الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام المجلد 9

اشارة

الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام

نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی

ناشر: مؤسسة التاريخ العربي

مکان نشر: لبنان - بيروت

سال نشر: 2009م , 1430ق

چاپ:1

موضوع:اسلام، تاریخ

زبان :عربی

تعداد جلد: 20

کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

[الجزء التاسع(أسباب و معطيات ثورة عاشوراء)]

بداية الإنحراف

حكومة معاوية

اشارة

و استقبل المسلمون حكومة معاوية-بعد الصلح-بكثير من الذعر و الفزع و الخوف،فقد عرفوا واقع معاوية،و وقفوا على اتجاهاته الفكرية و العقائدية فخافوه على دينهم،و على نفوسهم و أموالهم،و قد وقع ما خافوه فإنه لم يكد يستولي على رقاع الدولة الإسلامية حتى أشاع الظلم و الجور و الفساد في الأرض، و يقول المؤرخون إنه ساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل،فكانت سياسته تحمل شارات الموت و الدمار،كما كانت تحمل معول الهدم على جميع القيم الأخلاقية و الإنسانية،و قد انتعشت في عهده الوثنية بجميع مساوئها التي نفر منها الناس،يقول السيد مير علي الهندي:

«و مع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة فاحتل موقع ديمقراطية الإسلام و انتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات،و كأنها بعثت من جديد،كما وجدت الرذيلة و التبذل الخلقي لنفسها متسعا في كل مكان ارتادته رايات حكام الأمويين من قادة جند الشام...».

و الشىء المؤكد أن حكومة معاوية لم تستند إلى رضى الأمة أو مشورتها،و إنما فرضت عليها بقوة السلاح،و قد اعترف معاوية بذلك اعترافا رسميا بتصريح أدلى

ص: 3

به أمام جمهور غفير من الناس فقال:«و الله ما وليتها-أي الخلافة-بمحبة علمتها منكم و لا مسرة بولايتي،و لكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة،فإن لم تجدوني أقوم مجتمعكم كله فاقبلوا مني بعضه..».

و لما وقعت الأمة فريسة تحت أنيابه-بعد الصلح-خطب في(النخيلة)خطابا قاسيا أعلن فيه عن جبروته و طغيانه على الأمة و استهانته بحقوقها فقد جاء فيه:

«و الله إني ما قاتلتكم لتصلّوا و لا لتصوموا،و لا لتحجّوا و لا لتزكّوا،إنكم لتفعلون ذلك، و إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم،و قد أعطاني الله ذلك و أنتم له كارهون».

و مثّل هذا الخطاب الإتجاهات الشريرة التي يحملها معاوية فمن أجل الإمرة و السيطرة على العباد أراق دماء المسلمين،و أشاع في بيوتهم الثكل و الحزن و الحداد.

و لا بد لنا من دراسة موجزة للمخططات السياسية التي تبنتها حكومة معاوية، و ما رافقها من الأحداث الجسام فإنها-فيما نعتقد-من ألمع الأسباب في ثورة الإمام الحسين،فقد رأى ما مني به المسلمون في هذا العهد من الحرمان و الإضطهاد،و ما أصيبوا به من الإنحراف و التذبذب من جراء النقائص الإجتماعية التي أوجدها الحكم الأموي،فهبّ سلام الله عليه-بعد هلاك معاوية-إلى تفجير ثورته الكبرى التي أدت إلى إيقاظ الوعي الإجتماعي الذي اكتسح الحكم الأموي و أزال جميع معالمه و آثاره...و هذه بعض معالم سياسة معاوية.

سياسته الاقتصادية

و لم تكن لمعاوية أية سياسة اقتصادية في المال حسب المعنى المصطلح لهذه الكلمة،و إنما كان تصرفه في جباية الأموال و إنفاقها خاضعا لرغباته و أهوائه فهو

ص: 4

يهب الثراء العريض للقوى المؤيدة له و يحرم العطاء للمعارضين له،و يأخذ الأموال و يفرض الضرائب كل ذلك بغير حق.

إن من المقطوع به أنه لم يعد في حكومة معاوية أي ظل للإقتصاد الإسلامي الذي عالج القضايا الإقتصادية بأروع الوسائل و أعمقها،فقد عنى بزيادة الدخل الفردي،و مكافحة البطالة،و إذابة الفقر،و اعتبر مال الدولة ملكا للشعب يصرف على تطوير وسائل حياته،و ازدهار رخائه،و لكن معاوية قد أشاع الفقر و الحاجة عند الأكثرية الساحقة من الشعب،و أوجد الرأسمالية عند فئة قليلة راحت تتحكم في مصير الناس و شؤونهم.و هذه بعض الخطوط الرئيسية في سياسته الاقتصادية:

الحرمان الاقتصادي

اشارة

و أشاع معاوية الحرمان الإقتصادي في بعض الأقطار التي كانت تضم الجبهة المعارضة له فنشر فيها البؤس و الحاجة حتى لا تتمكن من القيام بأية معارضة له، و هذه بعض المناطق التي قابلها بالإضطهاد و الحرمان.

1-يثرب:

و سعى معاوية لإضعاف يثرب فلم ينفق على المدنيين أي شي من المال و جهد على فقرهم و حرمانهم لأنهم من معاقل المعارضة لحكمه،و فيهم كثير من الشخصيات الحاقدة على الأسرة الأموية و الطامعة في الحكم،و يقول المؤرخون أنه أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس الأثمان،و قد أرسل القيم على أملاكه لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها،و قابلوا حاكمهم عثمان بن محمد،و قالوا

ص: 5

له:إن هذه الأموال لنا كلها،و إن معاوية آثر علينا في عطائنا،و لم يعطنا درهما فما فوقه حتى مضّنا الزمان و نالتنا المجاعة فاشتراها بجزء من مائة من ثمنها،فرد عليهم حاكم المدينة بأقسى القول و أمرّه.

و وفد على معاوية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري فلم يأذن له تحقيرا و توهينا به فانصرف عنه،فوجّه له معاوية بستمائة درهم فردّها جابر و كتب إليه:

و إني لأختار القنوع على الغنى إذا اجتمعا و الماء بالبارد المحض

و أقضي على نفسي إذ الأمر نابني و في الناس من يقضى عليه و لا يقضي

و ألبس أثواب الحياء و قد أرى مكان الغنى إلا أهين له عرضي

و قال لرسول معاوية:«قل له و الله يابن آكلة الأكباد لا تجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبدا».

و انتشر الفقر في بيوت الأنصار،و خيّم عليهم البؤس حتى لم يتمكن الرجل منهم على شراء راحلة يستعين بها على شؤونه،و لما حج معاوية و اجتاز على يثرب استقبله الناس،و منهم الأنصار و كان أكثرهم مشاة فقال لهم:

«ما منعكم من تلقيّ كما يتلقاني الناس!!؟»

فقال له سعيد بن عبادة:

«منعنا من ذلك قلة الظهر،و خفة ذات اليد،و إلحاح الزمان علينا،و إيثارك بمعروفك غيرنا».

فقال له معاوية باستهزاء و سخرية.

«أين أنتم عن نواضح المدينة؟».

فسدد له سعيد سهما من منطقه الفياض قائلا:

«نحرناها يوم بدر،يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان».

ص: 6

لقد قضت سياسة معاوية بنشر المجاعة في يثرب و حرمان أهلها من الصلة و العطاء،يقول عبد الله بن الزبير في رسالته إلى يزيد:«فلعمري ما تؤتينا مما في يدك من حقنا إلا القليل و إنك لتحبس عنا منه العريض...».

و قد أوعز معاوية إلى الحكومة المركزية في يثرب برفع أسعار المواد الغذائية فيها حتى تعم فيها المجاعة،و قد ألمع إلى ذلك يزيد في رسالته التي بعثها للمدنيين و وعدهم فيها بالإحسان إن خضعوا لسلطانه،و قد جاء فيها:

«و لهم علي عهد أن أجعل الحنطة كسعر الحنطة عندنا،و العطاء الذي يذكرون أنه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو علي لهم وفرا كاملا».

«و قد جعل معاوية الولاة على الحجاز تارة مروان بن الحكم،و أخرى سعيد بن العاص و كان يعزل الأول و يولي الثاني،و قد جهدا في إذلال أهل المدينة و فقرهم.

2-العراق:

أما العراق فقد قابله معاوية بالمزيد من العقوبات الإقتصادية باعتباره المركز الرئيسي للمعارضة،و القطر الوحيد الساخط على حكومته،و كان و اليه المغيرة بن شعبة يحبس العطاء و الأرزاق عن أهل الكوفة،و قد سار حكام الأمويين من بعد معاوية على هذه السيرة في اضطهاد العراق و حرمان أهله،فإن عمر بن عبد العزيز أعدلهم لم يساو بين العراقيين و الشاميين في العطاء،فقد زاد في عطاء الشاميين عشرة دنانير و لم يزد في عطاء أهل العراق.

لقد عانى العراق في عهد الحكم الأموي أشد ألوان الضيق مما جعل العراقيين يقومون بثورات متصلة ضد حكمهم.

ص: 7

3-مصر:

و نالت مصر المزيد من الإضطهاد الإقتصادي فقد كتب معاوية إلى عامله:«أن زد على كل امرىء من القبط قيراطا»فأنكر عليه عامله و كتب إليه:«كيف أزيد عليهم و في عهدهم أن لا يزاد عليهم».

و شمل الضيق الإقتصادي سائر الأقطار الإسلامية ليشغلها عن معارضة حكمه.

الرفاه على الشام

و بينما كانت البلاد الإسلامية تعاني الجهد و الحرمان نجد الشام في رخاء شامل و أسعار موادها الغذائية منخفضة جدا،لأنها أخلصت للبيت الأموي،و عملت على تدعيم حكمه،فكان الرفاه يعد فيها شائعا،أما ما يؤيد ذلك فهي رسالة يزيد التي ذكرناها قبل قليل..و قد حملوا أهل الشام على رقاب الناس كما ألمح إلى ذلك مالك بن هبيرة في حديثه مع الحصين بن نمير.

يقول له:«هلمّ فلنبايع لهذا الغلام-أي خالد بن يزيد-الذي نحن ولدنا أباه و هو ابن اختنا،فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب..».

استخدام المال في تدعيم ملكه:

و استخدم معاوية الخزينة المركزية لتدعيم ملكه و سلطانه،و اتخذ المال سلاحا يمكنه من قيادة الأمة و رئاسة الدولة،يقول السيد مير علي الهندي:«و كانت

ص: 8

الثروات التي جمعها معاوية من عمالته على الشام يبذّرها هو و بطانته على جنوده المرتزقة الذين ساعدوه بدورهم على إخفات كل همسة ضدهم..».

و كانت هذه السياسة غريبة على المسلمين لم يفكر فيها أحد من الخلفاء السابقين،و قد سار عليها من جاء بعده من خلفاء الأمويين فاتخذوا المال وسيلة لدعم سلطانهم،يقول الدكتور محمد مصطفى:«و كان من عناصر سياسة الأمويين استخدام المال سلاحا للإرهاب،و أداة للتقريب فحرموا منه فئة من الناس، و أغدقوه أضعافا مضاعفة لطائفة أخرى ثمنا لضمائرهم،و ضمانا لصمتهم..».

و جعل شكري فيصل المال أحد العاملين الأساسيين اللذين خضع لهما المجتمع الإسلامي خضوعا عجيبا،و كان من جملة الأسباب في فتن السياسة،و سيطرة الطبقة الحاكمة من قريش،كما أنه أحد الأسباب في وقوع الخلاف ما بين العرب و العجم بل و ما بين العرب أنفسهم.

المنح الهائلة لأسرته

و منح معاوية الأموال الهائلة لأسرته فوهبهم الثراء العريض و ذلك لتقوية مركزهم،و بسط نفوذهم على العالم الإسلامي،في حين أشاع البؤس و الحرمان عند أغلب فئات الشعب.

منح خراج مصر لعمرو

و وهب معاوية خراج مصر لابن العاص،و جعله طعمة له ما دام حيا،و ذلك لتعاونه معه على مناجزة الإمام أمير المؤمنين رائد الحق و العدالة في الأرض،و قد

ص: 9

ألمحنا إلى تفصيل ذلك في البحوث السابقة.

هبات الأموال للمؤيدين

و أغدق معاوية الأموال الهائلة على المؤيدين له و المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين و قد أسرف في ذلك إلى حد بعيد،و يقول الرواة:أن يزيد بن منبه قدم عليه من البصرة يشكو له دينا قد لزمه،فقال معاوية لخازن بيت المال:أعطه ثلاثين ألفا، و لما ولّى قال:و ليوم الجمل ثلاثين ألفا أخرى.لقد وهب له هذه الأموال الضخمة جزاءا لمواقفه و مواقف أخيه الذي أمدّ المتمردين في حرب الجمل بالأموال التي نهبها من بيت مال المسلمين،و قد حفل التأريخ ببوادر كثيرة من هبات معاوية للقوى المنحرفة عن الإمام،و المؤيدة له.

شراء الأديان

و فتح معاوية بابا جديدا في سياسته الإقتصادية و هي شراء الأديان و خيانة الذمم،فقد وفد عليه جماعة من أشراف العرب فأعطى كل واحد منهم مائة ألف و أعطى الحتات عم الفرزدق سبعين ألفا،فلما علم الحتات بذلك رجع مغضبا إلى معاوية فقال له:

«فضحتني في بني تميم،أما حسبي فصحيح،أو لست ذا سن؟ألست مطاعا في عشيرتي؟».

«بلى..».

«فما بالك خست بي دون القوم و أعطيت من كان عليك أكثر ممن كان لك!!».

فقال معاوية بلا حياء و لا خجل:

ص: 10

«إني اشتريت من القوم دينهم،و وكلتك إلى دينك».

«أنا أشتري مني ديني».

فأمر له بإتمام الجائزة.

لقد خسرت هذه الصفقة التي كشفت عن مسخ الضمائر و تحوّلها إلى سلعة تباع و تشرى.

عجز الخزينة المركزية

و منيت الخزينة المركزية بعجز مالي خطير نتيجة الإسراف في الهبات لشراء الذمم و الأديان و لم تتمكن الدولة من تسديد رواتب الموظفين مما اضطر معاوية إلى أن يكتب لابن العاص راجيا منه أن يسعفه بشي من خراج مصر الذي جعله طعمة له فقد جاء في رسالته:«أما بعد:فإن سؤال أهل الحجاز،و زوّار أهل العراق قد كثروا علي،و ليس عندي فضل من أعطيات الجنود فأعنّي بخراج مصر هذه السنة..»و لم يستجب له ابن العاص و راح ينكر عليه،و يذكره بأياديه التي أسداها عليه و قد أجابه بهذه الأبيات:

معاوي إن تدركك نفس شحيحة و ما ورّثتني مصر أمي و لا أبي

و ما نلتها عفوا و لكن شرطتها و قد دارت الحرب العوان على قطب

و لولا دفاعي الأشعري و صحبه لألفيتها ترغو كراغية السغب

و لما قرأ معاوية الأبيات تأثر منه،و لم يعاوده بشي من أمر مصر.

مصادرة أموال المواطنين

و اضطر معاوية بعد إسرافه و تبذيره إلى مصادرة أموال المواطنين ليسد

ص: 11

العجز المالي الذي منيت به خزينة الدولة،و قد صادر مواريث الحتات عم الفرزدق فأنكر عليه الفرزدق و قال يهجوه:

أبوك و عمي يا معاوي أورثا

تراثا فيختار التراث أقاربه

فما بال ميراث الحتات أخذته

و ميراث صخر جامد لك ذائبه

فلو كان هذا الأمر في جاهلية

علمت من المرء القليل حلائبه

و لو كان في دين سوى ذا شنئتم

لنا حقنا أو غص بالماء شاربه

ألست أعز الناس قوما و أسرة

و أمنعهم جارا إذا ضيم جانبه

و ما ولدت بعد النبي و آله

كمثلي حصان في الرجال يقاربه

و بيتي إلى جنب الثريا فناؤه

و من دونه البدر المضىء كواكبه

أنا ابن الجبال الشم في عدد الحصى

و عرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه

و كم من أب لي يا معاوي لم يزل

أغر يباري الريح ازورّ جانبه

نمته فروع المالكين و لم يكن

أبوك الذي من عبد شمس يقاربه

ص: 12

و معنى هذه الأبيات أن الأموال التي خلفها صخر جد معاوية قد انتقلت إلى وراثة في حين أن ميراث عم الفرزدق قد صادره معاوية،و لو كان ذلك في الجاهلية لكان معاوية أقصر باعا من أن تمتد يده إليه،فإن الفرزدق ينتمي إلى أسرة هي من أعز الأسر العربية و أمنعها.

ضريبة النيروز

و فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز ليسد بها نفقاته،و قد بالغ في إرهاق الناس و اضطهادهم على أدائها،و قد بلغت فيما يقول المؤرخون عشرة ملايين درهم و هي من الضرائب التي لم يألفها المسلمون،و قد اتخذها الخلفاء من بعده سنّة فأرغموا المسلمين على أدائها.

نهب الولاة و العمال

و أصبحت الولاية في عهد معاوية مصدرا من مصادر النهب و السرقة، و مصدرا للثراء و جمع الأموال،يقول أنس بن أبي أناس لحارثة الغداني صاحب زياد بن أبيه حينما ولي على(سرق)و هي إحدى كور الأهواز:

أحار بن بدر قد وليت إمارة فكن جرذا فيها تخون و تسرق

و باه تميما بالغنى أن للغنى لسانا به المرء الهيوبة ينطق

و لا تحقرن يا حار شيئا أصبته فحظك من ملك العراقين سرق

و يصف عقبة بن هبيرة الأسدي ظلم الولاة و استصفائهم أموال الرعية بقوله:

معاوي إننا بشر فاسجح فلسنا بالجبال و لا الحديد

ص: 13

أكلتم أرضنا فجرّدتموها فهل من قائم أو من حصيد

ففينا أمة ذهبت ضياعا يزيد أميرها و أبو يزيد

أنطمع في الخلافة إذ هلكنا و ليس لنا و لا لك من خلود

ذروا خول الخلافة و استقيموا و تأمير الأراذل و العبيد

و أعطونا السوية لا تزركم جنود مردفات بالجنود

و قد عانى المسلمون ضروبا شاقة و عسيرة من جور الولاة و ظلم الجباة،فقد تمرسوا بالسلب و النهب،و لم يتركوا عند أحد من الناس فضلا من المال إلا صادروه.

جباية الخراج

أما جباية الخراج فكانت خاضعة لرغبات الجباة و أهوائهم،و قد سأل صاحب أخنا عمرو بن العاص عن مقدار ما عليه من الجزية فنهره ابن العاص و قال له:

«لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم،و ان خفف عنا خففنا عنكم..».

و هدمت هذه الإجراءات الظالمة جميع قواعد العدل و المساواة التي جاء بها الإسلام.

اصطفاء الذهب و الفضة

و أوعز معاوية إلى زياد بن أبيه أن يصطفي له الذهب و الفضة فقام زياد مع عماله بإجبار المواطنين على مصادرة ما عندهم من ذلك و إرساله إلى دمشق و قد ضيّق بذلك على الناس،و ترك الفقر آخذا بخناقهم.

ص: 14

شل الحركة الإقتصادية

و شلّت الحركة الإقتصادية في جميع أنحاء البلاد فخربت الزراعة و التجارة، و أصيب الإقتصاد العام بنكسة شاملة نتيجة تبذير معاوية و إسرافه،و قد أعلن ذلك عبد الله بن همام السلولي فقد كتب شعرا في رقاع و ألقاها في المسجد الجامع يشكو فيها الجور الهائل و المظالم الفظيعة التي صبّها معاوية و عماله على الناس و هذه هي الأبيات:

ألا أبلغ معاوية بن صخر فقد خرب السواد فلا سوادا

أرى العمال اقساء علينا بعاجل نفعهم ظلموا العبادا

فهل لك أن تدارك بالدنيا و تدفع عن رعيتك الفسادا

و تعزل تابعا أبدا هواه يخرب من بلادته البلادا

إذا ما قلت اقصر عن هواه تمادى في ضلالته و زادا

و قد صوّر السلولي بهذه الأبيات سوء الحالة الإقتصادية و تسلّط الولاة على ظلم الرعية و دعا السلطة إلى عزلهم و إقصائهم عن وظائفهم فقد جهدوا في خراب السواد و امتصوا الدماء،و اتّبعوا الهوى،و ضلّوا عن الطريق القويم.

حجة معاوية

و يرى معاوية أن أموال الأمة و خزينتها المركزية ملك له يتصرف فيها حيث ما شاء يقول:«الأرض لله،و أنا خليفة الله،فما أخذ من مال الله فهو لي،و ما تركته جائزا إلي..».

ص: 15

و هذا المنطق بعيد عن روح الإسلام،و بعيد عن اتجاهاته فقد قنن أسسه الاقتصادية على أساس أن المال مال الشعب،و أن الدولة ملزمة بتنميته و تطويره، و ليس لرئيس الدولة و غيره أن يتلاعب باقتصاد الأمة و ينفقه على رغباته و أهوائه فإن ذلك يؤدي إلى إذاعة الحاجة و نشر البطالة و يعرّض البلاد للأزمات الإقتصادية...لقد اعتبر الإسلام الفقر كارثة اجتماعية و وباءا شاملا يجب مكافحته بكل الطرق و الوسائل،و ليس لرئيس الدولة أن يصطفي من مال الأمة أي شيء،هذا هو رأي الإسلام،و لكن معاوية-بصورة لا تقبل الجدل-لم يع ذلك،فتصرّف بأموال المسلمين حسب رغباته و أهوائه.

هذه بعض معالم سياسة معاوية الإقتصادية التي فقدت روح التوازن و أشاعت البؤس و الحرمان في البلاد.

سياسة التفريق

و بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين و تشتيت شملهم،و بث روح التفرقة و البغضاء بينهم،إيمانا منه بأن الحكم لا يمكن أن يستقر له إلا في تفلل وحدة الأمة و إشاعة العداء بين أبنائها،يقول العقاد:«و كانت له-أي لمعاوية-حيلته التي كررها و أتقنها و برع فيها،و استخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين و غير المسلمين،و كان قوام تلك الحيلة العمل الدائب على التفرقة و التخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم،و إثارة الإحن فيهم،و منهم من كانوا من أهل بيته و ذوي قرباه..كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق،و كان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار مما يعينه على الإيقاع بهم».

لقد شتت كلمة المسلمين،و فصم عرى الأخوة الإسلامية التي عقد أواصرها

ص: 16

الرسول الكريم،و بنى عليها مجتمعه.

اضطهاد الموالي

و بالغ معاوية في اضطهاد الموالي و إذلالهم،و قد رام أن يبيدهم إبادة شاملة يقول المؤرخون:إنه دعا الأحنف بن قيس و سمرة بن جندب و قال لهما:«إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت،و أراها قد قطعت على السلف،و كأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب و السلطان،فقد رأيت أن أقتل شطرا منهم،و أدع شطرا لإقامة السوق و عمارة الطريق».

و لم يرتض الأحنف و سمرة هذا الإجراء الخطير فأخذا يلطفان به حتى عدل عن رأيه.

لقد سنّ معاوية اضطهاد الموالي،و أخذت الحكومات التي تلت من بعده تشيع فيهم الجور و الحرمان بالرغم من اشتراكهم في الميادين العسكرية و غيرها من أعمال الدولة،يقول شاعر الموالي شاكيا مما ألمّ بهم من الظلم:

أبلغ أمية عني إن عرضت لها و ابن الزبير و أبلغ ذلك العربا

أن الموالي أضحت و هي عاتبة على الخليفة تشكو الجوع و الحربا

و انبرى أحد الخراسانيين إلى عمر بن عبد العزيز يطالبه بالعدل فيهم قائلا له:

«يا أمير المؤمنين عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء،و لا رزق،و مثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤدون الخراج».و كان الشعبي قاضي عمر بن عبد العزيز قد بغض المسجد حتى صار أبغض إليه من كناسة داره-حسب ما يقول-لأن الموالي كانت تصلّي فيه و قد اضطر الموالي إلى تأسيس مسجد خاص لهم أسموه(مسجد الموالي)كانوا يقيمون الصلاة فيه و يميل خودا بخش إلى الظن أنهم إنما اضطروا

ص: 17

إلى تأدية صلاتهم فيه بعد ما رأوا تعصب العرب ضدهم،و أنهم لم يكونوا يسمحون لهم بالعبادة معهم في مسجد واحد و كان الموالي يلطفون بالرد على العرب و يدعونهم إلى الهدى قائلين:«إننا لا ننكر تباين الناس،و لا تفاضلهم،و لا السيد منهم و المسود،و الشريف و المشروف،و لكننا نزعم أن تفاضل الناس فيما بينهم هو ليس بآبائهم،و لا بأحسابهم و لكنه بأفعالهم و أخلاقهم،و شرف أنفسهم، و بعد همهم،فمن كان دني الهمة،ساقط المروؤة لم يشرف و إن كان من بني هاشم في ذؤابتها!!إنما الكريم من كرمت أفعاله،و الشريف من شرفت همته..».

و لم يع الأمويون و من سار في ركابهم هذا المنطق المشتق من واقع الإسلام و هديه الذي أمر ببسط المساواة و العدل بين جميع الناس من دون فرق بين قومياتهم.

و على أي حال فقد أدّت هذه السياسة العنصرية إلى إشاعة الأحقاد بين المسلمين و اختلاف كلمتهم،كما أدّت إلى تجنيد الموالي لكل حركة ثورية تقوم ضد الحكم الأموي و كانوا بالأخيرهم القوة الفعالة التي أطاحت بالأمويين و طوت معالمهم و آثارهم.

العصبية القبلية

و تبعا لسياسة التحزب و التفريق التي سار عليها الأمويون فقد أحيوا العصبيات القبلية،و قد ظهرت في الشعر العربي صور مريعة و مؤلمة من ألوان ذلك الصراع الذي كانت تخلقه السلطة الأموية لإشغال الناس بالصراع القبلي عن التدخل في الشؤون السياسية،و إبعادهم عما يقننه معاوية من الظلم و الجور،و يقول المؤرخون:إنه عمد إلى إثارة الأحقاد القديمة ما بين الأوس و الخزرج محاولا بذلك التقليل من أهميتهم،و إسقاط مكانتهم أمام العالم العربي و الإسلامي...كما تعصب

ص: 18

لليمنيين على المضريين،و أشعل نار الفتنة فيما بينهم حتى لا تتحد لهم كلمة تضر بمصالح دولته.

و سار عمال معاوية على وفق منهج سياسته التخريبية فكان زياد بن أبيه يضرب القبائل بعضها ببعض و يؤجج نار الفتنة فيما بينها حتى تكون تحت مناطق نفوذه يقول و لها وزن:«و عرف زياد كيف يخضع القبائل بأن يضرب إحداها بالأخرى،و كيف يجعلها تعمل من أجله،و أفلح في ذلك..».

و حفلت مصادر التأريخ ببوادر كثيرة من ألوان التناحر القبلي الذي أثاره معاوية و عماله مما أدى إلى انتشار الضغائن بين المسلمين،و قد عانى الإسلام من جراء ذلك أشد ألوان المحن فقد أوقف كل نشاط مثمر له،و خولف ما كان يدعو له النبي صلّى اللّه عليه و آله من التآخي و التعاطف بين المسلمين.

سياسة البطش و الجبروت

و ساس معاوية الأمة سياسة بطش و جبروت فاستهان بمقدراتها و كرامتها، و قد أعلن-بعد الصلح-أنه إنما قاتل المسلمين و سفك دماءهم ليتأمر عليهم،و أن جميع ما أعطاه للإمام الحسن عليه السّلام من شروط فهي تحت قدميه لا يفي بشىء منها، و قد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه و جبروته فقال:«نحن الزمان من رفعناه ارتفع،و من وضعناه اتضع..».

و سار عماله و ولاته على هذه الخطة الغادرة فقد خطب عتبة بن أبي سفيان بمصر فقال:

«يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين،إني قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسيئكم و سألتكم إصلاحكم إذا كان فسادكم باقيا عليكم فأما إذا أبيتم إلا الطعن على السلطان و النقص للسلف،فو الله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم،فإن حسمت

ص: 19

أداوئكم و إلا فإن السيف من ورائكم،فكم حكمة منا لم تعها قلوبكم،و من موعظة منا صمّت عنها آذانكم،و لست أبخل بالعقوبة إذا جدتم بالمعصية..».

و خاطب المصريين في خطاب آخر له فقال:

«يا أهل مصر إياكم أن تكونوا للسيف حصيدا فإن لله ذبيحا لعثمان لا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق بإحياء الفتنة،و إماتة السنن فأطأكم و الله وطأة لا رمق معها حتى تنكروا ما كنتم تعرفون».

و مثلت هذه القطع من خطابه مدى أحقاده على الأمة و تنكره لجميع قيمها و أهدافها و من أولئك الولاة الذين كفروا بالحق و العدل،خالد القسري،فقد خطب في مكة،و هو يهدد المجتمع بالدمار و الفناء،فقد جاء في خطابه:

أيها الناس عليكم بالطاعة،و لزوم الجماعة،و إياكم و الشبهات فإني-و الله-ما أوتي لي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم...

و كانت هذه الظاهرة ماثلة عند جميع حكام الأمويين و ولاتهم يقول الوليد بن يزيد:

فدع عنك إدكارك آل سعدى فنحن الأكثرون حصى و مالا

و نحن المالكون الناس قسرا نسومهم المذلة و النكالا

و نوردهم حياض الخسف ذلا و ما نألوهم إلا خبالا

و صوّرت هذه الأبيات مدى استهانته بالأمة،فإنه مع بقية الحكام من أسرته،قد ملكوا الناس بالغلبة و القوة،و أنهم يسومونهم الذل،و يوردونهم حياض الخسف...

و من أولئك الملوك عبد الملك بن مروان فقد خطب في يثرب أمام أبناء المهاجرين و الأنصار فقال:

«الا و إني لا أداوي أمر هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم قناتكم،و إنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين،و لا تعملون مثل عملهم،و إنكم تأمروننا

ص: 20

بتقوى الله،و تنسون أنفسكم و الله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا-إلا ضربت عنقه..».

و حفل هذا الخطاب بالطغيان الفاجر على الأمة،فهو لا يرى حلا لأزماتها إلا بسفك الدماء و إشاعة الجور و الإرهاب،أما بسط العدل و نشر الدعة و الرفاهية بين الناس فلم يفكر به و لا دار بخلده و لا في خلد واحد من حكام الأمويين.

احتقار الفقراء

و تبنّى الحكم الأموي في جميع أدواره اضطهاد الفقراء و احتقار الضعفاء، و يقول المؤرخون أن بني أمية كانوا لا يسمحون للفقراء بالدخول إلى دوائرهم الرسمية إلا في آخر الناس يقول زياد بن أبيه لعجلان حاجبه:

-كيف تأذن للناس؟

-على البيوتات،ثم على الأسنان،ثم على الأدب.

-من تؤخر؟

-الذين لا يعبأ الله بهم.

-من هم؟

-الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف،و كسوة الصيف في الشتاء.

و هدمت هذه السياسة قواعد العدل و المساواة التي جاء بها الإسلام فإنه لم يفرّق بين المسلمين و جعلهم سواسية كأسنان المشط.

سياسة الخداع

و أقام معاوية دولته على المخاتلة و الخداع فلا ظل للواقع في أي تحرك من

ص: 21

تحركاته السياسية،فما كان مثل ذلك الضمير المتحجر أن يعي الواقع أو يفقه الحق،و قد حفل التأريخ بصور كثيرة من خداعه،و هذه بعضها:

-1-لما دس معاوية السم إلى الزعيم الكبير مالك الأشتر أقبل على أهل الشام فقال لهم:

«إن عليا وجّه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكموه..».

فكان أهل الشام يدعون عليه في كل صلاة،و لما أخبر بموته أنبأ أهل الشام بأن موته نتج عن دعائهم لأنهم حزب الله،ثم همس في أذن ابن العاص قائلا له:«إن لله جنودا من عسل».

-2-و من خداع معاوية و أضاليله أن جرير البجلي لما أوفده الإمام إلى معاوية يدعوه إلى بيعته،طلب معاوية حضور شرحبيل الكندي،و هو من أبرز الشخصيات في الشام و قد عهد إلى جماعة من أصحابه أن ينفرد كل واحد منهم به، و يلقي في روعه أن عليا هو الذي قتل عثمان بن عفان،و لما قدم عليه شرحبيل أخبره معاوية بوفادة جرير،و أنه يدعوه إلى بيعة الإمام،و قد حبس نفسه في البيعة حتى يأخذ رأيه لأن الإمام قد قتل عثمان،و طلب منه شرحبيل أن يمهله لينظر في الأمر،فلما خرج إلتقى به القوم كل على حدة،و أخبروه أن الإمام هو المسؤول عن إراقة دم عثمان فلم يشك الرجل في صدقهم فانبرى إلى معاوية و هو يقول له:

«يا معاوية أين الناس؟ألا أن عليا قتل عثمان،و الله إن بايعت لنخرجنك من شامنا و لنقتلنك..».

فقال معاوية مخادعا له:

«ما كنت لأخالف عليكم ما أنا إلا رجل من أهل الشام..».

بمثل هذا الخداع و البهتان أقام دعائم سلطانه،و بنى عليه عرش دولته.

-3-و من ألوان خداعه لأهل الشام أنه لما راسل الزعيم قيس بن سعد يستميله

ص: 22

و يمنّيه بسلطان العراقين و بسلطان الحجاز لمن أحب من أهل بيته إن صار معه فرد عليه قيس بأعنف القول فأظهر معاوية لأهل الشام أنه قد بايع،و أمرهم بالدعاء له و اختلق كتابا نسبه إليه و قد قرأه عليهم و هذا نصه:

«أما بعد:إن قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما،و قد نظرت لنفسي و ديني فلم أر بوسعي مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا تقيا فنستغفر الله لذنوبنا ألا و إني قد ألقيت لكم بالسلام،و أحببت قتال قتلة إمام الهدى المظلوم، فاطلب مني ما أحببت مني من الأموال و الرجال أعجله إليك..».

و بهذه الأساليب المنكرة خدع أهل الشام وزج بهم لحرب وصي رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه.

-4-لقد كان الخداع من ذاتيات معاوية،و من العناصر المقومة لسياسته،و قد بهر ولده يزيد حينما بويع و كان الناس يمدحونه فقال لأبيه:

«يا أمير المؤمنين ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا؟؟».

فأجابه معاوية:

«كل من أردت خديعته فتخادع له حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته».

لقد جر معاوية ذيله على الخداع و غذّى به أهل مملكته حتى نشأ جيل كانت هذه الظاهرة من أبرز ما عرف منه.

إشاعة الإنتهازية:

و عملت حكومة معاوية على إشاعة الانتهازية و الوصولية بين الناس،و لم يعد ماثلا عند الكثيرين منهم ما جاء به الإسلام من إيثار الحق و نكران الذات،و من مظاهر ذلك التذبذب ما رواه المؤرخون أن يزيد بن شجرة الرهاوي قد وفد على معاوية،و بينما هو مقبل على سماع حديثه إذ أصابه حجر عاثر فأدماه فأظهر تصنعا عدم الاعتناء به فقال له معاوية:

ص: 23

«لله أنت ما نزل بك!!؟».

«ما ذاك يا أمير المؤمنين؟».

«هذا دم وجهك يسيل...».

«إن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمز فكري فما شعرت بشيء حتى نبّهني أمير المؤمنين..».

فبهر معاوية و راح يقول:

«لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء،و أخرجك من عطاء أبناء المهاجرين، و كماة أهل صفين.»و أمر له بخمسمائة ألف درهم،و زاد في عطائه ألف درهم...

و كانت هذه الظاهرة سائدة في جميع أدوار الحكم الأموي فقد ذكر المؤرخون أن إسماعيل بن يسار كان زبيري الهوى فلما ظفر آل مروان بآل الزبير انقلب إسماعيل عن رأيه و أصبح مروانيا،و قد استأذن على الوليد فأخّره ساعة فلما أذن له دخل و هو يبكي فسأله الوليد عن سبب بكائه فقال:«أخّرتني و أنت تعلم مروانيتي،و مروانية أبي..».

و أخذ الوليد يعتذر منه،و هو لا يزداد إلا إغراقا في البكاء،فهوّن عليه الوليد و أحسن صلته،فلما خرج تبعه شخص ممن يعرفه فسأله عن مروانيته التي ادعاها متى كانت؟فقال له:

«بغضنا لآل مروان،و هي التي حملت أباه يسار في حال موته أن يتقرب إلى الله بلعن مروان بن الحكم،و هي التي دعت أمه أن تلعن آل مروان مكان ما تتقرب به إلى الله من التسبيح..».

و نقل المؤرخون بوادر كثيرة من ألوان هذا الخداع الذي ساد في تلك العصور و هو من دون شك من مخلفات سياسة معاوية الذي ربّى جيله على التذبذب و الإنحراف عن الحق.

ص: 24

الخلاعة و المجون

و عرف معاوية بالخلاعة و المجون،يقول ابن أبي الحديد:«كان معاوية أيام عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح،و كان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه إلا أنه كان يلبس الحرير و الديباج و يشرب في آنية الذهب و الفضة،و يركب البغلات ذوات السروج المحلات بها-أي بالذهب-و عليها جلال الديباج و الوشي، و كان حينئذ شابا و عنده نزق الصبا،و أثر الشبيبة و سكر السلطان و الإمرة،و نقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام.

و لا خلاف في أنه سمع الغناء،و طرب عليه،و وصل عليه أيضا.و تأثر به ولده يزيد فكان مدمنا خليعا مستهترا،و تأثر بهذا السلوك جميع خلفاء بني أمية،يقول الجاحظ:«و كان يزيد-يعني بن معاوية-لا يمسي إلا سكرانا،و لا يصبح إلا مخمورا،و كان عبد الملك بن مروان يسكر في كل شهر مرة حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء..و كان الوليد بن عبد الملك يشرب يوما،و يدع يوما،و كان سليمان بن عبد الملك يشرب في كل ثلاث ليال ليلة،و كان هشام يشرب في كل جمعة،و كان يزيد بن الوليد،و الوليد بن يزيد يدمنان اللهو و الشراب،فأما يزيد بن الوليد فكان دهره بين حالتي سكر و خمار،و لا يوجد أبدا إلا و معه إحدى هاتين، و كان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء و ليلة السبت...

و ولّى هشام بن عبد الملك الوليد على الحج سنة(119 ه)فحمل معه كلابا في صناديق فسقط منها صندوق و فيه كلب..و حمل معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها عليها،و حمل معه خمرا،و أراد أن ينصب القبة على الكعبة و يجلس فيها فخوفه أصحابه،و قالوا له:لا نأمن الناس عليك و علينا فترك و وفد علي بن عباس على الوليد بن يزيد في خلافته،و قد أتي بابن شراعة من الكوفة،فبادره قائلا:

ص: 25

«و الله ما بعثت إليك لأسألك عن كتاب الله و سنّة رسوله..»فضحك ابن شراعة و قال:

-إنك لو سألتني عنهما لوجدتني حمارا.

-أنا أرسلت إليك لأسألك عن القهوة-أي الخمر-أخبرني عن الشراب؟

-يسأل أمير المؤمنين عما بداله.

-ما تقول في الماء؟

-لا بد منه و الحمار شريكي فيه.

-و أخذ يسأله عن المشروبات حتى انتهى إلى الخمر فقال له:

-ما تقول في الخمر؟

أواه تلك صديق روحي.

-أنت و الله صديق روحي.

و أرسل الوليد إلى عامله على الكوفة يطلب منه أن يبعث إليه الخلعاء و الشعراء الماجنين ليستمع إلى ما يلهو به من الفسق و المجون،و قد سخّر جميع أجهزة دولته للذاته و شهواته،و كتب إلى و اليه على خراسان أن يبعث إليه ببرابط و طنابير، و قال أحد شعراء عصره ساخرا منه:

أبشر يا أمين الله أبشر بتباشير

بإبل يحمل المال عليها كالأنابير

بغال تحمل الخمر حقائبها طنابير

فهذا لك في الدنيا و في الجنة تحبير

و سادت اللذة و اللهو في المجتمع العربي،و تهالك الناس على الفسق و الفجور، و من طريف ما ينقل في هذا الموضوع أنه أوتي بشيخ إلى هشام بن عبد الملك و كان معه قيان و خمر و بربط،فقال:اكسروا الطنبور على رأسه فبكى الشيخ فقال له أحد

ص: 26

الجالسين:عليك بالصبر،فقال له الشيخ:أتراني أبكي للضرب؟إنما أبكي لاحتقاره البربط إذ سماه طنبورا.

لقد كانت سيرة الأمويين في جميع أدوارهم امتدادا لسيرة معاوية الذي أشاع حياة اللهو و الخلاعة في البلاد للقضاء على أصالة الأمة،و سلب و عيها الديني و الاجتماعي.

إشاعة المجون في الحرمين

و عمد معاوية إلى إشاعة الدعارة و المجون في الحرمين للقضاء على قدسيتهما و إسقاط مكانتهما الاجتماعية في نفوس المسلمين،يقول العلايلي:«و شجّع الأمويون حياة المجون في مكة و المدينة إلى حد الإباحة،فقد استأجر طوائف من الشعراء و المخنثين من بينهم عمر بن أبي ربيعة لأجل أن يمسحوا عاصمتي مكة و المدينة بمسحة لا تليق،و لا تجعلهما صالحتين للزعامة الدينية.و قد قال الأصمعي:دخلت المدينة فما وجدت الا المخنثين،و رجلا يضع الأخبار و الطرف» و قد شاعت في يثرب مجالس الغناء،و كان الوالي يحضرها و يشارك فيها و انحسرت بذلك روح الأخلاق،و انصرف الناس عن المثل العليا التي جاء بها الإسلام.

الاستخفاف بالقيم الدينية

و استخف معاوية بكافة القيم الدينية،و لم يعن بجميع ما جاء به الإسلام من الأحكام فاستعمل أواني الذهب و الفضة،و أباح الربا،و تطيّب في الإحرام،و عطّل

ص: 27

الحدود،و قد ألغيت معظم الأحكام الإسلامية في أغلب أدوار الحكم الأموي،و في ذلك يقول شاعر الإسلام الكميت:

و عطلت الأحكام حتى كأننا على ملة غير التي نتنحل

أ أهل كتاب نحن فيه و أنتم على الحق نقضي بالكتاب و نعدل

كأن كتاب الله يعني بأمره و بالنهي فيه الكوذني المركل

فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم فحتام حتام العناء المطول

و ما ضرب الأمثال في الجور قبلنا لا جور من حكامنا المتمثل

و استخف معاوية بالمقدسات الإسلامية و احتقرها،يقول الرواة إنه لما تغلّب قيل له:لو سكنت المدينة،فهي دار الهجرة،و بها قبر النبي صلّى اللّه عليه و اله فقال:قد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين و اقتدى به في ذلك جميع بني أمية فقد انبرى يحيى بن الحكم إلى عبد الله بن جعفر فقال له:

«كيف تركت الخبيثة-يعني مدينة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله-؟»فأنكر عليه ابن جعفر و صاح به:

«سمّاها رسول الله صلّى اللّه عليه و اله طيبة و تسمّيها خبيثة،قد اختلفتما في الدنيا و ستختلفان في الآخرة..».

قال يحيى:«و الله لئن أموت و أدفن بأرض الشام المقدسة أحب إلي من أن أدفن بها..».

فقال له:

«اخترت مجاورة اليهود و النصارى على مجاورة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و المهاجرين».

استلحاق زياد

و من مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلامية استلحاقه زياد بن عبيد

ص: 28

الرومي،و إلصاقه بنسبه من دون بينة شرعية،و إنما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمار و هو مما لا يثبت به نسب شرعي،و قد خالف بذلك قول رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:

«الولد للفراش و للعاهر الحجر».

لقد قام بذلك انطلاقا وراء أهدافه السياسية،و تدعيما لحكمه و سلطانه...و من طريف ما ينقل في الموضوع أن نصر بن حجاج خاصم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند معاوية في عبد الله مولى خالد بن الوليد فأمر معاوية حاجبه أن يؤخرهما حتى يحتفل مجلسه،فلما اكتمل مجلسه،أمر بحجر فأدني منه،و ألقى عليه طرفا من ثيابه ثم أذن لهما،فترافعا عنده في شأن عبد الله فقال له نصر:

«إن أخي و ابن أبي عهد إلي أنه-يعني عبد الله-منه».

و قال عبد الرحمن:«مولاي و ابن عبد أبي و أمته ولد على فراشه»و أصدر معاوية الحكم في المسألة فقال:يا حرسي خذ هذا الحجر فادفعه إلى نصر بن حجاج،فقد قال رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:«الولد للفراش و للعاهر الحجر».

و انبرى نصر فقال:«أفلا أجريت هذا الحكم في زياد؟».

فقال معاوية:«ذلك حكم معاوية و هذا حكم رسول الله».

إنكار الإمام الحسين:

و أنكر الإمام الحسين عليه السّلام على معاوية هذا الإستلحاق الذي خالف به قول رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فكتب إليه مذكرة تضمنت الأحداث الجسام التي اقترفها معاوية و قد جاء فيها:

«أو لست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك،و قد قال رسول الله صلّى اللّه عليه و اله الولد للفراش و للعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله تعمدا و اتبعت هواك بغير هدى من الله.

لقد أثار استلحاق معاوية لزياد موجة من الغضب و الإستياء عند الأخيار

ص: 29

و المتحرجين في دينهم،و قد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا(حياة الإمام الحسن عليه السّلام).

الحقد على النبي

و حقد معاوية على النبي صلّى اللّه عليه و اله فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعة لا يصلّي عليه،و سأله بعض أصحابه عن ذلك فقال:«لا يمنعني عن ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها و سمع المؤذن يقول:أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله،فلم يملك إهابه،و اندفع يقول:

«لله أبوك يا ابن عبد الله لقد كنت عالي الهمة،ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين..».

و من مظاهر حقده على الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله ما رواه مطرف بن المغيرة قال:

وفدت مع أبي على معاوية،فكان أبي يتحدث عنده ثم ينصرف إلي،و هو يذكر معاوية و عقله،و يعجب بما يرى منه،و أقبل ذات ليلة،و هو غضبان فأمسك عن العشاء،فانتظرته ساعة،و قد ظننت أنه لشىء حدث فينا أو في عملنا،فقلت له:

-مالي أراك مغتما منذ الليلة؟

-يا بني جئتك من عند أخبث الناس.

-ما ذاك؟

-خلوت بمعاوية فقلت له:إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا،فإنك قد كبرت،و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شىء تخافه..فثار معاوية و اندفع يقول:

ص: 30

«هيهات!!هيهات ملك أخو تيم فعدل،و فعل ما فعل فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره،إلا أن يقول قائل أبو بكر،ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمّر عشر سنين فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر،ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل به ما عمل فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره و إن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات؛أشهد أن محمدا رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فأي عمل يبقى بعد هذا لا أم لك إلا دفنا دفنا..».

و دلّت هذه البادرة على مدى زعزعة العقيدة الدينية في نفس معاوية و أنها لم تكن إلا رداءا رقيقا يشف عما تحته من حب الجاهلية و التأثر بها إلى حد بعيد، و كانت النزعة الإلحادية ماثلة عند أغلب ملوك الأمويين يقول الوليد في بعض خمرياته منكرا للبعث و النشور:

أدر الكأس يمينا لا تدرها ليسار

إسق هذا ثم هذا صاحب العود النضار

من كميت عتّقوها منذ دهر في جرار

ختموها بالأماوية و كافور وقار

فلقد أيقنت أني غير مبعوث لنار

سأروض الناس حتي يركبوا دين الحمار

و ذروا من يطلب الجنة يسعى لتبار

و تأثر الكثيرون من ولاتهم بهذه النزعة الإلحادية،فكان الحجاج يخاطب الله أمام الجماهير الحاشدة قائلا:«أرسولك أفضل أم خليفتك يعني أن عبد الملك أفضل من النبي العظيم صلّى اللّه عليه و اله».و كان ينقم على الذين يزورون قبر رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و يقول:«تبا لهم إنما يطوفون بأعواد و رمة بالية،هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله».

ص: 31

و هكذا كان جهاز الحكم الأموي في كثير من أدواره قد تنكّر للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله و ازدرى برسالته.

تغيير الواقع الإسلامي

و عمد معاوية إلى تغيير الواقع الإسلامي المشرق الذي تبنّى الحركات النضالية و القضايا المصيرية لجميع الشعوب،فأهاب بالمسلمين أن لا يقرّوا على كظة ظالم، و لا سغب مظلوم،و قد تبنى هذا الشعار المقدس الصحابي العظيم أبو ذر الغفاري الذي فهم الإسلام،عن واقعه،فرفع راية الكفاح في وجه الحكم الأموي،و طالب عثمان،و معاوية بإنصاف المظلومين و المضطهدين و توزيع ثروات الأمة على الفقراء و المحرومين.

لقد أراد معاوية إقبار هذا الوعي الديني،و إماتة الشعور بالمسؤولية فأوعز إلى لجان الوضع التي ابتدعها أن تفتعل الأحاديث على لسان المحرر العظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله في إلزام الأمة بالخضوع للظلم،و الخنوع للجور،و التسليم لما تقترفه سلطاتها من الجور و الاستبداد و هذه بعض الأحاديث:

-1-روى البخاري بسنده عن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله أنه قال لأصحابه:«إنكم سترون بعدي أثرة،و أمورا تنكرونها قالوا:فما تأمرنا يا رسول الله؟قال:أدوا إليهم حقهم، و اسألوا الله حقكم..».

-2-روى البخاري بسنده عن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله أنه قال:«من رأى من أميره شيئا يكره فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة فمات،مات ميتة جاهلية..».

-3-روى البخاري بسنده عن مسلمة بن زيد الجعفي أنه سأل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله

ص: 32

فقال له:يا نبي الله أ رأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم،و يمنعونا حقنا فما ترى؟فأعرض«ص»عنه فسأله ثانيا و ثالثا و الرسول معرض فجذبه الأشعث بن قيس،فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:إسمعوا و أطيعوا فإن عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم».

-4-روى البخاري بسنده عن عجرفة قال:سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يقول:إنه ستكون هنات و هنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة و هي جمع فاضربوه بالسيف كائنا ما كان..».

إلى غير ذلك من الموضوعات التي خدّرت الأمة،و شلّت حركتها الثورية، و جعلتها قابعة ذليلة تحت و طأة الاستبداد الأموي و جوره،و قد هبّ الإمام الحسين عليه السّلام الثائر الأول في الإسلام إلى إعلان الجهاد المقدس ليوقظ الأمة من سباتها و يعيد للإسلام نضارته و روحه النضالية التي انحسرت في عهد الحكم الأموي:

عزل أهل البيت عليهم السلام

اشارة

و سخّر معاوية جميع أجهزته للحط من قيمة أهل البيت عليهم السّلام الذين هم وديعة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و العصب الحساس في هذه الأمة،و قد استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم و إقصائهم عن واقع الحياة الإسلامية،و كان من بين ما استخدمه في ذلك ما يلي:

-1-تسخير الوعاظ.

و سخر معاوية الوعاظ في جميع أنحاء البلاد ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت و يذيعوا الأضاليل في انتقاصهم تدعيما للحكم الأموي.

ص: 33

-2-استخدام معاهد التعليم.

و استخدم معاوية معاهد التعليم و أجهزة الكتاتيب لتغذية النش ببغض أهل البيت عليهم السّلام و خلق جيل معاد لهم و قد قامت تلك الأجهزة بدور خطير في بث روح الكراهية في نفوس النشء لعترة النبي صلّى اللّه عليه و اله.

-3-افتعال الأخبار.
اشارة

و أقام معاوية شبكة لوضع الأخبار تعد من أخطر الشبكات التخريبية في الإسلام فعهد إليها بوضع الأحاديث على لسان النبي صلّى اللّه عليه و اله للحط من قيمة أهل البيت عليهم السّلام أما الأعضاء البارزون في هذه اللجنة فهم:

-1-أبو هريرة الدوسي.

-2-سمرة بن جندب.

-3-عمرو بن العاص.

-4-المغيرة بن شعبة.

و قد افتعلوا آلاف الأحاديث على لسان النبي صلّى اللّه عليه و اله و كانت عدة طوائف مختلفة حسب التخطيط السياسي للدولة و هي:

الطائفة الأولى:وضع الأخبار في فضل الصحابة لجعلهم قبال أهل البيت،

و قد عدّ الإمام الباقر عليه السّلام أكثر من مائة حديث منها:

أ-أن عمر محدّث-بصيغة المفعول-أي تحدثه الملائكة.

ب-إن السكينة تنطق على لسان عمر.

ج-إن عمر يلقّنه الملك.

د-إن الملائكة لتستحي من عثمان.

إلى كثير من أمثال هذه الأخبار التي وضعت في فضل الصحابة،يقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه:«إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة

ص: 34

افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم..«كما وضعوا في فضل الصحابة الأحاديث المماثلة للأحاديث النبوية في فضل العترة الطاهرة كوضعهم:«إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر و عمر»و قد عارضوا بذلك الحديث المتواتر:«الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة».

الطائفة الثانية:وضع الأخبار في ذم العترة الطاهرة و الحط من شأنها

فقد أعطى معاوية سمرة بن جندب أربع مائة ألف على أن يخطب في أهل الشام،و يروي لهم أن الآية الكريمة نزلت في علي و هي قوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ فروى لهم سمرة ذلك و أخذ العوض الضخم من بيت مال المسلمين..و مما رووا أن النبي صلّى اللّه عليه و اله قال في آل أبي طالب«إن آل أبي طالب ليسوا بأولياء لي إنما وليي الله و صالح المؤمنين»و روى الأعمش أنه لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة(سنة 41)جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا،و قال:يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أحرق نفسي بالنار؟لقد سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يقول:إن لكل نبي حرما،و إن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيهما حدثا فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين،و أشهد بالله أن عليا أحدث فيها!!فلما بلغ معاوية قوله أجازه و أكرمه و ولاّه إمارة المدينة.

إلى كثير من أمثال هذه الموضوعات التي تقدح في العترة الطاهرة التي هي مصدر الوعي و الإحساس في العالم الإسلامي.

الطائفة الثالثة:افتعال الأخبار في فضل معاوية لمحو العار الذي لحقه و لحق

أباه و أسرته في مناهضتهم للإسلام،و إخفاء ما أثر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في ذمهم،

و هذه

ص: 35

بعض الأخبار المفتعلة:

-1-قال صلّى اللّه عليه و اله:«معاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي و أجودها».

-2-قال صلّى اللّه عليه و اله:«صاحب سري معاوية بن أبي سفيان».

-3-قال صلّى اللّه عليه و اله:«اللهم علّمه-يعني معاوية-الكتاب وقه العذاب و أدخله الجنة..».

-4-قال صلّى اللّه عليه و اله:«إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنه أمين هذه الأمة» إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة التي تعكس الصراع الفكري ضد الإسلام عند معاوية و أنه حاول جاهدا محو هذا الدين و القضاء عليه.

حديث مفتعل على الحسين

من الأحاديث الموضوعة على الإمام الحسين ما روي أنه وفد على معاوية زائرا في يوم الجمعة و كان قائما على المنبر خطيبا،فقال له رجل من القوم:ائذن للحسين يصعد المنبر فقال له معاوية:ويلك دعني أفتخر،ثم حمد الله و أثنى عليه،و وجّه خطابه للحسين قائلا له:

-سألتك يا أبا عبد الله أليس أنا ابن بطحاء مكة؟

-أي و الذي بعث جدي بشيرا.

-سألتك يا أبا عبد الله أليس أنا خال المؤمنين؟

-أي و الذي بعث جدي نبيا.

-سألتك يا أبا عبد الله أليس أنا كاتب الوحي؟

-أي و الذي بعث جدي نذيرا.

ثم نزل معاوية عن المنبر،فصعد الحسين فحمد الله بمحامد لم يحمده الأولون و الآخرون بمثلها ثم قال:حدثني أبي عن جدي عن جبرائيل عن الله تعالى أن تحت

ص: 36

قائمة كرسي العرش ورقة آس خضراء مكتوب عليها«لا إله إلا الله محمد رسول الله،يا شيعة آل محمد لا يأتي أحدكم يوم القيامة إلا أدخله الله الجنة».

فقال له معاوية:سألتك يا أبا عبد الله من شيعة آل محمد؟فقال عليه السّلام:الذين لا يشتمون الشيخين أبا بكر و عمر،و لا يشتمون عثمان و لا يشتمونك يا معاوية.

و علّق الحافظ ابن عساكر على هذا الحديث بقول:«هذا حديث منكر و لا أرى سنده متصلا إلى الحسين».

و قد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا بهذه الموضوعات التي دوّنت في كتب السنة،و ظن الكثيرون من المسلمين أنها حق،فأضفوا على معاوية ثوب القداسة، و ألحقوه بالرعيل الأول من الصحابة المتحرجين في دينهم و هم من دون شك لو علموا واقعها لتبرأوا منها-كما يقول المدايني-

و لم تقتصر الموضوعات على تقديس معاوية و الحط من شأن أهل البيت عليهم السّلام و إنما تدخّلت في شؤون الشريعة فألصقت بها المتناقضات و المستحيلات مما شوّهت الواقع الإسلامي و أفسدت عقائد المسلمين.

سب الإمام أمير المؤمنين

و تمادى معاوية في عدائه للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فأعلن سبّه و لعنه في نواديه العامة و الخاصة و أوعز إلى جميع عماله و ولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس، و سرى سب الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي،و قد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم:

«أيها الناس،إن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة-يعني الشام-فإن فيها الأبدال،و قد اخترتكم فالعنوا أبا تراب».

ص: 37

و عج أهل الشام بسب الإمام و خطب في أولئك الوحوش فقال لهم:

«ما ظنكم برجل-يعني عليا-لا يصلح لأخيه-يعني عقيلا-يا أهل الشام إن أبا لهب المذموم في القرآن هو عم عليّ بن أبي طالب».

و يقول المؤرخون:إنه كان إذا خطب ختم خطابه بقوله:«اللّهم إن أبا تراب ألحد في دينك و صد عن سبيلك فالعنه لعنا و بيلا،و عذبه عذابا أليما..».

و كان يشاد بهذه الكلمات على المنابر و لما ولّى معاوية المغيرة بن شعبة إمارة الكوفة كان أهم ما عهد إليه أن لا يتسامح في شتم الإمام عليه السّلام و الترحم على عثمان، و العيب لأصحاب علي و إقصائهم،و أقام المغيرة واليا على الكوفة سبع سنين و هو لا يدع ذم علي و الوقوع فيه.و قد أراد معاوية بذلك أن يصرف القلوب عن الإمام عليه السّلام و أن يحول بين الناس و بين مبادئه التي أصبحت تطارده في قصوره يقول الدكتور محمود صبحي:«لقد أصبح علي جثة هامدة لا يزاحمهم في سلطانهم،و يخيفهم بشخصه،و لا يعني ذلك-أي سب الإمام-إلا أن مبادئه في الحكم و آراءه في السياسة كانت تنغص عليهم في موته كما كانت في حياته..».

لقد كان الإمام رائد العدالة الإنسانية و المثل الأعلى لهذا الدين،يقول الجاحظ:«لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام و التقدم فيه،و متى ذكر النخوة و الذب عن الإسلام،و متى ذكر الفقه في الدين،و متى ذكر الزهد في الأمور التي تناصر الناس عليها كان مذكورا في هذه الخلال كلها إلا في علي..».

و يقول الحسن البصري:

«و الله لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهما صائبا من مرامي الله تعالى،رباني هذه الأمة بعد نبيها صلّى اللّه عليه و اله و صاحب شرفها و فضلها و ذا القرابة القريبة من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله غير مسؤوم لأمر الله،و لا سروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه فأورده رياضا مونقة،و حدائق مغدقة ذلك عليّ بن أبي طالب..».

ص: 38

لقد عادت اللعنات التي كان يصبها معاوية و ولاته على الإمام بإظهار فضائله فقد برز الإمام للناس أروع صفحة في تأريخ الإنسانية كلها،و ظهر للمجتمع أنه المنادي الأول بحقوق الإنسان،و المؤسس الأول للعدالة الاجتماعية في الأرض لقد انطوت السنون و الأحقاب،و اندكّت معالم تلك الدول التي ناوأت الإمام سواء أكانت من بني أمية أم من بني العباس،و لم يبق لها أثر،و بقي الإمام عليه السّلام وحده قد احتل قمة المجد فها هو رائد الإنسانية الأول و قائدها الأعلى و إذا بحكمه القصير الأمد يصبح طغراء في حكام هذا الشرق،و إذا الوثائق الرسمية التي أثرت عنه تصبح منارا لكل حكم صالح يستهدف تحقيق القضايا المصيرية للشعوب،و إذا بحكم معاوية أصبح رمزا للخيانة و العمالة و رمزا لاضطهاد الشعوب و احتقارها.

ستر فضائل أهل البيت عليهم السلام

و حاول معاوية بجميع طاقاته حجب فضائل آل البيت عليهم السّلام و ستر مآثرهم عن المسلمين،و عدم إذاعة ما أثر عن النبي صلّى اللّه عليه و اله في فضلهم،يقول المؤرخون:إنه بعد عام الصلح حج بيت الله الحرام فاجتاز على جماعة فقاموا إليه تكريما و لم يقم إليه ابن عباس،فبادره معاوية قائلا:

يابن عباس ما منعك من القيام؟كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين!!يابن عباس إن ابن عمي عثمان قتل مظلوما.!فرد عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلا:

-فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما،فسلّم الأمر إلى ولده،و هذا ابنه-و أشار إلى عبد الله بن عمر-

أجابه معاوية بمنطقه الرخيص:

ص: 39

«إن عمر قتله مشرك..».

فانبرى ابن عباس قائلا:

-فمن قتل عثمان؟

-قتله المسلمون.

و أمسك ابن عباس بزمامه فقال له:

«فذلك أدحض لحجتك إن كان المسلمون قتلوه و خذلوه فليس إلا بحق»و لم يجد معاوية مجالا للرد عليه،فسلك حديثا آخر أهم عنده من دم عثمان فقال له:

«إنا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي و أهل بيته فكف لسانك يابن عباس».

فانبرى ابن عباس بفيض من منطقه و بليغ حجته يسدد سهاما لمعاوية قائلا:

-فتنهانا عن قراءة القرآن؟

-لا.

-فتنهانا عن تأويله؟

-نعم.

-فنقرأه و لا نسأل عما عنى الله به؟

-نعم.

-فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

-العمل به.

-فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

-سل عن ذلك ممن يتأوله على غير ما تتأوله أنت و أهل بيتك.

-إنما نزل القرآن على أهل بيتي،فأسأل عنه آل أبي سفيان و آل أبي معيط؟!!

-فاقرأوا القرآن،و لا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم،و مما قاله رسول الله صلّى اللّه عليه و اله

ص: 40

فيكم،و ارووا ما سوى ذلك.

و سخر منه ابن عباس...

و صاح به معاوية:

«اكفني نفسك،و كف عني لسانك،و إن كنت فاعلا فليكن سرا،و لا تسمعه أحدا علانية..».

و دلّت هذه المحاورة على عمق الوسائل التي اتخذها معاوية في مناهضته لأهل البيت،و إخفاء مآثرهم.

و بلغ الحقد بمعاوية على الإمام أنه لما ظهر عمرو بن العاص بمصر على محمد بن أبي بكر،و قتله استولى على كتبه و مذكراته و كان من بينها عهد الإمام له،و هو من أروع الوثائق السياسية،فرفعه ابن العاص إلى معاوية فلما رآه قال لخاصته:إنا لا نقول هذا من كتب علي بن أبي طالب و لكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عنده.

التحرج من ذكر الإمام

و أسرف الحكم الأموي إلى حد بعيد في محاربة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقد عهد بقتل كل مولود يسمّى عليا،فبلغ ذلك علي بن رباح فخاف،و قال:لا أجعل في حل من سمّاني عليا فإن اسمي علي-بضم العين-و يقول المؤرخون:أن العلماء و المحدثين تحرّجوا من ذكر الإمام علي و الرواية عنه خوفا من بني أمية فكانوا إذا أرادوا أن يرووا عنه يقولون:«روى أبو زينب»و روى معمر عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:«إن الله تعالى منع بني إسرائيل قطر السماء لسوء رأيهم في أنبيائهم،و اختلافهم في دينهم،و إنه أخذ على هذه الأمة

ص: 41

بالسنين،و منعهم قطر السماء ببغضهم عليّ بن أبي طالب».

قال معمر:حدثني الزهري في مرضة مرضها،و لم أسمعه يحدث عن عكرمة قبلها و لا بعدها فلما أبل من مرضه ندم على حديثه لي و قال:

«يا يماني اكتم هذا الحديث،و اطوه دوني فإن هؤلاء-يعني بني أمية-لا يعذرون أحدا في تقريض علي و ذكره».

قال معمر:«فما بالك عبت عليا مع القوم،و قد سمعت الذي سمعت؟..».

قال الزهري:«حسبك يا هذا أنهم أشركونا مهمامهم فاتبعناهم في أهوائهم..».

و قد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا في مودتهم للإمام و تحرّجوا أشد التحرّج في ذلك،يقول الشعبي:«ماذا لقينا من علي إن أحببناه ذهبت دنيانا و إن أبغضناه ذهب ديننا»و يقول الشاعر:

حب علي كله ضرب ير جف من تذكاره القلب

هذه بعض المحن التي عاناها المسلمون في مودتهم لأهل البيت عليهم السّلام التي هي جزء من دينهم.

أذية الشيعة

و اضطهدت الشيعة أيام معاوية اضطهادا رسميا في جميع أنحاء البلاد، و قوبلوا بمزيد من العنف و الشدة،فقد انتقم منهم معاوية كأشد ما يكون الانتقام قسوة و عذابا،فقد قاد مركبة حكومته على جثث الضحايا منهم،و قد حكى الإمام الباقر عليه السّلام صورا مريعة من بطش الأمويين بشيعة آل البيت عليهم السّلام يقول:«و قتلت شيعتنا بكل بلدة،و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة،و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»و تحدّث بعض رجال الشيعة إلى

ص: 42

محمد بن الحنفية عما عانوه من المحن و الخطوب بقوله:

«فما زال بنا الشين في حبكم حتى ضربت عليه الأعناق،و أبطلت الشهادات، و شردنا في البلاد،و أوذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض قفرا،فأعبد الله حتى ألقاه،لولا أن يخفى علي أمر آل محمد صلّى اللّه عليه و اله و حتى هممت أن أخرج مع أقوام شهادتنا و شهادتهم واحدة على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون..».

لقد كان معاوية لا يتهيب من الإقدام على اقتراف أية جريمة من أجل أن يضمن ملكه و سلطانه،و قد كانت الشيعة تشكل خطرا على حكومته فاستعمل معهم أعنف الوسائل و أشدها قسوة من أجل القضاء عليهم،و من بين الإجراءات القاسية التي استعملها ضدهم ما يلي:

القتل الجماعي

و أسرف معاوية إلى حد كبير في سفك دماء الشيعة،فقد عهد إلى الجلادين من قادة جيشه بتتبع الشيعة و قتلهم حيثما كانوا،و قد قتل بسر بن أبي أرطاة-بعد التحكيم-ثلاثين ألفا عدا من أحرقهم بالنار و قتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة و أما زياد بن أبيه فقد ارتكب أفظع المجازر فقطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون،و أنزل بالشيعة من صنوف العذاب ما لا يوصف لمرارته و قسوته.

إبادة القوى الواعية

اشارة

و عمد معاوية إلى إبادة القوى المفكرة و الواعية من الشيعة،و قد ساق زمرا منهم إلى ساحات الإعدام،و أسكن الثكل و الحداد في بيوتهم،و فيما يلي بعضهم:

ص: 43

-1-حجر بن عدي
اشارة

لقد رفع حجر بن عدي علم النضال،و كافح عن حقوق المظلومين و المضطهدين،و سحق إرادة الحاكمين من بني أمية الذين تلاعبوا في مقدرات الأمة و حولوها إلى مزرعة جماعية لهم و لعملائهم و أتباعهم...لقد استهان حجر بالموت و سخر من الحياة،و استلذ الشهادة في سبيل عقيدته،فكان أحد المؤسسين لمذهب أهل البيت عليهم السّلام.

و امتحن حجر كأشد ما تكون المحنة قسوة حينما رأى السلطة تعلن سب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و ترغم الناس على البراءة منه فأنكر ذلك،و جاهر بالرد على ولاة الكوفة،و استحل زياد بن أبيه دمه فألقى عليه القبض،و بعثه مخفورا مع كوكبة من إخوانه إلى معاوية،و أوقفوا في(مرج عذراء)فصدرت الأوامر من دمشق بإعدامهم،و نفّذ الجلادون فيهم حكم الإعدام فخرّت جثثهم على الأرض و هي ملفعة بدم الشهادة و الكرامة و هي تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة أفضل لا ظلم فيها،و لا طغيان.

ص: 44

مذكرة الإمام الحسين

و فزع الإمام الحسين حينما و افته الأنباء بمقتل حجر فرفع مذكرة شديدة اللهجة إلى معاوية ذكر فيها أحداثه و بدعه،و التي كان منها قتله لحجر و البررة من أصحابه،و قد جاء فيها:

«ألست القاتل حجرا أخا كندة،و المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم و يستعظمون البدع،و لا يخافون في الله لومة لائم...قتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة،و المواثيق المؤكدة أن لا تأخذهم بحدث كان بينك و بينهم و لا بإحنة تجدها في نفسك عليهم..».

و احتوت هذه المذكرة على ما يلي:

-1-الإنكار الشديد على معاوية لقتله حجرا و أصحابه من دون أن يقترفوا جرما أو يحدثوا فسادا في الأرض.

-2-إنها أشادت بالصفات البطولية في هؤلاء الشهداء من إنكار الظلم،و مقاومة الجور و استعظام البدع و المنكرات التي أحدثتها حكومة معاوية،و قد هبّوا إلى ميادين الجهاد لإقامة الحق و مناهضة المنكر.

-3-إنها أثبتت أن معاوية قد أعطى حجرا و أصحابه عهدا خاصا في وثيقة وقّعها قبل إبرام الصلح أن لا يعرض لهم بأي إحنة كانت بينه و بينهم،و لا يصيبهم بأي مكروه،و لكنه قد خاس بذلك فلم يف به كما لم يف للإمام الحسن بالشروط التي أعطاها له،و إنما جعلها تحت قدميه كما أعلن ذلك في خطابه الذي ألقاه في النخيلة.

ص: 45

لقد كان قتل حجر من الأحداث الجسام في الإسلام،و قد توالت صيحات الإنكار على معاوية من جميع الأقاليم الإسلامية،و قد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا(حياة الإمام الحسن«ع»).

-2-رشيد الهجري

و في فترات المحنة الكبرى التي منيت بها الشيعة في عهد ابن سمية تعرّض رشيد الهجريّ لأنواع المحن و البلوى فقد بعث زياد شرطته إليه فلما مثل عنده صاح به:«ما قال لك خليلك-يعني عليا-إنا فاعلون بك؟..»فأجابه بصدق و إيمان:

«تقطعون يديّ و رجليّ،و تصلبوني».

و قال الخبيث مستهزئا و ساخرا:

«أما و الله لأكذبن حديثه،خلّوا سبيله».

و خلّت الجلاوزة سراحه و ندم الطاغية فأمر بإحضاره فصاح به:«لا نجد شيئا أصلح مما قال صاحبك،إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت،إقطعوا يديه و رجليه» و بادر الجلادون فقطعوا يديه و رجليه،و هو غير حافل بما يعانيه من الآلام،و يقول المؤرخون:إنه أخذ يذكر مثالب بني أمية،و يدعو إلى إيقاظ الوعي و الثورة،مما غاظ ذلك زيادا فأمر بقطع لسانه الذي كان يطالب بالحق و العدل،و ينافح عن حقوق الفقراء و المحرومين.

-3-عمرو بن الحمق الخزاعي
اشارة

و من شهداء العقيدة الصحابي العظيم عمرو بن الحمق الخزاعي الذي دعى له النبي صلّى اللّه عليه و اله أن يمتّعه الله بشبابه،و استجاب الله دعاء نبيه فقد أخذ عمرو بعنق

ص: 46

الثمانين عاما و لم تر في كريمته شعرة بيضاء و تأثر عمرو بهدي أهل البيت و أخذ من علومهم فكان من أعلام شيعتهم.و في أعقاب الفتنة الكبرى التي منيت بها الكوفة في عهد الطاغية زياد بن سمية شعر عمرو بتتبع السلطة له ففر مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل،و قبل أن ينتهيا إليه كمنا في جبل ليستجما فيه، و ارتابت الشرطة فبادرت إلى إلقاء القبض على عمرو أما رفاعة ففر و لم تستطع أن تلقي عليه القبض وجيء بعمرو مخفورا إلى حاكم الموصل عبد الرحمن الثقفي، فرفع أمره إلى معاوية فأمره بطعنه تسع طعنات بمشاقص لأنه طعن عثمان بن عفان؛و بادرت الجلاوزة إلى طعنه فمات في الطعنة الأولى،و احتز رأسه الشريف و أرسل إلى طاغية دمشق فأمر أن يطاف به في الشام،و يقول المؤرخون أنه أول رأس طيف به في الإسلام،ثم أمر به معاوية أن يحمل إلى زوجته السيدة آمنة بنت شريد،و كانت في سجنه،فلم تشعر الا و رأس زوجها قد وضع في حجرها،فذعرت و كادت أن تموت و حملت من السجن إلى معاوية و جرت بينها و بينه محادثات دلّت على ضعة معاوية و استهانته بالقيم العربية و الإسلامية القاضية بمعاملة المرأة معاملة كريمة و لا تؤخذ بأي ذنب يقترفه زوجها أو غيره.

مذكرة الإمام الحسين

و التاع الإمام الحسين عليه السّلام أشد ما تكون اللوعة حينما علم بمقتل عمرو فرفع مذكرة إلى معاوية عدّد فيها أحداثه و ما تعانيه الأمة في عهده من الاضطهاد و الجور،و جاء فيما يخص عمروا:

«أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلّى اللّه عليه و اله العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه،و اصفر لونه،بعد ما أمّنته،و أعطيته من عهود الله و مواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل،ثم قتلته جراءة على ربك و استخفافا

ص: 47

بذلك العهد..».

لقد خاس معاوية بما أعطاه لهذا الصحابي الجليل-بعد الصلح-من العهد و المواثيق بأن لا يعرض له بسوء و لا مكروه.

-4-أوفى بن حصن

و كان أوفى بن حصن من خيار الشيعة-في الكوفة-و أحد أعلامهم النابهين، و هو من أشد الناقمين على معاوية فكان يذيع مساوئه و أحداثه؛و لما علم به ابن سمية أوعز إلى الشرطة بإلقاء القبض عليه و لما علم أوفى بذلك اختفى،و في ذات يوم استعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى فشكّ في أمره فسأل عنه فأخبر باسمه،فأمر بإحضاره فلما مثل عنده سأله عن سياسته فعابها و أنكرها؛فأمر زياد بقتله،فهوى الجلادون عليه بسيوفهم و تركوه جثة هامدة.

-5-الحضرمي مع جماعته
اشارة

و كان عبد الله الحضرمي من أولياء الإمام أمير المؤمنين و من خلّص شيعته كما كان من شرطة الخميس؛و قد قال له الإمام يوم الجمل:«أبشر يا عبد الله فإنك و أباك من شرطة الخميس،لقد أخبرني رسول الله باسمك و اسم أبيك في شرطة الخميس و لما قتل الإمام جزع عليه الحضرمي و بنى له صومعة يتعبد فيها و انضم إليه جماعة من خيار الشيعة،فأمر ابن سمية بإحضارهم،و لما مثلوا عنده أمر بقتلهم،فقتلوا صبرا».

لقد كانت فاجعة عبد الله كفاجعة حجر بن عدي فكلاهما قتل صبرا و كلاهما أخذ بغير ذنب سوى الولاء لعترة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

ص: 48

إنكار الإمام الحسين

و فزع الإمام الحسين كأشد ما يكون الفزع ألما و محنة على مقتل الحضرمي و جماعته الأخيار فأنكر على معاوية في مذكرته التي بعثها له و قد جاء فيها:

«أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه على دين علي عليه السّلام فكتبت إليه أن اقتل كل من كان على دين علي،فقتلهم و مثّل فيهم بأمرك،و دين علي هو دين ابن عمه صلّى اللّه عليه و اله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه،و لو لا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء و الصيف».

و دلّت هذه المذكرة-بوضوح-على أن معاوية قد عهد إلى زياد بقتل كل من كان على دين علي عليه السّلام الذي هو دين رسول الله صلّى اللّه عليه و اله كما دلّت على أن زيادا قد مثّل بهؤلاء البررة بعد قتلهم تشفيا منهم لولائهم لعترة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

-6-جويرية العبدي

و من عيون شيعة الإمام جويرية بن مسهر العبدي،و في فترات المحنة الكبرى التي امتحنت بها الشيعة أيام ابن سمية،بعث خلفه فأمر بقطع يده و رجله و صلبه على جذع قصير.

-7-صيفي بن فسيل

و من أبطال العقيدة الإسلامية صيفي بن فسيل الذي ضرب أروع الأمثلة للإيمان فقد سعي به إلى الطاغية زياد فلما جىء به إليه صاح به:

-يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟

-ما أعرف أبا تراب.

ص: 49

-ما أعرفك به؟

-أما تعرف عليّ بن أبي طالب؟

-بلى.

-فذاك أبو تراب.

-كلا ذاك أبو الحسن و الحسين.

و انبرى مدير شرطة زياد منكرا عليه:

«يقول لك الأمير هو أبو تراب،و تقول أنت لا!!»

فصاح به البطل العظيم مستهزئا منه و من أميره:

«و إن كذب الأمير أتريد أن أكذب؟و أشهد على باطل كما شهد.و تحطّم كبرياء الطاغية،و ضاقت به الأرض فقال له:

«و هذا أيضا مع ذنبك».

و صاح بشرطته:علي بالعصا،فأتوه بها،فقال له:

«ما قولك؟»

و انبرى البطل بكل بسالة و إقدام غير حافل به قائلا:

«أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين..».

و أوعز السفاك إلى جلاديه بضرب عاتقه حتى يلتصق بالأرض،فسعوا إليه بهراواتهم فضربوه ضربا مبرحا حتى وصل عاتقه إلى الأرض،ثم أمرهم بالكف عنه،و قال له:

«إيه ما قولك في علي؟»

و حسب الطاغية أن وسائل تعذيبه سوف تقلبه عن عقيدته فقال له:و الله لو شرحتني بالمواسي و المدى،ما قلت إلا ما سمعت مني».

و فقد السفاك إهابه فصاح به:

ص: 50

«لتلعنه أو لأضربن عنقك..».

و هتف صيفي يقول:

«إذا تضربها و الله قبل ذلك،فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله و شقيت أنت..».

و أمر به أن يوقر في الحديد،و يلقى في ظلمات السجون ثم بعثه مع حجر بن عدي فاستشهد معه.

-8-عبد الرحمن

و كان عبد الرحمن العنزي من خيار الشيعة و قد وقع في قبضة جلاوزة زياد فطلب منهم مواجهة معاوية لعلّه أن يعفو عنه فاستجابوا له و أرسلوه مخفورا إلى دمشق فلما مثل عند الطاغية قال له:

«إيه أخا ربيعة ما تقول في علي؟..»

«دعني و لا تسألني فهو خير لك..».

«و الله لا أدعك..».

فانبرى البطل الفذ يدلي بفضائل الإمام،و يشيد بمقامه قائلا:

«أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا،و الآمرين بالحق،و القائمين بالقسط، و العافين عن الناس».

و التاع معاوية فعرج نحو عثمان لعلّه أن ينال منه فيستحل إراقة دمه فقال له:

«ما قولك في عثمان؟».

فأجابه عن انطباعاته عن عثمان،فغاظ ذلك معاوية و صاح به:

«قتلت نفسك».

ص: 51

«بل إياك قتلت،و لا ربيعة بالوادي».

و ظن عبد الرحمن أن أسرته ستقوم بحمايته و إنقاذه،فلم ينبر إليه أحد و لما أمن منهم معاوية بعثه إلى الطاغية زياد،و أمره بقتله فبعثه زياد إلى«قس الناطف» فدفنه و هو حي.

لقد رفع هذا البطل العظيم راية الحق،و حمل معول الهدم على قلاع الظلم و الجور، و استشهد منافحا عن أقدس قضية في الإسلام.

هؤلاء بعض الشهداء من أعلام الشيعة الذين حملوا مشعل الحرية،و أضاءوا الطريق لغيرهم من الثوار الذين أسقطوا هيبة الحكم الأموي،و عملوا على إنقاضه.

المروّعون من أعلام الشيعة

و روّع معاوية طائفة كبيرة من الشخصيات البارزة من رؤساء الشيعة و فيما يلي بعضهم:

-1-عبد الله بن هاشم المرقال.

-2-عدي بن حاتم الطائي.

-3-صعصعة بن صوحان.

-4-عبد الله بن خليفة الطائي.

و قد أرهق معاوية هؤلاء الأعلام إرهاقا شديدا،فطاردتهم شرطته و أفزعتهم إلى حد بعيد و قد ذكرنا ما عانوه من الخطوب في كتابنا«حياة الإمام الحسن».

ترويع النساء

و لم يقتصر معاوية في تنكيله على السادة من رجال الشيعة،و إنما تجاوز ظلمه

ص: 52

إلى السيدات من نسائهم،فأشاع فيهن الذعر و الإرهاب،فكتب إلى بعض عماله بحمل بعضهن إليه،فحملت له هذه السيدات:

-1-الزرقاء بنت عدي.

-2-أم الخير البارقية.

-3-سودة بنت عمارة.

-4-أم البراء بنت صفوان.

-5-بكارة الهلالية.

-6-أروى بنت الحارث.

-7-عكرشة بنت الأطرش.

-8-الدارمية الحجونية.

و قد قابلهم معاوية بمزيد من التوهين و الإستخفاف،و أظهر لهن الجبروت و القدرة على الانتقام غير حافل بوهن المرأة و ضعفها،و قد ذكرنا ما جرى عليهن في مجلسه من التحقير في كتابنا«حياة الإمام الحسن».

هدم دور الشيعة

و أوعز معاوية إلى جميع عماله بهدم دور الشيعة،فقاموا بنقضها و تركوا شيعة آل البيت عليهم السّلام بلا مأوى يأوون إليه،و لم يكن هناك أي مبرر لهذه الإجراءات القاسية سوى تحويل الناس عن عترة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

حرمان الشيعة من العطاء

و من المآسي الكئيبة التي عانتها الشيعة في أيام معاوية أنه كتب إلى جميع

ص: 53

عماله نسخة واحدة جاء فيها:«أنظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و أسقطوا عطاءه و رزقه»و بادر عماله في الفحص في سجلاتهم فمن وجدوه محبا لآل البيت عليهم السّلام محوا اسمه و أسقطوا عطاءه.

عدم قبول شهادة الشيعة

و عمد معاوية إلى إسقاط الشيعة اجتماعيا فعهد إلى جميع عماله بعدم قبول شهادتهم في القضاء و غيره مبالغة في إذلالهم و تحقيرهم.

إبعاد الشيعة إلى خراسان

و أراد زياد بن أبيه تصفية الشيعة من الكوفة،و كسر شوكتهم فأجلى خمسين ألفا منهم إلى خراسان المقاطعة الشرقية في فارس و قد دق زياد بذلك أول مسمار في نعش الحكم الأموي،فقد أخذت تلك الجماهير التي أبعدت إلى فارس تعمل على نشر التشيع في تلك البلاد،حتى تحوّلت إلى مركز للمعارضة ضد الحكم الأموي، و هي التي أطاحت به تحت قيادة أبي مسلم الخراساني.

هذا بعض ما عانته الشيعة في عهد معاوية من صنوف التعذيب و الإرهاب، و كان ما جرى عليهم من المآسي الأليمة من أهم الأسباب في ثورة الإمام الحسين، فقد رفع علم الثورة لينقذهم من المحنة الكبرى التي امتحنوا بها و يعيد لهم الأمن و الاستقرار.

ص: 54

البيعة ليزيد

اشارة

و ختم معاوية حياته بأكبر إثم في الإسلام و أفظع جريمة في التأريخ،فقد أقدم غير متحرج على فرض خليعه يزيد خليفة على المسلمين يعيث في دينهم و دنياهم، و يخلد لهم الويلات و الخطوب،...و قد استخدم معاوية شتى الوسائل المنحطة في جعل الملك وراثة في أبنائه،و يرى الجاحظ أنه تشبّه بملوك الفرس و البزنطيين فحوّل الخلافة إلى ملك كسروي،و عصب قيصري..و قبل أن نعرض إلى تلك البيعة المشؤومة،و ما رافقها من الأحداث نذكر عرضا موجزا لسيرة يزيد،و ما يتصف به من القابليات الشخصية التي عجّت بذمها كتب التأريخ من يومه حتى يوم الناس هذا،و فيما يلي ذلك:

ولادة يزيد

ولد يزيد سنة(25)أو(26 ه)و قد دهمت الأرض شعلة من نار جهنم و زفيرها تحوط به دائرة السوء و غضب من الله،و هو أخبث إنسان وجد في الأرض فقد خلق للجريمة و الإساءة إلى الناس،و أصبح علما للانحطاط الخلقي و الظلم الاجتماعي و عنوانا بغيضا للاعتداء على الأمة و قهر إرادتها في جميع العصور،يقول الشيخ محمد جواد مغنية:«أما كلمة يزيد فقد كانت من قبل اسما لابن معاوية أما هي الآن عند الشيعة فإنها رمز للفساد و الاستبداد،و التهتك و الخلاعة و عنوان للزندقة و الإلحاد فحيث يكون الشر و الفساد فثم اسم يزيد،و حيثما يكون الخير و الحق و العدل فثم اسم الحسين».

و قد أثر عن النبي صلّى اللّه عليه و اله أنه نظر إلى معاوية يتبختر في بردة حبرة و ينظر إلى

ص: 55

عطفيه فقال صلّى اللّه عليه و اله:«أي يوم لأمتي منك،و أي يوم سوء لذريتي منك من جرو يخرج من صلبك يتخذ آيات الله هزوا و يستحل من حرمتي ما حرّم الله تعالى».

نشأته

نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام،و كان مرسل العنان مع شبابه الماجنين،فتأثر بسلوكهم إلى حد بعيد فكان يشرب معهم الخمر و يلعب معهم بالكلاب،يقول العلايلي:«إذا كان يقينا أو يشبه اليقين أن تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة،فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفا بما عليه الجماعة الإسلامية،لا يحسب لتقاليدها و اعتقاداتها أي حساب،و لا يقيم لها وزنا بل الذي نستغرب أن يكون على غير ذلك».

و الذي نراه أن نشأته كانت نشأة جاهلية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة،و لا تحمل أي طابع من الدين مهما كان،فإن استهتاره في الفحشاء و إمعانه في المنكر و الإثم مما يوحي إلى الاعتقاد بذلك.

صفاته:

أما صفاته الجسمية فقد كان شديد الأدمة بوجهه آثار الجدري كما كان ضخما ذا سمنة كثير الشعر و أما صفاته النفسية فقد ورث صفات جده أبي سفيان و أبيه معاوية من الغدر و النفاق،و الطيش و الإستهتار يقول السيد مير علي الهندي:

«و كان يزيد قاسيا غدارا كأبيه،و لكنه ليس داهية مثله كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلو ماسية الناعمة و كانت طبيعته

ص: 56

المنحلة،و خلقه المنحط لا تتسرب إليهما شفقة و لا عدل..كان يقتل و يعذب نشدانا للمتعة و اللذة التي يشعر بها،و هو ينظر إلى آلام الآخرين،و كان بؤرة لأبشع الرذائل،و ها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك..لقد كانوا من حثالة المجتمع..».

لقد كان جافي الخلق مستهترا،بعيدا عن جميع القيم الإنسانية،و من أبرز ذاتياته ميله إلى إراقة الدماء،و الإساءة إلى الناس ففي السنة الأولى من حكمه القصير أباد عترة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و في السنة الثانية أباح المدينة ثلاثة أيام و قتل سبعمائة رجل من المهاجرين و الأنصار و عشرة آلاف من الموالي و العرب و التابعين.

ولعه بالصيد

و من مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد فكان يقضي أغلب أوقاته فيه،و يقول المؤرخون:

«كان يزيد بن معاوية كلفا بالصيد لاهيا به،و كان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب و الجلال المنسوجة منه،و يهب لكل كلب عبدا يخدمه».

شغفه بالقرود

و كان يزيد-فيما أجمع عليه المؤرخون-ولعا بالقرود،فكان له قرد يجعله بين يديه و يكنيه بأبي قيس،و يسقيه فضل كأسه،و يقول:هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمسخ،و كان يحمله على أتان وحشية و يرسله مع الخيل في حلبة السباق،فحمله يوما فسبق الخيل فسر بذلك و جعل يقول:

ص: 57

تمسك أبا قيس بفضل زمامها فليس عليها إن سقطت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلها و خيل أمير المؤمنين أتان

و أرسله مرة في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزنا شديدا و أمر بتكفينه و دفنه كما أمر أهل الشام أن يعزوه بمصابه الأليم،و انشأ راثيا له:

كم من كرام و قوم ذوو محافظة جاءوا لنا ليعزوا في أبي قيس

شيخ العشيرة أمضاها و أحملها على الرؤوس و في الأعناق و الريس

لا يبعد الله قبرا أنت ساكنه فيه جمال و فيه لحية التيس

و ذاع بين الناس هيامه و شغفه بالقرود حتى لقّبوه بها،و يقول رجل من تنوخ هاجيا له:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبا لمن أمسى علينا خليفة صحابته الأدنون منه قرود

إدمانه على الخمر

و الظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر،و قد أسرف في ذلك إلى حد كبير فلم ير في وقت إلا و هو ثمل لا يعي من السكر،و من شعره في الخمر:

أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم و داعي صبابات الهوى يترنم

خذوا بنصيب من نعيم و لذة فكل و إن طال المدى يتصرم

و جلس يوما على الشراب و عن يمينه ابن زياد بعد قتل الحسين فقال:

إسقني شربة تروي شاشي ثم صل ملء فاسق مثلها ابن زياد

صاحب السر و الأمانة عندي و لتسديد مغنمي و جهادي

و في عهده طرأ تحوّل كبير على شكل المجتمع الإسلامي فقد ضعف ارتباط

ص: 58

المجتمع بالدين،و انغمس الكثيرون من المسلمين في الدعارة و المجون و لم يكن ذلك التغيير إقليميا،و إنما شمل جميع الأقاليم الإسلامية فقد سادت فيها الشهوات و المتعة و الشراب،و قد تغيرت الإتجاهات الفكرية التي ينشدها الإسلام عند أغلب المسلمين.

و قد اندفع الأحرار من شعراء المسلمين في أغلب عصورهم إلى هجاء يزيد لإدمانه على الخمر،يقول الشاعر ابن عرادة:

أبني أمية أن آخر ملككم جسد بحوّراين ثمّ مقيم

طرقت منيته و عند وساده كوب وزق راعف مرثوم

و مرنة تبكي على نشوانه بالصنج تقعد تارة و تقوم

و يقول فيه أنور الجندي:

خلقت نفسه الأثيمة بالمكر و هامت عيناه بالفحشاء

فهو الكأس في عناق طويل و هو و العار و الخناء في خباء

و يقول فيه بولس سلامة:

و ترفق بصاحب العرش مشغولا عن الله بالقيان الملاح

ألف«الله أكبر»لا تساوي بين كفي يزيد نهلة راح

تتلظى في الدن بكرا فلم تدنس بلثم و لا بماء قراح

لقد عاقر يزيد الخمر،و أسرف في الإدمان حتى أن بعض المصادر تعزو سبب وفاته إلى أنه شرب كمية كبيرة منه فأصابه انفجار فهلك منه.

ندماؤه:

و اصطفى يزيد جماعة من الخلعاء و الماجنين فكان يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب و الغناء و في طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع فكانا

ص: 59

يشربان و يسمعان الغناء،و إذا أراد السفر صحبه معه و لما هلك يزيد و آل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه فكان يدخل عليه بغير استئذان،و عليه جبة خز،و في عنقه سلسلة من ذهب،و الخمر يقطر من لحيته.

نصيحة معاوية ليزيد

و لما شاع استهتار يزيد و اقترافه لجميع ألوان المنكر و الفساد،استدعاه معاوية فأوصاه بالتكتم في نيل الشهوات لئلا تسقط مكانته الاجتماعية،قائلا:

يا بني ما أقدرك على أن تصير إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروؤتك و قدرك ثم أنشده:

إنصب نهارا في طلاب العلى و اصبر على هجر الحبيب القريب

حتى إذا الليل أتى بالدجى و اكتحلت بالغمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي فإنما الليل نهار الأريب

كم فاسق تحسبه ناسكا قد باشر الليل بأمر عجيب

دفاع محمد عزة دروزة:

من الكتاب الذين يحملون النزعة الأموية في هذا العصر محمد عزة دروزة فقد جهد نفسه-مع الأسف-على الدفاع عن منكرات الأمويين و تبرير ما أثر عنهم من الظلم و الجور و الفساد،و قد دافع عن معاوية و نزّهه عما اقترفه من الموبقات التي هي لطخة عار في تأريخ الإنسانية...و قد علّق على هذه البادرة بقوله:«نحن ننزّه معاوية صاحب رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و كاتب وحيه،و الذي أثرت عنه مخافة الله و تقواه و حرصه،عن أن يرضى من ابنه الشذوذ عن هذه الحدود بل التشجيع بل نستبعد هذا عن يزيد»و هذا مما يدعو إلى السخرية و التفكه،فقد تنكر دروزة للواضحات

ص: 60

التي لا يشك فيها أي إنسان يملك عقله و اختياره،و قديما قد قيل:

و ليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

إن ما أثر عن معاوية من الأحداث الجسام كقتله حجر بن عدي،و رشيد الهجري و عمرو بن الحمق الخزاعي و نظرائهم من المؤمنين،و سبه للعترة الطاهرة، و نكايته بالأمة بفرض يزيد خليفة عليها و غير ذلك من الجرائم التي ألمحنا إلى بعضها في البحوث السابقة و هي مما تدل على تشويه إسلامه و انحرافه عن الطريق القويم،و لكن دروزة و أمثاله لا ينظرون إلى الواقع إلا بمنظار أسود فراحوا يقدّسون الأمويين الذين أثبتوا بتصرفاتهم السياسية و الإدارية أنهم خصوم الإسلام و أعداؤه.

إقرار معاوية لاستهتار يزيد

و هام معاوية بحب ولده يزيد فأقرّه على فسقه و فجوره،و لم يردعه عنه و يقول المؤرخون:إنه نقل له أن ولده على الشراب فأتاه يتجسس عليه فسمعه ينشد:

أقول لصحب ضمت الكأس شملهم و داعي صبابات الهوى يترنم

خذوا بنصيب من نعيم و لذة فكل و إن طال المدى يتصرم

و لا تتركوا يوم السرور إلى غد فإن غدا يأتي بما ليس يعلم

ألا أن أهنأ العيش ما سمحت به صروف الليالي و الحوادث نوم

فعاد معاوية إلى مكانه و لم يعلمه بنفسه،و راح يقول:

و الله لا كنت عليه،و لا نغصت عليه عيشه

ص: 61

حقد يزيد على النبي صلّى اللّه عليه و آله

و أترعت نفس يزيد بالحقد على النبي صلّى اللّه عليه و آله و البغض له،لأنه وتره بأسرته يوم بدر،و لما أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلانا مسرورا يهز أعطافه فقد استوفى ثأره من النبي صلّى اللّه عليه و آله و تمنى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم و جعل يترنم بأبيات ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من أشياخهم و عدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

لست من خندف إن لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل

بغض يزيد للأنصار

و كان يزيد يبغض الأنصار بغضا عارما لأنهم ناصروا النبي صلّى اللّه عليه و اله و قاتلوا قريشا،و حصدوا رؤوس أعلامهم،كما كانوا يبغضون بني أمية فقد قتل عثمان بين ظهرانيهم و لم يدافعوا عنه،ثم بايعوا عليا،و ذهبوا معه إلى صفين لحرب معاوية،و لما استشهد الإمام كانوا من أهم العناصر المعادية لمعاوية،و كان يزيد يتميز من الغيظ عليهم و طلب من كعب بن جعيل التغلبي أن يهجوهم فامتنع و قال له:

«أردتني إلى الإشراك بعد الإيمان،لا أهجو قوما نصروا رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لكن أدلك

ص: 62

على غلام منا نصراني كأن لسانه لسان ثور-يعني الأخطل-».

فدعا يزيد الأخطل،و طلب منه هجاء الأنصار فأجابه إلى ذلك،و هجاهم بهذه الأبيات المقذعة:

لعن الإله من اليهود عصابة ما بين صليصل و بين صرار

قوم إذا هدر القصير رأيتهم حمرا عيونهم من المسطار

خلوا المكارم لستم من أهلها و خذوا مساحيكم بني النجار

إن الفوارس يعلمون ظهوركم أولاد كل مقبح أكار

ذهبت قريش بالمكارم كلها و اللؤم تحت عمائم الأنصار

لقد ابتدأ الأخطل هجاءه للأنصار بذم اليهود و قرن بينهم و بين الأنصار لأنهم يساكنونهم في يثرب،و قد عاب على الأنصار بأنهم أهل زرع و فلاحة و أنهم ليسوا أهل مجد و لا مكارم و اتهمهم بالجبن عند اللقاء،و نسب الشرف و المجد إلى القرشيين و اللؤم كله تحت عمائم الأنصار،و قد أثار هذا الهجاء المر حفيظة النعمان بن بشير الذي هو أحد عملاء الأمويين،فانبرى غضبانا إلى معاوية فلما مثل عنده حسر عمامته عن رأسه و قال:

«يا معاوية أترى لؤما؟».

«لا بل أرى خيرا و كرما،فما ذاك؟!!»

زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائمنا!!»

و اندفع النعمان يستجلب عطف معاوية قائلا:

معاوي ألا تعطنا الحق تعترف لحق الأزد مسدولا عليها العمائم

أيشتمنا عبد الأراقم ضلة فما ذا الذي تجدي عليك الأراقم

فمالي ثأر دون قطع لسانه فدونك من ترضيه عنه الدراهم

قال معاوية:

ص: 63

-ما حاجتك؟

-لسانه.

-ذلك لك.

و بلغ الخبر الأخطل فأسرع إلى يزيد مستجيرا به و قال له:هذا الذي كنت أخافه فطمأنه يزيد و ذهب إلى أبيه،فأخبره بأنه قد أجاره،فقال معاوية:لا سبيل إلى ذمة أبي خالد-يعني يزيدا-فعفا عنه،و جعل الأخطل يفخر برعاية يزيد له،و يشمت بالنعمان بقوله:

أبا خالد دافعت عني عظيمة و أدركت لحمي قبل أن يتبددا

و أطفأت عني نار نعمان بعد ما أغد لأمر عاجز و تجردا

و لما رأى النعمان دوني ابن حرة طوى الكشح إذ لم يستطعني و عردا

هذه بعض نزعات يزيد و اتجاهاته،و قد كشفت عن مسخه و تمرسه في الجريمة و تجرده من كل خلق قويم...و إن من مهازل الزمن و عثرات الأيام أن يكون هذا الخليع حاكما على المسلمين و إماما لهم.

دعوة المغيرة لبيعة يزيد

و أول من تصدى لهذه البيعة المشؤومة أعور ثقيف المغيرة بن شعبة صاحب الأحداث و الموبقات في الإسلام و قد وصفه بركلمان بأنه رجل إنتهازي لا ذمة له و لا ذمام و هو أحد دهاة العرب الخمسة و قد قضى حياته في التآمر على الأمة، و السعي وراء مصالحه الخاصة.

أما السبب في دعوته لبيعة يزيد-فيما يرويه المؤرخون-فهو أن معاوية أراد عزله من الكوفة ليولّي عليها سعيد بن العاص فلما بلغه ذلك سافر إلى دمشق ليقدم

ص: 64

استقالته من منصبه حتى لا تكون حزازة عليه في عزله،و أطال التفكير في أمره فرأى أن خير وسيلة لإقراره في منصبه أن يجتمع بيزيد فيحبذ له الخلافة حتى يتوسط في شأنه إلى أبيه و التقى الماكر بيزيد فأبدى له الإكبار،و أظهر له الحب، و قال له:

قد ذهب أعيان محمد صلّى اللّه عليه و اله و كبراء قريش و ذوو أسنانهم،و إنما بقي أبناؤهم، و أنت من أفضلهم و أحسنهم رأيا،و أعلمهم بالسنّة و السياسة،و لا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟..».

و غزت هذه الكلمات قلب يزيد فشكره و أثنى على عواطفه،و قال له:

-أترى ذلك يتم؟

-نعم.

و انطلق يزيد مسرعا إلى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة،فسر معاوية بذلك و أرسل خلفه،فلما مثل عنده أخذ يحفزه على المبادرة في أخذ البيعة ليزيد قائلا:

«يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء و الاختلاف بعد عثمان و في يزيد منك خلف فاعقد له،فإن حدث بك حدث كان كهفا للناس،و خلفا منك،و لا تسفك دماء،و لا تكون فتنة».

و أصابت هذه الكلمات الوتر الحساس في قلب معاوية فراح يخادعه مستشيرا في الأمر قائلا:

-من لي بهذا؟

-أكفيك أهل الكوفة،و يكفيك زياد أهل البصرة،و ليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.

و استحسن معاوية رأيه فشكره عليه و أقره على منصبه و أمره بالمبادرة إلى الكوفة لتحقيق غايته،و لما خرج من عند معاوية قال لحاشيته:

ص: 65

لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد صلّى اللّه عليه و اله و فتقت عليه فتقا لا يرتق ثم تمثل بقول الشاعر:

بمثلي شاهد النجوى و غالى بي الأعداء و الخصم الغضابا

ففي سبيل المغنم فتق المغيرة على أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله فتقا لا يرتق،و أخلد لها الكوارث و الخطوب.

و سار المغيرة إلى الكوفة،و هو يحمل الشر و الدمار لأهلها و لعموم المسلمين، وفور وصوله عقد اجتماعا ضم عملاء الأمويين فعرض عليهم بيعة يزيد فأجابوه إلى ذلك،و أوفد جماعة منهم إلى دمشق و جعل عليهم ولده أبا موسى،فلما انتهوا إلى معاوية حفّزوه على عقد البيعة ليزيد،فشكرهم على ذلك و أوصاهم بالكتمان، و التفت إلى ابن المغيرة فقال له:

-بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟

-بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية و قال ساخرا:

-لقد هان عليهم دينهم.

ثم أوصلهم بثلاثين ألف درهم لقد استجاب لهذه البيعة و رضي بها كل من يحمل ضميرا قلقا عرضه للبيع و الشراء.

ص: 66

تبرير معاوية

اشارة

و دافع جماعة من المؤلفين و الكتاب عن معاوية و برروا بيعته ليزيد التي كانت من أفجع النكبات التي مني بها العالم الإسلامي،و فيما يلي بعضهم:

-1-أحمد دحلان

و من أصلب المدافعين عن معاوية أحمد دحلان قال:«فلما نظر معاوية إلى قوة شوكتهم-يعني الأمويين-و استحكام عصبيتهم حتى أنهم لو خرجت الخلافة عنهم بعده يحدثون فتنة و يقع افتراق للأمة فأراد اجتماع الكلمة بجعل الأمر فيهم، ثم إنه نظر فيمن كان منهم أقوى شوكة فرآه ابنه يزيد لأنه كان كبيرا،و باشر إمارة الجيوش في حياة أبيه و صارت له هيبة عند الأمراء،و له تمكن،و نفاذ كلمة فلو جعل الأمر لغيره منهم كان ذلك سببا لمنازعته لا سيما و له تمكن و اقتدار على الاستيلاء على ما في بيت المال من الأموال فيقع الإفتراق و الإختلاف لو جعل الأمر لغيره، فرأى أن جعل الأمر له بهذا الإجتهاد يكون سببا للألفة،و عدم الإفتراق و هذا هو السبب في جعله ولي عهده،و لم يعلم ما يبديه الله بعد ذلك..».

حفنة من التراب على أمثال هؤلاء الذين دفعتهم العصبية الآثمة إلى تبرير المنكر و توجيه الباطل،فهل أن أمر الخلافة التي هي ظل الله في الأرض يعود إلى الأمويين حتى يرعى معاوية عواطفهم و رغباتهم و هم الذين ناهضوا نبي الإسلام،و ناجزوه

ص: 67

الحرب،و عذّبوا كل من دخل في دين الإسلام فكيف يكون أمر الخلافة بأيديهم و لو كان هناك منطق و وعي ديني لكانوا في ذيل القافلة و لا يحسب لهم أي حساب.

-2-الدكتور عبد المنعم:

و من المبررين لمعاوية في بيعته ليزيد الدكتور عبد المنعم ماجد قال:«و يبدو أن معاوية قصد من وراء توريث يزيد الخلافة القضاء على افتراق كلمة الأمة الإسلامية،و وقوع الفتنة مثلما حدث بعد عثمان،و لعله أيضا أراد أن يوجد حلا للمسألة التي تركها النبي صلّى اللّه عليه و اله دون حل و هي إيجاد سلطة دائمة للإسلام و من المحقق أن معاوية لم يكن له مندوحة من أن يفعل ذلك خوفا من غضب بني أمية الذين لم يكونوا يرضون بتسليم الأمر إلى سواهم..«و هذا الرأي لا يحمل أي طابع من التوازن فإن معاوية في بيعته ليزيد لم يجمع كلمة المسلمين و إنما فرّقها و أخلد لهم الشر و الخطوب فقد عانت الأمة-في عهد يزيد-من ضروب البلاء و المحن ما لا يوصف لفظاعته و مرارته،فقد جهد حفيد أبي سفيان على تدمير الإسلام،و سحق جميع مقدساته و قيمه،فأباد العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم حسب النصوص النبوية المتواترة و أنزل بأهل المدينة في واقعة الحرة من الجرائم ما تندى له جبين الإنسانية،فهل جمع بذلك معاوية كلمة المسلمين و وحّد صفوفهم و مما يدعو إلى السخرية ما ذهب إليه من أن النبي صلّى اللّه عليه و اله ترك مسألة الخلافة بغير حل فجاء معاوية فحل هذه العقدة،ببيعته ليزيد!!إن النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يترك أي شأن من شؤون أمته بغير حل و إنما وضع لها الحلول الحاسمة،و كان أهم ما عنى به شأن الخلافة فقد عهد بها إلى أفضل أمته و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و قد بايعه كبار الصحابة و عموم من كان معه في يوم الغدير،و لكن القوم كرهوا اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد فزووا الخلافة عن أهل بيت نبيهم فأدى ذلك

ص: 68

أن يلي أمر المسلمين يزيد و أمثاله من المنحرفين الذين أثبتوا في تصرفاتهم أنهم لا علاقة لهم بالإسلام،و لا عهد لهم بالدين.

-3-حسين محمد يوسف:

و من المدافعين-بحرارة-عن معاوية في ولايته ليزيد حسين محمد يوسف و قد أطال الكلام-بغير حجة-في ذلك،قال في آخر حديثه:«و خلاصة القول في موقف معاوية أنه كان مجتهدا في رأيه،و أنه حين دعا الأمة إلى بيعة يزيد،كان حسن الظن به لأنه لم يثبت عنده أي نقص فيه،بل كان يزيد يدس على أبيه من يحسّن له حاله،حتى اعتقد أنه أولى من أبناء بقية الصحابة كلهم فإن كان معاوية قد أصاب في اختياره فله أجران،و إن كان قد أخطأ فله أجر واحد،و ليس لأحد بعد ذلك أن يخوض فيما وراء ذلك فإنما الأعمال بالنيات و لكل امرىء ما نوى».

إن من المؤسف-حقا-أن ينبري هؤلاء لتبرير معاوية في اقترافه لهذه الجريمة النكراء التي أغرقت العالم الإسلامي بالفتن و الخطوب..و متى اجتهد معاوية في فرض ابنه خليفة على المسلمين؟فقد سلك في سبيل ذلك جميع المنعطفات و الطرق الملتوية،فأرغم عليها المسلمين،و فرضها عليهم تحت غطاء مكثف من قوة الحديد...إن معاوية لم يجتهد في ذلك،و إنما استجاب لعواطفه المترعة بالحنان و الولاء لولده من دون أن يرعى أي مصلحة للأمة في ذلك.

هؤلاء بعض المؤيدين لمعاوية في عقده البيعة ليزيد،و هم مدفوعون بدافع غريب على الإسلام،و بعيد كل البعد عن منطق الحق.

كلمة الحسن البصري

و شجب الحسن البصري بيعة يزيد،و جعلها من جملة موبقات معاوية قال:

ص: 69

«أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة:انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم،و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة،و استخلاف ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير، و يضرب بالطنابير،و ادعاؤه زيادا،و قد قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله:الولد للفراش و للعاهر الحجر،و قتله حجرا و أصحابه ويل له من حجر و أصحابه..».

كلمة ابن رشد

و يرى الفيلسوف الكبير ابن رشد أن بيعة معاوية ليزيد قد غيّرت مجرى الحياة الإسلامية و هدمت الحكم الصالح في الإسلام،قال:«إن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم في (جمهوريته)الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أن تكون مثالا لجميع الحكومات،و لكن معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم،و أقام مكانه دولة بني أمية و سلطانها الشديد ففتح بذلك بابا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة حتى في بلادنا هذه-يعني الأندلس-».

لقد نقم على معاوية في بيعة يزيد جميع أعلام الفكر و قادة الرأي في الأمة الإسلامية منذ عهد معاوية حتى يوم الناس هذا،و وصفوها بأنها اعتداء صارخ على الأمة و خروج على إرادتها.

دوافع معاوية

أما الدوافع التي دعت معاوية لفرض ابنه السكير خليفة على المسلمين فكان من أبرزها الحب العارم لولده،فقد هام بحبه،و قد أدلى بذلك في حديثه مع سعيد بن

ص: 70

عثمان حينما طلب منه أن يرشحه للخلافة،و يدع ابنه يزيد،فسخر منه معاوية و قال له:

«و الله«لو ملئت لي الغوطة رجالا مثلك لكان يزيد أحب إلي منكم كلكم..».

لقد أعماه حبه لولده،و أضله عن الحق،و قد قال:

«لو لا هواي في يزيد لأبصرت رشدي..».

و كان يؤمن بأن استخلافه ليزيد من أعظم ما اقترفه من الذنوب،و قد صارح ولده بذلك فقال له:

«ما ألقى الله بشيء أعظم في نفسي من استخلافي إياك».

لقد اقترف معاوية وزرا عظيما فيما جناه على الأمة بتحويل الخلافة إلى ملك عضوض لا يعنى فيه بإرادة الأمة و اختيارها.

الوسائل الدبلوماسية في أخذ البيعة

اشارة

أما الوسائل الدبلوماسية التي اعتمد عليها معاوية في فرض خليعه على المسلمين فهي:

-1-استخدام الشعراء

أما الشعراء فكانوا في ذلك العصر-من أقوى أجهزة الأعلام و قد أجزل لهم معاوية العطاء،و أغدق عليهم الأموال فانطلقت ألسنتهم بالمديح و الثناء على يزيد فأضافوا إليه الصفات الرفيعة،و خلعوا عليه النعوت الحسنة،و فيما يلي بعضهم:

العجاج:

ص: 71

و مدحه العجاج مدحا عاطرا فقال فيه:

إذا زلزل الأقوام لم تزلزل عن دين موسى و الرسول المرسل

و كنت سيف الله لم يفلل يفرع أحيانا و حينا يختلي

و معنى هذا الشعر أن يزيد يقتفي أثر الرسول موسى و النبي محمد صلّى اللّه عليه و اله و أنه سيف الله البتار إلا أنه كان مشهورا على أولياء الله و أحبائه.

الأحوس:

و مدحه الشاعر الأحوس بقصيدة جاء فيها:

ملك تدين له الملوك مبارك كادت لهيبته الجبال تزول

يجبى له بلخ و دجلة كلها و له الفرات و ما سقى و النيل

لقد جاءته تلك الهيبة التي تخضع لها الجباه،و تزول منها الجبال من إدمانه على الخمر و مزاملته للقرود،و لعبه بالكلاب و اقترافه للجرائم و الموبقات.

مسكين الدارمي:

و من الشعراء المرتزقة مسكين الدارمي،و قد أوعز إليه معاوية أن يحثه على بيعة يزيد أمام من كان عنده من بني أمية و أشراف أهل الشام،فدخل مسكين على معاوية فلما رأى مجلسه حاشدا بالناس رفع عقيرته:

إن أدع مسكينا فإني ابن معشر من الناس أحمي عنهم و أذود

ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر و مروان أم ماذا يقول سعيد

بني خلفاء الله مهلا فإنما يبوئها الرحمن حيث يريد

إذا المنبر الغربي خلاه ربه فإن أمير المؤمنين يزيد

على الطائر الميمون و الجد ساعد لكل أناس طائر و جدود

فلا زلت أعلى الناس كعبا و لم تزل وفود تساميها إليك وفود

و لا زال بيت الملك فوقك عاليا تشيد أطناب له و عمود

ص: 72

هؤلاء بعض الشعراء الذين مدحوا يزيد،و افتعلوا له المآثر لتغطية ما ذاع عنه من الدعارة و المجون.

بذل الأموال للوجوه

و أنفق معاوية الأموال الطائلة بسخاء للوجوه و الأشراف ليقروه على فرض ولده السكير خليفة على المسلمين،و يقول المؤرخون:إنه أعطى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها منه و كان ابن عمر من أصلب المدافعين عن بيعة يزيد و قد نقم على الإمام الحسين عليه السّلام خروجه عليه،و سنذكر ذلك بمزيد من التفصيل في البحوث الآتية.

مراسلة الولاة

و راسل معاوية جميع عماله و ولاته في الأقاليم الإسلامية بعزمه على عقد البيعة ليزيد،و أمرهم بتنفيذ مايلي:

-1-إذاعة ذلك بين الجماهير الشعبية،و إعلامها بما صممت عليه حكومة دمشق من عقد الخلافة ليزيد.

-2-الإيعاز للخطباء و سائر أجهزة الإعلام بالثناء على يزيد،و افتعال المآثر له.

-3-إرسال الوفود إليه من الشخصيات الإسلامية حتى يتعرف على رأيها في البيعة ليزيد و قام الولاة بتنفيذ ما عهد إليهم،فأذاعوا ما صمم عليه معاوية من عقد البيعة ليزيد،كما أوعز للخطباء و غيرهم بالثناء على يزيد.

ص: 73

وفود الأقطار الإسلامية:

و اتصلت الحكومات المحلية في الأقطار الإسلامية بقادة الفكر فعرضت عليهم ما عزم عليه معاوية من تولية ولده للخلافة،و طلبوا منهم السفر فورا إلى دمشق لعرض آرائهم على معاوية،و سافرت الوفود إلى دمشق و كان في طليعتهم.

-1-الوفد العراقي بقيادة زعيم العراق الأحنف بن قيس.

-2-الوفد المدني بقيادة محمد بن عمرو بن حزم.

و انتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عامل الشام،و قد قام معاوية بضيافتهم و الإحسان إليهم.

مؤتمر الوفود الإسلامية:

و عقدت وفود الأقطار الإسلامية مؤتمرا في البلاط الأموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد،و قد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام،و لزوم طاعة ولاة الأمور،ثم ذكر يزيد و فضله،و علمه بالسياسة و دعاهم لبيعته.

المؤيدون للبيعة:

و انبرت كوكبة من أقطاب الحزب الأموي فأيدوا معاوية و حثوه على الإسراع للبيعة و هم:

-1-الضحاك بن قيس.

ص: 74

-2-عبد الرحمن بن عثمان.

-3-ثور بن معن السلمي.

-4-عبد الله بن عصام.

-5-عبد الله بن مسعدة.

و كان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده،و الرد على المعارضين له.

خطاب الأحنف بن قيس

و انبرى إلى الخطابة زعيم العراق و سيد تميم الأحنف بن قيس الذي تقول فيه ميسون أم يزيد:«لو لم يكن في العراق إلا هذا لكفاهم»و تقدم فحمد الله و أثنى عليه ثم التفت إلى معاوية قائلا:

«أصلح الله أمير المؤمنين إن الناس في منكر زمان قد سلف،و معروف زمان مؤتنف،و يزيد بن أمير المؤمنين نعم الخلف،و قد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من بعدك،ثم أعص أمر من يأمرك، و لا يغررك من يشير عليك،و لا ينظر لك،و أنت أنظر للجماعة،و أعلم باستقامة الطاعة مع أن أهل الحجاز و أهل العراق لا يرضون بهذا،و لا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا..».

و أثار خطاب الأحنف موجة من الغضب و الإستياء عند الحزب الأموي فاندفع الضحاك بن قيس منددا به،و شتم أهل العراق،و قدح بالإمام الحسن،و دعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية و الامتثال لما دعا إليه،و لم يعن به الأحنف فقام ثانيا فنصح معاوية و دعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه من تسليم الأمر إلى الحسن من بعده حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة من

ص: 75

بعده إلى الإمام الحسن كما أنه هدد معاوية بإعلان الحرب إذا لم يف بذلك:

فشل المؤتمر

و فشل المؤتمر فشلا ذريعا بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس،و وقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود و أعضاء الحزب الأموي،و انبرى يزيد بن المقفع فهدد المعارضين باستعمال القوة قائلا:

«أمير المؤمنين هذا-و أشار إلى معاوية-فإن هلك فهذا-و أشار إلى يزيد-و من أبى فهذا-و أشار إلى السيف-».

فاستحسن معاوية قوله و راح يقول له:

«اجلس فأنت سيد الخطباء و أكرمهم».

و لم يعن به الأحنف بن قيس فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد،و أن لا يقدم أحدا على الحسن و الحسين،و أعرض عنه معاوية،و بقي مصرا على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

و على أي حال فإن المؤتمر لم يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية فقد استبان له أن بعض الوفود الإسلامية لا تقره على هذه البيعة و لا ترضى بها.

سفر معاوية ليثرب

و قرر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محط أنظار المسلمين،و فيها أبناء الصحابة الذين يمثلون الجبهة المعارضة للبيعة،فقد كانوا لا يرون يزيدا ندا لهم، و إن أخذ البيعة له خروج على إرادة الأمة،و انحراف عن الشريعة الإسلامية التي لا

ص: 76

تبيح ليزيد أن يتولى شؤون المسلمين لما عرف به من الإستهتار و تفسخ الأخلاق.

و سافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية،و تحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض لا ظل فيه للحق و العدل.

اجتماع مغلق

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس،و عبد الله بن جعفر،و عبد الله بن الزبير،و عبد الله بن عمر،و عقد معهم اجتماعا مغلقا،و لم يحضر معهم الحسن و الحسين لأنه قد عاهد الحسن أن تكون الخلافة له من بعده فكيف يجتمع به،و ماذا يقول له؟و قد أمر حاجبه أن لا يسمح لأي أحد بالدخول عليه حتى ينتهي حديثه معهم.

كلمة معاوية:

و ابتدأ معاوية الحديث بحمد الله و الثناء عليه،و صلّى على نبيه ثم قال:

«أما بعد؛فقد كبر سني،و وهن عظمي،و قرب أجلي،و أوشكت أن أدعى فأجيب؟ و قد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد،و رأيته لكم رضى و أنتم عبادلة قريش، و خيارهم،و أبناء خيارهم،و لم يمنعني أن أحضر حسنا و حسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي،على حسن رأي فيهما و شدة محبتي لهما فردّوا على أمير المؤمنين خيرا رحمكم الله..».

و لم يستعمل معهم الشدة و الإرهاب استجلابا لعواطفهم و لم يخف عليهم ذلك، فانبروا جميعا إلى الإنكار عليه.

ص: 77

كلمة عبد الله بن عباس:

و أول من كلّمه عبد الله بن عباس فقال بعد حمد الله و الثناء عليه:

«أما بعد:فإنك قد تكلمت فأنصتنا و قلت فسمعنا،و إن الله جل ثناؤه و تقدّست أسماؤه إختار محمدا صلّى اللّه عليه و اله لرسالته،و اختاره لوحيه و شرّفه على خلقه فأشرف الناس من تشرّف به،و أولاهم بالأمر أخصهم به،و إنما على الأمة التسليم لنبيها إذا اختاره الله لها،فإنه إنما اختار محمدا بعلمه،و هو العليم الخبير،و أستغفر الله لي و لكم..».

و كانت دعوة ابن عباس صريحة في إرجاع الخلافة لأهل البيت عليهم السّلام الذين هم ألصق الناس برسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أمسّهم به رحما،فإن الخلافة إنما هي امتداد لمركز رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فأهل بيته أحق بمقامه و أولى بمكانته.

كلمة عبد الله بن جعفر:

و انبرى عبد الله بن جعفر فقال بعد حمد الله و الثناء عليه:

«أما بعد:فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله،و إن أخذ فيها بسنة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فأولو رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و إن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر و عمر فأي الناس أفضل و أكمل و أحق بهذا الأمر من آل الرسول صلّى اللّه عليه و اله؟و أيم الله لو ولّوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه و صدقه،و لأطيع الرحمن،و عصي الشيطان،و ما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية فإنك قد صرت راعيا و نحن رعية فانظر لرعيتك فإنك مسؤول

ص: 78

عنها غدا،و أما ما ذكرت من ابني عمي،و تركك أن تحضرهما،فو الله ما أصبت الحق،و لا يجوز ذلك إلا بهما،و إنك لتعلم أنهما معدن العلم و الكرم فقل أودع، و أستغفر الله لي و لكم..».

و حفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحق و الإخلاص للأمة فقد رشح أهل البيت عليهم السّلام للخلافة و قيادة الأمة،و حذّره من صرفها عنهم كما فعل غيره من الخلفاء فكان من جراء ذلك أن منيت الأمة بالأزمات و النكسات و عانت أعنف المشاكل و أقسى الحوادث.

كلمة عبد الله بن الزبير:

و انطلق عبد الله بن الزبير للخطابة فحمد الله و أثنى عليه و قال:

«أما بعد:فإن هذه الخلافة لقريش خاصة تتناولها بمآثرها السنية و أفعالها المرضية،مع شرف الآباء و كرم الأبناء،فاتق الله يا معاوية و أنصف نفسك فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و هذا عبد الله بن جعفر ذو الجناحين ابن عم رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و علي خلّف حسنا و حسينا و أنت تعلم من هما و ما هما؟فاتق الله يا معاوية،و أنت الحاكم بيننا و بين نفسك..».

و قد رشّح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة،و قد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية و إفساد مهمته.

كلمة عبد الله بن عمر:

و اندفع عبد الله بن عمر فقال بعد حمد الله و الصلاة على نبيه:

ص: 79

«أما بعد،فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية،و لا قيصرية،و لا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء،و لو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي فو الله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى،إلا على أن الخلافة ليست شرطا مشروطا و إنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى و أرضى،فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري أن يزيد من فتيانها،و اعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا..».

و لم تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي،و إنما عبّرت تعبيرا صادقا عن رأي الأغلبية الساحقة من المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد،و لم يرضوا بها.

كلمة معاوية:

و ثقل على معاوية كلامهم،و لم يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم، فراح يشيد بابنه فقال:

«قد قلت و قلتم و إنه قد ذهبت الآباء،و بقيت الأبناء فابني أحب إلي من أبنائهم،مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا..و إنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله فلما مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر و عمر من غير معدن الملك و الخلافة غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة،و قد أخرجك الله يابن الزبير،و أنت يابن عمر منها،فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله..».

و انتهى اجتماع معاوية بالعبادلة،و قد أخفق فيه إخفاقا ذريعا،فقد استبان له أن القوم مصممون على رفض بيعة يزيد..و على أثر ذلك غادر يثرب،و لم تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فقد أهملت ذلك و أكبر الظن

ص: 80

أنه لم يجتمع بهما.

فزع المسلمين:

و ذعر المسلمون حينما و افتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم،و كان من أشد المسلمين خوفا المدنيون و الكوفيون،فقد عرفوا واقع يزيد، و وقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام،يقول توماس آرنولد:«كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألفوا البيعة و الشورى،و النظم الأولى في الإسلام و هم بعد قريبون منها و لهذا أحسوا-و خاصة في مكة و المدينة حيث كانوا يتمسكون بالأحاديث و السنن النبوية الأولى-أن الأمويين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية مطبوع بالعظمة و حب الذات بدلا من أن يحتفظوا بتقوى النبي و بساطته».

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكما على المسلمين تحولا خطيرا في حياة المسلمين الذين لم يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فرض عليهم بقوة السلاح.

ص: 81

الجبهة المعارضة

اشارة

و أعلن الأحرار و المصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد، و لم يرضوا به حاكما على المسلمين،و فيما يلي بعضهم:

1-الإمام الحسين:
اشارة

و في طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحسين فقد كان يحتقر يزيد،و يكره طباعه الذميمة،و وصفه بأنه صاحب شراب و قنص،و أنه قد لزم طاعة الشيطان، و ترك طاعة الرحمن،و أظهر الفساد و عطل الحدود و استأثر بالفيء،و أحلّ حرام الله و حرّم حلاله و إذا كان بهذه الضعة فكيف يبايعه و يقرّه حاكما على المسلمين، و لما دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام:«أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة،و مختلف الملائكة بنا فتح الله،و بنا يختم،و يزيد رجل فاسق،شارب الخمر،و قاتل النفس المحترمة،معلن بالفسق،و مثلي لا يبايع مثله».

و رفض بيعة يزيد جميع أفراد الأسرة النبوية تبعا لزعيمهم العظيم،و لم يشذوا عنه.

الحرمان الاقتصادي:

و قابل معاوية الأسرة النبوية بحرمان اقتصادي عقوبة لهم لا متناعهم عن بيعة

ص: 82

يزيد،فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة و لكن ذلك لم يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة و رفضها.

2-عبد الرحمن بن أبي بكر:

و من الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر،فقد وسمها بأنها هرقلية كلما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر و أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى و قال:لا أبيع ديني.

-3-عبد الله بن الزبير:

و رفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد،و وصفه بقوله:«يزيد الفجور،و يزيد القرود،و يزيد الكلاب،و يزيد النشوات،و يزيد الفلوات»و لما أجبرته السلطة المحلية في يثرب على البيعة فرّ منها،إلى مكة.

-4-المنذر بن الزبير:

و كره المنذر بن الزبير بيعة يزيد،و شجبها،و أدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة فقال:«إنه قد أجازني بمائة ألف،و لا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره و الله إنه ليشرب الخمر،و الله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة».

-5-عبد الرحمن بن سعيد:

و امتنع عبد الرحمن بن سعيد من البيعة ليزيد،و قال في هجائه:

لست منا و ليس خالك منا يا مضيع الصلاة للشهوات

ص: 83

-6-عابس بن سعيد:

و رفض عابس بن سعيد بيعة يزيد،حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص،فقال له:«أنا أعرف به منك،و قد بعت دينك بدنياك».

-7-عبد الله بن حنظلة:

و كان عبد الله بن حنظلة من أشد الناقمين على البيعة ليزيد،و كان من الخارجين عليه في وقعة الحرة،و قد خاطب أهل المدينة فقال لهم:«فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء..إن رجلا ينكح الأمهات و البنات،و يشرب الخمر،و يدع الصلاة و الله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءا حسنا..»و كان يرتجز في تلك الواقعة:

بعدا لمن رام الفساد و طغى و جانب الحق و آيات الهدى

لا يبعد الرحمن إلا من عصى

ص: 84

موقف الأسرة الأموية:

اشارة

و نقمت الأسرة الأموية على معاوية في عقده البيعة ليزيد،و لكن لم تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي،و إنما كانت من أجل مصالحهم الشخصية الخاصة،لأن معاوية قلّد ابنه الخلافة و حرمهم منها،و فيما يلي بعض الناقمين:

-1-سعيد بن عثمان

و حينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية و قد رفع عقيرته قائلا:

«علام جعلت ولدك يزيد ولي عهدك فو الله لأبي خير من أبيه،و أمي خير من أمه، و أنا خير منه،و قد وليناك فما عزلناك،و بنا نلت ما نلت..».

فرواغ معاوية و قال له:

«أما قولك إن أباك خير من أبيه فقد صدقت،لعمر الله إن عثمان لخير مني،و أما قولك إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها و ان يرضاها بعلها،و ينجب ولدها،و أما قولك إنك خير من يزيد،فو الله ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة ذهبا مثلك و أما قولك إنكم وليتموني فما عزلتموني فما وليتموني إنما و لاني من هو خير منكم عمر بن الخطاب فأقررتموني،و ما كنت بئس الوالي لكم، لقد قمت بثأركم،و قتلت قتلة أبيكم،و جعلت الأمر فيكم و أغنيت فقيركم،و رفعت الوضيع منكم..».

و كلّمه يزيد فأرضاه،و جعله واليا على خراسان.

ص: 85

-2-مروان بن الحكم

و شجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد،و تقديمه عليه فقد كان شيخ الأمويين و زعيمهم،فقال له:

«أقم يا ابن أبي سفيان و اهدأ من تأميرك الصبيان،و اعلم أن لك في قومك نظراء و أن لهم على مناوأتك وزرا».

فخادعه معاوية و قال له:

«أنت نظير أمير المؤمنين بعده،و في كل شدة عضده،فقد وليتك قومك، و أعظمنا في الخراج سهمك،و إنا مجير و وفدك و محسنو رفدك».

و قال مروان لمعاوية:«جئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم».

-3-زياد بن أبيه

و كره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده،و ذلك لما عرف به من الاستهتار و الخلاعة و المجون و يقول المؤرخون:إن معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولاية العهد ليزيد،و أنه ليس أولى من المغيرة بن شعبة،فلما قرأ كتابة دعا برجل من أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحدا غيره فقال له:إني أريد أن أئتمنك على ما لم أئتمن عليه بطون الصحائف إئت معاوية و قل له يا أمير المؤمنين إن كتابك ورد علي بكذا،فما ذا يقول الناس إنا دعوناهم إلى بيعة يزيد،و هو يلعب بالكلاب و القرود،و يلبس المصبغ،و يد من الشراب،و يمسي على الدفوف،و يحضرهم-أي الناس-الحسين بن علي،و عبد الله بن عباس،و عبد الله بن الزبير،و عبد الله بن عمر،و لكن تأمره أن يتخلق بأخلاق هؤلاء حولا أو حولين،فعسانا أن نموه على الناس،و سار الرسول إلى معاوية فأدى إليه رسالة زياد فاستشاط غضبا،و راح

ص: 86

يتهدده و يقول:

«و يلي على ابن عبيد لقد بلغني أن الحادي حداله أن الأمير بعدي زياد،و الله لأردّنه إلى أمه سمية و إلى أبيه عبيد.».

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية من الأسرة الأموية و غيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاع الخلاف بين الأمويين:

و اتبع معاوية سياسة التفريق بين الأمويين حتى يصفو الأمر لولده يزيد،فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص،و استعمل مكانه مروان بن الحكم،ثم عزل مروان و استعمل سعيدا مكانه،و أمره بهدم داره،و مصادرة أمواله،فأبى سعيد من تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله،و ولّى مكانه مروان،و أمره بمصادرة أموال سعيد و هدم داره فلما همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد و أطلعه على كتاب معاوية في شأنه فامتنع مروان من القيام بما أمره معاوية،و كتب سعيد إلى معاوية رسالة يندد فيها بعمله و قد جاء فيها:

«العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له أن يضغن بعضنا على بعض...

فأمير المؤمنين في حمله و صبره على ما يكره من الأخبثين،و عفوه و إدخاله القطيعة بنا،و الشحناء و توارث الأولاد ذلك».

و علّق عمر أبو النصر على سياسة التفريق التي اتبعها معاوية مع أسرته بقوله:

«إن سبب هذه السياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد من بعده فكان يضرب بعضهم ببعض حتى يظلوا بحاجة إلى عطفه و عنايته..».

ص: 87

تجميد البيعة:

و جمّد معاوية رسميا البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتى يتم له إزالة الحواجز و السدود التي تعترض طريقه،و يقول المؤرخون:إنه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب و اطلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه أوقف كل نشاط سياسي في ذلك و أرجأ العمل إلى وقت آخر.

اغتيال الشخصيات الإسلامية:

اشارة

و رأى معاوية أنه لا يمكن بأي حال تحقيق ما يصبو إليه من تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتع باحترام بالغ في نفوس المسلمين فعزم على القيام باغتيالهم ليصفو له الجو فلا يبقى أمامه أي مزاحم و قد قام باغتيال الذوات التالية:

-1-سعد بن أبي وقاص

و لسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين من المسلمين فهو أحد أعضاء الشورى و فاتح العراق،و قد ثقل مركزه على معاوية فدس إليه سما فمات منه.

-2-عبد الرحمن بن خالد

و أخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد و أحبوه كثيرا و قد شاورهم

ص: 88

معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته،فقالوا له:رضينا بعبد الرحمن بن خالد، فشق ذلك عليه و أسرّها في نفسه،و مرض عبد الرحمن،فأمر معاوية طبيبا يهوديا كان مكينا عنده أن يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله،فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك.

-3-عبد الرحمن بن أبي بكر

و كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده، و قد أنكر عليه ذلك،و بعث إليه معاوية بمائة ألف درهم فردّها عليه،و قال:لا أبيع ديني بدنياي و لم يلبث أن مات فجأة بمكة و تعز المصادر سبب وفاته إلى أن معاوية دس إليه سما فقتله.

-4-الإمام الحسن

و قام معاوية باقتراف أعظم جريمة و إثم في الإسلام،فقد عمد إلى اغتيال سبط النبي صلّى اللّه عليه و اله و ريحانته الإمام الحسن عليه السّلام الذي عاهده بأن يكون الخليفة من بعده...

و لم يتحرج الطاغية من هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة أموية تنتقل بالوراثة إلى أبنائه و أعقابه،و قد وصفه«الميجر أو زبورن»بأنه مخادع و ذا قلب خال من كل شفقة،و أنه كان لا يتهيب من الإقدام على أية جريمة من أجل أن يضمن مركزه فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه و هو الذي دبر تسميم حفيد الرسول صلّى اللّه عليه و اله كما تخلص من مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة.

و قد استعرض الطاغية السفاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النبي صلّى اللّه عليه و اله

ص: 89

فلم ير أحدا خليقا بارتكاب الجريمة سوى جعيدة بنت الأشعث فإنها من بيت قد جبل على المكر و طبع على الغدر و الخيانة،فأرسل إلى مروان بن الحكم سما فاتكا كان قد جلبه من ملك الروم،و أمره بأن يغري جعيدة بالأموال،و زواج ولده يزيد إذا استجابت له،و فاوضها مروان سرا،ففرحت،فأخذت منه السم،و دسته للإمام و كان صائما في وقت ملتهب من شدة الحر،و لما وصل إلى جوفه تقطعت أمعاؤه، و التفت إلى الخبيثة فقال لها:

«قتلتيني قتلك الله،و الله لا تصيبن مني خلفا،لقد غرّك-يعني معاوية-و سخر منك يخزيك الله،و يخزيه..».

و أخذ حفيد الرسول صلّى اللّه عليه و اله يعاني الآلام الموجعة من شدة السم،و قد ذبلت نضارته و اصفر لونه،حتى وافاه الأجل المحتوم،و قد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها من الأحداث في كتابنا(حياة الإمام الحسن) (1).2.

ص: 90


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:158/2.

إعلان البيعة رسميا ليزيد

و صفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ريحانته،فقد قضى على من كان يحذر منه،و قد استتبت له الأمور،و خلت الساحة من أقوى المعارضين له، و كتب إلى جميع عماله أن يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد،و يرغموا المسلمين على قبولها،و أسرع الولاة في أخذ البيعة من الناس،و من تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب:

و امتنعت يثرب من البيعة ليزيد،و أعلن زعماؤها و على رأسهم الإمام الحسين عليه السّلام رفضهم القاطع للبيعة،و رفعت السلطة المحلية ذلك إلى معاوية فرأى أن يسافر إلى يثرب ليتولى بنفسه إقناع المعارضين،فإن أبوا أجبرهم على ذلك، و اتجه معاوية إلى يثرب في موكب رسمي تحوطه قوة هائلة من الجيش،و لما انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم و هددهم و في اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحسين و إلى عبد الله بن عباس،فلما مثلا عنده قابلهما بالتكريم و الحفاوة، و أخذ يسأل الحسين عليه السّلام عن أبناء أخيه و الإمام يجيبه ثم خطب معاوية فأشاد بالنبي صلّى اللّه عليه و اله و أثنى عليه،و عرض إلى بيعة يزيد و منح ابنه الألقاب الفخمة و النعوت الكريمة و دعاهما إلى بيعته.

ص: 91

خطاب الإمام الحسين عليه السلام

و انبرى أبي الضيم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

«أما بعد:يا معاوية فلن يؤدي المادح و إن أطنب في صفة الرسول صلّى اللّه عليه و اله من جميع جزءا،و قد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله صلّى اللّه عليه و اله من إيجاز الصفة،و التنكب عن استبلاغ النعت،و هيهات هيهات يا معاوية!!فضح الصبح فحمة الدجى،و بهرت الشمس أنوار السرج و لقد فضلت حتى أفرطت،و استأثرت حتى أجحفت،و منعت حتى بخلت،و جرت حتى جاوزت،ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب،حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر،و نصيبه الأكمل.

و فهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله،و سياسته لأمة محمد صلّى اللّه عليه و اله تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا،أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص،و قد دلّك يزيد من نفسه على موقع رأيه،فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش و الحمام السبق لأترابهن،و القيان ذوات المعازف،و ضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور،و حنقا في ظلم،حتى ملأت الأسقية،و ما بينك و بين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود،و لات حين مناص، و رأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر،و متعتنا عن آبائنا تراثا،و لعمر الله أورثنا الرسول صلّى اللّه عليه و اله ولادة،و جئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فأذعن للحجة بذلك ورده الإيمان إلى النصف فركبتم الأعاليل،و فعلتم الأفاعيل و قلتم كان و يكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا

ص: 92

أولي الأبصار.

و ذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و تأميره له،و قد كان ذلك و لعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول و بيعته له،و ما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته،و كرهوا تقديمه و عدوا عليه أفعاله،فقال صلّى اللّه عليه و اله:

لا جرم يا معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري،فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام،و أولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟أم كيف صاحبت بصاحب تابعا،و حولك من لا يؤمن في صحبته،و لا يعتمد في دينه و قرابته،و تتخطاهم إلى مسرف مفتون،تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بهذا الباقي في دنياه و تشقى بها في آخرتك،إن هذا لهو الخسران المبين،و أستغفر الله لي و لكم...».

و فنّد الإمام في خطابه جميع شبهات معاوية و سد عليه جميع الطرق و النوافذ، و حمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه من إرغام المسلمين على البيعة لولده، كما عرض للخلافة و ما منيت به من الإنحراف عما أرادها الله من أن تكون في العترة الطاهرة إلا أن القوم زووها عنهم،و حرفوها عن معدنها الأصيل.

و ذهل معاوية من خطاب الإمام،و ضاقت عليه جميع السبل فقال لابن عباس:

«ما هذا يابن عباس؟».

«لعمر الله إنها لذرية الرسول صلّى اللّه عليه و اله و أحد أصحاب الكساء،و من البيت المطهر قاله عما تريد،فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره و هو خير الحاكمين..».

و نهض أبي الضيم و ترك معاوية يتميز من الغيظ،و قد استبان له أنه لا يتمكن أن يخدع الإمام الحسين و يأخذ البيعة منه.

ص: 93

إرغام المعارضين:

و غادر معاوية يثرب متجها إلى مكة و هو يطيل التفكير في أمر المعارضين فرأى أن يعتمد على وسائل العنف و الإرهاب،و حينما وصل إلى مكة أحضر الإمام الحسين،و عبد الله بن الزبير،و عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد الله بن عمر و عرض عليهم مرة أخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم لها،فانبرى إليهم مغضبا و قال:

«إني أتقدم إليكم أنه قد أعذر من أنذر إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك و أصفح،و إني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه،فلا يسبقني رجل إلا على نفسه..».

و دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال له:أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين،و مع كل واحد سيف فإن ذهب رجل منهم يرد عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما،ثم خرج و خرجوا معه فرقى المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

«إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم لا يبتز أمر دونهم،و لا يقضى إلا عن مشورتهم،و إنهم رضوا و بايعوا ليزيد،فبايعوا على اسم الله..».

فبايعه الناس،ثم ركب رواحله،و غادر مكة و قد حسب معاوية أن الأمر قد تم لولده،و استقر الملك في بيته،و لم يعلم أنه قد جر الدمار على دولته،و أعد المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقف الإمام الحسين:

كان موقف الإمام الحسين مع معاوية يتسم بالشدة و الصرامة،فقد أخذ يدعو

ص: 94

المسلمين بشكل سافر إلى مناهضة معاوية،و يحذّرهم من سياسته الهدامة الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفود الأقطار الإسلامية:

و أخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلامية و هي تعج بالشكوى إليه و تستغيث به مما ألم بها من الظلم و الجور،و تطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد،و نقلت الإستخبارات في يثرب إلى السلطة المحلية تجمع الناس و اختلافهم على الإمام الحسين،و كان الوالي مروان ففزع من ذلك و خاف إلى حد بعيد.

مذكرة مروان لمعاوية:

و رفع مروان مذكرة لمعاوية سجّل فيها تخوفه من تحرك الإمام،و اختلاف الناس عليه،و هذا نصها:

«أما بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين،و الله إني لأرى لكم منه يوما عصيبا».

جواب معاوية:

و أمره معاوية بعدم القيام بأي حركة مضادة للإمام فقد كتب إليه:

«أترك حسينا ما تركك،و لم يظهر لك عداوته،و يبدي صفحته،و اكمن عنه

ص: 95

كمون الثرى إن شاء الله و السلام..».

لقد خاف معاوية من تطور الأحداث،فعهد إلى مروان بعدم التعرض له بأي أذى أو مكروه.

رأي مروان في إبعاد الإمام:

و اقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام عن يثرب و فرض الإقامة الجبرية عليه في الشام،ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق،و لم يرتض معاوية ذلك فرد عليه:

«أردت و الله أن تستريح منه و تبتليني به،فإن صبرت عليه صبرت على ما أكره و إن أسأت إليه قطعت رحمه..».

رسالة معاوية للحسين:

و اضطرب معاوية من تحرك الإمام و اختلاف الناس عليه فكتب إليه رسالة،و قد رويت بصورتين:

-1-رواها البلاذري و هذا نصها:«أما بعد:فقد أنهيت إلي عنك أمور إن كانت حقا فإني لم أظنها بك رغبة عنها،و إن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها،و بحظ نفسك تبدأ،و بعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك و الإساءة إليك،فإنك متى تنكرني أنكرك،و متى تكدني أكدك فاتق الله يا حسين في شق عصا الأمة،و أن تردهم في فتنة..».

-2-رواها ابن كثير و هذا نصها:«إن من أعطى الله صفقة يمينه و عهده لجدير بالوفاء،و قد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق،و أهل العراق من

ص: 96

قد جربت،قد أفسدوا على أبيك و أخيك،فاتق الله،و اذكر الميثاق فإنك متى تكدني أكدك».

و احتوت هذه الرسالة حسب النص الأخير على ما يلي:

-1-إن معاوية قد طالب الإمام بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أن لا يخرج عليه،و قد وفى له الإمام بذلك إلا أن معاوية لم يف بشيء مما أبرمه على نفسه من شروط الصلح.

-2-إن معاوية كان على علم بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام للخروج عليه و قد وسمهم بأنهم أهل الشقاق و أنهم قد غدروا بعلي و الحسن من قبل.

-3-التهديد السافر للإمام بأنه متى كاد معاوية فإنه يكيده.

جواب الإمام:

و رفع الإمام إلى معاوية مذكرة خطيرة كانت جوابا لرسالته حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء،و فقدان الأمن،و تعريض الأمة للأزمات، و هي من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية و هذا نصها:

«أما بعد:فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت عنها راغب و أنا بغيرها عندك جدير،و إن الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد إليها إلا الله تعالى.

أما ما ذكرت أنه رقي إليك عني،فإنه إنما رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنميمة،المفرقون بين الجمع،و كذب الغاوون،ما أردت لك حربا،و لا عليك خلافا، و إني لأخشى الله في ترك ذلك منك،و من الإعذار فيه إليك و إلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ص: 97

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة و أصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم،و يستعظمون البدع،و يأمرون بالمعروف،و ينهون عن المنكر،و لا يخافون في الله لومة لائم،ثم قتلتهم ظلما و عدوانا،من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة و المواثيق المؤكدة،جراءة على الله و استخفافا بعهده.

أو لست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله صلّى اللّه عليه و اله العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه و اصفر لونه،فقتلته بعد ما أمّنته و أعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أو لست بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف،فزعمت أنه ابن أبيك،و قد قال رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:الولد للفراش و للعاهر الحجر فتركت سنّة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله تعمدا و تبعث هواك بغير هدى من الله ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم و يقطع أيديهم و أرجلهم،و يسمل أعينهم،و يصلبهم على جذوع النخل،كأنك لست من هذه الأمة و ليسوا منك.

أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه على دين علي كرم الله وجهه فكتبت إليه أن اقتل كل من كان على دين علي،فقتلهم،و مثّل بهم بأمرك، و دين علي هو دين ابن عمه صلّى اللّه عليه و اله الذى أجلسك مجلسك الذي أنت فيه،و لو لا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء و الصيف.

و قلت فيما قلت أنظر لنفسك و دينك و لأمة محمد صلّى اللّه عليه و اله و اتق شق عصا هذه الأمة، و أن تردهم إلى فتنة،و إني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها،و لا أعظم لنفسي ولديني و لأمة محمد صلّى اللّه عليه و اله أفضل من أن أجاهرك،فإن فعلت فإنه قربة إلى الله،و إن تركته فإني أستغفر الله لديني،و أسأله توفيقه لإرشاد أمري.

و قلت فيما قلت إني إن أنكرتك تنكرني،و إن أكدك تكدني فكدني ما بدالك.فإني أرجو أن لا يضرني كيدك،و أن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك،لأنك قد

ص: 98

ركبت جهلك و تحرّصت على نقض عهدك.

و لعمري ما وفيت بشرط،و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح و الأيمان و العهود و المواثيق فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا و قتلوا،و لم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا،مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا،أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص،و استيقن بالحساب،و اعلم أن لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها،و ليس الله بناس لأخذك بالظنة و قتلك أولياءه على التهم،و نفيك إياهم من دورهم إلى دار الغربة و أخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث يشرب الشراب،و يلعب بالكلاب ما أراك إلا قد خسرت نفسك،و تبرّت دينك و غششت رعيتك و سمعت مقالة السفيه الجاهل و أخفت الورع التقي و السلام».

لا أكاد أعرف وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة و سجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية،و الدماء التي سفكها،و النفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة،و هي صرخة في وجه الظلم و الإستبداد و لله كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة(كأنك لست من هذه الأمة و ليسوا منك)هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف و قديما قال الصابيء:«إن الرجل من قوم ليست له أعصاب تقسو عليهم،و هو اتهام من الحسين لمعاوية في وطنيته و قوميته،و اتخذ من الدماء الغزيرة المسفوكة عنوانا على ذلك».

لقد حفلت هذه المذكرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية و عماله خصوصا زياد ابن سمية الذي نشر الإرهاب و الظلم بين الناس فقتل على الظنة و التهمة،و أعدم كل من كان على دين الإمام أمير المؤمنين الذي هو دين ابن عمه رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و قد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حق،و من الطبيعي أنه لم يقترف ذلك إلا بإيعاز من معاوية فهو الذي عهد إليه بذلك.

ص: 99

صدى الرسالة:

و لما انتهت رسالة الإمام إلى معاوية ضاق بها ذرعا،و راح يراوغ على عادته و يقول:«إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسدا».

المؤتمر السياسي العام:

و عقد الإمام في مكة مؤتمرا سياسيا عاما دعا فيه جمهورا غفيرا ممن شهد موسم الحج من المهاجرين و الأنصار و التابعين و غيرهم من سائر المسلمين فانبرى عليه السّلام خطيبا فيهم،و تحدث ببليغ بيانه بما ألم بعترة النبي صلّى اللّه عليه و اله و شيعتهم من المحن و الخطوب التي صبها عليهم معاوية و ما اتخذه من الإجراءات المشددة من إخفاء فضائلهم،و ستر ما أثر عن الرسول الأعظم في حقهم و ألزم حضار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين،و فيما يلي نص حديثه فيما رواه سليم بن قيس قال:

«و لما كان قبل موت معاوية بسنة حج الحسين بن علي،و عبد الله بن عباس، و عبد الله بن جعفر،فجمع الحسين بني هاشم و نساءهم و مواليهم،و من حج من الأنصار ممن يعرفهم الحسين و أهل بيته،ثم أرسل رسلا،و قال لهم:لا تدعوا أحدا حج العام من أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه و اله المعروفين بالصلاح و النسك الا اجمعوهم لي،فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل و هم في سرادق،عامتهم من التابعين،و نحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و اله فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه،ثم قال:أما بعد فإن هذا الطاغية-يعني معاوية-قد فعل بنا و بشيعتنا ما قد رأيتم،و علمتم و شهدتم،و إني أريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدقوني،

ص: 100

و إن كذبت فكذبوني،إسمعوا مقالتي،و اكتبوا قولي،ثم ارجعوا إلى أمصاركم و قبائلكم،فمن أمنتم من الناس،و وثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا،فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر و يغلب،و الله متم نوره و لو كره الكافرون.

و ما ترك شيئا مما أنزله الله فيهم من القرآن إلا تلاه و فسّره و لا شيئا مما قاله رسول الله صلّى اللّه عليه و اله في أبيه و أخيه و في نفسه و أهل بيته إلا رواه.

و كل ذلك يقول أصحابه:اللّهم نعم،قد سمعنا و شهدنا،و يقول التابعي:اللّهم قد حدثني به من أصدقه و أئتمنه من الصحابة فقال عليه السّلام:

«أنشدكم الله إلا حدّثتم به من تثقون به و بدينه..».

و كان هذا المؤتمر أول مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت و قد شجب فيه الإمام سياسة معاوية و دعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت عليهم السّلام، و إذاعة مآثرهم التي حاولت السلطة حجبها عن المسلمين.

رسالة جعدة للإمام:

و كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص الناس للإمام الحسين عليه السّلام، و أكثرهم مودة له و قد اجتمعت عنده الشيعة،و أخذوا يلحون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ليعلن الثورة على حكومة معاوية،و رفع جعدة رسالة للإمام و هذا نصها:

«أما بعد:فإن من قبلنا من شيعتك متطلعة أنفسهم إليك،لا يعدلون بك أحدا،و قد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب.و عرفوك باللين لأوليائك و الغلظة على أعدائك،و الشدة في أمر الله،فإن كنت تحب أن تطلب هذا الأمر فأقدم علينا فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.».

ص: 101

جواب الإمام:

و لم يكن من رأي الإمام الحسين الخروج على معاوية،و ذلك لعلمه بفشل الثورة و عدم نجاحها،فإن معاوية بما يملك من وسائل دبلوماسية و عسكرية لا بد أن يقضي عليها،و يخرجها من إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية و يوسم القائمين بها بالتمرد و الخروج على النظام،و قد أجابهم عليه السّلام بعد البسملة و الثناء على الله بما يلي:

«أما أخي فإني أرجو أن يكون الله قد وفّقه و سدّده،و أما أنا فليس رأيي اليوم ذاك،فالصقوا رحمكم الله بالأرض،و اكمنوا في البيوت و احترسوا من الظنة ما دام معاوية حيا،فإن يحدث الله به حدثا و أنا حي كتبت إليكم برأيي و السلام..».

لقد أمر عليه السّلام شيعته بالخلود إلى الصبر و الإمساك عن المعارضة،و أن يلزموا بيوتهم خوفا عليهم من سلطان معاوية الذي كان يأخذ البرىء بالسقيم و المقبل بالمدبر و يقتل على الظنة و التهمة،و أكبر الظن أن هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة،و صلبهم على جذوع النخل و دمّرهم تدميرا ساحقا.

نصيحة الخدري للإمام:

و شاعت في الأوساط الإجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحسين عليه السّلام و استنجادهم به لإنقاذهم من ظلم معاوية و جوره،و لما علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعا للإمام ينصحه و يحذره،و هذا نص حديثه:«يا أبا عبد الله إني أنا ناصح،و إني عليكم مشفق،و قد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم

ص: 102

بالكوفة،يدعونكم إلى الخروج إليهم،فلا تخرج إليهم،فإني سمعت أباك يقول بالكوفة،و الله لقد مللتهم،و أبغضتهم و ملّوني و أبغضوني،و ما يكون منهم وفاء قط،و من فاز بهم فاز بالسهم الأخيب،و الله ما لهم ثبات و لا عزم على أمر،و لا صبر على السيف».

و ليس من شك في أن أبا سعيد الخدري كان من ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين و أكثرهم إخلاصا و ولاء لأهل البيت،و قد دفعه حرصه على الإمام الحسين،و خوفه عليه من معاوية أن يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية،و لم تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحسين له.

استيلاء الحسين على أموال للدولة:

و كان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة على تدعيم ملكه،كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أمية لتقوية مركزهم السياسي و الإجتماعي،و كان الإمام الحسين يشجب هذه السياسة،و يرى ضرورة إنقاذ الأموال من اليمن إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام إلى الإستيلاء عليها،و وزّعها على المحتاجين من بني هاشم و غيرهم و كتب إلى معاوية:

«من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد:فإن عيرا مرت بنا من اليمن تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا إليك،لتودعها خزائن دمشق،و تعل بها بعد النهل بني أبيك،و إني احتجت إليها فأخذتها و السلام..».

و أجابه معاوية:

«من عبد الله معاوية إلى الحسين بن علي،أما بعد:فإن كتابك ورد علي تذكر أن

ص: 103

عيرا مرت بك من اليمن تحمل مالا،و حللا و عنبرا و طيبا إلي لأودعها خزائن دمشق، و أعل بها بعد النهل بني أبي،و أنك احتجت إليها فأخذتها،و لم تكن جديرا بأخذها إذ نسبتها إلي لأن الوالي أحق بالمال،ثم عليه المخرج منه،و أيم الله لو تركت ذلك حتى صار إلي لم أبخسك حظك منه و لكنني قد ظننت يابن أخي أن في رأسك نزوة، و بودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك،و أتجاوز عن ذلك و لكنني و الله أتخوف أن تبلى بمن لا ينظرك فواق ناقة».

و كتب في أسفل كتابه هذه الأبيات:

يا حسين بن علي ليس ما جئت بالسائغ يوما و العلل

أخذك المال و لم تؤمر به إن هذا من حسين لعجل

قد أجزناها و لم نغضب لها و احتملنا من حسين ما فعل

يا حسين بن علي ذا الأمل لك بعدي وثبة لا تحتمل

و بودي إنني شاهدها فإليها منك بالخلق الأجل

إنني أرهب أن تصل بمن عنده قد سبق السيف العذل

و في هذا الكتاب تهديد للإمام بمن يخلف معاوية و هو ابنه يزيد الذي لا يؤمن بمقام الحسين و مكانته من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

و على أي حال فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال من معاوية و أنفقها على الفقراء في حين أنه لم يكن يأخذ لنفسه أي صلة من معاوية،و قد قدّم له مالا كثيرا و ثيابا وافرة و كسوة فاخرة فرد الجميع عليه،و قد روى الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام أن الحسن و الحسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية.

حديث موضوع:

من الأخبار الموضوعة ما روي أن الإمام الحسين وفد مع أخيه الحسن على

ص: 104

معاوية فأمر لهما بمائة ألف درهم و قال لهما:

«خذاها و أنا ابن هند،ما أعطاها أحد قبلي،و لا يعطيها أحد بعدي..».

فانبرى إليه الإمام الحسين قائلا:

«و الله ما أعطى أحد قبلك و لا بعدك لرجلين أشرف منا..».

و لا مجال للقول بصحة هذه الرواية فإن الإمام الحسين عليه السّلام لم يفد على معاوية بالشام،و إنما وفد عليه الإمام الحسن عليه السّلام لا لأجل الصلة و العطاء كما يذهب لذلك بعض السذج من المؤرخين،و إنما كان الغرض إبراز الواقع الأموي،و التدليل على مساوىء معاوية،كما أثبتت ذلك مناظراته مع معاوية و بطانته،و التي لم يقصد فيها إلا تلك الغاية،و قد أوضحنا ذلك بصورة مفصلة في كتابنا(حياة الإمام الحسن).

الحسين مع بني أمية:

كانت العداوة بين الحسين و بين بني أمية ذاتية فهي عداوة الضد للضد،و قد سأل سعيد الهمداني الإمام الحسين عن بني أمية فقال عليه السّلام«إنا و هم الخصمان اللذان اختصما في ربهم..».

أجل إنهم خصمان في أهدفاهما،و خصمان في اتجاههما،فالحسين عليه السّلام كان يمثل جوهر الإيمان بالله،و يمثل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان و بنو أمية كانوا يمثلون مساوىء الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق و كان الأمويون بحسب طباعهم الشريرة،يحقدون على الإمام الحسين و يبالغون في توهينه،و قد جرت منازعة بين الحسين و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحسين في حقه،فثار الإمام في وجهه و قال:

ص: 105

«أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي،ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أدعون بحلف الفضول..».

لقد أراد أن يحيي حلف الفضول الذي أسسه الهاشميون و الذي كان شعاره إنصاف المظلومين و الأخذ بحقوقهم،و قد حاربه الأمويون في جاهليتهم لأنه يتنافى مع طباعهم و مصالحهم.

و انبرى عبد الله بن الزبير فانضم للحسين و انتصر له و قال:

«و أنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا..».

و بلغ المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضم للحسين،و قال بمثل مقالته و شعر الوليد بالوهن و الضعف،فتراجع عن غيه،و أنصف الحسين عليه السّلام من حقه.

و من ألوان الحقد الأموي على الحسين أنه كان جالسا في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و اله فسمع رجلا يحدث أصحابه،و يرفع صوته ليسمع الحسين و هو يقول:

«إنا شاركنا آل أبي طالب في النبوة حتى نلنا منها مثل ما نالوا منها من السبب و النسب و نلنا من الخلافة ما لم ينالوا فبم يفخرون علينا؟».

و كرر هذا القول ثلاثا،فأقبل عليه الحسين فقال له:إني كففت عن جوابك في قولك الأول حلما،و في الثاني عفوا،و أما في الثالث فإني مجيبك أني سمعت أبي يقول:إن في الوحي الذي أنزله الله على محمد صلّى اللّه عليه و اله إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أمية في صور الذر يطأهم الناس حتي يفرغ من الحساب ثم يؤتى بهم فيحاسبوا،و يصار بهم إلى النار و لم يطق الأموي جوابا و انصرف و هو يتميز من الغيظ..و بهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية و بني أمية،و نعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية و ما رافقها من الأحداث.

ص: 106

مرض معاوية:

و مرض معاوية و تدهورت صحته،و لم تجد معه الوصفات الطبية،فقد تناهبت جسمه الأمراض،و قد شعر بدنو أجله،و كان في حزن على ما اقترفه في قتله لحجر ابن عدي فكان ينظر إليه شبحا مخيفا،و كان يقول:و يلي منك يا حجر!إن لي مع ابن عدي ليوما طويلا و تحدث الناس عن مرضه،فقالوا إنه الموت،فأمر أهله أن يحشوا عينيه أثمدا،و يسبغوا على رأسه الطيب،و يجلسوه ثم أذن للناس فدخلوا و سلّموا عليه قياما فلما خرجوا من عنده أنشد قائلا:

و تجلّدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع

فسمعه رجل من العلويين فأجابه:

و إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع

وصاياه:

و لما ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد،و قد جاء فيها:«يا بني إني قد كفيتك الشر و الترحال،و وطأت لك الأمور،و ذللت لك الأعداء و أخضعت لك رقاب العرب و جمعت لك ما لم يجمعه أحد فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك،و أكرم من قدم عليك منهم،و تعاهد من غاب،و انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملا فافعل فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف،و انظر أهل الشام فليكونوا بطانتك و عيبتك،فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإن أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم..و إني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش الحسين بن علي،و عبد

ص: 107

الله بن عمر،و عبد الله بن الزبير و عبد الرحمن بن أبي بكر،فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة،فإذا لم يبق أحد غيره بايعك و أما الحسين بن علي فهو رجل خفيف،و لن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه،فإن خرج و ظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ماسة و حقا عظيما و قرابة من محمد،و أما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله ليس له همة إلا في النساء و اللهو،و أما الذي يجثم لك جثوم الأسد،و يراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصة و ثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إربا إربا و احقن دماء قومك ما استطعت..».

و أكبر الظن أن هذه الوصية من الموضوعات فقد افتعلت لإثبات حلم معاوية و أنه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين و هو غير مسؤول عن تصرفاته..و مما يؤيد وضعها ما يلي:

-1-إن المؤرخين رووا أن معاوية أوصى يزيد بغير ذلك فقال له:إن لك من أهل المدينة يوما فإن فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفنا نصيحته و كان مسلم بن عقبة جزارا جلادا لا يعرف الرحمة و الرأفة،و قد استعمله يزيد بعهد من أبيه في واقعة الحرة فاقترف كل موبقة و إثم،فكيف تلتقي هذه الوصية بتلك الوصية التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز.

-2-إنه أوصاه برعاية عواطف العراقيين،و الإستجابة لهم إذا سألوه في كل يوم عزل من ولاّه عليهم،و هذا يتنافى مع ما ذكره المؤرخون إنه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد،و هو يعلم شدته و صرامته و غدره،فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء فهل العهد إليه بولاية العراق من الإحسان إلى العراقيين و البر بهم؟!!

-3-إنه جاء في هذه الوصية أنه يتخوف عليه من عبد الله بن عمر و قد وصفه بأنه قد وقذته العبادة،و إذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السلطة

ص: 108

و المنازعات السياسية فما معنى التخوف منه؟!!

-4-إنه جاء في هذه الوصية أنه يتخوف عليه من عبد الرحمن بن أبي بكر،و قد نص المؤرخون أنه توفي في حياة معاوية،فما معنى التخوف عليه من إنسان ميت؟!

-5-إنه أوصاه برعاية الحسين عليه السّلام و إن له رحما ماسة و حقا عظيما و قرابة من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و من المؤكد أن معاوية بالذات لم يرع أي جانب من جوانب القرابة من رسول الله،فقد قطع جميع أواصرها فقد فرض سبّها على رؤوس الإشهاد، و عهد إلى لجان التربية و التعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت،و لم يتردد في ارتكاب أي وسيلة للحط من شأنهم،و قد علّق الأستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات من الوصية بقوله:

«و تقول بعض المصادر أن معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحسين و الذي نعتقده أنه لا أثر لها من الصحة،فإن معاوية لم يتردد في اغتيال الإمام الحسن حتى بعد ما بايعه،فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحسين إن ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله صلّى اللّه عليه و اله حرمة أو قرابة حتى يوصي ابنه برعاية آل محمد،كلا أبدا فقد حارب الرسول في الجاهلية حتى أسلم كرها يوم فتح مكة،ثم حارب صهر الرسول و خليفته و ابن عمه عليا،و نزا على خلافة المسلمين، و انتزعها قهرا،و سم ابن بنت الرسول الحسن،فهل يصدق بعد هذا كله أن يوصي بمثل ما أوصى به.

قد يكون أوصاه أن يغتاله سرا و يدس له السم،أو يبعث له من يطعنه بليل،ربما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة من تلك الوصية-و لكن المؤرخين سامحهم الله أرادوا أن يبرئوا ساحة الأب،و يلقوا جميع التبعات على الابن و هما في الحقيقة غرس إثم واحد و ثمرة جريمة واحدة و أضاف يقول:

ص: 109

و لو أن الوصية المزعومة كانت صحيحة لما كان يزيد لا هم له بعد موت أبيه إلا تحصيل البيعة من الحسين و تشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحسين على البيعة.».

موت معاوية

و استقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجع و يظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين و نهب أموالهم،و قد وافاه الأجل في دمشق محروما عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة و حمله على رقاب المسلمين،و كان يزيد فيما يقول المؤرخون مشغولا عن أبيه-في أثناء وفاته-برحلات الصيد و عربدات السكر،و نغمة العيدان.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية،و ما رافقها من الأحداث الجسام (1).

ص: 110


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:173/2.

حكومة يزيد

اشارة

و تسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلامية،و هو في غضارة العمر،لم تهذبه الأيام و لم تصقله التجارب،و إنما كان-فيما أجمع عليه المؤرخون-موفور الرغبة في اللهو و القنص و الخمر و النساء و كلاب الصيد و ممعنا كل الإمعان في اقتراف المنكر و الفحشاء،و لم يكن حين هلاك أبيه في دمشق،و إنما كان في رحلات الصيد في حوارين الثنية فأرسل إليه الضحاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة معاوية،و يهنئه بالخلافة،و يطلب منه الإسراع إلى دمشق ليتولّى أزمّة الحكم، و حينما قرأ الرسالة اتجه فورا نحو عاصمته في ركب من أخواله،و كان ضخما كثير الشعر،و قد شعث في الطريق و ليس عليه عمامة،و لا متقلدا بسيف،فأقبل الناس يسلّمون عليه،و يعزّونه،و قد عابوا عليه ما هو فيه،و راحوا يقولون:

«هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس،و الله سائله عنه»

و اتجه نحو قبر أبيه فجلس عنده و هو باك العين،و انشأ يقول:

جاء البريد بقرطاس يخب به فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا لك الويل ماذا في كتابكم قال الخليفة أمسى مدنفا و جعا

ثم سار متجها نحو القبة الخضراء في موكب رسمي تحف به علوج أهل الشام و أخواله و سائر بني أمية.

ص: 111

خطاب العرش

و اتجه يزيد نحو منصة الخطابة ليعلن للناس سياسته،و مخططات حكومته، فلما استوى عليها ارتج عليه،و لم يطق الكلام،فقام إليه الضحاك بن قيس،فصاح به يزيد ما جاء بك؟قال له الضحاك:كلم الناس و خذ عليهم،فأمره بالجلوس،و انبرى خطيبا فقال:

«الحمد لله الذي ما شاء صنع،و من شاء منع،و من شاء خفض و من شاء رفع،إن أمير المؤمنين-يعني معاوية-كان حبلا من حبال الله مدّه،ما شاء أن يمدّه،ثم قطعه حين أراد أن يقطعه،و كان دون من قبله،و خيرا مما يأتي بعده،و لا أزكّيه عند ربه و قد صار إليه،فإن يعف عنه فبرحمته و إن يعاقبه فبذنبه؛و قد ولّيت بعده الأمر و لست أعتذر من جهل،و لا آتي على طلب علم،و على رسلكم إذا كره الله شيئا غيّره و إذا أحب شيئا يسرّه..».

و لم يعرض يزيد في هذا الخطاب لسياسة دولته،و لم يدل بأي شي مما تحتاج إليه الأمة في مجالاتها الإقتصادية و الإجتماعية،و من المقطوع به أن ذلك مما لم يفكر به،و إنما عرض لطيشه و جبروته و استهانته بالأمة فهو لا يعتذر إليها من أي جهل يرتكبه،و لا من سيئة يقترفها،و إنما على الأمة الإذعان و الرضى لظلمه و بطشه.

خطابه في أهل الشام

و خطب في أهل الشام خطابا أعلن فيه عن عزمه و تصميمه على الخوض في حرب مدمرة مع أهل العراق،و هذا نصه:

ص: 112

«يا أهل الشام فإن الخير لم يزل فيكم،و سيكون بيني و بين أهل العراق حرب شديد،و قد رأيت في منامي كأن نهرا يجري بيني و بينهم دما عبيطا،و جعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك حتى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي،و أنا أنظر إليه».

و انبرى أهل الشام فأعلنوا تأييدهم و دعمهم الكامل له قائلين:

«يا أمير المؤمنين امض بنا حيث شئت و اقدم بنا على من أحببت فنحن بين يديك،و سيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفين».

فشكرهم يزيد و أثنى على إخلاصهم و ولائهم له و قد بات من المقطوع به عند أوساط الشام أن يزيد سيعلن الحرب على أهل العراق لكراهتهم لبيعته،و تجاوبهم مع الإمام الحسين.

مع المعارضة في يثرب:

و لم يرق ليزيد أن يرى جبهة معارضة،لا تخضع لسلطانه،و لا تدين بالولاء لحكومته و قد عزم على التنكيل بها بغير هوادة،فقد استتبت له الأمور و خضعت له الرقاب،و صارت أجهزة الدولة كلها بيده فما الذي يمنعه من إرغام أعدائه و مناوئيه.

و أهم ما كان يفكر به من المعارضين الإمام الحسين عليه السّلام لأنه يتمتع بنفوذ واسع النطاق،و مكانة مرموقة بين المسلمين فهو حفيد صاحب الرسالة و سيد شباب أهل الجنة،أما ابن الزبير فلم تكن له تلك الأهمية البالغة في نفسه.

ص: 113

الأوامر المشددة إلى الوليد:

و أصدر يزيد أوامره المشددة إلى عامله على يثرب الوليد بن عتبة بإرغام المعارضين له على البيعة،و قد كتب إليه رسالتين:

الأولى و قد رويت بصورتين و هما:

-1-رواها الخوارزمي و هذا نصها:«أما بعد فإن معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه،و استخلصه،و مكّن له ثم قبضه إلى روحه و ريحانه و رحمته،عاش بقدر و مات بأجل،و قد كان عهد إلي و أوصاني بالحذر من آل أبي تراب لجرأتهم على سفك الدماء،و قد علمت يا وليد أن الله تبارك و تعالى منتقم للمظلوم عثمان بآل أبي سفيان لأنهم أنصار الحق و طلاب العدل فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة».

و قد احتوت هذه الرسالة على ما يلي:

-1-نعي معاوية إلى الوليد

-2-تخوف يزيد من الأسرة النبوية لأنه قد عهد إليه أبوه بالحذر منها،و هذا يتنافى مع تلك الوصية المزعومة لمعاوية التي جاء فيها اهتمامه بشأن الحسين عليه السّلام و إلزام ولده بتكريمه و رعاية مقامه.

-3-الإسراع في أخذ البيعة من أهل المدينة.

الصورة الثانية:رواه البلاذري،و هذا نصها:«أما بعد:فإن معاوية بن أبي سفيان كان عبدا من عباد الله أكرمه الله،و استخلفه،و خوّله،و مكّن له فعاش بقدر و مات بأجل،فرحمة الله عليه،فقد عاش محمودا و مات برا تقيا و السلام..».

و أكبر الظن أن هذه الرواية هي الصحيحة فإنها قد اقتصرت على نعي معاوية إلى الوليد من دون أن تعرض إلى أخذ البيعة من الحسين و غيره من المعارضين،

ص: 114

أما على الرواية الأولى،فإنه يصبح ذكر الرسالة التالية-التي بعثها يزيد إلى الوليد لإرغام الحسين على البيعة لغوا.

الثانية:رسالة صغيرة،و صفت كأنها أذن فأرة،و قد رويت بثلاث صور:

-1-رواها الطبري و البلاذري،و هذا نصها:«أما بعد فخذ حسينا،و عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا و السلام».

-2-رواها اليعقوبي و هذا نصها:«إذا أتاك كتابي فأحضر الحسين بن علي و عبد الله بن الزبير،فخذهما بالبيعة فإن امتنعا فاضرب عنقيهما،و ابعث إلي برأسيهما و خذ الناس بالبيعة فمن امتنع فانفذ فيه الحكم،و في الحسين بن علي و عبد الله بن الزبير و السلام».

و ليس في الرواية الثانية ذكر لعبد الله بن عمر،و أكبر الظن أنه أضيف اسمه إلى الحسين و ابن الزبير لإلحاقه بالجبهة المعارضة و تبريره من التأييد السافر لبيعة يزيد.

-3-رواها الحافظ ابن عساكر،و هذا نصها:«أن ادع الناس فبايعهم،و ابدأ بوجوه قريش و ليكن أول من تبدأ به الحسين بن علي فإن أمير المؤمنين-يعني معاوية-عهد إلي في أمره الرفق و استصلاحه».

و ليس في هذه الرواية ذكر لابن الزبير و ابن عمر إذ لم تكن لهما أية أهمية في نظر يزيد إلا أنا نشك فيما جاء في آخر هذه الرسالة من أن معاوية قد عهد إلى يزيد الرفق بالحسين و استصلاحه،فإن معاوية قد وقف موقفا إيجابيا يتسم بالعداء و الكراهية لعموم أهل البيت عليهم السّلام و اتخذ ضدهم جميع الإجراءات القاسية كما ألمحنا إلى ذلك في البحوث السابقة،و أكبر الظن أن هذه الجملة قد أضيفت إليها لتبرير معاوية،و نفي المسؤولية عنه فيما ارتكبه ولده من الجرائم ضد العترة الطاهرة.

ص: 115

بقي هنا شي و هو أن هذه الرسالة قد وصفها المؤرخون كأنها أذن فأرة لصغرها و لعل السبب في إرسالها بهذا الحجم هو أن يزيد قد حسب أن الوليد سينفذ ما عهد إليه من قتل الحسين و ابن الزبير،و من الطبيعي أن لذلك كثيرا من المضاعفات السيئة و من أهمها ما يلحقه من التذمر و السخط الشامل بين المسلمين فأراد أن يجعل التبعة على الوليد،و أنه لم يعهد إليه بقتلهما،و أنه لو أمره بذلك لأصدر مرسوما خاصا مطولا به.

و حمل الرسالتين زريق مولى معاوية فأخذ يجد في السير لا يلوي على شي حتى انتهى إلى يثرب و كان معه عبد الله بن سعد بن أبي سرح متلثما لا يبدو منه إلا عيناه فصادفه عبد الله بن الزبير فأخذ بيده و جعل يسأله عن معاوية و هو لا يجيبه، فقال له:أمات معاوية؟فلم يكلمه بشي فاعتقد بموت معاوية،و قفل مسرعا إلى الحسين و أخبره الخبر،فقال له الحسين:إني أظن أن معاوية قد مات،فقد رأيت البارحة في منامي كأن منبر معاوية منكوس،و رأيت داره تشتعل نارا فأوّلت ذلك في نفسي بموته.

و أقبل زريق إلى دار الوليد فقال للحاجب:إستأذن لي،فقال:قد دخل و لا سبيل إليه،فصاح به زريق:إني جئته بأمر،فدخل الحاجب و أخبره بالأمر فأذن له،و كان جالسا على سرير فلما قرأ كتاب يزيد بوفاة معاوية جزع جزعا شديدا،و جعل يقوم على رجليه،و يرمي بنفسه على فراشه.

فزع الوليد

و فزع الوليد مما عهد إليه يزيد من التنكيل بالمعارضين،فقد كان على يقين من أن أخذ البيعة من هؤلاء النفر ليس بالأمر السهل،حتى يقابلهم بالعنف،أو يضرب

ص: 116

أعناقهم-كما أمره يزيد-إن هؤلاء النفر لم يستطع معاوية مع ما يتمتع به من القابليات الدبلوماسية أن يخضعهم لبيعة يزيد،فكيف يصنع الوليد أمرا عجز عنه معاوية.

استشارته لمروان

و حار الوليد في أمره فرأى أنه في حاجة إلى مشورة مروان عميد الأسرة الأموية فبعث خلفه،فأقبل مروان و عليه قميص أبيض و ملأه موردة فنعى إليه معاوية فجزع مروان و عرض عليه ما أمره يزيد من إرغام المعارضين على البيعة له و إذا أصروا على الإمتناع فيضرب أعناقهم،و طلب من مروان أن يمنحه النصيحة،و يخلص له في الرأي.

رأي مروان:

و أشار مروان على الوليد فقال له:إبعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة و الدخول في طاعة يزيد،فإن فعلوا قبلت ذلك منهم،و ان أبوا قدّمهم،و اضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية،فإنهم إن علموا ذلك و ثب كل رجل منهم فأظهر الخلاف،و دعا إلى نفسه،فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به، إلا عبد الله بن عمر فإنه لا ينازع في هذا الأمر أحدا..مع أني أعلم أن الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد،و لا يرى له عليه طاعة،و و الله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كائنا في ذلك ما كان.

و عظم ذلك على الوليد و هو أحنك بني أمية و أملكهم لعقله و رشده فقال لمروان:

ص: 117

«يا ليت الوليد لم يولد و لم يك شيئا مذكورا».

فسخر منه مروان و راح يندد به قائلا:

«لا تجزع مما قلت لك،فإن آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر و لم يزالوا و هم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان،ثم ساروا إلى أمير المؤمنين-يعني معاوية- فحاربوه..».

و نهره الوليد فقال له:

«ويحك يا مروان عن كلامك هذا،و أحسن القول في ابن فاطمة فإنه بقية النبوة».

و اتفق رأيهم على استدعاء القوم،و عرض الأمر عليهم للوقوف على مدى تجاوبهم مع السلطة في هذا الأمر.

أضواء على موقف مروان:

لقد حرّض مروان الوليد على التنكيل بالمعارضين،و استهدف بالذات الإمام الحسين،فألح بالفتك به إن امتنع من البيعة و فيما أحسب أنه إنما دعاه لذلك ما يلي:

-1-إن مروان كان يحقد على الوليد،و كانت بينهما عداوة متأصلة و هو-على يقين-أن الوليد يحب العافية،و لا ينفّذ ما عهد إليه في شأن الإمام الحسين،فاستغل الموقف،و راح يشدد عليه في اتخاذ الإجراءات الصارمة ضد الإمام،ليستبين لطاغية الشام موقفه فيسلب ثقته عنه،و يقصيه عن ولاية يثرب،و فعلا قد تحقق ذلك فإن يزيد حينما علم بموقف الوليد مع الحسين عليه السّلام غضب عليه و أقصاه عن منصبه.

-2-إن مروان كان ناقما على معاوية حينما عهد بالخلافة لولده و لم يرشحه لها، لأنه شيخ الأمويين و أكبرهم سنا،فأراد أن يورط يزيد في قتل الإمام ليكون به

ص: 118

زوال ملكه.

-3-كان مروان من الحاقدين على الحسين لأنه سبط رسول الله صلّى اللّه عليه و اله الذي حصد رؤوس بني أمية،و نفى أباه الحكم عن يثرب،و قد لعنه و لعن من تناسل منه، و قد بلغ الحقد بمروان للأسرة النبوية أنه منع من دفن جنازة الحسن عليه السّلام مع جده رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و يقول المؤرخون:إنه كان يبغض أبا هريرة لأنه يروي ما سمعه من رسول الله صلّى اللّه عليه و اله في فضل سبطيه و ريحانتيه،و قد دخل على أبي هريرة عائدا له فقال له:

«يا أبا هريرة ما وجدت عليك في شىء منذ اصطحبنا إلا في حبك الحسن و الحسين».

فأجابه أبو هريرة:

«أشهد لقد خرجنا مع رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فسمع الحسن و الحسين يبكيان،فقال:ما شأن ابني؟فقالت فاطمة:العطش..يا مروان كيف لا أحب هذين،و قد رأيت من رسول الله ما رأيت».

لقد دفع مروان الوليد إلى الفتك بالحسين لعله يستجيب له فيروي بذلك نفسه المترعة بالحقد و الكراهية لعترة النبي صلّى اللّه عليه و اله.

-4-كان مروان-على يقين-أنه سيلي الخلافة،فقد أخبره الإمام أمير المؤمنين وصي النبي صلّى اللّه عليه و اله و باب مدينة علمه حينما تشفّع الحسنان به بعد واقعة الجمل، فقال:إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه،و قد اعتقد بذلك مروان،و قد حرّض الوليد على الفتك بالحسين ليكون ذلك سببا لزوال ملك بني سفيان،و رجوع الخلافة إليه.

هذه بعض الأسباب التي حفّزت مروان إلى الإشارة على الوليد بقتل الإمام الحسين و أنه لم يكن بذلك مشفوعا بالولاء و الإخلاص إلى يزيد.

ص: 119

استدعاء الحسين:

و أرسل الوليد في منتصف الليل عبد الله بن عمرو بن عثمان و هو غلام حدث خلف الحسين و ابن الزبير،و إنما بعثه في هذا الوقت لعله يحصل على الوفاق من الحسين و لو سرا على البيعة ليزيد،و هو يعلم أنه إذا أعطاه ذلك فلن يخيس بعهده، و لن يتخلف عن قوله.

و مضى الفتى يدعو الحسين و ابن الزبير للحضور عند الوليد فوجدهما في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و اله فدعاهما إلى ذلك فاستجابا له،و أمراه بالإنصراف و ذعر ابن الزبير،فقال الإمام:

-ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

-أظن أن طاغيتهم-يعني معاوية-قد هلك فبعث إلينا بالبيعة قبل أن يفشو بالناس الخبر.

-و أنا ما أظن غيره فما تريد أن تصنع؟

-أجمع فتياني الساعة،ثم أسير إليه،و أجلسهم على الباب.

-إني أخاف عليك إذا دخلت.

-لا آتيه إلا و أنا قادر على الإمتناع

و انصرف أبي الضيم إلى منزله فاغتسل،و صلى و دعا الله و أمر أهل بيته بلبس السلاح و الخروج معه،فخفّوا محدقين به،فأمرهم بالجلوس على باب الدار،و قال لهم:إني داخل فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا علي بأجمعكم، و دخل الإمام على الوليد فرأى مروان عنده و كانت بينهما قطيعة فأمرهما الإمام بالتقارب و الإصلاح،و ترك الأحقاد،و كانت سجية الإمام عليه السّلام التي طبع عليها الإصلاح حتى مع أعدائه و خصومه،فقال عليه السّلام لهما:

ص: 120

«الصلة خير من القطيعة،و الصلح خير من الفساد،و قد آن لكما أن تجتمعا،أصلح الله ذات بينكما».

و لم يجيباه بشىء فقد علاهما صمت رهيب،و التفت الإمام إلى الوليد فقال له:هل أتاك من معاوية خبر؟فإنه كان عليلا و قد طالت علته،فكيف حاله الآن؟

فقال الوليد بصوت خافت حزين النبرات:

«آجرك الله في معاوية فقد كان لك عم صدوق،و قد ذاق الموت و هذا كتاب أمير المؤمنين يزيد..».

فاسترجع الحسين،و قال له:

«لماذا دعوتني؟».

«دعوتك للبيعة».

فقال عليه السّلام:إن مثلي لا يبايع سرا،و لا يجتزأ بها مني سرا،فإذا خرجت إلى الناس و دعيتهم للبيعة،دعوتنا معهم كان الأمر واحدا.

لقد طلب الإمام تأجيل الأمر إلى الصباح،حتى يعقد اجتماع جماهيري فيدلي برأيه في شجب البيعة ليزيد،و يستنهض همم المسلمين على الثورة و الإطاحة بحكمه،و كان الوليد-فيما يقول المؤرخون-يحب العافية و يكره الفتنة فشكر الإمام على مقالته،و سمح له بالانصراف إلى داره،و انبرى الوغد الخبيث مروان بن الحكم و هو مغيظ محنق فصاح بالوليد:

«لئن فارقك الساعة و لم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم و بينه،احبسه فإن بايع و إلا ضربت عنقه».

و وثب أبي الضيم إلى الوزغ ابن الوزغ فقال له:

«يابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟كذبت و الله و لؤمت».

و أقبل على الوليد فأخبره عن عزمه و تصميمه على رفض البيعة ليزيد قائلا:

ص: 121

«أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة،و معدن الرسالة،و مختلف الملائكة و محل الرحمة، بنا فتح الله،و بنا ختم،و يزيد رجل فاسق،شارب خمر قاتل النفس المحرّمة،معلن بالفسق،و مثلي لا يبايع مثله،و لكن نصبح و تصبحون،و ننظر و تنظرون أينا الحق بالخلافة و البيعة».

و كان هذا أول إعلان له على الصعيد الرسمي-بعد هلاك معاوية-في رفض البيعة ليزيد،و قد أعلن ذلك في بيت الإمارة و رواق السلطة بدون مبالاة و لا خوف و لا ذعر.

لقد جاء تصريحه بالرفض لبيعة يزيد معبرا عن تصميمه،و توطين نفسه حتى النهاية على التضحية عن سمو مبدئه،و شرف عقيدته،فهو بحكم مواريثه الروحية،و بحكم بيته الذي كان ملتقى لجميع الكمالات الإنسانية كيف يبايع يزيد الذي هو من عناصر الفسق و الفجور،و لو أقرّه إماما على المسلمين لساق الحياة الإسلامية إلى الانهيار و الدمار و عصف بالعقيدة الدينية في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

و كانت كلمة الحق الصارخة التي أعلنها أبو الأحرار قد أحدثت استياء في نفس مروان فاندفع يعنّف الوليد و يلومه على إطلاق سراحه قائلا:

«عصيتني!لا و الله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبدا».

و تأثر الوليد من منطق الإمام،و تيقظ ضميره فاندفع يرد أباطيل مروان قائلا:

«ويحك!!إنك أشرت علي بذهاب ديني و دنياي،و الله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها،و إني قتلت حسينا،سبحان الله!!أقتل حسينا إن قال لا أبايع،و الله ما أظن أحدا يلقى الله بدم الحسين إلا و هو خفيف الميزان،لا ينظر الله إليه يوم القيامة،و لا يزكيه و له عذاب أليم».

و سخر منه مروان و طفق يقول:

ص: 122

«إذا كان هذا رأيك فقد أصبت!!».

و عزم الحسين على مغادرة يثرب و التوجه إلى مكة ليلوذ بالبيت الحرام و يكون بمأمن من شرور الأمويين و اعتدائهم.

الحسين مع مروان:

و التقى أبي الضيم في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد،فبادره مروان قائلا:

«إني ناصح،فأطعني ترشد و تسدد..».

«و ما ذاك يا مروان؟».

«إني آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد فإنه خير لك في دينك و دنياك».

و التاع كأشد ما تكون اللوعة و استرجع،و أخذ يرد على مقالة مروان ببليغ منطقه قائلا:«على الإسلام السلام،إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد،ويحك يا مروان!! أتأمرني ببيعة يزيد،و هو رجل فاسق لقد قلت شططا من القول..لا ألومك على قولك، لأنك اللعين الذي لعنك رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أنت في صلب أبيك الحكم بن أبي العاص» و أضاف الإمام يقول:

«إليك عني يا عدو الله!!فإنا أهل بيت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و الحق فينا،و بالحق تنطق ألسنتنا،و قد سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يقول:الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان،و على الطلقاء و أبناء الطلقاء،و قال:إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه،فو الله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدي فلم يفعلوا ما أمروا به..».

و تميّز الخبيث الدنس مروان غيظا و غضبا،و اندفع يصيح:

«و الله لا تفارقني أو تبايع ليزيد صاغرا فإنكم آل أبي تراب،قد أشربتم بغض آل

ص: 123

أبي سفيان،و حق عليكم أن تبغضوهم،و حق عليهم أن يبغضوكم»و صاح به الإمام:

«إليك عني فإنك رجس،و أنا من أهل بيت الطهارة الذين أنزل الله فيهم على نبيه صلّى اللّه عليه و اله: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

و لم يطق مروان الكلام،و قد تحرّق ألما و حزنا،فقال له الإمام:«أبشر يابن الزرقاء بكل ما تكره من الرسول صلّى اللّه عليه و آله يوم تقدم على ربك فيسألك جدي عن حقي و حق يزيد..».

و انصرف مروان مسرعا إلى الوليد فأخبره بمقالة الحسين له.

اتصال الوليد بدمشق:

و أحاط الوليد يزيد علما بالأوضاع الراهنة في يثرب،و عرّفه بامتناع الحسين عليه السّلام من البيعة،و أنه لا يرى له طاعة عليه،و لما فهم يزيد بذلك تميّز غيظا و غضبا.

الأوامر المشددة من دمشق:

و أصدر يزيد أوامره المشددة إلى الوليد بأخذ البيعة من أهل المدينة ثانيا،و قتل الحسين عليه السّلام و إرسال رأسه إليه و هذا نص كتابه:

«من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة،أما بعد:فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانيا على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم و ذر عبد الله بن الزبير فإنه لن يفوت أبدا ما دام حيا،و ليكن مع جوابك إلي برأس الحسين بن علي،

ص: 124

فإن فعلت ذلك،فقد جعلت لك أعنة الخيل و لك عندي الجائزة،و الحظ الأوفر و النعمة و السلام..».

رفض الوليد:

و رفض الوليد رسميا ما عهد إليه يزيد من قتل الحسين،و قال:لا و الله لا يراني الله قاتل الحسين بن علي..لا أقتل ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها و قد جاءته هذه الرسالة بعد مغادرة الإمام يثرب إلى مكة.

وداع الحسين لقبر جده:

و خفّ الحسين عليه السّلام في الليلة الثانية إلى قبر جده صلّى اللّه عليه و اله و هو حزين كئيب ليشكو إليه ظلم الظالمين له،و وقف أمام القبر الشريف-بعد أن صلى ركعتين-و قد ثارت مشاعره و عواطفه،فاندفع يشكو إلى الله ما ألم به من المحن و الخطوب قائلا:

«اللّهم إن هذا قبر نبيك محمد،و أنا ابن بنت محمد،و قد حضرني من الأمر ما قد علمت،اللّهم إني أحب المعروف و أنكر المنكر،و أنا أسألك يا ذا الجلال و الإكرام بحق هذا القبر و من فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى و لرسولك رضى».

رؤيا الحسين لجده:

و أخذ الحسين يطيل النظر إلى قبر جده،و قد وثقت نفسه أنه لا يتمتع برؤيته، و انفجر بالبكاء،و قبل أن يندلع نور الفجر غلبه النوم فرأى جده الرسول صلّى اللّه عليه و اله قد

ص: 125

أقبل في كتيبة من الملائكة فضم الحسين إلى صدره و قبّل ما بين عينيه،و هو يقول له:

«يا بني كأني عن قريب أراك مقتولا مذبوحا بأرض كرب و بلاء،بين عصابة من أمتي، و أنت مع ذلك عطشان لا تسقى،و ظمآن لا تروى،و هم مع ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة،فمالهم عند الله من خلاق.

حبيبي يا حسين إن أباك و أمك و أخاك قد قدموا علي،و هم إليك مشتاقون،إن لك في الجنة درجات لن تنالها إلا بالشهادة..».

و جعل الحسين يطيل النظر إلى جده صلّى اللّه عليه و اله و يذكر عطفه و حنانه عليه فازداد و جيبه،و تمثلت أمامه المحن الكبرى التي يعانيها من الحكم الأموي فهو إما أن يبايع فاجر بني أمية أو يقتل،و أخذ يتوسل إلى جده و يتضرع إليه قائلا:

«يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا،فخذني إليك،و أدخلني معك إلى منزلك».

و التاع النبي صلّى اللّه عليه و اله فقال له:

«لا بد لك من الرجوع إلى الدنيا،حتى ترزق الشهادة،و ما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم فإنك،و أباك،و أخاك،و عمك،و عم أبيك تحشرون يوم القيامة،في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة».

و استيقظ الحسين فزعا مرعوبا قد ألمّت به تيارات من الأسى و الأحزان و صار على يقين لا يخامره أدنى شك أنه لا بد أن يرزق الشهادة،و جمع أهل بيته فقص عليهم رؤياه الحزينة،فطافت بهم الآلام،و أيقنوا بنزول الرزء القاصم،و وصف المؤرخون شدة حزنهم،بأنه لم يكن في ذلك اليوم لا في شرق الأرض و لا في غربها أشد غما من أهل بيت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و لا أكثر باكية و باك منهم.

ص: 126

وداعه لقبر أمه و أخيه:

و توجّه الحسين في غلس الليل البهيم إلى قبر أمه وديعة النبي صلّى اللّه عليه و اله و بضعته، و وقف أمام قبرها الشريف مليا،و هو يلقي عليه نظرات الوداع الأخير،و قد تمثلت أمامه عواطفها الفياضة،و شدة حنوها عليه،و قد ودّ أن تنشق الأرض لتواريه معها،و انفجر بالبكاء،و ودع القبر وداعا حارا،ثم انصرف إلى قبر أخيه الزكي أبي محمد،فأخذ يروّي ثرى القبر من دموع عينيه،و قد ألمت به الآلام و الأحزان،ثم رجع إلى منزله،و هو غارق بالأسى و الشجون.

فزع الهاشميات:

و لما عزم الإمام على مغادرة يثرب و اللجوء إلى مكة اجتمعن السيدات من نساء بني عبد المطلب،و قد جاشت عواطفهن بالأسى و الحزن،فقد تواترت عليهن الأنباء عن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله عن مقتل ولده الحسين،و جعلن ينحن،و تعالت أصواتهن بالبكاء،و كان منظرا مفزعا،و انبرى إليهن الحسين،و هو رابط الجأش فقال لهن:

«أنشدكن الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله و لرسوله».

فذابت نفوسهن،و صحن:

«لمن نستبقي النياحة و البكاء،فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلّى اللّه عليه و اله،و علي و فاطمة و الحسن..جعلنا الله فداك يا حبيب الأبرار..».

و أقبلت عليه بعض عماته،و هي شاحبة اللون،فقالت بنبرات منقطعة بالبكاء لقد سمعت هاتفا يقول:

و إن قتيل الطف من آل هاشم أذل رقابا من قريش فذلت

ص: 127

و جعل الإمام عليه السّلام يهدىء أعصابها،و يأمرها بالخلود إلى الصبر،كما أمر سائر السيدات من بني عبد المطلب بذلك.

مع أخيه ابن الحنفية:

و فزع محمد ابن الحنفية إلى الحسين،فجاء يتعثر في خطاه،و هو لا يبصر طريقه من شدة الحزن و الأسى،و لما استقر به المجلس أقبل على الحسين و قال له بنبرات مشفوعة بالإخلاص و الحنو عليه:

«يا أخي فدتك نفسي،أنت أحب الناس إلي،و أعزهم علي،و لست و الله أدخر النصيحة لأحد من الخلق،و ليس أحد أحق بها منك فإنك كنفسي و روحي،و كبير أهل بيتي،و من عليه اعتمادي،و طاعته في عنقي لأن الله تبارك و تعالى قد شرّفك و جعلك من سادات أهل الجنة و إني أريد أن أشير عليك برأيي فاقبله مني..».

لقد عبّر محمد بهذا الحديث الرقيق عن عواطفه الفياضة المترعة بالولاء و الإكبار لأخيه،و أقبل عليه الإمام فقال له محمد:

«أشير عليك أن تتنحى بيعتك عن يزيد بن معاوية و عن الأمصار ما استطعت، ثم إبعث برسلك إلى الناس،فإن بايعوك حمدت الله على ذلك و إن اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك،و لا عقلك،و لم تذهب مروؤتك،و لا فضلك،و اني أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فطائفة معك، و أخرى عليك،فيقتتلون،فتكون لأول الأسنة غرضا،فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا و أبا و أما أضيعها دما و أذلّها أهلا..».

و بادر الإمام الحسين فقال له:

«أين أذهب؟».

ص: 128

«تنزل مكة فإن اطمأنت بك الدار،و إلا لحقت بالرمال،و شعب الجبال و خرجت من بلد إلى آخر حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس،فإنك أصوب ما تكون رأيا و أحزمهم عملا،حتى تستقبل الأمور استقبالا و لا تكون الأمور أبدا أشكل عليك منها حتى تستدبرها استدبارا».

و انطلق الإمام و هو غير حافل بالأحداث،فأخبره عن عزمه و تصميمه الكامل على رفض البيعة ليزيد قائلا:

«يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية».

و انفجر ابن الحنفية بالبكاء،فقد أيقن بالرزء القاصم،و استشف ماذا سيجري على أخيه من الرزايا و الخطوب،و شكر الإمام نصيحته و قال له:

«يا أخي،جزاك الله خيرا لقد نصحت،و أشرت بالصواب،و أنا عازم على الخروج إلى مكة،و قد تهيأت لذلك أنا و أخوتي و بنو أخي و شيعتي أمرهم أمري، و رأيهم رأيي،و أما أنت فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا لا تخف عني شيئا من أمورهم».

وصيته لابن الحنفية:

و عهد الإمام بوصيته الخالدة إلى أخيه ابن الحنفية،و قد تحدث فيها عن أسباب ثورته الكبرى على حكومة يزيد و قد جاء فيها بعد البسملة:

«هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن الحنفية،أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،و أن محمدا عبده و رسوله جاء بالحق من عنده، و أن الجنة حق،و النار حق،و أن الساعة آتية لا ريب فيها،و أن الله يبعث من في القبور.

ص: 129

و إني لم أخرج أشرا،و لا بطرا،و لا مفسدا،و لا ظالما،و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلّى اللّه عليه و اله أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر،و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب،فمن قبلني بقبول الحق،فالله أولى بالحق، و من رد علي أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم و هو خير الحاكمين.

و هذه وصيتي إليك يا أخي،و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب».

من أجل هذه الأهداف النبيلة فجّر الإمام ثورته الخالدة فهو لم يخرج أشرا و لا بطرا،و لم يبغ أي مصلحة مادية له أو لأسرته،و إنما خرج على حكم الظلم و الطغيان،يريد أن يقيم صروح العدل بين الناس،و ما أروع قوله:

«فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق،و من رد علي أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم و هو خير الحاكمين».

لقد حدد الإمام خروجه بأنه كان من أجل إحقاق الحق و إماتة الباطل و دعا الأمة باسم الحق إلى الالتفاف حوله لتحمي حقوقها و تصون كرامتها و عزتها التي انهارت على أيدي الأمويين،و إذا لم تستجب لنصرته فسيواصل وحده مسيرته النضالية بصبر و ثبات في مناجزة الظالمين و المعتدين حتى يحكم الله بينه و بينهم بالحق و هو خير الحاكمين..كما حدد الإمام خروجه بأنه يريد أن يسير على منهاج جده و أبيه،و ليس على منهج أي أحد من الخلفاء.

و هذه الوصية من البنود التي نرجع إليها في دراستنا عن أسباب ثورته عليه السّلام.

و تهيأ الإمام بعد وصيته لأخيه محمد إلى السفر إلى مكة ليلتقي بحجاج بيت الله الحرام و غيرهم،و يعرض عليهم الأوضاع الراهنة في البلاد،و ما تعانيه الأمة من الأزمات و الأخطار في عهد يزيد.

و قبل أن يغادر الإمام عليه السّلام يثرب متجها إلى مكة دخل مسجد جده الرسول صلّى اللّه عليه و اله و هو غارق في الأسى و الشجون فألقى عليه نظرة الوداع الأخير،و قد نظر إلى

ص: 130

محراب جده صلّى اللّه عليه و اله و منبره،فطافت به ذكريات ذلك العطف الذي كان يفيضه عليه جده صلّى اللّه عليه و اله حينما كان في غضون الصبا،فلم ينس الحسين في جميع فترات حياته ذلك الحنان الذي أغدقه عليه جده حينما يقول فيه:

«حسين مني و أنا من حسين،أحب الله من أحب حسينا،حسين سبط من الأسباط..».

و تذكر كيف كان النبي صلّى اللّه عليه و اله يفرغ عليه ما انطوت عليه نفسه الكبيرة من المثل العليا التي كان عليها خاتم النبيين و سيد المرسلين،و أيقن أنه لم يكن يشيع ذلك في نفسه بمحض العاطفة بل بشعور آخر هو الإبقاء على رسالته،و مبادئه،و رأى أنه لا بد أن يقدّم التضحية الرهيبة التي تصون رسالة الإسلام من عبث الناقمين عليه...

و يقول المؤرخون:إنه دخل المسجد بين أهل بيته،و هو يعتمد في مشيه على رجلين و يتمثل بقول يزيد بن مفرغ:

لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغيرا و لا دعيت يزيدا

يوم أعطى من المهانة ضيما و المنايا ترصدنني أن أحيدا

و يقول أبو سعيد:لما سمعت هذين البيتين قلت في نفسي إنه ما تمثل بهما إلا لشيء يريده فما مكث إلا قليلا حتى بلغني أنه سار إلى مكة لقد صمم على التضحية و الفداء ليغير مجرى الحياة،و يرفع كلمة الله و فكرة الخير في الأرض.

أما يثرب مهد النبوة فإنه حينما أذيع فيها مغادرة الحسين عنها علتها الكآبة و خيّم على أهلها الحزن و الذعر فقد أيقنوا بالخسارة الفادحة التي ستحل بهم، فسيغيب عنهم قبس من نور الرسالة الذي كان يضىء لهم الحياة،و حزنت البقية الباقية من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و اله كأعظم ما يكون الحزن،فقد كانوا يرون في الحسين امتدادا لجده الرسول صلّى اللّه عليه و اله الذي أنقذهم من حياة التيه في الصحراء (1).2.

ص: 131


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:82/2-192.

الثورة الحسينية أسبابها و مخططاتها

و لم يفجّر الإمام الحسين عليه السّلام ثورته الكبرى أشرا،و لا بطرا،و لا ظالما،و لا مفسدا-حسب ما يقول-و إنما انطلق ليؤسس معالم الإصلاح في البلاد،و يحقق العدل الإجتماعي بين الناس،و يقضي على أسباب النكسة الأليمة التي مني بها المسلمون في ظل الحكم الأموي الذي ألحق بهم الهزيمة و العار.

لقد انطلق الإمام ليصحح الأوضاع الراهنة في البلاد،و يعيد للأمة ما فقدته من مقوماتها و ذاتياتها،و يعيد لشرايينها الحياة الكريمة التي تملك بها إرادتها و حريتها في مسيرتها النضالية لقيادة أمم العالم في ظل حكم متوازن تذاب فيه الفوارق الإجتماعية،و تقام الحياة على أسس صلبة من المحبة و الإخاء،إنه حكم الله خالق الكون و واهب الحياة،لا حكم معاوية الذي قاد مركبة حكومته على إماتة وعي الإنسان،و شل حركاته الفكرية و الإجتماعية.

لقد فجّر الإمام عليه السّلام ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب،و جعلها عبرة لأولي الألباب،فأضاء بها الطريق،و أوضح بها القصد،و أنار بها الفكر،فانهارت بها السدود و الحواجز التي وضعها الحكم الأموي أمام التطور الشامل الذي يريده الإسلام لأبنائه،فلم يعد بعد الثورة أي ظل للسلبيات الرهيبة التي أقامها الحكم الأموي على مسرح الحياة الإسلامية،فقد انتفضت الأمة-بعد مقتل الإمام-كالمارد الجبار و هي تسخر من الحياة،و تستهزىء بالموت،و تزج بأبنائها في ثورات متلاحقة حتى أطاحت بالحكم الأموي،و اكتسحت معالم زهوه.

ص: 132

و لم يقدم الإمام على الثورة إلا بعد أن انسدت أمامه جميع الوسائل و انقطع كل أمل له في إصلاح الأمة،و إنقاذها من السلوك في المنعطفات فأيقن أنه لا طريق للإصلاح إلا بالتضحية الحمراء،فهي وحدها التي تتغير بها الحياة،و ترتفع راية الحق عالية في الأرض (1).2.

ص: 133


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:82/2-192.

إخفاق الثورة

قال السيد محمد باقر القرشي:و يتساءل الكثيرون عن الأسباب التي أدت إلى إخفاق مسلم في ثورته مع ما كان يتمتع به من القوى العسكرية في حين أن خصمه لم تكن عنده أية قوة يستطيع أن يدافع بها عن نفسه فضلا عن الهجوم و الدخول في عمليات القتال،و يعزو بعضهم السبب في ذلك إلى قلة خبرة مسلم في الشؤون السياسية،و عجزه من السيطرة على الموقف،فترك المجال مفتوحا لعدوه حتى تغلب عليه...و هذا الرأي-فيما يبدو-سطحي ليست له أية صبغة من التحقيق،و ذلك لعدم ابتنائه على دراسة الأحداث بعمق و شمول و من أهمها-فيما نحسب-دراسة المجتمع الكوفي،و ما مني به من التناقض في سلوكه الفردي و الإجتماعي، و الوقوف على المخططات السياسية التي اعتمد عليها ابن زياد للتغلب على الأحداث،و النظر في الصلاحيات المعطاة لمسلم بن عقيل من قبل الإمام فإن الإحاطة بهذه الأمور توضح لنا الأسباب في إخفاق الثورة و فيما يلي ذلك:

ص: 134

المجتمع الكوفي:

اشارة

و لا بد لنا أن نتحدث بمزيد من التحقيق عن طبيعة المجتمع الكوفي فإنه المرآة الذي تنعكس عليه الأحداث الهائلة التي لعبت دورها الخطير في تأريخ الإسلام السياسي،و أن نتبين العناصر التي سكنت الكوفة،و ننظر إلى طبيعة الصلات الإجتماعية فيما بينها،و الحياة الإقتصادية التي كانت تعيش فيها،فإن البحث عن ذلك يلقي الأضواء على فشل الثورة،كما يلقي الأضواء على التذبذب و الإنحرافات الفكرية التي مني بها هذا المجتمع و التي كان من نتائجها ارتكابه لأبشع جريمة في تأريخ الإنسانية،و هي إقدامه على قتل ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و إلى القراء ذلك:

ص: 135

الظواهر الاجتماعية:
اشارة

أما الظواهر الاجتماعية التي تفرّد بها المجتمع الكوفي دون بقية الشعوب فهي:

التناقض في السلوك:

و الظاهرة الغريبة في المجتمع الكوفي أنه كان في تناقض صريح مع حياته الواقعية،فهو يقول شيئا و يفعل ضده،و يؤمن بشي و يفعل ما ينافيه و الحال أنه يجب أن تتطابق أعمال الإنسان مع ما يؤمن به،و قد أدلى الفرزدق بهذا التناقض حينما سأله الإمام عن أهل الكوفة فقال له:

«خلّفت قلوب الناس معك،و سيوفهم مشهورة عليك».

و كان الواجب يقضي أن تذب سيوفهم عما يؤمنون به،و أن يناضلوا عما يعتقدون به،و لا توجد مثل هذه الظاهرة في تأريخ أي شعب من الشعوب.

و من غرائب هذا التناقض أن المجتمع الكوفي قد تدخل تدخلا إيجابيا في المجالات السياسية و هام في تياراتها،فكان يهتف بسقوط الدولة الأموية،و قد كاتبوا الإمام الحسين لينقذهم من جور الأمويين و بطشهم،و بعثوا الوفود إليه مع آلاف الرسائل التي تحثه على القدوم لمصرهم،و لما بعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل قابلوه بحماس بالغ،و أظهروا له الدعم الكامل،حتى كاتب الإمام الحسين بالقدوم إليهم،و لكن لما دهمهم ابن مرجانة و نشر الرعب و الفزع في بلادهم تخلّوا

ص: 136

عن مسلم،و أقفلوا عليهم بيوتهم و راحوا يقولون:

«ما لنا و الدخول بين السلاطين».

إن حياتهم العملية لم تكن صدى لعقيدتهم التي آمنوا بها،فقد كانوا يمنّون قادتهم بالوقوف معهم ثم يتخلّون عنهم في اللحظات الحاسمة.

و من مظاهر ذلك التناقض أنهم بعد ما أرغموا الإمام الحسن عليه السّلام على الصلح مع معاوية،و غادر مصرهم جعلوا ينوحون و يبكون على ما فرّطوه تجاهه،و لما قتلوا الإمام الحسين عليه السّلام و دخلت سبايا أهل البيت عليهم السّلام مدينتهم أخذوا يعجّون بالنياحة و البكاء فاستغرب الإمام زين العابدين عليه السّلام ذلك منهم و راح يقول:

«إن هؤلاء يبكون و ينوحون من أجلنا،فمن قتلنا؟!!».

إن فقدان التوازن في حياة ذلك المجتمع جرّ لهم الويلات و الخطوب و ألقاهم في شر عظيم.

الغدر و التذبذب:

و الظاهرة الأخرى في المجتمع الكوفي الغدر،فقد كان من خصائصهم التي اشتهروا بها،و قد ضرب بهم المثل فقيل:«أغدر من كوفي»كما ضرب المثل بعدم وفائهم فقيل:«الكوفي لا يوفي».

و قد وصفهم أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله:«أسود رواغة و ثعالب رواغة».و قال فيهم:«إنهم أناس مجتمعة أبدانهم،مختلفة أهواؤهم و أن من فاز بهم فاز بالسهم الأخيب و أنه أصبح لا يطمع في نصرتهم و لا يصدّق قولهم».

لقد كان الجانب العملي في حياتهم هو التقلب و التردد و التخاذل،و قد غروا زيد بن علي الثائر العظيم فقالوا له:إن معك مائة ألف رجل من أهل الكوفة يضربون

ص: 137

دونك بأسيافهم و قد أحصى ديوانه منهم خمسة عشر ألفا كانوا قد بايعوه على النصرة ثم لما أعلن الثورة هبط عددهم إلى مائتين و ثمانية عشر رجلا و قد نصح داود بن علي زيدا بأن لا ينخدع بأهل الكوفة فقال له:

«يابن عم إن هؤلاء يغرونك من نفسك،أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك جدك عليّ بن أبي طالب حتى قتل،و الحسن من بعده بايعوه ثم و ثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه،و انتهبوا فسطاطه و جرحوه؟أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين و حلفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه و أسلموه ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه».

و كانوا ينكثون البيعة بعد البيعة،و قد ألمع إلى هذه الظاهرة أعشى همدان الذي كان شاعر ثورة محمد بن الأشعث الذي ثار على الحجاج يقول داعيا على أهل الكوفة:

أبى الله إلا أن يتمم نوره و يطفىء نور الفاسقين فيخمدا

و ينزل ذلا بالعراق و أهله لما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا

و ما أحدثوا من بدعة و عظيمة من القول لم تصعد إلى الله مصعدا

و ما نكثوا من بيعة بعد بيعة إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا

و قد عرفوا بهذا السمت عند جميع الباحثين،و يرى«فلهوزن»أنهم مترددون متقلبون و أنهم لم يألفوا النظام و الطاعة،و أن الإخلاص السياسي و العسكري لم يكن معروفا لهم على الإطلاق،و أكد ذلك الباحث«وزتر شنين»يقول:إن من صفاتهم المميزة البارزة الهوائية و التقلّب و نقص الثقة بأنفسهم.

و لم يكن هذا التذبذب في حياتهم مقتصرا على العامة،و إنما كان شائعا حتى عند رجال الفكر و الأدب فسراقة الشاعر المعروف وقف في وجه المختار،و اشترك في قتاله يوم جبانة السبيع فلما انتصر المختار وقع سراقة أسيرا بين يدي أصحابه فزج به في السجن فأخذ سراقة يستعطفه و ينظم القصيد في مدحه،و يذكر مبادىء

ص: 138

ثورته و يبالغ في تمجيده فكان مما قاله فيه:

نصرت على عدوك كل يوم بكل كتيبة تنعى حسينا

كنصر محمد في يوم بدر و يوم الشعب إذ لاقى حنينا

فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا لجرنا في الحكومة و اعتدينا

تقبل توبة مني فإني سأشكر إن جعلت النقد دينا

و لما عفا عنه المختار خرج من الكوفة فلم يبعد عنها قليلا حتى أخذ يهجو المختار و يحرّض عليه،و قد قال في هجائه:

ألا أبلغ أبا إسحاق أني رأيت البلق دهما مصمتات

كفرت بوحيكم و جعلت نذرا علي قتالكم حتى الممات

أرى عيني ما لم تبصراه كلانا عالم بالترهات

إذا قالوا أقول لهم كذبتم و إن خرجوا لبست لهم أداتي

لقد مضى يصب ثورته و سخريته على المختار و أصحابه في نفس الوزن الذي نظم فيه قصيدته السابقة،و من الطبيعي أن هذا التناقض في حياتهم كان ناجما من الإضطراب النفسي،و عدم التوازن في السلوك.

و من غرائب ذلك التناقض أن بعضهم كان يحتاط في أبسط الأمور و لا يتحرج من اقتراف أعظم الموبقات،فقد جاء رجل من أهل الكوفة إلى عبد الله بن عمر يستفتيه في دم البعوض يكون على الثوب أطاهر أم نجس؟فقال له ابن عمر:

-من أين أنت؟

-من أهل العراق.

فبهر ابن عمر و راح يقول:أنظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض!!و قد قتلوا ابن بنت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و قد سمعته يقول فيه و في أخيه:هما ريحانتاي من الدنيا.

و يعزو بعضهم السبب في هذا الاضطراب إلى الظروف السياسية القاسية التي

ص: 139

مرت عليهم،فإن الحكم الأموي كان قد عاملهم بمنتهى القسوة و الشدة فرماهم بأقسى الولاة و أشدهم عنفا أمثال المغيرة بن شعبة و زياد بن سمية مما جعل الحياة السياسية ضيقة و متحرجة مما نجم عنه هذا التناقض في السلوك.

ص: 140

التمرد على الولاة:

و الطابع الخاص الذي عرف به المجتمع الكوفي التمرد على الولاة و التبرم منهم، فلا يكاد يتولى عليهم و ال و حاكم حتى أعلنوا الطعن عليه فقد طعنوا في سعد بن أبي و قاص مؤسس مدينتهم و اتهموه بأنه لا يحسن الصلاة فعزله عمرو و ولّى مكانه الصحابي الجليل عمار بن ياسر،و لم يلبثوا أن شكوه إلى عمر فعزله،و ولّى مكانه أبا موسى الأشعري،و لم تمض أيام من ولايته حتى طعنوا فيه،و قالوا:لا حاجة لنا في أبي موسى و ضاق عمر بهم ذرعا و بدا عليه الضجر فسأله المغيرة عن شأنه فقال له:

«ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلا من عظيم،فهل نابك من نائب؟».

فانبرى عمر يشكو إليه الألم الذي داخله من أهل الكوفة قائلا:

«و أي نائب أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير،و لا يرضى عنهم أمير..».

و تحدث عمر عنهم فقال:

«من عذيري من أهل الكوفة إن استعملت عليهم القوي فجروه،و إن وليت عليهم الضعيف حقروه..».

لقد جبلوا على التمرد فهم لا يطيقون الهدوء و الإستقرار،و يرى ديمومين أن هذه الظاهرة اعتادها الكوفيون من أيام الفرس الذين دأبوا على تغيير حكامهم دوما و يذهب فان فلوتن إلى أن العرب المستقرين بالكوفة كانوا قد تعودوا على حياة الصحراء بما فيها من ضغن و شحناء و حب الإنتقام،و التخريب و الأخذ بالثأر فلذا تعودوا على التمرد،و عدم الطاعة للنظام.

ص: 141

الانهزامية:

و الظاهرة الغريبة التي عرف بها المجتمع الكوفي هي الإنهزامية،و عدم الصمود أمام الأحداث فإذا جد الجد ولّوا منهزمين على أعقابهم فقد أجمعوا في حماس على مبايعة مسلم و نصرته،و لما أعلن الثورة على ابن مرجانة انفضوا من حوله حتى لم يبق معه إنسان يدله علي الطريق و قد وقفوا مثل هذا الموقف مع زيد بن علي،فقد تركوه وحده يصارع جيوش الأمويين،و راح يقول:«فعلوها حسينية»و بايعوا عبد الله بن معاوية فقالوا له:«أدع إلى نفسك فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان» و أخرجوه حيث كان مقيما،و أدخلوه القصر فبايعوه،و لما زحف لقتاله والي الأمويين عبد الله بن عمر فروا منهزمين و نظر عبد الله بن معاوية فإذا الأرض بيضاء من أصحابه فقد غدر به قائد قواته لأنه كان على اتفاق مع والي الأمويين فانهزم و انهزم معه الجيش و كان عيسى بن زيد يقول فيهم:«لا أعرف موضع ثقة يفي ببيعته،و يثبت عند اللقاء».

مساوىء الأخلاق:

و اتصفت الأكثرية الساحقة من أهل الكوفة بمساوىء الأخلاق.يقول فيهم عبد الله بن الحسن أنهم:نفج العلانية،خور السريرة،هوج الردة،جزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم،و لا تشايعهم قلوبهم،و وصفهم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله:

«إن أهملتم خفتم،و إن حوربتم خرتم،و إن اجتمع الناس على إمام طعنتم،و إن جئتم

ص: 142

إلى مشاقة نكصتم»و وصفهم المختار لعبد الله بن الزبير حينما سأله عنهم فقال:

«لسلطانهم في العلانية أولياء و في السر أعداء»و علّق ابن الزبير على قول المختار فقال:«هذه صفة عبيد السوء إذا رأوا أربابهم خدموهم و أطاعوهم،فإذا غابوا عنهم شتموهم».

و هجاهم أعشى همدان بقوله:

وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم فما يقربون الناس إلا تهددا

فلا صدق في قول و لا صبر عندهم و لكم فخرا فيهم و تزيدا

و يقول فيهم أبو السرايا:

و مارست أقطار البلاد فلم أجد لكم شبها فيما و طأت من الأرض

خلافا و جهلا و انتشار عزيمة و وهنا و عجزا في الشدائد و الخفض

لقد سبقت فيكم إلى الحشر دعوة فلا عنكم راض و لا فيكم مرضي

سأبعد داري من قلى عن دياركم فذوقوا إذا وليت عاقبة البغض

و حلل الدكتور يوسف خليف هذه الأبيات بقوله:«و أبو السرايا في هذه الأبيات يردد تلك الفكرة القديمة التي عرفت عن أهل الكوفة من أنهم أهل شقاق و نفاق و مساوى أخلاق،فيصفهم بالشقاق و الجهل و تفرق العزيمة و الضعف و العجز، و يرى أن هذه صفاتهم التي تلازمهم دائما في الحرب و السلم،و هي صفات لم تجعل أحدا من زعمائهم أو أئمتهم يرضى عنهم،و هم منفردون بها من بين سائر البشر في جميع أقطار الأرض التي و طأتها قدماه،ثم يعلن في النهاية ببغضه لهم و اعتزامه البعد عنهم ليذوقوا من بعده سوء العاقبة و سوء المصير».

و وصفهم أبو بكر الهذلي بقوله:«إن أهل الكوفة قطعوا الرحم و وصلوا المثانة، كتبوا إلى الحسين بن علي أنّا معك مائة ألف،و غرّوه حتى إذا جاء خرجوا إليه و قتلوه و أهل بيته صغيرهم و كبيرهم،ثم ذهبوا يطلبون دمه،فهل سمع السامعون

ص: 143

بمثل هذا؟».

الجشع و الطمع:

و هناك نزعة عامة سادت في أوساط المجتمع الكوفي،و هي التهالك على المادة و السعي على حصولها بكل طريق،فلا يبالون في سبيلها بالعار و الخزي،و لقد لعبت هذه الجهة دورها الخطير في إخفاق ثورة مسلم،فقد بذل ابن زياد الأموال بسخاء للوجوه و الأشراف فخفّوا إليه سراعا فغدروا بمسلم،و نكثوا عهودهم،و قد ملكهم ابن زياد بعطائه فأخرجهم لحرب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله بعد أن أقسموا الأيمان المغلظة على نصرته و الذب عنه.

التأثر بالدعايات:

و ظاهرة أخرى من ظواهر المجتمع الكوفي و هي سرعة التأثر بالدعايات من دون فحص و وقوف على واقعها،و قد استغل هذه الظاهرة الأمويون أيام«مسكن» فأشاعوا في أوساط الجيش العراقي أن الحسن صالح معاوية و حينما سمعوا بذلك ماجوا في الفتنة و ارتطموا في الإختلاف،فعمدوا إلى أمتعة الإمام فنهبوها، كما اعتدوا عليه فطعنوه في فخذه و لما أذاعت عصابة ابن زياد بين جيوش مسلم أن جيش أهل الشام قد أقبل إليكم فلا تجعلوا أنفسكم عرضة للنقمة و العذاب،فلما سمعوا ذلك انهارت أعصابهم،و ولوا منهزمين،و أمسى ابن عقيل وحده ليس معه إنسان يدله على الطريق.

هذه بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في الكوفة،و هي تكشف عن ضحالة ذلك

ص: 144

المجتمع،و انهياره أمام الأحداث،فلم تكن له إرادة صلبة و لا وعي اجتماعي أصيل و قد جرّوا لهم بذلك الويل،فدمّروا قضاياهم المصيرية و تنكّروا لجميع حقوقهم، و فتحوا المجال للطاغية ابن مرجانة أن يتحكم فيهم و يصب عليهم وابلا من العذاب الأليم (1).2.

ص: 145


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:303/2.
الحياة الاقتصادية:

أما الحياة الاقتصادية في الكوفة فكانت تتسم بعدم التوازن فقد كانت فيها الطبقة الأرستقراطية التي غرقت في الثراء العريض فقد منحتها الدولة الأموية أيام عثمان و معاوية الهبات و الامتيازات الخاصة فأثرت على حساب الضعفاء و المحرومين،و من بين هؤلاء:

-1-الأشعث بن قيس،و قد اشترى في أيام عثمان أراض واسعة في العراق، و كان في طليعة الإقطاعيين في ذلك العصر،و هو الذي أرغم الإمام على قبول التحكيم لأن حكومته كانت تهدد مصالحه و امتيازاته الخاصة.

-2-عمرو بن حريث،و كان أثرى رجل في الكوفة،و قد لعب دورا خطيرا في إفساد ثورة مسلم و شل حركتها.

-3-شبث بن ربعي،و هو من الطبقة الأرستقراطية البارزة في الكوفة،و هو أحد المخذلين عن مسلم،كما تولّى قيادة بعض الفرق التي حاربت الحسين.

هؤلاء بعض المثرين في ذلك العصر،و كانوا يدا لابن مرجانة و ساعده القوي الذي أطاح بثورة مسلم،فقد كانوا يملكون نفوذا واسعا في الكوفة و قد استطاعوا أن يعلنوا معارضتهم للمختار رغم ما كان يتمتع به من الكتل الشعبية الضخمة المؤلفة من الموالي و العبيد،و هم الذين أطاحوا بحكومته.

أما الأكثرية الساحقة في المجتمع الكوفي فكانت مرتبطة بالدولة تتلقى موادها المعاشية منها باعتبارها المعسكر الرئيسي للدولة فهي التي تقوم بالإنفاق عليها،

ص: 146

و قد عانى بعضهم الحرمان و البؤس،و قد صوّر الشاعر الأسدي سوء حياته الاقتصادية بقصيدة يمدح بها بعض نبلاء الكوفة لينال من معروفه و كرمه يقول فيها:

يا أبا طلحة الجواد أغثني بسجال من سيبك المقسوم

أحي نفسي-فدتك نفسي-فإني مفلس-قد علمت ذاك-عديم

أو تطوع لنا بسلت دقيق أجره-إن فعلت ذاك-عظيم

قد علمتم-فلا تعامس عني- ما قضى الله في طعام اليتيم

ليس لي غير جرة و أصيص و كتاب منمنم كالوشوم

و كساء أبيعه برغيف قد رقعنا خروقه بأديم

و أكاف أعارنيه نشيط هو لحاف لكل ضيف كريم

إذا رأيت هذا الفقر المدقع الذي دعا الشاعر إلى هذا الإستعطاف و التذلل إنها مشكلة الفقر الذي أخذ بخناقه و علّق شوقي ضيف على هذه الأبيات بقوله:«و من هنا ارتفع صوت المال في القصيدة الأموية و احتل جوانب غير قليلة منها فقد كان أساسيا في حياة الناس،فطبيعي أن يكون أساسيا في فنهم و شعرهم،أليس دعامة هامة من دعائم الحياة،فلم لا يكون دعامة هامة من دعائم البناء الفني،إنه يستتر في قاع الحياة،و قاع الشعر لأن الشعر إنما هو تعبير عن الحياة.

إن الحياة الاقتصادية تؤثر أثرا عميقا و فعالا في كيان المجتمع،و تلعب دورا خطيرا في توجيه المجتمع نحو الخير أو الشر،و قد ثبت أن كثيرا من الجرائم التي يقترفها بعض المصابين في سلوكهم إنما جاءت نتيجة لفقرهم و بؤسهم أو لجشعهم على تحصيل المادة،و قد اندفع أكثر الجيش الذي خرج لحرب الإمام الحسين عليه السّلام حينما مناهم ابن مرجانة بزيادة مرتباتهم التي يتقاضونها من الدولة.

على أي حال فإن سوء الحالة الاقتصادية في الكوفة كانت من الأسباب الفعالة

ص: 147

في إخفاق ثورة مسلم و تحوّل الجماهير عنه حينما أغدق ابن زياد الأموال على الوجوه و العرفاء و غيرهم فاندفعوا إلى القيام بمناهضة مسلم و صرف الناس عنه.

عناصر السكان:
اشارة

كانت الكوفة أممية قد امتزجت فيها عناصر مختلفة في لغاتها،و متباينة في طباعها و عاداتها و تقاليدها فكان فيها العربي و الفارسي و النبطي إلى جانب العبيد و غيرهم،و لم تعد مدينة عربية خالصة كمكة و المدينة و إنما كانت مدينة أهلها أخلاط من الناس-كما يقول اليعقوبي-و قد هاجرت إليها هذه العناصر باعتبارها المركز الرئيسي للمعسكر الإسلامي فمنها تتدفق الجيوش الإسلامية للجهاد كما تتدفق بها المغانم الكثيرة التي وعد الله بها المجاهدين،و قد بلغ نصيب الجندي المقاتل من في المدائن اثني عشر ألفا مما دعا ذلك إلى الهجرة إليها باعتبارها السبيل إلى الثروة و نلمّح إلى بعض تلك العناصر:

العرب:
اشارة

و حينما تم تأسيس الكوفة على يد فاتح العراق سعد بن أبي وقاص اتجهت إليها أنظار العرب،و تسابقوا إلى الهجرة إليها،فقد سكنها في وقت مبكر سبعون بدريا و ثلثمائة من أصحاب الشجرة و قد ترجم ابن سعد في طبقاته مائة و خمسين صحابيا ممن نزلوا الكوفة و يقول فيها السفاح:«و هي-أي الكوفة-منزل خيار الصحابة و أهل الشرف أما القبائل العربية التي سكنتها فهي:

ص: 148

القبائل اليمنية:

و تسابقت القبائل اليمنية إلى سكنى الكوفة فكان عددهم-فيما يقول المؤرخون -اثني عشر ألفا و هي:

-1-قضاعة.

-2-غسان.

-3-بجيلة.

-4-خثعم.

-5-كندة.

-6-حضرموت.

-7-الأزد.

-8-مذحج.

-9-حمير.

-10-همدان.

-11-النخع.

فهذه هي الأسر التي تنتمي إلى اليمن،و قد استوطنت الكوفة،و نزلت في الجانب الشرقي من المسجد،و يرى فلهوزن أن القبائل المشهورة من اليمن و هي مذحج و همدان و كندة قد كانت لها السيطرة و السيادة على الكوفة،و يقول عبد الملك بن مروان بعد دخوله إلى الكوفة حينما جاءته قبائل مذحج و همدان:

«ما أرى لأحد مع هؤلاء،شيئا».

ص: 149

القبائل العدنانية:

أما القبائل العدنانية التي سكنت الكوفة فكان عددها ثمانية آلاف شخص،و هي تتشكل من أسرتين.

-1-تميم.

-2-بنو العصر.

قبائل بني بكر:

و سكنت الكوفة قبائل بني بكر،و هي عدة أسر منها:

-1-بنو أسد.

-2-غطفان.

-3-محارب.

-4-نمير.

و هناك مجموعة أخرى من القبائل العربية استوطنت الكوفة،و هي كنانة، و جدايلة،و ضبيعة و عبد القيس،و تغلب و أياد و طي و ثقيف و عامر و مزينة،و يرى مانسيون أنه إلى جانب القرشيين الذين سكنوا الكوفة عناصر شديدة البداوة من سكان الخيام و بيوت الشعر،و أصحاب الأبل من بني دارم التميمي و جيرانهم اليمنيين القدماء من طي،و عناصر نصف رحالة من ربيعة،و أسد من الغرب و الشمال الغربي،و بكر من الشرق و الجنوب الشرقي و عبد القيس الذين جاءوا من هجر من الجنوب الشرقي ثم عناصر متحضرة من القبائل الجنوبية الأصيلة من

ص: 150

العربية الذين نزحوا من اليمن و حضرموت،و هؤلاء كانوا قسمين:عناصر نصف متحضرة من كندة و بجيلة و عناصر متحضرة تماما من سكان المدن و القرى اليمنية من مذحج و حمير و همدان.

إن العنصر العربي الذي استوطن الكوفة منذ تأسيسها كان مزيجا من اليمانية و النزارية و غيرها و لكن اليمانية كانت أكثر عددا كما كان تأثيرها في حياة المجتمع الكوفي أشد من غيرها.

الروح القبلية:

و سادت في قبائل المجتمع العربي في الكوفة الروح القبلية فكانت كل قبيلة تنزل في حي معين لها لا يشاركها فيها إلا حلفاؤها،كما كان لكل قبيلة مسجدها الخاص، و مقبرتها الخاصة،و يرى ماسنيون أن جبانات الكوفة هي إحدى الصفات المميزة لطبو غرافيتها كما سمّيت شوارعها و سككها بالقبائل التي كانت تقطن فيها و غدت المدينة صورة تامة للحياة القبلية و بلغ الإحساس بالروح القبلية و التعصب لها إلى درجة عالية،فكانت القبائل تتنافس فيما بينها على إحراز النصر كما حدث في واقعة الجمل.

و من هنا غلب على الحياة فيها طابع الحياة الجاهلية،و يحدثنا ابن أبي الحديد عن الروح القبلية السائدة في الكوفة بقوله:«إن أهل الكوفة في آخر عهد علي كانوا قبائل فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى،فينادي باسم قبيلته يا للنخع أو يا لكندة،فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مربها فينادون يا لتميم أو يا لربيعة،و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف و تثور الفتنة».

ص: 151

لقد كانت الروح القبلية هي العنصر البارز في حياة المجتمع الكوفي و قد استغل ابن سمية هذه الظاهرة في إلقاء القبض على حجر و إخماد ثورته فضرب بعض الأسر ببعض،و كذلك استغل هذه الظاهرة ابنه للقضاء على حركة مسلم و هانى، و عبد الله بن عفيف الأزدي.

الفرس:

و إلى جانب العنصر العربي الذي استوطن الكوفة كان العنصر الفارسي، و كانوا يسمّون الحمراء و قد سألوا عن أمنع القبائل العربية فقيل لهم تميم فتحالفوا معهم و أكبر موجة فارسية استوطنت الكوفة عقيب تأسيسها هي المجموعة الضخمة من بقايا فلول الجيوش الساسانية التي انضمت إلى الجيش العربي، و أخذت تقاتل معه،و قد عرفت في التأريخ باسم«حمراء ديلم»فكان عددهم-فيما يقول المؤرخون-أربعة آلاف جندي يرأسهم رجل يسمى(ديلم)قاتلوا معه تحت قيادة رستم في القادسية فلما انهزمت الفرس،و قتل رستم عقدوا أمانا مع سعد بن أبي وقاص،و شرطوا عليه أن ينزلوا حيث شاءوا،و يحالفوا من أحبّوا و أن يفرض لهم العطاء،و قد حالفوا زهرة بن حوية التميمي أحد قادة الفتح،و فرض لهم سعد في ألف ألف،و أسلموا و شهدوا فتح المدائن معه كما شهدوا فتح جلولاء،ثم تحوّلوا فنزلوا الكوفة.

و قد كوّنت هذه الجالية مجموعة كبيرة في المجتمع الكوفي،و يذكر فلهوزن أنهم كانوا أكثر من نصف سكان الكوفة،و قد أخذ عددهم بازدياد حتى تضاءلت نسبة العرب في الكوفة،و تغلّبوا في عصر المأمون حتى كانت اللغة الفارسية تحتل الصدارة في ذلك العصر و يقول الجاحظ:إن اللغة الفارسية أثرت تأثيرا كبيرا في

ص: 152

لغة الكوفة.

و على أي حال فإن الفرس كانوا يشكّلون عنصرا مهما في الكوفة و كوّنوا بها جالية متميزة فكان أهل الكوفة يقولون:«جئت من حمراء ديلم»و يقول البلاذري:

إن زيادا سيّر بعضهم إلى الشام،و سيّر قوما منهم إلى البصرة و قد شاركت هذه الجالية في كثير من الفتوحات الإسلامية،كما شكّلت المد العالي للإطاحة بالحكم الأموي.

الأنباط:

و كانت الأنباط من العناصر التي سكنت الكوفة،و قد أثّروا في الحياة العامة تأثيرا عقليا و اجتماعيا،و يقول المؤرخون:إن الأنباط ليسوا عنصرا خاصا من البشر و إنما هم من العرب و كانوا يستخدمون اللغة الدارمية في كتابتهم،و كانوا يستوطنون بلاد العرب الصخرية و قد انتقلوا منها إلى العراق،و اشتغلوا بالزراعة، و كانوا ينطقون بلغتهم الدارمية.

و قد أثّروا تأثيرا بالغا في حياة الكوفة يقول أبو عمرو بن العلاء لأهل الكوفة:

«لكم حذلقة النبط،و صلفهم،و لنا زهاء الفرس و أحلامهم»و يروي الطبري أن رجلا من بني عبس أسر رجلا من أهل نهاوند اسمه دينار،و كان يواصل العبسي و يهدي إليه،و قد قدم الكوفة في أيام معاوية فقام في الناس و قال لهم:«يا معشر أهل الكوفة أنتم أول من مررتم بنا كنتم خيار الناس،فعمرتم بذلك زمان عمر و عثمان ثم تغيرتم،و فشت فيكم خصال أربع:بخل،و خب،و غدر،و ضيق و لم يكن فيكم واحدة منهن فرافقتكم فإذا ذلك مواليدكم،فعلمت من أين أتيتم».

و يرى(دي بود)أن التغيّر الاجتماعي و تبدّل الأخلاق في الكوفة قد نشأ في وقت

ص: 153

مبكر أيام معاوية بن أبي سفيان و من الطبيعي أن للأنباط ضلعا كبيرا في هذا التغيير.

السريانية:

و العنصر الرابع الذي شارك في تكوين الكوفة هي السريانية،فقد كانت منتشرة في العراق قبل الفتح الإسلامي،و كان الكثيرون منهم مقيمين على حوض دجلة، و بعضهم كان مقيما في الحيرة و الكوفة و قد ارتبطوا بأهل الكوفة و تأثروا بعاداتهم و أخلاقهم فإن الحياة الاجتماعية-كما يقول علماء الاجتماع-حياة تأثير و تأثر فكل إنسان يتأثر و يؤثر فيمن حوله.

هذه هي العناصر التي شاركت في استيطان الكوفة و بناء مجتمعها فهي لم تكن عربية خالصة و إنما امتزجت بها هذه العناصر،و قد نشأت بينها المصاهرة،فنشأ جيل مختلط من هذه العناصر و لكن التغلب الجنسي كان للعرب باعتبارهم الأكثرية الساحقة في القطر،فقد أصبحت التقاليد الدينية و العادات الاجتماعية خاضعة للعرب،كما كانت لهم الكلمة العليا في البلاد..و بهذا ينتهي بنا الحديث عن عناصر السكان في الكوفة.

الأديان:
اشارة

و لم يكن المجتمع الكوفي يدين بدين واحد،و إنما كانت فيه أديان متعددة،و لكل دين الحرية في إقامة طقوسه الدينية،و هذه بعضها:

ص: 154

-1-الإسلام
اشارة

و كان الإسلام دين الأكثرية الساحقة للعرب الذين استوطنوا الكوفة فإنها إنما أنشأت لتكون حامية للجنود الإسلامية التي كانت تبعث بهم الدولة لحركات الفتوح،و عمليات الجهاد،و لكن الإسلام لم ينفذ إلى أعماق قلوب الكثيرين منهم، و إنما جرى على ألسنتهم طمعا بثمرات الفتوح التي أفاء الله بها على المجاهدين، و قد أكد علم الاجتماع أن التحوّل الاجتماعي لا يكون إلا بعد أجيال و أجيال،و أن المجتمع يظل محافظا على عاداته و تقاليده التي اكتسبها من آبائه،و يؤيد ذلك ما مني به من الحركات الفكرية التي تتنافى مع الإسلام،و إلى الإنقسامات الخطيرة بين صفوفه،و نلمح إلى بعض تلك الإنقسامات:

الخوارج:

و اعتنق هذه الفكرة القراء و أصحاب الجباه السود حينما رفعت المصاحف في صفين،و قد أرغموا الإمام على قبول التحكيم بعد ما مني معاوية بالهزيمة الساحقة،فاستجاب لهم الإمام على كره،و قد حذّرهم من أنها مكيدة و خديعة فلم يكن يجدي ذلك معهم،و أصرّوا على فكرتهم و لما استبان لهم ضلال ما اقترفوه أقبلوا على الإمام و هم يقولون له:«إنا قد كفرنا و تبنا،فأعلن توبتك و قر على نفسك بالكفر،لنكون معك»،فأبى عليه السّلام فاعتزلوه،و اتخذوا لهم شعارا«لا حكم الا لله» و انغمسوا في الباطل و ماجوا في الضلال،فحاربهم الإمام و قضى على الكثيرين منهم إلا أن البقية الباقية منهم ظلت تواصل نشر أفكارها بنشاط،و قد لعبت دورا مهما في إفساد جيش الإمام الحسن حتى اضطر إلى الصلح مع معاوية،كما كان

ص: 155

أكثر الجيش الذي زجّه ابن زياد لحرب الإمام الحسين من الخوارج و كانوا موتورين من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فرووا أحقادهم من أبنائه الطيبين في كارثة كربلاء (1).2.

ص: 156


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:311/2.
الحزب الأموي:

و هؤلاء يمثلون وجوه الكوفة و زعماءها كقيس بن الأشعث،و عمرو بن الحجاج الزبيدي،و يزيد بن الحرث،و شبث بن ربعي،و عمرو بن حريث و عمر بن سعد، و كانوا يدينون بالولاء لبني أمية،و يرون أنهم أحق بالخلافة و أولى بزعامة الأمة من آل البيت عليهم السّلام و قد لعبوا دورا خطيرا في فشل ثورة مسلم،كما زجّوا الناس لحرب الإمام الحسين.

الشيعة:

و هي التي تدين بالولاء لأهل البيت،و ترى أنه فرض ديني،و قد أخلصت شيعة الكوفة في الولاء لهم،أما مظاهر حبهم فهي:

-1-الخطب الحماسية التي يمجّدون فيها أهل البيت،و يذكرون فضلهم و مآثرهم،و ما شاهدوه من صنوف العدل و الحق في ظل حكومة الإمام أمير المؤمنين.

-2-الدموع السخية التي يهرقونها حينما يذكرون آلام آل البيت عليهم السلام و ما عانوه في عهد معاوية من التوهين و التنكيل،و لكنهم لم يبذلوا أي تضحية تذكر لعقيدتهم فقد كان تشيعهم عاطفيا لا عقائديا و قد تخلّوا عن مسلم و تركوه فريسة بيد الطاغية ابن مرجانة،و يروي البلاذري أنهم كانوا في كربلاء،و هم ينظرون إلى ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و قد تناهبت جسمه الشريف السيوف و الرماح فكانوا يبكون،و يدعون الله قائلين:«اللّهم أنزل نصرك على ابن بنت نبيك»فانبرى إليهم

ص: 157

أحدهم فأنكر عليهم ذلك الدعاء و قال لهم:«هلا تهبون إلى نصرته بدل هذا الدعاء»، و قد جرّدهم الإمام الحسين عليه السّلام من إطار التشيع و صاح بهم يا شيعة آل أبي سفيان.

و الحق أن الشيعة بالمعنى الصحيح لم تكن إلا فئة نادرة في ذلك العصر و قد التحقق بعضهم بالإمام الحسين و استشهدوا معه،كما زجّ الكثيرون منهم في ظلمات السجون.

و على أي حال فلم يكن المسلمون في الكوفة على رأي واحد و إنما كانت هناك انقسامات خطيرة بين صفوفهم.

النصارى:
اشارة

من العناصر التي سكنت الكوفة النصارى،فقد أقبلوا إليها من الحيرة بعد زوال مجدها و قد أقاموا لهم في الكوفة عدة كنائس،فقد كانت لهم كنيسة في ظهر قبلة المسجد الأعظم و كان لهم أسقفان أحدهما نسطوري،و الآخر يعقوبي و كانوا طائفتين!!

-1-نصارى تغلب

و قد استوطنوا الكوفة عند تخطيطها مع سعد،و كانت لهذه الطائفة عزة و منعة و قد رفض أبناؤها دفع الجزية مما اضطر عمر أن يعاملهم معاملة المسلمين فجعل جزيتهم مثل صدقة المسلمين.

ص: 158

-2-نصارى نجران

نزلوا الكوفة في خلافة عمر،و استوطنوا في ناحية منها سميت محلة (التجرانية).

و قد شاركت النصارى مشاركة إيجابية في كثير من أعمال الدولة فقد اتخذ أبو موسى الأشعري أمير الكوفة كاتبا نصرانيا كما ولّى الوليد بن عقبة والي عثمان رجلا مسيحيا لإدارة شؤون مسجد قريب من الكوفة.

و قد شغل المسيحيون في الكوفة أعمال الصيرفة،و كوّنوا أسواقا لها و كانت الحركة المصرفية بأيديهم،كما كانوا يقومون بعقد القروض لتسهيل التجارة، و كانت تجارة التبادل و الصيرفة بأيديهم،و قد مهروا في الصيرفة،و نظّموها على شكل يشبه البنوك في هذا العصر.

و كانت هذه البنوك الأهلية تستقرض منها الحكومة المحلية الأموال إذا حدثت ثورة في القطر،فكانت الأموال توزع على أعضاء الثورة لإخمادها و قد استقرض منها ابن زياد الأموال فوزّعها على وجوه الكوفة و أشرافها للقضاء على ثورة مسلم.

و على أي حال فإن المجتمع الكوفي كان مزيجا بين المسلمين و المسيحيين و كانت العلاقة بينهما وثيقة للغاية.

اليهود:

و استوطن اليهود الكوفة سنة(20 ه)و قد قدم قسم كبير منهم من الحجاز بعد أن أجلاهم منه عمر بن الخطاب و قد كانت لهم محلة تعرف باسمهم في الكوفة كما

ص: 159

بنوا فيها معابد لهم،و يذكر الرحالة بنيامين أن بالكوفة سبعة آلاف يهودي،و فيها قبر يسكنه اليهود و حوله كنيس لهم و قد زاولوا بعض الحرف التي كان العرب يأنفون منها كالصياغة و غيرها..و كانت اليهود تحقد على الرسول صلّى اللّه عليه و اله كأعظم ما يكون الحقد لأنه أباد الكثيرين منهم و ألحق بهم العار و الهزيمة،و قد قاموا بدور فعال-فيما يقول بعض المحققين-في مجزرة كربلا تشفيا من النبي صلّى اللّه عليه و اله بأبنائه و ذريته..و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الأديان السائدة في الكوفة،و قد اشترك معظمها في حركات الجهاد و عمليات الحروب في ذلك العصر.

تنظيم الجيش:
اشارة

و أنشأت الكوفة لتكون معسكرا للجيوش الإسلامية،و قد نظّم الجيش فيها على أساس قبلي كما كانوا مرتبين وفق قبائلهم،و كانوا يقسمون في معسكراتهم باعتبار القبائل و البطون التي ينتمون إليها و قد رتّبت كما يلي:

نظام الأسباع:

و وزع الجيش توزيعا سباعيا يقوم قبل كل شي على أساس قبلي بالرغم من أنهم كانوا يقاتلون في سبيل الله إلا أن الروح القبلية كانت سائدة و لم تضعف، و فيما يلي أنظمتها:

السبع الأول:كنانة و حلفاؤها من الأحابيش و غيرهم،و جديلة و كانوا أعوانا طيعين للولاة القرشيين منذ إمارة سعد،و تولّوا بإخلاص عمال بني أمية و ولاتهم.

السبع الثاني:قضاعة،و غسان،و بجيلة،و خثعم،و كندة،و حضرموت،و الأزد.

ص: 160

السبع الثالث:مذحج و حمير و همدان و حلفاؤهم،و قد اتسموا بالعداء لبني أمية و المساندة الكاملة للإمام علي و أبنائه.

السبع الرابع:تميم و سائر الرباب و حلفاؤهم.

السبع الخامس:أسد و غطفان و محارب و ضبيعة و تغلب و النمر.

السبع السادس:أياد و عك و عبد القيس و أهل هجر و الحمراء.

السبع السابع:طي.

و تحتوي هذه الأسباع على قطعات قبلية من الجيش،و قد استعمل هذا النظام لأجل التعبئة العامة للحروب التي جرت في ذلك العصر،و توزيع الغنائم عليها بعد العودة من الحرب و ظلت الكوفة على هذا التقسيم حتى إذا كانت سنة(50 ه)عمد زياد بن أبيه حاكم العراق فغيّر ذلك المنهج و جعله رباعيا،فكان على النحو التالي:

-1-أهل المدينة،و جعل عليهم عمرو بن حريث.

2-تميم و همدان،و عليهم خالد بن عرفطة.

3-ربيعة بكر و كندة،و عليهم قيس بن الوليد بن عبد شمس.

4-مذحج و أسد و عليهم أبو بردة بن أبي موسى.

و إنما عمد إلى هذا التغيير لإخضاع الكوفة لنظام حكمه،كما أن الذين انتخبهم لرئاسة الأنظمة قد عرفوا بالولاء و الإخلاص للدولة،و قد استعان بهم ابن زياد لقمع ثورة مسلم،كما تولّى بعضهم قيادة الفرق التي زجّها الطاغية لحرب الإمام الحسين،فقد كان عمرو بن حريث و خالد بن عرفطة من قادة ذلك الجيش.

أما رؤساء الانظمة فقد كانت الدولة لا تنتخب إلا من ذوي المكانة الاجتماعية المعروفين بالنجدة و البسالة و التجربة في الحرب و رؤساء الأرباع يكونون خاضعين للسلطة الحكومية،كما أن اتصال السلطة بالشعب يكون عن طريقهم، و نظرا لأهميتهم البالغة في المصر فقد كتب إليهم الإمام الحسين يدعوهم إلى

ص: 161

نصرته و الذب عنه.

العرافة:

و كانت الدولة تعتمد على العرفاء فكانوا يقومون بأمور القبائل و يوزعون عليهم العطاء كما كانوا يقومون بتنظيم السجلات العامة التي فيها أسماء الرجال و النساء و الأطفال،و تسجيل من يولد ليفرض له العطاء من الدولة،و حذف العطاء لمن يموت كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن و النظام،و كانوا في أيام الحرب يندبون الناس للقتال و يحثّونهم على الحرب،و يخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلّفون عن القتال و إذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم فإن الحكومة تعاقبهم أقسى العقوبات و أشدها.

و من أهم الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم هو قيام العرفاء في تخذيل الناس عن الثورة و إشاعة الإرهاب و الأراجيف بين الناس كما كانوا السبب الفعال في زج الناس و إخراجهم لحرب الإمام الحسين.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن مظاهر الحياة الاجتماعية في الكوفة،و كان الإلمام بها من ضرورات البحث و ذلك لما لها من الأثر في إخفاق الثورة.

ص: 162

الطاغية ابن مرجانة:

اشارة

و لا بد لنا أن نتعرف على قائد الانقلاب الطاغية ابن مرجانة فنقف على نشأته و صفاته و مخططاته الرهيبة التي أدت إلى القضاء على الثورة،و إلى القراء ذلك.

ولادته:

ولد الطاغية سنة«39 ه»و قد ولد لخلق الكوارث و إشاعة الخطوب في الأرض، و على هذا فيكون عمره يوم قتله لريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله«21 سنة»و لم تعين المصادر التي بأيدينا المكان الذي ولد فيه.

أبواه:

أما أبوه فهو زياد بن سمية،و هو من عناصر الشر و الفساد في الأرض فقد سمل عيون الناس و صلبهم على جذوع النخل،و قتل على الظنة و التهمة و أخذ البرىء بذنب السقيم،و أغرق العراق بالحزن و الثكل و الحداد.

و أما أمه مرجانة فكانت مجوسية و قد عرفت بالبغي،و قد عرّض بها عبيد الله التميمي أمام ابنها عبيد الله فقال:إن عمر بن الخطاب كان يقول اللّهم إني أعوذ بك من الزانيات و أبناء الزانيات،فالتاع ابن زياد و ردّ عليه:إن عمر كان يقول:لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج مائقا،و فارق زياد مرجانة فتزوج بها شيروية.

ص: 163

نشأته:

نشأ الطاغية في بيت الجريمة،و قد قطع دور طفولته في بيت زوج أمه شيروية، و لم يكن مسلما و لما ترعرع أخذه أبوه زياد،و قد ربّاه على سفك الدماء و البطش بالناس،و ربّاه على الغدر و المكر،و قد ورث جميع صفات أبيه الشريرة من الظلم و التلذذ بالإساءة إلى الناس،و قد كان لا يقل قسوة عن أبيه،و قد قال الطاغية في بعض خطبه:

«أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطأ الحصى،و لم ينتزعني شبه خال و لا ابن عم»لقد كان كأبيه في شدته و صرامته في الباطل و تنكره للحق.

صفاته:

أما صفاته النفسية فكان من أبرزها القسوة و التلذذ بسفك الدماء،و قد أخذ امرأة من الخوارج فقطع يديها و رجليها،و أمر بعرضها في السوق و وصفه الحسن البصري بأنه غلام سفيه سفك الدماء سفكا شديدا و يقول فيه مسلم بن عقيل:

«و يقتل النفس التي حرّم الله قتلها على الغضب و العداوة،و سوء الظن و هو يلهو و يلعب كأنه لم يصنع شيئا».

و كان متكبرا لا يسمع من أحد نصيحة،و قد دخل عليه الصحابي عائذ بن عمرو فقال له:

«أي بني إني سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يقول:إن شر الدعاء الحطمة فإياك أن تكون منهم».

فلذعه قوله و صاح به:

«إجلس إنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه و اله».

ص: 164

فأنكر عليه عائذ و قال:«و هل كان فيهم نخالة؟إنما كانت النخالة بعدهم و في غيرهم».

و عرف في أثناء ولايته على البصرة بالغش للرعية و الخديعة لها،و قد نصحه معقل بن يسار أن يترك ذلك و قال له:إني سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يقول:ما من عبد يسترعيه الله رعيته و يموت و هو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة هذه بعض نزعاته و صفاته النفسية أما صفاته الجسمية فقد كان منها ما يلي:

اللكنة:

و نشأ الطاغية في بيت أمه مرجانة،و لم تكن عربية فأخذ لكنتها،و لم يكن يفهم اللغة العربية،فقد قال لجماعة:«إفتحوا سيوفكم»و هو يريد سلّوا سيوفكم،و إلى هذا يشير يزيد بن المفرغ في هجائه له:

و يوم فتحت سيفك من بعيد أضعت و كل أمرك للضياع

و جرت بينه و بين سويد مشادة فقال له عبيد الله:

«إجلس على أست الأرض».

فسخر منه سويد و قال:

«ما كنت أحسب أن للأرض أستا».

و كان لا ينطق بالحاء و قد قال لهانىء:«أهروري ثائر اليوم»يريد أحروري، و كان يقلب العين همزة كما كان يقلب القاف كافا،فقد قال يوما:«من كاتلنا كاتلناه» يريد من قاتلنا قاتلناه.

نهمه في الطعام

و يقول المؤرخون:إنه كان نهما في الطعام فكان في كل يوم يأكل خمس أكلات

ص: 165

آخرها جنبة بغل و يوضع بين يديه بعد ما يفرغ عناق أو جدي فيأتي عليه وحده و كذلك كان مسرفا في النساء فقد بنى ليلة قدومه إلى الكوفة بأم نافع بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط هذه بعض صفاته الجسمية.

ولايته على البصرة

و أسند إليه معاوية إمارة البصرة و ولاه أمور المسلمين،و كان في ميعة الشباب و غروره و طيشه،و قد ساس البصرة كما ساسها أبوه فكان يقتل على الظنة و التهمة،و يأخذ البريء بالسقيم و المقبل بالمدبر،و قد وثق به معاوية و ارتضى سيرته،و كتب إليه بولاية الكوفة إلا أنه هلك قبل أن يبعث إليه بهذا العهد.

ص: 166

أحقاد يزيد على ابن مرجانة

و كان يزيد ناقما على ابن مرجانة،كأشد ما يكون الإنتقام لأمور كان من أهمها أن أباه زيادا كان من المنكرين على معاوية ولايته ليزيد،لاستهتاره،و إقباله على اللهو و المجون،و قد أراد يزيد أن يعزل عبيد الله من البصرة،و يجرّده من جميع الإمتيازات إلا أنه لما أعلن الإمام الحسين عليه السّلام الثورة و بعث سفيره مسلما لأخذ البيعة من أهل الكوفة أشار عليه سرجون بأن يقرّه على ولاية البصرة و يضم إليه الكوفة،و يندبه للقضاء على الثورة فاستجاب له يزيد،و قد خلص العراق بأسره لحكم ابن زياد فقبض عليه بيد من حديد،و اندفع كالمسعور للقضاء على الثورة ليحرز بذلك ثقة يزيد به،و ينال إخلاص البيت الأموي له.

ص: 167

مخططات الانقلاب

و بالرغم من حداثة سن ابن زياد فإنه كان من أمهر السياسيين في الانقلابات، و أكثرهم تغلبا على الأحداث و قد استطاع بغدره و مكره أن يسيطر على حامية الكوفة،و يقضي على جذور الثورة و يخمد نارها،و قد كانت أهم مخططاته ما يلي:

1-التجسس على مسلم و الوقوف على جميع شؤون الثورة.

2-نشر أوبئة الخوف،و قد أثار جوا من الفزع و الإرهاب لم تشهد له الكوفة نظيرا،و انشغل الناس بنفوسهم عن التدخل في أي شأن من الشؤون السياسية.

3-بذل المال للوجوه و الأشراف،و قد صاروا عملاء عنده يوجههم حيثما شاء، و قد أفسدوا عشائرهم و ألحقوا الهزيمة بجيش مسلم.

4-الإحتيال على هانىء بإلقاء القبض عليه،و هو أمنع شخصية في المصر،و قد قضى بذلك على أهم العناصر الفعالة في الثورة

هذه بعض المخططات الرهيبة التي استطاع أن يسيطر بها الطاغية على الموقف، و يقضي على الثورة و يزج حامية الكوفة إلى حرب ريحانة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله.

ص: 168

مسلم بن عقيل

قال السيد القرشي:أما مسلم بن عقيل فكان من أعلام التقوى في الإسلام،و كان متحرّجا في دينه كأشد ما يكون التحرّج فلم يسلك أي منعطف في طريقه،و لا يقر أي وسيلة من وسائل المكر و الخداع،و إن توقّف عليها النصر السياسي شأنه في ذلك شأن عمه أمير المؤمنين عليه السّلام بالإضافة إلى ذلك أنه لم يبعث إلى الكوفة كوال مطلق حتى يتصرّف حسبما يراه،و إنما كانت مهمته محدودة و هي أخذ البيعة للإمام،و الاستطاع على حقيقة الكوفيين فإن رآهم مجتمعين بعث إلى الإمام الحسين بالقدوم إليهم،و لم يؤمر بغير ذلك،و قد أطلنا الحديث في هذه الجهة في البحوث السابقة.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن إخفاق ثورة مسلم التي كانت فاتحة لفاجعة كربلا، و مصدرا لآلامها العميقة (1).

ص: 169


1- حياة الإمام الحسين للقرشي:296/2-320.

الفهرس

بداية الإنحراف حكومة معاوية 3

سياسته الاقتصادية 4

الحرمان الاقتصادي 5

1-يثرب:5

2-العراق:7

3-مصر:8

الرفاه على الشام 8

استخدام المال في تدعيم ملكه:8

المنح الهائلة لأسرته 9

منح خراج مصر لعمرو 9

هبات الأموال للمؤيدين 10

شراء الأديان 10

عجز الخزينة المركزية 11

مصادرة أموال المواطنين 11

ضريبة النيروز 13

ص: 170

نهب الولاة و العمال 13

جباية الخراج 14

اصطفاء الذهب و الفضة 14

شل الحركة الإقتصادية 15

حجة معاوية 15

سياسة التفريق 16

اضطهاد الموالي 17

العصبية القبلية 18

سياسة البطش و الجبروت 19

احتقار الفقراء 21

سياسة الخداع 21

الخلاعة و المجون 25

إشاعة المجون في الحرمين 27

الاستخفاف بالقيم الدينية 27

استلحاق زياد 28

الحقد على النبي 30

تغيير الواقع الإسلامي 32

عزل أهل البيت عليهم السلام 33

حديث مفتعل على الحسين 36

سب الإمام أمير المؤمنين 37

ستر فضائل أهل البيت عليهم السلام 39

التحرج من ذكر الإمام 41

ص: 171

أذية الشيعة 42

القتل الجماعي 43

إبادة القوى الواعية 43

-1-حجر بن عدي 44

مذكرة الإمام الحسين 45

-2-رشيد الهجري 46

-3-عمرو بن الحمق الخزاعي 46

مذكرة الإمام الحسين 47

-4-أوفى بن حصن 48

-5-الحضرمي مع جماعته 48

إنكار الإمام الحسين 49

-6-جويرية العبدي 49

-7-صيفي بن فسيل 49

-8-عبد الرحمن 51

المروّعون من أعلام الشيعة 52

ترويع النساء 52

هدم دور الشيعة 53

حرمان الشيعة من العطاء 53

عدم قبول شهادة الشيعة 54

إبعاد الشيعة إلى خراسان 54

البيعة ليزيد 55

ولادة يزيد 55

ص: 172

نشأته 56

صفاته:56

ولعه بالصيد 57

شغفه بالقرود 57

إدمانه على الخمر 58

ندماؤه:59

نصيحة معاوية ليزيد 60

إقرار معاوية لاستهتار يزيد 61

حقد يزيد على النبي صلّى اللّه عليه و آله 62

بغض يزيد للأنصار 62

دعوة المغيرة لبيعة يزيد 64

تبرير معاوية 67

-1-أحمد دحلان 67

-2-الدكتور عبد المنعم:68

-3-حسين محمد يوسف:69

كلمة الحسن البصري 69

كلمة ابن رشد 70

دوافع معاوية 70

الوسائل الدبلوماسية في أخذ البيعة 71

-1-استخدام الشعراء 71

بذل الأموال للوجوه 73

مراسلة الولاة 73

ص: 173

وفود الأقطار الإسلامية:74

مؤتمر الوفود الإسلامية:74

المؤيدون للبيعة 74

خطاب الأحنف بن قيس 75

فشل المؤتمر 76

سفر معاوية ليثرب 76

اجتماع مغلق 77

كلمة معاوية:77

كلمة عبد الله بن عباس:78

كلمة عبد الله بن جعفر:78

كلمة عبد الله بن الزبير:79

كلمة عبد الله بن عمر:79

كلمة معاوية:80

فزع المسلمين:81

الجبهة المعارضة 82

1-الإمام الحسين:82

الحرمان الاقتصادي:82

2-عبد الرحمن بن أبي بكر:83

-3-عبد الله بن الزبير:83

-4-المنذر بن الزبير:83

-5-عبد الرحمن بن سعيد:83

-6-عابس بن سعيد:84

ص: 174

-7-عبد الله بن حنظلة:84

موقف الأسرة الأموية:85

-1-سعيد بن عثمان 85

-2-مروان بن الحكم 86

-3-زياد بن أبيه 86

إيقاع الخلاف بين الأمويين:87

تجميد البيعة:88

اغتيال الشخصيات الإسلامية:88

-1-سعد بن أبي وقاص 88

-2-عبد الرحمن بن خالد 88

-3-عبد الرحمن بن أبي بكر 89

-4-الإمام الحسن 89

إعلان البيعة رسميا ليزيد 91

مع المعارضين في يثرب:91

خطاب الإمام الحسين عليه السلام 92

إرغام المعارضين:94

موقف الإمام الحسين:94

وفود الأقطار الإسلامية:95

مذكرة مروان لمعاوية:95

جواب معاوية:95

رأي مروان في إبعاد الإمام:96

رسالة معاوية للحسين:96

ص: 175

جواب الإمام:97

صدى الرسالة:100

المؤتمر السياسي العام:100

رسالة جعدة للإمام:101

جواب الإمام:102

نصيحة الخدري للإمام 102

استيلاء الحسين على أموال للدولة:103

و أجابه معاوية:103

حديث موضوع:104

الحسين مع بني أمية:105

مرض معاوية:107

وصاياه:107

موت معاوية 110

حكومة يزيد 111

خطاب العرش 112

خطابه في أهل الشام 112

مع المعارضة في يثرب:113

الأوامر المشددة إلى الوليد:114

فزع الوليد 116

استشارته لمروان 117

رأي مروان:117

أضواء على موقف مروان:118

ص: 176

استدعاء الحسين:120

الحسين مع مروان:123

اتصال الوليد بدمشق:124

الأوامر المشددة من دمشق:124

رفض الوليد:125

وداع الحسين لقبر جده:125

رؤيا الحسين لجده:125

وداعه لقبر أمه و أخيه:127

فزع الهاشميات:127

مع أخيه ابن الحنفية:128

وصيته لابن الحنفية:129

الثورة الحسينية أسبابها و مخططاتها 132

إخفاق الثورة 134

المجتمع الكوفي:135

الظواهر الاجتماعية:136

التناقض في السلوك:136

الغدر و التذبذب:137

التمرد على الولاة:141

الانهزامية:142

مساوىء الأخلاق:142

الجشع و الطمع:144

التأثر بالدعايات:144

ص: 177

الحياة الاقتصادية:146

عناصر السكان:148

العرب:148

القبائل اليمنية:149

القبائل العدنانية:150

قبائل بني بكر:150

الروح القبلية:151

الفرس:152

الأنباط:153

السريانية:154

الأديان:154

-1-الإسلام 155

الخوارج:155

الحزب الأموي:157

الشيعة:157

النصارى:158

-1-نصارى تغلب 158

-2-نصارى نجران 159

اليهود:159

تنظيم الجيش:160

نظام الأسباع:160

العرافة:162

ص: 178

الطاغية ابن مرجانة:163

ولادته:163

أبواه:163

نشأته:164

صفاته:164

اللكنة:165

نهمه في الطعام 165

ولايته على البصرة 166

أحقاد يزيد على ابن مرجانة 167

مخططات الانقلاب 168

مسلم بن عقيل 169

ص: 179

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.