الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام المجلد 13

اشارة

الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام

نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي

مکان نشر: لبنان - بيروت

سال نشر: 2009م , 1430ق

چاپ:1

موضوع:اسلام، تاریخ

زبان :عربی

تعداد جلد: 20

کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

الجزء الثالث عشر

بداية الحرب فى كربلاء

مقتل الاصحاب

بداية الحرب

زحف الكوفة للحرب

قال السيد القرشي:و حينما أذيع النبأ باستيلاء جيش ابن زياد على الإمام الحسين،و فرض الحصار عليه في كربلاء سادت موجات رهيبة من الذعر و الخوف في جميع أوساط الكوفة،و تخدرت الجماهير تحت ضغط هائل من قوة السيوف و الرماح فقد أشاع ابن زياد الإرهاب،و اعلن الأحكام العرفية في جميع أنحاء الكوفة،فكان يحكم بالموت و الإعدام لمجرد الظنة و التهمة،و صار الناس لا يملكون من أمرهم شيئا.

لقد تمت بوارق ابن مرجانة،و تحققت أحلامه حينما ظفر بابن فاتح مكة و محطم أوثان قريش ليتقرب بقتله إلى حفيد أبي سفيان زعيم الأحزاب المناوئة للإسلام، و يتخذ من ذلك وسيلة لإقرار نسبه اللصيق ببني أمية الذي شهد به أبو مريم الخمار.

و انفق ابن مرجانة جميع وقته لتهيئة الحرب،و اتخاذ جميع الوسائل الاحتياطية للتغلب على مجريات الأحداث،و قد احتف به الوجوه و الأشراف من الذين باعوا ضمائرهم عليه لوضع المخططات الرهيبة في عمليات الحرب.

انتخاب ابن سعد قائدا عاما

اشارة

و انتخب ابن مرجانة عمر بن سعد قائدا عاما لقواته المسلحة التي زجّ بها لحرب

ص: 3

ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله،و قبل أن نعرض أسباب انتخابه نقدم عرضا لبعض شؤونه.

أخبار النبي بسوء عاقبته

و اجتاز ابن سعد على النبي صلّى اللّه عليه و اله فلما رآه نفر منه،و أخبر صلّى اللّه عليه و اله عن سوء عاقبته و قال:«يكون مع قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها».

و قد أخبر أمير المؤمنين عليه السّلام بسوء مصيره يقول الرواة انه نظر إليه و حدثه فرأى فيه طيشا و استهانة بالحق و جرأة على ارتكاب الباطل فقال له:«ويحك يابن سعد!!كيف بك إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة و النار فتختار النار».

كراهية سعد له

و كان سعد ناقما على ولده عمر لما سمعه من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فيه و يقول الرواة:

انه عهد إلى ورثته أن لا يعطوه أي شيء من مواريثه.

لعن الرشيد له

و لعن هارون الرشيد عمر بن سعد و حكم عليه بالإلحاد و المروق من الدين، و ذلك في قصة طريفة لا تخلو من متعة نسوقها إلى القراء يقول الرواة إنه جي بإسحاق بن إبراهيم مخفورا إلى الرشيد بتهمة أنه كان من الملحدين،فقال له إسحاق:

«يا أمير المؤمنين إني مؤمن بالله و بجميع رسله و أنبيائه،و ليس هذا ذنبي،

ص: 4

و لكن لي ذنبا آخر؟».

فبهر الرشيد و قال له:

-ما هو؟

-الولاء لكم أهل البيت،فهل من يدين بحبكم و يراه فرضا عليه يحكم عليه بالإلحاد؟

و تبسم الرشيد،و أمر بأن يرفع عنه النطع و السيف،و اندفع إسحاق فقال له:

يا أمير المؤمنين،ما رأيك في عمر بن سعد قاتل الحسين الذي يقول:

يقولون:إن الله خالق جنة و نار و تعذيب و غل يدين

فأطرق الرشيد برأسه،و تأمل كثيرا ثم قال:

«لعن الله عمر بن سعد كان لا يثبت صانعا،و لا يقول ببعثة و لا نبوة..يا إسحاق أتدري من أين أخذ قوله هذا؟».

(نعم يا أمير المؤمنين أخذه من شعر يزيد بن معاوية..).

«ما قال يزيد؟»

أنه قال:

علية هاتي ناوليني و اعلني حديثك إني لا أحب التناجيا

حديث أبي سفيان لما سجا به إلى أحد حتى أقام البواكيا

فرام به عمرو عليا ففاته و أدركه الشيخ اللعين معاويا

فإن مت يا أم الأحيمر فانكحي و لا تأملي بعد الممات تلاقيا

فإن الذي حدثت في يوم بعثنا أحاديث زور تترك القلب ساهيا

و لو لا فضول الناس زرت محمدا بمشمولة صرف تروي عظاميا

و لا خلف بين الناس ان محمدا تبوأ قبرا بالمدينة ثاويا

فقد ينبت المرعى على دمن الثرى له غصن من تحته السر باديا

و نفنى و لا تبقى على الأرض دمنة و تبقى حزازات النفوس كما هيا

ص: 5

و تأثر الرشيد فاندفع يقول:

«لعن الله يزيد ما كان يثبت صانعا،و لا يقول ببعثة و لا نبوة،أتدري يا إسحاق من أين أخذه؟».

«نعم يا أمير المؤمنين أخذه من شعر أبيه معاوية».

«ما قال معاوية؟».

«إنه قال:

سائلوا الدير من بصرى صبابات فلا تلمني فلا تغني الملامات

قم نجل في الظلماء شمس ضحى نجومها الزهر طاسات و كاسات

لعلنا إن يدع داع الفراق بنا نمضي و أنفسنا منها رويات

خذ ما تعجل و اترك ما وعدت به فعل اللبيب فللتأخير آفات

قبل ارتجاع الليالي كل عارية فإنما خلع الدنيا استعارات

فلعن الرشيد معاوية،و قال فيه ما قاله في يزيد.

توثيق العجلي لابن سعد

و وثق العجلي عمر بن سعد،فقال:كان يروي عن أبيه أحاديث،و روى الناس عنه،و هو تابعي ثقة،و هو الذي قتل الحسين و لم نعلم كيف كان ابن سعد ثقة مع قتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و إبادته للعترة الطاهرة التي أوجب الله مودتها على عموم المسلمين...لقد كان العجلي منحرفا عن الحق،فكان ميزان التعديل عنده للرواة هو النصب لأهل البيت و بغضهم،كما ان مقياس الجرح عنده هو الولاء و المودة لهم.

و قد أنكر الأخيار و المتحرجون في دينهم على من يروي عن ابن سعد فقد روى عنه العيزار بن حريث فأنكر عليه رجل في مجلسه و قال له:أما تخاف الله؟تروي

ص: 6

عن عمر بن سعد فبكى العيزار و قال:لا أعود لذلك.

و من الغريب أن ابن حجر ترجمه في تهذيب التهذيب الذي لا يترجم فيه إلا الثقاة من الرواة عنده.

نزعات ابن سعد

اشارة

و لم يحمل ابن سعد في دخائل نفسه أي نزعة شريفة،فليس في ضميره المتحجر أي بصيص من الكرامة و الشرف و النبل،و هذه بعض مظاهر ذاتياته.

أ-الخنوع للسلطة

و كان الخنوع للسلطة هو الظاهرة البارزة من ذاتيات ابن سعد،فكان-فيما أجمع عليه المؤرخون-يذوب أمام الولاة،و يفقد توازنه،طمعا بالحصول على المنصب و الإمارة،و قد جهد نفسه،و حملها من أمره رهقا على الظفر بثقة ابن مرجانة به، و قد قال له بعد قتله للحسين:

«أما و الله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه»إنه لم تكن له شخصية مستقلة و لا إرادة كريمة،و انما كان ذنبا للسلطة يسعى لكسب عواطفها بأي وسيلة يملكها.

ب-التهالك على السلطة

و ظاهرة أخرى من نزعات ابن سعد هي التهالك على السلطة و السعي وراء المناصب،و يقول المؤرخون إنه كان يحث أباه على الحضور في التحكيم لعلهم

ص: 7

يعدلون عن علي و معاوية و يولونه إلا أن أباه امتنع من ذلك و قنع بما هو فيه و لما ولاه ابن زياد ولاية الري،و هدده بعزله عنها إن لم يخرج لحرب الحسين سمعه أهله يقول:

أأترك ملك الري و الري بغيتي أم ارجع مأثوما بقتل حسين

لقد رأى أنه إذا حصل على ولاية الري فسوف يظفر بالعيش الوفير و الثراء الفاحش،فأقدم على أخطر جريمة في الإسلام.

ج-خسة الطبع

و من ذاتيات ابن سعد خسة الطبع،فقد انمحت عن نفسه جميع أفانين الشرف و الكرامة فقد طلب منه مسلم بن عقيل حينما وقع أسيرا بيد ابن زياد أن يعهد بوصيته إليه فامتنع من إجابته تقربا لسيده ابن مرجانة و لم يستجب له حتى سمح له بذلك و لما عهد إليه مسلم بوصيته سرا انبرى مسرعا إلى ابن زياد فأخبره بما أوصى به مسلم فأنكر عليه ابن زياد ذلك و قال:«لا يخونك الأمين و لكن قد يؤتمن الخائن».

و من خسة طبعه أنه لما قتل الحسين عليه السّلام عمد إلى سلب درعه فلبسها و لو كانت عنده صبابة من الشرف و النبل لما قدم على سلب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فقد فتح بذلك باب النهب للجفاة من جيشه فعمدوا إلى سلب حرائر النبوة حتى لم يتركوا عليهن ملحفة و لا ازارا إلا سلبوه.

د-الجبن

و لم تكن عند ابن سعد أية مسكة من البسالة و الشجاعة،و انما كان جبانا خائر

ص: 8

العزيمة ضعيف النفس،و لما ظهر أمر التوابين داخله خوف شديد فكان لا ينام في داره،و انما ينام في قصر الإمارة لتحرسه جنود القصر،و هو وجل القلب ينفق الليل ساهرا من شدة الوجل و الرعب،و لما هجمت عليه شرطة المختار قام مرعوبا من فراشه،و لكثرة ما داخله من الفزع عثر قبل أن يأخذ لامة حربه فقتلته الشرطة و هو على فراشه و قد استجيبت بذلك دعوة الإمام الحسين أن يذبحه الله على فراشه، و من الغريب أن خير الدين الزركلي وصفه بأنه من القادة الشجعان و لو كان شجاعا-كما يقول الزركلي-لما ترك أهله و لجأ إلى قصر الإمارة يطارد الرعب و الفزع.

ه الشك في البعث و النشور

و لم يكن ابن سعد يؤمن بالبعث و النشور،فقد كان شاكا فيهما كما جاء في شعره حينما ندب لحرب الحسين عليه السّلام حيث يقول:

يقولون:إن الله خالق جنة و نار و تعذيب و غل يدين

فهو لا يؤمن بحساب و لا جنة و لا نار كما يقول هارون الرشيد...هذه بعض نزعات ابن سعد،و هي تكشف عن إنسان ممسوخ متمرس في الجريمة و الإثم.

دوافع انتخابه

و إنما انتخبه ابن مرجانة لحرب الإمام الحسين عليه السّلام ليغري به سواد الناس و جهالهم،و يزج بهم لحرب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فإنه ابن فاتح العراق و أحد المرشحين الستة من قبل عمر بن الخطاب لزعامة الخلافة الإسلامية،و انه قرشي و ممن يمت للإمام بصلة،و مضافا إلى ذلك فإنه قد وقف على اتجاهاته الفكرية،

ص: 9

و عرف نقاط الضعف التي عنده،فرأى أنه لا يقوم أحد باقتراف هذه الجريمة سواه.

حيرة ابن سعد

و كان ابن زياد قد كتب لابن سعد بولاية الري و ثغردستبي و الديلم فطلب منه أن يسير لحرب الحسين فاستعفى ابن سعد فهدده باسترجاع ولاية الري منه،و طلب منه ليلته لينظر في الأمر،فأمهله،و مضى إلى داره،و قد أنفق ليله ساهرا يطيل التفكير في الأمر هل يقدم على حرب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و في قتله العذاب الدائم و الخزي الخالد أو يستقيل من ذلك فتفوته امارة الري التي تضمن له العيش الوفير، و سمعه أهله يقول:

أأترك ملك الري و الري بغيتي أم ارجع مأثوما بقتل حسين

و في قتله النار التي ليس دونها حجاب و ملك الري قرة عيني

العاذلون له

و يقول المؤرخون:إنه بادر إليه جماعة من المشفقين عليه فأشاروا عليه باعتزال الحرب،و كان ممن أشار عليه ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة فقال له:يا خال إن سرت إلى الحسين أثمت بربك،و قطعت رحمك فوالله لئن تخرج من دنياك و مالك خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين و منحه النصيحة قوم آخرون فقالوا له:اتق الله و لا تفعل و قد حاول أن يجهد نفسه على اعتزال الحرب إلا أنه لم يطق صبرا عن ولاية الري،فقد سال لها لعابه،و ضعفت نفسه عن مقاومة رغباته فلم يسفر الصبح حتى استقر رأيه على حرب ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فأسرع إلى ابن مرجانة يخبره باستجابته،و قد فرح ابن زياد برضا ابن سعد لأنه قد وجد فيه حجة

ص: 10

تسند إباطيله ان لامه الناس على حرب ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لو استجاب أحد غيره لما كان له مثل هذا السرور و الرضا.

و سار ابن سعد و معه جيشه البالغ أربعة آلاف،و هو يعلم اتجاهه و انه خرج ليقاتل ذرية رسول الله صلّى اللّه عليه و اله الذين هم خيرة من في الأرض و انتهى إلى كربلاء فانضم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحر بن يزيد الرياحي (1).3.

ص: 11


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:82/3.

[ابن مرجانة]

الاستعراض العسكري

و استعرض ابن مرجانة جميع الكتائب التي بعثها لحرب الحسين ليرى قدرتها على القتال و مدى استعدادها للخوض في المعركة،و يقول الطرماح:رأيت قبل خروجي من الكوفة بيوم على ظهر الكوفة،و فيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد جمعا أكثر منه فسألت عنهم فقيل اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلى حرب الحسين و قد زج بجميع ثقله العسكري في الحرب خوفا من الطوارىء و تقلب الأوضاع.

خطبة ابن مرجانة

و أمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم فهرعوا كالأغنام خوفا من الطاغية و رهبة منه و قد امتلأ الجامع منهم فقام فيهم خطيبا فقال:

«أيها الناس:إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبون و هذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه حسن السيرة محمود الطريقة محسنا إلى الرعية،يعطي العطاء في حقه، و قد أمنت السبل على عهده،و كذلك كان أبوه معاوية في عصره،و هذا ابنه يزيد يكرم العباد و يغنيهم بالأموال و قد زادكم في أرزاقكم مائة مائة،و أمرني أن أوفرها عليكم، و أخرجكم إلى حرب عدوه الحسين فاسمعوا له و أطيعوا»لقد خاطبهم باللغة التي يخضعون لها،فمناهم بالأموال،و زجهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ الإنسانية.

و أوعز إلى كل من الحصين بن نمير التميمي و حجار بن أبجر و شمر بن ذي

ص: 12

الجوشن بالخروج إلى حرب الإمام بعد أن أسند لكل واحد منهم القيادة على بعض الوحدات العسكرية فزحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.

تحريض سمرة لحرب الإمام

و لعب سمرة بن جندب الصحابي الكذاب دورا مهما في حث الناس على حرب ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فقد كان على شرطة عبيد الله بن زياد و أخذ يدفع الناس إلى قتال ريحانة رسول الله.

تعارض شبث بن ربعي

و كان المنافق شبث بن ربعي كارها للخروج إلى حرب الحسين فأظهر المرض تصنعا و لم يكن يخفى على ابن زياد ذلك فأرسل إليه إن رسولي يخبرني بتمارضك،و أخاف أن تكون من الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون فإن كنت في طاعتنا فأقبل إلينا مسرعا،و أقبل إليه شبث مسرعا بعد العشاء لئلا ينظر إلى وجهه فلا يجد عليه أثر العلة،و قد أجابه إلى ما أراد فخرج لحرب الحسين،و تولى قيادة بعض الفرق (1).

ص: 13


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:84/3.

النفير العام

و أصدر ابن زياد أوامره المشددة بحمل أهل الكوفة في الحرب،و إرغامهم على الخوض في قتال الإمام،و قد أصدر مرسوما-قبل أن يعسكر في النخيلة-جاء فيه «فلا يبقى رجل من العرفاء و المناكب و التجار و السكان إلا خرج فعسكر معي،و أيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفا عن المعسكر إلا برئت الذمة منه»و أمر بإذاعة ذلك بين الناس،و قد أوعز إلى كل من كثير بن شهاب الحارثي،و محمد بن الأشعث،و القعقاع بن سويد بن عبد الرحمن المنقري،و أسماء بن خارجة الفزاري،أن يطوفوا في الناس يحثونهم على الطاعة،و يحذرونهم من المعصية،و يخوفونهم عواقب الأمور،و قد طافوا بالكوفة و أذاعوا ما أمروا به،ثم لحقوا به في النخيلة إلا كثير بن شهاب فإنه ظل مقيما بالكوفة يخذل الناس عن نصرة الإمام و يشيع الإرهاب و الخوف على المتخلفين عن الحرب و قد ألقت الشرطة القبض على رجل من همدان قدم الكوفة يطلب ميراثا له،فأتي به إلى ابن زياد فأمر بقتله،و لما رأى الناس ذلك هرعوا إلى الحرب حتى لم يبق في الكوفة محتلم إلا خرج إلى المعسكر في النخيلة لقد حققت هذه السياسة ما توخاه ابن زياد من حمل الناس على حرب الإمام،و قد سيطر سيطرة تامة على الموقف،فلم يدع لأي أحد حريته و لا اختياره.

الرقابة الدقيقة على الكوفة

و فرض ابن زياد الرقابة الصارمة على الكوفة مخافة أن يخرج منها أحد لنصرة الإمام عليه السّلام فقد بث الجواسيس و العيون،و فرض نوعا من الأحكام العرفية كانت في

ص: 14

منتهى القسوة،فإذا اتهم أحد بالعمل ضد سياسة الدولة ألقي عليه القبض و سيق بلا هوادة و لا رحمة إلى الإعدام أو السجون و قد كان عبد الله بن يسار يحفز الناس إلى نصرة الإمام،و خذلان بني أمية فعلم به ابن زياد فأمر بإلقاء القبض عليه، فأخفى نفسه و أخذت الشرطة تبحث عنه،فظفر به عبيد الله بن الحر فأتى به إلى السبخة فقتله و هو غير عبيد الله بن الحر الجعفي.

و قد وضع ابن زياد المناظر،و رتب المسالح حول الكوفة،و جعل على الحرس زجر بن قيس الجعفي،و رتب بينه و بين عسكر ابن سعد خيلا مضمرة مقدحة فكانت كل بادرة تحدث تأتيه في الوقت.

هرب الجنود

و هربت الأكثرية الساحقة من جيش ابن زياد من وحداتها العسكرية و قد لاذ الكثيرون منهم بالانهزام فرارا من حرب سبط رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و يقول البلاذري:إن القائد يكون على ألف مقاتل لا يصل إلى كربلاء إلا و معه ثلاث مائة أو أربع مائة أو أقل من ذلك،فقد كانوا يفرون كراهة منهم لهذا الوجه لقد كانوا على يقين لا يخامره أدنى شك بضلال هذه الحرب و انهم انما يحاربون الله و رسوله،و يقاتلون من أمروا بمودته و طاعته.

الطاغية في النخيلة

و نزح الطاغية إلى النخيلة فعسكر بها و معه قطعات كبيرة من الجيش،و قد استخلف على الكوفة عمرو بن حريث،و قد بلغه أن الرجل و الرجلين و الثلاثة يتسللون إلى معسكر الإمام عن طريق الفرات،فأمر بضبط الجسر و حراسته فلم

ص: 15

يترك أحدا يجوزه.

محاولة لاغتيال ابن زياد

و حاول البطل الشهم عمار بن أبي سلامة الدالابي أن يغتال ابن زياد في النخيلة إلا أنه لم يتمكن من ذلك نظرا للرقابة الشديدة و الحرس المكثف الذي يحرسه،و لما فشل في مهمته توجه إلى الطف حتى لحق بالحسين و استشهد بين يديه.

ص: 16

عدد الجيش الأموي

اشارة

و اختلف المؤرخون في عدد الجيش الذي نزح لحرب الإمام عليه السّلام و فيما يلي بعض ما ذكروه:

1-ثمانون ألف فارس.

2-خمسون ألف فارس.

3-خمسة و ثلاثون ألف فارس.

4-ثلاثون ألفا.

5-اثنان و عشرون ألفا.

6-عشرون ألفا.

7-ستة عشر ألف فارس.

8-اثنا عشر ألفا.

9-ثمانية آلاف.

10-ستة آلاف.

11-أربعة آلاف.

هذه بعض الأقوال التي ذكرها المؤرخون،و هناك أقوال أخرى لا تخلو من المبالغة.

التحقيق في الموضوع

و لا بد لنا من وقفة قصيرة للتحقيق في هذه الأقوال المختلفة التي حددت عدد

ص: 17

الجيش الذي تدفق إلى كربلاء و اشترك في عمليات الحرب،لنختار منها ما تساعد عليه الأدلة...و نلقي-قبل كل شيء-نظرة خاطفة على عدد الجيش في الكوفة التي كانت أعظم حامية عسكرية في ذلك الوقت،فقد كان عدد الجيش في أواسط القرن الأول أربعين ألفا يغزو كل عام منهم عشرة آلاف و قد ازداد هذا العدد منذ اتخذها الإمام عاصمة له،فقد كثرت الهجرة إليها،فقد زحف معه لحرب صفين سبعة و خمسون ألفا،و ثمانية آلاف من مواليهم و هناك بعض التصريحات التي أدلى بها بعض الشخصيات تدل على أن احصاء الجيش في ذلك العصر بلغ مائة ألف،فقد أنكر سليمان بن صرد الخزاعي على الإمام الحسن عليه السّلام أمر الصلح و قال له:«لا ينقضي تعجبي من بيعتك معاوية و معك مائة ألف مقاتل من أهل العراق»و جاء في بعض رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين«انا معك مائة ألف»و فيما أحسب أن هذا العدد لا يخلو من المبالغة،و ان العد أقل من ذلك بكثير...أما سكان الكوفة فإنا لم نقف لهم على أحصاء إلا أن من المؤكد انهم كانوا أضعاف عدد الجيش فإن الكثيرين من ذوي المهن و الحرف و التجار و غيرهم ممن لم ينضموا إلى المنظمة العسكرية...و نقف-بعد هذا العرض الموجز لعدد جيش الكوفة و سكانها-أمام تلك الأقوال بين أمرين:

الأول:الإذعان و التصديق لكل ما قيل في عدد الجيش من الكثرة لأن ابن زياد قد أعلن النفير العام في الكوفة فلم يبق بها محتلم إلا خرج لحرب الحسين،و من تخلف كان مصيره الاعدام أو السجن،حتى لم تبق في الكوفة واسطة من وسائط النقل إلا استعملت لنقل الناس للحرب،و إذا قيل ان عدد الجيش مائة ألف أو يزيد فليس في ذلك أية مبالغة.

الثاني:التشكيك في تلك الكثرة لأن أكثر الجنود قد استعظموا حرب الإمام ففروا منهزمين في البيداء،بالإضافة إلى أن طائفة كبيرة من الجيش كانت في معسكر النخيلة مع ابن زياد،و على هذا فالجيش الذي تدفق إلى كربلاء لحرب الإمام ليس

ص: 18

بذلك العدد الضخم الذي يذهب إليه بعض المؤرخين.

و أكبر الظن ان الرواية التي أثرت عن الإمام الصادق عليه السّلام انه ازدلف ثلاثون ألفا لحرب الإمام هي أقرب ما قيل في عدد الجيش فإن هذا العدد و ما يزيد عليه قد اشترك في حرب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله (1).3.

ص: 19


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:86/3.

القادة العسكريون

و أمدنا المؤرخون بأسماء بعض قادة الجيش الذين اشتركوا في كارثة كربلاء و هم:

1-الحر بن يزيد الرياحي،و كان على ألف فارس،و هو الذي حاصر الحسين في كربلاء.

2-عمر بن سعد،و قد أسند إليه ابن زياد القيادة العامة لجميع قواته المسلحة، و كان أميرا على أربعة آلاف.

3-شبث بن ربعي جعله أميرا على ألف فارس.

4-مضاير بن رهينة المازني أمير على ثلاثة آلاف.

5-نصر بن حرشة أمير على ألفين.

6-كعب بن طلحة أمير على ثلاثة آلاف.

7-حجار بن أبجر أمير على ألف.

8-الحصين بن نمير على أربعة آلاف.

9-شمر بن ذي الجوشن أمير على أربعة آلاف.

10-يزيد بن الركاب على ألفين.

11-يزيد بن الحرث بن رويم أمير على ألف.

و هؤلاء بعض قادة الجيش و قد انضم تحت ألويتهم خمسة و عشرون ألف مقاتل،و يقول ابن الجوزي:

انه كان على ربع الكوفة عبد الله بن زهرة بن سليم الأزدي،و على ربع ربيعة

ص: 20

و كندة قيس بن الأشعث و على ربع مذحج و أسد عبد الله بن سبرة الجعفي،و على ربع ربيعة و همدان الحر بن يزيد الرياحي.

أدوات الحرب

اشارة

و تسلح جيش ابن زياد بجميع أدوات الحرب السائدة في تلك العصور فقد كان استعداده لحرب الإمام استعدادا هائلا و يحدثنا المؤرخون عن ضخامة ذلك الاستعداد،فقالوا:إن الحدادين،و صانعي أدوات الحرب في الكوفة كانوا يعملون ليلا و نهارا في بري النبال و صقل السيوف في مدة كانت تربو على عشرة أيام...لقد دفع ابن زياد لحرب الحسين بقوة عسكرية مدججة بالسلاح بحيث كانت لها القدرة على فتح قطر من الأقطار.

1-الرماة

و هم الذين كانوا يسددون النبال و السهام،و قد لعبوا دورا خطيرا في الحرب، و هم أول من فتح باب الحرب على الإمام،فسددوا سهامهم نحو معسكره فلم يبق أحد منهم إلا أصابه سهم،حتى أصيبت بعض النساء فدهشن و أرعبن،و قد قتل بعض أبناء الأسرة النبوية بتلك السهام الغادرة كعبد الله بن مسلم،و عبد الله بن الحسن،و عبد الله الرضيع و غيرهم.

2-الجوالة

و هي كتائب من الجيش كانت ترمي بالحجارة،و سلاحها المقاليع.

ص: 21

3-المجففة

و هم الذي كانوا يلبسون الجنود الآلات التي تقيهم في الحرب،كما كانوا يضعون على الخيل الآلات التي تقيها من النبال و الرماح (1).

ص: 22


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:87/3.

عدد أصحاب الحسين عليه السلام

أما أصحاب الإمام الحسين فكانوا فئة قليلة،و قد اختلف المؤرخون في عددهم، و هذه بعض الأقوال:

1-ما ذهب إليه المسعودي أنهم خمسمائة فارس و نحو من مائة راجل و انفرد المسعودي بهذا القول و لم يذهب إليه أحد غيره.

2-ما رواه عمار الدهني عن أبي جعفر انهم كانوا خمسا و أربعين فارسا و مائة راجل.

3-ما ذكره ابن شهراشوب انهم اثنان و ثمانون رجلا الفرسان منهم اثنان و ثلاثون.

4-ما قاله سعد بن عبده:اني لأنظر إليهم و هم قريبون من مائة رجل فيهم من صلب علي خمسة أو سبعة و عشرة من بني هاشم،و رجل من كنانة و آخر من سليم.

5-ما ذكره ابن كثير و الفاخوري انهم اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا.

و الذي نراه انهم ثمانون رجلا بمن فيهم من أبناء الأسرة النبوية و الذي يدعم ذلك أن الرؤوس التي احتزت و بعث بها إلى ابن مرجانة و يزيد بن معاوية كانت (79)رأسا لا غير.

و على أي حال فإن هؤلاء الأبطال على قلتهم كانوا كفوا لذلك الجيش و قد ألحقوا به أفدح الخسائر و قد مثلوا بمواقفهم البطولية شرف العقيدة و سمو المبدأ.

ص: 23

رسول ابن سعد مع الإمام

و كان ابن سعد كارها لقتال الإمام فأراد التخلص من ذلك،فدعا عزرة بن قيس أن يلتقي بالإمام و يسأله عما جاء به؟فامتنع عزرة لأنه كان ممن كاتب الإمام بالقدوم إلى الكوفة،فندب لمقابلته كثير بن عبد الله الشعبي و كان فاتكا جريئا فقال:

«أنا له و إن شئت أن أفتك به لفعلت».

فلم يرض ابن سعد بذلك،و انما طلب منه أن يمضي إليه و يسأله عما جاء به؟ و أقبل كثير يشتد نحو الإمام،و لما بصر به أبو ثمامة الصائدي ارتاب منه،فقام في وجهه،و طلب أن ينزع سيفه حتى يقابل الإمام فأبى أن يسمح له بالدخول فولى منصرفا غضبانا و أخبر ابن سعد بذلك فطلب من قرة بن قيس الحنظلي ملاقاة الإمام فأجابه،فلما أقبل قال الإمام لأصحابه:

«هل تعرفونه؟»

فأجابه حبيب بن مظاهر:نعم انه من بني تميم،و قد كنت أعرفه بحسن الرأي، و ما ظننت أنه يشهد هذا المشهد!!

و تقدم قرة نحو الإمام فسلم عليه،و سأله عما جاء به؟

فقال عليه السّلام:

«إني لم أرد إلى هاهنا حتى كتب إلي أهل مصركم أن يبايعونني،و لا يخذلوني، و ينصرونني،فإن كرهوني أنصرف عنهم من حيث جئت».

و انبرى إليه حبيب فأسدى له النصيحة قائلا:

«يا قرة عهدي بك،و أنت حسن الرأي في أهل البيت فما الذي غيرّك؟فأقم عندنا و انصر هذا الرجل».

فقال قرة:لقد قلت الحق و لكن ارجع إلى صاحبي بجواب رسالته و انظر في ذلك،

ص: 24

و قفل قرة إلى ابن سعد فعرض عليه كلام الإمام و سر ابن سعد بذلك و رأى أنه بالإمكان التوصل لحل سلمي يجنبه من الخوض في معركة تطوق عنقه بالآثام و الأوزار.

ابن سعد مع الإمام

و أراد ابن سعد التأكد من ذلك فطلب من الإمام الاجتماع به فأجابه إلى ذلك،و لما مثل عنده قال له:

-ما جاء بك؟

-أهل الكوفة.

-أما عرفت ما فعلوا معكم؟

-من خادعنا في الله انخدعنا له.

-قد وقعت الآن فما ترى؟

-أرجع فأقيم بمكة أو بالمدينة،أو أقيم ببعض الثغور.

و فرح ابن سعد من موقف الإمام و رأى فيه بادرة لإحلال السلام و التجنب من الحرب.

رسالة ابن سعد لابن زياد

و بادر ابن سعد فكتب رسالة إلى أميره ابن مرجانة جاء فيها:

«أما بعد:فإن الله أطفأ النائرة،و جمع الكلمة،و أصلح أمر الأمة.هذا حسين أعطاني عهدا أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين له مالهم،و عليه ما عليهم أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد

ص: 25

فيضع يده في يده،فيرى فيما بينه و بينه رأيه و في هذا رضا لك،و للأمة صلاح».

افتراء ابن سعد

و مما لا شبهة فيه أن ابن سعد قد افترى على الإمام الحسين في تلك الرسالة،فإن أكثر بنودها مما لم يفه به الإمام عليه السّلام و قد تحدث عن افتعالها عقبة بن سمعان الذي صاحب الإمام من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق و ظل ملازما له حتى قتل،يقول:

«صحبت الحسين من المدينة إلى مكة،و منها إلى العراق،و لم أفارقه حتى قتل، و قد سمعت جميع كلامه،فما سمعت منه ما يتذاكر فيه الناس من أن يضع يده في يد يزيد،و لا أن يسير إلى ثغر من الثغور لا في المدينة و لا في مكة و لا في العراق و لا في عسكره إلى حين قتل،نعم سمعته يقول:دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة حتى أنظر ما يصير إليه الناس».

و نفى الشيخ محمد الخضري صحة هذه الرسالة فقال:«ليس بصحيح الاعراض عليهم أن يضع يده في يد يزيد،و انما عرض عليهم أن يدعوه أن يرجع إلى المكان الذي خرج منه».

لقد افتعل ابن سعد هذه الرسالة ليتخلص من إثم المعركة،و يكون بمنجى من قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لو أن الإمام قال ذلك لانفض جيش ابن زياد و انتهى كل شي...لقد رفض الإمام منذ بداية الأمر الخضوع لعصابة الإجرام،و صمد في وجه الأعاصير.و دلل في جميع مواقفه الخالدة على إبائه و عزة نفسه،و صلابة إرادته.

ص: 26

إفساد الشمر لمهمة السلام

و لما وردت رسالة ابن سعد إلى ابن مرجانة استصوب رأيه،و رأى فيه حلا للمشكلة و جمعا للكلمة،و انه قد جنبه الحرب،فطفق يقول بإعجاب:

«هذا كتاب ناصح مشفق».

و كان شمر بن ذي الجوشن إلى جانبه فضاق ذرعا بالأمر فقد عرف الخبيث بوضاعة النسب و الحقد على ذوي الأحساب العريقة،و كان قد حسد ابن سعد على أمرته للجيش فاندفع بإضرام نار الحرب،فقال لابن مرجانة:

«أتقبل هذا منه؟بعد أن نزل بأرضك،و الله لئن رحل من بلادك،و لم يضع يده في يدك،ليكونن أولى بالقوة،و تكون أولى بالضعف و الوهن».

و ألهبت هذه الكلمات الموقف،و نسفت كل أمل في الصلح و الوئام فقد تفطن ابن زياد إلى أمر خطير قد خفي عليه،و هو أن الإمام إذا خلص منه،و لم يبايع ليزيد، و التحق بقطر من الأقطار،فسوف يتبلور الموقف و تهب الأمة لحمايته من العصابة المجرمة،و سيكون الطاغية أولى بالوهن و الضعف و الحسين أولى بالمنعة و القوة لأنه ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و ريحانته،و غابت هذه النقاط الحساسة عن ابن مرجانة، فرأى في كلمات الشمر الاخلاص و النصيحة».

و لما رأى الشمر أنه قد سيطر على الموقف،و أفسد مهمة ابن سعد اندفع ليوهن مكانته عنده لعله أن يتخذ من ذلك وسيلة لإقصائه عن منصبه و يكون بمحله،فقال له:

«و الله لقد بلغني أن حسينا و ابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة

ص: 27

الليل».

و معنى هذا أن شمرا قد جعل له استخبارات خاصة على ابن سعد لعله أن يقصر في أداء مهمته فينقل ذلك إلى السلطة لتقصيه عن منصبه و يتولى هو قيادة الجيش».

رفض ابن زياد الحلول السلمية

و رفض ابن مرجانة جميع الحلول السلمية التي كتب بها ابن سعد،و سد جميع نوافذ السلم و الوئام،و قد كتب إليه:

«أما بعد:فإني لم أبعثك للحسين لتكفّ عنه،و لا لتطاوله،و لا لتمنيه السلامة،و لا لتكون له عندي شفيعا.

انظر فإن نزل حسين و أصحابه على حكمي فابعث بهم إلي سلما،و إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم و تمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون.فإن قتلت حسينا فأوطى الخيل صدره و ظهره،و لست أرى أنه يضر بعد الموت،و لكن على قول قلته لو قتلته لفعلت هذا به،فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع،و إن أبيت فاعتزل عملنا و جندنا و خل بين شمر بن ذي الجوشن و بين العسكر فإنا قد أمرناه بذلك».

و كانت هذه الرسالة صارمة لا رحمة فيها،و محتوياتها ما يلي:

1-انها قصرت صلاحية ابن سعد على عمليات الحرب و القتال،و لم تمنحه أي صلاحية لإجراء الصلح أو المفاوضة مع الإمام.

2-و عرضت ان الإمام إذا استجاب للصلح فعليه أن ينزل ضارعا لحكم ابن مرجانة لينال نصيبه منه فإن شاء عفا عنه و إن شاء قتله،و قد أراد أن يمثل الإمام عنده كأسير أو مذنب ليسترحمه.

ص: 28

3-ان الإمام إذا لم يستجب للنزول على حكمه فعلى ابن سعد أن يسارع إلى قتله و التمثيل به.

4-انه هدده بالعزل عن منصبه إذا تردد في تنفيذ ما عهد إليه و عليه أن يسلم جميع مهام الجيش إلى شمر بن ذي الجوشن ليقوم بتنفيذ ما عهد إليه.

و يقول المؤرخون:ان ابن زياد جعل يقول:«الآن و قد علقت مخالبنا به يرجو النجاة و لات حين مناص»و أسرع الشمر و هو جذلان مسرور،و جعل يجذ في السير ليصل لابن سعد لعله لا يستجيب لأوامر ابن مرجانة فيكون هو الأمير على الجيش،و وصل الشمر إلى كربلاء و كان ابن سعد مستنقعا في الفرات.فبادر إليه رجل فقال له:

«قد بعث إليك جويرة بن بدر التميمي و أمره إن أنت لم تقاتل أن يضرب عنقك».

و وثب ابن سعد إلى ثيابه فلبسها و التفت إلى شمر بن ذي الجوشن و قد عرف أنها من مكيدته فقال له:

«ويلك لا قرب الله دارك،و قبح الله ما جئت به،و اني لأظن أنك الذي نهيته، و أفسدت علينا أمرا رجونا أن يصلح...و الله لا يستسلم حسين فإن نفس أبيه بين جنبيه».

فأجابه الشمر:

«أخبرني ما أنت صانع أتمضي لأمر أميرك؟و الا فخل بيني و بين العسكر...».

و استسلم ابن سعد لهواه و أطماعه فرضي أن يبقى قائدا لجيش ظلوم فقال له:

«لا و لا كرامة،و لكن أتولى الأمر».

و ظل الشمر رقيبا على ابن سعد لعله أن يقصر في أوامر سيده ابن مرجانة ليتولى هو قيادة الجيش،و بعث ابن سعد بجواب ابن زياد إلى الامام،فقال عليه السّلام:

«لا و الله ما وضعت يدي في يد ابن مرجانة».

ص: 29

الإمام مع ابن سعد

و طلب الإمام من ابن سعد الاجتماع به،فأجابه-على كره-فالتقى معه ليلا، و عقد معه اجتماعا مغلقا لم يحضره إلا العباس و علي الأكبر من جانب الحسين و مع ابن سعد حفص و غلام لابن سعد،فقال الإمام له:

«يا ابن سعد أتقاتلني؟أما تتقي الله الذي إليه معادك،فإني ابن من قد علمت ألا تكون معي و تدع هؤلاء فإنه أقرب إلى الله تعالى».

و ألقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلا:

-أخاف أن تهدم داري.

-أنا أبنيها.

-أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

-أنا أخلف عليك خيرا منها في الحجاز.

-ان لي بالكوفة عيالا و أخاف عليهم من ابن زياد القتل.

و لم يجد منه الإمام أي تجاوب،و انما رأى منه اصرارا على الغي و العدوان فاندفع يدعو عليه:

«ما لك ذبحك الله على فراشك عاجلا،و لا غفر لك يوم حشرك،فو الله اني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيرا».

و ولى ابن سعد،و هو يقول للإمام بسخرية:ان في الشعير كفاية (1).

ص: 30


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:90/3.

أمان الشمر لأخوة العباس

و ظن الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن أن يقنع أخوة الحسين بالعدول عن نصرة أخيهم فحمل لهم أمانا من عبيد الله بن زياد،و جاء يشتد حتى وقف أمامهم، و هتف مناديا:

«أين بنو اختنا العباس و اخوته؟».

و هبت إليه الفتية كالأسود،فقالوا له:

«ما تريد يابن ذي الجوشن؟».

«لكم الأمان».

و صاحوا به و هم يتميزون من الغيظ قائلين:

«لعنك الله و لعن أمانك،أتأمننا،و ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله لا أمان له».

و ولى الأثيم خائبا،و قد ظن أن أخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين،و لم يعلم أنهم من أفذاذ الدنيا الذين صاغوا الكرامة الإنسانية و صنعوا الفخر و المجد للإنسان.

منع الامدادات

و فرض ابن سعد الحصار على الإمام الحسين عليه السّلام فأحاط بجميع الطرق مخافة أن يصل إليه أي إمداد من الخارج،و قد أحكم هذه الجهة حتى صار من غير الممكن أن يلتحق أي أحد بمعسكر الإمام أو يوصلهم بأي إمداد.

ص: 31

احتلال الفرات

و أخطر عملية قام بها ابن سعد احتلاله لنهر الفرات فقد صدرت إليه الأوامر المشددة من ابن مرجانة بمنع الماء عن الإمام الحسين و أهل بيته و أصحابه فلا يذوقوا منه قطرة واحدة،كما صنع بعثمان بن عفان،و أرسل قوة عسكرية تتألف من خمسمائة فارس،و قيل أربعة آلاف فارس بقيادة عمرو بن الحجاج فاحتلوا جميع الشرائع و الأنهر المتفرعة من نهر الفرات،و أوصدوا على الحسين و أصحابه باب الورود إلى الماء.و فيما أحسب أنه إنما اتخذ هذا الإجراء القاسي الرهيب لما يلي:

أولا:الإضرار بمعسكر الإمام حتى لا تكون عندهم أية قدرة أو مقاومة على الحرب،فلا تصاب قواته بالخسائر.

ثانيا:سد الطريق أمام من يحاول الالتحاق بالحسين عن طريق الماء.

ثالثا:المبالغة في التشفي و الانتقام من الأسرة النبوية لما فعله المسلمون بعثمان يوم الدار حينما حوصر،و منعوا عنه الماء،و لكن الحسين فيما أجمع عليه المؤرخون قد حمل الماء إليه حينما حوصر و قد تنكر الأمويون لهذه اليد التي أسداها الإمام عليهم.

رابعا:إن ابن زياد كان يأمل بهذا الإجراء أن يستسلم الإمام و يخضع لأوامره.

هذه بعض الأسباب التي دعت ابن مرجانة لإصدار أوامره باحتلال الفرات،و منع الماء عن الحسين و أصحابه.

و يقول المؤرخون:إنه حيل بين الحسين و بين الماء قبل قتله بثلاثة أيام،و كان أعظم ما عاناه الإمام من المحن الشاقة مشاهدة أطفاله و حرائر الرسالة،و هم

ص: 32

يعجون من ألم الظمأ القاتل،فقد كان الأطفال ينادون:الماء...الماء.

و لم يستطع الأطفال مقاومة العطش،و كانوا ينظرون إلى الفرات و هو فياض بمائه،فيزداد صراخهم،و ذاب قلب الإمام رحمة و حنانا لذلك المشهد الرهيب،فقد ذبلت شفاه أطفاله،و ذوى عودهم،و جف لبن المراضع.بينما ينعم أولئك الجفاة بالماء،يقول أنور الجندي:

و ذئاب الشرور تنعم بالماء و أهل النبي من غير ماء

يا لظلم الأقدار يظمأ قلب الليث و الليث موثق الأعضاء

و صغار الحسين يبكون في الصحراء يا رب أين غوث القضاء

إن جميع الشرائع و المذاهب لا تبيح منع الماء عن الأطفال و النساء،و خصوصا الشريعة الإسلامية،فقد جعلت الناس جميعا شركاء في الماء و الكلاء،و سوغت الشرب من الأنهار المملوكة حتى لو لم يأذن أربابها و كرهت أشد الكراهة ذبح الحيوان الأعجم عطشانا،لكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك،و استباح جميع ما حرمته الشرائع و الأديان.

لقد تنكر أولئك الجفاة لليد البيضاء التي أسداها الإمام على مقدمة جيوشهم التي كانت تتألف من ألف فارس بقيادة الحر لإلقاء القبض على الإمام و الحصار عليه في البيداء،و كان قد بلغ بهم العطش كل مبلغ حتى أشرفوا على الهلاك،و كان باستطاعته أن يبيدهم عطشا فأبت مروءته و رحمته أن يعاملهم بالقسوة فأمر فتيانه و هو معهم فسقاهم عن آخرهم كما أمر بسقي خيولهم و ترشيفها على أنه كان في حاجة إلى الماء لأنه في وسط الصحراء اللاهبة،و لم يقدر أولئك الأجلاف هذه النجدة فحرموه من الماء و حرموا من كان في كنفه من سيدات أهل البيت و أحفاد النبي صلّى اللّه عليه و اله.

ص: 33

الطباع اللئيمة

اشارة

و أخذ أولئك الممسوخون يتباهون و يتفاخرون باستيلائهم على ماء الفرات و حرمان ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله منه،و من بينهم:

1-المهاجر بن أوس

و انبرى المهاجر بن أوس التميمي صوب الإمام رافعا صوته:

«يا حسين ألا ترى إلى الماء يلوح كأنه بطون الحيات،و الله لا تذوقه أو تموت» فرد عليه الإمام:

«إني لأرجو أن يوردنيه الله و يحلئكم عنه».

2-عمرو بن الحجاج

و أقبل عمرو بن الحجاج،و كان ممن كاتب الحسين بالقدوم إلى الكوفة حتى قرب من معسكر الحسين فرفع صوته:

«يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب،و تشرب فيه الحمير و الخنازير،و الله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنم».

ص: 34

3-عبد الله بن حصين

و أقبل عبد الله بن حصين الأزدي يشتد كأنه الكلب نحو الإمام فنادى:

«يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء،و الله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا».

فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه و قال:

«اللّهم اقتله عطشا،و لا تغفر له أبدا».

لقد فخر أولئك الأجلاف باحتلالهم لماء الفرات،تقربا لسيدهم ابن مرجانة و إرضاء لعواطفه لينالوا جوائزه و هباته (1).

ص: 35


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:92/3.

الإنكار على ابن سعد

اشارة

و أنكر جماعة من أصحاب الإمام الحسين و غيرهم على ابن سعد منعه الماء عن ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فقد كان ذلك أحط أسلوب في الانتقام فقد أشرف أطفال الحسين على الهلاك و هم يرون الماء أمامهم،و ليس هناك من سبب يدعو إلى هذا الانتقام إلا الخسة و الوحشية المتأصلة في نفوس ذلك الجيش،و من بين المنكرين عليه.

1-يزيد بن حصين

و خرج يزيد بن الحصين فقال لابن سعد:«هذا الفرات تشرب منه الكلاب،و هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أهل بيته عطاشى و أنت تزعم أنك تعرف الله و رسوله؟!».

و أطرق ابن سعد بوجهه الخبيث إلى الأرض،و لم يتكلم بشي.

2-برير بن خضير

و انطلق برير بن خضير الهمداني نحو ابن سعد فرفع صوته قائلا:

«يا عمر أ تترك بيت النبوة يموتون عطشا و أنت بينهم و بين الفرات أن يشربوا منه، و تزعم أنك تعرف الله و رسوله».

ص: 36

فأجابه ابن سعد:

«إني و الله أعلم يا برير أن قاتلهم إلى النار،و لكن تشير علي أن أترك ولاية الري فتصير إلى غيري،ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبدا».

3-الحر

و حينما التحق الحر بمعسكر الإمام و تاب على يده خرج إلى جيش ابن سعد فرفع صوته قائلا:

«يا أهل الكوفة لأمكم الهبل و العبر إذ دعوتموه،و أخذتم بكظمه و أحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضة حتى يأمن و أهل بيته،و أصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا،و حلأتموه و نساءه و صبيته و صحبه عن ماء الفرات الجاري الذي تشربه اليهود و النصارى و المجوس و تمرغ فيه خنازير السواد و كلابه،و ها هم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ».

و لم يجد معهم هذا الإنكار،و أصروا على بغيهم و عنادهم فحرموا أبناء النبي صلّى اللّه عليه و اله من الماء حتى صرعهم العطش.

ص: 37

العثور على عين ماء

و أضر العطش بأهل البيت فتصارخت الأطفال،و العيال،و قام الإمام عليه السّلام فأخذ فأسا و حفر حول خيمة النساء فنبعت عين ماء عذب فشربوا منها إلا أنها لم تلبث إلا قليلا حتى غارت و نقلت الاستخبارات لابن زياد ذلك فتميز غيظا فأرسل إلى ابن سعد رسالة جاء فيها:

«بلغني أن الحسين يحفر الآبار،و يصيب الماء فيشرب هو و أصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت،و ضيق عليهم غاية التضييق...».

و فرض ابن سعد الرقابة الشديدة على حفر الآبار،كما أحاط نهر الفرات بمزيد من الحرس و الجنود مخافة أن يأتي أحد منهم فيشرب من الماء.

القتال على الماء

و التاع الإمام كأشد ما تكون اللوعة ألما و محنة حينما رأى أطفاله و أهل بيته و هم يستغيثون من الظمأ القاتل،فندب أخاه و ابن والده أبا الفضل العباس لتحصيل الماء فانبرى البطل العظيم،و صحب معه ثلاثين فارسا و عشرين راجلا،و حملوا معهم عشرين قربة،و اقتحموا بأجمعهم نهر الفرات،و قد تقدمهم نافع بن هلال المرادي،فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي،و كان هو المسؤول عن حراسة الفرات،فقال له:

ص: 38

-ما جاء بك؟

-جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.

-اشرب هنيئا.

-أفأشرب و الحسين عطشان و من ترى من أصحابه.

-لا سبيل إلى سقي هؤلاء..إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء.

و لم يحفل به أصحاب الإمام،فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم فثار عليهم عمرو ابن الحجاج مع مفرزة من جنوده،و التحم معهم العباس و نافع بن هلال،و دارت بينهم معركة إلا أنه لم يقتل فيها أحد و عاد أصحاب الإمام بعد أن ملأوا قربهم من الماء و قيل إنهم لم يعودوا إلا بشيء يسير منه واروى العباس عطاشى أهل البيت و أنقذهم من الظمأ،و لقب من ذلك اليوم بالسقاء و هو من أشهر ألقابه ذيوعا،و من أحبها عنده (1).3.

ص: 39


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:95/3.

استنجاد حبيب بأسرته

و كان حبيب بن مظاهر من أفذاذ أصحاب الحسين و من أكثرهم اخلاصا و ولاء له،و لما رأى وحدة الإمام و تظافر القوى الغادرة على حربه طلب منه أن يأذن له ليستنجد بأسرته من بني أسد ليحظون بالجهاد بين يديه قائلا:

«إن ههنا حيا من بني أسد أعرابا ينزلون ب)النهرين)و ليس بيننا و بينهم إلا رواحة أفتأذن لي في إتيانهم و دعائهم،لعل الله أن يجد بهم إليك نفعا أو يدفع عنك مكروها».

فأذن له الإمام فانطلق مسرعا إليهم،و لما مثل عندهم قال:

«إني أدعوكم إلى شرف الآخرة و فضائلها و جسيم ثوابها..أنا أدعوكم إلى نصرة ابن بنت رسول الله نبيكم صلّى اللّه عليه و اله فقد أصبح مظلوما،دعاه أهل الكوفة لينصروه فلما أتاهم خذلوه و عمدوا عليه ليقتلوه».

فاستجاب له سبعون شخصا و كان من بينهم عبد الله بن بشر الأسدي،فقال:أنا أول من يجيب هذه الدعوى ثم جعل يرتجز:

قد علم القوم إذا تواكلوا و أحجم الفرسان أو تثاقلوا

أني شجاع بطل مقاتل كأنني ليث عرين باسل

و خفوا إلى نصرة الإمام إلا أنه كان في المجلس عين لابن سعد فأسرع إليه و أخبره بذلك،فجهز مفرزة من جيشه بقيادة جبلة بن عمر فحالوا بينهم و بين الالتحاق بالحسين،فرجع حبيب حزينا فأخبر الإمام بذلك فقال:«الحمد لله كثيرا» و ظل الإمام مع أصحابه و هم يعانون أشد الضيق من الحصار الذي فرض عليهم،

ص: 40

و ينتظرون الأحداث الرهيبة التي يلاقونها على صعيد كربلاء.

مع المعسكرين

اشارة

و على الصعيد الطيب من أرض كربلاء التحمت القوى الغادرة مع جنود الله و خلايا التوحيد الذين شرح الله صدورهم للايمان فناضلوا و هم على يقين بعدالة قضيتهم...على العكس من خصومهم الذين كانوا تملكهم الحيرة و القلق النفسي فكانوا يقاتلون و هم على علم بضلالة قصدهم و انحرافهم عن الطريق القويم،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للتحدث عن كلا المعسكرين.

المعسكر الحسيني

اشارة

أما المعسكر الحسيني فإنه كان يمثل شرف الإنسان،و يمثل القيم الكريمة و الاتجاهات العظيمة التي يسمو بها كل إنسان نبيل،و حسبه أنه وحده في تأريخ هذه الدنيا قد كتب له الخلود و البقاء فليس في أسرة شهداء العالم مثل شهداء كربلاء شرفا و مجدا و اندفاعا في نصرة الحق،و تفانيا في سبيل العدل،و نشير إلى بعض المظاهر من أهدافهم و ذاتياتهم (1).

ص: 41


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:97/3.
عناصر جيش الإمام الحسين عليه السلام
اشارة

و يتألف جيش الإمام من عنصرين و هما:

1-الموالي

أما الموالي فكانوا على علاقة وثيقة بالإمام الحسين عليه السّلام نظرا للسياسة العادلة التي تبناها الإمام أمير المؤمنين فيهم،و لو كانت الظروف متهيّئة لهم لالتحق القسم الكبير منهم بالإمام،و قد ضمّ جيشه من يلي منهم:

1-سليمان مولى للحسين.

2-قارب الدئلي مولى للحسين.

3-الحارث بن نبهان مولى لحمزة بن عبد المطلب.

4-سحح مولى للحسين.

5-عامر بن مسلم مولى لسالم.

6-جابر بن الحجاج مولى لعامر بن نهشل.

7-سعد مولى لعمر بن خالد الصيداوي.

8-رافع مولى لأهل شنوة.

9-شوذب مولى لشاكر بن عبد الله الهمداني الشاكري.

10-أسلم التركي مولى للحسين.

11-جون مولى أبي ذر الغفاري.

ص: 42

12-زاهر مولى لعمرو بن الخزاعي.

و هؤلاء الموالي الذين فاقوا الأحرار في شرفهم و اندفاعهم لنصرة الحق قد فازوا بنصرة سيد شباب أهل الجنة و نعموا بالشهادة بين يديه.

[2-] العرب

و بقية أنصار الحسين الممجدين كانوا من العرب و أكثرهم من سكان الكوفة، و أما من البصرة فإنه لم يستشهد معه إلا عدد قليل،كما التحق به من الحجاز الصحابي الكبير أنس بن الحارث الكاهلي.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن معسكر الحسين.

ص: 43

المعسكر الأموي

اشارة

أما المعسكر الأموي فقد كانوا مجموعة من الخونة و باعة الضمير و ليس فيهم أي إنسان شريف،كما كانوا على يقين لا يخامره أدنى شك في ضلالة قصدهم، و انحرافهم عن الطريق القويم...و هذه بعض مظاهر ما اتصفوا به.

[بعض مظاهر المعسكر الاموى]
1-فقدان الإرادة

و الظاهرة البارزة في ذلك الجيش فقدانه لإرادته و اختياره،فقد كان أكثرهم- فيما يقول المؤرخون-قلوبهم مع الإمام،و سيوفهم مشهورة عليه،لقد خفوا إلى حرب من يعتقدون بعدالة قضيته،و انه وحده الذي يحقق أهدافهم و ما يصبون إليه، و لو كان عندهم ذرة من الشعور و الإحساس لفدوه بأرواحهم و نفوسهم،و ما خانوه بعد ما عاهدوا الله في نصرته و الذب عنه.

2-القلق و الحيرة

و استوعبت الحيرة و خيانة النفس نفوس الكثيرين من المعسكر الأموي فقد كانوا على يقين أنهم على مزلقة الباطل،و ان الحسين و أصحابه على جادة الحق، و قد أدلى شبث بن ربعي،و هو أحد زعماء ذلك الجيش،و من أركانه القياديين بهذه الظاهرة يقول:

ص: 44

«قاتلنا مع عليّ بن أبي طالب،و مع ابنه الحسن من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ولده و هو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية و ابن سمية الزانية،ضلال يا لك من ضلال!!و الله لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا،و لا يسددهم لرشد».

و كشفت هذه الكلمات عن مدى القلق النفسي الذي كان يساور شبث بن ربعي، و لا شك أن هناك المئات من أمثاله ممن كانوا يجدون في قراره نفوسهم تأنيبا حادا على حربهم لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله كما أن الكثيرين منهم كانوا يحجمون من الدخول في عمليات الحرب،و قد لمس ذلك فيهم عمرو بن الحجاج فاندفع يقول لهم:

«لا ترتابوا في قتال من مرق من الدين».

و من مظاهر تلك الحيرة أنه لم يؤثر عن أحد أنه أنشد رجزا أشاد فيه بالغاية التي كان ينشدها و يقاتل من أجلها الإمام،فقد كمت الأفواه و أخرست الألسن،و إنما كان الرجز من أصحاب الإمام الحسين و أهل بيته فقد مثل أهدافهم و مبادئهم التي استشهدوا من أجلها...لقد كان الرجز هو النشيد العسكري السائد في تلك العصور فيه يتغنى المقاتلون في أثناء الحرب،و يفتخرون بشجاعتهم و بطولاتهم، و يتوعدون أعداءهم بالقتل و الهزيمة،لقد أصبح الرجز في تلك المعارك كسلاح من أسلحة القتال يعتمد عليه المقاتلون كما يعتمدون على آلات الحروب من السيوف و السهام و الرماح،ففي واقعة الجمل كان أصحاب عائشة ينشدون الرجز الذي يمثل اندفاعهم نحو أمهم،و أصحاب الإمام كانوا يذكرون في رجزهم دفاعهم عن الإمام أمير المؤمنين،و انه فرض ديني عليهم،و كذلك في معركة صفين،أما في واقعة كربلاء فلم يؤثر بيت من الشعر نظمه أو تمثل به أحد من المعسكر الأموي و هو آية على شيوع الحيرة و التردد في نفوسهم فقد عرفوا جميعا عرفانا لا تسعه المغالطة و لا الإنكار إثم ما اقترفوه و انهم قد ارتطموا في الباطل و ماجوا في الضلال...

ص: 45

3-الفسق

و طائفة كبيرة كانت في الجيش الأموي قد عرفت بالفسق و التحلل،فقد كانوا من المدمنين على الخمر،و يقول المؤرخون:إن الذين حملوا رؤوس الشهداء إلى دمشق كانوا يشربون الخمر طيلة الطريق و قد ذكرنا في البحوث السابقة بعض ما اتصفوا به من الكذب و عدم الحريجة في الدين.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض صفات ذلك الجيش.

عناصر الجيش
اشارة

و يتألف الجيش الأموي من عدة عناصر و من بينها:

1-الانتهازيون

و هم الذين يخدمون السلطة للرغبة و الرهبة،و يسعون وراء مصالحهم و لا يؤثرون الحق في سلوكهم و تصرفاتهم سوى السعي وراء مصالحهم الخاصة، و قد شاعت هذه الفئة في معسكر ابن زياد،و أسندت لها المناصب الحساسة في الجيش و هم أمثال عمر بن سعد،و حجار بن أبجر،و شبث بن ربعي،و شمر بن ذي الجوشن،و قيس بن الأشعث و يزيد بن الحرث و غيرهم من الذين طلقوا المعروف ثلاثا،و لم تصدر منهم في جميع فترات حياتهم أية بادرة من بوادر الخير سوى ما يضر الناس.

ص: 46

2-المرتزقة

و هناك طائفة كبيرة من الجيش قد اندفعوا لحرب الإمام تسوقهم الأطماع الرخيصة،و الأمل على حصول مغنم في الحرب،و قد هرعوا بعد قتل الإمام-بخسة -إلى السلب و النهب فمالوا على ثقل الإمام و متاعه فنهبوه،و عمدوا إلى سلب حرائر النبوة و عقائل الوحي فلم يتركوا ما عليهن من حلي و حلل،و عمدوا إلى سلب ما على الإمام و سائر الشهداء من الملابس و لا مات الحرب،و يقول المؤرخون:انهم سلبوا جميع ملابس الحسين حتى تركوه عريانا ليس عليه ما يواري جسده الشريف،و سنعرض لذلك عند التحدث عن مقتل الإمام.

3-الممسوخون

و من بين العناصر التي ضمها المعسكر الأموي الممسوخون،و هم الذين امتلأت صدورهم بالحقد و الكراهية لجميع الناس،و أهم رغباتهم النفسية المذابح الطائشة،و الاندفاع نحو الجريمة تلبية لنداء الجريمة المتأصلة في نفوسهم.

و قد بالغت تلك الطغمة من الممسوخين في اقتراف الجرائم،فتسابقوا إلى قتل الأطفال من آل النبي و ترويع النساء،و هم يفخرون بما يقترفونه من الخزي و العار، و من بين هؤلاء الوحوش الكواسر السفاح الحقير شمر بن ذي الجوشن،و حرملة ابن كاهل و الحكيم بن طفيل الطائي و سنان بن أنس و عمرو بن الحجاج،و أمثالهم من كلاب الطراد كما سماهم بذلك بعض المؤرخين،و قد صدرت منهم في كربلاء من القساوة ما تترفع عنه الوحوش و الكلاب.

ص: 47

4-المكرهون

و هناك طائفة من الجيش قد أرغمت على حرب الإمام،فقد حملتهم السلطة على الخوض في هذه المعركة و كانت عواطفهم و مشاعرهم مع الإمام إلا أن الجبن و خور النفس،قد منعهم من نصرته،و هؤلاء لم يشتركوا في الحرب،و انما كانوا يتضرعون إلى الله في أن ينزل نصره على ابن بنت نبيه،و قد أنكر عليهم واحد منهم فقال لهم:هلا تهبوا إلى نصرته و الدفاع عنه بدل الدعاء و مما لا شبهة فيه أنهم قد اقترفوا إثما عظيما،و شاركوا المحاربين في جريمتهم لأنهم لم يقوموا بإنقاذ الإمام و حمايته من المعتدين.

5-الخوارج

و من بين العناصر التي اشتركت في حرب الإمام الخوارج،و هم من أحقد الناس على آل النبي صلّى اللّه عليه و اله لأن الإمام أمير المؤمنين)ع)قد وترهم في واقعة النهروان، فتسابقوا إلى قتل العترة الطاهرة للتشفي منها.

هذه بعض العناصر التي ضمها جيش ابن زياد،و قد جاء وصفهم في إحدى زيارات الإمام الحسين عليه السّلام ما نصه:

«و قد توازر عليه-أي على حرب الإمام-من غرته الدنيا،و باع حظه بالأرذل الأدنى، و شرى آخرته بالثمن الأوكس،و تردى في هواه».

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن معسكر الإمام،و معسكر ابن زياد،لنقف على فصول المأساة في دنيا الأحزان.

ص: 48

المأساة الخالدة

و لم تشاهد أمة من الأمم محنة أوجع و لا أفجع من كارثة كربلاء،فلم تبق رزية من رزايا الدهر،و لا فاجعة من فواجع الدنيا إلا جرت على سبط رسول الله و ريحانته...و قد ألهبت رزاياه العواطف حزنا و أسى و أثارت اللوعة حتى عند أقل الناس إحساسا و أقساهم قلبا و قد أثرت على الباغي اللئيم عمر بن سعد فراح يبكي من أهوال ما جرى على الإمام من فوادح الخطوب.

لقد انتهكت في كارثة كربلاء حرمة الرسول صلّى اللّه عليه و اله في عترته و ذريته يقول الإمام الرضا عليه السّلام:

«إن يوم الحسين أقرح جفوننا و أذل عزيزنا...».

و نعرض إلى فصول تلك المأساة الخالدة في دنيا الأحزان،و ما رافقها من الأحداث الموجعة.

ص: 49

زحف الجيش

و تدافعت القوى الغادرة التي ملئت نفوسها الشريرة بالأحقاد و الأضغان على العترة الطاهرة التي تبنت حقوق المظلومين و المضطهدين،و جاهدت من أجل إحقاق الحق.

لقد زحفت طلائع جيش ابن سعد نحو الإمام في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم،فقد صدرت إلى القيادة العامة الأوامر المشددة من ابن زياد بتعجيل القتال خوفا من أن يتبلور رأي الجيش و يحدث انقسام في صفوفه،و لما زحف ذلك الجيش كان الحسين جالسا أمام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه،فسمعت أخته عقيلة بني هاشم زينب عليه السّلام أصوات الرجال و تدافعهم نحو أخيها فانبرت إليه و هي فزعة مرعوبة فأيقظته فرفع الإمام رأسه فرأى أخته،فقال لها بعزم و ثبات:

«إني رأيت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله في المنام،فقال:إنك تروح إلينا...».

و ذابت نفس العقيلة،و انهارت قواها فلطمت وجهها و قالت بنبرات حزينة:

«يا وليتاه..».

و التفت أبو الفضل العباس إلى أخيه فقال له:يا أخي أتاك القوم فطلب منه الإمام أن يتعرف على خبرهم قائلا له:

«اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم،فتقول لهم:ما بدا لكم،و ما تريدون؟».

و أسرع أبو الفضل نحوهم،و معه عشرون فارسا من أصحابه،و فيهم زهير ابن القين و حبيب بن مظاهر،و سألهم العباس عن زحفهم،فقالوا له:

«جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم».

ص: 50

و قفل العباس إلى أخيه يعرض عليه الأمر،و أقبل حبيب بن مظاهر على القوم فجعل يعظهم،و يذكرهم الدار الآخرة قائلا:

«أما و الله لبئس القوم يقدمون غدا على الله تعالى،و على رسوله محمد صلّى اللّه عليه و اله و قد قتلوا ذريته و أهل بيته المجتهدين بالأسحار،الذاكرين الله كثيرا بالليل و النهار و شيعته الأتقياء الأبرار».

فرد عليه عزرة بن قيس قائلا:

«يابن مظاهر إنك لتزكي نفسك!!».

و انبرى إليه زهير بن القين قائلا:

«اتق الله يابن قيس،و لا تكن من الذين يعينون على الضلال،و يقتلون النفس الزكية الطاهرة عترة خيرة الأنبياء».

فقال له عزرة:

«كنت عندنا عثمانيا فما بالك؟».

فقال زهير:

«و الله ما كتبت إلى الحسين،و لا أرسلت إليه رسولا،و لكن الطريق جمعني و إياه،فلما رأيته ذكرت به رسول الله و عرفت ما تقدمون من غدركم،و نكثكم، و سبيلكم إلى الدنيا فرأيت أن أنصره،و أكون في حزبه حفظا لما ضيعتم من حق رسول الله صلّى اللّه عليه و اله».

و عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه،فقال له:

«ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة،و ندعوه، و نستغفره فهو يعلم أني أحب الصلاة و تلاوة كتابه و كثرة الدعاء و الاستغفار».

و رجع إليهم أبو الفضل العباس،فأخبرهم بكلام أخيه،و عرض ابن سعد الأمر على الشمر خوفا من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام و أخر القتال فقد كان المنافس الوحيد له على إمارة الجيش كما كان عينا عليه،أو أنه أراد أن يكون

ص: 51

شريكا له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.

و على أي حال فإن الشمر لم يبد رأيه في الموضوع،و إنما أحاله لابن سعد، و انبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم احجامهم عن إجابة الإمام قائلا:

«سبحان الله!!و الله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه..».

و لم يزد ابن الحجاج على ذلك فلم يقل إنه ابن رسول الله)ص)خوفا من أن تنقل الاستخبارات العسكرية حديثه إلى ابن مرجانة فينال العقاب أو العتاب و الحرمان منه...و أيد ابن الأشعث مقالة ابن الحجاج فقال لابن سعد:

«أجبهم إلى ما سألوا فلعمري ليصحبنك بالقتال غدا».

و إنما قال ابن الأشعث ذلك لأنه حسب أن الإمام يتنازل لابن زياد فلذا رغب في تأخير القتال،إلا أنه لما استبان له أن الإمام مصمم على الحرب ندم على كلامه و راح يقول:

«و الله لو أعلم أنهم يفعلون ما أخرتهم».

لقد اتخذ ابن الأشعث من خلقه و أخلاق أهل الكوفة مقياسا يقيس به قيم الرجال فظن أن الإمام سوف يستجيب للذل و الهوان و يتنازل عن أداء رسالته الكبرى،و لم يعلم أن الإمام يستمد واقعه و اتجاهاته من جده العظيم.

ص: 52

تأجيل الحرب إلى الصبح

و استجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به أكثرية القادة من جيشه،و أوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك فدنا من معسكر الحسين و صاح:«يا أصحاب الحسين بن علي قد أجلناكم يومكم هذا إلى غد فإن استسلمتم و نزلتم على حكم الأمير وجهنا بكم إليه و إن أبيتم ناجزناكم»و أرجى القتال إلى اليوم العاشر من المحرم و ظل أصحاب ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه (1).

استمهال الحسين عنهم

قيل:و أتى العباس بن علي حسينا بما عرض عليه عمر بن سعد،فقال له:ارجع إليهم فإن استطعت ان تؤخرهم إلى غدوة و تدفعهم عنا العشية لعلنا نصلى لربنا و ندعوه و نستغفره فهو يعلم انى قد كنت أحب الصلاة له و تلاوة كتابه و كثرة الدعاء و الاستغفار.

قال:و أقبل العباس ابن علي يركض حتى انتهى إليهم،فقال:يا هؤلاء ان أبا عبد اللّه يسألكم ان تنصرفوا هذه العشية،حتى ينظر في هذا الأمر فإن هذا أمر لم يجر بينكم و بينه فيه منطق،فإذا أصبحنا التقينا إن شاء اللّه،فإما رضيناه،فأتينا بالامر

ص: 53


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:111/3.

الذي تسألونه و تسومونه،أو كرهنا فرددناه،و إنما أراد بذلك ان يردهم عنه تلك العشية،حتى يأمر بأمره و يوصي أهله،فلما اتاهم العباس بن علي بذلك،قال عمر بن سعد:ما ترى يا شمر!قال:ما ترى أنت،أنت الأمير و الرأي رأيك!قال قد أردت أن لا أكون،ثم اقبل على الناس فقال:ماذا ترون؟

فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي.

سبحان اللّه!و اللّه لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة،لكان ينبغي لك ان تجيبهم إليها،و قال قيس بن الأشعث:أجبهم إلى ما سألوك فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة،فقال:و اللّه لو اعلم أن يفعلوا ما أخرتهم العشية.

و روى عن علي بن الحسين قال:أتانا رسول من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال:انا قد أجلناكم إلى غد،فإن استلمتم سرحنا بكم إلى أميرنا عبيد اللّه بن زياد و إن أبيتم فلسنا تاركيكم (1).3.

ص: 54


1- معالم المدرستين للعسكري:89/3.

أحداث ليلة العاشر من محرم

روي عن أهل البيت عليهم السّلام أنه لمّا جمع ريحانة رسول الله سيّد الشهداء الحسين ابن عليّ أصحابه عندما قرب المساء من يوم التّاسوعاء و قال لهم:إنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام هذا اللّيل قد غشيكم فاتّخذوه جملا.

فبعد ما قال أعوانه من إخوته و أبنائه و بني أخيه و بني عقيل و ابني عبد الله بن جعفر ما قالوا،قام إليه مسلم بن عوسجة رضوان الله عليه فقال:أنحن نخلّي عنك و بما نعتذر إلى الله في أداء حقّك أما و الله حتّى أطعن في صدورهم برمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة و الله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك،أما و الله لو قد علمت أنّي أقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق ثمّ أحيى ثمّ أذرى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك و كيف لا أفعل ذلك و إنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.

و قام زهير بن القين رحمة الله عليه فقال:و الله لوددت أنّي قتلت ثم نشرت ثمّ قتلت حتّى أقتل هكذا ألف مرّة و أنّ الله عزّ و جلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك. (1)

و قال السيد مرتضى العسكري:قال:ثم إن عمر بن سعد نهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم،و نادى:يا خيل اللّه اركبي و ابشري:فركب في

ص: 55


1- الإرشاد:92/2.

الناس،ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر،و حسين جالس امام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه و سمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت:يا أخي!اما تسمع الأصوات قد اقتربت قال:فرفع الحسين رأسه،فقال:إني رأيت رسول صلّى اللّه عليه و اله في المنام فقال لي إنك تروح إلينا،قال:فلطمت أخته وجهها، و قالت:يا ويلنا!فقال:ليس لك الويل يا أخية اسكني،رحمك الرحمن،و قال العباس بن علي:يا أخي اتاك القوم،قال:فنهض،ثم قال:يا عباس!اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم:ما لكم و ما بدالكم؟و تسألهم عما جاء بهم،فأتاهم العباس،فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين و حبيب بن مظاهر فقال لهم العباس:ما بدالكم و ما تريدون؟

قالوا:جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه،أو ننازلكم.

قال:فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد اللّه فأعرض عليه ما ذكرتم،قال:

فوقفوا.

ثم قالوا:القه فأعلمه ذلك،ثم القنا بما يقول،قال:فانصرف العباس راجعا يركض إلى الحسين يخبر بالخبر،و وقف أصحابه يخاطبون القوم،فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين كلم القوم،ان شئت،و ان شئت كلمتهم،فقال له زهير:أنت بدأت بهذا،فكن أنت تكلمهم،فقال لهم حبيب بن مظاهر:أما و اللّه لبئس القوم عند اللّه غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه صلّى اللّه عليه و اله و عترته،و أهل بيته عليه السّلام و عباد أهل هذا المصر المجتهدين بالاسحار و الذاكرين اللّه كثيرا،فقال له عزرة بن قيس:انك لتزكى نفسك ما استطعت،فقال له زهير:يا عزرة!ان اللّه قد زكاها و هداها،فاتق اللّه يا عزرة!فإني لك من الناصحين،أنشدك اللّه يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية،قال:يا زهير!ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانيا!

قال:أفلست تستدل بموقفي هذا إني منهم؟اما و اللّه ما كتبت إليه كتابا قط،و لا

ص: 56

أرسلت إليه رسولا قط،و لا وعدته نصرتي قط،و لكن الطريق جمع بيني و بينه، فلما رأيته ذكرت به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و مكانه منه،و عرفت ما يقدم عليه من عدوه و حزبكم؟

فرأيت أن انصره،و ان أكون في حزبه،و ان اجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق اللّه،و حق رسوله صلّى اللّه عليه و اله (1).3.

ص: 57


1- معالم المدرستين للعسكري:88/3.

خطبة الحسين عليه السلام في أصحابه ليلة العاشر

اشارة

و روى عن علي بن الحسين عليه السّلام،قال:جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد،و ذلك عند قرب المساء قال علي بن الحسين:فدنوت منه لا سمع و انا مريض فسمعت أبي و هو يقول لأصحابه:أثنى على اللّه تبارك و تعالى أحسن الثناء و أحمده على السراء و الضراء اللهم!إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة و علمتنا القرآن،و فقهتنا في الدين،و جعلت لنا اسماعا و أبصارا و أفئدة،و لم تجعلنا من المشركين،اما بعد فإني لا اعلم أصحابا أولى و لا خيرا من أصحابي،و لا أهل بيت أبر و لا أوصل من أهل بيتي،فجزاكم اللّه عني جميعا خيرا ألا و إني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا،ألا و إني قد رأيت لكم،فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام.

هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتى يفرج اللّه فإن القوم إنما يطلبوني و لو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.

الإمام يأذن لأصحابه بالتفرق

و جمع الإمام عليه السّلام أصحابه و أهل بيته ليلة العاشر من المحرم،و طلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض و يتركوه وحده ليلقى مصيره المحتوم،و قد أراد أن يكونوا على هدى و بينة من أمرهم،فقال لهم:

ص: 58

«اثني على الله أحسن الثناء،و احمده على السراء و الضراء...اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة و علمتنا القرآن،و فهمتنا في الدين و جعلت لنا اسماعا و ابصارا و أفئدة و لم تجعلنا من المشركين.

أما بعد:فإني لا أعلم أصحابا أوفى و لا خيرا من أصحابي فجزاكم الله جميعا عني خيرا،ألا و إني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا،و إني قد أذنت لكم جميعا فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام،و هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، و ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعا خيرا،ثم تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبونني،و لو أصابونني لهوا عن طلب غيري».

و تمثلت روعة الإيمان بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانبا كبيرا عن نفسية الإمام رائد الكرامة الإنسانية،فقد تجنب في هذا الموقف الدقيق جميع ألوان المنعطفات،فجعل أصحابه و أهل بيته أمام الأمر الواقع و حدد لهم النتيجة التي لا مفر منها و هي القتل و التضحية و ليس هناك شيء آخر غيرها..و قد رغب أن يخلوا عنه،و ينصرفوا تحت جنح الظلام فيتخذون منه ستارا دون كل عين فلعلهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في ضوء النهار،أو أنهم يخشونه فجعلهم في حل من التزاماتهم تجاهه،و عرفهم انه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة فإذا ظفروا به فلا ارب لهم في طلب غيره (1).

جواب أهل بيته

و لم يكد يفرغ الإمام من كلماته حتى هبت الصفوة الطيبة من أهل بيته،و هم يعلنون اختيار الطريق الذي يسلكه،و يتبعونه في مسيرته و لا يختارون غير

ص: 59


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:111/3.

منهجه،فانبروا جميعا و عيونهم تفيض دموعا قائلين:

«لم نفعل ذلك؟لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا».

بدأهم بهذا القول أخوه أبو الفضل العباس و تابعته الفتية الطيبة من أبناء الأسرة النبوية،و التفت الإمام إلى أبناء عمه من بني عقيل فقال لهم:

«حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم».

وهبت فتية آل عقيل تتعالى أصواتهم قائلين بلسان واحد:

«إذن ما يقول الناس؟و ما نقول؟إنا تركنا شيخنا و سيدنا و بني عمومتنا خير الأعمام و لم نرم معهم بسهم،و لم نطعن برمح،و لم نضرب بسيف و لا ندري ما صنعوا؟لا و الله لا نفعل و لكن نفديك بأنفسنا و أموالنا و أهلينا نقاتل معك،حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك» (1).

جواب أصحابه

اشارة

و اترعت قلوب أصحاب الإمام إيمانا فقد صهرهم أبو عبد الله بمثله التي لا تحد، فقد رأوا فضائله و مزاياه،و اندفاعه نحو الحق،و انه لم يكن يسعى بأي حال لجاه أو مال أو سيادة،و انه قد رفض كل مساومة على حساب أمته و دينه،مما أثر في أعماق قلوبهم فاستهانوا بالحياة و سخروا من الموت،و قد اندفعوا يعلنون له الفداء و التضحية و هذه كلمات بعضهم:

1-مسلم بن عوسجة

و انبرى مسلم بن عوسجة و دموعه تتبلور على وجهه فخاطب الإمام قائلا:

«أنحن نخلي عنك و بماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك،أما و الله لا أفارقك حتى

ص: 60


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:111/3.

أطعن في صدورهم برمحي و اضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك».

و عبرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه فهو يرى أنه مسؤول أمام الله عن أداء حق ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و انه سيبذل جميع طاقاته في الدفاع عنه.

2-سعيد بن عبد الله

و تكلم سعيد بن عبد الله الحنفي فأعلن ولاءه الصادق للإمام قائلا:«و الله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك...أما و الله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعون مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك،و كيف لا أفعل ذلك و إنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا».

و ليس في قاموس الوفاء أنبل و لا أصدق من هذا الوفاء أنه يتمنى انه تجري عليه عملية القتل سبعين مرة ليفدي الإمام و يحفظ غيبة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و كيف لا يستطيب الموت في سبيله و إنما هو مرة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها.

3-زهير بن القين

و انطلق زهير فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه أخوانه قائلا:«و الله لوددت أني قتلت ثم نشرت،ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف مرة،و ان الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك...».

لقد ارتفع هؤلاء الأبطال إلى مستوى من النبل لم يبلغه أي إنسان،فأعطوا الدروس المشرقة للفداء في سبيل الحق.

ص: 61

و انبرى بقية أصحاب الإمام فأعلنوا الترحيب بالموت في سبيله و التفاني في الفداء من أجله فجزاهم الإمام خيرا و أكد لهم جميعا أنهم سيلاقون حتفهم فهتفوا جميعا:

«الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك،و شرفنا بالقتل معك،أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله».

لقد اختبرهم الإمام فوجدهم من خيرة الرجال صدقا و وفاء،قد أشرقت نفوسهم بنور الإيمان،و تحرروا من جميع شواغل الحياة،و آمنوا أنهم صائرون إلى الفردوس الأعلى،و كانوا-فيما يقول المؤرخون-في ظمأ إلى الشهادة ليفوزوا بنعيم الآخرة (1).

رواية أخرى

و روي من طريق آخر أنه قال له اخوته و أبناؤه و بنو أخيه و ابنا عبد اللّه بن جعفر:لم نفعل لنبقى بعدك لا أرانا اللّه ذلك ابدا،بدأهم بهذا القول العباس بن علي، ثم إنهم تكلموا بهذا و نحوه،فقال الحسين عليه السّلام يا بني عقيل!حسبكم من القتل بمسلم،اذهبوا قد أذنت لكم،قالوا:فما يقول الناس؟يقولون:إنا تركنا شيخنا و سيدنا و بني عمومتنا خير الأعمام و لم نرم معهم بسهم،و لم نطعن معهم برمح، و لم نضرب معهم بسيف،و لا ندري ما صنعوا!لا و اللّه لا نفعل!و لكن تفديك أنفسنا و أموالنا،و أهلونا،و نقاتل معك حتى نرد موردك،فقبح اللّه العيش بعدك.

و قال:فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي،فقال:أنحن نخلي عنك و لما نعذر إلى اللّه في أداء حقك؟!اما و اللّه!حتى اكسر في صدورهم رمحي،و أضربهم بسيفي

ص: 62


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:111/3.

ما ثبت قائمه في يدي،و لا أفارقك و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك،حتى أموت معك.

قال:و قال سعد بن عبد اللّه الحنفي:و اللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه انا قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فيك،و اللّه لو علمت انى اقتل،ثم أحيا،ثم أحرق حيا،ثم أذر، يفعل ذلك بي سبعين مرة،ما فارقتك حتى القى حمامي دونك،فكيف لا افعل ذلك؟ و إنما هي قتلة واحدة،ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا،قال:و قال زهير ابن القين:و اللّه لوددت إني قتلت ثم نشرت،ثم قتلت،حتى أقتل كذي ألف قتلة،و أن اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك،قال:و تكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد،فقالوا:و اللّه لا نفارقك، و لكن أنفسنا لك الفداء،نقيك بنحورنا،و جباهنا و أيدينا فإذا نحن قتلنا كنا و فينا و قضينا ما علينا.

سند آخر لهذه الرواية:و روى الطبري هذه الرواية بإيجاز عن الضحاك ابن عبد اللّه المشرقي قال:قدمت و مالك بن النضر الأرحبي على الحسين فسلمنا عليه ثم جلسنا إليه فرد علينا فرحب بنا و سألنا عما جئنا له فقلنا جئنا لنسلم عليك و ندعو اللّه لك بالعافية و نحدث بك عهدا و نخبرك خبر الناس و إنا نحدثك أنهم قد جمعوا على حربك فرّ رأيك،فقال الحسين عليه السّلام حسبي اللّه و نعم الوكيل قال فتذممنا و سلمنا عليه و دعونا اللّه له قال:فما يمنعكما من نصرتي فقال مالك بن النضر:علي دين ولي عيال،فقلت له:إن على دينا و إن لي لعيالا و لكنك ان جعلتني في حل من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك ما كان لك نافعا و عنك دافعا.

قال:قال:فأنت في حل فأقمت معه.

ثم نقل الضحاك الخبر السابق بإيجاز (1)3.

ص: 63


1- معالم المدرستين للعسكري:91/3.

الحسين عليه السلام ينعى نفسه و يوصي أخته بالصبر

اشارة

روى الطبري عن علي بن الحسين بن علي عليه السّلام،قال:إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها،و عمتي زينب عندي تمرضني إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له و عنده حوي مولى أبي ذر الغفاري (1)و هو يعالج سيفه و يصلحه و أبي يقول:

يا دهر أف لك من خليل كم لك بالاشراق و الأصيل

من صاحب أو طالب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل

و إنما الأمر إلى الجليل و كل حي سالك السبيل

قال:فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها فعرفت ما أراد،فخنقتني عبرتي فرددت دمعي و لزمت السكوت،فعلمت ان البلاء قد نزل،فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت و هي امرأة و في النساء الرقة و الجزع فلم تملك نفسها أن و ثبت تجر ثوبها و إنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت،وا ثكلاه!ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمي!و علي أبي!و حسن أخي!يا خليفة الماضي و ثمال الباقي، فنظر إليها الحسين عليه السّلام،فقال:يا أخية!لا يذهبن حلمك الشيطان،قالت:بأبي أنت و أمي،يا أبا عبد اللّه استقتلت!نفسي فداك!فرد غصته و ترقرقت عيناه و قال:لو ترك القطا ليلا لنام.

قالت:يا ويلتا!أفتغصب نفسك اغتصابا!فذلك اقرح لقلبي!و أشد على نفسي!

ص: 64


1- ورد في مقتل الخوارزمي و غيره في خبر مقتله بلفظ"جون".

و لطمت وجهها و أهوت إلى جيبها و شقته!و خرت مغشيا عليها!فقام إليها الحسين، فصب على وجهها الماء!و قال لها:يا أخية!اتقي اللّه!و تعزي بعزاء اللّه!و اعلمي ان أهل الأرض يموتون،و ان أهل السماء لا يبقون،و ان كل شىء هالك إلا وجه اللّه الذي خلق الأرض بقدرته،و يبعث الخلق فيعودون،و هو فرد وحده،أبي خير مني، و أمي خير مني،و أخي خير مني،و لي و لهم و لكل مسلم برسول اللّه أسوة،قال:

فعزاها بهذا و نحوه،و قال لها:يا أخية!إني أقسم عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيبا!و لا تخمشي على وجها!و لا تدعي علي بالويل و الثبور إذا انا هلكت!قال:ثم جاء بها حتى اجلسها عندي و خرج إلى أصحابه،فأمرهم ان يقربوا بعض بيوتهم من بعض و ان يدخلوا الاطناب بعضها في بعض،و ان يكونوا هم بين البيوت،إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم (1).

رواية أخرى في المقام

و روي من طريق آخر:أنه كان في الخيمة الإمام زين العابدين و العقيلة زينب، أما الإمام زين العابدين فلما سمع كلام أبيه عرف ما أراد فخنقته العبرة،و لزم السكوت و علم أن البلاء قد نزل-حسبما يقول-و أما عقيلة بني هاشم فإنها لما سمعت هذه الأبيات أحست أن شقيقها و بقية أهلها عازمون على الموت و مصممون على الشهادة فأمسكت قلبها في ذعر،و وثبت و هي تجر ذيلها،و قد فاضت عيناها بالدموع،فقالت لأخيها بنبرات لفظت فيها شظايا قلبها.

«وا ثكلاه!وا حزناه!ليت الموت أعدمني الحياة،يا حسيناه،يا سيداه،يا بقية أهل بيتاه،استسلمت،و يئست من الحياة،اليوم مات جدي رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أمي فاطمة

ص: 65


1- معالم المدرستين للعسكري:92/3.

الزهراء و أبي علي و أخي الحسن،يا بقية الماضين و ثمال الباقين».

فقال الإمام لها بحنان:

«يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان».

و انبرت العقيلة إلى أخيها و هي شاحبة اللون قد مزق الأسى قلبها الرقيق المعذب فقالت له بأسى و التياع:

«اتغتصب نفسك اغتصابا،فذاك أطول لحزني و أشجى لقلبي».

و لم تملك صبرها بعد ما أيقنت أن شقيقها مقتول،فعمدت إلى جيبها فشقته، و لطمت وجهها،و خرت على الأرض فاقدة لوعيها و شاركتها النسوة في المحنة القاسية،و صاحت السيدة أم كلثوم:

«وا محمداه،وا علياه،وا أماه،وا حسيناه،وا ضيعتاه بعدك».

و أثر المنظر الرهيب في نفس الإمام فذاب قلبه الزاكي أسى و حسرات و تقدم إلى السيدات من بنات الوحي فجعل يأمرهن بالخلود إلى الصبر و التحمل لأعباء هذه المحنة الكبرى قائلا:

«يا أختاه،يا أم كلثوم،يا فاطمة،يا رباب،انظرن إذا قتلت فلا تشققن علي جيبا و لا تخمشن وجها،و لا تقلن هجرا».

لقد عانى الإمام العظيم ألوانا قاسية و مذهلة من المحن و الخطوب كانت بقدر إيمانه بالله فلم يكد يفرغ من محنة حتى يواجهه سيل من المحن الكبرى التي لا يطيقها أي إنسان (1).3.

ص: 66


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:116/3.

إحياء أهل البيت و الأصحاب الليل بالعبادة

و روى عن الضحاك بن عبد اللّه المشرقي قال:فلما امسى حسين و أصحابه، قاموا الليل كله يصلون،و يستغفرون،و يدعون،و يتضرعون،قال:فتمر بنا خيل لهم،تحرسنا،و ان حسينا ليقرأ:و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين،ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب.فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا،فقال:نحن و رب الكعبة الطيبون!ميزنا منكم!قال فعرفته فقلت لبرير بن حضير:تدري من هذا؟

قال:لا،قلت:هذا أبو حرب السبيعي عبد اللّه بن شهر،و كان مضحاكا بطالا و كان شريفا،شجاعا فاتكا،و كان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية،فقال له برير بن حضير:يا فاسق أنت يجعلك اللّه في الطيبين؟

فقال له:من أنت؟

قال:أنا برير بن حضير،قال:إنا للّه عز علي!هلكت و اللّه!هلكت و اللّه يا برير،قال:

يا أبا حرب هل لك ان تتوب إلى اللّه من ذنوبك العظام؟!فو اللّه انا لنحن الطيبون، و لكنكم لأنتم الخبيثون،قال:و أنا على ذلك من الشاهدين قلت:ويحك!أفلا ينفعك معرفتك؟

قال:جعلت فداك فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل،قال:ها هو ذا معي،قال:قبح اللّه رأيك على كل حال.

أنت سفيه!قال:ثم انصرف عنا و كان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن

ص: 67

قيس الأحمسي و كان على الخيل (1).

الإمام يكشف مكيدة أهل الكوفة

و كشف الإمام عليه السّلام لأصحابه مكيدة أهل الكوفة له في رسائلهم التي بعثوها إليه بالقدوم لمصرهم قائلا:

«ما كتب إلي من كتب إلا مكيدة لي،و تقربا لابن معاوية».

إن الرسائل التي كتبها أكثر أهل الكوفة إنما كانت بإيعاز من يزيد لأجل أن يقدم الإمام إليهم فيقتلوه،و ما كتبوا إليه من إيمان بعدالة قضيته.

مع محمد بن بشير

و من بين أصحاب الإمام الذين بلغوا أعلى المستويات في الإيمان محمد بن بشير الحضرمي،و قد بلغه أن ابنه قد أسر بثغر الري،فقال:ما أحب أن يؤسر،و أنا أبقى بعده حيا،و استشعر الإمام من هذه الكلمات رغبته في انقاذ ابنه من الأسر فأذن له في التخلي عنه قائلا:أنت في حل فاعمل في فكاك ولدك و اندفع البطل العظيم يعلن تصميمه الصادق على ملازمة الإمام و الفداء في سبيله قائلا:

«أكلتني السباع حيا ان فارقتك..».

أليس هذا أصدق مثل للإيمان العميق و الفداء الرائع في سبيل الإمام لقد أحبوه و أخلصوا له،و استهانوا بالموت من أجله.

ص: 68


1- معالم المدرستين للعسكري:88/3-92.

انهزام فراس المخزومي

و فراس بن جعدة المخزومي كانت له رحم ماسة مع الإمام فإن أباه جعدة أمه أم هانى بنت أبي طالب،و كان ممن كاتب الحسين بالثورة على الأمويين أيام معاوية،و قد التحق بالإمام في مكة و سايره في هذه المدة حتى انتهى إلى العراق إلا أنه لما رأى صعوبة الأمر و تضافر الجيوش على حرب الإمام هاله الأمر،و جبن عن الحرب،و استولى عليه الرعب و الخوف،و قد أدرك الإمام اضطرابه فأذن له في الانصراف،فانهزم في جنح الليل البهيم و لم يحظ بالشهادة،كما أن قوما آخرين قد انهزموا و لم يفوزوا بنصرة الإمام.

ص: 69

الإمام لا يأذن بالشهادة لمن كان عليه دين

و روى الطبراني أن الإمام أمر مناديا ينادي في أصحابه«لا يقتل معنا رجل و عليه دين»فقام إليه رجل من أصحابه فقال له:

«إن علي دينا و قد ضمنته زوجتي».

فقال عليه السّلام:و ما ضمان امرأة؟لقد أراد الإمام أن يكون المستشهد بين يديه متحرجا في دينه خالي الذمة من حقوق الناس و أموالهم،إلا أنه هنا اشكالا فقد أنكر الإمام ضمان المرأة لما في ذمة زوجها من دين،و الحال أن القواعد الفقهية مجمعة على صحة ضمان المرأة للأموال و غيرها و مساواتها للرجل في هذه الجهة،و فيما نحسب أن الجملة الأخيرة من الموضوعات،فقد ذكر البلاذري الخبر إلا أنه لم يذكر قول الرجل إن علي دينا و قد ضمنته زوجتي (1).

ص: 70


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:115/3.

التخطيط العسكري ليلة العاشر

و وضع الإمام أرقى المخططات العسكرية و أدقها في ذلك العصر فنظم جبهته تنظيما رائعا،و أحاط معسكره بكثير من الحماية،فقد خرج في غلس الليل البهيم، و كان معه نافع بن هلال،فجعل يتفقد التلاع و الروابي و ينظر إليها بدقة مخافة أن تكون مكمنا لهجوم الأعداء حين الحرب،و قد أمر أصحابه بصنع ما يلي:

أولا-مقاربة البيوت بعضها من بعض،بما في ذلك بيوت الهاشميين و الأصحاب،و فيما نحسب أنها كانت عدة صفوف من كل جهة لا صفا واحدا،و إنما صنع ذلك لئلا يكون هناك مجال لتسرب العدو و تخلله من بينها.

ثانيا-حفر خندق من الخلف محيط بخيم أهله و عياله،و ملئه بالحطب،لإشعال النار فيه وقت الحرب و إنما أمر بذلك لما يلي:

أ-أن تكون عوائلكم في مأمن من العدو أثناء العمليات الحربية فإنه لا يتمكن من اقتحام النار و الهجوم عليها.

ب-استقبال العدو من جهة واحدة،و عدم تعدد الجبهات القتالية نظرا لقلة أصحاب الإمام،و لو لا هذا التدبر لأحاط بهم العدو من الجهات الأربع و قضى عليهم في فترة و جيزة،و ما طالت الحرب يوما كاملا.

هذه بعض المخططات التي اتخذها الإمام عليه السّلام و هي تدل على مدى إحاطته التامة في التنظيمات العسكرية و وقوفه على دقائقها.

ص: 71

استبشار أصحاب الإمام

و استبشر أصحاب الإمام بالشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و قد حدث المؤرخون عنهم بما يبهر العقول،فهذا حبيب بن مظاهر خرج إلى أصحابه و هو يضحك قد غمرته الأفراح فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلا:

«ما هذه ساعة ضحك؟!».

فأجابه حبيب عن ايمانه العميق قائلا:

«أي موضع أحق من هذا بالسرور؟!و الله ما هو إلا أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين».

و داعب برير عبد الرحمن الأنصاري فاستغرب منه و قال له:

«ما هذه ساعة باطل!!».

فأجابه برير:

«لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلا و لا شابا،و لكني مستبشر بما نحن لاقون،و الله ما بيننا و بين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم،و وددت انهم مالوا علينا الساعة».

و ليس في أسرة شهداء العالم مثل هذا الإيمان الذي تفجر عن براكين هائلة من اليقين و المعرفة و صدق النية،و عظيم الإخلاص..لقد استبشروا بالفوز في جنان الخلد مع النبيين و الصديقين،و أيقنوا أنهم يموتون أهنأ موتة و أعظمها في تأريخ البشرية في جميع الأجيال و الآباد (1).

ص: 72


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:118/3.

سخرية الشمر بالإمام

و كان الإمام يصلي،و قد أشرف عليه الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن فسمعه يقرأ في صلاته قوله تعالى:

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (1) فجعل الشمر يهزأ بالإمام، و اندفع رافعا صوته.

رؤيا الإمام الحسين عليه السلام

و خفق الإمام الحسين خفقة بعدما أعيته الآلام المرهقة،فاستيقظ،و التفت إلى أصحابه و أهل بيته فقال لهم:

-أتعلمون ما رأيت في منامي؟

-ما رأيت يابن رسول الله؟

-رأيت كأن كلابا قد شدت علي تناشبني و فيها كلب أبقع أشدها علي،و أظن الذي يتولى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم...

ص: 73


1- آل عمران:178-179.

ثم إني رأيت جدي رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و معه جماعة من أصحابه،و هو يقول لي:يا بني أنت شهيد آل محمد،و قد استبشرت بك أهل السماوات و أهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة،عجل و لا تؤخر هذا ما رأيت و قد أزف الأمر و اقترب الرحيل من هذه الدنيا.

و خيم على أهل بيته و أصحابه حزن عميق،و أيقنوا بنزول الرزء القاصم و اقتراب الرحيل عن هذه الحياة (1).

فزع عقائل الوحي

و فزعت عقائل الوحي كأشد ما يكون الفزع،فلم يهدأن في تلك الليلة الخالدة في دنيا الأحزان،و قد طافت بهن تيارات من الهواجس و الأفكار،و تمثل أمامهن المستقبل الملبد بالكوارث و الخطوب،فماذا سيجري عليهن بعد مفارقة الحماة من أبناء الرسول صلّى اللّه عليه و اله؟و هن في دار غربة قد أحاط بهن الأعداء الجفاة،و خلدن إلى البكاء و العويل و الابتهال إلى الله لينقذهن من هذه المحنة التي تقصم الأصلاب.

و أما أعداء أهل البيت عليهم السّلام فقد باتوا و هم في شوق إلى إراقة تلك الدماء الزكية ليتقربوا بها إلى ابن مرجانة و كانت الخيل تدور وراء معسكر الحسين و عليها عزرة بن قيس الأحمسي خوفا من أن يفوت الحسين من قبضتهم أو يلتحق بمعسكره أحد من الناس.

ص: 74


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:119/3.

تطيب الإمام و حنوطه

و استعد الإمام هو و أصحابه إلى لقاء الله،و وطنوا نفوسهم على الموت،و قد أمر عليه السّلام بفسطاط فضرب له،و أتي بجفنة فيها مسك،كما أتي بالحنوط،و دخل الفسطاط فتطيب و تحنط،ثم دخل من بعده برير فتطيب و تحنط،و هكذا فعل جميع أصحابه استعدادا للموت و الشهادة في سبيل الله (1).

ص: 75


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:120/3.

أحداث يوم عاشوراء من المحرم

اشارة

و ما طلع فجر في سماء الدنيا كفجر اليوم العاشر من المحرم في مآسيه و أحزانه،و لا أشرقت شمس كتلك الشمس في كآبتها و آلامها...فليس هناك حادث في التأريخ يفوق في كوارثه و آلامه تلك المشاهد الحزينة التي تم تمثيلها يوم عاشوراء على صعيد كربلاء،فلم تبق محنة من محن الدنيا و لا غصة من غصص الدهر إلا جرت على ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يقول الإمام زين العابدين عليه السّلام:

«ما من يوم أشد على رسول الله صلّى اللّه عليه و اله من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله،و أسد رسوله،و بعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب،ثم قال:و لا يوم كيوم الحسين ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله تعالى بدمه،و هو بالله يذكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغيا و ظلما و عدوانا».

و بدأ الإمام العظيم في فجر اليوم العاشر بالصلاة،و كان فيما يقول المؤرخون قد تيمم هو و أصحابه للصلاة نظرا لعدم وجود الماء عندهم و قد ائتم به أهله و صحبه و قبل أن يتموا تعقيبهم دقت طبول الحرب من معسكر ابن زياد،و اتجهت فرق من الجيش و هي مدججة بالسلاح تنادي بالحرب أو النزول على حكم ابن مرجانة.

دعاء الإمام

و خرج أبي الضيم فرأى البيداء قد ملئت خيلا و رجالا،و قد شهرت السيوف

ص: 76

و الرماح،و هم يتعطشون إلى إراقة دمه و دماء البررة من أهل بيته و أصحابه لينالوا الأجر الزهيد من ابن مرجانة فدعا عليه السّلام بمصحف فنشره على رأسه،و أقبل على الله يتضرع إليه قائلا:

«اللّهم أنت ثقتي في كل كرب،و رجائي في كل شدة،و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة و عدة،كم من هم يضعف فيه الفؤاد،و تقل فيه الحيلة،و يخذل فيه الصديق،و يشمت فيه العدو،أنزلته بك و شكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته و كشفته و كفيته، فأنت و لي كل نعمة و صاحب كل حسنة و منتهى كل رغبة».

و يلمس في هذا الدعاء مدى إيمانه العميق فقد أناب إلى الله و أخلص له في جميع مهامه فهو وليه،و الملجأ الذي يلجأ إليه في كل نازلة نزلت به (1).

إشعال النار في الخندق

و أمر الإمام في أول الصبح بإشعال النار في الخندق الذي كان محيطا بخيم النساء ليحميها من هجوم الخيل،كي لا تتعدد عليهم جبهات القتال و تنحصر في جهة واحدة.

هرير الممسوخين

اشارة

و لما اشتعلت النار في الخندق اشتد بعض الممسوخين من معسكر ابن سعد نحو الإمام كأنهم الكلاب،و قد رفعوا أصواتهم بهرير منكر،و من بينهم:

ص: 77


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:121/3.
1-شمر بن ذي الجوشن

و أقبل الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن على معسكر الإمام فرفع صوته:

«يا حسين تعجلت بالنار؟».

فرد عليه الإمام«أنت تقول هذا يابن راعية المعزى؟أنت و الله أولى بها صليا».

و رام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم إلا أن الإمام نهاه و قال:إني أكره أن أبدأهم بقتال.

2-محمد بن الأشعث

و اشتد الوضر الخبيب محمد بن الأشعث نحو الإمام و هو ينادي:

«يا حسين أنت الساعة ترد جهنما».

فأجابه الإمام:لعنك الله و لعن أباك و قومك يابن المرتد الفاجر عدو الله و رسوله و المسلمين.

3-عبد الله بن حوزة

و اندفع الوغد عبد الله بن حوزة إلى معسكر الإمام،و صاح:«ابشر يا حسين بالنار».

فرد عليه الإمام كلامه:اني أقدم على رب رحيم،و شفيع مطاع،و سأل عنه فقيل له إنه ابن حوزة فرفع يديه بالدعاء و قال:(حازه الله إلى النار)فاضطرب به فرسه في جدول فتعلقت رجله بالركاب و سقط إلى الأرض،و قد نفر به الفرس فجعل

ص: 78

يضرب رأسه بالأحجار و أصول الأشجار حتى هلك.و قيل ألقته فرسه في النار المشتعلة بالخندق فاحترق بها،و لما رأى الإمام سرعة استجابة دعائه رفع صوته قائلا:

«اللّهم إنا أهل بيت نبيك و ذريته فاقصم من ظلمنا و غصبنا حقنا إنك سميع قريب».

و لما رأى ذلك مسروق بن وائل الحضرمي و كان يحدث نفسه بقتل الإمام لينال الجائزة من ابن مرجانة ندم على ما فكر به و علم أن لأهل البيت حرمة و مكانة عند الله،فترك المعركة و انهزم مخافة غضب الله.

ص: 79

التعبئة العامة في المعسكرين

و قام كلا المعسكرين بتعبئة عامة،فعبأ الإمام أصحابه و كانوا اثنين و ثمانين فارسا و راجلا و جعل زهير بن القين في الميمنة،و حبيب بن مظاهر في الميسرة، و ثبت هو و أهل بيته في القلب و أعطى رايته إلى أخيه و عضده أبي الفضل العباس و عبأ ابن سعد جيشه فجعل على ربع أهل المدينة عبد الله بن زهير الأزدي،و على ربع ربيعة و كندة قيس بن الأشعث،و على ربع مذحج و أسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي،و على ربع بني تميم و همدان الحر بن يزيد الرياحي و جعل على ميمنة جيشه عمرو بن الحجاج الزبيدي و على ميسرته شمر بن ذي الجوشن، و على الخيل عروة بن قيس الأحمسي و على الرجالة شبث بن ربعي و أعطى الراية دريدا مولاه و بذلك فقد استعد كلا المعسكرين للحرب و القتال.

الاحتجاجات الصارمة

اشارة

و رأى الإمام مع أعلام أصحابه أن يقيموا الحجة على أهل الكوفة ليكونوا على بينة من أمرهم و بصيرة على ما قدموا عليه من إثم تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا و قد اعذروا في الدعاء و منحوا النصيحة لإنقاذ أولئك الممسوخين من خطر الجريمة التي تؤدي بهم إلى النار.

ص: 80

خطبة الإمام

و قال القرشي:و دعا الإمام براحلته فركبها،و اتجه نحو معسكر ابن سعد،و هو بتلك الهيبة التي تحكي هيبة جده الرسول،فخطب فيهم خطابه التأريخي الذي هو من أبلغ و أروع ما أثر في الكلام العربي،و قد نادى بصوت عال يسمعه جلهم:

«أيها الناس:اسمعوا قولي و لا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي،و حتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري،و صدقتم قولي،و اعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد،و لم يكن لكم علي سبيل،و إن لم تقبلوا مني العذر و لم تعطوا النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم و شركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة،ثم اقضوا إلي و لا تنظرون ان ولي الله الذي نزل الكتاب و هو يتولى الصالحين».

و نقل الأثير كلماته إلى السيدات من عقائل النبوة و حرائر الوحي فتصارخن بالبكاء،و ارتفعت أصواتهن،فبعث إليهن أخاه العباس و ابنه عليا،و قال لهما:

سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن.

و لما سكتن استرسل في خطابه فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي صلّى اللّه عليه و اله و على الملائكة و الأنبياء،و قال في ذلك ما لا يحصى ذكره و لم يسمع لا قبله و لا بعده أبلغ منه في منطقه و قال:

«أيها الناس:إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء و زوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال،فالمغرور من غرته،و الشقي من فتنته،فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها،و تخيب طمع من طمع فيها،و أراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم،و أعرض بوجهه الكريم عنكم،و أحل بكم نقمته،فنعم الرب ربنا،و بئس العبيد أنتم أقررتم بالطاعة،و آمنتم بالرسول محمد صلّى اللّه عليه و اله ثم إنكم زحفتم إلى ذريته و عترته تريدون قتلهم،لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم،فتبا لكم و لما

ص: 81

تريدون،إنا لله و إنا إليه راجعون،هؤلا قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين».

لقد وعظهم بهذه الكلمات التي تمثل هدي النبوة،و محنة الأنبياء في أممهم، فحذرهم من فتنة الدنيا و غرورها،و دلل على عواقبها الخاسرة و أهاب بهم من الإقدام على قتل عترة نبيهم فإنهم بذلك يخرجون من الإسلام إلى الكفر، و يستوجبون عذاب الله الخالد،و سخطه الدائم،ثم استرسل عليه السّلام في خطابه فقال:

«أيها الناس:انسبوني من أنا؟ثم ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها و انظروا هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟!ألست ابن بنت نبيكم و ابن وصيه و ابن عمه؟ و أول المؤمنين بالله و المصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟أو ليس جعفر الطيار عمي أو لم يبلغكم قول رسول الله صلّى اللّه عليه و اله لي و لأخي:«هذان سيدا شباب أهل الجنة»فإن صدقتموني بما أقول و هو الحق،و الله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله،و يضر به من اختلقه،و ان كذبتموني فإن فيكم من إذا سألتموه أخبركم.سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري و أبا سعيد الخدري،و سهل بن سعد الساعدي،و زيد بن أرقم و أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله لي و لأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

لا أعرف خطابا أرق و لا أبلغ من هذا الخطاب،فأي خطيب مهما كان يتمتع برائع البيان فإنه ليعجز عن الكلام في مثل هذا الموقف الرهيب الذي تخرس فيه الأسود، و تحجم فيه الأبطال...و كان خليقا بهذا الخطاب أن يرجع إليهم حوازب أحلامهم، و يحدث انقلابا فكريا و عمليا في صفوفهم لقد دعاهم لأن يرجعوا إلى نفوسهم و عقولهم لو كانوا يملكونها ليمعنوا النظر في شأنه،فهو حفيد نبيهم و ابن وصيه، و ألصق الناس و أمسهم رحما به،و هو سيد شباب أهل الجنة،و في ذلك حصانة له من سفك دمه و انتهاك حرمته،إلا أن ذلك الجيش لم يع هذا المنطق الفياض فقد خلد إلى الجريمة،و استولى على قلوبهم زيغ قائم من الضلال فأنساهم ذكر الله.

ص: 82

و انبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن و هو ممن غرق في الإثم فقال له:

«و هو يعبد الله على حرف ان كان يدري ما تقول؟».

و ما كان مثل ذلك الضمير المتحجر الذي ران عليه الباطل أن يعي منطق الإمام أو يفهم مقالته،و تصدى لجوابه حبيب بن مظاهر فقال له:

«و الله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفا،و أنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول:قد طبع الله على قلبك»و استمر الإمام في خطابه فقال:

«فإن كنتم في شك من هذا القول،أفتشكون أني ابن بنت نبيكم فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم و لا في غيركم،و يحكم اتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة».

و زلزلت الأرض تحت أقدامهم،و غدوا حيارى لا يملكون جوابا لرده فهم لا يشكون أنه ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و ريحانته،و انهم لا يطلبونه بقتيل قتله و لا بمال استهلكه منهم.ثم نادى الإمام قادة الجيش الذين دعوه برسائلهم للقدوم إلى الكوفة،فقال:

«يا شبث بن ربعي،و يا حجار بن ابجر،و يا قيس بن الأشعث و يا زيد بن الحرث،ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار و اخضر الجناب و إنما تقدم على جند لك مجندة».

و لم تخجل تلك النفوس من خيانة العهد،و حنث الايمان فأجابوه مجمعين على الكذب:

«لم نفعل».

و استغرب الإمام منهم ذلك فقال لهم:

«سبحان الله!!بلى و الله لقد فعلتم».

و اعرض الإمام عنهم و وجه خطابه إلى جميع قطعات الجيش فقال لهم:

«أيها الناس:إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض».

ص: 83

فانبرى إليه قيس بن الأشعث و هو ممن عرف بالغدر و النفاق،و قد خلع كل شرف و حياء،و حسبه أنه من أسرة لم تنجب شريفا قط فقال له:

«أو لا تنزل على حكم بني عمك؟فإنهم لن يروك إلا ما تحب،و لن يصل إليك منهم مكروه».

فأجابه الإمام:

«أنت أخو أخيك؟أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟لا و الله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل و لا أفر فرار العبيد عباد الله إني عذت بربي و ربكم أن ترجمون أعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب».

تزول المماليك و تدول الدول،و هذه الكلمات أحق بالبقاء و أجدر بالخلود من كل شيء فقد مثلت عزة الحق،و منعة الأحرار و شرف الاباة.

و من المؤسف أنه لم تنفذ هذه الكلمات النيرة إلى قلوبهم فقد أقفل الجهل جميع أبواب الفهم في نفوسهم خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (1)، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (2)،لقد اعرضوا اعراضا تاما عن دعوة الإمام فلم يحفلوا بها،و صدق الله تعالى إذ يقول: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (3). (4).4.

ص: 84


1- البقرة:7.
2- الفرقان:44.
3- النمل:80.
4- حياة الإمام الحسين للقرشي:67/3-124.

خطبة الإمام الحسين في كربلاء

و قال في البحار:كان ذلك اليوم يوم الخميس و هو الثاني من المحرّم سنة إحدى و ستّين فقام الحسين عليه السّلام خطيبا في أصحابه و قال:إنّه قد نزل من الأمر ما ترون و أنّ الدّنيا تغيّرت و تنكّرت و أدبر معروفها و إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة،فقام زهير بن القين و قال:يابن رسول اللّه لو كانت الدّنيا لنا باقية لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها و تكلّم أصحابه عليه السّلام مثل كلام زهير فساروا مع الحرّ حتّى نزلوا كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم و قال:هذه أرض كرب و بلاء فبكى ساعة،و قال:

اللّهمّ إنّا عترة نبيّك و قد أخرجنا و طردنا و أزعجنا عن حرم جدّنا و تعدّت بنو اميّه علينا ثمّ قال هذه الأرض مناخ ركابنا و محطّ رحالنا و مقتل رجالنا و سفك دمائنا، و كتب الحرّ إلى ابن زياد:إنّ الحسين نزل كربلاء فأرسل عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس فنزل نينوى و أرسل إلى الحسين عليه السّلام:ما الذي أتى بك؟

فقال:كتبكم،فإذا كرهتموني فأنا أنصرف عنكم،ثمّ إنّ ابن زياد أرسل إليه الخيل و الرجال حتّى تكاملت عنده ثلاثون ألفا فنزلوا على شاطئ الفرات و حالوا بينه و أصحابه و بين الماء و أضرّ العطش بأصحاب الحسين فأخذ عليه السّلام فأسا و حفر فنبعت عين من الماء فشربوا بأجمعهم و غارت العين و بلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى ابن سعد أن امنعهم حفر الآبار و لا تدعهم يذوقوا الماء.فبعث عمرو بن الحجّاج في خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة و حالوا بين الحسين و بين الماء و ذلك قبل قتل الحسين عليه السّلام بثلاثة أيّام و نادى ابن حصين:يا حسين ألا تنظرون إلى الماء كأنّه كبد السماء و اللّه لا تذوقون منه قطرة حتّى تموتوا عطشا.

ص: 85

فقال الحسين عليه السّلام:اللّهم اقتله عطشا،قال حميد بن مسلم:و اللّه لقد رأيته بعد ذلك يشرب الماء ثمّ يقيئه و يصيح العطش العطش و هكذا حتّى خرجت روحه و لمّا رأى الحسين عليه السّلام نزول العساكر مع ابن سعد أرسل إليه:اريد أن ألقاك فاجتمعا و تناجيا طويلا ثمّ رجع ابن سعد إلى مكانه و كتب إلى ابن زياد:هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو إلى أحد الثغور فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم و عليه ما عليهم.

فلمّا قرأ الكتاب قال:هذا كتاب ناصح مشفق على قومه فقام إليه شمر فقال:لئن رحل الحسين من بلادك ليكوننّ قويّا و أنت ضعيف فلا تعطه هذه المنزلة و لكن ينزل على حكمك،فقال ابن زياد:نعم ما رأيت فكتب إلى ابن سعد:لم أبعثك إلى الحسين لتمنّيه السلامة و لا لتكون له عندي شفيعا أنظر إن نزل حسين على حكمي فابعث به إليّ سالما و إن أبى فاقتله و أصحابه و مثّل بهم فإن قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره و ظهره فإنّه عات ظلوم فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع و إن أبيت فاعتزل و خل بين شمر و بين العسكر فأقبل شمر بكتاب ابن زياد إلى ابن سعد.

فلمّا قرأ الكتاب قال:لا قرّب اللّه دارك و اللّه إنّي لأظنّك نهيته عمّا كتبت به إليه و اللّه لا يبايع الحسين؛إنّ نفس أبيه بين جنبيه فقال له الشمر:إن لم تمض لأمر أميرك و إلاّ فخلّ بيني و بين الجند،قال:لا و كرامة لك و لكن أنا أتولّى ذلك و دونك فكن على الرجّالة،و جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين فقال:أين بنو اختنا فخرج إليه جعفر و العبّاس و عثمان بنو عليّ فقال لهم:أنتم يا بني اختي آمنون فقالوا له:

لعنك اللّه و لعن إمامك أتؤمننا و ابن رسول اللّه لا أمان له.

ثمّ نادى ابن سعد:يا خيل اللّه اركبي فرجف الناس إليهم بعد العصر و الحسين عليه السّلام جالس أمام بيته محتب بسيفه فخفق برأسه على ركبتيه و سمعت اخته الصيحة فدنت من أخيها و قالت:يا أخي ما تسمع هذه الأصوات؟

ص: 86

فرفع الحسين عليه السّلام رأسه فقال:رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم الساعة في المنام و هو يقول:إنّك تروح إلينا غدا فلطمت وجهها و نادت بالويل،فقال الحسين عليه السّلام للعبّاس إمض إليهم و أخّرهم إلى غد لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة و ندعوه و نستغفره، فمضى إليهم و أجّلوه إلى غد فجمع أصحابه عند المساء فقال لهم:إنّي أذنت لكم فانطلقوا في حلّ هذا الليل قد غشيكم فقالوا:نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا اللّه ذلك أبدا،بدأهم بذلك العبّاس ثمّ قام إليه ابن عوسجة فقال:لو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة و لو علمت أنّي اقتل ثمّ احيا ثمّ احرق ثمّ احيا ثمّ اذرّى يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك و إنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها،و تكلّموا مثل كلامه فجزاهم الحسين عليه السّلام خيرا و انصرف إلى منزله.

و قيل لبشر بن محمد الحضرمي في تلك الحال قد أسر ابنك بثغر الريّ فقال عند اللّه أحتسبه و نفسي فسمع الحسين عليه السّلام قوله فقال له:أنت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك فقال:أكلتني السباع حيّا إن فارقتك فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار لفكاك ابنه و بات الحسين عليه السّلام و أصحابه تلك الليلة و لهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع و ساجد و قائم و قاعد فلمّا كان الغداة أمر الحسين عليه السّلام بفسطاط فضرب و أمر بجفنة فيها مسك كثير فجعل فيها نورة ثمّ دخل ليطلي و أصحابه بعده فجعل برير يضاحك عبد الرحمن الأنصاري فقال له عبد الرحمن:ما هذه ساعة ضحك، فقال:إنّما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه فو اللّه ما هو إلاّ نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة ثمّ نعانق الحور العين.

و قال عليّ بن الحسين عليه السّلام:إنّي جالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها فدخل أبي في خباء له يعالج سيفه و يصلحه و يقول شعرا:

يا دهر اف لك من خليل كم لك في الإشراق و الأصيل

من طالب و صاحب قتيل و الدهر لا يقنع بالبديل

ص: 87

و إنّما الأمر إلى الجليل و كلّ حيّ سالك سبيلي

فعلمت ما أراد فخنقتني العبرة و علمت أنّ البلاء قد نزل،و أمّا عمّتي زينب فلم تملك نفسها فمشت تجرّ ثوبها حتّى انتهت إليه و قالت:وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت امّي فاطمة و أبي علي و أخي الحسن يا خليفة الماضي و ثمال الباقي.

فقال لها:يا اختاه لا يذهبن حلمك الشيطان و ترقرقت عيناه بالدموع و قال:لو ترك القطا لنام،فقالت:يا ويلتاه تغصب نفسك اغتصابا،ثمّ لطمت وجهها و شقّت جيبها و خرّت مغشيّة عليها فصبّ الحسين عليه السّلام على وجهها الماء و قال:يا اختاه اعلمي أنّ أهل الأرض يموتون و أهل السماء لا يبقون و أنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ثمّ قال:أقسم عليك إذا أنا قتلت فلا تشقّي عليّ جيبا و لا تخمشي عليّ وجها ثمّ خرج إلى أصحابه و أمرهم أن يقرّبوا بين بيوتهم و أن يشدّوا الأطناب بعضها في بعض ليقاتلوا القوم من وجه واحد،فلمّا كان وقت السحر خفق برأسه خفقة ثمّ استيقظ فقال:رأيت كأنّ كلابا شدّت عليّ لتنهشني و فيها كلب أبقع رأيته أشدّ عليّ و أظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجل أبرص،ثمّ رأيت بعد ذلك جدّي في جماعة من أصحابه و هو يقول:يا بني أنت شهيد آل محمّد و قد استبشر بك أهل السماوات فليكن إفطارك عندي الليلة عجّل و لا تؤخّر فهذا ملك نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء فهذا ما رأيت و قد اقترب الرحيل من هذه الدّنيا فأصبح فعبّأ أصحابه بعد صلاة الغداة و كان معه اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا.

و في رواية اخرى اثنان و ثمانون راجلا.

و عن الباقر عليه السّلام:كانوا خمسة و أربعين فارسا و مائة راجل فكان زهير بن القين في الميمنة و حبيب بن مظاهر في الميسرة و على رايته العبّاس و أصبح ابن سعد في ذلك اليوم و هو يوم الجمعة،و قيل:يوم السبت و عبّأ أصحابه و كان على الميمنة عمرو بن الحجّاج و على الميسرة شمر بن ذي الجوشن.

ص: 88

و عن عليّ بن الحسين عليه السّلام لمّا أقبلت الخيل على الحسين عليه السّلام رفع يديه و قال:

اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب و رجائي في كلّ شدّة و أنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة و عدّة كم من كرب يضعف عنه الفؤاد و تقلّ فيه الحيلة و يخذل فيه الصديق و يشمت به العدوّ أنزلته لديك و شكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته و كشفته فأنت وليّ كلّ نعمة و صاحب كلّ حسنة و منتهى كلّ رغبة،فأقبل القوم يجولون حول الحسين عليه السّلام و تقدّم الحسين عليه السّلام إلى القوم فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السيل و قال:أمّا بعد فانسبوني و انظروا من أنا ثمّ راجعوا أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي ألست ابن نبيّكم و ابن وصيّه أما بلغكم قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فيّ و في أخي هذان سيّدا شباب أهل الجنّة،و يحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟ألم تكتبوا إليّ؟

فقال له قيس بن الأشعث:ما يقول؟

فقال عليه السّلام في خطبة خطبها في ذلك الموقف:اللّهم احبس عنهم قطر السماء و ابعث عليهم سنينا كسنيّ يوسف،و سلّط عليهم غلام ثقيف لا يدع أحدا منهم إلاّ قتله ينتقم لي و لأوليائي،يابن سعد تقتلني تزعم أن يولّيك الدعيّ بن الدّعي بلاد الري و جرجان و اللّه لا تهنأ بذلك أبدا عهدا معهودا و لكأنّي برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة يتراماه الصبيان و يتّخذونه هدفا فاغتاظ من كلامه ثمّ نادى ما تنتظرون به إحملوا بأجمعكم إنّما هم أكلة واحدة،ثمّ نادى ابن سعد:يا دريد أدن رايتك فأدناها ثمّ وضع سهما في كبد قوسه ثمّ رمى و قال:إشهدوا إنّي أوّل من رمى الحسين و أصحابه.

فرمى أصحابه كلّهم فما بقي من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم و قتل في هذه الحملة خمسون رجلا ثمّ صاح الحسين:أما من مغيث يغيثنا لوجه اللّه،أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللّه،ثمّ تبارزوا و كان كلّ من خرج من أصحاب الحسين عليه السّلام و دّعه و قال:السلام عليك يابن رسول اللّه،فيقول له:و عليك السلام

ص: 89

و نحن خلفك و يقرأ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (1). (2).

خطاب زهير

قال القرشي:و انبرى زهير بن القين فألقى عليهم خطابه الحافل بالنصيحة و الإرشاد لهم قائلا:

«يا أهل الكوفة:أنذركم من عذاب الله،إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، و نحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا و بينكم السيف،و أنتم للنصيحة منا أهل،فإذا وقع السيف انقطعت العصمة و كنا أمة و أنتم أمة،إن الله ابتلانا و إياكم بذرية نبيه محمد صلّى اللّه عليه و اله لينظر ما نحن و أنتم عاملون،إنا ندعوكم إلى نصرهم و خذلان الطاغية يزيد،و عبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما،يسملان أعينكم،و يقطعان أيديكم و أرجلكم،و يمثلان بكم، و يرفعانكم على جذوع النخل،و يقتلان أماثلكم و قراءكم أمثال حجر بن عدي و أصحابه و هانىء بن عروة و أشباهه».

و حفل هذا الخطاب بأبلغ و أروع ما تكون الحجة،ففيه الدعوة إلى الحق بجميع رحابه و مفاهيمه،و التحذير من عذاب الله و سخطه،لقد عرفهم بأنه إنما ينصحهم امتثالا للواجب الديني الذي يقضي بنصيحة المسلم لأخيه المسلم إذا رآه قد انحرف عن الحق..و عرفهم قبل أن تندلع نار الحرب أن الأخوة الإسلامية تجمعهم، فإذا وقعت الحرب انفصمت عرى تلك الأخوة،و كان كل منهما أمة مستقلة لا تجمعهما روابط الدين و الإسلام،و قد عرض لهم ان الله قد ابتلى المسلمين بعترة

ص: 90


1- سورة الأحزاب:23.
2- بحار الأنوار:12/45.

نبيه فأوجب مودتهم في كتابه العزيز،لينظر إلى الأمة ما هي صانعة فيهم؟

و ذكرهم بجور الأمويين و بطشهم،و ما صنعوه في صلحائهم أمثال حجر بن عدي و ميثم التمار و غيرهم من الذين ناهضوا الجور و قاوموا الاستبداد،فقد صبت عليهم السلطة الأموية وابلا من العذاب الأليم،فسملت عيونهم و قطعت أيديهم و أرجلهم و صلبتهم على جذوع النخل.

و ما أنهى زهير خطابه إلا و توقح جماعة من جيش ابن سعد فسبوه و توعدوه مع الإمام الحسين بالقتل قائلين«لا نبرح حتى نقتل صاحبك و من معه،أو نبعث به و بأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلما».

و اندفع زهير فخاطبهم بمنطق الحق قائلا:

«عباد الله:إن ولد فاطمة أحق بالود و النصر من ابن سمية،فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم...فخلوا بين الرجل و بين يزيد فلعمري إنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين».

و وجم الكثيرون،و استولت عليهم الحيرة و الذهول،و لما رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن خاف أن يثوب الجيش إلى الرشاد،فسدد سهما إلى زهير و هو يقول:

«اسكت أسكت الله نامتك،أبرمتنا بكثرة كلامك».

و احتقره زهير فنظر إليه كأقذر مخلوق قائلا له:

«ما اياك أخاطب إنما أنت بهيمة،و الله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين،فابشر بالخزي يوم القيامة،و العذاب الأليم».

و التاع الوغد الخبيث من كلام زهير فصاح به:

«إن الله قاتلك و صاحبك عن ساعة».

«أبا الموت تخوفني؟فو الله للموت أحب إلي من الخلد معكم»و التفت زهير إلى الجيش قائلا:

«عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي و اشباهه،فو الله لا تنال شفاعة

ص: 91

محمد صلّى اللّه عليه و اله قوما هرقوا دماء ذريته و أهل بيته،و قتلوا من نصرهم و ذب عن حريمهم».

و رأى الإمام أن نصائح زهير لا تجدي مع هؤلاء الممسوخين فأوعز إلى بعض أصحابه يأمره بالكف عن الكلام،و انطلق إليه فناداه:إن أبا عبد الله يقول لك:أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه،و أبلغ في الدعاء فلقد نصحت هؤلاء و أبلغت لو نفع النصح و الإبلاغ.

خطاب برير

و اندفع الشيخ الجليل برير بن خضير لنصيحة ذلك الجيش قائلا:

«يا معشر الناس:إن الله بعث محمدا صلّى اللّه عليه و اله بشيرا و نذيرا،و داعيا إلى الله و سراجا منيرا..و هذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد و كلابه و قد حيل بينه و بين ابن بنت رسول الله أفجزاء محمد صلّى اللّه عليه و اله هذا؟».

و قد خلعوا الشرف و الحياء فقالوا له:

«يا برير قد أكثرت الكلام فاكفف عنا،فو الله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله».

و وجه إليهم النصيحة و الإرشاد قائلا:

«يا قوم:إن ثقل محمد صلّى اللّه عليه و اله قد أصبح بين أظهركم،و هؤلاء ذريته و عترته و بناته، و حرمه فهاتوا ما عندكم،و ما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟».

فأجابوه:نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى رأيه،و أخذ برير يذكرهم بعهودهم و كتبهم التي بعثوها للإمام قائلا:

«أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه؟ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم و عهودكم التي أعطيتموها،و أشهدتم الله عليها و عليكم؟أدعوتم

ص: 92

أهل بيت نبيكم و زعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد و حلأتموهم عن ماء الفرات بئسما خلفتم نبيكم في ذريته،ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة،فبئس القوم أنتم».

و انبرى جماعة ممن زاغت ضمائرهم فأنكروا كتبهم و عهودهم للإمام قائلين له:

«ما ندري ما تقول؟»

و استبان لبرير تماديهم في الاثم و إجماعهم على اقتراف المنكر فقال:

«الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة،اللّهم اني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللّهم الق بأسهم حتى يلقوك و أنت عليهم غضبان».

فجعلوا يضحكون منه،و عمدوا إليه فرشقوه بسهامهم فانصرف عنهم.

ص: 93

خطاب الإمام الحسين عليه السلام

و أبت رحمة الإمام و شفقته على أعدائه إلا أن يقوم بإسداء النصيحة لهم ثانيا، حتى يستبين لهم الحق،و لا يدعي أحد منهم أنه على غير بينة من أمره فانطلق نحوهم،و قد نشر كتاب الله العظيم،و اعتم بعمامة جده رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لبس لامته، و كان على هيبة تعنو لها الجباه،و تغض عنها الأبصار فقال لهم:

«تبا لكم أيتها الجماعة و ترحا أحين استصرختمونا و الهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا في أيمانكم و حششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا و عدوكم فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم،و لا أمل أصبح لكم فيهم،فهلا لكم الويلات تركتمونا و السيف مشيم و الجأش طامن، و الرأي لما يستحصف،و لكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا و تداعيتم عليها كتهافت الفراش ثم نقضتموها،فسحقا لكم يا عبيد الأمة،و شذاذ الأحزاب،و نبذة الكتاب، و محرفي الكلم،و عصبة الاثم،و نفثة الشيطان،و مطفئي السنن،و يحكم أهؤلاء تعضدون!!و عنا تتخاذلون!أجل و الله غدر فيكم و شجت عليه أصولكم،و تأزرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة شجى للناظر و أكلة للغاصب.

الا و ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة و هيهات منا الذلة يأبى لنا الله ذلك و رسوله و المؤمنون،و حجور طابت و طهرت و أنوف حمية و نفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام،إلا و اني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد و خذلان الناصر،ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:

فإن نهزم فهزامون قدما و إن نهزم فغير مهزمينا

ص: 94

و ما أن طبنا جبن و لكن منايانا و دولة آخرينا

فقل للشامتين بنا افيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الموت رفع عن أناس بكلكله أناخ بآخرينا

أما و الله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى، و تقلق بكم قلق المحور عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (1)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (2)و رفع يديه بالدعاء عليهم قائلا:«اللّهم احبس عنهم قطر السماء،و ابعث عليهم سنين كسني يوسف و سلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فإنهم كذبونا و خذلونا،و أنت ربنا عليك توكلت و إليك المصير».

لقد انفجر الإمام بهذا الخطاب كما ينفجر البركان،و قد أبدى من صلابة العزم و قوة الإرادة ما لم يشاهد مثله و قد حفل خطابه بالنقاط التالية:

أولا:إنه أو غل في تأنيبهم بشدة لما أبدوه من التناقض في سلوكهم فقد هبوا إليه يستنجدون و يستغيثون به لينقذهم من ظلم الأمويين و جورهم،فلما خف لإنقاذهم انقلبوا عليه،و سلوا عليه سيوفهم التي كان من الواجب أن تسل على أعدائهم الذين بالغوا في إذلالهم و إرغامهم على ما يكرهون.

ثانيا:انه أبدى أسفه البالغ على دعمهم للحكم الأموي في حين أنه لم يبسط فيهم عدلا أو يشيع فيهم حقا،أو يكون لهم أي أمل أو رجاء فيه.

ثالثا:انه شجب الصفات الماثلة فيهم و التي كانوا بها من أحط شعوب الأرض فهم عبيد الأمة و شذاذ الأحزاب،و نبذة الكتاب و عصبة الإثم،إلى غير ذلك من6.

ص: 95


1- يونس:71.
2- هود:56.

نزعاتهم الشريرة.

رابعا:انه أعلن رفضه الكامل لدعوة الطاغية ابن مرجانة من الاستسلام له،فقد أراد له الذل و هيهات أن يرضخ لذلك فقد خلق ليمثل الكرامة الإنسانية و المثل العليا فكيف يذعن للدعي ابن الدعي؟

خامسا:انه أعلن تصميمه على الحرب،و ان يخوض المعركة بأسرته التي مثلت البطولات و مضاء العزيمة و الاستهانة بالموت.

سادسا:انه أخبرهم عن مصيرهم بعد قتلهم له،فإن الله سيسلط عليهم من يسقيهم كأسا مصبرة،و ينزل بهم العذاب الأليم،و لم يمض قليل من الوقت حتى ثار عليهم المختار فملأ قلوبهم فزعا و رعبا و نكل بهم تنكيلا فظيعا.

هذه بعض النقاط الحساسة التي حفل بها كلامه الشريف الذي تتدفق بقوة البيان،و روعة القصد،و قد وجم جيش ابن سعد (1).3.

ص: 96


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:135/3.

إستجابة الحر

و ثابت نفس الحر إلى الرشاد و استيقظ ضميره بعد ما سمع خطاب الإمام، و جعل يتأمل و يفكر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته،فقد استولت عليه موجات رهيبة من الصراع النفسي،فهل يلتحق بالحسين فيضحي بحياته و منصبه بعد ما كان القائد المقرب من السلطة،و قد وثقت به و جعلته أميرا على مقدمة جيشها،أو أنه يبقى محاربا إلى الإمام و في ذلك العذاب الدائم،و اختار الحر نداء ضميره،و تغلب على صراعه النفسي فصمم على الالتحاق بالحسين و قبل أن يتوجه إليه أسرع نحو ابن سعد فقال له:

«أمقاتل أنت هذا الرجل؟».

و سارع ابن سعد قائلا بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيده ابن مرجانة.

«أي و الله قتالا أيسره أن تسقط فيه الرؤوس و تطيح الأيدي».

فقال له الحر:

«افما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا؟»و اندفع ابن سعد قائلا:

«لو كان الأمر لي لفعلت و لكن أميرك أبى ذلك».

و لما أيقن أن القوم مصممون على حرب الإمام مضى يشق الصفوف و قد سرت الرعدة بأوصاله فأنكر ذلك المهاجر بن أوس و هو من أصحاب ابن زياد فقال بنبرة المستريب منه:

ص: 97

«و الله إن أمرك لمريب،و الله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن،و لو قيل لي:من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك؟».

و كشف له عن حقيقة حاله و أطلعه على ما صمم عليه قائلا:

«إني و الله أخير نفسي بين الجنة و النار،و لا أختار على الجنة شيئا و لو قطعت و أحرقت..».

و ألوى بعنان فرسه صوب الإمام و هو مطرق برأسه إلى الأرض حياء و ندما، فلما دنا من الإمام رفع صوته قائلا:

«اللّهم إليك أنيب فقد أرعبت قلوب أوليائك و أولاد نبيك...يا أبا عبد الله إني تائب فهل لي من توبة؟».

و نزل عن فرسه فوقف قبال الإمام و دموعه تتبلور على وجهه،و جعل يخاطب الإمام و يتوسل إليه:

«جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، و جعجعت بك في هذا المكان و والله-الذي لا إله إلا هو-ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا،و لا يبلغون منك هذه المنزلة أبدا،فقلت في نفسي:لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم،و لا يرون أني خرجت من طاعتهم،و أما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه،و والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك و اني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي مواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة؟».

و استبشر به الإمام و منحه الرضا،و العفو و قال له:نعم يتوب الله عليك و يغفر و أقبل الحر يحدث الإمام و يقص عليه رؤيا كان قد رآها قائلا:

«سيدي:رأيت أبي في المنام البارحة فقال لي:ما تصنع في هذه الأيام؟و أين كنت؟فقلت له:كنت في الطريق على الحسين،فقال لي:وا ويلاه عليك ما لك و الحسين ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله...و أريد منك أن تأذن لي بالمحاربة لأكون أول قتيل

ص: 98

بين يديك،كما كنت أول خارج عليك.

خطاب الحر للجيش

و استأذن الحر من الإمام الحسين ليعظ أهل الكوفة و ينصحهم لعل بعضهم أن يرجع عن غيه و يثوب إلى الحق،فأذن له الإمام فانبرى إليهم رافعا صوته:

«يا أهل الكوفة لأمكم الهبل و العبر أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه و زعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه،ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟أمسكتم بنفسه،و أحطتم به، و منعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن و يأمن أهل بيته،فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعا و لا يدفع عنها ضرا،و منعتموه و من معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي و النصراني و المجوسي،و يتمرغ فيه خنازير السواد و كلابه و ها هو و أهله قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا و تفزعوا عما أنتم عليه».

و زلزلت الأرض تحت أقدامهم،فقد كان هنا مئات أمثال الحر ممن هاموا في تيارات من الصراع النفسي و كانوا على يقين بباطل قصدهم إلا أنهم استجابوا لرغباتهم النفسية،في حب البقاء.

و توقح بعض أولئك الممسوخين فرموا الحر بالنبل و هو كل ما يملكون من حجة في الميدان.

ص: 99

التحاق ثلاثين فارسا بالإمام

و التحق بمعسكر الإمام ثلاثون فارسا من جيش ابن سعد،و جعلوا يقولون لأهل الكوفة:يعرض عليكم ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله ثلاث خصال فلا تقبلون منها شيئا، و جعلوا يقاتلون ببسالة مع الإمام حتى استشهدوا بين يديه.

الحرب

و فشلت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام لصيانة السلم و عدم سفك الدماء، و قد خاف ابن سعد من إطالة الوقت لئلا يحدث انقسام في صفوف جيشه فقد أربكه التحاق الحر بالإمام مع ثلاثين فارسا من جيشه،و زحف الباغي إلى مقربة من معسكر الإمام فأخذ سهما فأطلقه صوب الإمام و هو يصيح:

«اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى الحسين».

و اتخذ ابن سعد من السهم الذي فتح به الحرب وسيلة يتقرب به إلى سيده ابن مرجانة،و يطلب من الجيش أن يشهدوا له عنده ليكون على ثقة من إخلاصه و وفائه،و ان ينفي عنه الشبهات من أنه غير جاد في قتاله للحسين.

و تتابعت السهام من معسكر ابن سعد على أصحاب الحسين كأنها المطر حتى لم يبق أحد منهم إلا أصابه سهم منها،و بطلت بذلك حجة السلم التي حرص الإمام عليها،و كان على انتظار من أعدائه القيام بهذا العدوان الغادر،فلما بدأوه من جانبهم وجب عليه الدفاع عن النفس وجوبا لا شبهة فيه و التفت الإمام إلى أصحابه

ص: 100

فأذن لهم في الحرب قائلا:

«قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم».

و تقدمت طلائع الحق من أصحاب الإمام إلى ساحة الحرب و بدأت بذلك المعركة الرهيبة و احتدم القتال كأشد و أعنف ما يكون القتال،و من المؤكد أنه لم تكن مثل تلك المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض.فقد تقابل اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا مع عشرات الألوف و كانت تلك القلة كفوا لتلك الكثرة التي تملك أضخم العتاد و السلاح،و أبدت تلك القلة من صنوف البسالة و الشجاعة ما يبهر العقول و يحير الألباب.

لقد خاض أصحاب الإمام غمار تلك الحرب عن إيمان و إخلاص،فقد كانوا على ثقة أنهم إنما يقاتلون في سبيل الدين الذي أخلصوا له و وهبوا في سبيله حياتهم، و قد سجلوا بجهادهم المشرق شرفا لهذه الأمة لا يساويه شرف،و أعطوا للإنسانية أفضل ما قدم لها من عطاء على امتداد التأريخ (1).9.

ص: 101


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:127/3-139.

مقتل أصحاب الإمام الحسين عليهم السلام

اشارة

قال السيد القرشي:و تدافعت جيوش الباطل و الضلال و هي مدججة بالسلاح في صفوف كأنها السيل نحو أولئك الصفوة الأحرار الذين وهبوا حياتهم لله فلم يشغلهم شاغل عن نصرة الحق و إزهاق الباطل و قد صمدوا بصبر و إخلاص أمام تلك الوحوش الكاسرة فلم ترهبهم كثرتها،و ما تتمتع به من آلات الحرب و القتال، و قد أبدوا من البسالة و الشجاعة مما يدعو إلى الزهو و الافتخار...و نعرض إلى مجريات القتال و ما رافقها من شهادة أولئك الأبرار.

الهجوم العام

و شنت قوات ابن سعد هجوما عاما واسع النطاق على أصحاب الإمام و خاضوا معهم معركة رهيبة،و هذه هي الحملة الأولى التي خاضها أصحاب الإمام و هي حملة جماعية ضاربة اشترك فيها معسكر الكوفة بكامل قطعانه و قد خاض أصحاب الحسين تلك المعركة بعزم يستمد من العقيدة،و يشتق من نفس مفطورة على الإخلاص و التضحية دفاعا عن الإسلام و جهادا في سبيل الله،و قد برزت معنويتهم العسكرية للعيان فكانوا يهزمون الجمع و يخترقون الجيش،و قد اخترقوا جيش ابن سعد عدة مرات بقلوب أقوى من الصخر و قد استشهد نصفهم في هذه الحملة.

ص: 102

عدد الضحايا من أصحاب الإمام

أما عدد الضحايا من أصحاب الإمام في الحملة الأولى فكانوا واحدا و أربعين شهيدا-حسبما نص عليه ابن شهر اشوب-و هم:نعيم بن عجلان،عمران بن كعب ابن حارث الأشجعي،حنظلة بن عمرو الشيباني،قاسط بن زهير،كنانة بن عتيق، عمرو بن مشيعة،ضرغامة بن مالك،عامر بن مسلم،سيف بن مالك النميري،عبد الرحمن الدرجي،مجمع العائذي،حباب بن الحارث،عمرو الجندعي،الحلاس بن عمرو الراسبي،سوار بن أبي عمير الفهمي،عمار بن أبي سلامة الدالاني،النعمان ابن عمرو الراسبي،زاهر بن عمرو مولى بني الحمق،جبلة بن علي،مسعود بن الحجاج،عبد الله بن عروة الغفاري،زهير بن سليم،عبد الله و عبيد الله ابنا زيد البصري،و عشرة من موالي الحسين و موليان للإمام علي.

المبارزة بين المعسكرين

اشارة

و بدأت المبارزة بين المعسكرين بعد الحملة الأولى فقد برز يسار مولى زياد، و سالم مولى عبيد الله بن زياد،و طلبا من أصحاب الإمام الخروج لمبارزتهما فوثب إليهما حبيب بن مظاهر و برير فلم يأذن لهما الإمام،و انبرى إليهما البطل الشهم عبد الله بن عمير الكلبي و كان شجاعا شديد المراس فقال الحسين عليه السّلام:احسبه للأقران قتالا،و لما مثل أمامهما سألاه عن نسبه فأخبرهما به فزهدا فيه،و قالا له:لا نعرفك ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير فثار البطل،و صاح بيسار:

«يابن الزانية أو بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس لا يخرج أحد إلا و هو خير منك...».

ص: 103

و ما أروع قوله:«لا يخرج أحد إلا و هو خير منك»ان أي أحد من أصحاب الإمام هو خير منه و من ذلك الجيش لأنه إنما يقاتل على بصيرة من أمره،و هم يقاتلون- على يقين بضلالة قصدهم و انحرافهم عن الطريق القويم.

و حمل الكلبي على يسار فأرداه صريعا يتخبط بدمه،و حمل عليه سالم فلم يعبأ به فضربه الكلبي على يده فأطارت أصابع كفه اليسرى،ثم أجهز عليه فقتله،و ذعر العسكر من هذه البطولة النادرة،و بينما هو يقاتل إذ خفت إليه السيدة زوجته أم وهب و قد أخذت بيدها عمودا و هي تشجعه على الحرب قائلة له:

«فداك أبي و أمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد صلّى اللّه عليه و اله».

لقد اشتد أنصار الحسين في رعاية الإمام و حمايته من دون فرق بين الرجل و المرأة و الصغير و الكبير.

لقد استبسلوا للقتال بعواطفهم الملتهبة و هاموا بحب الإمام و الإخلاص له.

و لما رأى الكلبي زوجته تهرول خلفه أمرها بالرجوع إلى خيم النساء فأبت عليه، و بصر بها الإمام فأسرع إليها قائلا:

«جزيتم من أهل بيت خيرا ارجعي رحمك الله ليس الجهاد على النساء...».

و رجعت أم وهب إلى خيمة النساء و جعل الكلبي يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابن الكلبي اني امرؤ ذو مرة و عضب

و لست بالخوار عند النكب

و عرف نفسه بهذا الرجز فهو من بني كلب إحدى قبائل قضاعة كما دلل على بسالته الفائقة و شجاعته النادرة،و حصافة رأيه،و صلابة منطقه فهو ليس بخوار و لا بضعيف عندما تعصف الفتن و إنما يقف منها موقف الحازم اليقظ،و بذلك فقد حدد أبعاد شخصيته الكريمة التي هي في القمة من الأحرار.

ص: 104

هجوم فاشل

و شنت قوات ابن سعد هجوما شاملا على مخيم أصحاب الإمام فتصدوا لها على قلتهم و جثوا لها على الركب و شرعوا لها الرماح فلم تتمكن الخيل على افتحامهم،و ولت منهزمة،فرشقهم أصحاب الإمام بالنبل فصرعوا رجالا، و جرحوا آخرين و منيت قوات ابن سعد بخسائر فادحة و لم تحقق أي نصر لها.

مباهلة برير ليزيد

و اشتد يزيد بن معقل حليف بني عبد القيس نحو معسكر الإمام حتى إذا دنا منه، رفع صوته ينادي برير بن خضير الهمداني:

«يا برير كيف ترى صنع الله بك؟».

فأجابه برير بكل ثقة و ايمان:

«و الله لقد صنع بي خيرا،و صنع بك شرا»..

أجل لقد صنع الله ببرير الخير حيث هداه إلى الحق و جعله من أنصار ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أما خصمه الباغي اللئيم فأضله و جعله من قتلة أولاد النبيين،ورد هذا الجلف على برير قائلا:

«كذبت و قبل اليوم ما كنت كذابا،و أنا أشهد أنك من الضالين».

لقد اعترف هذا الدعي بصدق برير قبل هذا اليوم الذي انتصر فيه للحق و فيه- حسب ما يزعم-يكون كذابا،و دعاه برير إلى المباهلة قائلا:

«هل لك أن أباهلك أن يلعن الله الكاذب منا و يقتل المبطل».

فاستجاب له يزيد،و تباهلا أمام المعسكرين ثم برز كل منهما للآخر فضرب

ص: 105

يزيد بريرا ضربة لم تعمل فيه شيئا،و انعطف عليه برير فضربه ضربة منكرة قدت المغفر و بلغت الدماغ فسقط الرجس الخبيث صريعا يتخبط بدمه و السيف في رأسه،و لم يلبث إلا قليلا حتى هلك و حمل برير على معسكر ابن سعد و هو مثلوج القلب باستجابة دعائه،و قد تطلع العسكر بجميع فصائله إلى هذه البطولة النادرة فجعل برير يرتجز:

أنا برير و أبي خضير ليس يروع الأسد عند الزأر

يعرف فينا الخير أهل الخير أضربكم و لا أرى من ضر

و ذاك فعل الحر من برير

لقد عرف نفسه إلى معسكر ابن سعد كما عرفهم بشجاعته الفذة و انه كالأسد لا يروعه الزأر،و إنما يشتد بها بأسه،و انه إذ ينزل بهم الضربات القاسية فإنه لا يرى في ذلك بأسا و لا إثما.

مصرع برير

و أخذ برير يقاتل قتال الأبطال المستميتين قد امتلأت نفسه إيمانا و عزما و تصميما على الدفاع عن ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و هو يهتف بمعسكر ابن سعد قائلا:

«اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين،اقتربوا مني يا قتلة ابن بنت رسول رب العالمين».

و حمل عليه الرجس رضي بن منقذ العبدي فاعتنقه و اعترك معه ساعة فتمكن منه برير فجلس على صدره و بينما هو مشغول في الإجهاز عليه إذ حمل عليه الوغد الخبيث كعب بن جابر الأزدي من الخلف لأنه لم يستطع مواجهته فطعنه في ظهره و لما أحس بالألم هوى على العبدي فعض أنفه و قطع طرفه و شد عليه كعب فقتله و انتهت بذلك حياة هذا المؤمن العظيم الذي كان من خيار أهل الكوفة و سيد

ص: 106

القراء فيها،و قد عيب على القاتل و احتقره الناس حتى نفرت منه زوجته و حرمت على نفسها الكلام معه و قالت له:

«أعنت على ابن فاطمة و قتلت بريرا سيد القراء،و الله لا أكلمك أبدا...».

و نقم عليه ابن عمه عبيد الله بن جابر فقال له:ويلك قتلت بريرا فبأي وجه تلقى الله،و قد ندم الخبيث كأشد ما يكون الندم،و قد نظم أبياتا ذكر فيها أسفه و حزنه على اقترافه لهذه الجريمة و قد ذكرناها في البحوث السابقة.

شهادة عمرو الأنصاري

و انبرى إلى ساحات الجهاد و الشرف عمرو بن قرظة الأنصاري و هو من أفذاذ الأنصار و أحرارهم،و قد خاض في استبسال معركة الفداء و الإيمان فجعل يحصد الرؤوس،و ينزل الدمار و الموت بالأعداء و هو يرتجز:

قد علمت كتيبة الأنصار اني سأحمي حوزة الذمار

ضرب غلام غير نكس شار دون حسين مهجتي و داري

و دلل بهذا الرجز على أنه من حماة الذمار،و أصحاب الإمام كلهم موصوفون بهذه الظاهرة فهم نخبة المسلمين في حماية الذمار و الحفاظ على العهد،و أعلن لهم أنه سينزل بهم الضربات القاسية و يحاربهم ببسالة و شجاعة ليذب عن سيده الحسين و يفديه بنفسه و مهجته،و جعل يقاتل بنية صادقة و عزم ثابت حتى استشهد و سمت روحه إلى الرفيق الأعلى،و كان له أخ من الضالين مع ابن سعد فلما رأى أخاه قتيلا دنا من معسكر الإمام و اندفع يصيح:

«يا حسين،يا كذاب ابن الكذاب أضللت أخي حتى قتلته».

ورد عليه الإمام:

«إن الله لم يضل أخاك،و لكنه هداه و أضلك».

ص: 107

لقد هدى الله عمرا و عمرّ قلبه بالإيمان فجاهد حتى استشهد عن أقدس قضية في الإسلام،و أما أخوه فقد أضله الله و أزاغ قلبه فاشترك في أخطر جريمة يقترفها الأشقياء.

ص: 108

رفض الجيش الأموي للمبارزة

و ضاق المعسكر الأموي ذرعا من المبارزة فقد رسم أصحاب الإمام صورا رائعة للبطولات،و قد ضج الجيش من الخسائر الفادحة التي مني بها،و قد رأى عمرو بن الحجاج الزبيدي و هو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد أن الاستمرار في المبارزة سيؤدي إلى هلاك جيشه و ذلك لشدة بأس أصحاب الإمام و قوة يقينهم و استهانتهم بالموت،فهتف بجيشه ينهاهم عن المبارزة قائلا:

«يا حمقاء أتدرون من تقاتلون؟تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر و قوما مستقلين مستميتين،فلا يبرزن لهم منكم أحد إلا قتلوه..و الله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم».

و وضعت هذه الكلمات اليد على السمات البارزة من صفات أصحاب الإمام و اتجاهاتهم و هي:

أ-إنهم فرسان أهل المصر بما يملكون من البطولات النادرة و قوة الإرادة التي لم تتوفر في جيش ابن سعد.

ب-إنهم أهل البصائر الذين وعوا الحق و فهموا القيم النبيلة التي رفع شعارها الإمام و ناضل من أجلها،فهم يقاتلون على بصيرة و بينة من أمرهم،و ليسوا كخصومهم الذين تردوا في الغواية و ماجوا في الباطل و الضلال.

ج-إنهم مستميتون في دفاعهم عن الإمام عليه السّلام و لا أمل لهم في الحياة.

لقد توفرت فيهم جميع فضائل الإنسان من العقل الراجح،و الشجاعة الفائقة و الشرف الرفيع و الإيمان العميق.

ص: 109

يقول المؤرخون:إن ابن سعد قد استصوب رأي ابن الحجاج فأصدر أوامره إلى جميع قواته بترك المبارزة مع أصحاب الإمام.

هجوم عمرو بن الحجاج

و شن عمرو بن الحجاج هجوما عاما على أصحاب الإمام،و التحموا معهم التحاما رهيبا،و اشتد القتال كأشد ما يكون القتال عنفا،و قد تكبد كلا الفريقين بخسائر كبيرة في الأرواح.

مصرع مسلم بن عوسجة

و سقط في المعركة صريعا علم من أصحاب الإمام و فذ لامع من أنصاره مسلم بن عوسجة،و مشى لمصرعه الإمام،و كان مسلم يعالج سكرات الموت فدنا منه و قال له:

«رحمك الله يا مسلم، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (1).

و اقترب منه زميله و أخوه في الجهاد حبيب بن مظاهر،فقال له:

«عزّ علي مصرعك،يا مسلم أبشر بالجنة».

فقال مسلم بصوت خافت:

«بشرك الله بخير».

و انبرى حبيب فقال له:

ص: 110


1- الأحزاب:23.

«لو لا اني أعلم أني في أثرك لأحببت أن توصي إلي بما أهمك».

و عهد إليه مسلم بأعز و أخلص ما عنده قائلا:

«أوصيك بهذا-و أشار إلى الإمام-أن تموت دونه».

و كانت هذه الكلمات آخر ما تلفظ به لقد كانت هذه هي العظمة حقا بما تحمل من معاني السمو و الشرف لدى أصحاب الإمام،لقد كان كل واحد منهم يمثل شرف الإنسانية في جميع عصورها و مواطنها.

إنه الوفاء الذي بنبض بالإيمان الذي لا حد له،فلم يفكر في تلك اللحظة من حياته بأهله،أو بأي شأن من شؤون الدنيا،و إنما استوعب فكره الحسين فقد أخلص في حبه حتى النفس الأخير من حياته.

و تنفس معسكر ابن سعد بمقتل البطل العظيم مسلم فجعلوا يتباشرون و هم ينادون في شماتة ظاهرة:

«قتلنا مسلما».

و ثقل ذلك على شبث بن ربعي فقد كان يعرف مسلما،و يقدر فضله فخاطب من حوله بتأثر:

«ثكلتكم أمهاتكم،إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم،و تذلون أنفسكم لغيركم، أتفرحون بقتل مثل مسلم؟!!أما و الذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين،فقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين،أفيقتل مثله و تفرحون؟».

إن أولئك الممسوخين الذين قتلوا هذا البطل العظيم،إنما قتلوا نفوسهم لأنه إنما قتل دفاعا عن مصالحهم و حقوقهم التي استهترت بها السلطة الأموية.

و يقول المؤرخون:إن مسلما قتل جماعة من عيون المعسكر الأموي منهم ابن عبد الله الضبابي و عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي.

ص: 111

هجوم الشمر

و هجم الأبرص الخبيث شمر بن ذي الجوشن مع مفرزة من جيشه على ميسرة أصحاب الإمام و كانوا اثنين و ثلاثين فارسا و قد قاتلوا بضراوة و صبر،و أنزلوا بأعدائهم أفدح الخسائر فلم يحملوا على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفوه.

مصرع عبد الله الكلبي

و جاهد عبد الله بن عمير الكلبي جهاد الأبطال،فكان يضرب بسيفه ذات اليمين و اليسار،و قد قتل فيما يقول المؤرخون تسعة عشر فارسا،و اثني عشر راجلا و قد أصابته جراحات كثيرة فشد عليه هانى بن ثبيت الحضرمي و بكير بن حي التميمي فقتلاه و انتهت بذلك حياة هذا البطل الذي وهب حياته لله و تفانى في الولاء و الإخلاص لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و قد انطلقت زوجته السيدة أم وهب تبحث عنه بين جثث القتلى فلما عثرت عليه جلست إلى جانبه و هي تبارك له شهادته بإيمان و إخلاص قائلة:

«هنيئا لك الجنة،أسأل الله الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك».

و أخذت تتضرع إلى الله أن يحشرها معه في الفردوس الأعلى،و بصر بها الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن الذي يحمل رجس أهل الأرض فأوعز إلى غلامه رستم بقتلها،فغافلها العبد من الخلف و هشم رأسها بعمود،فماتت شهيدة في المعركة،و يقول المؤرخون إنها أول امرأة قتلت من أصحاب الحسين و معنى ذلك ان هناك نساء أخرى من نساء أصحاب الإمام قد استشهدن في المعركة،و قد انتهكت بذلك سنن القتال التي كانت سائدة في الجاهلية و الإسلام من تحريم قتل

ص: 112

النساء و الأطفال.

و قال في البحار:و برز إليهم عبد اللّه الكلبي و كانت معه امّه فقالت:قم يا بني و انصر ابن بنت رسول اللّه،فقال:أفعل يا امّاه فبرز و قاتل حتّى قتل منهم جماعة، فرجع إلى امّه و امرأته فقال:يا امّاه أرضيت؟

فقالت:ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين عليه السّلام فيكون جدّه في القيامة شفيعا لك،فرجع حتّى قتل تسعة عشر فارسا و اثنا عشر راجلا ثمّ قطعت يداه فأخذت امرأته عمودا و أقبلت نحوه تمسح الدم عن وجهه فبصر بها شمر فأمر غلامه فقتلها و هي أوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين عليه السّلام.

و روي أنّ امّه أخذت عمود الفسطاط فقتلت رجلين فقال لها الحسين عليه السّلام:

ارجعي أنت و ابنك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء و كان يقتل من أصحاب الحسين الواحد و الإثنان فيبيّن ذلك فيهم لقلّتهم و يقتل من أصحاب عمر الجماعة فلا يبين فيهم لكثرتهم ثمّ حضر وقت الصلاة و صلّى الحسين بأصحابه صلاة الخوف،و قيل:إنّهم صلّوا فرادى بالإيماء.

و روي أنّ سعيد الحنفي تقدّم أمام الحسين فاستهدف لهم يرمونه بالنبل كلّما جاء إلى الحسين سهم تلقّاه بنفسه حتّى سقط إلى الأرض و هو يقول:اللّهم أبلغ نبيّك عنّي السلام و أبلغه ما لقيت من ألم الجراح ثمّ مات فوجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف و طعن الرّماح.

استنجاد عروة

و عروة بن قيس من القادة البارزين في معسكر ابن سعد،و كان ممن يديرون عمليات الحرب و قد ذهل من بسالة أصحاب الإمام و ما أنزلوه بالجيش من الأضرار البالغة فاستنجد بابن سعد ليمده بالرماة و الرجال قائلا:

ص: 113

«ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة ابعث إليهم الرجال و الرماة...».

و طلب ابن سعد من شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى و قال:«سبحان الله شيخ مضر و أهل المصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري!!».

و كان شبث بن ربعي يشعر بوخز في ضميره من الخوض في هذه المعركة، و قد صرح بذلك غير مرة قائلا:

«لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا،و لا يسددهم لرشد،ألا تعجبون أنا قاتلنا خير أهل الأرض،نقاتله مع آل معاوية و ابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال..».

و لما سمع ذلك منه ابن سعد دعا الحصين بن نمير فبعث معه المجففة و خمسمائة من الرماة فأمرهم برشق أصحاب الإمام بالسهام،فسددوا إليهم سهامهم فأصابوا خيولهم فعقروها فصاروا كلهم رجالة،و لكن لم تزدهم هذه الخسارة الجسيمة إلا استبسالا في القتال و استهانة بالموت فثبتوا كالجبال الشامخات و لم يتراجعوا خطوة واحدة،و قد قاتل معهم الحر بن يزيد الرياحي راجلا،و استمر القتال كأعنف و أشد ما يكون ضراوة،و وصفه المؤرخون بأنه أشد قتال خلقه الله،و قد استمر حتى انتصف النهار.

فتح جبهة ثانية

و رأى ابن سعد أن وحدة الجبهة في القتال ستكبد جيشه أفدح الخسائر، و تقضي بطول الوقت و امتداد الحرب،فرأى أن يفتح جبهة ثانية حتى يسهل القضاء على البقية الباقية من أصحاب الإمام فأوعز بتقويض مضارب الإمام و بيوته التي كانت محيطة بأصحابه يمينا و شمالا حتى يشتغلوا بالدفاع عنها،و تضعف بذلك جبهتهم،و هجمت جنوده فجعلوا يقوضونها فكمن لهم بعض أصحاب الإمام

ص: 114

فجعلوا يقتلونهم و يعقرون خيولهم،و باءت هذه الخطة بالفشل بالذريع،و لم تحقق أي نصر لها،و أمر ابن سعد ثانيا بخرق الخيام حتى تهجم خيله عليهم و حاول أصحاب الإمام منعهم عن ذلك فنهاهم الإمام و قال:دعوهم ليحرقوها فإذا أحرقوها فلا يستطيعون أن يجوزوا إليكم،فكان الأمر كما قال:فقد حالت النار بينهم و بين أصحاب الإمام،و بقيت جبهة القتال واحدة.

ص: 115

محاولة الشمر لإحراق حرائر الوحي

و حمل الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن على فسطاط الإمام الذي يضم السيدات من عقائل النبوة و حرائر الوحي و نادى الوغد رافعا عقيرته:

«علي بالنار لأحرقه على أهله».

لقد تردى هذا الإنسان الممسوخ في متاهات سحيقة من الخبث و اللؤم و من المؤكد أنه ليس في مجرمي الحروب و شذاذ الآفاق مثل هذا المجرم في خبث الطوية و لؤم العنصر و خساسة الطبع.

و اختطف الرعب قلوب بنات رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و سرت الرعدة بأوصالهن فخرجن من الخيام مذعورات،و ارتفعت أصواتهن بالبكاء،و خلفهن الصبية و الأطفال و هم يعجون بالبكاء،فكان هول منظرهم مما تذيب له النفوس أسى و حسرات،و التاع الإمام الحسين،فصاح بالخبيث الدنس:«أنت تحرق بيتي على أهلي؟أحرقك الله بالنار».

و لم ينثن الرجس عن عزمه،و ظل يهتف بجنوده ليوفوه بقبس من النار ليحرق خيام أهل البيت.

إنكار حميد بن مسلم

و أنكر على الشمر حميد بن مسلم،فقد خف إليه بعدما رأى الذعر و الخوف قد استولى على بنات رسول الله فقال له:

ص: 116

«إن هذا لا يصلح لك،أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين،تعذب بعذاب الله،و تقتل الولدان و النساء،و الله إن في قتل الرجال لما يرضى به أميرك».

فصاح به الشمر:

«من أنت؟».

و خشي حميد بن مسلم أن يعرفه بنفسه فيوشي به عند ابن زياد فقال له:

«لا أخبرك من أنا».

و ظل الباغي اللئيم مصرا على غيه ليضيف إلى موبقاته جرائم أخرى.

توبيخ شبث بن ربعي:

و أسرع إليه شبث بن ربعي فوبخه،و نهاه فاستجاب له الأثيم على كره و ولى ليرجع فحمل عليه زهير بن القين مع عشرة من أصحابه فأرغموه على الرجوع، و قد التحموا مع جنده فقتلوا أبا عزرة الضبابي،و هو من أسرة الشمر،و تكاثرت الجيوش على أصحاب الإمام فكان إذا قتل أحد منهم بان ذلك فيهم لقلتهم إلا أنه إذا قتل أحد من أصحاب ابن سعد لا يبين ذلك فيهم لكثرة عددهم.

ص: 117

وقت الظهيرة من نهار يوم العاشر

و انتصف النهار و جاء ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنه ينتظر أعز شيء عنده و هي الصلاة، فلما رأى الشمس قد زالت التفت إلى الإمام قائلا:

«نفسي لنفسك الفداء أرى هؤلاء قد اقتربوا منك،و الله لا تقتل حتى أقتل دونك و أحب أن ألقى ربي و قد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها..».

لقد كان الموت منه على قاب قوسين أو أدنى و هو لم يغفل عن ذكر ربه،و لا عن أداء فريضة دينية،و جميع أصحاب الإمام كانوا على هذا الطراز ايمانا بالله و تفانيا في أداء فرائضه.

و رفع الإمام رأسه إلى السماء فجعل يتأمل في الوقت فرأى أنه قد حان أداء الفريضة،فقال لأبي ثمامة:

«ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين،نعم هذا أول وقتها..».

و أمر الإمام أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفوا عنهم القتال ليصلوا لربهم،فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلا:

«إنها لا تقبل».

فقال له حبيب بن مظاهر بسخرية:

«زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و تقبل منك يا حمار..».

و حمل عليه الحصين،فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشبت به الفرس فسقط عنها،و بادر إليه أصحابه فاستنقذوه و استمر القتال،و قبل أن يؤدي

ص: 118

الإمام الصلاة قتل جماعة من حماة أصحابه ثم بعد ذلك أدى الفريضة كما سنذكره.

مصرع حبيب

و حبيب بن مظاهر من ألمع أصحاب الإمام و أشدهم اندفاعا في الذود عنه،فكان عضده و ساعده و كان حبيب ممن زكا نفسه و غذاها بالحكمة و الصواب،و هو من أصحاب الإمام أمير المؤمنين و من شرطة الخميس و كان نافذ البصيرة صلب الإيمان،و يقول المؤرخون:إنه كان يوم الطف من أشد أصحاب الإمام سرورا و غبطة بما يصير إليه من الشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و قد برز فجعل يقاتل قتال المشتاقين إلى مصرعه و هو يرتجز:

انا حبيب و أبي مظهر فارس هيجاء و حرب تسعر

و أنتم منا لعمري أكثر و نحن أوفى منكم و أصبر

و نحن أعلى حجة و أظهر حقا و أبقى منكم و أعذر

لقد عرفهم بنفسه الكريمة و بما يتمتع به من الصفات الرفيعة فهو بطل الحرب و الفارس المعلم الذي لم يختلج في قلبه خوف و لا رعب،و أعلن أنه بالرغم من كثافة عدد جيش ابن سعد إلا أن أصحاب الإمام على قلتهم يمتازون عليهم بالوفاء و الصبر و علو الحجة،و ظهور الحق فيهم فهم بهذه الصفات أحق بالخلود و أجدر بالبقاء.

و قاتل حبيب قتالا أهونه الشديد،فقد قتل منهم على شيخوخته فيما يقول بعض المؤرخين اثنين و ستين رجلا،و حمل عليه الرجس الخبيث بديل بن صريم فضربه بسيفه،و طعنه و غد آخر من تميم برمحه فهوى إلى الأرض،و رام أن يقوم ليستأنف الجهاد فبادر إليه الحصين بن نمير فعلا رأسه الشريف بالسيف فسقط

ص: 119

إلى الأرض و نزل التميمي فاحتز رأسه و صعدت تلك الروح الطاهرة إلى ربها راضية مرضية و قد هدّ مقتله الحسين،فوقف على الجثمان العظيم و هو يصعد آهاته و أحزانه و يقول:«عند الله أحتسب نفسي و حماة أصحابي».

مصرع الحر

و برز البطل العظيم الحر بن يزيد الرياحي الذي استجاب لنداء الحق و آثر الآخرة على الدنيا فاستقبل الموت بثغر باسم و سرور بالغ لنصرة ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و جعل يقاتل أعنف القتال و أشده و هو يرتجز:

إني أنا الحر و مأوى الضيف أضرب في أعراضكم بالسيف

عن خير من حلّ بلاد الخيف اضربكم و لا أرى من حيف

لقد دلل بهذا الرجز على كرمه و سخائه و ان بيته كان مأوى للضيوف و موطنا للقاصدين،كما أعلن أنه إنما يضرب في أعناقهم بسيفه حماية عن الإمام العظيم الذي هو خير من استوطن بلاد الخيف،و هو بذلك لا يرى بأسا أو حيفا في قتاله لهم.

و كان الحر يقاتل و معه زهير بن القين،و كان إذا شد أحدهما و استلحم شد الآخر و استنقذه و داما على ذلك ساعة و أصيب فرس الحر بجراحات فلم ينزل عنه و إنما ظل يقاتل عليه و كان يتمثل بقول عنترة:

ما زلت أرميهم بثغرة نحره و لبانه حتى تسربل بالدم

و كانت بين الحر و بين يزيد بن سفيان عداوة قديمة و متأصلة فاستغلها الحصين بن نمير فقال له:هذا الحر الذي كنت تتمنى قتله،و حمل عليه يزيد فشد عليه الحر فقتله،و سدد أيوب بن مشرح سهما لفرس الحر فعقره و شب به الفرس فوثب عنه كأنه الليث،و لم يصب بضرر و جعل يقاتل ببسالة و هو راجل حتى قتل فيما يقول بعض المؤرخين نيفا و أربعين رجلا و حملت عليه الرجالة بسيوفها

ص: 120

و رماحها فأردته إلى الأرض صريعا يتخبط بدمه الزاكي،و بادر أصحاب الإمام فحملوه و وضعوه أمام الفسطاط الذي كان يقاتل دونه،و وقف عليه الإمام فجعل يتأمل وجهه الوديع بنظرات ملؤها نور الله،و وقف أصحابه في خشوع و انبرى الإمام فجعل يمسح الدم من وجهه و هو يؤبنه بهذه الكلمات:

«أنت الحر كما سمتك أمك،و أنت الحر في الدنيا و الآخرة».

لقد كان الحر حرا حينما تغلب عقله على هواه و اختار الشهادة على الحياة فنصر سيد شباب أهل الجنة،و مات ميتة كريمة في سبيل الحق،و انبرى بعض أصحاب الإمام فرثاه بخشوع:

لنعم الحر حر بني رياح صبور عند مشتبك الرماح

و نعم الحر إذ فادى حسينا و جاد بنفسه عند الصباح

ص: 121

أداء فريضة الصلاة

و بالرغم مما كان الإمام يعانيه من الخطوب الفادحة التي تتصدع من هولها الجبال فإن فكره كان مشغولا بأداء فريضة الصلاة التي هي من أهم العبادات في الإسلام،و طلب من أعدائه أن يمهلوه ليصلي لربه،فاستجابوا له،و أقبل على الله بقلب منيب فصلى بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف و كانت صلاته في تلك اللحظات الرهيبة من أصدق مظاهر الإخلاص و الطاعة لله،و انبرى أمام الحسين سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه السهام و الرماح التي تواجهه من معسكر الأعداء الذين خانوا ما عاهدوا الإمام عليه من إيقاف عمليات الحرب حتى يؤدي فريضة الله فقد اغتنموا الفرصة فراحوا يرشقون الإمام و أصحابه بسهامهم، و كان سعيد الحنفي فيما يقول المؤرخون-يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره و نحره،و وقف ثابتا كأنه الجبل الم تزحزحه السهام التي اتخذته هدفا لها،و لم يكد يفرغ الإمام من صلاته حتى أثخن بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبط بدمه،و هو يقول بنبرات خافتة:

«اللّهم العنهم لعن عاد و ثمود،و أبلغ نبيك مني السلام،و ابلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت بذلك ثوابك و نصرة ذرية نبيك».

و التفت إلى الإمام ليرى هل أدى حقه و وفى له بعهده قائلا:

«أوفيت يابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله؟».

فأجابه الإمام شاكرا له:

«نعم أنت أمامي في الجنة».

ص: 122

و أترعت نفسه بالرضا و المسرات حينما سمع قول الإمام ثم فاضت نفسه الزكية إلى بارئها،و قد تخرق جسده من السهام و الرماح فقد أصيب بثلاثة عشر سهما عدا الضرب و الطعن لقد كان حقا هذا هو الوفاء الذي لا يبلغه وصف و لا إطراء (1).3.

ص: 123


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:147/3.

مصرع زهير

و من أنصار الإمام الحسين الذين صهر نفوسهم الإيمان بالله زهير بن القين فقد كان يتعجل الرواح إلى الجنة لمصافحة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و قد اتجه صوب الإمام و هو جذلان مسرور بما يقوم به من التضحية في سبيله،و وضع يده على منكب الحسين و هو يخاطبه بهذا الرجز:

اقدم هديت هاديا مهديا فاليوم القى جدك النبيا

و حسنا و المرتضى عليا و ذا الجناحين الفتى الكميا

و اسد الله الشهيد الحيا

و كشف هذا الرجز عن ايمانه الراسخ فإنه على يقين لا يخامره شك انه سيحظى بملاقاة النبي صلّى اللّه عليه و اله و وصيه الإمام أمير المؤمنين و الحسن و جعفر و حمزة،و كان ذلك من أروع ما يصبو إليه.و أجابه الإمام:

«و أنا ألقاهم على أثرك».

و حمل البطل على معسكر ابن زياد و هو يرتجز:

أنا زهير و أنا ابن القين

أذودكم بالسيف عن حسين

لقد عرفهم بنفسه،و أعلن لهم انه إنما يناجزهم الحرب دفاعا عن سيده الحسين، و قاتل كأعنف و أشد ما يكون القتال،و قد قتل فيما يقول المؤرخون مائة و عشرين رجلا و أبلى في المعركة بلاء يتعاظم عنه الوصف،و شد عليه المهاجر بن أوس، و كثير بن عبد الله الشعبي فقتلاه و مشى لمصرعه الحسين و هو مثقل بالهموم

ص: 124

و الأحزان فألقى عليه نظرة الوداع الأخير،و راح يؤبنه قائلا:

«لا يبعدنك الله يا زهير،و لعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة و خنازير..» (1).

و قال في البحار:و خرج زهير و هو يرتجز شعرا:

أنا زهير و أنا ابن القين أذودكم بالسيف عن حسيني

إنّ حسينا أحد السبطين من عترة البرّ التقيّ الزينيّ

فقاتل حتّى قتل مائة و عشرين ثمّ قتل رضوان اللّه عليه،و لمّا قتل أصحاب الحسين عليه السّلام و لم يبق إلاّ أهل بيته و هم ولد علي و ولد جعفر و ولد عقيل و ولد الحسن و ولده عليهم السّلام إجتمعوا و ودّع بعضهم بعضا و عزموا على الحرب فأوّل من برز من أهل بيته عبد اللّه بن مسلم بن عقيل و قال شعرا:

اليوم ألقى مسلما و هو أبي و فتية بادوا على دين النبيّ

ليسوا بقوم عرفوا بالكذب لكن خيار و كرام النسب

من هاشم السادات أهل الحسب

فقتل ثمانية و تسعين رجلا في ثلاث حملات و اشترك في قتله الصيداوي و أسد بن مالك (2).

مصرع نافع بن هلال

و قال القرشي:و ممن وهب حياته لله نافع بن هلال الجملي فقد انبرى بإيمان و صدق فجعل يرمي أعداء الله بسهام مسمومة كان قد كتب عليها اسمه و هو يقول:

ارمي بها معلمة أفواقها مسمومة تجري بها اخفاقها

ص: 125


1- حياة الحسين للقرشي:152/3.
2- شرح الأخبار:196/3 ح 92.

ليملأن أرضها رشاقها و النفس لا ينفعها اشفاقها

و لم يزل يرميهم بسهامه حتى نفدت ثم عمد إلى سيفه فسله و حمل عليهم و هو يرتجز:

أنا الغلام التميمي البجلي ديني على دين حسين بن علي

ان اقتل اليوم و هذا عملي و ذاك رأيي أو لاقي عملي

لقد عرفهم بنفسه،و عرفهم بعقيدته فهو على دين الحسين ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و هو إنما يقاتل دفاعا عن عقيدته و مبدئه.

و جعل يقاتل بعزم شامخ قد استمد من وحدة سيده الحسين و غربته النشاط و الحماس،و قد قتل منهم اثني عشر رجلا سوى المجروحين و أحاط به أعداء الله فجعلوا يرشقونه بالسهام و يقذفونه بالحجارة حتى كسروا عضديه،فلم يتمكن أن يقل سيفه فبادروا إليه و أخذوه أسيرا إلى ابن سعد فقال له:

«ما حملك على ما صنعت بنفسك؟».

فأجابه جواب المؤمن بربه قائلا:

«ان ربي يعلم ما أردت».

و التفت إليه بعض أصحاب ابن سعد و قد رأى الدماء تسيل على وجهه و لحيته فقال له:

«أما ترى ما بك؟».

فقال مستهزئا و مثيرا لغضبهم:

«و الله لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت،و ما ألوم نفسي على الجهد،و لو بقيت لي عضد ما أسرتموني».

و ثار الأبرص الخبيث شمر بن ذي الجوشن فعمد إلى سيفه فسله،فصاح به نافع:

«و الله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا فالحمد لله

ص: 126

الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه».

أجل و الله لو كان عند الشمر مسكة من الدين لما اقترف تلك الجرائم التي لا يقترفها إلا من لا علاقة له بالله،و اندفع الوغد إلى نافع فضرب عنقه و بذلك انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي أخلص لدينه،و اخلص في الدفاع عن ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و هو من أعظم رجال الإسلام صلابة في الحق و صدقا في الدفاع عنه.

عابس مع شوذب

و لما رأى البطل الملهم عابس بن شبيب الشاكري وحدة الإمام و اجتماع أهل الكوفة على قتله أقبل على رفيقه في الجهاد شوذب مولى شاكر فقال له:

«يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟».

فانبرى شوذب يعلن ما صمم عليه من الفداء و التضحية قائلا:

«أقاتل حتى أقتل».

فشكره عابس و أثنى عليه قائلا:

«تقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك فإن هذا يوم نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه».

فأي إيمان مثل هذا الإيمان؟انه كان يسعى جاهدا بجميع طاقاته ليظفر بما يقربه إلى الله زلفى،و تقدم شوذب فأدى التحية إلى الإمام و حمل على معسكر ابن سعد فقاتل قتال الأبطال حتى استشهد بين يدي أبي عبد الله.

مصرع عابس الشاكري

و عابس الشاكري كان من أسرة عريقة في الشرف و النبل،عرفت بالشجاعة و الإخلاص للحق،و فيهم يقول الإمام علي عليه السّلام:«لو تمت عدتهم ألفا لعبد الله حق

ص: 127

عبادته،و كانوا يلقبون«فتيان الصباح»و كان عابس في طليعة أسرته،و من أفذاذهم و هو الذي حمل رسالة مسلم إلى الحسين التي يطلب فيها قدومه إلى العراق،و ظل ملازما للإمام من مكة إلى كربلاء و كان من ألمع أصحابه في الولاء و الإخلاص له،و قد تقدم إليه يطلب منه الإذن في القتال و خاطب الإمام فأعرب له بما يحمله في نفسه من الولاء العميق قائلا:

«ما أمسى على ظهر الأرض قريب و لا بعيد أعز علي منك،و لو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعز علي من نفسي لفعلت السلام عليك أشهد أني على هداك و هدى أبيك».

ثم هجم على معسكر ابن سعد،و طلب منهم المبارزة فلم يجبه أحد فقد جبنوا جميعا عن مقابلته لأنهم كانوا يعرفونه من أشجع الناس،فجعلوا يتصايحون و قد ملأ الذعر قلوبهم و اختطف الخوف ألوانهم قائلين:

«هذا أسد الأسود،هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم...».

و صاح ابن سعد بجيشه

«ارضخوه بالحجارة».

و عمدوا إلى الحجارة فجعلوا يرضخونه بها من كل جانب،و لما رأى البطل جبنهم و إحجامهم عن مقابلته ألقى درعه و مغفره و شد عليهم كالليث فكان يطرد ما بين يديه أكثر من مائة فارس ثم انعطفوا عليه من كل جانب فأردوه صريعا، و احتزوا رأسه الشريف،و جعلوا يتخاصمون فيما بينهم كل واحد منهم يدعي انه قتله ليحظى بالجائزة و أنكر ابن سعد أن يكون قد قتله واحد منهم و إنما اشترك في قتله جماعة منهم.و قد انتهت بذلك حياة هذا البطل العظيم الذي أبلى في الدفاع عن الإسلام بلاء حسنا،و جاهد جهاد النبيين.

ص: 128

هزيمة الضحاك

و كان الضحاك بن عبد الله المشرفي من أصحاب الإمام إلا أنه لما رأى كثرة القتلى من أصحاب الحسين صمم على الهزيمة و الفرار،و جاء إلى الحسين فقال له:

«لقد كنت رافقتك على أن أقتل معك ما وجدت مقاتلا،فاذن لي في الانصراف فإني لا أقدر على الدفاع عنك،و لا عن نفسي».

و اذن له الإمام في الانصراف فولى منهزما،و عرض له قوم من أصحاب ابن سعد إلا انهم خلوا سبيله فمضى هاربا فلم يرزق الشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله (1).

ص: 129


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:154/3.

شهادة جون

و جون من أفذاذ الإسلام،و هو مولى لأبي ذر الغفاري،و كان شيخا كبيرا قد أترعت نفسه الشريفة بالتقوى و الإيمان،و لم يمنعه سواد بشرته و تواضع حسبه أن يتبوأ المكان الرفيع،و يكون من أعلام المسلمين فينال من الإكبار و التعظيم ما لم ينله أحد من أبطال التأريخ،و يقول المؤرخون إنه تقدم ضارعا إلى الإمام ليمنحه الإذن فيستشهد بين يديه فقال له الإمام:

«يا جون إنما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في اذن مني».

و هوى جون على قدمي الإمام يوسعهما تقبيلا و دموعه تتبلور على خديه و هو يقول:

«أنا في الرخاء ألحس قصاعكم و في الشدة أخذلكم،ان ريحي لنتن و حسبي للئيم،و لوني لأسود فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي و يشرف حسبي،و يبيض لوني لا و الله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم...».

أية عظمة عبرت عنها هذه الكلمات المشرقة؟و أي شرف انطوت عليه نفسه؟..

ان لونه الأسود لأشرق و أنضر من ألوان أولئك العبيد و هو الحر بما يحمل من سمو النفس،و شرف الذات،و إن ريحه لأطيب من ريحهم،و ان حسبه هو الحسب الوضاح،و ان أهل الكوفة هم المغمورون في احسابهم فقد تنكروا لإنسانيتهم، و صاروا وصمة عار و خزي على البشرية بأسرها.

لقد حفل كلام جون بمنطق الأحرار فإنه ليس من الإنسانية في شيء أن ينعم في ظلال الإمام أيام الرخاء،و يخذله أمام هذه المحنة القاسية،لقد كان الوفاء من

ص: 130

العناصر المميزة لكل فرد من أصحاب الإمام أبي عبد الله على بقية شهداء العالم.

و أذن له الإمام فبرز مزهوا و هو يرتجز:

كيف ترى الفجار ضرب الأسود بالمشرفي القاطع المهند

بالسيف صلنا عن بني محمد أذب عنهم باللسان و اليد

ارجو بذاك الفوز يوم المورد من الإله الواحد الموحد

إذ لا شفيع عنده كأحمد

و دلل بهذا الرجز على بسالته و شجاعته،و هو إنما يدافع عن أبناء النبي صلّى اللّه عليه و اله و يذب عنهم بلسانه و يده لا يبتغي في ذلك أي شأن من شؤون الدنيا،و إنما يرجو الفوز في الدار الآخرة و الشفاعة من النبي العظيم صلّى اللّه عليه و اله.

و قاتل جون قتال الأبطال فقتل فيما يقول المؤرخون خمسة و عشرين رجلا، و حمل عليه أعداء الله فأردوه قتيلا،و خف إليه الإمام فجعل ينظر إلى جثمانه المخضب بالدماء و أخذ يدعو له قائلا:

«اللّهم بيض وجهه،و طيب ريحه و احشره مع محمد،و عرف بينه و بين آل محمد».

و استجاب الله دعاء الإمام فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك.

شهادة حنظلة الشبامي:

و حنظلة الشبامي ممن صاغ حياته على الإيمان بالله حتى بلغ أعلى مستويات القيم الإنسانية،تقدم إلى الإمام بلهفة و شوق ليأخذ مكانه العالي مع الشهداء من أصحاب الإمام و طلب منه الإذن،فسمح له،و تقدم إلى ساحة القتال فجعل يعظ القوم و يذكرهم الدار الآخرة قائلا:

«يا قوم:اني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم،و ما الله يريد ظلما للعباد،يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم

ص: 131

تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم،و من يضلل الله فما له من هاد..يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب و قد خاب من افترى».

و لم يع أولئك الأوغاد كلامه و إنما راحوا سادرين في طيشهم و ضلالهم قد ختم الله على قلوبهم و أسماعهم فهم لا يبصرون،و شكر له الإمام مقالته،و قال له:

«رحمك الله انهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، و نهضوا إليك ليستبيحوك و أصحابك،فكيف بهم الآن و قد قتلوا اخوانك الصالحين؟».

«صدقت يابن رسول الله،أفلا نروح إلى الآخرة؟».

و أذن له الإمام فانطلق إلى ساحة المعركة بشوق ليفوز بالشهادة،و قاتل قتال الأبطال حتى استشهد و قد وفى بما عاهد عليه الله من نصرة الحق و الفداء في سبيل الإسلام.

و قال في البحار:و تقدّم جون مولى أبي ذرّ و كان عبدا أسودا.

فقال له الحسين عليه السّلام:أنت في حلّ منّي،فقال:يابن رسول اللّه أنا في الرخاء ألحس قصاعكم و في الشدّة أخذلكم و اللّه إنّ ريحي لنتن و أنّ حسبي للئيم و لوني أسود و اللّه لا افارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم فبرز للقتال و قتل جماعة حتّى قتل فوقف عليه الحسين و قال:اللّهم بيّض وجهه و طيّب ريحه و احشره مع الأبرار و عرّف بينه و بين آل محمّد.

و عن عليّ بن الحسين عليه السّلام:إنّ الناس كانوا يدفنون القتلى فوجدوا الأسود بعد عشرة أيّام تفوح منه رائحة المسك و كان شعره في الحرب،شعرا:

كيف يرى الفجّار ضرب الأسود بالمشرفي القاطع المهنّد

بالسيف صلنا عن بني محمّد أذبّ عنهم باللّسان و اليد

أرجو بذاك الفوز عند المورد من الإله الواحد الموحّد

إذ لا شفيع عنده كأحمد

ص: 132

مصرع الحجاج

و من بين صفحات الفداء الباهرة التي تحمل العظمة الإنسانية الحجاج بن مسروق الجعفي،فقد برز إلى ساحة الحرب،و جعل يقاتل أعنف القتال و أشده حتى خضب بدمائه الزكية،فقفل راجعا إلى الإمام الحسين و هو جذلان مسرور بما قدمه من الفداء و التضحية في سبيله،و أخذ يخاطب الإمام بهذا الرجز:

اليوم ألقى جدك النبيا ثم أباك ذا الندى عليا

ذاك الذي نعرفه وصيا

إنه ليقدم على رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و هو مرفوع الرأس بما قدم من التضحية في سبيل ريحانته،و قد أجابه الإمام:

«و أنا على أثرك ألقاهما».

و رجع إلى حومة الحرب فجعل يقاتل ببسالة و صمود حتى استشهد دفاعا عن الحق فلذكره المجد و الخلود.

مصرع عمرو بن جنادة

و برز الفتى النبيل عمرو بن جنادة الأنصاري و هو أصغر جندي في معسكر الحسين و لكنه كان يفوق في عقله و دينه من في معسكر ابن سعد،و يقول المؤرخون إنه كان يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة،و قد استشهد أبوه في المعركة،فلما طلب الإذن من الإمام لم يسمح له بذلك و قال:

ص: 133

«هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى و لعل أمه تكره ذلك».

و اندفع الفتى يلح على الإمام و يقول له:

«إن أمي أمرتني».

فأذن له الإمام،و مضى الفتى متحمسا إلى الحرب فلم يلبث إلا قليلا حتى استشهد،و احتز رأسه الشريف أوغاد أهل الكوفة و رموا به صوب مخيم الحسين فبادرت إليه السيدة أمه فأخذته و جعلت توسعه تقبيلا،ثم مسحت عنه الدم،و رمت به رجلا قريبا فصرعته و سارعت إلى المخيم فأخذت عمودا و حملت على اعداء الله و هي ترتجز:

أنا عجوز في النساء ضعيفة خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفهة دون بني فاطمة الشريفه

و أصابت رجلين فبادر إليها الإمام وردها إلى المخيم لقد أثرت غربة الإمام و وحدته على عواطف هذه السيدة الكريمة،فقدمت فلذة كبدها فداء له،ثم انعطفت هي في ميدان القتال لتفديه بنفسها،فكان-حقا-هذا منتهى الإيمان و الإخلاص.

مصرع أنس الكاهلي

و أنس بن الحارث الكاهلي من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و اله و قد شهد معه بدرا و حنينا،و قد سمعه يقول:«إن ابني هذا-يعني الحسين-يقتل بأرض كربلاء،فمن شهد ذلك منكم فلينصره»و قد لازم الحسين و صحبه من مكة،و كان شيخا كبيرا طاعنا في السن و قد استأذن من الإمام أن يجاهد بين يديه فأذن له،و قد شد وسطه بعمامته نظرا لتقوس ظهره كما رفع حاجبيه بالعصابة فلما نظر إليه الإمام أرخى عينيه بالبكاء،و قال له:شكر الله لك يا شيخ،و قاتل-على كبر سنه-قتال الأبطال فروي أنه قتل ثمانية عشر رجلا ثم استشهد و سمت روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى مع

ص: 134

النبيين و الصديقين و الشهداء و حسن أولئك رفيقا.

مصرع أبي الشعثاء

و أبو الشعثاء هو يزيد بن زياد بن المهاجر الكندي،و كان من أبطال العرب و فرسانهم،و كان ممن خرج مع ابن سعد لحرب الإمام،و لما عرض الإمام على ابن سعد الشروط التي اشترطها و أبى ابن سعد مال إلى الحسين و جعل يرشق القوم بسهامه و يقول المؤرخون إنه رماهم بمائة سهم فما سقط منها غير سهم،و كلما رمى يقول له الإمام:

«اللّهم سدد رميته و اجعل ثوابه الجنة».

و لما نفدت سهامه جرد سيفه و حمل عليهم و هو يرتجز:

أنا يزيد و أبي مهاجر اشجع من ليث بغيل خادر

يا رب إني للحسين ناصر و لابن سعد رافض و هاجر

و قاتل قتال الأبطال حتى قتل و انتهت بذلك حياته مدافعا عن دين الله و مناصرا لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

مصرع الجابريين

و من ألمع أنصار الإمام عليه السّلام الجابريان،و هما:سيف بن الحارث بن سريع الجابري و مالك بن عبد بن سريع الجابري و كانا أخوين من أم و ابني عم،و قد تقدما بين يدي أبي عبد الله،و عيناهما تفيضان دموعا فقال لهما الإمام:

«ما يبكيكما اني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين؟»

فأسرعا قائلين:

«جعلنا الله فداك،ما على أنفسنا نبكي،و لكن نبكي عليك،نراك قد أحيط بك،و لا

ص: 135

نقدر أن ننفعك».

لقد امتلأت قلوب أصحاب الإمام بالولاء الباهر و الإخلاص العميق له فكانوا لا يفكرون إلا به،و يتحرقون ألما و حزنا عليه.

و قاتل الجابريان قتال الأبطال،و قد تناهبت أشلاءهما السيوف و الرماح في وحشية قاسية،و استشهدا بالقرب من الإمام.

مصرع الغفاريين

و برز إلى ساحة الجهاد الاخوان عبد الله و عبد الرحمن ابنا عروة الغفاري فجعلا يقاتلان باستبسال نادر حتى استشهدا بين يدي الإمام.

مصرع الأنصاريين

و لما استغاث الإمام و جعل يطلب الناصر و المعين لحماية عقائل النبوة و مخدرات الوحي أثر ذلك في نفوس الأنصاريين،و هما سعد بن الحارث و أخوه أبو الحتوف و كانا مع ابن سعد فمالا بسيفيهما على معسكر ابن سعد و قاتلا حتى قتلا.

شهادة أنيس

و انبرى إلى ساحات الجهاد بين يدي أبي عبد الله أنيس بن معقل الأصبحي و هو يرتجز:

أنا أنيس و أنا ابن عقيل و في يميني نصل سيف مصقل

ص: 136

أضرب به في الحرب حتى ينجلي أعلي به الهامات وسط القسطل

عن الحسين الماجد المفضل ابن رسول الله خير مرسل

و قد مثل هذا الرجز الحماس الديني الذي سيطر عليه فقد عرفهم بنفسه و أعلن أنه إنما يقاتلهم دفاعا عن ابن رسول الله،و هو لا يبغي بذلك أي مطمع سوى رضا الله...و قاتل البطل قتالا عنيفا حتى استشهد.

مصرع قرة الغفاري

و من أصحاب الإمام الذين استشهدوا للحق قرة بن أبي قرة الغفاري فقد برز و هو يرتجز:

قد علمت حقا بنو غفار و خندف بعد بني نزار

بأنني الليث لدى الغبار لأضربن معشر الفجار

بكل عضب ذكر بتار ضربا و حتفا عن بني المختار

رهط النبي السادة الأبرار

و هذا الرجز يتدفق بالحيوية و الحماس للدفاع عن عترة النبي صلّى اللّه عليه و اله و قد دلل على بطولته بأن بني غفار و خندف و بني نزار كلهم يشهدون ببسالته و شجاعته،و هو إنما يجاهد دفاعا عن السادة الأبرار أبناء رسول الله صلّى اللّه عليه و اله...و قاتل البطل الغفاري قتالا شديدا حتى هوى جسده الشريف إلى الأرض تحت ضرب السيوف و طعن الرماح،و سمت روحه إلى الرفيق الأعلى.

مصرع يحيى المازني

و برز إلى حومة الحرب يحيى بن سليم المازني،و هو يرتجز:

ص: 137

لأضربن القوم ضربا فيصلا ضربا شديدا في العداة معجلا

لا عاجزا فيها و لا مولولا و لا أخاف اليوم موتا مقبلا

لكنني كالليث أحمي مشبلا

و أعلن بهذا الرجز عن شجاعته فهو سينزل بالأعداء الضربات القاسية و انه سيحاربهم ببسالة و صمود لا عاجزا،و لا مولولا،و لا خائفا من الموت،و إنما هو كالليث يصول فيهم ليحمي عترة رسول الله،و شد عليهم كأنه جيش،و قاتلهم أعنف القتال و أشده حتى استشهد بين يدي أبي عبد الله.

الإمام مع أصحابه

و كان الإمام يبعث في نفوس أصحابه روح العزم و الصمود،و يوصيهم بالصبر على ملاقاة الأهوال قائلا لهم:

«صبرا بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضراء إلى الجنان الواسعة،و النعم الدائمة،فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر،ان أبي حدثني عن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله انه قال:إن الدنيا سجن المؤمن،و جنة الكافر،و الموت جسر هؤلاء إلى جنانهم،و جسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبت،و لا كذبت».

و قد ألهبت هذه الكلمات عواطفهم فخاضوا الموت في استبسال عاصف ليصلوا إلى مراتبهم في الفردوس الأعلى.

شهادة عبد الله اليزني

و خرج إلى ميدان القتال عبد الله اليزني فقاتل ببسالة نادرة و هو يرتجز:

انا ابن عبد الله من آل يزن ديني على دين حسين و حسن

ص: 138

أضربكم ضرب فتى من اليمن أرجو بذلك الفوز عند المؤتمن

لقد عرفهم بنفسه و أسرته و بلده،و عرفهم أنه على دين سيده الحسين،و هو إذ يضحي بنفسه في سبيله فإنما يرجو بذلك الفوز عند الله...و قاتل كما قاتل اخوانه الشهداء ببسالة و عزم ثم استشهد.

الإمام مع الشهداء

و كان الإمام العظيم يقف على الشهداء الممجدين من أصحابه و هو يتأمل بوجهه الوديع فيهم فيراهم مضمخين بدم الشهادة،و معطرين بنفحات من روح الله،فانطلق يؤبنهم بإعجاب قائلا:

«قتلة كقتلة النبيين و آل النبيين».

مصرع سويد

و كان آخر من استشهد من أصحاب الإمام البطل الشجاع سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي فقد سقط في المعركة جريحا و ظنه القوم أنه قد قتل فلم يجهزوا عليه،و كان قد غامت نفسه من ألم الجروح و نزيف الدماء فلما سمع القوم ينادون:

«قتل الحسين».

فانتفض كما ينتفض الأسد الجريح غير حافل بما هو فيه من ألم الجروح فانبرى يفتش عن سيفه فلم يجده و ظفر بمدية فحمل عليهم يطعن فيهم ففروا مذعورين، و قد ظنوا أن الموتى من أصحاب الحسين قد عادت إليهم أرواحهم ليستأنفوا الجهاد ثانيا،و لما أيقنوا خطأهم انعطفوا عليه فقتلوه و قد قتله عروة بن بطان

ص: 139

الثعلبي..و لم يعرف التأريخ الإنساني أصدق و لا أنبل من هذا الوفاء،فكان حقا هذا هو المجد في معسكر الحسين،فقد ظلوا على الوفاء لإمامهم حتى الرمق الأخير من حياتهم.

هؤلاء بعض أصحاب الإمام،و قد أبلوا في المعركة بلاء يقصر عنه كل وصف و إطراء،فقد جاهدوا جهادا لم يعرف له التأريخ نظيرا في جميع عمليات الحروب التي جرت في الأرض،فقد قابلوا على قلة عددهم و ما بهم من الظمأ القاتل تلك الجيوش المكثفة،و أنزلوا بها أفدح الخسائر.

إن تلك الكوكبة من أبطال الإيمان قد صارعوا الأهوال،و خاضوا تلك المعركة الرهيبة،و قد وقفوا وقفة الرجل الواحد،و قادوا حركة الإيمان،و لم تضعف لأي رجل منهم عزيمة،و لم تلن لهم قناة،و قد خضبوا جميعا بالدماء و هم يشعرون بالغبطة و يشعرون بالفخر،و قد دللوا بتضحياتهم الهائلة النبيلة على عظمة الإسلام الذي منحهم تلك الروح الوثابة التي استطاعوا بها أن يقاوموا بصبر و ثبات تلك الوحوش الكاسرة التي ساقتها الأطماع إلى اقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية كلها.

لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى و هي أنضر ما تكون تفانيا في مرضاة الله و أشد ما تكون إيمانا بعدالة قضيتهم التي هي من أنبل القضايا في العالم..و ان أعطر تحية توجه لذكراهم كلمات الإمام الصادق عليه السّلام في حقهم:

«بأبي أنتم و أمي طبتم و طابت الأرض التي فيها دفنتم و فزتم و الله فوزا عظيما» (1).4.

ص: 140


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:137/3-164.

روايات أخرى لمقتل الأصحاب

زحف جيش الخلافة على معسكر الحسين عليه السلام

قال السيد مرتضى العسكري:و روى الطبري عن حميد بن مسلم،قال:و زحف عمر بن سعد نحوهم ثم نادى يا ذويد (1):ادن رأيتك،قال:فأدناها ثم وضع سهما في كبد قوسه ثم رمى فقال:اشهدوا إني أول من رمى.

و في رواية المقريزي.

اشهدوا لي عند الأمير إني أول من رمى.

قال الطبري و المفيد:ثم ارتمى الناس و تبارزوا،فبرز يسار مولى زياد و سالم مولى عبيد اللّه بن زياد فقالا:من يبارز؟ليخرج إلينا بعضكم قال:فوثب حبيب بن مظاهر و برير بن حضير فقال لهما حسين اجلسا،فقام عبد اللّه بن عمير الكلبي من بني عليم و كان قد خرج مع امرأته أم وهب لما رأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين فسأل عنهم فقيل له:يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فقال:و اللّه لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا،و اني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عند اللّه من ثوابه إياي في جهاد المشركين،فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع و أعلمها بما يريد فقالت:

أصبت أصاب اللّه بك ارشد أمورك افعل و أخرجني معك،قال:فخرج بها ليلا،حتى

ص: 141


1- ورد في نسخة"زويد"و فى أخرى"دويد".

اتى حسينا فأقام معه فلما برز يسار و سالم قام عبد اللّه بن عمير الكلبي فقال أبا عبد اللّه رحمك اللّه ائذن لي فلا خرج إليهما فرأى حسين رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين،فقال حسين:إني لا حسبه للاقران قتالا اخرج ان شئت،قال:

فخرج إليهما فقالا له:من أنت؟فانتسب لهما،فقالا:لا نعرفك،ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير،و يسار مستنتل (1)امام سالم فقال له الكلبي:يا ابن الزانية:و بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس،يخرج إليك أحد من الناس،إلاّ و هو خير منك؟ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد،فإنه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شد عليه سالم فصاح به:قد رهقك العبد،قال:فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة فاتقاه الكلبي بيده اليسرى فأطار أصابع كفه اليسرى،ثم مال عليه الكلبي،فضربه حتى قتله،و أقبل الكلبي مرتجزا و هو يقول و قد قتلهما جميعا:

ان تنكروني فانا ابن كلب حسبي ببيتي في عليم حسبي

اني امرؤ ذو مرة و عصب و لست بالخوار عند النكب

اني زعيم لك أم وهب بالطعن فيهم مقدما و الضرب

ضرب غلام مؤمن بالرب

فأخذت أم وهب امرأته عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له:فداك أبي و أمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد،فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت:إني لن أدعك دون ان أموت معك،فناداها حسين فقال:جزيتم من أهل بيت خيرا،ارجعي رحمك اللّه إلى النساء فاجلسي معهن،فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن.ف.

ص: 142


1- مستنتل أي متقدم امام الصف.

زحف الميمنة و استمداد قائد الفرسان

قال:و حمل عمرو بن الحجاج و هو على ميمنة الناس في الميمنة،فلما ان دنا من حسين،جثوا له على الركب،و اشرعوا الرماح نحوهم،فلم تقدم خيلهم على الرماح فذهبت الخيل لترجع،فرشقهم أصحاب الحسين بالنبل،فصرعوا منهم رجالا، و جرحوا منهم آخرين.

قال:و قاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا و أخذت خيلهم تحمل و إنما هم اثنان و ثلاثون فارسا،و أخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته،فلما رأى ذلك عزرة بن قيس و هو على خيل أهل الكوفة ان خيله تنكشف من كل جانب بعث إلى عمر بن سعد،عبد الرحمن بن حصن،فقال اما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدة اليسيرة؟ابعث إليهم الرجال و الرماة،فقال لشبث بن ربعي:إلاّ تقدم إليهم،فقال:سبحان اللّه أتعمد إلى شيخ مصر و أهل المصر عامة،تبعثه في الرماة لم تجد من تندب لهذا و يجزى عنك غيري؟!قال:و ما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله،قال:و قال أبو زهير العبسي:فانا سمعته في امارة مصعب يقول:لا يعطي اللّه أهل هذا المصر خيرا ابدا!و لا يسددهم لرشد،إلاّ تعجبون انا قاتلنا مع علي بن أبي طالب و مع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين،ثم عدونا على ابنه و هو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية،و ابن سمية الزانية!ضلال يا لك من ضلال قال:و دعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة و خمس مائة من المرامية فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين و أصحابه،رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا ان عقروا خيولهم،و صاروا رجالة كلهم.

قال و كان أيوب بن مشرح الخيواني يقول:انا و اللّه عقرت بالحر بن يزيد فرسه حشأته سهما فما لبث ان ارعد الفرس و اضطرب و كبا،فوثب عنه الحر كأنه ليث و السيف في يده و هو يقول:

ص: 143

إن تعقروا بي،فأنا ابن الحر أشجع من ذي لبد هزبر

قال:فما رأيت أحدا قط يفري فريه،قال:فقال له أشياخ من الحي:أنت قتلته،قال:

لا و اللّه ما انا قتلته،و لكن قتله غيري و ما أحب اني قتلته فقال له أبو الوداك و لم؟! قال:إنه كان زعموا من الصالحين فو اللّه لئن كان ذلك اثما لان القى اللّه باثم الجراحة و الموقف أحب إلي من أن ألقاه باثم قتل أحد منهم،فقال له أبو الوداك:ما أراك إلاّ ستلقى اللّه باثم قتلهم أجمعين،أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا،و رميت آخر و وقفت موقفا و كررت عليهم و حرضت أصحابك و كثرت أصحابك،و حمل عليك فكرهت ان تفر،و فعل آخر من أصحابك كفعلك و آخر و آخر،كان هذا و أصحابه يقتلون.

أنتم شركاء كلكم في دمائهم!فقال له:يا أبا الوداك!انك لتقنطنا من رحمة اللّه ان كنت ولي حسابنا يوم القيامة فلا غفر اللّه لك ان غفرت لنا قال هو ما أقول لك.

زحف الميسرة و مقتل الكلبي و زوجته

قال:و حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة فثبتوا له، فطاعنوه و أصحابه،و حمل على حسين و أصحابه من كل جانب،فقتل الكلبي و قد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين،و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه هاني بن ثبيت الحضرمي،و بكير بن حيي التيمي من تيم اللّه بن ثعلبة،فقتلاه و كان القتيل الثاني من أصحاب الحسين.

قال:و خرجت امرأة الكلبي تمشى إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب و تقول هنيئا لك الجنة فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها.

ص: 144

زحف الميمنة و مقتل مسلم بن عوسجة

قال:ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات،فاضطربوا ساعة فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين،ثم انصرف عمرو بن الحجاج و أصحابه و ارتفعت الغبرة فإذا هم به صريع،فمشى إليه الحسين فإذا به رمق،فقال رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة، منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا و دنا منه حبيب بن مظاهر، فقال:عز علي مصرعك يا مسلم!أبشر بالجنة!فقال له مسلم قولا ضعيفا:بشرك اللّه بخير،فقال له حبيب لو لا أني اعلم اني في آثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت ان توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة و الدين،قال:بل انا أوصيك بهذا رحمك اللّه و اهوى بيده إلى الحسين ان تموت دونه!قال:افعل و رب الكعبة،قال:فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم و صاحت جارية له فقالت:يا ابن عوسجتاه!يا سيداه!فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج:قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي.

فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه:ثكلتكم أمهاتكم،إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم،و تذللون أنفسكم لغيركم،تفرحون ان يقتل مثل مسلم بن عوسجة!اما و الذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين كريم،لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين!أفيقتل منكم مثله و تفرحون؟!قال:و كان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبد اللّه الضبابي و عبد الرحمن ابن أبي خشكارة البجلي (1).

ص: 145


1- معالم المدرستين للعسكري:106/3.

يزيد بن زياد يرمى بين يدي الحسين عليه السلام

قال الطبري:و كان أبو الشعثاء يزيد بن زياد بن المهاصر من بني بهدلة خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين فلما ردوا الشروط على الحسين مال إليه و قاتل معه، جثى على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها إلا خمسة أسهم،و كان راميا فكان كلما رمى قال انا ابن بهدلة فرسان العرجلة و يقول حسين:

اللهم سدد رميته و اجعل ثوابه الجنة فلما رمى بها قام فقال:ما سقط منها إلا خمسة أسهم و لقد تبين لي إني قد قتلت خمسة نفر و كان في أول من قتل و كان رجزه يومئذ:

أنا يزيد و أبى مهاصر أشجع من ليث بغيل خادر

يا رب إني للحسين ناصر و لابن سعد تارك و هاجر

أربعة استشهدوا في مكان واحد

قال الطبري:و برز عمر بن خالد و جابر بن الحارث السلماني،و سعد مولى عمر ابن خالد،و مجمع بن عبد اللّه العائذي فشدوا مقدمين بأسيافهم على الناس و قاتلوا فلما و غلوا،عطف عليهم الناس،فأخذوا يحوزونهم،و قطعوهم من أصحابهم غير بعيد،فحمل عليهم العباس بن علي فاستنقذهم،فجاؤوا قد جرحوا فلما دنا منهم عدوهم،شدوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتى قتلوا في مكان واحد.

ص: 146

مقتل برير

و روى الطبري عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس و كان قد شهد مقتل الحسين، قال:خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة،و هو حليف لبني سليمة من عبد القيس،فقال:يا برير بن حضير!كيف ترى اللّه صنع بك؟

قال:صنع اللّه و اللّه بي خيرا،و صنع اللّه بك شرا:قال:كذبت!و قبل اليوم ما كنت كذابا!هل تذكر و انا أماشيك في بني لوذان،و أنت تقول:إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفا و إن معاوية بن أبي سفيان ضال،مضل،و إن امام الهدى و الحق علي بن أبي طالب فقال له برير:اشهد ان هذا رأيي و قولي،فقال له يزيد بن معقل:

فإني اشهد انك من الضالين!فقال له برير بن حضير:هل لك فلا باهلك و لندع اللّه ان يلعن الكاذب و ان يقتل المبطل،ثم اخرج،فلا بارزك.

قال:فخرجا فرفعا أيديهما إلى اللّه يدعوانه ان يلعن الكاذب،و ان يقتل المحق المبطل،ثم برز كل واحد منهما لصاحبه،فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة،لم تضره شيئا و ضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر و بلغت الدماغ،فخر كأنما هوى من حالق،و إن سيف ابن حضير لثابت في رأسه فكأني انظر إليه ينضنضه من رأسه،و حمل عليه رضي بن منقذ العبدي، فاعتنق بريرا فاعتركا ساعة،ثم إن بريرا قعد على صدره فقال رضي:أين أهل المصاع و الدفاع؟!قال فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه،فقلت:إن هذا برير ابن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد!فحمل عليه بالرمح حتى وضعه في ظهره،فلما وجد مس الرمح،برك عليه،فعض بوجهه،و قطع طرف انفه فطعنه كعب بن جابر حتى ألقاه عنه،و قد غيب السنان في ظهره،ثم اقبل عليه يضربه بسيفه،حتى قتله.

ص: 147

قال عفيف:كأني انظر إلى العبدي الصريع،قام ينفض التراب عن قبائه،و يقول:

أنعمت علي يا أخا الأزد نعمة لن أنساها ابدا.

قال:فقلت أنت رأيت هذا،قال:نعم رأى عيني و سمع اذني،فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته،أو أخته النوار بنت جابر:أعنت على ابن فاطمة!و قتلت سيد القراء!لقد أتيت عظيما من الأمر،و اللّه لا أكلمك من رأسي كلمة ابدا و قال:كعب بن جابر:

سلى تخبري عني و أنت ذميمة غداة حسين و الرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت و لم يخل على غداة الروع ما انا صانع

معي يزني لم تخنه كعوبه و أبيض مخشوب الغرارين قاطع

فجردته في عصبة ليس دينهم بديني و اني بابن حرب لقانع

و لم تر عيني مثلهم في زمانهم و لا قبلهم في الناس إذ انا يافع

أشد قراعا بالسيوف لدى الوغا ألا كل من يحمي الذمار مقارع

و قد صبروا للطعن و الضرب حسرا و قد نازلوا لو أن ذلك نافع

فأبلغ عبيد اللّه اما لقيته بأني مطيع للخليفة سامع

قتلت بريرا ثم حملت نعمة أبا منقذ لما دعا من يماصع

و روى عن عبد الرحمن بن جندب قال:سمعته في امارة مصعب بن الزبير و هو يقول:يا رب انا قد وفينا فلا تجعلنا يا رب كمن قد غدر!فقال له أبي:صدق و لقد و فى و كرم و كسبت لنفسك شرا،قال:كلا إني لم اكسب لنفسي شرا و لكني كسبت لها خيرا قال:و زعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد على كعب بن جابر جواب قوله فقال:

لو شاء ربي ما شهدت قتالهم و لا جعل النعماء عندي ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عارا و سبة يعيره الأبناء بعد المعاشر

فيا ليت أني كنت من قبل قتله و يوم حسين كنت في رمس قابر

ص: 148

عمرو بن قرظة الأنصاري

قال:و خرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين،و هو يقول:

قد علمت كتيبة الأنصار أني سأحمي حوزة الذمار

ضرب غلام غير نكس شاري دون حسين مهجتي و داري

فقتل عمرو بن قرظة بن كعب و كان مع الحسين و كان علي اخوه مع عمر بن سعد فنادى علي ابن قرظة يا حسين!يا كذاب ابن الكذاب!أضللت أخي و غررته حتى قتلته!

قال:إن اللّه لم يضل أخاك و لكنه هدى أخاك و أضلك!قال قتلني اللّه ان لم أقتلك!أو أموت دونك!فحمل عليه فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه،فحمله أصحابه،فاستنقذوه فدوي بعد فبرأ.

مبارزة يزيد بن سفيان و الحر

و روى عن أبي زهير العبسي ان الحر بن يزيد لما لحق بحسين قال يزيد بن سفيان من بني شقرة و هم بنو الحارث بن تميم:اما و اللّه لو اني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لا تبعته السنان قال فبينا الناس يتجاولون و يقتتلون و الحر بن يزيد يحمل على القوم مقدما و يتمثل قول عنترة:

ما زلت أرميهم بثغرة نحره و لبانه حتى تسربل بالدم

و إن فرسه لمضروب على اذنيه و حاجبه و إن دماءه لتسيل،فقال الحصين بن تميم و كان على شرطة عبيد اللّه ليزيد بن سفيان هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى قال:نعم،فخرج إليه،فقال له:هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟!قال:نعم،قد

ص: 149

شئت،فبرز له قال:فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول:و اللّه لبرز له فكأنما كانت نفسه في يده فما لبثه الحر حين خرج إليه ان قتله.

قال:و قاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال خلقه اللّه و أخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم و تقارب بعضها من بعض قال فلما رأى ذلك عمر بن سعد ارسل رجالا يقوضونها عن ايمانهم و عن شمائلهم ليحيطوا بهم قال فأخذ الثلاثة و الأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل و هو يقوض و ينتهب فيقتلونه و يرمونه من قريب و يعقرونه (1).

حرق الخيام

قال:فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال احرقوها بالنار،و لا تدخلوا بيتا و لا تقوضوه،فجاؤوا بالنار فأخذوا يحرقون فقال حسين دعوهم فليحرقوها،فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا ان يجوزوا إليكم منها،و كان ذلك كذلك،و أخذوا لا يقاتلونهم إلاّ من وجه واحد.

قال:و حمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه و نادى:

علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله،قال:فصاح النساء و خرجن من الفسطاط.

قال:و صاح به الحسين يا بن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي!حرقك اللّه بالنار.

و روى عن حميد بن مسلم قال:قلت لشمر بن ذي الجوشن:سبحان اللّه:أن هذا لا يصلح لك،أتريد ان تجمع على نفسك خصلتين تعذب بعذاب اللّه،و تقتل الولدان

ص: 150


1- معالم المدرستين للعسكري:110/3.

و النساء،و اللّه ان في قتلك الرجال لما ترضى به أميرك قال:

فقال:من أنت؟!

قال:قلت:لا أخبرك من أنا.

قال:و خشيت و اللّه أن لو عرفني أن يضرني عند السلطان!

قال:فجاءه رجل كان أطوع له مني شبث بن ربعي،فقال:ما رأيت مقالا أسوأ من قولك،و لا موقفا أقبح من موقفك!أمر عبا للنساء صرت!

قال:فأشهد انه استحيا فذهب لينصرف،و حمل عليه زهير بن القين في رجال من أصحابه عشرة فشد على شمر بن ذي الجوشن و أصحابه فكشفهم عن البيوت، حتى ارتفعوا عنها فصرعوا أبا عزة الضبابي،فقتلوه،فكان من أصحاب شمر، و تعطف الناس عليهم فكثروهم فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل،فإذا قتل منهم الرجل و الرجلان تبين فيهم،و أولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم.

صلاة الخوف

قال:فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد اللّه الصائدي قال للحسين:يا أبا عبد اللّه!نفسي لك الفداء،إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك،و لا و اللّه لا تقتل حتى اقتل دونك إن شاء اللّه،و أحب ان القى ربي و قد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها قال:

فرفع الحسين رأسه،ثم قال:ذكرت الصلاة،جعلك اللّه من المصلين الذاكرين نعم، هذا أول وقتها،ثم قال:سلوهم ان يكفوا عنا حتى نصلي فقال لهم الحصين ابن تميم:انها لا تقبل!

فقال له حبيب بن مظاهر:لا تقبل،زعمت الصلاة من آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و تقبل منك يا حمار!

قال:فحمل عليهم حصين بن تميم،و خرج إليه حبيب بن مظاهر،فضرب وجه

ص: 151

فرسه بالسيف،فشب و وقع عنه،و حمله أصحابه،و استنقذوه (1).

مقتل حبيب بن مظاهر

و حمل حبيب و هو يقول:

أقسم لو كنا لكم أعدادا أو شطركم وليتم أكتادا (2)

يا شر قوم حسبا و آدا

و جعل يقول يومئذ:

أنا حبيب و أبي مظاهر فارس هيجاء و حرب تسعر

أنتم أعد عدة و أكثر و نحن أوفى منكم و أصبر

و نحن أعلى حجة و أظهر حقا و أتقى منكم و أعذر

و قتل قتالا شديدا فحمل عليه رجل من بني تميم فطعنه فوقع فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع و نزل إليه التميمي فاحتز رأسه فقال له الحصين:إني لشريكك في قتله فقال الآخر:و اللّه ما قتله غيري.

فقال الحصين:أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس و يعلموا أني شركت في قتله ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد اللّه بن زياد،فلا حاجة لي في ما تعطاه على قتلك إياه،قال:فأبى عليه فاصلح قومه فيما بينهما على هذا فدفع إليه رأس حبيب ابن مظاهر فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه ثم دفعه إليه بعد ذلك،فلما رجعوا إلى الكوفة،أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه،ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر،فبصر به ابنه القاسم بن حبيب و هو يومئذ قد راهق،

ص: 152


1- معالم المدرستين للعسكري:111/3.
2- أكتادا:أي جماعات.

فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه و إذا خرج خرج معه،فارتاب به فقال:مالك يا بني تتبعني؟

قال:لا شيء.

قال:بلى يا بني أخبرني.

قال له:إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه.

قال:يا بني لا يرضى الأمير أن يدفن،و أنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا،قال له الغلام:لكن اللّه لا يثيبك على ذلك إلا أسوء الثواب أما و اللّه لقد قتلت خيرا منك و بكى فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همه إلاّ اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة فيقتله بأبيه فلما كان زمان مصعب بن الزبير،و غزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب،فإذا قاتل أبيه في فسطاطه،فأقبل يختلف في طلبه و التماس غرته فدخل عليه و هو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد.

و لما قتل حبيب بن مظاهر،هد ذلك حسينا،و قال عند ذلك أحتسب نفسي و حماة أصحابي قال فأخذ الحر يرتجز و يقول:

آليت لا أقتل حتى أقتلا و لن أصاب اليوم إلاّ مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا مقصلا لا ناكلا عنهم و لا مهللا

و أخذ يقول أيضا:

أضرب في أعراضهم بالسيف عن خير من حل منى و الخيف

فقاتل هو و زهير بن القين قتالا شديدا فكان إذا شد أحدهما فإن استلحم شد الآخر حتى يخلصه ففعلا ذلك ساعة ثم إن رجالة شدت على الحر بن يزيد فقتل و قتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوا له،ثم صلوا الظهر صلى بهم الحسين صلاة الخوف.

ص: 153

سعيد الحنفي

ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم و وصل إلى الحسين فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينا و شمالا قائما بين يديه فما زال يرمي حتى سقط.

و ذكر الخوارزمي أنه كان يرتجز و يقول:

أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا و شيخك الخير عليا ذا الندى

و حسنا كالبدر وافى إلاّ سعدا و عمك القرم الهجان الاصيدا

و حمزة ليث الاله الأسدا في جنة الفردوس تعلو صعدا (1)

زهير بن القين

و قاتل زهير بن القين قتالا شديدا و أخذ يقول:

أنا زهير و أنا ابن القين أذودهم بالسيف عن حسين

قال:و أخذ يضرب على منكب حسين و يقول:

أقدم هديت هاديا مهديا فاليوم تلقى جدك النبيا

و حسنا و المرتضى عليا و ذا الجناحين الفتى الكميا

و أسد اللّه الشهيد الحيا

فشد عليه كثير بن عبد اللّه الشعبي و مهاجر بن أوس فقتلاه.

ص: 154


1- مقتل الخوارزمي 20/2.

نافع بن هلال الجملي

قال:و كان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله فجعل يرمي بها مسمومة و هو يقول:أنا الجملي،أنا على دين علي.

و قال الخوارزمي:و كان يرمي و يقول:

أرمي بها معلمة أفواقها و النفس لا ينفعها اشفاقها

مسمومة يجري بها أخفاقها لتملأن أرضها رشاقها

و يقول:

أنا على دين علي ابن هلال الجملي

أضربكم بمنصلي تحت عجاج القسطل (1)

فلم يزل يرميهم حتى فنيت سهامه،ثم ضرب إلى قائم سيفه فاستله،و حمل و هو يقول:

أنا الغلام اليمني الجملي ديني على دين حسين و علي

ان أقتل اليوم فهذا أملي و ذاك رأيي و ألاقي عملي

فقتل ثلاثة عشر رجلا. (2)

قال الطبري:خرج إليه رجل يقال له مزاحم بن حريث فقال:انا على دين عثمان، فقال له:أنت على دين شيطان!ثم حمل عليه فقتله،فصاح عمرو بن الحجاج بالناس:يا حمقى!أتدرون من تقاتلون؟فرسان المصر،قوما مستميتين.

لا يبرزن لهم منكم أحد!فإنهم قليل،و قل ما يبقون،و اللّه لو لم ترموهم إلاّ

ص: 155


1- مقتل الخوارزمي 14/2-15.
2- مقتل الخوارزمي 20/2-21.

بالحجارة لقتلتموهم.

فقال عمر بن سعد:صدقت،الرأي ما رأيت.

و أرسل إلى الناس يعزم عليهم إلاّ يبارز رجل منكم رجلا منهم.

قال و دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين يقول يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم و جماعتكم و لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين و خالف الإمام،فقال له الحسين يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس؟!انحن مرقنا،و أنتم ثبتم عليه؟! أما و اللّه لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم و متم على أعمالكم،أينا مرق من الدين!و من هو أولى بصلي النار!و قال الطبري:فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح.

قال:فضرب حتى كسرت عضداه و أخذ أسيرا.

قال:فأخذه شمر بن ذي الجوشن و معه أصحاب له يسوقون نافعا حتى أوتي به عمر بن سعد،فقال له عمر بن سعد:ويحك يا نافع ما حملك على ما صنعت بنفسك؟

قال:إن ربي يعلم ما أردت.

قال:و الدماء تسيل على لحيته و هو يقول:و اللّه لقد قتلت منكم اثني عشر سوى من جرحت و ما ألوم نفسي على الجهد،و لو بقيت لي عضد و ساعد ما أسرتموني، فقال له شمر:اقتله أصلحك اللّه.

قال:أنت جئت به فإن شئت فاقتله.

قال:فانتضى شمر سيفه.

فقال له نافع:أما و اللّه ان لو كنت من المسلمين لعظم عليك ان تلقى اللّه بدمائنا فالحمد للّه الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه،فقتله.

قال:ثم أقبل شمر يحمل عليهم و هو يقول:

خلوا عداة اللّه خلوا عن شمر يضربهم بسيفه و لا يفر

ص: 156

و هو لكم صاب و سم و مقر

قال:فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا و أنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينا و لا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه.

الغفاريان

فجاءه عبد اللّه و عبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان فقالا:يا أبا عبد اللّه عليك السلام حازنا العدو إليك فاحببنا أن نقتل بين يديك،نمنعك و ندفع عنك،قال:

مرحبا بكما ادنوا منى فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه،أحدهما يقول.

قد علمت حقا بنو غفار و خندف بعد بني نزار

لنضر بن معشر الفجار بكل عضب صارم بتار

يا قوم ذودوا عن بني الأحرار بالمشرفي و القنا الخطار

الجابريان و حنظلة

قال:و جاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع،و مالك بن عبد بن سريع،و هما ابنا عم و أخوان لام فأتيا حسينا فدنوا منه و هما يبكيان،فقال:أي ابني أخي ما يبكيكما فو اللّه إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين،قالا:جعلنا اللّه فداك،لا و اللّه ما على أنفسنا نبكي،و لكنا نبكي عليك،نراك قد أحيط بك،و لا نقدر على أن نمنعك،فقال:جزاكما اللّه يا ابني أخي بوجدكما من ذلك و مواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين.

قال:و جاء حنظلة بن أسعد الشامي فقام بين يدي الحسين فأخذ ينادي يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب،مثل دأب قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من

ص: 157

بعدهم و ما اللّه يريد ظلما للعباد،و يا قوم أني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم،و من يضلل اللّه فما له من هاد،يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم اللّه بعذاب و قد خاب من افترى،فقال له حسين:يا ابن أسعد رحمك اللّه أنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، و نهضوا إليك ليستبيحوك و أصحابك،فكيف بهم الان و قد قتلوا اخوانك الصالحين،قال:صدقت جعلت فداك،أنت أفقه مني و أحق بذلك أفلا نروح إلى الآخرة و نلحق باخواننا،فقال:رح إلى خير من الدنيا و ما فيها،و الى ملك لا يبلى.

فقال:السلام عليك يا أبا عبد اللّه،صلى اللّه عليك،و على أهل بيتك،و عرف بيننا و بينك في جنته،فقال:آمين آمين،فاستقدم فقاتل حتى قتل.

ثم استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إلى الحسين و يقولان:السلام عليك يا ابن رسول اللّه.

فقال:عليكما السلام و رحمة اللّه،فقاتلا حتى قتلا.

عابس بن أبي شبيب و شوذب:قال و جاء عابس بن أبي شبيب الشاكري و معه شوذب مولى شاكر.

فقال:يا شوذب ما في نفسك أن تصنع،قال:ما أصنع أقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله حتى أقتل،قال:ذلك الظن بك أملا،فتقدم بين يدي أبي عبد اللّه حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه و حتى أحتسبك أنا،فإنه لو كان معي الساعة أحد أولى به مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الاجر فيه بكل ما قدرنا عليه،فإنه لا عمل بعد اليوم،و إنما هو الحساب.

قال:فتقدم فسلم على الحسين ثم مضى فقاتل حتى قتل،ثم قال عابس بن أبي شبيب:يا أبا عبد اللّه أما و اللّه ما أمسى على ظهر الأرض قريب و لا بعيد أعز علي و لا أحب إلي منك،و لو قدرت على أن أدفع عنك الضيم و القتل بشيء أعز علي من نفسي

ص: 158

و دمي لفعلته،السلام عليك يا أبا عبد اللّه،أشهد اللّه أني علي هديك و هدي أبيك ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم و به ضربة على جبينه.

و روى عن ربيع بن تميم الهمداني و قد شهد ذلك اليوم قال:لما رأيته مقبلا عرفته و قد شاهدته في المغازي و كان أشجع الناس فقلت:أيها الناس هذا الأسد الأسود،هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم فأخذ ينادي ألا رجل لرجل.

فقال عمر بن سعد:ارضخوه بالحجارة.

قال:فرمي بالحجارة من كل جانب،فلما رآى ذلك ألقى درعه و مغفره ثم شد على الناس فو اللّه لرأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتل،قال:رأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة،هذا يقول:أنا قتلته،و هذا يقول:أنا قتلته،فأتوا عمر بن سعد،فقال:لا تختصموا،هذا لم يقتله سنان واحد ففرق بينهم.

فرار الضحاك المشرقي

و روى عن عبد اللّه المشرقي،قال:لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا و قد خلص إليه و الى أهل بيته و لم يبق معه غير سويد بن أبي عمر،و ابن أبي المطاع الخثعمي و بشير بن عمرو الحضرمي.

قلت له:يا ابن رسول اللّه!قد علمت ما كان بيني و بينك،قلت لك:أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا فإذا لم أر مقاتلا فانا في حل من الانصراف،فقلت لي:نعم.

قال:فقال:صدقت و كيف لك بالنجاء ان قدرت على ذلك فأنت في حل قال:

فأقبلت إلى فرسي و قد كنت حبث رأيت خيل أصحابنا تعقر أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطا لأصحابنا بين البيوت و أقبلت أقاتل معهم راجلا فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين و قطعت يد آخر.

ص: 159

و قال لي الحسين عليه السّلام:يومئذ مرارا لا تشلل لا يقطع اللّه يدك جزاك اللّه خيرا عن أهل بيت نبيك صلّى اللّه عليه و اله فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط ثم استويت على متنها ثم ضربتها حتى إذا قامت على السنابك رميت بها عرض القوم فأفر جوالي و أتبعني منهم خمسة عشر رجلا حتى انتهيت إلى شفية،قرية قريبة من شاطئ الفرات فلما لحقوني عطفت عليهم فعرفني كثير بن عبد اللّه الشعبي و أيوب بن مشرح الخيواني و قيس بن عبد اللّه الصائدي و قالوا:هذا الضحاك بن عبد اللّه المشرقي،هذا ابن عمنا ننشدكم اللّه لما كففتم عنه فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم:بلى و اللّه لنجيبن اخواننا و أهل دعوتنا إلى ما أحبوا من الكف عن صاحبهم، قال:فلما تابع التميميون أصحابي كف الآخرون قال:فنجاني اللّه.

قال الطبري:و كان آخر من بقي مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي.

قال المؤلف:إلى هنا أوردنا أخبار تاريخ الطبري في مقتل أصحاب الحسين دون أن نلتزم بسياقه في ترتيب ذكر الحوادث لما يظهر منه عدم الاكتراث بذكر الحوادث كما وقعت و لم يكن ترتيبنا أيضا بنتيجة البحث العلمي في غير أخبار الطبري و إنما لاحظنا القرائن الدالة في أخباره على الترتيب الذي أوردناه و صرحنا بمصادر الاخبار التي أضفناها إلى أخباره،و بما أن الطبري لم يستوعب في تاريخه جميع أخبار أصحاب الحسين و كان في بعضها مزيد ايضاح لما نحن بصدده من درك سبب استشهاد الحسين نورد يسيرا منها في ما يلي (1).3.

ص: 160


1- معالم المدرستين للعسكري:117/3.

شهداء آخرون

عمرو بن خالد

قال الخوارزمي:و برز عمرو بن خالد الأزدي و هو يقول:

اليوم يا نفس إلى الرحمن تمضين بالروح و بالريحان

اليوم تجزين على الاحسان قد كان منك غابر الأزمان

ما خط باللوح لدى الديان فاليوم زال ذاك؟الغفران

لا تجزعي فكل حي فإن و الصبر أحظى لك بالأمان

فقاتل حتى قتل.

سعد بن حنظلة

ثم خرج من بعده سعد بن حنظلة التميمي و هو يقول:

صبرا على الأسياف و الاسنه صبرا عليها لدخول الجنة

و حور عين ناعمات هنه لمن يريد الفوز لا بالظنه

يا نفس للراحة فاطرحنه و في طلاب الخير فأرغبنه

ثم حمل فقاتل قتالا شديدا فقتل (1).

ص: 161


1- مقتل الخوارزمي 14/2.

و قال في البحار:و خرج إليهم حنظلة فنادى:يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم اللّه بعذاب و قد خاب من افترى،ثمّ قال للحسين عليه السّلام:ألا نروح إلى ربّنا فنلحق بإخواننا؟

فقال:رح إلى ما هو خير لك،فسلّم على الحسين عليه السّلام ثمّ قاتل حتّى قتل.

عبد الرحمن بن عبد اللّه اليزني

قال:ثم خرج عبد الرحمن بن عبد اللّه اليزني و هو يقول:

انا ابن عبد اللّه من آل يزن ديني على دين حسين و حسن

أضربكم ضرب فتى من اليمن أرجو بذاك الفوز عند المؤتمن

ثم حمل فقاتل حتى قتل.

قرة بن أبي قرة

ثم خرج قرة بن أبي قرة الغفاري و هو يقول:

قد علمت حقا بنو غفار و خندف بعد بني نزار

بأنني الليث الهزبر الضاري لأضربن معشر الفجار

بحد عضب ذكر بتار يشع لي في ظلمة الغبار

دون الهداة السادة الأبرار رهط النبي احمد المختار

ثم حمل فقاتل حتى قتل.

عمر بن مطاع

و برز عمر بن مطاع الجعفي و هو يقول:

ص: 162

انا ابن جعفي و أبي مطاع و في يميني مرهف قطاع

و اسمر سنانه لماع يرى له من ضوئه شعاع

قد طاب لي في يومى القراع دون حسين و له الدفاع

ثم حمل فقاتل حتى قتل (1).

جون مولى أبي ذر

في مثير الأحزان و اللهوف:ثم تقدم جون مولى أبي ذر و كان عبدا اسود فقال له:أنت في اذن مني فإنما تبعتنا طلبا للعافية فلا تبتل بطريقنا.

فقال:يا ابن رسول اللّه انا في الرخاء الحس قصاعكم و في الشدة أخذلكم؟و اللّه ان ريحي لنتن،و حسبي للئيم و لوني لاسود فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي و يشرف حسبي و يبيض وجهي،لا و اللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم،ثم قاتل حتى قتل (2).

و في مقتل الخوارزمي:فجعل يقول و هو يحمل عليهم:

كيف يرى الفجار ضرب الأسود بالمشرفي القطاع المهند

احمي الخيار من بني محمد أذب عنهم باللسان و اليد

أرجو بذاك الفوز عند المورد من الاله الواحد الموحد (3)

فقتل خمسة و عشرين و قتل،فوقف عليه الحسين،و قال:اللهم بيض وجهه و طيب ريحه و احشره مع محمد صلّى اللّه عليه و اله و عرف بينه و بين آل محمد (4).

ص: 163


1- مقتل الخوارزمي17/2-18..
2- مثير الأحزان 47 و اللهوف 41.
3- مقتل الخوارزمي /2.
4- راجع مقتل العوالم ص 88.

أنيس بن معقل

و في مقتل الخوارزمي:ثم خرج من بعده أنيس بن معقل الأصبحي،فجعل يقول:

انا أنيس و انا ابن معقل و في يميني نصل سيف فيصل

أعلو به الهامات بين القسطل حتى أزيل خطبه فينجلي

عن الحسين الفاضل المفضل ابن رسول اللّه خير مرسل

الحجاج بن مسروق

قال:و برز الحجاج بن مسروق و هو مؤذن الحسين عليه السّلام فجعل يقول:

أقدم حسين هاديا مهديا اليوم نلقى جدك النبيا

ثم أباك ذا العلا عليا و الحسن الخير الرضا الوليا

و ذا الجناحين الفتى الكميا و أسد اللّه الشهيد الحيا

ثم حمل فقاتل حتى قتل.

جنادة بن الحرث

قال:و برز جنادة بن الحرث الأنصاري و هو يقول:

انا جنادة انا ابن الحارث لست بخوار و لا بناكث عن بيعتي

حتى يقوم و ارثي من فوق شلو في الصعيد ماكث

فحمل و لم يزل يقاتل حتى قتل.

ص: 164

عمرو بن جنادة

ثم خرج من بعده عمرو بن جنادة و هو ينشد و يقول:

اضق الخناق من ابن هند و ارمه في عقره بفوارس الأنصار

و مهاجرين مخضبين رماحهم تحت العجاجة من دم الكفار

خضبت على عهد النبي محمد فاليوم تخضب من دم الفجار

و اليوم تخضب من دماء معاشر رفضوا القران لنصرة الأشرار

طلبوا بثأرهم ببدر و انثنوا بالمرهفات و بالقنا الخطار

و اللّه ربي لا أزال مضاربا للفاسقين بمرهف بتار

هذا علي اليوم حق واجب في كل يوم تعانق و حوار

ثم حمل فقاتل حتى قتل.

غلام يتيم

ثم خرج من بعده شاب قتل أبوه في المعركة،و كانت أمه عنده،فقالت:يا بني اخرج فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه حتى تقتل.

فقال:افعل،فخرج،فقال الحسين عليه السّلام:هذا شاب قتل أبوه و لعل أمه تكره خروجه.

فقال الشاب:أمي أمرتني يا ابن رسول اللّه.

فخرج و هو يقول:

أميري حسين و نعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير

علي و فاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير

ص: 165

ثم قاتل فقتل و حز رأسه و رمي به إلى عسكر الحسين،فأخذت أمه رأسه و قالت له:أحسنت يا بني!يا قرة عيني!و سرور قلبي!

ثم رمت برأس ابنها رجلا فقتلته و اخذت عمود خيمة و حملت على القوم و هي تقول:

انا عجوز في النساء ضعيفة بالية خالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة دون بني فاطمة الشريفة

فضربت رجلين فقتلتهما فأمر الحسين عليه السّلام بصرفها و دعا لها (1).

قال الخوارزمي:و كان يأتي الحسين الرجل بعد الرجل،فيقول:السلام عليك يا ابن رسول اللّه فيجيبه الحسين:و عليك السلام و نحن خلفك،و يقرأ:فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا،ثم يحمل فيقتل!هكذا استمر القتال حتى قتلوا عن آخرهم (2). (3)1.

ص: 166


1- مقتل الخوارزمي 19/2-22.
2- مقتل الخوارزمي 25/2.
3- معالم المدرستين للعسكري:103/3-121.

فضل شهداء الحسين و علة عدم مبالاتهم بالقتل

الطالقان،عن الجلودي،عن الجوهري،عن ابن عمارة عن أبيه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قلت له:أخبرني عن أصحاب الحسين و إقدامهم على الموت،فقال:

إنهم كشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها و إلى مكانه من الجنة (1).

المفسر،عن أحمد بن الحسن الحسيني،عن الحسن بن علي الناصري،عن أبيه،عن أبي جعفر الثاني،عن آبائه عليهم السلام قال:قال علي بن الحسين عليه السّلام، لما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم،لانهم كلما اشتد الأمر تغيرت ألوانهم،و إرتعدت فرائصهم و وجلت قلوبهم،و كان الحسين عليه السّلام و بعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم و تهدئ جوارحهم،و تسكن نفوسهم.

فقال بعضهم لبعض:انظروا لا يبالي بالموت،فقال لهم الحسين عليه السّلام:صبرا بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضراء إلى الجنان الواسعة و النعيم الدائمة،فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟،و ما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن و عذاب.

إن أبي حدثني،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أن الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر و الموت

ص: 167


1- علل الشرائع ج 1 ص 218 باب 163 الرقم:1،و بحار الأنوار:294/40-302 ح 1.

جسر هؤلاء إلى جنانهم،و جسر هؤلاء إلى جحيمهم،ما كذبت و لا كذبت (1).

عن سعد،عن ابن عيسى،عن الاهوازي،عن النصر،عن عاصم بن حميد،عن الثمالي قال:قال علي بن الحسين عليه السّلام:كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها، فقال لأصحابه:هذا الليل فاتخذوه جنة فإن القوم إنما يريدونني،و لو قتلوني لم يلتفتوا إليكم و أنتم في حل وسعة.

فقالوا:و اللّه لا يكون هذا أبدا فقال:إنكم تقتلون غدا كلكم و لا يفلت منكم رجل، قالوا:الحمد للّه الذي شرفنا بالقتل معك.

ثم دعا فقال لهم:ارفعوا رؤسكم و انظروا،فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم و منازلهم من الجنة،و هو يقول لهم:هذا منزلك يا فلان،فكان الرجل يستقبل الرماح و السيوف بصدره و وجهه ليصل إلى منزلته من الجنة (2).

الهمداني،عن علي بن إبراهيم،عن اليقطيني،عن يونس[ابن عبد الرحمن]،عن ابن أسباط،عن علي بن سالم،عن أبيه،عن[ثابت ابن أبي صفية]الثمالي قال:نظر علي بن الحسين سيد العابدين إلى عبيد اللّه ابن العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فاستعبر.

ثم قال:ما من يوم أشد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله من يوم أحد،قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه و أسد رسوله،و بعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب.

ثم قال عليه السّلام:و لا يوم كيوم الحسين،ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الامة كل يتقرب إلى اللّه عز و جل بدمه و هو باللّه يذكرهم فلا يتعظون،حتى قتلوه بغيا و ظلما و عدوانا.ثم قال عليه السّلام:رحم اللّه العباس فلقد آثر و أبلى و فدى أخاه3.

ص: 168


1- معاني الأخبار ص 288 باب معنى الموت،و بحار الأنوار:294/40-302 ح 2.
2- بحار الأنوار:294/40-302 ح 3.

بنفسه حتى قطعت يداه،فأبدل اللّه عز و جل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب عليه السّلام و إن للعباس عند اللّه عز و جل منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة (1).

محمد بن جعفر،عن ابن أبي الخطاب،عن محمد بن إسماعيل،عمن حدثه،عن علي بن حمزة،عن الحسين بن أبي العلا و أبي المغرا و عاصم بن حميد جميعا،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:ما من شهيد إلا و هو يحب لو أن الحسين بن علي عليهما السّلام حي حتى يدخلون الجنة معه (2).1.

ص: 169


1- بحار الأنوار:294/40-302 ح 4،و أمالي الصدوق:المجلس 70 الرقم 10.
2- أي حتى ينصرونه و يقتلون معه فيدخلون الجنة،و فى بعض النسخ كما في المصدر إلاّ و يحب أن يكون مع الحسين عليه الصلاة و السلام حتى يدخلون الجنة معه راجع كامل الزيارات ص 111.

شهداء كربلاء و الاختيار الواعي

قال الإمام الخميني (1):كلما اقترب الإمام الحسين(سلام اللّه عليه)من الشهادة في يوم عاشوراء كان وجهه يزداد تألقا(قال الإمام السجاد عليه السلام:"و لما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم لأنهم كلما أشتد الأمر تغيرت ألوانهم و ارتعت فرائصهم و وجلت قلوبهم و كان الحسين عليه السّلام و بعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم و تهدئ جوارحهم و تسكن نفوسهم"راجع:بحار الأنوار:ج 44 ص 297 و معاني الأخبار:ص 288.)، و كان أصحابه يزدادون تلهفا للاستشهاد،كان الجميع يعلمون أنهم مستشهدون بأجمعهم عما قريب،بل بعد سويعات ليس غير.

كانوا يتسابقون إلى الشهادة لأنهم كانوا يعون إلى ما هم منقلبون و يدركون إلى ماذا يستهدفون من المجي،و يعلمون أنهم أتوا لأداء واجب الهي،و لصيانة الإسلام.

إنكم تجدون في بعض الروايات أنه كلما اقترب ظهر يوم عاشوراء ازداد وجه الحسين بن علي(سلام اللّه عليه)تألقا و نورا،لأنه كان يرى أنه يجاهد في سبيل اللّه، لذا فهو لم يعدّ فقدانه لأعزته خسارة،بل يعتبرهم ذخائر لعالم البقاء و الخلود.

ورد في الروايات أن الحسين عليه السّلام رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في المنام،فقال له إن في

ص: 170


1- في كتابه نهضة عاشوراء.

الجنة درجات لا تنالها إلاّ بالشهادة. (1)

في تلك الظروف العصيبة سأل علي بن الحسين(سلام اللّه عليه)أباه-و هذا ما يذكره الخطباء و أهل المنبر تدليلا على أن ما وقع كان مقدّرا-قال:أولسنا على الحق؟فأجابه الإمام عليه السّلام:بلى،فقال علي بن الحسين:إذن لا نبالي بالموت أوقع علينا أم وقعنا عليه.ما دمنا على الحق. (2)

عندما حل ظهر يوم عاشوراء-و كانت رحى الحرب دائرة و الخطر محدق بالجميع-قال أحد أصحاب الحسين عليه السّلام للإمام:ها قد حلّ وقت الصلاة،فقال له الإمام(سلام اللّه عليه):ذكرت الصلاة،جعلك اللّه من المصلين الذاكرين.ثم وقف في مكانه و صلى (3).

لم يجبه بالقول:و هل هذا وقت صلاة فنحن نخوض غمار حرب طاحنة دامية، بل إنه رحب بذلك و بادر إلى الصلاة لأنها كانت هي هدفه من تلك الحرب.

خذوا رضا اللّه وحده بنظر الاعتبار-دائما-و اعلموا أنكم عباد اللّه و عليكم أن ترضوا بقضائه كيفما كان،كما كان عباد اللّه الخلص و أولياء اللّه العظام...

ص: 171


1- قبل أن يخرج الإمام الحسين عليه السّلام من المدينة و بعد أن زار قبر جده رسول اللّه الأكرم صلّى اللّه عليه و اله أخذته غفوة عند القبر الشريف قال عليه السلام في هذه اللحظات:"فجاءه و النبي و هو في منامه فأخذ الحسين و ضمه إلى صدره و جعل يقبل بين عينيه و يقول:بأبي أنت كأني أراك مرملا بدمك بين عصابة من هذه الأمة يرجون شفاعتي ما لهم عند اللّه من خلاق.يا بني إنك قادم على أبيك و أمك و أخيك و هم مشتاقون إليك و إن في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة.
2- انظر تاريخ الطبري ج 4 ص 308.
3- عندما شاهد أبو تمامة الصائدي أصحاب الإمام الحسين عليهم السلام و هم يستشهدون الواحد تلو الآخر قال له:يا أبا عبد اللّه روحي لك الفدا أرى جيش العدو يقترب منكم.و أقسم أنك لن تقتل قبل أن أقتل أنا إن شاء اللّه كما أحب أن أصلي قبل أن أذهب إلى جوار اللّه..أما الحسين عليه السّلام فقد رفع رأسه إلى السماء:"ذكرت الصلاة جعلك اللّه من المصلين الذاكرين نعم هذا أول وقتها.ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي"راجع تاريخ الطبري ج 4 ص 334..

فالروايات تقول بأن وجه الحسين عليه السّلام كان يزداد تألقا كلما اقترب ظهر يوم عاشوراء بالرغم من استشهاد أصحابه و أهل بيته الواحد تلو الآخر،لأنّه كان يرى بأنّه يزداد قربا من غايته و هدفه.

إن الشبان الأشاوس و المقاتلين الشجعان في الجيش و الحرس و سائر القوات المسلحة هم أتباع شهيد خالد يقول عنه التاريخ أنه كان كلما استشهد واحد من أهل بيته و أنصاره تألق وجهه و ازدادت فيه علائم الشجاعة و سمات العزيمة.

ص: 172

فهرس الموضوعات

بداية الحرب

زحف الكوفة للحرب 3

انتخاب ابن سعد قائدا عاما 3

أخبار النبي بسوء عاقبته 4

كراهية سعد له 4

لعن الرشيد له 4

توثيق العجلي لابن سعد 6

نزعات ابن سعد 7

أ-الخنوع للسلطة 7

ب-التهالك على السلطة 7

ج-خسة الطبع 8

د-الجبن 8

ه الشك في البعث و النشور 9

دوافع انتخابه 9

حيرة ابن سعد 10

العاذلون له 10

الاستعراض العسكري 12

ص: 173

خطبة ابن مرجانة 12

تحريض سمرة لحرب الإمام 13

تمارض شبث بن ربعي 13

النفير العام 14

الرقابة الدقيقة على الكوفة 14

هرب الجنود 15

الطاغية في النخيلة 15

محاولة لاغتيال ابن زياد 16

عدد الجيش الأموي 17

التحقيق في الموضوع 17

القادة العسكريون 20

أدوات الحرب 21

1-الرماة 21

2-الجوالة 21

3-المجففة 22

عدد أصحاب الحسين عليه السلام 23

رسول ابن سعد مع الإمام 24

ابن سعد مع الإمام 25

رسالة ابن سعد لابن زياد 25

افتراء ابن سعد 26

إفساد الشمر لمهمة السلام 27

رفض ابن زياد الحلول السلمية 28

الإمام مع ابن سعد 30

ص: 174

أمان الشمر لأخوة العباس 31

منع الامدادات 31

احتلال الفرات 32

الطباع اللئيمة 34

1-المهاجر بن أوس 34

2-عمرو بن الحجاج 34

3-عبد الله بن حصين 35

الإنكار على ابن سعد 36

1-يزيد بن حصين 36

2-برير بن خضير 36

3-الحر 37

العثور على عين ماء 38

القتال على الماء 38

استنجاد حبيب بأسرته 40

مع المعسكرين 41

المعسكر الحسيني 41

عناصر جيش الإمام الحسين عليه السلام 42

1-الموالي 42

العرب 43

المعسكر الأموي 44

1-فقدان الإرادة 44

2-القلق و الحيرة 44

3-الفسق 46

ص: 175

عناصر الجيش 46

1-الانتهازيون 46

2-المرتزقة 47

3-الممسوخون 47

4-المكرهون 48

5-الخوارج 48

المأساة الخالدة 49

زحف الجيش 50

تأجيل الحرب إلى الصبح 53

استمهال الحسين عنهم 53

أحداث ليلة العاشر من محرم 55

خطبة الحسين عليه السلام في أصحابه ليلة العاشر 58

الإمام يأذن لأصحابه بالتفرق 58

جواب أهل بيته 59

جواب أصحابه 60

2-سعيد بن عبد الله 61

3-زهير بن القين 61

رواية أخرى 62

الحسين عليه السلام ينعى نفسه و يوصي أخته بالصبر 64

رواية أخرى في المقام 65

إحياء أهل البيت و الأصحاب الليل بالعبادة 67

الإمام يكشف مكيدة أهل الكوفة 68

مع محمد بن بشير 68

ص: 176

انهزام فراس المخزومي 69

الإمام لا يأذن بالشهادة لمن كان عليه دين 70

التخطيط العسكري ليلة العاشر 71

استبشار أصحاب الإمام 72

سخرية الشمر بالإمام 73

رؤيا الإمام الحسين عليه السلام 73

فزع عقائل الوحي 74

تطيب الإمام و حنوطه 75

أحداث يوم عاشوراء من المحرم 76

دعاء الإمام 76

إشعال النار في الخندق 77

هرير الممسوخين 77

1-شمر بن ذي الجوشن 78

2-محمد بن الأشعث 78

3-عبد الله بن حوزة 78

التعبئة العامة في المعسكرين 80

الاحتجاجات الصارمة 80

خطبة الإمام 81

خطبة الإمام الحسين في كربلاء 85

خطاب زهير 90

خطاب برير 92

خطاب الإمام الحسين عليه السلام 94

إستجابة الحر 97

ص: 177

خطاب الحر للجيش 99

التحاق ثلاثين فارسا بالإمام 100

الحرب 100

مقتل أصحاب الإمام الحسين عليهم السلام 102

الهجوم العام 102

عدد الضحايا من أصحاب الإمام 103

المبارزة بين المعسكرين 103

هجوم فاشل 105

مباهلة برير ليزيد 105

مصرع برير 106

شهادة عمرو الأنصاري 107

رفض الجيش الأموي للمبارزة 109

هجوم عمرو بن الحجاج 110

مصرع مسلم بن عوسجة 110

هجوم الشمر 112

مصرع عبد الله الكلبي 112

استنجاد عروة 113

فتح جبهة ثانية 114

محاولة الشمر لإحراق حرائر الوحي 116

إنكار حميد بن مسلم 116

وقت الظهيرة من نهار يوم العاشر 118

مصرع حبيب 119

مصرع الحر 120

ص: 178

أداء فريضة الصلاة 122

مصرع زهير 124

مصرع نافع بن هلال 125

عابس مع شوذب 127

مصرع عابس الشاكري 127

و صاح ابن سعد بجيشه 128

هزيمة الضحاك 129

شهادة جون 130

مصرع الحجاج 133

مصرع عمرو بن جنادة 133

مصرع أنس الكاهلي 134

مصرع أبي الشعثاء 135

مصرع الجابريين 135

مصرع الغفاريين 136

مصرع الأنصاريين 136

شهادة أنيس 136

مصرع قرة الغفاري 137

مصرع يحيى المازني 137

الإمام مع أصحابه 138

شهادة عبد الله اليزني 138

الإمام مع الشهداء 139

مصرع سويد 139

روايات أخرى لمقتل الأصحاب 141

ص: 179

زحف جيش الخلافة على معسكر الحسين عليه السلام 141

زحف الميمنة و استمداد قائد الفرسان 143

زحف الميسرة و مقتل الكلبي و زوجته 144

زحف الميمنة و مقتل مسلم بن عوسجة 145

يزيد بن زياد يرمى بين يدي الحسين عليه السلام 146

أربعة استشهدوا في مكان واحد 146

مقتل برير 147

عمرو بن قرظة الأنصاري 149

مبارزة يزيد بن سفيان و الحر 149

حرق الخيام 150

صلاة الخوف 151

مقتل حبيب بن مظاهر 152

سعيد الحنفي 154

زهير بن القين 154

نافع بن هلال الجملي 155

الغفاريان 157

الجابريان و حنظلة 157

فرار الضحاك المشرقي 159

شهداء آخرون 161

عمرو بن خالد 161

سعد بن حنظلة 161

عبد الرحمن بن عبد اللّه اليزني 162

قرة بن أبي قرة 162

ص: 180

عمر بن مطاع 162

جون مولى أبي ذر 163

أنيس بن معقل 164

الحجاج بن مسروق 164

جنادة بن الحرث 164

عمرو بن جنادة 165

غلام يتيم 165

فضل شهداء الحسين و علة عدم مبالاتهم بالقتل 167

شهداء كربلاء و الاختيار الواعي 170

الفهرس 173

ص: 181

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.