الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام المجلد 16

اشارة

الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام

نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي

مکان نشر: لبنان - بيروت

سال نشر: 2009م , 1430ق

چاپ:1

موضوع:اسلام، تاریخ

زبان :عربی

تعداد جلد: 20

کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

الجزء السادس عشر

إمتداد ثورة الإمام الحسين عليه السلام و آثارها

أثر استشهاد الحسين عليه السلام

اعلم أيها القارىء أن القوم قتلوا ذرية الرسول محمد صلّى اللّه عليه و اله و مثّلوا بهم و طافوا بآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله سبايا في بلاد المسلمين،و المسلمون بمرأى و مسمع!.

كل تلك الأحداث الجسام وقعت بين كربلاء و الكوفة و الشام في أقل من شهرين من خروج الحسين عليه السّلام من مكة يوم التروية.

و كان قد بلغ خبر خروج الإمام على خليفة المسلمين مع عودة الحاج إلى كل فج عميق.

و كان طبيعيا أن يتنسم المسلمون أخباره بعد ذلك،و تبلغهم أنباء تلك الفجائع فجيعة بعد فجيعة،و تنكسر لتلك الأنباء قلوب المؤمنين و يحزنوا.

و كان وقع المصيبة حقا عظيما على من بلغه نبأها من المسلمين،فقد وقعت الصيحة في دار يزيد،و شمل الإنكار عليه أهل مجلسه و مسجده،و أينما بلغت أخبار فظائعه،و انقسم المسلمون أثر هذه الفجيعة إلى قسمين:قسم انضوى تحت لواء الخلافة لا يثنيه عن ولاء الخليفة قتل ذرية الرسول و لا استباحة حرمه و لا هدم الكعبة بل ازدادوا قساوة و فضاضة.

و قسم آخر انكسر مقام الخلافة في نفسه و تبرّأ من فعل عصبة الخلافة و خرج عليهم،مثل أهل المدينة في وقعة الحرة و غيرهم ممن ثاروا على عصبة الخلافة.

ص: 3

و توالت الثورات و الخروج على الخلافة من قبل الفريق الآخر،و قليل من هذا الفريق عرفوا حق أئمة أهل البيت عليهم السّلام و اتبعوهم و ائتموا بهم و كان بدء ذلك على عهد قيام الإمام الحسين،كما فعل زهير بن القين الذي كان عثمانيا و أصبح بعد الإجتماع بالامام علويا حسينيا،و الحر بن يزيد الرياحي أحد قادة جيش الخلافة لحرب الإمام الذي تاب و استشهد دون الحسين عليه السّلام.

هذا القليل من هذا الفريق أدرك مجانبة الإسلام مع سيرة الخلافة القائمة و آمن بصحة إمامة أئمة أهل البيت و تهيأت نفسه لقبول أحكام الإسلام الذي جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و الذي كان مخزونا لدى أئمه أهل البيت عليهم السّلام يتوارثونه كابر عن كابر،و من ثم أمكن نشر أحكام الإسلام و تبليغها من جدد يعني بذلك أئمة أهل البيت و بدأ العمل لذلك الإمام السجاد فمهّد له في مرض وفاته كما يلي (1).3.

ص: 4


1- معالم المدرستين للعسكري:320/3.

صدى الثورة المباركة

قال السيد محمد باقر القرشي:لقد أثارت كارثة كربلاء موجة رهيبة من القلق النفسي و الانفعالات العميقة التي سيطرت على نفوس المسلمين،و دفعتهم إلى العمل السياسي و التكتل الإجتماعي للإطاحة بالحكم الأموي،و الإنتقام من السفكة المجرمين.

لقد كانت الأرض تستعر حربا منذ قتل الحسين فقد هبّت الشعوب الإسلامية كالمارد الجبار و هي تعلن سخطها العارم على الحكم الأموي و تعمل على سقوطه، و من بين هذه الثورات:

ثورة عبد الله بن عفيف

و هي أول ثورة في الكوفة بعد قتل الإمام مباشرة،قام بها البطل العظيم عبد الله ابن عفيف الأزدي،فكان أول من أطلق شرارة الثورة و أحال النصر الكاذب الذي أحرزه ابن مرجانة إلى هزيمة،و قد تحدثنا عن فصولها في البحوث السابقة.

ص: 5

ثورة المدينة

و الشيء المحقق أن الثورة في يثرب كانت امتدادا لثورة أبي الشهداء عليه السّلام فقد كانت النفوس تغلي كالمرجل غيظا و حنقا على يزيد لانتهاكه حرمة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله في قتله لعترته و سبيه لذراريه.

و قد أفعمت القلوب حزنا و ألما حينما رجعت سبايا أهل البيت عليهم السّلام إلى المدينة و جعلت تقص على أهلها ما جرى على ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله من عظيم الرزايا و فوادح الخطوب،و ما عانته عقائل النبوة و مخدرات الوحي من الأسر و السبي.

لقد كانت شقيقة الحسين و حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و اله زينب تلهب العواطف للطلب بثأر أخيها.

و قد رأى أهل المدينة أن الخروج على يزيد واجب شرعي فخلعوا بيعته رسميا و أعلنوا الثورة على حكومته،و قد عهد يزيد إلى المجرم الأثيم مسرف بن عقبة المري باحتلال يثرب و ضم إليه جيشا مكثفا قوامه اثنا عشر ألفا من أهل الشام، و قد أمره أن يبيحها لجنده ثلاثة أيام يصنعون بأهلها ما يشاءون و ينهبون من أموالهم ما يحبّون.

و زحف مسرف بجنوده إلى المدينة فاحتلها،و قد أباحها لجنده ثلاثة أيام فقتلوا و نهبوا و استباحوا كل ما حرّمه اللّه،ثم أخذ البيعة من أهلها على أنهم خول ليزيد، و من أبى ضربت عنقه،و قد حدثت من الرزايا في تلك الواقعة ما تذوب منه النفوس، و قد ذكر المؤرخون صورا مروعة و محزنة مما حل بالمدنيين فكانت هذه الكارثة

ص: 6

كفاجعة كربلاء و قد دفعت الشعوب الإسلامية إلى التكتل السياسي للعمل ضد الحكم الأموي و الإطاحة به.

ص: 7

ثورة المختار

اشارة

و المختار من أشهر الشخصيات العربية التي عرفها التاريخ الإسلامي و قد لعب دورا خطيرا في الأحداث السياسية و الاجتماعية في ذلك العصر كما كان من ألمع السياسيين في رسم المخططات و وضع المناهج،و السيطرة على الموقف،و قد أثبتت كفاءته أنه رجل الفكر و العمل،يقول بعض الكتاب عنه:«إنه كان على جانب كبير من الدراية بعلم النفس و الإلمام بوسائل الدعاية و الإعلام،فقد كان يخاطب عواطف الناس كما كان يخاطب عقولهم،و كان لا يكتفي بوسائل الدعاية المعروفة حينئذ كالخطابة و الشعر بل لجأ إلى وسائل كثيرة للدعاية منها التمثيل و المظاهرات و الإشاعات،كما لجأ إلى ما نسميه الآن بالانقلاب العسكري حينما انتزع الكوفة من ابن الزبير».

و كان علما من أعلام الشيعة،و سيفا من سيوف آل رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و كان يتحرق كأشد ما يكون التحرق ألما و جزعا على العترة الطاهرة التي أبادتها سيوف الباطل،و قد سعى جاهدا للاستيلاء على الحكم لا لرغبة فيه،و إنما ليأخذ ثأر آل البيت و ينتقم من قتلهم.

و قد اتهم هذا العملاق العظيم باتهامات رخيصة كاتهامه بادعاء النبوة و غيرها من النسب الباطلة التي هي بعيدة عنه و هو برىء منها،و إنما اتهموه بذلك لأنه طلب بثأر الإمام العظيم،و زعزع كيان الدولة الأموية،و أسقط هيبة حكمها و ساوى بين العرب و الموالي،فلم يميز أحدا على أحد،و قد رام السير في أيام حكمه على ضوء

ص: 8

منهاج سياسة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام،و الإقتداء بسلوكه في سياسته الإقتصادية و الإجتماعية.

و كان على جانب كبير من التقوى و الحريجة في الدين،و يقول المؤرخون إنه كان في أيام حكومته القصيرة الأمد يكثر من الصوم شكرا لله تعالى على توفيقه للأخذ بثأر العترة الطاهرة،و إبادته للأرجاس من السفكة المجرمين.

لقد ألصقوا بهذا العملاق العظيم التهم الزائفة للحط من شأنه و التقليل من أهميته،و أنا بعد دراستنا لشؤونه رأيناه من أفذاذ التأريخ و من أعلام الأمة الإسلامية بما يملك من طاقات هائلة من الفضل و التقوى و أصالة الفكر و عمق الرأي و حسن التدبير،قلّ أن يتصف بمثلها عظماء الرجال و عباقرة الدهر...و كان بودي أن أطيل الوقوف للتحدث عن معالم شخصيته الكريمة،و التحدث عن ثورته و كيفية استيلائه على الحكم إلا أن ذلك يستدعي وضع كتاب خاص به،و عسى أن أوفق إلى ذلك إن شاء الله،و قبل أن أقفل الحديث عنه أشير على سبيل الإيجاز إلى بعض الجهات التي تمّت إلى الوضوع:

فزع السفكة المجرمين

و ساد الرعب و استولى الخوف على نفوس السفكة المجرمين من قتلة ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فقد كانوا على يقين أن ثورة المختار إنما قامت للإنتقام منهم،فهام بعضهم من خوفه في البيداء و لم يعلم له خبر،وفر آخرون إلى عبد الملك ليحميهم من سطوة المختار و غضبه،و قد خاطبه شخص منهم قائلا:

أدنو لترحمني و ترتق خلتي و أراك تدفعني فأين المدفع

و جاء إليه عبد الملك بن الحجاج التغلبي لاجئا فقال له:

ص: 9

«إني هربت إليك من العراق».

فصاح به عبد الملك بن مروان:

«كذبت ليس لنا هربت،و لكن هربت من دم الحسين و خفت على دمك فلجأت إلينا».

كما هرب بعضهم إلى ابن الزبير و انضم إلى جيشه و قاتل معه لا إيمانا بقضيته و لكن خوفا من المختار،و قد عمد المختار إلى هدم دورهم و الإستيلاء على جميع ممتلكاتهم،و قد هدم دار محمد بن الأشعث و أخذ أنقاضها و بنى بها دار الشهيد العظيم حجر بن عدي و كان قد هدمها زياد ابن أبيه.

و أما الخبيث الدنس عمر بن سعد فقد قبع في بيته فزعا مرعوبا،و هو يزج بالشخصيات للتوسط لدى المختار في أخذ الأمان له و العفو عنه و كتب له المختار الأمان بشرط أن لا يحدث حدثا و لكنه وارى في ذلك و أراد أن لا يدخل بيت الخلاء.

لقد ارعب المختار قلوب المجرمين من قتلة الإمام حتى زلزلت الأرض تحت أقدامهم و اجتاحتهم موجات عاتية من الخوف و الإرهاب فلم يهنأ أحد منهم بعيش فقد خيم عليهم شبح الموت.

الإبادة الشاملة

و أسرع المختار إلى تنفيذ حكم الإعدام بكل من اشترك في قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فقد جهد على الانتقام منهم و تطهير الأرض من أولئك الأرجاس،و قد قتل منهم فيما يقول الطبري في يوم واحد مائتين و ثمانين رجلا،و لم يفلت أحد من قادتهم و زعمائهم،فقتل المجرم الخبيث عبيد الله بن زياد،و عمر بن سعد مع ولده حفص،و قتل الأبرص شمر بن ذي الجوشن،و رميت بجيفته إلى الكلاب،و قتل قيس

ص: 10

ابن الأشعث و الحصين بن نمير،و شبث بن ربعي و غيرهم.

و قد استجاب الله دعوة الإمام العظيم في أولئك السفكة المجرمين فقتلهم قتلة بقتلة،و سقاهم كأسا مصبّرة،و انتقم منهم كأشد ما يكون الانتقام،و صدق الله تعالى إذ يقول: وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (1)و يقول الزهري:لم يبق من قتلة الحسين أحد إلا عوقب في الدنيا إما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة.

لقد حقّت عليهم كلمة العذاب في الدنيا،و هم في نار جهنم خالدون،لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن ثورة المختار التي هي من أنبل الثورات و أكثرها أصالة في الإسلام فقد استهدفت الأخذ بثأر العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم حسبما يقول الرسول صلّى اللّه عليه و اله كما استهدفت نشر المساواة و العدالة الاجتماعية بين الناس.

فتحيات من الله و رضوان على المختار يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيا.2.

ص: 11


1- هود:102.

استمرار الثورة

و لم يؤد القضاء على ثورة المختار من قبل ابن الزبير إلى ضعف الروح الثورية عند الشيعة،فقد كانت هناك ثورات أخرى فجّرها أحفاد الإمام الحسين و أحفاد أخيه الإمام الحسن،فقد هبّ لمقارعة الظلم و الجور الثائر العظيم زيد بن علي، و أشعل نار الثورة من بعده ولده يحيى و هم ينادون بمبادىء الحسين و يطلبون بثأره،و استمرت الثورات حتى تدفقت الرايات السوداء مع طلائع الجيوش الإسلامية بقيادة أبي مسلم الخراساني فأطاحت بالعرش الأموي،و قضت على معالم زهوه و جبروته.

و بهذا ينتهي بنا البحث-بإيجاز-عن معطيات الثورة التي تحققت على الصعيد الفكري و الاجتماعي و بها تطوى الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب،و أكرر ما أعلنته غير مرة من أن هذا المجهود بما فيه من سعة و شمول و استيعاب فإنه لا يمثل إلا صفحة من حياة هذا الإمام العظيم الذي احتل مشاعر الناس و عواطفهم، و قام في قلوبهم و أفكارهم،و اني على ثقة أن جميع ما ألّف فيه و ما سيؤلّف لا يستوعب جميع نواحي شخصيته أو يلم بواقع حياته التي هي امتداد لحياة جده الرسول صلّى اللّه عليه و اله و ما ينشده من الخير و التوجيه لصالح الإنسان (1).

و سوف يأتي تفصيل ثورة المختار في المجلدان السابع عشر و الثامن عشر.

ص: 12


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:206/3-312.

ثورة أهل الحرمين

اشارة

قال السيد مرتضى العسكري:لم أقصد في ما أوردت من أخبار مقتل الإمام الحسين عليه السّلام استقصاء أخبار مقتله و لا تحقيق حوادثه،و لا بيان زمانها و تحديد مكانها،بل توخيت في ما أوردت فهم آثار مقتله على مدرستي الإمامة و الخلافة في الإسلام و كان يكفيني في هذا الصدد ما أوردته على سبيل التنبيه و الإشراف.

و كان من آثار مقتله على مدرسة الخلافة ثورات المسلمين المستمرة على حكم آل أمية و في مقدمتها ثورة أهل الحرمين كما نبينها في ما يلي:

قال المسعودي:لما شمل الناس جور يزيد و عماله،و عمّهم ظلمه و ما ظهر من فسقه من قتله ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و أنصاره و ما أظهر من شرب الخمور، و سيره سيرة فرعون بل كان فرعون أعدل منه في رعيته و أنصف منه لخاصته و عامته (1)إمتنع ابن الزبير من بيعة يزيد،و كان يسمّيه السكير الخمير،و كتب إلى أهل المدينة ينتقصه،و يذكر فسوقه،و يدعوهم إلى معاضدته على حربه (2).

و قال الطبري و غيره:لما قتل الحسين عليه السّلام قام ابن الزبير في أهل مكة و عظّم مقتله و عاب على أهل الكوفة خاصة،و لام أهل العراق عامة،فقال بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه و صلى على محمد صلّى اللّه عليه و اله:إن أهل العراق غدر و فجر إلاّ قليلا و إن أهل

ص: 13


1- مروج الذهب 68/3،و تاريخ ابن كثير 219/8.
2- التنبيه و الاشراف ص 263.

الكوفة شرار أهل العراق و إنهم دعوا حسينا لينصروه و يولوه عليهم فلما قدم عليهم ثاروا إليه فقالوا له إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد ابن سمية سلما فيمضي فيك حكمه و اما أن تحارب،فرأى و اللّه أنه هو و أصحابه قليل في كثير و إن كان اللّه عزّ و جلّ لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول و لكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم اللّه حسينا و أخزى قاتل حسين،لعمري لقد كان من خلافهم إياه و عصيانهم ما كان في مثله واعظ و ناه عنهم و لكنه ما حم نازل و إذا أراد اللّه أمرا لن يدفع أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم و نصدّق قولهم و نقبل لهم عهدا لا،و لا نراهم لذلك أهلا،أما و اللّه لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه،كثيرا في النهار صيامه،أحق بما هم فيه منهم،و أولى به في الدين و الفضل،أما و اللّه ما كان يبدل في القرآن الغناء و لا البكاء من خشية اللّه الحداء،و لا بالصيام شرب الحرام.

و لا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد-يعرض بيزيد- فسوف يلقون غيا،فثار إليه أصحابه،فقالوا له:أيها الرجل أظهر بيعتك فإنه لم يبق أحد إذ هلك حسين ينازعك هذا الأمر،و قد كان يبايع الناس سرا و يظهر أنه عائذ بالبيت،فقال لهم:لا تعجلوا و عمرو بن سعيد بن العاص يومئذ عامل مكة و قد كان أشد شيء عليه و على أصحابه،و كان مع شدّته عليهم يداري و يرفق فلما استقر عند يزيد بن معاوية ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة أعطى اللّه عهدا ليوثقنه في سلسلة فبعث بسلسلة من فضة فمر بها البريد على مروان بن الحكم بالمدينة فأخبر خبر ما قدم له و بالسلسلة التي معه فقال مروان:

خذها فليست للعزيز بخطة و فيها مقال لامرئ متضعف

ثم مضى من عنده حتى قدم على ابن الزبير فأتى ابن الزبير فأخبره بممر البريد على مروان و تمثل مروان بهذا البيت فقال ابن الزبير:لا و اللّه لا أكون أنا ذلك المتضعف ورد ذلك البريد ردا رفيقا و علا أمر ابن الزبير بمكة و كاتبه أهل المدينة

ص: 14

و قال الناس أما إذ هلك الحسين عليه السّلام فليس أحد ينازع ابن الزبير (1).

رسل يزيد مع ابن الزبير

روى خبر رسل يزيد مع ابن الزبير ابن أعثم و الدينوري و غيرهما و اللفظ لابن أعثم قال:و تحرك عبد اللّه بن الزبير و دعا إلى نفسه (2).

قال:و لما بلغ يزيد بن معاوية ما فيه عبد اللّه بن الزبير من بيعة الناس له و اجتماعهم عليه دعا بعشرة نفر من وجوه أصحابه منهم النعمان بن بشير الأنصاري،و عبد اللّه بن عضاءة الأشعري..

ثم قال لهم:إن عبد اللّه بن الزبير قد تحرّك بالحجاز و أخرج يده من طاعتي و دعا الناس إلى سبي و سب أبي و قد اجتمعت إليه قوم يعينونه على ذلك،صيروا إليه، فإذا دخلتم عليه فعظّموا حقه و حق أبيه،و سلوه أن يلزم الطاعة و لا يفارق الجماعة فإن أجاب فخذوا بيعته و إن أبى فخوّفوه ما نزل بالحسين بن علي و ليس الزبير عندي بأفضل من علي بن أبي طالب و لا ابنه عبد اللّه بأفضل من الحسين و انظروا أن لا تلبثوا عنده فإني متعلق القلب بورود خبركم علي،فخرج القوم إلى مكة و دخلوا على ابن الزبير و أدوا إليه رسالة يزيد فقال:و ما الذي يريد مني يزيد إنما أنا رجل مجاور لهذا البيت عائذ به من شر يزيد و غير يزيد،فإن تركني فيه و إلا انتقلت عنه إلى بلد غيره و كنت فيه إلى أن يأتيني الموت،ثم أمر لهم بمنزل فصاروا إليه يومهم ذلك و لما كان من الغد خرج فصلى بأصحابه الفجر،ثم أقبل فجلس في الحجر و اجتمع إليه أصحابه،و أقبل إليه هؤلاء الوفد الذين قدموا عليه من عند يزيد،

ص: 15


1- معالم المدرستين للعسكري:178/3.
2- الاخبار الطوال للدينوري ص 263،و قد أوردتها ملخصة من فتوح ابن أعثم 262/5-290.

و تكلموا كلاما يرجون به اتباعه ليزيد و طاعته له،قال:فأقبل إليه النعمان بن بشير فقال:بلغ يزيد عنك أنك تصعد المنبر فتذكره و تذكر أباه معاوية بكل قبيح و أنت تعلم أنه إمام و قد بايعه الناس،و لا نحب لك أن تخرج يدك من الطاعة و تفارق الجماعة،و بعد فإن الغيبة لا خير فيها،قال:فقطع عليه الكلام عبد اللّه بن الزبير،ثم قال:يا ابن بشير إن الفاسق لا غيبة له،و ما قلت فيه إلاّ ما قد علمه الناس منه،و لو كان على ما كان عليه الأئمة الأخيار سمعنا و أطعنا و لذكرناه بكل جميل،و بعد فإني أنا في هذا البيت بمنزلة حمامة من حمام مكة،أفتحل لكم أن تؤذوا حمام مكة؟

قال:فغضب عبد اللّه بن عضاءة الأشعري.

فقال:نعم و اللّه يا ابن الزبير،نؤذي حمام مكة و نقتل حمام مكة،و ما حرمة حمام مكة؟يا ابن الزبير!أتصعد المنبر و تتكلم في أمير المؤمنين بكل قبيح ثم تشبّه نفسك بحمام مكة ثم قال:يا غلام،ائتني بقوسي و سهمي قال فأتي بقوسه و سهامه فأخذ سهما فوضعه في كبد قوس ثم سدّده نحو حمام مكة و قال:يا حمامة أيشرب أمير المؤمنين و يفجر؟قولي:نعم؟أما و اللّه لو قلت:نعم،لما أخطأك سهمي هذا،يا حمامة:أيلعب أمير المؤمنين بالقرود و الفهود و يفسق في الدين؟قولي:نعم أما و اللّه لئن قلت:نعم،لا أخطأك سهمي هذا،يا حمامة فتقتلين أم تخلعين الطاعة و تفارقين الجماعة و تقيمين في الحرم عاصية؟قولي:نعم قال:

ثم أقبل عبد اللّه بن عضاءة على ابن الزبير فقال له:مالي لا أرى الحمامة تنطق بشئ و أنت الناطق بجميع ما كلّمتها فيه على المنبر،أما و اللّه يا ابن الزبير إني خائف عليك و أقسم باللّه قسما صادقا لتبايعن يزيد طائعا أو كارها أو لتعرفني في هذه البطحاء و في يدي راية الأشعريين (1).

و ذكر ابن أعثم وقائع بين ابن الزبير و عمرو بن سعيد،كانت الغلبة فيها لابن1.

ص: 16


1- و قريب منه لفظ الأصبهاني في الأغاني 33/1.

الزبير.

و ذكر الطبري و غيره أنه عزل عمرو بن سعيد و ولّى الوليد بن عتبة فأقام الحج سنة 61 ه (1).

قال:و أقام الوليد يريد ابن الزبير فلا يجده إلاّ متحذرا متمنعا و أفاض بالناس من عرفة ثم أفاض ابن الزبير بأصحابه،ثم إن ابن الزبير عمل بالمكر في أمر الوليد فكتب إلى يزيد إنك بعثت إلينا رجلا أخرق لا يتجه لأمر رشد و لا يرعوي لعظة الحكيم فلو بعثت رجلا سهل الخلق رجوت أن يسهّل من الأمور ما استوعر منها و ان يجمع ما تفرق،فعزل يزيد الوليد و ولّى عثمان بن محمد بن أبي سفيان (2).

وفد أهل المدينة عند يزيد

قالوا كان عثمان فتى غرا حدثا لم يجرب الأمور و لم يحنكه السن فبعث إلى يزيد وفدا من أهل المدينة فيهم:عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة الأنصاري و عبد اللّه ابن أبي عمرو المخزومي و المنذر بن الزبير و رجالا كثيرا من أشراف أهل المدينة فقدموا على يزيد فأكرمهم و أحسن إليهم و أعظم جوائزهم فأعطى عبد اللّه بن حنظلة و كان شريفا فاضلا عابدا سيدا مائة ألف درهم،و كان معه ثمانية بنين فأعطى كل ولد عشرة آلاف سوى كسوتهم و حملانهم،فلما رجعوا قدموا المدينة و أظهروا شتم يزيد و عيبه و قالوا قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر و يضرب بالطنابير و يعزف عنده القيان و يلعب بالكلاب و يسمر عنده الخراب و الفتيان!و إنا نشهدكم أنّا خلعناه!و قام عبد اللّه بن حنظلة الغسيل،فقال:جئتكم

ص: 17


1- الطبري 273/6-275 في آخر ذكر حوادث سنة إحدى و ستين.
2- الطبري 2/8-5 في ذكر حوادث سنة ستين و تخيرت اللفظ من تاريخ ابن الأثير 40/4-42.

من عند رجل لو لم أجد إلاّ بني هؤلاء لجاهدته بهم،قالوا:قد بلغنا أنه أجداك و أعطاك و أكرمك،قال:قد فعل و ما قبلت منه عطاءه إلاّ لأتقوّى به،فخلعه الناس و بايعوا عبد اللّه بن حنظلة على خلع يزيد و ولّوه عليهم.

أما المنذر بن الزبير فكان قد أجازه بمائة ألف و كان قوله لما قدم المدينة:إن يزيد و اللّه لقد أجازني بمائة ألف درهم و أنه لا يمنعني ما صنع إلي أن أخبركم خبره و أصدقكم عنه و اللّه إنه ليشرب الخمر و إنه ليسكر حتى يدع الصلاة و عابه بمثل ما عابه به أصحابه الذين كانوا معه و أشد (1).8.

ص: 18


1- تاريخ الطبري 3/7-13،و ابن الأثير 40/4-41،و ابن كثير 216/8،و العقد الفريد /4 388.

ثورة الصحابة و التابعين

ثورة أهل المدينة و بيعتهم لعبد اللّه بن حنظلة

اشارة

قال الذهبي في تاريخ الإسلام:إجتمعوا على عبد اللّه بن حنظلة و بايعهم على الموت،قال:يا قوم اتقوا اللّه فو اللّه ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنه رجل ينكح أمهات الأولاد و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة (1).

و قال اليعقوبي:أتى ابن مينا عامل صوافي معاوية إلى عثمان بن محمد والي المدينة من قبل يزيد فأعلمه أنه أراد حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة و التمر،و أن أهل المدينة منعوه من ذلك فأرسل عثمان إلى جماعة منهم فكلّمهم بكلام غليظ فوثبوا به و بمن كان معه بالمدينة من بني أمية، و أخرجوهم من المدينة و اتبعوهم يرجمونهم بالحجارة (2).

و في الأغاني:و أقام ابن الزبير على خلع يزيد و مالأه على ذلك أكثر الناس، فدخل عليه عبد اللّه بن مطيع و عبد اللّه بن حنظلة و أهل المدينة المسجد و أتوا المنبر فخلعوا يزيدا فقال عبد اللّه بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي:خلعت يزيد كما خلعت عمامتي،و نزعها عن رأسه،و قال:إني لأقول هذا و قد وصلني

ص: 19


1- تاريخ الإسلام 356/2.
2- اليعقوبي 250/2.

و أحسن جائزتي،و لكن عدو اللّه سكير خمير.

و قال آخر:خلعته كما خلعت نعلي.

و قال آخر:خلعته كما خلعت ثوبي،و قال آخر:قد خلعته كما خلعت خفي،حتى كثرت العمائم و النعال و الخفاف،و أظهروا البراءة منه و أجمعوا على ذلك.

و امتنع منه عبد اللّه بن عمر،و محمد بن علي بن أبي طالب-عليه السّلام-و جرى بين محمد خاصة و بين أصحاب ابن الزبير فيه قول كثير،حتى أرادوا إكراهه على ذلك فخرج إلى مكة و كان هذا أول ما هاج الشر بينه و بين ابن الزبير.

و اجتمع أهل المدينة لإخراج بني أمية عنها،فأخذوا عليهم العهود ألا يعينوا عليهم الجيش،و أن يردوهم عنهم فإن لم يقدروا على ردّهم لا يرجعوا إلى المدينة معهم (1).3.

ص: 20


1- معالم المدرستين للعسكري:183/3.

السجاد عليه السلام يؤوي حريم بني أمية

قال:فأتى مروان عبد اللّه بن عمر فقال:يا أبا عبد الرحمن،إن هؤلاء القوم قد ركبونا بما ترى فضم عيالنا،فقال:لست من أمركم و أمر هؤلاء في شيء فقام مروان و هو يقول:قبح اللّه هذا أمرا و هذا دينا.

ثم أتى علي بن الحسين عليه السّلام فسأله أن يضم أهله و ثقله ففعل،و وجّههم و امرأته أم أبان بنت عثمان إلى الطائف و معها ابناه:عبد اللّه و محمد (1).

و قال الطبري و ابن الأثير:و قد كان مروان بن الحكم كلّم ابن عمر لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد و بني أمية في أن يغيّب أهله عنده فلم يفعل،فكلّم علي بن الحسين و قال:يا أبا الحسن،إن لي رحما و حرمي تكون مع حرمك.

فقال:أفعل.

فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين فخرج بحرمه و حرم مروان حتى وضعهم بينبع (2).

و في تاريخ ابن الأثير:فبعث بامرأته و هي عائشة ابنة عثمان بن عفان و حرمه إلى علي بن الحسين فخرج علي بحرمه و حرم مروان إلى ينبع.

و في الأغاني:و أخرجوا بنو أمية فأراد مروان أن يصلّي بمن معه فمنعوه و قالوا:لا يصلّي و اللّه بالناس أبدا و لكن إذا أراد أن يصلّي بأهله،فصلّى بهم

ص: 21


1- الأغاني 34/1-35.
2- الطبري 7/7،ابن الأثير 45/4.

و مضى (1).

إستغاثة بنى أمية بيزيد

قال الطبري و غيره:فخرج بنو أمية بجماعتهم حتى نزلوا دار مروان فحاصرهم الناس بها حصارا ضعيفا فأرسل بنو أمية بكتاب إلى يزيد يستغيثونه.

فقال يزيد للرسول:أما يكون بنو أمية و مواليهم ألف رجل بالمدينة قال:بلى و اللّه و أكثر،قال:فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟!قالوا:فبعث إلى عمرو ابن سعيد فأقرأه الكتاب و أخبره الخبر و أمره أن يسير إليهم فأبى،و بعث إلى عبيد اللّه بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة و محاصرة ابن الزبير فأبى و قال:و اللّه لا جمعتهما للفاسق أقتل ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و أغزو البيت و كانت أمه مرجانة قد عنّفته حين قتل الحسين و قالت له:ويلك ماذا صنعت و ماذا ركبت! (2)فبعث إلى مسلم بن عقبة المري و كان معاوية قد قال ليزيد:إن لك من أهل المدينة...،فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته،فلما جاءه مسلم وجده شيخا ضعيفا مريضا (3).

قال صاحب الأغاني:قال مسلم ليزيد:ما كنت مرسلا إلى المدينة أحدا إلاّ قصّر و ما صاحبهم غيري،إني رأيت في منامي شجرة غرقد تصيح:على يدي مسلم، فأقبلت نحو الصوت فسمعت قائلا يقول:أدرك ثأرك،أهل المدينة قتلة عثمان.

ص: 22


1- الأغاني 36/1.
2- في أمالي الشجري ص 164.
3- الطبري 5/7-13،و ابن الأثير 44/4-45،و ابن كثير 219/8،و الأغاني 35/1-36.

أوامر الخليفة لقائد جيشه

قال الطبري:فانتدبه لذلك و قال له:إن حدث بك حدث فاستخلف على الجيش الحصين بن نمير السكوني و قال له:أدع القوم ثلاثا فإن أجابوك و الا فقاتلهم فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا،فما فيها من مال أو ورقة أو سلاح أو طعام فهو للجند فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس و انظر علي بن الحسين فاكفف عنه و استوص به خيرا و ادن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه،و أمر مناديه فنادى أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا و معونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل.

و في لفظ المسعودي في التنبيه و الاشراف:و إذا قدمت إلى المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا فالسيف السيف و لا تبقي عليهم و انتهبهم عليهم ثلاثا و أجهز على جريحهم و اقتل مدبرهم،و ان لم يعرضوا لك،فامض إلى مكة،فقاتل ابن الزبير.

و في لفظه في مروج الذهب:فسيّر إليهم يزيد،مسلم بن عقبة الذي سمّى المدينة نتنة و قد سمّاها رسول اللّه طيبة (1).

ص: 23


1- معالم المدرستين للعسكري:185/3.

ما أنشده خليفة المسلمين

قال هو و الدينوري:لما عرض على يزيد الجيش أنشأ يقول:

أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى و هبط القوم على وادي القرى

عشرون ألفا بين كهل و فتى أجمع سكران من الخمر ترى

أم جمع يقظان نفى عنه الكرى

كانت كنية ابن الزبير أبو بكر و أبو خبيب و كان ابن الزبير يسمّى يزيد:السكران الخمير.

قال المسعودي:و كتب يزيد إلى ابن الزبير:

أدع إلهك في السماء فإنني أدعو عليك رجال عك و أشعر

كيف النجاة أبا خبيب منهم فاحتل لنفسك قبل أتي العسكر (1).

قال الطبري و غيره و اللفظ لابن الأثير:و لما سمع عبد الملك بن مروان أن يزيد قد سيّر الجنود إلى المدينة قال:ليت السماء وقعت على الأرض،إعظاما لذلك،ثم ابتلي بعد ذلك بأن وجّه الحجاج فحصر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق و قتل ابن الزبير.

ص: 24


1- التنبيه و الاشراف ص 263،و مروج الذهب 68/3-69،و الاخبار الطوال ص 265،و البيتين الأخيرين وردا فيه،و أوردت الشعر الأول بلفظ الطبري 6/8،و ابن الأثير،و راجع تاريخ الإسلام للذهبي 355/2.

مسير جيش الخلافة إلى الحرمين

لما اقبل مسلم بالجيش و بلغ أهل المدينة خبرهم،اشتد حصارهم لبني أمية بدار مروان و قالوا:و اللّه لا نكف عنكم حتى نستنزلكم و نضرب أعناقكم أو تعطونا عهد اللّه و ميثاقه ان لا تبغونا غائلة و لا تدلّوا لنا على عورة،و لا تظاهروا علينا عدوا فنكف عنكم و نخرجكم عنا،فعاهدوهم على ذلك،فأخرجوهم من المدينة،فساروا بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى،فدعا بعمرو بن عثمان بن عفان أول الناس فقال له:أخبرني ما وراءك،و أشر علي؟فقال:لا أستطيع قد أخذ علينا العهود و المواثيق أن لا ندل على عورة و لا نظاهر عدوا فانتهره،و قال:و اللّه لو لا أنك ابن عثمان لضربت عنقك،و أيم اللّه لا أقيلها قرشيا بعدك،فخرج إلى أصحابه فأخبرهم خبره،فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك:أدخل قبلي لعله يجتزىء بك عني فدخل عبد الملك فقال:هات ما عندك؟

فقال:نعم أرى أن تسير بمن معك فإذا انتهيت إلى ذي نخلة نزلت فاستظل الناس في ظله فأكلوا من صقره (1)!فإذا أصبحت من الغد مضيت و تركت المدينة ذات اليسار ثم درت بها حتى تأتيهم بها من قبل الحرة مشرّقا ثم تستقبل القوم فإذا استقبلتهم و قد أشرقت عليهم الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم و يصيبهم أذاها،و يرون من ائتلاق بيضكم و أسنّة رماحكم و سيوفكم و دروعكم

ص: 25


1- الصقر بكسر القاف التمر الذي يصلح للدبس.

ما لا ترونه أنتم ما داموا ربين،ثم قاتلهم و استعن باللّه عليهم،فقال له مسلم:للّه أبوك أي امرئ ولد،ثم إن مروان دخل عليه فقال له:إيه:أليس قد دخل عليك عبد الملك؟!

قال:بلى و أي رجل عبد الملك،قلّما كلّمت من رجال قريش رجلا شبيها به، فقال:إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني.

ثم إنه صار في كل مكان يصنع ما أمر به عبد الملك.

فجاءهم من قبل المشرق،ثم أمهلهم ثلاثا،فلما مضت الثلاث قال:يا أهل المدينة ما تصنعون؟أتسالمون أم تحاربون؟

قالوا:بل نحارب،فقال لهم:لا تفعلوا بل ادخلوا في الطاعة و نجعل حدنا و شوكتنا على أهل هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق و الفساق من كل أوب،يعني ابن الزبير فقالوا له:يا أعداء اللّه لو أردتم أن يجوزوا إليه ما تركناكم،نحن ندعكم أن تأتوا بيت اللّه الحرام و تخيفوا أهله و تستحلّوا حرمته لا و اللّه لا نفعل! (1).

قال المسعودي و الدينوري و اللفظ للأول:إحتفر أهل المدينة خندق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله الذي كان قد حفره يوم الأحزاب و شكّوا المدينة بالحيطان و قال شاعرهم مخاطبا ليزيد:

إن بالخندق المكلل بالمجد لضربا يبدي عن النشوات

لست منا و ليس خالك منا يا مضيع الصلوات للشهوات

فإذا ما قتلتنا فتنصر و اشرب الخمر و اترك الجمعات (2)

قال الذهبي:فكان ابن حنظلة يبيت تلك الليالي في المسجد،و ما يزيد على أن يشرب يفطر على شربة سويق و يصوم الدهر،و ما رؤي رافعا رأسه إلى السماء

.65

ص: 26


1- الطبري 6/7-8،و ابن الأثير 45/4-46.
2- التنبيه و الاشراف ص 264،و الاخبار الطوال ص 265

أحيانا،فلما قرب القوم خطب أصحابه و حرّضهم على القتال و أمرهم بالصدق في اللقاء،و قال:اللهم إنا بك واثقون.

فصبح القوم المدينة،فقاتل أهل المدينة قتالا شديدا،فسمعوا التكبير خلفهم من المدينة و أقحم عليهم بنو حارثة و هم على الحرة فانهزم الناس و عبد اللّه بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغط نوما فنبّهه ابنه،فلما رأى ما جرى أمر أكبر بنيه فقاتل حتى قتل ثم لم يزل يقدّمهم واحدا بعد واحد حتى أتى على آخرهم!

قال:و بقي ابن حنظلة يمشي بها مع عصابة من الناس أصحابه،فقال لمولى له:

إحم ظهري حتى أصلّي الظهر،فلما صلّى،قال له مولاه:ما بقي أحد فعلام تقيم؟

و لواؤه قائم،ما حوله إلاّ خمسة،فقال:ويحك إنما خرجنا على أن نموت،قال:

و أهل المدينة كالنعام الشرود و أهل الشام يقتلون فيهم،فلما هزم الناس طرح الدرع و قاتلهم حاسرا حتى قتلوه فوقف عليه مروان و هو ماد إصبعه السبابة،فقال:و اللّه لئن نصبتها ميتا فطالما نصبتها حيا (1).3.

ص: 27


1- تاريخ الإسلام للذهبي 356/2-357،و معالم المدرستين للعسكري:185/3.

جيش الخلافة يستبيح حرم الرسول صلّى اللّه عليه و اله

قال الطبري و غيره:و أباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس و يأخذون الأموال (1).

قال اليعقوبي:فلم يبق بها كثير أحد إلاّ قتل و أباح حرم رسول اللّه حتى ولّدت الأبكار لا يعرف من أولدهن (2).

و في تاريخ ابن كثير:قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن،و كان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول اللّه!و قال:قتل بشر كثير حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها (3).

و قال:و وقعوا على النساء،حتى قيل:أنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج!و روي عن هشام بن حسان أنه قال:ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج!و روى عن الزهري أنه قال:كان القتلى سبعمائة من وجوه المهاجرين و الأنصار،و وجوه الموالي،و ممن لا أعرف من حر أو عبد و غيرهم عشرة آلاف (4)و في تاريخ السيوطي:و كانت وقعة الحرة بباب طيبة قتل

ص: 28


1- تاريخ الطبري 11/7،و ابن الأثير 47/3،و ابن كثير 220/8.
2- تاريخ اليعقوبي 251/6.
3- تاريخ ابن كثير 234/6.
4- تاريخ ابن كثير 22/8.

فيها خلق من الصحابة و من غيرهم و نهبت المدينة و افتض فيها ألف بكر (1)!قال الدينوري و الذهبي و اللفظ للأول:و ذكر أبو هارون العبدي،قال:رأيت أبا سعيد الخدري،و لحيته بيضاء،و قد خف جانباها و بقي وسطها،فقلت"يا أبا سعيد ما حال لحيتك؟

فقال:هذا فعل ظلمة أهل الشام يوم الحرة،دخلوا علي بيتي،فانتهبوا ما فيه حتى أخذوا قدحي الذي كنت أشرب فيها الماء،ثم خرجوا،و دخل علي بعدهم عشرة نفر،و أنا قائم أصلي،فطلبوا البيت،فلم يجدوا فيه شيئا،فأسفوا لذلك، فاحتملوني من مصلاي،و ضربوا بي الأرض،و أقبل كل رجل منهم على ما يليه من لحيتي،فنتفه،فما ترى منها حفيفا فهو موضع النتف،و ما تراه عافيا فهو ما وقع في التراب،فلم يصلوا إليها،و سأدعها كما ترى حتى أوافي بها ربي (2).

هكذا انتهت الأيام الثلاثة على مدينة الرسول (3).3.

ص: 29


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 209،و راجع تاريخ الخميس 302/2.
2- الدينوري في الاخبار الطوال ص 269،و الذهبي في تاريخ الإسلام 357/2.
3- معالم المدرستين للعسكري:189/3.

أخذ البيعة من المدينة على أنهم عبيد للخليفة

قال الطبري و غيره:فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم ما شاء (1).

و قال المسعودي:و بايع من بقي من أهلها على أنهم قن ليزيد غير علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،لأنه لم يدخل فيما دخل فيه أهل المدينة و علي بن عبد اللّه بن العباس فإن من كان في الجيش من أخواله من كندة منعوه.

و قال:و من أبي أمره على السيف (2).

و في طبقات ابن سعد:إن مسرف بن عقبة لما قتل الناس و سار إلى العقيق فسأل عن علي بن الحسين أحاضر فقيل له:نعم،فقال:مالي ما أراه؟فجاءه مع ابني عمه محمد بن الحنفية فلما رآه رحب به و أوسع له على سريره (3).

و في تاريخ الطبري:قال:مرحبا و أهلا،ثم أجلسه معه على السرير و الطنفسة.

ثم قال:إن أمير المؤمنين أوصاني بك قبلا و إن هؤلاء خبثاء شغلوني عنك و عن وصلتك،ثم قال لعلي:لعل أهلك فزعوا،قال:اي و اللّه!فأمر بدابته فأسرجت ثم حمله فرده عليها (4).

ص: 30


1- تاريخ الطبري 13/7.
2- التنبيه و الاشراف ص 264،و مروج الذهب 71/3.
3- طبقات ابن سعد 215/5.
4- تاريخ الطبري 11/7-12،و فتوح ابن أعثم 300/5.

قال الدينوري:فلما كان اليوم الرابع جلس مسلم بن عقبة،دعاهم إلى البيعة، فكان أول من أتاه يزيد بن عبد اللّه بن ربيعة بن الأسود،وجدّته أم سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه و اله.

فقال له مسلم:بايعني.

قال:أبايعك على كتاب اللّه و سنّة نبيه صلّى اللّه عليه و اله.

فقال مسلم:بل بايع على أنك فيئ لأمير المؤمنين،يفعل في أموالكم و ذراريكم ما يشاء.

فأبى أن يبايع على ذلك،فأمر به،فضربت عنقه (1).

و قال الطبري:دعا الناس مسلم بن عقبة بقبا إلى البيعة و طلب الأمان لرجلين من قريش ليزيد بن عبد اللّه بن زمعة و محمد بن أبي الجهم فأتى بهما بعد الوقعة بيوم فقال:بايعوا.

فقالا:نبايعك على كتاب اللّه و سنّة نبيه،فقال:لا و اللّه لا أقيلكم هذا أبدا فقدّمهما فضرب أعناقهما فقال له مروان:سبحان اللّه أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما،فنخس بالقضيب في خاصرته،ثم قال:و أنت و اللّه لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء لا برقة.

قال:و أتى بيزيد بن وهب بن زمعة،فقال:بايع قال:أبايعك على سنة عمر،قال:

أقتلوه.

قال:أنا أبايع.

قال:لا و اللّه لا أقيلك عثرتك،فكلمه مروان بن احكم لصهر كان بينهما فأمر بمروان فوجئت عنقه ثم قال:بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية،ثم أمر به2.

ص: 31


1- تاريخ الطبري 11/7-2.

فقتل (1).

إرسال الرؤوس إلى الخليفة يزيد

قال ابن عبد ربه:و بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد،فلما ألقيت بين يديه،جعل يتمثل بشعر ابن الزبعرى يوم أحد:.

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقعي الأسل.

لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا:يا يزيد لا تشل

فقال له رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين!قال:بلى نستغفر اللّه،قال:و اللّه لا أساكنك أرضا أبدا،و خرج عنه (2).

و في رواية ابن كثير،جاء بعد البيت الأول:

حين حلت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل

قد قتلنا الضعف من أشرافهم و عدلنا ميل بدر فاعتدل

ثم قال:وزاد بعض الروافض فيها فقال:

لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء و لا وحي نزل

قال ابن كثير بعده:فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة اللّه عليه و لعنة اللاعنين و إن لم يكن قاله فلعنة اللّه على من وضعه عليه (3).

قال المؤلف:قد وهم ابن كثير و ظن أنهم قالوا:أضاف يزيد هذا البيت على شعر ابن الزبعرى في هذا المقام فأنكره بينما هم لم ينقلوا ذلك و إنما روى الشعبي

ص: 32


1- الأخبار الطوال ص 265 و معالم المدرستين للعسكري:185/3.
2- العقد الفريد 390/4.
3- ابن كثير 224/8،و فى رواية الدينوري بأخبار الطوال ص 267.

و غيره أن يزيد أضاف هذا البيت على شعر ابن الزبعرى عندما تمثل بشعره و رأس الحسين بين يديه و لم يكن الشعبي رافضيا و لا شيعيا و إنما كان من كبار المتعصبين لمدرسة الخلافة.

و لست أدرى لماذا لم يعتذر ابن كثير عن يزيد و يقول:انه مجتهد و انه أنشد هذا البيت باجتهاده؟!

في سبيل طاعة الخليفة (1)3.

ص: 33


1- معالم المدرستين للعسكري:192/3.

مسير جيش الخلافة إلى مكة و مناجاة أميره

قال الطبري و غيره:و لما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة و إنهاب جنده أموالهم ثلاثا،شخص بمن معه من الجند متوجها إلى مكة حتى إذا انتهى إلى المشلل،نزل به الموت و ذلك في آخر المحرم من سنة 64 ه فدعا حصين بن نمير السكوني فقال له:يا ابن برذعة الحمار!أما و اللّه لو كان هذا الأمر إلي ما ولّيتك هذا الجند و لكن أمير المؤمنين و لاك بعدي و ليس لأمر أمير المؤمنين مرد،فاحفظ ما أوصيك به!عم الأخبار و لا ترع سمعك قرشيا أبدا!و لا تردن أهل الشام عن عدوهم!و لا تقيمن إلاّ ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق!ثم قال:اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله أحب و لا أرجى عندي في الآخرة (1).

و في لفظ ابن كثير:أحب إلي من قتل أهل المدينة و أجزى عندي في الآخرة و إن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي!ثم مات (2).

و في تاريخ اليعقوبي،قال:اللهم ان عذبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية و قتل أهل الحرة فإني إذا لشقي (3)و في فتوح ابن أعثم أن مسلم بن عقبة قال في وصيته للحصين بن نمير:فانظر أن تفعل في أهل مكة و في عبد اللّه بن الزبير بما رأيتني فعلت بأهل المدينة.

ص: 34


1- تاريخ الطبري 14/7،و ابن الأثير 49/3،و ابن كثير 225/8.
2- تاريخ ابن كثير 225/8.
3- تاريخ اليعقوبي 251/2.

ثم جعل يقول:اللهم انك تعلم أني لم أعص خليفة قط،اللهم إني لا أعمل عملا أرجو به النجاة إلاّ ما فعلت بأهل المدينة.

ثم اشتد به الأمر فمات فغسلوه و كفنوه و دفنوه،و بايع الناس للحصين بن نمير السكوني من بعده،و سار القوم يريدون مكة،و خرج أهل ذلك المنزل فنبشوه من قبره و صلبوه على نخلة.

قال:و بلغ ذلك أهل العسكر فرجعوا إلى أهل ذلك المنزل فوضعوا السيف فيهم، فقتل منهم من قتل و هرب الباقون،ثم أنزلوه من النخلة فدفنوه ثم أجلسوا على قبره من يحفظه (1).5.

ص: 35


1- فتوح ابن أعثم 301/5.

جيش الخلافة يحرق الكعبة في حرب ابن الزبير

قال المسعودي:فسار الحصين حتى أتى مكة و أحاط بها و عاذ ابن الزبير بالبيت الحرام و نصب الحصين في من معه من أهل الشام المجانيق و العرادات على البيت و رمى مع الأحجار بالنار و النفط و مشاقات الكتان و غير ذلك من المحروقات فانهدمت الكعبة و احترقت البنية.

و وقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المنجنيق أحد عشر رجلا فكان ذلك يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الأول و قبل وفاة يزيد بأحد عشر يوما و اشتد الأمر على أهل مكة و ابن الزبير،و اتصل الأذى بالأحجار و النار و السيف فقال راجزهم:

ابن نمير بئسما تولّى قد أحرق المقام و المصلّى. (1)

و قال اليعقوبي:رمى حصين بن نمير بالنيران حتى أحرق الكعبة،و كان عبيد اللّه بن عمير الليثي قاص ابن الزبير إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة فنادى بأعلى صوته يا أهل الشام هذا حرم اللّه الذي كان مأمننا في الجاهلية يأمن فيه الطير و الصيد،فاتقوا اللّه يا أهل الشام،فيصيح الشاميون:الطاعة الطاعة،الكر الكر، الرواح قبل المساء،فلم يزل على ذلك حتى احترقت الكعبة فقال أصحاب ابن الزبير:

نطفئ النار.

فمنعهم و أراد أن يغضب الناس للكعبة.

ص: 36


1- مروج الذهب 71/3-72.

فقال بعض أهل الشام إن الحرمة و الطاعة اجتمعتا فغلبت الطاعة الحرمة (1)!!

و في تاريخ الخميس و تاريخ الخلفاء للسيوطي:و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها و قرنا الكبش الذي فدى اللّه إسماعيل و كان معلقا في الكعبة (2)!!

و قال الطبري و غيره:أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرم و صفر كله حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة 64 ه قذفوا البيت بالمجانيق و حرقوه بالنار و أخذوا يرتجزون و يقولون:

خطارة مثل الفنيق المزبد نرمي بها أعواد هذا المسجد

و يقول راجزهم:

كيف ترى صنيع أم فروة تأخذهم بين الصفا و المروة

يعني ب«أم فروة»المنجنيق.

قالوا:و استمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر حين جاءهم نعي يزيد و أنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول (3).

و في تاريخ الطبري و غيره:بينا حصين بن نمير يقاتل ابن الزبير إذ جاء موت يزيد،فصاح بهم ابن الزبير و قال:إن طاغيتكم قد هلك فمن شاء منكم أن يدخل في ما دخل فيه الناس فليفعل،فمن كره فليلحق بشامه فغدوا عليه يقاتلونه فقال ابن الزبير للحصين بن نمير:أدن مني أحدّثك فدنا منه فحدّثه فجعل فرس أحدهما يجفل،الجفل:الروث،فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل فكف الحصين فرسه عنهن،فقال له ابن الزبير:مالك؟8.

ص: 37


1- تاريخ اليعقوبي 251/2-252.
2- تاريخ الخميس 303/2،تاريخ السيوطي ص 9.
3- تاريخ الطبري 14/7-15،و ابن الأثير 49/4،و ابن كثير 225/8.

قال:أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم،فقال له ابن الزبير،أتحرج من هذا و تريد أن تقتل المسلمين؟

فقال:لا أقاتلك فأذن لنا نطف بالبيت و ننصرف عنك.

ففعل،قالوا:فأقبل الحصين بمن معه نحو المدينة.

قالوا:و اجترأ أهل المدينة و أهل الحجاز على أهل الشام،فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلاّ أخذ بلجام دابته ثم نكس عنها!فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترقون،و قالت لهم بني أمية:لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام ففعلوا، فمضى ذلك الجيش حتى دخل الشام (1)..

ص: 38


1- تاريخ الطبري 16/7-17 في ذكر حوادث سنة 65 ه.

الحجاج يرمي الكعبة ثانية

قال ابن الأثير و غيره:أرسل عبد الملك بن مروان الحجاج لحرب ابن الزبير بمكة فنزل الطائف و أمده بطارق فقدم المدينة في ذي القعدة سنة 72 ه و أخرج عامل ابن الزبير عنها و جعل عليها رجلا من أهل الشام اسمه ثعلبة،فكان ثعلبة يخرج المخ على منبر النبي صلّى اللّه عليه و اله يأكله و يأكل عليه التمر ليغيظ أهل المدينة (1).

و قال الدينوري:فقال الحجاج لأصحابه:تجهّزوا للحج و كان ذلك في أيام الموسم ثم سار من الطائف حتى دخل مكة و نصب المنجنيق على أبي قبيس فقال الأقيشر الأسدي:

لم أر جيشا غر بالحج مثلنا و لم أر جيشا مثلنا غير ما خرس

دلفنا لبيت اللّه نرمي ستوره بأحجارنا زفن الولائد في العرس

دلفنا له يوم الثلاثاء من منى بجيش كصدر الفيل ليس بذي رأس

فإلا ترحنا من ثقيف و ملكها نصل لأيام السباسب و النحس

فطلبه الحجاج فهرب و أناخ الحجاج بابن الزبير،و تحصّن منه ابن الزبير في المسجد و استعمل الحجاج على المنجنيق ابن خزيمة الخثعمي فجعل يرمى أهل المسجد و يقول:

خطارة مثل الفنيق الملبد نرمي بها عواذ أهل المسجد (2).

ص: 39


1- تاريخ ابن الأثير 135/3.
2- الاخبار الطوال ص 314.

قال المسعودي:و كتب الحجاج إلى عبد الملك بحصار ابن الزبير و ظفره بأبي قبيس فلما ورد كتابه كبّر عبد الملك،فكبّر من معه في داره،و اتصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبّروا،و اتصل ذلك بأهل الأسواق فكبّروا،ثم سألوا عن الخبر فقيل لهم:إن الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة و ظفر بأبي قبيس،فقالوا:لا نرضى حتى يحمله إلينا مكبلا على رأسه برنس على جمل يمر بنا في الأسواق هذا الترابي الملعون (1)!.

كان"أبو تراب"كنية الإمام علي كنّاه بها رسول اللّه فاتخذها بنو أمية نبزا للإمام و سمّوا شيعته ترابيا بهذا المناسبة،و أصبح هذا اللقب في عرف آل أمية و شيعتهم طعنا فنبزوا بها ابن الزبير أيضا.

قال ابن الأثير:قدم الحجاج مكة في ذي القعدة و قد أحرم بحجه فنزل بئر ميمون و حج بالناس في تلك السنة الحجاج إلاّ أنه لم يطف الكعبة و لا سعى بين الصفا و المروة،منعه ابن الزبير من ذلك.

قال:و لم يحج ابن الزبير و لا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة و لم يرموا الجمار.

قال:و لما حصر الحجاج ابن الزبير،نصب المنجنيق على أبي قبيس و رمى به الكعبة و كان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية،ثم أمر به،فكان الناس يقولون خذل في دينه (2).

و قال الذهبي:و ألحّ عليه الحجاج بالمنجنيق و بالقتال من كل وجه و حبس عنهم الميرة فجاعوا،و كانوا يشربون من زمزم فتعصبهم و جعلت الحجارة تقع في الكعبة (3).3.

ص: 40


1- مروج الذهب 113/3.
2- تاريخ ابن الأثير 136/4.
3- تاريخ الإسلام للذهبي 114/3.

قال ابن كثير:و كان معه خمس مجانيق فألحّ عليها بالرمي من كل مكان.

ثم ذكر مثل قول الذهبي (1).3.

ص: 41


1- ابن كثير 329/8 و معالم المدرستين للعسكري:196/3.

إحتراق الكعبة و نزول الصواعق

و في تاريخ الخميس بسنده قال:إن الحجاج رمى الكعبة بالحجارة و النيران حتى تعلّقت بأستار الكعبة و اشتعلت فجاءت سحابة من نحو جدة مرتفعة يسمع منها الرعد و يرى فيها البرق و استوت فوق الكعبة و المطاف فأطفأت النار و سال الميزاب في الحجر ثم عدلت إلى أبي قبيس فرمت بالصاعقة و أحرقت منجنيقهم قدر كوة و أحرقت تحته أربعة رجال،فقال الحجاج لا يهولنكم هذا فإنها أرض صواعق فأرسل اللّه صاعقة أخرى،فأحرقت المنجنيق و أحرقت معه أربعين رجلا (1).

و قال الذهبي:و جعل الحجاج،يصيح بأصحابه:يا أهل الشام،اللّه اللّه في الطاعة (2).

و روى الطبري و غيره عن يوسف بن ماهك قال:رأيت المنجنيق يرمي به فرعدت السماء و برقت و علا صوت الرعد و البرق على الحجارة فاشتمل عليها فأعظم ذلك أهل الشام،فأمسكوا بأيديهم فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته و رفع حجر المنجنيق فوضعه فيه،ثم قال أرموا ورمى معهم،قال:ثم أصبحوا فجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا فانكسر أهل الشام فقال الحجاج:يا أهل الشام!لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة هذه صواعق

ص: 42


1- الطبري 202/7 في ذكر حوادث سنة 73 ه.
2- الذهبي،تاريخ الإسلام 114/3.

تهامة هذا الفتح قد حضر فأبشروا إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة فقال الحجاج:ألا ترون أنهم يصابون و أنتم على الطاعة و هم على خلاف الطاعة (1).

و جاء في تاريخ ابن كثير بعده:و كان أهل الشام يرتجزون و هم يرمون بالمنجنيق و يقولون:مثل الفنيق المزبد،نرمي بها أعود هذا المسجد.

فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته فتوقّف أهل الشام عن الرمي و المحاصرة فخطبهم الحجاج،فقال:و يحكم!ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم؟فلو لا ان عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته (2).

و في فتوح أعثم:أمر الحجاج أصحابه أن يتفرّقوا من كل وجه من ذي طوى، و من أسفل مكة،و من قبل الأبطح،فاشتد الحصار على عبد اللّه بن الزبير و أصحابه فنصبوا المجانيق و جعلوا يرمون البيت الحرام بالحجارة و هم يرتجزون بالأشعار.

و تقع الحجارة في المسجد الحرام كالمطر،و كان رماة المنجنيق إذا ونوا و سكتوا ساعة فلم يرموا يبعث إليهم الحجاج فيشتمهم،و يتهددهم بالقتل،فأنشأ بعضهم يقول:

لعمر أبي الحجاج لو خفت ما أرى من الأمر ما أمسيت تعذلني

الأبيات (3).3.

ص: 43


1- الطبري ط/اروبا 844/2-845،ابن كثير 329/8.
2- تاريخ الخميس 305/2.
3- معالم المدرستين للعسكري:197/3.

نشيد الحجاج عندما رأى البيت يحترق

قال:فلم يزل الحجاج و أصحابه يرمون بيت اللّه الحرام بالحجارة حتى انصدع الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره،و انتقضت الكعبة من جوانبها.

قال:ثم أمرهم الحجاج فرموا بكيزان النفط و النار حتى احترقت الستارات كلها فصارت رمادا،و الحجاج واقف ينظر في ذلك كيف تحترق الستارات و هو يرتجز و يقول:

أما تراها ساطعا غبارها و اللّه في ما يزعمون جارها

فقد وهت و صدعت أحجارها و نفرت،منها معها أطيارها

و حان من كعبتها دمارها و حرقت منها معا أستارها

لما علاها نفطها و نارها (1).

قال الطبري و غيره و اللفظ للطبري:فلم تزل الحرب بين ابن الزبير و الحجاج حتى كان قبيل مقتله،و قد تفرّق عنه أصحابه،و خرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان و خذله من معه خذلانا شديدا،حتى خرج إلى الحجاج نحو من عشرة آلاف، و فيهم ابناه حمزة و خبيب فأخذا منه لأنفسهما أمانا.

ص: 44


1- فتوح ابن أعثم 275/6-276.

نهاية أمر ابن الزبير و ارسال الرؤوس إلى عبد الملك بن مروان

فقاتل قتالا شديدا حتى قتل و بعث الحجاج برأس ابن الزبير و عبد اللّه بن صفوان و عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها،ثم ذهب بها إلى عبد الملك ابن مروان (1).

و في تاريخ ابن كثير:و أرسل بالرؤوس مع رجل من الأزد و أمرهم إذا مرّوا بالمدينة أن ينصبوا الرؤوس بها ثم يسيروا بها إلى الشام ففعلوا ما أمرهم و أعطاه عبد الملك خمسمائة دينار،ثم دعا بمقراض فأخذ من ناصيته و نواصي أولاده فرحا بمقتل ابن الزبير!

قال:ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كذا عند الحجون،يقال:

منكّسة:ثم أنزل عن الجذع و دفن هناك (2).

قال الذهبي:و استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان و استعمل على الحرمين الحجاج بن يوسف،فنقض الكعبة التي من بناء ابن الزبير و كانت تشعثت من المنجنيق و انفلق الحجر الأسود من المنجنيق فشعبوه (3).

ص: 45


1- تاريخ الطبري 202/8-205.
2- تاريخ ابن كثير 332/8،و فى فتوح ابن أعثم 279/6 أكد انه صلبه منكوسا.
3- تاريخ الإسلام للذهبي 115/3.

الحجاج يختم أعناق أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و اله

و قال الطبري بعده:ثم انصرف إلى المدينة في صفر فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة و يتعنتهم و بنى بها مسجدا في بني سلمة فهو ينسب إليه و استخف فيها بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فختم في أعناقهم،و كان جابر بن عبد اللّه مختوما في يده و أنس مختوما في عنقه يريد أن يذله بذلك.

و أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه فقال:ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان ابن عفان،قال:قد فعلت.

قال:كذبت ثم أمر به فختم في عنقه برصاص (1).

انتهاء ثورة الحرمين و قيام ثورات أخرى

هكذا انتهت ثورة الحرمين و ثارت معها و بعدها بلاد أخرى،مثل ثورة التوابين في سنة خمس و ستين في الكوفة الذين خرجوا ينادون:يا لثارات الحسين!و قاتلوا جيش الخلافة بعين الوردة حتى استشهدوا،ثم ثورة المختار في الكوفة سنة ست و ستين،و قيامه بقتل قتلة الحسين عليه السّلام.

ثم ثورات العلويين مثل زيد الشهيد و ابنه يحيى (2)و أخيرا ثورة العباسيين

ص: 46


1- تاريخ الطبري 206/7 في ذكر حوادث سنة 74 ه.
2- راجع تاريخ الطبري،و ابن الأثير،و ابن كثير في ذكرهم حوادث سنى 65 و 66-67 و 121- 122 و 125.

و قيامهم باسم الدعوة لآل محمد،و تهديمهم الخلافة الأموية و إقامتهم الخلافة العباسية بهذا الاسم،فقد كان أبو سلمة الخلال يسمّى:وزير آل محمد،و أبو مسلم:أمير آل محمد!و لما قتل أبو سلمة،قال الشاعر:

إن الوزير وزير آل محمد أودى فمن يشناك كان وزيرا (1)

الثائرون أضعفوا الخلافة و الأئمة عليه السلام أعادوا أحكام الإسلام

وقعت كل تلكم الثورات أثر استشهاد الحسين عليه السّلام و من قبل القائمين بها في جانب.

و في جانب آخر استطاع الأئمة على أثر استشهاد الحسين أن يجددوا شريعة جدهم سيد الرسل بعد اندراسها و نشطت مدرستهم في نشر أحكام الإسلام كما يأتي بيانه في الباب التالي (2).

ص: 47


1- تاريخ اليعقوبي 345/2 و 352-353،و ابن الأثير 144/5 و 148 في ذكر حوادث سنة 130 ه،و مروج الذهب 286/3.
2- معالم المدرستين للعسكري:200/3.

أثر تولي الظلمة

قال السيد القرشي:كان نتيجة ما ذكرنا من انتشار اجتهادات الخلفاء وفق سياستهم أن غم أمر الأحكام الإسلامية التي جاء بها الرسول صلّى اللّه عليه و اله على المسلمين و نسيت،و اشتهر بين المسلمين الاحكام التي اجتهد فيها الخلفاء.

و انتشرت باسم أحكام الإسلام في جميع بلاد الإسلام على وجه الأرض من اليمن إلى الحجاز و الشام و العراق و أقاصي إيران و مصر إلى أقاصي أفريقية أن نسيت الأحكام التي جاء بها سيد الرسل في تلك المسائل و لو عرفت أحيانا الحكم الذي جاء به الرسول و كان مخالفا لأوامر الخليفة فالتدين عندهم في الإعراض عن حكم اللّه في سبيل طاعة الخليفة:فقد مر علينا قول الشامي في رميه الكعبة إن الحرمة و الطاعة اجتمعتا فغلبت الطاعة الحرمة.

و نادى الحجاج:يا أهل الشام!اللّه اللّه في الطاعة!و لو لا طاعة الخليفة لاجتنبوا تلك المعاصي الكبيرة.

ألم يكن قائد الحملة الحصين بن نمير يخاف اللّه في حمامة الحرم أن تطأها فرسه و هو غافل عنها!!و كذلك كان شأن شمر في قتله الحسين عليه السّلام فقد روى الذهبي و قال:كان شمر بن ذي الجوشن يصلّي الفجر ثم يقعد حتى يصبح ثم يصلّي،و يقول في دعائه:اللهم اغفرلي!

فقيل له:كيف يغفر اللّه لك و قد خرجت إلى ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فأعنت على قتله؟!،قال:ويحك!فكيف نصنع إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم و لو

ص: 48

خالفناهم كنا شرا من هذه الحمر (1).

و كان كعب بن جابر-ممن حضر قتال الحسين عليه السّلام في كربلاء-يقول في مناجاته:"يا رب إنا قد و فينا فلا تجعلنا يا رب كمن قد غدر"يقصد بمن قد غدر من خالف الخليفة و عصى أوامره.

و دنا عمرو بن الحجاج يوم عاشوراء من أصحاب الحسين عليه السّلام و نادى و قال:

يا أهل الكوفة إلزموا طاعتكم و جماعتكم و لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين و خالف الإمام.

بلغوا في تديّنهم بطاعة الخليفة إلى حد أنه كان أرجى عمل عندهم ليوم القيامة ارتكاب كبائر معاصي اللّه في سبيل طاعة الخليفة،و قد مر علينا قول مسلم في حالة النزع:اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله-أي بعد الإسلام-أحب إلي من قتلي أهل المدينة و لا أرجى عندي في الآخرة و إن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي.

أرأيت هذا التدين؟!أرأيت أرجى عمل ليوم القيامة؟!أرأيت كيف استطاعت عصبة الخلافة أن تقلب الإسلام إلى ضده؟فإن الذين قتلوا الحسين عليه السّلام كانوا يصلّون عليه في صلاتهم حين يصلّون على محمد و آل محمد ثم يقتلونه؟!و إن الذين كانوا يرمون الكعبة بالمنجنيق كانوا يستقبلونها في صلاتهم ثم يعقّبون صلاتهم برميها بالنفط و مشتقات الكتان و أحجار المنجنيق؟!!وقع كل ذلك في سبيل طاعة الخليفة إذن أصبح الخليفة يومذاك مطاعا دون اللّه و كان الخليفة الذي يأمر برمي الكعبة بالمنجنيق أعتى و أطغى من فرعون!فإن فرعون لم يأمر بهدم بيت عبادته كما فعل خليفة المسلمين يزيد و عبد الملك.هكذا ربّت مدرسة الخلافة9.

ص: 49


1- تاريخ الإسلام للذهبي 18/3-19.

المسلمين فكيف أدرك المسلمون الحقيقة؟ (1)

كيف وعى المسلمون؟

أصاب شريعة سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و اله بسبب تلك الإجتهادات ما أصاب شرائع الأنبياء السابقين في تلك المسائل،و لم يكن من الممكن إعادة أحكام الإسلام إلى المجتمع مع طاعة أفراده لمقام الخلافة (2)التي اجتهدت في تلك الأحكام،فلم يكن بد من كسر قدسية مقام الخلافة في نفوس المسلمين كي يتيسر بعد ذلك إبعاد الاحكام التي انتشرت بسبب اجتهاداتهم،ثم إعادة أحكام الإسلام التي جاء بها رسول اللّه إلى المجتمع بعد ذلك و قد أعدّ اللّه الإمام الحسين للقيام بهذه المهمة كما يلي بيانه (3).

ص: 50


1- معالم المدرستين للعسكري:292/3.
2- ورد في لسان العرب و تاج العروس بمادة"عبد":عبد عبادة و عبودة و عبودية إطاعه أو العبادة الطاعة مع الخضوع و عبد الطاغوت أي أطاعه يعنى الشيطان في ما سوّل له و أغواه،و اعبدوا ربكم أي أطيعوا ربكم،و إياك نعبد أي نطيع الطاعة التي يخضع معها.
3- معالم المدرستين للعسكري:293/3.

ثورة أهل البيت عليهم السلام

اشارة

لما حضرت علي بن الحسين عليه السّلام الوفاة أخرج صندوقا عنده،فقال:يا محمد إحمل هذا الصندوق فحمل بين أربعة فلما توفي جاء إخوته يدّعون في الصندوق فقال لهم:و اللّه مالكم فيه شيء و لو كان لكم فيه شيء ما دفعه إلي و كان في الصندوق سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.

و نظر الإمام السجاد عليه السّلام إلى ولده و هو يجود بنفسه و هم مجتمعون عنده،ثم نظر إلى ابنه محمد فقال:يا محمد خذ هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك و قال:أما إنه لم يكن دينار و لا درهم و لكن كان مملوءا علما.

هذه التظاهرة في تسليم الكتب اختص بها الإمام السجاد عليه السّلام و لم يفعل نظيرها من سبقه من الأئمة و لا فعل مثلها من جاء بعده منهم،و الحكمة في عمله تهيئة الأجواء للإمام الباقر عليه السّلام كي ينقل للناس أحكام الإسلام و عقائده عما ورثه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله من كتب في مقابل من كان يفتي برأيه مثل الحكم بن عتيبة فإنه اختلف مع الإمام الباقر عليه السّلام في شيء فقال لابنه الصادق عليه السّلام:يا بني قم فاخرج كتابا مدروجا عظيما و جعل ينظر حتى أخرج المسألة فقال:هذا خط علي و املاء رسول اللّه و أقبل على الحكم و قال:يا أبا محمد!إذهب أنت و سلمة و أبو المقدام حيث شئتم يمينا و شمالا فو اللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل.

هكذا بدأ الإمام الباقر عليه السّلام من بين الأئمة عليه السّلام بإراءة الكتب التي ورثوها عن جده

ص: 51

الإمام علي من املاء رسول اللّه للمسلمين و أقرأها بعضهم،و تابعه في ذلك الإمام جعفر الصادق و أكثر من توصيفها و النقل عنها و بيان ما فيها و أنها كيف كتبت، و أن فيها كل ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة حيت أرش الخدش.

و كان الأئمة يصادمون في عملهم هذا مدرسة الخلافة في اعتمادها على الرأي و القياس في استنباط الأحكام و بيانها،و كانوا يصرّحون بأنهم لا يعتمدون الرأي و إنما يحدّثون عن رسول اللّه كما قال الإمام الصادق عليه السّلام:حديثي،حديث أبي و حديث أبي حديث جدي و حديث جدي حديث الحسين و حديث الحسين حديث الحسن و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين و حديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه و حديث رسول اللّه قول اللّه عزّ و جلّ.

بعدما انصرفت قلوب بعض المسلمين عن مدرسة الخلافة أثر استشهاد الحسين عليه السّلام و أدركوا أن أولئك ليسوا على حق في ما يقولون و يفعلون،و مالت قلوبهم إلى أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله عند ذاك.

استطاع أئمة أهل البيت أن يبصّروا بعضهم أمر دينهم و يعرّفوهم أن مدرسة الخلفاء تعتمد الرأي في الدين في قبال أئمة أهل البيت عليهم السّلام الذين يبلّغون عن اللّه و رسوله و كان الفرد المسلم بعد تفهّم هذه الحقيقة،يتهيأ لقبول ما يبينه الإمام من أئمة أهل البيت و من ثم بدأ بعض الافراد يتلقّى الحكم الاسلامي الذي جاء به رسول اللّه عن طريقهم.

و كذلك استبصر الفرد بعد الآخر حتى تكوّنت منهم جماعات إسلامية واعية، و من الجماعات الواعية مجتمعات إسلامية صالحة قائمة على أسس من المعرفة الإسلامية الصحيحة و عند ذاك احتاجوا إلى مرشدين فعيّن لهم الأئمة من يقوم بذلك و ينوب عنهم في أخذ الحقوق المالية فكانوا يرجعون إلى الوكلاء النواب في ذينك تارة،و أخرى يجتمعون بإمامهم إذا تيسر لهم السفر إليه.

ص: 52

والى جانب ذلك ساعدت الظروف أحيانا الأئمة منذ الإمام الباقر عليه السّلام إلى تكوين حلقات دراسية يحضرها الأمثل فالأمثل من أهل عصرهم يحدّثهم الإمام فيها عن آبائه عن جده الرسول صلّى اللّه عليه و اله تارة و أخرى يروي لهم عن جامعة الإمام علي عليه السّلام، و ثالثة يبين لهم الحكم دونما إسناد،و توسّعت تلك الحلقات على عهد الإمام الصادق عليه السّلام حتى بلغ عدد الدارسين عليه أربعة آلاف شخص و كان تلاميذهم يدونون أحاديثهم في رسائل صغيرة تسمّى بالأصول،دأبوا على ذلك حتى بلغوا عصر المهدي،ثاني عشر أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و غاب عن أنظار الناس و أرجع بدءا شيعته أينما كانوا إلى نوابه الأربعة التالية أسماؤهم:أ-عثمان بن سعيد العمري.

ب-محمد بن عثمان بن سعيد العمري.

ج-أبو القاسم حسين بن روح.

د-أبو الحسن علي بن محمد السمري.

و مارس هؤلاء النيابة عن الإمام زهاء سبعين عاما يتوسّطون بينه و بين شيعتهم حتى تعودت الشيعة على الرجوع إلى نواب الإمام وحدهم في ما ينوبهم، و ألّف في هذا العصر ثقة الإسلام الكليني أول موسوعة حديثية في مدرسة أهل البيت عليهم السّلام أسماها الكافي جمع فيها قسما كبيرا من رسائل خريجي هذه المدرسة التي كانت شائعة في ذلك العصر يرويها المئات عن أصحابها،و بذلك بدأ عهد جديد في تدوين الحديث بمدرسة أهل البيت عليهم السّلام (1).3.

ص: 53


1- معالم المدرستين للعسكري:323/3.

جاهد الأئمة بعد استشهاد الحسين عليهم السلام

جاهد الأئمة بعد استشهاد الحسين عليه السّلام لإعادة الإسلام الصحيح إلى المجتمع فأعادوه حكما بعد حكم و عقيدة بعد عقيدة حتى تم في نهاية هذا العهد تبليغ جميع ما جاء به الرسول و أبعد عنه كل محرّف و زائف في حدود من تقبّل منهم،و تم تدوين جميع سنة الرسول صلّى اللّه عليه و اله في رسائل صغيرة و مدونات كبيرة.

و كذلك جاهدوا في إرشاد أبناء الأمة فردا بعد فرد حتى تكون منهم مجتمعات إسلامية صالحة فيها علماء يرجعون إلى مدونات حديثية،حوت كل ما تحتاجه أبناء الأمة من حقائق الإسلام و بذلك انتهى واجب الأئمة التبليغي في نهاية هذا العهد،كما انتهى واجب رسول اللّه التبليغي في آخر سنة من حياته فقبضه اللّه إليه صلوات اللّه عليه و آله.

و كذلك اقتضت حكمة اللّه أن يحتجب في نهاية هذا العهد الإمام المهدي عليه السّلام عن الأنظار إلى ما شاء اللّه فأرجع شيعته إلى فقهاء مدرستهم و أنابهم عنه نيابة عامة دون تعيين أحد بالخصوص،و بذلك بدأ عصر غيبة الإمام المهدي الكبرى،و ناب عنه فقهاء مدرستهم في حمل أعباء التبليغ إلى اليوم والى ما شاء اللّه كما نبينه في ما يلي:

ص: 54

ثورة الفقهاء في حمل أعباء التبليغ

مارس خريجو مدرسة أهل البيت عليهم السّلام حمل أعباء التبليغ على عهد الأئمة تدريجيا و تكامل عملهم في عصر غيبة الإمام الصغرى،و تنامى في عصر غيبته الكبرى،حيث تحوّلت الحلقات الدراسية التي كانت تعقد في المساجد و البيوت على عهد الأئمة إلى معاهد تعليمية و حوزات علمية شيّدت في بلاد كبيرة مثل بغداد، على عهد المفيد و المرتضى،و النجف الأشرف على عهد الطوسي و غيره،ثم كربلاء و الحلة و أصفهان و خراسان و قم في أزمان غيرهم.

و لم يزل منذئذ و لا يزال يهاجر إلى تلك المعاهد و الحوزات طلاب العلوم الإسلامية من كل صقع عملا بالآية الكريمة: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1).

يجتمعون في تلك المعاهد و الحوزات حول أساطين العلم و يستقون من معينهم ثم يرجعون إلى بلادهم ليقوموا بحمل الدعوة الإسلامية إلى كل صقع،دأبوا على ذلك في خدمة الإسلام جيلا بعد جيل،و كانوا و لا يزالون مع المسلمين في كل نازلة،يحاربون خصوم الإسلام أعداء اللّه و أعداء رسوله أبدا،و يدافعون عن المسلمين في كل مكروه و كذلك لم يزل و لا يزال يحاربهم بكل سلاح في كل عصر كل كافر و ملحد و منافق عليم يريد أن يقضي على الإسلام!و ذلك لان نواب الإمام هؤلاء حملوا لواء الإسلام بعده،و طبيعي ان يهاجم في المعارك حامل اللواء.

ص: 55


1- التوبة122/.

و نذكر على سبيل المثال من نواب الإمام في الغيبة الكبرى الشيخ الكليني،و كان أول موسوعي في هذه المدرسة ثم توالت التآليف الموسوعية بعده غير أن الذين جاءوا بعده كانوا يعنون بنوع واحد من الحديث فيجمعونه في مؤلفاتهم و غالبا ما كانت العناية متجهة إلى تجميع أحاديث الأحكام مثل ما فعله الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه و الشيخ الطوسي في التهذيب و الإستبصار و الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة،إلى أن لمع نجم المجلسي الكبير و ألّف موسوعته الكبرى البحار على غرار موسوعة الكليني الكافي في تجميعه أنواع الأحاديث،و بز المجلسي الموسوعيين جميعا لما جمع في موسوعته تلك بين الكتاب و السنّة و فسّر آيات كتاب اللّه و شرح بعض الأحاديث و بيّن علل بعضها إلى غير ذلك من المميزات،و شارك الكليني في دراساته حول أحاديث الكافي بكتابه(مرآة العقول) إستوعب فيها شرح ألفاظ الحديث و كشف معانيها و ذكر علل الحديث و قوته و صحته وفق القواعد المتبناة لدى المحدثين منذ عصر العلاّمة الحلي و ابن طاووس.

و خالفهم أحيانا فقال:(ضعيف على المشهور معتمد عندي)أو(معتبر عندي) و كان نتيجة تقييمه لأحاديث الكافي أنه وجد منها خمسة و ثمانين و أربعمائة و تسعة آلاف حديث ضعيف من مجموع 16121 حديث.. (1).3.

ص: 56


1- معالم المدرستين للعسكري:325/3.

ثورة زينب بنت علي عليها السلام

زينب الحزينة

و هي التي شاهدت وفاة جدّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و شهادة أخيها المحسن في يوم واحد،ثمّ قتل امّها الزهراء بعد أيّام حتى قضت شهيدة،و بعدها شهادة أبيها علي و من بعده شهادة أخيها الحسن،حتّى جاءت كربلاء فكانت شهادة أولادها و أخيها العبّاس و إخوته الثلاثة،و علي و عبد اللّه أبناء عمّها الحسن،و ختمت هذا الحزن و البكاء بقتل سيّد الشهداء الحسين أخيها،لا بل بدأ حزنها من يوم عاشوراء،لأنّه بشهادة الحسين و قتله قتل النبيّ و المحسن و فاطمة و علي و الحسن و علي و عبد اللّه و جعفر و كلّ شهداء أهل البيت عليهم السّلام،هذا حزن زينب و بكاؤها،و هل فارقها؟!

زينب الصابرة

و من يستطيع أن يصف صبر زينب،و هل يخطر ببال أحد أنّ امرأة تصبر على قتل كلّ أحبّتها في يوم واحد،أخيها و أيّ أخ و أبنائها الثلاثة،أم كيف تصبر على سبي أخواتها و نساء بني هاشم،أم على رؤية كبد الحسن أمامها قبل شهادته،أم على رؤية رأس الحسين معلّقا على رمح مع رؤوس بني هاشم،أم على رؤية كفّي أبي الفضل العبّاس؟!

ص: 57

لا أدري إن كان هناك زمن لم تمرّ فيه زينب بمحن حتّى لا تصبر عليه،إنّ المصائب التي صبّت على زينب تجعلها في تصبّر دائم.

فإن كانت امّها قالت:

صبّت عليّ مصائب لو أنّها صبّت على الأيّام صرن لياليا (1)

فقد زادت البنت على امّها كما قال الشاعر:

يا قلب زينب ما لاقيت من محن فيك الرزايا و كلّ الصبر قد جمعا

فلو كان ما فيك من صبر و من محن في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعا

يكفيك صبرا قلوب الناس كلّهم تفطّرت للذي لاقيته جزعا (2)

هنيئا لزينب و لكلّ امرأة تصبر على المصائب و المحن و تلتزم بتعاليم ربّها اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (3).

و قال العلاّمة المحقّق المطّلع الشيخ محمد علي الاردوبادي في قصيدة قالها في رثاء الصدّيقة زينب و هي طويلة:

قد عاد مصر للحفيظة مغربا فسنا ذكاها واضح لن يغربا

بمليكة حسبا زكت فيه و لم يعقد عليه غير صنويها الحبا

و من النبوّة؟وجهها بلج كمثل الشمس يجلو الغيهبا

و تضوع منها للخلافة عبقة تطوى عليها الصحاصح و الربى

بجلال أحمد في مهابة حيدر قد أنجبت امّ الأئمّة زينبا

فيجمع الشرفين بضعة فاطم حصلت على أكرومة عظمت نبا (4)7.

ص: 58


1- روضة الواعظين:75.
2- وفيّات الأئمّة:451.
3- سورة البقرة:156.
4- وفيّات الأئمّة:467.

زينب العابدة الزاهدة

و هي تالية امّها الزهراء عليها السّلام و كانت تقضي عامّة لياليها بالتهجّد و تلاوة القرآن، ففي مثير الأحزان للعلاّمة الشيخ شريف الجواهري قدّس سرّه:قالت فاطمة بنت الحسين عليه السّلام:و أمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة-أي العاشر من المحرّم-في محرابها،تستغيث إلى ربّها،فما هدأت لنا عين و لا سكنت لنا رنة.

و عن الفاضل النائيني البروجردي:أنّ الحسين لمّا ودّع اخته زينب وداعه الأخير قال لها:يا اختاه لا تنسيني في نافلة الليل،و هذا الخبر رواه هذا الفاضل عن بعض المقاتل المعتبرة.

و قال بعض ذوي الفضل:إنّها صلوات اللّه عليها ما تركت تهجّدها للّه تعالى طول دهرها حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم.

و روي عن زين العابدين عليه السّلام أنّه قال:رأيتها تلك الليلة تصلّي من جلوس.

و روى بعض المتبقّين عن الإمام زين العابدين عليه السّلام أنّه قال:إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من الفرائض و النوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام من قيام،و في بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس فسألتها عن سبب ذلك فقالت:اصلّي من جلوس لشدّة الجوع و الضعف منذ ثلاث ليال، لأنّها كانت تقسّم ما يصيبها من الطعام على الأطفال لأنّ القوم كانوا يدفعون لكلّ واحد منّا رغيفا واحدا من الخبز في اليوم و الليلة.

ص: 59

و عن الفاضل النائيني البروجردي المتقدّم ذكره عن بعض المقاتل المعتبرة عن مولانا السجّاد عليه السّلام أنّه قال:إنّ عمّتي زينب مع تلك المصائب و المحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت[تهجّدها]لليلة.انتهى كلامه (1).

فإذا تأمّل المتأمّل إلى ما كانت عليه هذه الطاهرة من العبادة للّه تعالى و الإنقطاع إليه،يكاد يتيقّن بعصمتها(صلوات اللّه عليها)و أنّها كانت من القانتات اللواتي وقفن حركاتهن و سكناتهن و أنفاسهن للباري تعالى،و بذلك حصلن على المنازل الرفيعة و الدرجات العالية التي حكت رفعتها منازل المرسلين و درجات الأوصياء(عليهم الصلاة و السلام).

و أمّا زهدها عليها السّلام:فيكفي في إثباته ما روي عن الإمام السجّاد من أنّها عليه السّلام ما ادّخرت شيئا من يومها لغدها أبدا (2).0.

ص: 60


1- المصدر السابق:441،و شجرة طوبى:393/2.
2- وفيّات الأئمّة:440.

ثورة و جهاد زينب

ذلك الجهاد الذي لم تصبر عليه الرجال،جهاد مصيره معلوم و هو الشهادة و السبي،خرجت زينب من المدينة المنوّرة إلى مكّة ثمّ إلى العراق مع علمها بما ستؤول إليه الأمور،لأنّ اللّه شاء للحسين عليه السّلام أن يراه قتيلا و شاء لزينب أن يراها مسبيّة مع أخواتها.

كانت زينب في معركة كربلاء مسؤولة عن النساء و الأطفال عن طعامهم و شرابهم و تهدئتهم من خوفهم،و عن التفكير بما سوف يحدث بعد شهادة الحسين و أهل بيته عليهم السّلام.

كانت مهمّة صعبة يعجز عن تحمّلها الأبطال،قد يسهل على المرء أن يخطّط لحرب أو أن يحمل سيفا و يقاتل فيه لتحقيق أهدافه،و لكن يصعب على جيش بكامله أن يسكت الأطفال و النساء و يحميهم مع جوعهم و عطشهم و مع رؤية آبائهم قتلى بلا رؤوس.

كيف استطاعت زينب أن تسكت بكاء النساء و الأطفال،و أن تجمعهم في مكان واحد بعد فرارهم في الصحراء من حريق الخيام،كيف تحمّل جسد زينب المثكولة بأخويها الحسين و العبّاس و أولادها و أهل بيتها،زينب الجائعة العطشى المتعبة من سفر مجهول،كيف استطاع ذلك الجسد الشريف أن يتحمّل كلّ ذلك.

ثمّ جاءت مهمّة حماية الأطفال و النساء في مسيرهم إلى الشام و رؤوس أهل بيتها أمامهم تحت حرّ الشمس و بلباس يصعب وصفه،جاءت زينب لتثبت قدرة

ص: 61

المرأة على تحمّل الصعاب و المشاق،لتقول لكلّ امرأة إنّ همم النساء قد تفوق همم الرجال التي تزيل الجبال.

تستطيع كلّ امرأة أن تتحمّل ما تحمّلته زينب عليها السّلام بالتوكّل على اللّه و التسليم لأمره،تعلّمنا زينب أنّ الجهاد واجب على المرأة،و أنّ على كلّ امرأة التواجد مع زوجها أو أخيها في ساحة الجهاد،إذا كان في وجودها مصلحة للإسلام و المسلمين،تستطيع المرأة أن تشارك في الجهاد بما يتناسب مع وضعها و كرامتها كما كانت فاطمة و زينب تشارك في الجهاد،بتضميد الجرحى و مساعدتهم و تهيئة الطعام و الشراب للمجاهدين.

نعم،يختلف الأمر من زمن إلى زمن و من مكان إلى آخر و من معركة إلى اخرى، و تشخيص ذلك خارج هذه الأبحاث.

لم تستنكف زينب و لا أخواتها و زوجات أهل بيتها أن يكنّ في ساحة المعركة مع أطفالهنّ الرضّع،و ما ذلك إلاّ ليكوننّ قدوة للنساء إذا ساقتهنّ الظروف إلى ذلك، قد يجب على الإنسان أن يقدّم كلّ ما يملك و يعرّض نساءه للسبي إذا كان ذلك يخدم الإسلام و المسلمين و يحمي دين محمّد من الضياع،هذا كان سبب خروج زينب من خدرها إلى الجهاد،و هذا ما يجب على كلّ امرأة فعله أن لا يكون خروجها من خدرها و مخدعها إلاّ لأمر واجب فيه مصلحة للامّة الإسلامية أو لأولادها و زوجها.

سلام اللّه عليك يا زينب و على النساء المسبيّات الذين خرجنّ دفاعا عن الكرامة و حفظ الدين المحمّدي الأصيل.

ص: 62

شجاعة زينب في كربلاء

شجاعة نابعة عن تعقّل و تدبّر كما كانت شجاعة امّها من قبل،و زادت البنت على امّها،لأنّ الموقف اختلف ليس من ناحية الأشخاص إنّما من ناحية الظروف،سجّل التاريخ شجاعة لفاطمة بنت محمّد أعقبها خطبة تاريخية غنيّة بالعقائد و السياسة و الأخلاق،خطبة علّمت شيوخ قريش الفقه و التفسير و الحكم،خطبة في مجلس الخليفة الأوّل و بحضور فقهاء قريش و رجالها و ساستها و حكمائها،ثمّ أتبعتها امّ أبيها بخطبة عتاب و توعية لنساء قريش و بناتها.

و كذلك سجّل التأريخ لزينب بنت علي و محمّد عليهم السّلام خطبا كثيرة ابتداء بكربلاء من على التلّ الزينبي-و كانت خطبة في الشجاعة و الجهاد-و انتهت بالشام في مجلس يزيد و فقهائه و رجاله و عسكره،و كان فيما بين ذلك خطبتها في مجلس الطاغية ابن زياد و خطبتها في أهل الكوفة،أبدت زينب بنت علي في هذه المجالس شجاعة و بلاغة تعلّمتهما من امّها و أبيها-و هي العالمة غير المعلّمة-شجاعة بعد قهر و قتل و جوع و عطش و سبيّ،شجاعة لم تستطع أن تحتجب زينب العفيفة عن مجلس ابن زياد و يزيد كما احتجبت امّها من قبل في مجلس الأوّل فكلّمتهم من وراء الستار.

هذه الشجاعة التي تعطينا دروسا و دروسا،في تحمّل المشاق و عدم الإنهيار أمام المحن و السبي و القهر،تعطينا شجاعة زينب أن نتحمّل الجوع و العطش في صحراء كربلاء مرورا ببلاد الشام إذا كان الشبع و الإرواء فيه مذلّة أو إهانة أو جرح

ص: 63

كرامة طفل فضلا عن غيره.

تعطينا شجاعة زينب بنت فاطمة أن نقف جميعا نساء و رجالا و اقتداء بزينب أمام الطغاة و الظلمة و هم في عروشهم لنوجّه لهم كلمة الحقّ و نصرّح لهم بظلمهم و عدوانهم أمام حاشيتهم و رجالهم.

شجاعة زينب لا توصف،لأنّنا لا نستطيع أن ندرك و نعيش الظروف التي أظهرت بها زينب هذه الشجاعة،فقد تخطب النساء في مجالس الرجال و ببلاغة و طلاقة و لكن هل تجرؤ امرأة أن تخاطب قاتل أخيها و أبنائها و هي جائعة و عطشى و بلباس لم تعتد على لبسه أمام الأجانب و قد عوّدها عليّ عليه السّلام أن لا يخرجها من بيتها إلاّ في هودج عن يمينها الحسن و عن شمالها الحسين؟!

ما كان مثل زينب بنت علي إلاّ فاطمة بنت محمّد لأنّ عليّا أخ محمّد.نعم،خطبت الزهراء في مجلس أبي بكر و هي مريضة مظلومة قد قتل أبوها و أسقط ولدها و ضرب زوجها و احرق بابها و هتك بيتها.

و سوف يتبين لنا قوة شجاعتها من خلال خطبها.

ص: 64

الثورة في خطبة زينب عليها السلام

روى الشيخ الصدوق من مشايخ بني هاشم و غيره من الناس:أنّه لمّا دخل علي ابن الحسين عليه السّلام و حرمه على يزيد،و جيء برأس الحسين عليه السّلام و وضع بين يديه في طست،فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده،و هو يقول:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا و استهلّوا فرحا و لقالوا يا يزيد لا تشل

فجزيناه ببدر مثلا و أقمنا مثل بدر فاعتدل

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

قالوا:فلمّا رأت زينب ذلك فأهوت إلى جيبها فشقّته،ثمّ نادت بصوت حزين تقرع القلوب:يا حسيناه!يا حبيب رسول اللّه!يابن مكّة و منى!يابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء!يابن محمّد المصطفى.

قال:فأبكت و اللّه كلّ من كان،و يزيد ساكت،ثمّ قامت على قدميها،و أشرفت على المجلس،و شرعت في الخطبة،إظهارا لكمالات محمّد صلّى اللّه عليه و اله،و إعلانا بأنّا نصبر لرضى اللّه،لا لخوف و لا دهشة،فقامت إليه زينب بنت علي و امّها فاطمة بنت رسول اللّه و قالت:الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة على جدّي سيّد المرسلين،صدق اللّه سبحانه كذلك يقول: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض،و ضيّقت

ص: 65

علينا آفاق السماء،فأصبحنا لك في اسار،نساق إليك سوقا في قطار،و أنت علينا ذو اقتدار أنّ بنا من اللّه هوانا و عليك منه كرامة و امتنانا،و أنّ ذلك لعظم خطرك،و جلالة قدرك،فشمخت بأنفك،و نظرت في عطفك (1)تضرب أصدريك فرحا (2)و تنقض مذرويك مرحا (3)حين رأيت الدّنيا لك مستوسقة (4)و الامور لديك متّسقة (5)و حين صفا لكن ملكنا،و خلص لك سلطاننا،فمهلا مهلا لا تطش جهلا أنسيت قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ .

أمن العدل يابن الطلقاء؟!تخديرك حرائرك و إمائك،و سوقك بنات رسول اللّه سبايا،قد هتكت ستورهن،و أبديت وجوههنّ،تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، و تستشرفهن المناقل (6)يتبرزن لأهل المناهل (7)و يتصفّح وجوههنّ القريب و البعيد،و الغائب و الشهيد،و الشريف و الوضيع،و الدني و الرفيع،ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ،و لا من حماتهنّ حمي،عتوا منك على اللّه (8)و جحودا لرسول اللّه، و دفعا لما جاء به من عند اللّه،و لا غرو منك و لا عجب من فعلك،و أنّى يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشهداء،و نبت لحمه بدماء السعداء،و نصب الحرب لسيّد الأنبياء،و جمع الأحزاب،و شهر الحراب،و هزّ السيوف في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،ا.

ص: 66


1- نظر في عطفه:أخذه العجب.
2- الاصدران:عرقان تحت الصدغين.
3- المذروان:أطراف الإليتين.
4- مستوسقة:مجتمعة.
5- متّسقة:مستوية.
6- تستشرف:تنظر.
7- المناهل:مواضع شرب الماء في الطريق.
8- عتوا:عنادا.

أشدّ العرب جحودا،و أنكرهم له رسولا،و أظهرهم له عدوانا،و أعتاهم على الرب كفرا و طغيانا،ألا إنّها نتيجة خلال الكفر،و صبّ يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من كان نظره إلينا شنفا و إحنا و أظغانا،يظهر كفره برسول اللّه،و يفصح ذلك بلسانه،و هو يقول:-فرحا بقتل ولده و سبي ذرّيته، غير متحوب و لا مستعظم-لأهلّوا و استهلّوا فرحا و لقالوا يا يزيد لا تشل،منحنيا على ثنايا أبي عبد اللّه-و كانا مقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله-ينكتها بمخصرته،قد التمع السرور بوجهه،لعمري لقد نكأت القرحة (1)و استأصلت الشأفة،بإراقتك دم سيّد شباب أهل الجنّة،و ابن يعسوب لدين العرب،و شمس آل عبد المطّلب،و هتفت بأشياخك،و تقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافك،ثمّ صرخت بندائك و لعمري لقد ناديتهم لو شهدوك!و وشيكا تشهدهم،و لن يشهدوك و لتود يمينك كما زعمت شلّت بك عن مرفقها وجدت،و أحببت امّك لم تحملك و أباك لم يلد،أو حين تصير إلى سخط اللّه و مخاصمك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.

اللّهمّ خذ لنا بحقّنا،و انتقم من ظالمنا،و احلل غضبك على من سفك دماءنا و نقض ذمارنا،و قتل حماتنا،و هتك عنّا سدولنا،و فعلت فعلتك التي فعلت،و ما فريت إلاّ جلدك،و ما جززت إلاّ لحمك،و سترد على رسول اللّه بما تحمّلت من دم ذرّيته،و انتهكت من حرمته،و سفكت من دماء عترته و لحمته،حيث يجمع به شملهم،و يلمّ به شعثهم،و ينتقم من ظالمهم،و يأخذ لهم بحقّهم من أعدائهم فلا يستفزنّك الفرح بقتلهم، وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .

و حسبك باللّه وليّا و حاكما،و برسول اللّه خصما،و بجبرئيل ظهيرا،و سيعلم من بوّأك و مكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا،و أيّكم شرّ مكانا و أضلّأ.

ص: 67


1- نكأت:قشرت قبل أن تبرأ.

سبيلا،و ما استصغاري قدرك،و لا استعظامي تقريعك (1)توهّما لانتجاع الخطاب فيك (2)بعد أن تركت عيون المسلمين به عبرى،و صدورهم عند ذكره حرّا،فتلك قلوب قاسية،و نفوس طاغية،و أجسام محشوّة بسخط اللّه و لعنة الرسول،قد عشش فيه الشيطان،و فرّخ،و من هناك مثلك ما درج،فالعجب كلّ العجب لقتل الأتقياء،و أسباط الأنبياء،و سليل الأوصياء،بأيدي الطلقاء الخبيثة،و نسل العهرة الفجرة،تنطف أكفهم من دمائنا (3)و تنحلب أفواههم من لحومنا تلك الجثث الزاكية على الجيوب الضاحية،تنتابها العواسل (4)و تعفرها امّهات الفواعل (5)فلئن اتخذتنا مغنما لتجد بنا و شيكا مغرما حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك،و ما اللّه بظلاّم للعبيد فإلى اللّه المشتكى و المعوّل،و إليه الملجأ و المؤمّل،ثمّ كد كيدك،و اجهد جهدك فو اللّه الذي شرّفنا بالوحي و الكتاب،و النبوّة و الإنتخاب،لا تدرك أمدنا،و لا تبلغ غايتنا، و لا تمحو ذكرنا،و لا يرحض (6)عنك عارنا،و هل رأيك إلاّ فند،و أيّامك إلاّ عدد، و جمعك إلاّ بدد،يوم يناد المنادي ألا لعن اللّه الظالم العادي.و الحمد للّه الذي حكم لأوليائه بالسعادة،و ختم لأصفيائه بالشهادة،ببلوغ الإرادة،نقلهم إلى الرحمة و الرأفة،و الرضوان و المغفرة،و لم يشق بهم غيرك،و لا ابتلى بهم سواك،و نسأله أن يكمل لهم الأجر،و يجز لهم الثواب و الذخر،و نسأله حسن الخلافة،و جميل الإنابة،إنّه رحيم ودود (7).ن.

ص: 68


1- التقريع:التعنيف.
2- الإنتجاع:الإنتفاع.
3- تنطف:تقطر.
4- أي تأتي مرة بعد أخرى،و العواسل:الذئاب.
5- تعفرها:تمرغها،و الفواعل:أولاد الضباع.
6- رحض:غسل.
7- الاحتجاج:34/2،و العوالم:404 ترجمة الحسين.

و عن حذيم بن شريك الأسدي (1)قال:لمّا أتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء،و كان مريضا،و إذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشقّقات الجيوب، و الرجال معهنّ يبكون.فقال زين العابدين عليه السّلام-بصوت ضئيل و قد نهكته العلّة- إنّ هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم،فأومت زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السّلام إلى الناس بالسكوت.

قال حذيم الأسدي:لم أر و اللّه خفرة قط أنطق منها،كأنّها تنطق و تفرغ على لسان عليّ عليه السّلام،و قد أشارت إلى الناس بأن انصتوا فارتدّت الأنفاس و سكنت الأجراس، ثمّ قالت-بعد حمد اللّه تعالى و الصلاة على رسوله صلّى اللّه عليه و اله-:أمّا بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل (2)و الغدر،و الخذل!!ألا فلا رقأت العبرة (3)و لا هدأت الزفرة،إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا (4)تتّخذون أيمانكم دخلا بينكم (5)هل فيكم إلاّ الصلف (6)و العجب،و الشنف (7)و الكذب،و ملق الاماء و غمز الأعداء (8)أو كمرعى على دمنة (9)أو كفضّة على ملحودة (10)ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم و في العذاب أنتم خالدون.ر.

ص: 69


1- حذيم بن شريك الأسدي:عدّه الشيخ في رجاله ص 88 من أصحاب الإمام علي بن الحسين.
2- الختل:الخداع.
3- رقأت:جفّت.
4- أي:حلّته و أفسدته بعد إبرام.
5- أي:خيانة و خديعة.
6- الصلف:الذي يمتدح بما ليس عنده.
7- الشنف:البغض بغير حقّ.
8- الغمز:الطعن و العيب.
9- الدمنة:المزبلة.
10- الفضّة:الجص،و الملحودة:القبر.

أتبكون أخي؟!أجل و اللّه فابكوا فإنّكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرا،و اضحكوا قليلا،فقد أبليتم بعارها،و منيتم بشنارها (1)و لن ترحضوا أبدا (2).

و أنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة و معدن الرسالة،و سيّد شباب أهل الجنّة،و ملاذ حربكم،و معاذ حزبكم و مقرّ سلمكم،و أسى كلمكم (3)و مفزع نازلتكم،و المرجع إليه عند مقاتلتكم و مدرة حججكم (4)و منار محجّتكم،ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم،و ساء ما تزرون ليوم بعثكم،فتعسا تعسا!و نكسا نكسا!لقد خاب السعي،و تبّت الأيدي،و خسرت الصفقة،و بؤتم بغضب من اللّه،و ضربت عليكم الذلّة و المسكنة.

أتدرون ويلكم أيّ كبد لمحمّد صلّى اللّه عليه و اله فرثتم؟!و أيّ عهد نكثتم؟!و أيّ كريمة له أبرزتم؟!و أيّ حرمة له هتكتم؟!و أيّ دم له سفكتم؟!لقد جئتم شيئا إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخرّ الجبال هدّا!لقد جئتم بها شوهاء صلعاء،عنقاء،سوداء،فقماء خرقاء (5)كطلاع الأرض (6)،أو ملأ السماء.أفحسبتم أن تمطر السماء دما،و لعذاب الآخرة أخزى و هم لا ينصرون،فلا يستخفنّكم المهل فإنّه عزّ و جلّ لا يحفزه البدار و لا يخشى عليه فوت الثار،كلاّ إنّ ربّك لنا و لهم بالمرصاد،ثمّ أنشأت تقول عليها السّلام:

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم ماذا صنعتم و أنتم آخر الامما.

ص: 70


1- الشنار:العار.
2- أي لن تغسلوها.
3- أي:دواء جرحكم.
4- المدرّة زعيم القوم و لسانهم المتكلم عنهم.
5- الشوهاء:القبيحة.و الفقماء:إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى.الخرقاء: الحمقاء.
6- طلاع الأرض:ملؤها.

بأهل بيتي و أولادي و تكرمتي منهم أسارى و منهم ضرّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم

إنّي لأخشى عليكم أن يحلّ بكم مثل العذاب الذي أودى على إرم

ثمّ ولّت عنهم.

قال حذيم:فرأيت الناس حيارى قد ردّوا أيديهم في أفواههم،فالتفتّ إلى شيخ في جانبي يبكي و قد اخضلّت لحيته بالبكاء،و يده مرفوعة إلى السماء،و هو يقول:بأبي و أمّي كهولهم خير كهول،و نساؤهم خير نساء،و شبابهم خير شباب و نسلهم نسل كريم،و فضلهم فضل عظيم،ثمّ أنشد:

كهولكم خير الكهول و نسلكم إذا عدّ نسل لا يبور و لا يخزى

فقال علي بن الحسين عليه السّلام:يا عمّة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار،و أنت بحمد اللّه عالمة غير معلّمة،فهمة غير مفهّمة،إنّ البكاء و الحنين لا يردّان من قد أباده الدهر،فسكتت.ثمّ نزل عليه السّلام و ضرب فسطاطه،و أنزل نساءه و دخل الفسطاط (1).0.

ص: 71


1- الاحتجاج:29/2-30.

زينب تبلّغ رسالة الحسين عليهما السلام

تعتبر زينب بنت علي شريكة الحسين عليهم السّلام،شاركته في المسير إلى كربلاء، و في محنة كربلاء،عطشت كما عطش الحسين و جاعت كما جاع،و تألّمت كما تألّم و ضربت كما ضرب عليه السّلام،نعم لم تقتل كما قتل بيد أنّها سبيت و لم يسب!!

ثمّ إنّ زينب كان لها دور فعّال في تبليغ رسالة الحسين عليه السّلام،تلك الرسالة التي كان ثمنها شهادة إمام الزمان و ابن بنت النبيّ المصطفى صلوات اللّه عليهم،رسالة لإصلاح دين جدّه محمّد لا أشرا و لا بطرا،رسالة الكرامة و العطاء و الشهادة،و أنّ دماء الشهداء ترخص و تبذل من أجل حفظ الدين و إصلاحه،من أجل إعلاء كلمة اللّه تعالى و اضمحلال كلمة الباطل تقدّم الأنفس و الأبناء.

من أجل الدفاع عن الخلافة الإسلامية و التصدّي للامور العامّة من الحكم و السياسة و الإقتصاد،يجب تقديم الشهداء و سبي النساء،بل و تقديم الرضّع لتكون الحجّة أعظم.

إنّ الإمام الحسين بن علي عليه السّلام لم يخرج لطلب ملك و لا للتزعّم على الناس و لا للتصدّي للفتوى بين الناس،إذ يزيد رجل فاسق لا علم له بالفقه و لم يدّع ذلك و لا ادّعاه أحد له،إنّما خروج الإمام الحسين و الذي هو خروج الحقّ ضدّ الباطل-من أجل استلام الحكم و الخلافة التي من خلالها فعل يزيد المحرّمات و هتك المقدّسات و استباح المخدّرات،من يملك المال و الرجال و تربّع على عرش الملك يستطيع أن يفعل ما يريد،ما لم يخرج له حسين في كلّ عصر.

ص: 72

إن الولاية و الخلافة ليس تأثيرها فقط على المجتمع و أهدافه و مساره،بل لها تأثير حتى على العبادات و الطاعات،لذا كانت الولاية أهم في حديث(بني الإسلام على خمس):فعن الإمام الباقر عليه السّلام:«بني الإسلام على خمس:على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الولاية و لم يناد بشيء كما نودي بالولاية،فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه-يعني الولاية» (1).

و عن زرارة في رواية اخرى فقلت:و أي شيء من ذلك أفضل؟

فقال عليه السّلام:«الولاية أفضل لأنها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهن».

إلى أن قال عليه السّلام:«أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و تصدّق بجميع ماله و حج جميع دهره و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته إليه،ما كان له على اللّه جل و عز حق في ثوابه و لا كان من أهل الإيمان» (2).

و شاهد ذلك أن الولي إذا لم يكن مواليا لله تعالى فإنه يضيع الصلوات كما فعل معاوية فإنه صلّى صلاة الجمعة يوم الاربعاء.

و كما ضيّع عثمان أموال الزكاة و وزّعها على أقربائه.

فلذلك ثار الحسين عليه السلام و صرّح أنه خرج للدفاع عن دين محمد صلّى اللّه عليه و اله كل الدين.

كانت زينب لتحكي لنا عن تصريحات الحسين عليه السّلام و أقواله و مواعظه في حماية الرسالة المحمّدية،لتبلغ كلام الحسين و أصحابه و حزن الحسين و بكاءه على امّته، كانت زينب لتبلّغ عطش النساء و الأولاد و ضرب المخدّرات و إحراق بيوتهم و سبيهم من أجل ماذا؟!من أجل أنّ إمامهم خرج لإصلاح الدين المحمّدي و الأمر1.

ص: 73


1- أصول الكافي:18/2-21 ح 3 باب دعائم الإسلام،و البحار:332/65..
2- أصول الكافي:18/2 ح 5،و وسائل الشيعة:7/1.

بالمعروف و النهي عن المنكر.

لو لا زينب-و إمامنا زين العابدين عليه السّلام-لما وصلت لنا رسالة الحسين الحقيقيّة و لا عشنا بتفاصيل معركة كربلاء و آثارها و ما حصل من معاجز و كرامات.

كانت زينب بمثابة الوسائل الإعلامية في هذه الأزمنة،فإنّ أيّ ثورة أو حركة لا يكتب لها النجاح إذا لم يكن لديها ما يوصل أفكارها و أهدافها إلى الناس ثمّ إلى الامّة، لأنّ الإعلام المضلّل للأعداء ينقل الأحداث و الوقائع على خلاف الواقع ليستفيد منها لمصالحه أو مظلوميّته.

فكانت زينب تنشر ثورة الحسين عليه السّلام و أهدافها كما هي حتّى وصلت إلينا بأحسن صورة فأثمرت و للّه الحمد و استفاد منها الشيعة على مرّ العصور، مستفيدين من كلّ كلمة للحسين و حركة،لكلّ موقف يتعرّضوا له.

و سوف يبقى تبليغ زينب لبركات ثورة الحسين النور الذي يضيء في سماء الأرض المظلمة ليتمّ نور اللّه الذي وعد به المتّقين.

فمن زينب نستفيد أن نحافظ على الثورة و نحمي قواعدها و بنيانها،من زينب نأخذ الدروس لنحمل الأهداف السامية و ننشرها في المجتمعات.

على كلّ امرأة أن تقتدي بزينب من أجل إعلاء كلمة الحقّ،أن تعلّم أطفالها كيف يكون الدفاع عن الخلافة و الحكم و ليس في زمن الحسين بل في كلّ زمن لأنّ كلّ يوم عاشوراء و كلّ أرض كربلاء،لكلّ عصر حسين و لكلّ عصر يزيد،و لكلّ عصر زينبيات يبلّغن الإسلام و يدافعن عن الحقّ أينما كان.

أختي العزيزة:قولك يا ليتنا كنا مع زينب،ليس معناه أن يعود الزمان فتكونين معها فتصبري و تواسيها،معنى قولك:أن تقفي حيث وقفت زينب،و تدافعي عن الحق كما دافعت زينب،و أن تضحّي بكل شيء كما ضحّت زينب،من أجل الدفاع عن الدين و حمايته من الإستعمار اليزيدي و غيره.

ص: 74

أهمية تبليغ زينب و السجاد رسالة الحسين عليهم السلام

قال السيد الخامنئي:فنفس القيمة التي تمتلكها تضحية الحسين عليه السّلام عند الله تبارك و تعالى و نفس الدور الذي لعبته في تأجيج نهضته تملكها-أو تقاربها- خطب الإمام السجاد عليه السّلام و زينب عليها السّلام أيضا..فتأثيرها يقرب من أن يعادل تأثير تضحية الحسين عليه السّلام بدمه.

لقد أفهمنا سيد الشهداء عليه السّلام و أهل بيته و أصحابه أنّ على النساء و الرجال ألاّ يخافوا في مواجهة حكومة الجور.

فقد وقفت زينب(سلام الله عليها)في مقابل يزيد-و في مجلسه-و صرخت بوجهه و أهانته و أشبعته تحقيرا لم يتعرض له جميع بني أمية طرا في حياتهم.كما أنها(عليها السلام)و السجاد عليه السّلام تحدثا و خطبا في الناس أثناء الطريق و في الكوفة و الشام،فقد ارتقى الإمام السجاد(سلام الله عليه)المنبر و أوضح حقيقة القضية و أكد أن الأمر ليس قياما لأتباع الباطل بوجه أتباع الحق،و أشار إلى أن الأعداء قد شوّهوا سمعتهم و حاولوا أن يتّهموا الحسين عليه السّلام بالخروج على الحكومة القائمة و على خليفة رسول الله!لقد أعلن الإمام السجاد عليه السّلام الحقيقة بصراحة على رؤوس الأشهاد،و هكذا فعلت زينب عليه السّلام أيضا.

و هكذا هو الأمر اليوم في بلدنا،فسيد الشهداء عليه السّلام قد حدد تكليفنا،فلا تخشوا من قلة العدد و لا من الاستشهاد في ميدان الحرب،فكلما عظم هدف الإنسان و سمت غايته كان عليه أن يتحمّل المشاق أكثر بنفس النسبة،فنحن لم ندرك بعد

ص: 75

جيدا حجم الإنتصار الذي حققناه،و سيدرك العالم فيما بعد عظمة النصر الذي حققه الشعب الإيراني (1).

السلام عليك يا أبا عبد اللّه الحسين و على الأرواح التي حلّت بفنائك..عليك مني سلام اللّه أبدا ما بقيت و بقي الليل و النهار و لا جعله اللّه آخر العهد منّي لزيارتك..

السلام على الحسين و على علي بن الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين (2).5.

ص: 76


1- كتاب نهضة عاشوراء،ص 23.
2- ثورة عاشوراء شمس الشهادة:315.

وعي زينب الرسالي

كانت زينب عليها السّلام تمتلك من الوعي و القيادة الحكيمة ما يجعلها تحكم في امّة كبيره،تلك القيادة التي تعلّمتها من أبيها علي بن أبي طالب طيلة معاشرته للخلفاء الثلاثة و في ظلّ حكومته بعدهم،و في حروبه مع أعداء الإسلام و التي كانت زينب عليها السّلام تستفيد من خبرة أبيها و قيادته للمستقبل.

و زادت هذه الخبرة بما تعلّمته من أخيها الحسن سواء في حروبه مع معاوية أم في صلحه معه.

ذلك الوعي الذي نشأت عليه زينب و تربّت عليه من امّها الصدّيقة الطاهرة و من أبيها عليهم السّلام.

الوعي الذي أهّلها لخوض معركة كربلاء و من بعدها تبليغ رسالة الحسين عليه السّلام كما أراد النبيّ و كما أراد الحسين،و نجحت زينب بذلك لما تملكه من وعي و حسن تدبير و حكمة و قيادة.

و قد نقل الصدوق أنّها كانت لها نيابة خاصّة عن الحسين و كان الناس يرجعون إليها في الحلال و الحرام حتّى برئ زين العابدين عليه السّلام (1).

و زاد ذلك ما تملكه الحوراء زينب من علم ربّاني أفاضه اللّه عليها لقربها من اللّه و التزامها بتعاليمه،و قد أشار إلى ذلك إمامنا عليّ بن الحسين عليه السّلام حيث خاطب

ص: 77


1- وفيّات الأئمّة:440.

عمّته زينب قائلا:و أنت بحمد اللّه عالمة غير معلّمة فهمة غير مفهّمة (1).

استفادت زينب عليها السّلام من وعيها و علمها و قيادتها لخدمة الإسلام و الدفاع عن مقدّساته،متحمّلة الأذى و المحن و العطش و السبي،كلّ ذلك من أجل مرضاة اللّه تعالى و إمام زمانها.

تعلّمنا زينب كيف تكون المرأة الواعية في المجتمع،تكون حامية للمقدّسات مهما كان ثمن ذلك،مدافعة عن المسلمين،جنديّة في خدمة الإسلام تحت ظلّ راية العدل و ما ذلك إلاّ لمرضاة اللّه الذي أمر بإطاعة اولي الأمر.7.

ص: 78


1- أمالي المفيد:323،الاحتجاج:31/2،و البحار:164/45 ح 7.

قيادة زينب

قيادة زينب كان نموذجا للالتزام بخط القيادة و المشي على تعاليم وليّ الأمر، حيث نفّذت زينب عليها السّلام وصيّة الخليفة الحسين بن علي و من بعده تعاليم وليّ أمرها عليّ بن الحسين،فنجحت زينب في مهمّتها و أوصلت ثورة الحسين و ما جرى في كربلاء إلى الامّة كلّ الامّة،و في كلّ عصر و زمان،أصبحت الأيّام كلّها عاشوراء بفضل زينب و وعي زينب و علم زينب،و أصبحت كلّ أرض كربلاء بالتزام زينب بتعاليم إمامها و وليّها.بل و كلّ امرأة مؤمنة واعية حكيمة.

فهنيئا للزينبيّات اللواتي يلتزمن بالقيادة و الولاية و يستفدن من وعيهنّ و علمهنّ للدفاع عن الإسلام و نشر الدعوة الإسلامية في البلاد،و قد بشّرهنّ اللّه بفوز منه و رضوان.

قال السيّد مهدي:

قد أسروا من خصّها بآية التطهير ربّ العرش في كتابه

إن ألبست في الأسر ثوب ذلّة تجمّلت للعزّ في أثوابه

ما خطبت إلاّ رأوا لسانها أمضى من الصمصام في خطابه

و جلببت في أسرها آسرها عارا رأى الصغار في جلبابه

و الفصحاء شاهدوا كلامها مقال خير الرسل في صوابه (1)

و قد نجحت سلام اللّه عليها في مهمتها القيادية سواء في كربلاء و مواقفها مع

ص: 79


1- وفيّات الأئمّة:460.

النساء و الرجال،أو في أثناء التوجه الى المدينة و مكة أو بعد ذلك في مراحل تبليغ رسالة الحسين عليه السلام.

ص: 80

علم زينب

علم زينب عليها السلام ظهر بشكل واضح في كربلاء و أثناء الأسر،خاصة في خطبها كما تقدّم،و في مواعظها المتكررة للناس الذين مرّ بهم السبايا في مختلف المدن و القرى،و التي لم يصلنا منها إلا القليل،لسبب التعتيم الذي حصل على هذا السبي أو على كربلاء بشكل عام.

و يظهر من الفاضل الدربندي و غيرها أنّها عليها السّلام كانت تعلم علم المنايا و البلايا، كجملة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام،منهم ميثم التمّار،و رشيد الهجري و غيرهما،بل جزم في أسراره أنّها صلوات اللّه عليها أفضل من مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و غيرهما من فضليات النساء،و ذكر قدّس سرّه عند كلام السجّاد عليه السّلام لها:«يا عمّة أنت بحمد اللّه عالمة غير معلّمة،و فهمة غير مفهّمة».

إنّ هذا الكلام حجّة على أنّ زينب بنت أمير المؤمنين عليه السّلام كانت محدّثة أي ملهمة،و أنّ علمها كان من العلوم اللدنية و الآثار الباطنية.

و من نظر في كتاب أسرار الشهادة رأى فيه من الأدلّة و التحقيقات في حقّ زينب (صلوات اللّه عليها)ما هو أكثر ممّا ذكرناه.

و في(الطراز المذهّب)أنّ شؤونات زينب الباطنية و مقاماتها المعنوية كما قيل فيها أنّ فضائلها و فواضلها،و خصالها،و جلالها،و علمها،و عملها،و عصمتها، و عفّتها،و نورها،و ضياءها،و شرفها،و بهاءها،تالية امّها و ثانيتها.

و قال ابن عنبة في(أنساب الطّالبيين):زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليه السّلام

ص: 81

كنيتها امّ الحسن،تروي عن امّها فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و قد امتازت بمحاسنها الكثيرة و أوصافها الجلية و خصالها الحميدة و شيمها السعيدة و مفاخرها البارزة و فضائلها الطاهرة.

و قال العلاّمة الفاضل السيّد نور الدين الجزائري في كتابه الفارسي المسمّى ب(الخصائص الزينبية)ما ترجمته عن بعض الكتب:أنّ زينب كان لها مجلس في بيتها أيّام إقامة أبيها عليه السّلام في الكوفة،و كانت تفسّر القرآن للنساء،ففي بعض الأيّام كانت تفسّر (كهيعص) للنساء إذ دخل أمير المؤمنين عليه السّلام،فقال لها:يا نور عيني سمعتك تفسرّين (كهيعص) للنساء،فقالت:نعم،فقال عليه السّلام:هذا رمز لمصيبة تصيبكم عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله ثمّ شرح لها المصائب فبكت بكاء عاليا صلوات اللّه عليها.

و في كتاب(بلاغات النساء)لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور قال:حدّثني أحمد بن جعفر سليمان الهاشمي،قال:كانت زينب بنت علي عليه السّلام تقول:من أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى اللّه فليحمده،ألم تسمع إلى قولهم سمع اللّه لمن حمده فخف اللّه لقدرته عليك و استح منه لقربه منك (1).8.

ص: 82


1- وفيّات الأئمّة:438.

فضائل زينب عليها السلام

زينب اسم انتخبه اللّه تعالى لابنة سيّدة نساء العالمين حيث أرسل سبحانه جبرائيل لنبيّه صلّى اللّه عليه و اله بأن سمّيها زينب (1).

و في كتاب(جنّات الخلود)ما معناه:و كانت زينب الكبرى في البلاغة،و الزهد، و التدبير،و الشجاعة،قرينة أبيها و امّها،فإنّ انتظام امور أهل البيت بل الهاشميّين بعد شهادة الحسين عليه السّلام كان برأيها و تدبيرها.

و عن النيسابوري في رسالته العلوية:كانت زينب بنت علي في فصاحتها و بلاغتها و زهدها و عبادتها كأبيها المرتضى عليه السّلام،و امّها الزهراء عليها السّلام.و للّه درّ النقدي حيث يقول:

عقيلة أهل بيت الوحي بنت

الوصي المرتضى مولى الموالي

شقيقة سبطي المختار من قد

سمت شرفا على هام الهلال

حكت خير الأنام على و فخرا

و حيدر في الفصيح من المقال

و فاطم عفّة و تقى و مجدا

و أخلاقا و في كرم الخلال

ص: 83


1- راجع أهل البيت للشرقاوي:102.

ربيبة عصمة طهرت و طابت

وفاقت في الصفات و في الفعال

فكانت كالأئمّة في هداها

و إنقاذ الأنام من الضلال

و كان جهادها بالليل أمضى

من البيض الصوارم و النصال

و كانت في المصلّى إذ تناجي

و تدعو اللّه بالدمع المذال

ملائكة السماء على دعاها

تؤمن في خضوع و ابتهال

ورثت عن امّها الزهراء علوما

بها وصلت إلى حدّ الكمال

مقاما لم يكن تحتاج فيه

إلى تعليم علم أو سؤال

و نالت رتبة في الفخر عنها

تأخّرت الأوامر و الأوالي

فلو لا امّها الزهراء سادت

نساء العالمين بلا جدال (1)

و قال الأصفهاني أعلى اللّه مقامه:

وليّت وجهي شطر قبلة الورى

و من بها تشرّفت امّ القرى2.

ص: 84


1- وفيّات الأئمّة:442.

قطب محيط عالم الوجود

في قوسي النزول و الصعود

ففي النزول كعبة الرزايا

و في الصعود قبلة البرايا

بل هي باب حطّة الخطايا

و موئل الهبات و العطايا

أم الكتاب في جوامع العلا

أم المصاب في مجامع البلا

رضيعة الوحي شقيقة الهدى

ربيبة الفضل خليفة الندى

ربّة خدر القدس و الطهارة

في الصون و العفاف و الخفارة

فإنّها تمثّل الكنز الخفيّ

بالسرّ و الحياء و التعفّف

تمثّل الغيب المصون ذاتها

تعرب عن صفاته صفاتها

مليكة الدّنيا عقيلة النسا

عديلة الخامس من أهل الكسا

شريكة الشهيد في مصائبه

كفيلة السجّاد في نوائبه

بل هي ناموس رواق العظمة

سيّدة العقائل المعظّمة

ص: 85

ما ورثته من الرحمة

جوامع العلم أصول الحكمة

سرابها في علوّ الهمّة

و الصبر في الشدائد الملمّة

ثباتها ينبئ عن ثباته

كان فيها كلّ مكرماته

لها من الصبر على المصائب

ما جلّ أن يعدّ في العجائب

بل كاد أن يلحق بالمعاجز

لأنّه حرفة كلّ عاجز

فإنّها سلالة الولاية

ولاية ليس لها نهاية

بيانها يفصح عن بيانه

كأنّها تفرغ عن لسانه

ناهيك فيه الخطب المأثورة

فإنّها كالدرر المنثورة

بل هي لو لا الحطّ من مقامها

كاللؤلؤ المنضود في نظامها

فإنّها وليدة الفصاحة

والدها فارس تلك الساحة

و ما أصاب امّها من البلا

فهو تراثها بطف كربلا

ص: 86

لكنّها عظيمة بلواها

من الحرب شاهدت دهاها

رأت هجوم الخيل بالنار على

خبائها أو محور السبع العلى

و أسلبوا يا ويلهم قرارها

مذ سلبوا إزارها خمارها

و سبيهم و دائع المختار

عار على الإسلام أيّ عار

يكاد أن يذهب بالعقول

سبي بنات الوحي و التنزيل

و ما رأت بالطف من أهوالها

جلّ عن الوصف بيان حالها

و من يطيق وصف سوء حالها

مذ رأت السبط على رمالها

معفّر الخدّ مضرّجا بدم

لهفي على جمال سلطان القدم

و حولها فتيانه على الثرى

كالشهب الزهر تحفّ القمرا

واها على كواكب السعود

عقد نظام الغيب و الشهود

كيف هوت و انتثرت أشلاؤها

بأيّ ذنب سفكت دماؤها

ص: 87

و شاهدت ريحانة الرسول

تدوسها حوافر الخيول

فأصبحت خزانة اللاهوت

حلبة خيل الجبت و الطاغوت

صدر تربّى فوق صدر المصطفى

ترضّه الخيل على الدّنيا العفى

ترى العوالي مركز المعالي

مدرجة لذروة الكمال

و هي عرش و عليه التاج

أو أنّها البراق و المعراج

نال من العروج ما تمنّى

كقاب قوسين دنا أو أدنى

حتّى تجلّى قائلا إنّي أنا

من شجر القناة في طور القنا

لسان حاله لسلطان القدم

سعيا على الرأس إليك لا القدم

و سوقها إلى يزيد الطاغية

أشجى فجيعة و أدهى داهية

و ما رأته في دمشق الشام

يذهب بالعقول و الأحلام

أمامها رأس الإمام الزاكي

و خلفها النوائح البواكي

ص: 88

أو الكتاب الناطق المبين

حفّ به الحنين و الأنين

و أفظع الكلّ دخول الطاهرة

حاسرة على ابن هند العاهرة

و ما لها و مجلس الشراب

و هي ابنة السنّة و الكتاب

أتوقف الحرّة من آل العبا

بين يدي طليقها و اعجبا

يشتمها طاغية الإلحاد

و هي سلالة النبي الهادي

بل سمعت من ذلك اللعين

سبّ أبيها و هو أصل الدين

أتنسب الطاهرة الصدّيقة

للكذب و هي أصدق الخليفة

وا حرّ قلباه لقلب الحرّة

فما رأته لا أطيق ذكره

شلّت يد مدّت بقرع العود

إلى ثنايا العدل و التوحيد

تلك الثنايا مرشف الرسول

و ملثم الطاهرة البتول

و ما جناه باللسان أعظم

و كفره المكنون منه يعلم

ص: 89

و قد أبانت كفر ذاك الطاغي

بأحسن البيان و البلاغ

حنّت بقلب موجع محترق

على أخيها فأجابها الشقي

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النوح على النوائح (1)4.

ص: 90


1- وفيّات الأئمّة:474.

ثورة التوابين تطالب بدم الحسين عليه السلام

اشارة

قال السيد القرشي:ندم أهل الكوفة أشد الندم على خذلانهم للإمام و جعلوا يتلاومون على ما اقترفوه من عظيم الإثم و قد أجمعوا على إقرارهم بالذنب في خذلانه و لزوم التكفير عنه بالمطالبة بثأره و قد خاطب أحدهم ابنته فقال لها:يا بنية إن أباك يفر من ذنبه إلى ربه و قد عقدوا مؤتمرا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي،و هو شيخ الشيعة و صاحب رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و ذو السابقة و القدم في الإسلام،فقد تداولوا الحديث فيما بينهم و رأوا أنه لا يغسل عنهم العار و الإثم إلا بقتل من قتل الحسين عليه السّلام.

و قد ألقيت في قاعة الحفل عدة خطب حماسية و هي تدعو إلى التلاحم و وحدة الصف للأخذ بثأر الإمام العظيم،و كان انعقاد المؤتمر فيما يقول المؤرخون في سنة(61 و هي السنة التي قتل فيها الحسين.

قرارات المؤتمر

اشارة

و اتخذ المؤتمر بالإجماع عدة قرارات و من بينها:

1-إنتخاب سليمان بن صرد قائدا عاما للثورة ليتولى وضع المخططات السياسية و العسكرية.

2-مراسلة المناطق التي تضم الشيعة في العراق و خارجه و إعلامها بما أجمعوا

ص: 91

عليه من الأخذ بثأر الإمام و المطالبة بالانضمام إليهم.

3-تأجيل الثورة إلى مدة أربع سنين على أن تكون السنوات الأربع فترة تأهب و استعداد للقتال.

4-أن تكون النخيلة هي المركز الرئيسي الذي تعلن فيه الثورة.

5-إحاطة الثورة بالسر و الكتمان.

و تفّرق أعضاء المؤتمر و كان عددهم فيما يقول المؤرخون مائة شخص و قد أخذوا يواصلون العمل فيجمعون التبرعات لشراء الأسلحة،و يدعون الناس إلى الالتفاف حولهم و الإنضمام إليهم.

إعلان الثورة:

و في سنة(65 ه)أعلن التوابون ثورتهم العارمة على الحكم الأموي و كان عددهم فيما يقول المؤرخون أربعة آلاف،و قد أرسل زعيم الثورة سليمان بن صرد إلى الكوفة الحكيم بن منقذ الكندي،و الوليد بن عصير الكناني و أمرهما أن يجوبا في مدينة الكوفة و يناديا بشعار الثورة:

«يا لثارات الحسين».

و حينما انتهيا إليها ناديا بذلك،و لأول مرة دوى هذا النداء المؤثر في سماء الكوفة فكان كالصاعقة على رؤوس السفكة المجرمين،كما كان بلسما لقلوب المؤمنين و المسلمين،و قد التحق قسم كبير من الناس بالنخيلة فخطب فيهم سليمان بن صرد خطابا مؤثرا،و أعرب لهم أنه لا ينشد مغنما أو مكسبا،و إنما يلتمس وجه الله و الدار الآخرة،و يرجو أن يكفّر الله عنه و عن إخوانه ما اقترفوه من عظيم الذنب في خذلانهم لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

ص: 92

1-في كربلاء

و صمم التوابون على المضي إلى كربلاء لزيارة قبر أبي الشهداء عليه السّلام ليعلنوا التوبة إلى الله عند مرقده.

و سارت كتائب التوابين إلى كربلاء فلما وصلوا إليها صاحوا صيحة واحدة«يا حسين»و أغرقوا بالبكاء و النحيب،و أخذوا يتضرعون إلى الله ليتوب عليهم،و يغفر لهم،و قد قالوا عند ضريح الإمام:

«اللّهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد،المهدي ابن المهدي،الصديق ابن الصديق.

اللّهم إنّا نشهدك أنّا على دينهم و سبيلهم،و أعداء قاتليهم،و أولياء محبيهم.

اللّهم إنّا خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى منا،و تب علينا فارحم حسينا و أصحابه الشهداء الصديقين،و إنّا نشهدك أنّا على دينهم و على ما قتلوا عليه،و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين».

و ازدحموا على القبر الشريف أكثر من الازدحام على الحجر الأسود و هم يبكون و يتضرعون إلى الله ليغفر ذنوبهم و يمنحهم التوبة،ثم رحلوا إلى الأنبار.

2-في عين الوردة

و سارت كتائب التوابين حتى انتهت إلى عين الوردة فأقامت فيها و زحفت إليهم جنود أهل الشام و التحمت معهم التحاما رهيبا،و جرت بينهما أعنف المعارك و أشدها ضراوة،و مني الجيشان بخسائر كبيرة في الأرواح،و استشهد قادة التوابين كسليمان بن صرد،و المسيب بن نجبة و عبد الله بن سعد و غيرهم.

ص: 93

و لما رأى التوابون أنهم لا قدرة لهم على مقابلة أهل الشام،تركوا ساحة القتال، و رجعوا في غلس الليل إلى الكوفة،و لم تتعقبهم جيوش أهل الشام،و قد مضى كل إلى بلده،و انتهت بذلك معركة التوابين،و قد أدخلت الفزع على الأمويين،و كبّدتهم أفدح الخسائر (1).3.

ص: 94


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:309/3.

ثورة التوابين برواية الطبري و ابن هشام و أبو مخنف

قال الطبري:قال هشام:قال أبو مخنف:حدثني أبو يوسف عن عبد اللّه بن عوف الأحمري قال بعث سليمان بن صرد إلى وجوه أصحابه حين أراد الشخوص و ذلك في سنة 65 فأتوه،فلما استهل الهلال هلال شهر ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه و قد كان واعدا أصحابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حتى أتى عسكره فدار في الناس و وجوه أصحابه فلم يعجبه عدة الناس فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل و بعث الوليد بن غضين الكناني في خيل و قال اذهبا حتى تدخلا الكوفة فناديا يا لثأرات الحسين و ابلغا المسجد الأعظم فناديا بذلك فخرجا و كانا أول خلق اللّه دعوا يا لثأرات الحسين.

قال:فأقبل حكيم بن منقذ الكندي في خيل و الوليد بن غضين في خيل حتى مرا ببنى كثير و إن رجلا من بني كثير من الأزد يقال له:عبد اللّه بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عمرو من بني كثير و كانت من أجمل الناس و أحبّهم إليه سمع الصوت يا لثارات الحسين و ما هو ممن كان يأتيهم و لا استجاب لهم فوثب إلى ثيابه فلبسها و دعا بسلاحه و أمر بإسراج فرسه فقالت له امرأته ويحك أجننت قال:

لا و اللّه و لكني سمعت داعي اللّه فأنا مجيبه أنا أطالب بدم هذا الرجل حتى أموت أو يقضى اللّه من أمري ما هو أحب إليه.

فقالت له:إلى من تدع بنيك هذا؟

قال:إلى اللّه وحده لا شريك له اللهم إني أستودعك أهلي و ولدي اللهم احفظني فيهم و كان ابنه ذلك يدعى عزرة فبقى حتى قتل بعد مع مصعب بن الزبير و خرج

ص: 95

حتى لحق بهم فقعدت امرأته تبكيه و اجتمع إليها نساؤها و مضى مع القوم و طافت تلك الليلة الخيل بالكوفة حتى جاء و المسجد بعد العتمة و فيه ناس كثير يصلّون فنادوا يا لثارات الحسين و فيهم أبو عزة القابضي و كرب بن نمران يصلّى فقال:يا لثارات الحسين أين جماعة القوم.

قيل:بالنخيلة فخرج حتى أتى أهله فأخذ سلاحه و دعا بفرسه ليركبه فجاءته ابنته الرواع و كانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي فقالت يا أبت مالي أراك قد تقلّدت سيفك و لبست سلاحك فقال لها:يا بنية إن أباك يفر من ذنبه إلى ربه فأخذت تنتحب و تبكى و جاءه أصهاره و بنو عمه فودعهم ثم خرج فلحق بالقوم.

قال:فلم يصبح سليمان ابن صرد حتى أتاه نحو ممن كان في عسكره حين دخله.

قال:ثم دعا بديوانه لينظر فيه إلى عدة من بايعه حين أصبح فوجدهم ستة عشر ألفا فقال:سبحان اللّه ما وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفا (1).

(قال أبو مخنف)عن عطية بن الحارث عن حميد بن مسلم قال قلت لسليمان بن صرد إن المختار و اللّه يثبط الناس عنك إني كنت عنده أول ثلاث فسمعت نفرا من أصحابه يقولون قد كملنا ألفي رجل فقال:وهب أن ذلك كان فأقام عنا عشرة آلاف أما هؤلاء بمؤمنين أما يخافون اللّه أما يذكرون اللّه و ما أعطونا من أنفسهم من العهود و المواثيق ليجاهدن و لينصرن فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث ثقاته من أصحابه إلى من تخلّف عنه يذكّرهم اللّه و ما أعطوه من أنفسهم فخرج إليه نحو من ألف رجل فقام المسيب بن نجبة إلى سليمان بن صرد فقال:رحمك اللّه إنه لا ينفعك الكاره و لا يقاتل معك إلا من أخرجته النية فلا ننتظرن أحدا و اكمش في أمرك.

قال:فإنك و اللّه لنعما رأيت فقام سليمان بن صرد في الناس متوكّئا على قوس له3.

ص: 96


1- تاريخ الطبري-الطبري-ج 4-ص 453.

عربية فقال:أيها الناس من كان إنما أخرجته إرادة وجه اللّه و ثواب الآخرة فذلك منا و نحن منه فرحمة اللّه عليه حيا و ميتا و من كان إنما يريد الدنيا و حرثها فو اللّه ما نأتى فيئا نستفيئه و لا غنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه رب العالمين و ما معنا من ذهب و لا فضة و لا خز و لا حرير و ما هو إلا سيوفنا في عواتقنا و رماحنا في أكفّنا و زاد قدر البلغة إلى لقاء عدونا فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا فقام صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني فقال:أتاك اللّه رشدك و لقاك حجتك و اللّه الذي لا إله غيره مالنا خير في صحبة من الدنيا همته و نيته أيها الناس إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا و الطلب بدم ابن ابنة نبينا صلّى اللّه عليه و سلم ليس معنا دينار و لا درهم إنما نقدم على حد السيوف و أطراف الرماح فتنادى الناس من كل جانب إنا لا نطلب الدنيا و ليس لها خرجنا (1).

(قال أبو مخنف)عن إسماعيل بن يزيد الأزدي عن السري بن كعب الأزدي قال:

أتينا صاحبنا عبد اللّه بن سعد بن نفيل نودعه قال:فقام فقمنا معه فدخل على سليمان و دخلنا معه و قد أجمع سليمان بالمسير فأشار عليه عبد اللّه بن سعد بن نفيل أن يسير إلى عبيد اللّه بن زياد و رؤوس أصحابه.الرأي ما أشار به عبد اللّه بن سعد بن نفيل أن نسير إلى عبيد اللّه بن زياد قاتل صاحبنا و من قبله أتينا فقال له عبد اللّه بن سعد و عنده رؤوس أصحابه جلوس حوله:إني قد رأيت رأيا إن يكن صوابا فاللّه وفّق و إن يكن ليس بصواب فمن قبلي فإني ما آلوكم و نفسي نصحا خطأ كان أم صوابا إنما خرجنا نطلب بدم الحسين و قتلة الحسين كلهم بالكوفة منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص و رؤوس الأرباع و أشراف القبائل فأنى نذهب ههنا و ندع الإقتال و الأوتار.

فقال سليمان بن صرد:فماذا ترون؟4.

ص: 97


1- تاريخ الطبري-الطبري-ج 4-ص 454.

فقالوا:و اللّه لقد جاء برأي و إن ما ذكر لكما ذكر و اللّه ما نلقى من قتلة الحسين إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد و ما طلبتنا إلا ههنا بالمصر.

فقال سليمان بن صرد:لكن أنا ما أرى ذلك لكم إن الذي قتل صاحبكم و عبّأ الجنود إليه و قال:لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة عبيد اللّه بن زياد فسيروا إلى عدوكم على اسم اللّه فإن يظهركم اللّه عليه رجونا أنا يكون من بعده أهون شوكة منه و رجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه و لا تغشموا و إن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين و ما عند اللّه خير للأبرار و الصديقين إني لأحب أن تجعلوا حدّكم و شوكتكم بأول المحلين القاسطين و اللّه لو قاتلتم غدا أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه و أباه و حميمه أو رجلا لم يكن يريد قتله فاستخيروا اللّه و سيروا فتهيأ الناس للشخوص.

قال:و بلغ عبد اللّه بن يزيد و إبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد و أصحابه فنظرا في أمرهما فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عليهم الإقامة و أن تكون أيديهم واحدة فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حتى يعبئوا معهم جيشا فيقاتلوا عدوهم بكثف و حد فبعث عبد اللّه بن يزيد و إبراهيم بن محمد بن طلحة سويد بن عبد الرحمن إلى سليمان بن صرد فقال له:إن عبد اللّه و إبراهيم يقولان إنا نريد أن نجيئك الآن لأمر عسى اللّه أن يجعل لنا و لك فيه صلاحا فقال:قل لهما فليأتيانا.

و قال سليمان لرفاعة بن شداد البجلي:قم أنت فأحسن تعبية الناس فإن هذين الرجلين قد بعثا بكيت و كيت فدعا رؤوس أصحابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعة حتى جاء عبد اللّه بن يزيد في أشراف أهل الكوفة و الشرط و كثير من المقاتلة و إبراهيم بن محمد بن طلحة في جماعة من أصحابه فقال عبد اللّه بن يزيد لكل رجل معروف قد علم أنه قد شرك في دم الحسين لا تصحبني إليهم مخافة أن ينظروا إليه

ص: 98

فيعدوا عليه و كان عمر بن سعد تلك الأيام التي كان سليمان معسكرا فيها بالنخيلة لا يبيت إلا في قصر الامارة مع عبد اللّه بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم في داره و يدمروا عليه بيته و هو غافل لا يعلم فيقتل.

و قال عبد اللّه بن يزيد:يا عمرو بن حريث إن أنا أبطأت عنك فصل بالناس الظهر، فلما انتهى عبد اللّه بن يزيد و إبراهيم بن محمد إلى سليمان بن صرد دخلا عليه فحمد اللّه عبد اللّه بن يزيد و أثنى عليه ثم قال:إن المسلم أخو المسلم لا يخونه و لا يغشه و أنتم إخواننا و أهل بلدنا و أحب أهل مصر خلقه اللّه إلينا فلا تفجعونا بأنفسكم و لا تستبدّوا علينا برأيكم و لا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا أقيموا معنا حتى نتيسر و نتهيأ فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم و تكلم إبراهيم بن محمد بنحو من هذا الكلام قال:فحمد اللّه سليمان بن صرد و أثنى عليه ثم قال لهما:إني قد علمت أنكما قد محضتما في النصيحة و اجتهدتما في المشورة فنحن باللّه و له و قد خرجنا لأمر و نحن نسأل اللّه العزيمة على الرشد و التسديد لأصوبه و لا ترانا إلا شاخصين إن شاء اللّه ذلك فقال عبد اللّه بن يزيد:فأقيموا حتى نعبّىء معكم جيشا كثيفا فتلقوا عدوكم بكثف و جمع و حد فقال له سليمان:تنصرفون و نرى فيما بيننا و سيأتيكم إن شاء اللّه رأي.

(قال أبو مخنف)عن عبد الجبار يعنى ابن عباس الهمداني عن عون بن أبي جحيفة السوائي.

قال:ثم إن عبد اللّه بن يزيد و إبراهيم ابن محمد بن طلحة عرضا على سليمان أن يقيم معهما حتى يلقوا جموع أهل الشأم على أن يخصّاه و أصحابه بخراج جوخى خاصة لهم دون الناس.

فقال لهما سليمان:إنّا ليس للدنيا خرجنا،و إنما فعلا ذلك لما قد كان بلغهما من إقبال عبيد اللّه بن زياد نحو العراق و انصرف إبراهيم بن محمد و عبد اللّه بن يزيد إلى الكوفة و أجمع القوم على الشخوص و استقبال ابن زياد و نظروا فإذا شيعتهم من

ص: 99

أهل البصرة لم يوافوهم لميعادهم و لا أهل المدائن فأقبل ناس من أصحابه يلومونهم.

فقال سليمان:لا تلوموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم لو قد انتهى إليهم خبركم و حين مسيركم و لا أراهم خلفهم و لا أقعدهم إلا قلة النفقة و سوء العدة فأقيموا ليتيسروا و يتجهّزوا و يلحقوا بكم و بهم قوة و ما أسرع القوم في آثاركم.

قال:ثم إن سليمان بن صرد قام في الناس خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:

أما بعد أيها الناس فإن اللّه قد علم ما تنوون و ما خرجتم تطلبون و أن للدنيا تجارا و للآخرة تجارا فأما تاجر الآخرة فساع إليها متنصب بتطلابها لا يشترى بها ثمنا لا يرى إلا قائما و قاعدا و راكعا و ساجدا لا يطلب ذهبا و لا فضة و لا دنيا و لا لذة و أما تاجر الدنيا فمكب عليها راتع فيها لا يبتغى بها بدلا فعليكم يرحمكم اللّه في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل و بذكر اللّه كثيرا على كل حال و تقرّبوا إلى اللّه جل ذكره بكل خير قدرتم عليه حتى تلقوا هذا العدو و المحلّ القاسط فتجاهدوه فإنكم لن تتوسلوا إلى ربكم بشيء هو أعظم عنده ثوابا من الجهاد و الصلاة فإن الجهاد سنام العمل جعلنا اللّه و إياكم من العباد الصالحين المجاهدين الصابرين على اللأواء و إنا مدلجون الليلة من منزلنا هذا إن شاء اللّه فأدلجوا.فأدلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة 65 للهجرة.

قال:فلما خرج سليمان و أصحابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم بن منقذ فنادى في الناس ألا لا يبيتن رجل منكم دون دير الأعور فبات الناس بدير الأعور و تخلّف عنه ناس كثير ثم سار حتى نزل الأقساس أقساس مالك على شاطئ الفرات فعرض الناس فسقط منهم نحو من ألف رجل.

فقال ابن صرد:ما أحب أن من تخلف عنكم معكم و لو خرجوا معكم ما زادوكم إلا خبالا إن اللّه عز و جل كره انبعاثهم فثبطهم و خصّكم بفضل ذلك فاحمدوا ربكم ثم خرج من منزله ذلك دلجة فصبحوا قبر الحسين فأقاموا به ليلة و يوما يصلون

ص: 100

عليه و يستغفرون له.

قال:فلما انتهى الناس إلى قبر الحسين صاحوا صيحة واحدة و بكوا فما رئي يوم كان أكثر باكيا منه.

(قال أبو مخنف)و قد حدّث عبد الرحمن بن جندب عن عبد الرحمن بن غزية قال:

لما انتهينا إلى قبر الحسين عليه السلام بكى الناس بأجمعهم و سمعت جل الناس يتمنون أنهم كانوا أصيبوا معه فقال سليمان:اللهم ارحم حسينا الشهيد بن الشهيد المهدي بن المهدي الصديق بن الصديق اللهم إنا نشهدك أنّا على دينهم و سبيلهم و أعداء قاتليهم و أولياء محبيهم ثم انصرف و نزل و نزل أصحابه.

(قال أبو مخنف)حدثنا الأعمش قال:حدثنا سلمة بن كهيل عن أبي صادق قال:

لما انتهى سليمان بن صرد و أصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحة واحدة يا رب أنا قد خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى منا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم و ارحم حسينا و أصحابه الشهداء الصديقين و إنا نشهدك يا رب أنّا على مثل ما قتلوا عليه فإن لم تغفره لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين.

قال:فأقاموا عنده يوما و ليلة يصلّون عليه و يبكون و يتضرعون فما انفك الناس من يومهم دلك يترحمون عليه و على أصحابه حتى صلّوا الغداة من الغد عند قبره و زادهم ذلك حنقا ثم ركبوا فأمر سليمان الناس بالمسير فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الحسين فيقوم عليه فيترحم عليه و يستغفر له.

قال:فو اللّه لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود.

قال:و وقف سليمان عند قبره فكلما دعى له قوم و ترحّموا عليه قال لهم المسيب بن نجبة و سليمان بن صرد:الحقوا بإخوانكم رحمكم اللّه فما زال كذلك حتى بقي نحو من ثلاثين من أصحابه فأحاط سليمان بالقبر هو و أصحابه.

فقال سليمان:الحمد للّه الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين اللهم إذ

ص: 101

حرمتناها معه فلا تحرمناها فيه بعده و قال عبد اللّه بن وال أما و اللّه إني لأظن حسينا و أباه و أخاه أفضل أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلم وسيلة عند اللّه يوم القيامة أفما عجبتم لما ابتليت به هذه الأمة منهم أنهم قتلوا اثنين و أشفوا بالثالث على القتل.

قال:يقول المسيب بن نجبة فأنا من قتلتهم و من كان على رأيهم بريء إياهم أعادي و أقاتل.

قال:فأحسن الرؤوس كلهم المنطق و كان المثنى بن نجزية صاحب أحد الرؤوس و الأشراف فساءني حيث لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو ما تكلموا به.

قال:فو اللّه ما لبثت أن تكلم بكلمات ما كن بدون كلام أحد من القوم فقال:إن اللّه جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم صلّى اللّه عليه و سلم أفضل ممن هو دون نبيهم و قد قتلهم قوم نحن لهم أعداء و منهم براء و قد خرجنا من الديار و الأهلين و الأموال إرادة استئصال من قتلهم فو اللّه لو أن القتال فيهم بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حتى نناله فإن ذلك هو الغنم و هي الشهادة التي ثوابها الجنة فقلنا له صدقت و أصبت و وفقت.

قال:ثم إن سليمان بن صرد سار من موضع قبر الحسين و سرنا معه فأخذنا على الحصاصة ثم على الأنبار ثم على الصدود ثم على القيارة.

(قال أبو مخنف)عن الحارث بن حصيرة و غيره أن سليمان بعث على مقدمته كريب بن يزيد الحميري.

(قال أبو مخنف)حدثني الحصين بن يزيد عن السرى ابن كعب قال:خرجنا مع رجال الحي نشيعهم،فلما انتهينا إلى قبر الحسين و انصرف سليمان بن صرد و أصحابه عن القبر و لزموا الطريق استقدمهم عبد اللّه بن عوف ابن الأحمر على فرس له مهلوب كميت مربوع يتأكل تأكلا و هو يزتجز و يقول:

خرجن يلمعن بنا أرسالا عوابسا يحملننا أبطالا

نريد أن نلقى به الأقتالا القاسطين الغدر الضلالا

ص: 102

و قد رفضنا الأهل و الأموالا و الخفرات البيض و الحجالا

نرضى به ذا النعم المفضالا.

(قال أبو مخنف)عن سعد بن مجاهد الطائي عن المحل بن خليفة الطائي أن عبد اللّه ابن يزيد كتب إلى سليمان بن صرد أحسبه قال:بعثني به فلحقته بالقيارة و استقدم أصحابه حتى ظن أن قد سبقهم.

قال:فوقف و أشار إلى الناس فوقفوا عليه ثم أقرأهم كتابه فإذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه بن يزيد إلى سليمان بن صرد و من معه من المسلمين سلام عليكم أما بعد فإن كتابي هذا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء و كم من ناصح مستغش و كم من غاش مستنصح محب إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير و إنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله و ينزع و هو مذموم العقل و الفعل يا قومنا لا تطمعوا عدوكم في أهل بلادكم فإنكم خيار كلمكم و متى ما يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم يا قومنا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا يا قوم إن أيدينا و أيديكم اليوم واحدة و إن عدونا و عدوكم واحد و متى تجتمع كلمتنا نظهر على عدونا و متى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا يا قومنا لا تستغشوا نصحي و لا تخالفوا أمري و أقبلوا حين يقرأ عليكم كتابي أقبل اللّه بكم إلى طاعته و أدبر بكم عن معصيته و السلام.

قال:فلما قرئ الكتاب على ابن صرد و أصحابه قال للناس:ما ترون؟

قالوا:ماذا ترى قد أبينا هذا عليكم و عليهم و نحن في مصرنا و أهلنا فالآن حين خرجنا و وطّنا أنفسنا على الجهاد و دنونا من أرض عدونا ما هذا برأي ثم نادوه أن أخبرنا برأيك.

قال:رأيي و اللّه إنكم لم تكونوا قط أقرب من إحدى الحسنيين منكم يومكم هذا الشهادة و الفتح و لا أرى أن تنصرفوا عما جمعكم اللّه عليه من الحق و أردتم به من

ص: 103

الفضل أنا و هؤلاء مختلفون إن هؤلاء لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير و لا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلا ضلالا و إنا إن نحن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهله و إن أصبنا فعلى نياتنا تائبين من ذنوبنا إن لنا شكلا و إن لابن الزبير شكلا إنا و إياهم كما قال أخو بني كنانة:

أرى لك شكلا غير شكلي فأقصري عن اللوم إذ بدلت و اختلف الشكل (1)

قال:فانصرف الناس معه حتى نزل هيت فكتب سليمان:بسم اللّه الرحمن الرحيم للأمير عبد اللّه بن يزيد من سليمان بن صرد و من معه من المؤمنين سلام عليك أما بعد فقد قرأنا كتابك و فهمنا ما نويت فنعم و اللّه الوالي و نعم الأمير و نعم أخو العشيرة أنت و اللّه من نأمنه بالغيب و نستنصحه في المشورة و نحمده على كل حال إنا سمعنا اللّه عز و جل يقول في كتابه إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ -إلى قوله- وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ إن القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم و قد توجّهوا إلى اللّه و توكّلوا عليه و رضوا بما قضى اللّه ربنا عليك توكلنا و إليك أنبنا و إليك المصير و السلام عليك،فلما أتاه هذا الكتاب قال:استمات القوم أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم و أيم اللّه ليقتلن كراما مسلمين و لا و الذي هو ربهم لا يقتلهم عدوهم حتى تشتد شوكتهم و تكثر القتلى فيما بينهم.

(قال أبو مخنف)فحدثني يوسف بن يزيد عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر و عبد الرحمن بن جندب عن عبد الرحمن بن غزية قال:خرجنا من هيت حتى انتهينا إلى قرقيسيا،فلما دنونا منها وقف سليمان بن صرد فعبّأنا تعبية حسنة حتى مررنا بجانب قرقيسبا فنزلنا قريبا منها و بها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصّن بها من القوم و لم يخرج إليهم فبعث سليمان المسيب بن نجبة.0.

ص: 104


1- تاريخ الطبري-الطبري-ج 4-ص 460.

فقال:ائت ابن عمك هذا فقل له فليخرج إلينا سوقا فإنا لسنا إياه نريد إنما صمدنا لهؤلاء المحلين فخرج المسيب بن نجبة حتى انتهى إلى باب قرقيسيا.فقال:افتحوا ممن تحصّنون فقالوا:من أنت؟

قال:أنا المسيب بن نجبة فأتى الهذيل بن زفر أباه.فقال:هذا رجل حسن الهيئة يستأذن عليك و سألناه من هو؟

فقال:المسيب بن نجبة.

قال:و انا إذ ذاك لا علم لي بالناس و لا أعلم أي الناس هو؟

فقال لي أبي:أما تدرى أي بني من هذا هذا فارس مضر الحمراء كلها و إذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم و هو بعد رجل ناسك له دين ائذن له فأذنت له فأجلسه أبى إلى جانبه و ساءله و ألطفه في المسألة.

فقال المسيب بن نجبة:ممن تحصّن إنا و اللّه ما إياكم نريد و ما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلين فأخرج لنا سوقا فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يوما أو بعض يوم.

فقال له زفر بن الحارث:إنا لم نغلق أبواب هذه المدينة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا و اللّه ما بنا عجز من الناس ما لم تدهمنا حيلة و ما نحب أنا بلينا بقتالكم و قد بلغنا عنكم صلاح و سيرة حسنة جميلة نم دعا ابنه فأمره أن يضع لهم سوقا و أمر للمسيب بألف درهم و فرس.

فقال له المسيب:أما المال فلا حاجة لي فيه و اللّه ماله خرجنا و لا إياه طلبنا و أما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إليه إن ظلع فرسى أو غمز تحتي فخرج به حتى أتى أصحابه و أخرجت لهم السوق فتسوّقوا و بعث زفر بن الحارث إلى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق و الأعلاف و الطعام الكثير بعشرين جزورا و بعث إلى سليمان ابن صرد مثل ذلك و قد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر فسمّى له عبد اللّه بن سعد بن نفيل و عبد اللّه بن وال و رفاعة بن شداد و سمّى له أمراء

ص: 105

الأرباع فبعث إلى هؤلاء الرؤوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر و علف كثير و طعام و أخرج للعسكر عيرا عظيمة و شعيرا كثيرا.

فقال غلمان زفر:هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم و هذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم و هذا دقيق فتزوّدوا منه ما أطقتم فظلّ القوم يومهم ذلك مخصبين لم يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت و قد كفوا اللحم و الدقيق و الشعير إلا أن يشتري الرجل ثوبا أو سوطا.

ثم ارتحلوا من الغد و بعث إليهم زفر إني خارج إليكم فمشيّعكم فأتاهم و قد خرجوا على تعبئة حسنة فسايرهم.

فقال زفر لسليمان:إنه قد بعث خمسة أمراء قد فصلوا من الرقة فيهم الحصين ابن نمير السكوني و شرحبيل بن ذي الكلاع و أدهم بن مجرز الباهلي و أبو مالك بن أدهم و ربيعة بن المخارق الغنوي و جبلة بن عبد اللّه الخثعمي و قد جاءوكم في مثل الشوك و الشجر أتاكم عدد كثير و حد حديد و أيم اللّه لقلّ ما رأيت رجالا هم أحسن هيئة و لا عدة و لا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك و لكنه قد بلغني أنه قد أقبلت إليكم عدة لا تحصى.

فقال ابن صرد:على اللّه توكلنا و عليه فليتوكل المتوكلون.

ثم قال له زفر:فهل لكم في أمر أعرضه عليكم لعل اللّه أن يجعل لنا و لكم فيه خيرا إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدا و أيدينا واحدة و إن شئتم نزلتم على باب مدينتنا و خرجنا فعسكرنا إلى جانبكم فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا.

فقال سليمان لزفز:قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه و ذكروا مثل الذي ذكرت و كتبوا إلينا به بعد ما فصلنا فلم يوافقنا ذلك فلسنا فاعلين.

فقال زفر:فانظروا ما أشير به عليكم فاقبلوه و خذوا به فإني للقوم عدو و أحب أن يجعل اللّه عليهم الدائرة و أنا لكم و ادّ أحب أن يحوطكم اللّه بالعافية،إن القوم قد

ص: 106

فصلوا من الرقة فبادروهم إلى عين الوردة فاجعلوا المدينة في ظهوركم و يكون الرستاق و الماء و المادة في أيديكم و ما بين مدينتنا و مدينتكم فأنتم له آمنون،و اللّه لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم أطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة،فإن القوم يسيرون سبر العساكر و أنتم على خيول و اللّه لقلّ ما رأيت جماعة خيل قط أكرم منها تأهّبوا لها من يومكم هذا فإني أرجو أن تسبقوهم إليها و إن بدرتموهم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم و تطاعنونهم فإنهم أكثر منكم فلا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا لهم ترامونهم و تطاعنونهم فإنه ليس لكم مثل عددهم فإن استهدفتم لهم لم يلبثوكم أن يصرعوكم،و لا تصفوا لهم حين تلقونهم فإني لا أرى معكم رجالة و لا أراكم كلكم إلا فرسانا و القوم لاقوكم بالرجال و الفرسان فالفرسان تحمي رجالها و الرجال تحمي فرسانها و أنتم ليس لكم رجال تحمي فرسانكم فالقوهم في الكتائب و المقانب ثم بثوها ما بين ميمنتهم و ميسرتهم و اجعلوا مع كل كتيبة كتيبة إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجّلت الأخرى فنفّست عنها الخيل و الرجال و متى ما شاءت كتيبة ارتفعت و متى ما شاءت كتيبة انحطت،و لو كنتم في صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض و كانت الهزيمة.

ثم وقف فودّعهم و سأل اللّه أن يصحبهم و ينصرهم.

فأثنى الناس عليه و دعوا له فقال له سليمان بن صرد:نعم المنزول به أنت أكرمت النزول و أحسنت الضيافة و نصحت في المشورة.

ثم إن القوم جدّوا في المسير فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة.

قال:فمررنا بالمدن حتى بلغنا ساعا ثم إن سليمان بن صرد عبّأ الكتائب كما أمره زفر ثم أقبل حتى انتهى إلى عين الوردة فنزل في غربيها و سبق القوم إليها

ص: 107

فعسكروا و أقام بها خمسا لا يبرح و استراحوا و اطمأنوا و أراحوا خيلهم (1).

(قال هشام)قال أبو مخنف عن عطية بن الحارث عن عبد اللّه بن غزية قال:أقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم و ليلة قال عبد اللّه بن غزية:فقام فينا سليمان فحمد اللّه فأطال و أثنى عليه فأطنب ثم ذكر السماء و الأرض و الجبال و البحار و ما فيهن من الآيات و ذكر آلاء اللّه و نعمه و ذكر الدنيا فزهد فيها و ذكر الآخرة فرغّب فيها فذكر من هذا ما لم أحصه و لم أقدر على حفظه.

ثم قال:أما بعد فقد أتاكم اللّه بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل و النهار تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح و لقاء اللّه معذرين فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم و حيزهم فإذا لقيتموهم فاصدقوهم و اصبروا إن اللّه مع الصابرين و لا يولينهم امرؤ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة لا تقتلوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة اللّه عليهم فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة.

ثم قال سليمان:إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب بن نجبة فإن أصيب المسيب فأمير الناس عبد اللّه بن سعد ابن نفيل فإن قتل عبد اللّه بن سعد فأمير الناس عبد اللّه بن وال فإن قتل عبد اللّه ابن وال فأمير الناس رفاعة بن شداد رحم اللّه امرءا صدق ما عاهد اللّه عليه ثم بعث المسيب بن نجبة في أربعمائة فارس.

ثم قال:سر حتى تلقى أول عسكر من عساكرهم فشن فيهم الغارة فإذا رأيت ما تحبه و إلا انصرفت إلى في أصحابك و إياك أن تنزل أو تدع أحدا من أصحابك أن ينزل أو يستقبل آخر ذلك حتى لا تجد منه بدا.

(قال أبو مخنف)فحدثني أبى عن حميد بن مسلم أنه قال:أشهد أني في خيل3.

ص: 108


1- تاريخ الطبري-الطبري-ج 4-ص 463.

المسيب بن نجبة تلك إذ أقبلنا نسير آخر يومنا و ليلتنا حتى إذا كان في آخر السحر نزلنا فعلقنا على دوابنا مخاليها ثم هوّمنا تهويمة بمقدار تكون مقدار قضمها ثم ركبناها حتى إذا انبلج لنا الصبح نزلنا فصلّينا ثم ركب فركبنا فبعث أبا الجويرية العبدي بن الأحمر في مائة من أصحابه و عبد اللّه بن عوف بن الأحمر في مائة و عشرين و حنش بن ربيعة أبا المعتمر الكناني في مثلها و بقى هو في مائة.

ثم قال:انظروا أول من تلقون فأتوني به فكان أول من لقينا أعرابيا يطرد أحمرة و هو يقول:

يا مال لا تعجل إلى صحبي و اسرح فإنك آمن السرب

قال:يقول عبد اللّه بن عوف بن الأحمر يا حميد بن مسلم أبشر بشرى و رب الكعبة.

فقال له ابن عوف بن الأحمر:ممن أنت يا أعرابي؟

قال:أنا من بني تغلب.

قال:غلبتم و رب الكعبة إن شاء اللّه فانتهى إلينا المسيب بن نجبة فأخبرناه بالذي سمعنا من الأعرابي و أتيناه به.

فقال المسيب بن نجبة:أما لقد سررت بقولك أبشر و بقولك يا حميد بن مسلم و إني لأرجو أن تبشروا بما يسركم و إنما سركم أن تحمدوا أمركم و أن تسلموا من عدوكم و إن هذا الفأل هو الفأل الحسن و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعجبه الفأل.

ثم قال المسيب بن نجبة للأعرابي:كم بيننا و بين أدنى هؤلاء القوم منا.

قال:أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر ابن ذي الكلاع و كان بينه و بين الحصين اختلاف ادعى الحصين أنه على جماعة الناس (1).

و قال ابن ذي الكلاع:ما كنت لتولّي علي و قد تكاتبا إلى عبيد اللّه بن زياد فهما4.

ص: 109


1- تاريخ الطبري-الطبري-ج 4-ص 464.

ينتظران أمره فهذا عسكر ابن ذي الكلاع منكم على رأس ميل.

قال:فتركنا الرجل فخرجنا نحوهم مسرعين فو اللّه ما شعروا حتى أشرفنا عليهم و هم غارون فحملنا في جانب عسكرهم فو اللّه ما قاتلوا كثير قتال حتى انهزموا فأصبنا منهم رجالا و جرحنا فيهم فأكثرنا الجراح و أصبنا لهم دواب و خرجوا عن عسكرهم و خلّوه لنا فأخذنا منه ما خفّ علينا فصاح المسيب فينا الرجعة إنكم قد نصرتم و غنمتم و سلمتم فانصرفوا فانصرفنا حتى أتينا سليمان.

قال:فأتى الخبر عبيد اللّه بن زياد فسرّح إلينا الحصين بن نمير مسرعا حتى نزل في إثنى عشر ألفا فخرجنا إليهم يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى فجعل سليمان بن صرد عبد اللّه بن سعد بن نفيل على ميمنته و على ميسرته المسيب بن نجبة و وقف هو في القلب،و جاء حصين بن نمير و قد عبّأ لنا جنده فجعل على ميمنته جبلة بن عبد اللّه و على ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي ثم زحفوا إلينا، فلما دنوا دعونا إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان و إلى الدخول في طاعته و دعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد اللّه بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا و أن يخلعوا عبد الملك بن مروان و إلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزبير ثم نرد هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا الذين آتانا اللّه من قبلهم بالنعمة و الكرامة فأبى القوم و أبينا.

قال حميد بن مسلم:فحملت ميمنتنا على ميسرتهم و هزمتهم و حملت ميسرتنا على ميمنتهم و حمل سليمان في القلب على جماعتهم فهزمناهم حتى اضطررناهم إلى عسكرهم فما زال الظفر لنا عليهم حتى حجز الليل بيننا و بينهم ثم انصرفنا عنهم و قد أحجزناهم في عسكرهم،فلما كان الغد صبّحهم ابن ذي الكلاع في ثمانية آلاف أمدّهم بهم عبيد اللّه بن زياد و بعث إليه يشتمه و يقع فيه و يقول إنما عملت عمل الأغمار تضيع عسكرك و مسالحك سر إلى الحصين بن نمير حتى توافيه و هو على الناس فجاءه فغدوا علينا و غاديناهم فقاتلناهم قتالا لم ير الشيب و المرد مثله قط

ص: 110

يومنا كله لا يحجز بيننا و بين القتال إلا الصلاة حتى أمسينا فتحاجزنا و قد و اللّه أكثروا فينا الجراح و أفشيناها فيهم.

قال:و كان فينا قصاص ثلاثة رفاعة بن شداد البجلي و صحير بن حذيفة بن هلال بن مالك المري و أبو الجويرية العبدي فكان رفاعة يقص و يحضض الناس في الميمنة لا يبرحها و جرح أبو الجريرية اليوم الثاني في أول النهار فلزم الرحال و كان صحير ليلته كلها يدور فينا و يقول أبشروا عباد اللّه بكرامة اللّه و رضوانه فحق و اللّه لمن ليس بينه و بين لقاء الأحبة و دخول الجنة و الراحة من إبرام الدنيا و أذاها إلا فراق هذه النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخيا و بلقاء ربه مسرورا فمكثنا كذلك حتى أصبحنا و أصبح ابن نمير و أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف فخرجوا إلينا فاقتتلنا اليوم الثالث يوم الجمعة قتالا شديدا إلى ارتفاع الضحى.

ثم إن أهل الشأم كثّرونا و تعطّفوا علينا من كل جانب و رأى سليمان ابن صرد ما لقي أصحابه فنزل فنادى عباد اللّه من أراد البكور إلى ربه و التوبة من ذنبه و الوفاء بعهده فإلي ثم كسر جفن سيفه و نزل معه ناس كثير فكسروا جفون سيوفهم و مشوا معه و انزوت خيلهم حتى اختلطت مع الرجال فقاتلوهم حتى نزلت الرجال تشتد مصلتة بالسيوف و قد كسروا الجفون فحمل الفرسان على الخيل و لا يثبتون فقاتلوهم و قتلوا من أهل الشأم مقتلة عظيمة و جرحوا فيهم فأكثروا الجراح،فلما رأى الحصين بن نمير صبر القوم و بأسهم بعث الرجال ترميهم بالنبل و اكتنفتهم الخيل و الرجال فقتل سليمان بن صرد رحمه اللّه رماه يزيد ابن الحصين بسهم فوفع ثم و ثب ثم وقع.

قال:فلما قتل سليمان بن صرد أخذ الراية المسيب بن نجبة و قال لسليمان بن صرد رحمك اللّه يا أخي فقد صدقت و وفيت بما عليك و بقى ما علينا ثم أخذ الراية فشد بها فقاتل ساعة ثم رجع ثم شد بها فقاتل ثم رجع ففعل ذلك مرارا يشد ثم

ص: 111

يرجع ثم قتل رحمه اللّه.

(قال أبو مخنف)و حدثنا فروة بن لقيط عن مولى للمسيب بن نجبة الفزاري قال:

لقيته بالمدائن و هو مع شبيب بن يزيد الخارجي فجرى الحديث حتى ذكرنا أهل عين الوردة.

قال هشام عن أبي مخنف.

قال:حدثنا هذا الشيخ عن المسيب بن نجبة.

قال:و اللّه ما رأيت أشجع منه إنسانا قط و لا من العصابة التي كان فيهم و لقد رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالا شديدا ما ظننت أن رجلا واحدا يقدر أن يبلي مثل ما أبلى و لا ينكأ في عدوه مثل ما نكأ لقد قتل رجالا.

قال:و سمعته يقول قبل أن يقتل و هو يقاتلهم:

قد علمت ميالة الذوائب واضحة اللبات و الترائب

أني غداة الروع و التغالب أشجع من ذي لبد مواثب

قطاع أقران مخوف الجانب

قال أبو مخنف:حدثني أبي و خالي عن حميد بن مسلم و عبد اللّه بن غزية قال أبو مخنف و حدثني يوسف بن يزيد عن عبد اللّه بن عوف قال:لما قتل المسيب بن نجبة أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل ثم قال:رحم اللّه أخوي منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا و أقبل بمن كان معه من الأزد فحفوا برايته فو اللّه إنا لكذلك إذ جاءنا فرسان ثلاثة عبد اللّه بن الخضل الطائي و كثير بن عمرو المزني و سعر بن أبي سعر الحنفي كانوا خرجوا مع سعد بن حذيفة بن اليمان في سبعين و مائة من أهل المدائن فسرحهم يوم خرج في آثارنا على خيول مقلمة مقدحة.

فقال لهم:اطووا المنازل حتى تلحقوا بإخواننا فتبشروهم بخروجنا إليهم لتشتد بذلك ظهورهم و تخبروهم بمجيء أهل البصرة أيضا كان المثنى بن مخربة العبدي أقبل في ثلاثمائة من أهل البصرة فجاء حتى نزل مدينة بهر سير بعد خروج سعد

ص: 112

بن حذيفة من المدائن لخمس ليال و كان خروجه من البصرة قبل ذلك قد بلغ سعد بن حذيفة قبل أن يخرج من المدائن،فلما انتهوا إلينا قالوا أبشروا فقد جاءكم إخوانكم من أهل المدائن و أهل البصرة.

فقال عبد اللّه بن سعد بن نفيل:ذلك لو جاءونا و نحن أحياء.

قال:فنظروا إلينا،فلما رأوا مصارع إخوانهم و ما بنا من الجراح بكى القوم و قالوا و قد بلغ منكم ما نرى إنا للّه و إنا إليه راجعون.

قال:فنظروا و اللّه إلى ما ساء أعينهم.

فقال لهم عبد اللّه بن نفيل:إنا لهذا خرجنا ثم اقتتلنا فما اضطربنا إلا ساعة حتى قتل المزني و طعن الحنفي فوقع بين القتلى ثم ارتث بعد ذلك فنجا و طعن الطائي فجزم أنفه فقاتل قتالا شديدا و كان فارسا شاعرا فأخذ يقول:

قد علمت ذات القوام الرود أن لست بالواني و لا الرعديد

يوما و لا بالفرق الحيود

قال:فحمل علينا ربيعة بن المخارق حملة منكرة فاقتتلنا قتالا شديدا ثم إنه اختلف هو و عبد اللّه بن سعد بن نفيل ضربتين فلم يصنع سيفاهما شيئا و اعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا إلى الأرض ثم قاما فاضطربا و يحمل ابن أخي ربيعة بن المخارق على عبد اللّه بن سعد فطعنه في ثغرة نحره فقتله و يحمل عبد اللّه بن عوف ابن الأحمر على ربيعة بن المخارق فطعنه فصرعه فلم يصب مقتلا فقام فكر عليه الثانية فطعنه أصحاب ربيعة فصرعوه ثم إن أصحابه استنقذوه.

و قال خالد بن سعد بن نفيل:أروني قاتل أخي فأريناه ابن أخي ربيعة بن المخارق فحمل عليه فقنعه بالسيف و اعتنقه الآخر فخر إلى الأرض فحمل أصحابه و حملنا و كانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم و قتلوا صاحبنا و بقيت الراية ليس عندها أحد.

قال:فنادينا عبد اللّه بن وال بعد قتلهم فرساننا فإذا هو قد استلحم في عصابة

ص: 113

معه إلى جانبنا فحمل عليه رفاعة بن شداد فكشفهم عنه ثم أقبل إلى رايته و قد أمسكها عبد اللّه ابن خازم الكندي.

فقال لابن وال:أمسك عني رايتك.

قال:أمسكها عني رحمك اللّه فإنّ بي مثل حالك.

فقال له:أمسك عني رايتك فإني أريد أن أجاهد.

قال:فإن هذا الذي أنت فيه جهاد و أجر.

قال:فصحنا يا أبا عزة أطع أميرك يرحمك اللّه.

قال:فأمسكها قليلا ثم إن ابن وال أخذها منه.

(قال أبو مخنف)قال أبو الصلت التيمي الأعور حدثني شيخ للحي كان معه يومئذ.

قال:قال لنا ابن وال:من أراد الحياة التي ليس بعدها موت و الراحة التي ليس بعدها نصب و السرور الذي ليس بعده حزن فليتقرّب إلى ربه بجهاد هؤلاء المحلين و الرواح إلى الجنة رحمكم اللّه و ذلك عند العصر فشد عليهم و شددنا معه فأصبنا و اللّه منهم رجالا و كشفناهم طويلا ثم إنهم بعد ذلك تعطّفوا علينا من كل جانب فحازونا حتى بلغوا بنا المكان الذي كنا فيه و كنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فيه إلا من وجه واحد و وليّ قتالنا عند المساء أدهم بن محرز الباهلي فشدّ علينا في خيله و رجاله فقتل عبد اللّه بن وال التيمي (1).

(قال أبو مخنف)عن فروة بن لقيط قال:سمعت أدهم بن محرز الباهلي في إمارة الحجاج بن يوسف و هو يحدّث ناسا من أهل الشأم قال:دفعت إلى أحد أمراء العراق رجلا منهم يقولون له عبد اللّه بن وال و هو يقول لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين الآيات الثلاث.8.

ص: 114


1- تاريخ الطبري-الطبري-ج 4-ص 468.

قال:فغاظني فقلت في نفسي:هؤلاء يعدّوننا بمنزلة أهل الشرك يرون أن من قتلنا منهم كان شهيدا فحملت عليه فضربت يده اليسرى فأطننتها و تنحّيت قريبا فقلت له:أما إني أراك وددت أنك في أهلك.

فقال:بئسما رأيت أما و اللّه ما أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فيها من الاجر مثل ما في يدي.قال:فقلت له:لم؟

قال:لكيما يجعل اللّه عليك وزرها و يعظم لي أجرها.

قال:فغاظني فجمعت خيلي و رجالي ثم حملنا عليه و على أصحابه فدفعت إليه فطعنته فقتلته و انه لمقبل إلى ما يزول فزعموا بعد أنه كان من فقهاء أهل العراق الذين كانوا يكثرون الصوم و الصلاة و يفتون الناس.

(قال أبو مخنف)و حدثني الثقة عن حميد بن مسلم و عبد اللّه بن غزية قال:لما هلك عبد اللّه بن وال نظرنا فإذا عبد اللّه بن خازم قتيلا إلى جنبه و نحن نرى أنه رفاعة ابن شداد البجلي فقال رجل من بني كنانة يقال له:الوليد بن غضين أمسك رايتك قال:لا أريدها فقلت له:إنّا للّه مالك.

فقال.ارجعوا بنا لعل اللّه يجمعنا ليوم شر لهم فوثب عبد اللّه بن عوف بن الأحمر إليه.

فقال:أهلكتنا و اللّه لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك من عند آخرنا فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب و أهل القرى فتقرّبوا إليهم به فيقتل صبرا أنشدك اللّه أن تفعل هذه الشمس قد طفلت للمغيب و هذا الليل قد غشينا فنقاتلهم على خيلنا هذه فإنا الآن ممتنعون فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بها فكان ذلك الشأن حتى نصبح و نسير و نحن على مهل فيحمل الرجل منا جريحه و ينتظر صاحبه و تسير العشرة و العشرون معا و يعرف الناس الوجه الذي يأخذون فيتبع فيه بعضهم بعضا و لو كان الذي ذكرت لم تقف أم على ولدها و لم

ص: 115

يعرف رجل وجهه و لا أين يسقط و لا أين يذهب و لم نصبح إلا و نحن بين مقتول و مأسور.فقال له رفاعة بن شداد:فإنك نعم ما رأيت.

قال:ثم أقبل رفاعة على الكناني.فقال له:أتمسكها أم آخذها منك فقال له الكناني:

إني لا أريد ما تريد إني أريد لقاء ربي و اللحاق بإخواني و الخروج من الدنيا إلى الآخرة و أنت تريد ورق الدنيا و تهوى البقاء و تكره فراق الدنيا أما و اللّه إني لا أحب لك أن ترشد ثم دفع إليه الراية و ذهب ليستقدم.

فقال له ابن أحمر:قاتل معنا ساعة رحمك اللّه و لا تلق بيدك إلى التهلكة فما زال به يناشده حتى احتبس عليه و أخذ أهل الشأم يتنادون أن اللّه قد أهلكهم فاقدموا عليهم فافرغوا منهم قبل الليل فأخذوا يقدمون عليهم فيقدمون على شوكة شديدة و يقاتلون فرسانا شجعانا ليس فيهم سقط رجل و ليسوا لهم بمضجرين فيتمكنوا منهم فقاتلوهم حتى العشاء قتالا شديدا و قتل الكناني قبل المساء و خرج عبد اللّه بن عزيز الكندي و معه ابنه محمد غلام صغير.

فقال:يا أهل الشأم هل فيكم أحد من كندة فخرج إليهم منهم رجال.

فقالوا:نعم نحن هؤلاء.

فقال لهم:دونكم أخيكم فابعثوا به إلى قومكم بالكوفة فأنا عبد اللّه بن عزيز الكندي.

فقالوا له:أنت ابن عمنا فإنك آمن.

فقال لهم:و اللّه لا أرغب عن مصارع إخواني الذين كانوا للبلاد نورا و الأرض أوتادا و بمثلهم كان اللّه يذكر.

قال:فأخذ ابنه يبكى في أثر أبيه فقال:يا بني لو أن شيئا كان آثر عندي من طاعة ربي إذا لكنت أنت و ناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه و بكائه في أثره و أروا الشاميون له و لابنه رقة شديدة حتى جزعوا و بكوا ثم اعتزل الجانب الذي

ص: 116

خرج إليه منه قومه فشدّ على صفهم عند المساء فقاتل حتى قتل.

(قال أبو مخنف)حدثني فضيل بن حديج قال:حدثني مسلم بن زحر الخولاني أن كريب بن زيد الحميري مشى إليهم عند المساء و معه راية بلقاء في جماعة قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت و قد كانوا تحدّثوا بما يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى.

فقال لهم الحميري و جمع إليه رجالا من حمير و همدان فقال:عباد اللّه روحوا إلى ربكم و اللّه ما في شيء من الدنيا خلف من رضى اللّه و التوبة إليه قد بلغني أن طائفة منكم يريدون أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه إلى دنياهم و إن هم ركنوا إلى دنياهم رجعوا إلى خطاياهم فأما أنا فو اللّه لا أولّي هذا العدو ظهري حتى أرد موارد إخواني فأجابوه و قالوا:رأينا مثل رأيك و مضى برايته حتى دنا من القوم فقال ابن ذي الكلاع:و اللّه إني لأرى هذه الراية حميرية أو همدانية فدنا منهم فسألهم فأخبروه فقال لهم:إنكم آمنون.

فقال له صاحبهم:إنا قد كنا آمنين في الدنيا و إنما خرجنا نطلب أمان الآخرة فقاتلوا القوم حتى قتلوا و مشى صحير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني في ثلاثين من مزينة.

فقال لهم:لا تهابوا الموت في اللّه فإنه لاقيكم و لا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم منها إلى اللّه فإنها لا تبقى لكم و لا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب اللّه فإن ما عند اللّه خير لكم ثم مضوا فقاتلوا حتى قتلوا،فلما أمسى الناس و رجع أهل الشام إلى معسكرهم نظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به والى كل جريح لا يعين على نفسه فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته كلها حتى أصبح بالتنينير فعبر الخابور و قطع المعابر ثم مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه و أصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قد ذهبوا فلم يبعث في آثارهم أحدا و سار بالناس فأسرع و خلّف رفاعة وراءهم أبا

ص: 117

الجويرية العبدي في سبعين فارسا يسترون الناس فإذا مروا برجل قد سقط حمله أو بمتاع قد سقط قبضه حتى يعرفه فإن طلب أو ابتغى بعث إليه فأعلمه فلم يزالوا كذلك حتى مروا بقرقيسيا من جانب البر فبعث إليهم زفر من الطعام و العلف مثل ما كان بعث إليهم في المرة الأولى و أرسل إليهم الأطباء و قال أقيموا عندنا ما أحببتم فإن لكم الكرامة و المواساة فأقاموا ثلاثا ثم زود كل امرئ منهم ما أحب من الطعام و العلف.

قال:و جاء سعد بن حذيفة بن اليمان حتى انتهى إلى هيت فاستقبله الأعراب فأخبروه بما لقي الناس فانصرف فتلقّى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء فأخبروه فأقاموا حتى جاءهم الخبر أن رفاعة قد أظلّكم فخرجوا حين دنا من القرية فاستقبلوه فسلّم الناس بعضهم على بعض و بكى بعضها لي بعض و تناعوا إخوانهم فأقاموا بها يوما و ليلة فانصرف أهل المدائن إلى المدائن و أهل البصرة إلى البصرة و أقبل أهل الكوفة إلى الكوفة فإذا المختار محبوس.

(قال هشام)قال أبو مخنف عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أدهم بن محرز الباهلي أنه أتى عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح.

قال:فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:أما بعد فإن اللّه قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنة و رأس ضلالة سليمان بن صرد ألا و إن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف ألا و قد قتل اللّه من رؤوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين عبد اللّه بن سعد أخا الأزد و عبد اللّه بن وال أخا بكر بن وائل فلم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاع و لا امتناع.

(قال هشام)عن أبي مخنف و حدّثت أن المختار مكث نحوا من خمس عشرة ليلة ثم قال لأصحابه:عدّوا لغازيكم هذا أكثر من عشر و دون الشهر ثم يجيئكم نبأ هتر من طعن نتر و ضرب هبر و قتل جم و أمر رجم فمن لها أنا لها لا تكذبن أنا لها.

ص: 118

(قال أبو مخنف)حدثنا الحصين بن يزيد عن أبان بن الوليد قال:كتب المختار و هو في السجن إلى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة أما بعد فمرحبا بالعصب الذين عظم اللّه لهم الأجر حين انصرفوا و رضي انصرافهم حين قفلوا أما و رب البنية التي بنى ما خطا خاط منكم خطوة و لا رتا رتوة إلا كان ثواب اللّه له أعظم من ملك الدنيا إن سليمان قد قضى ما عليه و توفّاه اللّه فجعل روحه مع أرواح الأنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين و لم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون إني أنا الأمير المأمور و الأمين المأمون و أمير الجيش و قاتل الجبارين و المنتقم من أعداء الدين و المقيد من الأوتار فأعدوا و استعدوا و أبشروا و استبشروا أدعوكم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيه صلّى اللّه عليه و سلم و إلى الطلب بدماء أهل البيت و الدفع عن الضعفاء و جهاد المحلّين و السلام.

(قال أبو مخنف)و حدثني أبو زهير العبسي أن الناس تحدّثوا بهذا من أمر المختار فبلغ ذلك عبد اللّه بن يزيد و إبراهيم بن محمد فخرجا في الناس حتى أتيا المختار فأخذاه.

(قال أبو مخنف)فحدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال:لما تهيأنا للإنصراف قال عبد اللّه بن غزية:و وقف على القتلى فقال:يرحمكم اللّه فقد صدقتم و صبرتم و كذبنا و فررنا.

قال:فلما سرنا و أصبحنا إذا عبد اللّه بن غزية في نحو من عشرين قد أرادوا الرجوع إلى العدو و الاستقتال فجاء رفاعة و عبد اللّه بن عوف بن الأحمر و جماعة الناس.

فقالوا لهم:ننشدكم اللّه أن تزيدونا فلو لا و نقصانا فإنا لا نزال بخير ما كان فينا مثلكم من ذوي النيات فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حتّى ردّوهم غير رجل من مزينة يقال له:عبيدة بن سفيان رحل مع الناس حتى إذا غفل عنه انصرف حتى لقي

ص: 119

أهل الشأم فشد بسيفه يضاربهم حتى قتل.

(قال أبو مخنف)فحدثني الحصين بن يزيد الأزدي عن حميد بن مسلم الأزدي قال كان ذلك المزني صديقا لي،فلما ذهب لينصرف ناشدته اللّه فقال:أما إنك لم تكن لتسألني شيئا من الدنيا إلا رأيت لك من الحق على إيتاءكه و هذا الذي تسألني أريد اللّه به.

قال:ففارقني حتى لقى القوم فقتل.

قال:فو اللّه ما كان شيء بأحب إلي من أن ألقى إنسانا يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم.

قال:فلقيت عبد الملك بن جزء بن الحدرجان الأزدي بمكة فجرى حديث بيننا جرى ذكر ذلك اليوم فقال:أعجب ما رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلا أقبل حتى شد علي بسيفه فخرجنا نحوه.

قال:فانتهى إليه و قد عقر به و هو يقول:

إني من اللّه إلى اللّه أفر رضوانك اللهم أبدي و أسر

قال:فقلنا له ممن أنت قال:من بني آدم.

قال:فقلنا ممن قال:لا أحب أن أعرفكم و لا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام.

قال:فنزل إليه سليمان بن عمرو بن محصن الأزدي من بني الخيار قال:و هو يومئذ من أشد الناس.

قال:فكلاهما أثخن صاحبه.

قال:و شد الناس عليه من كل جانب فقتلوه.

قال:فو اللّه ما رأيت واحدا قط هو أشد منه.

قال:فلما ذكر لي و كنت أحب أن أعلم علمه دمعت عيناي فقال:أبينك و بينه قرابة فقلت له لا ذلك رجل من مضر كان لي ودا و أخا فقال لي:لا أرقأ اللّه دمعك أتبكى على

ص: 120

رجل من مضر قتل على ضلالة.

قال:قلت:لا و اللّه ما قتل على ضلالة و لكنه قتل على بينة من ربه و هدى.

فقال لي أدخلك اللّه مدخله قلت آمين و أدخلك اللّه مدخل حصين بن نمير ثم لا أرقأ اللّه لك عليه دمعا ثم قمت و قام و كان مما قيل من الشعر في ذلك قول أعشى همدان و هى إحدى المكتمات كن يكتمن في ذلك الزمان:

ألم خيال منك يا أم غالب

فحبيت عنا من حبيب مجانب

و ما زلت لي شجوا و ما زلت مقصدا

لهم عراني من فراقك ناصب

فما أنسى لا أنسى انفتالك في الضحى

إلينا مع البيض الوسام الخراعب

تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا

لطيفة طي الكشح ريا الحقائب

مبتلة غراء رود شبابها

كشمس الضحى تنكل بين السحائب

فلما تغشاها السحاب و حوله

بدا حاجب منها و ضنت بحاجب

فتلك الهوى و هى الجوى لي و المنى

فأحسب؟بها من خلة لم تصاقب

و لا يبعد اللّه الشباب و ذكره

و حب تصافي المعصرات الكواعب

ص: 121

و يزداد ما أحببته من عتابنا

لعابا و سقيا للخدين المقارب

فإني و إن لم أنسهن لذاكر

رزيئة مخبات كريم المناصب

توسل بالتقوى إلى اللّه صادقا

و تقوى الإله خير تكساب كاسب

و خلّى عن الدنيا فلم يلتبس بها

و تاب إلى اللّه الرفيع المراتب

تخلّى عن الدنيا و قال أطرحتها

فلست إليها ما حييت بآيب

و ما أنا فيما يكبر الناس فقده

و يسعى له الساعون فيها براغب

فوجهه نحو الثوية سائرا

إلى ابن زياد في الجموع الكباكب

بقوم هم أهل التقية و النهى

مصاليت أنجاد سراة مناجب

مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبه

و لم يستجيبوا للأمير المخاطب

فساروا و هم من بين ملتمس التقى

و آخر مما جر بالأمس تائب

فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا

إليهم فحسوهم ببيض قواضب

ص: 122

يمانية تذر الأكف و تارة

بخيل عتاق مقربات سلاهب

فجاءهم جمع من الشام بعده

جموع كموج البحر من كل جانب

فما برحوا حتى أبيدت سراتهم

فلم ينج منهم ثم غير عصائب

و غودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا

تعاورهم ريح الصبا و الجنائب

و أضحى الخزاعي الرئيس مجدلا

كأن لم يقاتل مرة و يحارب

و رأس بني شمخ و فارس قومه

شنوأة و التيمي هادي الكتائب

و عمرو بن بشر و الوليد و خالد

و زيد بن بكر و الحليس بن غالب

و ضارب من همدان كل مشيع

إذا شد لم ينكل كريم المكاسب

و من كل قوم قد أصيب زعيمهم

و ذو حسب في ذروة المجد ثاقب

أبوا غير ضرب تفلق الهام وقعه

و طعن بأطراف الأسنة صائب

و إن سعيدا يوم يدمر عامرا

لأشجع من ليث بدرنا مواثب

ص: 123

فيا خير جيش للعراق و أهله

سقيتم روايا كل أسحم ساكب

فلا يبعدن فرساننا و حماتنا

إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب

فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتة

و كل فتى يوما لإحدى الشواعب

و ما قتلوا حتى أثاروا عصابة

محلين ثورا كالليوث الضوارب

و قتل سليمان بن صرد و من قتل معه بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر (1).4.

ص: 124


1- تاريخ الطبري:473/4.

ثورة إيران

أثر عاشوراء في ثورة إيران

قال السيد الخامنئي:و في عصرنا أيضا استطاعت هذه الواقعة،و من خلال دراية إمامنا الخميني الكبير،أن تهب في مجتمعنا فجأة-قبل انتصار الثورة-كهبّة الاعصار الأول.و إنّما يعزى هذا إلى الدعاء،و ذكر اللّه،و الإبتهال إليه،و الإرتباط به.

و قد كان الإمام(رحمه اللّه)من أهل هذا النهج،كان من أهل الذكر و الخشوع و الدعاء.

و سر تألّقه يكمن في هذا المجال،و تأثيره في النفوس ينبغي أن يكون في الأغلب منشؤه هذا.

أعزائي ما يجب على كل واحد من أعضاء الحرس الثوري،و من غيرهم من المجاهدين،و كل من يرى في عنقه مسؤولية أزاء أمانة الإسلام و أمانة الثورة،في حياة الإنسان الحاضرة و المستقبلية،و يرى لقيم الإسلام دورا و أهمية،أن يعلم أنّ القضية لم تقف عند الحد الذي انتهت عنده الحرب،و أن المساعي لم تبلغ نهايتها بعد مرور عقد أو عقدين على انتصار الثورة.

و سبب ذلك واضح و هو أنّ العداء لهذه الحركة-حركة الصلاح و الفلاح-لم يتوقف،و لم تنته العناصر المعارضة.

ذوو التدبير من الأعداء لا خصومة لهم مع شخص.و معنى هذا أنّ الجبهة

ص: 125

المعادية قد تعلّمت أنه متى ما عجزت عن مجابهة حركة عظمى كالثورة الإسلامية، و نفذت طاقتها دون المجابهة وجها لوجه،عليها أن تنسحب على وجه السرعة و تتوارى خلف خندق المواجهة ريثما تؤاتيها الفرصة.و قد مارست هذه اللعبة تقريبا مع جميع الثورات التي وقعت في القرن العشرين.

تعلمون أنّ القرن العشرين كان قرن الثورات و الإنتفاضات الشعبية التي اندلعت على أساس المثل و التطلعات و الأفكار الحديثة؛حيث افتتحت العقود الأولى من هذا القرن بالثورة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي،و استمر الوضع على هذا المنوال بالنسبة للحركات اليسارية،و أيضا الحركات اليسارية التي لم تنضوي تحت المنهج الماركسي تماما،إلاّ أنها تحمل رؤية مسبقة على كل حال،إلى أن وقعت ثورتنا و تلتها أيضا ثورات أخرى.

لقد سلكوا هذا النهج مع عشرات الثورات التي اندلعت في مختلف بقاع العالم، فأطاحوا الحكومات عسكريا،و قامت على أنقاضها حكومات و أجهزة و مؤسسات.

و معنى هذا أنهم متى ما وجدوا في أنفسهم القدرة كانوا يدخلون الميدان و يقمعون تلك الثورات منذ بدايتها؛إذ أنّ بعضها لم تكن منذ البداية قادرة على الصمود،و انتهى بها الأمر إلى الهزيمة و الإندحار.

أما تلك الثورات التي وجدوا أنفسهم عاجزين عن مجابهتها؛فإضافة إلى أنهم لم يتركوا مضايقتها و التهجم الإعلامي و فرض الحصار الإقتصادي عليها،بغية إنهاكها،فقد اتخذوا لهم مكمنا يتربّصون منه لكي ينقضّوا عليها متى ما شعروا بانهيار قواها،ليسددوا لها الضربة القاضية.و نجحت ضرباتهم في أكثر المواقف، و استطاعت الكثير من التيارات المعارضة لتلك الثورات،أن تتحرك-بعد العزلة و الإندحار-و تمسك بزمام الأمور،و تسيطر على الأوضاع،و تسيّر دفّة البلاد.

و الجبهة المعادية عموما لا كشخص و فرد،انتهجت هذا الطريق مع إيران منذ

ص: 126

انتصار الثورة،إلاّ أنهم لم يجدوا على مدى السنوات الثمانية عشرة التي مرت على هذه الثورة حتى ثغرة واحدة تبعث الأمل و الإرتياح في صفوفهم.

كنت قد إلتقيت في عهد رئاستي للجمهورية بزعيم حركة ثورية-و هو من الساسة المعروفين في العالم-التقيت به في بلده،و كان حينذاك قد جاء بعمل يتنافى مع ادعاءاته الثورية و الشعارات التي ينادي بها،فسألته عن المسوّغ الذي أباح له القيام بذلك العمل،فضحك و قال:هذا تكتيك!فقلت له يكون التكتيك مقبولا فيما إذا لم يؤد إلى تغيير المسار العام كليا،و أنتم قد غيرّتم مساركم.

و هذا هو الذي حصل،إذ تغير مسيرهم و توجههم بالكامل.كان تبريره أنه يناور و يستخدم التكتيك!أي تكتيك هذا الذي يؤدي بالمرء للخضوع لسيادة عدوّه؟و هل يسمّى تكتيكا ما ينتهي بالإنسان إلى التراجع عن كلامه،و تغيير مساره كليا؟! و أمثال هذه الظواهر مشهودة في سجلات تلك الثورات،و هي مما يحفز مطامع العدو و يبعث فيه الأمل؛فيكون لها بالمرصاد.و كثيرا ما كان ينجح في خططه،كما حصل في كل الحالات تقريبا.

أما بشأن ثورتنا؛فقد كان لوجود الإمام الخميني بما يتصف به من رؤية و بصيرة و حزم في التمسك بأحكام اللّه و اتخاذ حكم اللّه و حلاله و حرامه ملاكا في الأمور،عائقا يحول دون ظهور أدنى تمايل صوب العدو طوال تلك السنوات العشرة.و من بعد رحيل الإمام انصبّت الجهود على انتهاج نفس ذلك المسار.ربّما ظهر أحيانا من بعض الأشخاص ما يوحي للعدو بأنّه استطاع الحصول على بعض الأنصار،و لكن سرعان ما ينكشف له أنه و هم باطل.

و بفضل اللّه لم يطرأ حتى الآن على معالم الثورة ما يبعث الأمل في قلب العدو؛ فما زال العدو كامنا يتربّص.و هذا ما ينبغي أن يدركه الجميع.

إنّ الشيء الوحيد القادر على سوق الثورة و التوجّه العظيم لهذا الشعب على

ص: 127

الطريق الذي فيه الصلاح و الفلاح و العزة و رضى اللّه و سعادة الدنيا و الآخرة،هو الوعي و الاستعداد و الاندفاع لحراسة الثورة.و هذا الإندفاع رهين بوجود ذلك الجانب المعنوي.و ما تأكيدي على الجوانب المعنوية في لقائي مع الأخوة أعضاء الحرس الثوري،و مع الشرائح الثورية،و مع الأخوة و الأخوات الذين يضطلعون بمسؤوليات خطيرة في مختلف القطاعات،إلاّ لأن هذا التوجّه و الإبتهال إلى اللّه و الإتصال القلبي به كفيل باقتدار و رسوخ القوى التي تريد تحدّي و مقاومة تلك الجبهة.و لا طريق آخر سوى هذا.

إذا ضعفت هذه الصلة باللّه،و وقع الإنسان صريع نزواته،و صارت توجهاته محكومة بأهوائه،تضعف عند ذاك قدرته على مجابهة العدو.الإنسان في معرض الأهواء و الرغبات،و ليس من اليسير صيانة الإنسان بالمرّة عنها،إلاّ أنّ المهم هو أن لا يسمح للأهواء النفسية و المصالح المادية و الرغبات التافهة أن ترسم للإنسان مسار حياته،و تعيّن له النهج الذي يقتفيه،و يكون لها دور حاسم و قدرة على استبدال السبيل الذي يسلكه (1).2.

ص: 128


1- ثورة الحسين شمس الشهادة:42.

أوجه الشبه بين ثورة الإمام الخميني و النهضة الحسينيّة

قال السيد الخامنئي:أنتم على وعي بأنّ لحركة الإمام(ره)أوجه شبه كثيرة بالنهضة الحسينيّة،و تقارب أن تكون صورة مستقاة منها.و مع أنّ الحركة الأصلية-أي حركة الإمام الحسين عليه السلام-انتهت باستشهاد جميع رجالها، فيما آلت هذه إلى انتصار الإمام،إلاّ أنّ هذا لا يعد فارقا جوهريا لأنّ للحركتين مضمون واحد،و كلتاهما محكومتان بسياق واحد.ولكن أدى تفاوت المقتضيات أن يؤول مصير تلك إلى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام،بينما ختمت هذه باستلام إمامنا لزمام الحكم.و هذا على العموم أمر جلي و واضح.

الإستقامة في الثورتين

و من جملة أوجه الشبه البارزة في كلتا الحركتين هو جانب«الإستقامة».

و هذه الكلمة لا ينبغي المرور على مغزاها مرور الكرام لأنّها على نصيب كبير من الأهمية،إذ كانت تعني بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام العزم على عدم الإنصياع ليزيد و حكمه الجائر.و من هنا انطلقت بوادر التصدّي و عدم الإستسلام لحكومة فاسدة حرفت نهج الدين بالكامل.بهذه النيّة سار الإمام عليه السّلام من المدينة، لكنه حينما لمس بمكة وجود الناصر قرن مسيرته تلك بالعزم على الثورة.و إلاّ فالجوهر الأصلي لموقفه المعارض هو الوقوف بوجه حكومة لا يتأتّى قبولها أو تحملها وفقا للموازين الحسينية.

فالإمام الحسين عليه السلام وقف أوّل الأمر بوجه هذه الحكومة في وقت لم

ص: 129

تكن المشاكل قد برزت بعد،ثم إنّه صار يواجه المشاكل الواحدة تلو الاخرى.

فكانت مسألة الإضطرار للخروج من مكة،ثم اندلاع المعركة في كربلاء و ما تلاها من الضغوط التي تعرّض لها في تلك الواقعة.

الأعذار الشرعية في الثورة و تقييمها

أحد الامور المهمة التي تعترض سبيل المرء في المواقف الكبرى هي الأعذار الشرعية.فالفروض أو التكاليف توجب على الإنسان أن يؤدّيها،و لكن حينما يستلزم مثل هذا العمل وقوع إشكال كبير-كأن يقتل فيه على سبيل المثال أشخاص كثيرون-هنا يشعر المرء أنّه لم يعد مكلّفا.

أنتم على معرفة بالأعذار الشرعية التي تلاحقت بوجه الإمام الحسين عليه السلام و كانت كفيلة بصرف أي إنسان سطحي الرؤية عن هذا السبيل؛فهو قد واجه أولا نكول أهل الكوفة و مقتل مسلم بن عقيل.و هنا كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام القول بأنّ العذر بات شرعيا و قد سقط التكليف،فأنا كنت عازما على عدم البيعة،و لكن تبيّن لي أنّ موقفا كهذا لا يمكن الإستمرار عليه في مثل هذه الأوضاع و الظروف،و الناس لا طاقة لهم على التحمّل.إذن فالتكليف ساقط و أنا ابايع مكرها.

المرحلة الثانيّة هي واقعة كربلاء بذاتها،حيث كان بميسور الإمام الحسين عليه السلام عند مواجهة ذلك الموقف أن يتصرف على شاكلة الإنسان الذي يحلّ المواقف الكبرى بمثل هذا المنطق و يقول إنّ هؤلاء النسوة و الصبية لا قبل لهم بتحمل هذه الصحراء المحرقة،و على هذا فالتكليف مرفوع.فيميل نحو الخنوع و يقبل بما لم يكن قبله حتى ذلك الحين.أو حتى بعد إندلاع القتال في اليوم العاشر و استشهاد ثلة من أصحابه فهناك تفاقمت عليه المشاكل و بات بإمكانه التذرع بأنّ

ص: 130

القتال لم يعد ممكنا،و لا بالمقدور الإستمرار،و لا محيص من التراجع.

أو حينما تكشّف للإمام الحسين عليه السلام بأنّه سيستشهد،و من بعد استشهاده ستبقى حرم اللّه و حرم النبي صلّى اللّه عليه و اله و أمير المؤمنين عليه السلام بيد الرجال الأجانب.و هنا يعرض له موضوع الشرف و العرض.و كان له باعتباره إنسانا ذا غيرة القول بارتفاع التكليف؛لأنني إذا واصلت هذا الطريق و قتلت فإنّ النساء من آل الرسول و بنات أمير المؤمنين و أطهر نساء الإسلام سيقعن سبايا بيد الأعداء من الرجال الذين لا أصل لهم و لا فصل و لا يفقهون شيئا من معاني الشرف و الغيرة إذن فالتكليف مرفوع.

ص: 131

تقييم الإمام الحسين عليه السلام للأغذار

فهذا الموقف من واقعة كربلاء ينبغي النظر إليه انطلاقا من هذه الرؤية،و هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو أراد النظر إلى بعض الحوادث الشديدة الألم و المرارة كحادثة استشهاد علي الأصغر و سبي النساء و عطش الصبية و مقتل الشبان و غيرها من الحوادث الاخرى المروّعة في كربلاء،بمنظار المتشرّع العادي و يتغاضى عن عظمة دوره و رسالته،كان بمستطاعه التراجع عند أية خطوة يشاء، ثم يقول أن لا تكليف عليه،و لا مناص الآن من مبايعة يزيد،و أنّ«الضرورات تبيح المحظورات» (1).

إلاّ أنّه عليه السلام لم يتصرف على هذه الشاكلة.هذه هي استقامة الإمام الحسين عليه السلام و هذا هو معنى الإستقامة.

الإستقامة لا تعني في أي موضع كان تحمّل المشاكل؛لأنّ تحمّل المشاكل بالنسبة للإنسان الفذ أيسر من تحمل هذه الامور التي تبدو في المقاييس الشرعيّة و العرفيّة و العقليّة الساذجة خلافا للمصلحة،لأنّ تحمّلها أصعب من تحمّل المشاكل العصيبة.

قد يقال للمرء تارة:لا تسلك هذا الطريق لأنك ربّما تتعرض للتعذيب.فالإنسان القوي يقول:إني سالك هذا الطريق و لا ضير في تعرّضي للتعذيب.أو قد يقال لآخر:

لا تسلك هذا المسلك لعلك تقتل،ترى الإنسان الفذ يقول:إنّي سالكه و لا ابالي بالقتل.

ص: 132


1- انظر مستند الشيعة:113/14،و العهود المحمدية للشعراني:154.

و لكن تارة اخرى قد لا يقتصر الحديث على مجرد القتل و التعذيب و الحرمان،بل يقال:لا تذهب هذا المذهب،فقد يقتل على أثر موقفك هذا عدد من الناس.و هنا يعرض على بساط البحث موضوع أرواح الآخرين.فيقال له:لا تسر،فمن المحتمل أن يواجه الكثير من النساء و الرجال و الأطفال مصاعب جمّة و عنتا كبيرا من جرّاء مسيرك هذا.

و هنا ترتعد فرائص من يهمهم القتل،أمّا الذي لا ترتعد فرائصه،فهو أوّلا:في أعلى درجة من البصيرة و على بيّنة من ضخامة العمل الذي يؤدّيه.

و ثانيا:له من قوة النفس ما لا يتسرب معها إليه الوهن.و هاتان الميزتان تجلّتا عند الإمام الحسين في كربلاء.لذلك كانت واقعة كربلاء كشمس سطعت في دياجي التاريخ،و هي ما انفكت ساطعة و ستبقى كذلك أبد الدهر.

و إمامنا الكبير حذا أولا في هذه الخاصيّة حذو الإمام الحسين عليه السلام بالكامل لذلك نجح في إيصال الثورة إلى شاطئ النصر.و كان ثانيا سببا في ضمان ديمومتها من بعده.

إنّ انتصار فكره و نهجه-الذي يتجلى في اجتماعكم الحاشد هذا-له انعكاس أوسع على مستوى العالم و يتمثّل في توجّه الشعوب إلى الإسلام و إلى خط الإمام (ره).

و هذه الانتصارات إنّما هي ثمرة الإستقامة.

ص: 133

نموذج من استقامة الإمام الخميني

في أحد الأيام قالوا للإمام:إنّك إذا واصلت هذه النهضة فسيغلقون الحوزة العلميّة في قم.و هنا لم يقتصر الحديث على القتل لكي يقول الإمام:لا ابالي بالقتل، فالكثيرون على استعداد للتضحية بأنفسهم،و لكن حينما يقال إنّ عملك هذا قد ينتهي بإغلاق حوزة قم،ترتعد فرائص الجميع،لكن الإمام لم ترتعد فرائصه و لم ينثن عن مساره بل واصله.

ثم إنّهم قالوا له في يوم آخر.إنّك إذا واصلت هذا الطريق فإنّهم سيثيرون ضدك كبار العلماء و المراجع،و معنى هذا إيجاد الاختلاف في العالم الإسلامي.

في مثل هذا الموقف ترتعد فرائص الكثيرين،إلاّ الإمام فلم ترتعد فرائصه و استمر على مسيرته حتّى لحظة انتصار الثورة.

قيل للإمام مرّات و مرّات:إنّك تحث الشعب الإيراني المسلم على الوقوف بوجه النظام البهلوي،فمن المسؤول عن هذه الدماء التي تراق؟أي أنهم وضعوا أمامه دماء الشباب.

و في عام 1342 و عام 1343 ه ش.(1963-1964 م.)عرض عليّ أحد العلماء الكبار هذا الموضوع قائلا:عندما قام الإمام بحركته تلك في الخامس عشر من خرداد و قتل فيها الكثيرون-و كانوا من خيرة شبابنا-فمن هو المسؤول عن ذلك؟ هكذا كان نمط التفكير حينذاك.و لا ريب أنّ هذا التكفير يؤدي إلى إيجاد الضغوط التي قد تصرف أي شخص عن هذا الطريق و عن مواصلة التحرك.إلاّ أنّ الإمام استقام.و في أمثال تلك المواقف كان يلاحظ سمو روحه و عظمة بصيرته.

ص: 134

هذا فيما يتعلق بفترة مقاومة النظام الشاهنشاهي.

أمّا الذي يعتبر بمثابة الدرس بالنسبة لنا فهو ما يتعلق بالفترة التالية لذلك،إذ يجب على الجميع الالتفات إلى هذه النقطة.و كما ذكرت ينبغي للعلماء و المفكرين و المحللين السياسيين،و من لديهم القدرة على التحليل،أن يدرسوا هذه النقطة لأنّها مهمّة حقا.

كانت المواجهة حتّى ذلك اليوم مع النظام الشاهنشاهي،و من بعد إقامة النظام الإسلامي و إيجاد الجمهورية الإسلاميّة اتسع نطاق المواجهة و تبدلت صيغتها.

أمّا اتساع نطاقها فقد ابتدأ منذ أن كشف الأعداء العالميون عن وقوفهم بوجه نظام الجمهورية الإسلامية.و لكن من هم الأعداء العالميون؟هم الذين نسميّهم بالإستكبار العالمي،و الإستكبار العالمي يشمل جميع القوى المتغطرسة و المتجبّرة في العالم،و جميع الوجوه الوقحة المتسلطة على الشعوب.هذا هو الإستكبار العالمي.و لكن لما ذا بدأوا يواجهون الجمهورية الإسلاميّة؟و الجواب على هذا التساؤل مطوّل،و قد عرض عدّة مرّات،و خلاصته أنّهم رأوا الخطر محدقا بمصالحهم و توجّهاتهم التوسعية،و أنّ التواجد المعنوي و الفكري للجمهورية الإسلاميّة في البلدان الإسلاميّة يهدد هيمنتهم على تلك البلدان،و ما شابه ذلك من الأسباب.

و على كل حال،فقد بدأوا بمواجهة عنيفة،و لو أنّ إنسانا ضعيفا كان بدل الإمام (ره)في أيّة خطوة من خطوات تلك المواجهة لبادر إلى إيقاف تلك الحركة انطلاقا من وجود العذر و المانع،و لقال:لا يمكن مواجهة الإستكبار و هو على هذه الدرجة من القوّة و المقدرة،و أنّه لا مفر لنا من التراجع مكرهين.إلاّ أنّ الإمام لم يتراجع.

و لأجل بيان أهمية هذه القضية لاحظوا المقاطع الثلاثة التالية منها و هي:

ص: 135

الضغوط الكبرى التي واجهت ثورة الإمام الخميني

أولا:الهجوم السياسي الشامل ضد إيران.فجميع الأجهزة الإعلاميّة هاجمتنا في عدّة فترات.و في بعض الأحيان تؤدي الهجمات السياسيّة على البلدان إلى شلّها و إرهاقها،و هي غالبا ما تكون مؤثرة.

و اليوم حيث هيمن الإعلام الإذاعي و التلفازي على العالم بأسره،بات أمرا تخشاه الدول إلى حد بعيد لما يتركه من تأثير على شعوبها.

و بدأ الأعداء مثل هذا الهجوم ضد نظام الجمهورية الإسلامية من كل جهة، و كان من الطبيعي أن لا يهتز شعبنا بسبب ما يتصف به من بصيرة و ثبات.لكن الإمام لم يقل:ما دام الجميع قد تظافروا ضدنا فعلينا بالتراجع.لم يقل إنّنا قادرون على مواجهة أمريكا فقط،و لكن كيف يتأتى لنا مواجهة أمريكا و روسيا معا.و ذلك لأنّ العالم الذي كان منقسما إلى قطبين،تحالفا كلاهما و تظافرا ضدنا.لكن الإمام استقام و لم يتراجع عن كلامه و شعاره و نهجه،و لم يتفوّه بكلمة واحدة ممّا أراده الأعداء.

هذه هي الإستقامة الحسينيّة،و هي بمقاييس العصر شبيهة بمواقف الإمام الحسين عليه السلام.

و حينما اندلعت الحرب المفروضة كان الوضع على هذه الشاكلة أيضا.فالشعب الذي ورث كل ذلك الدمار من العهد البائد،و كان بحاجة إلى العمل و الإعمار،تعرض فجأة لهجوم العدو،و تعطّل ما كان للديه كالسكك الحديديّة و المصافي و صادرات النفط و مصانع الحديد.

ص: 136

و لا شكّ أنّ كل من يواجه مثل هذا الوضع يستسلم أمامه لا سيّما و أنّ الطرف المقابل لم يكن النظام العراقي بل كان-كما يعلم الجميع-النظام العراقي مضافا إليه الإتحاد السوفيتي و فرنسا و الناتو و الخبراء الأمريكيين و غيرهم.

و لو أنّ الإمام(ره)كان ضعيفا آنذاك لعله كان يقول:لقد رفع عنا التكليف.و لم يقل الإمام:هؤلاء يريدون أن لا نؤكد كثيرا على أحكام الإسلام،حسنا لا نؤكد عليها.و يريدون ألا نعادي إسرائيل،طيّب،لا نعاديها لأن الضغوط قويّة.

لم يقل الإمام شيئا من هذا القبيل بل أصر على موقفه.و حتّى قرار وقف إطلاق النار الذي وافق عليه لم يكن الدافع وراءه يكمن في تلك الضغوط،بل وافق عليه بسبب المشاكل الإقتصادية التي عرضها المسؤولون الإقتصاديون في البلاد آنذاك و بيّنوا له أنّ الدولة غير قادرة على الإستمرار بالحرب بكل هذه التكاليف، فاضطر الإمام للموافقة على قرار وقف الحرب.

إذن فقبول القرار لم يكن مردّه هجوم العدو أو تهديد أمريكا التي كان من المحتمل أن تتدخل في الحرب.فأمريكا كانت تتدخل في الحرب حتّى من قبل هذا.

و لو أنّ العالم تدخل بأجمعه في الحرب،لم يكن الإمام(رضوان اللّه عليه)لينثني بتلك السهولة.فالقضية كانت تتعلق بالوضع الداخلي.

ص: 137

صلابة الإمام الخميني

لم يحصل خلال الحياة الشريفة للإمام التي امتدت لعشرة سنوات من بعد انتصار الثورة أن تردد لحظة واحدة بسبب ضخامة تهديد العدو-في أي بعد من الأبعاد-أي أنّه كان يتمتع بنفس تلك الروح الحسينيّة.

الحرب تقترن عادة بالخسائر،و كانت حياة الإنسان عزيزة على الإمام،فهو يبكي أحيانا على الإنسان الذي يعاني و يتألم،و أحيانا تترقرق الدموع في عينيه.

و هذا ما شاهدناه مرّات و مرّات.فقد كان إنسانا رحيما و عطوفا،و قلبه طافح بالإنسانيّة و المحبّة.لكن هذا القلب الطافح بالمحبّة لم يرتعش يوما أمام التهديد و لم يزل و لم يتراجع و لم يتنازل.

طوال مدّة العشر سنوات هذه أدرك أعداء الثورة بأجمعهم و لمسوا بالتجربة أنّ الإمام لا يمكن إرعابه.و إنّها لنعمة كبرى بأن يشعر العدو بأنّ هذا الرجل لا يمكن إزاحته من الساحة بالخوف و التهديد.و قد أدرك الجميع من خلال الشخصية الألمعية التي كان يتحلّى بها الإمام أنّه رجل لا يمكن إخراجه من الساحة،و لا يمكن تهديده بالضغوط،و التهديد العملي أيضا لا يجدي نفعا في ثنيه عن منهجه؛لذلك اضطروا لمجاراته.

إنّ ما يمكن استنتاجه من هاتين الكلمتين-و هذا الاستنتاج طبعا قابل للتعميم و للتأمل-هو أولا:إنّ من جملة الخطوط البارزة،بل و الخط المميز لثورة عاشوراء هو استقامة الإمام الحسين عليه السلام.

ص: 138

و الاستنتاج الآخر هو أنّ إمامنا الكبير(رضوان اللّه عليه)اتخذ الإستقامة الحسينية كمنهج له في نهضته و في نمط حياته،و لذلك استطاع ضمان استمرارية الجمهورية الإسلاميّة،و صد العدو عن اسلوب الضغط و التهديد؛لأنّه بيّن للعدو بأنّ الضغط و التهديد و الهجوم لا يجدي نفعا،و أنّ هذا القائد ليس بالرجل الذي تثنيه مثل هذه الأفعال.

ص: 139

تأثر الشعوب برسالة الإمام الخميني

إنّ الهدف الأساسي لأمريكا و الاستكبار اليوم هو إرغام الثورة و الجمهورية الإسلاميّة و الشعب الإيراني المسلم على التراجع عن كلامه و عن كلام الإمام.و هي ما انفكت تركّز مساعيها على هذا الجانب،و لكن لماذا؟لأنّها ترى أنّ رسالة الإمام ايقظت الشعوب الإسلامية.

انظروا كيف تأثرت شعوب العالم المختلفة و خاصة الشعوب الإسلاميّة برسالة الإمام.و قد أدرك الإستكبار أنّه إذا شاء الإبقاء على صمت الشعوب، و صرفها عن الطريق الصحيح،فليس أمامه سوى أن يقوم بعمل يجعل الشعوب ترى أنّ إيران الإسلاميّة و إيران الإمام تراجعت عن نهجها،لكي يوقع الجميع في اليأس و يثنيهم عن عزمهم.و قد أدرك الإستكبار هذه الحقيقة و كرّس كل جهوده من أجلها.

اليوم يضغطون على الجمهورية الإسلاميّة من جميع الجهات لأجل إبداء اللين أزاء موضوع إسرائيل،و التنازل عن رفع الشعارات الإسلاميّة،و عدم التحدث بهذا القدر عن الإسلام و القرآن-و هما القاسم المشترك بين الشعوب الإسلاميّة-

ص: 140

إستقامة الإمام الخميني قدوة

إذا أراد الشعب الإيراني المسلم مواصلة طريق العزة و التقدم و التنميّة و البناء و الرفاه،و بلوغ النتيجة المرجوة-كما حصل خلال هذه السنوات بحمد اللّه من تقدم و نشاط في القطاعات المختلفة بفضل السواعد المقتدرة و ببركة الخدمة التي تؤدّيها الجمهورية الإسلاميّة-فالسبيل إلى ذلك أنما يتم بالإستقامة و الصمود في مقابل الأعداء و الإستكبار.

حقق الشعب الإيراني خلال هذه السنوات إنجازات كبرى،و عليه أن يحافظ على هذه الإنجازات.فالشعب و خاصة مسؤولي الجمهورية الإسلاميّة ملزمون من خلال دورهم العقلاني و تصرفهم السليم أن يحولوا-لا سمح اللّه-دون ضياع إنجازات الشعب الإيراني،سواء الإنجازات التي حققتها له الثورة مباشرة، كالحكومة و الدولة و رئيس الجمهورية و النواب و ما شابه ذلك،أم ما يتعلق منها بالثورة و لكنه صار للشعب بشكل غير مباشر،كحركة البناء هذه و التي يتجسد فيها كل عمل الثورة و مهارتها،و التي تنجزها العناصر الثوريّة في الحكومة و في القطاعات الاخرى.و هذا ما ينبغي لأبناء الشعب و المسؤولين صيانته باسلوب عقلاني و سليم.

إنّ السبيل الوحيد الذي يتيح لشعب إيران و المسؤولين صيانة هذه الإنجازات، و تقديم المزيد من العطاء يكمن في مواصلة النهج الذي اختطه الإمام بمسيرته، و هو نهج الإستقامة و الصمود بوجه مطامع الأعداء و بوجه الهراء و الهذر الذي

ص: 141

تتفوه به حفنة أفراد من خلف الحدود و تفصح فيه عن مطامعها بهذا الشعب.

الإستقامة طريق النجاة لكل الشعوب

إنّ الشعب الإيراني بأسره و جميع المسؤولين و جميع القطاعات المختلفة يجب عليها اتخاذ صمود الإمام بوجه طموحات الأعداء قدوة لها.و إذا شاءت الشعوب الاخرى بلوغ مرحلة مرموقة فطريقها هو ذا.و إذا اريد لقضية فلسطين أن تحل، فطريق الحل يكمن في هذه الإستقامة و في هذا الصمود.و إذا اريد للقضايا المختلفة الناتجة عن التدخّل الإستكباري في منطقتنا أن تحل،فطريقها هو هذه الإستقامة.

و ليعلم الشعب الإيراني أنّه لو لا هذه الإستقامة،و لو لم يبد إمامكم هذه الإستقامة،لما كانت اليوم بأيديكم أراضي إيران الكبرى،و لغيّر العدو هذه الحدود، و لبقيت قدم المعتدي تطأ أرضكم،و لكان هذا مصدر عار أبدي على الشعب الإيراني المسلم.فاستقامة هذا الرجل و صموده هو الذي حال دون ذلك.

و اليوم أيضا،إذا أردتم لإيران العزة و الرفعة،و إذا أردتم لأهداف الإمام-و هي أهداف الإسلام و الثورة و الأهداف الأساسية لشعب إيران-أن تتحقق،فالسبيل إلى ذلك هو الصمود بوجه أطماع العدو.و مسؤولو البلاد صامدون-و الحمد للّه- كالجبل الأشم.

اليوم تقف حكومة الجمهورية الإسلاميّة،و نوّاب الشعب،و السلطة القضائيّة، و القوات المسلّحة و جميع أبناء الشعب،كزبر الحديد بوجه أطماع العدو،و لا يهتزون قيد انملة أمام تهديداتهم.و هذا هو طريق العزة و السلامة.

إنّ الأمريكيين يطمحون إلى تحقيق أهدافهم بالتهديد،إلاّ أنّ هذا لا يتسنّى لهم و لا حتّى عن طريق التدخل.فالشعب الإيراني لا يسعه التغاضي عن حق الشعب

ص: 142

الفلسطيني.

خط الإمام الخميني و نهجه

و لكن ما هو خط الإمام و نهج الإمام الذي يتكرر ذكره؟إذا قلنا إنّ خط الإمام هو الإسلام و الثورة،فهذا الموضوع يعتبر طرحا عاما.من الواضح أنّ خط الإمام هو خط الثورة و الإسلام،و ما من شخص لديه اعتراض على الإسلام و الثورة.

و الشيء القادر على تحقيق تطلعات هذا الرجل الفذ-الذي يعد أبا لهذه الثورة و بانيا لإيران الإسلاميّة-هي الإستقامة التي أبداها هذا الرجل العظيم بسلوكه،و لم يتنازل أمام الأعداء و لم يرهبهم،و لم يتزعزع أمام التهديدات.

و ليس بوسع أحد اتهام الإمام بأنّ ما فعله كان خلافا للتدبير السليم،أبدا.فلو أنّ جميع عقلاء العالم دقّقوا و حلّلوا لأدركوا أنّ السبيل الصحيح هو السبيل الذي سلكه ذلك الرجل،و هو السبيل المؤدي إلى أهدافه.و كل من له هذا الهدف فطريقه هو نفس الطريق الذي سار عليه هذا الشخص العظيم (1).

ص: 143


1- الثورة مظهر لتحرك الدين بوجه الطاغوت:249-260.

أثر ثورة الإمام الخميني

قال السيد الخامنئي:اعلموا أنّ رسالة الإمام و رسالة هذا الشعب العظيم الثوري قد اجتاحت العالم-بحمد اللّه-و مع مرور سبع سنوات على رحيل الإمام إلاّ أنّ اسم الإمام و ذكراه في العالم لم و لن يندثر.

من الطبيعي أنّ إعلام الأعداء يحاول أن يصور رسالة الثورة و كأنّها أضحت شيئا قديما في العالم.و هذا الإدعاء كاذب و مجاف للواقع؛لأنّ اسم هذه الثورة و هذه الحركة العظيمة لشعبنا،و المسيرة الظافرة لهذه الشخصية الفذة مشهودة اليوم في أقصى نقاط العالم و حتّى بعض الأرجاء التي لا ذكر فيها للإسلام.

و هذا الطريق هو طريق عزة إيران(الإسلام)و رفعة البلد و بناء الوطن،و رفاه و انتصار و سعادة شعب إيران الذي سيواصل بحول اللّه هذا الطريق بكل قوّة، و هو نفس الطريق الذي سينتهجه الجيل و الأجيال القادمة بعونه تعالى.

ص: 144

ثورة الإمام تحيي إرادة المسلمين

يتحلى المسلمون بخاصّية القدرة على تفعيل إرادتهم في حركة العالم إنطلاقا من الأحكام الوضّاءة للإسلام و بسبب الدوافع الروحيّة و الخلقية التي يغذي بها اتباعه كمقارعة الظلم،و عدم مهادنة الفساد و الباطل،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و الجهاد في سبيل اللّه،و هذا المبدأ الأخير له ميدان واسع و افق فسيح لا يقتصر على ساحة الوغى و المواجهة الجسمانيّة،بل هو متاح حتّى داخل البيت أيضا،و يتسنّى للمرء مجاهدة أعداء اللّه في كل مكان فيما لو كانت لديه إرادة، و معرفة بما ينبغي فعله.

هذه الطائفة من الأحكام و المعارف الإسلاميّة،و منها:الجهاد،و الأمر بالمعروف،و التصدّي للفساد و الباطل،و عدم احتمال الضيم:لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (1)تجعل المسلم أينما كان-سواء كان شعبا،أم(طائفة)أصغر من الشعب إلى حد الفرد الواحد-قادرا ببركة هذه الأحكام على تفعيل إرادته في العالم المحيط به.

هذه هي الخاصيّة التي تطبع شخصية المسلم،و هذا ما يغيظ الإستعمار منه، و يجعل الظالمين يضيقون به ذرعا.

عندما امتطى الأوروبيون سفنهم و قدموا و سيطروا على بلدان آسيا و أفريقيا و الشرق الأوسط و غيرها من الأصقاع الاخرى،ارعبتهم تلك المعنويات التي

ص: 145


1- سورة البقرة:279.

واجههم بها الفرد المسلم؛فكان لزاما عليهم اتخاذ إجراءين من أجل إبطال ما استشعروه فيه من خطر،و هما:

أولا:إقصائه عن أحكام دينه،و ثانيا:تحطيم معنوياته و إشعاره بالوضاعة.

لاحظوا إذن أن سياسة الأعداء تركّزت طوال فترة صراعهم-الذي بلغ ذروته خلال القرن أو القرنين الأخيرين-مع الإسلام على هاتين النقطتين،و أحداهما:

إبعاد المسلمين عن أحكام دينهم،و الاخرى:احتقارهم و إذلالهم و كسر معنوياتهم.

فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة إنّ الدولة الإسلاميّة أضحت دولا من المرتبة الثالثة،و لا يمكن حتّى القول إنّها من المرتبة الثانيّة.و بات كل بلد إسلامي إمّا تحت الهيمنة المباشرة لأعداء الإسلام و القوى الأجنبية،و إمّا تحت سلطة عميل من عملائهم،كما هو الحال بالنسبة للعائلة البهلويّة التي حكمت هاهنا،أو بعض البلدان الاخرى التي ابتليت بأوضاع مشابهة.هكذا كان حال المسلمين.

فجاء إمامنا العزيز و وضع أصبعه على هاتين النقطتين نفسهما،و هذا هو السبب الذي جعل اسمه يجتاح العالم الإسلامي كالاعصار،إذ أنّ الدعاية و الإعلام لا يتسنّى لهما وحدهما إيجاد مثل هذه المكانة لشخص ما في قلوب الشعوب.

و هذه هي المنطلقات التي زرعت محبة الإمام في قلوب الناس في بعض أرجاء العالم و جعلتهم يتعلقون به من غير أن يكونوا قد سمعوا باسم إيران. (1)

ص: 146


1- ذكر لنا أحد المشايخ المبلغين منذ حوالي العشرين سنة أنه ذهب للتبليغ إلى إحدى الدول الإفريقية و اصطحب الى إحدى القرى النائية و التي لم تكن تصل إليها السيارة و أثناء ذهابه الى القرية مشيا وجد في أول القرية رجلا جالسا تحت شجرة فظن أنه جاء لإستقباله،فوقف و سلّم عليه،فرد السلام،ثم سأله الشيخ ماذا تفعل هنا؟ فقال:أحرس هذه الصورة. فنظر الشيخ الى الشجرة و إذ معلق عليها صورة الإمام الخميني فقال له:و ما هذا؟ قال الرجل:إنها صورة رجل عظيم سيأتي ليخلّصنا مما نحن فيه.

هذه سنّة إلهيّة و قاعدة في الوجود.

ركّز الإمام(ره)على هاتين النقطتين؛فاستيقظت ضمائر الشعوب و لمست أن طريق الخلاص هو ذا،و المثل الذي يحتذى به هو الشعب الإيراني أيضا.

دعا الإمام شعب إيران للعودة إلى الإسلام،مناديا أن هلمّوا و اعملوا بالإسلام بمعناه الحقيقي،و لا يقتصر عملكم على المسجد و العبادات الفرديّة،بل عليكم بأداء هذا العمل على أتمّ صورة،و استلهموا نظام الحياة من الإسلام.و هذا هو الدافع وراء إقامته للجمهورية الإسلامية.

الإعتماد على الذات

النقطة الاخرى هي أنه أحيى روح هذا الشعب و أعاد صياغتها،إذ نبّه شعب إيران و بيّن له أنه على جانب كبير من القوّة و أنه قادر على الإيحاء إلى جميع الشعوب الإسلاميّة في العالم بأنّ لها من القوّة ما يتيح لها الغلبة على العدو و إركاعه.

و هذا العلاج الذي وضعه الإمام أينما دخل حيّز التنفيذ و بأي مقدار كان،أفرز هذه النتيجة نفسها.

و في بلدنا بالذات تحرر الشعب الإيراني المسلم من صفة الضعف و الخنوع، و بلغ اليوم مرحلة بحيث صار لإرادته دورها في قضايا العالم المهمّة،و هذا ما يقرّ به حتّى أعداؤنا.

بالأمس تظافر الشرق و الغرب،و اليوم تظافرت جميع القوى المهيمنة للإجهاز

ص: 147

على حق الشعب الفلسطيني و هضمه،غير أنّ الجمهورية الإسلاميّة تصدت لهذا المشروع،و الكل يؤكد في جميع أنحاء العالم على إن معارضة الجمهورية الإسلاميّة هي السبب وراء عدم تقدم هذه المسيرة.هذه إرادة الشعب الإيراني المسلم،نعم و لن تتقدم تلك المسيرة.

فالشعب الذي كان رئيس حكومته السابقة-أي الشاه الفاسد الذليل-يستشير سفارتي أمريكا و بريطانيا في شؤون حياته اليومية و يتلقى منهما الأوامر،بات اليوم في وضع لا تملك معه لا أمريكا و لا أيّة قوّة اخرى أي تأثير عليه أو على بلده.

و هذا ما يجسّد القوّة الوطنية لشعب ما.هذا هو المنهج الذي اختطه الإمام الراحل و أحيى به مشاعر المسلمين.

و هكذا الحال أيضا في مجال البناء،إذ قال:إنكم قادرون على صناعة كل شيء ولديكم القابلية على اعمار بلدكم بأيديكم و الاستغناء عن الأجانب و طي مدارج العلم كالآخرين،و إن تكون لكم جامعاتكم المستقلة.و أنتم تلاحظون اليوم إنّ الشعب الإيراني ينجز هذه التوصيات الواحدة تلو الاخرى،و هذا ما جرّبه الشعب بذاته.

كان هذا في داخل إيران.و في جميع بقاع العالم الاخرى جنت الشعوب فوائد هذا العلاج الذي وصفه الإمام،على قدر عملها به.انظروا إلى طبيعة القضية الفلسطينيّة، و إلى قضية لبنان المؤلمة و غيرها من القضايا الاخرى و لاحظواكم اختلف الوضع اليوم عمّا كان عليه بالأمس،فالشعب الفلسطيني إستيقظ اليوم،و أصبحت العناصر الفلسطينيّة الحقيقية في داخل الأرض المحتلة شوكة في أعين المحتلين، و بقيت لا تنتظر أن يتحدّث باسمها أربعة اشخاص خارج حدود فلسطين.أصبح الشعب الفلسطيني هو الذي يتحدث و يعمل و يتحرك،باسم الإسلام.

ففي كل موضع استخدم هذا العلاج-أي الثقة بالنفس و الاعتماد على الذات

ص: 148

و العودة إلى الإسلام-و بأي قدر كان؛تعرقل عمل القوى العظمى و تسارعت حركة الشعوب بنفس ذلك المقدار.

إنّ العلاج الذي وضعه إمامنا الكبير عزّز مكانة المسلمين في أيّة نقطة كانوا من العالم،و جعلهم يسشعرون العزة أينما كانوا.

كان المسلمون يشعرون يوما بالخجل من الانتماء إلى الإسلام،إلاّ أنّ المسلم يفتخر اليوم بإسلامه و يعتز بانتمائه إليه،و هذا من إفرازات حركة إمامنا الكبير.

ص: 149

أثر إحياء ذكرى الإمام الخميني و نهجه

و ما اريد قوله هو أن الشعب الإيراني أو الشعوب الاخرى كلما سعت في إحياء اسم الإمام و إبراز ذكراه كلّما جنت مزيدا من الثمار من نهجه.لكن أعداء الإسلام و المسلمين يستهدفون طمس اسم الإمام(ره)و محوه،أو التقليل من شأنه،فتراهم يوحون إلى أنّ هذه الحادثة التي وقعت مرّت و انتهت،لئلا يكون لها أثر في مستقبل العالم.و أنتم تلاحظون أنهم ينتهجون شتّى السبل و الأساليب لتحقيق مآربهم هذه و من جملة ذلك الإعلام المسموم،و تحريف الحقائق،و بثّ الأكاذيب.و هذه الأنماط سارية في أي موضع يقع تحت هيمنة القوى الإستكبارية.

و في مقابل ذلك ثمّة مهام يجب على المسلمين النهوض بها؛يجب عليهم رفع اسم الإمام و إحياء ذكراه و تنوير الأفكار و الأذهان بالمنهج الصريح الذي اختطه، و بيان الهدف الذي يرمي إليه،و يوضحوا أنّ أحكام الإسلام و روح الإعتزاز الإسلامي هما النقطتان الجوهريّتان اللتان كان الإمام يستهدفهما.

و هكذا الحال في بلدنا أيضا؛فإن كان شعبنا يطمح إلى استكمال طريق العزّة هذا،فعليه السعي المتزايد يوما بعد آخر لإحياء اسم الإمام و ذكراه.و إذا كان الشعب يتطلّع ببركة سواعده المقتدرة و إبداعه و خلاّقيّته إلى بناء إيران بشكل تغبطها عليه الشعوب و الدول،فعليه الإلتفات إلى تعليمات الإمام أكثر فأكثر.

لعل بعض الأفئدة الغافلة تتصور أو تشيع أن خط الإمام و نهج الإمام يوفّر للناس الآفاق المعنويّة و الحياة الآخرة،و لا يعنى بإعمار دنياهم!هذا خطأ،فطريق

ص: 150

اللّه يضمن لبني الإنسان دنياهم و آخرتهم و يجعل الحياة طيّبة و يسيرة،و يرفع عنهم الضغوط المفروضة عليهم من العدو و يخفف من وطأتها،هذا طريق اللّه، و طريق الإمام هو طريق اللّه.

لقد أدى التغلغل الأجنبي،و تسلط الحكومات الفاسدة،و الحكومتين الطاغيتين البهلوية و القاجارية-و هما السلالتان البغيضتان اللتان حكمتا هذا البلد لسنوات متمادية،و فسحتا المجال أمام التغلغل الأجنبي فيه-إلى تخلف الشعب الإيراني عن قافلة العلم.و هو قادر على بلوغ التنمية الحقيقية و إعمار البلاد فيما لو استطاع الوقوف و سار على طريق تطبيق الأحكام الإلهية في حياته و قطع الهيمنة الأجنبيّة عن هذا البلد بالكامل.

و هذا هو منهج الإمام(ره)و وصاياه.

بإمكان شعب إيران بلوغ العزة و الرفاه و الكرامة في الدنيا،و السعادة و الكمال المعنوي و الأخروي من خلال اتباع الخط الذي صاغه إمامه و قائده الكبير و وضعه أمامه.و قد منحه اللّه من الوقت فرصة عشر سنوات حتّى تسنّى له بيان هذا الخط للناس.

ليس في كلام الإمام نقطة خافية أو مشكوك فيها (1).5.

ص: 151


1- الثورة مظهر لتحرك الدين بوجه الطاغوت:260-265.

معجزة الثورة الإسلامية

اشارة

قال السيد الخامنئي:و رغم أنّ الأبواق المريضة للمحلّلين الماديين ما زالت عاجزة عن فهم و تحليل الحوادث الإسلامية في السنوات العشر الأخيرة،و أنها لم تدرك تماما ماذا حدث،و أنّى جرت الأحداث بعد سعي استعماري حثيث في الأقطار الإسلامية دام مئتي عام،و بعد آلاف من الأساليب الناجحة لحذف الإسلام من الساحة الحياتية،بل و حتى من صفحة الوجود و قلوب الناس في هذه الأقطار.

و الأهم من ذلك بعد قرون من التعليم التحريفي للقوى المستبدة و عملائها،و بعد تحريفات كثيرة قام بها وعّاظ السلاطين و علماء البلاط و نفذوها في الدين، و حاولوا أن يخدشوا صفاءه و خلوصه ليتحوّل الى دواء غير ناجع و جسد لا روح فيه.

نعم،رغم كلّ هذا الجهد المبذول كيف يعود الإسلام من جديد في قلب الوطن الإسلامي،و ينشر جناحيه و يمدّ أفياء الرحمة على أرجاء العالم الإسلامي،و يشرق كشمس وهّاجة في قلوب كلّ المسلمين،و يهبهم روحا و نشاطا و أملا؟و كيف يتحوّل الإسلام الذي طواه النسيان فلم يعد يثير رجاء في القلوب اللاهثة لمن مضّ بهم الألم و أعوزهم الشباب و الواعين و المتحرّقين للغد الأفضل؟

نعم،إنّ فهم هذه الحوادث العجيبة و تحليلها الصحيح-و إن كان عصيّا على العقول و الإذهان الغربية عن حقيقة الإسلام و الجاهلة بالتاريخ الواقعي للإسلام- إلاّ أنّ الجواب الوحيد عليه لدى أهل البصيرة يكمن في كلمة واحدة هي:معجزة

ص: 152

الثورة.

الإنجذاب إلى الثورة

إنّ ما يشد إليه الأنظار بالدرجة الأولى على صعيد العالم الإسلامي هو أنّ الثورة الإسلامية و بعد مضي ثماني عشرة سنة على انتصارها-و على الرغم من مساعي و توقّعات أعدائها الذين كانوا يأملون أن يخبو بريقها و يطويها النسيان في العالم- غدا الانجذاب إليها،و انعكاساتها التاريخية الكبرى أعمق،و هذا ما يعد بذاته من معاجز الإسلام و الثورة.

و لا شك أن الفضل في هذا الانشداد العام العالمي يعود بالدرجة الاولى إليكم أنتم يا أبناء الشعب الإيراني المسلم،و أرى لزاما عليّ ذكر هذه النقطة تعبيرا عن الشكر للّه،و لكم أنتم.

لقد انصبت مساعي الأعداء على إبعاد هذا الشعب عن ساحة الثورة،و كان الرد صريحا و قاطعا و حازما من قبلكم على مدى السنوات التي اجتازتها هذه الثورة، و في جميع الميادين التي تتطلب حضورا جماهيريا.و نموذج ذلك هو حشدكم الهائل في آخر يوم جمعة من شهر رمضان،و هو يوم القدس.

و من المدهش أن مشاركة الناس في السنة الثامنة عشرة لإعلان يوم القدس كان أكثر من السنة السابعة عشرة،و كانت المشاركة في السنة السابعة عشرة أكثر من السنة السادسة عشرة.فياله من تحرك و يالها من همّة و ياله من لطف إلهي على هذا الشعب العظيم.

إنّ حشودكم الهائلة،و مشاركتكم الواسعة اليوم في ساحة العبادة هذه في يوم عيد الفطر لا نظير لها حقا.و إني لأستطيع القول بكل جرأة،بأنه لا تقام صلاة

ص: 153

كصلاة عيد الفطر هذه في أي موضع آخر من العالم الإسلامي.أستطيع القول أنه ما من موضع في العالم يشارك فيه مثل هذا العدد من الشبّان في شعائر دينية، و بهذا الحشد و الشوق و الاندفاع.

و اعلموا يا أعزائي أيضا أن إقبال الشبّان في كل أرجاء العالم الإسلامي على الدين و الشعائر الدينية غدا أفضل مما كان عليه قبل خمس عشرة أو عشرين سنة، و هذا إنما تحقق بفضل هذه الثورة و بفضل حضوركم و حضور هؤلاء الشبّان.

و غدا أيضا هو يوم الثاني و العشرين من بهمن الذي سيتجسّد فيه نفس هذا العرض الكبير لقوّة الثورة و لاقتدار شعب إيران أمام أنظار المشاهدين و المحللين و المراقبين في العالم.

إلاّ أنهم لا يصرّحون بهذا في إعلامهم،بل يتحدثون في إذاعاتهم بأسلوب آخر، لكنهم في ذاتهم يعرفون حقيقة ما يجري.فإن لم تكن هذه القلوب الطافحة بالعداء، و عين البغض لهذه الثورة و لهذا الشعب قد رأت تلك الحشود الهائلة في يوم القدس، و لم تحقد عليها-لو لم يكن كذلك-لما نشروا عبر وكالات الأنباء أنّ الجمهورية الإسلامية جلبت بعض الناس بالحافلات للمشاركة في شعائر يوم القدس!و الآن حين يسمع الشعب الإيراني المسلم بمثل هذه الدعايات يتضح له مدى وزن و قيمة الإعلام العالمي المناهض لهذه الثورة.

هل أنّ تلك الجموع المليونية في يوم القدس كانت عبارة عن ركّاب حافلة جمعتهم الحكومة هناك؟!انظرواكم قلوبهم مليئة بالحقد و الغيظ.فلو أنهم لم يروا الحقيقة و لم يغضبوا منها،لما كان رد فعلهم على هذه الشاكلة.

هذه الأخبار الكاذبة تعكس عمق غضبهم و غيظهم من حضوركم في الميدان السياسي،و غدا أيضا سيملأ الغيظ قلوبهم الطافحة بالحقد على هذه الثورة،و ذلك بفضل اللّه و عونه.

ص: 154

و بالتزامن مع هذا الوعي الجماهيري و انجذاب الشعوب إلى الثورة و إلى الشعب الإيراني الثوري تفاقمت أيضا الهجمة التآمرية من الأعداء،و لكن من غير جدوى؛ فلو كان مقدرا لتآمر العدو أن ينجح،لكان قد نجح.و لكنكم تلاحظون بفضل اللّه أنّ مؤامراته لم تبلغ أغراضها.غير أنه و مع كل هذا لازال يتآمر؛و إحدى مؤامراته هي غرس بذور الخلاف بين البلدان الإسلامية و إلهاء الكثير منها و إشغالها بامور تافهة و صرف أنظارها عن أشياء عظيمة و مهمة،و خلق أسباب و ذرائع الجدل و الخصومة بين هذه البلدان لأجل حرف عدائها عن الصهاينة و هم الأعداء الحقيقيون للعالم الإسلامي.و هذه الأعمال تجري في كل أرجاء العالم و غير محصورة في نطاق منطقتنا،غير أنّ ذلك في منطقتنا أشد مما في سواها.

ص: 155

الثورة لا تشكل خطرا على البلدان المجاورة

لقد انصبّت جهود الأبواق الإعلامية و محترفي الألاعيب السياسية الإستكبارية منذ اليوم الأول للثورة على تخويف بلدان ساحل الخليج الفارسي من الجمهورية الإسلامية؛لكي يتاح بيع الأسلحة لهم،و ليتسنى تكريس وجودهم العسكري فيها.

و أنا لا أعلم أما آن الأوان للقلوب و الأذهان في هذه البلدان أن تعود لرشدها و تدرك أن أمريكا لا تبغي لها الخير،و تفهم أنّ أمريكا و الأبواق الصهيونية في العالم بأسره-التي توجّه دعاياتها إلى تلك الدول-تستهدف المجيء إلى الخليج الفارسي و نشر قواعدهم العسكرية فيه لضمان مصالحهم الإقتصادية غير المشروعة،هذا فضلا عن الضغط على الجمهورية الإسلامية و الشعب الإيراني إن اتيح لهم ذلك؟

لقد أعلنت الحكومة و الشعب،و جميع المسؤولين في الجمهورية الإسلامية مرات عديدة،أننا لا نضمر للدول المجاورة أي سوء،و هذا ما ثبت منذ أول الثورة.

و بعد مضي ثماني عشرة سنة على الثورة هل يا ترى غزونا أحدا؟و هل رمينا إطلاقة واحدة على أحد من جيراننا؟نعم رميت علينا الإطلاقات،إلاّ أننا خلال هذه المدّة لم نفعل شيئا غير أن دافعنا عن أنفسنا.

و مع أنّ إيران بلد كبير و الشعب الإيراني شعب قوي،و هذا ما يعرفه الجميع، و قد أدركوا أنّه لا يمكن لأي من الدول المجاورة حتى و إن ساندها الآخرون لا يمكنها قهر هذا الشعب العظيم و هذا البلد الواسع المقتدر،و كل من يقدم و يتحرش يلقاها في نحره،و مع كل هذا فإن الشعب و الحكومة و القوات المسلحة في

ص: 156

الجمهورية الإسلامية لم و لن تكون لديها أية نوايا توسعيّة و عدوانية؛فالنوايا التوسعية لا تتسق مع رؤانا و منطلقاتنا،و سياستنا الإسلامية لا تتماشى على الإطلاق مع النوايا التوسعية و العدوانية و ما شاكلها من أساليب الطغاة.بيد أننا نعير إهتماما كبيرا لأمننا و أمن المنطقة.

ليلتفت الجميع إلى أن منطقة الخليج منطقة حساسة.و الأعداء الذين يأتون إليها تحت ذريعة الصداقة لهذه البلدان هم الذين يثيرون التوتر في هذه المنطقة،و هذا ما ينبغي أن يعيه الجميع.فإذا تزعزع الأمن في هذه المنطقة لا سمح اللّه فإنّ الضرر الأكبر سيكون من نصيب من كانوا سببا في زعزعة إستقرارها و مهدوا لأجواء التوتر فيها،و ستلحق الخسائر الأعظم بالبلدان التي وضعت ثرواتها و أراضيها تحت تصرف المعتدين الأجانب.

إننا نأمل-بالطبع-أن لا يقع هذا،و سوف لن يقع بإذن اللّه،و لكن إذا حصل لا سمح اللّه و ارتكب أحد الأجانب الذين نزلوا في الخليج الفارسي حماقة ما و سلب بفعل غير مدروس الإستقرار من هذه المنطقة،فستكون البلدان التي مهدت مثل هذا الحضور اللامشروع أوّل محترق بتلك النار.

أوفياء الثورة:الشهداء المضحّون

لا بدّ أن يمرّ ذكر اولئك الأوفياء المضحّين باعتباره إحدى النقاط الأساس في تعاليم الثورة.و المقصود بأوفياء الثورة؛هم اولئك الذين قدّموا أرواحهم،أو أرواح أعزائهم،أو سلامتهم لترصين اسس الثورة،و قطع أيدي الأعداء عن هذه البلاد و النظام الإسلامي.إنهم الشهداء الأبطال المضحّون و الأسرى و المفقودون و عوائلهم الكريمة،و مجاهد و القوات المسلّحة و عناصر التعبئة الفدائية،التي بذلت عمرها في الجبهات و كذلك عناصر جهاد البناء التي بذلت طاقاتها في جبهتي

ص: 157

الحرب و الإعمار،و كلّهم واجهوا المصاعب و البلايا العظيمة فى هذا الامتحان الإلهي.

نعم كلّ أولئك يجب أن يقعوا موقع الإكرام و التبجيل و الاحترام الدائم من قبل الشعب.

الشهداء هدية الأنبياء

يوم الشهداء فرصة ثمينة ينبغي اغتنامها للتعبير عن مشاعر الشكر للأرواح الطاهرة التي تحررت من أبدانها و من جميع ألوان الانشداد إلى المغريات المادية في سبيل أن توفر لبني الإنسان الحرية و أسباب النجاة،و لتلك النفوس النبيلة التي سقطت على الارض مضرّجة بدمائها لينقى وجه الأرض من الظلم و العدوان و الهمجية.سلام منّا عليهم و على جميع شهداء طريق اللّه الذين أضاءوا سبيل الحياة الإنسانية و غدوا مشعلا للهداية الإلهية.

هؤلاء هم هدية الأنبياء لأهل الأرض و منهم اقتبسوا نورهم.

و سلام على الاسر التي كانت مهدا لتربية هؤلاء الأعزّة،و على الامهات و الآباء الذين تربّت في حجورهم الطاهرة مثل هذه الجواهر الزاهرة الثمينة،و قدموهم و هم في ريعان الشباب إلى مذبح الشهادة،و صبروا على هذه التضحية الفريدة، و أزكى التحيات و السلام على إمامنا الراحل الذي علّمنا كل هذا.

الجود و العزّة من تضحيات الشهداء

لقد استمدت الثورة الإسلامية و نظام الجمهورية الإسلامية المقدس الجود و العزّة و الصلابة من تلك التضحيات.و هذا في ميزان العدل الإلهي شيء عظيم و حقيقة مشهودة،جزاؤها الثواب الإلهي الذي هو خير من الدنيا و ما فيها.و من

ص: 158

البديهي أن أفراد المجتمع و خاصّة المدراء و المسؤولين مكلفون بواجبات أزاء هذه النفوس الكريمة،أهمّها تخليد إسمهم و ذكرهم و نهجهم.

و اعلموا أنّ سبيل اللّه لا يستغني بتاتا عن التضحيات الكبرى التي يجود بها كرام الناس.

التضحية في سبيل الله

قال الإمام الخميني قدس سره:«أحب أن أبيّن لأبطالنا أن ليس باستطاعتي أنا أو أي إنسان آخر أن يقدركم حق قدركم،عندما ضحيتم في سبيل الله بأعز ما تملكونه و هو روحكم.و هنا أقصد أولئك الذين استشهدوا و إن شاء الله حضوا بلقاء ربهم،و أنتم يا من تستعدون للشهادة في سبيله.

أنتم-جند الإسلام-عندما تضحون بأغلى ما تملكون و هي حياتكم تضحية خالصة لدعم و ضمان بقاء الجمهورية الإسلامية،يعجز أي إنسان عادي من غير أولياء الله الصالحين من تقدير أعمالكم.

المهم لأجل ماذا أنتم تضحون بأنفسكم،و ليس المهم التضحية وحدها،فهناك آخرين يضحون أيضا بأنفسهم لمقاصد انحرافية غير صحيحة.

أعزائي..احفظوا نعمة الله،عندما يوليكم رعايته الإلهية و الغيبية و عندما يجعل منكم عبادا أوفياء له و تضحون بأرواحكم و كل ما تستطيعونه في سبيله..: إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (1).

إنّ تضحياتكم و ذهابكم إلى ميادين القتال للدفاع عن الإسلام و الرسالة الإسلامية و لمجابهة و إحباط دسائس القوى الطامعة ببلدنا،تضحياتكم هذه قديرة

ص: 159


1- سورة التوبة:111.

و قديرة جدا.لكن المهم هنا درجة إخلاصكم و تضحيتكم في سبيل الله،فلكم فيه أعلى مراتب الجزاء عند الله..الله تبارك و تعالى هو الذي يقيّم تضحياتكم و إخلاصكم و ليست الموازين التي نعرفها نحن..

إنه لمن دواعي فخرنا اليوم أن نواجهكم أنتم الشباب الأعزة في هذا المكان و هذا الزمان.

أنتم مضحون و مخلصون و منتصرون على أنفسكم و نحن المتخلفون عن القافلة..إيمانكم و إخلاصكم هما اللذان نصراكم على العدو،كنتم تملكون أسلحة خفيفة كبندقية أو رشاش،و كان العدو يملك الكثير من الأسلحة و أكثرها تطورا..

و لم تكونوا تحتملوا أن يكون النصر حليفكم بسلاحكم فقط.و لكن الله نصركم بإخلاصكم..أنتم تذهبون إلى ميادين القتال في سبيل الله بينما يردها العدو في سبيل الشيطان..فأنتم حزب الله و عدوكم من حزب الشيطان.و انتصاركم على شياطين أنفسكم و إيمانكم و إخلاصكم هو الذي نصركم في جبهات القتال» (1).3.

ص: 160


1- الثورة مظهر لتحرك الدين بوجه الطاغوت:267-273.

مفاخر الثورة الإسلامية

العمل و التضحية و الجهاد

قال السيد الخامنئي:قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (1)إنّ الشعوب التي تعمل و تفكّر و تبدع و تتحمل الصعاب تنال نصيبها من الإمكانيات المادية و الرفاه و التقدّم،كما هو الحال في المجال المعنوي.و الأمم التي تبذل و تضحّي و تجاهد و لا تتهيب العمل و الفداء يهبها اللّه كل ما تطمح إليه.

إنّ خزائن الغيب الإلهي لا يمنح منها شيء لأي شخص أو شعب أو جماعة إلاّ بالجد و الإجتهاد.و الشعوب المتقاعسة و الكسولة لا نصيب لها في الأمجاد الوطنية،و المجتمعات المتوانية و الإتكالية لا تحصل على أي قدر من الإمتيازات و المآثر الكبرى.و الأشخاص الذين لا تحدوهم رغبة نحو الكد و الكدح لا ينالون حظهم من الآفاق المعنوية و لا من الفضائل و الإيمان و التقوى.

أكبر الآثام التي ارتكبها السلاطين و الحكّام الفاسدون في المجتمعات الإسلامية،و في ما مضى من تاريخ بلدنا هو أنهم أبعدوا الشعوب عن هذه الحقيقة، و لم يدفعوا بها نحو العمل و الكد و التضحية و الفداء.

ص: 161


1- سورة النجم:39.

بيد أنّ أكبر مفخرة حققتها الثورة الإسلامية هي أنها أيقظت الشعب على هذه الحقيقة و فتحت أمامه هذا السبيل.و أكبر منقبة كانت لإمامنا الراحل-هذا القائد الإستثنائي الفذ في عصرنا الحاضر-هو أنه كان سبّاقا في السير على هذا الطريق بنفسه؛فهو لم يجلس ليأمر الآخرين بالحركة،بل سار هو في طليعة الشعب و كان في المقدمة.

تضحية الأسرى

قضية المحررين قضية كبرى.لا تغركم الأفلام الدعائية التي ينتجها الغربيون و غيرهم في مجال الشؤون العسكرية و ما يتعلق بقضايا فترة الأسر.فما من شعب استطاع أن يصنع من عامة طبقات الشعب مجموعة من الشبّان المقاتلين الذين حافظوا في أقسى ظروف الأسر على شخصيتهم الثورية و الإيمانية و ما يتصفون به من روح قتالية مثلما فعل أحرارنا في فترة الأسر.في حين أنّ ما يعرفه الشعب الإيراني عن الأحداث التي عاشها هؤلاء الأعزّة في مرحلة أسرهم لا يكاد يمثّل إلاّ جزءا صغيرا من مجموعة هائلة من الأحداث.

و هل من الممكن تبيان هذه الحادثة؟و هل تستوعب الكلمات وصف الآلام المريرة التي تمر في كل لحظة من لحظات الأسر؟أو هل لغة الفن و الأدب قادرة على الإفصاح عن ذلك؟إذ أنّ السماع ليس كالرؤيا و المعايشة.و هم قد صمدوا و ثبتوا.

و لعل بعض أحرارنا الأعزاء حينما كانوا يجابهون جنود العدو الغلاظ الشداد في المعسكرات،كانوا يائسين من الإفراج عنهم،و ربما كان بعضهم قد سئم و أخذ يقول:إلى متى؟إلاّ أنّ السنّة الإلهية هي في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (1).

و لعل بعض أحرارنا الأعزاء حينما كانوا يجابهون جنود العدو الغلاظ الشداد في المعسكرات،كانوا يائسين من الإفراج عنهم،و ربما كان بعضهم قد سئم و أخذ يقول:إلى متى؟إلاّ أنّ السنّة الإلهية هي في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (1).

إذا تحملتم الصعاب،يفتح لكم اللّه أبواب الفرج.و إذا وطّنتم أنفسكم للمجاهدة في سبيل اللّه فإنّه تعالى سيريكم أنوار الفرج و يمهّد لكم سبل الخلاص كما وعدنا ذلك بقوله عزّ من قائل: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (2).

فهو سبحانه و تعالى يفتح أبواب الفرج و يمهد السبل بفضل المجاهدة و بشرط الصبر و رباطة الجأش،خارج دائرة الحسابات العادية للعقول البشرية.

تجربة ساحة الحرب

تجربة ساحة الحرب التي تنطوي المرابطة فيها على الشهادة و الإعاقة و فقدان السلامة و البعد عن الديار و عن الراحة و عن الأبناء و الأحبّة.

ساحة الحرب تكتنفها آلاف المصاعب التي لا يلمسها إلاّ من يعيش تلك الظروف.و تحمّل هذه المصاعب يعد عملا عظيما.الصمود في ميادين الحرب ضد العدو،و في ظروف الأسر،و في فترة الإعاقة-حيث لازال المعوقون ماثلين في ميدان الصبر و الصمود-يعدّ عملا مجيدا.

و ليعلم المعوّقون الأعزاء أنّ جهادهم متواصل،و أنهم في حالة مجاهدة على امتداد فترة الإعاقة،و هذه الفضيلة تختص بهم و بذويهم و بزوجاتهم و أسرهم ريثما يستعيدون بإذن اللّه عافيتهم و سلامتهم.

هذه التضحيات و المآثر هي التي أوصلت بلدنا إلى هذه المرحلة.هل كان أحد

ص: 162


1- سورة الشرح:5-6.
2- سورة الطلاق:3.

يتصور أن يهب أبناء هذا الشعب صغارا و كبارا و بدون أية مساعدة عالمية أو مساندة من قوة دولية،و يتسنّى لهم الثبات في ميدان الجهاد المقدس و الدفاع عن الذات و عن البناء و الإستقلال و مجابهة شتّى ألوان الضغوط من قبل الأعداء،و إثارة دهشتهم يوما بعد آخر؟

و هل كان بإمكاننا بلوغ هذه المرحلة لو لا هذا التفاني و الإيثار و التضحيات؟فكل واحد منكم أنتم؛سواء المحررين الأعزاء،أم الذين لا زالوا في الأسر،أم عوائلكم و أبناؤكم و آباؤكم و أمهاتكم و زوجاتكم،أم عوائل الشهداء و المعوقين،أم أبناء الشهداء،و كل الذين ذاقوا الآلام بنحو أو آخر جسميا و نفسيا،و قدّموا التضحيات و قاموا بدور الإسناد،قد شارك في صنع هذا الكنز العظيم الذي لا مثيل له و لا ينضب معينه.

و لو لا أنّ كل واحد منكم قد ضحى بما ضحّى و صبر،بما صبر لما تحققت هذه المآثر التي تفتخر بها(الشعوب)،و لما أحرز هذا النجاح.

و هذا درس مستخلص من القرآن.

معالجة المشاكل عبر العمل و التضحية

هكذا يمكن معالجة المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم،و بهذا النحو لا غير تعالج مشكلة الشعب الفلسطيني.و الذين يتصورون إمكانية استنقاذ شعب كالشعب الفلسطيني عبر المحادثات و بلسان الرجاء و التكدّي إنما هم في وهم كبير؛بالمقاومة و الصمود فقط يمكن لأي شعب الوقوف على قدميه و نيل حقوقه، و تحقيق حياته الكريمة في الدنيا و في الآخرة.

عالم اليوم مليء بالظلم و الكذب و الخداع،و غدا لواء الدفاع عن حقوق الإنسان بيد أعدى أعداء حقوق الإنسان!و على رأسهم الحكومة الأمريكية!انظروا ماذا

ص: 163

يفعلون بالسود في بلدهم!و ليس كلامنا عن حدث وقع في الماضي،ليس خبرا عمّا وقع قبل خمسين أو مائة سنة حتى يزعموا أنهم قد أصلحوه،بل القضية متعلّقة بيومنا هذا و في كبريات مدن أمريكا.

لاحظوا أن قضية التمييز العنصري لم تحل بعد في هذا البلد الذي يدّعي الحرية و الدفاع عن حقوق الإنسان.و لازال الإنسان لا يأمن العيش في ذلك المجتمع (لجريمة)لونه الأسود!و إذا استلزم الأمر في وقت ما فإنّه يتعرض للضرب على يد أحد أفراد الشرطة إلى حد الموت(بجريمة)بشرته السوداء!هؤلاء ينادون بحقوق الإنسان!إنّهم يغمضون أبصارهم عن الجرائم المروّعة التي يرتكبها الكيان الصهيوني الغاصب،انظروا إلى ما فعله الصهاينة في الأيام القليلة الماضية بالناس الأبرياء في المدن اللبنانية؛صيدا و غيرها.

فعمليات القصف و المذابح و اختطاف الناس كلها جرائم،و هي-في مصطلحهم- ضد حقوق الإنسان،إلاّ أنه لا يشعرون بانتهاك حقوق الإنسان هناك.لو أن مظلوما فلسطينيا مضحّيا صرخ أو عبّر عن غضبه بفعل ما،تنبري حينذاك أجهزتهم الدعائية و السياسية،إلاّ أن كل هذه الجرائم التي ترتكب ضد شعب فلسطين و شعب لبنان يغضى عنها!أجل،لواء حقوق الإنسان يرفعه اليوم أمثال هؤلاء!

أ ليس هذا عالم الخداع؟أليس هذا عالم الكذب؟اليس هذا عالم الزيف؟كانوا يقولون في ما مضى:إنّ السياسة خداع؛و لكن حتى مناداتهم بحقوق الإنسان خداع،و سياستهم الدولية مبنيّة أساسا على الخداع،و خداعهم لا يقتصر على الجانب السياسي وحده.

أمثال هذه الحكومات تدّعي وجوب تسليم زمام قيادة الإنسانية بيدها و على الدول أن ترضخ لهم!و مما يؤسف له أن الكثير من الحكومات يلفّها الضعف و اللامبالاة،و عدم إدراك واجباتها و عدم العمل بها؛و هذا ما يقودها إلى الإنصياع

ص: 164

لهم.

أما الشعوب فتقف موقف المتفرّج بسبب ما ينطوي عليه من مصاعب،و من الطبيعي أن تكون النتيجة على هذه الصورة.

الشعب الإيراني صمد،و هو قادر على الصمود.و النظام الإسلامي المقدّس و حكومة الجمهورية الإسلامية قد وقفت بوجه هذه الغطرسة و هذا التعنّت.و هي لا تكتم موقفها هذا بل تصرح به بصوت عال،و تدافع عن حقوق المظلومين من غير أن تخشى التهديدات و المصاعب.

ص: 165

سبب إستمرار نجاح الثورة

و لكن لماذا؟و كيف؟و ما الذي جعل الشعب و الحكومة الإيرانية تتمتّع بمثل هذا الإقتدار؟يعود سبب ذلك إلى أن شعبنا قد بذل هذه التضحيات،فأصبح لديه استعداد لمجابهة هذه الغطرسة و هذه الضغوط.و صمودكم هذا هو الذي سيرغم العدو المعتدي المتغطرس الكاذب المستكبر على الرضوخ و التنازل عن غروره.

إنّني أدعوكم و ادعو جميع الشبان أن تكونوا على ثقة بوعد اللّه.و هو تعالى قد وعد أهل الحق إن هم تمسكوا بحقهم،فالنصر سيكون حليف الحق.و هذا يصدق على جميع المراحل؛فقد جربتموه في أيام الثورة،و جربتموه في مرحلة الحرب، و في فترة الأسر،و بعد انتهاء الحرب حين عزم الشعب الإيراني على إعادة بناء بلده من جديد،و عليكم أن توقنوا به في المستقبل أيضا؛فإنّه أمر عملي و قد جرّبتموه.

قفوا بوجه العدو حيثما وجدتموه ينتهج منطق القوّة.هذه المهمة تقع على عاتق أبناء الشعب و على رجال الحكومة و نوّاب الشعب و كل من فوضت إليه مسؤولية في هذا البلد.و لا تتنازلوا أمام العدو المعتدي و أمام استهتار الظالم و أمام الإستكبار الذي أخذ يتجبّر اليوم على القيم الإلهية و الفضائل المعنوية،و الذي يتجسد اليوم بالحكومة الأمريكية الطاغية.القوى المادية عاجزة عن الإتيان بأي فعل أهوج،و لا يمكنها فعل شيء مع شعب صامد و معتمد على طاقاته الذاتية؛إذ أن كل الطرق موصدة بوجهها.

إذا استخدموا اسلوب التشدد ينعكس الضرر عليهم،و إذا مارسوا الضغوط ينعكس الضرر عليهم،و إذا هجموا ينعكس الضرر عليهم أيضا؛لأن جوهر

ص: 166

الصمود و المقاومة جوهر نفيس في وجود كل شعب.

و سوف يتمكن الشعب الإيراني بفضل هذا الجوهر ذاته و بعون اللّه و هديه، و بالمساعدة الغيبية المعنوية،و الأدعية المباركة و التوجيه المعنوي من ولي اللّه الأعظم(أرواحنا فداه)أن يعيد للحضارة الإسلامية شموخها في العالم من جديد، و يبني صرحها الرفيع.هذا هو مستقبلكم الحتمي.و الشبان مدعوون لإعداد أنفسهم لمثل هذا العمل الخطير،و على القوى المؤمنة أن تضع هذا الهدف نصب أعينها.

ص: 167

هدف الثوار إعلاء كلمة اللّه

كان في تاريخ هذه الثورة الباهرة أناس يحملون كل معاني الحماس و الإيثار و الإخلاص و لا يستهدفون من وراء خدماتهم أيّ منال شخصي،سواء من كان منهم على رأس الحكومة،أم كان في سائر القطاعات الاخرى..و هذا ما يعد بالنسبة لنا درسا و مسارا تقتفيه اليوم بحمد اللّه حكومة الجمهورية الإسلامية و مسؤولوها.

إنّ ما يسهّل علينا مشقة الأعمال أن غايتنا هي إعلاء كلمة اللّه.فالهدف الذي يبتغيه كل واحد من(المسؤولين)حيثما كنتم هو العمل في سبيل إعلاء كلمة اللّه.

و نحن إذا تمكنّا من السير بالبلد و النظام و جماهير الشعب إلى ساحل السعادة في ظل الأحكام و القيم الإلهية،و الإقتراب بهم معنويا و فكريا و روحيا و أخلاقيا،أو ماديا و معاشيا نحو الوضع المنشود،فهذا عمل هدفه إعلاء كلمة اللّه.و هذه هي الغاية المنشودة من وراء بعثة الأنبياء و جهادهم على مرّ التاريخ.

و اليوم جاء دورنا،و ها هي ساحة الجهاد مفتوحة أمامنا؛يجب علينا جميعا أن نكد و نكدح و نتحمل الشدائد و نواجه المصاعب لنتمكن من أن نقدّم لشعوب العالم مثالا صحيحا عن حياة شعب و إرادة بلد.هدفنا هو إيصال شعبنا إلى السعادة التي أرادها له الإسلام،و كذلك من أجل أن نضع هذه التجربة أمام أنظار البشرية في العالم كلّه،و التي تعد-من حسن الحظ-تجربة جذّابة.

و على الرغم من الدعايات المعادية-و هي تنحدر كالسيل منذ أول الثورة و حتّى يومنا هذا-على نظامنا الإسلامي و على الأساليب الإسلامية في الإدارة،و على

ص: 168

الأهداف و المثل الإسلامية،إلاّ أنّ هذا النمط الإسلامي و هذا النظام الإسلامي المتجسّد في شعبنا المسلم بقي محافظا على مثاله الجذّاب في أعين العالم.

أما المطّلع على مجريات الأمور ممن يتحسس قبح النظام الجاهلي و لا يتأثر بسوء دعاياته،فلا زال ينظر إلى هذا النظام باعتباره النموذج المنشود.و لهذا يكون لزاما علينا بذل غاية جهدنا لتسليط الأضواء عليه و بيان حقيقته.

ص: 169

إنجاز الثورة الإقتصادي

لقد أنجزت على الصعيد الداخلي-و الحمد للّه-أعمال لا يستهان بها،من جملتها النظم الإقتصادي.

و موضوع النظم الإقتصادي يجب تحويله من قرارات مكتوبة إلى عملية تحديد و توضيح لطرقه العملية،عن اعتقاد راسخ بوجوب مثل هذه الأعمال.و من المحتمل طبعا أن يكون ثمّة أشخاص سواء من ذوي الرأي أو غيرهم لديهم آراء إقتصادية أخرى.و لا اعتراض لدينا على وجود الآراء المخالفة،و لكن ينبغي للجميع أن تتظافر جهودهم لإنجاز هذه المهمّة.

و لابدّ أن يكون مثل هذا القرار قرارا حقيقيا طويل الأمد.

و لا بدّ أن تحقّق الكلمات التي أعلنت في هذه المجموعة كسياسة عمل،و أن تتّخذ الخطوات لمتابعة ما طرح بصفته مشروعا حيويا و فاعلا،من أجل وضعه حيّز التنفيذ بإذن اللّه.

و لا شكّ في أن شعبنا خليق حقا في أن يبذل له المسؤولون كل وقتهم و يكرّسون كل جهودهم لهذا المشروع.

أما بالنسبة لشؤون البلد و ما يتعلّق منها بالقضايا الإقتصادية و الاهتمام بتشغيل الشباب و توجيههم فكريا و روحيا و ثقافيا،فهي مسائل ذات أهمية بالغة.

و الشريحة الأساسية التي نوجّه إليها خطابنا اليوم هي شريحة الشباب الذين يشكّلون طاقة بشرية كبرى في هذا البلد.و هذه فرصة يمكن استثمارها باعتبارها نقطة قوّة.

ص: 170

بينما يسعى العدو في الإتجاه المعاكس،يسعى إلى إحالة نقطة القوّة هذه إلى نقطة ضعف،و جرّ الشباب إلى مستنقع الرذيلة و إفسادهم سياسيا و اجتماعيا و سلوكيا بواسطة دعاياته الخبيثة.

من المؤسف أن البعض في الداخل يتصرّف بما يتواءم و هذا الإتّجاه،بل و يقوم بذات العمل الذي يسعى العدو إلى تحقيقه كإضعاف إيمان الشبّان و تقويض صلاتهم بالنظام و المسؤولين،و تثبيطهم و دفعهم إلى النظر للمستقبل نظرة متشائمة،و سلب ثقتهم من الأجواء التي يعيشون فيها.و من الطبيعي أننا لا نتوقع من العدو إلاّ الأعمال العدائية.

أمّا بالنسبة لطاقاتنا الذاتية فيجب أن تتركز مساعينا على إفشال مخططات الأعداء.

إنجاز الثورة على الصعيد السياسة الخارجية

و في مجال السياسة الخارجية فإنني أؤيد النهج الذي اختطته الحكومة اليوم بما يعنيه من الإتصال بأكثر الدول و تطبيع العلاقات مع جميع البلدان التي يمكننا إقامة علاقات معها.

و الأسلوب الصحيح في السياسة الخارجية هو تركيز جهودكم لتعلموا العالم كلّه أن الحكومة الإيرانية و الشعب الإيراني المسلم يطمح في السير نحو سعادته بإرادته و بفكره و بطاقته،و هذا هو ما نسعى إليه باعتبارنا شعبا مستقلا.

كما و أن من حق شعبنا أن يفكّر في طي طريق سعادته و تكامله بذهنه و رؤيته و بصيرته و دينه و قيمه.و هذا ما لا تستسيغه القوى الطامعة في فرض ثقافتها و رؤاها على الآخرين،بيد أنّ هذا النهج ترتضيه الشعوب المنصفة و الخيّرة.

لابدّ من التأكيد في علاقاتنا الدبلوماسية على هذا الإستقلال و على هذه العزّة،

ص: 171

و هذا النهج صحيح طبعا و هو قيد التنفيذ.فعلاقاتنا مع مختلف شعوب و دول العالم قائمة على التعاون و التفاهم.

و بالطبع هي ليست كذلك مع من ينتهج الغطرسة و التجبّر و يبتغي حل جميع القضايا بأسلوب القوّة،كأمريكا،فهذه لا تنسجم سياستها مع سياستنا.

وقوف الثورة ضد الإعتداء الأمريكي في العالم

الأحداث الأخيرة التي وقعت في السودان و أفغانستان مرفوضة كليا من قبل كل الأحرار في العالم.فلا يمكن القبول على الإطلاق بمهاجمة دولة لدولة أخرى و لشعب آخر،يستند المهاجم إلى ما لديه من قدرة،و ذريعته الوحيدة هي قدرته على التطاول و الصولة على الآخرين.

إنّ هذا المنطق مرفوض لدى كل شعوب العالم الحرّة.و قد كانت لدينا-نحن في الجمهورية الإسلامية-الشجاعة الكافية لنكون من المبادرين لإدانة هذا الفعل.و مع أنّ بعض الدول الاخرى تستهجن هذا الأسلوب،إلاّ أنها لم تكن على استعداد لإدانته و رفضه بصراحة.أما نحن فلا و لن نخضع لمثل هذا النمط من استعراض العضلات.

هناك مؤاخذتان كبيرتان على ما وقع مؤخرا في أفغانستان و في السودان، و هما:

أولا:يعتبر هذا العمل فعلا جنائيا.أنا لا أعرف أسامة بن لادن،و لا أقرّ قتل السكان المدنيين في كينيا و تنزانيا،و لا نرضى بوقوع مثل هذه الأعمال.إلاّ أننا ندين العمل الذي ارتكبوه في أفغانستان بنفس القدر الذي ندين فيه قتل الناس المدنيين الذين لا صلة لهم بأي عمل عسكري.

ص: 172

قد هاجموا في أفغانستان عددا من الناس الأبرياء و أطلقوا عليهم عشرات الصواريخ تحت ذريعة الهجوم على قوى معادية!

و في السودان دمّروا مصنعا و قتلوا أناسا لا يعرف عددهم،متذرعين بأنّهم علموا أو خمّنوا أن لأعدائهم يدا هناك!و هذا منطق مغلوط و جريمة مدانة بغض النظر عن هوية فاعلها.

و الحكومة الأمريكية مدانة على عملها هذا،و هي دولة إرهابية،و عملها هذا إرهاب دولي،و هو أكبر و أشنع من الأعمال الإرهابية التي يقترفها أفراد غير مسؤولين.

المؤاخذة الثانية تقتصر على الفعل الأمريكي و لا تسري إلى عمل خصومهم، و هي أنّ هذا التصرف الأمريكي إعتداء صارخ على بلد و انتهاك لكرامة شعب.

و من البديهي أن إحدى فوائد الحدود الموجودة بين الدول-و هي طبعا ذات فوائد،و في الوقت نفسه ذات أضرار-هي أنها تشكّل حزاما أمنيا تعيش فيه الشعوب.فبأي مجوّز تخترق دولة أجنبية هذا الحزام و تهاجم تلك الدولة بدون إعلان الحرب عليها،و ترتكب هذا العمل الشنيع كما يحلو لها بكل تكبر و غرور!! و على هذا الأساس فإنّ هذا العمل مرفوض و مدان.و نحن نستهجن هذا النهج التسلطي المتغطرس و ندينه.

إنّ السبب الذي جعل الجمهورية الإسلامية تقف منذ أول ثورتها و حتى الوقت الراهن في مواجهة ما تسمّيه بالإستكبار،هو أنها تعتبر هذه الأساليب العنجهية المتجبّرة التي تمارسها القوى الظالمة مرفوضة و مدانة.و بنفس القدر الذي يدان فيه الطالبان في هجومهم على الأبرياء في مزار شريف،يدان هجوم أمريكا على السودان و أفغانستان و قتلها للمدنيين.

كان أعداء الإسلام يعرفون موقفنا هذا.و حتى خصوم القوى الظالمة أدركوا

ص: 173

و يدركون أننا نسير على النهج و الهدف الذي رسمه لنا الإسلام،و هو نهج لا ظلم فيه و لا عدوان على حقوق الناس،و لا يتغاضى عن عدوان الظالمين على المظلومين، و هو نهج جعل في حسبانه قضية حقوق الإنسان إلى أبعد ما يمكن.هذا هو نهجنا، و هذه هي أهدافنا.

و قد تمكّنّا حتى الآن بحمد اللّه من مواصلة السير صوب هذه الأهداف. (1)4.

ص: 174


1- الثورة مظهر لتحرك الدين بوجه الطاغوت:275-284.

ص: 175

الفهرس

إمتداد ثورة الإمام الحسين عليه السلام

أثر استشهاد الحسين عليه السلام 3

صدى الثورة المباركة 5

ثورة عبد الله بن عفيف 5

ثورة المدينة 6

ثورة المختار 8

فزع السفكة المجرمين 9

الإبادة الشاملة 10

استمرار الثورة 12

ثورة أهل الحرمين 13

رسل يزيد مع ابن الزبير 15

وفد أهل المدينة عند يزيد 17

ثورة الصحابة و التابعين 19

ثورة أهل المدينة و بيعتهم لعبد اللّه بن حنظلة 19

السجاد عليه السلام يؤوي حريم بني أمية 21

إستغاثة بنى أمية بيزيد 22

ص: 176

أوامر الخليفة لقائد جيشه 23

ما أنشده خليفة المسلمين 24

مسير جيش الخلافة إلى الحرمين 25

جيش الخلافة يستبيح حرم الرسول صلّى اللّه عليه و اله 28

أخذ البيعة من المدينة على أنهم عبيد للخليفة 30

إرسال الرؤوس إلى الخليفة يزيد 32

مسير جيش الخلافة إلى مكة و مناجاة أميره 34

جيش الخلافة يحرق الكعبة في حرب ابن الزبير 36

الحجاج يرمي الكعبة ثانية 39

إحتراق الكعبة و نزول الصواعق 42

نشيد الحجاج عندما رأى البيت يحترق 44

نهاية أمر ابن الزبير و ارسال الرؤوس إلى عبد الملك بن مروان 45

الحجاج يختم أعناق أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و اله 46

انتهاء ثورة الحرمين و قيام ثورات أخرى 46

الثائرون أضعفوا الخلافة و الأئمة عليه السلام أعادوا أحكام الإسلام 47

أثر تولي الظلمة 48

كيف وعى المسلمون؟50

ثورة أهل البيت عليهم السلام 51

جاهد الأئمة بعد استشهاد الحسين عليهم السلام 54

ثورة الفقهاء في حمل أعباء التبليغ 55

ثورة زينب بنت علي عليها السلام 57

زينب الحزينة 57

ص: 177

زينب الصابرة 57

زينب العابدة الزاهدة 59

ثورة و جهاد زينب 61

شجاعة زينب في كربلاء 63

الثورة في خطبة زينب عليها السلام 65

زينب تبلّغ رسالة الحسين عليهما السلام 72

أهمية تبليغ زينب و السجاد رسالة الحسين عليهم السلام 75

وعي زينب الرسالي 77

قيادة زينب 79

علم زينب 81

فضائل زينب عليها السلام 83

ثورة التوابين تطالب بدم الحسين عليه السلام 91

قرارات المؤتمر 91

1-في كربلاء 93

2-في عين الوردة 93

ثورة التوابين برواية الطبري و ابن هشام و أبو مخنف 95

ثورة إيران 125

أثر عاشوراء في ثورة إيران 125

أوجه الشبه بين ثورة الإمام الخميني و النهضة الحسينيّة 129

الإستقامة في الثورتين 129

الأعذار الشرعية في الثورة و تقييمها 130

تقييم الإمام الحسين عليه السلام للأغذار 132

ص: 178

نموذج من استقامة الإمام الخميني 134

الضغوط الكبرى التي واجهت ثورة الإمام الخميني 136

صلابة الإمام الخميني 138

تأثر الشعوب برسالة الإمام الخميني 140

إستقامة الإمام الخميني قدوة 141

الإستقامة طريق النجاة لكل الشعوب 142

خط الإمام الخميني و نهجه 143

أثر ثورة الإمام الخميني 144

ثورة الإمام تحيي إرادة المسلمين 145

الإعتماد على الذات 147

أثر إحياء ذكرى الإمام الخميني و نهجه 150

معجزة الثورة الإسلامية 152

الإنجذاب إلى الثورة 153

الثورة لا تشكل خطرا على البلدان المجاورة 156

أوفياء الثورة:الشهداء المضحّون 157

الشهداء هدية الأنبياء 158

الجود و العزّة من تضحيات الشهداء 158

التضحية في سبيل الله 159

مفاخر الثورة الإسلامية 161

العمل و التضحية و الجهاد 161

تضحية الأسرى 162

تجربة ساحة الحرب 163

ص: 179

معالجة المشاكل عبر العمل و التضحية 164

سبب إستمرار نجاح الثورة 167

هدف الثوار إعلاء كلمة اللّه 169

إنجاز الثورة الإقتصادي 171

إنجاز الثورة على الصعيد السياسة الخارجية 172

وقوف الثورة ضد الإعتداء الأمريكي في العالم 173

الفهرس 177

ص: 180

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.