الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام المجلد 11

اشارة

الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام

نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي

مکان نشر: لبنان - بيروت

سال نشر: 2009م , 1430ق

چاپ:1

موضوع:اسلام، تاریخ

زبان :عربی

تعداد جلد: 20

کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

[الجزء الحادي عشر(التخطيط لثورة عاشوراء)]

التخطيط للثورة الكبرى

حال المسلمين في عصر الإمام الحسين عليه السلام

قال السيد مرتضى العسكري:كان المسلمون في عاصمتي الإسلام مكة و المدينة و عاصمتي الخلافة الكوفة و الشام يرون التمسك بالدين في طاعة الخليفة مهما كانت صفاته و في كل ما يأمر،و يرون في الخروج عليه شقا لعصا المسلمين و مروقا من الدين،هذه كانت حالتهم و فيهم بقية ممن رأى رسول اللّه و سمع حديثه و فيهم التابعون باحسان و فيهم علية المسلمين.

و بالقياس إلى هؤلاء،كيف كانت حال المسلمين في سائر الحواضر الإسلامية و بلاده النائية مثل من كان في أقاصي أفريقيا و إيران و الجزيرة العربية ممن لم يروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و لم يصاحبوا أهل بيته أو خريجي مدرسته،أولئك المسلمين الذين كانوا يعرفون الإسلام من خلال ما يرونه في عاصمة الخلافة و بلاط الخليفة خاصة و يمثل الإسلام في عرفهم الخليفة و سيرته!و ما أدراك ما الخليفة و ما سيرته!

الخليفة الذي لا يردعه رادع من دين عن نيل ما يشتهيه!الخليفة الذي يشرب الخمر،و يترك الصلاة!و يضرب بالطنابير و يعزف عنده القيان و يلعب بالكلاب و يسمر عنده الخراب و الفتيان.

ص: 3

الخليفة الذي ينكح أمهات الأولاد و البنات و الأخوات (1).

الخليفة الذي يأمر بقتل سبط الرسول و يسبي بناته و يبيح حرم الرسول و يرمي الكعبة بالمنجنيق و ينشد:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل (2)

هذا هو الإسلام الذي كانوا يجدونه لدى خليفة اللّه و خليفة رسوله (3).

و كان يقال للمسلمين في كل مكان ان التمسك بالدين في طاعة هذا الخليفة.

إذا فقد تبيّن أن المشكلة يوم ذاك لم تكن مشكلة تسلط الحاكم الجائر كي يعالج بتبديله بحاكم عادل،بل كانت مشكلة ضياع الأحكام الإسلامية،و تدين المسلمين بطاعة الخليفة مهما كانت أوامره و رؤيتهم لمقام الخلافة و مع هذه الحالة كان العلاج منحصرا بتغيير رؤية المسلمين هذه و عقيدتهم تلك كي يتيسر بعد ذلك إعادة الاحكام الإسلامية من جديد و كان الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن ينهض بعبء هذا التغيير هو الإمام الحسين عليه السّلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و مقامه منه،و لما ورد في حقه من الآيات و الأحاديث.

كان على هذا الإنسان مع تلك الميزات أن يختار يومئذ أحد أمرين لا ثالث لهما.

إما أن يبايع يزيدا و يحظى بعيش رغيد في الدنيا مع بقاء حب المسلمين و احترام كافة الناس إياه و هو يعلم أن بيعته أولا-إقرار منه ليزيد على كل فجوره و كفره و تظاهره بهما!و ثانيا-إقرار منه للمسلمين في ما يعتقدونه في أمثال يزيد ممن3.

ص: 4


1- هكذا وصفه أماثل أهل المدينة الذين وفدوا إليه و شاهدوه من قريب مع أنه برهم و أكرمهم.
2- ذكرنا مصادر هذه الأخبار في ما سبق من هذا الكتاب.
3- كانت عصبة الخلافة تسمي الخليفة بخليفة اللّه كما مر الإشارة إليه،و قد قال مروان بن أبي حفصة في وصف دفاع معن عن المنصور يوم الهاشمية: ما زلت يوم الهاشمية معنا بالسيف دون خليفة الرحمن مروج الذهب 286/3.

تربع على دست الخلافة بالبيعة بأنهم الممثلون الشرعيون للّه و رسوله و أن طاعتهم واجبة على كل حال و في كل ما يأمرون!و في الإقرارين قضاء على شريعة جده سيد المرسلين،و تؤول شريعته بعد ذاك مآل شريعة موسى و عيسى و شرائع سائر النبيين و بذلك كان سبط رسول اللّه يحمل آثام أهل عصره و آثام من جاء بعدهم إلى يوم القيامة فإنه لم يكن قد بقي من الرسول سبط غير الحسين و لم يمهد لأحد ما مهد له كما ذكرنا،و لم يكن يأتي بعده من يصبح له شأن عند المسلمين كشأن الإمام الحسين عليه السّلام.

إذن فهو الإنسان الوحيد الذي أنيطت به تلك المهمة الخطيرة مدى الدهر و عليه أن يختار أحد أمرين إما أن يبايع أو ينكر على يزيد أعماله و على المسلمين كافة إقرارهم أعمال يزيد،و بذلك يغير ما كانوا عليه و يمكن الأئمة من بعده أن يقوموا بإحياء ما اندرس من شريعة جده و هذا ما اختاره الإمام الحسين عليه السّلام و استهدفه في قيامه و اتخذه شعارا لنفسه و سلك سبيلا يوصله إليه كما نبينه في ما يأتي من أبحاث (1).1.

ص: 5


1- معالم المدرستين للعسكري:299/3-301.

الإمام الحسين مع أخيه محمد بن الحنفية

في اللهوف:سار محمد بن الحنفية إلى الحسين عليه السّلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكة،فقال:يا أخي ان أهل الكوفة من عرفت غدرهم بأبيك و أخيك و قد خفت أن يكون حالك كحال من مضى،فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم و أمنعه.

فقال:يا أخي خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم،فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت (1).

وصية الحسين عليه السلام

بسم اللّه الرحمن الرحيم-هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية ان الحسين يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله،جاء بالحق من عند الحق،و أن الجنة و النار حق،و أن الساعة آتية لا ريب فيها،و أن اللّه يبعث من في القبور،و اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلّى اللّه عليه و اله،أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر،و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب فمن

ص: 6


1- في فتوح أعثم 34/5،مقتل الخوارزمي 188/1 و بعد سيرة جدي و أبي،أضافت يد التحريف «و سيرة الخلفاء الراشدين المهديين رضي اللّه عنهم»و ان الراشدين اصطلاح تأخر استعماله عن عصر الخلافة الأموية و لم يرد في نص ثبت وجوده قبل ذلك و يقصد بالراشدين الذين أتوا إلى الحكم بعد رسول اللّه متواليا من ضمنهم الإمام علي،فلا يصح ان يعطف الراشدين على اسم الإمام،كل هذا يدلنا على أن الجملة أدخلت في لفظ الإمام الحسين.

قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق و من رد على هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين و هذه وصيتي يا أخي إليك و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت و اليه أنيب.ثم طوى الحسين الكتاب و ختمه بخاتمه و دفعه إلى أخيه محمد ثم ودعه و خرج في جوف الليل (1).ن.

ص: 7


1- في فتوح أعثم 34/5،مقتل الخوارزمي 188/1 و بعد سيرة جدي و أبي،أضافت يد التحريف «و سيرة الخلفاء الراشدين المهديين رضي اللّه عنهم»و ان الراشدين اصطلاح تأخر استعماله عن عصر الخلافة الأموية و لم يرد في نص ثبت وجوده قبل ذلك و يقصد بالراشدين الذين أتوا إلى الحكم بعد رسول اللّه متواليا من ضمنهم الإمام علي،فلا يصح ان يعطف الراشدين على اسم الإمام،كل هذا يدلنا على أن الجملة أدخلت في لفظ الإمام الحسين.

سبب تخلّف محمّد ابن الحنفية عن الإمام الحسين عليه السلام

قيل في أسباب تخلّف محمّد بن عليّ عليه السّلام وجوه:

منها:إنّ الحسين عليه السّلام لمّا خرج من المدينة لحقه محمّد و أشار عليه أن يقيم إمّا بمكّة أو يسير إلى اليمن،و أبى الإمام عليه السّلام إلاّ المسير إلى العراق ثمّ قال لمحمّد:و أمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عنّي شيئا من امورهم ثمّ دعا بدواة و بياض و كتب وصيّته و جعل محمّدا الوصيّ (1).فيكون تخلّف محمّد بأمر الإمام الحسين عليه السّلام.

على أنّ من جملة المصالح في تخلّفه بالمدينة بأن يكون مرجعا لبني هاشم كيلا يضاموا بعد خروج الحسين عليه السّلام.

و منها:ما روي أنّه لما عوتب محمّد بن عليّ عليه السّلام على ترك الخروج ذكر كلاما حاصله:إنّي علمت بعلم عهده إليّ أبي أمير المؤمنين عليه السّلام أسماء الذين يستشهدون مع الحسين عليه السّلام و أسماء آبائهم و لم أر إسمي بينهم فعلمت أنّي لست من الشهداء معه و خاف أن يكون في سيره معه مثله مثل خروج عقيل إلى معاوية و تركه أمير المؤمنين عليه السّلام و إن كان محمّد أجلّ شأنا و أرفع مكانا من أن تعتريه مثل هذه الهواجس.

ص: 8


1- البحار:329/44.

و منها:ما روي في الأثر أنّ محمّد بن الحنفيّة قد أصابته عين في يده فخرج بها خراج و قد تعطّلت عن حمل السلاح فيكون معذورا في ترك الخروج مع أنّ الحسين عليه السّلام لم يطلب منه الخروج معه و ذاك محلّ الإشكال.

ص: 9

دراسة الإمام لأبعاد الثورة

اشارة

قال السيد محمد باقر القرشي:درس الإمام الحسين عليه السّلام أبعاد الثورة بعمق و شمول،و خطط أساليبها بوعي و إيمان،فرأى أن يزج بجميع ثقله في المعركة، و يضحّي بكل شيء لإنقاذ الأمة من محنتها في ظل ذلك الحكم الأسود الذي تنكّر لجميع متطلبات الأمة..و قد أدرك المستشرق الألماني ماريين تخطيط الإمام الحسين لثورته،فاعتبر أن الحسين قد توخّى النصر منذ اللحظة الأولى،و علم النصر فيه،فحركة الحسين في خروجه على يزيد-كما يقول-إنما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الإذعان،و عز عليه النصر العاجل،فخرج بأهله و ذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته،و يحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.

لقد أيقن أبو الشهداء عليه السّلام أن القضية الإسلامية لا يمكن أن تنتصر إلا بفخامة ما يقدمه من التضحيات فصمم بعزم و إيمان على تقديم أروع التضحيات و هذه بعضها:

1-التضحية بنفسه

و أعلن الإمام عليه السّلام عن عزمه على التضحية بنفسه،فأذاع ذلك في مكة فأخبر المسلمين أن أوصاله سوف تتقطع بين النواويس و كربلا،و كان في أثناء مسيرته إلى العراق يتحدث عن مصرعه،و يشابه بينه و بين أخيه يحيى بن زكريا و أن رأسه

ص: 10

الشريف سوف يرفع إلى بغي من بغايا بني أمية كما رفع رأس يحيى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

لقد صمم على الموت و استهان بالحياة من أجل أن ترتفع راية الحق و تعلو كلمة الله في الأرض و بقي صامدا على عزمه الجبار فلم يرتهب حينما أحاطت به الجيوش الهائلة و هي تبيد أهل بيته و أصحابه في مجزرة رهيبة اهتز من هولها الضمير الإنساني،و قد كان في تلك المحنة الحازبة من أربط الناس جأشا، و أمضاهم جنانا،فلم ير قبله و لا بعده شبيها له في شدة بأسه و قوة عزيمته،كما لا يعرف التأريخ في جميع مراحله تضحية أبلغ أثرا في حياة الناس من تضحيته عليه السّلام فقد بقيت صرخة مدوية في وجوه الظالمين و المستبدين.

2-التضحية بأهل بيته

و أقدم أبو الشهداء عليه السّلام على أعظم تضحية لم يقدمها أي مصلح اجتماعي في الأرض،فقد قدّم أبناءه و أهل بيته و أصحابه فداءا لما يرتأيه ضميره من تعميم العدل و إشاعة الحق و الخير بين الناس.

و قد خطط هذه التضحية،و آمن بأنها جزء من رسالته الكبرى،و قد أذاع ذلك و هو في يثرب حينما خفت إليه السيدة أم سلمة زوج النبي تعذله عن الخروج، فأخبرها عن قتله و قتل أطفاله..و قد مضى إلى ساحات الجهاد و هو متسلح بهذا الإيمان،فكان يشاهد الصفوة من أصحابه الذين هم من أنبل من عرفتهم الإنسانية في ولائهم للحق،و هم يتسابقون إلى المنية بين يديه،و يرى الكواكب من أهل بيته و أبنائه،و هم في غضارة العمر و ريعان الشباب،و قد تناهبت أشلاءهم السيوف و الرماح،فكان يأمرهم بالثبات و الخلود إلى الصبر قائلا:

«صبرا يا بني عمومتي،صبرا يا أهل بيتي لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا!!».

ص: 11

و اهتزت الدنيا من هول هذه التضحية التي تمثل شرف العقيدة،و سمو القصد و عظمة المبادىء التي ناضل من أجلها،و هي-من دون شك-ستبقى قائمة على ممر القرون و الأجيال،تضيء للناس الطريق،و تمدهم بأروع الدروس عن التضحية في سبيل الحق و الواجب.

ص: 12

3-التضحية بأمواله

و ضحى أبي الضيم بجميع ما يملك فداءا للقرآن،و وقاية لدين الله،و قد هجمت- بعد مقتله-الوحوش الكاسرة من جيوش الأمويين على مخيمه فتناهبوا ثقله و متاعه حتى لم يتركوا ملحفة أو إزارا على مخدرات الرسالة إلا نهبوه،و مثّلوا بذلك خسة الإنسان حينما يفقد ذاتياته،و يمسخ ضميره.

4-حمل عقائل النبوة

و كان من أروع ما خططه الإمام العظيم عليه السّلام في ثورته الكبرى حمله لعقائل النبوة و مخدرات الرسالة إلى كربلاء،و هو يعلم ما سيجري عليهن من النكبات و الخطوب، و قد أعلن ذلك حينما عذله ابن عباس عن حملهن معه إلى العراق،فقال له:

«قد شاء الله أن يراهن سبايا...».

لقد أراد عليه السّلام بذلك أن يستكمل أداء رسالته الخالدة في تحرير الأمة و إنقاذها من الاستعباد الأموي..و قد قمن تلك السيدات بدور مشرق في إكمال نهضة أبي الشهداء عليه السّلام فأيقظن المجتمع بعد سباته،و أسقطن هيبة الحكم الأموي،و فتحن باب الثورة عليه،و لولاهن لم يتمكن أحد أن يفوه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر، و قد أدرك ذلك كل من تأمل في نهضة الإمام و درس أبعادها،و قد ألمح إليها بعض العلماء و الكتاب،و فيما يلي بعضهم:

ص: 13

سبب اصطحاب النساء

رأي الإمام كاشف الغطاء

و أكد الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كثير من مؤلفاته أن الغاية من خروج الإمام بعائلته إلى كربلا إكمالا لنهضته و بلوغا إلى هدفه في تحطيم دولة الأمويين يقول:«و هل تشك و ترتاب في أن الحسين عليه السّلام لو قتل هو و ولده،و لم يتعقبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحديات لذهب قتله جبارا،و لم يطلب به أحد ثارا و لضاع دمه هدرا،فكان الحسين يعلم أن هذا عمل لا بد منه،و أنه لا يقوم به إلا تلك العقائل فوجب عليه حتما أن يحملهن معه لا لأجل المظلومية بسببهن فقط،بل لنظر سياسي و فكر عميق،و هو تكميل الغرض،و بلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد،و المبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام و تعود الناس إلى جاهليتها الأولى..».

ص: 14

رأي أحمد فهمي

يقول الأستاذ السيد أحمد فهمي:«و قد أدرك الحسين أنه مقتول إذ هو يعلم علم اليقين قبح طوية يزيد،و إسفاف نحيزته،و سوء سريرته فيزيد بعد قتل الحسين ستمتد يده إلى أن يؤذي النبي صلّى اللّه عليه و اله في سلالته من قتل الأطفال الأبرياء،و انتهاك حرمة النساء،و حملهن و من بقي من الأطفال من قفرة إلى قفرة و من بلد إلى بلد، فيثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين،فليس ثمة أشنع،و لا أفظع من التشفي و الانتقام من النساء و الأطفال بعد قتل الشباب و الرجال فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أن يثأر من يزيد في خلافته،و يقتله في كرامته،و حقا لقد وقع ما توقعه،فكان لما فعله يزيد و عصبته من فظيع الأثر في نفوس المسلمين،و زاد في أضغانهم ما عرّضوا به سلالة النبوة من هتك خدر النساء،و هن اللاتي ما عرفن إلا بالصيانة و الطهر و العز و المنعة،مما أطلق ألسنة الشعراء بالهجاء و الذم،و نفر أكثر المسلمين من خلافة الأمويين،و أسخط عليهم قلوب المؤمنين،فقد قتله الحسين أشد من قتله إياه».

ص: 15

رأي أحمد محمود صبحي

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي:«ثم رفض-يعني الحسين-إلا أن يصحب أهله ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه بما لا يبرره دين و لا وازع من إنسانية،فلا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء فيفترى عليه أشد الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على كل ما جرى بينه و بين أعدائه،تقول الدكتورة بنت الشاطى:

أفسدت زينب أخت الحسين على ابن زياد و بني أمية لذة النصر،و سكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين و إن كل الأحداث السياسية التي ترتبت بعد ذلك من خروج المختار و ثورة ابن الزبير و سقوط الدولة الأموية و قيام الدولة العباسية ثم تأصل مذهب الشيعة إنما كانت زينب هي باعثة ذلك و مثيرته.

أريد أن أقول ماذا يكون الحال لو قتل الحسين و من معه جميعا من الرجال إلا أن يسجل التأريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه فيضيع كل أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء..».

هذه بعض الآراء التي تدعم ما ذكرناه من أن خروج الحسين عليه السّلام بعائلته لم يكن الغرض منه إلا بلورة الرأي العام،و إيضاح المقاصد الرفيعة التي ثار من أجلها و من أهمها القضاء على دولة الأمويين التي كانت تشكل خطرا مباشرا على العقيدة الإسلامية و هناك رأي آخر أدلى به العلامة المغفور له الشيخ عبد الواحد المظفر، و هو أن الحسين إنما خرج بعائلته خوفا عليها من اعتقال الأمويين و زجها في سجونهم قال:«الحسين لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الأموية عليها الحجر،لا بل اعتقلتها علنا و زجتها في ظلمات السجون،و لا بد له حينئذ من أحد

ص: 16

أمرين خطيرين كل منهما يشل أعضاء نهضته المقدسة!

إما الاستسلام لأعدائه و إعطاء صفقته لهم طائعا ليستنقذ العائلة المصونة و هذا خلاف الإصلاح الذي ينشده،و فرض على نفسه القيام به مهما كلفه الأمر من الأخطار،أو يمضي في سبيل إحياء دعوته،و يترك المخدرات اللواتي ضرب عليهن الوحي سترا من العظمة و الإجلال،و هذا ما لا تطيق احتماله نفس الحسين الغيور و لا يردع أمية رادع من الحياء،و لا يزجرها زاجر من الإسلام.

إن أمية لا يهمها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها،و إدراك غاياتها فتتوصل إلى غرضها و لو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية و العقلية.

ألم يطرق سمعك سجن الأمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي،و زوجة عبيد الله بن الحر الجعفي و أخيرا زوجة الكميت الأسدي».

و على أي حال فقد حطم الإمام بخروجه و عائلته جميع مخططات السياسة الأموية و نسف جميع ما أقامه معاوية من معالم الظلم،فقد قمن عقائل الوحي بدور فعال ببث الوعي الاجتماعي،و تعريف المجتمع بواقع الأمويين و تجريدهم من الإطار الديني،و لولاهن لاندرست معالم ثورة الحسين،و ذهبت أدراج الرياح.

إن من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين عليه السّلام و استمرار فعالياتها في بث الإصلاح الاجتماعي على امتداد التأريخ هو حمل و دائع الرسالة و عقائل الوحي مع الإمام فقد قمن بدور مشرق ببلورة الرأي العام،فحملن راية الإيمان التي حملها الإمام العظيم،و نشرن مبادئه العليا التي استشهد من أجلها،فقد انبرت حفيدة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و شقيقة الحسين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السّلام إلى ساحات الجهاد،و هي تدك حصون الظالمين،و تدمر جميع ما أحرزوه من الانتصارات في قتل أخيها،و تلحق بهم الهزيمة و العار،و تملأ بيوتهم مأساة و حزنا.

لقد أقبلت قائدة المسيرة الحسينية عقيلة الوحي زينب عليه السّلام إلى ساحة المعركة

ص: 17

و هي تشق صفوف الجيش تفتش عن جثمان أخيها الإمام العظيم فلما وقفت عليه شخصت لها أبصار الجيش،و استحال إلى سمع فماذا تقول أمام هذه الخطوب المذهلة التي تواكبت عليها؟

إنها وقفت عليه غير مدهوشة لم تذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال،فشخصت ببصرها إلى السماء؟و هي تقول بحماسة الإيمان و حرارة العقيدة قائلة:

«اللّهم تقبل منا هذا القربان».

و أطلقت بذلك أول شرارة للثورة على الحكم الأموي بعد أخيها،و ود الجيش أن تسيخ به الأرض فقد استبان له عظم ما اقترفه من الإثم و أنه قد أباد عناصر الإسلام،و مراكز الوعي و الإيمان.

و لما اقتربت سبايا أهل البيت عليهم السّلام إلى الكوفة خرجت الجماهير الحاشدة لاستقبال السبايا فخطبت فيهم عقيلة الوحي خطابا مثيرا و مذهلا و إذا بالناس حيارى لا يعون و لا يدرون قد استحالت بيوتهم إلى مآتم و هم يندبون حظهم التعيس و يبكون على ما اقترفوه من الجرم،و حينما انتهت إلى دار الإمارة استقبلها الطاغية متشفيا بأحط و أخس ما يكون التشفي قائلا:

«كيف رأيت صنع الله بأخيك؟».

و انطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة و صمود فأجابته بكلمات النصر و الظفر قائلة:

«ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاج و تخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يابن مرجانة».

و أخزت هذه الكلمات ابن مرجانة فكانت أشق عليه من ضرب السيوف و طعن الرماح،و لما انتهت إلى الشام هزت العرش الأموي بخطابها المثير الرائع،و حققت بذلك من النصر ما لم تحققه الجيوش...

لقد كان حمل الإمام الحسين لعائلته قائما على أساس من الوعي العميق الذي

ص: 18

أحرز به الفتح و النصر.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض أسباب الثورة الحسينية و مخططاتها (1).2.

ص: 19


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:218/2.

بداية التخطيط في مكة

اشارة

و بعد ما أعلن الإمام الحسين عليه السّلام رفضه الكامل لبيعة يزيد اتجه مع أهل بيته إلى مكة التي هي حرم الله،و حرم رسوله،عائذا ببيتها الحرام الذي فرض فيه تعالى الأمن و الطمأنينة لجميع العباد.

لقد اتجه إلى هذا البلد الأمين ليكون بمأمن من شرور الأمويين و اعتداءاتهم، و يقول المؤرخون:إنه خرج ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة(60 ه)و قد خيم الذعر على المدنيين حينما رأوا آل النبي صلّى اللّه عليه و اله ينزحون عنهم إلى غير مآب.

و فصل الركب من يثرب،و هو جاد في مسيرته،و كان الإمام عليه السّلام يتلو قوله تعالى:

«رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ» .

لقد شبه خروجه بخروج موسى على فرعون زمانه،و كذلك قد خرج على طاغية زمانه فرعون هذه الأمة ليقيم الحق،و يبني صروح العدل و سلك الطريق العام الذي يسلكه الناس من دون أن يتجنب عنه،و أشار عليه بعض أصحابه أن يحيد عنه- كما فعل ابن الزبير-مخافة أن يدركه الطلب من السلطة في يثرب،فأجابه عليه السّلام بكل بساطة و ثقة في النفس قائلا:

«لا و الله لا فارقت هذا الطريق أبدا أو أنظر إلى أبيات مكة،أو يقضي الله في ذلك ما يحب و يرضى..».

لقد رضي بكل قضاء يبرمه الله،و لم يضعف،و لم توهن عزيمته الأحداث الهائلة التي لا يطيقها أي إنسان،و كان يتمثل في أثناء مسيرته بشعر يزيد بن المفرغ:

لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغيرا و لا دعيت يزيدا

ص: 20

يوم أعطي مخافة الموت ضيما و المنايا ترصدنني أن أحيدا

لقد كان على ثقة أن المنايا ترصده ما دام مصمما على عزمه الجبار في أن يعيش عزيزا لا يضام و لا يذل و لا يخضع لحكم يزيد..و يقول بعض الرواة أنه كان في مسيرته ينشد هذه الأبيات:

إذا المرء لم يحم بنيه و عرسه و نسوته كان اللئيم المسببا

و في دون ما يبغي يزيد بنا غدا نخوض حياض الموت شرقا و مغربا

و نضرب كالحريق مقدما إذا ما رآه ضيغم راح هاربا

و دل هذا الشعر على مدى عزمه على أن يخوض حياض الموت سواء أكانت في المشرق أم في المغرب و لا يبايع يزيد بن معاوية.

مع عبد الله بن مطيع

و استقبله في أثناء الطريق عبد الله بن مطيع العدوي،فقال له:

أين تريد أبا عبد الله،جعلني الله فداك؟

-أما في وقتي هذا أريد مكة،فإذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك.

-خار الله لك يا ابن بنت رسول الله فيما قد عزمت عليه،إني أشير عليك بمشورة فاقبلها مني.

-ما هي؟

-إذا أتيت مكة فاحذر أن يغرك أهل الكوفة،فبها قتل أبوك و أخوك طعنوه بطعنة كادت أن تأتي على نفسه،فالزم الحرم فإنك سيد العرب في دهرك فو الله لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك بهلاكك.و شكره الإمام و ودّعه و دعى له بخير و سار موكب الإمام يجد السير لا يلوي على شي حتى انتهى إلى مكة فلما نظر الإمام إلى جبالها تلا قوله تعالى: وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ.

ص: 21

لقد كانت هجرته إلى مكة كهجرة موسى إلى مدين،فكل منهما قد فر من فرعون زمانه،و هاجر لمقاومة الظلم و مناهضة الطغيان.

وصول الإمام الى مكة

و انتهى الإمام إلى مكة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان و قد حط رحله في دار العباس بن عبد المطلب و قد استقبل استقبالا حافلا من المكيين،و جعلوا يختلفون إليه بكرة و عشية،و هم يسألونه عن أحكام دينهم،و أحاديث نبيهم،يقول ابن كثير:«و عكف الناس بمكة يفدون إليه،و يجلسون حواليه،و يستمعون كلامه، و ينتفعون بما يسمع ون منه،و يضبطون ما يروون عنه»لقد كان بجاذبيته الروحية مهوى القلوب،و ندى الأفئدة،و قد حامت حوله النفوس تروي غليلها من نمير علومه التي هي امتداد من علوم جده مفجر العلم و النور في الأرض.

احتفاف الحجاج و المعتمرين به

و أخذ القادمون إلى بيت الله من الحجاج و المعتمرين من سائر الآفاق يختلفون إليه و يهتفون بالدعوة إليه،و يطوفون حوله،هذا يلتمس منه العلم و الحديث،و ذاك يقتبس منه الحكم النافعة،و الكلم الجامعة ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة و لم يترك الإمام ثانية من وقته تمر دون أن يبث الوعي الاجتماعي،و يدعو إلى اليقظة و الحذر من السياسة الأموية الهادفة إلى استعباد المسلمين و إذلالهم (1).

ص: 22


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:221/2.

فزع ابن الزبير

و كان ابن الزبير لاجئا إلى مكة فرارا من البيعة ليزيد،و قد ثقل عليه اختلاف الناس على الإمام الحسين عليه السّلام و إجماعهم على تعظيمه و تبجيله و زهد الناس و انصرافهم عنه لأنه لم يكن يتمتع بصفة محبوبة،و لا بنزعة كريمة،يقول زيد بن علي الجذعاني:«و كانت فيه خلال لا تصلح معها الخلافة لأنه كان بخيلا ضيق العطن سيء الخلق،حسودا كثير الخلاف أخرج محمد بن الحنفية،و نفى عبد الله بن عباس إلى الطائف»و من مظاهر ذاتياته الشح و البخل،و فيه يقول الشاعر:

رأيت أبا بكر و ربك غالب على أمره يبغي الخلافة بالتمر

و قد عانى الشعب في أيام حكمه القصير الجوع و الحرمان،كما عانت الموالي التي بالغت في نصرته أشد ألوان الضيق،و قد عبّر شاعرهم عن خيبة أملهم في نصرته يقول:

إن الموالي أمست و هي عاتبة على الخليفة تشكو الجوع و السغبا

ماذا علينا و ماذا كان يرزؤنا أي الملوك على من حولنا غلبا

و قد أظهر ابن الزبير النسك و الطاعة و التقشف تصنعا لصيد البسطاء و إغراء السذج،و قد وصفه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله:«ينصب حبالة الدين لاصطفاء الدنيا».

و من المؤكد أنه لم يكن يبغي في خروجه على سلطان بني أمية وجه الله و إنما كان يبغي الملك و السلطان،و قد أدلى بذلك عبد الله بن عمر حينما ألحّت عليه زوجته في مبايعته،و ذكرت له طاعته و تقواه فقال لها:

ص: 23

«أما رأيت بغلات معاوية التي كان يحج عليها الشهباء؟فإن ابن الزبير ما يريد غيرهن».

و على أي حال فإن ابن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسين لعلمه بأنه لا يبايعه أحد مع وجود الحسين عليه السّلام لأنه ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فليس على وجه الأرض أحد يساميه و لا يساويه-كما يقول ابن كثير-و أكد ذلك(أوكلي)قال:«إن ابن الزبير كان مقتنعا تماما بأن كل جهود ستضيع عبثا طالما بقي الحسين على قيد الحياة،و لكن إذا أصابه مكروه فإن طريق الخلافة سيكون ممهدا له».

و كان يشير إلى الإمام بالخروج إلى العراق للتخلص منه،و يقول له:«ما يمنعك من شيعتك و شيعة أبيك؟فو الله لو أن لي مثلهم ما توجهت إلا إليهم».

و لم يمنح ابن الزبير النصيحة للإمام،و لم يخلص له في الرأي،و إنما أراد أن يستريح منه،و لم تخف على الإمام دوافعه،فراح يقول لأصحابه:

«إن هذا-و أشار إلى ابن الزبير-ليس شيء من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز و قد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له».

و لم تحفل السلطة الأموية بابن الزبير و إنما وجهت جميع اهتمامها نحو الإمام الحسين.

رأي الغزالي

و استبعد الشيخ محمد الغزالي أن ابن الزبير قد أشار على الحسين بالخروج إلى العراق ليستريح منه،قال:«فعبد الله بن الزبير أتقى لله و أعرق في الإسلام من أن يقترف هذه الدنية».

و هذا الرأي بعيد عن الواقع فإن ابن الزبير لم تكن له أية حريجة في الدين فهو الذي أجج نار الفتنة في حرب الجمل و زج أباه فيها،و قد تهالك على السلطان،

ص: 24

و ضحى بكل شيء في سبيله،و قد كان من أعدى الناس للعترة الطاهرة،و من كان هذا شأنه فهل يكون تقيا و عريقا في الإسلام؟.

رأي رخيص

من الآراء الرخيصة ما ذهب إليه أنيس زكريا المعروف بنزعته الأموية أن من أهم الأسباب التي أدت إلى قتل الإمام الحسين عليه السّلام تشجيع ابن الزبير له في الخروج إلى العراق،فقد كان له أثره المهم في نفسه و هذا القول من أهزل الآراء فإن الإمام الحسين عليه السّلام لم يتأثر بقول ابن الزبير،و لم ينخدع بتشجيعه له،و إنما كانت هناك عوامل أخرى حفزته إلى الخروج إلى العراق،و قد ذكرناها بالتفصيل في البحوث السابقة.

ص: 25

فزع السلطة المحلية

و ذعرت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام إليها،و خافت أن يتخذها مقرا سياسيا لدعوته،و منطلقا لإعلان الثورة على حكومة دمشق،و قد خف حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق و هو مذعور فقابل الإمام،فقال له:

-ما أقدمك؟

-عائذا بالله،و بهذا البيت...

لقد جاء الإمام عائذا ببيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا و كان محصنا من كل ظلم و اعتداء.

و لم يحفل الأشدق بكلام الإمام و إنما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علما بمجي الإمام إلى مكة،و اختلاف الناس إليه،و ازدحامهم على مجلسه،و إجماعهم على تعظيمه،و أخبره أن ذلك يشكل خطرا على الدولة الأموية (1).

ص: 26


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:220/2.

قلق يزيد

و اضطرب يزيد كأشد ما يكون الاضطراب حينما وافته الأنباء بامتناع الحسين عن بيعته و هجرته إلى مكة،و اتخاذها مركزا لدعوته،و إرسال العراق الوفود و الرسائل إلى الدعوة لبيعته،فكتب إلى عبد الله بن عباس رسالة،و هذا نصها:

أما بعد فإن ابن عمك حسينا،و عدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي و لحقا بمكة مرصدين للفتنة،معرضين أنفسهما للهلكة،فأما ابن الزبير فإنه صريع الفنا،و قتيل السيف غدا،و أما الحسين فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت مما كان منه،و قد بلغني أن رجالا من شيعته من أهل العراق يكاتبونه،و يكاتبهم،و يمنّونه الخلافة، و يمنيهم الإمرة،و قد تعلمون ما بيني و بينكم من الوصلة و عظيم الحرمة و نتائج الأرحام،و قد قطع ذلك الحسين،و بتّه،و أنت زعيم أهل بيتك،و سيد بلادك،فالقه فاردده عن السعي في الفتنة،فإن قبل منك و أناب فله عندي الأمان،و الكرامة الواسعة،و أجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه و إن طلب الزيادة فأضمن له ما أديك،و أنفذ ضمانك،و أقوم له بذلك و له علي الأيمان المغلظة،و المواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه،و يعتمد في كل الأمور عليه،عجل بجواب كتابي،و بكل حاجة لك قبل و السلام و ختم كتابه بهذه الأبيات:

يا أيها الراكب العادي مطيته على غذافرة في سيرها فحم

أبلغ قريشا على نأي المزار بها بيني و بين الحسين الله و الرحم

و موقف بفناء البيت أنشده عهد الإله غدا و ما توفي به الذمم

عنيتم قومكم فخرا بأمكم أم لعمري حصان عفة كرم

ص: 27

هي التي لا يداني فضلها أحد بنت الرسول و خير الناس قد علموا

إني لأعلم أو ظنا كعالمه و الظن يصدق أحيانا فينتظم

أن سوف يترككم ما تدعون بها قتلى تهاداكم العقبان و الرخم

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ سكنت و أمسكوا بحبال السلم و اعتصموا

قد جرب الحرب من قد كان قبلكم من القرون و قد بادت بها الأمم

فانصفوا قومكم لا تهلكوا برحا فرب ذي برح زلت به القدم

و دلت هذه الرسالة على غباوة يزيد فقد حسب أن الإمام يطلب المال و الثراء في خروجه عليه،و لم يعلم أنه إنما ناهضه لا يبغي بذلك إلا الله و التماس الأجر في الدار الآخرة.

جواب ابن عباس

و أجابه ابن عباس«أما بعد:فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين و ابن الزبير بمكة،فأما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأيه و هواه يكاتمنا مع ذلك أضغانا يسرها في صدره يوري علينا وري الزناد،لا فك الله أسيرها فأرى في أمره ما أنت راء..

و أما الحسين فإنه لما نزل مكة و ترك حرم جده،و منازل آبائه سألته عن مقدمه فأخبرني أن عمالك بالمدينة أساءوا إليه،و عجلوا عليه بالكلام الفاحش،فأقبل إلى حرم الله مستجيرا به،و سألقاه فيما أشرت إليه،و لن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة،و يطفىء به النائرة،و يخمد به الفتنة،و يحقن به دماء الأمة،فاتق الله في السر و العلانية،و لا تبيتن ليلة و أنت تريد لمسلم غائلة،و لا ترصده بمظلمة،و لا تحفر له مهراة فكم من حافر لغيره حفرا وقع فيه،و كم من مؤمل أملا لم يؤت أمله، و خذ بحظك من تلاوة القرآن،و نشر السنة،و عليك بالصيام و القيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا و أباطيلها فإن كل ما اشتغلت به عن الله يضر و يفنى و كل ما

ص: 28

اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع و يبقى و السلام..».

و حفلت هذه الرسالة بما يلي:

-1-إنه لا علاقة لبني هاشم بابن الزبير،و لا هم مسؤولون عن تصرفاته،فقد كان عدوا لهم يتربص بهم الدوائر،و يبغي له الغوائل.

-2-إن الإمام الحسين إنما نزح من يثرب إلى مكة لا لإثارة الفتنة و إنما لإساءة عمال يزيد له،و قد قدم إلى مكة ليستجير ببيتها الحرام.

ص: 29

إقصاء حاكم المدينة

كان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان واليا على يثرب بعد عزل مروان عنها،و كان- فيما يقول المؤرخون-فطنا ذكيا يحب العافية و يكره الفتنة،و لما امتنع الإمام الحسين عليه السّلام من البيعة ليزيد لم يتخذ معه الإجراءات الصارمة،و لم يكرهه على ما لا يحب،و إنما فسح له المجال في الرحيل إلى مكة من دون أن يعوقه عنها،في حين أنه قد أصر عليه مروان بالتنكيل به فرفض ذلك،و قد نقل الأمويون موقفه المتسم باللين و التسامح مع الحسين إلى يزيد فغضب عليه و عزله عن ولايته،و قد عهد بها إلى جبار من جبابرة الأمويين عمرو بن سعيد الأشدق و قد عرف بالقسوة و الغلظة،قدم إلى المدينة في رمضان بعد أن تسلم ولايته عليها فصلى بالناس صلاة العتمة،و في الصباح خرج على الناس و عليه قميص أحمر و عمامة حمراء فرماه الناس بأبصارهم منكرين ما هو عليه فصعد المنبر فقال:

«يا أهل المدينة،ما لكم ترموننا بأبصاركم كأنكم تقروننا سيوفكم؟أنسيتم ما فعلتم!أما لو أنتقم في الأولى ما عدتم إلى الثانية،أغركم إذ قتلتم عثمان فوجدتموه صابرا حليما،و إماما،فذهب غضبه،و ذهبت ذاته،فاغتنموا أنفسكم،فقد وليكم إمام بالشباب المقتبل البعيد الأمل،و قد اعتل جسمه،و اشتد عظمه،و رمى الدهر ببصره، و استقبله بأسره،فهو إن عض لهس،و ان وطىء فرس،لا يقلقه الحصى،و لا تقرع له العصا»و عرض في خطابه لابن الزبير فقال:

«فو الله لنغزونه،ثم لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه،على رغم أنف من رغم...».

و رعف الطاغية على المنبر فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمه فقال رجل من

ص: 30

خثعم:«دم على المنبر في عمامة،فتنة عمت و علا ذكرها و رب الكعبة».

و قد أثر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أنه قال:«يرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية فيسيل رعافه».

و عزم الأشدق على مقابلة الجبهة المعارضة بالقوة و البطش،و قد حفزه إلى ذلك ما حل بسلفه الوليد من الإقصاء و سلب الثقة عنه نتيجة تساهله مع الحسين عليه السّلام، و لعل من أوثق الأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السّلام إلى مغادرة الحجاز هو الحذر من بطش هذا الطاغية به،و الخوف من اغتياله و هو في الحرم (1).2.

ص: 31


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:224/2.

الحسين مع ابن عمر و ابن عباس

و كان عبد الله بن عباس،و عبد الله بن عمر مقيمين في مكة حينما أقبل الإمام الحسين إليها،و قد خفا لاستقباله و التشرف بخدمته،و كانا قد عزما على مغادرة مكة،فقال له ابن عمر:

«أبا عبد الله،رحمك الله،إتق الله الذي إليه معادك،فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت-يعني بني أمية-لكم،و قد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية،و لست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء و البيضاء،فيقتلونك،و يهلك فيك بشر كثير، فإني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول:

«حسين مقتول،و لئن قتلوه و خذلوه،و لن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة،و أنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس و اصبر كما صبرت لمعاوية من قبل،فلعل الله أن يحكم بينك و بين القوم الظالمين..».

فقال له أبي الضيم:

«أنا أبايع يزيد،و أدخل في صلحه؟!!و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و اله فيه و في أبيه ما قال»

و انبرى ابن عباس فقال له:

«صدقت أبا عبد الله قال النبي صلّى اللّه عليه و اله في حياته:«مالي و ليزيد لا بارك الله في يزيد، و إنه قتل ولدي،و ولد ابنتي الحسين،و الذي نفسي بيده،لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلا خالف الله بين قلوبهم و ألسنتهم».

و بكى ابن عباس و الحسين،و التفت إليه قائلا:

«يابن عباس أتعلم أني ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله؟».

ص: 32

«اللّهم نعم،نعلم ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله غيرك و إن نصرك لفرض على هذه الأمة كفريضة الصلاة و الزكاة التي لا يقبل أحدهما دون الأخرى..».

فقال له الحسين:

«يا بن عباس،ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله من داره، و قراره،و مولده،و حرم رسوله،و مجاورة قبره،و مسجده و موضع مهاجره، فتركوه خائفا مرعوبا لا يستقر في قرار،و لا يأوي في موطن،يريدون في ذلك قتله، و سفك دمه،و هو لم يشرك بالله و لا اتخذ من دونه وليا،و لم يغير عما كان عليه رسول الله صلّى اللّه عليه و اله..».

و انبرى ابن عباس يؤيد كلامه،و يدعم قوله قائلا:

«ما أقول فيهم إلا أنهم كفروا بالله و رسوله،و لا يأتون الصلاة إلا و هم كسالى يراؤون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء،و من يضل الله فلن تجد له سبيلا،و على مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى،و أما أنت يا بن رسول الله فإنك رأس الفخار برسول الله،فلا تظن يابن بنت رسول الله أن الله غافل عما يفعل الظالمون و أنا أشهد أن من رغب عن مجاورتك،و طمع في محاربتك،و محاربة نبيك محمد فما له من خلاق..».

و انبرى الإمام الحسين فصدق قوله قائلا:«اللّهم نعم».

و انطلق ابن عباس يظهر له الاستعداد للقيام بنصرته قائلا:

«جعلت فداك يابن بنت رسول الله،كأنك تريدني إلى نفسك،و تريد مني أن أنصرك،و الله الذي لا إله إلا هو أن لو ضربت بين يديك بسيفي هذا بيدي حتى انخلعا جميعا من كفي لما كنت ممن و فى من حقك عشر العشر،و ها أنا بين يديك مرني بأمرك».

و قطع ابن عمر كلامه،و أقبل على الحسين فقال له:

ص: 33

«مهلا عما قد عزمت عليه،و ارجع من هنا إلى المدينة،و ادخل في صلح القوم،و لا تغب عن وطنك،و حرم جدك رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجة،و سبيلا،و إن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتى ترى رأيك،فإن يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلا قليلا فيكفيك الله أمره».

و زجره الإمام،ورد عليه قوله قائلا:

«أف لهذا الكلام أبدا ما دامت السماوات و الأرض،أسألك يا عبد الله أنا عندك على خطأ من أمري؟فإن كنت على خطأ ردني فأنا أخضع،و أسمع و أطيع».

فقال ابن عمر:

«اللّهم لا،و لم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسول الله على خطأ و ليس مثلك من طهارته و صفوته من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله على مثل يزيد بن معاوية،و لكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف و ترى من هذه الأمة ما لا تحب،فارجع معنا إلى المدينة،و إن لم تحب أن تبايع،فلا تبايع أبدا،و اقعد في منزلك».

و التفت إليه الإمام فأخبره عن خبث الأمويين،و سوء نواياهم نحوه قائلا:

«هيهات يا بن عمر إن القوم لا يتركوني،و إن أصابوني،و إن لم يصيبوني،فلا يزولون حتى أبايع و أنا كاره،أو يقتلوني،أما تعلم يا عبد الله أن من هوان الدنيا على الله تعالى أنه أتي برأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، و الرأس ينطق بالحجة عليهم؟!!أما تعلم يا أبا عبد الرحمن أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون و يشترون كلهم كأنهم لم يصنعوا شيئا،فلم يعجل الله عليهم ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر..».

و كشفت هذه المحاورة عن تصميمه على الثورة،و عزمه على مناجزة يزيد لأنه لا يتركه و شأنه،فإما أن يبايع،و بذلك يذل هو و يذل الإسلام و تستباح حرماته،و إما أن يقتل عزيزا كريما،فاختار المنية للحفاظ على كرامته و كرامة الأمة و مقدساتها.

ص: 34

وصية الحسين لابن عباس

و أقبل الحسين على ابن عباس،فعهد إليه بهذه الوصية قائلا:«و أنت يابن عباس ابن عم أبي لم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك،و كنت مع أبي تشير عليه بما فيه الرشاد و السداد،و قد كان أبي يستصحبك و يستنصحك و يستشيرك،و تشير عليه بالصواب،فامض إلى المدينة في حفظ الله،و لا تخف علي شيئا من أخبارك،فإني مستوطن هذا الحرم،و مقيم به ما رأيت أهله يجيبونني و ينصرونني،فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم،و استعصمت بالكلمة التي قالها إبراهيم يوم ألقي في النار حسبي الله و نعم الوكيل،فكانت النار عليه بردا و سلاما..» (1).

ص: 35


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:229/2.

التخطيط في البصرة

رسائله إلى زعماء البصرة

قال السيد القرشي:و كتب الإمام إلى رؤساء الأخماس بالبصرة يستنهضهم على نصرته و الأخذ بحقه و قد كتب إلى الأشراف و من بينهم:

-1-مالك بن مسمع البكري.

-2-الأحنف بن قيس.

-3-المنذر بن الجارود.

-4-مسعود بن عمرو.

-5-قيس بن الهيثم.

-6-عمر بن عبيد الله بن معمر.

و قد أرسل كتابا إليهم بنسخة واحدة و هذا نصه:

«أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلّى اللّه عليه و اله من خلقه،و أكرمه بنبوته،و اختاره لرسالته،ثم قبضه إليه،و قد نصح لعباده،و بلغ ما أرسل به،و كنا أهله و أولياءه و أوصياءه و ورثته،و أحق الناس بمقامه فاستأثر علينا قومنا بذلك،فرضينا، و كرهنا الفرقة،و أحببنا العافية،و نحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه.و قد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب،و أنا أدعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه،فإن السنة قد أميتت،و البدعة قد أحييت فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد..».

ص: 36

و ألقت هذه الرسالة الأضواء على الخلافة الإسلامية فهي-حسب تصريح الإمام -حق لأهل البيت عليهم السّلام لأنهم ألصق الناس برسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أكثرهم وعيا لأهدافه إلا أن القوم استأثروا بها،فلم يسع العترة الطاهرة إلا الصبر كراهة للفتنة و حفظا على وحدة المسلمين...كما حفلت هذه الرسالة بالدعوة إلى الحق بجميع رحابه و مفاهيمه،فدعت إلى إحياء كتاب الله و سنة نبيه فإن الحكم الأموي عمد إلى إقصائهما عن واقع الحياة...و علق بعض الكتاب على دعوة الإمام لأهل البصرة لبيعته فقال:

«إن رسالة الحسين إلى أهل البصرة ترينا كيف كان يعرف مسؤوليته و يمضي معها،فأهل البصرة لم يكتبوا إليه و لم يدعوه إلى بلدهم،كما فعل أهل الكوفة،و مع هذا فهو يكتب إليهم،و يعدهم للمجابهة المحتومة ذلك أنه حين قرر أن ينهض بتبعات دينه و أمته،كان قراره هذا آتيا من أعمال روحه و ضميره،و ليس من حركة أهل الكوفة و دعوتهم إياه».

و على أي حال فقد بعث الإمام كتبه لأهل البصرة بيد مولى له يقال له سليمان، و يكنى أبا رزين،و قد جد في السير حتى انتهى إلى البصرة فسلّم الكتب إلى أربابها.

جواب الأحنف بن قيس

و أجاب الأحنف بن قيس زعيم العراق الإمام برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة و لم يزد عليها«فاصبر إن وعد الله حق،و لا يستخفنك الذين لا يوقنون»و قد طلب من الإمام الخلود إلى الصبر،و لا يستخفه الذين لا يوقنون بالله و لا يرجون له وقارا.

ص: 37

جريمة المنذر

أما المنذر بن الجارود العبدي فقد كان من أجلاف العرب و حقرائهم فقد عمد إلى رسول الإمام فبعثه مخفورا إلى ابن زياد،و كان زوج ابنته ليظهر له الإخلاص و الولاء،فقتله ابن مرجانة و صلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة و اعتذر بعض المؤرخين عن المنذر أو هو اعتذر عن نفسه بأنه خشي أن يكون الرسول من قبل ابن مرجانة لاختباره فلذا سلّمه إليه و هو اعتذار مهلهل،فإن اللازم كان إجراء التحقيق معه حتى يستبين له الأمر.

استجابة يزيد بن مسعود

و استجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحق فاندفع بوحي من إيمانه و عقيدته إلى نصرة الإمام،فعقد مؤتمرا عاما دعا فيه القبائل العربية الموالية له و هي:

-1-بنو تميم.

-2-بنو حنظلة.

-3-بنو سعد.

و لما اجتمعت هذه القبائل،انبرى فيهم خطيبا،فوجّه خطابه أولا إلى بني تميم فقال لهم:

«يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم،و حسبي منكم؟!»

و تعالت أصوات بني تميم،و هي تعلن ولاءها المطلق،و إكبارها له قائلين بلسان واحد:

«بخ بخ!!أنت و الله فقرة الظهر،و رأس الفخر حللت في الشرف وسطا،و تقدمت فيه فرطا..».

ص: 38

و سرّه تأييدهم فانطلق يقول:

«إني جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم،و أستعين بكم عليه..».

و اندفعوا جميعا يظهرون له الولاء و الطاعة قائلين:

«إنا و الله نمنحك النصيحة،و نجهد لك الرأي فقل حتى نسمع».

و تطاولت الأعناق،و اشرأبت النفوس لتسمع ما يقول الزعيم الكبير،و انبرى قائلا:

«إن معاوية مات،فأهون به-و الله-هالكا و مفقودا،إلا أنه قد انكسر باب الجور و الإثم،و تضعضعت أركان الظلم،و كان قد أحدث بيعة عقد بها أمرا ظن أنه قد أحكمه،و هيهات الذي أراد!!اجتهد و الله ففشل،و شاور فخذل،و قد قام يزيد شارب الخمور و رأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين،و يتآمر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم و قلة علم،لا يعرف من الحق موطىء قدميه،فأقسم بالله قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين.

و هذا الحسين بن علي،و ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله ذو الشرف الأصيل و الرأي الأثيل له فضل لا يوصف،و علم لا ينزف،و هو أولى بهذا الأمر لسابقته و سنه،و قدمه و قرابته،يعطف على الصغير،و يحسن إلى الكبير،فأكرم به راعي رعية،و إمام قوم وجبت لله به الحجة و بلغت به الموعظة،فلا تعشوا عن نور الحق،و لا تسكعوا في وهد الباطل،فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و نصرته،و الله لا يقصر أحدكم عن نصرته إلا أورثه الله الذل في ولده،و القلة في عشيرته.

و ها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها،و ادرعت لها بدرعها،من لم يقتل يمت،و من يهرب لم يفت،فأحسنوا رحمكم الله رد الجواب»

و حفل هذا الخطاب الرائع بأمور بالغة الأهمية و هي:

أولا-الاستهانة بهلاك معاوية،و أنه قد انكسر بموته باب الظلم و الجور.

ص: 39

ثانيا-القدح في بيعة معاوية ليزيد.

ثالثا-عرض الصفات الشريرة الماثلة في يزيد من الإدمان على الخمر،و فقد الحلم،و عدم العلم،و عدم التبصر بالحق.

رابعا-الدعوة إلى الالتفاف حول الإمام الحسين عليه السّلام و ذلك لما يتمتع به من الصفات الشريفة كأصالة الفكر،و غزارة العلم،و كبر السن،و العطف على الكبير و الصغير و غير ذلك من النزعات الكريمة التي تجعله أهلا لإمامة المسلمين.

خامسا-إنه عرض للجماهير عن استعداده الكامل للقيام بنصرة الإمام و الذب عنه.

و لما أنهى الزعيم العظيم خطابه انبرى و جهاء بني حنظلة فأظهروا الدعم الكامل له قائلين:

«يا أبا خالد نحن نبل كنانتك،و فرسان عشيرتك،إن رميت بنا أصبت،و إن غزوت بنا فتحت،لا تخوض و الله غمرة إلا خضناها و لا تلقى و الله شدة إلا لقيناها ننصرك بأسيافنا و نقيك بأبداننا إذا شئت».

و كان منطقا مشرفا دل على تعاطفهم،و وقوفهم إلى جانبه،و قام من بعدهم بنو عامر فأعربوا عن ولائهم العميق له قائلين:

«يا أبا خالد نحن بنو أبيك،و حلفاؤك لا نرضى إن غضبت،و لا نبقى إن ظعنت و الأمر إليك فادعنا إذا شئت..».

و أما بنو سعد فأظهروا التردد و عدم الرغبة فيما دعاهم إليه،قائلين:

«يا أبا خالد إن أبغض الأشياء إلينا خلافك،و الخروج عن رأيك،و قد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال يوم الجمل،فحمدنا أمرنا،و بقي عزنا فينا،فأمهلنا نراجع المشورة،و نأتيك برأينا..».

و ساءه تخاذلهم فاندفع يندد بهم قائلا:

«لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبدا،و لا زال سيفكم فيكم..».

ص: 40

جوابه للإمام

و رفع يزيد بن مسعود رسالة للإمام دلت على شرفه و نبله،و استجابته لدعوته، و هذا نصها:

«أما بعد فقد وصل إلي كتابك،و فهمت ما ندبتني إليه،و دعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك،و الفوز بنصيبي من نصرتك..و إن الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير،و دليل على سبيل نجاة،و أنتم حجة الله على خلقه،و وديعته في أرضه تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها و أنتم فرعها،فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لك أعناق بني تميم،و تركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها و قد ذللت لك رقاب بني سعد،و غسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع..».

و حفلت هذه الرسالة بسمو أدبه،و كريم طباعه،و تقديره البالغ للإمام،و يقول بعض المؤرخين أنها انتهت إلى الإمام في اليوم العاشر من المحرم بعد مقتل أصحابه و أهل بيته،و هو وحيد فريد قد أحاطت به القوى الغادرة،فلما قرأ الرسالة طفق يقول:

«مالك،آمنك الله من الخوف،و أرواك يوم العطش الأكبر»

و لما تجهز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فجزع لذلك و ذابت نفسه أسى و حسرات.

ص: 41

استجابة يزيد البصري

و لبى نداء الحق يزيد بن نبيط البصري،و كان-فيما يقول المؤرخون-يتردد إلى دار مارية ابنة سعد أو منقذ،و كانت دارها من منتديات الشيعة،و فيها تذاع فضائل أهل البيت عليهم السّلام و تنشر مآثرهم،و لما وجه الإمام دعوته إلى أهل البصرة لنصرته استجاب لها يزيد بن نبيط،و لحق به من أولاده العشرة عبد الله و عبيد الله،و خاف عليه أصحابه أن يدركه الطلب من شرطة ابن زياد،فقال لهم:لو استوت أخفافها بالجدد لهان علي طلب من طلبني و استوى على جواده مع ولديه،و صحبه مولاه عامر،و سيف بن مالك و الأدهم بن أمية فلحقوا بالإمام في مكة و صحبوه إلى العراق و استشهدوا بين يديه في كربلا (1).

ص: 42


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:228/2-232.

التخطيط في العراق

نقمة العراق على الأمويين

قال السيد القرشي:و كره العراقيون بصورة عامة حكم الأمويين،و بغضوا سلطانهم،و فيما نحسب أن الأسباب في ذلك ما يلي:

-1-إن العراق أيام معاوية أصبح يساس بالروح العسكرية و الأحكام العرفية التي لا تتقيد بالقانون خصوصا أيام زياد بن سمية فقد كان يأخذ البري بالسقيم، و المقبل بالمدبر،و يقتل على الظنة و التهمة،مما أدى إلى إشاعة الكراهية للأمويين.

-2-إن الكوفة كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عاصمة الدولة الإسلامية، و في أيام معاوية أصبحت دمشق العاصمة و مركز الحكم و أصبح العراق مصرا كسائر الأمصار،و انتقلت عنه الخزينة المركزية،و قد أخذ الكوفيون يندبون حظهم التعيس بعد تحول الخلافة عنهم و أصبح اسم الإمام عندهم رمزا إلى دولتهم المفقودة،و تعلقت آمالهم بأبناء الإمام فكانوا ينظرون إليهم أنهم الأبطال لاستقلال بلادهم السياسي و تحررها من التبعية لدمشق فقد كره أهل العراق الخضوع لأهل الشام،كما كره أهل الشام الخضوع و السيطرة لأهل العراق و قد صور شاعر الشام هذه النزعة بقوله:

أرى الشام تكره ملك العراق و أهل العراق لهم كارهونا

و قالوا علي إمام لنا فقلنا رضينا ابن هند رضينا

و صور شاعر العراق هذه النزعة السائدة عند العراقيين بقوله مخاطبا أهل

ص: 43

الشام:

أتاكم علي بأهل العراق و أهل الحجاز فما تصنعونا

فإن يكره القوم ملك العراق فقدما رضينا الذي تكرهونا

و كانت الثورات المتلاحقة التي قام بها العراق إنما هي لكراهية أهل الشام و التخلص من حكم الأمويين.

-3-إن السياسة الخاطئة التي اتّبعها معاوية مع زعماء الشيعة الذين تبنّوا القضايا المصيرية للشعب العراقي و كافة الشعوب الإسلامية و ما عانوه من القتل و التنكيل قد هزت مشاعر الكوفيين،و أوغرت صدورهم بالحقد على الأمويين،كما أن سب الإمام على المنابر قد زاد في بغضهم للأمويين و أشعل جذوة المعارضة في نفوسهم.

-4-إن الأمويين كانوا ينظرون إلى أهل الكوفة أنهم الجبهة المعارضة لحكمهم و أنهم المصدر الخطير الذي يهدد دولتهم فقابلوهم بمزيد من القسوة و الإرهاب، مما دعا الكوفيين إلى العمل المستمر لمناهضة الحكم الأموي و تقويض سلطانه...

هذه بعض الأسباب التي أدت إلى نقمة العراق على الحكم الأموي و بغضهم له.

إعلان التمرد في العراق

و بعد هلاك معاوية أيقن العراقيون بانهيار الدولة الأموية،و قد رأوا أن في تقليد يزيد مهام الخلافة إنما هو استمرار للحكم الأموي الذي جهد على إذلالهم و قهرهم.

و قد أجمعت الشيعة في الكوفة على مناجزته و الخروج على سلطانه و رأوا أن في كفاحهم له جهادا دينيا،حسب ما يقول(جولد تسهير)و يرى(كريمر)أن الأخيار و الصلحاء من الشيعة كانوا ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام و خلفاء أبي سفيان.

ص: 44

و على أي حال فإن شيعة الكوفة لم ترض بحكم يزيد،و أجمعت على خلعه، و البيعة للإمام الحسين عليه السّلام و قد قاموا بما يلي:

المؤتمر العام

و عقدت الشيعة بعد هلاك معاوية مؤتمرا عاما في بيت أكبر زعمائها سليمان ابن صرد الخزاعي،و اندفعوا اندفاعا كليا في إلقاء الخطب الحماسية التي تظهر مساوىء الحكم الأموي و فضائحه،كما أشادوا بالإمام الحسين و دعوا إلى البيعة له.

خطبة سليمان

و اعتلى سليمان بن صرد منصة الخطابة،فافتتح أولى جلساتهم بهذا الخطاب، و قد جاء فيه:

«إن معاوية قد هلك،و إن حسينا قد قبض على القوم ببيعته،و قد خرج إلى مكة و أنتم شيعته،و شيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه و مجاهدوا عدوه فاكتبوا إليه،و إن خفتم الوهن و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه..».

و تعالت أصواتهم من كل جانب و هم يقولون بحماس بالغ:

«نقتل أنفسنا دونه..».

«لا بل نقاتل عدوه..».

و أظهروا رغبتهم الملحة و دعمهم الكامل للإمام،و قرروا ما يلي:

-1-خلع بيعة يزيد.

-2-إرسال وفد للإمام يدعونه للقدوم إليهم.

ص: 45

-3-بعث الرسائل للإمام من مختلف الطبقات الشعبية التي تمثل رغبة الجماهير الحاشدة لحكم الإمام.

وفد الكوفة

و أوفدت الكوفة وفدا إلى الإمام يدعوه إلى القدوم إليهم،و من بين ذلك الوفد عبد الله الجدلي و لما مثل الوفد عند الإمام عرض عليه إجماع أهل الكوفة على نصرته و الأخذ بحقه،و أنه ليس لهم إمام غيره،و حثوه على القدوم إليهم.

ص: 46

الرسائل

و عمد أهل الكوفة بعد مؤتمرهم فكتبوا الرسائل إلى الإمام عليه السّلام و هي تعرب عن إخلاصهم و ولائهم له،و تحثه على القدوم إليهم ليتولى قيادة الأمة و هذه بعضها.

-1-قد جاء فيها بعد البسملة ما نصه:

«من سليمان بن صرد،و المسيب بن نجية،و رفاعة بن شداد،و حبيب بن مظاهر،و شيعته و المسلمين من أهل الكوفة:

أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد-يعني معاوية-الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها،و اغتصبها فيئها،و تآمر عليها بغير رضى منها،ثم قتل خيارها و استبقى شرارها،و جعل مال الله دولة بين جبابرتها و أغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود...إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، و النعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة،و لا نخرج معه إلى عيد،و لو بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله و السلام عليك و رحمة الله و بركاته..».

و كتبت هذه الرسالة في أواخر شهر شعبان،و حملها عبد الله الهمدان و عبد الله بن وائل الهمداني و قد أمروهما بالإسراع و الحذر من العدو،و أخذا يجذّان في السير لا يلويان على شيء و قدما مكة لعشر مضين من رمضان و سلّما الرسالة للإمام و عرّفاه بشوق الناس إلى قدومه.

و قد عرضت هذه الرسالة مساوىء الحكم الأموي،فوصفت معاوية بالجبار العنيد،و أنه ابتز أمر الأمة بالقهر و الغلبة،و تأمر عليها بغير رضى منها،و قد قتل

ص: 47

خيارها و صلحاءها و جعل العطاء خاصة للأغنياء و الوجوه،و حرم منه بقية طوائف الشعب،كما عرضت إلى مقاطعة الشيعة لحاكم الكوفة النعمان بن بشير، و أنهم إذا بلغهم قدوم الإمام قاموا بإقصائه عن الكوفة و إلحاقه بدمشق.

-2-و قد أرسل الرسالة الثانية جماعة من أهل الكوفة و هذا نصها:

«إلى الحسين بن علي من شيعته و المسلمين،أما بعد فحيّ هلا فإن الناس ينتظرونك و لا رأي لهم غيرك فالعجل ثم العجل و السلام»و حمل هذه الرسالة قيس بن مسهر الصيداوي من بني أسد،و عبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي و عمارة بن عبد الله السلولي،كما حملوا معهم نحوا من خمسين صحيفة من الرجل و الاثنين و الثلاثة و الأربعة و هي تحث الإمام على الإسراع إليهم و الترحيب بقدومه، و تعلن دعمهم الكامل له.

-3-و أرسل هذه الرسالة جماعة من الانتهازيين الذين لا يؤمنون بالله،و هم شبث بن ربعي اليربوعي و محمد بن عمر التميمي،و حجار بن أبجر العجلي،و يزيد بن الحراث الشيباني،و عزرة بن قيس الأحمسي،و عمرو بن الحجاج الزبيدي،و هذا نصها:

«أما بعد فقد اخضر الجناب،و أينعت الثمار،و طمت الجمام فأقدم على جند لك مجندة و السلام عليك..».

و أعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل و ازدهار الحياة،و تهيئة البلاد عسكريا للأخذ بحق الإمام،و مناجزة خصومه،و قد وقّعها أولئك الأشخاص الذين كانوا في طليعة القوى التي زجها ابن مرجانة لحرب الإمام و من المؤكد أنهم لم يكونوا مؤمنين بحقه،و إنما اندفعوا لمساومة السلطة الأموية،و الحصول منها على الأموال و منع الحياة،كما صرح الإمام الحسين بذلك أمام أصحابه.

-4-و من بين تلك الرسائل«إنا قد حبسنا أنفسنا عليك،و لسنا نحضر الصلاة مع الولاة،فأقدم علينا فنحن في مائة ألف سيف،فقد فشا فينا الجور،و عمل فينا بغير

ص: 48

كتاب الله و سنة نبيه،و نرجو أن يجمعنا الله بك على الحق،و ينفي عنا بك الظلم، فأنت أحق بهذا الأمر من يزيد و أبيه الذي غصب الأمة،و شرب الخمور،و لعب بالقرود و الطنابير،و تلاعب بالدين».

-5-و كتب جمهور أهل الكوفة الرسالة الآتية و وقعوها و هذا نصها:

«للحسين بن علي أمير المؤمنين من شيعة أبيه عليه السّلام أما بعد فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم في غيرك العجل العجل يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله لعل الله يجمعنا بك على الحق و يؤيد بك المسلمين و الإسلام...بعد أجزل السلام و أتمه عليك و رحمة الله و بركاته».

-6-و كتب إليه جماعة هذه الرسالة الموجزة:«إنا معك،و معنا مائة ألف سيف».

-7-و كانت آخر الرسائل التي وصلت إليه هذه الرسالة:«عجل القدوم يابن رسول الله فإن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر».

و قد تتابعت عليه الرسائل ما ملأ منها خرجين،و يقول المؤرخون:إنه اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب و ورد إليه قائمة فيها مائة و أربعون ألف اسم يعربون عن نصرتهم له حالما يصل إلى الكوفة كما وردت عليه في يوم واحد ستمائة كتاب.

و على أي حال فقد كثرت كتب أهل الكوفة إلى الإمام و قد وقع فيها الأشراف و قراء المصر و هي تمثل تعطشهم لقدوم الإمام ليكون منقذا لهم من طغمة الحكم الأموي و لكن بمزيد الأسف فقد انطوت صحيفة ذلك الأمل،و انقلب الوضع و تغيرت الحالة،و إذا بالكوفة تنتظر الحسين لتسقي سيوفها من دمه،و تطعم نبالها من لحمه..تريد أن تحتضن جسد الحسين لتوزعه السيوف،و تطعنه الرماح،و تسحقه الخيول بحوافرها.

الكوفة تنتظر الحسين لتثب عليه و ثبة الأسد،و تنشب أظفارها بذلك الجسد الطاهر،الكوفة تنتظر الحسين لتسبي عياله بدل أن تحميهم،و تروع أطفاله بدل أن

ص: 49

تؤويهم.

و هكذا شاءت المقادير،و لا راد لأمر الله على نكث القوم لبيعة الإمام و إجماعهم على حربه و يقول المؤرخون أن الإمام بعد ما و افته هذه الرسائل عزم على أن يلبي أهل الكوفة و يوفد إليهم ممثله العظيم مسلم بن عقيل (1).2.

ص: 50


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:235/2.

[قصة مسلم بن عقيل و ما اتفق في الكوفة]

إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة

قال السيد مرتضى العسكري:و هكذا تلاقت الرسل و تكدست الكتب لديه فكتب الإمام في جوابهم إلى الملأ من المؤمنين و المسلمين:أما بعد قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم و مقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى و الحق و قد بعثت إليكم أخي و ابن عمى و ثقتي من أهل بيتي و أمرته أن يكتب إليّ بحالكم و أمركم و رأيكم فإن كتب إلى أنه قد أجمع رأي ملئكم و ذوي الفضل و الحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم و قرأت في كتبكم،أقدم عليكم و شيكا إن شاء اللّه فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائن بالحق و الحابس نفسه على ذات اللّه و السلام (1).

و أرسل إليهم مسلم بن عقيل (2)فأقبل حتى دخل الكوفة فاجتمع إليه الشيعة و استمعوا إلى كتاب الحسين و هم يبكون و بايعه ثمانية عشر ألفا (3).

فكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين:أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي و لا هوى و السلام (4).

و في رواية بايع مسلم بن عقيل خمسة و عشرون ألفا.

ص: 51


1- الطبري 198/6،و الاخبار الطوال للدينوري 238.
2- الطبري 198/6.
3- الطبري 211/6،و مثير الأحزان ص 21،و اللهوف ص 10.
4- الطبري 211/6.

و في رواية أخرى أربعين ألفا (1).

قال المؤلف:و لعل أهل الكوفة استمروا على البيعة لمسلم بعد ارساله الكتاب إلى الإمام الحسين حتى بلغوا خمسا و عشرين أو أربعين ألفا.

قال الطبري:اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة و تذاكروا أمر الحسين و التحق بعضهم به و سار معه حتى استشهد و كتب إليهم الحسين يستنصرهم (2).

قال:و عزل يزيد نعمان بن بشير عن ولاية الكوفة و ولّى عبيد اللّه بن زياد عليها (3)بالإضافة إلى ولايته على البصرة و كتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل حتى يقتله فقدم الكوفة و تتبع الشيعة فثار عليه مسلم بن عقيل و خذله من بايعه من أهل الكوفة و بقى وحيدا يحارب جنود ابن زياد فضرب بسيف قطع شفته العليا و نصلت ثناياه و أخذوا يرمونه بالحجارة من فوق البيوت و يلهبون النار في أطنان القصب ثم يقلبونها عليه فتقدم إليه محمد بن الأشعث و قال:لك الأمان لا تقتل نفسك و كان قد أثخن بالحجارة و عجز عن القتال و انبهر و أسند ظهره إلى جنب الدار فدنا منه ابن الأشعث فقال:لك الأمان قال:آمن أنا؟

قال:نعم.

و قال القوم:أنت آمن.

فقال:أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم فاجتمعوا حوله و انتزعوا سيفه من عنقه فقال:هذا أول الغدر أين أمانكم؟ثم أقبل على ابن الأشعث و قال له:

انى أراك و اللّه ستعجز عن أماني فهل عندك خير؟تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا فإني لا أراه إلاّ قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خارج غدا5.

ص: 52


1- تاريخ ابن عساكر 649.
2- الطبري 198/6-200.
3- الطبري 199/6-215.

هو و أهل بيته و إن ما ترى من جزعي لذلك فيقول:إن ابن عقيل بعثني إليك و هو في أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حتى تقتل،إرجع باهل بيتك و لا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل،إن أهل الكوفة قد كذبوك و كذبوني و ليس لمكذوب رأي.

فقال الأشعث:و اللّه لأفعلن و لأعلمن ابن زياد أنى قد أمّنتك.

و أدخل مسلم على ابن زياد على تلك الحالة و جرى بينهم محاورة فقال له ابن زياد لعمري لتقتلن.

قال:كذلك؟قال:نعم قال:فدعني أوص إلى بعض قومي فنظر إلى جلساء عبيد اللّه و فيهم عمر بن سعد.

فقال:يا عمر ان بيني و بينك قرابة ولى إليك حاجة و قد يجب لي عليك نجح حاجتي و هو سر،فأبى أن يمكنه من ذكرها فقال له عبيد اللّه:لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد فقال له:إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنى و انظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها و ابعث إلى حسين من يرده فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه و لا أراه إلاّ مقبلا.

فأخبر ابن سعد ابن زياد بما قال مسلم فقال ابن زياد.

إنه لا يخونك الأمين و لكن يؤتمن الخائن و امر بمسلم ان يصعد به فوق القصر و يضرب عنقه فقال لابن الأشعث:أما و اللّه لو لا أنك أمنتني ما استسلمت قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك فصعد به و هو يكبر و يستغفر و يصلّي على ملائكة اللّه و رسله و يقول:اللهم احكم بيننا و بين قوم غرونا و كذبونا و أذلونا.

و أشرف به و ضربت عنقه و أتبع جسده رأسه.

و أمر ابن زياد بهانئ بن عروة فأخرج إلى السوق فضرب عنقه و أرسل ابن زياد برأسيهما مع كتاب إلى يزيد فكتب إليه يزيد:أما بعد فإنك لم تعد إن كنت كما أحب

ص: 53

عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش فقد أغنيت و كفيت و صدقت ظني بك و رأيي فيك (1). (2).

قال السيد محمد باقر القرشي:و تتابعت كتب أهل الكوفة-كالسيل-إلى الإمام الحسين،و هي تحثه على المسير و القدوم إليهم لإنقاذهم من ظلم الأمويين و عنفهم، و كانت بعض تلك الرسائل تحمله المسؤولية أمام الله و الأمة إن تأخر عن إجابتهم.

و رأى الإمام-قبل كل شيء-أن يختار للقياهم سفيرا له يعرّفه باتجاهاتهم، و صدق نياتهم،فإن رأى منهم نية صادقة،و عزيمة مصممة فيأخذ البيعة منهم،ثم يتوجه إليهم بعد ذلك،و قد اختار لسفارته ثقته و كبير أهل بيته،و المبرز بالفضل فيهم مسلم بن عقيل،و هو من أفذاذ التأريخ،و من أمهر الساسة،و أكثرهم قابلية على مواجهة الظروف،و الصمود أمام الأحداث،و عرض عليه الإمام القيام بهذه المهمة،فاستجاب له عن رضى و رغبة،و زوده برسالة رويت بصور متعددة و هي:

الأولى:رواها أبو حنيفة الدينوري و هذا نصها:

«من الحسين بن علي إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه و شيعته بالكوفة،سلام عليكم،أما بعد:فقد أتتني كتبكم،و فهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم،و أنا باعث إليكم بأخي و ابن عمي،و ثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه أمركم، و يكتب إلي بما يتبين له من اجتماعكم فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم، و أخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله و السلام..».

الثانية:رواها صفي الدين و قد جاء فيها بعد البسملة:

«أما بعد فقد وصلتني كتبكم،و فهمت ما اقتضته آراؤكم،و قد بعثت إليكم ثقتي و ابن عمي مسلم بن عقيل،و سأقدم عليكم و شيكا في أثره إن شاء الله..».3.

ص: 54


1- انظر تاريخ الطبري 199/6-215،و إرشاد المفيد 199-200.
2- معالم المدرستين للعسكري:55/3.

و هذه الرواية شاذة إذ لم يذكر فيها مهمة مسلم في إيفاده إليهم من أخذ البيعة له،و غير ذلك مما هو من صميم الموضوع في إرسال مسلم.

الثالثة:رواها الطبري و قد جاء فيها بعد البسملة:

«من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين و المسلمين أما بعد:فإن هانئا و سعيدا قدما علي بكتبكم،و كانا آخر من قدم علي من رسلكم و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم،و مقالة جلّكم،أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى و الحق.

و قد بعثت لكم أخي و ابن عمي،و ثقتي من أهل بيتي،و أمرته أن يكتب إلي بحالكم و أمركم و رأيكم،فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملئكم و ذوي الفضل و الحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم،و قرأت في كتبكم،أقدم عليكم و شيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائن بالحق،و الحابس نفسه على ذات الله و السلام..».

و حفلت هذه الرسالة-حسب نص الطبري-بالأمور التالية:

-1-توثيق مسلم و التدليل على سمو مكانته،فهو ثقة الحسين.

-2-تحديد صلاحية مسلم باستكشاف الأوضاع الراهنة،و معرفة التيارات السياسية،و مدى صدق القوم في دعواهم،و من الطبيعي أنه لا تناط معرفة هذه الأمور الحساسة إلا بمن كانت له المعرفة التامة بشؤون المجتمع و أحوال الناس.

-3-أنه أوقف قدومه عليهم بتعريف مسلم له بإجماع الجماهير و رجال الفكر على بيعته،فلا يقدم عليهم حتى يعرفه سفيره بذلك.

-4-أنه تحدث عما يجب أن يتصف به الإمام،و القائد لمسيرة الأمة من الصفات و هي:

أ-العمل بكتاب الله.

ب-الأخذ بالقسط.

ص: 55

ج-الإدانة بالحق

د-حبس النفس على ذات الله

و لم تتوفر هذه الصفات الرفيعة إلا في شخصيته الكريمة التي تحكي اتجاهات الرسول صلّى اللّه عليه و اله و نزعاته.

و تسلم مسلم هذه الرسالة،و قد أوصاه الإمام بتقوى الله،و كتمان أمره و غادر مسلم مكة ليلة النصف من رمضان و عرج في طريقه على يثرب فصلى في مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و اله و طاف بضريحه،و ودع أهله و أصحابه و كان ذلك هو الوداع الأخير لهم،و اتجه صوب العراق و كان معه قيس بن مسهر الصيداوي،و عمارة بن عبد الله السلولي،و عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي،و استأجر من يثرب دليلين من قيس يدلانه على الطريق.

و سارت قافلة مسلم تجذ في السير لا تلوي على شيء،يتقدمها الدليلان و هما يتنكبان الطريق خوفا من الطلب،فضلا عن الطريق،و لم يهتديا له و قد أعياهما السير و اشتد بهما العطش،فأشارا إلى مسلم بسنن الطريق بعد أن بان لهما،و توفيا في ذلك المكان حسبما يقوله المؤرخون و سار مسلم مع رفقائه حتى أفضوا إلى الطريق،و وجدوا ماءا فأقاموا فيه ليستريحوا مما ألم بهم من عظيم الجهد و العناء.

ص: 56

رسالة مسلم للحسين

و يقول المؤرخون أن مسلم تخوف من سفره و تطير بعد أن أصابه من الجهد و موت الدليلين،فرفع للإمام رسالة يرجو فيها الاستقالة من سفارته و هذا نصها:

«أما بعد:فإني أقبلت من المدينة مع دليلين،فجازا عن الطريق فضلا و اشتد عليهما العطش فلم يلبثا أن ماتا،و أقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا،و ذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبث،و قد تطيّرت من توجهي هذا فإن رأيت أعفيتني منه،و بعثت غيري و السلام..».

جواب الإمام الحسين عليه السلام

و كتب الإمام الحسين جوابا لرسالة مسلم ندد فيه بموقفه،و اتهمه بالجبن و هذا نصه:

«أما بعد:فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إلي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن،فامض لوجهك الذي وجهتك فيه و السلام..».

أضواء على الموضوع

و أكبر الظن أن رسالة مسلم مع جواب الإمام من الموضوعات،و لا نصيب لها من الصحة و ذلك لما يلي:

-1-إن مضيق الخبث الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع ما بين مكة

ص: 57

و المدينة حسب ما نص عليه الحموي في حين أن الرواية تنص على أنه استأجر الدليلين من يثرب،و خرجوا إلى العراق فضلوا عن الطريق،و مات الدليلان،و من الطبيعي أن هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة و العراق و لم تقع ما بين مكة و المدينة.

-2-إنه لو كان هناك مكان يدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب و العراق لم يذكره الحموي فإن السفر منه إلى مكة ذهابا و إيابا يستوعب زمانا يزيد على عشرة أيام في حين أن سفر مسلم من مكة إلى العراق قد حدده المؤرخون فقالوا:إنه سافر من مكة في اليوم الخامس عشر من رمضان،يقطعها المسافر من مكة إلى المدينة فإن المسافة بينهما تزيد على ألف و ستمائة كيلو متر،و إذا استثنينا من هذه المدة سفر رسول مسلم من ذلك المكان و رجوعه إليه،فإن مدة سفره من مكة إلى الكوفة تكون أقل من عشرة أيام و يستحيل عادة قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن.

و الشجاعة النادرة ما يبهر العقول فإنه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أي أحد،و قد أشاع في تلك الجيوش المكثفة القتل مما ملأ قلوبهم ذعرا و خوفا و لما جيء به أسيرا إلى ابن زياد لم يظهر عليه أي ذل أو انكسار،و يقول فيه البلاذري أنه أشجع بني عقيل و أرجلهم بل هو أشجع هاشمي عرفه التأريخ بعد أئمة أهل البيت عليهم السّلام..إن هذا الحديث من المفتريات الذي وضع للحط من قيمة هذا القائد العظيم الذي هو من مفاخر الأمة العربية و الإسلامية.

في بيت المختار

و سار مسلم يطوي البيداء حتى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي و هو من أشهر أعلام الشيعة و أحد سيوفهم،و من أحب الناس و أنصحهم للإمام الحسين.

ص: 58

لقد اختار مسلم النزول في بيت المختار دون غيره من زعماء الشيعة و ذلك لوثوقه بإخلاصه للإمام الحسين،و تفانيه في حبه،كما أن هناك عاملا آخر له أهميته،فقد كان المختار زوجا لعمرة بنت النعمان بن بشير حاكم الكوفة،و لا شك أن يده لن تمتد إلى مسلم طالما كان مقيما في بيت صهره المختار،و قد دل ذلك على إحاطة مسلم بالشؤون الاجتماعية.

و فتح المختار أبواب داره لمسلم،و قابله بمزيد من الحفاوة و التكريم و دعا الشيعة إلى مقابلته فأقبلوا إليه من كل حدب و صوب،و هم يظهرون له الولاء و الطاعة.

ابتهاج الكوفة

و عمّت الأفراح بمقدم مسلم جميع الأوساط الشيعية في الكوفة،و قد وجد منهم مسلم ترحيبا حارا،و تأييدا شاملا،و كان يقرأ عليهم رسالة الحسين،و هم يبكون، و يبدون التعطش لقدومه،و التفاني في نصرته،لينقذهم من جور الأمويين و ظلمهم،و يعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين مؤسس العدالة الكبرى في الأرض،و كان مسلم يوصيهم بتقوى الله،و كتمان أمرهم حتى يقدم إليهم الإمام الحسين.

ص: 59

البيعة للإمام الحسين عليه السلام

و انثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحسين،و كانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله و سنة رسوله،و جهاد الظالمين،و الدفاع عن المستضعفين و إعطاء المحرومين،و قسمة الغنائم بين المسلمين بالسوية،ورد المظالم إلى أهلها، و نصرة أهل البيت،و المسالمة لمن سالموا،و المحاربة لمن حاربوا و قد شبه السيد المقرم هذه البيعة ببيعة الأوس و الخزرج للنبي صلّى اللّه عليه و اله و كان حبيب بن مظاهر الأسدي يأخذ البيعة منهم للحسين.

كلمة عابس الشاكري

و انبرى المؤمن الفذ عابس بن شبيب الشاكري فأعرب لمسلم عن ولائه الشخصي و استعداده للموت في سبيل الدعوة إلا أنه لم يتعهد له بأي أحد من أهل مصره قائلا:

«أما بعد:فإني لا أخبرك عن الناس،و لا أعلم ما في أنفسهم.و ما أغرك منهم،و الله إني محدثك عمّا أنا موطن عليه نفسي،و الله لأجيبنكم إذا دعوتم،و لأقاتلن معكم عدوكم، و لأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله،لا أريد بذلك إلا ما عند الله..».

و قد صدق عابس ما عاهد عليه الله،فلم يخن ضميره ففدى بنفسه ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و استشهد بين يديه في كربلا..و انبرى حبيب بن مظاهر فخاطب عابسا قائلا له:

ص: 60

«رحمك الله،فقد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك،و أنا و الله الذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه».

و اندفع سعيد الحنفي فأيد مقالة صاحبيه و هؤلاء الأبطال من أنبل من عرفهم التأريخ صدقا و وفاء،فقد بذلوا أرواحهم بسخاء إلى الإمام الحسين،و استشهدوا بين يديه في كربلا.

عدد المبايعين

و تسابقت جماهير الكوفة إلى بيعة الحسين على يد سفيره مسلم بن عقيل،و قد اختلف المؤرخون في عدد من بايعه،و هذه بعض الأقوال:

-1-أربعون ألفا.

-2-ثلاثون ألفا و من بينهم حاكم الكوفة النعمان بن بشير.

-3-ثمانية و عشرون ألفا.

-4-ثمانية عشر ألفا،حسب ما جاء في رسالة مسلم إلى الحسين يقول فيها:

«و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجّل الإقبال».

-5-إثنا عشر ألفا.

رسالة مسلم للحسين

و ازداد مسلم إيمانا و وثوقا بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل من أهل الكوفة،فكتب للإمام رسالة يستحثه فيها على القدوم إليهم،و كان قد كتبها قبل شهادته ببضع و عشرين ليلة و هذا نصها:

«أما بعد:فإن الرائد لا يكذب أهله،و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا

ص: 61

فعجّل حين يأتيك كتابي،فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي و لا هوى».

لقد كتب مسلم هذه الرسالة لأنه لم ير أية مقاومة لدعوته،و إنما رأى إجماعا شاملا على بيعة الإمام،و تلهفا حارا لرؤيته،و حمل الكتاب جماعة من أهل الكوفة، و عليهم البطل العظيم عابس الشاكري،و قدم الوفد مكة المكرمة،و سلم الرسالة إلى الإمام،و قد استحثوه على القدوم إلى الكوفة،و ذكروا إجماع أهلها على بيعته،و ما لاقاه مسلم من الحفاوة البالغة منهم،و عند ذلك تهيأ الإمام إلى السفر للكوفة.

موقف النعمان بن بشير

كان موقف النعمان بن بشير من الثورة موقفا يتسم باللين و التسامح و قد اتهمه الحزب الأموي بالضعف،أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة و الاهتمام بسلامتها فأجابهم:

«لئن أكون ضعيفا و أنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويا في معصية الله، و ما كنت لأهتك سترا ستره الله».

و قد أعطى الشيعة بموقفه هذا قوة،و شجّعهم على العمل ضد الحكومة علنا، و لعل سبب ذلك يعود لأمرين:

-1-إن مسلم بن عقيل كان ضيفا عند المختار و هو زوج ابنته عمرة فلم يعرض للثوار بسوء رعاية للمختار.

-2-إن النعمان كان ناقما على يزيد و ذلك لبغضه للأنصار فقد أغرى الأخطل الشاعر المسيحي في هجائهم فثأر لهم النعمان كما ألمحنا إلى ذلك في البحوث السابقة،و لعل لهذا و لغيره لم يتخذ النعمان أي إجراء مضاد للثورة.

ص: 62

خطبة النعمان

و أعطى النعمان للشيعة قوة في ترتيب الثورة و تنظيمها،و هيأ لهم الفرص في إحكام قواعدها مما ساء الحزب الأموي،فأنكروا عليه ذلك،و حرّضوه على ضرب الشيعة فخرج النعمان،و صعد المنبر فأعلن للناس سياسته المتسمة بالرفق،فقال بعد حمد الله و الثناء عليه.

«أما بعد:فاتقوا الله عباد الله،و لا تسارعوا إلى الفتنة و الفرقة فإن فيهما تهلك الرجال و تسفك الدماء،و تغصب الأموال.إني لم أقاتل من لم يقاتلني،و لا أثب على من لا يثب علي،و لا أشاتمكم،و لا أتحرش بكم،و لا آخذ بالقرف و لا الظنة و لا التهمة،و لكنكم إن أبديتم صفحتكم لي،و نكثتم بيعتكم،و خالفتم إمامكم فو الله الذي لا إله إلا هو لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي،و لو لم يكن لي منكم ناصر،أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل».

و ليس في هذا الخطاب أي ركون إلى وسائل العنف و الشدة،و إنما كان فيه تحذير من مغبة الفتنة و حب للعافية،و عدم التعرض لمن لا يثب على السلطة،و عدم أخذ الناس بالظنة و التهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه والي العراق،و علّق أنيس زكريا على خطاب النعمان بقوله:

«و لنا من خطبه-أي خطب النعمان-في الكوفة برهان آخر على أنه كان يرى الفتنة يقظى،و لا بد أن تشتعل،و أنه لن يهاجم القائمين بها قبل أن يهاجموه،فجعل لأنصارها قوة وطيدة الأركان،و يدا فعالة في ترتيب المؤامرة و تنظيمها على الأسس المتينة».

ص: 63

سخط الحزب الأموي

و أغضبت سياسة النعمان عملاء الحكم الأموي فانبرى إليه عبد الله بن مسلم الحضرمي حليف بني أمية،فأنكر خطته قائلا:

«إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك و بين عدوك رأي المستضعفين؟!».

و دافع النعمان عن نفسه بأنه لا يعتمد على أية وسيلة تبعده عن الله و لا يسلك طريقا يتجافى مع دينه،و قد استبان للحزب الأموي ضعف النعمان،و انهياره أمام الثورة.

اتصال الحزب الأموي بدمشق

و فزع الحزب الأموي من تجاوب الرأي العام مع مسلم،و اتساع نطاق الثورة في حين أن السلطة المحلية أغضت النظر عن مجريات الأحداث و قد اتهمتها بالضعف أو بالتوطأ مع الثوار،و قام الحزب الأموي باتصال سريع بحكومة دمشق،و طلبوا منها اتخاذ الإجراءات الفورية قبل أن يتسع نطاق الثورة،و يأخذ العراق استقلاله، و ينفصل عن التبعية لدمشق،و من بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحضرمي،جاء فيها:

«أما بعد:فإن مسلم بن عقيل،قدم الكوفة،و بايعته الشيعة للحسين بن علي،فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك،و يعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف».

ص: 64

و تدعو هذه الرسالة إلى إقصاء النعمان عن مركزه،و استعمال شخص آخر مكانه قوي البطش ليتمكن من القضاء على الثورة،فإن النعمان لا يصلح للقضاء عليها،و كتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة و عمر بن سعد.

فزع يزيد

و فزع يزيد حينما توافدت عليه رسائل عملائه في الكوفة بمبايعة أهلها للحسين، فراودته الهواجس،و ظل ينفق ليله ساهرا يطيل التفكير في الأمر فهو يعلم أن العراق مركز القوة في العالم الإسلامي و هو يبغضه و يحقد على أبيه،فقد أصبح موترا منهم لما صبوه عليه من الظلم و الجور،و إن كراهية أهل العراق ليزيد لا تقل عن كراهيتهم لأبيه،كما أنه على يقين أن الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطش لحكم الإمام الحسين لأنه الممثل الشرعي لجده و أبيه،و لا يرضون بغيره بديلا.

استشارته لسرجون

و أحاطت الهواجس بيزيد،و شعر بالخطر الذي يهدد ملكه فاستدعى سرجون الرومي،و كان مستودع أسرار أبيه،و من أدهى الناس،فعرض عليه الأمر،و قال له:

«ما رأيك أن حسينا قد توجه إلى الكوفة،و مسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين،و قد بلغني عن النعمان ضعف و قول سيء،فما ترى من استعمل على الكوفة؟».

و تأمل سرجون،و أخذ يطيل التفكير فقال له:

«أرأيت أن معاوية لو نشر أكنت آخذا رأيه؟».

ص: 65

فقال يزيد:«نعم».

فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة،و قال:«هذا رأي معاوية و قد مات،و قد أمر بهذا الكتاب»أما دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو من أمرين:

-1-إنه يعرف قسوة ابن زياد و بطشه و أنه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره فهو الذي يتمكن من القضاء على الثورة بما يملك من وسائل الإرهاب و العنف.

-2-إنه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح فإن ابن زياد رومي النسب و سرجون رومي.

ص: 66

ولاية ابن زياد على الكوفة

و كان يزيد ناقما على ابن زياد كأشد ما تكون النقمة،و أراد عزله عن البصرة و ذلك لمعارضة أبيه في البيعة له،إلا أنه استجاب لرأي سرجون فقد رأى فيه الحفاظ على مصلحة دولته،فعهد له بولاية الكوفة و البصرة،و بذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه،و كتب إليه هذه الرسالة:

«أما بعد:فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين،فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه،و السلام».

و أشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق و فزعها من مسلم بن عقيل،و قد شددت على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة لإلقاء القبض عليه، و تنص بعض المصادر أن يزيد كتب إلى ابن زياد«إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة»و هذا مما ينبي عن الخوف الذي ألمّ بيزيد من الثورة في العراق.

و حمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة، و يقول المؤرخون أن الباهلي كان من عيون بني أمية في الكوفة و من أهم عملائهم، كما كان من أجلاف العرب و هو الذي ظن على مسلم أن يشرب جرعة من الماء حينما جي به أسيرا إلى ابن زياد.

و تسلم ابن زياد من الباهلي العهد له بولاية الكوفة،و قد طار فرحا فقد تم له الحكم على جميع أنحاء العراق بعد ما كان مهددا بالعزل عن ولاية البصرة،و قد سر بما خولته دمشق من الحكم المطلق على العراق،و بما سوغت له من استعمال

ص: 67

الشدة و القسوة و سفك الدماء لكل من لا يدخل في طاعة يزيد أو يشترك بأية مؤامرة ضده،و كان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس مما يتفق مع رغبات ابن زياد و ميوله فقد كان من عوامل استمتاعاته النفسية حب الجريمة و الإساءة إلى الناس،و عدم التردد في سفك الدماء.

ص: 68

خطبة ابن زياد في البصرة

و تهيأ ابن زياد لمغادرة البصرة و التوجه إلى الكوفة،و قبل مغادرته لها جمع الناس،و خطب فيهم خطابا قاسيا جاء فيه:

«إن أمير المؤمنين يزيد و لاني الكوفة،و أنا غاد إليها الغداة،فو الله إني ما تقرن بي الصعبة،و لا يقعقع لي بالشنآن،و إني لنكل لمن عاداني،و سم لمن حاربني، انصف القارة من راماها.

يا أهل البصرة قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان،و إياكم و الخلاف و الأرجاف فو الله الذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه و عرينه و وليه،و لآخذن الأدنى بالأقصى حتى تسمعوا لي،و لا يكون فيكم مخالف و لا مشاق...أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطأ الحصى،و لم ينتزعني شبه خال و لا ابن عم».

ما أهون سفك الدماء عند أولئك البرابرة الوحوش من ولاة بني أمية!!لقد تحدث الطاغية عن نفسيته الشريرة التي توغلت في الإثم،فهو يأخذ البريء بالسقيم، و المقبل بالمدبر،و الأدنى بالأقصى،و يقتل على الظنة و التهمة كما كان يفعل أبوه زياد الذي أشاع القتل في ربوع العراق.

سفر الطاغية إلى الكوفة:

و سار الخبيث الدنس من البصرة متجها إلى الكوفة ليقترف أعظم موبقة لم يقترفها شقي غيره،و قد صحبه من أهل البصرة خمسمائة رجل فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل و شريك بن الأعور الحارثي و هو من أخلص أصحاب الإمام

ص: 69

الحسين،و قد صحب ابن زياد ليكون عينا عليه،و يتعرف على خططه،و قد صحب ابن زياد هذا العدد ليستعين بهم على بث الإرهاب،و إذاعة الخوف بين الناس و الاتصال بزعماء الكوفة لصرفهم عن الثورة.

على أي حال فقد أخذ ابن زياد يجد في السير لا يلوي على شيء قد واصل السير إلى الكوفة مخافة أن يسبقه الحسين إليها،و قد جهد أصحابه،و أعياهم المسير فسقط منهم جماعة منهم عبد الله بن الحارث فلم يعبأ بهم،و لما ورد القادسية سقط مولاه(مهران)فقال له ابن زياد:

«إن سكت على هذا الحال فتنتظر إلى القصر فلك مائة ألف».

فقال له مهران:لا و الله لا أستطيع،و نزل الطاغية فلبس ثيابا يمانية و عمامة سوداء و تلثم،ليوهم من رآه أنه الحسين و سار وحده فدخل الكوفة مما يلي النجف و كان قلبه كجناح طائر من شدة الخوف،و لو كانت عنده مسكة من البسالة و الشجاعة لما تنكر و غير بزته،و أوهم على الناس أنه الحسين..و قد تذرع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه،و تنص بعض المصادر أنه حبس نفسه عن الكلام خوفا من أن يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم (1).2.

ص: 70


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:243/2.

ابن زياد في قصر الإمارة

و أسرع الخبيث نحو قصر الإمارة و قد علاه الفزع،و ساءه كأشد ما يكون الاستياء من تباشير الناس و فرحهم بقدوم الإمام الحسين،و لما انتهى إلى باب القصر وجده مغلقا،و النعمان بن بشير مشرف من أعلى القصر،و كان قد توهم أن القادم هو الحسين لأن أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به و الهتاف بحياته، فانبرى يخاطبه.

«ما أنا بمؤد إليك أمانتي يابن رسول الله،و مالي في قتالك من إرب..».

و لمس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف،و الانهيار فصاح به بنبرات تقطر غيظا:

«افتح لا فتحت فقد طال ليلك».

و لما تكلم عرفه بعض من كان خلفه فصاح الناس:«إنه ابن مرجانة و رب الكعبة»و من الغريب أن ذلك المجتمع لم يميز بين الإمام الحسين و بين ابن مرجانة، مع أن كلا منهما قد عاش فترة في ديارهم،و لعل الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبزته،و لبسه للعمامة السوداء.

و على أي حال فإن الناس حينما علموا أنه ابن زياد جفلوا و خفوا مسرعين إلى دورهم،و هم يتحدثون عما عانوه من الظلم و الجور أيام أبيه و قد أوجسوا من عبيد الله الشر..و بادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال و السلاح،و أنفق ليله ساهرا قد جمع حوله عملاء الحكم الأموي فأخذوا يحدثونه عن الثورة و يعرفونه بأعضائها البارزين،و يضعون معه المخططات للقضاء عليها.

ص: 71

خطابه في الكوفة

و عند ما انبثق نور الصبح أمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير،و قد خيم عليها الذعر و الخوف،و خرج ابن زياد متقلدا سيفه و معتما بعمامة،فاعتلى أعواد المنبر،و خطب الناس فقال:

«أما بعد:فإن أمير المؤمنين-أصلحه الله-و لاني أمركم و ثغركم و فيأكم، و أمرني بإنصاف مظلومكم و إعطاء محرومكم،و بالإحسان إلى سامعكم و مطيعكم،و بالشدة على مريبكم،فأنا لمطيعكم كالوالد البر الشفيق و سيفي و سوطي على من ترك أمري،و خالف عهدي فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبى عنك لا الوعيد..».

و حفل هذا الخطاب بمايلي:

-1-إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم،و عزل النعمان بن بشير عنه.

-2-تعريفهم أن حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على من يتبع السلطة، و لم يتمرد عليها و استعمال الشدة و القسوة على الخارجين عليها.

و لم يعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحسين و سفيره مسلم خوفا من انتفاضة الجماهير عليه و هو بعد لم يحكم أمره.

نشر الإرهاب

و عمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب،و إذاعة الخوف،و يقول بعض المؤرخين:إنه لما أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صال و جال،و أرعد و أبرق،و أمسك

ص: 72

جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة و قد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب، و صرف الناس عن الثورة.

و في اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد.و خرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به،فخطب فيهم خطابا عنيفا تهدد فيه و توعد،فقد قال بعد حمد الله و الثناء عليه:

«أما بعد:فإنه لا يصلح هذا الأمر إلا في شدة من غير عنف،و لين من غير ضعف، و أن آخذ البريء بالسقيم،و الشاهد بالغائب،و الولي بالولي».

فانبرى إليه رجل من أهل الكوفة يقال له أسد بن عبد الله المري فرد عليه:

«أيها الأمير،إن الله تبارك و تعالى يقول: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى إنما المرء بجده و السيف بحده،و الفرس بشده،و عليك أن تقول و علينا أن نسمع،فلا تقدم فينا السيئة قبل الحسنة..».

و أفحم ابن زياد فنزل عن المنبر و دخل قصر الإمارة.

ص: 73

تحول مسلم إلى دار هانى

و اضطر مسلم إلى تغيير مقره،و إحاطة نشاطه السياسي بكثير من السر و الكتمان،فقد شعر بالخطر الذي داهمه حينما قدم الطاغية إلى الكوفة فهو يعلم بخبث هذا الوغد،و أنه لا يرجو لله وقارا و لا يتحرج من اقتراف الإثم.و قد أجمع أمره على مغادرة دار المختار لأنه لم تكن عنده قوة تحميه و لم يكن يأوي إلى ركن شديد،فالتجأ إلى دار هانى بن عروة فهو سيد المصر و زعيم مراد،و عنده من القوة ما يضمن حماية الثورة و التغلب على الأحداث،فقد كان فيما يقول المؤرخون:إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع و ثمانية آلاف راجل،فإذا أجابتها أحلافها من كندة و غيرها كان في ثلاثين ألف دارع كما كانت له ألطاف و أياد بيضاء على أسرته مما جعلتهم يكنون له أعمق الود و الإخلاص.

و مضى مسلم إلى دار هذا الزعيم العربي الكبير فرحب به،و استقبله بحفاوة بالغة،و تنص بعض المصادر أنه قد ثقل على هانى استجارة مسلم به،و عظم عليه أن يتخذ داره معقلا للثورة،و مركزا للتجمعات ضد الدولة،فإنه بذلك يعرض نفسه للنقمة و البلاء إلا أنه استجاب لمسلم على كره خضوعا للعادات العربية التي لا تطرد اللاجى إليها،و إن عانت من ذلك أعظم المصاعب و المشاكل..و الذي نراه أنه لا صحة لذلك فإن مسلما لو شعر منه عدم الرضى،و القبول لما ركن إليه،و تحرج كأشد ما يكون التحرج من دخول داره و ذلك لما توفرت في مسلم من الطاقات التربوية الدينية،و ما عرف به من الشمم و الإباء الذي يبعده كل البعد من سلوك أي طريق فيه حرج أو تكلف على الناس،و بالإضافة إلى ذلك فإن مسلما لو لم يحرز منه

ص: 74

التجاوب التام،و الإيمان الخالص بدعوته لما التجأ إليه في تلك الفترة العصيبة التي تحيط به.

إن من المؤكد أن هانيا لم يستجب لحماية مسلم و الدفاع عنه على كره أو حياء، و إنما استجاب له عن رضى و إيمان بوحي من دينه و عقيدته.

و على أي حال فقد استقر مسلم في دار هانى و اتخذها مقرا للثورة،و قد احتف به هانى،و دعا القبائل لمبايعته،فبايعه في منزله ثمانية عشر ألفا و قد عرف مسلم هانئا بشؤون الثورة،و أحاطه علما بدعائها و أعضائها البارزين.

امتناع مسلم من اغتيال ابن زياد

و ذهب معظم المؤرخين إلى أن شريك بن الأعور مرض مرضا شديدا في بيت هانى بن عروة أو في بيته فانتهى خبره إلى ابن زياد فأرسل إليه رسولا يعلمه أنه آت لعيادته،فاغتنم شريك هذه الفرصة فقال لمسلم:«إنما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية،و قد أمكنك الله منه و هو صائر إلي ليعودني فقم فادخل الخزانة حتى إذا اطمأن عندي فاخرج إليه فاقتله،ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه فإنه لا ينازعك فيه أحد من الناس،و إن رزقني الله العافية صرت إلى البصرة فكفيتك أمرها،و بايع لك أهلها».

و كره هانى أن يقتل ابن زياد في داره تمسكا بالعادات العربية التي لا تبيح قتل الضيف و القاصد إليها في بيوتها فقال له:

«ما أحب أن يقتل في داري».

فقال له شريك:«و لم فو الله إن قتله لقربان إلى الله».

و لم يعن شريك بهانىء و التفت إلى مسلم يحثه على اغتيال ابن زياد قائلا له:«لا تقصر في ذلك»و بينما هم في الحديث و إذا بالضجة على الباب فقد أقبل ابن مرجانة

ص: 75

مع حاشيته،فقام مسلم و دخل الخزانة مختفيا بها،و دخل ابن زياد فجعل يسأل شريكا عن مرضه،و شريك يجيبه،و لما استبطأ شريك خروج مسلم جعل يقول:

ما الانتظار بسلمى أن تحيّوها حيّوا سليمى و حيوا من يحيّيها

كأس المنية بالتعجيل فاسقوها

و رفع صوته ليسمع مسلما قائلا:

«لله أبوك أسقنيها و إن كانت فيها نفسي».

و غفل ابن زياد عن مراده،و ظن أنه يهجر فقال لهانىء:

-أيهجر؟

-نعم أصلح الله الأمير لم يزل هكذا منذ أصبح.

و فطن مهران مولى ابن زياد،و كان ذكيا إلى ما دبر لسيده،فغمزه و نهض به سريعا فقال له شريك:أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك فقال له ابن زياد:إني أعود إليك و التفت مهران و هو مذعور إلى ابن زياد،فقال له:

«إنه أراد قتلك».

فبهر ابن زياد،و قال:

«كيف مع إكرامي له؟!!!و في بيت هانى ويد أبي عنده«!

و لما ولّى الطاغية خرج مسلم من الحجرة،فالتفت إليه شريك و قلبه يذوب أسى و حسرات قال له:

«ما منعك من قتله؟».

فقال مسلم:منعني منه خلتان:إحداهما كراهية هانى لقتله في منزله،و الأخرى قول رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:إن الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن،فقال له شريك:أما و الله لو قتلته لاستقام لك أمرك،و استوسق لك سلطانك.

و لم يلبث شريك بعد الحادثة إلا ثلاثة أيام حتى توفي،فصلّى عليه ابن زياد و دفنه بالثوية،و لما تبيّن له ما دبّره له شريك طفق يقول:و الله لا أصلي على جنازة

ص: 76

عراقي،و لو لا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا.

أضواء على الموقف

و يتساءل الكثيرون من الناس عن موقف مسلم،فيلقون عليه اللوم و التقريع، و يحمّلونه مسؤولية ما وقع من الأحداث،فلو اغتال الطاغية لأنقذ المسلمين من شر عظيم،و ما مني المسلمون بتلك الأزمات الموجعة التي أغرقتهم في المحن و الخطوب...أما هذا النقد فليس موضوعيا،و لا يحمل أي طابع من التوازن و التحقيق،و ذلك لعدم التقائه بسيرة مسلم و لا بواقع شخصيته،فقد كان الرجل فذا من أفذاذ الإسلام في ورعه و تقواه،و تحرّجه في الدين،فقد تربى في بيت عمه أمير المؤمنين عليه السّلام و حمل اتجاهاته الفكرية،و اتخذ سيرته المشرقة منهاجا يسير على أضوائها في حياته،و قد بنى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام واقع حياته على الحق المحض الذي لا التواء فيه،و تحرّج كأعظم ما يكون التحرّج في سلوكه فلم يرتكب أي شيء شذ عن هدي الإسلام و واقعه و هو القائل:«قد يرى الحول القلب وجه الحيلة و دونها حاجز من تقوى الله».

و على ضوء هذه السيرة بنى ابن عقيل حياته الفكرية،و تكاد أن تكون هذه السيرة هي المنهاج البارز في سلوك العلويين يقول الدكتور محمد طاهر دروش:

«كان للهاشميين مجال يحيون فيه،و لا يعرفون سواه،فهم منذ جاهليتهم للرئاسة الدينية قد طبعوا على ما توحي به من الإيمان و الصراحة و الصدق و العفة و الشرف و الفضيلة،و الترفع و الخلائق المثالية و المزايا الأدبية و الشمائل الدينية و الآداب النبوية».

إن مسلما لم يقدم على اغتيال عدوه الماكر لأن الإيمان قيد الفتك،و لا يفتك مؤمن،و علّق هبة الدين على هذه الكلمة بقوله:«كلمة كبيرة المغزى،بعيدة المدى

ص: 77

فإن آل علي من قوة تمسكهم بالحق و الصدق نبذوا الغدر و المكر حتى لدى الضرورة،و اختاروا النصر الآجل بقوة الحق على النصر العاجل بالخديعة، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم،و موروثة في أخلاقهم،كأنهم مخلوقون لإقامة حكم العدل و الفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء،و قد حفظ التأريخ لهم الكراسي في القلوب».

و يقول الشيخ أحمد فهمي:

«فهذا عبيد الله بن زياد،و هو من هو في دهائه،و شدة مراسه أمكنت مسلما الفرصة منه إذ كان بين يديه،و رأسه قريب المنال منه،و كان في استطاعته قتله و لو أنه فعل ذلك لحرم يزيد نفسا جبارة،و يدا فتاكة،و قوة لا يستهان بها،و لكن مسلما متأثر بهدي ابن عمه عاف هذا المسلك و صان نفسه من أن يقتله غيلة و مكرا».

إن مهمة مسلم التي عهد بها إليه هي أخذ البيعة من الناس و التعرف على مجريات الأحداث،و لم يعهد إليه بأكثر من ذلك،و لو قام باغتيال الطاغية لخرج عن حدود مسؤولياته..على أن الحكومة التي جاء ممثلا لها إنما هي حكومة دينية تعنى قبل كل شيء بمبادى الدين و الالتزام بتطبيق سننه و أحكامه،و ليس من الإسلام في شيء القيام بعملية الاغتيال.

و قد كان أهل البيت عليهم السّلام يتحرجون كأشد ما يكون التحرّج من السلوك في المنعطفات،و كانوا ينعون على الأمويين شذوذ أعمالهم التي لا تتفق مع نواميس الدين،و ما قام الحسين بنهضته الكبرى إلا لتصحيح الأوضاع الراهنة و إعادة المنهج الإسلامي إلى الناس...و ماذا يقول مسلم للأخيار و المتحرجين في دينهم لو قام بهذه العملية التي لا يقرها الدين.

و على أي حال فقد استمسك مسلم بفضائل دينه و شرفه من اغتيال ابن زياد، و كان تحت قبضته،و إن من أهزل الأقوال و أوهنها القول بأن عدم فتكه به ناشىء عن ضعفه و خوره،فإن هذا أمر لا يمكن أن يصغى إليه فقد أثبت في مواقفه

ص: 78

البطولية في الكوفة حينما غدر به أهلها ما لم يشاهد التأريخ له نظيرا في جميع مراحله،فقد صمد أمام ذلك الزحف الهائل من الجيوش فقابلها وحده و لم تظهر عليه أي بادرة من الخوف و الوهن،فقد قام بعزم ثابت يحصد الرؤوس و يحطم الجيوش حتى ضجت الكوفة من كثرة من قتل منها،فكيف يتهم بطل هاشم و فخر عدنان بالوهن و الضعف؟ (1)2.

ص: 79


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:250/2.

المخططات الرهيبة

اشارة

و أدت المخططات الرهيبة التي صممها الطاغية إلى نجاحه في الميادين السياسية و تغلبه على الأحداث،فبعد أن كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت عليه رأسا على عقب،فزج بها الماكر الخبيث إلى حرب مسلم،و القضاء عليه،و من بين هذه المخططات.

1-التجسس على مسلم

و أول بادرة سلكها ابن زياد هي التجسس على مسلم،و معرفة جميع نشاطاته السياسية و الوقوف على نقاط القوة و الضعف عنده،و قد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلا،و كان من صنائعه،و تربى في كنفه،و درس طباعه،و وثق بإخلاصه، و كان فطنا ذكيا،فأعطاه ثلاثة آلاف درهم،و أمره أن يتصل بالشيعة،و يعرفهم أنه من أهل الشام،و أنه مولى لذي الكلاع الحميري،و كانت الصبغة السائدة على الموالي هي الإخلاص لأهل البيت عليهم السّلام و لذا أمره بالانتساب إلى الموالي،حتى ينفي الشك و الريب عنه،و قال له:إنه إذا التقى بهم فليعرفهم بأنه ممن أنعم الله عليه بحب أهل البيت عليهم السّلام و قد بلغه قدوم رجل إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين،و عنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتى يستعين به على حرب عدوه،و مضى معقل في مهمته فدخل الجامع،و جعل يفحص و يسأل عمن له معرفة بمسلم،فأرشد إلى مسلم بن عوسجة،فانبرى إليه،و هو يظهر الإخلاص و الولاء للعترة الطاهرة قائلا

ص: 80

له:

«إني أتيتك لتقبض مني هذا المال،و تدلني على صاحبك لأبايعه،و إن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إياه..».

فقال مسلم:لقد سرّني لقاؤك إياي لتنال الذي تحب،و ينصر الله بك أهل نبيه، و قد ساءني معرفة الناس إياي من قبل أن يتم مخافة هذا الطاغية و سطوته،ثم أخذ منه البيعة و أخذ منه المواثيق المغلظة على النصيحة و كتمان الأمر و في اليوم الثاني أدخله على مسلم فبايعه و أخذ منه المال و أعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي، و كان قد عينه لقبض المال ليشتري به السلاح و الكراع،و كان معقل فيما يقول المؤرخون أول من يدخل على مسلم،و آخر من يخرج منه،و جميع البوادر و الأحداث التي تصدر ينقلها بتحفظ في المساء إلى ابن زياد حتى وقف على جميع أسرار الثورة مع أعضاء الثورة.

و الذي يواجه أعضاء الثورة من المؤاخذات ما يلي:

أولا:إن معقل كان من أهل الشام الذين عرفوا بالبغض و الكراهية لأهل البيت عليهم السّلام و الولاء لبني أمية و التفاني في حبهم فما معنى الركون إليه؟

ثانيا:إن اللازم التريب حينما أعطى المال لمسلم بن عوسجة و هو يبكي،فما معنى بكائه أو تباكيه؟أليس ذلك مما يوجب الريب في شأنه.

ثالثا:إنه حينما اتصل بهم كان أول داخل و آخر خارج،فما معنى هذا الاستمرار و المكث الطويل في مقر القيادة العامة؟أليس ذلك مما يوجب الشك في أمره؟

لقد كان الأولى بالقوم التحرز منه،و لكن القوم قد خدعتهم المظاهر المزيفة، و من الحق أن هذا الجاسوس كان ماهرا في صناعته،و خبيرا فيما انتدب إليه.

و على أي حال فإن ابن زياد قد استفاد من عملية التجسس أمورا بالغة الخطورة فقد عرف العناصر الفعالة في الثورة،و عرف مواطن الضعف فيها،و غير ذلك من الأمور التي ساعدته على التغلب على الأحداث.

ص: 81

2-رشوة الزعماء و الوجوه

و وقف ابن زياد على نبض الكوفة،و عرف كيف يستدرج أهلها فبادر إلى رشوة الوجوه و الزعماء فبذل لهم المال بسخاء فاستمال و دهم،و استولى على قلوبهم فصارت ألسنتهم تكيل له المدح و الثناء،و كانوا ساعده القوي في تشتيت شمل الناس و تفريق جموعهم عن مسلم.

لقد استعبدهم ابن مرجانة بما بذله من الأموال فأخلصوا له و منحوه النصيحة و خانوا بعهودهم و مواثيقهم التي أعطوها لمسلم،و قد أخبر بعض أهل الكوفة الإمام عن هذه الظاهرة حينما التقى به في أثناء الطريق فقال له:

«أما أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم،و ملئت غرائزهم،يستمال و دهم، و يستخلص به نصيحتهم،و أما سائر الناس فإن أفئدتهم تهوي إليك،و سيوفهم غدا مشهورة عليك».

لقد تناسى الكوفيون كتبهم التي أرسلوها للإمام و بيعتهم له على يد سفيره من أجل الأموال التي أغدقتها عليهم السلطة،يقول بعض الكتاب:

«إن الجماعات التي أقامها النكير على بني أمية،و راسلت الحسين و أكدت له إخلاصها،و ذرفت أمام مسلم أعز دموعها هي الجماعات التي ابتاعها عبيد الله بن زياد بالدرهم و الدينار،و قد ابتاعها فيما بعد مصعب بن الزبير فتخلّوا عن المختار، و تركوه وحيدا يلقى حتفه ثم اشتراها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فتخلّوا عن مصعب،و تركوه يلقى مصيره على يد عبد الملك بن مروان».

ص: 82

الإحجام عن كبس دار هانىء

و علم الطاغية أن هانئا هو العضو البارز في الثورة،فقد أطلعه الجاسوس الخطير معقل على الدور الفعال الذي يقوم به هانىء في دعم الثورة،و مساندتها بجميع قدراته،و عرّفه أن داره أصبحت المركز العام للشيعة،و المقر الرئيسي لسفير الحسين مسلم...فلماذا لم يقم بكبسها و تطويقها بالجيش ليقضي بذلك على الثورة،و إنما أحجم عن ذلك لعجزه عسكريا،و عدم مقدرته على فتح باب الحرب فإن دار هانىء مع الدور التي كانت محيطة بها كانت تضم أربعة آلاف مقاتل ممن بايعوا مسلما بالإضافة إلى أتباع هانىء و مكانته المرموقة في المصر،فلهذا لم يستطع ابن زياد من القيام بذلك نظرا للمضاعفات السيئة.

رسل الغدر

و أنفق ابن زياد لياليه ساهرا يطيل التفكير،و يطيل البحث مع حاشيته في شأن هانىء،فهو أعز من في المصر،و أقوى شخصية يستطيع القيام بحماية الثورة،و لا يدع مسلما فريسة لأعدائه،فإذا قضى عليه فقد استأصل الثورة من جذورها،و قد أعرضوا عن إلقاء القبض عليه،و تطويق داره فإن ذلك ليس بالأمر الممكن،و قد اتفق رأيهم على خديعته بإرسال وفد إليه من قبل السلطة يعرض عليه رغبة ابن زياد في زيارته،فإذا وقع تحت قبضته فقد تم كل شيء،و يكون تشتت أتباعه ليس بالأمر العسير،و شكّلوا وفدا لدعوته و هم:

ص: 83

-1-حسان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة.

-2-محمد بن الأشعث زعيم كندة.

-3-عمرو بن الحجاج.

و لم يكن لحسان بن أسماء علم بالمؤامرة التي دبّرت ضد هانىء،و إنما كان يعلم بها محمد بن الأشعث و عمرو بن الحجاج،و قد أمرهم ابن زياد أن يحملوا له عواطفه و رغبته الملحة في زيارته،و يعملوا جاهدين على إقناعه.

ص: 84

اعتقال هانىء

و أسرع الوفد إلى هانىء عشية فوجدوه جالسا على باب داره فسلّموا عليه، و قالوا له:

«ما يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك؟و قال لو أعلم أنه شاك لعدته».

فقال لهم:«الشكوى تمنعني».

و أبطلوا هذا الزعم و قالوا له:«إنه قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك، و قد استبطأك،و الإبطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان،أقسمنا عليك لما ركبت معنا».

و أخذوا يلحّون عليه في زيارته فاستجاب لهم على كره فدعا بثيابه فلبسها، و دعا ببغلة فركبها فلما كان قريبا من القصر أحست نفسه بالشر فعزم على الانصراف و قال لحسان بن أسماء:«يابن الأخ إني و الله لخائف من هذا الرجل فما ترى؟»فقال حسان:«يا عم و الله ما أتخوف عليك شيئا و لم تجعل على نفسك سبيلا؟»و أخذ القوم يلحون عليه حتى أدخلوه على ابن مرجانة،فاستقبله بعنف و شراسة،و قال:

«أتتك بخائن رجلاه».

و كان شريح إلى جانبه،فقال له:

أريد حياته و يريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد و ذعر هانىء فقال له:

«ما ذاك أيها الأمير؟».

فصاح به الطاغية بعنف:

ص: 85

«إيه يا هانىء ما هذه الأمور التي تتربص في دارك لأمير المؤمنين و عامة المسلمين؟جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك،و جمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك،و ظننت أن ذلك يخفى علي؟».

فأنكر ذلك هانىء و قال:

«ما فعلت ذلك و ما مسلم عندي».

«بلى قد فعلت».

و طال النزاع و احتدم الجدال بينهما،فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع فدعا معقلا الذي جعله عينا عليهم فلما مثل عنده قال لهانىء:

«أتعرف هذا؟».

«نعم».

و أسقط ما في يدي هانىء،و أطرق برأسه إلى الأرض،و لكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف،فانتفض كالأسد،و قال لابن مرجانة:

«قد كان الذي بلغك،و لن أضيع يدك عندي،تشخص لأهل الشام أنت و أهل بيتك سالمين بأموالكم،فإنه جاء حق من هو أحق من حقك و حق صاحبك..».

فثار ابن زياد و صاح به:

«و الله لا تفارقني حتى تأتيني به».

و سخر منه هانىء،و أنكر عليه قائلا له مقالة الرجل الشريف:

«لا آتيك بضيفي أبدا».

و لما طال الجدال بينهما انبرى إلى هانىء مسلم بن عمر الباهلي و هو من خدام السلطة،و لم يكن رجل في المجلس غريب غيره فطلب من ابن زياد أن يختلي بهانىء،ليقنعه فأذن له،فقام و خلا به ناحية بحيث يراهما ابن زياد و يسمع صوتهما إذا علا،و حاول الباهلي إقناع هانىء فحذره من نقمة السلطان و أن السلطة لا تنوي السوء بمسلم قائلا:

ص: 86

«يا هانىء أنشدك اللّه أن تقتل نفسك،و تدخل البلاء على قومك،إن هذا الرجل- يعني مسلما-ابن عم القوم،و ليسوا بقاتليه،و لا ضائريه،فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة،و لا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان..».

و لم يخف على هانىء هذا المنطق الرخيص،فهو يعلم أن السلطة إذا ظفرت بمسلم فسوف تنكل به،و لا تدعه حيا و أن ذلك يعود عليه بالعار و الخزي إن سلم ضيفه وافد آل محمد فريسة لهم قائلا:

«بلى و اللّه عليّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري و ضيفي و هو رسول ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أنا حي صحيح الساعدين كثير الأعوان،و الله لو لم أكن إلا وحدي لما سلّمته أبدا».

و حفل هذا الكلام بمنطق الأحرار الذين يهبون حياتهم للمثل العليا و لا يخضعون لما يخل بشرفهم.

و لما يئس الباهلي من إقناع هانىء انطلق نحو ابن زياد فقال له:

«أيها الأمير قد أبى أن يسلّم مسلما أو يقتل».

و صاح الطاغية بهانىء:

«لتأتيني به أو لأضربن عنقك».

فلم يعبأ به هانىء و قال:

«إذن تكثر البارقة حولك».

فثار الطاغية و انتفخت أوداجه و قال:

«و الهفا عليك أبالبارقة تخوّفني».

و صاح بغلامه مهران و قال:خذه،فأخذ بضفيرتي هانىء،و أخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه،و ضربه ضربا عنيفا حتى كسر أنفه و نثر لحم خديه و جبينه على لحيته حتى تحطّم القضيب و سالت الدماء على ثيابه،و عمد هانىء إلى قائم سيف شرطي محاولا اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه،فصاح به ابن

ص: 87

زياد:

«أحروري أحللت بنفسك و حل لنا قتلك».

و أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر و اندفع حسان بن أسماء بن خارجة و كان ممن أمّن هانئا و جاء به إلى ابن زياد،و قد خاف من سطوة عشيرته و نقمتهم عليه،فأنكر عليه ما فعله بهانىء قائلا:

«أرسله يا غادر أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه،و سيلت دماءه و زعمت أنك تقتله».

و غضب منه ابن زياد فأوعز إلى شرطته بتأديبه فلهز و تعتع ثم ترك و أما ابن الأشعث المتملق الحقير فجعل يحرك رأسه و يقول ليسمع الطاغية:

«قد رضينا بما رأى الأمير لنا كان أم علينا،إنما الأمير مؤدب»و لا يهم ابن الأشعث ما اقترفه الطاغية من جريمة في سبيل تأمين مصالحه و رغباته.

ص: 88

انتفاضة مذحج:

و انتهى خبر هانىء إلى أسرته فاندفعت بتثاقل كالحشرات فقاد جموعها الانتهازي الجبان عمرو بن الحجاج الذي لا عهد له بالشرف و المرؤءة،فأقبل و معه مذحج و هو يرفع عقيرته لتسمع السلطة مقالته قائلا:

«أنا عمرو بن الحجاج و هذه فرسان مذحج و وجوهها لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة».

و حفل كلامه بالخنوع و المسالمة للسلطة و ليس فيه اندفاع لإنقاذ هانىء و لذا لم يحفل به ابن زياد فالتفت إلى شريح القاضي فقال له:أدخل على صاحبهم فانظر إليه،ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حي،و خرج شريح فدخل على هانىء فلما بصر به صاح مستجيرا:

«يا للمسلمين أهلكت عشيرتي؟!!أين أهل الدين أين أهل المصر!أيحذرونني عدوهم و كان قد سمع الأصوات و ضجيج الناس فالتفت إلى شريح قائلا:

«يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين،إنه إن دخل علي عشرة أنفر أنقذوني..».

و خرج شريح و كان عليه عين لابن زياد مخافة أن يدلي بشي على خلاف رغبات السلطة فيفسد عليها أمرها فقال لهم:

«قد نظرت إلى صاحبكم و أنه حي لم يقتل».

و بادر عمرو بن الحجاج فقال:

«إذا لم يقتل فالحمد الله».

ص: 89

و ولّوا منهزمين كأنما أتيح لهم الخلاص من السجن و هم يصحبون العار و الخزي،و ظلّوا مثالا للخيانة و الجبن على امتداد التأريخ-و فيما أحسب-أن هزيمة مذحج بهذه السرعة و عدم تأكدها من سلامة زعيمها جاءت نتيجة اتفاق سري بين زعماء مذحج و بين ابن زياد للقضاء على هانى،و لو لا ذلك لنفرت مذحج حينما أخرج هانى من السجن في وضح النهار،و نفذ فيه حكم الإعدام في سوق الحذائين.

و على أي حال فقد خلدت مذحج للذل،و رضيت بالهوان،و انبرى شاعر مجهول أخفى اسمه حذرا من نقمة الأمويين و بطشهم فرثى هانئا و ندد بأسرته محاولا بذلك أن يثير في نفوسهم روح العصبية القبلية ليثأروا لقتيلهم يقول:

فإن كنت لا تدرين ما الموت

فانظري إلى هانى في السوق و أين عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه

و آخر يهوي من طمار قتيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

ترى جسدا قد غير الموت لونه

و نضح دم قد سال كل مسيل

فتى كان أحيى من فتاة حيية

و أقطع من ذي شفرتين صقيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا

و قد طلبته مذحج بذحول

تطوف حواليه(مراد)و كلهم

على رقبة من سائل و مسول

ص: 90

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغايا أرضيت بقليل

و علّق الدكتور يوسف خليف على هذه الأبيات بقوله:«و اللحن هنا تأثر عنيف، و التعبير فيه قوي صريح بل تصل فيه الصراحة إلى درجة الجرأة،و شجع الشاعر على هذه الجرأة أنه كان في مأمن من بطش الأمويين لأنه استطاع أن يخفي اسمه، حتى أصبح شخصا مختلفا فيه عند بعض الرواة،و مجهولا تماما عند بعضهم، و هو في هذا اللحن لا يتحدث عن الحسين،و لا عن السياسة،و إنما كل حرصه أن يثير روح العصبية القبلية في نفوس اليمنية ليثأروا لقتيلهم و هو-من أجل هذا- أغفل متعمدا من غير شك ذكر محمد بن الأشعث اليمني،و لم يذكر إلا أسماء بن خارجة الفزاري على أنه هو المسؤول عن دم هانى مع أن كليهما كان رسول ابن زياد إليه،و لكن الشاعر حرص على أن يغفل ذكر ابن الأشعث حتى لا يثير فتنة أو انقساما بين اليمنية،و هو في أشد الحاجة إلى أن يوحّد صفوفهم حتى يدركوا ثأرهم،و اعتمد الشاعر في قصيدته على هذه الصورة المفزعة التي رسمها للقتيلين اللذين هشم السيف وجه أحدهما و ألقي بالآخر من أعلى القصر،و اللذين أصبحا أحاديث للناس في كل مكان.و هو حريص في هذه الصورة على أن يعرض للناس منظرين رهيبين يثيران في نفوسهم كل عواطف الحزن و السخط و الإنتقام،منظر هذين الجسدين و قد غيّر الموت من لونهما،و هذا الدم الذي ينضح منهما و يسيل كل مسيل،ثم منظر أسماء بن خارجة و هو يحتال في طرقات الكوفة على دوابه التي تتبختر به آمنا مطمئنا،و يسأل إلى متى سيظل هذا الرجل في أمنه و خيلائه و من حوله قبيلة القتيل تطالبه بالثأر،فلا يجد أشد من طعنها في كرامتها،فيقول لهم إن لم تثأروا لقتيلكم فكونوا بغايا يبغى شرفهن بثمن بخس دراهم معدودات.

لقد تنكرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تف له حقوقه فتركته أسيرا بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه من دون أن تحرك ساكنا في حين أنها كانت لها السيادة

ص: 91

و السيطرة على الكوفة كما يرى ذلك فلهوزن.

و على أي حال فقد كان لاعتقال هانىء الأثر الكبير في ذيوع الفزع و الخوف في نفوس الكوفيين مما أدى إلى تفرق الناس عن مسلم و إخفاق الثورة.

ص: 92

ثورة مسلم

و لما علم مسلم بما جرى على هانىء بادر لإعلان الثورة على ابن زياد لعلمه بأنه سيلقى نفس المصير الذي لاقاه هانئا،فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه و قد ملأ بهم الدور،فاجتمع إليه أربعة آلاف أو أربعون ألفا و هم ينادون بشعار المسلمين يوم بدر.

«يا منصور أمت».

و قام مسلم بتنظيم جيشه،و أسند القيادات العامة في الجيش إلى من عرفوا بالولاء و الإخلاص لأهل البيت عليهم السّلام و هم:

-1-عبد الله بن عزيز الكندي:جعله على ربع كندة.

-2-مسلم بن عوسجة:جعله على ربع مذحج.

-3-أبو ثمامة الصائدي:جعله على ربع قبائل بني تميم و همدان

-4-العباس بن جعدة الجدلي:جعله على ربع المدينة.

و اتجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به و كان ابن زياد قد خرج من القصر ليخطب الناس على أثر اعتقاله لهانىء،فجاء إلى المسجد الأعظم فاعتلى أعواد المنبر،ثم التفت إلى أصحابه فرآهم عن يمينه و شماله و في أيديهم الأعمدة و قد شهروا سيوفهم للحفاظ عليه،فهدأ روعه و خاطب أهل الكوفة قائلا:

«أما بعد يا أهل الكوفة فاعتصموا بطاعة الله و رسوله،و طاعة أئمتكم و لا تختلفوا،و لا تفرقوا فتهلكوا،و تذلوا،و تندموا،و تقهروا،فلا يجعلن أحد على نفسه سبيلا و قد أعذر من أنذر».

ص: 93

و ما أتم الطاغية خطابه حتى سمع الضجة و أصوات الناس قد علت فسأل عن ذلك فقيل له:

«الحذر،الحذر،هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه..».

و اختطف الرعب لونه،و سرت الرعدة بجميع أوصاله فأسرع الجبان نحو القصر و هو يلهث من شدة الخوف،فدخل القصر،و أغلق عليه أبوابه و امتلأ المسجد و السوق من أصحاب مسلم،و ضاقت الدنيا على ابن زياد،و أيقن بالهلاك إذ لم تكن عنده قوة تحميه سوى ثلاثين رجلا من الشرط،و عشرين رجلا من الأشراف الذين هم من عملائه،و قد تزايد جيش مسلم حتى بلغ فيما يقول بعض المؤرخين ثمانية عشر ألفا و قد نشروا الأعلام و شهروا السيوف،و قد ارتفعت أصواتهم بقذف ابن زياد و شتمه،و جرى بين أتباع ابن زياد و بين جيش مسلم قتال شديد كما نص على ذلك بعض المؤرخين.

و أمعن الطاغية في أقرب الوسائل التي تمكنه من إنقاذ حكومته من الثورة فرأى أن لا طريق له سوى حرب الأعصاب و دعايات الإرهاب فسلك ذلك.

حرب الأعصاب

و أوعز الطاغية إلى جماعة من وجوه أهل الكوفة أن يبادروا ببث الذعر و نشر الخوف بين الناس،و قد انتدب للقيام بهذه المهمة الذوات التالية:

-1-كثير بن شهاب الحارثي.

-2-القعقاع بن شور الذهلي.

-3-شبث بن ربعي التميمي.

-4-حجار بن أبجر.

-5-شمر بن ذي الجوشن الضبابي.

ص: 94

و انطلق هؤلاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا يشيعون الخوف،و يبثون الأراجيف فيهم و يظهرون لهم الإخلاص و الولاء خوفا عليهم من جيوش أهل الشام فكان ما قاله كثير بن شهاب:

«أيها الناس:إلحقوا بأهاليكم،و لا تعجلوا الشر،و لا تعرّضوا أنفسكم للقتل،فإن هذه جنود أمير المؤمنين-يعني يزيد-قد أقبلت،و قد أعطى الله الأمير-يعني ابن زياد-العهد لئن أقمتم على حربه،و لم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء،و يفرق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع،و أن يأخذ البريء بالسقيم،و الشاهد بالغائب،حتى لا تبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا ذاقها و بال ما جرّت أيديها»

و كان هذا التهديد كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة فقد كان يحمل ألوانا قاسية من الإرهاب و هي:

أ-التهديد بجيوش أهل الشام،فقد زحفت إليهم،و هي ستشيع فيهم القتل و التنكيل إن بقوا مصرين على المعصية و العناد.

ب-حرمانهم من العطاء:و قد كانت الكوفة حامية عسكرية تتلقى جميع مواردها الإقتصادية من الدولة.

ج-تجميرهم في مغازي أهل الشام،و زجهم في ساحات الحروب.

د-إنهم إذا أصروا على التمرد فإن ابن زياد سيعلن الأحكام العرفية و يسوسهم بسياسة أبيه التي تحمل شارات الموت و الدمار حتى يقضي على جميع ألوان الشغب و العصيان.

و قام بقية عملاء السلطة بنشر الإرهاب و إذاعة الذعر،و كان من جملة ما أذاعوه بين الناس:

«يا أهل الكوفة اتقوا الله،و لا تستعجلوا الفتنة،و لا تشقوا عصا هذه الأمة،و لا توردوا على أنفسكم خيول الشام،فقد ذقتموها،و جربتم شوكتها..».

ص: 95

أوبئة الفزع و الخوف

و سرت أوبئة الخوف و الفزع في نفوس الكوفيين،و انهارت أعصابهم و كأن الموت قد خيم عليهم،فجعل بعضهم يقول لبعض:

«ما نصنع بتعجيل الفتنة،و غدا تأتينا جموع أهل الشام،ينبغي لنا أن نقيم في منازلنا،و ندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم».

و كانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها،و هي مصفرة الوجه من الخوف فتتوسل إليه قائلة:

«الناس يكفونك».

و كان الرجل يأتي إلى ولده و أخيه فيملأ قلبه رعبا و خوفا،و قد نجح ابن زياد في ذلك إلى حد بعيد فقد تغلّب على الأحداث،و سيطر على الموقف سيطرة تامة و قد خلع الكوفيون ما كانوا يرتدونه من ثياب التمرد على بني أمية و لبسوا ثياب الذل و العبودية من جراء ذلك الإرهاب الهائل و القسوة في الحكم فكانت الدماء تترقرق بين العمائم و اللحى.

هزيمة جيش مسلم

و مني جيش مسلم بهزيمة مخزية لم يحدث لها نظير في جميع فترات التأريخ، فقد هزمته الدعايات المضللة من دون أن تكون في قباله أية قوة عسكرية،و يقول المؤرخون:أن مسلما كلما انتهى إلى زقاق انسل جماعة من أصحابه،و فروا منهزمين و هم يقولون:

«مالنا و الدخول بين السلاطين!».

ص: 96

و لم يمض قليل من الوقت حتى انهزم معظمهم،و قد صلى بجماعة منهم صلاة العشاء في الجامع الأعظم فكانوا يفرون في أثناء الصلاة،و ما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا بأجمعهم بما فيهم قادة جيشه،و لم يجد أحدا يدله على الطريق،و بقي حيرانا لا يدري إلى أين مسراه و مولجه و كان قد أثخن بالجراح فيما يقوله بعض المؤرخين و قد أمسى طريدا مشردا لا مأوى يأوي إليه،و لا قلب يعطف عليه.

ص: 97

مسلم في ضيافة طوعة

و سار القائد العظيم سليل هاشم و فخر عدنان متلددا في أزقة الكوفة و شوارعها،و مضى هائما على وجهه في جهة كندة يلتمس دارا لينفق فيها بقية الليل،و قد خلت المدينة من المارة،و عادت كأنها واحة موحشة،فقد أسرع كل واحد من جيشه و أعوانه،إلى داره،و أغلق عليه الأبواب مخافة أن تعرفه مباحث الأمن و عيون ابن زياد بأنه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.

و أحاط بمسلم تيارات مذهلة من الهموم،و كاد قلبه أن ينفجر من شدة الألم و عظيم الحزن،و قد هاله إجماع القوم على نكث بيعته و غدرهم به،و استبان له أنه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته و حمايته أو يدله على الطريق،فقد كان لا يعرف مسالك البلد و طرقها..و سار و هو حائر الفكر خائر القوى حتى انتهى إلى سيدة يقال لها(طوعة)هي سيدة من في المصر رجالا و نساء بما تملكه من إنسانية و نبل و كانت أم ولد للأشعث بن قيس أعتقها،فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا و كانت السيدة واقفة على الباب تنتظر ابنها،و ترتقب طلوعه للأحداث الرهيبة التي حلت في المصر،و لما رآها مسلم بادر إليها،فسلم عليها فردت عليه السّلام بتثاقل،و قالت له:

-ما حاجتك؟

-إسقني ماء.

فبادرت إلى دارها،و جاءته بالماء،فشرب منه،ثم جلس فارتابت منه فقالت له:

-ألم تشرب الماء؟

ص: 98

-بلى.

-إذهب إلى أهلك إن مجلسك مجلس ريبة.

و سكت مسلم،فأعادت عليه القول بالانصراف و هو ساكت،و كررت عليه القول ثالثا فلم يجبها فذعرت منه،و صاحت به:

«سبحان الله!!إني لا أحل لك الجلوس على بابي!».

و لما حرّمت عليه الجلوس لم يجد بدا من الانصراف فقال لها بصوت خافت حزين النبرات:

«ليس لي في هذا المصر منزل و لا عشيرة،فهل لك إلى أجر و معروف؟و لعلّي أكافئك بعد اليوم».

و شعرت المرأة بأن الرجل غريب،و أنه على شأن كبير،و له مكانة عظمى يستطيع أن يجازيها على معروفها و إحسانها فبادرته قائلة:

«ما ذاك؟».

فقال لها و عيناه تفيضان دموعا:

«أنا مسلم بن عقيل كذبني القوم و غروني».

فقالت المرأة في دهشة و إكبار:

«أنت مسلم بن عقيل».

«نعم».

و انبرت السيدة بكل خضوع و تقدير فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى منزلها،و قد حازت الشرف و المجد فقد آوت سليل هاشم،و سفير ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و أدخلته في بيت في دارها غير البيت الذي كانت تأوي إليه،و جاءته بالضوء و الطعام،فأبى أن يأكل،فقد مزق الأسى قلبه الشريف،و أيقن بالرزء القاصم، و تمثلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها،و كان أكثر ما يفكر به كتابه للحسين بالقدوم إلى الكوفة.

ص: 99

و لم يمض قليل من الوقت حتى جاء بلال ابن السيدة طوعة،فرأى أمه تكثر الدخول و الخروج إلى ذلك البيت لتقوم برعاية ضيفها،فأنكر عليها ذلك،و استراب منه،فسألها عنه،فأنكرته فألح عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود و المواثيق بكتمان الأمر..و طارت نفس الخبيث فرحا و سرورا،و قد أنفق ليله ساهرا يترقب بفارغ الصبر انبثاق نور الصبح ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم...و قد تنكر هذا الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف و حمايته،فقد كان هذا الخلق سائدا حتى في العصر الجاهلي...و إنا لنتخذ من هذه البادرة مقياسا عاما و شاملا لانهيار القيم الأخلاقية و الإنسانية في ذلك المجتمع الذي تنكر لجميع العادات و القيم العربية.

و على أي حال فقد طوى مسلم ليلته حزينا،قد ساورته الهموم،و توسد الأرق، و كان فيما يقول المؤرخون قد قضى شطرا من الليل في عبادة الله ما بين الصلاة و قراءة القرآن،و قد خفق في بعض الليل فرأى عمه أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره بسرعة اللحاق به فأيقن عند ذلك بدنو الأجل المحتوم منه.

ص: 100

تأكد الطاغية من فشل الثورة

و لما انهزمت جيوش أهل الكوفة،و ولت الأدبار تصحب معها العار و الخيانة، و قد خلا الجامع الأعظم منهم،فلم يطمئن الطاغية الجبان من ذلك،خوفا من أن يكون ذلك مكيدة و خديعة،فعهد إلى أذنابه بالتأكد من انهزام جيش مسلم و أمرهم بأن يشرفوا على ظلال المسجد لينتظروا هل كمن أحد من الثوار فيه؟و أخذوا يدلون القناديل،و يشعلون النار في القصب،و يدلونها بالحبال فتصل إلى صحن الجامع،و فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر،فلم يروا إنسانا،فأخبروه بذلك، فاطمأنّ بفشل الثورة و أيقن بالقضاء عليها.

ص: 101

إعلان حالة الطوراىء

و أعلن الطاغية في الصباح الباكر حالة الطوارىء في جميع أنحاء المصر و قد شدد على المدير العام لشرطته الحصين بن تميم بتنفيذ مايلي:

أ-تفتيش جميع الدور و المنازل في الكوفة تفتيشا دقيقا للبحث عن مسلم.

ب-الإحاطة بالطرق و السكك لئلا يهرب منها مسلم.

ج-الاعتقالات الواسعة لجميع المؤيدين للثورة،و قد ألقت الشرطة القبض على هؤلاء:

-1-عبد الأعلى بن يزيد الكلبي.

-2-عمارة بن صلخن الأزدي.

-3-عبد الله بن نوفل بن الحارث.

-4-المختار الثقفي.

-5-الأصبغ بن نباتة.

-6-الحارث الأعور الهمداني.

راية الأمان

و أوعز الطاغية إلى محمد بن الأشعث أن يرفع راية الأمان،و يعلن إلى الملأ أن من انضم إليها كان آمنا،و لعل أسباب ذلك مايلي:

-1-التعرف على العناصر الموالية لمسلم لإلقاء القبض عليها.

ص: 102

-2-إعلان الانتصار و القضاء على الثورة.

-3-شل حركة المقاومة،و إظهار سيطرة الدولة على جميع الأوضاع في البلاد.

و رفعت راية الأمان فسارع الكوفيون الذين كانوا مع مسلم إلى الانضمام إليها لنفي التهمة و إظهار إخلاصهم للحكم القائم آنذاك.

اشتباه

و من الغريب ما ذكره ابن قتيبة و الحر العاملي من أن مسلما كان في بيت المختار ثم خرج لحرب ابن زياد،و بعد فشل ثورته التجأ إلى بيت هانىء،فأجاره هانىء،و قال له:إن ابن زياد يدخل داري فاضرب عنقه،فامتنع مسلم من الفتك به، و قام ابن زياد باعتقال هانىء ثم أرسل شرطه لإلقاء القبض على مسلم فقاتلهم حتى ضعف عن المقاومة فوقع أسيرا بأيديهم،و هذا الذي أفاداه لم يذهب إليه أحد من المؤرخين فإن تفصيل الحادثة حسب ما ذكرناه،و ما عداه فهو من الأقوال الشاذة التي نشأت من قلة التتبع.

ص: 103

خطبة ابن زياد

و لما أيقن الطاغية بفشل ثورة مسلم،و تفلل قواته المسلحة أمر بجمع الناس في الجامع،فتوافدت الجماهير،و قد خيم عليها الذعر و الخوف فجاء الطاغية،و هو يرعد و يبرق و يتهدد و يتوعد فصعد المنبر،فقال:

«أيها الناس إن مسلما بن عقيل أتى هذه البلاد،و أظهر العناد،و شق العصا»و قد برئت الذمة من رجل أصبناه في داره..و من جاء به فله ديته،اتقوا الله عباد الله، و الزموا طاعتكم و بيعتكم،و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا،و من أتاني بمسلم بن عقيل فله عشرة آلاف درهم،و المنزلة الرفيعة من يزيد بن معاوية،و له في كل يوم حاجة مقضية».

و حفل هذا الخطاب بالقسوة و الصرامة و فيه النقاط التالية:

أ-الحكم بالإعدام على كل من آوى مسلما مهما كانت لذلك الشخص من مكانة اجتماعية في المصر.

ب-إن دية مسلم تكون لمن جاء به.

ج-إن من ظفر بمسلم تمنحه السلطة عشرة آلاف درهم.

د-إن من يأتي به يكون من المقربين عند يزيد،و ينال ثقته.

ه-تكافىء السلطة من جاء به بقضاء حاجة له في كل يوم.

و تمنى أكثر أولئك الأوغاد الظفر بمسلم لينالوا المكافأة من ابن مرجانة و القرب إلى يزيد بن معاوية.

ص: 104

الإفشاء بمسلم

و طالت تلك الليلة على بلال ابن السيدة الكريمة طوعة التي آوت مسلما،فقد ظل يترقب بفارغ الصبر طلوع الصبح ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم،و لم يرقد تلك الليلة من الفرح و السرور،فقد تمت-فيما يحسب-بوارق آماله و أحلامه،و لما طلع الصبح بادر إلى القصر بحالة تلفت النظر إليها من الدهشة،فقصد عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث،و هو من الأسرة الخبيثة التي لا عهد لها بالشرف و المروؤة فساره،و أعلمه بمكان مسلم عنده،فأمره عبد الرحمن بالسكوت لئلا يسمع غيره فيبادر بإخبار ابن زياد فينال الجائزة منه،و أسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمد بن الأشعث،فأخبره بالأمر،و فطن ابن زياد إلى خطورة الأمر فبادر يسأل ابن الأشعث قائلا:

-ما قال لك عبد الرحمن!

-أصلح الله الأمير البشارة العظمى!!

-ما ذاك؟مثلك من بشر بخير.

-إن ابني هذا يخبرني أن مسلما بن عقيل في دار طوعة.

و سر ابن زياد،و لم يملك أهابه من الفرح،فانبرى يمنّي ابن الأشعث بالمال و الجاه قائلا:

«قم فأتني به،و لك ما أردت من الجائزة و الحظ الأوفى».

لقد تمكن ابن مرجانة من الظفر بسليل هاشم ليجعله قربانا إلى أمويته اللصيقة التي نحر في سبيلها هو و أبوه جميع القيم الإنسانية،و استباحا كل ما حرّمه الله من إثم و فساد.

ص: 105

الهجوم على مسلم

و ندب الطاغية لحرب مسلم عمرو بن حريث المخزومي صاحب شرطته و محمدا بن الأشعث و ضم إليهما ثلثمائة رجل من صناديد الكوفة و فرسانها، و أقبلت تلك الوحوش الكاسرة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحررها من الذل و العبودية،و ينقذها من الظلم و الجور..و لما سمع وقع حوافر الخيل و زعقات الرجال علم أنه قد أتي إليه فبادر إلى فرسه فأسرجه و ألجمه و صب عليه درعه، و تقلد سيفه،و التفت إلى السيدة الكريمة طوعة فشكرها على ضيافتها،و أخبرها أنه إنما أتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم قائلا:

«رحمك الله،و جزاك عني خيرا...اعلمي إنما أتيت من قبل ابنك..».

و اقتحم الجيش عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه،ففروا منهزمين،ثم عادوا إليه فأخرجهم منها و انطلق نحوهم في السكة شاهرا سيفه لم يختلج في قلبه خوف و لا رعب،فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه و قد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد لها التأريخ نظيرا في جميع عمليات الحروب،و كان يقاتلهم و هو يرتجز:

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع فأنت بكأس الموت لا شك جارع

فصبرا لأمر الله جلّ جلاله فحكم قضاء الله في الخلق ذايع

و أبدى سليل هاشم من الشجاعة و قوة البأس ما حيّر الألباب،و أبهر العقول،فقد قتل منهم فيما يقول بعض المؤرخين واحدا و أربعين رجلا ما عدا الجرحى،و كان من قوته النادرة أنه يأخذ الرجل بيده و يرمي به من فوق البيت و ليس في تأريخ الإنسانية مثل هذه البطولة،و لا مثل هذه القوة و ليس هذا غريبا عليه فعمه عليّ بن أبي طالب أشجع الناس و أقواهم بأسا،و أشدهم عزيمة.

و استعمل معه الجبناء من أنذال أهل الكوفة ألوانا قاسية و شاذة من الحرب فقد

ص: 106

اعتلوا سطوح بيوتهم،و جعلوا يرمونه بالحجارة و قذائف النار و لو كانت في ميدان فسيح لأتى عليهم و لكنها كانت في الأزقة و الشوارع.

ص: 107

فشل الجيوش

و فشلت جيوش أهل الكوفة،و عجزت عن مقاومة البطل العظيم فقد أشاع فيهم القتل،و ألحق بهم خسائر فادحة و أسرع الخائن الجبان محمد بن الأشعث يطلب من سيده ابن مرجانة أن يمده بالخيل و الرجال فقد عجز عن مقاومة مسلم،و لامه الطاغية قائلا:

«سبحان الله!!بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به،فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة».

و ثقل هذا التقريع على ابن الأشعث،فراح يشيد بابن عقيل قائلا:

«أ تظن أنك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة و إنما بعثتني إلى أسد ضرغام و سيف حسام في كف بطل همام من آل خير الأنام».

و أمده ابن زياد بقوى مكثفة من الجيش،فجعل البطل العظيم يقاتل وحده و هو يرتجز:

أقسمت لا أقتل إلا حرا و إن رأيت الموت شيئا نكرا

أو يخلط البارد سخنا مرا رد شعاع الشمس فاستقرا

كل امرى يوما يلاقي شرا أخاف أن أكذب أو أغرا

لقد كنت يابن عقيل سيد الأحرار،فقد رفعت لواء العزة و الكرامة و رفعت شعار الحرية و الإباء،و أما خصومك الحقراء فهم العبيد الذين رضوا بالذل و الهوان...

و حلل الدكتور يوسف خليف هذا الرجز بقوله:«هو رجز-من الناحية النفسية- صادق كل الصدق،معبر تعبيرا دقيقا عن الموجات النفسية التي كانت تندفع في نفس الشاعر،و هو في موقفه الضيق الحرج،فهو قبل كل شيء مصمم على أن

ص: 108

يحتفظ بحريته و لو أدى هذا إلى قتله،و هو يعلن في صراحة و صدق أن الموت شيء منكر و لا يقول هذا كما يقوله غيره ممن يغالطون أنفسهم أن الموت شيء محبب إلى نفسه،و إنما يعبر عن نفسيته تعبيرا صادقا،فالموت شيء لا يحبه،و لكنه لا يفر منه دام قد صمم على الاحتفاظ بحريته.ثم يحاول أن يهدى من روعه،و يجعل هذه الموجة العالية الرهيبة تنحسر عن نفسه دون أن يجذبها في تيارات من الهلع و الفزع،فيحدث عن نفسه بأن الدنيا متقلبة،و كل امرى فيها لا بد أن يلاقي ما يسوؤه،و هو يعرض هذا الحديث النفسي في صورة فنية رائعة.

و أضاف يقول:إنه حريص على الحياة،و لكنه حريص على الحرية بجعله مترددا لأنه يخشى-بل يخاف-أن يكذب عليه أعداؤه أو يخدعوه فيقتلوه دون محاولة منه لتنفيذ عهده بأن يموت في سبيل حريته،أو يأسروه فيفقد حريته التي يحرص عليها حرصه على الحياة.أرأيت كيف استطاع أن يصور موقفه الضيق الحرج هذا التصوير الفني الرائع الذي يشمل روعته من تعبيره عن نفسيته تعبيرا صادقا لا رياء فيه و لا تضليل؟إن هذا هو السر الذي يجعل هذه الشطور القليلة تؤثر في نفوسنا تأثيرا يجعلنا نشعر بما كان يعانيه قائلها من صراع داخلي هائل لا يعد له إلا صراعه الخارجي مع أعدائه».

ص: 109

أمان ابن الأشعث

و لما سمع محمد بن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه أن يموت ميتة الأحرار، و أن لا يخدع و لا يغر انبرى إليه قائلا:«إنك لا تكذب و لا تخدع إن القوم بنو عمك و ليسوا بقاتليك و لا ضاريك».

فلم يعتن به مسلم،و إنما مضى يقاتلهم أعنف القتال و أشده،ففروا منهزمين من بين يديه،و اعتلوا فوق بيوتهم يرمونه بالحجارة،فأنكر عليهم مسلم ذلك قائلا:

«ويلكم!!ما لكم ترمونني بالحجارة،كما ترمى الكفار!!و أنا من أهل بيت الأبرار، ويلكم أما ترعون حق رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و ذريته..».

و لم يستطيعوا مقابلته و جبنوا عن مقاتلته،و ضاق بابن الأشعث أمره فصاح بالجيش:ذروه حتى أكلمه،و دنا منه،فخاطبه:

«يابن عقيل،لا تقتل نفسك،أنت آمن،و دمك في عنقي».

و لم يحفل به مسلم فإنه على علم بأن الأشعث لم يمر في تأريخه و لا في تأريخ أسرته أي معنى من معاني الشرف و النبل و الوفاء،فاندفع يقول له:

«يابن الأشعث،لا أعطي بيدي أبدا،و أنا أقدر على القتال،و الله لا كان ذلك أبدا..».

و حمل مسلم على ابن الأشعث ففر الجبان يلهث كأنه الكلب،و أخذ العطش القاسي من مسلم مأخذا عظيما فجعل يقول:

«اللّهم إن العطش قد بلغ مني».

و تكاثرت الجنود عليه إلا أنها منيت بالذعر و الجبن،و صاح بهم ابن الأشعث:

«إن هذا هو العار و الفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع احملوا عليه

ص: 110

بأجمعكم حملة واحدة».

و حملوا عليه حملة واحدة فضربه بكير بن حمران الأحمري ضربة منكرة على شفته العليا،و أسرع السيف إلى السفلى،و ضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.

ص: 111

أسر مسلم

و بعد ما أثخن مسلم بالجراح،و أعياه نزيف الدم،انهارت قواه،و ضعف عن المقاومة فوقع أسيرا بأيدي أولئك الأوغاد،فتسابقوا إلى ابن زياد يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليحررهم من الذل و العبودية،و قد طار الطاغية فرحا،فقد ظفر بخصمه،و تم له القضاء على الثورة..أما كيفية أسره فقد اختلفت فيها أقوال المؤرخين،و هذه بعضها:

-1-ما ذكره ابن أعثم الكوفي أن مسلما وقف ليستريح مما ألمّ به من الجروح، فطعنه من خلفه رجل من أهل الكوفة طعنة غادرة فسقط إلى الأرض فأسرعوا إلى أسره.

-2-ما ذكره الشيخ المفيد أن مسلما لما أثخن بالحجارة و عجز عن القتال أسند ظهره إلى جنب دار فقال له ابن الأشعث:لك الأمان.

فقال مسلم:أأمن؟

قال:نعم.

فقال للقوم الذين معه:ألي الأمان؟

قالوا:نعم،إلا عبيد الله بن العباس السلمي فإنه قال:لا ناقة لي في هذا و لا جمل، و تنحّى.

فقال مسلم:أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم،و أتى ببغلة فحمل عليها فاجتمعوا حوله،و انتزعوا سيفه فكأنه عند ذلك أيس،فقال:هذا أول الغدر.

-3-ما ذكره أبو مخنف أنهم عملوا له حفيرة و ستروها بالتراب،ثم انكشفوا بين

ص: 112

يديه،فحمل عليهم فانكشفوا بين يديه،فلما انتهى إليها سقط فيها فازدحموا عليه و أسروه و هذا القول لم يذهب إليه غير أبي مخنف.

ص: 113

مسلم مع عبيد الله السلمي

و لم يفكر مسلم في تلك الساعة الحرجة بما سيعانيه من القتل و التنكيل على يد الطاغية ابن مرجانة،و انما شغل فكره ما كتبه للإمام الحسين بالقدوم إلى هذا المصر،فقد أيقن أنه سيلاقي نفس المصير الذي لاقاه،فدمعت عيناه،و ظن عبيد الله ابن العباس السلمي أنه يبكي لما صار إليه،من الأسر،فأنكر عليه ذلك و قال له:

«إن من يطلب مثل الذي تطلب،إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك..».

فرد عليه مسلم ما توهمه فيه قائلا:

«إني و الله ما لنفسي بكيت،و لا لها من القتل أرثي،و إن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا،و لكن أبكي لأهلي المقبلين...أبكي لحسين...».

و ازدحمت الشوارع و الأزقة بالجماهير الحاشدة لتنظر ما يؤول إليه أمر القائد العظيم و ما سيلاقيه من الأمويين،و لم يستطع أحد منهم أن ينبس ببنت شفة حذرا من السلطة العاتية.

مع الباهلي

وجي بمسلم أسيرا تحف به الشرطة و قد شهرت عليه السيوف،فلما انتهي به إلى قصر الإمارة رأى جرة فيها ماء بارد،و قد أخذ العطش منه مأخذا أليما،فالتفت إلى من حوله قائلا:

«اسقوني من هذا الماء».

ص: 114

فانبرى إليه اللئيم الدنس مسلم بن عمرو الباهلي فقال له:

«أتراها ما أبردها؟و الله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم..».

و لا حد لظلم الإنسان،و لا منتهى لوحشيته و جفائه،فما يضر أولئك الجفاة لو سقوه الماء و هو أسير بين أيديهم لا يملك من أمره شيئا،و كان هذا السمت من التردي و سقوط الأخلاق قد عرف به جميع السفلة الساقطين من قتلة المصلحين..

فانبرى مسلم فأراد التعرف على هذا الإنسان الممسوخ الذي تنكر لأبسط القيم الإنسانية قائلا له:

«من أنت؟»

فأجابه مفتخرا بأنه من عملاء السلطة الأموية و أذنابها قائلا:

«أنا من عرف الحق إذ تركته،و نصح الأمة،و الإمام إذ غششته و سمع و أطاع إذ عصيته..أنا مسلم بن عمرو».

أي حق عرفه الباهلي؟و أي نصيحة أسداها للأمة هذا الجلف الجافي؟الذي ارتطم في الباطل و ماج في الضلال لقد كان منتهى ما يفخر به تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو صفحة عار و خزي على الإنسانية في جميع مراحل التأريخ ورد عليه مسلم بمنطقه الفياض قائلا:

«لأمك الثكل،ما أجفاك و أفظك و أقسى قلبك و أغلظك؟!!أنت يابن باهلة أولى بالحميم و الخلود في نار جهنم مني».

و استحيى عمارة بن عقبة من جفوة الباهلي و قسوته،فدعا بماء بارد،فصبه في قدح فأخذ مسلم كلما أراد أن يشرب يمتلى القدح دما و فعل ذلك ثلاثا فقال و قد ذاب قلبه من الظمأ:

«لو كان من الرزق المقسوم لشربته».

و هكذا شاءت المقادير أن يحرم من الماء و يموت ظامئا،كما حرم من الماء ابن عمه ريحانة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سيد شباب أهل الجنة.

ص: 115

مع ابن زياد

و كان من أعظم ما رزى به مسلم أن يدخل أسيرا على الدعي ابن مرجانة،فقد ود أن الأرض وارته،و لا يمثل أمامه و قد شاءت المقادير أن يدخل عليه و قد دخل تحف به الشرطة،فلم يحفل البطل بابن زياد و لم يعن به فسلّم على الناس و لم يسلّم عليه، فأنكر عليه الحرسي و هو من صعاليك الكوفة قائلا:

«هلاّ تسلّم على الأمير؟».

فصاح به مسلم محتقرا له و لأميره:

«اسكت لا أم لك،مالك و الكلام،و اللّه ليس لي بأمير فأسلم عليه».

و كيف يكون ابن مرجانة أميرا على مسلم سيد الأحرار،و أحد المستشهدين في سبيل الكرامة الإنسانية،إنما هو أمير على أولئك الممسوخين الذين لم يألفوا إلا الخنوع و الذل و العار.

و التاع الطاغية من احتقار مسلم له،و تبدد جبروته،فصاح به:

«لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فإنك مقتول».

و لم يملك الطاغية سوى سفك الدم الحرام،و حسب أن ذلك يخيف مسلما أو يوجب انهياره و خضوعه له،فانبرى إليه بطل عدنان قائلا بكل ثقة و اعتزاز بالنفس:

«إن قتلتني فقد قتل من هو شر منك من كان خيرا مني».

و لذعه هذا الكلام الصارم،و أطاح بغلوائه،فقد ألحقه مسلم بالجلادين و السفاكين من قتلة الأحرار و المصلحين،و اندفع الطاغية يصيح بمسلم:

«يا شاق،يا عاق خرجت على إمام زمانك،و شققت عصا المسلمين و ألقحت الفتنة...».

ص: 116

أي إمام خرج عليه مسلم و أي عصا للمسلمين شقّها،و أي فتنة ألقحها؟إنما خرج على قرين الفهود و القرود لقد خرج لينقذ الأمة من محنتها أيام ذلك الحكم الأسود، و انبرى مسلم يرد عليه قائلا:

«و الله ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمة،بل تغلب على وصي النبي صلّى اللّه عليه و اله بالحيلة،و أخذ منه الخلافة بالغصب،و كذلك ابنه يزيد..و أما الفتنة فإنما ألقحتها أنت و أبوك زياد من بني علاج.

و أنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يد شر بريته،فو الله ما خالفت و لا كفرت و لا بدلت،و إنما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن علي و نحن أولى بالخلافة من معاوية و ابنه و آل زياد».

و كانت هذه الكلمات أشد على ابن مرجانة من الموت،فقد كشفت واقعه أمام شرطته و عملائه،و جردته من كل نزعة إنسانية،و أبرزته كأحقر مخلوق على وجه الأرض،و لم يجد الدعي وسيلة يلجأ إليها سوى الافتعالات الكاذبة التي هي بضاعته و بضاعة أبيه زياد من قبل،فأخذيتهم مسلما بما هو بري منه قائلا:

«يا فاسق ألم تكن تشرب الخمر في المدينة؟».

فصاح به مسلم:

«أحق و الله بشرب الخمر من يقتل النفس المحرمة،و هو يلهو و يلعب كأنه لم يسمع شيئا».

و استرد الطاغية تفكيره فرأى أن هذه الأكاذيب لا تجديه شيئا فراح يقول له:

-منتك نفسك أمرا حال الله بينك و بينه و جعله لأهله.

فقال مسلم باستهزاء و سخرية:

-من أهله؟

-يزيد بن معاوية.

-الحمد لله كفى بالله حاكما بيننا و بينكم.

ص: 117

-أتظن أن لك من الأمر شيئا؟

-لا و الله ما هو الظن و لكنه اليقين.

-قتلني الله إن لم أقتلك.

-إنك لا تدع سوء القتلة،و قبح المثلة،و خبث السريرة،و الله لو كان معي عشرة ممن أثق بهم،و قدرت على شربة ماء لطال عليك أن تراني في هذا القصر،و لكن إن كنت عزمت على قتلي فأقم لي رجلا من قريش أوصي له بما أريد و سمح له الطاغية بأن يوصي بما أهمّه.

ص: 118

وصية مسلم بن عقيل

و نظر مسلم في مجلس ابن زياد فرأى عمر بن سعد فأحب أن يعهد إليه بوصيته فقال له

«لا أرى في المجلس قرشيا غيرك ولي إليك حاجة و هي سر..».

و استشاط ابن زياد غضبا حيث نفاه مسلم من قريش،و أبطل استلحاقه ببني أمية فقد أبطل ذلك النسب اللصيق الذي ثبت بشهادة أبي مريم الخمار و لم يستطع أن يقول ابن زياد شيئا.

و امتنع ابن سعد من الإستجابة لمسلم إرضاء لعواطف سيده ابن مرجانة، و كسبا لمودته،و قد لمس ابن زياد خوره و خنوعه فأسرّها في نفسه و رأى أنه خليق بأن يرشحه لقيادة قواته المسلحة التي يزج بها لحرب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

و أمر ابن زياد عمر بن سعد بأن يقوم مع مسلم ليعهد إليه بوصيته،و قام ابن سعد معه فأوصاه مسلم بما يلي:

-1-إن عليه دينا بالكوفة يبلغ سبعمائة درهم،فيبيع سيفه و درعه ليوفيها عنه و قد دل ذلك على شدة احتياطه و تحرّجه في دينه،كما أوصى أن يعطي لطوعة ما يفضل من وفاء دينه.

-2-أن يستوهب جثته من ابن زياد فيورايها و ذلك لعلمه بخبث الأمويين،و أنهم لا يتركون المثلة.

-3-أن يكتب للحسين بخبره فقد شغله أمره لأنه كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة

ص: 119

و أقبل ابن سعد يلهث على ابن زياد فقال له:

«أتدري أيها الأمير ما قال لي؟إنه قال كذا و كذا».

و أنكر عليه ابن زياد إبداءه السر فقال:

«لا يخونك الأمين،و لكن قد يؤتمن الخائن،أمّا ماله فهو لك تصنع به ما شئت، و أمّا الحسين فإن لم يردنا لم نرده،و إن أرادنا لم نكف عنه،و أما جثته فإنا لن نشفعك فيها»

لقد ترك الطاغية شفاعة ابن سعد في جثة مسلم فقد عزم على التمثيل بها للتشفي منه،و ليتخذ من ذلك وسيلة لإرهاب الناس و خوفهم.

الطاغية مع مسلم

و صاح ابن مرجانة بمسلم فقال له:«بماذا أتيت إلى هذا البلد؟شتت أمرهم، و فرّقت كلمتهم،و رميت بعضهم على بعض»و انطلق فخر هاشم قائلا بكل ثقة و اعتزاز بالنفس:

«لست لذلك أتيت هذا البلد،و لكنكم أظهرتم المنكر،و دفنتم المعروف،و تأمرتم على الناس من غير رضى،و حملتموهم على غير ما أمركم الله به،و عملتم فيهم بأعمال كسرى و قيصر،فأتيناهم لنأمر بالمعروف،و ننهى عن المنكر،و ندعوهم إلى حكم الكتاب و السنة،و كنا أهلا لذلك فإنه لم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب،و لا تزال الخلافة لنا فإنا قهرنا عليها...إنكم أول من خرج على إمام هدى،و شقّ عصا المسلمين،و أخذ هذا الأمر غصبا،و نازع أهله بالظلم و العدوان...».

و أدلى مسلم بهذا الحديث عن أسباب الثورة التي أعلنها الإمام الحسين على الحكم الأموي،و قد التاع الطاغية من كلام مسلم،و تبددت نشوة ظفره،فلم يجد

ص: 120

مسلكا ينفذ منه لإطفاء غضبه سوى السب للعترة الطاهرة فأخذ يسب عليا و الحسن و الحسين،و ثار مسلم في وجهه فقال له:

«أنت و أبوك أحق بالشتم منهم،فاقض ما أنت قاض،فنحن أهل بيت موكل بنا البلاء».

لقد ظل مسلم حتى الرمق الأخير من حياته عالي الهمة،و جابه الأخطار ببأس شديد،فكان في دفاعه و منطقه مع ابن مرجانة مثالا للبطولات النادرة (1).2.

ص: 121


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:290/2.

شهادة مسلم بن عقيل

و آن للقائد العظيم أن ينتقل عن هذه الحياة بعد ما أدى رسالته بأمانة و إخلاص، و قد رزق الشهادة على يد الممسوخ القذر ابن مرجانة فندب لقتله بكيرا بن حمران الذي ضربه مسلم،فقال له:

«خذ مسلما،و اصعد به إلى أعلى القصر،و اضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك».

و التفت مسلم إلى ابن الأشعث الذي أعطاه الأمان فقال له:«يابن الأشعث أما و الله لو لا أنك آمنتني ما استسلمت،قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك»فلم يحفل به ابن الأشعث.

و استقبل مسلم الموت بثغر باسم،فصعد به إلى أعلى القصر و هو يسبح الله و يستغفره بكل طمأنينة و رضى و هو يقول:

«اللّهم احكم بيننا و بين قوم غرونا،و خذلونا».

و أشرف به الجلاد على موضع الحذائيين فضرب عنقه،و رمى برأسه و جسده إلى الأرض و هكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي يحمل نزعات عمه أمير المؤمنين عليه السّلام و مثل ابن عمه الحسين و قد استشهد دفاعا عن الحق و دفاعا عن حقوق المظلومين و المضطهدين.

و نزل القاتل الأثيم فاستقبله ابن زياد فقال له:

«ما كان يقول و أنتم تصعدون به؟».

«كان يسبح الله،و يستغفره،فلما أردت قتله قلت له الحمد لله الذي أمكنني منك

ص: 122

و أقادني منك فضربته ضربة لم تغن شيئا فقال لي أما ترى فيّ خدشا تخدشنيه، وفاء من دمك أيها العبد».

فبهر ابن زياد و راح يبدي إعجابه و إكباره له قائلا.

«أو فخرا عند الموت!!».

و قد انطوت بقتل مسلم صفحة مشرقة من أروع صفحات العقيدة و الجهاد في الإسلام،فقد استشهد في سبيل العدالة الاجتماعية،و من أجل إنقاذ الأمة و تحريرها من الظلم و الجور،و هو أول شهيد من الأسرة النبوية يقتل علنا أمام المسلمين،و لم يقوموا بحمايته و الذب عنه.

سلب مسلم

و انبرى سليل الخيانة محمد بن الأشعث إلى سلب مسلم،فسلب سيفه و درعه، و هو غير حافل بالعار و الخزي،و قد تعرّض للنقد اللاذع من جميع الأوساط في الكوفة،و يقول بعض الشعراء في هجائه:

و تركت ابن عمك أن تقاتل دونه فشلا و لو لا أنت كان منيعا

و قتلت وافد آل بيت محمد و سلبت أسيافا له و دروعا

و عمد بعض أجلاف أهل الكوفة فسلبوا رداء مسلم و ثيابه.

ص: 123

تنفيذ الإعدام في هانىء

و أمر الطاغية بإعدام الزعيم الكبير هانىء بن عروة،و إلحاقه بمسلم مبالغة في إذلال زعماء الكوفة و إذاعة للذعر و الخوف بين الناس،و قام محمد بن الأشعث فتشفع فيه خوفا من بطش أسرته قائلا:

«أصلح الله الأمير إنك قد عرفت شرفه في عشيرته و قد عرف قومه أني و أسماء بن خارجة جئنا به إليك،فأنشدك الله أيها الأمير لما وهبته لي،فإني أخاف عداوة أهل بيته،و أنهم سادات أهل الكوفة و أكثرهم عددا...».

فلم يحفل به ابن زياد،و إنما زبره و صاح به فسكت العبد،و أخرج البطل إلى السوق في موضع تباع فيه الأغنام مبالغة في إذلاله،و لما علم أنه ملاق حتفه جعل يستنجد بأسرته،و قد رفع عقيرته.

«و امذحجاه و لا مذحج لي اليوم و اعشيرتاه».

و لو كانت عند مذحج صبابة من الشرف و النبل لانبرت إلى إنقاذ زعيمها،و لكنها كانت كغيرها من قبائل الكوفة،قد طلّقت المعروف ثلاثا...و عمد هانىء إلى إخراج يده من الكتاف،و هو يطلب السلاح ليدافع به عن نفسه،فلما بصروا به بادروا إليه فأوثقوه كتافا و قالوا له:

«أمدد عنقك...».

فأجاب برباطة جأش و رسوخ يقين:«لا و اللّه ما كنت بالذي أعينكم على نفسي» و انبرى إليه وغد؟؟؟ من شرطة ابن زياد يقال له رشيد التركي فضربه بالسيف فلم يصنع به شيئا،و رفع هانىء صوته قائلا:

ص: 124

«اللّهم إلى رحمتك و رضوانك اللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي،فإني إنما تعصبت لابن بنت نبيك محمد...».

و ضربه الباغي ضربة أخرى فهوى إلى الأرض يتخبط بدمه الزاكي و لم يلبث قليلا حتى فارق الحياة و كان عمره يوم استشهد تسعا و تسعين سنة و قد مضى شهيدا دون مبادئه و عقيدته و جزع لقتله الأحرار و المصلحون،و قد رثاه أبو الأسود الدؤلي بقوله:

أقول و ذاك من جزع و وجد أزال الله ملك بني زياد

هم جدعوا الأنوف و كن شما بقتلهم الكريم أخا مراد

و رثاه الأخطل بن زياد بقوله:

و لم يك عن يوم ابن عروة غائبا كما لم يغب عن ليلة ابن عقيل

أخو الحرب صراها فليس بناكل جبار و لا وجب الفؤاد ثقيل

السحل في الشوارع

و عهد الطاغية إلى زبانيته و عملائه بسحل جثة مسلم و هانىء في الشوارع و الأسواق،فعمدوا إلى شد أرجلهما بالحبال،و أخذوا يسحلونهما في الطرق و ذلك لإخافة العامة و شيوع الإرهاب،و ليكونا عبرة لكل من تحدّثه نفسه بالخروج على الحكم الأموي.

لقد سحب هانىء أمام أسرته و قومه،و لو كان عندهم ذرة من الشرف و الحمية لانبروا إلى تخليص جثة زعيمهم من أيدي الغوغاء الذين بالغوا في إهانتها.

صلب الجثتين

و لما قضى الطاغية إربه في سحل جثة مسلم و هانىء أمر بصلبهما،فصلبا

ص: 125

منكوسين في الكناسة فكان مسلم-فيما يقول المؤرخون-أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم و قد استعظم المسلمون كأشد ما يكون الاستعظام هذا الحادث الخطير،فإن هذا التمثيل الفظيع إنما هو جزاء الذين يحاربون الله و رسوله، و يسعون في الأرض فسادا،و مسلم و هانىء إنما هما من رواد الحق و دعاة الإصلاح في الأرض.

و على أي حال فقد أخضع الطاغية بعد قتله لمسلم و هانىء-العراق الثائر، و ارتمت جميع أوساطه تحت قدميه بدون أية مقاومة.

ص: 126

الرؤوس إلى دمشق

و عمد ابن مرجانة إلى إرسال رأس مسلم و هانىء و عمارة بن صلخب الأزدي هدية إلى سيده يزيد لينال الجائزة،و يحرز إخلاص الأسرة المالكة له،و قد أرسل معها هذه الرسالة:

«أما بعد:فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه،و كفاه مؤونة عدوه..أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانىء بن عروة المرادي، و أني جعلت عليهما العيون،و دسست إليهما الرجال،و كدتهما حتى استخرجتهما، و أمكن الله منهما فضربت أعناقهما،و بعثت إليك برأسيهما مع هانىء بن أبي حية الوداعي الهمداني،و الزبير بن الأروح التميمي،و هما من أهل السمع و الطاعة، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب فإن عندهما علما و صدقا و فهما و ورعا و السلام».

و احتوت هذه الرسالة على العمليات التي قام بها الطاغية للقضاء على الثورة، و التي كان من أهمها:

-1-استعانته بالعيون و الجواسيس في معرفة شؤون الثورة،و الوقوف على أسرارها،و قد قام بهذه العملية معقل مولاه.

-2-إنه دس لهانىء العضو البارز في الثورة الرجال حتى صار تحت قبضته، و اعتقله،و كذلك كاد لمسلم حينما ثار عليه،فقد أرسل عيون أهل الكوفة و وجوهها مع العرفاء فأخذوا يذيعون الذعر و ينشرون الإرهاب حتى انهزم جيشه.

ص: 127

جواب يزيد

و لما انتهت الرؤوس إلى دمشق سر يزيد بذلك سرورا بالغا،و كتب لابن مرجانة جوابا عن رسالته شكره فيها،و هذا نصه:

«أما بعد:فإنك لم تعد إذ كنت كما أحب،عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابض،فقد كفيت،و صدقت ظني و رأيي فيك و قد دعوت رسوليك فسألتهما عن الذين ذكرت،فقد وجدتهما في رأيهما و عقلهما و فهمهما و فضلهما، و مذهبهما كما ذكرت،و قد أمرت لكل واحد منهما بعشرة آلاف درهم،و سرّحتهما إليك فاستوص بهما خيرا.

و قد بلغني أن الحسين بن علي قد عزم على المسير إلى العراق،فضع المراصد و المناظر،و احترس،و احبس على الظن،و اكتب إلي في كل يوم بما يتجدد لك من خير أو شر و السلام».

و حفلت هذه الرسالة بالتقدير البالغ لابن زياد،و أضفت عليه صفة الحازم اليقظ، و أنه قد حقق ظن يزيد فيه أنه أهل للقيام بمثل هذه الأعمال الخطيرة..و قد عرّفه يزيد بعزم الإمام الحسين على التوجه إلى العراق،و أوصاه باتخاذ التدابير التالية.

-1-وضع المراصد و الحرس على جميع الطرق و المواصلات.

-2-التحرس في أعماله،و أن يكون حذرا يقظا.

-3-أخذ الناس بسياسة البطش و الإرهاب.

-4-أن يكون على اتصال دائم مع يزيد،و يكتب له بجميع ما يحدث في القطر و طبّق ابن مرجانة جميع ما عهده إليه سيده و نفذ ما يلي:

ص: 128

إعلان الأحكام العرفية

و بعد ما أطاح الطاغية بثورة مسلم قبض على العراق بيد من حديد،و أعلن الأحكام العرفية في جميع أنحاء العراق،و اعتمد في تنفيذ خططه على القسوة البالغة فأشاع من الظلم و الجور ما لا يوصف..فكان اسمه موجبا لإثارة الفزع و الخوف في نفوس العراقيين كما كان اسم أبيه زياد من قبل.

لقد فوضت إليه حكومة دمشق السلطات الواسعة،و أمرته بأخذ الناس بالظنة، و إعدام كل من يحقد على الحكم الأموي،أو له ضلع بالإشتراك في أية مؤامرة تحاك ضده.و بهذه الأساليب الرهيبة ساق الناس لحرب الحسين،فقد كان يحكم بالموت على كل من يتخلف أو يرتدع عن الخوض في المعركة.

ص: 129

احتلال الحدود العراقية

و احتل ابن زياد جميع الحدود العراقية احتلالا عسكريا،و منع الناس من الدخول للعراق و الخروج منه إلا بإذن و تأشير خاص من شرطة الحدود و كانوا إذا أخذوا رجلا أجروا معه التحقيق الكامل فإن علموا براءته أطلقوا سراحه،و إلا بعثوه مخفورا إلى السلطة المركزية في الكوفة لتجري معه المزيد من التحقيق،و قد احتاط في هذه الجهة أشد الاحتياط مخافة أن يلج أحد إلى العراق أو يخرج منه من شيعة الإمام الحسين،و يقول المؤرخون إنه جعل على جميع المفارق،و رؤوس المنازل عيونا من عسكره،كما عين في البر نقاطا و مسالح ترصد جميع الحركات و قد بعث الحصين بن نمير رئيس شرطته إلى القادسية و منها إلى خفان،ثم إلى القطقطانية و جبل لعلع و رتب في كل مكان جماعة من الفرسان و الخيالة لتفتيش الداخل و الخارج،و قد حفظت هذه الإجراءات تلك المناطق من الإشتراك بأي عمل ضد الدولة،كما حفظت خطوط المواصلات بين الكوفة و الشام،و قد ألقت الشرطة القبض على مسهر الصيداوي رسول الإمام الحسين إلى الكوفة،و بعثته مخفورا إلى ابن زياد،و سنذكر حديثه في البحوث الآتية:

الاعتقالات الواسعة

و قام ابن زياد بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف الشيعة فاعتقل منهم فيما يقول بعض المؤرخين اثني عشر ألفا و كان من بين المعتقلين سليمان بن

ص: 130

صرد الخزاعي،و المختار بن يوسف الثقفي و أربعمائة من الأعيان و الوجوه.

و قد أثارت هذه الإجراءات عاصفة من الفزع و الهلع لا في الكوفة فحسب،و إنما في جميع أنحاء العراق و قد ابتعد الكوفيون عن التدخل في أية مشكلة سياسية،و لم تبد منهم أية حركة من حركات المعارضة و أيقنوا أن لا قدرة لهم على الإحاطة بالعرش الأموي،و ظلوا قابعين تحت وطأة سياطه القادسية (1).5.

ص: 131


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:239/2-295.

وصول نبأ مقتل مسلم للحسين

النبأ المفجع بمقتل مسلم حمله إلى الإمام عبد الله بن سليمان و المنذر بن المشمعل الأسديان،و كانا-فيما يقول المؤرخون-قد انتهيا من أداء مناسك الحج، و كانت لهما رغبة ملحة في الاتصال بالإمام و التعرف على شؤونه فأخذا يجدّان في السير حتى التحقا به في زرود،و بينما هما معه و إذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة فلما رأى الحسين عدل عن الطريق،و قد وقف الحسين يريد مسألته فلما رآه قد مال عنه سار في طريقه،و لما عرف الأسديان رغبة الإمام في سؤاله تبعاه حتى أدركاه فسلّما عليه و سألاه عن أسرته فأخبرهما أنه أسدي فانتسبا له ثم سألاه عن خبر الكوفة،فقال لهما:انه لم يخرج منها حتى قتل مسلم بن عقيل و هانىء بن عروة، و رآهما يجران بأرجلهما في الأسواق،و ودعاه،و أقبلا مسرعين حتى لحقا بالإمام، فلما نزل الإمام بالثعلبية قالا له:

«رحمك الله إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك علانية،و إن شئت سرا...:

و تأمل في أصحابه فقال عليه السّلام:

«ما دون هؤلاء سر».

«أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس؟».

«نعم و أردت مسألته»

«و الله استبرأنا لك خبره،و كفيناك مسألته،و هو امرؤ منا ذو رأي و صدق و عقل،و انه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم و هانىء و رآهما يجران في السوق بأرجلهما».

ص: 132

و كان النبأ المؤلم كالصاعقة على العلويين فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتى ارتج الموضع بالبكاء و سالت الدموع كل مسيل و استبان للإمام غدر أهل الكوفة،و أيقن أنه مع الصفوة من أهل بيته و أصحابه سيلاقون نفس المصير الذي لاقاه مسلم،و انبرى إلى الإمام بعض أصحابه فقال له:«ننشدك الله إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر و لا شيعة بل نتخوف أن يكونوا عليك».

و التفت الإمام إلى بني عقيل فقال لهم:

«ما ترون فقد قتل مسلم؟».

و وثبت الفتية و هي تعلن استهانتها بالموت قائلين:

«لا و الله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم».

و راح الإمام يقول بمقالتهم:

«لا خير في العيش بعد هؤلاء».

و قال عليه السّلام متمثلا:

سأمضي و ما بالموت عار على الفتى اذا ما نوى حقا و جاهد مسلما فإن مت لم أندم و إن عشت لم آلم كفى بك عارا أن تذل و ترغما

لقد مضى الإمام قدما،و هو مرفوع الجبين و قد أيقن أنه يسير إلى الفتح الذي ليس مثله فتح،لقد مضى ليؤدي رسالة الله بأمانة و إخلاص كما أداها جده الرسول صلّى اللّه عليه و اله من قبل (1).

و روي أنه لما وصل الإمام إلى الثعلبية (2)أخبره أسديان عن صاحبهم أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل و هانىء بن عروة و رآهما يجران في الأسواق بأرجلهما.7.

ص: 133


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:51/3.
2- الثعلبية من منازل طريق الحاج من العراق مثير الأحزان ص 33،و اللهوف ص 27.

فقال الإمام:إنا للّه و إنا إليه راجعون رحمة اللّه عليهما و ردد ذلك مرارا،فقالا:

ننشدك اللّه في نفسك و أهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا فإنه ليس لك بالكوفة ناصر و لا شيعة بل نتخوف أن تكون عليك،فوثب عند ذلك بنو عقيل،و قالوا:لا و اللّه لا نبرح حتى ندرك ثارنا أن نذوق ما ذاق أخونا.

فنظر الحسين إلى الأسديين و قال:لا خير في العيش بعد هؤلاء.قالا:فعلمنا أنّه عزم له رأيه على المسير،فقلنا:خار اللّه لك.

فقال:رحمكما اللّه (1).8.

ص: 134


1- انظر تاريخ الطبري 225/6،و ابن الأثير 17/4،و الدينوري ص 247 باختصار،و ابن كثير /8 168.

ذكر قصة مسلم برواية أبي مخنف

ذكر أبو مخنف قصة مسلم بن عقيل و شخوصه إلى الكوفة و مقتله أشبع و اتم من خبر غيره عن أبي جعفر عن هشام بن محمد عنه قال:حدثني عبد الرحمان بن جندب،قال:حدثني عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة الحسين و كانت مع سكينة ابنة الحسين و هو مولى لابيها و هي إذ ذاك صغيرة،قال:

خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم.

فقال للحسين أهل بيته:لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب قال:لا و اللّه لا أفارقه حتى يقضي اللّه ما هو أحب إليه قال:فاستقبلنا عبد اللّه ابن مطيع.

فقال للحسين:جعلت فداك أين تريد؟

قال:أما الآن فإني أريد مكة،و أما بعدها فإني استخير اللّه،قال:خار اللّه لك و جعلنا فداك فإذا أنت أتيت مكة فإياك ان تقرب الكوفة فانها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك و خذل أخوك و اغتيل بطعنة كانت تأتي على نفسه،إلزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك و اللّه أهل الحجاز أحدا و يتداعى إليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم فذاك عمي و خالي فو اللّه لئن هلكت لنسترقن بعدك،فأقبل حتى نزل مكة فأقبل أهلها يختلفون إليه و يأتونه و من كان بها من المعتمرين و أهل الآفاق و ابن الزبير بها قد لزم الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار و يطوف و يأتي حسينا فيمن يأتيه فيأتيه اليومين المتواليين و يأتيه بين كل يومين مرة و لا يزال يشير عليه بالرأي و هو أثقل خلق اللّه على ابن الزبير قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه و لا

ص: 135

يتابعونه أبدا ما دام الحسين بالبلد و إن حسينا أعظم في أعينهم و أنفسهم منه و أطوع في الناس منه.فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد و قالوا قد امتنع الحسين و ابن الزبير و لحقا بمكة و كتب أهل الكوفة إلى الحسين و عليهم النعمان بن بشير.

قال أبو مخنف:فحدثني الحجاج بن علي عن محمد بن بشر الهمداني قال:

اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فذكرنا هلاك معاوية فحمدنا اللّه عليه، فقال لنا سليمان بن صرد:إن معاوية قد هلك و إن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته و قد خرج إلى مكة و أنتم شيعته و شيعة أبيه،فإن كنتم تعلمون إنكم ناصروه و مجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه،و إن خفتم الوهل و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه.

قالوا لا بل نقاتل عدوه و نقتل أنفسنا دونه.

قال:فاكتبوا إليه،فكتبوا إليه(بسم اللّه الرحمن الرحيم)لحسين بن علي من سليمان بن صرد و المسيب بن نجمة و رفاعة بن شداد و حبيب بن مظاهر و شيعته من المؤمنين و المسلمين من أهل الكوفة سلام عليك فإنا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو:

أما بعد فالحمد للّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها و غصبها فيأها و تأمر عليها بغير رضى منها،ثم قتل خيارها و استبقى شرارها و جعل مال اللّه دولة بين جبابرتها و أغنيائها،فبعدا له كما بعدت ثمود انه ليس علينا إمام،فأقبل لعل اللّه ان يجمعنا بك على الحق،و النعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة و لا نخرج معه إلى عيد،و لو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء اللّه و السلام و رحمة اللّه عليك.

قال:ثم سرحنا بالكتاب مع عبد اللّه بن سبع الهمداني و عبد اللّه بن و ال و أمرناهما

ص: 136

بالنجاء،فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على الحسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة،ثم لبثنا يومين ثم سرّحنا إليه قيس بن مسهر الصيداوي و عبد الرحمان بن عبد اللّه بن الكدن الأرحبي و عمارة بن عبيد السلولي فحملوا معهم نحوا من ثلاثة و خمسين صحيفة من الرجل و الاثنين و الاربعة.

قال:ثم لبثنا يومين آخرين ثم سرّحنا إليه هانىء بن هانىء السبيعي و سعيد بن عبد اللّه الحنفي و كتبنا معهما(بسم اللّه الرحمن الرحيم)لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين و المسلمين:أما بعد فحيهلا فإن الناس ينتظرونك و لا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل و السلام عليك.و كتب شبث بن ربعى و حجار بن أبجر و يزيد بن الحارث و يزيد بن رويم و عزرة بن قيس و عمرو بن الحجاج الزبيدي و محمد بن عمير التميمي:أما بعد فقد اخضرّ الجناب و أينعت الثمار و طمت الجمام فإذا شئت فأقدم على جندلك مجند و السلام عليك و تلاقت الرسل كلها عنده فقرأ الكتب و سأل الرسل عن أمر الناس.

ثم كتب مع هانىء بن هانىء السبيعي و سعيد بن عبد اللّه الحنفي و كان آخر الرسل(بسم اللّه الرحمن الرحيم)من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين و المسلمين:أما بعد فإن هانئا و سعيدا قدما علي بكتبكم و كانا آخر من قدم علي من رسلكم،و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم و مقالة جلّكم:إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اللّه ان يجمعنا بك على الهدى و الحق.و قد بعثت إليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي،و أمرته أن يكتب الي بحالكم و أمركم و رأيكم،فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأى ملئكم و ذوي الفضل و الحجى منكم علي مثل ما قدمت علي به رسلكم و قرأت في كتبكم أقدم عليكم و شيكا إن شاء اللّه،فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائن بالحق و الحابس نفسه على ذات اللّه و السلام.

قال أبو مخنف:و ذكر أبو المخارق الراسبي قال:إجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها:مارية ابنة سعد أو منقذ أياما

ص: 137

و كانت تتشيّع و كان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه.و قد بلغ ابن زياد إقبال الحسين فكتب إلى عامله بالبصرة:أن يضع المناظر و يأخذ بالطريق،قال:فأزمع يزيد بن نبيط الخروج و هو من عبد القيس إلى الحسين،و كان له بنون عشرة،فقال:أيكم يخرج معي؟فانتدب معه ابنان له:عبد اللّه و عبيد اللّه،فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة:إني قد أزمعت على الخروج و أنا خارج،فقالوا له:إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد،فقال:إني و اللّه لو قد استوت أخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني.

قال:ثم خرج فقوي في الطريق حتى انتهى إلى الحسين عليه السّلام فدخل في رحله بالأبطح و بلغ الحسين مجيئه فجعل يطلبه،و جاء الرجل إلى رحل الحسين فقيل له:

قد خرج إلى منزلك فأقبل في أثره،و لما لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، و جاء البصري فوجده في رحله جالسا فقال:بفضل اللّه و برحمته فبذلك فليفرحوا قال:فسلم عليه و جلس إليه فأخبره بالذي جاء له،فدعى له بخير،ثم أقبل معه حتى أتى فقاتل معه فقتل معه هو و ابناه.

ثم دعا مسلم بن عقيل فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي و عمارة بن عبيد السلولى و عبد الرحمان بن عبد اللّه بن الكدن الأرحبي فأمره بتقوى اللّه و كتمان أمره و اللطف،فإن رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجّل إليه بذلك،فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و ودع من أحب من أهله.

ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به فضلاّ الطريق و جارا و أصابهم عطش شديد،و قال الدليلان:هذا الطريق حتى ينتهي إلى الماء و قد كادوا ان يموتوا عطشا.

فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين و ذلك بالمضيق من بطن الخبيت.أما بعد فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق و ضلا و اشتد علينا العطش فلم يلبثنا ان ماتا و أقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بخشاشة أنفسنا و ذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت و قد تطيرت من

ص: 138

وجهي هذا فإن رأيت أعفيتنى منه و بعثت غيري و السلام.فكتب إليه الحسين:أما بعد فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إلي في الإستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن،فامض لوجهك الذي وجهتك له و السلام عليك.

فقال مسلم لمن قرأ الكتاب:هذا ما لست أتخوفه على نفسي،فأقبل كما هو حتى مربماء لطيئ فنزل بهم ثم ارتحل منه فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه،فقال مسلم:يقتل عدونا إن شاء اللّه.

ثم أقبل مسلم حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد و هي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب،و أقبلت الشيعة تختلف إليه،فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين فأخذوا يبكون،فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:أما بعد فإني لا أخبرك عن الناس،و لا أعلم ما في أنفسهم،و ما أغرك منهم،و اللّه أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه،و اللّه لأجيبنكم إذا دعوتم،و لأقاتلن معكم عدوكم و لأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى اللّه،لا أريد بذلك إلا ما عند اللّه.

فقام حبيب بن مظاهر الأسدي فقال:رحمك اللّه قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك،ثم قال:و إنا و اللّه الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه.

ثم قال الحنفي مثل ذلك،فقال الحجاج بن علي:فقلت لمحمد بن بشر فهل كان منك أنت قول؟

فقال:إن كنت لأحب أن يعز اللّه أصحابي بالظفر و ما كنت لأحب ان أقتل و كرهت أن أكذب،و اختلفت الشيعة إليه حتى علم مكانه فبلغ ذلك النعمان بن بشير.

قال أبو مخنف:حدثني نمر بن وعلة عن أبي الوداك قال خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:أما بعد فاتقوا اللّه عباد اللّه و لا تسارعوا إلى الفتنة و الفرقة فإن فيهما يهلك الرجال و تسفك الدماء و تغصب الاموال و كان حليما ناسكا يحب العافية.

ص: 139

قال:إني لم أقاتل من لم يقاتلني و لا أثب على من لا يثب على و لا أشاتمكم و لا أتحرش بكم و لا آخذ بالقرف و لا الظنة و لا التهمة و لكنكم إن أبديتم صفحتكم لي و نكثتم بيعتكم و خالفتم إمامكم فو اللّه الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي و لو لم يكن لي منكم ناصر،أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل،قال:فقام إليه عبد اللّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال:إنه لا يصلح ما ترى إلى الغشم إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك و بين عدوك رأى المستضعفين.

فقال:أن أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية اللّه،ثم نزل و خرج عبد اللّه بن مسلم و كتب إلى يزيد بن معاوية أما بعد:

فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي،فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك و يعمل مثل عملك في عدوك،فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف و هو يتضعف فكان أول من كتب إليه.

ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك.

قال هشام:قال عوانة:فلما اجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم إلا يومان دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية فقال:ما رأيك؟فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة،و مسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين،و قد بلغني عن النعمان ضعف و قول سيئ،و أقرأه كتبهم فما ترى من استعمل على الكوفة؟و كان يزيد عاتبا على عبيد اللّه بن زياد،فقال سرجون:أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه؟

قال:نعم فأخرج عهد عبيد اللّه على الكوفة فقال:هذا رأى معاوية و مات

و قد أمر بهذا الكتاب،فأخذ برأيه و ضم المصرين إلى عبيد اللّه و بعث إليه بعهده على الكوفة،ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلى و كان عنده فبعثه إلى عبيد اللّه بعهده إلى البصرة و كتب إليه معه:أما بعد فإنه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن

ص: 140

ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين،فسرحين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه و السلام.فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد اللّه بالبصرة فأمر عبيد اللّه بالجهاز و التهيئ و المسير إلى الكوفة من الغد و قد كان حسين كتب إلى أهل البصرة كتابا.

قال هشام:قال أبو مخنف:حدثني الصقعب بن زهير عن أبي الصقعب (1)ابن زهير بن عبد اللّه الأزدي الكوفي عن عطاء بن يسار و عمرو بن شعيب،و عنه ابن أخيه لوط و أبو إسماعيل الأزدي...قال عثمان النهدى قال:كتب الحسين مع مولى لهم يقال له:سليمان،و كتب بنسخة إلى رؤوس الأخماس بالبصرة و إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري،و الى الاحنف بن قيس،و إلى المنذر بن الجارود، و إلى مسعود بن عمرو،و إلى قيس بن الهيثم،و إلى عمرو بن عبيد اللّه بن معمر فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها:

أما بعد فإن اللّه اصطفى محمدا صلّى اللّه عليه و اله على خلقه و أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته ثم قبضه اللّه إليه،و قد نصح لعباده و بلّغ ما أرسل به صلّى اللّه عليه و اله و كنا أهله و أوليائه و أوصياءه و ورثته و أحق الناس بمقامه في الناس،فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا و كرهنا الفرقة و أحببنا العافية،و نحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه،و قد أحسنوا و أصلحوا و تحرّوا الحق،فرحمهم اللّه و غفر لنا و لهم، و قد بعثت رسولى إليكم بهذا الكتاب و أنا أدعوكم إلى كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و اله فإنم،

ص: 141


1- انظر خلاصة تذهيب تهذيب الكمال:176 ط.حلب. و في الهامش:الصقعب بإسكان القاف و فتح العين،وثقه أبو زرعة.و في تهذيب التهذيب"ج 4 ص 432"الصقعب بن زهير بن عبد اللّه بن زهير بن سليم الأزدي الكوفي،روى عن زيد بن سلم و عطاء بن أبي رباح و عمرو بن شعيب و غيرهم،و عنه جرير بن حازم و حماد بن زيد و ابن اخته لوط بن يحيى أبو مخنف و أبو إسماعيل الأزدي و عباد بن عباد و غيرهم،

السنة قد أميتت،و إن البدعة قد أحييت،و أن تسمعوا قولي و تطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد،و السلام عليكم و رحمة اللّه.فكل من قرأ ذلك الكتاب من أشراف الناس كتمه غير المنذر بن الجارود فإنه خشي بزعمه ان يكون دسيسا من قبل عبيد اللّه،فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة و أقرأه كتابه،فقدّم الرسول فضرب عنقه و صعد عبيد اللّه منبر البصرة فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:أما بعد فو اللّه ما تقرن بي الصعبة،و لا يقعقع لي بالشنان،و إني لنكل لمن عاداني،و سم لمن حاربني،أنصف القارة من راماها،يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين و لأني الكوفة و أنا غاد إليها الغداة،و قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان،و إياكم و الخلاف و الإرجاف،فو الذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه و عريفه و وليه،و لآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي و لا يكون فيكم مخالف و لا مشاق،أنا بن زياد أشبهته من بين من وطئ الحصى و لم ينتزعني شبه خال و لا ابن عم.

ثم خرج من البصرة و استخلف أخاه عثمان بن زياد و أقبل إلى الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلى،و شريك بن الأعور الحارثي،و حشمه و أهل بيته حتى دخل الكوفة و عليه عمامة سوداء و هو متلثّم و الناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم فهم ينتظرون قدومه،فظنوا حين قدم عبيد اللّه أنه الحسين،فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلّموا عليه و قالوا:مرحبا بك يابن رسول اللّه،قدمت خير مقدم،فرأى من تباشيرهم بالحسين عليه السّلام ما ساءه.

فقال مسلم:بن عمرو لما أكثروا:تأخّروا هذا الأمير عبيد اللّه بن زياد،فأخذ حين أقبل على الظهر و إنما معه بضعة عشر رجلا،فلما دخل القصر و علم الناس أنه عبيد اللّه بن زياد دخلهم من ذلك كآبة و حزن شديد،و غاظ عبيد اللّه ما سمع منهم و قال:ألا أرى هؤلاء كما أرى.

قال هشام:قال أبو مخنف:فحدثني المعلى بن كليب عن أبي وداك،قال:لما نزل

ص: 142

القصر نودي:الصلاة جامعة،قال:فاجتمع الناس فخرج إلينا فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال:أما بعد فإن أمير المؤمنين أصلحه اللّه ولاّني مصركم و ثغركم و أمرني بإنصاف مظلومكم،و إعطاء محرومكم،و بالإحسان إلى سامعكم و مطيعكم، و بالشدة على مريبكم و عاصيكم،و أنا متبع فيكم أمره،و منفذ فيكم عهده،فأنا لمحسنكم و مطيعكم كالوالد البر،و سوطي و سيفي على من ترك أمري،و خالف عهدي،فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبىء عنك لا الوعيد،ثم نزل فأخذ العرفاء و الناس أخذا شديدا فقال:اكتبوا إلى الغرباء و من فيكم من طلبة أمير المؤمنين و من فيكم من الحرورية و أهل الريب الذين رأيهم الخلاف و الشقاق،فمن كتبهم لنا فبرئ،و من لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف،و لا يبغي علينا منهم باغ،فمن لم يفعل برئت منه الذمة،و حلال لنا ماله و سفك دمه، و أيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يعرفه إلينا صلب على باب داره و ألغيت تلك العرافة من العطاء وسّر؟؟؟ إلى موضع بعمان الزارة.

و أما عيسى بن يزيد الكناني فإنه قال:فيما ذكر عمر بن شبة عن هارون بن مسلم عن علي بن صالح عنه،قال:لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد اللّه بن زياد إنتخب من أهل البصرة خمسمائة فيهم عبد اللّه بن الحارث بن نوفل،و شريك بن الأعور، و كان شيعة لعلي،فكان أول من سقط بالناس شريك،فيقال:انه تساقط غمرة و معه ناس،ثم سقط عبد اللّه بن الحارث،و سقط معه ناس و رجوا أن يلوى عليهم عبيد اللّه و يسبقه الحسين إلى الكوفة،فجعل لا يلتفت إلى من سقط و يمضي حتى ورد القادسية و سقط مهران مولاه فقال:أيا مهران على هذه الحال إن أمسكت عنك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف قال لا و اللّه ما أستطيع فنزل عبيد اللّه فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن،ثم اعتجر بمعجرة يمانية،فركب بغلته ثم انحدر راجلا وحده،فجعل يمر بالمحارس،فكلما نظروا إليه لم يشكوا انه الحسين فيقولون:

مرحبا بك يابن رسول اللّه،و جعل لا يكلمهم و خرج إليه الناس من دورهم و بيوتهم،

ص: 143

و سمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه و على خاصته.و انتهى إليه عبيد اللّه و هو لا يشك أنّه الحسين و معه الخلق يضجّون.

فكلّمه النعمان فقال:أنشدك اللّه إلا تنحيت عني،ما أنا بمسلّم إليك أمانتى و مالي في قتلك من أرب،فجعل لا يكلمه،ثم إنه دنا و تدلّى الآخر بين شرفتين فجعل يكلمه فقال:إفتح لا فتحت،فقد طال ليلك،فسمعها إنسان خلقه فتكفى إلى القوم.

فقال:أي قوم ابن مرجانة و الذي لا إله غيره،فقالوا:و يحك إنما هو الحسين ففتح له النعمان فدخل و ضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا و أصبح فجلس على المنبر فقال:أيها الناس إني لأعلم انه قد سار معي و أظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد و غلب عليه،و اللّه ما عرفت منكم أحدا ثم نزل و أخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة و أنه بناحية الكوفة،فدعا مولى لبني تميم فأعطاه مالا و قال:إنتحل هذا الأمر و أعنهم بالمال و اقصد لهانىء و مسلم و انزل عليه،فجاء هانئا فأخبره أنه شيعة و أن معه مالا.و قدم شريك بن الاعور شاكيا فقال لهانىء:مر مسلما يكون عندي فإن عبيد اللّه يعودني،و قال شريك لمسلم:أرأيتك إن أمكنتك من عبيد اللّه أضاربه أنت بالسيف؟

قال:نعم و اللّه،و جاء عبيد اللّه شريكا يعوده في منزل هانىء و قد قال شريك لمسلم إذا سمعتني أقول:إسقوني ماء فاخرج عليه فاضربه،و جلس عبيد اللّه على فراش شريك و قام على رأسه مهران فقال:اسقوني ماء،فخرجت جارية بقدح فرأت مسلما فزالت،فقال شريك:اسقوني ماء ثم قال الثالثة:ويلكم تحموني الماء اسقونيه و لو كانت فيه نفسي،ففطن مهران فغمز عبيد اللّه فوثب،فقال شريك:أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك،قال أعود إليك،فجعل مهران يطرد به و قال:أراد و اللّه قتلك،قال:و كيف مع إكرامي شريكا و في بيت هانىء و يد أبي عنده يد،فرجع فأرسل إلى أسماء بن خارجة و محمد بن الأشعث فقال:ائتياني بهانىء،فقالا له:انه لا يأتي إلا بالأمان.

ص: 144

قال:و ماله و للأمان،و هل أحدث حدثا؟انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه،فدعواه فقال:إنه إن أخذني قتلني فلم يزالا به حتى جاءا به و عبيد اللّه يخطب يوم الجمعة فجلس في المسجد و قد رجل هانىء غديرتيه،فلما صلى عبيد اللّه قال:

يا هانىء فتبعه و دخل فسلّم،فقال عبيد اللّه:يا هانىء أما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك و غير حجر،و كان مع حجر ما قد علمت،ثم لم يزل يحسن صحبتك،ثم كتب إلى أمير الكوفة إن حاجتي قبلك هاني، قال:نعم.

قال:فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلا ليقتلني؟

قال:ما فعلت،فأخرج التميمي الذي كان عينا عليهم،فلما رآه هانىء علم أن قد أخبره الخبر.

فقال أيها الأمير قد كان الذي بلغك و لن أضيع يدك عني،فأنت آمن و أهلك فسر حيث شئت،فكبا عندها و مهران قام على رأسه في يده معكزة،فقال،واذلاه هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك؟

فقال:خذه،فطرح المعكزة و أخذ بضفيرتي هانىء ثم أقنع بوجهه،ثم أخذ عبيد اللّه المعكزة فضرب به وجه هاني و ندر الزج فارتز في الجدار،ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه و جبينه و سمع الناس الهيعة و بلغ الخبر مذحج فأقبلوا و أطافوا بالدار، و أمر عبيد اللّه بهاني فألقى في بيت،و صيح المذحجيون و أمر عبيد اللّه مهران أن يدخل عليه شريحا فخرج فأدخله عليه و دخلت الشرط معه.

فقال:يا شريح قد ترى ما يصنع بي؟

قال:أراك حيا.

قال:وحي أنا مع ما ترى؟أخبر قومي أنهم إن انصرفوا قتلني،فخرج إلى عبيد اللّه فقال رأيته حيا و رأيت أثرا سيئا قال:و تنكر أن يعاقب الوالى رعيته،أخرج إلى هؤلاء فأخبرهم،فخرج و أمر عبيد اللّه الرجل فخرج معه فقال لهم شريح:ما هذه الرعة

ص: 145

السيئة،الرجل حي و قد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه،فانصرفوا و لا تحلوا بأنفسكم و لا بصاحبكم فانصرفوا.

و ذكر هشام عن أبي مخنف عن المعلى بن كليب عن أبي الوداك قال:نزل شريك بن الأعور على هاني بن عروة المرادي و كان شريك شيعيا و قد شهد صفين مع عمار،و سمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد اللّه و مقالته التي قالها و ما أخذ به العرفاء و الناس،فخرج من دار المختار و قد علم به حتى انتهى إلى دار هاني بن عروة المرادي فدخل،بابه و أرسل إليه أن أخرج،فخرج إليه هاني فكره هاني مكانه حين رآه.

فقال له مسلم:أتيتك لتجيرني و تضيفني،فقال:رحمك اللّه لقد كلّفتني شططا، و لو لا دخولك داري و ثقتك لأحببت و لسألتك أن تخرج عني غير أنه يأخذني من ذلك ذمام و ليس مردود مثلي على مثلك عن جهل أدخل،فآواه و أخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني بن عروة.و دعا ابن زياد مولى يقال له معقل فقال له:خذ ثلاثة آلاف درهم ثم اطلب مسلم بن عقيل و اطلب لنا أصحابه ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف و قل لهم:استعينوا بها على حرب عدوكم و أعلمهم أنك منهم،فإنك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك و وثقوا بك و لم يكتموك شيئا من أخبارهم،ثم اغد عليهم ورح، ففعل ذلك فجاء حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم و هو يصلي و سمع الناس يقولون أن هذا يبايع للحسين،فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته.

ثم قال يا عبد اللّه:إني امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع أنعم اللّه علي بحب أهل هذا البيت و حب من أحبهم،فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم، بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و كنت أريد لقاءه فلم أجد احدا يدلّني عليه و لا يعرف مكانه،فإني لجالس آنفا في المسجد إذ سمعت نفرا من المسلمين يقولون:هذا رجل له علم بأهل هذا البيت و إني أتيتك لتقبض هذا المال

ص: 146

و تدخلني على صاحبكم فأبايعه و إن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال:أحمد اللّه على لقائك إياي فقد سرني ذلك لتنال ما تحب و لينصر اللّه بك أهل بيت نبيه،و لقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية و سطوته،فأخذ بيعته قبل أن يبرح و أخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن و ليكتمن فأعطاه من ذلك ما رضي به.

ثم قال له:اختلف إلى أياما في منزلي فأنا طالب لك الإذن على صاحبك،فأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن،فمرض هاني بن عروة فجاء عبيد اللّه عائدا له،فقال له عمارة بن عبيد السلولي:إنما جماعتنا و كيدنا قتل هذا الطاغية فقد أمكنك اللّه منه فاقتله،قال هاني:ما أحب أن يقتل في داري،فخرج فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الاعور و كان كريما على ابن زياد و على غيره من الأمراء و كان شديد التشيع فأرسل إليه عبيد اللّه إني رائح إليك العشية.

فقال لمسلم:إن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك و بينه،فإن برئت من وجعي هذا أيامى هذه سرت إلى البصرة و كفيتك أمرها،فلما كان من العشي أقبل عبيد اللّه لعيادة شريك.فقام مسلم بن عقيل ليدخل و قال له شريك:لا يفوتنك إذا جلس،فقام هاني بن عروة إليه.

فقال:إني لا أحب أن يقتل في داري كأنه استقبح ذلك،فجاء عبيد اللّه بن زياد فدخل فجلس فسأل شريكا عن وجعه و قال:ما الذي تجد و متى اشتكيت،فلما طال سؤاله إياه و رآى أن الآخر لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها إسقنيها و إن كانت فيها نفسي،فقال ذلك مرتين أو ثلاثا،فقال عبيد اللّه و لا يفطن ما شأنه:أترونه يهجر؟

فقال له هاني:نعم أصلحك اللّه ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه.

ثم إنه قام فانصرف،فخرج مسلم فقال له شريك ما منعك من قتله؟

ص: 147

فقال:خصلتان أما أحدهما فكراهة هاني أن يقتل في داره،و أما الأخرى فحديث حدّثه الناس عن النبي صلّى اللّه عليه و اله أن الايمان قيد الفتك و لا يفتك مؤمن،فقال هاني:أما و اللّه لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا،و لكن كرهت أن يقتل في داري،و لبث شريك بن الاعور بعد ذلك ثلاثا ثم مات،فخرج ابن زياد فصلى عليه و بلغ عبيد اللّه بعد ما قتل مسلما و هانيا أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في مرضه إنما كان يحرض مسلما و يأمره بالخروج إليك ليقتلك.

فقال عبيد اللّه:و اللّه لا اصلى على جنازة رجل من أهل العراق أبدا و و اللّه لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا،ثم إن معقلا مولى ابن زياد الذي دسّه بالمال إلى ابن عقيل و أصحابه اختلف إلى مسلم بن عوسجة أياما ليدخل على ابن عقيل فأقبل به حتى أدخل عليه بعد موت شريك بن الاعور فأخبره خبره كله فأخذ ابن عقيل بيعته.و أمر أبا ثمامة الصائدي فقبض ماله الذي جاء به و هو الذي كان يقبض أموالهم و ما يعين به بعضهم بعضا،يشتري لهم السلاح و كان به بصيرا،و كان من فرسان العرب و وجوه الشيعة و أقبل ذلك الرجل يختلف إليهم فهو أول داخل و آخر خارج يسمع أخبارهم و يعلم أسرارهم ثم ينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد، قال:و كان هاني يغدو و يروح إلى عبيد اللّه،فلما نزل به مسلم انقطع من الاختلاف و تمارض فجعل لا يخرج فقال ابن زياد لجلسائه:مالي لا أرى هانئا؟

فقالوا:هو شاك.

فقال:لو علمت بمرضه لعدته.

قال أبو مخنف:فحدثني المجالد بن سعيد،قال:دعا عبيد اللّه محمد بن الأشعث و أسماء بن خارجة.

قال أبو مخنف:حدثني الحسن ابن عقبة المرادى أنه بعث معهما عمرو بن الحجاج الزبيدي.

قال أبو مخنف:و حدثني نمر بن وعلة عن أبي الوداك قال:كانت روعة أخت

ص: 148

عمرو بن الحجاج تحت هاني بن عروة،و هي أم يحيى بن هانئ فقال لهم:ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟

قالوا:ما ندري أصلحك اللّه و إنه ليشتكي.

قال:قد بلغني انه قد برأ و هو يجلس على باب داره فألقوه،فمروه ألا يدع ما عليه في ذلك من الحق فإني لا أحب ان يفسد عندي مثله من أشراف العرب،فأتوه حتى وقفوا عليه عشية و هو جالس على بابه فقالوا:ما يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك و قد قال لو أعلم أنه شاك لعدته فقال لهم:الشكوى يمنعنى فقالوا له:بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك و قد استبطأك و الإبطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان أقسمنا عليك لما ركبت معنا.فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلة فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان،فقال لحسان بن أسماء بن خارجة:

يابن أخي إني و اللّه من هذا الرجل لخائف فما ترى؟

قال:أي عم و اللّه ما أتخوف عليك شيئا و لم تجعل على نفسك سبيلا،و أنت بريء و زعموا أن أسماء لم يعلم في أي شيئ بعث إليه عبيد اللّه،فأما محمد فقد علم به.

فدخل القوم على ابن زياد و دخل معهم فلما طلع قال عبيد اللّه أتتك بخائن رجلاه و قد عرس عبيد اللّه إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة فلما دنا من ابن زياد و عنده شريح القاضي إلتفت نحوه فقال:

أريد حباءه و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

و قد كان له أول ما قدم مكرما ملطفا.

فقال له هاني:و ما ذاك أيها الأمير؟

قال:إيه يا هاني بن عروة ما هذه الأمور التي تربص في دورك لأمير المؤمنين و عامة المسلمين جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك و جمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك و ظننت أن ذلك يخفي علي،قال:ما فعلت و ما مسلم عندي.

قال:بلى قد فعلت.

ص: 149

قال:ما فعلت.

قال:بلى،فلما كثر ذلك بينهما و أبى هاني إلا مجاحدته و مناكرته دعا ابن زياد معقلا ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه فقال تعرف هذا قال:نعم.

و علم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم و أنه قد أتاه بأخبارهم فسقط في خلده ساعة ثم إن نفسه راجته فقال له:إسمع مني و صدّق مقالتي،فو اللّه لا أكذبك و اللّه الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي و لا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي فسألني النزول علي فاستحييت من رده و دخلني من ذلك ذمام فأدخلته داري و ضفته و آويته،و قد كان من أمره الذي بلغك فإن شئت أعطيت الآن موثقا مغلظا و ما تطمئن إليه ألا أبغيك سوءا و إن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك و أنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه و جواره،فقال لا و اللّه لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به،فقال:لا و اللّه لا أجيئك به أبدا أنا أجيئك بضيفي تقتله؟

قال:و اللّه لتأتيني به.

قال:و اللّه لا آتيك به.فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي و ليس بالكوفة شامي و لا بصري غيره فقال:أصلح اللّه الأمير خلّني و إياه حتى أكلمه لما رأى لجاجته و تأبّيه على ابن زياد أن يدفع إليه مسلما،فقال لهانئ:قم إلى هايهنا حتى أكلمك،فقام فخلا به ناحية من ابن زياد و هما منه على ذلك قريب حيث يراهما إذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان و إذا خفضا خفي عليه ما يقولان.

فقال له مسلم:يا هاني إني أنشدك اللّه أن لا تقتل نفسك و تدخل البلاء على قومك و عشيرتك فو اللّه إني لا نفس بك عن القتل و هو يرى أن عشيرته ستحرك في شأنه أن هذا الرجل ابن عم القوم و ليسوا قاتليه و لا ضائريه فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان،قال:بلى و اللّه ان علي في ذلك الخزي و العار أنا أدفع جاري و ضيفي و أنا حي صحيح أسمع و أرى شديد

ص: 150

الساعد كثير الأعوان و اللّه لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم ادفعه حتى أموت دونه،فأخذينا شده و هو يقول و اللّه لا أدفعه إليه أبدا.فسمع ابن زياد ذلك فقال:

أدنوه مني،فأدنوه منه،فقال:و اللّه لتأتيني به أو لأضربن عنقك،قال:إذا تكثر البارقة حول دارك،فقال:و الهفا عليك أبا لبارقة تخوفني و هو يظن أن عشيرته سيمنعونه.

فقال ابن زياد:أدنوه مني فأدني فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه و جبينه و خده حتى كسر أنفه و سيّل الدماء على ثيابه و نثر لحم خديه و جبينه على لحيته حتى كسر القضيب،و ضرب هاني بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الرجال و جابذه الرجل و منع،فقال عبيد اللّه أحرورى ثائر اليوم أحللت بنفسك قد حلّ لنا قتلك خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار و اغلقوا عليه بابه و اجعلوا عليه حرسا ففعل ذلك به.

فقام إليه أسماء بن خارجة فقال:أرسل غدر سار اليوم؟أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به و أدخلناه عليك هشّمت وجهه و سيلت دمه على لحيته و زعمت أنك تقتله.

فقال له عبيد اللّه:و أنك لهيهنا فأمر به فلهز و تعتع به ثم ترك فحبس.

و أما محمد بن الأشعث فقال:قد رضينا بما رأى الأمير لنا كان أم علينا إنما الأمير مؤدب.و بلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر و معه جمع عظيم ثم نادى أنا عمرو بن الحجاج هذه فرسان مذحج و وجوهها لم تخلع طاعة و لم تفارق جماعة.

و قد بلغهم أن صاحبهم يقتل فأعظموا ذلك،فقيل لعبيد اللّه:هذه مذحج بالباب فقال لشريح القاضي أدخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج فأعلمهم انه حي لم يقتل و انك قد رأيته فدخل إليه شريح فنظر إليه.

قال أبو مخنف:فحدثني الصقعب بن زهير عن عبد الرحمان بن شريح قال سمعته يحدث إسماعيل بن طلحة قال:دخلت على هاني فلما رآني قال:يا اللّه يا

ص: 151

للمسلمين أهلكت عشيرتي فأين أهل الدين و أين أهل المصر تعاقدوا يخلوني و عدوهم و ابن عدوهم و الدماء تسيل على لحيته إذ سمع الرجة على باب القصر و خرجت و اتبعني فقال يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين إن دخل على عشرة نفر أنقذوني.

قال:فخرجت إليهم و معي حميد بن بكر الأحمري أرسله معي ابن زياد و كان من شرطه ممن يقوم على رأسه و أيم اللّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به،فلما خرجت إليهم قلت:إن الأمير لما بلغه مكانكم و مقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه فأمرني أن ألقاكم و أن أعلمكم أنه حي و إن الذي بلغكم من قتله كان باطلا،فقال عمرو و أصحابه فأما إذ لم يقتل و الحمد للّه ثم انصرفوا.

قال أبو مخنف:حدثني الحجاج بن علي عن محمد بن بشير الهمداني قال:لما ضرب عبيد اللّه هانئا و حبسه خشى أن يثب الناس به فخرج فصعد المنبر و معه أشراف الناس و شرطه و حشمه فحمد اللّه و أثنى عليه.

ثم قال:أما بعد أيها الناس فاعتصموا بطاعة اللّه و طاعة أئمتكم و لا تختلفوا و لا تفرقوا فتهلكوا و تذلوا و تجفوا و تحرموا،إن اخاك من صدقك و قد أعذر من أنذر قال:ثم ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون و يقولون قد جاء ابن عقيل قد جاء ابن عقيل فدخل عبيد اللّه القصر مسرعا و أغلق أبوابه.

قال أبو مخنف:حدثني يوسف بن يزيد عن عبد اللّه بن حازم،قال:أنا و اللّه رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هانئ،قال:فلما ضرب و حبس ركبت فرسي و كنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر و إذ نسوة لمراد مجتمعات ينادين يا عثرتاه يا ثكلاه،فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر فأمرني أن أنادي في أصحابه و قد ملأ منهم الدور حوله و قد بايعه ثمانية عشر ألفا و في الدور

ص: 152

أربعة آلاف رجل فقال لي:نادي يا منصور أمت و ناديت يا منصور أمت و تنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه.فعقد مسلم لعبيد اللّه بن عمرو بن عزير الكندي على ربع كندة و ربيعة و قال:سر أمامى في الخيل ثم عقد لمسلم بن عوسجة الاسدي على ربع مذحج و أسد و قال إنزل في الرجال فأنت عليهم و عقد لابن ثمامة الصائدي على ربع تميم و همدان و عقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة ثم أقبل نحو القصر فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر و غلق الأبواب.

قال أبو مخنف:حدثني يوسف بن أبي إسحاق عن عباس الجدلي قال:خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف فلما بلغنا القصر إلا و نحن ثلثمائة قال:و أقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر ثم إن الناس تداعوا إلينا و اجتمعوا فو اللّه ما لبثنا إلا قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس و السوق و ما زالوا يثوبون حتى المساء، فضاق بعبيد اللّه ذرعه و كان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر و ليس معه إلا ثلاثون رجلا من الشرط و عشرون رجلا من أشراف الناس و أهل بيته و موإليه و أقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الرومين و جعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم فيتقون أن يرموهم بالحجارة و إن يشتموهم و هم لا يفترون على عبيد اللّه و على أبيه و دعا عبيد اللّه كثير بن شهاب ابن حصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة و يخذل الناس عن ابن عقيل و يخوفهم الحرب و يحذرهم عقوبة السلطان،و أمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة و حضر موت فيرفع رايه أمان لمن جاءه من الناس،و قال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي و شبث بن ربعي التميمي و حجار بن أبجر العجلي و شمر بن ذي الجوشن العامري و حبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس،و خرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل.

قال أبو مخنف:فحدّثني ابن جناب الكلبي أن كثيرا لقي رجلا من كلب يقال له

ص: 153

عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان فأخذه حتى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره،فقال لابن زياد إنما أردتك،قال:و كنت وعدتني ذلك من نفسك،فأمر به فحبس،و خرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة و جاءه عمارة بن صلخب الأزدي و هو يريد ابن عقيل عليه سلاحه،فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمان بن شريح الشامي،فلما رآى محمد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحى و يتأخر و أرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمد الأشعث قد حلت على ابن عقيل من العرار فتأخر عن موقفه.

فأقبل حتى دخل على ابن ذياد من قبل دار الروميين،فلما اجتمع عند عبيد اللّه كثير بن شهاب و محمد و القعقاع فيمن أطاعهم من قومهم فقال له كثير و كانوا مناصحين لابن زياد:أصلح اللّه الأمير معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس و من شرطك و أهل بيتك و مواليك.فاخرج بنا إليهم،فأبى عبيد اللّه،و عقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه.و أقام الناس مع ابن عقيل يكبرون و يثوبون حتى المساء و أمرهم شديد فبعث عبيد اللّه إلى الأشراف فجمعهم إليه ثم قال:أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة و الكرامة،و خوّفوا أهل المعصية الحرمان و العقوبة و أعلموهم وصول الجنود من الشام إليهم.

قال أبو مخنف:حدثني سليمان بن أبي راشد عن عبد اللّه بن حازم الكبرى من الأزد من بني كبير،قال أشرف علينا الأشراف فتكلّم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب فقال:أيها الناس إلحقوا بأهاليكم و لا تعجلوا الشر و لا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت،و قد أعطى اللّه الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه و لم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء و يفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع و أن يأخذ البريء بالسقيم و الشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من اللّه المعصية إلا أذاقها و بال

ص: 154

ما جرّت أيديها و تكلّم الأشراف بنحو من كلام هذا فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون و أخذوا ينصرفون.

قال أبو مخنف:فحدثني المجالد بن سعيد،أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول.إنصرف الناس يكفونك،و يجيء الرجل إلى ابنه أو اخيه فيقول غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب و الشر إنصرف فيذهب به فما زالوا يتفرقون و يتصدعون حتى أمسى ابن عقيل و ما معه ثلاثون نفسا في المسجد حتى صلّيت المغرب فما صلّى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسا فلما رأى انه قد أمسى و ليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة،فلما بلغ الأبواب و معه منهم عشرة،ثم خرج من الباب و إذا ليس معه إنسان و التفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق و لا يدله على منزل و لا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو،فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة،فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها:طوعة أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا.

و كان بلال قد خرج مع الناس و أمه قائمة تنتظره،فسلّم عليها ابن عقيل،فردت عليه،فقال لها:يا أمة اللّه اسقيني ماء،فدخلت فسقته فجلس،و أدخلت الاناء ثم خرجت فقالت:يا عبد اللّه ألم تشرب؟

قال:بلى،قالت:فاذهب إلى أهلك،فسكت،ثم عادت فقالت مثل ذلك فسكت،ثم قالت له:فئ للّه سبحان اللّه يا عبد اللّه فمر إلى أهلك عافاك اللّه فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي و لا أحلّه لك فقام فقال يا أمة اللّه مالي في هذا المصر منزل و لا عشيرة،فهل لك إلى أجر و معروف و لعلي مكافأتك به بعد اليوم،فقالت يا عبد اللّه و ما ذاك؟

قال:أنا مسلم بن عقيل،كذبني هؤلاء القوم و غروني قالت أنت مسلم؟

قال:نعم،قالت:أدخل،فأدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه،و فرشت

ص: 155

له و عرضت عليه العشاء،فلم يتعش و لم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت و الخروج منه،فقال:و اللّه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة و خروجك منه إن لك لشأنا.

قالت يا بني:أله عن هذا،قال لها:و اللّه لتخبّرني،قالت:أقبل على شأنك و لا تسألني عن شيء،فألح عليها فقالت:يا بني لا تحدثن أحدا من الناس بما أخبرك به و أخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته فاضطجع و سكت و زعموا أنه قد كان شريدا من الناس.

و قال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له،و لما طال على ابن زياد و أخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كان يسمعه قبل ذلك قال لأصحابه:أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا؟

فأشرفوا فلم يروا أحدا،قال:فانظروا لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم ففرعوا بحابح المسجد و جعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم ثم ينظرون هل في الظلال أحد و كانت أحيانا تضيء لهم و أحيانا لا تضيء لهم كما يريدون فدلّوا القناديل و أنصاف الطنان تشد بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلى حتى تنتهي إلى الأرض،ففعلوا ذلك في أقصى الظلال و أدناها و أوسطها حتى فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر.فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد ففتح باب السدة التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر و خرج أصحابه معه فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة و أمر عمرو بن نافع فنادى ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة و العرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلى في المسجد فلم يكن له إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ثم أمر مناديه فأقام الصلاة.

فقال الحصين بن تميم إن شئت صليت بالناس أو يصلّي بهم غيرك و دخلت أنت فصليت في القصر فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك فقال:مر حرسي فليقوموا و رائي كما كانوا يقفون و در فيهم فإني لست بداخل إذا فصلّ بالناس.

ص: 156

ثم قام فحمد اللّه و أثنى عليه،ثم قال:أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف و الشقاق،فبرئت ذمة اللّه من رجل وجدناه في داره و من جاء به فله ديته اتقوا اللّه عباد اللّه و الزموا طاعتكم و بيعتكم و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا،يا حصين بن تميم ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل و لم تأتني به و قد سلّطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصدة على أفواه السكك و اصبح غدا و استبر الدور و جس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل، و كان الحصين على شرطه و هو من بني تميم.

ثم نزل ابن زياد فدخل و قد عقد لعمرو بن حريث راية و أمّره على الناس فلما أصبح جلس مجلسه و أذن للناس فدخلوا عليه و أقبل محمد بن الأشعث فقال مرحبا بمن لا يستغش ولايتهم ثم أقعده إلى جنبه و أصبح ابن تلك العجوز و هو بلال بن أسيد الذي اوت أمه ابن عقيل فغدا إلى عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه.

قال:فأقبل عبد الرحمان حتى أتى أباه و هو عند ابن زياد فساره،فقال له ابن زياد:ما قال لك قال:أخبرني ان ابن عقيل في دار من دورنا،فنخس بالقضيب في جنبه ثم قال:قم فأتني به الساعة.

قال أبو مخنف:فحدثني قدامة بن سعيد بن زائده بن قدامة الثقفي:أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إلى عمرو بن حريث و هو في المسجد خليفته على الناس ان ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس،و إنما كره ان يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل، فبعث معه عمرو بن عبيد اللّه بن عباس السلمي في ستين أو سبعين من قيس حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل.فلما سمع وقع حوافر الخيل و أصوات الرجال عرف أنه قد أتي،فخرج إليهم بسيفه و اقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار،ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك.فاختلف هو و بكير بن

ص: 157

حمران الأحمري ضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا و أشرع السيف في السفلى و نصلت لها ثنيتاه،فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة و ثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه،فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة و يلهبون النار في أطنان القصب ثم يقبلونها عليه من فوق البيت،فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة فقاتلهم،فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال:يا فتى لك الأمان لا تقتل نفسك،فأقبل يقاتلهم و هو يقول:

أقسمت لا أقتل إلا حرا و إن رأيت الموت شيئا نكرا

كل امرئ يوما ملاق شرا و يخلط البارد سخنا مرا

رد شعاع الشمس فاستقرا أخاف ان أكذب أو أغرا.

فقال له محمد بن الأشعث:إنك لا تكذب و لا تخدع و لا تغر،إن القوم بنو عمك و ليسوا بقاتليك و لا ضاربيك،و قد أثخن بالحجارة و عجز عن القتال و انبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار،فدنا محمد بن الأشعث،فقال:لك الأمان.

فقال:آمن انا؟

قال:نعم.

و قال القوم:أنت آمن غير عمرو بن عبيد اللّه بن العباس السلمى فإنه قال:لا ناقة لي في هذا و لا جمل و تنحّى.

و قال ابن عقيل:أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم،و أتي ببغلة فحمل عليها و اجتمعوا حوله و انتزعوا سيفه من عنقه،فكأنه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه،ثم قال هذا أول الغدر،قال محمد بن الأشعث:أرجو ألا(لا)يكون عليك بأس،قال:ما هو إلا الرجاء أين أمانكم؟إنا للّه و إنا إليه راجعون و بكى.

فقال له عمرو بن عبيد اللّه بن عباس:إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك قال:إني و اللّه ما لنفسي أبكي و لا لها من القتل أرثي و إن كنت لم

ص: 158

أحب لها طرفة عين تلفا و لكن أبكي لأهلي المقبلين إلي،أبكي لحسين و آل الحسين، ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال:يا عبد اللّه إني أراك و اللّه ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خرج غدا هو و أهل بيته و إن ما ترى من جزعي لذلك.

فيقول:إن ابن عقيل بعثني إليك و هو في أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حتى تقتل،و هو يقول:إرجع بأهل بيتك و لا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل،ان أهل الكوفة قد كذبوك و كذبوني و ليس لمكذوب رأي،فقال ابن الأشعث:و اللّه لأفعلن و لأعلمن ابن زياد إني قد أمّنتك.

قال أبو مخنف:فحدثني جعفر بن حذيفة الطائي و قد عرف سعيد بن شيبان الحديث قال:دعا محمد بن الأشعث أياس بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو ابن ثمامة،و كان شاعرا و كان لمحمد زوارا،فقال له:إلق حسينا فأبلغه هذا الكتاب، و كتب فيه الذي أمره ابن عقيل و قال له:هذا زادك و جهازك و متعة لعيالك،فقال:من أين لي براحلة فإن راحلتي قد أنضيتها،قال:هذه راحلة فاركبها برحلها.

ثم خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال فأخبره الخبر و بلّغه الرسالة،فقال له الحسين عليه السّلام:كل ما حكم نازل،و عند اللّه نحتسب أنفسنا و فساد أمتنا،و قد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هاني بن عروة و بايعه ثمانية عشر ألفا قدّم كتابا إلى الحسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري:

أما بعد:فإن الرائد لا يكذب أهله،و قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأى و لا هوى و السلام.و أقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر فاستأذن، فأذن له،فأخبر عبيد اللّه خبر ابن عقيل و ضرب بكير إياه،فقال:بعدا له،فأخبره محمد بن الأشعث بما كان منه و ما كان من أمانه إياه.

ص: 159

فقال عبيد اللّه:ما أنت و الأمان،كأنا أرسلناك تؤمنه؟إنما أرسلناك تأتينا به فسكت،و انتهى ابن عقيل إلى باب القصر و هو عطشان و على باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط،و عمرو بن حريث، و مسلم بن عمرو،و كثير بن شهاب.

قال أبو مخنف:فحدثني قدامة بن سعد:إن مسلم بن عقيل حين انتهى إلى باب القصر فإذا قلة باردة موضوعة على الباب،فقال ابن عقيل:أسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو أتراها ما أبردها،لا و اللّه لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم،قال له ابن عقيل:ويحك من أنت؟

قال:أنا ابن من عرف الحق إذا أنكرته،و نصح لامامه إذ غششته،و سمع و أطاع إذ عصيته و خالفت،أنا مسلم بن عمرو الباهلي،فقال ابن عقيل:لأمك الثكل ما أجفاك و ما أفظّك و أقسى قلبك و أغلظك؟أنت يابن باهلة أولى بالحميم و الخلود في نار جهنم مني،ثم جلس متساندا إلى حائط.

قال أبو مخنف:و حدثني سعيد بن مدرك بن عمارة:إن عمارة بن عقبة بعث غلاما له يدعى قيسا فجاءه بقلة عليها منديل و معه قدح فصب فيه ماء ثم سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما،فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فيه،فقال:الحمد للّه لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.و أدخل مسلم علي ابن زياد فلم يسلّم عليه بالإمرة،فقال له الحرسى:إلا تسلّم على الأمير؟

فقال له:إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه و إن كان لا يريد قتلى فلعمري ليكثرن سلامي عليه.

فقال له ابن زياد:لعمرى لتقتلن،قال كذلك،قال:نعم.

قال:فدعني أوصي إلى بعض قومي،فنظر إلى جلساء عبيد اللّه و فيهم عمر بن سعد،فقال يا عمر:إن بيني و بينك قرابة ولي إليك حاجة و قد يجب لى عليك نجح حاجتي و هو سر فأبى ان يمكنه من ذكرها،فقال له عبيد اللّه:لا تمتنع أن تنظر في

ص: 160

حاجة ابن عمك،فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد،فقال له:إنّ علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمأة درهم فاقضها عني،و انظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها،و ابعث إلى الحسين من يرده،فإني قد كتبت إليه أعلمه ان الناس معه و لا أراه إلا مقبلا.

فقال عمر لابن زياد:أتدري ما قال لي؟انه ذكر كذا و كذا،قال له ابن زياد:انه لا يخونك الأمين و لكن قد يؤتمن الخائن،أما مالك فهو لك و لسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت،و أما الحسين فإنه إن لم يردنا لم نرده،و إن أرادنا لم نكف عنه،و أما جثته فانا لن نشفعك فيها إنه ليس بأهل منا لذلك،قد جاهدنا و خالفنا و جهد على هلاكنا، و زعموا أنه قال:أما جئته فانا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها.

ثم إن ابن زياد قال:إيه يابن عقيل أتيت الناس و أمرهم جميع و كلمتهم واحدة لتشتتهم و تفرق كلمتهم و تحمل بعضهم على بعض.

قال:كلا لست لذلك أتيت،و لكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم و سفك دماءهم،و عمل فيهم أعمال كسرى و قيصر،فأتيناهم لنأمر بالعدل و ندعوا إلى حكم الكتاب.

قال:و ما أنت و ذاك يا فاسق أ و لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟

قال:أنا اشرب الخمر،و اللّه إن اللّه ليعلم أنك غير صادق،و إنك قلت بغير علم، و إني لست كما ذكرت،و إن أحق بشرب الخمر مني و أولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا،فيقتل النفس التي حرّم اللّه قتلها،و يقتل النفس بغير النفس و يسفك الدم الحرام،و يقتل على الغضب و العداوة و سوء الظن و هو يلهو و يلعب كأن لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد:يا فاسق ان نفسك تمنيك ما حال اللّه دونه و لم يرك أهله،قال:

فمن أهله يابن زياد؟

ص: 161

قال:أمير المؤمنين يزيد،فقال:الحمد للّه على كل حال رضينا باللّه حكما بيننا و بينكم،قال:كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا،قال:و اللّه ما هو بالظن و لكنه اليقين، قال:قتلني اللّه إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام.

قال:أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه،أما إنك لا تدع سوء القتلة و قبح المثلة و خبث السيرة و لؤم الغلبة،و لا أحد من الناس أحق بها منك.و أقبل ابن سمية يشتمه و يشتم حسينا و عليا و عقيلا و أخذ مسلم لا يكلمه.و زعم أهل العلم أن عبيد اللّه امر له بماء فسقي بخزفة.

ثم قال له:إنه لم يمنعنا نسقيك فيها إلا كراهة ان تحرم بالشرب فيها ثم نقتلك و لذلك سقيناك في هذا.

ثم قال:إصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه،ثم أتبعوا جسده رأسه،فقال:يا ابن الأشعث أما و اللّه لو لا أنك آمنتني ما استسلمت،قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك.

ثم قال:يابن زياد أما و اللّه لو كانت بيني و بينك قرابة ما قتلتني.

ثم قال ابن زياد:أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف و عاتقه؟فدعي فقال:إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه،فصعد به و هو يكبر و يستغفر و يصلى على ملائكة اللّه و رسله و هو يقول:اللهم احكم بيننا و بين قوم غرونا و كذبونا و أذلّونا و أشرف به على موضع الجرارين اليوم،فضربت عنقه و أتبع جسده رأسه.

قال أبو مخنف:حدثني الصقعب بن زهير عن عوف بن أبي حجيفة قال:نزل الاحمري بكير بن حمران الذي قتل مسلما فقال له ابن زياد:قتلته؟

قال:نعم،قال:فما كان يقول و أنتم تصعدون به؟

قال:كان يكبر و يسبح و يستغفر،فلما أدنيته لأقتله قال:اللهم احكم بيننا و بين قوم كذبونا و غرونا و خذلونا و قتلونا،فقلت له:أدن مني الحمد للّه الذي أقادني منك فضربته ضربة لم تغن شيئا.

ص: 162

فقال:أما ترى في خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد،فقال ابن زياد:

و فخرا عند الموت،قال:ثم ضربته الثانية فقتلته.

قال:و قام محمد بن الأشعث إلى عبيد اللّه بن زياد فكلمه في هاني بن عروة و قال:

إنك قد عرفت منزلة هاني بن عروة في المصر و بيته في العشيرة،و قد علم قومه إني و صاحبي سقناه إليك،فأنشدك اللّه لما وهبته لي فإني أكره عداوة قومه،هم أعز أهل المصر و عدد أهل اليمن.

قال:فوعده أن يفعل،فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان بداله فيه و أبى أن يفي له بما قال،قال:فأمر بهانئ بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال:أخرجوه إلى السوق،فاضربوا عنقه،قال:فأخرج بهانئ حتى انتهى إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم،و هو مكتوف فجعل يقول:وا مذحجاه و لا مذحج لي اليوم وا مذ حجاه و أين مني مذحج.فلما رأى ان أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال:أما من عصا أو سكين او حجر أو عظم يجاحش به رجل عن نفسه؟

قال:و وثبوا إليه فشدوه وثاقا،ثم قيل له:أمدد عنقك فقال:ما أنا بها مجد سخيّ، و ما أنا بمعينكم على نفسي،قال:فضربه مولى لعبيد اللّه بن زياد تركي يقال له رشيد بالسيف فلم يصنع سيفه شيئا فقال هاني:إلى اللّه المعاد اللهم إلى رحمتك و رضوانك،ثم ضربه أخرى فقتله.

قال:فبصر به عبد الرحمان بن الحصين المرادي بخازر و هو مع عبيد اللّه بن زياد،فقال الناس هذا قاتل هاني بن عروة،فقال ابن الحصين قتلني اللّه إن لم أقتله أو أقتل دونه،فحمل عليه بالرمح،فطعنه فقتله.

ثم إن عبيد اللّه بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل و هاني بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان فأتى به:فقال له:أخبرني بأمرك فقال:أصلحك اللّه خرجت لأنظر ما يصنع الناس فأخذني كثير بن شهاب،فقال له:

فعليك و عليك من الايمان المغلظة إن كنت خرجت لما زعمت،فأبى أن يحلف،فقال

ص: 163

عبيد اللّه:انطلقوا بهذا إلى جبانة السبع فاضربوا عنقه بها،قال:فانطلق به فضربت عنقه.

قال:و أخرج عمارة بن صلخب الأزدي و كان ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره،فأتي به أيضا عبيد اللّه،فقال له:ممن أنت؟

قال:من الأزد،قال:إنطلقوا به إلى قومه فضربت عنقه فيهم.

فقال عبد اللّه بن الزبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل و هاني بن عروة المرادى و يقال قاله الفرزدق:

ان كنت لا تدرين ما الموت فانظرى إلى هانئ في السوق و ابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه و آخر يهوى من طمار قتيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا أحاديث من يسري بكل سبيل

ترى جسدا قد غيّر الموت لونه و نضح دم قد سال كل مسيل

فتى هو أحيى من فتاة حيية و اقطع من ذي شفرتين صقيل

أيركب أسماء الهما ليج آمنا و قد طلبته مذحج بذخول

تطيف حواليه مراد و كلهم على رقبة من سائل و مسول

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل

قال أبو مخنف:عن أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي قال:ثم إن عبيد اللّه بن زياد لما قتل مسلما و هانئا بعث برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعى و الزبير بن الاروح التميمى إلى يزيد بن معاوية و أمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم و هانئ فكتب إليه كتابا أطال فيه و كان أول من أطال في الكتب،فلما نظر فيه عبيد اللّه بن زياد كرهه و قال:ما هذا التطويل و هذه الفضول أكتب:أما بعد فالحمد للّه الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه،و كفاه مؤونة عدوه،أخبر أمير المؤمنين أكرمه اللّه أن مسلم عقيل لجأ إلى دار هاني بن عروة المرادى،و إني جعلت عليهما العيون،و دسست إليهما الرجال،و كدتهما حتى استخرجتهما،

ص: 164

و أمكن اللّه منهما فقدمتهما فضربت أعناقهما،و قد بعثت إليك برأسيهما مع هاني بن أبي حية الهمداني و الزبير بن الاروح التميمي،و هما من أهل السمع و الطاعة و النصيحة،فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمر،فإن عندهما علما و صدقا و فهما و ورعا و السلام.

فكتب إليه يزيد:أما بعد فإنك لم تعد أن كنت كما أحب،عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش،فقد أغنيت و كفيت،و صدقت ظني بك و رأيي فيك،و قد دعوت رسوليك فسألتهما و ناجيتهما فوجدتهما في رأيهما و فضلهما كما ذكرت فاستوص بهما خيرا،و انه قد بلغني:أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق فضع المناظر و المسالح،و احترس على الظن،و خذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك،و اكتب إلى في كل ما يحدث من الخبر و السلام عليك و رحمة اللّه.

قال أبو مخنف:حدثني الصقعب بن الزهير عن عون بن أبي حجيفة قال:كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة 60 ه و يقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة 60 ه من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكة مقبلا إلى الكوفة بيوم،قال:و كان مخرج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة 60،و دخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان،فأقام بمكة شعبان و شهر رمضان و شوال و ذي القعده.

ثم خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل،و ذكر هارون بن مسلم عن علي بن صالح عن عيسى بن يزيد:أن المختار بن أبي عبيد و عبد اللّه بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء،و خرج عبد اللّه براية حمراء و عليه ثياب حمر،و جاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث.

و قال:إنما خرجت لأمنع عمرا و أن الأشعث و القعقاع بن شور و شبث بن ربعي قاتلوا مسلما و أصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالا شديدا،و إن شبثا

ص: 165

جعل يقول:إنتظروا بهم الليل يتفرقوا فقال له القعقاع:إنك قد سددت على الناس وجه مصيرهم،فافرج لهم ينسربوا،و أن عبيد اللّه أمر ان يطلب المختار و عبد اللّه بن الحارث و جعل فيهما جعلا فأتي بهما فحبسا (1).1.

ص: 166


1- مقتل الحسين لأبي مخنف:13-61.

الفهرس

التخطيط للثورة الكبرى حال المسلمين في عصر الإمام الحسين عليه السلام 3

الإمام الحسين مع أخيه محمد بن الحنفية 6

وصية الحسين عليه السلام 6

سبب تخلّف محمّد ابن الحنفية عن الإمام الحسين عليه السلام 8

دراسة الإمام لأبعاد الثورة 10

1-التضحية بنفسه 10

2-التضحية بأهل بيته 11

3-التضحية بأمواله 13

4-حمل عقائل النبوة 13

سبب اصطحاب النساء 14

رأي الإمام كاشف الغطاء 14

رأي أحمد فهمي 15

رأي أحمد محمود صبحي 16

بداية التخطيط في مكة 20

مع عبد الله بن مطيع 21

وصول الإمام الى مكة 22

احتفاف الحجاج و المعتمرين به 22

ص: 167

فزع ابن الزبير 23

رأي الغزالي 24

رأي رخيص 25

فزع السلطة المحلية 26

قلق يزيد 27

جواب ابن عباس 28

إقصاء حاكم المدينة 30

الحسين مع ابن عمر و ابن عباس 32

وصية الحسين لابن عباس 35

التخطيط في البصرة 36

رسائله إلى زعماء البصرة 36

جواب الأحنف بن قيس 37

جريمة المنذر 38

استجابة يزيد بن مسعود 38

جوابه للإمام 41

استجابة يزيد البصري 42

التخطيط في العراق 43

نقمة العراق على الأمويين 43

إعلان التمرد في العراق 44

المؤتمر العام 45

خطبة سليمان 45

وفد الكوفة 46

الرسائل 47

ص: 168

قصة مسلم بن عقيل إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة 51

رسالة مسلم للحسين 57

جواب الإمام الحسين عليه السلام 57

أضواء على الموضوع 57

في بيت المختار 58

ابتهاج الكوفة 59

البيعة للإمام لحسين عليه السلام 60

كلمة عابس الشاكري 60

عدد المبايعين 61

رسالة مسلم للحسين 61

موقف النعمان بن بشير 62

خطبة النعمان 63

سخط الحزب الأموي 64

اتصال الحزب الأموي بدمشق 64

فزع يزيد 65

استشارته لسرجون 65

ولاية ابن زياد على الكوفة 67

خطبة ابن زياد في البصرة 69

ابن زياد في قصر الإمارة 71

خطابه في الكوفة 72

ص: 169

نشر الإرهاب 72

تحول مسلم إلى دار هانى 74

امتناع مسلم من اغتيال ابن زياد 75

أضواء على الموقف 77

المخططات الرهيبة 80

1-التجسس على مسلم 80

2-رشوة الزعماء و الوجوه 82

الإحجام عن كبس دار هانىء 83

رسل الغدر 83

اعتقال هانىء 85

انتفاضة مذحج:89

ثورة مسلم 93

حرب الأعصاب 94

أوبئة الفزع و الخوف 96

هزيمة جيش مسلم 96

مسلم في ضيافة طوعة 98

تأكد الطاغية من فشل الثورة 101

إعلان حالة الطوراىء 102

راية الأمان 102

اشتباه 103

خطبة ابن زياد 104

الإفشاء بمسلم 105

الهجوم على مسلم 106

ص: 170

فشل الجيوش 108

أمان ابن الأشعث 110

أسر مسلم 112

مسلم مع عبيد الله السلمي 114

مع الباهلي 114

مع ابن زياد 116

وصية مسلم بن عقيل 119

الطاغية مع مسلم 120

شهادة مسلم بن عقيل 122

سلب مسلم 123

تنفيذ الإعدام في هانىء 124

السحل في الشوارع 125

صلب الجثتين 125

الرؤوس إلى دمشق 127

جواب يزيد 128

إعلان الأحكام العرفية 129

احتلال الحدود العراقية 130

الاعتقالات الواسعة 130

وصول نبأ مقتل مسلم للحسين 132

ذكر قصة مسلم برواية أبي مخنف 135

الفهرس 167

ص: 171

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.