصاديا!!أفلم يقوموا بذلك من قبل؟!

إنّ العالم اليوم ليس كالسابق لترضخ فيه أوروبا و بلدان آسيا الكبرى للساسة الأمريكان الوقحين و الطامعين و سيّئي الخلق،لأنّ لكلّ شعب اليوم موقع و مكانة في العالم،حتّى أنّ الشعوب الصغيرة أيضا لو كان يحكمها زعماء جيّدون لما كانت مستعدّة للرضوخ لأمريكا،فمن يهتمّ بهم و يرضخ لهم؟!

و على فرض نجاح و انتصار و استمرار رؤساء أمريكا في أهدافهم الخبيثة،فذاك يعدّ بداية لانتصار الشعب الإيراني،فالشعب الإيراني لا يحتاج إلى أحد،إنّ شعبنا

ص: 101

بحاجة إلى ثقة بالنفس و البحث عن الذات،إنّ الشعب الإيراني بحاجة إلى أن يجرّب نفسه في الميادين الصعبة حتّى يكتشفها،فهو شعب عظيم و يتمتّع باستعدادات عظيمة،و هنا تكمن القيم السامية،لكن الأعداء لم يسمحوا لنا بالتفرّغ لأنفسنا و ترتيب أوضاعنا.

فهنيئا لليوم الذي يفكّر الشعب بنفسه و يتدبّر أمره و يراجع إمكانياته و قدراته مثلما حدث ذلك في فترة الحرب نظرا للحاجة،و قد شاهدنا ثمراته الطيّبة،و بناءا على ذلك فإنّنا لا نخسر شيئا في مثل هذه الأحداث.

إنّ المشكلة هي وجود قوة على رأس القوى في العالم لا تعير أدنى أهمية للفضائل الإنسانية الحقيقية،إنّ قادة أمريكا اليوم بصدد توسيع نفوذهم و بسط سيطرتهم على العالم،و لا يعيرون أدنى أهمية لأي من المبادىء و القيم الإنسانية، إنّهم لا يعيرون أهمية لأنين الشعب الفلسطيني و سائر الشعوب الإسلامية إنما يسحقون في العالم،و لا قيمة عندهم للديمقراطية التي توصل جماعة لا تصغي لأوامرهم إلى الحكم،إنّهم يريدون الديمقراطية متى ما عادت عليهم بالنفع، و أوصلت إلى الحكم جماعة تصغي إليهم و تكون رهن إرادتهم،و في غير ذلك لا يعترفون بالديمقراطية أبدا!!

لقد ازدادت مراكز الصمود-و لله الحمد-ضدّ هذه السياسة اليوم في العالم،فإن كانت الجمهورية الإسلامية بالأمس وحيدة،لكن هناك اليوم شعوب أخرى صامدة ترفض الرضوخ لهم (1).9.

ص: 102


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:153-169.

آثار و نتائج نهضة أبي عبد اللّه عليه السّلام

حماية الإسلام و جهود النبي

قال الإمام الخميني (1):لو لم تكن عاشوراء و لو لا تضحيات آل الرسول لتمكن طواغيت ذلك العصر من تضييع آثار بعثة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و جهوده الشاقة.و لو لا عاشوراء لسيطر المنطق الجاهلي لأمثال أبي سفيان(كان أبو سفيان رئيسا لقبيلة قريش و أعدى الأعداء للرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و كان يقود الكفار و المشركين لمخالفة الإسلام و إلحاق الأذى بالمسلمين.و لم يسلم حتى انتصار المسلمين و فتحهم لمكة و تفيد الروايات الموجودة أنه آمن ظاهرا و لم يعتقد بالإسلام في باطنه.راجع هامش رقم 8 و 20.)الذين أرادوا القضاء على الوحي و الكتاب،فقد هدف يزيد- حثالة عصر الوثنية و الجاهلية المظلم-إلى استئصال جذور الحكومة الإلهية ظنا منه أنه يستطيع بواسطة تعريض أبناء الوحي للقتل و الشهادة أن يضرب أساس الإسلام،فقد كان يعلن صراحة:"لا خبر جاء و لا وحي نزّل".و لا ندري لو لم تكن عاشوراء ما الذي كان حصل للقرآن الكريم و الإسلام،لكن إرادة اللّه تبارك و تعالى شاءت-و ما تزال-أن يخلد الإسلام المنقذ للشعوب و القرآن الهادي لها،و أن تحييه دماء شهداء من أمثال أبناء الوحي و تصونه من أذى الدهر،فتبعث الحسين بن علي عليه السّلام-عصارة النبوة و تذكار الولاية-و تستنهضه كي يضحّي بنفسه

ص: 103


1- في كتابه نهضة عاشوراء.

و بأرواح أعزته فداء لعقيدته و من أجل أمة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله العظيمة كي تبقى دماؤه الطاهرة تغلي على امتداد التاريخ و تجري دفّاقة لتروي شجرة دين اللّه و تصون الوحي و تحفظ معالم الدين.

لقد أثمرت شهادة سيد المظلومين و أتباع القرآن في عاشوراء خلود الإسلام و كتبت الحياة الأبدية للقرآن الكريم،إن الشهادة المأساوية و الأسر الذي تعرّض له آل اللّه عرّضت عروش اليزيديين و سلطتهم-التي أرادت محو أساس الوحي باسم الإسلام-إلى الفناء و إزاحة السفيانيين عن مسرح التاريخ إلى الأبد.

لقد حفر اليزيديون في يوم عاشوراء قبورهم بأيديهم الآثمة و تسببواهم بهلاك أنفسهم و محق نظام حكمهم الظالم المتعسف،و ها هم البهلويون(يقصد الإمام من البهلويين،رضا شاه بهلوي و محمد رضا شاه بهلوي.)و جلاوزتهم المجرمون قد حفروا بأيديهم قبورهم عبر ما اقترفوه في 15 خرداد 1342 ه ش(15 حزيران 1963)و وصموا أنفسهم بالخزي و العار الأبدي،و ها هو الشعب الإيراني العظيم- و الحمد للّه-يمطر قبورهم باللعنات و يدوس-باقتدار و ظفر-ذكرهم و آثارهم.

لو لم تكن نهضة الحسين عليه السّلام،لأظهر يزيد و أتباعه الإسلام أمام الناس بشكل مشوّه،فهم لم يؤمنوا بالإسلام منذ البداية و كانوا يكنّون الحقد و يضمرون الحسد ضد أولياء الإسلام.

و عندما أقدم سيد الشهداء على تلك التضحية جعل-علاوة على إلحاقه الهزيمة بأعدائه-الناس ليلتفتون بعد برهة قصيرة إلى فداحة ما حصل و إلى عظم المصيبة التي نزلت بهم،مما أدى إلى القضاء على بني أمية و تدمير حكمهم.

لقد قامت تلك الشخصية العظيمة التي نفذت من عصارة الوحي الإلهي و تربت في أحضان سيد الرسل محمد المصطفى صلّى اللّه عليه و اله و سيد الأولياء علي المرتضى عليه السّلام و نشأت و ترعرعت في أحضان الصديقة الطاهرة عليها السّلام،و نهضت و قدّمت التضحيات المنقطعة النظير فهزت و من خلال تضحياتها و ملحمتها الإلهية عروش

ص: 104

الظالمين و حطّمتها و أنقذت الإسلام عبر تلك الواقعة الكبرى.

لقد فجّر سيد الشهداء عليه السّلام نهضة عاشوراء العظيمة،فأنقذ-من خلال تضحيته العظيمة بدمه و دماء أعزته-الإسلام العدالة و قوّض أركان حكم بني أمية.

لو لا تضحيات حرّاس الإسلام العظماء و استشهاد أنصار أبي عبد اللّه عليه السّلام البطولي لشوّهت صورة الإسلام على يد بني أمية من جرّاء تعسفهم و بطشهم، و لذهبت جهود النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و أصحابه المضحّين أدراج الرياح.

إن معظم الأئمة الأطهار عليهم السّلام إما أنهم قتلوا أو تعرّضوا لغير ذلك،لكن مدرستهم و خطّهم بقيا محفوظين.فسيد الشهداء عليه السّلام قتل،لكن نهجه و مدرسته ظلت خالدة، بل إنه أحيى الإسلام بمقتله.

إن معظم أصحاب الحق قد غلبوا،لكن الدين بقي مصانا محفوظا.فسيد الشهداء (سلام اللّه عليه)قد قتل و قتل معه أصحابه و عشيرته لكنهم دفعوا عجلة الدين و قدّموا له خدمة عظيمة،فالدين لم يتعرض بعملهم لهزيمة بل حقق تقدما،أي أنه هزم بني أمية إلى الأبد.

لقد سعى بنو أمية في تشويه الإسلام و العمل خلافا للموازين الإنسانية تحت غطاء الخلافة الإسلامية،فنهض سيد الشهداء عليه السّلام و ضحّى بدمه فأطاح بذلك النظام الفاسد و دمّره.

إن أولياء اللّه ينكسرون أيضا،فلا شك أن أمير المؤمنين عليه السّلام إنكسر عسكريا في حربه ضد معاوية(يقصد الإمام حرب صفين.إذ قام أمير المؤمنين الإمام علي عليه السّلام في بداية إمامته بعزل معاوية الذي كان يحكم الشام منذ زمن الخليفة الثاني.

و قد تمرد معاوية على هذا الأمر و جمع الناس حوله بذريعة الثأر لعثمان و تحرك نحو الكوفة لمقاتلة الإمام.و تقابل الجيشان في منطقة بالقرب من نهر الفرات تسمى صفين.و تلاقى الجيشان 90 مرة في هذه المعركة و لجأ معاوية في النهاية إلى حيلة عمرو بن العاص عندما أحس بقرب هزيمته فأمر جيشه برفع

ص: 105

المصاحف على الرماح و التحكيم و وقف الحرب.

أثّرت خديعة عمرو بن العاص و حصل اختلاف في جيش الإمام و اضطروه إلى قبول التحكيم.

بدأت حرب صفين في شهر صفر من عام 37 هجري قمري و استمرت مدة 110 أيام.و مجموع القتلى في هذه المعركة هو 70000 شخصا و قتل من جيش معاوية 45000 نفر.)و لا شك أن الإمام الحسين عليه السّلام إنكسر عسكريا في حربه ضد يزيد، لكنهما في الحقيقة انتصرا،فما وقع كان هزيمة ظاهرية و نصرا حقيقيا.

إن سيد الشهداء عليه السّلام هو الذي صان الإسلام و حفظه حتى وصل إلينا نحن الجالسين هنا.

إن الإسلام عزيز لدرجة جعلت الأئمة عليهم السّلام من أبناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يضحّون بأنفسهم من أجله.فسيد الشهداء عليه السّلام قتل و أولئك الشبان و الأنصار في سبيل الإسلام،فضحّوا بأرواحهم و أحيوا الإسلام.

لقد خاض سيد الشهداء عليه السّلام غمار النضال و الجهاد ضد الحكومة الطاغوتية التي كانت قائمة آنذاك،و استشهاده لم يضرّ بالإسلام بل خدم الإسلام و دفع به إلى الإمام،فلو لا شهادته لكان معاوية و ابنه قد تمكنا من إظهار الإسلام للعالم بشكل آخر تحت ستار خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و تحت غطاء الذّهاب إلى المسجد و إقامة صلاة الجمعة و إقامة صلاة الجماعة و إمامتها.

كان معاوية و ابنه يزعمان خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و أن حكومتهما حكومة الإسلام،لكن محتوى حكمهما كان غير ذلك،فلا الحكومة حكومة إسلامية-من حيث المحتوى و الجوهر-و لا الحاكم حاكم إسلامي.

و لما رأى سيد الشهداء عليه السّلام ما يقوم به هؤلاء من دور لمحو الإسلام و إعادة الوضع إلى ما كان عليه في الجاهلية،و إظهار الإسلام و كأنه نظير لما كان سائدا من الأوضاع في الجاهلية،تحرك عليه السّلام و أحبط مساعيهم.

ص: 106

إن شهادة سيد الشهداء عليه السّلام أحيت الدين،لقد استشهد هو و أحيى الإسلام و دفن النظام الطاغوتي لمعاوية و ابنه يزيد،فشهادة سيد الشهداء عليه السّلام لم تكن شيئا مضرا بالإسلام،و إنما كانت لمصلحة الإسلام،فهي التي أحيته.

لو لا سيد الشهداء عليه السّلام لاستطاع هؤلاء تقوية و تدعيم نظامهم الطاغوتي و لأعادوا الوضع إلى ما كان عليه في الجاهلية،لو لا هذه الثورة المباركة لكنا أنا و أنتم الآن مسلمين من النوع الطاغوتي لا على النهج الحسيني...لقد أنقذ الإمام الحسين عليه السّلام الإسلام.

لقد تعرّض الإمام الحسين(سلام اللّه عليه)للهزيمة عسكريا إلاّ أنّ النصر النهائي كان من نصيبه،فخطّه و نهجه لم يهزما بمقتله،بل إن عدوه هو الذي ذاق الهزيمة،و كان نصيب الفناء،فقد كان معاوية يريد أن يحوّل حكومة الإسلام إلى حكومة أمبراطورية ملكية و يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في عصر الجاهلية، فنهض الإمام سيد الشهداء عليه السّلام و أفشل مساعيه،و دفن يزيد و أتباعه و ظلت لعائن الناس تلاحقهم إلى الأبد كما انصبت عليهم اللعنة الإلهية أيضا.

إن سيد الشهداء عليه السّلام قد أنقذ الإسلام و وفر له الوفاء و الحماية على مدى الزمن.

لقد ورد في الرواية أن الرسول صلّى اللّه عليه و اله قال:"حسين مني و أنا من حسين". (1)

و معنى ذلك أن الحسين عليه السّلام سيكون امتدادا لي و يحيي الدين الذي أرسلت به على يديه.

كل هذه من بركات شهادته،رغم أن العدو أراد أن يمحو آثار النبي صلّى اللّه عليه و اله،فهم كانوا يقولون:«لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزّل»كانوا يريدون قلع الإسلام من جذوره و استئصال بني هاشم و إقامة دولة عربية قومية.3.

ص: 107


1- روي عن الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله أنه قال:"حسين مني و أنا من حسين،أحب اللّه من أحب حسينا. حسين سبط من الأسباط"راجع الإرشاد للشيخ المفيد:ص 233.

إن مجيء سيد الشهداء عليه السّلام إلى مكة و خروجه منها (1)بتلك الحال يعد حركة سياسية كبيرة.ففي الوقت الذي كان فيه الحجيج يدخلون مكة كان الحسين عليه السّلام يغادرها،و هي حركة سياسية،فكل سلوكات الحسين عليه السّلام و أعماله كانت سياسية إسلامية،و هي التي قضت على بني أمية،و لو لا تلك التحركات لسحق الإسلام و انتهى.

لقد ضحّى الإمام الحسين عليه السّلام بنفسه و بجميع أبنائه و أقربائه،فقوي الإسلام بشهادته.

صحيح أن سيد الشهداء عليه السّلام قد قتل لكنه لم يهزم و لم يندحر،بل إنه ألحق الهزيمة النّكراء ببني أمية بحيث أنه سلبهم القدرة على فعل أي شيء حتى النهاية.

لقد انتصر الدم على السيف انتصارا ترون آثاره باقية حتى اليوم،حيث ظل النصر حليفا لسيد الشهداء عليه السّلام،بينما الهزيمة ليزيد و أتباعه.

كان سيد الشهداء عليه السّلام على حق،و نهض بثلة قليلة من الأنصار و نال منزلة الشهادة هو و أبناؤه لكنه أحيى الإسلام و أذلّ يزيد و بني أمية.

لقد نهض سيد الشهداء(سلام اللّه عليه)بعدد قليل من الأصحاب و ثلة قليلة من أرحامه و مخدراته من نساء بني هاشم،و لأن قيامه كان للّه فإنه حطّم تلك الحكومة الملكية،و صحيح أنه قتل غير أنه قلع الحكم الملكي من الجذور،فقد كانت تلك الحكومات تحول الإسلام إلى سلطة طاغوتية ملكية.

من يرد أن يعمل للّه،فليس في عمله هزيمة مطلقا،و نحن حتى لو قتلنا فإننا لنج.

ص: 108


1- غادر الإمام الحسين عليه السّلام المدينة إلى مكة بعد أن امتنع عن مبايعة يزيد.و بعد أن أقام أربعة أشهر في مكة تحرك نحو الكوفة بسبب الدعوات التي استلمها عليه السّلام من أهل الكوفة و بيعتهم له و الظروف التي أوجدها عمال يزيد في مكة،و غادرها في اليوم الثامن من ذي الحجة عام 60 ه ق رغم إقامة مراسم الحج.و خرج الإمام من مكة في وقت كان يتوجه إليها المسلمون من مناطق مختلفة للمشاركة في المراسم العبادية السياسية للحج.

نهزم-فسيد الشهداء عليه السّلام قتل أيضا و لكن هل هزم؟كلا،فلواؤه اليوم مرفرف خفاق في حين لم يبق ليزيد أثر يذكر.

لو لا نهضة سيد الشهداء عليه السّلام لما استطعنا تحقيق النصر في ثورتنا هذه (1).ء.

ص: 109


1- انظر كتاب نهضة عاشوراء.

حالة مدرسة الخلفاء بعد استشهاد الحسين عليه السلام

أ-عطاء و حبوة:

قال ابن أعثم:فلما قتل الحسين(رض)استوسق العراقان جميعا لعبيد اللّه بن زياد،و أوصله يزيد بألف ألف درهم جائزة،فبنى قصريه الحمراء و البيضاء في البصرة و أنفق عليهما مالا جزيلا فكان يشتّي في الحمراء و يصيّف في البيضاء، و علا أمره و انتشر ذكره و بذل الأموال و اصطنع الرجال و مدحته الشعراء (1).

و قال المسعودي:جلس-يزيد-ذات يوم على شرابه،و عن يمينه ابن زياد و ذلك بعد قتل الحسين فأقبل على ساقيه،فقال:

إسقني شربة تروي عظامي ثم مل فاسق مثلها ابن زياد

صاحب السر و الأمانة عندي و لتسديد مغنمي و جهادي

ثم أمر المغنين فغنوا به (2).

قال المؤلف:نرى المقصود من ابن زياد في شعر يزيد إنما هو عبيد اللّه و ليس بأخيه سلم كما ذكره ابن أعثم و قال:إن يزيد قال له:لقد وجبت محبتكم يا بني زياد على آل سفيان،ثم قال:يا غلام أطعمنا،فقدّمت المائدة فطعما جميعا،فلما أكلا دعا يزيد بالشراب فلما دارت الكأس التفت يزيد إلى ساقيه و جعل يقول:

ص: 110


1- فتوح ابن أعثم 252/5.
2- المسعودي مروج الذهب 67/3.

إسقني شربة تروي عظامي ثم مل فاسق مثلها ابن زياد

موضع العدل و الأمانة عندي و على ثغر مغنم و جهادي (1)

فإن هذا القول من يزيد يناسب عبيد اللّه و ليس أخاه سلما و لعله أنشد البيتين للأخوين في مجلسين للشرب.

و يؤيد ذلك ما قاله سبط ابن الجوزي في التذكرة فإنه قال:استدعي ابن زياد إليه و أعطاه أموالا كثيرة و تحفا عظيمة و قرّب مجلسه و رفع منزلته و أدخله على نسائه و جعله نديمه و سكر ليلة و قال للمغني غن ثم قال يزيد بديهيا:إسقني شربة (2).

قال المؤلف:هكذا كان عطاؤه و حباؤه لقائد جنده أما عطاؤه للجنود فقد ذكره البلاذري و قال:كتب يزيد إلى ابن زياد:أما بعد،فزد أهل الكوفة أهل السمع و الطاعة في أعطياتهم مائة مائة (3).

عاش قتلة الحسين هكذا في حبور و سرور و استبشار حتى إذا ظهرت آثار أفعالهم ندموا على ما فعلوا.

ب-ندم عصبة الخلافة بعد ظهور نتائج أفعالهم:

قال ابن كثير و غيره و اللفظ لابن كثير:لما قتل ابن زياد الحسين و بعث برؤوسهم إلى يزيد،سر بقتلهم أولا،و حسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده،ثم لم يلبث إلاّ قليلا حتى ندم و قال:بغّضني بقتله إلى المسلمين،و زرع في قلوبهم

ص: 111


1- الفتوح لابن أعثم 252/5.
2- تذكرة خواص الأمة ص 164.
3- أنساب الأشراف ص 220.

العداوة فأبغضني البر و الفاجر (1).و كذلك يظهر ندم ابن زياد و عمر بن سعد و سائر قتلة آل رسول اللّه مما ورد في كتب التواريخ و قد أعرضنا عن نقلها روما للاختصار.

و إنما ندموا من فعلهم بسبب ما رأوا من آثار سخط المسلمين عليهم أولا،ثم لثورات المسلمين المستمرة عليهم بعد ذلك كما نشرحه في الباب الآتي بحوله تعالى (2).3.

ص: 112


1- ابن كثير 232/8،و تاريخ الإسلام للذهبي 351/2.
2- معالم المدرستين للعسكري:174/3.

معطيات الثورة

اشارة

قال السيد محمد باقر القرشي:و ليس في تاريخ هذه الدنيا ثورة هزت العالم، و مجدت الحق،و سجلت فخرا للإنسان مثل ثورة الإمام الحسين،فجميع فصولها نور،و كل آفاقها شرف و مجد،و قد حفلت بالدروس الخالدة عن العقيدة التي لا تضعف،و الإيمان الذي لا يقهر،و الإباء الذي لا يذل...و قد فتحت لأمم العالم و شعوب الأرض عصرا جديدا اتسم بروح الثورة و التمرد على الظلم و الطغيان، و مقاومة الاضطهاد و مناهضة الفساد.

لقد كانت ثورة أبي الأحرار هي الثورة الأولى في التاريخ البشري و ذلك بما حققته من المكاسب على الصعيد الفكري و الاجتماعي و السياسي و التي كان من بينها:

انتصار القضية الإسلامية

و أحرز الإمام العظيم بشهادته النصر الهائل الذي لم يحرزه أي ثائر في الأرض فقد انتصرت أهدافه و مبادئه التي ناضل من أجلها،و كان من أهمها انتصار القضية الإسلامية في صراعها السافر مع الأموية التي عبثت بمقدرات الإسلام،و راحت تستأصل جميع جذوره حتى لا يعد له أي ظل على واقع الحياة،و قد أخذ الحسين على عاتقه مصير الدين الإسلامي فاستشهد في سبيله،و قد أعاد سلام الله عليه للإسلام نضارته،و أزال عنه الخطر الجاثم عليه،يقول الفيلسوف الألماني ماريين:

ص: 113

«لا يشك صاحب الوجدان إذا دقق النظر في أوضاع ذلك العصر و كيفية نجاح بني أمية في مقاصدهم،و استيلائهم على جميع طبقات الناس و تزلزل المسلمين...إن الحسين قد أحيى بقتله دين جده و قوانين الإسلام،و لو لم تقع تلك الواقعة،و لم تظهر تلك الحسيات الصادقة بين المسلمين...و لو لا قتل الحسين لم يكن الإسلام على ما هو عليه قطعا،بل كان من الممكن ضياع رسومه و قوانينه حيث كان يومئذ حديث العهد.

و يكفي الحسين ربحا في شهادته أنه أحيى الإسلام و فداه بدمه،و قد ألمع إلى ذلك الإمام زين العابدين حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله فقال له:

«من الغالب؟»

«إذا دخل وقت الصلاة فأذن و أقم تعرف الغالب».

لقد كان الحسين هو المنتصر و الغالب لأنه أعاد للإسلام حياته و نضارته فكان هو المجدد و لعل الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله عنى هذه الجهة بقوله:

«حسين مني و أنا من حسين».

إنه لو لا تضحية الحسين عليه السّلام لضاعت جميع جهود الرسول صلّى اللّه عليه و اله و ما جاء به من خير و بركة و رحمة للناس فإن بني أمية حملوا معول الهدم على جميع المبادىء التي جاء بها هذا الدين فأعلنوا الكفر و الإلحاد و ساسوا الناس بسياسة لا ظل فيها لحكم القرآن.

هزيمة الأمويين

و كان من أوليات ما أحرزه الإمام من الانتصارات الرائعة هزيمته للأمويين،فقد نسفت تضحيته جميع الأسس و القواعد التي أقامها معاوية لتوطيد الملك في آل أبي سفيان،يقول بعض الكتاب:«إن ما بناه معاوية لابنه يزيد في أعوام هدمه

ص: 114

الحسين في أيام،و نظر الناس إلى الخليفة نظرة الأفن و الإستهتار فنفر المسلمون من سياسته،و لصوق هذا بدولتهم و وسمه الواسمون بسمات الخديعة و المكر و الظلم و الجور،و ذلك كله بفضل هدي الحسين،و حسن سمته،و ما رسمه من سياسة حكيمة في الوقوف أمام ظلمهم،و ما اختطه من خطة قويمة في دفع عنتهم و بغيهم و ما أبداه في حركاته من حزم و إيثار».

لقد أطاح الإمام بنهضته المباركة بتلك الرؤوس التي نفخها الكبر و أثقلها الغرور،و أعماها الطيش،يقول السيد مير علي الهندي:«إن مذبحة كربلاء قد هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا مما ساعد على تقويض دعائم الدولة الأموية».

مظاهر هزيمتهم

اشارة

أما مظاهر الهزيمة الأموية بعد قتل الإمام عليه السّلام فهي:

أ-تجريدهم من الواقع الإسلامي

لقد عملت مجزرة كربلاء الرهيبة على تجريد الأمويين من الإطار الإسلامي، و أثبتت أنهم على و ثنيتهم و جاهليتهم،فإن ما جرى على آل الرسول صلّى اللّه عليه و اله من الإبادة الشاملة بعد أن حرّمت عليهم القيادة العسكرية الماء،و ما جرى على ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله من التمثيل بعد القتل،و سبي حرائر النبوة و عقائل الوحي يطاف بهن من بلد إلى بلد،و هن بحالة تقشعر منها الأبدان ليظهروا قهر آل النبي صلّى اللّه عليه و اله،و إبداء التشفّي منهم أمام الرأي العام،و ما تمثل به يزيد من الشعر الذي أنكر فيه نبوة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و أنه إنما أباد عترته طلبا بثأر من قتل من الأمويين في واقعة بدر كل ذلك قد جرد الأمويين من كل نزعة إسلامية،و دلل على مروقهم من الدين.

ص: 115

ب-شيوع النقمة و الإنكار عليهم

و كان من مظاهر الهزيمة الساحقة التي مني بها الأمويون شيوع النقمة و الإنكار عليهم في جميع الأوساط،فقد تعالت موجات عارمة من الإنكار على يزيد حتى من عائلته و أسرته،و قد فزع من ذلك كأشد ما يكون الفزع،و ندم على ما اقترفه، و ساءت العلاقة بينه و بين ابن مرجانة فيما يقول المؤرخون.

ج-تحول الخلافة عن بني أمية

و هزمت ثورة الإمام الحكم الأموي،و نسفت جميع معالمه،و جعلته يعيش في ثورات متلاحقة قامت بها الشيعة،و غيرهم حتى انهار صرح ذلك الحكم الأسود بقيام الدولة العباسية،و سنذكر عرضا لذلك.

التدليل على واقع أهل البيت عليهم السّلام

و دللت ثورة أبي الشهداء عليه السّلام على الواقع المشرق لأهل البيت،و كشفت للعالم الإسلامي الطاقات الهائلة التي يملكونها من الثبات على الحق و الصمود أمام الأحداث،و تبنّي القضايا المصيرية للأمة،مما جعلت جمهرة المسلمين يكنون لهم أعظم الود و خالص الحب و الولاء.

لقد أظهرت كارثة كربلاء للعيان أن أهل البيت هم المثل الأعلى للقيادة الروحية و الزمنية لهذه الأمة،و أنهم الرواد للحق و العدل في الأرض.

ص: 116

تركيز التشيع

و من معطيات الثورة الحسينية أنها ركزت التشيع في إطاره العقائدي و أصبح عقيدة راسخة في نفوس الشيعة،يقول فيليب حتي:«لقد ولدت الشيعة في اليوم العاشر من المحرم،و من ذلك اليوم أصبحت الإمامة في سلالة علي قاعدة من قواعد العقيدة الشيعية،كما كانت نبوة محمد صلّى اللّه عليه و اله

قاعدة من قواعد الإسلام و يقول بعض المستشرقين:«لو لا مقتل الحسين لما كانت هناك شيعة في الإسلام».

و يقول سترثمان:لقد كانت دماء الحسين التي سالت على سيوف القوات الحكومية هي النواة التي أنبتت العقيدة الشيعية أكثر من دماء علي الذي اغتالته يد متآمر خارجي.

و يقول الشيخ التستري:إنه لو لم يتحمل الحسين لهذه المصائب لم يظهر دين للشيعة،و ذلك لأن بني أمية لما استولوا على البلاد و أظهروا الفساد،و سعوا في إخفاء الحق،حتى شبّهوا الأمر على الناس،فجعلوا سب علي من أجزاء الصلاة، و أدخلوا في أذهان الناس أن بني أمية أئمة الإسلام،و رسخ ذلك في عقائد الناس من زمن طفولتهم حيث إنهم ألقوا ذلك إلى المعلمين ليفدوا الأطفال في مكاتبهم و مدارسهم،فاعتقد الناس حقيقة أن هؤلاء أئمة الدين،و أن مخالفهم على ضلال.

و لما قتل الحسين بتلك الكيفية و سبيت عياله تنبه الناس إلى أن هؤلاء لو كانوا أئمة حق ما فعلوا ذلك،و إن فعلهم لا يطابق دينا و لا مذهبا و لا عدلا و لا يطابق جور الجائرين.

لقد أذكت تلك الدماء الزاكية روح الولاء و الإخلاص لأهل البيت عند جمهور المسلمين،و قد انضم تحت لوائهم في ذلك العصر الكثيرون ممن كانوا يقفون

ص: 117

موقف الحياد بين الأحزاب المتطاحنة للحصول على الحكم.إن ما جرى على ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله من المصائب المذهلة قد حيّر العقول،و طاش بالألباب، و أذهل كل كائن حي.

توحيد صفوف الشيعة

و عملت كارثة كربلاء على توحيد صفوف الشيعة،و خلق روح التضامن فيما بينهم بعد أن كان ينقصهم الحماس و بذل النفس في الدفاع عما يؤمنون به من أن الخلافة حق شرعي خاص لأهل البيت،و قد تبدّل ذلك الشعور فكانوا أقوى قوة فعالة تصدّت للإطاحة بحكم الأمويين،فقد هبوا جميعا و شعارهم:

«يا لثارات الحسين».

يقول بعض الكتاب:«لقد كان هذا الحادث البشع المنكر مذكيا للتشيع إلى أقصى حد،و كان عاملا على وحدة الشيعة و حماسهم لنصرة مذهبهم،و سببا في ثوراتهم الجارفة ليثأروا من قتلة الحسين».

و أكد ذلك بروكلمان بقوله:«لقد أذكت تلك الدماء التي روت أرض كربلاء روح التشيع في نفوس الشيعة،و جعلتهم يشعرون بوجوب توحيد صفوفهم».

لقد أثارت مذبحة كربلاء العواطف و الأحزان في نفوس الشيعة و جعلتهم يؤمنون قبل كل شيء بضرورة اتحادهم للأخذ بثأر الإمام العظيم الذي ثار من أجل العدل و إعادة حقوق المظلومين و المضطهدين.

تكوين الحس الاجتماعي

و عملت نهضة الإمام على تكوين الحس الاجتماعي و خلق روح الثورة في

ص: 118

النفوس،و قد تغيرت الأمة تغييرا كاملا فتسلّحت بعد خمودها بقوة الإيمان و قوة العزم و التصميم،و تحررت من جميع السلبيات التي كانت ملمة بها،فقد أخذت تنادي بحقوقها،و تعمل جاهدة على إسقاط الحكم الأموي،و هي تقدم-بسخاء- القرابين في ثورات متلاحقة تمثل سخطهم العارم و كراهيتهم الشاملة لبني أمية، و لم يعد هناك أي ظل للخوف و الفزع فيهم،حتى اكتسحت مشاعر الزهو الأموي، و أطاحت بجبروت الأمويين و طغيانهم.

لقد قلبت ثورة الإمام الحسين مفاهيم الخوف و الخنوع التي كانت سائدة في الأمة إلى مبادى الثورة و النضال و التحرر من ربقة الذل و العبودية،فقد أعطاهم الإمام قوة دافعة،و أمدهم بروح و ثابة لمقارعة الظلم و الطغيان.

تفجير المواهب

و من معطيات الثورة الحسينية أنها فجّرت المواهب و العبقريات،فبرزت طاقات هائلة من الأدب الرفيع في طليعة الأدب العالمي رقة و روعة و جمالا.

لقد حفل أدب الثورة الحسينية بأروع ما حفل به الأدب السياسي في الإسلام، ففيه مناجم أخاذة تعد من أوفر المناجم الفكرية عطاء و أغزرها فنا،و من بين ما حفل به:

أولا-الإشادة بالعدالة الاجتماعية و القيم الإنسانية التي ناضل من أجلها الإمام العظيم.

ثانيا-شجب الظلم و مقارعة الطغيان،و مناهضة الغرور و الطيش.

ثالثا-بعث المجتمع نحو العزة و الإباء اقتداء بالإمام الحسين سيد الأباة و رائد الكرامة الإنسانية.

رابعا-عرض الاتجاهات الفكرية و العقائدية التي يحملها الإمام العظيم.

ص: 119

خامسا-تمجيد الإمام بما لم يمجد به أحد من شهداء الإصلاح الاجتماعي،فقد تفاعلت مبادئه مع عواطف شعراء الشيعة،و أدركوا المد الإنساني في نهضته الخالدة فراحوا يقدسونه بأروع ما يقدس به أي مصلح إجتماعي في الأرض.

سادسا-الحط من الأمويين و التشهير بجرائمهم المعادية للإسلام.

سابعا-عرض ما جرى على أهل البيت من المحن و الخطوب يقول السيد محمد سيد الكيلاني:«جاء الأدب الشيعي صورة صادقة لما وقع على العلويين من اضطهاد،و يقول:كانت مجزرة كربلاء التي قتل فيها الحسين و ما حلّ بالعلويين بعدها دافعا قويا للشعراء أنطقهم بكثير من القصائد التي تسيل العبرات،و تذيب القلوب و تفتت الأكباد،و لا غرابة في ذلك فهي صدى لتلك الدماء التي سفكت بغير حساب،و الأشلاء التي تناثرت،و تركت على الأرض طعاما للطير..و قد كثر الشعر في رثاء آل البيت كثرة هائلة،و كله صادر من أعماق النفوس،منبعث من قرارة الأفئدة،فكان للأدب العربي من ذلك ثروة لا تقدر».

ثامنا-جمال الروعة في أدب الثورة الحسينية و حرارة العاطفة،يقول بعض الكتاب:و الشعر الذي رثي فيه الحسين حار ملتهب لأنه تعبير عن عواطف قوية، و تنفيس عن نفوس متأججة ثائرة فهم غضاب ساخطون لأن بني أمية سلبوهم حقهم و غصبوهم مكانهم فصوروا غضبهم في شعر حانق على الأمويين.

إن الشعر الحسيني يمثل الصدق في وصف العاطفة الملتهبة و إن أصحابه لم يكونوا متكلفين و لا منتحلين،و إنما كانوا متألمين كأشد ما يكون التألم فيصفون الإمام وصفا صادقا..لقد كان ذلك الأدب الحي من أثرى ألوان الأدب العالمي،و من أبرز القيم الثقافية في الإسلام.

و مما تجدر الإشارة إليه أن الأدب الحسيني لم يصطبغ بهذه الصبغة و يتبوأ مكانه الأعلى في الأدب الإسلامي إلا بعد حقبة طويلة من الزمن و لعل السبب في ذلك يرجع إلى ما ذكره أبو الفرج إلى أن الشعراء كانوا لا يقدمون على رثاء الحسين

ص: 120

مخافة من بني أمية.

منابر الوعظ و التوجيه

و من أروع النتائج التي حققتها ثورة أبي الأحرار هي المنابر الحسينية التي أصبحت منطلقا لتوجيه الأمة و إرشادها و ذلك بما يبثه السادة الخطباء من الوعظ و الإرشاد و عرض مأساة أبي الشهداء التي هي من أروع الدروس و أثمنها للتضحية في سبيل الحق و العدل،و قد وصف الكاتب الألماني مارتن هذه المنابر بأنها من أهم الأسباب لتقدم المسلمين إن هم أحسنوا تنظيمها و الإستفادة منها،إن مأساة أبي عبد الله عليه السّلام جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام و هي تمثل كفاحه و نضاله ضد الطغاة و وقوفه إلى جانب المظلومين و المضطهدين،و يقول جون اشرا:إن مسألة الحسين تنطوي على أسمى معاني الإستشهاد في سبيل العدل الإجتماعي.

إن المنابر الحسينية من أهم المكاسب و من أروع المعطيات في ثورة أبي الشهداء عليه السّلام فقد عملت على غرس النزعات الخيرة في النفوس و إبعادها عن عوامل الشذوذ و الانحراف،و توجيهها الوجهة الصالحة التي تتسم بالاستقامة و حسن السلوك،كما أنها من المدارس السيارة لنشر الإيمان بالله و إذاعة القيم الإسلامية بين الناس (1).

ص: 121


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:299/3-306.

فلسفة عاشوراء

كلّما تأملنا في عاشوراء وجدنا جديدا

قال السيد الخامنئي:فبالرغم من كثرة و أهمية ما قيل و ما كتب من قبل العلماء و المفكّرين البارزين حول أسباب و أهداف ثورة الإمام الحسين،إلاّ أنّ المؤكّد أنّه يمكن الخوض لسنوات طويلة في موضوع هذه الثورة المباركة و أسبابها و أهدافها و نتائجها..

فكلّما أمعنّا النظر أكثر في قضية عاشوراء و ثورة الإمام الحسين عليه السّلام،سنجد أن تلك الثورة تتّسع للتفكير و البيان أكثر فأكثر.و كلّما ازددنا تفكيرا في هذه النهضة الكبرى،ستظهر أمامنا حقائق جديدة لم نكن نعرفها من قبل.

المعارف في عزاء الحسين عليه السلام

من المؤكّد أن من أهمّ ميزات المجتمع الشيعي دون غيره من الاخوة المسلمين هو امتلاكه لذكرى عاشوراء و فاجعة كربلاء الأليمة.

و منذ اليوم الذي أقيمت فيه مجالس العزاء التي تذكر فيها المصائب التي جرت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و أهل بيته الأطهار،تدفّق نبع من المعنوية و المعارف الإسلامية في أذهان و قلوب محبّي أهل البيت عليه السّلام،و مازال ذلك النبع متدفّقا الى اليوم و سيبقى كذلك الى ما شاء اللّه.

ص: 122

كثرة المصائب خلّدت واقعة عاشوراء

إنّ الحياة الكريمة لا بدّ و أن يكتنفها الكثير من المصائب.و ساحة الطف الحسيني بذاتها كانت مسرحا لمصائب شتى.و إنه لمن العجيب حقا كيف أنّ اللّه عزّ و جلّ جعل أرض عاشوراء الحسين عليه السّلام مسرحا لمجموعة من المصائب الكبرى و منح أناسا عظاما و في مقدمتهم أبا عبد اللّه الحسين عليه الصلاة و السلام القدرة على تحمّل هذه المصائب الكبرى بإباء و شموخ و صبر و شكر.

و إن ما جرى يوم عاشوراء فريد في تاريخ الإنسانية في كلا بعديه(المادي و المعنوي)؛فلم تشهد الإنسانية على مدى حياتها واقعة تجسدت فيها كل هذه المصائب مجتمعة و بهذا القدر من الشدّة و التنوع خلال برهة زمنية امتدت من الصباح حتى العصر،و كذا في البعد الثاني،فالصبر الذي جوبهت به تلك المصائب كان فريدا من نوعه أيضا.

لقد تجلّت في تلك الواقعة ألوان من الظلم و التقتيل و مشاعر الغربة و العطش، و كذا الآلام التي يكابدها الإنسان في سبيل عائلته،و القلق الذي ينتابه خوفا من المجهول،و ما تلاه من فقدان أعز الأنفس في عالم الوجود-أي الحسين بن علي عليه السّلام و أهل بيته و أبنائه و أصحابه-و ما جرى عليهم من السبي على يد أناس أراذل بعيدين عن قيم الشرف؛و ياليت سبيهم كان على يد أناس أشراف؛فالسبي على يد أناس أشراف يهوّن من وقع المصيبة،و لكنهم سبوا على يد أناس عديمي الشرف و هم أقرب إلى صفة الوحوش الكاسرة منه إلى صفة الإنسانية.

و بعد ذلك العذاب المتواصل من الصباح حتى المساء،ناء أهل بيت الإمام الحسين عليه السّلام بمصيبة السبي التي وقعت أعباؤها على عاتق الإمام السجاد-إمام زمانه-و على العقيلة زينب عليها السّلام-التي تأتي مكانتها بعد مقام الإمامة-ثم على

ص: 123

النساء و الأطفال الذين لا يتصفون على الظاهر بمقامات معنوية عالية من قبيل الولاية و الإمامة،إلاّ أنهم تحمّلوا مرارته.و هذه هي العظمة التي خلّدت واقعة عاشوراء.

لا ريب أنّ أية فئة تقاسي المصائب في سبيل أهداف و غايات نبيلة و سامية و مقدسة-لا أن تكون مجرد غايات تافهة و عقيمة-و تتحملها بصبر و صلابة، يكون لها نصيب من تلك الفضائل.

و هذا هو السبب الذي يجعلنا ننظر بإجلال و إكبار لعوائل الشهداء و الأسرى و المفقودين و المعوّقين و لذات المعوقين و الأسرى.فالشعب و التاريخ لا يسجل منقبة لفئة من الناس دونما سبب،فلو لا الصبر لما تحققت هذه الفضائل.

إنّ الفترة التي يقضيها الإنسان في الأسر فترة عصيبة حقا سيّما إذا كان الأسر بيد الأعداء الذين وصف لنا أحرارنا الأعزاء عند عودتهم كيفية تعامل الأعداء مع الأسرى،فهم لم يعاملوهم مثلما عاملنا نحن الأسرى الأجانب لدينا،بل عاملوهم بأسلوب آخر بعيد عن الإنسانية.

إنّ لكل لحظة من لحظات الليل و النهار التي تمر على أسرانا الذين لازالوا في يد العدو-و لا نعلم بعددهم على وجه الدقة،و لكن على العموم نعلم بوجود مجموعة كهذه-فضيلة و ثوابا عند اللّه.و يتبعهم في الأجر عوائلهم،فحالهم حال الشهداء؛إذ قلنا أنّ الثواب الأوفر يكون من نصيب الشهداء أولا ثم يكون لعوائل الشهداء، فكذلك بالنسبة للأسرى،أي أنّ الثواب الوفير و الأجر الجزيل يناله الأسرى بالدرجة الأولى لأنهم هم الذين يكابدون هذا العناء،ثم يأتي الدور من بعدهم لكم أنتم يا عوائل الأسرى،و هو بلا شك أجر كبير أيضا.

إنّني أستشعر الآلام التي تعانيها العائلة التي فقدت أحد أعزّتها و بقيت تجهل مصيرة؛فالأمهات و الآباء و الزوجات و الأبناء و العوائل،تعيش فترات مريرة و تمر

ص: 124

عليها ساعات عصيبة ليلا و نهارا،إلاّ أن الأجر الذي ينالوه كبير و يتناسب مع قدر هذه المشقة.

و اعلموا يا أعزائي إن كل مصيبة تقع للإنسان له في أزائها أجر كبير عند ربّه.

و القضية ليست ذات طرف واحد؛و إنما يتلقى الإنسان العوض من ربّه أزاء كل معاناة و كل محنة،و لا يبخس عند ربّه شيئا،و لا يستوي عنده من استشهد ولده، مع من يعيش ولده إلى جانبه بهناء،و لا يتساوى لديه من ضحّى بنفسه أو بأحد أعزائه مع من لم يكابد أية مشقّة،و الذي فقد ولده و لا علم له بمصيره لا يستوي مع الآخرين.فلكل مجهود أو عمل يؤديه الإنسان أو المجتمع أجر عند اللّه، مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (1). (2).3.

ص: 125


1- سورة هود:15.
2- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:53.

أثر التذكير بالمصائب

قال السيد الخامنئي:المنشأ لكلّ هذا الخير و البركة هو التذكير المتواصل بيوم عاشوراء لكي تبقى ذكرى فاجعة كربلاء حيّة في ضمير أبناء الامة.

فذكرى عاشوراء ليست مجرّد ذكر لبعض الخواطر و الذكريات و الأحداث فقط.

و إنّما هي تبيان لحادثة في غاية الأهمّية و لها عدد غير محدود من الأبعاد و الجوانب التي تركت أعمق الآثار في حياة الامة الإسلامية على مرّ التاريخ.

إذن،فالتذكير بهذه الفاجعة هو موضوع يمكن أن يتبلور عن كثير من الخيرات و البركات لأبناء هذه الأمة.لذا تلاحظون أنّ قضية البكاء و الإبكاء على الإمام الحسين عليه السّلام كانت تحتلّ مكانة متميزة في زمن الأئمة عليه السّلام.

فلا يتصوّر أحد أنّه مع وجود المنطق و الإستدلال،فما هي الحاجة للبكاء و ما هي الحاجة للبحث في قضايا قديمة من هذا القبيل؟ (1)

ص: 126


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:55.

علم الإمام عليه السلام بوقائع عاشوراء

قال السيد الخامنئي:و بالإضافة الى ذلك فقد كان يعلم عليه السّلام انّه بعد استشهاده سوف تقوم تلك الذئاب الكاسرة بالهجوم على عياله و أطفاله لإخافتهم و إرعابهم و نهب أموالهم و بالتالي أسرهم و توجيه الإهانة لهم و الاعتداء بالضرب على بنت أمير المؤمنين عليه السّلام زينب الكبرى عليه السّلام التي كانت من الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي.

و قد واصل أبو عبد اللّه كفاحه المرير على الرغم من علمه بجميع تلك الامور تفصيلا.

فلاحظوا كم كان ذلك الجهاد الذي خاضه أبو عبد اللّه شاقّا و مريرا.و بالإضافة الى ذلك فقد كان يعاني هو و أهل بيته و أصحابه من شدّة العطش نتيجة لمنعهم من الوصول الى ماء الفرات.فقد كان الأطفال و الصبيان و الشيوخ و حتى الأطفال الرضع يتلظون من شدّة العطش!حيث لم يكونوا قد ذاقوا قطرة من الماء منذ مدة طويلة.

فلكم أن تتخيّلوا الآن كم كان شاقّا و عظيما ذلك الجهاد الذي خاضه إمامنا الحسين عليه السّلام.

فأيّ إنسان لا تهتزّ عواطفه من فاجعة استشهاد مثل هذا الإنسان العظيم الطاهر المعصوم الذي كانت الملائكة تتسابق لرؤية وجهه المنير و الذي كان يتمنّى الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء أن يكونوا في منزلته؟

و أيّ إنسان حرّ يعرف مغزى تلك الفاجعة و يفهم أهدافها ثمّ لا يشعر بالإرتباط

ص: 127

القلبي و العاطفي معها؟فهذا النبع المعنوي و العاطفي بدأ بالتدفّق و مازال.عصر يوم عاشوراء حينما وقفت زينب-على ما ورد في النقل-على التل الزينبي و خاطبت جدّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قائلة:«يا رسول اللّه صلّى عليك مليك السماء هذا حسينك مرمّل بالدماء مقطّع الأعضاء مسلوب العمامة و الرداء» (1)و بدأت بقراءة عزاء الإمام الحسين عليه السّلام بصوت عال.و بعد ذلك قامت بإفشاء ما أرادوا كتمانه من خلال خطبها و كلماتها الرنّانة في كربلاء و الكوفة و الشام و المدينة المنوّرة.هذه هي فاجعة عاشوراء و هذه هي أبعادها و أهدافها (2).8.

ص: 128


1- لو عاج الأشجان:198،و مناقب آل أبي طالب:260/3.
2- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:58.

عناصر نهضة الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

قال السيد الخامنئي:إنّ الإمام الحسين عليه السلام إستطاع من خلال نهضته- التي كان لها في ذلك الوقت باعثا عقلائيا و منطقيا واضحا جدا-أن يرسم نموذجا و يتركه للأمة الإسلامية.

إنّ هذا النموذج لا يتمثّل في نيل الشهادة فحسب،بل أمر متداخل و معقد و عميق جدا.

إنّ لنهضة الإمام الحسين عليه السلام ثلاث عناصر هي:المنطق و العقل، و الحماسة المشفوعة بالعزة،و العواطف.

1-المنطق و العقل في ثورة الحسين عليه السلام

إنّ عنصر المنطق و العقل في هذه النهضة يتجلّى من خلال كلمات ذلك الإمام العظيم،فكل فقرة من كلماته النورانية التي نطق بها عليه السلام-سواء قبل نهضته،عندما كان في المدينة،و الى يوم شهادته-تعرب عن منطق متين، خلاصته:إنّه عندما تتوفر الشروط المناسبة يتوجّب على المسلم تحمّل المسؤولية،سواء أدّى ذلك الى مخاطر جسيمة أم لا.

و إنّ أعظم المخاطر تتمثل في تقديم الإنسان نفسه و أعزاءه و أهل بيته المقربين -زوجته و أخواته و أولاده و بناته-الى أرض المعركة و في معرض السبي قربة لله تعالى.

ص: 129

إنّ مواقف عاشوراء هذه أصبحت أمرا طبيعيا عندنا؛لكثرة تكرراها،مع أنّ كل موقف من هذه المواقف يهزّ الأعماق.

بناء على ذلك،عندما تتوفر الشروط المتناسبة مع هذه المخاطر،فعلى الإنسان أن يؤدي وظيفته،و أن لا يمنعه عن إكمال مسيرته التعلّق بالدنيا و المجاملات و طلب الملذات و الخلود الى الراحة الجسمانية،بل عليه أن يتحرّك لأداء وظيفته.

فلو أنه تقاعس عن الحركة،نتج عن ذلك تزلزلا في أركان إيمانه و إسلامه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان ثم لم يغيّر عليه بقول و لا فعل كان حقيقا على اللّه أن يدخله مدخله» (1).

هذا هو المنطق،فلو أن أصل الدين تعرّض الى خطر-كما حصل في فاجعة كربلاء-و لم يغيّر ذلك بقول أو فعل،كان حقا على الله أن يبتلي الإنسان اللاّمبالي و الغير ملتزم بما يبتلى به العدو المستكبر و الظالم.

لقد بيّن الإمام الحسين عليه السلام هذه المسؤولية من خلال كلماته المختلفة -في مكة المكرمة و المدينة المنورة و في أماكن كثيرة خلال مسيره،و بيّن ذلك في وصيته الى أخيه محمّد ابن الحنفية-.

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام على علم بعاقبة هذا الأمر،و ينبغي أن لا يتصور أنّ الإمام عليه السلام علّق آماله للحصول على السلطة-و إن كانت هذه السلطة-كإمامة-من الأهداف المقدسة-و تحرّك من أجل ذلك،كلا،فليس هناك رؤية فكرية تستوجب علينا أن نعتقد بذلك؛لأنّ عاقبة هذا الطريق متوقعة و واضحة على طبق الحسابات الدقيقة للإمام الحسين عليه السلام و الرؤية1.

ص: 130


1- بحار الأنوار:382/44،و شرح إحقاق الحق:603/11.

الإمامية،إلا أنّ أهمية المسألة تتأتى من هذا الجانب،و هو أنّ شخصا يمتلك روحا بعظمة روح الإمام الحسين عليه السّلام و يتعرض لما تعرض له عليه السلام من التضحية بالنفس،و جرّها الى ساحة الحرب،يعتبر درسا عمليا بالنسبة للمسلمين الى يوم القيامة،و ليس درسا نظريا يكتب على لوحة الكتابة ثم يمحى،كلا،فقد خطّ هذا النهج بأمر إلهي على صفحات جبين التاريخ،و نودي به،و أدى ثماره الى يومنا هذا.

إنّ نهضة الإمام الخميني(قدس سره)في محرم عام 1962 م التي نتجت عنها واقعة الخامس عشر من خرداد (1)العظيمة،إستلهمت من ثمار التطبيق العملي لدرس عاشوراء،و كذلك في محرم 1978 م إستلهم إمامنا العزيز نهضته منها حيث قال:(لقد انتصر الدم على السيف).

و أدّت هذه الحادثة التاريخية-التي ليس لها نظير في التاريخ-الى انتصار الثورة الإسلامية.

هذا ما تحقق في عصرنا،و أمام أعيننا،و إنّ راية الفتح و الظفر التي حملها الإمام الحسين عليه السلام ماثلة للشعوب على مرّ التاريخ،و لا بد أن تكون كذلك في المستقبل،و هو ما سوف يكون إن شاء الله تعالى،هذا جانب المنطق العقلائي و الإستدلالي لحركة الإمام الحسين عليه السلام.

بناء على ذلك،فلا ينحصر تفسير نهضة الإمام الحسين عليه السلام على صعيد الجانب العاطفي،فهذا الجانب غير قادر على تفسير جوانب الواقعة وحده.ي.

ص: 131


1- خرداد الشهر الثالث في التوقيت الهجري الشمسي.

2-الحماس و العزة

العنصر الثاني:الحماسة؛أي أنّ العملية الجهادية الملقاة على عاتقنا،يجب أن تقترن بالعزة الإسلامية؛لأنّ؛ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ (1)،و على المسلمين في نفس الوقت الذي يتحركون فيه نحو الهدف،و يتحمّلون المسؤولية الجهادية، أن يحافظوا على عزّتهم و عزّة الإسلام،و لا بد أن يتحلّى الشخص بسمات الشموخ و العزّة في أشد الأزمات.

فلو أننا نظرنا الى الصراعات السياسية و العسكرية المختلفة في تاريخنا المعاصر،سوف نجد حتى أولئك الذين كانوا يحملون السلاح و يواجهون الحرب بأبدانهم،يعرّضون أنفسهم أحيانا الى مواقف الذلّة،إلا أنّ هذه المسألة ليس لها وجود في فلسفة عاشوراء،فعند ما يطلب الإمام الحسين عليه السلام أن يمهلوه ليلة واحدة،يطلبها من موقع العزّة،و في الوقت الذي يقول:(هل من ناصر ينصرنا) -يطلب النصرة-يطلبها من موقع العزّة و الإقتدار،و عندما تلتقي به الشخصيات المختلفة في الطريق بين المدينة و الكوفة،و يتكلم معهم و يطلب النصرة من بعضهم،لم يكن ذلك من موقع الضعف و عدم القدرة،و هذا أحد العناصر البارزة في نهضة عاشوراء.

فينبغي أن يطبّق عنصر الحماسة المشفوع بالعزّة في جميع الحركات الجهادية المدرجة في جدول أعمال سالكي طريق النهضة الحسينية،و أن تكون جميع

ص: 132


1- سورة المنافقون:الآية 8.

الحركات الجهادية-سواء كانت سياسية،أو إعلامية،أو المواقف التي تستدعي التضحية بالنفس-منطلقة من موقف العزّة.

أنظروا الى شخص الإمام الخميني(قدس سره)في يوم عاشوراء عندما كان في المدرسة الفيضية:فقد كان عالم دين،و لم يكن يمتلك شيئا من القوة العسكرية، أو أي شيء من هذا القبيل،إلا أنّه كان يتمتع بشخصية لها من العزّة بحيث يركع العدو صاغرا لقوة بيانه،هذه هي مكانة العزّة.

هكذا كان الإمام الخميني(قدس سره)في تلك الظروف،وحيدا فريدا ليس له عدّة و لا عدد،إلا أنّه كان عزيزا،و هذه هي شخصية إمامنا العظيم(قدس سره).

نشكر الله تعالى الذي جعلنا في زمان تمكنّا فيه من الرؤية العينية المباشرة لنموذج عملي،لما كنّا نردده و نقرأه و نسمعه كثيرا منذ سنوات عدّة في واقعة كربلاء،و هذا النموذج هو إمامنا العظيم(قدس سره).

ص: 133

3-دور العاطفة في كربلاء

العنصر الثالث:العاطفة؛أي أنّه قد أصبح للعاطفة دورا مميزا في نفس واقعة كربلاء و في استمرارها،أدّى الى إيجاد برزخ بين النهضة الحسينية و الشيعية من جهة و بين النهضات الأخرى من جهة ثانية،فواقعة كربلاء ليست قضية جافة و مقتصرة على الإستدلال المنطقي فحسب،بل قضية اتّحد فيها الحب و العاطفة و الشفقة و البكاء.

إنّ الجانب العاطفي جانب مهم؛و لهذا أمرنا بالبكاء و التباكي،و تفصيل جوانب الفاجعة.

لقد كانت زينب الكبرى(عليها السلام)تخطب في الكوفة و الشام خطبا منطقية، إلا أنها في نفس الوقت تقيم مآتم العزاء،و قد كان الإمام السجاد عليه السلام بتلك القوة و الصلابة ينزل كالصاعقة على رؤوس بني أمية عندما يصعد المنبر،إلا أنه كان يعقد مجالس العزاء في الوقت نفسه.

إنّ مجالس العزاء مستمرة الى يومنا هذا،و لا بد أن تستمر الى الأبد؛لأجل استقطاب العواطف،فمن خلال أجواء العاطفة و المحبة يمكن أن تفهم كثير من الحقائق،التي يصعب فهمها خارج نطاق هذه الأجواء.

إنّ العناصر الثلاثة للنهضة الحسينية تعتبر من العناصر الأساسية لبناء هذه النهضة،هذا على مستوى التحليل،و زاوية من زوايا عاشوراء الحسين عليه السلام،إلا أنّ هذه الزاوية تمثّل لنا دروسا عملية كثيرة.

و بما أننا نبلّغ بإسم الإمام الحسين بن علي عليه السلام،و قد أتيحت لنا فرصة

ص: 134

تخليد هذه الشخصية العظيمة،التي من خلالها يمكن تبليغ الدين على جميع الأصعدة،فينبغي أن يكون لكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة دور في تبليغنا، فكما يعتبر الإقتصار على الجانب العاطفي و الغفلة عن الجانب المنطقي و العقلي الكامن في واقعة كربلاء،تقليل من قيمة الواقعة،كذلك التغافل عن الجانب الحماسي المشفوع بالعزة هو تقليل من قيمة الواقعة،و ضياع مجموعة من الكنوز الثمينة،فيجب على الجميع-قارئ العزاء،و الخطيب المنبري،و المدّاح-أن يلاحظ ذلك (1).6.

ص: 135


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:81-86.

العواطف في ثورة عاشوراء

و حادثة عاشوراء تنطوي في طبيعتها و ذاتها على بحر زاخر من العواطف الصادقة.فهذه الفاجعة جاءت نتيجة لثورة إنسان عظيم و معصوم،إنسان لا يمكن التشكيك بمقدار ذرّة في شخصيّته المتسامية،و يقرّ جميع المنصفين في العالم بتعالي هدفه و هو(إنقاذ المجتمع من براثن الظلم و الاستعباد)،و قد أعلن عن هذا الهدف بوضوح عندما قال:«أيّها الناس إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قال:من رأى سلطانا جائرا مستحلاّ لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان و لم يغيّر عليه بقول و لا بفعل كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله (1).

إذن فالهدف من الثورة هو الوقوف بوجه الظلم و الطغيان.

و قد تحمّل الحسين عليه السّلام من أجل هذا الهدف المقدّس أشقّ أشكال الجهاد و الصراع من أعداء اللّه؛لأنّ أشقّ أشكال الكفاح هو الكفاح في الغربة.

فالإستشهاد و القتل بين الأهل و الأحبّة و وسط تشجيع عامة الناس ليس بالأمر المستصعب جدّا.

ففي صدر الإسلام حينما كانت تحدث مواجهة بين الحقّ و الباطل و كان على رأس الجيش الإسلامي النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله أو أمير المؤمنين عليه السّلام كان الجميع يتبارى للذهاب الى ساحة الحرب استجابة لأمر النبي صلّى اللّه عليه و اله،و كان النبي صلّى اللّه عليه و اله و المسلمون يودعونهم و يدعون لهم،فكانوا يقاتلون العدو و يقتلون و هم بين

ص: 136


1- شرح إحقاق الحق:603/11.

أهلهم و أحبّتهم.فليس من الصعب جدّا أن يقوم الإنسان بمثل هذا العمل.و لكن الصعب هو القسم الآخر من أشكال الكفاح الشاق و المليء بالمتاعب و العقبات،حيث ينزل الإنسان الى ساحة الحرب و هو يرى أنّ جميع أفراد المجتمع يقفون ضدّه،أو يتغافلون عن نصرته،أو يحاولون الإبتعاد عنه،و حتّى الذين يؤيّدونه في قرارة أنفسهم لا يجرؤون على إعلان هذا التأييد بألسنتهم.

ففي فاجعة كربلاء لم يجرؤ حتى أمثال عبد اللّه بن عباس أو عبد اللّه بن جعفر -اللذين كانا من بني هاشم و من تلك الشجرة الطيبة-على إبراز تأييدهما للإمام الحسين عليه السّلام في مكة أو المدينة.

إذن فجهاد الغرباء من أشقّ و أصعب أشكال الجهاد في سبيل اللّه.فالجميع يقف بوجه ذلك الإنسان المجاهد و يعرض عنه حتى الأصدقاء.

حتى إنّ الإمام الحسين عليه السّلام حينما دعا أحدهم الى نصرته رفض نصرة ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و عرض فرسه على الحسين عليه السّلام بدلا من ذلك.فهل توجد غربة أعظم من هذه الغربة؟و هل يوجد كفاح في الغربة أشقّ من هذا الكفاح؟

و في خوضه لهذا الصراع رأى الإمام الحسين عليه السّلام بأمّ عينيه مقتل أولاده و إخوانه،و أبناء إخوته،و أبناء عمومته،و جميع بني هاشم،حتى أنّه شاهد مقتل ولده الرضيع الذي كان له من العمر ستة أشهر فقط (1).8.

ص: 137


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:88.

بين الأسلوب العقلي و الأسلوب العاطفي

إنّ هذا النوع من التفكير بيّن البطلان،لأنّ لكلّ من هذه الامور دور في بناء شخصية الإنسان و تكامله.

فالعواطف لها دورها و المنطق و البرهان لهما دورهما المهم أيضا.

فالعاطفة لها دور في حلّ كثير من المشاكل و المعضلات التي يعجز المنطق و الاستدلال عن حلّها.

و لذلك حينما نراجع تاريخ الأنبياء عليهم السّلام سوف نرى انّه في أوائل بعثتهم كان يلتفّ حولهم أناس لم يكن المنطق و البرهان هما الدافع الأساسي لإيمانهم و لا لتفافهم حول أولئك الأنبياء عليهم السّلام.

فلا تجدون في تاريخ نبينا صلّى اللّه عليه و اله-و هو تاريخ مدوّن و واضح-بأنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله إجتمع في أوّل البعثة مع مجموعة من الكفّار و برهن لهم بالأدلّة العقلية على وجود اللّه و وحدانيته أو بطلان عبادة الأصنام-مثلا-.فالإستدلالات العقلية للنبي صلّى اللّه عليه و اله جاءت بعد أن تقدّمت الدعوة و انتشر أمرها.أمّا في المرحلة الاولى فقد كان عمل الدعوة يقوم على أساس كسب المشاعر و العواطف الصادقة لدى الناس.

ففي هذه المرحلة كان النبي صلّى اللّه عليه و اله يقول للكفار:إنّ هذه الأصنام التي تعبدونها ما هي إلاّ أحجار لا تضرّ و لا تنفع.من دون الحاجة الى ذكر الدليل العقلي و المنطقي على بطلان عبادتهم لتلك الأصنام.

و لم يكن يستدلّ للناس بالأدلّة العقلية و الفلسفية على وجود اللّه و وحدانيته،بل

ص: 138

كان يكتفي بالقول:«قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا» (1)،فلم يبرهن للناس عقليا أو فلسفيا بأنّ الإعتقاد ب(لا إله إلاّ اللّه)يؤدّي الى فلاح الإنسان و سعادته،بل إنّ هذه العبادة تخاطب مشاعر الإنسان و أحاسيسه الصادقة.

طبعا إنّ كلّ مشاعر و أحاسيس صادقة و سليمة تنطوي على برهان فلسفي و استدلال عقلي.لكن المسألة هي أنّ كلّ نبي عندما كان يريد البدء بالدعوة لم يكن يطرح الدليل العقلي و الفلسفي من أجل هداية الناس،بل انّه كان يبدأ بتحريك العواطف و الأحاسيس الصادقة و السليمة التي تحمل المنطق و الإستدلال في ذاتها.

و هذه الأحاسيس و العواطف توجّه أنظار الإنسان الى ما يعيشه المجتمع من ظلم و اضطهاد و تمايز طبقي،و ما يمارسه أنداد اللّه من البشر(شياطين الأنس)من ضغط و إرهاب ضدّ أبناء ذلك المجتمع.أمّا طرح البراهين العقلية و المنطقية فكان يبدأ حينما تستقر الدعوة و تأخذ مجراها الطبيعي.

فمن كانت له القابلية العقلية و الفكرية-في هذه المرحلة-فسوف يستوعب بعض الإستدلالات العقلية و الفلسفية الميسّرة التي كان يطرحها النبي صلّى اللّه عليه و اله.

أمّا الذي لم يكن يمتلك تلك القابلية،فيبقى في المرحلة العقلية الإبتدائية التي يعيشها.

طبعا ليس شرطا أن يكون الإنسان الذي يمتلك قوة استدلال أكبر أعلى شأنا من غيره من الناحية المعنوية.فقد تكون عواطف بعض أصحاب المستوى الفكري المتواضع أصدق و أسلم،و ارتباطهم و تعلّقهم بالنبي صلّى اللّه عليه و اله و بمبدأ الغيب أقوى و حبّهم أصدق و أعمق.و هذا من شأنه أن يكسبهم مكانة معنوية أعلى و مرتبة أسمى عند اللّه سبحانه و تعالى.فلكلّ من العاطفة و الإستدلال دوره و مكانته،فلا9.

ص: 139


1- الغدير:66/9.

العاطفة تستطيع أن تحتل مكان الإستدلال العقلي،و لا الإستدلال بإمكانه احتلال مكان العاطفة (1).9.

ص: 140


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:89.

الوجه الآخر لملحمة عاشوراء

إنّ شخصا كالحسين عليه السّلام-و الذي جسّد كل القيم الإلهية و الإنسانية-ينهض بالثورة حتى يقف بوجه استشراء الإنحطاط الذي أخذ يتفشى في أوصال المجتمع و أوشك أن يأتي على كل شيء فيه.

بلغ الإنحطاط أن لو شاء الناس العيش حياة إسلامية كريمة،فإنهم يجدون أيديهم خالية من كل شيء.

و في ظرف كهذا يثبت الإمام الحسين عليه السّلام و يقف بكل وجوده أمام ذلك الخواء و الفساد المتصاعد،و يضحّي من أجل القيم الإلهية بنفسه و بأحبّائه و بإبنيه:علي الأصغر و علي الأكبر،و بأخيه العباس ثم يصل إلى النتيجة المطلوبة.

أحيى الإمام الحسين عليه السّلام جدّه رسول اللّه بإحيائه لدين النبي صلّى اللّه عليه و اله،و هو معنى قول النبي صلّى اللّه عليه و اله:«و أنا من حسين».هذا هو الوجه الآخر للقضية.فواقعة كربلاء الزاخرة بالحماسة،و هذه الملحمة الخالدة لا يمكن إدراك كنهها إلا بمنطق العشق و بمنظار الحب.فهي واقعة لا يتيسر النظر إليها إلا بعين العشق ليفهم ما الذي صنعه الحسين بن علي عليه السّلام من بطولة و مجد خلال يوم و ليلة أي منذ عصر يوم التاسع من المحرم و حتى عصر العاشر منه،بحيث خلّده في هذه الدنيا و سيخلّده إلى الأبد،و لهذا أخفقت جميع الجهود التي بذلت لمحو حادثة الطف من الأذهان و طيّها في أدراج النسيان (1).

ص: 141


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:81-92.

خصائص النهضة الحسينيّة

رمز خلود نهضة الحسين عليه السلام

قال السيد الخامنئي:لقد ثار الكثيرون في العالم و قتلوا و كان لهم قادة،و كان بينهم الكثير من أبناء الأنبياء و الأئمة عليه السّلام،لكن سيد الشهداء عليه السّلام فرد واحد، و واقعة كربلاء فريدة في نوعها،و مكانة شهداء كربلاء منحصرة بهم،لماذا؟

يجب البحث عن الإجابة في طبيعة هذه الواقعة لتكون لنا درسا.

الإخلاص في خروج الحسين عليه السلام

إنّ إحدى خصائص هذه الواقعة هي أنّ خروج الإمام الحسين عليه السّلام كان خالصا للّه تعالى،و لإصلاح المجتمع الإسلامي،و هذه خصيصة هامّة.فعند ما يقول الإمام عليه السّلام:«إنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا ظالما و لا مفسدا»فمعناه أنّ ثورتي لم تكن للرياء و الغرور و ليست فيها ذرّة من الظلم و الفساد،بل«إنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي»أي أنّ هدفي هو الإصلاح فقط و لا غير.

إنّ القرآن الكريم حينما يخاطب المسلمين في صدر الإسلام يقول: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (1)،و هنا الإمام عليه السّلام يقول:«إنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا» (2).

ص: 142


1- سورة الأنفال:47.
2- شرح إحقاق الحق:602/11.

تأمّلوا جيدا،فهنا نهجان و خطّان.فالقرآن يقول لا تكونوا مثل الذين خرجوا «بطرا»أي غرورا و تكبّرا،و لا أثر للإخلاص في تحرّكهم،و انّما المطروح في هذا المنهج الفاسد هو«أنا»و«الذات»،و«رئاء الناس»،أي انّه تزيّن و لبس الحلي و امتطى جوادا غاليا و خرج من مكّة و هو يرتجز،إلى أين؟إلى الحرب،التي يهلك فيها أمثال هؤلاء أيضا،فهذا خطّ.

و هناك خطّ و نهج آخر و مثاله ثورة الإمام الحسين عليه السّلام،و التي لا وجود لل«أنا» و لل«ذات»و المصالح الشخصية و القومية و الحزبية فيها أبدا،إذا هذه أول خصيصة من خصائص ثورة الحسين بن علي عليه السّلام.

فكلّما ازداد الإخلاص في أعمالنا كلّما ازدادت قيمتها،و كلّما ابتعدنا عن الإخلاص كلّما اقتربنا من الغرور و الرياء و العمل للمصالح الشخصية و القومية، و كلّما ازدادت الشوائب في الشيء كلّما أسرع في الفساد،فلو كان نقيّا و خالصا لما فسد أبدا.

ما كان لله ينمو و ما كان للشيطان يضمحل

و إن أردنا إعطاء مثال بالأمور المحسوسة،نقول:إذا كان الذهب خالصا و نقيا فلا يقبل الفساد و الصدأ أبدا،و إن كان مخلوطا بالنحاس و الحديد و بقية المواد الرخيصة الثمن،إحتمل الفساد أكثر،فهذا في المادّيات.

أمّا في المعنويات فإنّ هذه المعادلة أكثر دقّة،إنّما نحن لا نفهمها بسبب نظرتنا المادية،لكن يدركها أهل الفن و البصيرة،و إن اللّه تعالى هو الناقد في هذه الواقعة، «فانّ الناقد بصير»،فوجود شائبة بمقدار رأس إبرة في العمل يقلّل من قيمة العمل

ص: 143

بالمقدار نفسه،و حركة الإمام الحسين عليه السّلام من الأعمال التي ليست فيها شائبة و لو بمقدار رأس إبرة،لذا هو باق الى الآن و سيبقى خالدا الى الأبد.

فمن توقّع خلود اسم و ذكر أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام و أنصاره في التاريخ؟ أولئك الذين قتلوا غرباء في تلك الصحراء و حيث دفنوا فيها رغم كلّ الإعلام المعادي في ذلك الوقت،و كيف أنّهم أحرقوا المدينة بعد استشهاد هذا العظيم بسنة في واقعة الحرّة،أي أنّهم نتفوا الورود بعد أن خرّبوا الروضة،فمن توقّع أن يفوح عطرها؟و بأيّة قاعدة مادّية يتصور بقاء وردة في هذه الروضة؟لكن تلاحظون أنّه كلما مرّ الزمان عليها كلّما أصبحت تلك الروضة أكثر عطرا.

فهناك أناس لا يعتقدون بالنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و اله الذي هو جدّ الحسين عليه السّلام و الحسين سائر على نهجه،و لا يعتقدون بأبيه علي عليه السّلام و لا يؤمنون بحرب الحسين عليه السّلام، لكنهم يقبلون الحسين عليه السّلام و يعظّمونه،فهذا هو الخلوص،و هذه هي النكتة الأولى.

الإخلاص في ثورة الإمام الخميني

و في ثورتنا العظيمة كان الإخلاص سببا لبقائها،ذلك الجوهر الخالص الذي كان الإمام مظهره.ارجعوا الى تلك الذكريات و تلك التضحيات في سوح الحرب، ذلك الحر المهلك في الصحاري و البراري،ذلك الشتاء القارس في الجبال،ذلك الرعب و الخوف و الخطر المستمر في سوح القتال،تلك المحاصرة،قلة القوات التي كنّا نتحمّس كثيرا لإعداد عدد قليل منها،عدم امتلاك الأسلحة حيث كنا نركض وراء مسدس أو قذيفة.تذكّروا كلّ هذا و استشعروا تلك الأيام،لتدركوا لماذا كانت كلّ هذه المؤامرات ضدّ الثورة؟و لماذا تستمر إلى الآن؟لكن بقيت هذه الشجرة راسخة.

إنّ هذا الجوهر(الاخلاص)هو الذي حفظها،إن إخلاص الإمام(ره)و الشعب

ص: 144

خاصة إخلاص أولئك المقاتلين في سوح القتال-و أنتم من أفضلهم و أمثلهم-هو الذي حفظ الثورة و دعم استمرارها،إذا هذه نكتة يجب الإهتمام بها دائما،و أنا أحوج من غيري الى هذا الاهتمام.

ص: 145

غربة الحسين عليه السلام و أثرها في المعركة

إنّ النكتة الأخرى في ثورة الحسين عليه السّلام-و هي مهمة أيضا-و هذه النكتة و إن كانت ترجع الى قوة الإخلاص،لكنها في نفسها مهمة نظرا لوضعنا اليوم،و هذه النكتة هي غربة الحسين عليه السّلام،فلا يوجد في أيّة واقعة من الوقائع الدامية في صدر الإسلام غربة و وحدة كما في واقعة كربلاء،فمن رغب فليتأمل في تاريخ الإسلام.

إنّني أمعنت جيدا فلم أجد واقعة كواقعة كربلاء.

ففي حوادث صدر الإسلام و غزوات النبي صلّى اللّه عليه و اله و حروب أمير المؤمنين عليه السّلام كانت حكومة و دولة و جنود يشاركون في الحرب،و من ورائهم أدعية الأمهات، آمال الأخوات،تقدير الحضور و تشجيع القيادة العظيمة للنبي صلّى اللّه عليه و اله أو لأمير المؤمنين عليه السّلام،كانوا يضحّون بأنفسهم أمام النبي صلّى اللّه عليه و اله،و هذا ليس صعبا.

فكم من شبابنا قدّموا أرواحهم لدى سماعهم نداءا من الإمام،و كم منّا من يأمل في إشارة من الولي الغائب المفدى عجّل اللّه تعالى فرجه لنضحّي بأنفسنا.

فعند ما يرى الإنسان القائد بعينه و يشاهد تقدير و ثناء من خلفه و يعلم أنه يقاتل ليهزم العدو و يأمل بالنصر،فإنّه يقاتل براحة أكبر،و هكذا حرب ليست صعبة، طبعا هناك حوادث في التاريخ فيها الغربة نسبيا كحوادث أبناء الأئمة و الحسنيّون في عصر الأئمة عليهم السلام،لكن هؤلاء كانوا يعملون في ظلّ إمام كالإمام الصادق عليه السّلام،و الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام،و كالإمام الثامن عليه السّلام،و قائدهم و سيّدهم حاضر يسندهم و يتفقّد عيالهم،فكان الإمام الصادق عليه السّلام يأمرهم بقتال

ص: 146

الحكام الفسدة و يقول«و عليّ نفقة عياله» (1)و كان المجتمع الشيعي ظهرا لهم، و بالنهاية كان لهم أمل خلف ساحات الحرب،لكن في واقعة كربلاء،فإنّ أسّ القضية و لبّ لباب الإسلام المقبول من الجميع أي الإمام الحسين عليه السّلام في ميدان الحرب،و يعلم هو و أصحابه أنه سيستشهد و لا أمل له في أي أحد في هذا العالم الواسع و هو غريب و وحيد.

و من رجالات الإسلام ذلك اليوم من لا يغتمّ لقتل الحسين عليه السّلام بل يعتبر وجوده مضرا بحاله،و منهم من لا يبالي بالقضية و إن حزن لقتله عليه السّلام(كعبد اللّه بن جعفر و عبد اللّه بن عباس و أمثالهم). (2).

فلم يكن للإمام عليه السّلام أدنى أمل بمن هم خارج ميدان القتال المليء بالمحن،فما كان موجودا فهو في ميدان القتال فقط.

و الأمل مقتصر على هذا الجمع،و الجمع مسلّم للشهادة،و بعد الاستشهاد لا يقام لهم مجلس فاتحة حسب الموازين الظاهرية،فيزيد متسلّط على كلّ شيء،و تساق نساءهم أسارى و لا يرحم أطفالهم«لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه»فلو لا الإيمان و الإخلاص و النور الإلهي في قلب الحسين بن علي عليه السّلام و الذي بعث الحرارة في قلوب الصفوة المؤمنة حوله لما تحقّقت تلك الواقعة،فانظروا الى عظمة هذه الواقعة (3).1.

ص: 147


1- أنظر الوسائل:54/15،ح 19975.
2- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:251.
3- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:261.

عظمة شهداء الحسين عليه السلام يوم القيامة

اشارة

عن الإمام زين العابدين عليه السّلام في حديث طويل يقول فيه:قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فإذا برز الحسين عليه السّلام و أصحابه إلى مضاجعهم تولّى اللّه عزّ و جلّ قبض أرواحهم بيده و هبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت و الزمرّد مملوءة من ماء الحياة و حلل من حلل الجنّة و طيب من طيب الجنّة فغسّلوا جثثهم بذلك الماء و ألبسوها الحلل و حنّطوها بذلك الطيب و صلّى الملائكة صفّا صفّا عليهم ثمّ يبعث اللّه قوما لا يعرفهم الكفّار فيوارون أجسامهم و يقيمون رسما لسيّد الشهداء بتلك البطحاء يكون علما لأهل الحقّ و سببا للمؤمنين إلى الفوز و يتحفه ملائكة كلّ سماء مائة ألف ملك في كلّ يوم و ليلة يصلّون عليه و يسبّحون اللّه عنده و يستغفرون اللّه لزوّاره و يكتبون أسماء من يأتيه زائرا متقرّبا إلى اللّه و إلى رسوله و أسماء آبائهم و عشائرهم و بلدانهم و يوسمون في وجوههم بميسم نور عرش اللّه هذا زائر قبر خير الشهداء و ابن خير الأنبياء،فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار و يعرفون به ويلتقطهم الملائكة و النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يوم القيامة بذلك النور حتّى ينجيهم من هول ذلك اليوم، و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:إنّ إبليس يوم قتل الحسين يطير فرحا فيجول الأرض كلّها في شياطينه و عفاريته فيقول:يا معشر الشياطين قد أدركنا من ذرّية آدم الطلبة و بلغنا في هلاكهم الغاية و أورثناهم النار إلاّ من اعتصم بهذه العصابة فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم و حملهم على عداوتهم حتّى لا ينجو منهم ناج.

ص: 148

ثمّ قال عليّ بن الحسين عليه السّلام بعد ما حدّث بهذا الحديث:خذ إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولا لكان قليلا (1).

لا يقارن أحد بشهداء كربلاء

قال السيد الخامنئي:فالخصيصة الثانية لهذه الواقعة هي غربتها.لذا قلت مرارا انّه يمكن مقارنة شهدائنا بشهداء بدر و حنين و أحد و شهداء صفين و الجمل،بل شهداؤنا أرفع منزلة من كثير من هؤلاء الشهداء،لكن بشهداء كربلاء،فلا يقارن أحد بشهداء كربلاء،لا اليوم و لا في الماضي،لا في صدر الإسلام و لا أبدا الى أن يشاء اللّه.

إنّ هؤلاء هم صفوة الشهداء،فلا نظير لعلي الأكبر و لحبيب بن مظاهر.

فهذه واقعة كربلاء-أعزّتي-و هذه هي القاعدة الراسخة و المتينة التي حفظت الإسلام على مدى ألف و ثلاثمائة و عدّة سنوات رغم كلّ العداء له.فهل تتصورون أنّ الإسلام يبقى لو لا تلك الشهادة و ذلك اليوم و تلك الواقعة العظمى؟بل تيقّنوا بمحو الإسلام في أتون الأحداث،نعم قد يبقى العنوان كدين تاريخي مع عدد قليل من الأتباع في زاوية من زوايا العالم،و قد يبقى إسم و ذكر للإسلام لكن تمحى حقيقته.

حفظ طريق الشهداء

إنّ ما يتسم بالأهمية-في كلّ زمان-هو حفظ طريق الشهداء،بما يعنيه من حراسة دماء الشهداء،و هذا أول واجباتنا،و نحن مسؤولون قبال الشهداء،و ليس

ص: 149


1- كامل الزيارات:448.

هناك من هو مكلّف،و آخر غير مكلّف،إلا أنّ المتصدين و المسؤولين-كبرت مسؤوليتهم أو صغرت-تثقل أعباؤهم بمثل هذا التكليف أكثر من سواهم.

الشهيد معنى كبير و حقيقة تثير الدهشة،و لكن بما أننا اعتدنا على مشاهدة الشهداء،و كثيرا ما شهدنا معالم التضحية و الفداء و العظمة و الطريق الذي انتهى بهم إلى الشهادة،بقيت هذه الحقيقة الوضّاءة خافية عنّا؛كحقيقة الشمس التي تبقى لشدّة ظهورها خافية على من يراها على الدوام.

شهداء الحسين عليه السلام منار الدروب

في ما مضى حينما كان الحديث يدور حول مثال من شهدائنا في العصر الحاضر،أو من شهداء صدر الإسلام و يشار إلى سلوكه و سيرته،كانت ثمة تغيّر واضح و مدهش يحصل في القلوب و في النفوس،و حتى في الأعمال و النوايا.

فكل واحد من هذه الكواكب المنيرة بإمكانه أن يضيء عالما بأسره،و معنى هذا أنّ حقيقة الشهادة حقيقة عظمى.و لو بقيت هذه الحقيقة حيّة على يد من تقع على عاتقهم اليوم مسؤولية أزاء الشهداء،و تحفظ لها قدسيّتها و مكانتها،سيبقى تاريخنا المقبل يستقي العبر من تضحياتهم الكبرى،مثلما بقي التاريخ إلى يومنا هذا يستقي المثل السامية من دماء سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه الصلاة و السلام التي أريقت ظلما؛لأن ورثة تلك الدماء استثمروها في غاية الحكمة و التدبّر و بأروع الأساليب و أبدعها للحفاظ على ثمارها.

حفظ دماء شهداء الحسين عليه السلام

و لعل حفظ دماء الشهداء لا يقل في مشقته أحيانا عن الشهادة ذاتها.و المشاق التي تحمّلها الإمام السجاد عليه السّلام على مدى ثلاثين سنة،و الصعوبات التي كابدتها

ص: 150

زينب الكبرى(عليها السلام)سنوات طويلة،تدخل في هذا السياق؛فقد كابدوا الكثير حتى استطاعوا حفظ هذه الدماء،و من بعدهما لقي جميع الأئمة(عليهم السلام)مثل هذا العناء حتى عصر الغيبة.

و نحن اليوم مكلّفون بمثل هذا الواجب،مع اختلاف ظروف اليوم عما كانت عليه آنذاك؛فحكومة الحق-أي حكومة الشهداء-قائمة اليوم و الحمد للّه،فنحن إذن في ظلها مكلّفون بمسؤوليات جسيمة.

للشهداء حركتان و موقفان

يستشف المرء من عموم القضية أنّ للشهداء حركتان و موقفان في منتهى الروعة و العظمة،و كل واحد منهما يحمل نداء عميقا؛أحدهما،موقف من الإرادة الإلهية المقدسة،و أزاء دين اللّه و عباده الصالحين.

و الموقف الآخر أمام أعداء اللّه.و لو أنكم وضعتم موقف الشهيد و معنوياته و دوافعه،موضع التمحيص و الدراسة لاتّضح لكم هذان الموقفان.

الحسين عليه السلام قدوة للإيثار

أمّا ما يتعلق باللّه و عباده و أوامره و كل ما له صلة بذاته المقدسة،يتلخص بالإيثار و التضحية؛فالشهيد قد آثر و ضحّى للّه.الإيثار معناه إنكار الذات و عدم إدخالها في الحسبان.و هذا أول موقف للشهيد.فلو أنه أقحم ذاته في الحسابات و ظنّ بها و لم يخاطر لما بلغ هذه المنزلة.

الشبان الذين قصدوا سوح الوغى و ضحّوا بأنفسهم على رمضاء خوزستان التي تصل حرارتها 65 درجة،أو على جبال كردستان و بردها القارس و الثلوج أو

ص: 151

غيرها من أماكن الجهاد في العالم،كانت لهم مساكن و أسر،و كان لكل منهم أبوان عطوفان،و زوجة عزيزة،و البعض منهم كان لهم أطفال يمثّلون بالنسبة اليهم فلذات أكبادهم،و كانوا يعيشون حياة دعة و استقرار،إلا أنهم تخلّوا عن كل هذا و قصدوا سوح القتال.

ما هي الرسالة التي كان يحملها هؤلاء الشهداء و يفترض بنا استلهامها منهم؟

رسالتهم هي أن من يبتغي مرضاة اللّه،و يطمح لأن يكون وجوده نافعا في سبيل اللّه على طريق تحقيق الغايات الإلهية السامية في عالم الوجود،فعليه أن ينكر ذاته في مقابل الأهداف ذات الطابع الإلهي.و ليس هذا من نوع التكليف الذي لا يطاق.حيثما تمسكت فئة مؤمنة بهذه السمة انتصرت كلمة اللّه،و حيثما ارتعدت فرائص المؤمنين،كانت الغلبة-بلا جدال-لكلمة الباطل.

هذه الثورة انتصرت بفعل عوامل الإيثار و التضحية التي تمسّك بها عباد اللّه المؤمنون،و وقع ما لم يكن يخطر بحسبان أي محلل،و ذلك هو إقامة الحكم الإسلامي و في هذه النقطة من العالم بالذات،من كان يتوقع هذا؟و من كان يصدّق بحدوثه؟و لكن بفعل مواقف الإيثار و التضحية على يد المؤمنين تحقق هذا الأمر الذي ما كان متوقعا تحققه؛إذ فئة مصطفاة من المؤمنين-و لا نقول كل المؤمنين- أنكرت ذاتها،و الجميع مطالبون بالسعي لأن يكونوا ضمن هذه الفئة،لنيل هذه المنقبة (1).0.

ص: 152


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:251-260.

أثر التخلي عن الإيثار

كل موضع انعدم فيه عنصر الإيثار،كما هو الحال في كل بقعة خلت منه،و كما هو الحال على امتداد التاريخ،و كذلك في عهد الإمام الحسين عليه السّلام حين تنصلت الأكثرية العظمى من المؤمنين و الخواص عن واجبها،و نكلت و تراجعت،انتصرت حينها كلمة الباطل،و تسلّط يزيد على الرقاب و استمر الحكم الأموي تسعين سنة، و جاء عهد بني العباس و دامت حكومتهم بين خمسة و ستة قرون.و كان السبب الأساسي لكل هذا هو انعدام الإيثار.و كانت النتيجة أنّ المجتمعات الإسلامية كابدت الكثير من العناء،و ذاق المؤمنون أمرّ أنواع الظلم.

إنّ الساحة واضحة غاية الوضوح.و عصرنا هذا يا أعزائي شبيه بمعركة أحد؛ فإن أحسنّا ستكون الهزيمة من نصيب العدو،و لكن إذا وقعت أبصارنا على الغنائم و لا حظنا بضعة أشخاص يتكالبون على جمع الغنائم،و غلبتنا مشاعر الطمع و تركنا مواضعنا و انهمكنا في الإستحواذ على الغنائم،تنعكس المعادلة حينذاك.

أنتم تعلمون كيف انعكست القضية في معركة أحد،و لقد تكررت معركة أحد على مدى تاريخ الإسلام.

القائد الرباني الذي يرى بصفاء قلبه صفحة الحقيقة انتدب لذلك الموضع فئة من المسلمين و أوصاهم بعدم مغادرة أماكنهم،و أن يحرسوا هذه الجبهة.و لكن ما إن وقعت أبصارهم على الغنائم و شاهدوا أفرادا يحوزون الغنائم،زلزلت القلوب طمعا.

و لو استنطق كل منهم لقالوا:نحن أيضا بشر،و قلوبنا تهوي مستلزمات العيش

ص: 153

الرغيد.هذا صحيح،و لكن لا حظتم النتائج التي أدى إليها هذا الخنوع أمام الأهواء البشرية التافهة؛فقد كسر ضرس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله،و أصيب بجراح،و غلبت جبهة الحق،و انتصر العدو و استشهد الكثير من أكابر المسلمين (1).2.

ص: 154


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:262.

أثر شهادة الحسين عليه السلام

إنّ مسألة الشهادة و التضحية لا يعتريها القدم،بل هي أداة الحركة في المجتمع، إلاّ أنّ البعض يغفل عن هذه الحقيقة،و إن ما ترونه من النظرة السلبية تجاه الشهادة و الإيثار لدى البعض،ناشئ عن غفلتهم،فإنهم لا يدركون ما لصيانة حرمة الشهداء و المضحّين من التأثير على واقع المجتمع و الأمة و البلاد.فكلنا يعلم أن دم الإمام الحسين عليه السّلام سفك في كربلاء،فنال شرف الشهادة العظيم حتى غدا سيد الشهداء، و كان بالإمكان الاكتفاء بهذا الوسام،إلاّ أنه لم يكتف بذلك حيث ألقيت المسؤولية الكبرى منذ اللحظة الأولى على عاتق الإمام السجاد عليه السّلام و زينب الكبرى سلام لله عليها فحملوا ظلامة الإمام و ندائه إلى كافة أنحاء العالم الإسلامي بمختلف الأشكال،و ذلك بغية إحياء الدين الحقيقي و الهدف الذي استشهد الإمام الحسين عليه السّلام من أجله،فأخذ الإمام السجاد عليه السّلام طيلة ثلاثين عاما من عمره الذي عاشه بعد استشهاد أبيه،لا يفتأ يذكر الإمام الحسين و دمه و استشهاده في كل مناسبة،و لم يكن ذلك بهدف الإنتقام من بني أمية،فحتى بعد أن طويت صفحة بني أمية و زال أمرهم،و استتب الأمر لبني العباس،كان الإمام الرضا عليه السّلام يحث الريّان بن شبيب بعقد مأتم لذكر مصائب سيد الشهداء،فلم يكن ذلك إلاّ بهدف بقاء نهج الإمام الحسين علما لحركة الأمة الإسلامية نحو أهداف الإسلام،فلابد أن يبقى هذا العلم قائما،كما أنه لا يزال قائما و لا يزال هاديا إلى يومنا هذا.

ص: 155

نداء الشهداء

نداء الشهداء يدعو إلى عدم الانصياع لهواجس الغنائم.هذا هو نداؤهم لي و لكم و لجميع من يكرّم هذه الدماء الطاهرة المسفوكة ظلما.لا تنظروا إلى من يعصي و يتجه إلى جمع الغنائم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1)،عليكم بأنفسكم و لا يشغلنكم من اختار طريق الغواية.هذا ما يأمر به الإسلام و ما تدعو إليه دماء الشهداء.

يوم استشهد هؤلاء الأعزاء في الجبهة،كان بعض المخلّفين منهمكين في الكسب،و بعضهم الآخر غارق بجمع الأموال،و آخرون منكبين على انتهاز الفرص، و بعضهم الآخر كان منغمسا في الخيانة.أما الشهداء فقد ساروا صوب الجبهات بدون الإلتفات إلى هؤلاء.و كانت النتيجة هي أنهم استطاعوا حفظ النظام الإسلامي،و غدا كل واحد منهم اليوم كوكبا منيرا و نجما ساطعا.

و على هذا يكون النداء الأول هو نكران الذات أمام اللّه تعالى،و أمام عباده،و أمام الإرادة الإلهية.و يجب علينا استيعاب هذا النداء.

يا أعزائي،لا يمكن التغافل عن هذه الحقائق و المرور عليها مرّ الكرام؛إنّها تستدعي من الإنسان العزم و الإرادة.

ص: 156


1- سورة المائدة:105.

الحذر من أعداء اللّه تعالى

النداء الثاني في مقابل أعداء اللّه،و معناه الصمود و الثبات المطلق بوجه العدو و عدم خشيته،و عدم التهيّب منه،أو الإنفعال أمامه،و من المهم جدا أن لا ينفعل المرء مقابل عدوّه.

و اليوم تتركّز جميع مساعي العالم المادي المستكبر-أي الدول الاستكبارية الممسكة بزمام شؤون الإقتصاد و التسليح في العالم،و التي تهيمن في كثير من الحالات أيضا على ثقافة الكثير من البلدان-على تحطيم أية مقاومة حيثما كانت، عن طريق إثارة انفعالها؛الإنفعال أمام العدو من أفدح الأخطاء القاتلة.

العدو يجب أن يؤخذ في الحسبان من حيث عدائه،أي الإستعداد له و عدم الإستهانة به،و لكن لا ينبغي خشيته و لا الوقوع تحت طائلة تأثيره،و لا اتخاذ مواقف انفعالية أزاءه.

العدو يحرص على اثارة انفعالات المجتمعات الأخرى.و هو اليوم أكثر ما يعوّل على هذا الجانب في الأبعاد الثقافية و السياسية؛تارة يثيرون الصخب حول قضية المرأة،و يحدثون ضجّة حول حقوق الإنسان تارة أخرى،أو يتحدثون عن الديمقراطية،أو يؤججون في وقت آخر زوبعة حول حركات التحرر،و غرضهم من كل هذا هو إثارة انفعال الطرف المقابل.و من أكبر الأخطاء أن نتحدث في القضايا التي يثيرون حولها الضجيج الإعلامي،بشكل يوحي و كأننا نريد استرضاءهم،هذا هو الإنفعال.

من الخطأ أن نتحدث في مضمار حقوق الإنسان بأسلوب الإسترضاء لهم؛ لأنهم هم الذين لا يعيرون أية قيمة لحقوق الإنسان بمعناها الحقيقي،إلاّ أنهم جعلوا

ص: 157

منها هراوة يلوّحون بها في بعض بقاع العالم التي يبغون مهاجمتها.

أصبحت أمريكا على رأس دعاة حقوق الإنسان في العالم!قبل اندلاع الحرب المفروضة كانت أمريكا تدرج الحكومة العراقية في قائمة الدول الداعمة للإرهاب.

و في عامي 1361 و 1362 ه(1982-1983 م)حين استطاع مقاتلونا البواسل سحق العدو و إخراجه من أراضينا اضطر العدو البعثي إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية و أسلحة الدمار الشامل ضدّنا،مرتكبا بذلك جريمة حربية.في تلك الظروف كانت الحكومة الأمريكية تعي ضرورة توفير الدعم للجبهة العراقية، ليكون بوسع الحكومة البعثية أداء دورها التآمري ضد نظام الجمهورية الإسلامية.

في تلك السنوات إستخدمت الحكومة البعثية الأسلحة الكيمياوية،فرفعوا حينها إسم العراق من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب!هذا هو أسلوبهم في الدفاع عن حقوق الإنسان.

أكبر مساند لأي نقض لحقوق الإنسان يشاهد في العالم هي الدول المستكبرة من أمثال أمريكا التي أصبحت اليوم داعية لحقوق الإنسان،متخذة إياها كذريعة لتهديد الدول التي تريد مجابهتها!و إذا انبرى جماعة من هذا الجانب و تحدثوا عن حقوق الإنسان لأجل إرضائهم فهو خطأ فادح،و موقف انفعالي أمام العدو.

ص: 158

حكومة إيران من بركات ثورة الحسين عليه السلام

اشارة

أنظروا الى الإسلام في هذا العصر كيف أنّه حيّ و بنّاء.و كيف تتفاءل الشعوب بأنواره الساطعة بعد(1400)سنة و نيف،و كلّ هذا من بركات واقعة كربلاء و من استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام و أصحابه،و قد شاء اللّه أن تكون الجمهورية الإسلامية أوّل تجربة لحاكمية القرآن بعد عهد الإمام الحسين عليه السّلام،فكلّ عمل و جهد بعد تلك الواقعة كان مقدّمة ليومكم هذا.

إنّ العلماء و المفكّرين و الفلاسفة و المتكلّمين،و كلّ الجهود و المساعي، و حروب المسلمين مع الصليبيين،كلّها حفظت الإسلام و مهّدت الأجواء و الظروف لانبثاق حكومة على أساس القيم الإلهية و القرآنية،إنّ الحظ و القدر كان من نصيب الشعب الإيراني ليحمّله الباري تعالى و لأوّل مرّة هذه الرسالة-و لا نقصد من الحظ و القدر الصدفة-فالباري تعالى لا يعطي هذا القدر الرفيع لأحد اعتباطا.

إنّ الشعب الإيراني قد سعى كثيرا؛حتى أنعم اللّه عليه بهذه الحكومة.

إنّ التضحيات و المساعي و الجهود الحثيثة لم تذهب هدرا.فلا يجلس المتقوّلون و السذّج المساكين في زاوية من زوايا العالم و يتصوّرون أنها حكومة إسلامية وقتية و سوف تزول غدا.كلاّ،إنّ هذا الأصل و هذه القاعدة لن تنتهي أبدا،أنا و أنتم ننتهي،الناس لا يخلّدون و أفضل الناس من يموت صالحا،و البعض لا تكون عاقبته خيرا.فالناس معرّضون للآفات و الخسران،لكن الأصل و الأساس باق و خالد.

إنّ هذه الحركة الإسلامية و تجدد الحياة الإسلامية لها جذور في قرون متمادية،

ص: 159

جذور في عشرة قرون من السعي و الجهاد،إنها تعتمد على الإسلام،و لذا تشاهدون ميل الناس نحو الإسلام في العالم أكثر خلال(5-10)سنوات الماضية، برغم شدة الحملات الدعائية المضادة الصهيونية و الإستكبارية؛لتشويه صورة النظام الإسلامي أكثر من أيّ وقت مضى.فانظروا الى الدول الإسلامية و الى الأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية،و انظروا الى مضايقات الإستكبار التي يمارسها ضدّهم،إنها ليست اعتباطية و عفوية،فلو كان المسلمون ك«الميت بين يديّ الغسّال»لما كانت أيّة مضايقات.

فما أريد قوله هو أن عنصر الغربة في هذه الثورة جعلها شبيهة بثورة الإمام الحسين ابن علي عليه السّلام،فلا تستو حشوا هذه الغربة،فقد بلغ الإمام الحسين عليه السّلام و أصحابه-الذين نلطم على صدورنا و نبكي لأجلهم و نحبّهم أكثر من أبنائنا-قمة الغربة،و كانت نتيجة بقاء و حيوية الإسلام الى اليوم.

إذا واقعة كربلاء حيّة و باقية ليس في مجرد قطعة أرض صغيرة فقط و انّما في منطقة مترامية الأطراف في محيط الحياة البشرية(كل يوم عاشوراء و كل أرض كربلاء).

إنّ كربلاء موجودة في كلّ شيء؛في الأدب،في الثقافة،في السنن و الآثار،في الإعتقادات،في القلوب.

و أولئك الذين لم يسجدو للّه،ركعوا و خضعوا لعظمة الإمام الحسين عليه السّلام.

التاريخ يعيد نفسه

فاليوم أنتم غرباء في العالم،و الشعب الإيراني غريب و مظلوم،و ليست الغربة و المظلومية بمعنى الضعف،فنحن اليوم أقوياء جدّا،و أقول بكل جرأة:إنّه لا يوجد اليوم شعب مسلم بقوة و اقتدار الشعب الإيراني.فإيران حكومة و شعبا هما في

ص: 160

ذروة القوة و الإقتدار،و القوى العظمى تنظر باهتمام بالغ إلى حكومتنا،فشعبنا و حكومتنا هما أقوياء و سيّدا أمورهما،و لكن في الوقت ذاته غرباء و مظلومين، نحن اليوم غرباء في العالم،فلا أحد يساندنا،و هذا ليس بمعنى أن جميع القوى تقف ضدّنا و تحاربنا،كلاّ،فلا يفرح الأعداء بتصوّر أنّ جميع القوى مخالفة لنا،طبعا- و إن كانت هكذا-،فلا نبالي نحن بذلك لأنّنا امتحنّا ذلك أيضا،بل الأمر اليوم ليس كذلك،فالكثير من الدول في العالم تشعر أنّ صلاحها و فلاحها في الدنيا يكمن في تحاشي مجابهة الشعب الإيراني،لكن لا يساندنا و لا يدعمنا أحد.

فأعتى القوى المستكبرة في العالم تعادي شعبنا و تتعامى عن حقّه،و توجّه إليه سهام حقدها و اتّهامها و تتناسى و تنكر حسناته و فضائله و تقوم بتضخيم نقاط ضعفه،فغربة و مظلومية الشعب الإيراني يجب أن تقوّيكم أكثر،و إنّني أقول إنها نعمة إلهية.

إنّنا لو كنّا مثل ذلك البلد الثوري-اصطلاحا-في العهد السابق و اليوم لا خبر عنه-الذي كان تحت قوة مستكبرة-كالاتحاد السوفياتي السابق-لفسد الشعب و فسدت الحكومة،فإن ترون سلامة و صلاح الشعب و الحكومة فلأنّنا اعتمدنا على أنفسنا،و هذا ليس بمعنى عدم وجود فساد بين الشعب أو المسؤولين،بل يوجد، لكن التركيبة الأصلية و النقاط الرئيسية و الأعضاء الحساسة سالمة و هذه نعمة كبري،و من بركات بقائنا مستقلين و لم نتوكل على غير اللّه.فقد ورد في الدعاء«يا ملجأ من لا ملجأ له،يا عون من لا عون له،يا حصن من لا حصن له» (1)فكم يكون عذبا و جميلا أن لا يجد الإنسان ناصرا و معينا ليقول«يا عون من لا عون له».

و اليوم فإنّ هذا الشعب لا يعلّق و لا بصيصا من أمل على القوى و الحكومات2.

ص: 161


1- و هو دعاء الفرج،أنظر البحار:282/92.

و الأجهزة المخابراتية و العسكرية و السياسية و المنظمات الدولية،فلم ير منهم سوى السوء و اللدغ،بل يمكنه التكلّم مع الباري تعالى و مولاه و عزيزه و حبيبه بصدق و صفاء و يقول«يا رجاء من لا رجاء له»،و هذا هو الذي يشحن شعبنا بالقوة و الإقتدار.

و قد كان الإمام الخميني هكذا،ذلك الرجل الصلب الذي اتّحد الغرب و الشرق ضدّه لكنه لم يهتم لذلك،فقد كان يذرف الدموع أمام اللّه المتعال في منتصف الليل بحيث كان بعض المقرّبين منه ينقل لي آنذاك انّه عندما كان يبكي الإمام في منتصف الليل،لم يكن المنديل كافيا ليمسح دموعه،بل كان يستفيد من المنشفة، فقوته من تلك القوة.

فنمّو في نفوسكم هذه القوة ليصون الشعب نفسه من الضرر و يحصن الثورة و يزيد من بأسها و صلابتها.

طبعا العدو لن يسكت و سيحاول حياكة المؤامرات،و اليوم لا يتفوّه بشيء،بل يأتي بالأساليب و الإبتسام للعناصر الذليلة و الضعيفة،لينسى هؤلاء صمود و مقاومة هذا النظام للقوى الإستكبارية.

إذا هنا صفّان؛صفّ الإسلام و القرآن و القيم الإلهية و المعنوية و قمّتها الجمهورية الإسلامية و المسؤولون في هذا النظام الذين تحمّلوا هذا العبء الثقيل بفخر و اعتزاز و دون أي خوف أو اكتراث.

و الصف الآخر؛هو لجميع الشياطين و الرذائل و الخبائث في العالم.فمن يملك بيانا،أو قوّة مبتكرة،أو طاقة،فليعلم أين يصرفها،فإن عمد أحد في جبهة الحق أو من خارجها إلى محاربة هذه الجبهة(الحق)-التي تحارب اليوم ضدّ الباطل و الرذائل-لا لشيء سوى لعدم التوجّه الى تلك النكتة أو صدور خطأ أو اشتباه أو

ص: 162

حتى ارتكاب ذنب،فهل هذا محقّ في عمله؟أليس هذا تضييع للقدرة الإلهية، و كفران بالنعمة؟ألا يلام من يضعّف جبهة الحق و المسؤولين و رئيس الجمهورية،و القوة القضائية و المجلس،تحت طائلة أنّ المحكمة الفلانية أو القاضي الفلاني أصدر حكما خطأ،أو أنّ المسؤول الفلاني ارتكب خلافا؟أليس هذا كفران بالنعمة بأن يصرف أولئك كل طاقاتهم و قواهم لمحاربة جبهة الحق بدل من صرفها في مواجهة الباطل؟ألا يستحقّ هؤلاء اللوم الإلهي؟فيجب أن يكون الشعب يقظا و لا يشتبه بين الحق و الباطل (1).9.

ص: 163


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:260-269.

خلود الإمام الحسين عليه السلام الذي أنار التاريخ

معنى الخلود

قال السيد الخامنئي:إنّ كلاّ من هذه الشخصيات التي أنارت التاريخ بشكل أو بآخر-الحسين بن علي عليه السّلام و الإمام السجاد عليه السّلام و أبو الفضل العباس عليه السّلام-كان البعض يظن في حقها و في عهدها،ظنا ماديا باطلا،بأن هذه الشخصيات قد اندثرت بالكامل.

إستشهد الإمام الحسين عليه السّلام في الغربة مع جميع من كان معه من الشباب و الشخصيات البارزة من عائلته-الأخوة و الأولاد و الأقارب و الصحابة الغيارى- و دفنوا في منتهى الغربة،و لم يشيّعوا،و لم يقم أحد عليهم العزاء.

ظن البعض باطلا أن بقاء هذه الثلة قد يثير عندهم غريزة الإنتقام،كما كان ذلك البعض يتصور أنّ المسألة ستنتهي بالقضاء على الإمام الحسين عليه السّلام و أصحابه.

يبدو ظاهريا أن الإمام السجاد عليه السّلام عاش بعد الإمام الحسين عليه السّلام مدة أربع و ثلاثين سنة في حالة انزواء دون أن يشكّل تكتلا أو جماعة أو عسكرا أو تمردا.أما أبو الفضل فقد استشهد في يوم عاشوراء.

لقد كانت تصورات القوى المادية-التي تحكم الناس بمنطق مادي-أن الأمر قد انتهى بمجرد القضاء على هذه الشخصيات؛لكن واقع الأمر كان مختلفا عمّا كانوا يتصورون،فلم يقض عليهم،بل خلّدوا،و أخذ جلالهم و جاذبيتهم و تأثيرهم يزداد يوما بعد آخر،فقد استولوا على قلوب الناس و فتحوها،فزادوا من دائرة وجودهم.

ص: 164

و اليوم يتبرك بأسمائهم مئات الملايين-من الشيعة و غير الشيعة-و ينهلون من كلامهم،و يبجّلون ذكراهم؛إنه النصر في التاريخ،نصر حقيقي و خالد.

سبب خلود واقعة عاشوراء

إنّ السؤال الذي ينصرف إليه الذهن هو:ما واقع الأمر؟و ما هو سبب البقاء و الخلود؟

برأيي أنها من الحقائق الأساسية،و في الوقت نفسه من أوضح الحقائق و أشدها رواجا في حياة البشرية،إلا أن شأنها شأن جميع الحقائق الواضحة و البديهية،فلا يلتفت إليها ذهن الغافل.

إن حقائق العالم جميعها حقائق مهمة؛كالشمس و القمر و الليل و النهار و مجيء الفصول المختلفة،و الحياة و الموت؛إن للإنسان في كلّ من هذه الحوادث درسا جديرا بالتدبّر،إلاّ أنّ الغافلين لا يلتفتون إليها،بينما يعتني بها المتدبرون و ينهلون منها زادهم.

نوعان من عوامل القدرة

إن الحقيقة التي أشرنا إليها هي من تلك الحقائق الواضحة التي كانت على مرّ العصور؛و هي أنّ هنالك نوعين من عوامل القدرة:نوع من العوامل المادية،و النوع الآخر هو القدرة الناشئة عن عوامل معنوية.

إن عوامل القدرة المادية هي المال و القوة و التي مارسها الجبابرة على طول التاريخ،و لم يكتب البقاء لهذه القدرة إلاّ أياما معدودة.انظروا إلى جبابرة العالم حيث عمّروا طويلا خاضوا فيه المعارك و سعوا و مارسوا السياسة لأجل اقتطاف ثمار ما دامت لهم إلاّ سنوات قليلة؛أي لا شيء في الواقع.

ص: 165

عوامل القدرة المعنوية سبب الخلود

إلاّ أنّ هناك عوامل للقدرة المعنوية،و هي الإيمان و الطهر و التقوى و الصدق و الحقانية،و القيم الدينية مقترنة مع الجهاد و السعي؛فهذه القدرة قدرة خالدة، و هذه القدرة لا تعني الأخذ و التكنيز و الربح و التمتع،بل هي قدرة التاريخ الخالدة، و قدرة التحكم بمصير البشرية؛كما هو الحال بالنسبة للأنبياء عليهم السّلام،فهم أحياء حتى اليوم.كما أن زعماء العدل و الحق لا زالوا أحياء في تاريخ البشرية.

و ما يعني ذلك؟إنّ ذلك يعني أنّ النهج الذي سعوا و جاهدوا و ناضلوا في سبيل توطينه في نفوس البشرية،أصبح خالدا و صار مفهوما لازالت البشرية تنهل منه الدروس.

إن الخيرات و الصالحات و المحاسن التي نجدها عند البشرية اليوم ناشئة من تلك الدروس و هي استمرار لمساعي الأنبياء عليهم السّلام و المصلحين و الخيّرين،فهذه تبقى و تخلد.

إنّ الإمام الحسين عليه السّلام كان يملك عوامل القدرة المعنوية،و رغم أنه استشهد في النهاية،إلاّ أن جهاده ما كان لأجل التمتع بلذائذ الدنيا لأيام معدودة،لكي نقول إنه خسر المعركة بشهادته؛بل إن جهاده كان لأجل إبقاء منهج التوحيد و حكومة الله و منهج الدين و النجاة و صلاح الإنسان،و تخليد هذا المنهج في حياة البشرية؛و كان ذلك في وقت يسعى فيه البعض لأن يمحو هذا المنهج كليا،و أنتم ترون نماذج من أولئك اليوم!

في وقت ما كانت هذه القضايا تعد تصورات ذهنية إذا ما طرحت،إلاّ أنّ هذه الحقائق الذهنية تحققت اليوم و أصبح لها واقع،حيث ترون أن جبابرة عالم اليوم ينفقون الأموال و يصرون في ممارساتهم لأجل الحؤول دون تحكم الدين،و لأجل

ص: 166

محو الدين من الدنيا..

حصل في جزء من العالم أن انتفض شعب،و حكّم القيم الدينية خلافا لرغبات الجبابرة.و هذا درس للعالم و الشعوب الأخرى..إن مساعيهم اليوم هي لا لأجل إسقاط النظام فحسب،بل لأجل محو أصل المسألة من ذهن البشر و من مجموعة الدروس الخالدة،للحؤول دون تعليم هذا الدرس للآخرين لا اليوم و لا في المستقبل.

إن مساعيهم الإعلامية لأجل هذا.و إلاّ فإنا إذا فرضنا أن نظاما صاحب رؤية و حقيقة و فكر و إيمان كان قائما هيكليا و مفارقا لأفكاره و روحه؛فالشخصيات فيه موجودة إلا أنها بريئة من أفكاره و روحه،إن هكذا نظام فاشل،و محقق لمآرب أعدائه.

إن زوال الدين هو المهم عندهم،و أهمية ذلك أكثر من أهمية القضاء على الشخصيات،و أكثر من القضاء على التكتلات السياسية و العسكرية التي لا يرتضونها.المهم هو القضاء على الفكر و الأهداف و الدوافع (1).7.

ص: 167


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:245-247.

تحكيم الدين هو العامل للقدرة المعنوي

إن أعظم سر للفشل هو أن يصرح رافعو الراية و زعماء الدعوة بخطئهم!إنكم من ذوي الفكر و التحليل،و ترون الدنيا اليوم تبحث عن هذا؛إن هذا هو الهم و هو الهدف الرئيس للجهاز الإستكباري أزاء المسلمين و الجمهورية الإسلامية.

إن الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء و الصالحين و الشهداء و عظماء التاريخ نجحوا في هذا الجزء من القضية،و هو الجزء الأهم،فالإنسان يموت في نهاية أمره،و كذا الجبابرة و المالكون و المنتفعون،و هذا ليس مهما،المهم هو بقاء و خلود ذلك الخط و المنهج، و الطريق الذي يشار إليه بالبنان،و هذا ما نراه حاليا،فإن الطريق خلد،و لا يزال يتسع و يشغل حيزا أكبر.

في يوم من أيام أول قرنين مضيا على تجديد الحياة الصناعية في أوروبا حيث توجّهوا إلى العلم،تصوّروا أنّ الدين رحل من الدنيا.و إن ما ترون اليوم من أفكار يجريها بعض القادمين توا إلى ساحة الفكر و السياسة على ألسنتهم هي في الحقيقة كلمات فلاسفة و ساسة أوروبا في القرن التاسع عشر،كانوا يتصورون أنّ الدين قد انتهى،و تجربتهم في هذا المجال تكشف عن أنّ الدين ملوث بالخرافات و ممتزج بالظلمات،و ما استطاع المقاومة أمام العلم،و ولّى.إنهم تصوّروا أنّ الدين في أي بقعة من العالم هو نفسه الذي كان في أوروبا،أي من نفس النوع المسيحي، و التدين هو نفسه في أي مكان وجد،و كذا التعصبات و ما تخللها من فساد كبير.

إنهم تصوّروا أنّ الدين قد انتهى،و قد انحلّت مشكلة الدين في الدنيا،فبدأوا بتقويم و ترتيب-حسب تصورهم-ما ترسّب في أعماق البشر و زوايا وجودهم

ص: 168

من الدين و التدين،و أخذوا بهدم ذلك المقدار من الدين.

إنكم تلاحظون اليوم أنّ الدوافع الدينية و التوجه إلى الدين و إلى المعنوية، و بخاصة في ذلك المجال المشترك و الخالص من الدين-أي الجانب المعنوي و ما تهوى إليه القلوب من المعنوية قد ملأ الدنيا و أخذ بالإزدياد يوما بعد آخر،لكن ما يؤسف له أنّ هذا الشعور العرفاني شعور سطحي في الأماكن التي لا تحظى ببنى إعتقادية و فكريّة على غرار البنى التي يتمتع بها الإسلام.

إنّ البنى إذا بلغت المستوى الموجود في الإسلام فإنّ الشعور و الأحاسيس الناشئة منها ستصبح قيّمة للغاية.

و على هذا فقد حصل عكس ما توقّعوه؛و هذا هو العامل المعنوي للقدرة؛و هو عينه ما حصل في الثورة،و هو ذاته ما حصل لحرّاس الثورة (1).9.

ص: 169


1- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:249.

ص: 170

الفهرس

أهداف النهضة الحسينية

خلاصة النهضة الحسينية 3

مميزات حكومة النبي الأكرم 9 4

حكومة النبي بعد خمسين عاما 5

الفرق بين الإمامة و السلطنة 6

حكومة يزيد سلطنة 6

ثورة الحسين عليه السلام بوجه السلطنة 8

أبعاد ثورة الإمام الحسين عليه السلام 9

1-عزة و مجد في الثورة ضد الباطل 12

2-عزة و مجد في تجسيد المعنويات 15

تقديم الفضيلة على الرذيلة 15

درس من كربلاء 16

3-عزة و مجد رغم المصائب و الفجائع 17

مواقف كربلاء دروس خالدة للبشرية 18

4-إصلاح الدنيا و الآخرة 20

الإصلاح كان هدف الإمام الحسين الأول 21

سببان لترك العزّة 22

الموقف الذي خطّه الحسين عليه السلام في سجلّ التأريخ 24

ص: 171

لم يكن خروج الحسين عليه السلام للحرب 24

5-تشخيص الوظيفة العملية و أثره 26

تكليف الإمام الحسين عليه السلام 29

الحذر في تشخيص العدو 30

تكليف المسلمين 32

6-الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر 34

كيف يتمّ الأمر بالمعروف 37

7-التصدي للطواغيت 39

أثر عدم تصدي الحسين عليه السلام للطواغيت 42

8-رؤية جديدة لثورة الحسين عليه السلام 43

ليس الهدف هو إسقاط حكومة يزيد 44

ليس الهدف هو الشهادة 44

إقامة الحكومة و الشهادة نتيجة و ليست هدفا 45

الهدف الحقيقي:أداء تكليف من نوع خاص 45

شرح أبعاد هدف الثورة الحسينية 48

التكليف لا تسقطه المخاطر 51

تقارب ثورة الحسين و الخميني في الهدف و افتراقهما في النتيجة 53

خلاصة القول 53

أدلة رؤيتنا في ثورة الإمام الحسين عليه السلام 55

الدليل الأول:55

الدليل الثاني:56

الدليل الثالث:56

الدليل الرابع:57

ص: 172

الدليل الخامس:58

الدليل السادس:58

أهداف نهضة عاشوراء 60

ضحّى سيد الشهداء بنفسه من أجل الإسلام 64

هدف الإمام الحسين عليه السلام و شعاره و سبيله 65

لبى الإمام نداء أهل الكوفة إتماما للحجة 69

ذهب إلى العراق لاتمام الحجة لا لقول بني عقيل 71

نظرة أخرى في الأهداف العظيمة 72

1-الدفاع عن الإسلام 72

2-حماية الإمام و الدفاع عنه 73

3-تحرير الأمة من الجور 74

4-النزعات الفذة 75

1-الإباء و العزة 75

2-البسالة و الصمود 75

آثار ثورة عاشوراء

هل تحققت آثار ثورة عاشوراء؟79

ماذا كان هدف الحسين عليه السلام من الثورة 79

آثار ثورة عاشوراء التاريخيّة

بركات طريق الإمام الحسين عليه السلام 84

عاشوراء قمة المعارف 88

تبيين ثورة الحسين عليه السلام 90

ص: 173

إحياء الإسلام و بيان حقائقه 93

صبر الإمام الحسين صان الإسلام 94

عاشوراء و بقاء الإسلام 95

بقاء الدين حيّ بفضل تضحية الحسين عليه السلام 96

تحقيق الحسين متطلبات الإنسان في ظل أحكام الدين 98

أوّل استفادة من عاشوراء 100

آثار و نتائج نهضة أبي عبد اللّه 7 103

حماية الإسلام و جهود النبي 103

حالة مدرسة الخلفاء بعد استشهاد الحسين عليه السلام 110

أ-عطاء و حبوة:110

ب-ندم عصبة الخلافة بعد ظهور نتائج أفعالهم:111

معطيات الثورة 113

انتصار القضية الإسلامية 113

هزيمة الأمويين 114

مظاهر هزيمتهم 115

أ-تجريدهم من الواقع الإسلامي 115

ب-شيوع النقمة و الإنكار عليهم 116

ج-تحول الخلافة عن بني أمية 116

التدليل على واقع أهل البيت:116

تركيز التشيع 117

توحيد صفوف الشيعة 118

تكوين الحس الاجتماعي 118

تفجير المواهب 119

ص: 174

منابر الوعظ و التوجيه 121

فلسفة عاشوراء

كلّما تأملنا في عاشوراء وجدنا جديدا 122

المعارف في عزاء الحسين عليه السلام 122

كثرة المصائب خلّدت واقعة عاشوراء 123

أثر التذكير بالمصائب 126

علم الإمام عليه السلام بوقائع عاشوراء 127

عناصر نهضة الإمام الحسين عليه السلام

1-المنطق و العقل في ثورة الحسين عليه السلام 129

2-الحماس و العزة 132

3-دور العاطفة في كربلاء 134

العواطف في ثورة عاشوراء 136

بين الأسلوب العقلي و الأسلوب العاطفي 138

الوجه الآخر لملحمة عاشوراء 141

خصائص النهضة الحسينيّة

رمز خلود نهضة الحسين عليه السلام 142

الإخلاص في خروج الحسين عليه السلام 142

ما كان لله ينمو و ما كان للشيطان يضمحل 143

الإخلاص في ثورة الإمام الخميني 144

غربة الحسين عليه السلام و أثرها في المعركة 146

ص: 175

عظمة شهداء الحسين عليه السلام يوم القيامة 148

لا يقارن أحد بشهداء كربلاء 149

حفظ طريق الشهداء 149

شهداء الحسين عليه السلام منار الدروب 150

حفظ دماء شهداء الحسين عليه السلام 150

للشهداء حركتان و موقفان 151

الحسين عليه السلام قدوة للإيثار 151

أثر التخلي عن الإيثار 153

أثر شهادة الحسين عليه السلام 155

نداء الشهداء 156

الحذر من أعداء اللّه تعالى 157

حكومة إيران من بركات ثورة الحسين عليه السلام 159

التاريخ يعيد نفسه 160

خلود الإمام الحسين عليه السلام الذي أنار التاريخ

معنى الخلود 164

سبب خلود واقعة عاشوراء 165

نوعان من عوامل القدرة 165

عوامل القدرة المعنوية سبب الخلود 166

تحكيم الدين هو العامل للقدرة المعنوي 168

الفهرس 171

ص: 176

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.