الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام المجلد 15

اشارة

الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام

نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي

مکان نشر: لبنان - بيروت

سال نشر: 2009م , 1430ق

چاپ:1

موضوع:اسلام، تاریخ

زبان :عربی

تعداد جلد: 20

کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

الجزء الخامس عشر

ما حصل بعد عاشوراء و حال السبايا

ما جرى عند قتل الحسين عليه السلام

تغير الكواكب و السماء و الأرض

عن عيسى بن الحارث الكندي قال:لما قتل الحسين مكثنا سبعة أيام إذا صلينا العصر فنظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنها الملاحف المصفّرة،و نظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضا (1).

و عن خلف بن خليفة،عن أبيه قال:لما قتل الحسين اسودّت السماء و ظهرت الكواكب نهارا حتى رأيت الجوزاء عند العصر و سقط التراب الأحمر.

و عن علي بن مسهر،حدثتني جدتي قالت:كنت أيام الحسين جارية شابة، فكانت السماء أياما علقة.و في رواية:فمكثت السماء سبعة أيام بلياليها كأنها علقة.

و عن خلاّد صاحب السمسم-و كان ينزل بني جحدر-قال:حدثتني أمي قالت:

كنا زمانا بعد مقتل الحسين و ان الشمس تطلع محمرة على الحيطان و الجدر بالغداة و العشي،قالت:و كانوا لا يرفعون حجرا إلاّ وجد تحته دم (2).

و عن الأسود بن قيس قال:احمرّت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستة أشهر

ص: 3


1- المعجم الكبير للطبراني ح(2839)و نقله الذهبي في السير:312/3.
2- الاخبار مستفيضة في ذلك راجع ذخائر العقبى:145 و تاريخ السيوطي:207،و الرياض المستطابة:303،بغية الطلب:2636/6،و المواهب اللدنية:101/3 بلفظ:امطرت السماء دما، و التذكرة الحمدونية:245/9 ح 479.

يرى ذلك في آفاق السماء كأنها الدم (1).

و عن نصرة الأزدية قالت:لما أن قتل الحسين بن علي مطرت السماء دما، فأصبحت و كلّ شيء لنا ملآن دماء (2).

و عن ابن لهيعة،عن أبي قبيل قال:لما قتل الحسين بن علي كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننّا أنها هي (3).

و عن هشام،عن محمد قال:تعلم هذه الحمرة في الأفق مم هو؟فقال:من يوم قتل الحسين بن علي (4).

عن محمد بن سيرين،قال:لم تكن ترى الحمرة في السماء حتى قتل الحسين بن علي (5).

و عن جعفر بن سليمان قال:حدثتني خالتي أم سالم قالت:لما قتل الحسين بن علي مطرنا مطرا كالدم على البيوت و الجدر.

و عن عبد اللّه بن إدريس،عن أبيه إدريس بن عبد اللّه الأودي قال:لمّا قتل الحسين عليه السّلام أراد القوم أن يوطئوه الخيل،فقالت فضّة لزينب:يا سيّدتي إنّ سفينة (6)كسر به في البحر فخرج إلى جزيرة فإذا هو بأسد،فقال:يا أبا الحارث أنا

ص: 4


1- سير الأعلام:312/3 و فيه:ستة أشهر ترى كالدم.
2- سير الأعلام:312/3.
3- البحار:216/45.
4- سير الأعلام:312/3.
5- بغية الطلب:2639/6.
6- و اختلف في نقلها ففي كتاب الخرائج عن ابن الأعرابي عن سفينة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قال: خرجت غازيا فكسر بي المركب فغرق مع ما فيه و أفلت و ما عليّ إلاّ خرقة إلى آخر ما نقله،و القصّة طويلة و حاصله أنه ضل الطريق فهداه الأسد و أوصله إليه.و في شرح السنة:سفينة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخطأ الجيش بأرض الروم و أسر فانطلق هاربا بطلب الجيش فإذا هو بأسد فقال.يا أبا الحارث أنا مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان من أمري كيت و كيت فأقبل الأسد حتى قام إلى جنبه كلما سمع صوتا أهوى إليه ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى أبلغه الجيش ثم رجع.و قال المازري:اسم سفينة قيس،و قيل:نجران،و قيل:رومان،و قيل:مهران،و كنيته المشهورة أبو عبد الرحمن و سبب تسميته بسفينة أنه حمل متاعا كثيرا لرفقائه في الغزو فقال له:أنت سفينة.

مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فهمهم بين يديه حتّى أوقفه على الطريق و الأسد رابض في ناحية،فدعيني أمضي إليه و أعلمه ما هم صانعون غدا،قال:فمضت إليه فقالت:يا أبا الحارث فرفع رأسه ثمّ قالت:أتدري ما يريدون أن يعملوا غدا بأبي عبد اللّه عليه السّلام؟ يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره،قال:فمشى حتّى وضع يديه على جسد الحسين عليه السّلام،فأقبلت الخيل فلمّا نظروا إليه قال لهم عمر بن سعد-لعنه اللّه-فتنة لا تثيروها انصرفوا،فانصرفوا (1).

و في الأمالي عن ابن عبّاس قال:كنت مع أمير المؤمنين عليه السّلام في خروجه إلى صفّين،فلمّا نزل بنينوى و هو شط الفرات قال:يابن عبّاس أتعرف هذا الموضع؟ قلت له:ما أعرفه يا أمير المؤمنين،فقال له:لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي،فبكى طويلا حتّى سالت الدموع على صدره و بكينا معا و يقول:أواه أواه مالي و لآل أبي سفيان حزب الشيطان،صبرا يا أبا عبد اللّه فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم فتوضّأ و صلّى ثمّ رقد،فلمّا انتبه قال:يابن عبّاس رأيت في منامي كأنّي برجال نزلوا من السماء معهم أعلام بيض قد تقلّدوا سيوفهم و هي بيض تلمع و قد خطوا حول هذه الأرض،ثمّ رأيت كأنّ هذا النخل قد ضربت بأغصانها إلى الأرض تضطرب بدم عبيط و كأنّي بالحسين فرخي قد غرق فيه يستغيث فيه فلا يغاث و كان الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه و يقولون صبرا آل الرسول،فإنّكم ستقتلون على يدي شرار الناس و هذه الجنّة مشتاقة إليكم ثمّ يعزّونني و يقولون:يا أبا الحسن إبشر فقد أقرّ اللّه عينك يوم يقوم الناس لربّ8.

ص: 5


1- الكافي:1-466 ح 8.

العالمين ثمّ انتبهت و الذي نفس عليّ بيده لقد حدّثني أبو القاسم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي و هذه أرض كرب و بلاء يدفن فيها الحسين و سبعة عشر رجلا من ولدي و ولد فاطمة و إنّها في السماوات معروفة تذكر أرض كرب و بلاء،يابن عبّاس اطلب لي حولها بعر الظباء و هي مصفّرة لونها لون الزعفران فطلبتها فوجدتها مجتمعة فناديته قد أصبتها فقام إليها فشمّها و قال:هي هي بعينها هذه الأبعار قد شمّها عيسى،و ذلك إنّه مرّ بها و معه الحواريّون فرأى ههنا الظبا مجتمعة و هي تبكي فجلس و بكى مع الحواريّين فقالوا:يا روح اللّه ما يبكيك؟

قال:هذه أرض يقتل فيها فرخ الرسول و فرخ الحرّة الطاهرة شبيهة امّي و هذه الظباء تكلّمني و تقول:إنّها ترعى في هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك و زعمت أنّها آمنة في هذه الأرض ثمّ ضرب بيده إلى هذه البعر فشمّها و قال:هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها،اللّهمّ فابقها حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء و سلوة،قال:فبقيت إلى يوم الناس هذا و قد اصفرّت لطول زمنها و هذه أرض كرب و بلاء.

ثمّ قال:يا ربّ عيسى لا تبارك في قتله ثمّ بكى بكاء طويلا حتّى سقط لوجهه و غشى عليه،ثمّ أفاق فأخذ البعر فصرّه في ردائه و أمرني أن أصرّها كذلك ثمّ قال:

يابن عبّاس إذا رأيتها تنفجر دما عبيطا و يسيل منها دم عبيط،فاعلم أنّ أبا عبد اللّه قد قتل بها و دفن.

قال ابن عبّاس:فكنت احافظ عليها و لا أحلّها من طرف كمي فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دما عبيطا فجلست و أنا باك و قلت:قد قتل و اللّه الحسين فخرجت عند الفجر فرأيت المدينة كأنّها ضباب لا يستبين منها أثر عين ثمّ طلعت الشمس كأنّها منكسفة و كأنّ حيطان المدينة عليها دم عبيط،فبكيت و سمعت صوتا من ناحية البيت و هو يقول:

اصبروا آل الرسول قتل الفرخ النحول

ص: 6

نزل الروح الأمين ببكاء و عويل

فأثبت عندي تلك الساعة و كان شهر المحرّم يوم عاشوراء فوجدته قتل ذلك اليوم،فحدّثت بهذا الحديث أولئك الذين كانوا معه فقالوا:و اللّه لقد سمعنا ما سمعت و نحن في المعركة و لا ندري ما هو فكنّا نرى أنّه الخضر عليه السّلام.

و عن مروان مولى هند بنت المهلّب قال:حدّثني بواب عبيد اللّه بن زياد أنه لما جيء برأس الحسين فوضع بين يديه رأيت حيطان دار الإمارة تسيل دما.

و عن زيد بن عمرو الكندي قال:حدثتني أم حيّان قالت:يوم قتل الحسين أظلمت علينا الدنيا ثلاثا،و لم يمس أحد من زعفرانهم شيئا،فجعله على وجهه إلاّ احترق، و لم يقلب حجر ببيت المقدس إلاّ أصبح تحته دم عبيط.

و عن معمر قال:أول ما عرف الزهري[أنه]تكلم في مجلس الوليد بن عبد الملك فقال الوليد:أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي؟

فقال الزهري:-زاد عبد الكريم و ابن السمرقندي:بلغني و قالوا-أنه لم يقلب حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط (1).

و عن عمر بن محمد بن عمر بن علي،عن أبيه قال:أرسل عبد الملك إلى ابن رأس الجالوت فقال:هل كان في قتل الحسين علامة؟

قال رأس الجالوت:ما كشف يومئذ حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط.

عن يزيد بن أبي زياد قال:فقال الحسين ولي أربعة عشر سنة.

[قال:]و صار الورس الذي كان في عسكرهم رمادا،و احمرّت آفاق السماء، و نحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها النيران (2).

و عن أبي بكر الحميدي،عن سفيان قال:حدثتني جدتي قالت:لقد رأيت الورس3.

ص: 7


1- بغية الطلب:2636/6.
2- سير الأعلام:313/3.

عاد رمادا،و لقد رأيت اللحم كأنّ فيه النار حين قتل الحسين (1).

عقبة بن أبي حفصة السّلولي عن أبيه قال:إن كان الورس من ورس الحسين يقال به هكذا فيصير رمادا (2).

و عن سفيان بن عيينة قال:حدثتني جدتي أم عيينة أن حمّالا كان يحمل ورسا فهوى قتل الحسين بن علي فصار ورسه رمادا (3).

و عن أبي حميد الطحان،قال:كنت في خزاعة فجاؤوا بشيء من تركة الحسين، فقيل لهم ننحر أو نبيع فنقسم؟

قالوا:انحروا (4).

قال:فجعل على جفنة،فلما وضعت فارت نارا.

جميل بن مرة قال:أصابوا إبلا في عسكر الحسين يوم قتل فنحروها و طبخوها، قال:فصارت مثل العلقم،فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئا (5).6.

ص: 8


1- المعجم الكبير للطبراني ح 2858 و نقله الذهبي عن ابن عيينة في سير الأعلام:313/3 و بغية الطلب:2639/6.
2- بغية الطلب:2639/6-2640.
3- تاريخ بغداد:300/3 في ترجمة محمد بن المنذر البغدادي.
4- في بغية الطلب:2640/6 فقيل لهم:نتجر أو نبيع فنقسم؟قالوا:اتجروا.
5- بغية الطلب:2641/6.

معاجز الرأس الشريف

و عن الشعبي قال:صلب رأس الحسين بالكوفة فتنحنح الرأس و قرأ سورة الكهف إلى قوله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً فلم يزدهم ذلك إلاّ ضلالا.

و في الأثر أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجر سمع منه: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

و لمّا نحر الجمل الذي حمل عليه رأس الحسين كان لحمه أمرّ من الصبر (1).

و روي أنه لما أدخل الرأس على يزيد و وضعه بإزاء القبّة التي يشرب فيها،فلمّا مضى جانب من الليل سمع دويّا من السماء فإذا مناد ينادي:يا آدم اهبط يا عيسى اهبط يا محمّد اهبط فهبطوا مع خلق كثير من الملائكة فدخل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القبّة و أخذ الرأس منها و جاء به إلى آدم فقال:يا أبي آدم ما ترى ما فعلت امّتي بولدي؟ فاقشعر لذلك جلدي.

فقال جبرئيل:مرني ازلزل بهم الأرض.

قال:لا.

قال:دعني مع هؤلاء الأربعين فجعل ينفخ بواحد واحد فدنا منّي فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:دعوه دعوه لا يغفر اللّه له،فتركني فأخذوا الرأس و مضوا فافتقد الرأس من تلك الليلة فما عرف له خبر (2).

ص: 9


1- مناقب آل أبي طالب:218/3.
2- الخرائج و الجرائح:582/2.

و عن المنهال قال:رأيت رأس الحسين عليه السّلام حين حمل و أنا بدمشق و بين يديه رجل يقرأ الكهف حتّى بلغ قوله: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (1)فقال رأس الحسين بلسان فصيح:أعجب من أصحاب الكهف قتلي و حملي (2).

و في كتاب الخرائج و الجرائح عن سلمان بن مهران قال:بينما أنا في الطواف إذا رأيت رجلا يقول:اللّهم اغفر لي و أنا أعلم أنّك لا تغفر؟فقلت:يا هذا أنت في حرم اللّه فلم تيأس من المغفرة؟

فقال:يا هذا ذنبي أعظم من الجبال الرواسي فخرج بي من الحرم ثمّ حدّثني و قال:أنا كنت في عسكر عمر بن سعد حين قتل الحسين و كنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى يزيد فنزلنا في طريق الشام على دير النصارى و الرأس مركوز على رمح فوضعنا الطعام لنأكل فإذا كفّ في حائط الدير يكتب شعرا:

أترجو امّة قتلت حسينا شفاعة جدّه يوم الحساب

فأهوى بعضنا إلى الكفّ ليأخذها فغابت ثمّ عدنا إلى الطعام فإذا الكفّ قد عادت تكتب:

فلا و اللّه ليس لهم شفيع و هم يوم القيامة في العذاب

فقام أصحابنا إليها فغابت ثمّ عادوا إلى الطعام فعادت تكتب:

و قد قتلوا الحسين بحكم جور و خالف حكمهم حكم الكتاب

فأشرف علينا راهب من الدّير فرأى نورا ساطعا من الرأس فقال لنا:من أين جئتم؟

قلنا:حاربنا الحسين بن فاطمة و هذا رأسه،قال:هلاكا لكم و اللّه لو كان لعيسى1.

ص: 10


1- الكهف:9.
2- الخرائج و الجرائح:577/2 ح 1.

ابن مريم ابن حملناه على أحداقنا و لكن قولوا لرئيسكم عندي عشرة آلاف درهم يأخذها و يعطيني الرأس إلى وقت الرحيل ثمّ أردّه فأخبروا عمر بن سعد فقال:

خذوا منه المال فدفع إليهم جرابين فانتقدها ابن سعد و سلّمها إلى خازنه فأخذ الراهب الرأس فغسله و حشّاه بمسك و كافور و جعله في حريرة و وضعه في حجره و لم يزل ينوح و يبكي حتّى طلبوا منه الرأس فقال:يا رأس الحسين لا أملك إلاّ نفسي فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدّك محمّد إنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله أسلمت على يديك فأعطاهم الرأس و لحق بالجبال يعبد اللّه.

فلمّا دنا ابن سعد من الشام قال لأصحابه:اطلبوا الجرابين فأحضرت فنظر إلى خاتمه و فتحها فإذا الدنانير تحوّلت خزفا فنظر في سكّتها فإذا على جانب مكتوب:

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ و على الجانب الآخر مكتوب: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (1).

فقال:إنّا للّه و إنّا إليه راجعون خسرت الدّنيا و الآخرة.

فقال لغلمانه:إطرحوها في النهر.

فأدخل الرأس على يزيد و وضعه بإزاء القبّة التي يشرب فيها و وكلنا بالرأس، فلمّا مضى جانب من الليل سمعت دويّا من السماء فإذا مناد ينادي:يا آدم اهبط يا عيسى اهبط يا محمّد اهبط فهبطوا مع خلق كثير من الملائكة فدخل محمّد صلّى اللّه عليه و اله و سلّم القبّة و أخذ الرأس منها و جاء به إلى آدم فقال:يا أبي آدم ما ترى ما فعلت امّتي بولدي؟فاقشعر لذلك جلدي.

فقال جبرئيل:مرني أزلزل بهم الأرض.

قال:لا.

قال:دعني مع هؤلاء الأربعين فجعل ينفخ بواحد واحد فدنا منّي فقال7.

ص: 11


1- الشعراء:227.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:دعوه دعوه لا يغفر اللّه له،فتركني فأخذوا الرأس و مضوا فافتقد الرأس من تلك الليلة فما عرف له خبر.

قال سليمان:فقلت للرجل:تنحّ عنّي لا تحرقني بنارك (1).

تكلم الرأس

و روي أنّه لمّا حمل رأسه إلى الشام جنّ عليهم الليل فنزلوا عند رجل من اليهود، فلمّا شربوا و سكروا قالوا:عندنا رأس الحسين،فقال:أروه لي و هو في الصندوق يسطع منه النور فاستودعه اليهودي منهم و قال للرأس:إشفع لي عند جدّك.

فقال الرأس:إنّما شفاعتي للمحمّديّين و لست بمحمّدي فجمع اليهود أقرباءه فوضع الرأس في طشت و صبّ عليه ماء الورد و وضع عليه العنبر و قال لأقربائه:

هذا رأس ابن بنت محمّد ثمّ قال:و الهفاه حيث لم أجد جدّك محمّد فأسلم على يديه و لم أجدك حيّا فأسلم على يديك و اقاتل بين يديك لتشفع لي يوم القيامة.

فقال الرأس:إن أسلمت فأنا لك شفيع،فأسلم الرجل و أقرباءه (2).

و عن الرضا عليه السّلام أنّ يزيد لعنه اللّه وضع رأس الحسين عليه السّلام أمامه و كان يلعب بالشطرنج و يشرب الفقاع فمن نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فليذكر الحسين عليه السّلام و ليلعن يزيد و آل زياد يمحو اللّه عزّ و جلّ بذلك ذنوبه و لو كانت كعدد النجوم (3).

ص: 12


1- الخرائج و الجرائح:580/2.
2- البحار:172/45 ح 20.
3- البحار:299/44.

سلب الإمام الحسين و آله

ثمّ أقبلوا على سلب الحسين فأخذ قميصه إسحاق الحضرمي فلبسه فصار أبرصا و أخذ سراويله بحر بن كعب ثمّ صار زمنا مقعدا و أخذ عمامته خنس بن علقمة فاعتمّ بها فصار مجنونا مجذوما و أخذ درعه مالك الكندي فصار معتوها و أخذ نعليه الأسود بن خالد و أخذ خاتمه بجدل الكلبي فقطع إصبعه عليه السّلام مع الخاتم و هذا أخذه المختار فقطع يديه و رجليه و تشحّط بدمه حتّى مات و أخذ قطيفة له من خزّ قيس بن الأشعث و أخذ درعه البتراء عمر بن سعد و أخذ سيفه جميع الأزدي و هذا السيف المنهوب ليس بذي الفقار و أنّ ذلك كان مذخورا مع أمثاله من ذخائر النبوّة و الإمامة و تسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول حتّى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها (1).

و روى حميد بن مسلم قال:رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد،فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين فسطاطهنّ و هم يسلبونهنّ أخذت سيفا و أقبلت نحو الفسطاط و قالت:يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه لا حكم إلاّ للّه يا لثارات رسول اللّه فأخذها زوجها و ردّها إلى رحله.

ثمّ أخرجوا النساء من الخيمة و أشعلوا فيها النار فخرجن مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة و قلن بحقّ اللّه الاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين و تنادي زينب بصوت حزين:

وا محمّداه هذا حسين مرمّل بالدّماء مقطّع الأعضاء و بناتك سبايا إلى اللّه المشتكى و إلى محمّد المصطفى و إلى عليّ المرتضى هذا حسين بالعراء يسفى عليه

ص: 13


1- البحار:57/45.

الصبا اليوم مات جدّي رسول اللّه يا حزناه يا كرباه يا أصحاب محمّد هؤلاء ذريّة المصطفى يساقون سوق السبايا و هذا حسين محزوز الرأس من القفا بأبي من عسكره في يوم الإثنين نهب بأبي من فسطاطه مقطع العرى بأبي من لا هو غائب فيرجى و لا جريح فيداوى بأبي المهموم حتّى قضا،بأبي العطشان حتّى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء صلّى اللّه عليه و آله.

فأبكت كلّ عدوّ و صديق.

ثمّ إنّ سكينة اعتنقت جسد الحسين عليه السّلام فاجتمع عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه.

و روي أنّهم لمّا دخلوا خيمة النساء أخذوا ما كان فيها حتّى قرضوا إلى قرط كان في اذني امّ كلثوم اخت الحسين عليه السّلام فأخذوه و خرموا اذنها.

و قالت فاطمة الصغرى:كنت واقفة بباب الخيمة و أنا أنظر إلى أبي و أصحابه كالأضاحي على الرّمال و أنا أفكّر فيما يكون إليه أمرنا بعد أبي فإذا براكب يسوق النساء بكعب رمحه و قد أخذ ما عليهن من أخمرة و أسورة و هن يصحن وا جدّاه وا أبتاه وا عليّاه وا قلّة ناصراه أما من مجير يجيرنا فضربني بكعب الرمح فسقطت على وجهي فخرم اذني و أخذ قرطي و مقنعتي و ترك الدماء تسيل على خدّي و إذا بعمّتي تبكي و تقول:قومي نمضي ما أعلم ما جرى على البنات و أخيك العليل،فقلت:

يا عمّتاه هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظّارة؟

فقالت:و عمّتك مثلك فرأيت رأسها مكشوفا و ظهرها أسودا من الضرب فما رجعت إلى الخيمة إلاّ و هي قد نهبت و ما فيها و أخي عليّ بن الحسين مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع و العطش و الأسقام فجعلنا نبكي عليه و يبكي علينا و جاء عمر بن سعد فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهنّ ليتستّرن به.

فقال:من أخذ من متاعهم فليردّه فو اللّه ما ردّ أحد منهم شيئا.

ص: 14

و في كتاب الأمالي عن فاطمة بنت الحسين عليه السّلام قالت:دخلت العامّة علينا و أنا جارية صغيرة و في رجلي خلخالان من ذهب فجعل رجل يفضّ الخلخالين من رجلي و هو يبكي،فقلت:ما يبكيك يا عدوّ اللّه؟

فقال:كيف لا أبكي و أنا أسلب بنت رسول اللّه.قلت:فلا تسلبني.

قال:أخاف أن يجيء غيري فيسلبه،و انتهبوا ما في الأبنية حتّى كانوا يترعون الملاحف عن ظهورنا (1).

قال السيد القرشي:عمد أرذال أهل الكوفة و عبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوة و عقائل الرسالة فسلبوا ما عليهن من حلي و حلل،و مال و غد من أوغادهم بخسة و وحشية إلى السيدة أم كلثوم فسلب قرطها و أسرع و ضر خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها،و هو يجهش بالبكاء،و بهرت منه ابنة الحسين فقالت له:

«ما لك تبكي؟!!».

«كيف لا أبكي و أنا أسلب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

و لما رأت تعاطفه قالت له:

«دعني».

و راح الدني يبدي جشعه قائلا:

«أخاف أن يأخذه غيري».

و عمدوا إلى نهب ما في الخيام من ثقل و متاع،و هجم الشمر على ثقل الحسين لنهبه فوجد ذهبا فأخذه و دفع بعضه إلى ابنته لتصوغه حليا لها فجاءت به إلى الصائغ فلما أدخله النار صار هباء.

و بصرت امرأة من آل بكر بن وائل ما جرى على بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،من النهب1.

ص: 15


1- أمالي الصدوق:229 ح 241.

و السلب و الترويع،فاندفعت و هي مذهولة فجعلت تحفز أسرتها على إنقاذ ودائع النبوة من أيدي أولئك الجفاة قائلة:«يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه؟!!لا حكم إلا للّه،يا لثارات رسول اللّه».

و بادر إليها زوجها فردها إلى رحله و تجرد ذلك الجيش من كل نزعة إنسانية، و خلا من كل رأفة و رحمة،فقد جعلوا يوسعون بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضربا بكعوب رماحهم و هن يلذن من الرعب بعضهن ببعض،و قد سقطت فاطمة بنت الحسين مغشيا عليها من شدة الضرب فلما أفاقت رأت عمتها السيدة أم كلثوم تبكي عند رأسها،ان مأساة عائلة الرسالة تبكي الجماد و تستثير عطف الصخور (1).

نوح الجن

و عن أبي حبّاب الكلبي قال:حدّثنا الجصّاصون قالوا:كنّا نخرج إلى الجبّانة في الليل عند مقتل الحسين عليه السّلام فنسمع الجنّ ينوحون عليه فيقولون،شعرا:

مسح الرسول جبينه فله بريق في الخدود

أبواه من عليا قريش جدّه خير الجدود

غراب يتمرغ

و عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال:لمّا قتل الحسين عليه السّلام جاء غراب فتمرّغ في دمه ثمّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين فنظرت إليه و بكت و قالت، شعرا:

ص: 16


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:205/3.

نعب الغراب فقلت من تنعاه ويلك يا غراب

قال الإمام فقلت من قال الموفّق للصواب

إنّ الحسين بكربلاء بين الأسنّة و الضراب

فنعته لأهل المدينة فقالوا:قد جاءتنا بسحر عبد المطلّب فما كان بأسرع أن جاءهم الخبر بقتل الحسين عليه السّلام.

سلب جثة الإمام

و اقترف جيش ابن سعد أسوأ المآثم و أفظع الجرائم،فقد هرعوا بجشع نحو جثة الإمام العظيم فجعلوا ينهبون ما عليها من لامة حرب أو ثياب فأخذ رجل من بني نهشل سيفه و هو سيف النبي صلّى اللّه عليه و آله المسمى بذي الفقار و أخذ قيس بن الأشعث أحد قادة ذلك الجيش قطيفة الإمام و كانت من خز فعيب عليه و سمي قيس القطيفة و سلب قميصه إسحاق بن حوية،و أخذ الأخنس بن مرشد عمامته و أخذ بحير سراويله فلبسها فصار زمنا مقعدا و لم يتركوا على جثمان الإمام إلا السراويل التي عمد الإمام على تمزيقها حتى يتركوها على جسده.

و جاء أحط البشرية و أقذرها بجدل ففتش عن مغنم يجده على جسم الإمام فلم يجد شيئا و فتش مليا فرأى خاتم الإمام في يده و قد بنت عليه الدماء فعمد إلى قطع اصبعه و أخذه و ترك البغاة جثمان الإمام عاريا تصهره الشمس (1).

ص: 17


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:205/3.

وطئ الجسد الشريف

و نادى ابن سعد من يوطئ ظهر الحسين فانتدب منهم عشرة و هم إسحاق و أخنس بن مرثد و حكيم بن طفيل و عمرو بن صبيح و رجاء العبدي و سالم بن خيثمة و صالح الجعفي و واخط بن ناغم و هاني الحضرمي و اسيد بن مالك فداسوا الحسين بحوافر خيلهم حتّى رضوا ظهره و صدره.

قال أبو عمرو الزاهد:فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعا أولاد زنا، و هؤلاء أخذهم المختار فشدّ أيديهم و أرجلهم بسكك الحديد و أوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا.

و قال السيد القرشي:و أخذ شر أولئك الجفاة يستشري فلم يدعوا حرمة لله إلا انتهكوها و لا إثما إلا اقترفوه،فقد انبرى ابن سعد لينفذ أوامر سيده ابن مرجانة فنادى من ينتدب للحسين فيوطى الخيل صدره و ظهره قال الواقدي:و بادر الشمر فوطى الجثمان المقدس بفرسه و تبعه عشرة من أولاد البغايا و هم إسحاق بن يحيى الحضرمي،و هانى بن ثبيت الحضرمي،و أدلم بن ناعم،و أسد بن مالك، و الحكيم بن الطفيل الطائي،و الأخنس بن مرشد،و عمرو بن صبيح المذحجي، و رجاء بن منقذ العبدي،و صالح بن وهب اليزني،و سالم بن خيثمة الجعفي فداسوا ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخيولهم مقبلين و مدبرين حتى ألصقوا الجثمان العظيم بالأرض و كان المجرم الخبيث أسد بن مالك يفتخر أمام ابن سعد و يقول:

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكل يعبوب شديد الأسر

و جرى هذا التمثيل المنكر أمام ابن سعد و سائر قوات ذلك الجيش و لم تجر هذه

ص: 18

العملية فيما أحسب-على أحد من أهل بيت الإمام و أصحابه و يؤيد ذلك أن الأوامر التي صدرت من ابن زياد إلى ابن سعد قد اقتصرت على التمثيل بجسد الحسين دون غيره.

و على أي حال فقد أعلنوا بهذا العمل الفظيع عن حقدهم البالغ على الإمام، و تجردهم من جميع العواطف الإنسانية.

لقد داسوا جسد الإمام الذي تربى في كنف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نبت لحمه من لحم علي و فاطمة،و الذي قال فيه الرسول:

«حسين مني و أنا من حسين،أحب الله من أحب حسينا».

لقد داسوا ذلك الجسد الذي ثار في وجه المعتدين و الظالمين،و أراد أن يزيل البغي،و يظهر العدل في الأرض حسب ما أمر الله به (1).3.

ص: 19


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:205/3.

تقسيم الرؤس و ارسالها

ثمّ إنّ ابن سعد سرح برأس الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء مع خولي بن يزيد الأصبحي و حميد بن مسلم إلى ابن زياد ثمّ أمر برؤوس الباقين من أهل بيته و أصحابه فقطعت و سرح بها مع شمر إلى الكوفة و أقام يومه ذلك فجمع قتلاه و صلّى عليهم و دفنهم و ترك الحسين و أصحابه على التراب،فلمّا ارتحلوا إلى الكوفة عمد أهل الغاضرية من بني أسد فصلّوا عليهم و دفنوهم و كانوا يجدون لأكثرهم قبورا و يرون طيورا بيضاء و كانت رؤوسهم ثمانية و سبعين رأسا و اقتسمتها القبائل ليتقربوا بها إلى يزيد و ابن زياد فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا و صاحبهم قيس بن الأشعث.

و جاءت هوازن باثنى عشر رأسا و صاحبهم شمر لعنه اللّه و جاءت تميم بسبعة عشر رأسا و جاءت بنو أسد بستّة عشر رأسا و صاحبهم مدحج بسبعة رؤوس و جاءت سائر الناس بثلاثة رؤوس (1).

و قيل:أن القبائل بادرت إلى حز رؤوس أولئك الأحرار الذين استشهدوا من أجل العدالة الاجتماعية،و من أجل تحرير الإنسان من الظلم و الطغيان.

و لم يقر الإسلام في جميع حروبه التمثيل إلا أن الجيش الأموي قد استباح ذلك، فإن معاوية قد سنّه و أباحه،فقد أمر برأس الشهيد العظيم عمرو بن الحمق الخزاعي أن يطاف به،و قد اقتدى به ابن مرجانة فبعث برأس مسلم و هانى إلى يزيد

ص: 20


1- مدينة المعاجز:120/4.

ثم عهد إلى ابن سعد أن يحز رؤوس الشهداء في واقعة كربلاء ليبعثها هدية إلى يزيد،و قد تهافتت تلك العصابة المجرمة إلى اقتسام الرؤوس ليقدموها هدية لابن مرجانة،و قد اقتسمت القبائل التالية ما يلي من الرؤوس:

1-كندة:جاءت بثلاثة عشر رأسا،و صاحبهم قيس بن الأشعث.

2-هوازن:حصلت على عشرين رأسا،و صاحبهم شمر بن ذي الجوشن.

3-مذحج:جاءت بسبعة رؤوس.

4-بنو قيس:جاؤوا بتسعة رؤوس.

5-بنو تميم:جاؤوا بسبعة عشر رأسا.

6-بنو أسد:جاؤوا بستة عشر رأسا.

7-سائر الجيش:جاؤوا بسبعة رؤوس.

و بقيت على صعيد كربلاء جثة الحسين،و جثث الشهداء من أهل بيته و أصحابه قد فصلت عنها الرؤوس،و وضعت فوق الحراب لتكون منارا لجميع شعوب الأرض على طريق الحق و الشرف و الإيمان.

و روى الطبري عن أبي مخنف،قال:و لما قتل الحسين بن عليّ عليه السّلام جيء برؤوس من قتل معه من أهل بيته و شيعته و أنصاره إلى عبيد اللّه بن زياد فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا و صاحبهم قيس بن الأشعث و جاءت هوازن بعشرين رأسا و صاحبهم شمر بن ذي الجوشن،و جاءت تميم بسبعة عشر رأسا و جاءت بنو أسد بستة رؤوس،و جاءت مذحج بسبعة رؤوس،و جاء سائر الجيش بسبعة رؤوس،فذلك سبعون رأسا قال:و قتل الحسين و أمه فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتله سنان بن انس النخعي،ثم الأصبحي و جاء برأسه خولي بن يزيد.و قتل العباس بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين ابنة حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، قتله زيد بن رقاد الجنبي و حكيم بن الطفيل السنبسي و قتل جعفر بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين أيضا.

ص: 21

و قتل عبد اللّه بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين أيضا و قتل عثمان بن علي بن أبي طالب و أمه أم البنين أيضا رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله.

و قتل محمد بن علي بن أبي طالب و أمه أم ولد،قتله رجل من بني أبان بن دارم.

و قتل أبو بكر بن علي بن أبي طالب و أمه ليلى ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم،و قد شرك في قتله.

و قتل علي بن الحسين بن علي و أمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود ابن معتب الثقفي و أمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب قتله مرة بن منقذ بن النعمان العبدي.

و قتل عبد اللّه بن الحسين بن علي و أمه الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي ابن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب،قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي، و استصغر علي بن الحسين بن علي فلم يقتل (1).

و قتل أبو بكر بن الحسين بن أبي طالب و أمه أم ولد قتله عبد اللّه بن عقبة الغنوي.

و قتل عبد اللّه بن الحسين بن علي بن أبي طالب و أمه أم ولد،قتله حرملة بن كاهل رماه بسهم.

و قتل القاسم بن الحسن بن علي،و أمه أم ولد قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي.

و قتل عون بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب و أمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة ابن ربيعة بن رياح من بني فزارة قتله عبد اللّه بن قطبة الطائي ثم النبهاني.

و قتل محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب و أمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن ربيعة بن عائذ بن الحارث بن تيم اللّه بن ثعلبة من بكر بن وائل،قتله عامر ابن نهشل التيمي،و قتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب و أمه أم البنين ابنة الشقر بنة.

ص: 22


1- لم يكن صغيرا بل كان مريضا فلم يقتل و كان له من الأولاد محمد الباقر كما ذكرناه غير مرة.

الهضاب،قتله بشر بن حوط الهمذاني.

و قتل عبد الرحمان بن عقيل و أمه أم ولد قتله عثمان بن خالد بن أسير الجهني.

و قتل عبد اللّه بن عقيل بن أبي طالب و أمه أم ولد رماه عمرو بن صبيح الصدائي فقتله.

و قتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب و أمه أم ولد بالكوفة.

و قتل عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب و أمه رقية ابنة علي بن أبي طالب و أمها أم ولد قتله عمرو بن صبيح الصدائي،و قيل:قتله أسيد بن مالك الحضرمي.

و قتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل،و أمه أم ولد قتله لقيط بن ياسر الجهني و استصغر الحسن بن الحسن بن علي،و أمه خولة ابنة منظور ابن ريان بن سيار الفزاري،و استصغر عمرو بن الحسن بن علي فترك فلم يقتل و أمه أم ولد.

و قتل من الموالي سليمان مولى الحسين بن علي قتله سليمان بن عوف الحضرمي.

و قتل منجح مولى الحسين بن علي.

و قتل عبد اللّه بن يقطر رضيع الحسين بن علي.

و قال السيد مرتضى العسكري:قتل من أصحاب الحسين عليه السّلام اثنان و سبعون رجلا،و دفن الحسين و أصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم و صلى عمر بن سعد على قتلاهم و دفنهم قال:و ما هو إلاّ أن قتل الحسين فسرح برأسه من يومه ذلك مع خولي بن يزيد و حميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد اللّه بن زياد فأقبل به خولي فأراد القصر فوجد باب القصر مغلقا فأتى منزله فوضعه تحت إجانة في منزله و له امرأتان امرأة من بني أسد و الأخرى من الحضرميين يقال لها:

النوار ابنة مالك بن عقرب و كانت تلك الليلة ليلة الحضرمية،قال هشام:فحدثني أبي عن النوار بنت مالك قالت:اقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت إجانة في الدار ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه فقلت له:ما الخبر ما عندك؟!قال جئتك بغنى

ص: 23

الدهر،هذا رأس الحسين معك في الدار!قالت:فقلت ويلك جاء الناس بالذهب و الفضة و جئت برأس ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟لا و اللّه لا يجمع رأسي و رأسك بيت ابدا، قالت:فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار فدعا الأسدية فأدخلها إليه و جلست أنظر قالت:فو اللّه ما زلت أنظر إلى نور تسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة و رأيت طيرا بيضاء ترفرف حولها قال:فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد اللّه بن زياد و أقام عمر بن سعد يومه ذلك و الغد ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة و حمل معه بنات الحسين و أخواته،و من كان معه من الصبيان و علي بن الحسين مريض.

و روى الطبري عن قرة بن قيس التميمي قال:نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين و أهله و ولده صحن و لطمن وجوههن قال:فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعا و هي تقول:يا محمداه يا محمداه!،صلى عليك ملائكة السماء،هذا حسين بالعراء،مرمل بالدماء،مقطع الأعضاء،يا محمداه!و بناتك سبايا،و ذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا.

قال:فأبكت و اللّه كل عدو و صديق قال:و قطف رؤوس الباقين فسرح باثنين و سبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن و قيس بن الأشعث و عمرو بن الحجاج و عزرة بن قيس فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد اللّه بن زياد (1).3.

ص: 24


1- معالم المدرستين للعسكري:142/3.

عدد الشهداء مع الحسين عليه السّلام

و عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال:قتل مع الحسين عليه السّلام سبعة عشر إنسانا كلّهم ارتكض في بطن فاطمة يعني بنت أسد أمّ عليّ عليه السّلام.

و روى الشيخ في المصباح عن عبد اللّه بن سنان قال:دخلت على الصادق عليه السّلام يوم عاشوراء فلقيته حزينا باكيا فسألته فقال:هذا اليوم الذي اصيب فيه الحسين فقلت:ما تقول في صومه؟

فقال:صمه من غير تبييت و افطره من غير تشميت و لا تجعله يوم صوم كملا و ليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول اللّه و لا في الأرض مثلهم منهم ثلاثون صريعا في مواليهم يعزّ على رسول اللّه مصرعهم و لو كان في الدّنيا حيّا لكان هو المعزّى بهم،ثمّ قال:لمّا خلق اللّه النور خلقه يوم الجمعة أوّل يوم من شهر رمضان و خلق الظلمة يوم الأربعاء يوم عاشوراء (1).

ص: 25


1- البحار:304/98.

انتقام الحسين عليه السلام من قتلته

عن أبي جعفر عليه السّلام قال:قال الحسين عليه السّلام لأصحابه قبل أن يقتل:إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لي:يا بني إنّك ستساق إلى العراق و تستشهد بها و معك جماعة لا يجدون ألم مسّ الحديد و تلا: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ،يكون الحرب بردا و سلاما عليك و عليهم فابشروا فو اللّه لئن قتلونا فإنّا نرد على نبيّنا ثمّ أمكث ما شاء اللّه فأكون أوّل من تنشقّ الأرض عنه فأخرج خرجة توافق خرجة أمير المؤمنين و قيام قائمنا و حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لينزلن محمّد و عليّ و جميع من منّ اللّه عليه على جمال من نور لم يركبها مخلوق و لينزلنّ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و جنود من الملائكة ثمّ ليدفعن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لواءه و سيفه إلى قائمنا ثمّ نمكث ما شاء اللّه ثمّ تخرج من مسجد الكوفة عينا من دهن و عينا من ماء و عينا من لبن ثمّ يدفع أمير المؤمنين عليه السّلام إلي سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يبعثني إلى المشرق و المغرب فلا آتي عدوّا للّه إلاّ أهرقت دمه و لا صنما إلاّ أحرقته حتّى أفتح الهند و إن دانيال و يوشع يخرجان إلى أمير المؤمنين و يبعث معهما إلى البصرة سبعين رجلا فيقتلون مقاتليهم و يبعث بعثا إلى الروم فيفتح اللّه لهم.

ثمّ لأقتلنّ كلّ دابّة حرّم اللّه لحمها حتّى لا يكون على وجه الأرض إلاّ الطيب و أخير اليهود و النصارى و أهل الملل بين الإسلام و السيف و لا يبقى أحد من شيعتنا إلاّ بعث اللّه إليه ملكا يمسح عن وجهه التراب و يعرّفه أزواجه و منزلته في الجنّة و لا يبقى على وجه الأرض أعمى و لا مقعد و لا مبتلى إلاّ كشف اللّه عنه بنا أهل البيت و لتأكلن ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء ثمّ إنّ اللّه ليهب

ص: 26

لشيعتنا كرامة لا يخفى عليهم شيء في الأرض و ما كان فيها حتّى أنّ الرجل يريد أن يعلم عمل أهل بيته فيخبرهم بعلم ما يعلمون (1).7.

ص: 27


1- مختصر بصائر الدرجات:37.

السبايا في الطريق

بكاء الناس على أسارى آل محمد

و قال السيّد ابن طاووس:و سار ابن سعد بالسبايا،فلمّا قاربوا الكوفة إجتمع أهلها للنظر إليهنّ فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت:من أيّ الأسارى أنتنّ؟

فقلن:نحن أسارى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزلت و جمعت مقانع فأعطتهن فتغطين فجعل أهل الكوفة ينوحون و يبكون.

فقال عليّ بن الحسين عليه السّلام:أتنوحون و تبكون من أجلنا فمن قتلنا؟!

خطبة أمّ كلثوم في الكوفة

و خطبت أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السّلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها رافعة صوتها بالبكاء فقالت:يا أهل الكوفة سوءة لكم ما لكم خذلتم حسينا و قتلتموه و انتهبتم أمواله و ورثتموه و سبيتم نساءه و نكبتموه فتبّا لكم و سحقا ويلكم أتدرون أيّ دواه دهتكم و أيّ وزر على ظهوركم حملتم و أيّ دماء سفكتموها و أيّ كريمة أصبتموها و أيّ حبيبة سلبتموها و أيّ أموال انتهبتموها؟!!

فضجّ الناس بالبكاء و الحنين و نشر النساء شعورهنّ و وضعن التراب على

ص: 28

رؤوسهنّ فلم ير باكيا و باكية أكثر من ذلك اليوم (1).

خطبة زين العابدين في الكوفة

ثمّ قام زين العابدين عليه السّلام و قال:أيّها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن علي،أنا ابن المذبوح بشط الفرات،أنا ابن من انتهك حريمه و سلب نعيمه و انتهب ماله و سبي عياله سوءة لكم،بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ يقول لكم:قتلتم عترتي فلستم من امّتي؟

فقالوا كلّهم:نحن يابن رسول اللّه سامعون مطيعون فمرنا بأمرك.

فقال:هيهات هيهات أيّها الغدرة المكرة حيل بينكم و بين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل،كلاّ و ربّ الراقصات فإنّ الجرح لمّا يندمل ثمّ قال شعرا:

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي اصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشط النهر روحي فداءه جزاء الذي أرداه نار جهنّما

ثمّ إنّ ابن زياد جلس في القصر و أذن إذنا عامّا و جيء برأس الحسين عليه السّلام فوضع بين يديه و ادخل نساء الحسين و صبيانه (2).

تصدق الناس على أسارى آل محمد

و روي عن مسلم الجصّاص قال:دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة فبينما أنا

ص: 29


1- البحار:112/45.
2- البحار:115/45.

أجصّص الأبواب فإذا بالأصوات ارتفعت من جوانب الكوفة فسألت.

فقالوا:الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد.

فقلت:من هذا؟

فقالوا:الحسين بن عليّ،فلطمت وجهي و خرجت فرأيت أربعين جملا تحمل عليها السبايا و الحرم و إذا بعليّ بن الحسين على البعير بغير وطاء و أوداجه تشخب دما و هو مع ذلك يبكي و يقول شعرا:

يا امّة السوء لا سقيا لربعكم يا امّة لم تراع جدّنا فينا

لو أنّنا و رسول اللّه يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتاب عارية كأنّنا لم نشيد فيكم دينا

تصفقون علينا كفّكم فرحا و أنتم في فجاج الأرض تسبونا

يا وقعة الطفّ قد أورثتني حزنا و اللّه يهتك أستار المسيئينا

قال:و صار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر و الخبز و الجوز فصاحت بهم امّ كلثوم و قالت:يا أهل الكوفة إنّ الصدقة علينا حرام و صارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال و أفواههم و ترمي به إلى الأرض.

قال:و إذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين و هو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول اللّه و لحيته قد[انتصل] (1)عنها الخضاب و وجهه دارة قمر طالع و الريح تلعب بلحيته يمينا و شمالا فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فضربت رأسها بمقدم المحمل حتّى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها و جعلت تقول،شعرا:

يا هلالا لما استتمّ كمالا غاله خسفه فزيد غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدّرا مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلّمها فقد كاد قلبها أن يذوبال.

ص: 30


1- في بعض المصادر:اتصل.

يا أخي قلبك الشفيق علينا ماله قد قسى و صار صليبا

ما أذلّ اليتيم حين ينادي بأبيه و لا يراه مجيبا

بين زينب بنت عليّ عليها السلام و ابن زياد

ثمّ وضع رأس الحسين عليه السّلام بين يدي ابن زياد و ادخل عليه نساء الحسين و صبيانه فجلست زينب بنت عليّ متنكّرة فقال لها ابن زياد:الحمد للّه الذي فضحكم.

فقالت:إنّما يفتضح الفاسق.

فقال:كيف رأيت صنع اللّه بأخيك و أهل بيتك؟

فقالت:ما رأيت إلاّ جميلا؛هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاجّ و تخاصم.

و قيل:و لما روى ابن مرجانة أحقاده من رأس الإمام التفت إلى عائلة الحسين فرأى امرأة منحازة في ناحية من مجلسه و عليها أرذل الثياب و قد حفت بها المهابة و الجلال مما حمل ابن زياد على السؤال عنها فقال:

«من هذه التي انحازت ناحية و معها نساؤها؟».

فأعرضت عنه،و كرر السؤال مرتين فلم تجبه استهانة به و احتقارا لشأنه، فانبرت إحدى السيدات فقالت له:

«هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له و اندفع يظهر شماتته بلسانه الألكن قائلا:

«الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم،و أبطل أحدوثتكم».

فثارت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بشجاعة محتقرة ذلك الوضر الخبيث و صاحت به:

«الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه،و طهرنا من الرجس تطهيرا،إنما يفتضح الفاسق،

ص: 31

و يكذب الفاجر،و هو غيرنا يابن مرجانة».

لقد قالت هذا القول الصارم و هي و الخفرات من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله في قيد الأسر و قد نصبت فوق رؤوسهن حراب الفاتحين،و شهرت عليهن سيوف الشامتين.و قد أنزلت الطاغية من عرشه إلى قبره،و أطاحت بغلوائه،و عرفته أمام خدمه و أتباعه أنه المفتضح و المنهزم..فقال ابن مرجانة متشفيا بأحط و أخس ما يكون التشفي:

«كيف رأيت فعل الله بأخيك؟».

و انطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة و صمود فأجابته بكلمات الظفر و النصر لها و لأسرتها قائلة:

«ما رأيت إلا جميلا،هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم،و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاج و تخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة».

و فقد الحقير اهابه من هذا التبكيت الموجع،و التعريض المقذع،و تميز غيظا و غضبا،و همّ أن ينزل بها عقوبته فنهاه عمرو بن حريث،و قال له:إنها امرأة لا تؤاخذ بشي من منطقها،فالتفت إليها قائلا:

«لقد شفى الله قلبي من طاغيتك،و العصاة المردة من أهل بيتك».

و غلب على العقيلة الحزن و الأسى من هذا التشفي،و الجرأة عليها،و قد تذكرت الصفوة الأبطال من أهل بيتها الذين سقطوا في ميادين الجهاد فأدركتها لوعة الأسى فقالت:

«لعمري لقد قتلت كهلي و أبدت أهلي،و قطعت فرعي،و اجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت».

و تهافت ابن مرجانة و سكن غيظه و راح يقول:

«هذه سجاعة.لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا».

فردت عليه زينب:ان لي عن السجاعة لشغلا ما للمرأة و السجاعة.

ما ألأم هذه الحياة و ما أخسها التي جعلت ربيبة الوحي أسيرة عند ابن مرجانة

ص: 32

و هو يبالغ في احتقارها و توهينها.

إن كان عندك يا زمان بقية مما يضام به الكرام فهاتها (1)3.

ص: 33


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:230/3.

بين زيد ابن أرقم و ابن زياد

و قال المفيد:لمّا وضع الرأس بين يديه جعل ينظر إليه و يتبسّم و بيده قضيب يضرب به ثناياه و كان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول اللّه شيخ كبير،فقال:

إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين فو اللّه الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليها ما لا احصيه،ثمّ انتخب باكيا.

فقال ابن زياد:أتبكي لفتح اللّه لو لا أنّك شيخ كبير قد خرفت و ذهب عقلك لضربت عنقك فنهض زيد بن أرقم باكيا إلى منزله،ثمّ أمر ابن زياد بنساء الحسين فحملوا إلى دار إلى جنب المسجد الأعظم فقالت زينب بنت عليّ:لا يدخلن علينا عربية إلاّ أمّ ولد أو مملوكة فإنّهنّ سبينا و نحن قد سبين،ثمّ أمر برأس الحسين عليه السّلام فطيف به في سكك الكوفة و في ذلك قيل شعرا:

رأس ابن بنت محمّد و وصيّه للناظرين على قناة يرفع

و المسلمون بمنظر و بمسمع لا منكر منهم و لا متفجّع

كحلت بمنظرك العيون عماية و اصمّ رزؤك كلّ اذن تسمع

ما روضة إلاّ تمنّت أنّها لك حفرة و لخط قبرك مضجع

أيقظت أجفانا و كنت لها كرى و أنمت عينا لم يكن بك تهجع (1)

ص: 34


1- البحار:119/45.

خطبة ابن زياد ورد ابن عفيف عليه

ثمّ إنّ ابن زياد صعد المنبر و قال في بعض كلامه:الحمد للّه الذي أظهر الحقّ و أهله و نصر المؤمنين و أشياعه و قتل الكذّاب ابن الكذّاب.

فقام إليه ابن عفيف الأزدي و كان من الشيعة ذهبت إحدى عينيه في يوم الجمل و الاخرى يوم صفّين فقال:يابن مرجانة إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت و أبوك و من استعملك و أبوه يا عدوّ اللّه تقتلون أبناء النبيّين و تتكلّمون بهذا الكلام على المنابر، قال:عليّ به،فتبادرته الجلاوزة و أمر بقتله فقال:الحمد للّه ربّ العالمين أمّا إنّي قد كنت أسأل اللّه ربّي أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك امّك و أن يجعل ذلك على يدي ألعن خلقه،فلمّا كفّ بصري يئست من الشهادة و الآن الحمد للّه الذي رزقنيها بعد اليأس منها،فقال ابن زياد لعنه اللّه:إضربوا عنقه فضربت عنقه و صلب في السبخة (1).

ص: 35


1- مقتل الحسين:209.

رأس الحسين عليه السلام في سكك الكوفة

قال أبو مخنف:ثم إن عبيد اللّه بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به في الكوفة.

و قال المفيد:لمّا أصبح ابن زياد بعث برأس الحسين عليه السّلام فدير به في سكك الكوفة.فروي عن زيد بن أرقم أنّه لمّا مرّ به و هو على رمح و أنّا في غرفة لي،فلمّا حاذاني سمعته يقرأ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً فوقف و اللّه شعري و ناديت رأسك و اللّه يابن رسول اللّه أعجب و أعجب،ثمّ أنفذ برأس الحسين عليه السّلام و كتب إلى والي المدينة يبشّره بقتل الحسين فنادى في المدينة بقتله فلم يسمع بكاء قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين حين سمعوا النداء بقتله فدخل بعض موالي عبد اللّه بن جعفر الطيّار فنعى إليه ابنيه فاسترجع.

فقال أبو السلاسل مولى عبد اللّه:هذا و اللّه لو شهدته لأحببت أن اقتل معه،الحمد للّه اصيبا مع أخي و ابن عمّي الحمد للّه عزّ عليّ مصرع الحسين أن لا أكون و اسيته بيدي فقد آساه ولداي فخرجت أمّ لقمان بنت عقيل حين سمعت نعي الحسين حاسرة و معها أخواتها تبكي قتلاها بالطفّ و تقول،شعرا:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الامم

بعترتي و بأهلي بعد مفتقدي منهم اسارى و قتلى ضرّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

و سمع أهل المدينة في جوف الليل مناديا ينادي،شعرا:

أيّها القاتلون جهلا حسينا ابشروا بالعذاب و التنكيل

ص: 36

كلّ أهل السماء يدعو عليكم من نبيّ و مرسل و قبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود و موسى و صاحب الإنجيل

و سمع قائل في الهواء بالمدينة يقول،شعرا:

يا من يقول بفضل آل محمّد بلّغ رسالتنا بغير تواني

قتلت شرار بني أميّة سيّدا خير البرية ماجدا ذا شأني

ابن المفضّل في السماء و أرضها سبط النبيّ و هادم الأوثان

بكت المشارق و المغارب بعدما بكت الأنام له بكلّ لسان

و أمّا يزيد بن معاوية فكتب إلى ابن زياد يأمره بحمل رأس الحسين و أصحابه و نسائه و ثقله فاستعدى ابن زياد بمفخر بن ثعلبة فسلّم إليه الرؤوس و النساء فسار بهم كما يسار بسبايا الكفّار يتصفّح وجوههنّ أهل الأقطار فنزلوا أوّل مرحلة و جعلوا يشربون فخرجت عليهم كفّ من الحائط معها قلم من حديد فكتب سطر بدم،شعرا:

أترجو امّة قتلت حسينا شفاعة جدّه يوم الحساب

ص: 37

موقف آخر بين زينب و ابن زياد

و روي أنه لما أدخل عيال الحسين عليه السّلام على ابن زياد في الكوفة دخلت زينب أخت الحسين عليه السّلام في جملتهم متنكرة و عليها أرذل ثيابها فمضت حتى جلست ناحية من القصر و حفّت بها إماؤها فقال ابن زياد:من هذه التي انحازت فجلست ناحية و معها نساؤها؟فلم تجبه زينب،فأعاد ثانية يسأل عنها،فقال بعض إمائها هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه.

فأقبل عليها ابن زياد فقال لها:الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم.

فقالت زينب:الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد و طهرنا من الرجس تطهيرا إنما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا و الحمد لله.

فقال ابن زياد:كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟

قالت:كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاجون إليه و تختصمون عنده،فغضب ابن زياد و استشاط فقال عمرو بن حريث أيها الأمير إنها إمرأة و المرأة لا تؤاخذ بشي من منطقها و لا تذم على أخطائها،فقال لها ابن زياد:قد شفى الله نفسي من طاغيتك و العصاة المردة من أهل بيتك،فرقت زينب و بكت و قالت:لعمري لقد قتلت كهلي و أبرت أهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد شفيت.

فقال لها ابن زياد:هذه سجاعة و لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا.

فقالت:ما للمرأة و السجاعة إن لي عن السجاعة لشغلا و لكن صدري نفث لما قلت (1).

ص: 38


1- الارشاد للمفيد:116/2.

رأس الحسين عليه السّلام بالقرب من دمشق

ثم قال ابن طاووس رحمه اللّه:و ساروا برأس الحسين عليه السّلام و السبايا إلى الشام،فلمّا قربوا من دمشق قالت أمّ كلثوم للشمر:حاجتي إليك إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة و قل لهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل و ينحّونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا فأمر في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل و سلك بهم بين الناس حتّى أتى باب دمشق فوقفوا على باب المسجد الجامع حيث يقام السبي.

و روي عن سهل بن سعد قال:خرجت من بيت المقدس حتّى أتيت الشام فإذا أنا بمدينة قد علّقوا الأستار و الحجب و هم مستبشرون و نساؤهم يلعبن بالدفوف و الطبول فقلت:هذا ليس يوم عيد فسألتهم،فقالوا:هذا رأس الحسين عليه السّلام يهدى من أرض العراق،فقلت:وا عجبا يهدى رأس الحسين عليه السّلام و الناس يفرحون،فرأيت الرايات يتلو بعضها بعضا فإذا فارس على رمحه رأس أشبه الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من ورائه نسوة على جمال فدنوت من أولاهم فقلت:يا جارية من أنت؟

فقالت:سكينة بنت الحسين عليها السّلام.

فقلت:ألك حاجة؟

فقالت:قل لصاحب هذا الرأس يقدمه أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه و لا ينظروا إلى حرم رسول اللّه،فدنوت من صاحب الرأس و أعطيته أربعمائة دينار حتّى قدّم الرأس أمام الحرم..

ص: 39

رأس الحسين عليه السّلام بين يدي يزيد

اشارة

و دخلوا على يزيد و دخلت معهم و كان جالسا على السرير و على رأسه تاج مكلّل بالدرّ و الياقوت فدخل صاحب الرأس و هو يقول،شعرا:

املأ ركابي ذهبا أو فضّة أني قتلت السيّد المحجّبا

قتلت خير الناس امّا و أبا إذ ينسبون النسبا

قال:لو علمت أنّه خير الناس لم قتلته؟

قال:رجوت الجائزة منك،فأمر بضرب عنقه و حزّ رأسه و وضع رأس الحسين عليه السّلام على طبق من ذهب و هو يقول:كيف رأيت يا حسين.

ثمّ قال:لعن اللّه ابن مرجانة إذ أقدم على قتل الحسين بن فاطمة عليه السّلام لو كنت صاحبه لما فعلت هذا،ثمّ قال،شعرا:

نعلّق هامات من اناس أعزّة علينا و هم كانوا أعقّ و أظلما

و لمّا وضع رأس الحسين عليه السّلام و رآه عليّ بن الحسين عليه السّلام لم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبدا.

و قال عليّ بن الحسين عليه السّلام:فقلت ليزيد و أنا مغلول:ما ظنّك برسول اللّه لو رآني في الغلّ؟

فقال لمن حوله:حلّوه.

و أمّا زينب فإنّها لمّا رأته هوت إلى جيبها فشقّته ثمّ نادت بصوت حزين:يا حسيناه يابن مكّة و منى يابن فاطمة الزهراء يابن بنت المصطفى فأبكت من في

ص: 40

المجلس ثمّ دعا بقضيب خيزران فجعل ينكث به ثنايا الحسين عليه السّلام فأقبل عليه الأسلمي و قال:ويحك أتنكث ثغر الحسين عليه السّلام و لقد رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرشف ثناياه و ثنايا أخيه الحسن و يقول:أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة فقتل اللّه قاتلكما و لعنه و أعدّ له جهنّم،فغضب يزيد و أمر بإخراجه (1).3.

ص: 41


1- العوالم،للامام الحسين:433.

خطبة عليّ بن الحسين عليه السلام بين يدي يزيد في المسجد

قال عليّ بن الحسين عليه السّلام:ائذن لي يا يزيد حتّى أصعد المنبر،فأذن له،فلمّا صعد قال في بعض كلامه:أيّها الناس،أنا ابن مكّة و منى أنا ابن زمزم و الصفا أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا أنا ابن خير من حجّ و لبّى أنا ابن من حمل على البراق في الهواء أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى،أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى،أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى،أنا ابن من صلّى بملائكة السماء،أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى.

أنا ابن محمّد المصطفى،أنا ابن عليّ المرتضى،أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلاّ اللّه،أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه بسيفين و طعن برمحين و هاجر الهجرتين و بايع البيعتين و قاتل ببدر و حنين،أنا ابن قاتل المارقين و الناكثين و القاسطين،بستان حكمة اللّه و عيبة علمه سمح سخيّ بهيّ أبطحيّ مقدام صابر صوّام قاطع الأصلاب و مفرّق الأحزاب أسد باسل يطحنهم في الحروب طحن الرحاء،ليث الحجاز و كبش العراق،مكيّ مدنيّ خيفيّ عقبيّ بدريّ احديّ شجريّ مهاجريّ من العرب سيّدها و من الوغا ليثها وارث المشعرين و أبو السبطين الحسن و الحسين ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء،أنا ابن سيّدة النساء.

فضجّ الناس بالبكاء و النحيب و أمر يزيد المؤذّن فقطع عليه الكلام.فلمّا قال المؤذّن:أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه التفت عليّ بن الحسين عليه السّلام من فوق المنبر إلى

ص: 42

يزيد فقال:محمّد هذا جدّي أم جدّك؟فإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته.... (1).

موقف لعليّ بن الحسين مع يزيد

في دعوات الراوندي روي أنّه لمّا حمل عليّ بن الحسين عليه السّلام إلى يزيد لعنه اللّه همّ بقتله فأوقفه بين يديه ليتكلّم كلمة توجب بها قتله و هو عليه السّلام يجيبه حسب ما يكلّمه و في يده سبحة صغيرة يديرها بأصابعه و هو يتكلّم فقال له يزيد:اكلّمك و أنت تجيبني و تدير أصابعك بسبحة في يدك فكيف يجوز ذلك؟

فقال:حدّثني أبي عن جدّي أنّه كان إذا صلّى الغداء و انفتل لا يتكلّم حتّى يأخذ سبحة بين يديه فيقول:اللّهم إنّي أصبحت اسبّحك و امجّدك و أحمدك و اهلّلك بعدد ما ادير به سبحتي و يأخذ السبحة و يديرها و هو يتكلّم بما يريد من غير أن يتكلّم بالتسبيح و ذلك محتسب له و هو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه فإذا آوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول و وضع سبحته تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت ففعلت هذا اقتداء بجدّي.

فقال له يزيد:لست اكلّم أحدا منكم إلاّ و يجيبني بما يعوذ به فعفا عنه فأمر بإطلاقه (2).

ص: 43


1- بحار الانوار:139/45.
2- الدعوات للراوندي:61.

موقف حبر اليهود من قتل الحسين عليه السلام

و روي أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود فقال:من هذا الغلام؟

قال يزيد:عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب و امّه فاطمة بنت محمّد.

فقال:يا سبحان اللّه فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة بئسما خلفتموه في ذرّيته و اللّه لو ترك فينا موسى بن عمران سبطا من صلبه لظنّنا انّا كنّا نعبده من دون ربّنا و أنتم إنّما فارقكم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقتلتموه سوءا لكم من امّة فأمر به يزيد فضرب على حلقه فقام و هو يقول:إن شئتم فاضربوني و إن شئتم فاقتلوني أو قدروني فإنّي وجدت في التوراة إنّ من قتل ذرّية نبيّ لا يزال ملعونا في الدّنيا و إذا مات يصليه اللّه نار جهنّم (1).

موقف عالم النصارى من قتل الحسين عليه السلام

و روي عن محمّد بن عبد الرحمن قال:لقيني عالم النصارى فقال:و اللّه إنّ بيني و بين داود سبعين أبا و أنّ اليهود لتلقاني فتعظّمني و أنتم ليس بينكم و بين ابن نبيّكم إلاّ أب واحد قتلتموه! (2).

ص: 44


1- البحار:140/45.
2- البحار:141/45.

موقف رسول ملك الروم من قتل الحسين عليه السلام

و روي عن زين العابدين عليه السّلام إنّه لمّا أتي برأس الحسين عليه السّلام إلى يزيد كان يشرب الخمر فحضر مجلسه رسول ملك الروم فقال:هذا رأس من؟

قال:رأس الحسين بن عليّ امّه فاطمة بنت رسول اللّه.

فقال النصراني:أف لك و لدينك إنّ أبي من نسل داود و النصارى يأخذون من تراب قدمي تبرّكا بي و أنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه ما بينه و بينكم إلاّ امّ واحدة، ثمّ قال:إنّ بين عمّان و الصين بحرا ليس فيه عمران إلاّ بلدة واحدة في الماء طولها ثمانون فرسخا في ثمانين و منها يحمل الكافور و الياقوت،أشجارهم العود و العنبر و هي في أيدي النصارى و فيها كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر فيي محرابها حقّة ذهب معلّقة فيها حافر يقولون إنّه حافر حمار عيسى يقصدها في كلّ عام عالم من النصارى يطوفون حولها و يقبّلونها و أنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه؟

فقال يزيد:اقتلوا هذا النصراني لئلاّ يفضحني في بلاده،فلمّا أحسّ بالقتل قال:

إنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام يقول لي:يا نصراني أنت من أهل الجنّة فتعجّبت و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه،ثمّ ضمّ رأس الحسين إلى صدره و جعل يقبّله و يبكي حتّى قتل (1).

و روي في بعض مؤلّفات أصحابنا مرسلا أنّ نصرانيا أتى رسولا من ملك الروم إلى يزيد لعنه اللّه و قد حضر المجلس الذي أتي فيه برأس الحسين عليه السّلام،فبكى النصراني و صاح ثمّ قال:اعلم يا يزيد إنّي دخلت المدينة تاجرا في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألت أصحابه أيّ شيء أحبّ إليه من الهدايا؟

ص: 45


1- البحار:142/45.

فقالوا:الطيب،فحملت إليه من المسك و العنبر و هو يومئذ في بيت زوجته امّ سلمة فرأيت نورا ساطعا فتعلّق قلبي بمحبّته فقلت:هذه هدية محقرة فقال لي:إن قبلت منّي الإسلام و أنا وزير ملك الروم و لمّا كنت في حضرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأيت هذا الذي رأسه بين يديك دخل على جدّه من باب الحجرة و النبيّ فاتح باعه ليأخذه فوضعه في حجره و جعل يقبّل شفتيه و ثناياه و يقول:لعن اللّه من قتلك يا حسين و أعان على قتلك و هو مع ذلك يبكي،فلمّا كان اليوم الثاني كنت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجده إذ أتاه الحسين مع أخيه الحسن و قال:يا جدّاه قد تصارعت مع أخي الحسن و لم يغلب أحدنا الآخر و إنّما نريد أن تعلم أيّنا أشدّ قوّة من الآخر،فقال:يا حبيبي إنّ التصارع لا يليق بكما و لكن اذهبا فتكاتبا فمن كان خطّه أحسن كذلك تكون قوّته أكثر فكتب كلّ واحد منهما سطرا و أتيا جدّهما فأعطياه اللوح ليقضي بينهما فنظر و لم يرد أن يكسر قلب أحدهما فقال:إنّي امّي لا أعرف الخط اذهبا إلى أبيكما يحكم بينكما،فقام النبي معهما و دخلوا بيت فاطمة فما كان إلاّ ساعة حتّى أقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سلمان الفارسي فقلت:يا سلمان بحقّ دين الإسلام إلاّ ما أخبرتني كيف حكم أبوهما بينهما؟

فقال:لمّا أتيا إلى أبيهما لم يرد أن يكسر قلب أحدهما فقال:امضيا إلى امّكما فعرضا عليها ما كتبا فتفكّرت و قالت:إنّي أقطع قلادتي على رأسيكما فأيّكما يلتقط من لؤلؤها أكثر كان خطّه أحسن و قوّته أكثر و كان في قلادتها سبع لؤلؤات فقطعت القلادة فالتقط الحسن ثلاث لؤلؤات و التقط الحسين ثلاث لؤلؤات فبقيت الاخرى فمدّا أيديهما إليها فأمر اللّه تعالى جبرئيل أن يقدّها بجناحه نصفين فأخذ كلّ واحد منهما نصفا فانظر يا يزيد كيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين و فاطمة و ربّ العزّة لم يريدوا كسر قلب أحدهما و أنت هكذا تفعل بابن بنت رسول اللّه؟!أف لك يا يزيد.

ثمّ قام النصراني إلى رأس الحسين و جعل يقبّله و يبكي و يقول:يا حسين إشهد

ص: 46

لي عند جدّك المصطفى و عند أبيك المرتضى و عند امّك فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليهم أجمعين (1).3.

ص: 47


1- العوالم:443.

حبس علي بن الحسين عليه السلام و النساء

ثمّ إنّ يزيد أمر بنساء الحسين عليه السّلام فحبسن مع علي بن الحسين في محبس لا يكنّهم من حرّ و لا برد حتّى تقشّرت وجوههم و لم يرفع في بيت المقدس حجر على وجه الأرض إلاّ و تحته دم عبيط و أبصروا الشمس على الحيطان حمراء إلى أن خرج عليّ بن الحسين بالنسوة و ردّ رأس الحسين عليه السّلام إلى كربلاء (1).

منام سكينة في الشام

و روي أنّ سكينة رأت في منامها و هي في الشام كأنّ خمس نوق من نور أقبلت و على كلّ ناقة شيخ و الملائكة محدّقة بهم و معهم و صيف يمشي فقال لي الوصيف:يا سكينة إنّ جدّك يسلّم عليك،فقلت:و على رسول اللّه السلام من أنت؟

قال:و صيف من وصائف الجنّة قلت:من هؤلاء المشايخ؟

قال:الأوّل آدم صفيّ اللّه و الثاني إبراهيم خليل اللّه و الثالث موسى كليم اللّه و الرابع عيسى روح اللّه،فقلت:من هذا القابض على لحيته يسقط مرّة و يقوم اخرى؟

فقال:جدّك رسول اللّه قاصدون إلى أبيك الحسين عليه السّلام فجئت أشكو إليه فرأيت خمسة هوادج من نور في كلّ هودج امرأة فقلت:من هذه النسوة؟

قال:الاولى حوّاء امّ البشر و الثانية آسية بنت مزاحم و الثالثة مريم بنت عمران

ص: 48


1- أمالي الصدوق:231 ح 243.

و الرابعة خديجة بنت خويلد.قلت و من هي الخامسة فقال:و الخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرّة و تقوم اخرى فقال:جدّتك فاطمة بنت محمّد فوقفت بين يديها أبكي و أقول:يا امّاه استباحوا و اللّه حريمنا و قتلوا الحسين أبانا فقالت:يا سكينة كفّي صوتك أقرحت كبدي و قطّعت نياط قلبي هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتّى ألقى اللّه به،ثمّ انتبهت (1).

صلب رأس الحسين على باب دار يزيد

و روي أنّ يزيد لعنه اللّه أمر بأن يصلب الرأس على باب داره فخرجت بنت عبد اللّه بن عامر إمرأة يزيد و كانت قبل ذلك تحت الحسين عليه السّلام حتّى شقّت الستر و هي حاسرة فوثبت إلى يزيد و هو في مجلس عام فقالت:يا يزيد رأس ابن فاطمة بنت رسول اللّه مصلوب على فناء داري فوثب إليها يزيد فغطّاها و قال:إبكي على ابن بنت رسول اللّه عجّل عليه ابن زياد لعنه اللّه فقتله قتله اللّه.

زين العابدين عليه السلام في أسواق دمشق

و خرج زين العابدين عليه السّلام يوما يمشي في أسواق دمشق فقيل له:كيف أمسيت يابن رسول اللّه؟

قال:أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبّحون أبناءهم و يستحيون نساءهم،أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّدا عربي و أمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّدا منها و أمسينا معشر أهل بيته مغصوبون مقتولون

ص: 49


1- البحار:141/45.

مشرّدون فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون،و للّه درّ مهيار حيث قال،شعرا:

يعظّمون له أعواد منبره و تحت أرجلهم أولاده وضعوا

بأيّ حكم بنوه يتبعونكم و فخركم أنّكم صحب له تبع

بين علي بن الحسين عليه السلام و يزيد

و دعى يزيد يوما بعليّ بن الحسين و عمر بن الحسن و عمره إحدى عشرة سنة فقال لابن الحسن:أتصارع ابني خالدا؟

فقال له عمر:لا،و لكن أعطني سكّينا و أعطه سكّينا ثمّ اقاتله،قال يزيد:شنشنة أعرفها من أخزم و هل تلد الحيّة إلاّ الحيّة.

و قال لعليّ بن الحسين:أذكر حاجاتك الثلاث اللاّتي وعدتك بقضائهنّ؟

فقال:الاولى أن تريني وجه أبي الحسين فأودّعه،و الثانية أن تردّ إلينا ما اخذ منّا،و الثالثة إن كنت عزمت على قتلي أن توجّه مع هؤلاء النسوة من يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ.

فقال:أمّا وجه أبيك فلن تراه أبدا و أمّا قتلك فقد عفوت عنك،و أمّا النساء ما يردّهن إلى المدينة غيرك،و أمّا ما اخذ منكم فأنا أعوّضكم أضعاف قيمته.

فقال:إنّما طلبت ما اخذ منّا لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد و مقنعتها و قلادتها و قميصها،فأمر بردّ ذلك (1).

ص: 50


1- البحار للمجلسي:144/45.

حال الرأس

و قال ابن نما:و أمّا الرأس الشريف اختلف الناس فيه فقال قوم:إنّ عمر بن سعد دفنه بالمدينة لأنّ يزيد أرسل الرأس إلى المدينة بشارة للناس بذلك (1).

و عن منصور بن جمهور:إنّه دخل خزانة يزيد ثمّ اخرج بعده و دفن بدمشق عند باب مراديس عند البرج الثالث كما بيّن مشرف و حدّثني جماعة من أهل مصر أنّ مشهد رأس الحسين عندهم يسمّونه المشهد الكريم عليه من الذهب شيء كثير يقصدونه في المواسم و يزورونه و يزعمون أنّه مدفون هناك و الذي عليه المعوّل من الأقوال إنّه اعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد و دفن معه (2).

و قال السيّد ابن طاووس طاب ثراه:فأمّا رأس الحسين عليه السّلام فروي إنّه اعيد و دفن بكربلاء مع جسده الشريف و كان عمل الطائفة على هذا المعنى (3).

و روى أبو العلاء الحافظ إنّه دفن بالبقيع عند قبر امّه فاطمة عليها السّلام.

و ذكروا أنّ سليمان بن عبد الملك بن مروان أخرج الرأس من خزائن بني اميّة و دفنه بدمشق في مقابر المسلمين،فلمّا وليّ ابن عبد العزيز نبشه و أخذه،و اللّه أعلم ما صنع به فالظاهر من دينه إنّه بعثه إلى كربلاء فدفن مع جسده عليه السّلام.هذه الأقوال للعامّة و المشهور بين علماء الطائفة إنّه دفن مع جسده ردّه عليّ بن الحسين (4).

ص: 51


1- البحار:144/45.
2- العوالم:452.
3- البحار:144/45.
4- البحار:145/45.

و في أخبار كثيرة إنّه دفن عند قبر أمير المؤمنين عليه السّلام (1).

و عن يزيد بن عمر بن طلحة قال:ركب أبو عبد اللّه عليه السّلام مع ابنه إسماعيل و أنا معهم حتّى إذا جاز الثوية بين الحيرة و النجف عند ذكوات بيض فنزل و صلّى هناك و قال لابنه إسماعيل:قم فسلّم على جدّك الحسين فقلت:جعلت فداك أليس الحسين بكربلاء؟

فقال:نعم،و لكن لمّا حمل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا و دفنه بجنب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما (2).

و عنه عليه السّلام قال:إنّ الملعون ابن زياد لمّا بعث برأس الحسين إلى الشام ردّ إلى الكوفة فقال:أخرجوه منه لا يفتتن به أهلها فصيّره اللّه عند أمير المؤمنين عليه السّلام فالرأس مع الجسد و الجسد مع الرأس.

لعلّ المعنى أنّه بعد ردّه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام صار إلى كربلاء مع الجسد.

و قيل:المعنى أنّه صعد به مع الجسد إلى السماء كما ورد في بعض الأخبار،أو أنّ بدن أمير المؤمنين عليه السّلام كالبدن لذلك الرأس لأنّهما من نور واحد (3).

و روى الشيخ و الكليني قدّس اللّه روحهما أخبارا كثيرة في أنّ الرأس بعد ردّه دفن عند قبر أمير المؤمنين عليه السّلام.

و عن الرضا عليه السّلام أنّ زين العابدين عليه السّلام كان في حبس ابن زياد و قد أمكنه اللّه تعالى فخرج و ولّى تجهيز أبيه الحسين عليه السّلام لأنّ الإمام لا يلي أمره و دفنه إلاّ إمام مثله (4).ق.

ص: 52


1- البحار:145/45.
2- الغارات:852/2.
3- البحار:178/45.
4- المصدر السابق.

فرس الحسين عليه السلام

قال السيد محمد باقر القرشي:و صبغ فرس الحسين ناصيته بدم الإمام الشهيد و أقبل يركض و هو مذعور نحو خيمة الحسين ليعلم العيال بقتله،و لما نظرت إليه النساء علمن بمقتله و في زيارة الناحية«فلما نظرن النساء إلى الجواد مخزيا،و السرج عليه ملويا خرجن من الخدور ناشرات الشعور،على الخدود لاطمات و للوجوه سافرات، و بالعويل داعيات،و بعد العز مذللات و إلى مصرع الحسين مبادرات».

و نادت عقيلة الوحي:

«وا محمداه،وا أبتاه وا علياه،وا جعفراه،وا حمزتاه،هذا حسين بالعراء،صريع بكربلاء...ليت السماء أطبقت على الأرض،و ليت الجبال تدكدت على السهل».

و ذهل الجيش،و ود أن تخيس به الأرض،و جرت دموع أولئك الجفاة من هول مصيبة بنات الرسالة.

حرق الخيام

و عمد الأخباث اللئام إلى حرق خيام الإمام غير حافلين بما تضم من بنات الرسالة و عقائل الوحي،و قد حملوا أقبسة من النار و مناديهم ينادي:

«احرقوا بيوت الظالمين».

يا لله!!لقد كان بيت الإمام-حسب ما يزعمون-بيت الظلم،و بيت ابن مرجانة بيت العدل،و قد أغرق هو و أبوه الناس في الظلم و الجور.

ص: 53

و حينما التهبت النار في الخيم فررن بنات الرسالة و عقائل الوحي من الخباء و النار تلاحقهن،أما اليتامى فقد علا صراخهم،فبين من تعلق بأذيال عمته الحوراء لتحميه من النار،و تصد عنه اعتداء الجفاة،و بين من هام على وجهه في البيداء، و بين من يستغيث بأولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة و العطف،لقد كان ذلك المنظر مما تتصدع له الجبال،و لم يغب عن ذهن الإمام زين العابدين طيلة المدة التي عاشها بعد أبيه،فكان دوما يذكره مشفوعا بالأسى و العبرات و هو يقول:

«و الله ما نظرت إلى عماتي و أخواتي إلا و خنقتني العبرة و تذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة و من خباء إلى خباء،و منادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين» (1).3.

ص: 54


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:205/3.

الهجوم على زين العابدين عليه السلام

و هجم الفجرة الجفاة على زين العابدين و كان مريضا قد أنهكته العلة،و مزق الأسى قلبه،فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن أن يقتله فنهره حميد بن مسلم قائلا له:

«سبحان الله!!أتقتل الصبيان؟إنما هو مريض».

فلم يعن به الوغد،و بادرت إليه العقيلة عمته زينب فتعلقت به،و قالت لا يقتل حتى أقتل دونه فكف اللئام عنه،و قد نجا منهم بأعجوبة،و اجتاز على النساء الرجس عمر بن سعد فصحن في وجهه و بكين فمنع الخبيث العسكر من التعرض لهن بسوء.

حزن علي بن الحسين على أبيه عليه السلام

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّ زين العابدين عليه السّلام بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره قائما ليله فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه و شرابه فيقول:كل يا مولاي فيقول:قتل ابن رسول اللّه جائعا،قتل ابن رسول اللّه عطشانا فيكرّر ذلك و يبكي حتّى يبل طعامه من دموعه ثمّ يمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتّى لحق باللّه عزّ و جلّ. (1)

ص: 55


1- مسكن الفؤاد:5.

و روي أنّه قال له:يا سيّدي أما آن لحزنك أن ينقضي و لبكائك أن يقلّ؟

فقال:ويحك إنّ يعقوب كان نبيّا ابن نبيّ كان له اثنا عشر ابنا فغيّب اللّه سبحانه واحدا منهم فشاب رأسه من الحزن واحد و دب ظهره من الغمّ و ذهب بصره من البكاء و ابنه حيّ في دار الدّنيا،و أنا فقدت أبي و أخي و سبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني و يقلّ بكائي؟ (1).

و قيل:جزع الإمام زين العابدين كأشد ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه، و جثث أهل بيته و أصحابه منبوذة بالعراء لم ينبر أحد إلى مواراتها و بصرت به عمته زينب فبادرت إليه مسلية قائلة:

«ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي و أخوتي،فو الله إن هذا لعهد من الله إلى جدك و أبيك،و لقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض،و هم معروفون في أهل السماوات،انهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة،و الجسوم المضرجة فيوارونها و ينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره،و لا يمحى رسمه على كرور الليالي و الأيام،و ليجتهدن أئمة الكفر و أشياع الضلال في محوه و طمسه فلا يزداد أثره إلا علوا».

و أزالت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ما ألم بالإمام زين العابدين من الحزن العميق على عدم مواراة أبيه،فقد أخبرته بما سمعته من أبيها و أخيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة تلك الجثث الطاهرة،و سينصب لها علم لا يمحى أثره،و يبقى خالدا حتى يرث الله الأرض و من عليها...و قد جدّ ملوك الأمويين و العباسيين على محوها و إزالة آثارها،و جهدوا نفوسهم و سخروا جميع إمكانياتهم إلا أنهم لم يفلحوا،و مضى مرقد الإمام شامخا على الدهر،و مضت ذكراه تملأ رحاب الأرض نورا و فخرا و شرفا كأسمى صورة تعتز بها الإنسانية في جميع أدوارها (2).3.

ص: 56


1- البحار:149/45.
2- حياة الإمام الحسين للقرشي:222/3.

إخبار النبي بدم الحسين عليهما السلام

و في كتاب بشائر المصطفى عن امّ سلمة أنّها قالت:خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلا ثمّ جاءنا و هو أشعث أغبر،و يده مضمومة فقلت:

يا رسول اللّه ما لي أراك شعثا مغبرا؟

فقال:اسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء فأريت فيه مصرع الحسين ابني و جماعة من ولدي و أهل بيتي،فلم أزل ألقط دماءهم فها هي في يدي و بسطها إليّ فقال:خذيه فاحتفظي به فأخذته فإذا هو شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة و شددت رأسها و احتفظت به.

فلمّا خرج الحسين عليه السّلام من مكة متوجّها إلى العراق كنت أخرج تلك القارورة في كلّ يوم و ليلة و أشمّها و أنظر إليها ثمّ أبكي لمصابه،فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم أخرجتها في أوّل النهار و هي بحالها ثمّ عدت عليها آخر النهار فإذا هو دم عبيط فصحت في بيتي و بكيت و كظمت غيظي مخافة أن تسمع أعداؤهم بالمدينة فيتسرّعوا بالشماتة،فلم أزل حافظة الوقت حتّى جاء الناعي ينعاه فحقّق ما رأيت (1).

ص: 57


1- الارشاد:130/2.

العقيلة أمام الجثمان العظيم

و وقفت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ابنة أمير المؤمنين عليه السّلام العقيلة زينب عليها السلام على جثمان أخيها العظيم الذي مزقته السيوف،و جعلت تطيل النظر إليه و رفعت بصرها نحو السماء و هي تدعو بحرارة قائلة:

«اللّهم تقبل هذا القربان».

إن الإنسانية لتنحني إجلالا و خضوعا أمام هذا الإيمان الذي هو السر في خلود تضحية الحسين.

لقد تحملت بطلة كربلاء أعباء تلك المحن الشاقة،و تجرعت غصص تلك الأهوال محتسبة الأجر عند الله،و هي تتضرع بخشوع إلى الله أن يتقبل ذلك القربان.فأي صبر يماثل هذا الصبر؟

لقد تجلت قوة الشخصية في حفيدة الرسول،و برزت معاني الوراثة النبوية في مواقفها الخالدة التي صانت بها أهداف الإمام،و أظهرت الواقع في تضحيته، و أنارت السبيل في بيان أسرار شهادته.

ص: 58

ليلة الحادي عشر من المحرم

و قل ما شئت في تصوير المحنة الكبرى التي دهمت عقائل النبوة في ليلة الحادي عشر من المحرم،فإنك لا تستطيع تصويرها و لا استيعاب مأساتها،فلم تبق رزية من رزايا الدنيا،و لا غصة من غصص الدهر إلا جرت عليهن،فالأعداء الجفاة الذين لا يملكون أي شرف أو نبل قد استولوا عليهن،و الحماة الأباة من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله قد تناثرت أشلاؤهم الزكية أمامهن من دون أن ينبري أحد إلى مواراتهم،و الخيام قد أحرقت و نهب ما فيها من ثقل و متاع،و سلب ما عليهن من حلي و حلل و وصف ذلك المنظر الحزين الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في رائعته التي يقول فيها:

و سجى الليل و الرجال ضحايا و النساء المخدرات ذهول

و اليتامى تشرد و ضياع و الثكالى مدامع و عويل

و بقايا مخيم من رماد و قيود يئن منها عليل

و زنود قست عليها سياط و جسوم يضري بها التمثيل

أما حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و شقيقة الحسين العقيلة زينب عليه السّلام فإنها ما وهنت و لا استكانت أمام تلك الأهوال القاصمة فقد أسرعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم في البيداء،و تجمع العيال في تلك البيداء الموحشة،و هي تسليهم و تصبرهم على تلك الرزايا،و قد أنفقت تلك الليلة ساهرة على حراستهم،و قد هامت في تيارات من الأسى لا يعلم بمداها إلا الله،و قد أدت وردها من صلاة الليل و لكن

ص: 59

استولى الضعف عليها فأدتها من جلوس (1).

خولي يحمل رأس الإمام

و لم يعن ابن سعد بالتمثيل بجسم الإمام الذي حرمه الإسلام بعد أن صدرت له الأوامر من ابن مرجانة بذلك،و قد عمد فور استشهاد الإمام إلى إرسال رأسه مع خولي بن يزيد الأصبحي و حميد بن مسلم الأزدي،فحملا الرأس الشريف هدية لابن مرجانة،كما حمل رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل،و قد أقبلا يجذان السير لا يلويان على شيء حتى انتهيا إلى الكوفة في الهزيع الأخير من الليل،فوجدا باب القصر مغلقا،فأخذ خولي رأس الإمام و ولى مسرعا إلى بيته ليبشر به زوجته و طرق باب داره طرقا عنيفا،و هو يلهث من شدة التعب و عظيم الفرح فخرجت إليه زوجته النوار بنت مالك الحضرمي،و كانت علوية الرأي فأسرعت إليه قائلة:

«ما الخبر؟».

«جئت بغنى الدهر،هذا رأس الحسين معك في الدار».

و فقدت المرأة أهابها،و راحت تصيح به:

«ويلك جاء الناس بالفضة و الذهب،و جئت برأس ابن بنت رسول الله،و الله لا يجمع رأسي و رأسك شيء أبدا».

و أصبح زوجها من أبغض الناس إليها،و في الصباح الباكر حمل خولي رأس الإمام إلى ابن زياد فأظهر الفرح و السرور،و قد تمت-فيما يحسب-بوارق آماله و أحلامه.

ص: 60


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:210/3.

سنان يطلب الجائزة

و احتف أولئك الجفاة حول القاتل الأثيم سنان بن أنس و جعلوا يمنونه الأماني و يقولون له:

«قتلت الحسين بن علي و ابن فاطمة...قتلت أعظم العرب خطرا الذي أراد أن يزيل ملك هؤلاء فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم،فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله لكان قليلا».

و تحركت مطامعه،فأقبل حتى وقف على فسطاط ابن سعد رافعا صوته:

أوقر ركابي فضة أو ذهبا إني قتلت السيد المحجبا

قتلت خير الناس أما و أبا و خيرهم إذ ينسبون النسبا

و لما سمعه ابن سعد نهره و رماه بالسوط،و قال له:ويحك أنت مجنون لو سمعك ابن زياد تقول هذا لضرب عنقك و قد حدد الباغي اللئيم أهدافه في هذا الرجز، فهو إنما ينشد الذهب و الفضة في قتله لخير الناس أما و أبا،و لم يؤثر أن هناك رجزا قيل في المعركة أو بعدها سوى هذا الرجز،و هو يمثل أهداف الأكثرية الساحقة في ذلك الجيش السحيق،و حلل الدكتور يوسف خليف هذا الرجز بقوله:

«و العاطفة التي تشيع في هذا الرجز-مع الأسف-عاطفة الفرح و الزهو،فرح القاتل بهذه الهوية الغالية التي يحملها إلى الأمير،و زهوه بهذا العمل الضخم الذي قام به من أجل الدولة،و هو لهذا يشعر بأن أقل ما يمكن أن يكافئه الأمير به أن يوقر ركابه فضة و ذهبا،و هو-لهذا أيضا-يضفي على قتيله خير ما يمكن أن يضفيه إنسان على إنسان،و قد جعله هذا يشعر بشي من الدالة على الأمير يبيح أن يجعل حديثه عن هذه الجائزة حديث الآمر الذي لا يقبل ردا و لا رفضا،و هو-من أجل هذا- يبدأ رجزه لا بالحديث عن الحادثة التي تعني الأمير و إنما بالحديث عن الجائزة التي

ص: 61

تعنيه هو،كأنما لا يعنيه من الأمر إلا ما سوف يناله من ذهب و فضة».

الطاغية مع قاتل الإمام

و التفت ابن زياد إلى الجلادين من شرطته الذين حضروا المعركة فقال لهم:

«أيكم قاتله؟».

فوثب إليه رجل و هو فرح لعله أن ينال الجائزة منه فقال له:

«أنا قتلته».

«ما قال لك؟».

«لما أخذت السلاح قلت له:ابشر بالنار،قال:ابشر إن شاء الله تعالى برحمته و شفاعة نبيه».

و اطرق ابن مرجانة برأسه إلى الأرض و هو يشعر بالوخز و خيبة المصير و سوء المنقلب.

تشفي ابن زياد برأس الإمام

و لما وضع رأس ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين يدي الدعي ابن الدعي أخذ يبعث بثناياه ساعة من الزمن،و هو يجد في ذلك لذة لا تعدلها لذة،و بدا على وجهه آثار الحقد الدفين و التشفي الآثم،فأخذ يضرب بعوده ثنايا الإمام و شفتيه التي طالما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوسعهما تقبيلا،يقول القيم بن محمد:ما رأيت منظرا قط أفظع من إلقاء رأس الحسين بين يدي ابن مرجانة و هو ينكثه و كان في مجلسه الصحابي زيد بن أرقم فلما رأى صنعه انهارت قواه و صاح به:

ص: 62

«اعل بهذا القضيب عن هاتين الشفتين،فو الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبلهما».

و انفجر زيد باكيا و راح ابن زياد يهزأ من الصحابي قائلا:

«أبكى الله عينيك،لو لا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضربت عنقك».

فاندفع الصحابي قائلا:

«ألا أحدثك حديثا هو أغلظ من هذا،رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقعد حسنا على فخذه اليمنى،و حسينا على فخذه اليسرى،و وضع يديه على يافوخيهما،و قال:اللّهم إني استودعك إياهما و صالح المؤمنين،فكيف كانت وديعة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله عندك يابن زياد؟».

و خرج زيد غير حافل ببطش ابن مرجانة،و هو يخاطب أهل الكوفة قائلا:

«أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم،قتلتم ابن فاطمة،و أمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم،و يستعبد شراركم،فبعدا لمن رضي بالذل و العار».

و لما فرغ ابن مرجانة من العبث برأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله التفت إلى كاهن كافر فقال له:قم فضع على رأسك عدوك،ففعل الكاهن ذلك لقد فعل ابن زياد بآل البيت ما لم يفعله أي كافر على وجه الأرض،فقد استهان بجميع القيم و المقدسات، و استباح كل ما حرمه الله.

عودة الطاغية إلى الكوفة

و كان الطاغية معسكرا بالنخيلة يتلقى الأحداث في كل لحظة،فقد كان على اتصال دائم بابن سعد فلما جاءه البشير بقتل الحسين ارتحل مسرعا إلى الكوفة ليحكم أمرها،و يتخذ التدابير للمحافظة عليها فأصدر أمره إلى حراس البلد و كان عددهم عشرة آلاف فارس بمنع حمل السلاح على كل أحد و نادى مناديه بالكوفة

ص: 63

بذلك كما أرسل الوفود إلى جميع أنحاء البلاد لإعلان النصر و إذاعة الخوف بين الناس (1).3.

ص: 64


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:206/3.

آل رسول اللّه عليهم السلام في دار الامارة

روى الطبري بسنده،عن حميد بن مسلم،قال:دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح اللّه عليه و بعافيته فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم ذلك،ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس و أجد الوفد قد قدموا عليه فأدخلهم و أذن للناس فدخلت فيمن دخل،فإذا برأس الحسين موضوع بين يديه و إذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب، قال له:اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فو الذي لا اله غيره،لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على هاتين الشفتين يقبلهما ثم انفضح الشيخ يبكي فقال له ابن زياد:

أبكى اللّه عينيك فو اللّه لو لا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضربت عنقك قال:

فنهض فخرج فلما خرج سمعت الناس يقولون:و اللّه لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله قال:فقلت:ما قال؟قالوا:مر بنا و هو يقول،ملك عبد عبدا فاتخذهم تلدا أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة و أمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم و يستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل.

قال:فلما دخل برأس حسين و صبيانه و أخواته و نسائه على عبيد اللّه بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها و تنكرت و حفت بها إماؤها،فلما دخلت جلست فقال عبيد اللّه بن زياد:من هذه الجالسة،فلم تكلمه،فقال ذلك ثلاثا،كل ذلك لا تكلمه،فقال بعض إمائها:هذه زينب ابنة فاطمة.

قال:فقال لها عبيد اللّه:الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم فقالت:

ص: 65

الحمد للّه الذي أكرمنا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و طهرنا تطهيرا،لا كما تقول أنت إنما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر،قال:فكيف رأيت صنع اللّه بأهل بيتك.

قالت كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاجون إليه و تخاصمون عنده.

قال فغضب ابن زياد و استشاط قال:فقال له عمرو بن حريث:أصلح اللّه الأمير إنما هي امرأة و هل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها انها لا تؤاخذ بقول و لا تلام على خطل،فقال لها ابن زياد:قد اشفى نفسي من طاغيتك و العصاة المردة من أهل بيتك!

قال:فبكت،ثم قالت:لعمري لقد قتلت كهلي و أبرت أهلي و قطعت فرعي، و اجتثثت أصلي،فإن يشفك هذا،فقد اشتفيت،فقال لها عبيد اللّه:هذه سباعة!قد لعمري كان أبوك شاعرا سجاعا!

قالت:ما للمرأة و السجاعة ان لي عن السجاعة (1)لشغلا و لكني نفثي ما أقول.

و روى عن حميد بن مسلم قال:إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي ابن الحسين.

فقال له:ما اسمك قال:أنا علي بن الحسين قال:أو لم يقتل اللّه علي بن الحسين؟ فسكت فقال له ابن زياد:ما لك لا تتكلم؟

قال:قد كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتلته الناس قال:إن اللّه قد قتله.

قال:فسكت علي فقال له:ما لك لا تتكلم؟قال:اللّه يتوفى الأنفس حين موتها و ما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن اللّه.ف.

ص: 66


1- السجع:الكلام المقفى أو موالاة الكلام على روى واحد و قد يطلق السجع على الكلام المسجع و سجع الخطيب سجعا نطق بكلام له فواصل فهو سجاع و سجاعة بتشديد الجيم و هذا ما أراده ابن زياد في قوله و أجابته زينب بأن لها ما يشغلها عن سجع الكلام و ما ورد في النسخة(الشجاع و الشجاعة)تحريف.

قال:أنت و اللّه منهم(ويحك انظروا هل أدرك و اللّه أني لا حسبه رجلا (1)فقال:

اقتلوه.

فقال علي بن الحسين من توكل بهؤلاء النسوة؟و تعلقت به زينب عمته فقالت:

يا ابن زياد حسبك منا أما رويت من دمائنا و هل أبقيت منا أحدا قال:فاعتنقته فقالت:أسألك باللّه ان كنت مؤمنا ان قتلته لما قتلتني معه قال:و ناداه علي فقال:يا ابن زياد إن كانت بينك و بينهم قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام قال:فنظر إليها ساعة ثم نظر إلى القوم فقال:عجبا للرحم و اللّه إني لأظنها ودت لو أني قتلته (2)معه،دعوا الغلام انطلق مع نسائك.

و قال حميد بن مسلم:لما دخل عبيد اللّه القصر و دخل الناس نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد الأعظم فصعد المنبر ابن زياد فقال:الحمد للّه الذي أظهر الحق و أهله و نصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية و حزبه و قتل الكذاب الحسين بن علي و شيعته فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حتى وثب إليه عبد اللّه بن عفيف الأزدي ثمّ الغامدي ثم أحد بني والبة و كان من شيعة علي كرم اللّه وجهه و كانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي فلما كان يوم صفين ضرب على رأسه ضربة و أخرى على حاجبه فذهبت عينه الأخرى،فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف قال:فلما سمع مقالة ابن زياد قال:

يابن مرجانة ان الكذاب ابن الكذاب أنت و أبوك و الذي و لاك و أبوه!يابن مرجانة! أتقتلون أبناء النبيين و تكلمون بكلام الصديقين!فقال ابن زياد:علي به.

قال:فوثبت عليه الجلاوزة فأخذوه قال:فنادى بشعار الأزد يا مبرور!قال:و عبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس،فقال:ويح غيرك!أهلكت نفسك و أهلكتا.

ص: 67


1- ان علي بن الحسين السجاد كان قد ولد له محمد الباقر عليه السلام يومذاك،و مع هذا لا يستقيم هذا القول و هذه الجملة زيادة في الرواية لم ترد ضمن رواية الطبرسي في إعلام الورى.
2- في نسخة:أني قتلتها.

قومك،قال:و حاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل،قال فوثب إليه فتية من الأزد،فانتزعوه فأتوا به أهله،فأرسل إليه من أتاه به فقتله،فأمر بصلبه في السبخة فصلب هناك (1).3.

ص: 68


1- معالم المدرستين للعسكري:151/3.

رجوع القوات المسلحة

قال:و مكثت القوات المسلحة في كربلاء يوم الحادي عشر من المحرم فوارت جيف قتلاها بين مظاهر الإجلال و التعظيم،و قد فتحت لها كوة من فيح جهنم يؤجج ضرامها و لا يخبو نارها تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون.

أما جثة الإمام العظيم و الجثث الزواكي من أهل بيته و أصحابه،فقد عمدوا إلى تركها على صعيد كربلاء تسفي عليها الرياح لا مغسلين و لا مكفنين.

و أمر ابن سعد حميد بن بكر الأحمري،فنادى بالناس الرحيل إلى الكوفة و سارت قوات ابن سعد بعد الزوال من كربلاء و أعلامها رؤوس العترة الطاهرة التي ثارت من أجل إحقاق الحق،و توطيد أركان العدل،و قد حملوا معهم نساء الحسين و أخواته و نساء الأصحاب فكن عشرين امرأة ما عدا الصبية،و قد سيروهن على أقتاب الجمال بغير وطاء و ساقوهن كما يساق سبي الترك و الديلم، و مروا بهن على جثث القتلى من أهل البيت مبالغة في إيذائهن،و كان العرب في جاهليتهم الأولى يتجنبون مرور النساء على قتلاهن إلا أن جيش ابن سعد لم يلتزم بأي خلق،و لم تكن عنده أية عاطفة إنسانية.

و لما نظرت عقائل النبوة إلى جثث القتلى من أهل البيت رفعن أصواتهن بالبكاء، و صاحت حفيدة النبي صلّى اللّه عليه و آله زينب عليه السّلام بصوت يذيب القلوب:

«يا محمداه هذا حسين بالعراء،مرمل بالدماء،مقطع الأعضاء،و بناتك سبايا، و ذريتك مقتلة».

و وجم القوم مبهوتين،و فاضت عيونهم دموعا،و بكى العدو و الصديق.

ص: 69

مواراة الجثث الطاهرة

و بقيت جثة الإمام العظيم و جثث الشهداء الممجدين من أهل بيته و أصحابه ملقاة على صعيد كربلاء تصهرها الشمس،و تسفي عليها الرياح،و قد انبرى جماعة من المؤمنين الذين لم يتلوثوا في الاشتراك بحرب ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مواراتها،و قد اختلف المؤرخون في اليوم الذي دفنت فيه،و فيما يلي ذلك:

1-يوم الحادي عشر.

2-يوم الثاني عشر.

3-يوم الثالث عشر.

أما الذين حظوا بمواراتها فهم قوم من بني أسد كانوا ينزلون بالقرب من مكان المعركة فخفوا إليها بعد أن نزحت جيوش ابن سعد،فرأوا الجثث الزواكي ملقاة بالعراء فأيقنوا أنها جثث أهل البيت،و جثث أصحابهم فعجوا بالبكاء و العويل، و صرخت نساؤهم،و قاموا في هدأة الليل حيث أمنوا الرقباء،فحفروا قبرا لسيد الشهداء،و قبرا آخر لبقية الشهداء،و قد حفروها على ضوء القمر حيث كان على و شك التمام،و لم يطلع القمر على مثلها شرفا في جميع الأحقاب و الآباد.

يقول الشيخ المفيد:

«و لما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين و أصحابه فصلوا عليهم،و دفنوا الحسين عليه السّلام حيث قبره الآن و دفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجله،و حفروا للشهداء من أهل بيته و أصحابه-الذين صرعوا حوله-مما يلي رجلي الحسين،و جمعوهم فدفنوهم جميعا.و دفنوا العباس بن علي في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن».

و تنص بعض المصادر الشيعية على أن بني أسد كانوا متحيرين في شأن تلك

ص: 70

الجثث الزواكي و لم يهتدوا لمعرفتها لأن الرؤوس قد فصلت عنها،و بينما هم كذلك إذ أطل عليهم الإمام زين العابدين فأوقفهم على شهداء أهل البيت و غيرهم من الأصحاب،و بادر إلى حمل جثمان أبيه فواراه في مثواه الأخير و هو يذرف أحر الدموع قائلا:

«طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر،فإن الدنيا بعدك مظلمة و الآخرة بنورك مشرقة،أما الليل فمسهد،و الحزن سرمد أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم،و عليك مني السلام يابن رسول اللّه و رحمة الله و بركاته».

و رسم على القبر الشريف هذه الكلمات:«هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشانا غريبا»و دفن عند رجلي الإمام ولده علي الأكبر،و دفن بقية الشهداء الممجدين من هاشميين و غيرهم في حفرة واحدة،و انطلق الإمام زين العابدين مع الأسديين إلى نهر العلقمي فواروا قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين،و جعل الإمام يبكي أحر البكاء قائلا:

«على الدنيا بعدك يا قمر هاشم،و عليك مني السلام من شهيد محتسب و رحمة الله و بركاته».

و أصبحت تلك القبور الطاهرة رمزا للكرامة الإنسانية،و رمزا لكل تضحية تقوم على العدل يقول العقاد:«فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين و مختلفين و من حقه أن يطيف به كل إنسان لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي من بين سائر الأحياء.

فما أظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشهادة و ذكرى الشهداء».

و يقول يوسف رجيب:«و ليس لقبر من قبور أولياء الله الصالحين البررة غير قبر الحسين هو قبلة الدنيا و كعبة بني الأرض لأن الله شرفه بجهاد أعدائه الذين اعتزموا طمس الدين الحنيف،و انتهاك الشريعة،و اتخاذ الخلافة أمرة زمنية

ص: 71

استباحوا بها كل محرم يتلذذون بما حرم الله و حرمته كتبه».

لقد ضمت تلك البقعة المباركة خلاصة الإباء و الشرف و الدين،و قد أصبحت أقدس مراكز العبادة و أفضلها في الإسلام،ففي كل وقت يطيف بها المسلمون متبركين و متقربين إلى الله،كما أصبحت مطافا لملائكة الله المقربين،فقد روى الفضل بن يسار عن أبي عبد الله أنه سئل عن أفضل قبور الشهداء فقال عليه السّلام:

«أو ليس أفضل الشهداء الحسين بن علي؟فو الذي نفسي بيده إن حول قبره أربعين ألف ملك شعثا غبرا يبكون عليه إلى يوم القيامة».

و يقول الإمام الرضا عليه السّلام:«إن حول قبر الحسين سبعين ألف ملك شعثا غبرا يبكون عليه إلى يوم القيامة».

و قد حظي مرقده العظيم باستجابة الدعاء عنده فما قصده مكروب أو ملهوف إلا فرج الله عنه مما ألم به،يقول الجواهري:

تعاليت من مفزع للحتوف و بورك قبرك من مفزع

تلوذ الدهور فمن سجد على جانبيه و من ركع

و يقول المؤرخون إن الإمام الهادي عليه السّلام ألم به مرض فأمر أبا هاشم الجعفري أن يبعث له رجلا إلى الحائر الحسيني ليدعو له بالشفاء،و قد سئل عليه السلام عن ذلك فقال:إن الله أحب أن يدعى في هذا المكان.

لقد احتل أبو الشهداء المكانة العظمى عند الله تعالى كما احتل قلوب المسلمين و حظي بأصدق محبتهم فهم يشدون الرحال إلى مثواه من كل فج عميق وفاء بحقه و اعترافا بفضله و التماسا لعظيم الأجر الذي كتبه الله لزائريه،و يقول(نيكلسون):

و خلال بضع سنوات عن مصرع الحسين أصبح ضريحه في كربلاء محجا تشد إليه الرحال (1).3.

ص: 72


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:222/3.

سبايا أهل البيت عليهم السلام في الكوفة

اشارة

و استقبلت الكوفة سبايا آل البيت عليهم السّلام بمزيد من الفزع و الاضطراب وخيم عليها الذل و الهوان،فقد كمت الأفواه،و أخرست الألسن،و لم يستطع أحد أن يظهر ما في دخائل نفسه من الأسى الشديد خوفا من السلطة العاتية التي استهانت بأرواح الناس و كراماتهم.

و عزفت أبواق الجيش و خفقت راياتهم،و قد رفعوا على الحراب رؤوس العترة الطاهرة،و معهم الأسرى من عقائل النبوة و حرائر الوحي و قد ربطوا بالحبال،و قد وصف ذلك المنظر الرهيب مسلم الجصاص يقول:دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة فبينما أنا أجصص الأبواب و إذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة فأقبلت على أحد خدام القصر فقلت له:

«ما لي أرى الكوفة تضج».

«الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد».

«من هذا الخارجي؟».

«الحسين بن علي».

«يقول:فتركت الخادم حتى خرج و أخذت ألطم على وجهي حتى خشيت على عينيّ أن تذهبا،و غسلت يديّ من الجص،و خرجت من القصر حتى أتيت إلى الكناس فبينما أنا واقف و الناس يتوقعون وصول السبايا و الرؤوس إذ أقبل أربعون جملا تحمل النساء و الأطفال،و إذا بعلي بن الحسين على بعير بغير وطاء و أوداجه تشخب دما،و هو يبكي و يقول:

ص: 73

يا أمة السوء لا سقيا لربعكم يا أمة لم تراع جدنا فينا

لو أننا و رسول الله يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيرونا على الأقتاب عارية كأننا لم نشيد فيكم دينا

و يقول جذلم بن بشير:قدمت الكوفة سنة(61 ه)عند مجي علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة و معه النسوة و قد أحاطت بهم الجنود و قد خرج الناس للنظر إليهم و كانوا على جمال بغير وطاء فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين و يندبن،و رأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة،و في عنقه الجامعة و يده مغلولة إلى عنقه،و هو يقول بصوت ضعيف:إن هؤلاء يبكون و ينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟و انبرت إحدى سيدات الكوفة فسألت إحدى السبايا و قالت لها:

«من أي الأسارى أنتن؟».

«نحن أسارى أهل البيت».

و لما سمعت بذلك المرأة صرخت،و صرخت النسوة التي معها،و دوى صراخهن في أرجاء الكوفة،و بادرت المرأة فجمعت ما في بيتها من أزر و مقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترن بها عن أعين الناس كما بادرت سيدة أخرى فجاءت بطعام و تمر و أخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع.

و نادت السيدة أم كلثوم من خلف الركب:

«إن الصدقة حرام علينا أهل البيت».

و لما سمعت الصبية مقالة العقيلة رمى كل واحد منهم ما في يده أو فمه من الطعام و راح يقول لصاحبه:إن عمتي تقول:

«إن الصدقة حرام علينا أهل البيت».

ص: 74

خطاب السيدة زينب عليها السلام

اشارة

و حينما رأت السيدة زينب عليه السّلام حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و شقيقة الإمام الحشود الزاخرة التي ملأت شوارع الكوفة و أزقتها،اندفعت إلى الخطابة لبلورة الموقف، و إظهار المصيبة الكبرى التي جرت على أهل البيت و تحميل الكوفيين مسؤولية هذه الجريمة النكراء،فهم الذين نقضوا العهد،و خاسوا بالذمة،فقتلوا ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله ثم عادوا بعد قتله ينوحون و يبكون كأنهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم،و هذا نص خطابها:

«الحمد لله و صلواته على أبي محمد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و على آله الطاهرين الأخيار، أما بعد:يا أهل الكوفة يا أهل الختل و الخذل أتبكون؟!!فلا رقأت لكم دمعة إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثا،تتخذون أيمانكم دخلا بينكم إلا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم و في العذاب أنتم خالدون.

أتبكون و تنتحبون!!أي و الله فابكوا كثيرا،و اضحكوا قليلا،كل ذلك بانتهاككم حرمة ابن خاتم الأنبياء،و سيد شباب أهل الجنة،و ملاذ حضرتكم،و مفزع نازلتكم، و منار حجتكم و مدرة سنتكم،ألا ساء ما تزرون،و بعدا لكم،و سحقا،فلقد خاب السعي،و نبت الأيدي و خسرت الصفقة و توليتم بغضب الله،و ضربت عليكم الذلة و المسكنة.

أتدرون ويلكم يا أهل الكوفة؟أي كبد لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله فريتم و أي دم له سفكتم، و أي حرمة له انتهكتم؟لقد جئتم شيئا ادا تكاد السماوات يتفطرن منه،و تنشق الأرض،و تخر الجبال هدا!!

ص: 75

لقد جئتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض،و مل السماء،أفعجبتم ان مطرت السماء دما و لعذاب الآخرة أخزى،و هم لا ينصرون فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار،و لا يخاف فوت الثار و ان ربكم لبالمرصاد...».

لقد قرعتهم بطلة كربلاء،بمنطق الصدق و صوت الحق،و دلتهم على نفوسهم الخبيثة،فلم تنخدع بدموعهم الكاذبة،و لم ينطل عليها زورهم و بهتانهم،و نعت عليهم جريمتهم النكراء التي هي أبشع جريمة وقعت في الأرض..و قد وصفتهم بأخس الصفات التي توصف بها أحط الشعوب،فقد وصفتهم بالختل و الغدر،و هما مصدران لانحطاط الإنسان و شقائه.

و علقت سلام الله عليها على بكائهم فقالت:إن من حقهم أن يبكوا كثيرا و يضحكوا قليلا على عظيم ما اقترفوه من الإثم،فقد قتلوا سيد شباب أهل الجنة و سليل خاتم النبوة،و المنقذ و المحرر لهم،و فروا كبد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و انتهكوا حرمته،و سبوا عياله،فأي جريمة أبشع أو أفظع من هذه الجريمة؟

صدى الخطاب

و اضطرب الناس من خطاب سليلة النبوة و أيقنوا بالهلاك،و قد وصف خزيمة الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثه خطاب العقيلة يقول:لم أر و الله خفرة أنطق منها كأنما تفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين،و رأيت الناس بعد خطابها حيارى واضعي أيديهم على أفواههم،و رأيت شيخا قد دنا منها يبكي حتى اخضلت لحيته و هو يقول:بأبي أنتم و أمي كهولكم خير الكهول و شبابكم خير الشباب و نسلكم لا يبور و لا يخزى أبدا إلا أن الإمام زين العابدين قطع على عمته خطابها قائلا:

«اسكتي يا عمة،فأنت بحمد الله عالمة غير معلمة،و فهمة غير مفهمة..».

ص: 76

فأمسكت عن الكلام،و تركت المجتمع يمور بالأسى و الحزن (1).

خطاب السيدة فاطمة عليها السلام

اشارة

و انبرت إلى الخطابة فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السّلام فخطبت أبلغ خطاب و أروعه، و كانت طفلة،فبهر الناس ببلاغتها و فصاحتها و قد أخذت بمجامع القلوب و تركت الناس حيارى قد بلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق فقالت:

«الحمد لله عدد الرمل و الحصى،وزنة العرش إلى الثرى،أحمده و أؤمن به،و أتوكل عليه،و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و ان محمدا عبده و رسوله...و أن أولاده ذبحوا بشط الفرات،من غير ذحل و لا تراث.

اللّهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك،و أن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود و الوصية لعليّ بن أبي طالب،المغلوب حقه،المقتول من غير ذنب-كما قتل ولده بالأمس-في بيت من بيوت الله تعالى،فيه معشر مسلمة بألسنتهم،تعسا لرؤوسهم،ما دفعت عنه ضيما في حياته،و لا عند مماته،حتى قبضه الله تعالى إليه محمود النقيبة،طيب العريكة،معروف المناقب،مشهور المذاهب،لم تأخذه في الله سبحانه لومة لائم،و لا عذل عاذل،هديته اللّهم للإسلام صغيرا،و حمدت مناقبه كبيرا،و لم يزل ناصحا لك،و لرسولك،زاهدا في الدنيا،غير حريص عليها،راغبا في الآخرة،مجاهدا لك في سبيلك،رضيته فاخترته و هديته إلى صراط مستقيم.

أما بعد:يا أهل الكوفة،يا أهل المكر و الغدر و الخيلاء،فأنا أهل بيت ابتلانا الله بكم،و ابتلاكم بنا،فجعل بلاءنا حسنا،و جعل علمه عندنا و فهمه لدينا،فنحن غيبة علمه،و وعاء فهمه،و حكمته و حجته على الأرض في بلاده لعباده،أكرمنا الله

ص: 77


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:227/3.

بكرامته،و فضلنا بنبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله على كثير ممن خلق الله تفضيلا...فكذبتمونا و كفرتمونا،و رأيتم قتالنا حلالا و أموالنا نهبا،كأننا أولاد ترك أو كابل،كما قتلتم جدنا بالأمس...و سيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت،لحقد متقدم،قرت لذلك عيونكم و فرحت قلوبكم افتراء على الله،و مكرا مكرتم،و الله خير الماكرين،فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا،و نالت أيديكم من أموالنا،فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة،و الرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها،إن ذلك على الله يسير،لكيلا تأسوا على ما فاتكم،و لا تفرحوا بما أتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور.

تبا لكم فانظروا اللعنة و العذاب،فكأن قد حل بكم،و تواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب،و يذيق بعضكم بأس بعض،ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم أتدرون أية يد طاعتنا منكم،و أية نفس نزعت إلى قتالنا،أم بأية رجل مشيتم إلينا،تبغون محاربتنا،قست قلوبكم،و غلظت أكبادكم و طبع الله على أفئدتكم،و ختم على سمعكم و بصركم،و سول لكم الشيطان و أملى لكم،و جعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبا لكم يا أهل الكوفة أي تراث لرسول الله قبلكم،و ذحول له لديكم بما عندتم بأخيه عليّ بن أبي طالب جدي و بنيه،و عترته الطيبين الأخيار،و افتخر بذلك مفتخركم:

قد قتلنا عليكم و بنيه بسيوف هندية و رماح

و سبينا نساءهم سبي ترك و نطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثث و الأثلب افتخرت بقتل قوم زكاهم الله و طهرهم و أذهب عنهم الرجس،فاكظم واقع كما و اقطع أبوك فإنما لكل امرى ما اكتسب و ما قدمت يداه.

ص: 78

حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله تعالى،ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم،و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور..».

و تحدثت سليلة النبوة و الإمامة في خطابها العظيم عن أمور بالغة الأهمية و هي:

1-انها عرضت لمحنة جدها الإمام أمير المؤمنين رائد الحق و العدالة في الأرض،و ما عاناه من المحن و المصاعب حتى استشهد في بيت من بيوت الله،و لم يدفع عنه المجتمع الكوفي و لم يقف إلى جانبه و إنما تركوه وحده يصارع الأهوال حتى قبضه الله إليه و هو جم المناقب،محمود النقيبة طيب العريكة،قد اصطفاه الله، و خصه بالفضائل و المواهب.

2-و تحدثت عن محنة أهل البيت،بذلك المجتمع،فإنهم سلام الله عليهم بحكم قيادتهم الروحية للأمة،فإنهم مسؤولون عن حمايتها،و لكن الأمة قد جانبت الحق، فسفكت دماءهم و انتهكت حرمتهم فما أجل رزيتهم و أعظم بلاءهم.

3-شجبت الاعتداء الصارخ على أهل البيت،و وصفت المعتدين القساة بأبشع الصفات،و دعت الله أن ينزل عليهم نقمته و عذابه الأليم.

صدى الخطاب

و أثر الخطاب تأثيرا بالغا في نفوس المجتمع فقد و جلت منه القلوب و فاضت العيون،و اندفع الناس ببكاء قائلين:

«حسبك يا ابنة الطاهرين،فقد أحرقت قلوبنا،و أنضجت نحورنا و أضرمت أجوافنا».

و أمسكت عن الكلام و تركت الجماهير في محنتها و شقائها تصعد الآهات

ص: 79

و تبدي الحسرات و تندب حظها التعيس على عظيم ما اقترفت من الإثم (1).

خطاب السيدة أم كلثوم عليها السلام

و انبرت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله السيدة أم كلثوم إلى الخطابة فأومأت إلى الناس بالسكوت فلما سكنت الأنفاس بدأت بحمد الله و الثناء عليه ثم قالت:

«مه يا أهل الكوفة.تقتلنا رجالكم،و تبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا و بينكم الله يوم فصل الخطاب.

يا أهل الكوفة سوأة لكم،ما لكم خذلتم حسينا و قتلتموه،و انتهبتم أمواله، و سبيتم نساءه و نكبتموه فتبا لكم و سحقا.ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم،و أي وزر على ظهوركم حملتم!!و أي دماء سفكتم،و أي كريمة أصبتموها،و أي صبية أسلمتموها،و أي أموال انتهبتموها،قتلتم خير الرجالات بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و نزعت الرحمة من قلوبكم ألا إن حزب الله هم المفلحون و حزب الشيطان هم الخاسرون».

و اضطرب المجتمع من خطابها فنشرت النساء شعورهن و لطمن الخدود و لم ير أكثر باك و لا باكية مثل ذلك اليوم.

ص: 80


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:230/3.

خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام

و انبرى إلى الخطابة الإمام زين العابدين فقال بعد حمد الله و الثناء عليه:

«أيها الناس،من عرفني فقد عرفني،و من لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب،أنا ابن من انتهكت حرمته،و سلبت نعمته،و انتهب ماله،و سبي عياله،أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل و لا تراث،أنا ابن من قتل صبرا و كفى بذلك فخرا.

أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي و خدعتموه،و أعطيتموه من أنفسكم العهود و الميثاق و البيعة و قاتلتموه،فتبا لكم لما قدمتم لأنفسكم و سوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول اللّه؟إذ يقول لكم:قتلتم عترتي و انتهكتم حرمتي فلستم من أمتي».

و علت الأصوات بالبكاء،و نادى مناد منهم:

«هلكتم و ما تعلمون».

و استمر الإمام في خطابه فقال:

«رحم الله امرءا قبل نصيحتي و حفظ وصيتي في الله و في رسوله و أهل بيته، فإن لنا في رسول الله صلّى اللّه عليه و آله أسوة حسنة».

فهتفوا جميعا قائلين بلسان واحد:

«نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك،غير زاهدين فيك و لا راغبين عنك،فمرنا بأمرك يرحمك الله،فإنّا حرب لحربك،و سلم لسلمك،نبرأ ممن ظلمك و ظلمنا».

ورد الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلا:

ص: 81

«هيهات،هيهات،أيتها الغدرة المكرة حيل بينكم و بين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل،كلا و رب الراقصات،فإن الجرح لما يندمل،قتل أبي بالأمس و أهل بيته،و لم ينس ثكل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و ثكل أبي و بني أبي،إن وجده و الله لبين لهاتي و مرراته بين حناجري و حلقي و غصة تجري في فراش صدري».

و أمسك الإمام عن الكلام معرضا عن أولئك الغدرة الفجرة الذين سودوا وجه التأريخ بتناقضهم في سلوكهم فقد قتلوا الإمام ثم راحوا يبكون عليه.

في مجلس ابن زياد

و أدخلت بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و هن في أسر الذل على ابن مرجانة سليل الأرجاس و الخيانة و هو في قصر الإمارة و قد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده و هم يهنئونه بالظفر و يحدثونه ببطولاتهم المفتعلة في يوم الطف و هو جذلان مسرور يهز أعطافه فرحا،و بين يديه رأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله،فجعل الخبيث يعبث به و ينكته بمخصرته و هو يقول متشمتا:

«ما رأيت مثل هذا الوجه قط!!».

و لم ينه كلامه حتى سدد له الصحابي أنس بن مالك سهما من منطقه فقال له:

«إنه كان يشبه النبي».

و التاع الخبيث من كلامه،و كان في المجلس رجل من بكر بن وائل يقال له جابر فانتفض و هو يقول:

«لله علي أن لا أصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك إلا خرجت معهم» (1).

ص: 82


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:235/3.

الطاغية مع زين العابدين عليه السلام

و أدار الطاغية بصره في بقية آل البيت عليهم السّلام فرأى الإمام زين العابدين و قد أنهكته العلة فسأله:

«من أنت؟».

«علي بن الحسين».

«أو لم يقتل الله علي بن الحسين؟»

فأجابه الإمام بأناة:

«كان لي أخ يسمى عليا قتلتموه،و ان له منكم مطالبا يوم القيامة».

فثار ابن زياد في وقاحة و صلف و صاح بالإمام:

«الله قتله».

فأجابه الإمام بكل شجاعة و ثبات:

«الله يتوفى الأنفس حين موتها،و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله».

و دارت الأرض بابن زياد،و أخذته عزة الإثم فقد غاظه أن يتكلم هذا الغلام الأسير بهذه الطلاقة و قوة الحجة،و الاستشهاد بالقرآن،فصاح به:

«و بك جرأة على رد جوابي!!و فيك بقية للرد علي!!»

و صاح الرجس الخبيث بأحد جلاديه:

«خذ هذا الغلام،و اضرب عنقه».

و طاشت أحلام السيدة زينب،و انبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان فأخذت الإمام فاعتنقته و قالت لابن مرجانة:

«حسبك يا بن زياد من دمائنا ما سفكت،و هل أبقيت أحدا غير هذا،فإن أردت قتله فاقتلني معه».

و انخذل الطاغية،و قال متعجبا:

ص: 83

«دعوه لها،يا للرحم ودّت أنها تقتل معه».

و لو لا موقف العقيلة لذهبت البقية من نسل الإمام الحسين عليه السّلام التي هي مصدر الخير و الفضيلة في الأرض،و روى الجاحظ أن ابن مرجانة قال لأصحابه في علي بن الحسين:

«دعوني أقتله فإنه بقية هذا النسل-يعني نسل الحسين-فأحسم به هذا القرن، و أميت به هذا الداء،و اقطع به هذه المادة».

الا إنهم أشاروا عليه بعدم التعرض له،معتقدين أن ما ألم به من الأمراض سوف تقضي عليه و قد أنجاه الله منهم بأعجوبة (1).3.

ص: 84


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:235/3.

ثورة ابن عفيف

اشارة

و تخدرت جماهير الكوفة تحت ضغط هائل من الإرهاب و العنف،حتى تغيرت الأوضاع العامة تغيرا كليا،فلم تعد الكوفة كما كانت مسرحا للتيارات السياسية، و مركزا للجبهة المعارضة،فقد قبعت بالذل و الهوان و سرت في أوردتها أوبئة الخوف.

من يستطيع أن يتكلم و الجو ملبد بالمخاوف،فرأس زعيم الأمة و قائدها الأعلى على الحراب،و عقائل الرسالة سبايا في المصر،فلم يعد في مقدور أي أحد أن يتلفظ بحرف واحد فكمت الأفواه،و أخرست الألسن و ملئت السجون بالرؤوس و الضروس،و استسلم الجميع لحكم ابن مرجانة،و قد جاء الطاغية مزهوا إلى الجامع الأعظم حيث عقد فيه اجتماعا عاما حضرته القوات المسلحة و سائر أبناء الشعب فاعتلى المنبر مظهرا فرحته الكبرى بهذا النصر الكاذب،فقال-و يا لهول ما قال:

«الحمد لله الذي أظهر الحق و أهله،و نصر أمير المؤمنين يزيد و حزبه،و قتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي و شيعته».

لقد قال هذه الكلمات في مجتمع عرف عدل علي و صدقه و خبر سيرة ولده الإمام الحسين فرآها مشرقة بالحق و الصدق،و لو قال ذلك في الشام أو في إقليم آخر لعل له وجها إلا أنه قال ذلك في الكوفة التي هي عاصمة أهل البيت..و لم يتم الخبيث كلماته حتى انبرى إليه البطل الثائر عبد الله بن عفيف الأزدي الغامدي، و كان ضريرا ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل و الأخرى بصفين مع الإمام أمير

ص: 85

المؤمنين و كان لا يفارق المسجد يتعبد فيه فصاح فيه:

«يابن مرجانة الكذاب ابن الكذاب أنت و أبوك،و الذي و لاك و أبوه،يابن مرجانة، أتقتلون أولاد النبيين و تتكلمون بكلام الصديقين».

و طاش لب الطاغية فقد كانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأسه فصاح بأعلى صوته كالكلب المسعور:

«من هذا المتكلم».

«أنا المتكلم يا عدو الله أتقتلون الذرية الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس، و تزعم أنك على دين الإسلام،و اغوثاه أين أولاد المهاجرين و الأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين».

و تبدد جبروت الطاغية،و ذهبت نشوة أفراحه،و علا الضجيج و تطلعت الناس من جميع جنبات المسجد لتنظر إلى القائل الذي ترجم ما في عواطفهم،فقد كانت هذه الصيحة أول رد علني على السلطة في قتلها لريحانة الرسول.

و صاح ابن زياد بعنف،و قد امتلأ غضبا:

«علي به».

فبادرت إليه الجلاوزة لتختطفه،فنادى ابن عفيف بشعار أسرته:

«يا مبرور».

و كان في المجلس من الأزد سبع مائة،فوثبوا إليه،و أنقذوه من أيدي الجلاوزة و جاؤوا به إلى منزله،و قال له عبد الرحمن بن مخنف الأزدي منددا به:

«ويح غيرك لقد أهلكت نفسك و عشيرتك».

و التاع ابن زياد،و اضطرب،فقد فتح عليه عبد الله باب المعارضة و أطاح بهيبة الحكم،ثم نزل من المنبر مغضبا و دخل القصر و تسابق الأشراف و العرفاء إليه فقال:

«أما رأيتم ما صنع هؤلاء».

ص: 86

«نعم».

و أصدر أوامره إلى أهل اليمن،و إلى من كان معه بإلقاء القبض على ابن عفيف، و أشار عليه عمرو بن الحجاج بحبس كل من كان في المسجد من الأزد فحبسوا،ثم التحم أهل اليمن مع الأزد التحاما شديدا،و جرت بينهم أعنف المعارك،فقال ابن زياد لبعض شرطه انطلق،و انظر ما بينهم فخف إليهم فرأى الحرب قائمة،فقالوا له:

«قل للأمير:إنك لم تبعثنا إلى نبط الجزيرة،و لا جرامقة الموصل إنما بعثتنا إلى الأزد اسود الأجم ليسوا بيضة تحس،و لا حرملة توطأ..».

و قتل من الأزد عبد الله بن حوزة الوالبي،و محمد بن حبيب،و كثرت القتلى من الجانبين إلا أن اليمانية قد قويت على الأزد فصاروا إلى حصن في ظهر دار ابن عفيف فكسروه،و اقتحموه،و هجموا عليه فبقي وحده فناولته ابنته سيفا فجعل يذب به عن نفسه و هو يرتجز و يقول:

أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر عفيف شيخي و ابن أم عامر

كم دارع من جمعكم و حاسر و بطل جندلته مغاور

و كانت ابنته تخاطبه بذرب روحها قائلة:

«ليتني كنت رجلا أذب بين يديك هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة».

و أخذت ابنته تدله على المحاربين له فتقول له:«يا أبت أتاك القوم من جهة كذا» و تكاثروا عليه،و أحاطوا به من كل جانب،فألقوا القبض عليه،و انطلقوا به إلى ابن زياد و هو يقول في طريقه:

أقسم لو يفسح لي عن بصري شق عليكم موردي و مصدري

و لما مثل بين يدي الطاغية أسرع الخبيث إليه قائلا:

«الحمد لله الذي أخزاك».

فأجابه ابن عفيف ساخرا منه و محتقرا له:

«بماذا أخزاني؟».

ص: 87

و أراد ابن مرجانة أن يستحل دمه فسأله عن عثمان لعله أن ينتقصه فيتخذ من ذلك وسيلة إلى إباحة دمه فقال له:

«ما تقول في عثمان؟».

و سدد له البطل العظيم سهاما من منطقه الفياض فقال له:

«ما أنت و عثمان أساء أم أحسن،أصلح أم أفسد،إن الله تعالى ولي خلقه يقضي بينهم و بين عثمان بالعدل و الحق،و لكن سلني عن أبيك و عنك،و عن يزيد و أبيه».

و رأى الطاغية أنه أمام بطل صعب المراس،فقال له:

«لا سألتك عن شي،أو تذوق الموت غصة بعد غصة».

و انبرى إليه ابن عفيف قائلا:

«الحمد لله رب العالمين،أما أني كنت أسأل ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك،و سألت الله أن يجعلها على يدي ألعن خلقه،و أبغضهم إليه،و لما كف بصري يئست من الشهادة أما الآن و الحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس،و عرفني الإجابة في قديم دعائي».

و التاع الخبيث فأمر جلاديه بضرب عنقه،و صلبه بالسبخة ففعلوا ذلك.

و انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي وهب حياته لله،فقاوم المنكر و ناهض الجور،و قال كلمة الحق في أحلك الظروف و أقساها.

العفو عن ابن معقل

كان ابن معقل من المشتركين في ثورة ابن عفيف«فجي به مخفورا إلى ابن زياد فأصدر أمرا بالعفو عنه،و قال له:قد تركناك لابن عمك سفين بن عوف فإنه خير منك.

ص: 88

إلقاء القبض على جندب

و أمر الطاغية بإلقاء القبض على جندب بن عبد الله الأزدي،و هو من أسرة عبد الله بن عفيف و كان من خيار الشيعة و من أصحاب الإمام أمير المؤمنين و جاءت به الشرطة مخفورا فلما مثل عنده صاح به.

«ألست صاحب أبي تراب في صفين؟».

فلم يحفل به البطل العظيم و قال له:

«نعم،و اني لأحبه،و أفتخر به،و أمقتك و أباك،لا سيما الآن،و قد قتلت سبط رسول الله و صحبه و أهله،و لم تخف من العزيز الجبار المنتقم..».

و ثار ابن مرجانة،و قال له:

«إنك لأقل حياء من ذلك الأعمى-يعني ابن عفيف-و إني ما أراني إلا متقربا إلى الله بدمك».

«إذا لا يقربك الله».

و خاف الطاغية من أسرته فخلى عنه،و قال:إنه شيخ ذهب عقله و خرف.

الطاغية مع قيس

و حضر قيس بن عباد في مجلس الطاغية،فقال له أمام جلاوزته:

«ما تقول فيّ و في الحسين؟»

«اعفني..».

«لتقولن»:

«يجي أبوه يوم القيامة فيشفع له،و يجي أبوك فيشفع لك»و استشاط ابن زياد

ص: 89

غضبا فصاح به:

«قد علمت غشك و خبثك،لئن فارقتني يوما لأضعن بالأرض أكثرك شعرا».

و فرض عليه الرقابة و الإقامة الجبرية في الكوفة.

تقوير الرأس الشريف

و أمر سليل الخيانة و الغدر ابن مرجانة بتقوير رأس الإمام عليه السّلام فتحاماه الناس، و لم يجسر أحد إلى الإقدام عليه سوى طارق بن مبارك فأخذ الرأس الشريف و مثل به و قطع منه بعض الأجزاء فقام عمرو بن حريث فقال لابن زياد:

«قد بلغت حاجتك من هذا الرأس،فهب لي ما ألقيت منه».

«و ما تصنع به؟».

«أواريه».

فسمح له بذلك فأخذ القطع من رأس الإمام و لفها في خرقة و دفنها في داره التي تعرف بدار عمرو بن حريث.

الطواف بالرأس العظيم

و أمر ابن مرجانة أن يطاف برأس الإمام في جميع شوارع الكوفة و أزقتها و كان المنادي ينادي.و قد أراد بذلك إعلان النصر و إذلال شيعة الإمام،و لم يدر في خلده انه قد أوسع المجال بذلك لنشر دعوة الإمام و إتمام رسالته،فقد كان رأس الإمام يوحي للمسلمين كيف يجب أن تعلو كلمة الحق،و كيف تصان رسالة الإسلام.

و على أي حال فقد طيف برأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله أمام أولئك الذين يدعون الإسلام و لم يهبوا للأخذ بثأره،يقول دعبل الخزاعي:

ص: 90

رأس ابن بنت محمد و وصيه يا للرجال على قناة يرفع

و المسلمون بمنظر و بمسمع لا جازع من ذا و لا متخشع

لقد تخدر المسلمون بشكل رهيب ففقدوا ذاتياتهم،و أصبحوا أعصابا رخوة خالية من الشعور و الإحساس.

حبس عقائل الوحي

و أمر الطاغية ابن مرجانة بحبس عقائل الوحي و مخدرات الرسالة،و لما جي بهن إلى السجن كانت الشوارع مكتظة بالرجال و النساء،و هن يضربن الوجوه و يبكين أمرّ البكاء-حسبما يقول الإمام زين العابدين-و أدخلت بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله إلى السجن و قد ضيق عليهن أشد التضييق،و قد رفضت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله أن تقابلها أي امرأة حرة و قالت:

«لا تدخل علينا إلا أم ولد أو مملوكة فإنهن سبين و قد سبينا».

و ألقي على بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه أن البريد قد سار بأمركم إلى يزيد،فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالهلاك و ان لم تسمعوا بالتكبير فهو الأمان،و حددوا لمجي الكتاب وقتا،و ذعرت النساء كأشد ما يكون الذعر،و قبل قدوم البريد بيومين ألقي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه«أوصوا و اعهدوا فقد قارب وصول البريد»و بعد انتهاء المدة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى إلى دمشق و تنص بعض المصادر أن يزيد كان عازما على استئصال جميع نسل الإمام أمير المؤمنين إلا انه بعد ذلك عدل عن نيته و عفا عنهم.

اختطاف علي بن الحسين عليه السلام

و اختطف بعض الكوفيين الإمام زين العابدين و أخفاه في داره،و جعل يكرمه

ص: 91

و يحسن إليه،و كان كلما دخل عليه يجهش بالبكاء فظن الإمام به خيرا إلا أنه لم تمض إلا فترة يسيرة من الزمن حتى نادى منادي ابن زياد من وجد علي بن الحسين و أتى به فله ثلاث مائة درهم فلما سمعه الكوفي أسرع إلى الإمام فجعل في عنقه حبلا و ربط يديه بالحبل و سلمه إليهم و أخذ الدراهم.و هذه البادرة الغريبة تعطينا صورة عن مدى تهالك ذلك المجتمع على المادة و تفانيه في الحصول عليها بأي طريق كان.

ندم ابن سعد

و ندم الخبيث الدنس عمر بن سعد كأشد ما يكون الندم على اقترافه لتلك الجريمة النكراء و قد سأله بعض خواصه عند رجوعه من كربلاء عن حاله فقال:

«ما رجع أحد إلى أهله بشر مما رجعت به أطعت الفاجر الظالم ابن زياد، و عصيت الحكم العدل،و قطعت القرابة الشريفة و ارتكبت الأمر العظيم».

و ماذا يفيده الندم بعد ما سفك دماء العترة الطاهرة،و قطع أواصر القربى التي أمر الله بمودتها.

ابن زياد يطالب ابن سعد بالكتاب

و تعرض ابن زياد لحملة انتقادية واسعة النطاق من جميع الأوساط،و قد رام أن يجعل تبعة ذلك على ابن سعد فهو المسؤول عن اقتراف هذه الجريمة دونه،فبعث خلفه و قال له:

-علي بالكتاب.

-مضيت لأمرك وضاع الكتاب.

ص: 92

-لتجئني به.

-بعثته و الله ليقرأ على عجائز قريش اعتذارا إليهن،أما و الله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه و كان في المجلس عثمان بن زياد فقال لأخيه عبيد الله:

«صدق و الله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا و في أنفه خزامة إلى يوم القيامة و ان الحسين لم يقتل».

و سكت الطاغية و لم يجبه بشي أما الكتاب الذي بعثه ابن سعد إلى يثرب ليتقي به اللعنات التي تنصب عليه،و يحمل الذنب على أميره و سيده ابن مرجانة فهذا نصه:

«من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد،أما بعد:فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه،و لا لتطاوله و لا لتمنيه السلامة و البقاء،و لا لتقعد له عندي شافعا،انظر فإن نزل حسين و أصحابه على حكمي و استسلموا فابعث بهم إلي سلما،و إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم،و تمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون،فإن قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره و ظهره فإنه عاق شاق قاطع ظلوم..فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع،و إن أنت أبيت فاعتزل عملنا و جندنا،و خلّ بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا».

التنديد بابن زياد

اشارة

و ندد بالطاغية بقتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله القريب و البعيد و فيما يلي بعضهم:

1-مرجانة

و سخطت مرجانة على ولدها الباغي الأثيم على اقترافه لهذه الجريمة النكراء فقالت له:

ص: 93

«يا خبيث قتلت ابن رسول الله،و الله لا رأيت وجه الله أبدا».

2-عثمان بن زياد

و أنكر على الطاغية أخوه عثمان بن زياد و قال له:«و الله لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا و في أنفه خزامة إلى يوم القيامة و ان الحسين لم يقتل».

3-معقل بن يسار

و ممن نقم على ابن مرجانة معقل بن يسار فقد انتقده انتقادا لاذعا،و ندد به و هجره.

لقد كان قتل الإمام من الأحداث الجسام التي اهتز من هولها العالم الإسلامي، و قد استعظمه المسلمون كأشد ما يكون الاستعظام،فقد انتهكت فيه حرمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله التي هي أولى بالرعاية و العطف من كل شيء.

الانكار على ابن سعد:

و أنكر الناس على ابن سعد جريمته النكراء،فبغضوه و نبذوه،و كان كلما مر على ملأ من الناس لعنوه و إذا دخل الجامع خرجوا منه.

الاستياء الشامل:

و أحدث قتل الإمام استياء شاملا في جميع الأوساط،يقول الحصين بن عبد الرحمن السلمي لما جاءنا قتل الحسين مكثنا ثلاثة أيام كأن وجوهنا قد طليت

ص: 94

رمادا.

و يقول هبيرة بن خزيمة:أخبرت الربيع بن خثيم بقتل الحسين فتغير و قرأ قوله تعالى: اَللّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثم قال:

«لقد قتلوا فتية لو رآهم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لأحبهم و أطعمهم بيده و أجلسهم على فخذه».

و أخبر الحسن البصري بقتل الحسين فبكى حتى اختلج جنباه و قال:«و اذلاه لأمة قتل ابن دعيها-يعني ابن مرجانة-ابن نبيها و الله لينتقمن له جده و أبوه من ابن مرجانة»و قال عمرو بن بعجة:

«أول ذل دخل على العرب قتل الحسين و ادعاء زياد».

لقد التاع المسلمون كأشد ما يكون الالتياع حزنا و ألما على قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و بكوا أمر البكاء فكان الإمام الشافعي يبكي أشد البكاء و يتلو هذه الأبيات:

تأوب همي و الفؤاد كئيب و أرق عيني و الرقاد غريب

و مما نفى نومي و شيب لمتي تصاريف أيام لهن خطوب

تزلزلت الدنيا لآل محمد و كادت لها صم الجبال تذوب

فمن مبلغ عني الحسين رسالة و ان كرهتها أنفس و قلوب

قتيل بلا جرم كأن قميصه صبيغ بماء الأرجوان خضيب

صلي على المختار من آل هاشم و تنزى بنيه ان ذا لعجيب

لئن كان ذنبي حب آل محمد فذلك ذنب لست منه أتوب

هم شفعائي يوم حشري و موقفي و حبهم للشافعي ذنوب

و قد اجتاز الشاعر ابن الهبارية بكربلاء فجعل يبكي على الحسين و أهله و نظم هذه الأبيات:

أحسين و المبعوث جدك بالهدى قسما يكون الحق عنه مسائلي

ص: 95

لو كنت شاهد كربلاء لبذلت في تنفيس كربك جهد بذل الباذل

و سقيت حد السيف من أعدائكم عللا وحد السمهري الذابل

لكنني أخرت عنك لشقوتي فبلابلي بين الغري و بابل

هبني حرمت النصر من أعدائكم فاقل من حزن و دمعي سائل

يقول المؤرخون إنه نام في مكانه فرأى رسول الله صلّى اللّه عليه و اله في منامه و قال له:جزاك الله عني خيرا فابشر فإن الله قد كتبك ممن جاهد بين يدي الحسين.

ص: 96

ندم أهل الكوفة

اشارة

و ندم أهل الكوفة كأشد ما يكون الندم ألما و حزنا على ما اقترفوه من عظيم الإثم،فهم الذين ألحوا على الإمام بوفودهم و رسائلهم بالقدوم إليهم فلما وافاهم خذلوه و قتلوه،و ممن أظهر الندم منهم:

1-البراء بن عازب

و ندم على تركه لنصرة الإمام البراء بن عازب،فقد قال له الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

«أيقتل الحسين و أنت حي فلا تنصره؟»

«لا كان ذلك يا أمير المؤمنين».

و لما قتل الإمام كان البراء يذكر قول الإمام له و هو يتحسر و يقول:أعظم بها حسرة إذ لم أشهده و لم أقتل دونه.

2-المسيب بن نجبة

و كان المسيب بن نجبة من أشد الناس حسرة على عدم شهادته بين يدي ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله،و قد أعلن ندمه في خطابه الذي ألقاه على جموع التوابين فقد جاء فيه:

ص: 97

«فقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا فوجدنا الله كاذبين في كل موطن من مواطن ابن بنت نبيه صلّى اللّه عليه و آله و قد بلغنا قبل ذلك كتبه و رسله،و أعذر إلينا،فسألنا نصره عودا و بدءا و علانية،فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا،لا نحن نصرناه بأيدينا و لا جادلنا عنه بألسنتنا،و لا قويناه بأموالنا و لا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا فما عذرنا عند ربنا،و عند لقاء نبينا،و قد قتل فينا ولد حبيبه و نسله،لا و الله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله و المؤلبين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك و لا أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن».

و قد صورت هذه الكلمات مدى الأسى و الحزن في نفس المسيب على ما فاته من شرف التضحية مع الإمام.

3-سليمان بن صرد

و ممن حزن أعمق الحزن على تركه لنصرة الإمام سليمان بن صرد فقد أخذ الألم يحز في نفسه و قد خطب في أصحابه من التوابين و قال في جملة خطابه:

«إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل بيت نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله نمنيهم النصر و نحثهم على القدوم لما قدموا و نينا و عجزنا و أدهنا و تربصنا حتى قتل فينا ولد نبينا و سلالته و عصارته،و بضعة من لحمه و دمه،إذ جعل يستصرخ و يسأل النصف فلا يعطى اتخذه الفاسقون غرضا للنبل و دريئة للرماح حتى اقصدوه و عدوا عليه فسلبوه».

4-عبد الله بن الحر

و من أشد النادمين حسرة و أعظمهم أسى عبد الله بن الحر الجعفي الذي قصده الإمام و طلب منه النصرة فبخل بنفسه،و قد أخذته خلجات حادة من تأنيب الضمير

ص: 98

على تركه لنصرته،و قد نظم أساه و حزنه بهذه الأبيات:

فيا لك حسرة ما دمت حيا تردد بين صدري و التراقي

غداة يقول لي بالقصر قولا أتتركنا و تزمع بالفراق

حسين حين يطلب بذل نصري على أهل العداوة و الشقاق

فلو فلق التلهف قلب حر لهمّ اليوم قلبي بانفلاق

و لو واسيته يوما بنفسي لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن محمد تفديه نفسي فودع ثم أسرع بانطلاق

لقد فاز الألى نصروا حسينا و خاب الآخرون ذو و النفاق

و قد صور ابن الحر في شعره ما تفيض به نفسه من الألم العميق فهو ما دام حيا تحز في نفسه الحسرات على ما فاته من شرف الشهادة بين يدي ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و انه لو نصره لفاز بالجنان،كما عرض لغبطته لأصحاب الحسين الذين فدوه بنفوسهم فقد ظفروا بالأجر الجزيل و المقام العظيم عند الله.

هؤلاء بعض النادمين على تركهم لنصرة الإمام عليه السّلام و عدم فوزهم بالشهادة بين يديه و حينما أتيحت الفرصة ثاروا مع التوابين في الكوفة (1).3.

ص: 99


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:248/3.

الهجرة من الكوفة

و كره سكنى الكوفة بعض الأخيار من المتحرجين في دينهم بعد ما عمد أهلها إلى قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و كان من بينهم عبد الرحمن القضاعي،فقد هجر الكوفة و سكن البصرة و قال:لا أسكن بلدا قتل فيه ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله.لقد أثارت مذبحة كربلاء موجة عاتية من الهلع و الجزع في جميع أوساط الكوفة، و استبان لأهلها عظم الجريمة التي اقترفوها،و بهذا ينتهي بنا الحديث عن دخول سبايا أهل البيت إلى الكوفة و ما رافق ذلك من الأحداث.

سبايا آل الرسول عليهم السلام في دمشق

اشارة

و عانت عقائل الوحي و مخدرات الرسالة جميع ضروب المحن و البلاء في تلك الأيام السود التي مرّت عليهن في الكوفة،فقد عانين مرارة الاعتقال في السجن و شماتة الأعداء و ذل الأسر في بلد كانت موطنا لشيعتهم و مركزا لدعوتهم،و كن في حالة مشجية تذوب من هولها النفوس...و نعرض إلى سير الأحداث الأليمة التي جرت عليهن حينما أرسلن إلى دمشق. (1)

ص: 100


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:250/3.

تسيير الرؤوس

و أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس العترة الطاهرة إلى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة لتمتلى قلوب الناس فزعا و خوفا من بني أمية و ليكونوا عبرة لكل من تحدثه نفسه بالخروج عليهم،و قد سيرت مع زجر بن قيس الجعفي و أبي بردة بن عوف الأزدي،و طارق بن ظبيان الأزدي.

تسريح العائلة النبوية

و سرحت عائلة آل النبي صلّى اللّه عليه و آله مع محفر بن ثعلبة من عائذة قريش و شمر بن ذي الجوشن،و قد أوثقت بالحبال،و أركبت على أقتاب الجمال و هن بحالة تقشعر منها الأبدان،يقول عبد الباسط الفاخوري:

«ثم إن عبيد الله جهز الرأس الشريف و علي بن الحسين و من معه من حرمه بحالة تقشعر منها و من ذكرها الأبدان و ترتعد منها مفاصل الإنسان بل فرائص الحيوان».

تشييع أهل الكوفة للأسرى

و خرجت الكوفة بجميع طبقاتها لتوديع ركب أهل البيت و هم ما بين باك و نائح و قد غصت طرق الكوفة بالناس و هم يبكون عامة الليل،فلم تتمكن القافلة أن تسير من كثرة الزحام فاستغرب الإمام زين العابدين عليه السّلام منهم و راح يقول:«هؤلاء قتلونا و يبكون علينا!!».

و عجت نساء همدان بالبكاء و النياحة و علا منهن الصراخ و العويل و أمر شمر

ص: 101

بن ذي الجوشن أن يغل الإمام زين العابدين بغل في عنقه فغل و انطلقوا بالأسرى حتى التحقوا بالقافلة التي معها الرؤوس،و لم يتكلم الإمام زين العابدين مع الجفاة بكلمة واحدة،و لا طلب منهم أي شيء طيلة الطريق و سارت القافلة لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى القرب من دمشق فأقيمت هناك حتى تتزين البلد بمظهر الزهو و الأفراح.

تزيين الشام

قال السيد القرشي:و أمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية و شبه الرسمية و المحلات العامة و الخاصة بإظهار الزينة و الفرح للنصر الذي أحرزته في قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سبي ذريته،و يصف بعض المؤرخين تلك الزينة بقوله:

«و لما بلغوا-أي أسارى أهل البيت-ما دون دمشق بأربعة فراسخ،استقبلهم أهل الشام و هم ينثرون النثار فرحا و سرورا حتى بلغوا بهم قريب للبلد فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام و حبسوهم هناك حتى تتوفر زينة الشام،و تزويقها بالحلي و الحلل و الحرير و الديباج و الفضة و الذهب،و أنواع الجواهر على صفة لم ير الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم و لا بعده،ثم خرجت الرجال و النساء و الأصاغر و الأكابر و الوزراء و الأمراء و اليهود و المجوس و النصارى،و سائر الملل إلى التفرج و معهم الطبول و الدفوف و البوقات و المزامير،و سائر الآلات اللهو و الطرب،و قد كحلوا العيون و خضبوا الأيدي،و لبسوا أفخر الملابس و تزينوا أحسن الزينة و لم ير الراؤون أشد احتفالا و لا أكثر اجتماعا منه،حتى كأن الناس كلهم قد حشروا جميعا في صعيد دمشق».

لقد أظهر ذلك المجتمع الذي تربى على بغض أهل البيت جميع ألوان السرور و الفرح بما أصابهم من القتل و السبي و جي بالرأس العظيم وسط هالة من التهليل

ص: 102

و التكبير على هذا النصر الذي أحرزه حفيد أبي سفيان و كان خالد بن صفوان أو غفران في دمشق حينما أتي برأس الإمام فأظهر الجزع و البكاء و اختفى عن الناس لئلا تقبض عليه عيون بني أمية،و هو يقول:

جاءوا برأسك يا بن بنت محمد متزملا بدمائه تزميلا

و كأنما بك يابن بنت محمد قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا و لم يترقبوا في قتلك التأويل و التنزيلا

و يكبرون بأن قتلت و إنما قتلوا بك التكبير و التهليلا

و يقول سهل بن سعد:خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقت عليها الحجب و الديباج و الناس فرحون مستبشرون و عندهم نساء يلعبن بالدفوف و الطبول فقلت في نفسي:إن لأهل الشام عيدا لا نعرفه فرأيت قوما يتحدثون فقلت لهم:

«ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟».

«نراك يا شيخ غريبا».

«أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله».

«يا سهل ما أعجبك أن السماء لا تمطر دما و الأرض لا تنخسف بأهلها!!».

«و ما ذاك؟».

«هذا رأس الحسين يهدى من أرض العراق!!».

«وا عجبا يهدى رأس الحسين و الناس يفرحون من أي باب يدخل».

و أشاروا إلى باب الساعات،فأسرع سهل إليها،و بينما هو واقف و إذا بالرايات يتبع بعضها بعضا،و إذا بفارس بيده لواء منزوع السنان،و عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و هو رأس ريحانته الحسين،و خلفه السبايا محمولة على جمال بغير و طاء،و بادر سهل إلى إحدى النسوة فسألها:

-من أنت؟

ص: 103

-أنا سكينة بنت الحسين.

-ألك حاجة؟فأنا سهل صاحب جدك رسول الله صلّى اللّه عليه و آله.

-قل لصاحب هذا الرأس أن يقدمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه،و لا ينظرون إلى حرم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله.

و أسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم فباعد الرأس عن النساء.

و في مقتل الخوارزمي عن سهل بن سعد قال:خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقوا الستور و الحجب و الديباج،و هم فرحون مستبشرون،و عندهم نساء يلعبن بالدفوف و الطبول،فقلت في نفسي:لعل لأهل الشام عيدا لا نعرفه نحن،فرأيت قوما يتحدثون.

فقلت:يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟!قالوا:يا شيخ نراك غريبا!

فقلت:أنا سهل بن سعد،قد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حملت حديثه.

فقالوا:يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دما!و الأرض لا تخسف بأهلها!

قلت:و لم ذاك؟فقالوا هذا رأس الحسين عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يهدى من أرض العراق إلى الشام و سيأتي الان.

قلت:وا عجبا ايهدى رأس الحسين و الناس يفرحون؟!فمن أيّ باب يدخل؟

فأشاروا إلى باب يقال له:باب الساعات،فسرت نحو الباب،فبينما أنا هنالك،إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضا،و إذا أنا بفارس بيده رمح منزوع السنان،و عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول اللّه،و إذا بنسوة من ورائه على جمال بغير وطاء (1).1.

ص: 104


1- مقتل الخوارزمي 60/2-61.

اخبار الخليفة يزيد بقتل الحسين عليه السلام

روى الطبري بسنده و قال:لما قتل الحسين و جئ بالاثقال و الأسارى حتى وردوا بهم الكوفة إلى عبيد اللّه فبينا القوم محتبسون،إذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط و في الكتاب خرج البريد بأمركم في يوم كذا و كذا إلى يزيد بن معاوية و هو سائر كذا و كذا يوما،و راجع في كذا و كذا،فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، و ان لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إن شاء اللّه،قال:فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي في السجن،و معه كتاب مربوط و موسى،و في الكتاب أوصوا و أعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا و كذا،فجاء البريد و لم يسمع التكبير،و جاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي (1).

ارسال أسارى آل البيت عليه السلام إلى عاصمة الخلافة بالشام

روى الطبري أيضا و قال:إن عبيد اللّه أمر بنساء الحسين و صبيانه فجهزن و أمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه،ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي عائذة قريش،و مع شمر بن ذي الجوشن،فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد،فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا.

و في فتوح ابن أعثم،قال:دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي،فسلم إليه رأس الحسين بن علي رضي اللّه عنهما،و رؤوس اخوته و رأس علي بن الحسين و رؤوس أهل بيته و شيعته،رضي اللّه عنهم أجمعين.

ص: 105


1- معالم المدرستين للعسكري:154/3.

و دعا علي بن الحسين(أيضا-)فحمله و حمل أخواته و عماته و جميع نسائهم إلى يزيد بن معاوية،قال:فسار القوم بحرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد،و من منزل إلى منزل،كما تساق أسارى الترك و الديلم (1).

استقبال خليفة المسلمين رؤوس آل رسول اللّه عليه السلام و أنصارهم

في تذكرة سبط ابن الجوزي،روى عن الزهري،قال:لما جاءت الرؤوس كان يزيد في منظرة على ربا جيرون فأنشد لنفسه:

لما بدت تلك الحمول و أشرقت تلك الشموس على ربا جيرون

نعب الغراب فقلت صح أولا تصح فلقد قضيت من الغريم ديوني (2)

حاجة أم كلثوم إلى شمر:

في مثير الأحزان و اللهوف،أنهم لما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر و قالت له:-لي إليك حاجة.

فقال:ما حاجتك؟قالت:إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة،و تقدم إليهم ان يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل و ينحونا عنها،فقد خزينا من كثرة النظر إلينا و نحن في مثل هذه الحال.

فأمر في جواب سؤالها ان يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل و سلك بهم بين النظارة حتى أتى بهم باب دمشق (3).

ص: 106


1- فتوح ابن أعثم 236/5 و قريب منه نص الطبري ط اروبا 374/2-375.
2- تذكرة الخواص 148/2 و جيرون كان خارج دمشق راجع مادة جيرون من معجم البلدان.
3- مثير الأحزان ص 77،اللهوف ص 67.

حاجة سكينة

قال سهل:فدنوت من إحداهن فقلت:يا جارية من أنت؟فقالت:سكينة بنت الحسين.

فقلت لها:ألك حاجة إلي؟فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك و سمع حديثه.

قالت:يا سهل قل لصاحب الرأس:أن يتقدم بالرأس امامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا!فنحن حرم رسول اللّه،قال:فدنوت من صاحب الرأس و قلت له:هل لك أن تقضي حاجتي و تأخذ مني أربعمائة دينار؟!

قال:و ما هي؟

قلت:تقدم الرأس أمام الحرم،ففعل ذلك و دفعت له ما وعدته (1).

الشامي مع زين العابدين

قال السيد القرشي:و انبرى شيخ قد ضللته الدعايات الكاذبة فأخذ يشق الصفوف الحاشدة حتى انتهى إلى الإمام زين العابدين فرفع عقيرته قائلا:

«الحمد لله الذي أهلككم و أمكن الأمير منكم».

و بصر به الإمام فرآه مخدوعا قد خفي عليه الحق فقال له:

-يا شيخ قرأت القرآن؟

-بلى.

-أقرأت قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و قوله تعالى:

ص: 107


1- مقتل الخوارزمي 60/2-61.

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ و قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (1)و تهافت الشيخ فقال بصوت خافت:«نعم قرأت ذلك».

قال له الإمام:نحن و الله القربى في هذه الآيات،يا شيخ أقرأت قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

«بلى.»

«نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير».

و سرت الرعدة في أوصال الشيخ و جمد دمه،و قال للإمام بنبرات مرتعشة:

«بالله عليكم أنتم هم؟».

«و حق جدنا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله إنا لنحن هم من غير شك».

و ود الشيخ أن الأرض قد وارته،و لم يقل تلك الكلمات القاسية و ألقى بنفسه على الإمام و هو يوسع يديه تقبيلا،و دموعه تجري على سحنات وجهه قائلا:

«أبرأ إلى الله ممن قتلكم».

و طلب الشيخ من الإمام أن يمنحه العفو و الرضا فعفا عنه و كانت الأكثرية الساحقة من أهل الشام على غرار هذا الشيخ قد ضللتهم الدعاية الأموية،و حجبتهم عن معرفة أهل البيت عليهم السلام (2).

و روى ابن أعثم و غيره (3)و اللفظ لابن أعثم،قال:و أتي بحرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آلهق.

ص: 108


1- الأنفال:41.
2- حياة الإمام الحسين للقرشي:253/3.
3- في تاريخ ابن أعثم ج 242/5-243،و أوردها الطبري متفرقة في تفسير الآيات بتفسيره و بعضه بتفسير ابن كثير 112/4،و مقتل الخوارزمي 61/2،و يختلف سياق اللهوف ص 67، و أمالي الصدوق ص 116 مع هذا السياق. كان باب توما في الشمال الشرقي من مدينة دمشق،راجع الخريطة الملحقة بالمجلدة الثانية من تأريخ دمشق.

حتى أدخلوا مدينة دمشق من باب يقال له:باب توما،ثم أتي بهم حتى وقفوا على درج باب المسجد حيث يقام السبي و إذا شيخ قد اقبل حتى دنا منهم و قال:الحمد للّه الذي قتلكم و أهلككم و أراح الرجال من سطوتكم و أمكن أمير المؤمنين منكم!

فقال له علي بن الحسين:يا شيخ هل قرأت القرآن؟فقال:نعم قد قرأته،قال:

فعرفت هذا الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1).

قال الشيخ:قد قرأت ذلك،قال علي بن الحسين رضي اللّه عنه:فنحن القربى يا شيخ قال:فهل قرأت في سورة بني إسرائيل وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (2)

قال الشيخ:قد قرأت ذلك،قال علي رضي اللّه عنه:نحن القربى يا شيخ،و لكن هل قرأت هذه الآية وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (3).

قال الشيخ:قد قرأت ذلك،قال علي (4):فنحن ذو القربى يا شيخ و لكن هل قرأت هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (5).

قال الشيخ:قد قرأت ذلك.

قال علي عليه السّلام:فنحن أهل البيت الذين خصصنا بآية التطهير.

قال:فبقي الشيخ ساعة ساكتا نادما على ما تكلمه ثم رفع رأسه إلى السماء و قال:اللهم إني تائب إليك مما تكلمته و من بغض هؤلاء القوم،اللهم إني أبرأ إليك من عدو محمد و آل محمد من الجن و الإنس.3.

ص: 109


1- سورة الشورى آية 23.
2- سورة الإسراء الآية 26.
3- سورة الأنفال الآية 41.
4- هكذا ورد في النسخة.
5- سورة الأحزاب 33.

سرور يزيد

و غمرت الأفراح و المسرات يزيد حينما و افاه النبأ بمقتل الإمام و كان في بستانه الخضراء فكبر تكبيرة عظيمة و لما جي بالسبايا كان مطلا على منظر في جيرون، فلما نظر إلى السبايا و الرؤوس قد وضعت على الحراب امتلأ سرورا و راح يقول:

لما بدت تلك الحمول و أشرفت تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت:قل أو لا تقل فلقد قضيت من الرسول ديوني

لقد روى حفيد أبي سفيان أحقاده و استوفى ثأره من ابن فاتح مكة و محطم أوثان قريش فقد قتل العترة الطاهرة و سبى ذراريها تشفيا و انتقاما من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

رأس الإمام بين يدي يزيد

و حمل محفر بن ثعلبة العائذي و شمر بن ذي الجوشن رأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله هدية إلى الفاجر يزيد بن معاوية،و لما انتهيا إلى البلاط الأموي رفع محفر عقيرته ليسمعه يزيد قائلا:

«جئنا برأس أحمق الناس و ألأمهم».

فأنكر عليه يزيد ورد عليه:

«ما ولدت أم محفر ألأم و أحمق،و لكنه قاطع ظلوم».

و أذن يزيد للناس اذنا عاما ليظهر لهم أنه قهر آل النبي صلّى اللّه عليه و آله و ازدحم أهل الشام على القصر و هم يعلنون فرحتهم الكبرى،و يهنؤنه بهذا النصر الكاذب و وضع رأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله بين يدي سليل الخيانة و الإجرام فجعل ينكت بمخصرته ثغره الذي طالما كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يترشفه،و جعل يقول متشفيا و شامتا:

ص: 110

«قد لقيت بغيك يا حسين».

ثم التفت إلى من كان معه فقال لهم:«ما كنت أظن أبا عبد الله قد بلغ هذا السن، و إذا لحيته و رأسه قد نصلا من الخضاب الأسود»و تأمل في وجه الإمام فغمرته هيبته فطفق يقول:

«ما رأيت مثل هذا الوجه حسنا قط!!».

و راح يوسع ثغر الإمام بالضرب و هو يقول:إن هذا و إيانا كما قال الحصين بن الحمام:

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواضب في ايماننا تقطر الدما

يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلما

و لم يتم كلامه حتى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي فقال له:

«أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذا لقد رأيت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله يرشفه،أما إنك يا يزيد تجي يوم القيامة و ابن زياد شفيعك،و يجي هذا و محمد صلّى اللّه عليه و آله شفيعه».

ثم قام منصرفا و اندفع يحيى بن الحكم متأثرا و هو يقول:

لهام بجنب الطف أدنى قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

أمية أمسى نسلها عدد الحصى و بنت رسول الله ليس لها نسل

فالتاع الطاغية منه و دفع في صدره،و قال له:اسكت لا أم لك لقد تأثر كل من يملك ضميرا حيا من المصائب الأليمة التي صبها الطاغية على آل البيت (1).

و في فتوح ابن أعثم و غيره و اللفظ لابن أعثم،قال:وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية في طست من ذهب،فدعا بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا3.

ص: 111


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:254/3.

الحسين،و هو يقول:لقد كان أبو عبد اللّه حسن الثغر (1).

قال الطبري و غيره و اللفظ للطبري:فقال رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقال له أبو برزة الأسلمي:أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين!أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا لربما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرشفه!أما انك يا يزيد تجئ يوم القيامة و ابن زياد شفيعك!و يجئ هذا يوم القيامة و محمد شفيعه!ثم قام فولى.

و في اللهوف عن الإمام زين العابدين عليه السّلام،قال:لما أتي برأس الحسين عليه السّلام إلى يزيد كان يتخذ مجالس الشرب و يأتي برأس الحسين و يضعه بين يديه و يشرب عليه فحضر ذات يوم في مجلسه رسول ملك الروم و كان من أشراف الروم و عظمائهم،فقال يا ملك العرب هذا رأس من؟فقال له يزيد مالك و لهذا الرأس؟ فقال:إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس و صاحبه حتى يشاركك في الفرح و السرور.

فقال يزيد:هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب فقال الرومي:و أمه.

فقال:فاطمة بنت رسول اللّه،فقال النصراني:أف لك و لدينك،لي دين أحسن من دينكم ان أبى من حوافد داود عليه السّلام و بيني و بينه آباء كثيرة و النصارى يعظموني و أنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما بينه و بين نبيكم إلاّ أم واحدة!فأي دين دينكم (2).

نصب الرأس في جامع دمشق

و بعد ما قضى الأثيم و طره من العبث برأس سيد شباب أهل الجنة نصبه في جامع دمشق في المكان الذي نصب فيه رأس يحيى بن زكريا و قد علق ثلاثة أيام.

ص: 112


1- في فتوح ابن أعثم،241/5"المنطق"،و فى غيره"الثغر"كما أثبتناه.
2- اللهوف،ص 69.

رأس الإمام عند نساء يزيد

و بعث الطاغية برأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله إلى نسائه ليظهر مقدرته و زهوه أمامهن،فأخذته عاتكة و طيبته،فأنكر يزيد ذلك و قال:ما هذا؟فقالت له:

«بعثت إلينا برأس عمي شعثا فلممته و طيبته».

ص: 113

السبايا في مجلس يزيد

و سر الطاغية سرورا بالغا بسبايا أهل البيت فأوقفهم موقف السبي بباب المسجد مبالغة في إهانتهم و إذلالهم و عمدت جلاوزته إلى بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سائر الصبية فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين إلى عنق عمته زينب و باقي بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله،و كانوا-فيما يقول المؤرخون-كلما قصروا عن المشي أوسعوهم ضربا بالسياط،و جاؤوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدع من هولها الجبال،و هم يكبرون و يهللون فأوقفوهم بين يدي يزيد فالتفت الإمام زين العابدين فقال له:

«ما ظنك بجدنا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لو يرانا على مثل هذه الحالة؟»فتأثر يزيد و لم يبق أحد في مجلسه إلا بكى و قد تألم الطاغية مما رأى فراح يقول:

«قبح الله ابن مرجانة لو كان بينكم و بينه قرابة لما فعل بكم هذا»ثم أمر بالحبال فقطعت عنهم و التفت إلى علي بن الحسين فقال له:

«إيه يا علي بن الحسين أبوك الذي قطع رحمي،و جهل حقي،و نازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت».

فأجابه شبل الحسين بكل هدوء و طمأنينة بقوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (1).

ص: 114


1- الحديد:22-23.

و تميز الطاغية غضبا و ذهبت نشوة أفراحه،و تلا قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فقال له الإمام:

«هذا في حق من ظلم لا في حق من ظلم».

و زوى الإمام بوجهه عنه و لم يكلمه احتقارا له و استهانة بشأنه (1).

و روى الطبري و قال:جلس يزيد بن معاوية و دعا اشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ثم دعا بعلي بن الحسين و صبيان الحسين و نساءه فأدخلوا عليه و الناس ينظرون.

و روى سبط ابن الجوزي و غيره و قالوا:إن الصبيان و الصبيات من بنات رسول اللّه كانوا موثقين في الحبال (2).

و روى الطبري و غيره قالوا:لما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد،رأس الحسين و أهل بيته و أصحابه قال يزيد:

يفلقن هاما من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلما

فقال يحيى بن الحكم أخو مروان:

لهام بجنب الطف أدنى قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سمية أمسى نسلها عدد الحصى و بنت رسول اللّه ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى و قال:اسكت (3).3.

ص: 115


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:256/3.
2- تذكرة خواص الأمة ص 149،و في اللهوف و مثير الأحزان ص 79 و اللفظ للتذكرة.
3- معالم المدرستين للعسكري:158/3.

خطبة حفيدة رسول اللّه في مجلس الخلافة

اشارة

في مثير الأحزان و اللهوف بعده (1):فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب،فقالت:

الحمد للّه رب العالمين،و صلى اللّه على رسوله و آله أجمعين،صدق اللّه سبحانه حيث يقول: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ.

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض،و آفاق السماء،فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على اللّه هوانا،و بك عليه كرامة،و ان ذلك لعظم خطرك عنده؟فشمخت بأنفك،و نظرت في عطفك،جذلان مسرورا،حين رأيت الدنيا لك مستوسقة،و الأمور متسقة،و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا فمهلا مهلا،أنسيت قول اللّه تعالى:" وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.

أمن العدل يا ابن الطلقاء،تخديرك حرائرك و إماءك،و سوقك بنات رسول اللّه سبايا، قد هتكت ستورهن،و أبديت وجوههن،تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد،و يستشرفهن أهل المناهل و المعاقل،و يتصفح وجوههن القريب و البعيد،و الدني و الشريف،ليس معهن من حماتهن حمي و لا من رجالهن و لي،و كيف يرتجى مراقبة من لفظ فو؟أكباد الأزكياء،و نبت لحمه من دماء الشهداء،و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن،و الإحن و الأضغان،ثم تقول غير متأثم و لا مستعظم:

ص: 116


1- مثير الأحزان ص 80 و اللهوف ص 70.

لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل"

منحنيا على ثنايا أبي عبد اللّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك و كيف لا تقول ذلك،و قد نكأت القرحة،و استأصلت الشأفة،بإراقتك دماء ذرية محمد صلّى اللّه عليه و آله و نجوم الأرض من آل عبد المطلب و تهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن و شيكا موردهم و لتودن أنك شللت و بكمت و لم تكن قلت ما قلت و فعلت ما فعلت.

اللهم خذ لنا بحقنا،و انتقم ممن ظلمنا،و احلل غضبك بمن سفك دماءنا،و قتل حماتنا.

فو اللّه ما فريت إلاّ جلدك،و لا حززت إلاّ لحمك،و لتردن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما تحملت من سفك دماء ذريته و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته،حيث يجمع اللّه شملهم،و يلم شعثهم و يأخذ بحقهم،و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ و حسبك باللّه حاكما،و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله خصيما، و بجبريل ظهيرا،و سيعلم من سول لك و مكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا و أيكم شر مكانا و اضعف جندا،و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك،إني لأستصغر قدرك و استعظم تقريعك،و استكثر توبيخك،و لكن العيون عبرى، و الصدور حرى.

ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب اللّه النجباء،بحزب الشيطان الطلقاء،فهذه الأيدي تنطف من دمائنا،و الأفواه تتحلب من لحومنا و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل،و تعفرها أمهات الفراعل و لئن اتخذتنا مغنما،لتجدنا و شيكا مغرما،حين لا تجد إلاّ ما قدمت يداك و ما ربك بظلام للعبيد،و الى اللّه المشتكى و عليه المعول.

فكد كيدك،واسع سعيك،و ناصب جهدك،فو اللّه لا تمحو ذكرنا،و لا تميت و حينا،و لا يرحض عنك عارها،و هل رأيك إلاّ فند و أيامك إلاّ عدد،و جمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة اللّه على الظالمين.

و الحمد للّه رب العالمين،الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة و لآخرنا بالشهادة

ص: 117

و الرحمة،و نسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب،و يوجب لهم المزيد و يحسن علينا الخلافة،انه رحيم ودود،و حسبنا و نعم الوكيل".

فقال يزيد:

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح (1)

و قال القرشي:و أظهر الطاغية فرحه بإبادته للعترة الطاهرة،فقد حسب أنه قد صفا له الملك و استوسقت له الأمور فأخذ يهز أعطافه جذلان مسرورا،و تمنى حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم و انتقم من النبي صلّى اللّه عليه و آله في ذريته و عترته و راح يترنم بأبيات ابن الزبعري و هو مزهو:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا:يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

لست من خندف إن لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل

و لما سمعت بطلة كربلاء هذه الأبيات التي نمت عن كفره و سروره بقتل عترة النبي صلّى اللّه عليه و آله انتقاما منهم لقتلى بدر و ثبت تزجره،و تطعن كبرياءه،غير حافلة بجبروته و طغيانه،فلم يدركها الهول و الفزع،و إنما كانت مثال الشجاعة فكأنها هي الحاكمة و المنتصرة،و الطاغية هو المخذول و المغلوب على أمره،قالت عليه السّلام:

«الحمد لله رب العالمين،و صلى الله على رسوله و آله أجمعين،صدق الله سبحانه حيث يقول: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (2)أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء،0.

ص: 118


1- انظر معالم المدرستين للعسكري:162/3.
2- الروم:10.

فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا،و بك عليه كرامة،و ان ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك و نظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة و الأمور متسقة و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا،فمهلا مهلا لا تطش جهلا،أنسيت قول الله تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (1).

أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك و إماءك و سوقك بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله سبايا قد هتكت ستورهن و أبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، و يستشرفهن أهل المناهل و المعاقل و يتصفح وجوههن القريب و البعيد،ليس معهن من حماتهن حمي و لا من رجالهن و لي و كيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء،و نبت لحمه من دماء الشهداء،و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن و الإحن و الضغان،ثم تقول غير متأثم و لا مستعظم:

لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا:يا يزيد لا تشل

منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك و كيف لا تقول ذلك؟و قد نكأت القرحة،و استأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد صلّى اللّه عليه و آله و نجوم الأرض من آل عبد المطلب،و تهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن و شيكا موردهم و لتودن أنك شللت و بكمت و لم تكن قلت ما قلت و فعلت ما فعلت اللّهم خذلنا بحقنا،و انتقم ممن ظلمنا و احلل غضبك بمن سفك دماءنا و قتل حماتنا.

فو الله ما فريت إلا جلدك،و لا حززت إلا لحمك،و لتردن على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله بما تحملت من سفك دماء ذريته،و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته،حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم،و يأخذ بحقوقهم:8.

ص: 119


1- آل عمران:178.

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (1) .

و حسبك بالله حاكما،و بمحمد خصيما،و بجبرئيل ظهيرا،و سيعلم من سول لك و مكنك من رقاب المسلمين،بئس للظالمين بدلا و أيكم شر مكانا و أضعف جندا.

و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك أني لأستصغر قدرك،و أستعظم تقريعك، و أستكثر توبيخك،لكن العيون عبرى و الصدور حرى فالعجب كل العجب!!لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء،فهذه الأيدي تنظف من دمائنا و الأفواه تتحلب من لحومنا،و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل و تعفرها أمهات الفراعل و لئن اتخذنا مغنما،لتجدنا و شيكا مغرما،حين لا تجد إلا ما قدمت يداك و ما ربك بظلام للعبيد،و إلى الله المشتكى و عليه المعول.

فكد كيدك،واسع سعيك،و ناصب جهدك،فو الله لا تمحو ذكرنا،و لا تميت و حينا و لا يرخص عنك عارها،و هل رأيك إلا فند و أيامك إلا عدد،و جمعك إلا بدد،يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.

و الحمد لله رب العالمين،الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة و لآخرنا بالشهادة و الرحمة،و نسأل الله أن يكمل لهم الثواب،و يوجب لهم المزيد و يحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود،و حسبنا الله و نعم الوكيل».

و هذا الخطاب أروع خطاب أثر في الإسلام،و هو من متممات النهضة الحسينية الخالدة،فقد دمرت فيه حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله جبروت الطاغية،و ألحقت به الهزيمة و العار،و عرفته أن دعاة الحق لا تنحني جباههم أمام الطغاة و الظالمين،يقول الإمام كاشف الغطاء:

«أتستطيع ريشة أعظم مصور و أبدع ممثل أن يمثل لك حال يزيد و شموخه بأنفه و زهوه بعطفه و سروره و جذله باتساق الأمور،و انتظام الملك و لذة الفتح9.

ص: 120


1- آل عمران:169.

و الظفر و التشفي و الانتقام-بأحسن من ذلك التصوير و التمثيل-و هل في القدرة و الإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجة و البيان و التقريع و التأنيب..و يبلغ ما بلغته سلام الله عليها بتلك الكلمات و هي على الحال الذي عرفت ثم لم تقتنع منه بذلك حتى أرادت أن تمثل له و للحاضرين عنده ذلة الباطل و عزة الحق و عدم الاكتراث و المبالاة بالقوة و السلطة،و الهيبة و الرهبة،أرادت أن تعرفه خسة قدره،وضعة مقداره و شناعة فعله،و لؤم فرعه و أصله».

و يقول المرحوم الفكيكي:

«تأمل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة،و أساليب الفصاحة،و براعة البيان،و بين معاني الحماسة و قوة الاحتجاج و حجة المعارضة و الدفاع في سبيل الحرية و الحق و العقيدة،بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب،و أحد من وقع الأسنة في الحشا و المهج في مواطن القتال و مجالات النزال،و كان الوثوب على أنياب الأفاعي و ركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد و الشرف في وجوه طواغيت بني أمية و فراعنتهم في منازل عزهم و مجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.

ثم إن هذه الخطبة التأريخية الصاعقة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة و جرأتها النادرة،و قد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية،و سيبقى هذا الأدب الحي صارخا في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر و تعاقب الأجيال و في كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة».

محتويات الخطاب

و كان هذا الخطاب العظيم امتدادا لثورة كربلاء و تجسيدا رائعا لقيمها الكريمة و أهدافها السامية و قد حفل بما يلي:

ص: 121

أولا:انها دللت على غرور الطاغية و طيشه،فقد حسب أنه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء و سدت آفاق السماء،إلا أنه انتصار مؤقت، و من طيشه انه حسب أن ما أحرزه من الانتصار كان لكرامة له عند الله و هو ان لأهل البيت،و لم يعلم أن الله إنما يملي للكافرين في هذه الدنيا من النعم ليزدادوا إثما و لهم في الآخرة عذاب أليم.

ثانيا:انها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي،فلم يرع قرابة رسول الله فيهم و هو الذي منّ على آبائه يوم فتح مكة فكان أبوه وجده من الطلقاء فلم يشكر للنبي هذه اليد و كافأه بأسوأ ما تكون المكافأة.

ثالثا:ان ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فإنه مدفوع بذلك بحكم نشأته و مواريثه فجدته هند هي التي لاكت كبد سيد الشهداء حمزة وجده أبو سفيان العدو الأول للإسلام،و أبوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين و انتهك جميع ما حرمه الله،فاقتراف الجرائم من عناصره و طباعه التي فطر عليها.

رابعا:إنها أنكرت عليه ما تمثل به من الشعر الذي تمنى فيه حضور أشياخه الأمويين ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي صلّى اللّه عليه و آله بإبادة أبنائه إلا أنه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.

خامسا:إن الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلا دمه و لم يفر إلا جلده،فإن تلك النفوس الزكية حية و خالدة و قد تلفعت بالكرامة و بلغت قمة الشرف، و إنه هو الذي باء بالخزي و الخسران.

سادسا:انها عرضت إلى من مكن الطاغية من رقاب المسلمين فهو المسؤول عما اقترفه من الجرائم،و قد قصدت عليها السلام مغزى بعيدا يفهمه كل من تأمل فيه.

سابعا:انها أظهرت سمو مكانتها فكلمت الطاغية كلام الأمير و الحاكم فاستهانت به،و استصغرت قدره،و تعالت عن حواره،و ترفعت عن مخاطبته،و لم تحفل بسلطانه..لقد كانت العقيلة على ضعفها و ما ألم بها من المصائب أعظم قوة و أشد

ص: 122

بأسا منه.

ثامنا:انها عرضت إلى أن يزيد مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت عليهم السّلام فإنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلا لأنهم قائمون في قلوب المسلمين و عواطفهم و هم مع الحق،و الحق لا بد أن ينتصر،و فعلا قد انتصر الحسين و تحولت مأساته إلى مجد لا يبلغه أي إنسان كان،فأي نصر أحق بالبقاء و أجدر بالخلود من النصر الذي أحرزه الإمام.

هذا قليل من كثير مما جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة و الفصاحة،و معجزة من معجزات البيان،و هي إحدى الضربات القاضية على ملك بني أمية.

جواب يزيد

و كان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد فقد انهار غروره و تحطم كبرياؤه،و حار في الجواب فلم يستطع أن يقول شيئا إلا أنه تمثل بقول الشاعر:

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح

و لم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد،و جردته من جميع القيم الإنسانية،و بين ما تمثل به من الشعر الذي أعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح،و ان النوح يهون على النائحات،فأي ربط موضوعي بين الأمرين.

ص: 123

صدى خطاب زينب عليها السلام

و أحدث خطاب العقيلة موجة عاصفة في مجلس يزيد و أشاعت في نفوس الجالسين مشاعر الحزن و الأسى و التذمر فقد أزاح عنهم حجب الشبهات و نسف كل الوسائل التي صنعها معاوية لإقامة دولته و سلطانه و راح يزيد يلتمس المعاذير ليبرر جريمته فقال لأهل الشام:

«أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟و ما الحامل له على ما فعل؟و ما الذي أوقعه فيما وقع؟».

«لا».

«يزعم أن أباه خير من أبي و أمه فاطمة بنت رسول الله خير من أمي و انه خير مني،و أحق بهذا الأمر،فأما قوله أبوه خير من أبي:فقد حاج أبي أباه إلى الله تعالى، و علم الناس أيهما حكم له،و أما قوله أمه خير من أمي:فلعمري إن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خير من أمي،و أما قوله جده خير من جدي:فلعمري ما أحد يؤمن بالله و اليوم الآخر و هو يرى أن لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله فينا عدلا و لا ندا..و لكنه إنما أتى من قلة فقهه،و لم يقرأ قوله تعالى: قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ و قوله تعالى: وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ لقد حسب الطاغية أن منطق الفضل عند الله إنما هو الظفر بالملك فراح يبني تفوقه على الإمام بذلك و لم يعلم أنه لا قيمة للملك عند الله فإنه يهبه للبر و الفاجر (1).

ص: 124


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:262/3.

خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام في مسجد دمشق

اشارة

و كان مجلس الطاغية حاشدا بجماهير الناس و قد أوعز إلى الخطيب أن يعتلي أعواد المنبر ليمجد الأمويين و ينال من الحسين فاعتلى الخطيب المنبر فبالغ في الثناء على يزيد و نال من الإمام أمير المؤمنين و ولده الحسين لينال هبات يزيد و عطاياه،فانتفض الإمام زين العابدين و صاح به:

«ويلك أيها الخاطب اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار..».

و التفت إلى يزيد فقال له:

«أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا و لهؤلاء الجالسين أجر و ثواب».

و بهت الحاضرون و بهروا من هذا الفتى العليل الذي رد على الخطيب و الأمير، و قد رفض يزيد إجابته فألح عليه الجالسون بالسماح له و يعتبر ذلك بداية وعي عند أهل الشام فقال يزيد لهم:

«إن صعد المنبر لم ينزل إلا بفضيحتي و فضيحة آل أبي سفيان»فقالوا له:و ما مقدار ما يحسن هذا العليل.

إنهم لا يعرفونه،و حسبوا أنه لا يحسن شيئا،و لكن الطاغية يعرفه حقا فقال لهم:

«إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا».

و أخذوا يلحون عليه،فانصاع لقولهم فسمح للإمام،فاعتلى أعواد المنبر فحمد الله و أثنى عليه،و يقول المؤرخون إنه خطب خطبة عظيمة أبكى منها العيون،

ص: 125

و أوجل منها القلوب،و كان من جملة ما قاله:

«أيها الناس أعطينا ستا،و فضلنا بسبع:أعطينا العلم،و الحلم،و السماحة و الفصاحة، و الشجاعة،و المحبة في قلوب المؤمنين،و فضلنا بأن منا النبي المختار محمد صلّى اللّه عليه و آله و منا الصديق،و منا الطيار،و منا أسد الله و أسد الرسول و منا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول،و منا سبطا هذه الأمة و سيدا شباب أهل الجنة.

فمن عرفني فقد عرفني،و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي،أنا ابن مكة و منى،أنا ابن زمزم و الصفا،أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الردا،أنا ابن خير من ائتزر و ارتدى،أنا ابن خير من انتعل و احتفى،أنا ابن خير من طاف و سعى،أنا ابن خير من حج و لبى،أنا ابن من حمل على البراق في الهواء،أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فسبحان من أسرى،أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى،أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى،أنا ابن من صلى بملائكة السماء،أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى،أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى،أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا:لا إله إلا الله،أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين و طعن برمحين و هاجر الهجرتين،و بايع البيعتين،و صلى القبلتين،و قاتل ببدر و حنين،و لم يكفر باللّه طرفة عين،أنا ابن صالح المؤمنين و وارث النبيين،و قاطع الملحدين،و يعسوب المسلمين،و نور المجاهدين و زين العابدين،و تاج البكائين، و أصبر الصابرين،و أفضل القائمين من آل ياسين،و رسول رب العالمين،أنا ابن المؤيد بجبرائيل المنصور بميكائيل،أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين،و قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين و المجاهد أعداءه الناصبين،و أفخر من مشى من قريش أجمعين، و أول من أجاب و استجاب لله من المؤمنين و أقدم السابقين،و قاصم المعتدين،و مبير المشركين،و سهم من مرامي الله على المنافقين،و لسان حكمة العابدين،ناصر دين الله، و ولي أمر الله،و بستان حكمة الله،و عيبة علم الله،سمح سخي بهلول زكي أبطحي، رضي مرضي،مقدام همام صابر صوام،مهذب قوام،شجاع قمقام،قاطع الأصلاب،

ص: 126

و مفرق الأحزاب،أربطهم جنانا،و أطلقهم عنانا،و أجرأهم لسانا،و أمضاهم عزيمة، و أشدهم شكيمة،أسد باسل،و غيث هاطل،يطحنهم في الحروب و يذرهم ذرو الريح الهشيم،ليث الحجاز،و صاحب الاعجاز،و كبش العراق،الإمام بالنص و الاستحقاق، مكي مدني،أبطحي تهامي،خيفي عقبي،بدري أحدي،و شجري مهاجري،من العرب سيدها،و من الوغى ليثها،وارث المشعرين،و أبوا السبطين الحسن و الحسين،مظهر العجائب،و مفرق الكتائب،و الشهاب الثاقب،و النور العاقب،أسد الله الغالب،مطلوب كل طالب،غالب كل غالب،ذاك جدي عليّ بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء،أنا ابن سيدة النساء،أنا ابن الطهر البتول،أنا ابن بضعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله أنا ابن المرمّل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلاء،أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء و ناحت عليه الطير في الهواء».

و لم يزل يقول أنا:حتى ضج الناس بالبكاء و النحيب،و خشي الطاغية من وقوع الفتنة و حدوث ما لا تحمد عقباه،فقد أوجد خطاب الإمام انقلابا فكريا في مجلس الطاغية،و قد بادر بالإيعاز إلى المؤذن أن يؤذن ليقطع على الإمام كلامه،فصاح المؤذن:

«الله أكبر».

فقال الإمام:كبرت كبيرا لا يقاس،و لا يدرك بالحواس،لا شيء أكبر من الله،فلما قال المؤذن:

«أشهد أن لا إله إلا الله».

قال علي بن الحسين:شهد بها شعري و بشري،و لحمي و دمي،و مخي و عظمي، و لما قال المؤذن:

«أشهد أن محمدا رسول الله».

التفت علي بن الحسين إلى يزيد فقال له:

«يا يزيد محمد هذا جدي أم جدك؟فإن زعمت أنه جدك،فقد كذبت،و إن قلت:إنه

ص: 127

جدي فلم قتلت عترته؟».

و وجم يزيد و لم يطق جوابا،و استبان لأهل الشام أنهم غارقون في الجهالة و الضلالة و ان الحكم الأموي قد جهد على غوايتهم و شقائهم.

و قد اقتصر الإمام في خطابه على التعريف بأسرته و نفسه،و لم يعرض لشي آخر،و قد كان ذلك من أروع صور الالتفاتات و أدقها و أعمقها،فقد كان المجتمع الشامي لا يعرف شيئا عن أهل البيت،فقد أخفت السلطة كل شيء عنهم،و غذتهم بالولاء لبني أمية و الحقد على أهل البيت (1).

و في مثير الأحزان و غيره،فقال علي بن الحسين:أتأذن لي في الكلام؟فقال:قل و لا تقل هجرا!فقال علي بن الحسين:لقد وقفت موقفا لا ينبغي لمثلي أن يقول الهجر،ما ظنك برسول اللّه لو رآني في غل؟فقال لمن حوله:حلوه (2).

و في تاريخ الطبري و غيره قال يزيد لعلي بن الحسين:أبوك الذي قطع رحمي و جهل حقي و نازعني سلطاني فصنع اللّه به ما قد رأيت.

قال علي:ما أصابكم من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها.

فقال يزيد لابنه خالد:أردد عليه.

قال:فما درى خالد ما يرد عليه،فقال له يزيد:قل:ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير،ثم سكت عنه.

و في فتوح ابن أعثم و مقتل الخوارزمي:إن يزيد أمر الخطيب أن يرقى المنبر و يثني على معاوية و يزيد و ينال من الإمام علي و الإمام الحسين عليه السّلام فصعد الخطيب المنبر،فحمد اللّه و أثنى عليه،و أكثر الوقيعة في علي و الحسين،و أطنب في تقريض8.

ص: 128


1- حياة الحسين للقرشي:263/3.
2- مثير الأحزان ص 78.

معاوية و يزيد،فصاح به علي بن الحسين:ويلك أيها الخاطب اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟فتبوأ مقعدك من النار.

ثم قال:يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد،فأتكلم بكلمات فيهن للّه رضا، و لهؤلاء الجالسين أجر و ثواب فأبى يزيد،فقال الناس:يا أمير المؤمنين ائذن له ليصعد،فعلنا نسمع منه شيئا فقال لهم:إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي و فضيحة آل أبي سفيان،فقالوا:و ما قدر ما يحسن هذا؟

فقال:انه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا.

و لم يزالوا به حتى أذن له بالصعود فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و قال:

أيها الناس،أعطينا ستا و فضلنا بسبع:أعطينا العلم،و الحلم،و السماحة و الفصاحة،و الشجاعة و المحبة في قلوب المؤمنين،و فضلنا بأن منا النبي المختار محمد صلّى اللّه عليه و آله،و منا الصديق،و منا الطيار،و منا أسد اللّه و أسد الرسول و منا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول،و منا سبطا هذه الأمة،و سيدا شباب أهل الجنة فمن عرفني فقد عرفني،و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي:أنا ابن مكة و منى،أنا ابن زمزم و الصفا،أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء،أنا ابن خير من ائتزر و ارتدى،أنا ابن خير من انتعل و احتفى،أنا ابن خير من طاف و سعى،أنا ابن خير من حج و لبى،أنا ابن من حمل على البراق في الهواء،أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى،فسبحان من أسرى،أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى،أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى،أنا ابن من صلى بملائكة السماء،أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى،أنا ابن محمد المصطفى،أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا اللّه،أنا ابن من بايع البيعتين،و صلى القبلتين،و قاتل ببدر و حنين،و لم يكفر باللّه طرفة عين،يعسوب المسلمين،و قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين،سمح سخى بهلول زكى،ليث الحجاز و كبش العراق،مكي مدني،أبطحي تهامي خيفي عقبى بدري أحدي،

ص: 129

شجري مهاجري،أبو السبطين،الحسن و الحسين،علي بن أبي طالب،أنا ابن فاطمة الزهراء،أنا ابن سيدة النساء،أنا ابن بضعة الرسول.

قال:و لم يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء و النحيب و خشي يزيد أن تكون فتنة فأمر المؤذن يؤذن فقطع عليه الكلام و سكت،فلما قال المؤذن:اللّه أكبر.

قال علي بن الحسين:كبرت كبيرا لا يقاس،و لا يدرك بالحواس،و لا شيء أكبر من اللّه،فلما قال:أشهد أن لا إله إلا اللّه،قال علي:شهد بها شعري و بشري،و لحمي و دمي و مخي و عظمي فلما قال أشهد أن محمدا رسول اللّه التفت علي من أعلى المنبر إلى يزيد و قال:يا يزيد محمد هذا جدي أم جدك فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت و ان قلت إنه جدي فلم قتلت عترته؟قال و فرغ المؤذن من الأذان و الإقامة فتقدم يزيد و صلى الظهر (1).

صدى خطاب الإمام زين العابدين

قال القرشي:و أثر خطاب الإمام تأثرا بالغا في أوساط أهل الشام،فقد جعل بعضهم ينظر إلى بعض و يسر بعضهم إلى بعض بما آلوا إليه من الخيبة و الخسران،حتى تغيرت أحوالهم مع يزيد و أخذوا ينظرون إليه نظرة احتقار و ازدراء.

الشامي مع فاطمة:

و نظر بعض أهل الشام إلى السيدة فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أو بنت الإمام الحسين فقال ليزيد:

ص: 130


1- أنساب الأشراف ص 219 و معالم المدرستين للعسكري:162/3. قال المؤلف:إن البلاذري لم يكتب خطبة عمرو بن سعيد لنعرف سبب اعتراض ابن أبي حبيش عليه، و قد مر بي في ما قرأت أنه خاطب قبر الرسول،و قال:يوم بيوم بدر.

«هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي».

و سرت الرعدة بجسمها،فأخذت بثياب عمتها مستجيرة بها،و انبرت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فصاحت بالرجل:

«كذبت و لؤمت،ما ذلك لك،و لا لأميرك».

و استشاط يزيد غضبا لعدم مبالاة العقيلة به و استهانتها بشأنه،فقال لها:

«كذبت،إن ذلك لي،و لو شئت لفعلت».

فنهرته العقيلة متحدية له قائلة:

«كلا و الله،ما جعل لك ذلك،إلا أن تخرج من ملتنا،و تدين بغير ديننا..».

و تميز الطاغية غيظا حيث تحدته العقيلة أمام أشراف أهل الشام فصاح بها:

«إياي تستقبلين بهذا؟إنما خرج من الدين أبوك و أخوك».

و انبرت العقيلة غير حافلة بسلطانه و لا بقدرته على البطش و الانتقام فردت عليه بثقة قائلة:

«بدين الله و دين أبي و جدي و أخي اهتديت أنت و أبوك إن كنت مسلما..».

و أزالت العقيلة بهذا الكلام الستار الذي تستر به يزيد بقتله للحسين و أهل بيته من أنهم خوارج خرجوا على إمام زمانهم،و لم يجد الرجس جوابا فقال و هو مغيظ محنق:

«كذبت يا عدوة الله».

و لم تجد شقيقة الحسين جوابا تحسم به مهاترات يزيد غير أن قالت:«أنت أمير مسلط،تشتم ظلما،و تقهر بسلطانك».

و تهافت غضب الطاغية و أطرق برأسه إلى الأرض،و أعاد الشامي كلامه إلى يزيد و كرر الشامي هذه المحاورة فصاح به يزيد:

«وهب الله لك حتفا قاضيا».

لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية في تلك المحن الشاقة،و قابلت أعداء

ص: 131

الإسلام بإرادتها الصلبة الواعية التي ورثتها من جدها الرسول صلّى اللّه عليه و آله،يقول بعض الكتاب:

«و قد حققت زينب و هي في ضعفها و استكانتها أول نصر حاسم على الطغاة، و هم في سلطانهم و قوتهم،فقد أقحمته المرة بعد المرة،و قد أظهرت للملأ جهله، كما كشفت عن قلة فقهه في شؤون الدين فإن نساء المسلمين لا يصح مطلقا اعتبارهن سبايا و معاملتهن معاملة السبي في الحروب.

و أكبر الظن أن هذا الخطاب من الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد و بداية لتسرب الوعي عند الشاميين،و آية ذلك أنه كان يكفيه رد الحوراء على يزيد بذلك الرد الذي أخرجته عن ربقة الإسلام إن استجاب لطلب الشامي،و وقوع الشجار العنيف بين الحوراء و يزيد،مما يشعر منه أن طلب الشامي كان مقصودا لأجل بلورة الرأي العام و فضح يزيد لا سيما أن هذا الطلب كان بعد خطاب السيدة زينب و خطاب الإمام زين العابدين عليه السّلام و قد أحدثا و عيا عاما و موجة عاتية من السخط في مجلس يزيد (1).3.

ص: 132


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:266/3.

الإمام السجاد مع المنهال

قال السيد القرشي:و التقى الإمام زين العابدين بالمنهال بن عمر فبادر إليه قائلا:

-كيف أمسيت يابن رسول الله؟

-«أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم..

أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمدا منها،و أمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها،و أمسينا معشر أهل بيته مقتولين مشردين،فإنا لله راجعون».

لقد كان الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله المصدر الأصيل لشرف الأمة العربية الذي تفتخر به فهو الذي خطط للعرب حياة سادوا فيها جميع شعوب الأرض،و بنى لهم دولة كانت من أعز دول العالم و أمنعها،فكان جزاؤه منهم ان عمدت قريش التي تفاخر العرب بأن محمدا منها إلى قتل ذريته و استئصال شأفتهم و سبي نسائهم،فهل هذا هو جزاء المنقذ و المحرر لهم؟ (1)

و قال السيد مرتضى العسكري:يبدو ان يزيد اضطر بعد هذا ان يغير سلوكه مع ذراري الرسول صلّى اللّه عليه و آله و يرفه عنهم بعض الشئ و يسمح لهم بإقامة المأتم على شهدائهم.

فقد روى ابن أعثم بعد ذكر ما سبق و قال:فلما فرغ من صلاته أمر بعلي بن الحسين و أخواته و عماته رضوان اللّه عليهم ففرغ لهم دار فنزلوها و أقاموا أياما يبكون و ينوحون على الحسين رضي اللّه عنه.

ص: 133


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:268/3.

قال:و خرج علي بن الحسين ذات يوم،فجعل يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الصحابي فقال له:كيف أمسيت يا ابن رسول اللّه؟قال:

أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون،يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم،يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بان محمدا منهم و أمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها،و أمسينا أهل بيت محمد و نحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتلون مثبورون مطردون،فانا للّه و انا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال (1).

النياحة على الحسين عليه السلام

قال السيد القرشي:و طلبن بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله من الطاغية أن يفرد لهن بيتا ليقمن فيه مأتما على سيد الشهداء،فقد نخر الحزن قلوبهن،و لم يكن بالمستطاع أن يبدين بما ألم بهن من عظيم الأسى و الشجون خوفا من الجلاوزة الجفاة الذين جهدلوا على منعهن من البكاء و النياحة على أبي عبد الله.و قد أثر عن الإمام زين العابدين عليه السّلام أنه قال:كلما دمعت عين واحد منا قرعوا رأسه بالرمح،و استجاب يزيد لذلك فأفرد لهن بيتا،فلم تبق هاشمية و لا قرشية إلا لبست السواد حزنا على الحسين،و خلدن بنات الرسالة إلى النياحة سبعة أيام،و هن يندبن سيد الشهداء بأشجى ندبة و ينحن على الكواكب من نجوم آل عبد المطلب،و قد ذابت الأرض من حرارة دموعهن.

ص: 134


1- معالم المدرستين للعسكري:167/3.

مكافأة ابن مرجانة

و شكر الطاغية يزيد لابن مرجانة قتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و بالغ في تقديره و تكريمه فاستدعاه للحضور عنده في دمشق ليجازيه على ذلك،و كتب إليه ما يلي:

«أما بعد:فإنك قد ارتفعت إلى غاية أنت فيها كما قال الأول:

رفعت فجاوزت السحاب و فوقه فما لك إلا مرتقى الشمس مقعد

فإذا وقفت على كتابي فاقدم علي لأجازيك على ما فعلت».

و سافر ابن زياد مع أعضاء حكومته إلى دمشق و لما انتهى إليها خرج لاستقباله جميع بني أمية،و لما دخل على يزيد قام إليه و اعتنقه و قبّل ما بين عينيه و أجلسه على سرير ملكه،و قال للمغني غنّ و للساقي اسق:ثم قال:

اسقني شربة تروي فؤادي ثم صل واسق مثلها ابن زياد

موضع السر و الأمانة عندي و على ثغر مغنمي و جهادي

و أقام ابن مرجانة شهرا فأوصله بألف ألف درهم،و مثلها لعمر بن سعد،و أطلق له خراج العراق سنة و قد بالغ في مودته فأدخله على نسائه و عياله و لما وفد أخوه مسلم بن زياد على يزيد بجله و كرمه تقديرا لأخيه عبيد الله و قال له:

«لقد وجبت محبتكم على آل أبي سفيان».

و نادمه يومه بأسره،و ولاه بلاد خراسان لقد شكر لآل زياد إبادتهم لآل رسول الله و قد حسب أنهم قد مهدوا له الملك و السلطان،و لم يعلم أنهم قد هدموا ملكه و نسفوا سلطانه و أخلدوا له الخزي و العار.

ندم الطاغية

و بعد أن نقم المسلمون على الطاغية بقتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله ندم على ذلك و حاول أن يلصق تبعة تلك الجريمة بابن مرجانة،و راح يقول:ما كان علي لو

ص: 135

احتملت الأذى،و أنزلته-يعني الحسين-معي في داري،و حكمته فيما يريد،و إن كان علي في ذلك و كف و وهن في سلطاني حفظا لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله و رعاية لحقه و قرابته،لعن الله ابن مرجانة فقد بغضني بقتله إلى المسلمين،و زرع لي في قلوبهم العداوة،فبغضني البر و الفاجر بما استعظم الناس في قتلي حسينا،ما لي و لابن مرجانة لعنه الله و غضب عليه.

و أكبر الظن انه إنما قال ذلك ليبرئ نفسه من المسؤولية أمام المسلمين و لو كان نادما في قرارة نفسه لانتقم منه و عزله،و لما شكره و أجزل له العطاء و قربه،و ذلك مما يدل على رضاه و عدم ندمه فيما اقترفه (1).3.

ص: 136


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:270/3.

منكرون و ناقمون

اشارة

و سخط المسلمون و غيرهم كأشد ما يكون السخط على يزيد على قتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و قد أنكر عليه جمع من الأحرار و فيما يلي بعضهم:

1-ممثل ملك الروم

و كان في مجلس يزيد ممثل ملك الروم فلما رأى رأس الإمام بين يديه بهر من ذلك و راح يقول له:

-رأس من هذا؟

-رأس الحسين.

-من الحسين؟

-ابن فاطمة.

-من فاطمة؟

-ابنة رسول الله.

-نبيكم؟

-نعم.

و فزع من ذلك و صاح به:

«تبا لكم و لدينكم،و حق المسيح إنكم على باطل،إن عندنا في بعض الجزائر ديرا فيه حافر فرس ركبه المسيح فنحن نحج إليه في كل عام من مسيرة شهور و سنين، و نحمل إليه النذور و الأموال،و نعظمه أكثر مما تعظمون كعبتكم،أف لكم».

ص: 137

ثم قام من عنده و هو غضبان قد أفزعه ذلك المنظر الرهيب.

2-حبر يهودي

و كان حبر يهودي في مجلس الطاغية فلما خطب الإمام زين العابدين خطبته البليغة التي أثارت الحماس و أيقظت المجتمع،التفت الحبر إلى يزيد قائلا:

-من هذا الغلام؟

-علي بن الحسين.

-من الحسين؟

-ابن عليّ بن أبي طالب.

-من أمه؟

-بنت محمد.

يا سبحان الله!!هذا ابن بنت نبيكم قتلتموه،بئسما خلفتموه في ذريته،فو الله لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطا لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا،و أنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه و قتلتموه سوأة لكم من أمة.

و غضب الطاغية و أمر به فوجى في حلقه فقام الحبر و قد رفع عقيرته قائلا:

«إن شئتم فاقتلوني،إني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعونا أبدا ما بقي فإذا مات أصلاه الله نار جهنم».

3-قيصر ملك الروم

و توالت صيحات الإنكار على يزيد،و كان ممن أنكر عليه قيصر ملك الروم فقد كتب إليه:«قتلتم نبيا أو ابن نبي».

ص: 138

4-رأس الجالوت

و من الناقمين على يزيد رأس الجالوت فقد قال لمحمد بن عبد الرحمن إن بيني و بين داود سبعين أبا،و إن اليهود تعظمني و تحترمني و أنتم قتلتم ابن بنت نبيكم.

5-واثلة بن الأسقع

و لما جيء برأس الإمام إلى الشام كان الصحابي واثلة بن الأسقع هناك فتميز غيظا،فالتقى به رجل من أهل الشام،فاندفع يقول:

«لا أزال أحب عليا و الحسن و الحسين و فاطمة أبدا بعد ما سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله يقول فيهم:ما قال».

«ما قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله فيهم؟»

«جئت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و هو في منزل أم سلمة،و جاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى،و جاء الحسين فأجلسه على فخذه الأيسر و قبله ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه،ثم دعا بعلي فجاء،و جعل عليهم كساء خيبريا،كأني أنظر إليه،ثم قال:

«إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا».

6-ابن عباس

و من أشد الناقمين على يزيد عبد الله بن عباس،فقد كتب إليه يزيد يستميل وده، و يطلب منه مؤازرته على ابن الزبير فكتب إليه ابن عباس هذه الرسالة:

أما بعد:«فقد جاءني كتابك فأما تركي بيعة ابن الزبير فو الله ما أرجو بذلك برك

ص: 139

و لا حمدك لكن الله بالذي أنوي عليم،و زعمت أنك لست بناس بري فاحبس أيها الإنسان برك عني فإني حابس عنك بري،و سألت أن أحبب الناس إليك،و أبغضهم و أخذلهم لابن الزبير فلا و لا سرور و لا كرامة،كيف و قد قتلت حسينا و فتيان عبد المطلب مصابيح الهدى و نجوم الاعلام؟غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرملين بالدماء مسلوبين بالعراء،مقتولين بالظماء لا مكفنين و لا مسودين تسفي عليهم الرياح و ينشئ بهم عرج البطاح حتى أتاح الله لهم بقوم لم يشركوا في دمائهم كفنوهم و اجنوهم،و بي و بهم لو عززت و جلست مجلسك الذي جلست.

فما أنسى من الأشياء فلست بناس اطرادك حسينا من حرم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله،إلى حرم الله و تسييرك الخيول إليه فما زلت بذلك حتى أشخصته إلى العراق فخرج خائفا يترقب فنزلت به خيلك عداوة منك لله و لرسوله و لأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا،فطلب إليكم الموادعة و سألكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره و استئصال أهل بيته و تعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك و الكفر،فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي و قد قتلت ولد أبي و سيفك يقطر من دمي و أنت أحد ثاري،و لا يعجبك أن ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوما».

و حفلت هذه الرسالة باتهام يزيد بأنه الذي أشخص الإمام الحسين إلى العراق ليقتله،و انه لم يخرج إلا لمطاردة جيوش يزيد في المدينة و في مكة،و لم يكن خروجه إلى العراق استجابة منه لأهل الكوفة،و إنما أرغمته جيوش يزيد على ذلك.

7-ابن الزبير

و من المنكرين على الأمويين عبد الله بن الزبير بقتلهم للإمام الحسين فقد خطب في مكة فقال:

«إن أهل الكوفة شرارهم دعوا حسينا ليولى عليهم،و يقيم أمرهم و يعيد معالم

ص: 140

الإسلام،فلما قدم عليهم ثاروا عليه فقتلوه،و قالوا له:إما أن تضع يدك في يد الفاجر الملعون ابن زياد فيرى فيك رأيه فاختار الوفاة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم الله حسينا و أخزى قاتله،و لعن من رضي بذلك و أمر به».

و إنما أبدى ابن الزبير الأسى على قتل الإمام تصنعا و تقربا لعامة المسلمين،فقد كان في قرارة نفسه مسرورا لأنه تخلص من أعظم مناوئيه و لو كان مؤمنا بما قاله لما آوى قتلة الحسين فقد ركن إليه و التحق به كل من سلم من قبضة المختار كشبث بن ربعي و غيره،و قد رحب بهم و زج بهم لقتال المختار.

8-أبو برزة

و من المنكرين على يزيد الصحابي أبو برزة الأسلمي حينما رآه ينكت بمخصرته رأس الإمام،و قد ألمعنا إلى حديثه في البحوث السابقة.

9-الأسرة الأموية

اشارة

و تفاقم الأمر على يزيد،و توالت عليه صيحات المنكرين،فقد نقمت عليه أسرته و من بينها:

أ-يحيى بن الحكم

و كان من أشد المنكرين عليه يحيى بن الحكم فقد نقده في مجلسه،و قد دفع يزيد في صدره و أوعز إلى شرطته بإخراجه،و قد ذكرنا نص كلامه فيما تقدم.

ب-عاتكة بنت يزيد

و أنكرت عليه عاتكة ابنته حينما أرسل الرأس إلى حرمه و نسائه فأخذته عاتكة

ص: 141

فطيبته،و قالت:رأس عمي،و قد ألمعنا إلى كلامها في البحوث السابقة.

ج-هند

و نقمت عليه زوجته هند بنت عمرو،فقد فزعت إلى مجلسه و هي مذعورة و قد رفعت صوتها:

«رأس ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله على باب دارنا!!.

فأسرع إليها الطاغية،و أسدل عليها حجابها،و قال لها:اعولي عليه يا هند فإنه صريخة بني هاشم عجل عليه ابن زياد».

10-معاوية بن يزيد

و نقم معاوية على أبيه يزيد كما نقم على جده معاوية،و قد رفض الخلافة و زهد في الحكم،و قد خطب في أهل الشام فندد في جده و أبيه و قال:

«ألا إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى به منه لقرابته من رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و قديمه و سابقته أعظم المهاجرين قدرا،و أولهم إيمانا ابن عم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و زوج ابنته جعله لها بعلا باختياره لها،و جعلها له زوجة باختيارها له فهما بقية رسول الله صلّى اللّه عليه و آله خاتم النبيين،فركب جدي منه ما تعلمون،و ركبتم معه ما لا تجهلون حتى أتته منيته فصار في قبره رهينا بذنوبه و أسيرا بجرمه ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك،و ركب هواه و أخلفه الأمل و قصر عنه الأجل و صار في قبره رهينا بذنوبه و أسيرا بجرمه ثم بكى و قال:إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه،و بئس منقلبه،و قد قتل عترة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و أباح الحرم و خرب الكعبة».

و تهدم ملك آل أبي سفيان على يد معاوية بن يزيد،و ما كان ينشده جده من استقرار الملك و دوامه في بيته،فقد نسف قتل الحسين جميع ما بناه معاوية

ص: 142

و أسسه يزيد،فقد أحل ملكهم دار للبوار،و يقول المؤرخون:إن بني أمية قد قامت قيامتهم على أثر خطاب معاوية الذي فضح فيه جده و أباه فعمدوا إلى مؤدبه عمر القصوص فقالوا له:أنت علمته هذا،و لقنته إياه و صددته عن الخلافة و زينت له حب علي و أولاده،و حملته على ما و سمنا به من الظلم،و حسنت له البدع حتى نطق بما نطق،و قال بما قال،فأنكر عمر ذلك،و قال:و الله ما فعلته و لكنه مجبول و مطبوع على حب علي،فلم يقبلوا ذلك منه و أخذوه فدفنوه حيا (1).

حبر من اليهود يستنكر على يزيد

في فتوح ابن أعثم،قال:فالتفت حبر من أحبار اليهود و كان حاضرا فقال:من هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟فقال:هذا،صاحب الرأس أبوه.

قال:و من هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟قال:الحسين بن علي ابن أبي طالب،قال:فمن أمه؟قال:فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله.

فقال الحبر:يا سبحان اللّه هذا ابن(بنت)نبيكم قتلتموه في هذه السرعة بئس ما خلفتموه في ذريته و اللّه لو خلف فينا موسى بن عمران سبطا من صلبه لكنا نعبده من دون اللّه و أنتم إنما فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابن نبيكم فقتلتموه سوءة لكم من أمة!قال:فأمر يزيد بكر (2)في حلقه،فقال الحبر:إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني أو قرروني،فإني أجد في التوراة أنه من قتل ذرية نبي لا يزال مغلوبا أبدا ما بقي،فإذا مات يصليه اللّه نار جهنم (3).

ص: 143


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:270/3.
2- أي بضرب في حلقه.
3- فتوح ابن أعثم 246/5.

شامي يطلب عترة الرسول جارية له

روى الطبري عن فاطمة بنت الحسين انها قالت:إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد،فقال:يا أمير المؤمنين هب لي هذه-أتخذها أمة- (1)يعنيني و كنت جارية و ضيئة فأرعدت،و فرقت و ظننت ان ذلك جائز لهم و أخذت بثياب عمتي (2)زينب.

قالت:و كانت عمتي زينب أكبر مني و أعقل،و كانت تعلم أن ذلك لا يكون.

فقالت:كذبت و اللّه و لؤمت،ما ذلك لك و له فغضب يزيد فقال:كذبت و اللّه ان ذلك لي و لو شئت ان أفعله لفعلت.

قالت:كلا و اللّه ما جعل اللّه ذلك لك إلاّ أن تخرج من ملتنا،و تدين بغير ديننا، قالت:فغضب يزيد و استطار ثم قال:إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك و أخوك،فقالت زينب:بدين اللّه و دين أبي و دين أخي و جدي اهتديت أنت و أبوك وجدك.

قال:كذبت يا عدوة اللّه.

قالت:أنت أمير مسلط تشتم ظالما و تقهر بسلطانك،قالت:فو اللّه لكأنه استحيى فسكت،ثم عاد الشامي فقال:يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية،قال:أعزب وهب اللّه لك حتفا قاضيا.

ص: 144


1- ما بين الخطين في مقاتل الطالبيين ص 120.
2- في الأصل أختي محرف.

خليفة المسلمين يتمثل بأبيات ابن الزبعري

روى ابن أعثم و الخوارزمي و ابن كثير و غيرهم،أن خليفة المسلمين يزيد جعل يتمثل بابيات ابن الزبعري.

1-ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

2-لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل

3-قد قتلنا القرم من ساداتهم و عدلنا ميل بدر فاعتدل

قال ابن أعثم:ثم زاد فيها هذا البيت من نفسه:

4-لست من عتبة ان لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل

و في تذكرة خواص الأمة:"المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنه لما حضر الرأس بين يديه جمع أهل الشام و جعل ينكت عليه بالخيزران و يقول أبيات ابن الزبعري:ليت أشياخي ببدر شهدوا

قعة الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القرن من ساداتهم

و عدلنا ميل بدر فاعتدل و قال:قال الشعبي و زاد عليها يزيد فقال

5-لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

لست من خندف ان لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل (1)

ص: 145


1- ان أبيات ابن الزبعري وردت في سيرة ابن هشام 97/3،و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ 382. و ورد في ما تمثل به يزيد في فتوح ابن أعثم 241/5 بعد البيت الثاني. حين ألقت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل و هذا من أبيات ابن الزبعري و كذلك ورد في تاريخ ابن كثير 192/8. و ورد في مقتل الخوارزمي 58/2 قبل البيت الأول. يا غراب البين ما شئت فقل إنما تندب أمرا قد فعل كل ملك و نعيم زائل و بنات الدهر يلعبن بكل و جاء فيه أيضا و فى اللهوف ص 69 بعد البيت الرابع: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحى نزل و في نسختنا من مثير الأحزان ص 80 سقط البيت الرابع و فى تاريخ ابن كثير 204/8،رواها عن تاريخ ابن عساكر عن ريا حاضنة يزيد و اكتفى بذكر البيت الأول و اكتفى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص 120 بذكر البيت الأول و الثالث. و ذكرنا في المتن لفظ تذكرة خواص الأمة ص 148،و راجع أيضا طبقات فحول الشعراء ص 200، و سمط النجوم العوالي 199/3،فقد روى عنهما بهامش فتوح ابن أعثم و راجع أيضا الأمالي لأبي على القالي 142/1.

قال المؤلف:لما كانت أبيات ابن الزبعري مشهورة ترويها الرواة قبل؟مثل يزيد ببعضها ثم تمثل بها يزيد و أضاف إليها البيت الثاني و الرابع و الخامس فأخذها الرواة عنه و أحيانا أضافوا إلى ما أنشده يزيد ما كان في ذاكرتهم من أصل الأبيات و من ثم حصل بعض الاختلاف في ألفاظ الروايات.

كما أننا نعرف من رواية الإمام زين العابدين الآنفة و التي ورد فيها(أن يزيد كان يتخذ مجالس الشرب و يأتي برأس الحسين و يضعه بين يديه)سبب تعدد ما روي من قصص عن مجلس يزيد عندما كان رأس الحسين أمامه (1).

ص: 146


1- معالم المدرستين للعسكري:162/3.

استنكار زوجة الخليفة

و في تأريخ الطبري و مقتل الخوارزمي:إن زوجة يزيد و سماها الطبري هند ابنة عبد اللّه بن عامر بن كريز،سمعت بما دار في مجلس يزيد فخرجت من خدرها و دخلت المجلس و قالت:يا أمير المؤمنين أرأس الحسين ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

قال:نعم (1).

و في سير أعلام النبلاء و تاريخ ابن كثير و غيرهما:إن رأس الحسين صلب بمدينة دمشق ثلاثة أيام (2).

ص: 147


1- تاريخ الطبري ط أوروبا مسلسل 382/2،و مقتل الخوارزمي 74/2.
2- سير أعلام النبلاء 216/3،و مقتل الخوارزمي 75/2،و تاريخ ابن كثير 204/8،و تاريخ ابن عساكر الحديث 296،و راجع خطط المقريزي 289/2،و الاتحاف بحب الاشراف ص 23.

مخاريق و أباطيل

اشارة

قال السيد القرشي:و حاول بعض المتعصبين لبني أمية قديما و حديثا تنزيه يزيد و تبريره من قتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و إلقاء التبعة و المسؤولية على ابن مرجانة،و قد دعاهم إلى ذلك الجهل و العصبية العمياء التي حرفتهم عن الحق و ألقتهم في شر عظيم،و من بين هؤلاء:

المدافون عن يزيد

1-ابن تيمية

و عظم حظ يزيد عند ابن تيمية،فكان من أصلب المدافعين عنه فأنكر أن يكون قد أمر بقتل الحسين و بالغ بحرارة في الدفاع عنه و قال:

«فيزيد لم يأمر بقتل الحسين،و لا حمل رأسه بين يديه،و لا نكث بالقضيب على ثناياه،بل الذي جرى هذا منه هو عبيد الله بن زياد،كما ثبت ذلك في صحيح البخاري،و لا طيف برأسه في الدنيا و لا سبى أحد من أهل الحسين».

و هذا القول مما يدعو إلى السخرية و الاستهزاء به،فقد تنكر للضرورات التي لا يشك فيها كل من يملك وعيه و اختياره،فقد أعرض عن جميع ما ذكره المؤرخون من اقتراف يزيد لهذه الجريمة النكراء التي لا يقره عليها من يحمل وعيا دينيا أو روحا إسلامية.

و قد عرف ابن تيمية بالتعصب المقيت حتى أعرض عن آرائه كل باحث حر،

ص: 148

و كاتب في التأريخ و البحوث الإسلامية.

2-الغزالي

و من المؤسف أن الغزالي قد هام حبا بحب يزيد،و غالى في الإخلاص له و الدفاع عنه فقال:

«ما صح قتله-يعني يزيد للحسين-و لا أمره به-يعني لم يأمر يزيد ابن مرجانة بقتله و لا رضاه بذلك،و متى لم يصح ذلك عنده لم يجز أن يظن ذلك به،فإن إساءة الظن بالمسلم حرام قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (1).

وسف الغزالي في كلامه على غير هدى فقد تنكر للبديهيات كما تنكر لها زميله ابن تيمية،فهؤلاء المؤرخون أجمعوا على أن يزيد هو الذي أوعز لابن مرجانة بقتل الحسين و شدد عليه في ذلك و هدده بنفيه من آل أبي سفيان و إلحاقه بجده عبيد الرومي إن لم يخلص في حربه للإمام،و قد ذكرنا ذلك بما لا مزيد عليه في البحوث السابقة.

3-ابن العربي

و عرف ابن العربي بالبغض و الكراهية لأهل البيت عليهم السّلام و قد ذهب إلى أن يزيد إمام زمانه و خليفة الله في أرضه و خروج الإمام عليه كان غير مشروع و ان الحسين قتل بشريعة جده حفنة من التراب عليه و على كل منحرف عن الحق

ص: 149


1- الحجرات:12.

و ضال عن الطريق.بأي منطق كان يزيد القرود و الفهود إمام المسلمين و خليفة الله في الأرض،أبقتله لسيد شباب أهل الجنة أم بإباحته لمدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حرقه للكعبة كان إماما للمسلمين؟و قد سمع عمر بن عبد العزيز شخصا وصف يزيد بأمير المؤمنين فأمر بضربه عشرين سوطا.

إن الدفاع عن يزيد و إضفاء الشرعية على حكومته،و تبريره من الإثم في قتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله إنما هو دفاع عن المنكر،و دفاع عن الباطل،فيزيد و أمثاله من حكام الأمويين و العباسيين هم الذين عملوا على تأخير المسلمين و جروا لهم الفتن و الخطوب و ألقوهم في شر عظيم.

4-ابن حجر

و أنكر ابن حجر الهيثمي رضا يزيد أو أمره بقتل الحسين و قد ساقته العصبية العمياء إلى هذا القول الذي تنافى مع البديهيات من أن ابن مرجانة كان مجرد آلة من دون أن يكون له أي رأي أو إرادة في قتل الحسين،و قد قال لمسافر بن شريح اليشكري:أما قتلي الحسين فإنه أشار علي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله فلم يقدم ابن زياد على قتل الحسين إلا بعد أن هدده يزيد بالقتل إن لم يستجب له.

5-أنيس زكريا

و دافع أنيس زكريا النصولي بحرارة عن يزيد فقال:

«لا شك أن يزيد لم يفكر البتة بقتل الحسين،و لم يأمل أن تتطور المسألة العلوية فتلعب هذا الدور المهيب،و يقدم ابن زياد للفتك به».

ص: 150

6-الدكتور النجار

و ممن نزه يزيد الدكتور محمد النجار فقال:«و لا يتحمل يزيد بن معاوية شيئا من هذه التبعة-يعني تبعة قتل الحسين-لأنه على الرغم من أن تأريخه ملطخ بالسواد إلا أنه-فيما يبدو-بريء من تهمة التحريض على قتل الحسين».

7-محمد عزة دروزة

و من أصلب المدافعين عن يزيد في هذا العصر محمد عزة دروزة فقد أشاد بيزيد و نزهه من هذه الجريمة،كما نفى المسؤولية عن ابن زياد و سائر القوات المسلحة التي قتلت الحسين و ألقى باللائمة على الحسين قال:«و ليس هناك ما يبرر نسبة قتل الحسين إلى يزيد فهو لم يأمر بقتاله فضلا عن قتله،و كل ما أمر به أن يحاط به و لا يقاتل إلا إذا قاتل،و مثل هذا القول يصح بالنسبة لعبيد الله بن زياد فكل ما أمر به أن يحاط به و لا يقاتل إلا إذا قاتل،و أن يؤتى به ليضع يده في يده أو يبايع ليزيد صاحب البيعة الشرعية،بل إن هذا يصح قوله بالنسبة لأمراء القوات المسلحة التي جرى بينها و بين الحسين و جماعته قتال،فإنهم ظلوا ملتزمين بما أمروا به،بل و كانوا يرغبون أشد الرغبة في أن يعافيهم الله من الابتلاء بقتاله فضلا عن قتله، و يبذلون جهدهم في إقناعه بالنزول على حكم ابن زياد و مبايعة يزيد،فإذا كان الحسين أبى أن يستسلم ليدخل فيما دخل فيه المسلمون و قاوم بالقوة فمقابلته و قتاله من الوجهة الشرعية و الوجهة السياسية سائغا».

و يرى دروزة أن قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سيد شباب أهل الجنة كان سائغا من الوجهة الشرعية و الوجهة السياسية،و لا أكاد اعتقد أن السفكة الجلادين من

ص: 151

قتلة الحسين أكثر حقدا و عداء للإمام من هذا الإنسان الذي ران الباطل على ضميره فماج في تيارات سحيقة من المنكر و الإثم.

رأي الدكتور طه حسين

و يرى طه حسين أن يزيد مسؤول عن إراقة دماء الإمام،و ليس من الصحيح القول بأن تبعة هذه الجريمة ملقاة على ابن مرجانة قال:

«و الرواة يزعمون أن يزيد تبرأ من قتل الحسين على هذا النحو فألقى عبء هذا الإثم على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد،و لكنا لا نراه لام ابن زياد و لا عاقبه،و لا عزله عن عمله كله أو بعضه،و من قبله معاوية قتل حجر بن عدي و أصحابه،ثم ألقى عبء قتلهم على زياد و قال:حملني ابن سمية فاحتملت».

إن ابن زياد لم يفعل ما فعل إلا بأمر قاطع من يزيد،و لو كان لم يرض بذلك لحاسبه على جريمته و ما جلس و إياه في مجلس الشراب و لما جزل له في العطاء، فإن ذلك يدل على رضاه بقتل الحسين و عدم ندمه على مرارة المذبحة و هول الجناية.

كلمة التفتازاني

قال التفتازاني:«اتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين أو أمر به أو أجازه أو رضي به...و الحق أن رضا يزيد بقتل الحسين و استبشاره بذلك،و إهانته أهل بيت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله مما تواتر معناه،و إن كان تفصيله آحادا،فنحن لا نتوقف في شأنه بل في كفره لعنة الله عليه و على أنصاره و أعوانه».

ص: 152

رأي اليافعي

و يقول العلامة اليافعي:«و أما حكم من قتل الحسين أو أمر بقتله فهو كافر،فمن استحل ذلك فهو كافر».

رأي أحمد بن حنبل

و أفتى أحمد بن حنبل بالإمساك عن لعن يزيد يقول أبو طالب:سألت أحمد عمن نال من يزيد بن معاوية فقال:لا تتكلم في هذا،قال النبي:لعن المؤمن كقتله و من الغريب هذه الفتيا فقد جعل مدركها الحديث النبوي و هو لا ينطبق على يزيد فإنه لا نصيب له من الإيمان و الإسلام بعد اقترافه للجرائم الفظيعة كإبادة العترة الطاهرة و إباحة مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله،و حرق الكعبة المقدسة فإن كل واحدة من هذه الموبقات تخرجه من حظيرة الإسلام.

و قد أنكر على أحمد ولده صالح فقد قال له:إن قوما ينسبونا إلى تولي يزيد؟ فقال له:و هل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله؟فقال له ولده:

-و لم لا تلعنه؟

-و متى رأيتني لعنت أحدا؟

-يا أبتي و لم لا يلعن من لعنه الله في كتابه؟

-و أين لعن الله يزيدا؟

-في قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ

ص: 153

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ (1) فهل يكون فساد أعظم من القتل...و أمسك أحمد عن الجواب.

كلمة المعتضد العباسي

و أصدر المعتضد العباسي كتابا نشر فيه مخازي بني أمية،و أشاد فيه بآل البيت و أمر بإذاعته و نشره في النوادي الحكومية و الشعبية و المجتمعات العامة أيام الجمعات و الأعياد،و قد جاء فيه مما يخص يزيد:

«و لما تكنّ الخلافة إلى يزيد طلب متحفزا يطلب بثأر المشركين من المسلمين فأوقع بأهل المدينة وقعة الحرة الوقعة التي لم تمر على البشرية مثلها،و لا على المسلمين أفظع و أبشع منها فشفا عند نفسه غليله،و ظن أنه انتقم لأشياخه من أولياء الله،و بلغ الثأر لأعداء الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أضاف يقول:

ثم إن أغلظ ما انتهك و أعظم ما اجترم سفكه لدم الحسين بن علي عليه السّلام مع علمه بموقعه من رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سماعه منه أنه قال:«الحسن و الحسين ريحانتاي من الدنيا،الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة»اجتراء منه على الله و رسوله و عداوة منه لهما فما خاف من عمله ذلك نقمة و لا راقبه في معصية».

لقد كان قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله من أعظم الأحداث الجسام التي روع بها المسلمون و امتحنوا بها امتحانا شاقا و عسيرا،كما أنها من أفجع الأحداث العالمية، فقد كانت القسوة التي قوبلت بها عترة النبي صلّى اللّه عليه و آله من أفظع ما جرى في تاريخ العالم.

فقد مارس أولئك الجفاة الممسوخون من جيش يزيد جميع ضروب الخسة و ألوان اللؤم.و تنكروا لجميع القيم الإنسانية و الأعراف السائدة،و ما قننه الناس

ص: 154


1- محمد:22-23.

من معاني الفضيلة و الأخلاق،فقتلوا الرجال و الأطفال و النساء بعد أن حرموهم من الماء و مثلوا بتلك الجثث الزواكي،و حملوا الرؤوس الطاهرة على الحراب،و سبوا ودائع الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله على أقتاب الجمال يطاف بهن في الأقطار و الأمصار، ليظهر الطاغية قهره لآل النبي صلّى اللّه عليه و آله و تغلبه عليهم،و كل هذه الأحداث جرت بأمره و إلحاحه،فهو المسؤول عنها.

أما ابن زياد فلم يكن سوى آلة و أداة بيده،و منفذ لرغباته كما دللنا على ذلك في البحوث السابقة.

إن تنزيه يزيد،و إلقاء المسؤولية على ابن مرجانة ما هو إلا لون من ألوان الانحراف عن الحق و الانقياد للعصبية العمياء التي لا يخضع لها من يملك وعيه و اختياره.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عما قيل في تبرير يزيد من المخاريق و الأباطيل،و ما أثر من الأعلام في تجريم يزيد و تحميله المسؤولية في إراقة دم الإمام (1).3.

ص: 155


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:280/3.

عودة السبايا

ركب السبايا قبيل المدينة

فانفصلوا من العراق إلى المدينة،فلمّا قرب عليّ بن الحسين عليه السّلام من المدينة ضرب فسطاطه و نزل و قال:يا بشير رحم اللّه أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شيء منه؟

قال:بلى إنّي شاعر،قال:فادخل المدينة و انع أبا عبد اللّه.

قال:فدخلت المدينة راكبا،فلمّا بلغت مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رفعت صوتي بالبكاء و قلت شعرا:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلا مضرّج و الرأس منه على القناة يدار

ثمّ قلت:هذا عليّ بن الحسين مع نسائه نزلوا بساحتكم و أنا رسوله إليكم أخبركم بقدومه فما بقيت في المدينة مخدّرة إلاّ برزن من خدورهنّ مكشوفة شعورهنّ مخمّشة وجوههنّ ضاربات خدودهنّ فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم و سمعت جارية تنوح على الحسين و تقول،شعرا:

نعى سيّدي ناع نعاه فأوجعا و أمرضني ناع نعاه فجعا

فعيناي جودا بالدموع و اسكبا وجودا بدمع بعد دمعكما معا

على من دعى عرش الجليل فأفزعا فأصبح هذا المجد و الدّين أجدعا

على ابن نبيّ اللّه و ابن وصيّه و إن كان عنّا شاحط الدار شسعا

ص: 156

فخرج الناس من المدينة إلى عليّ بن الحسين فأتيت إليه و هو داخل الفسطاط فخرج يبكي و ارتفعت أصوات الناس بالبكاء فأشار إلى الناس بالسكوت.

ثمّ خطب و قال في خطبته:أيّها الناس إنّ اللّه و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة و ثلمة في الإسلام عظيمة؛قتل أبو عبد اللّه و عترته و سبي نساؤه و صبيته و داروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان فأيّ عين منكم تحبس دمعها عن انهمالها فلقد بكت السبع الشداد لقتله و بكت البحار بأمواجها و السماوات بأركانها و الأرض بأرجائها و الأشجار بأغصانها و الحيتان و لجج البحار و الملائكة المقرّبون و أهل السماوات أجمعون.

أيّها الناس أصبحنا مطرودين مشردّين مبعدين عن الأمصار كأنّا أولاد ترك و كابل من غير جرم اجترمناه و لا مكروه ارتكبناه،و اللّه لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها و أوجعها و أفجعها (1).

ارجاع ذرية الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى مدينة جدهم

قال السيد مرتضى العسكري:لم يكن ما جرى في عاصمة أمية بعد وصول سبايا آل الرسول عليهم السّلام إليها في صالح حكم آل أمية فرأى يزيد أن يرجعهم إلى مدينة جدهم مع نعمان بن بشير.

كما قال الطبري و غيره و اللفظ للطبري:قال يزيد بن معاوية:يا نعمان بن بشير جهزهم بما يصلحهم و ابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا و ابعث معه خيلا و أعوانا فيسير بهم إلى المدينة ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة

ص: 157


1- البحار:148/45.

معهن ما يصلحهن و أخوهن معهن علي بن الحسين في الدار التي هن فيها.

قال:فخرجن حتى دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأة إلاّ استقبلتهن تبكي و تنوح على الحسين فأقاموا عليه المناحة ثلاثا.

قال:فدعا ذات يوم عمرو بن الحسن بن علي و هو غلام صغير فقال لعمرو بن الحسن:أتقاتل هذا الفتى يعني خالدا ابنه.

قال:لا و لكن اعطني سكينا و اعطه سكينا ثم أقاتله فقام له يزيد:و أخذه فضمه إليه.ثم قال:شنشنة أعرفها من أخزم،هل تلد الحية إلا حية.

قال:و لما أرادوا أن يخرجوا أوصى بهم ذلك الرسول.

قال:فخرج بهم و كان يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حيث لا يفوتون طرفه فإذا نزلوا تنحى عنهم و تفرق هو و أصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم و ينزل منهم بحيث إذا أراد إنسان منهم وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم فلم يزل ينازلهم في الطريق هكذا و يسألهم عن حوائجهم و يلطفهم (1).

قال القرشي:و لم يطل مكث أهل البيت في دمشق،فقد خشي يزيد من وقوع الفتنة،و اضطراب الرأي العام،و وقوع ما لا تحمد عقباه،فقد أحدث خطاب العقيلة زينب و خطاب الإمام زين العابدين انقلابا فكريا في جميع الأوساط،فقد أنارت تلك الخطب المشرقة العقول،و أثارت العواطف و أصبحت حديث الأندية و المجالس فكانت تغلي كالحمم على تلك الدولة الغاشمة و هي تنذر بانفجار شعبي يكتسح دولة يزيد،فقد عرفت أهل الشام لؤم يزيد،و خبث عنصره،و قلبت الرأي العام عليه فجوبه بالنقد حتى في مجلسه و سقط اجتماعيا،و ذهبت مكانته من النفوس (2).3.

ص: 158


1- معالم المدرستين للعسكري:168/3.
2- حياة الحسين للقرشي:282/3.

اعتذار الطاغية من زين العابدين

و دعا الطاغية الإمام زين العابدين عليه السّلام فأبدى له معاذيره،و ألقى المسؤولية في هذه الجريمة على ابن مرجانة قائلا:

«لعن الله ابن مرجانة،أما و الله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا اعطيته إياها و لدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت و لو بهلاك بعض ولدي،و لكن قضى الله ما رأيت يا بني كاتبني بكل حاجة تكون لك و انه سيكون في قومك أمور فلا تدخل معهم في شي».

و أعرض عنه الإمام فلم يجبه بشي،فقد عرف واقع اعتذاره،و أنه كان تهربا مما لحقه من العار و الخزي.

عرض الأموال لآل البيت عليهم السلام

و أمر الطاغية بأنطاع من الإبريسم ففرشت في مجلسه،و صب عليها أموالا كثيرة،و قدمها لآل البيت لتكون دية لقتلاهم و عوضا لأموالهم التي نهبت في كربلاء فقال:

«خذوا هذا المال عوض ما أصابكم».

رد السيدة أم كلثوم

و التاعت شقيقة الحسين السيدة أم كلثوم و تميزت غيظا فصاحت به:

«ما أقل حياءك،و أصلف وجهك تقتل أخي و أهل بيتي و تعطيني عوضهم».

ص: 159

و قالت سكينة:

«و الله ما رأيت أقسى قلبا من يزيد،و لا رأيت كافرا،و لا مشركا شرا منه،و لا أجفا منه».

و باء يزيد بالفشل،فقد حسب أن أهل البيت تغريهم المادة،و لم يعلم أنهم من صنائع الله قد أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

طلبة الإمام زين العابدين عليهم السلام

و عرض الطاغية على الإمام زين العابدين عليه السّلام أن يعرض عليه حاجته فقال عليه السّلام:

«أريد منك أن تريني وجه أبي،و أن تعيد على النساء ما أخذ منهن ففيها مواريث الآباء و الأمهات،و إذا كنت تريد قتلي فارسل مع العيال من يؤدي بهن إلى المدينة».

و أكبر الظن أن الإمام أراد من رؤية رأس أبيه أن يعطيه الرأس الشريف ليواريه، و لكن الطاغية لم يجبه إلى ذلك فقد أمر أن يطاف به في جميع أنحاء البلاد لإشاعة الذعر و الفزع بين الناس،و حتى يكون عبرة لكل من يخرج عليه،و أما طلب الإمام أن يعيد على النساء ما أخذ منهن فلم يرد بذلك الحلي و الحلل و غيرها من الأموال التي نهبت منهن في يوم كربلاء،و إنما أراد أن يرد عليهم المواريث النفيسة التي ورثوها من جدهم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله كعمامته و درعه و سيفه،و غير ذلك مما هو أثمن من المال.

و أطرق الطاغية برأسه إلى الأرض يفكر في طلب الإمام عليه السّلام ثم رفع رأسه و قال له:

«أما وجه أبيك فلن تراه،و أما ما أخذ منكم فيرد إليكم،و أما النسوة فلا يردهن غيرك،و قد عفوت عن قتلك».

ص: 160

السفر إلى يثرب

و عهد الطاغية إلى النعمان بن بشير أن يقوم برعاية ودائع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله، و يصحبهم إلى يثرب و أمر بإخراجهم من دمشق ليلا خوفا من الفتنة،و اضطراب الأوضاع.

ص: 161

وصول النبأ إلى يثرب

و انتهت أنباء الكارثة الكبرى إلى يثرب قبل وصول السبايا إليها،و قد حمل النبأ عبد الملك بن الحارث السلمي بأمر من ابن زياد،و قد أخذ يجد في السير حتى انتهى إليها،و قد أعياه السفر فأسرع إلى حاكم المدينة الأشدق،و قد لقيه رجل فرابه ما هو فيه من الارتباك فأسرع إليه قائلا:

-ما الخبر؟

-الخبر عند الأمير.

و فطن الرجل لهول الأمر فقال:

«إنا لله و إنا إليه راجعون،قتل و الله الحسين،صدقت أم سلمة بما نبأت به».

و وافى رسول ابن زياد حاكم المدينة فأخبره بمقتل الحسين فاهتز فرحا و سرورا و راح يقول:

«واعية بواعية عثمان».

و أمر الأشدق بإذاعة ذلك بين الناس فهرعوا و قد علاهم البكاء نحو الجامع النبوي ليتعرفوا على تفصيل الحادث الأليم.

خطاب الأشدق

و اعتلى الطاغية عمرو بن سعيد الأشدق أعواد المنبر و هو يهز أعطافه مسرورا بقتل الإمام،و قد أظهر أحقاده و أضغانه فقال:

«أيها الناس:إنها لدمة بلدمة،و صدمة بصدمة،كم خطبة بعد خطبة،حكمة بالغة

ص: 162

فما تغني النذر،لقد كان يسبنا و نمدحه،و يقطعنا و نصله،كعادتنا و عادته،و لكن كيف نصنع بمن سل سيفه علينا يريد قتلنا إلا أن ندفعه عن أنفسنا».

و قطع عليه عبد الله بن السائب خطابه الذي أظهر فيه الشماتة بقتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله،فقال له:

«لو كانت فاطمة حية و رأت رأس الحسين لبكت عليه».

و كان هذا الاستنكار بداية نقد يجابه به والي المدينة و هو يخطب و قد لذعه نقده فصاح به:

«نحن أحق بفاطمة منك أبوها عمنا،و زوجها أخونا،و أمها ابنتنا،و لو كانت فاطمة حية لبكت عينها،و ما لامت من قتله».

و قد شذ الأشدق في قوله عن جميع الأعراف الاجتماعية فقد زعم أن فاطمة لو كانت حية لما لامت قاتل ولدها،بل من المؤكد عنده أنها تبارك القاتل الأثيم لأن بذلك دعما للحكم الأموي و بسطا لسلطانهم الذي يحمل جميع الاتجاهات الجاهلية.

إن فاطمة لو كانت حية و شاهدت فلذة كبدها على صعيد كربلاء و هو يعاني من الخطوب و الكوارث التي لم تجر على أي إنسان لذابت نفسها حسرات،و قد روى علي عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

«تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة،و معها ثياب مصبوغة بدم فتتعلق بقائمة من قوائم العرش،فتقول:يا عدل احكم بيني و بين قاتل ولدي فيحكم لابنتي و رب الجنة».

ص: 163

مأتم عبد الله بن جعفر

و أقام عبد الله بن جعفر مأتما للعزاء على ابن عمه الحسين فجعل الناس يفدون عليه يعزونه بمصابه الأليم،و يقول المؤرخون:إنه كان له مولى يسمى أبا السلاسل فقال له:

«هذا ما لقينا من الحسين».

و قد حسب الغبي أنه يتقرب إليه بذلك لأنه لو لا الحسين لما استشهد ولداه،و لما سمع ابن جعفر مقالته فقد أهابه،و حذفه بنعله قائلا:

«يابن اللخناء تقول ذلك في الحسين؟و الله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه،و الله إنه لمما يسخي نفسي عن ولدي،و يهون علي المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي و ابن عمي مواسيين له صابرين معه».

و أقبل على حضار مجلسه فقال لهم:

«الحمد لله لقد عزّ علي المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي فلقد واساه ولداي».

رزية ابن عباس

رزئ ابن عباس كأشد ما تكون الرزية محنة و ألما حينما سمع بقتل الإمام، و كان في البيت الحرام فقد أسر إليه شخص،و عرفه بالحادث المؤلم فذعر و فقد اهابه فقال له محمد بن عبد الله:

«ما حدث يا أبا العباس؟».

ص: 164

«مصيبة عظيمة نحتسبها عند الله».

ثم أجهش بالبكاء،و انصرف إلى منزله حزينا كئيبا،و أقام مأتما في بيته فأقبل عليه الناس يعزونه بمصابه العظيم و يشاركونه الأسى و اللوعة.

مسور مع ابن الزبير

و لما جاء نعي الحسين إلى مكة التقى مسور بابن الزبير فقال له مسور:

«قد جاء ما كنت تتمنى من موت الحسين بن علي».

فراوغ ابن الزبير و قال:

«يا أبا عبد الرحمن تقول لي هذا؟فو الله ليته ما بقي بالجما حجر و الله ما تمنيت ذلك».

ورد عليه مسور:

«أنت أشرت عليه بالخروج إلى غير وجه».

«نعم أشرت عليه،و لم أدر أنه يقتل،و لم يكن بيدي أجله،و لقد جئت ابن عباس فعزيته،فعرفت أن ذلك يثقل عليه مني،و لو أني تركت تعزيته قال:مثلي يترك لا يعزيني بحسين،فما أصنع؟أخوالي و غرت صدورهم علي،و ما أدري على أي شيء؟».

فأسدى له مسور النصيحة و قال له:

«ما حاجتك إلى ذكر ما مضى دع الأمور تمضي،و بر أخوالك فأبوك أحمد عندهم منك».

رأس الإمام في يثرب

و ذهب أكثر المؤرخين إلى أن الطاغية بعث برأس ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله إلى

ص: 165

يثرب لإشاعة الرعب و الخوف،و القضاء على كل حركة ضده،و جي بالرأس الشريف إلى حاكم المدينة عمرو بن سعيد الأشدق فأنكر ذلك و قال:

«وددت و الله أن أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه».

و كان في مجلسه الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم فصاح به:

«بئس ما قلت:هاته».

و أخذ الوزغ الرأس الشريف و جعل يهز أعطافه بشرا و سرورا و هو يقول بشماتة:

يا حبذا بردك في اليدين و لونك الأحمر في الخدين

و جيء بالرأس العظيم فنصب في جامع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و صرخت نساء آل أبي طالب،و هرعن إلى القبر الشريف ببكاء و عويل فقال مروان:

عجت نساء بني زبيد عجة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

و راح مروان يبدي أفراحه حينما سمع عويل الهاشميات قائلا:

«و الله لكأني أنظر إلى أيام عثمان».

و التفت إلى قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال له:

«يا محمد يوم بيوم بدر».

لقد ظهرت الأحقاد الأموية،و ظهر أنها لا تؤمن بالإسلام و انها محتفظة بجاهليتها الأولى و قد استوفت ثأرها من النبي صلّى اللّه عليه و آله بإبادتها لعترته (1).

و قال البلاذري و الذهبي:ثم بعث يزيد رأسه إلى المدينة (2).

فقال عمرو بن سعيد:وددت و اللّه أن أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه.

فقال مروان:بئس و اللّه ما قلت هاته،ثم أخذ الرأس و قال:9.

ص: 166


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:288/3.
2- أنساب الأشراف 219.

يا حبذا بردك في اليدين و لونك الأحمر في الخدين (1)

و قال:فجيء برأس الحسين فنصب فصرخ نساء آل أبي طالب،فقال مروان:

عجت نساء بني زبيد عجة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثم صحن فقال مروان:

ضربت دوسر فيهم ضربة أثبتت أركان ملك فاستقر (2)

قال:و قام ابن أبي حبيش و عمرو يخطب،فقال:رحم اللّه فاطمة،فمضى عمرو في خطبته شيئا،ثم قال:وا عجبا لهذا الألثغ،و ما أنت و فاطمة؟قال:أمها خديجة.

قال:نعم و اللّه و ابنة محمد أخذتها يمينا و شمالا،وددت و اللّه أن أمير المؤمنين كان نحاه عني و لم يرسل به إلي و وددت و اللّه أن رأس الحسين كان على عنقه و روحه في جسده (3).

و قال:ثم رد إلى دمشق (4).ر.

ص: 167


1- أنساب الأشراف ص 217،و تاريخ الإسلام 351/2.
2- أنساب الأشراف ص 218،و تذكرة خواص الأمة ص 151،و فى أمالي الشجري ص 185- 186،بإيجاز و دوسر:اسم كتيبة كانت للنعمان بن المنذر ملك الحيرة و كانت أشد كتائبه بطشا،حتى قيل في المثل"أبطش من دوسر"و كتيبة دوسر و دوسرة:مجتمعة.
3- أنساب الأشراف ص 218.
4- أنساب الأشراف ص 219. قال المؤلف:إن البلاذري لم يكتب خطبة عمرو بن سعيد لنعرف سبب اعتراض ابن أبي حبيش عليه، و قد مر بي في ما قرأت أنه خاطب قبر الرسول،و قال:يوم بيوم بدر.

عودة السبايا إلى كربلاء

اشارة

و صرحت بعض المصادر أن سبايا آل البيت طلبوا من الوفد الموكل بحراستهم أن يعرج بهم إلى كربلاء ليجددوا عهدا بقبر سيد الشهداء فلبى الوفد طلبهم فانعطفوا إلى كربلاء،و لما انتهوا إليها استقبلن العلويات مرقد أبي عبد الله عليه السّلام بالصراخ و العويل و سالت الدموع كل مسيل و قضين أياما ثلاثة كن من أثقل الليالي و أوجعها على أهل البيت فلم تهدأ لهم عبرة حتى بحت الأصوات و تفتتت القلوب.

و تصرح بعض المصادر أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قد وفد إلى التشرف بزيارة قبر أبي عبد الله فالتقى به الإمام زين العابدين و أخذ يحدثه عما جرى عليهم من صنوف الرزايا و النكبات،ثم غادروا كربلاء متوجهين إلى يثرب (1).

و في مثير الأحزان و اللهوف:إن آل الرسول لما بلغو العراق طلبوا من الدليل ان يمر بهم على كربلاء فلما وصلوا مصرع الشهداء وجدوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري و جماعة من بني هاشم قدموا لزيارة قبر الحسين فوافوا في وقت واحد فتلاقوا بالحزن و البكاء و اجتمع إليهم نساء ذلك السواد و أقاموا على ذلك أياما،ثم انفصلوا من كربلاء قاصدين مدينة جدهم (2).

ص: 168


1- حياة الحسين للقرشي:289/3.
2- معالم المدرستين للعسكري:168/3.

إلى يثرب

قال القرشي:و اتجه موكب أسارى أهل البيت إلى يثرب فأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء و قد جللته الأحزان و الآلام،و قد غامت عيون بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و آله بالدموع و هن ينحن على فقد الأحبة و يذكرن بمزيد اللوعة ما جرى عليهم من أسر الذل و الهوان.

و كانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على أم المؤمنين السيدة أم سلمة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله فقد ماتت بعد مقتل الحسين عليه السّلام،بشهر حزنا و كمدا عليه و هي التي أنبأت الناس عن مقتله.

نعي بشر للإمام

و لما وصل الإمام زين العابدين بالقرب من يثرب نزل فضرب فسطاطه و أنزل عمامته و أخوانه،و التفت إلى بشر بن حذلم فقال له:

«يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعرا،فهل تقدر على شيء منه؟»

«بلى يابن رسول الله إني لشاعر».

«ادخل المدينة و انع أبا عبد الله».

و انطلق بشر إلى المدينة فلما انتهى إلى الجامع النبوي رفع صوته مشفوعا بالبكاء و هو يقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فادمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج و الرأس منه على القناة يدار

و هرعت الجماهير نحو الجامع النبوي و هي ما بين نائح و صائح تنتظر من بشر

ص: 169

المزيد من الأنباء فالتفت إليهم و هو غارق في البكاء قائلا:

«هذا علي بن الحسين مع عماته و أخواته قد حلوا بساحتكم،و أنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه».

و عج الناس بالبكاء و انطلقوا مسرعين يستقبلون آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله الذي برّ بدينهم و دنياهم،و انتشر الحزن و عمت الكآبة جميع الأوساط،فكان ذلك اليوم،كما وصفه المؤرخون كاليوم الذي مات فيه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و ازدحم الناس على الإمام زين العابدين و هم يعزونه بمصابه الأليم،و يشاركونه الأسى و اللوعة.

خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام

و رأى الإمام أن يحدث الناس بما جرى عليهم من عظيم الرزايا و النكبات،و ما عانوه من أسر الذل و الهوان و لم يكن باستطاعته أن يقوم خطيبا فقد ألمت به الأمراض،و انهكته الآلام فجي له بكرسي فجلس عليه،فقال عليه السّلام:

«الحمد لله رب العالمين،الرحمن الرحيم،مالك يوم الدين،بارئ الخلق أجمعين،الذي بعد فارتفع في السماوات العلى،و قرب فشهد النجوى،نحمده على عظائم الأمور و فجائع الدهور،و ألم الفجائع،و مضاضة اللواذع،و جليل الرزء، و عظيم المصائب الفاظعة الكاظة،الفادحة الجائحة.

أيها القوم:إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة،و ثلمة في الإسلام عظيمة،قتل أبو عبد الله الحسين و عترته،و سبيت نساؤه و صبيته،و داروا برأسه في البلدان، من فوق عامل السنان،و هذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس،فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله،أم أي فؤاد لا يحزن من أجله،أم أية عين منكم تحبس دمعها،و تضن عن انهمالها فلقد بكت السبع الشداد لقتله و بكت البحار بأمواجها،و السماوات بأركانها،و الأرض بأرجائها،و الأشجار

ص: 170

بأغصانها،و الحيتان في لجج البحار،و الملائكة المقربون،و أهل السماوات أجمعون.

أيها الناس:أي قلب لا ينصدع لقتله،أم أي فؤاد لا يحن إليه،أم أي سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام و لا يصم.

أيها الناس:أصبحنا مشرددين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار كأننا أولاد ترك و كابل من غير جرم اجترمناه،و لا مكروه ارتكبناه،و لا ثلمة في الإسلام ثلمناها،ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين،ان هذا إلا اختلاق،و الله لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا،فإنا لله و إنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها و أفجعها و أكظها و أفظعها و أمرها و أفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا و ما بلغ فإنه عزيز ذو انتقام».

و عرض الإمام في خطابه إلى الخطوب السود التي عانتها الأسرة النبوية و ما جرى عليها من الظلم الهائل..و انبرى إليه صعصعة فألقى إليه معاذيره لأنه كان زمنا،فقبل الإمام عذره و ترحم على أبيه،ثم زحف الإمام مع عماته و اخواته إلى يثرب و قد احتفت به الجماهير و قد علا منها البكاء و الصراخ،و لما انتهوا إلى الجامع النبوي أخذت عقيلة آل أبي طالب بعضادتي باب المسجد،و جعلت تخاطب جدها الرسول صلّى اللّه عليه و آله قائلة:

«يا جداه إني ناعية إليك أخي الحسين».

و خلدن بنات رسول الله إلى الحزن فأقمن المآتم على سيد الشهداء و لبسن السواد و أخذن يندبنه بأقسى و أشجى ما تكون الندبة (1).

روي عن بشير بن جذلم أنه قال:لما قربنا من المدينة حط علي بن الحسين رحله و ضرب فسطاطه و أنزل نساءه و قال:يا بشير رحم اللّه أباك لقد كان شاعرا3.

ص: 171


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:290/3.

فهل تقدر على شيء منه فقال:بلى يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إني شاعر فقال عليه السّلام:ادخل المدينة و انع أبا عبد اللّه.

قال بشير:فركبت فرسي و ركضت حتى دخلت المدينة،فلما بلغت مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله رفعت صوتي بالبكاء و أنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج و الرأس منه على القناة يدار

قال:ثم قلت:هذا علي بن الحسين عليه السّلام مع عماته و أخواته قد حلوا بساحتكم و نزلوا بفنائكم و أنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه،قال:فلم يبق في المدينة مخدرة و لا محجبة إلاّ برزن من خدورهن و هن بين باكية و نائحة و لا طمة فلم ير يوم أمر على أهل المدينة منه،و سألوه:من أنت؟

قال:فقلت:أنا بشير بن جذلم و جهني علي بن الحسين و هو نازل في موضع كذا و كذا مع عيال أبي عبد اللّه و نسائه،قال:فتركوني مكاني و بادروني فضربت فرسي حتى رجعت إليهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق و المواضع فنزلت عن فرسي و تخطيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط و كان علي بن الحسين داخلا فخرج و بيده خرقة يمسح بها دموعه و خادم معه كرسي فوضعه و جلس و هو مغلوب على لوعته فعزاه الناس فأوما إليهم أن اسكتوا فسكنت فورتهم فقال:

الحمد للّه رب العالمين مالك يوم الدين بار؟الخلائق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى و قرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور و فجائع الدهور و جليل الرزء و عظيم المصائب.

أيها القوم ان اللّه و له الحمد ابتلانا بمصيبة جليلة و ثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد اللّه و عترته و سبي نساؤه و صبيته و داروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان،أيها الناس فأي رجالات يسرون بعد قتله؟أية عين تحبس دمعها و تضن عن انهمالها،فلقد بكت السبع الشداد لقتله و بكت البحار و السماوات و الأرض

ص: 172

و الأشجار و الحيتان و الملائكة المقربون و أهل السماوات أجمعون.

أيها الناس أي قلب لا ينصدع لقتله؟أم أي فؤاد لا يحن إليه أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلم في الإسلام.

أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين كأنا أولاد ترك أو كابل من غير جرم اجترمناه و لا مكروه ارتكبناه ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ان هذا إلاّ اختلاق و اللّه لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاة بنا لما زادوا على ما فعلوه فانا للّه و انا إليه راجعون.

فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان و كان زمينا فاعتذر إليه فقبل عذره و شكر له و ترحم على أبيه (1).

مكافأة الحرس

قال السيد القرشي:و شكرن العلويات رئيس الحرس الذي قام برعايتهن من دمشق إلى يثرب فقد قام لهن بخدمات جليلة تقضي مكافأته فقالت فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين لأختها زينب.

«لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟»

«و الله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا».

«نعم هو ما تقولين».

و أخرجتا سوارين و دملجين لهما،و بعثتا بهما إليه،و اعتذرتا في أدب،و تأثر الرجل من هذا الكرم الغامر و هو يعلم ما هن فيه من ضيق شديد،فرده إليهما و قال باحترام:

ص: 173


1- مثير الأحزان ص 90-91،اللهوف 76-77 و معالم المدرستين للعسكري:170/3.

«لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني،و لكن و الله ما فعلته إلا لله و لقرابتكم من رسول الله صلّى اللّه عليه و آله» (1).

روى الطبري بسنده عن الحارث بن كعب،قال:قالت لي فاطمة بنت علي:قلت لأختي زينب:يا أخي لقد أحسن هذا الرجل الشامي إلينا في صحبتنا فهل لك أن نصله؟فقالت:و اللّه ما معنا شيء نصله به إلاّ حلينا قالت لها:فنعطيه حلينا قالت:

فأخذت سواري و دملجي و أخذت أختي سوارها و دملجها فبعثنا بذلك إليه و اعتذرنا إليه و قلنا له:هذا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل قال:لو كان الذي صنعت إنما هو للدنيا كان في حليكن ما يرضيني و دونه و لكن و اللّه ما فعلته إلاّ للّه و لقربتكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

حزن الإمام زين العابدين عليه السلام

قال السيد القرشي:و خلد الإمام زين العابدين إلى البكاء على أبيه ليلا و نهارا، يقول الإمام الصادق عليه السّلام:إن جدي علي بن الحسين بكى على أبيه عشرين سنة،و ما وضع بين يديه طعام إلا بكى و عذله بعض مواليه فقال له:

«إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين».

فقال له الإمام برفق:

«يا هذا إنما أشكو بثي و حزني إلى الله،و أعلم من الله ما لا تعلمون إن يعقوب كان نبيا فغيب الله عنه واحدا من أولاده و عنده اثنا عشر ولدا و هو يعلم أنه حي فبكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن،و اني نظرت إلى أبي و اخوتي و عمومتي و صحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟و اني لا أذكر مصرع بني فاطمة إلا

ص: 174


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:292/3.
2- تاريخ الطبري. ط/اروبا،379/2.

خنقتني العبرة،و إذا نظرت إلى عماتي و أخواتي ذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة».

و يزداد و جيب الإمام،و تتضاعف آلامه حينما كان ينظر إلى ديار أهله،و هي خالية موحشة تنعى أهلها،فقد رحلت عنها تلك الكواكب التي كانت تضي للناس حياتهم الفكرية و الاجتماعية،و فيها يقول الشاعر:

مررت على أبيات آل محمد فلم أر مثلها يوم حلت

فلا يبعد الله الديار و أهلها و إن أصبحت منهم برغم تخلت

و فيها يقول دعبل الخزاعي:

مدارس آيات خلت من تلاوة و منزل وحي مقفر العرصات (1)

في اللهوف:روى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:إن زين العابدين عليه السّلام بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره،و قائما ليله،فإذا حضر الافطار و جاء غلامه بطعامه و شرابه فيضعه بين يديه فيقول:كل يا مولاي،فيقول:قتل ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عطشانا فلا يزال يكرر ذلك و يبكي حتى يبتل طعامه من دموعه فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه عزّ و جلّ.

قال:و حدث مولى له قال:أنه برز يوما إلى الصحراء فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة فوقفت و أنا أسمع شهيقه و أحصيت عليه ألف مرة يقول:(لا إله إلا اللّه حقا حقا.

لا إله إلا اللّه تعبدا ورقا،لا إله إلا اللّه ايمانا و صدقا)ثم رفع رأسه من سجوده و ان لحيته و وجهه قد غمرا من دموع عينيه،فقلت:يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي، و لبكائك أن يقل؟

فقال:ويحك،ان يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا و ابن نبي،له اثنى عشر3.

ص: 175


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:292/3.

ابنا فغيب اللّه واحدا منهم فشاب رأسه من الحزن و احدودب ظهره من الغم و ذهب بصره من البكاء و ابنه حي في دار الدنيا و أنا رأيت أبي و أخي و سبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين،فكيف ينقضي حزني و يقل بكائي؟ (1).

رأس ابن زياد بين يدي السجاد عليه السلام

ذكر اليعقوبي و قال:وجه المختار برأس عبيد اللّه بن زياد إلى علي بن الحسين في المدينة مع رجل من قومه،و قال له:قف بباب علي بن الحسين،فإذا رأيت أبوابه قد فتحت و دخل الناس،فذلك الذي فيه طعامه،فادخل إليه،فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين،فلما فتحت أبوابه،و دخل الناس للطعام،دخل و نادى بأعلى صوته:يا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مهبط الملائكة،و منزل الوحي،أنا رسول المختار ابن أبي عبيد معي رأس عبيد اللّه بن زياد.

فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاّ صرخت،و دخل الرسول فأخرج الرأس،فلما رآه علي بن الحسين قال:أبعده اللّه إلى النار.

و روى بعضهم أن علي بن الحسين لم ير ضاحكا قط منذ قتل أبوه،إلا في ذلك اليوم،و انه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام،فلما أتي برأس عبيد اللّه بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرقت بين أهل المدينة و امتشطت نساء آل رسول اللّه و اختضبن و ما امتشطت امرأة و لا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي (2).

ص: 176


1- اللهوف ص 80،و معالم المدرستين للعسكري؟؟؟ مثير الأحزان ص 92 بإيجاز.
2- تاريخ اليعقوبي 259/2.

فجيعة الهاشميين

و وقع النبأ المؤلم بقتل الحسين كالصاعقة على رؤوس الهاشميين فقد علا الصراخ و العويل من بيوتهم،و خرجت السيدة زينب بنت عقيل ناشرة شعرها، و هي تصحيح:

«وا محمداه،وا حسيناه،وا أخوتاه وا اهيلاه».

و جعلت تنظم ذوب روحها بأبيات تخاطب بها المسلمين قائلة:

ماذا تقولون:إن قال النبي لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم

بعترتي و بأنصاري و ذريتي منهم أسارى و قتلى ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فأجابها أبو الأسود و هو غارق في البكاء و الشجون نقول:

«ربنا ظلمنا أنفسنا،و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين».

و علاه الجزع و راح يقول:

أقول:و زادني حنقا و غيظا أزال الله ملك بني زياد

و أبعدهم كما بعدوا و خافوا كما بعدت ثمود و قوم عاد

و لا رجعت ركائبهم إليهم إذا وقفت يوم التناد

و ساد البكاء و عمت اللوعة و انتشر الحزن في جميع أنحاء يثرب،فلم ير أكثر باك و لا باكية من ذلك اليوم.

و قال السيد القرشي:و حزن الهاشميون على سيد الشهداء كأشد ما يكون الحزن و اللوعة فاستمروا في النياحة عليه ثلاث سنين و كان مسور بن مخرمة و أبو هريرة و المشيخة من أصحاب رسول الله يأتون متسترين فيستمعون ندبتهم،و يبكون بكاء مرا.

ص: 177

حزن العقيلة

و خلدت عقيلة آل أبي طالب إلى البكاء و النياحة على انقراض أهلها و كانت لا تجف لها عبرة،و لا تفتر عن البكاء،و كلما نظرت إلى ابن أخيها زين العابدين يزداد وجدها و حزنها و قد نخبت المصائب قلبها حتى صارت كأنها جثة هامدة،و لم تبق بعد الكارثة إلا سنتين حتى سمت روحها إلى الرفيق الأعلى.

لوعة الرباب

و وجدت عليه زوجته الرباب وجدا شديدا،و حزنت عليه حزنا عميقا،و قد أبدت من الوفاء ما لم ير مثله،و قد خطبها الأشراف من قريش فأبت و قالت:ما كنت لاتخذ حموا بعد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و بقيت بعده سنة لم يظلها سقف حتى ماتت كمدا و يقول المؤرخون إنها رثته رثاء حزينا فقالت فيه:

إن الذي كان نورا يستضاء به بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة عنا و حبيت خير الموازين

قد كنت جبلا صعبا ألوذ به و كنت تصحبنا بالرحم و الدين

من لليتامى و من للسائلين و من يغني و يأوي إليه كل مسكين

و الله لا أبتغي صهرا بصهركم حتى أغيب بين الرمل و الطين

و يقول بعض المؤرخين إنها أقامت على قبره الشريف سنة ثم انصرفت و هي تقول:

إلى الحول ثم السلام عليكما و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر

و هذا القول بعيد فإن العائلة الحسينية بعد اليوم العاشر كلها رحلت من كربلاء،

ص: 178

و لم يتخلف أحد منها حسب ما أجمع عليه المؤرخون.

و بلغ من وفاء أزواجه أن زوجته السيدة عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تنوح عليه،و قد رثته بذوب روحها قائلة:

وا حسينا فلا نسيت حسينا اقصدته أسنة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعا لا سقى الغيث بعده كربلاء

أحزان أم البنين

و خلدت أم البنين إلى البكاء و النياحة على أبنائها البررة الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين فقد نخب الحزن قلبها،و راحت تبكيهم بذوب روحها و يقول بعض المؤرخين:إنها كانت تخرج إلى البقيع فتندبهم بأشجى و أوجع ما تكون الندبة، و كان الناس يجتمعون حولها فيسمعون رثاءها الحزين لأبنائها فيبكون،و كان ممن يجي لذلك مروان بن الحكم فيتأثر على قساوة قلبه و شدة عداوته لأهل البيت و قد نفى المحقق العلامة المغفور له السيد عبد الرزاق المقرم أن تكون أم البنين حية بعد كارثة كربلاء،و أنها توفيت قبل ذلك و قد صرح أبو الفرج و غيره من المعنيين بهذه البحوث بأنها كانت حية (1).

ص: 179


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:294/3.

دفن أجساد آل الرسول و أنصارهم

في إثبات الوصية للمسعودي:أقبل زين العابدين في اليوم الثالث عشر من المحرم لدفن أبيه (1).

و قال المفيد في الارشاد:لما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين و أصحابه فصلوا عليهم و دفنوا الحسين عليه السّلام حيث قبره الآن،و دفنوا ابنه علي بن الحسين الأصغر عند رجله و حفروا للشهداء من أهل بيته و أصحابه الذين صرعوا حوله،مما يلي رجلي الحسين عليه السّلام،و جمعوهم فدفنوهم جميعا معا،و دفنوا العباس بن علي عليه السّلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن (2).

و قيل:لما رحل ابن سعد بالسبايا خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين عليه السّلام و أصحابه،فصلوا عليهم و دفنوا الحسين عليه السّلام حيث قبره الآن و دفنوا ابنه علي بن الحسين الأكبر عند رجليه و حفروا للشهداء من أهل بيته و أصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السّلام و جمعوهم و دفنوهم جميعا معا،و دفنوا العباس بن علي عليه السّلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن (3).

ص: 180


1- اثبات الوصية للمسعودي ص 173.
2- ارشاد المفيد ص 227.
3- -الإرشاد للمفيد 114/2.

دفن الرأس الشريف و مصيره

اشارة

اختلف المؤرخون حول المكان الذي دفن فيه رأس الإمام الحسين عليه السّلام و تنافست ما يقرب من ثماني مدن إسلامية على ادعاء شرف و فخر إيواء الراس الشريف لأبي عبد الله الحسين بن علي عليه السّلام و تلك المدن هي:كربلاء،و المدينة، و دمشق،و عسقلان،و الرقة،و مرو،و حلب،و القاهرة.

و الأصح أنه أعيد بعد أربعين يوما فدفن بكربلاء مع جسده الشريف (1).

و قال السيد القرشي:و انطوت السنون و الأجيال و الناس يتساءلون بلهفة أين دفن رأس الحسين؟بعد ما أصبح جسده الطاهر مزارا في كربلاء يطيف به الناس متفقين و مختلفين،و قد كثرت أقوال المؤرخين في المكان الذي حظي به و هذه بعضها:

1-في كربلاء:

و المشهور عند الشيعة الإمامية أن الرأس العظيم أعيد إلى كربلاء،و دفن مع الجسد الطاهر،و قد ذكر السيد رضي الدين علي بن طاوس أن عمل الطائفة على ذلك و ممن نص على ذلك المجلسي و ابن نما كما اشتهر ذلك عند فريق كبير من علماء السنة منهم الشبراوي و ابن الجوزي و البيروني و القزويني و غيرهم و مما لا شبهة

ص: 181


1- اللهوف في قتلى الطفوف،لابن طاووس 86،نور الأبصار 147.

فيه أن علماء الشيعة الإمامية معنيون بالاهتمام و البحث عن هذه الجهة أكثر من غيرهم،فهم أدرى بواقع الحال و أكثر وقوفا عليه من أي باحث آخر.

أما كيفية نقل الرؤوس الشريفة إلى كربلاء و دفنها مع الأجساد الطاهرة ففيما نحسب أنه يحتمل أحد أمرين:

الأول-إن الإمام زين العابدين التمس من يزيد أن يسمح له بذلك فأجابه إليه، و قد أخذ يزيد يتطلب مرضاة الإمام بعد أن نقم عليه المسلمون و كرهوا خلافته، و على هذا فيطرح ما روي أن الإمام عليه السّلام لما طلب منه أن يريه وجه أبيه فلم يجبه إلى ذلك،و يحتمل أنه أجابه إليه بعد رفضه.

الثاني-ان الإمام زين العابدين طلب من حاكم المدينة حينما حملت إليه الرؤوس أن يواريها مع الأجسام فأجابه إلى ذلك،فأخذها و رجع إلى كربلاء و واراها مع الأجساد الطاهرة.

2-في البقيع:

و ذهب فريق من المؤرخين إلى أن الرأس الشريف دفنه حاكم المدينة في البقيع إلى جانب أمه عليه السّلام.

3-في النجف:

و أثرت مجموعة من الأخبار عن الإمام الصادق عليه السّلام تنص على أن الرأس الشريف دفن في الغري،و هذه بعضها:

1-روى عمرو بن طلحة قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام و هو بالحيرة:أما تريد ما وعدتك.

ص: 182

قلت:بلى-يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين عليه السّلام قال:فركب و ركب إسماعيل و ركبت معهما حتى إذا جاز الثوية و كان بين الحيرة و النجف عند ذكوات بيض نزل و نزل إسماعيل و نزلت معهما فصلى و صلى إسماعيل و صليت فقال لإسماعيل:قم فسلم على جدك الحسين عليه السّلام.

فقلت،جعلت فداك أليس الحسين بكربلاء؟

فقال:نعم،و لكن لما حمل رأسه سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين.

2-روى أبان بن تغلب قال:كنت مع أبي عبد الله عليه السّلام فمر بظهر الكوفة فصلى ركعتين ثم تقدم قليلا فصلى ركعتين،ثم سار قليلا فنزل فصلى ركعتين،ثم قال هذا موضع قبر أمير المؤمنين عليه السّلام.

قلت:و الموضعين اللذين صليت فيهما.

قال:موضع رأس الحسين و موضع منزل القائم.

3-روى علي بن أسباط بسنده قال:قال أبو عبد الله عليه السّلام:إنك إذا أتيت الغري رأيت قبرين قبرا كبيرا و قبرا صغيرا،أما الكبير فقبر أمير المؤمنين عليه السّلام و أما الصغير فرأس الحسين عليه السّلام.

هذه بعض الأخبار التي تصرح بأن الرأس الشريف قد دفن في الغري و لكن التعبير في بعضها بأنه موضع الرأس لا يدل على أنه قد دفن فيه.

4-في دمشق:

و ذهب جمهور من المؤرخين إلى أن الرأس الشريف قد دفن في دمشق،و قد اختلفوا في المكان الذي حظي به و هذه بعض الأقوال:

أ-دفن في حائط بدمشق.

ب-في دار الامارة.

ص: 183

ج-في المقبرة.

د-في داخل باب الفراديس،و يعرف بمسجد الرأس.

ه-في جامع دمشق.

و هناك أقوال أخر غير هذه.

5-في فارس:

ذكر ذلك أحمد عطية و هو قول شاذ لم يذكره أحد من المؤرخين.

6-في مصر:

و ذهب بعض المؤرخين إلى أن الرأس الشريف قد حظيت به القاهرة أما كيفية نقله لها ففيها قولان:

1-ما ذكره الشعراني أن العقيلة زينب عليه السّلام نقلته إلى مصر و دفنته فيه و هذا القول شاذ لا يعول عليه.

2-ما أفاده المقريزي أنه نقل من عسقلان إلى مصر سنة(548 ه)في اليوم العاشر من شهر جمادى الآخرة،و قد نقله سيف المملكة مع القاضي المؤتمن ابن مسكين،و جرى له استقبال ضخم.

هذه بعض الأقوال التي ذكرت في مواراة الرأس العظيم،و قد شيد في أغلبها مزار يطوف به المسلمون،و هو من مواضع الاعتزاز و الفخر لكل بلد حظي بهذه النسبة.

و على أي حال فالحسين قائم في عواطف الناس و قلوبهم ففي أعماق النفوس قبره و ذكره فهو أسمى صورة قدسها الناس في جميع الأحقاب و الآباد.

ص: 184

و قد سئل أبو بكر الآلوسي عن موضع رأس الحسين فقال:

لا تطلبوا رأس الحسين بشرق أرض أو بغرب

و دعوا الجميع و عرجوا نحوي فمشهده بقلبي

و قال الحاج مهدي الفلوجي:

لا تطلبوا رأس الحسين فإنه لا في حمى ثاو و لا في واد

لكنما صفو الولاء يدلكم في أنه المقبور وسط فؤادي

لقد احتل الإمام الحسين عليه السّلام مشاعر الناس و ثوى في أفئدتهم فهاموا في حبه و تقديسه،و قد فجعوا بما جرى عليه من عظيم الرزايا و الخطوب،و ظلت رزيته تنخر في القلوب،و تذوب النفوس من هولها أسى و حزنا،و هم يحجون لكل مرقد يحمل شرف الانتساب بأنه مرقد رأس الإمام عليه السّلام،و قد ازدحم المرقد العظيم بالقاهرة بالزائرين و هم يتبركون به،و يعدون زيارته من أفضل الطاعات و القربات إلى الله تعالى (1).3.

ص: 185


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:298/3.

عوة السبايا الى الكوفة

اشارة

في فتوح أعثم و مقتل الخوارزمي و غيرهما،قالوا:و ساق القوم حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما تساق الأسارى،حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس ينظرون إليهم، و جعلوا يبكون و يتوجعون،و علي بن الحسين مريض،مغلول مكبل بالحديد قد نهكته العلة،فقال:ألا إن هؤلاء يبكون و يتوجعون من أجلنا،فمن قتلنا اذن؟

فأشرفت امرأة من الكوفة و قالت:من أي الأسارى أنتن؟

فقلن:نحن أسارى آل محمد صلّى اللّه عليه و آله فنزلت و جمعت ملاءا و أزرا و مقانع و أعطتهن (1).

خطبة زينب عليه السلام

و قال بشير بن حذيم الأسدي:نظرت إلى زينب بنت على يومئذ-و لم أر خفرة قط أنطق منها كأنما تنطق عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام و تفرغ عنه-و أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس،و سكنت الأجراس،فقالت:" الحمد للّه و الصلاة على أبي محمد رسول اللّه و على آله الطيبين الأخيار آل اللّه،و بعد! يا أهل الكوفة!و يا أهل الختل،و الخذل،و الغدر!أتبكون؟فلا رقأت الدمعة و لا هدأت الرنة،إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوه أنكاثا.

ص: 186


1- ما بين القوسين في مثير الأحزان ص 66 ثم رجعنا إلى رواية ابن أعثم،انظر معالم المدرستين للعسكري:1/3.

أتتخذون أيمانكم دخلا بينكم؟ألا و هل فيكم إلاّ الصلف،و الطنف،و الشنف (1)و ملق الإماء و غمز الأعداء،أو كمرعى على دمنة،أو كقصة (2)على ملحودة،ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم و في العذاب أنتم خالدون،أتبكون و تنتحبون إي و اللّه فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا،فلقد ذهبتم بعارها و شنارها،و لن ترحضوها بغسل بعدها أبدا و أنى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء و سيد شباب أهل الجنة و ملاذ خيرتكم و مفزع نازلتكم،و منار حجتكم و مدره (3)ألسنتكم ألا ساء ما تزرون و بعدا لكم و سحقا،فلقد خاب السعي و تبت الأيدي،و خسرت الصفقة و بؤتم بغضب من اللّه،و ضربت عليكم الذلة و المسكنة،ويلكم يا أهل الكوفة.

أتدرون أي كبد لرسول اللّه فريتم،و أي دم له سفكتم،و أي كريمة له أبرزتم و أي حريم له أصبتم؟و أي حرمة له انتهكتم؟لقد جئتم شيئا إذا تكاد السماوات يتفطرن منه،و تنشق الأرض منه،و تخر الجبال هدا،ان ما جئتم بها لصلعاء،و عنقاء سوءاء فقماء خرقاء شوهاء،كطلاع الأرض و ملاء السماء.

أفعجبتم أن قطرت السماء دما؟و لعذاب الآخرة أشد و أخزى و أنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل،فإنه عزّ و جلّ لا يحفزه البدار،و لا يخاف فوت الثار،كلا ان ربكم لبالمرصاد.

قال بشير:فو اللّه لقد رأيت الناس يومئذ حيارى،كأنهم كانوا سكارى،يبكون و يحزنون و يتفجعون و يتأسفون و قد وضعوا أيديهم في أفواههم.

قال:و نظرت إلى شيخ من أهل الكوفة كان واقفا إلى جنبي،قد بكى حتى اخضلت لحيته بدموعه و هو يقول:صدقت بأبي و أمي،كهولكم خير الكهول،ن.

ص: 187


1- الأول الوقاحة و الثاني فساد الأخلاق و الثالث الكراهة.
2- و هي الجص.
3- كمنبر،المقدم من اللسان.

و شبانكم خير الشبان و نساؤكم خير النسوان،و نسلكم خير نسل لا يخزى و لا يبزي (1).

خطبة فاطمة ابنة الحسين عليه السّلام:و في مثير الأحزان و اللهوف:و خطبت فاطمة الصغرى فقالت:الحمد للّه عدد الرمل و الحصى وزنة العرش إلى الثرى أحمده و أومن به و أتوكل عليه و أشهد أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبده و رسوله و أن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير ذحل و لا ترات اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب أو أن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب المقتول كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت اللّه فيه معشر مسلمة بألسنتهم تعسا لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيما في حياته و بعد وفاته حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب العريكة معروف المناقب مشهور المذاهب،لم تأخذه فيك لومة لائم زاهدا في الدنيا مجاهدا في سبيلك فهديته إلى صراطك المستقيم.

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل المكر و الغدر و الخيلاء فانا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم و ابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنا و جعل علمه عندنا و فهمه لدينا فنحن عيبة علمه، أكرمنا بكرامته،و فضلنا بمحمد نبيه صلى اللّه عليه و آله على كثير ممن خلق تفضيلا فكذبتمونا و رأيتم قتالنا حلالا و أموالنا نهبا كأنا أولاد ترك أو كابل فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا و نالت أيديكم من أموالنا فكأن العذاب قد حل بكم و أتت نقمات ألا لعنة اللّه على الظالمين،تبا لكم يا أهل الكوفة أي ترات لرسول اللّه صلى اللّه عليه قبلكم و دخول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي و بنيه و عترته و افتخر بذلك مفتخركم فقال:

نحن قتلنا عليا و بني علي بسيوف هندية و رماحر.

ص: 188


1- تاريخ ابن أعثم 221/5-226،و مقتل الخوارزمي 40/2-42. و لا يبزي:لا يقهر.

و سبينا نساءهم سبي ترك و نطحناهم فأي نطاح

بفيك الكثكث و الأثلب، افتخرت بقتل قوم زكاهم اللّه في كتابه و طهرهم و أذهب عنهم الرجس؟فأقع كما أقعى أبوك و إنما لكل امرئ ما اكتسب أحسدتمونا على ما فضلنا اللّه تعالى به.

ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور.

فضج الموضع بالبكاء و الحنين و قالوا:حسبك يا ابنة الطيبين فقد أحرقت قلوبنا و أضرمت أجوافنا فسكتت (1).

خطبة أم كلثوم

و قال و خطبت أم كلثوم بنت علي عليه السّلام و قد غلب عليها البكاء فقالت:يا أهل الكوفة سوءة لكم ما لكم خذلتم حسينا و قتلتموه و انتهبتم أمواله و سبيتم نساءه و نكبتموه فتبا لكم و سحقا ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم و أي دماء سفكتموها!و أي كريمة أصبتموها!و أي أموال انتهبتموها!قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى اللّه عليه و آله!ألا ان حزب اللّه هم الفائزون و حزب الشيطان هم الخاسرون ثم قالت:

قتلتم أخي صبرا فويل لامكم ستجزون نارا حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم اللّه سفكها و حرمها القرآن ثم محمد

ألا فأبشروا بالنار إنكم غدا لفى سقر حقا يقينا تخلدوا

و إنى لأبكى في حياتي على أخي على خير من بعد النبي

سيولد بدمع غزير مستهل مكفكف على الخد مني ذايبا ليس يجمد

فضج الناس بالبكاء و النوح (2).

ص: 189


1- معالم المدرستين للعسكري:147/3.
2- مثير الأحزان 66-69،و معالم المدرستين للعسكري:1/3.

إخبار مدينة الرسول بقتل سبط الرسول عليه السلام

و روى الطبري بسنده عن عوانة بن الحكم قال:لما قتل عبيد اللّه بن زياد الحسين بن علي،و جيء برأسه إليه،دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال:

انطلق حتى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص،فبشره بقتل الحسين، و كان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ.

قال:فذهب ليعتل له فزجره و كان عبيد اللّه لا يصطلي بناره،فقال:انطلق حتى تأتي المدينة و لا يسبقك الخبر و أعطاه دنانير و قال:لا تعتل و ان قامت بك راحلتك فأكثر راحلة قال عبد الملك:فقدمت المدينة فلقيني رجل من قريش فقال:ما الخبر؟

فقلت:الخبر عند الأمير.

فقال:إنا للّه و إنا إليه راجعون،قتل الحسين بن علي،قال:فدخلت على عمرو بن سعيد فقال:ما وراءك؟فقلت:ما سره الأمير،قتل الحسين بن علي عليه السّلام.

فقال:ناد بقتله،فناديت بقتله،فلم اسمع و اللّه واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين!فقال عمرو بن سعيد و ضحك:

عجت نساء بني زياد عجة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

و الأرنب:وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب من رهط عبد المدان و هذا البيت لعمرو بن معدي كرب ثم قال عمرو:هذه واعية بواعية عثمان بن عفان،ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.

و في الأغاني:أمر عمرو صاحب شرطته على المدينة بعد خروج الحسين أن

ص: 190

يهدم دور بني هاشم ففعل و بلغ منهم كل مبلغ (1).

و روى الطبري بسنده و قال:لما بلغ عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين،دخل عليه بعض مواليه و الناس يعزونه قال:و لا أظن مولاه ذلك إلاّ أبا اللسلاس:فقال:هذا ما لقينا و دخل علينا من الحسين.

قال:فحذفه عبد اللّه بن جعفر بنعله،ثم قال:يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا؟! و اللّه لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه و اللّه انه لمما يسخي بنفسي عنهما،و يهون علي المصاب بهما،أنهما أصيبا مع أخي و ابن عمي مواسيين له صابرين معه.

ثم أقبل على جلسائه،فقال:الحمد للّه!عز علي بمصرع الحسين إلا يكن آست حسينا يدي فقد آساه ولدي قال:و لما أتى أهل المدينة مقتل الحسين خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب و معها نساؤها و هي حاسرة تلوي بثوبها و هي تقول:

ماذا تقولون ان قال النبي لكم ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم

بعترتي و بأهلي بعد مفتقدي منهم أسارى و منهم ضرجوا بدم (2)3.

ص: 191


1- الأغاني،155/4.
2- معالم المدرستين للعسكري:153/3.

من نعى الإمام في المدينة

أ-أم سلمة

قال السيد مرتضى العسكري:في سنن الترمذي و سير النبلاء و الرياض النضرة و تاريخ ابن كثير و تاريخ الخميس و غيرها و اللفظ للأول،عن سلمى،قالت:

دخلت على أم سلمة و هي تبكي فقلت:ما يبكيك؟

قالت:رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله-تعنى في المنام-و على رأسه و لحيته التراب.

فقلت:ما لك يا رسول اللّه؟

قال:شهدت قتل الحسين آنفا (1).

و قال اليعقوبي:و كان أول صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان دفع إليها قارورة فيها تربة و قال لها:(ان جبريل أعلمني ان أمتي تقتل الحسين)و أعطاني هذه التربة،و قال لي:(إذا صارت دما عبيطا فاعلمي أن الحسين قد قتل)،و كانت عندها فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة،فلما رأتها قد صارت دما صاحت،وا حسيناه!يا ابن رسول اللّه! و تصارخت النساء من كل ناحية حتى ارتفعت المدينة بالرجة التي ما سمع بمثلها قط.

ص: 192


1- سنن الترمذي 193/13-194،و مستدرك الحاكم 19/4،و سير النبلاء 213/3،و الرياض النضرة ص 148،و تاريخ ابن الأثير 38/3،و ابن كثير 201/8،و تاريخ السيوطي ص 208، و تاريخ ابن عساكر،ح-726،و تهذيبه 240/4.

ب-ابن عباس

في مسند أحمد بن حنبل و فضائله و المعجم الكبير للطبراني و المستدرك للحاكم و الرياض النضرة و غيرها و اللفظ للأول:عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس،قال:رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام نصف النهار أشعث اغبر،معه قارورة فيها دم،فقلت بأبي و أمي يا رسول اللّه،ما هذا؟قال:"هذا دم الحسين و أصحابه لم أزل التقطه منذ اليوم"قال عمار:فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل فيه (1).

و في تاريخ ابن عساكر و ابن كثير:عن علي بن زيد بن جدعان قال:استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع،و قال:قتل الحسين و اللّه!

فقال له أصحابه:لم يا ابن عباس؟

فقال:رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه زجاجة من دم،فقال:"أتعلم ما صنعت أمتي من بعدي؟قتلوا الحسين!و هذا دمه و دم أصحابه ارفعهما إلى اللّه".

فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه و تلك الساعة،فما لبثوا إلاّ أربعة و عشرين يوما حتى جاءهم الخبر بالمدينة انه قتل في ذلك اليوم و في تلك الساعة.

ص: 193


1- مسند أحمد 242/1 و 282،و فضائل أحمد الحديث 20 و 22 و 26،و المعجم للطبراني ح- 56،و مستدرك الحاكم 398/4،و قال:صحيح على شرط مسلم و سير النبلاء 323/3،و الرياض النضرة 148،و مجمع الزوائد 193/9 و 194،و تذكرة سبط ابن الجوزي ص 152،و تاريخ ابن الأثير 38/3،و ابن كثير 231/6 و 200/8،و قال اسناده قوي،و تاريخ الخميس 300/2، و الإصابة 334/1،و تاريخ السيوطي ص 208،و أمالي الشجري ص 160:2)تاريخ ابن كثير /8 200،و تاريخ ابن عساكر الحديث 723-725.

ج-ناع ثالث

روى الطبري و غيره و اللفظ للطبري،عن عمرو بن عكرمة،قال:أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة فإذا مولى لنا يحدثنا،قال:سمعت البارحة مناديا ينادي و هو يقول:

أيها القاتلون جهلا حسينا أبشروا بالعذاب و التنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم من نبي و ملئك و قبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود و موسى و حامل الإنجيل

و هناك روايات أخرى عن أم سلمة و غيرها أنهم سمعوا نوح الجن على الحسين و هم يقولون:

أيها القاتلون جهلا حسينا أبشروا بالعذاب و التنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم و نبي و مرسل و قبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود و موسى و صاحب الإنجيل (1)

ص: 194


1- تاريخ ابن كثير 201/8،و راجع سير النبلاء 214/3،و تاريخ السيوطي ص 280،و تاريخ ابن عساكر الحديث 733-739،و معالم المدرستين للعسكري:139/3.

الفهرس

ما جرى عند قتل الحسين عليه السلام

تغير الكواكب و السماء و الأرض 3

معاجز الرأس الشريف 9

تكلم الرأس 12

سلب الإمام الحسين و آله 13

نوح الجن 16

غراب يتمرغ 16

سلب جثة الإمام 17

وطئ الجسد الشريف 18

تقسيم الرؤس و ارسالها 20

عدد الشهداء مع الحسين عليه السلام 25

انتقام الحسين عليه السلام من قتلته 26

السبايا في الطريق 28

بكاء الناس على أسارى آل محمد 28

خطبة امّ كلثوم في الكوفة 28

خطبة زين العابدين في الكوفة 29

ص: 195

تصدق الناس على أسارى آل محمد 29

بين زينب بنت عليّ عليها السلام و ابن زياد 31

بين زيد ابن أرقم و ابن زياد 34

خطبة ابن زياد ورد ابن عفيف عليه 35

رأس الحسين عليه السلام في سكك الكوفة 36

موقف آخر بين زينب و ابن زياد 38

رأس الحسين عليه السلام بالقرب من دمشق 39

رأس الحسين عليه السلام بين يدي يزيد 40

خطبة عليّ بن الحسين عليه السلام بين يدي يزيد في المسجد 42

موقف لعليّ بن الحسين مع يزيد 43

موقف حبر اليهود من قتل الحسين عليه السلام 44

موقف عالم النصارى من قتل الحسين عليه السلام 44

موقف رسول ملك الروم من قتل الحسين عليه السلام 45

حبس علي بن الحسين عليه السلام و النساء 48

منام سكينة في الشام 48

صلب رأس الحسين على باب دار يزيد 49

زين العابدين عليه السلام في أسواق دمشق 49

بين علي بن الحسين عليه السلام و يزيد 50

حال الرأس 51

فرس الحسين عليه السلام 53

و نادت عقيلة الوحي:53

حرق الخيام 53

ص: 196

الهجوم على زين العابدين عليه السلام 55

حزن علي بن الحسين على أبيه عليه السلام 55

إخبار النبي بدم الحسين عليهما السلام 57

العقيلة أمام الجثمان العظيم 58

ليلة الحادي عشر من المحرم 59

خولي يحمل رأس الإمام 60

سنان يطلب الجائزة 61

الطاغية مع قاتل الإمام 62

تشفي ابن زياد برأس الإمام 62

عودة الطاغية إلى الكوفة 63

آل رسول اللّه عليهم السلام في دار الامارة 65

رجوع القوات المسلحة 69

مواراة الجثث الطاهرة 70

سبايا أهل البيت عليهم السلام في الكوفة 73

خطاب السيدة زينب عليها السلام 75

صدى الخطاب 76

خطاب السيدة فاطمة عليها السلام 77

صدى الخطاب 79

خطاب السيدة أم كلثوم عليها السلام 80

خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام 81

في مجلس ابن زياد 82

الطاغية مع زين العابدين عليه السلام 83

ص: 197

ثورة ابن عفيف 85

العفو عن ابن معقل 88

إلقاء القبض على جندب 89

الطاغية مع قيس 89

تقوير الرأس الشريف 90

الطواف بالرأس العظيم 90

حبس عقائل الوحي 91

اختطاف علي بن الحسين عليه السلام 91

ندم ابن سعد 92

ابن زياد يطالب ابن سعد بالكتاب 92

التنديد بابن زياد 93

1-مرجانة 93

2-عثمان بن زياد 94

3-معقل بن يسار 94

الانكار على ابن سعد 94

الاستياء الشامل 94

ندم أهل الكوفة 97

1-البراء بن عازب 97

2-المسيب بن نجبة 97

3-سليمان بن صرد 98

4-عبد الله بن الحر 98

الهجرة من الكوفة 100

ص: 198

سبايا آل الرسول عليهم السلام في دمشق 100

تسيير الرؤوس 101

تسريح العائلة النبوية 101

تشييع أهل الكوفة للأسرى 101

تزيين الشام 102

اخبار الخليفة يزيد بقتل الحسين عليه السلام 105

ارسال أسارى آل البيت عليه السلام إلى عاصمة الخلافة بالشام 105

استقبال خليفة المسلمين رؤوس آل رسول اللّه عليه السلام و أنصارهم 106

حاجة أم كلثوم إلى شمر:106

حاجة سكينة 107

الشامي مع زين العابدين 107

سرور يزيد 110

رأس الإمام بين يدي يزيد 110

نصب الرأس في جامع دمشق 112

رأس الإمام عند نساء يزيد 113

السبايا في مجلس يزيد 114

خطبة حفيدة رسول اللّه في مجلس الخلافة 116

محتويات الخطاب 121

جواب يزيد 123

صدى خطاب زينب عليها السلام 124

خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام في مسجد دمشق 125

صدى خطاب الإمام زين العابدين 130

ص: 199

الإمام السجاد مع المنهال 133

النياحة على الحسين عليه السلام 134

مكافأة ابن مرجانة 135

ندم الطاغية 135

منكرون و ناقمون 137

1-ممثل ملك الروم 137

2-حبر يهودي 138

3-قيصر ملك الروم 138

4-رأس الجالوت 139

5-واثلة بن الأسقع 139

6-ابن عباس 139

7-ابن الزبير 140

8-أبو برزة 141

9-الأسرة الأموية 141

أ-يحيى بن الحكم 141

ب-عاتكة بنت يزيد 141

ج-هند 142

10-معاوية بن يزيد 142

حبر من اليهود يستنكر على يزيد 143

شامي يطلب عترة الرسول جارية له 144

خليفة المسلمين يتمثل بأبيات ابن الزبعري 145

استنكار زوجة الخليفة 147

ص: 200

مخاريق و أباطيل 148

المدافون عن يزيد 148

1-ابن تيمية 148

2-الغزالي 149

3-ابن العربي 149

4-ابن حجر 150

5-أنيس زكريا 150

6-الدكتور النجار 151

7-محمد عزة دروزة 151

رأي الدكتور طه حسين 152

كلمة التفتازاني 152

رأي اليافعي 153

رأي أحمد بن حنبل 153

كلمة المعتضد العباسي 154

عودة السبايا 156

ركب السبايا قبيل المدينة 156

ارجاع ذرية الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى مدينة جدهم 157

اعتذار الطاغية من زين العابدين 159

عرض الأموال لآل البيت عليهم السلام 159

رد السيدة أم كلثوم 159

طلبة الإمام زين العابدين عليهم السلام 160

السفر إلى يثرب 161

ص: 201

وصول النبأ إلى يثرب 162

خطاب الأشدق 162

مأتم عبد اللّه بن جعفر 164

رزية ابن عباس 164

مسور مع ابن الزبير 165

رأس الإمام في يثرب 165

عودة السبايا إلى كربلاء 168

إلى يثرب 169

نعي بشر للإمام 169

خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام 170

مكافأة الحرس 173

حزن الإمام زين العابدين عليه السلام 174

رأس ابن زياد بين يدي السجاد عليه السلام 176

فجيعة الهاشميين 177

حزن العقيلة 178

لوعة الرباب 178

أحزان أم البنين 179

دفن أجساد آل الرسول و أنصارهم 180

دفن الرأس الشريف و مصيره 181

1-في كربلاء:181

2-في البقيع:182

3-في النجف:182

ص: 202

4-في دمشق:183

5-في فارس:184

6-في مصر:184

عوة السبايا الى الكوفة 186

خطبة زينب عليه السلام 186

خطبة أم كلثوم 189

إخبار مدينة الرسول بقتل سبط الرسول عليه السلام 190

من نعى الإمام في المدينة 192

أ-أم سلمة 192

ب-ابن عباس 193

ج-ناع ثالث 194

ص: 203

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.