الصحیح من سیرة الإمام الحسین بن علي علیه السلام
نویسنده: سید هاشم بحرانی - علامه سید مرتضی عسکری و سید محمد باقر شریف قرشی
ناشر: مؤسسة التاريخ العربي
مکان نشر: لبنان - بيروت
سال نشر: 2009م , 1430ق
چاپ:1
موضوع:اسلام، تاریخ
زبان :عربی
تعداد جلد: 20
کد کنگره : /ع5ص3 41/4 BP
ص: 1
ص: 2
الجزء الثامن
اسباب و معطيات ثورة عاشوراء
أسباب واقعة الطف
قال الإمام الخميني (1):في صدر الإسلام و بعد رحلة النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و اله-مرسي أسس العدالة و الحرية-أوشك الإسلام أن ينمحي و يتلاشى بسبب انحرافات بني أمية و كاد يسحق تحت أقدام الظالمين و يبتلع من قبل الجبابرة،فهب سيد الشهداء عليه السّلام لتفجير نهضة عاشوراء العظيمة.
لقد أوشكت حكومة يزيد و جلاوزته الجائرة أن تمحو الإسلام و تضيع جهود النبي صلّى اللّه عليه و اله المضنية و جهود مسلمي صدر الإسلام و دماء الشهداء،و تلقي بها في زاوية النسيان،و تعمل ما من شأنه أن يضيع كل ذلك سدى.
لقد كاد الدين الإسلامي يندثر و يتلاشى نتيجة انحرافات حثالات الجاهلية و خططهم الهادفة لإحياء الشعور الوطني و القومي برفعهم شعار"لا خبر جاء و لا وحي نزل"هو جزء من شعر عبد اللّه بن الزبعري الذي يقول فيه:لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل و قيل أن يزيد(لعنة اللّه عليه)استشهد بهذه الأبيات عند ما دخل عليه أهل بيت العصمة و الطهارة في الشام و كانت بيده عصا يضرب بها على الثغر الطاهر للإمام الحسين عليه السّلام.
فقد عملوا على تحويل حكومة العدل الإسلامي إلى حكم ملكي امبراطوري
ص: 3
و عزل الإسلام و الوحي و إزوائهما حتى نهض فجأة رجل عظيم تغذى من عصارة الوحي الإلهي و تربى في أحضان سيد الرسل محمد المصطفى صلّى اللّه عليه و اله و سيد الأولياء على المرتضى عليه السّلام و ترعرع في أحضان الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السّلام، فانتفض ثائرا ليصنع-و من خلال تضحيته الفذة و نهضته الإلهية-أكبر ملحمة جهادية في التاريخ.
لقد هدف بنو أمية للقضاء على الإسلام.
لقد أوشك حكم بني أمية المنحط أن يظهر الإسلام بمظهر الحكم الطاغوتي و يشوه سمعة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله،و قد فعل معاوية و ابنه الظالم الأفاعيل ضد الإسلام و ارتكب ما لم يرتكبه جنكيز خان.هاجم جنكيز خان قائد المغول في عام 616 ه ق رافعا شعار"أنا عذاب اللّه"المدن الإيرانية التي كانت عامرة بأهلها في ذلك اليوم و قام أولا بقتل سكان المدن المكتظة من الشبان و الشيوخ و الكبار و الصغار مثل مرو و بخارى و نيشابور و ري و قم و آذربيجان و خيوه،ثم قضى على جميع الكائنات الحية و أحرق الأشجار،و دمر كل ما يشير إلى التمدن كالمكتبات و المدارس و المساجد و الأبنية و البيوت و البساتين و الدكاكين ثم حرث تلك الخرائب و فتح عليها الماء و قام بزراعتها ضد إيران.فقد بدّل أساس عقيدة الوحي و معالمها إلى نظام شيطاني.
لقد رأى سيد الشهداء(سلام اللّه عليه)أن معاوية و ابنه-لعنة اللّه عليهما- يعملان على هدم الدين و تقويض أركانه،و تشويه الإسلام و طمس معالمه،لقد جاء الإسلام ليقوّم سلوك الإنسان،و لم يأت لكي يستحوذ على السلطة،بل ليعدّ الإنسان و يبنيه.
لقد حاول ذلك الأب و الابن يقصد الإمام رضوان اللّه عليه رضا خان بهلوي و ولده محمد رضا(أي معاوية و ابنه يزيد)طمس معالم الدين و تشويه صورته
ص: 4
الناصعة مثلما عمل هذا الأب و الابن(رضا خان و ابنه محمد رضا آخر ملكين حكما إيران)بالنهج نفسه،فمعاوية و ابنه كانا يشربان الخمر،و يؤمان المصلين أيضا، و كان مجلساهما من مجالس اللهو و اللعب و الطرب تمارس فيهما كل الإنحرافات، ثم تقام بعده صلاة الجماعة،فيتقدمان هما لإمامة تلك الجماعة،تصوروا لاعب ميسر يصبح إمام جماعة،كانا يتوليان إمامة الجماعة،و كانا يؤمان الجمعة و يرتقيان منبر الخطابة فقد كانا خطيبين يتحركان ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله باسم خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.
يرفعان عقيرتهما بنداء(لا إله إلاّ اللّه)لكنهما يقفان بوجه الألوهية،لقد كانت ممارساتهما و أعمالهما شيطانية في حين أنهما كانا يدّعيان أنهما خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.
لقد كان يزيد هو الآخر حاكما جائرا،يتمتع بكل مظاهر السلطنة،و جاء بعد معاوية طبعا.فبأي حجة قام سيد الشهداء عليه السّلام ضد سلطان عصره؟و بأي دليل ثار على من كان يعد نفسه(ظل اللّه)و رد عن الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله قوله:السلطان العادل المتواضع ظل اللّه و رمحه في الأرض.و السلطان ظل اللّه في الأرض يأوي إليه الضعيف و به ينصر المظلوم.
و استغل أغلب حكام الجور و السلاطين المستبدين و القادة الفاسدين في البلدان الإسلامية هذه التعابير الجميلة للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و اله و ذلك بسبب جهل عامة الناس و انخفاض مستوى إدراكها السياسي و أطلقوا على أنفسهم لقب"ظل اللّه"في الأرض رغم الظلم و الفساد الواسع الذي كانت تمارسه حكوماتهم.؟
و لما كان من غير المناسب مس السلطان،فلماذا ثار ضد سلطان عصره؟ألم يكن سلطان عصره ينطق بالشهادتين و يقول إني خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.لقد ثار الحسين عليه السّلام بوجهه لأنّه كان شخصا سيئا،يريد أن يستغل الشعب و يأتي على
ص: 5
ثرواته و ينهب خيراته،و يستولي عليها هو و جلاوزته.
إن نظام السلطنة و ولاية العهد هو نفس ذلك النمط المشؤوم من الحكومة التي ضحّى سيد الشهداء عليه السّلام و استشهد من أجل الحيلولة دون استمرار بقائه،و لما لم يكن يرغب في الخضوع لولاية العهد التي أسندت ليزيد و لم يرغب الإعتراف رسميا بسلطنته،فقد قام و ثار و دعا المسلمين إلى القيام و الثورة،فهذه الأمور(السلطنة و ولاية العهد)ليست من الإسلام،ليس في الإسلام سلطنة و ولاية عهد.
ص: 6
قال الإمام الخميني:إن الخطر الذي كان يمثله معاوية و يزيد ضد الإسلام لم ينحصر في كونهما غاصبين للخلافة،فهو أهون من الخطر الأكبر الآخر و هو أنهما حاولا جعل الإسلام عبارة عن سلطنة و ملكية و أرادا أن يحوّلا الأمور المعنوية إلى طاغوت،و محاولتهما-و بذريعة أنهما خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله-قلب حقيقة الإسلام إلى نظام طاغوتي.لقد كان هذا الأمر مهما لدرجة أن من سبقوهم لم يضاهوهم في إلحاق الضرر بالإسلام و لم يبلغوا ما بلغاه.فقد حاولا قلب حقيقة الإسلام.فقد امتلأت مجالسهم بشرب الخمر و لعب القمار.
كان الواحد منهم يزعم أنه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و يشرب الخمر في مجلسه و يلعب القمار!ثم يبقى خليفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و يتوجه إلى الصلاة و يؤم صلاة الجماعة.إن هذا خطر كبير واجه الإسلام مما دفع سيد الشهداء عليه السّلام للقيام لرفضه.
لم تكن القضية قضية غصب الخلافة فحسب،لقد كان قيام سيد الشهداء(سلام اللّه عليه)و ثورته قياما ضد السلطة الطاغوتية...تلك السلطنة التي كانت تريد أن تصبغ الإسلام بصبغة أخرى و لو أنها نجحت في تلك لأصبح الإسلام شيئا آخر تماما،و لصار مثل النظام الإمبراطوري الذي كان قائما لألفين و خمسمائة عام أقام نظام الشاه بتاريخ 12 أكتوبر 1971 أكثر الإحتفالات في التاريخ إنفاقا،يعني احتفالات ذكرى مرور 2500 سنة على الأمبراطورية الفارسية و قرر مجلس النواب و مجلس الشيوخ في اجتماع مشترك في الذكرى السنوية لولادة رضا خان بتغيير
ص: 7
التاريخ الرسمي الإيراني من الهجري الشمسي إلى التاريخ الملكي،أي أن يبدأ التاريخ منذ تشكيل الملكية في إيران و بداية عهد الحكم الحخامنشي بواسطة كورش و يقارن ذلك عام 529 قبل الميلاد.و هكذا نرى أن الملك كان يفتخر ب 2500 سنة من التمدن الملكي و ذلك رغم الفقر و الحرمان الذي كان يعاني منه أغلب أبناء الشعب الإيراني و منع أي نوع من النشاط السياسي و سيطرة الإرهاب على جميع المجالات.(في إيران).
إنهم أرادوا مواجهة الإسلام الذي جاء للقضاء على النظام الملكي و إزالة حكم السلاطين و إقامة الحكم الإلهي في العالم،و تحطيم الطاغوت.أرادوا أن يعيدوا عبادة الطاغوت و نفس الأوضاع التي كانت سائدة في الجاهلية (1).ء.
ص: 8
قال الإمام الخميني:إن شهادة الإمام الحسين عليه السّلام لم تكن هزيمة،فثورة سيد الشهداء(سلام اللّه عليه)كانت قياما للّه،و ليس في القيام من أجل اللّه أية هزيمة.
كان بنو أمية يريدون القضاء على الإسلام من الأساس و قلع جذوره و إقامة حكم عربي سلطوي.غير أن ثورة سيد الشهداء عليه السّلام أفهمت العرب و العجم جميعا و نبّهت المسلمين كلهم إلى أن القضية ليست قضية عرب و عجم إنما هي:اللّه و الإسلام.
عند ما رأى سيد الشهداء عليه السّلام إن هؤلاء يلوثون بأعمالهم سمعة الإسلام و يشوهون صورته باسم خلافة الرسول و يرتكبون المعاصي و يحكمون بالظلم و الجور،و أن انعكاس ذلك على الصعيد العالمي هو أن خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يمارس هذه الأعمال،رأى من واجبه أن ينهض و يثور حتى لو أدى الأمر إلى مقتله، المهم هو إزالة ما تركه معاوية و ابنه من آثار على الإسلام.
لقد تحرك سيد الشهداء عليه السّلام مع عدد قليل من الأنصار و ثار بوجه يزيد الذي كان حاكما متجبرا يرأس حكومة غاشمة جائرة،و يتظاهر بالإسلام و يستغل قرابته وصلته العائلية إن بني أمية(الأمويين)و بني هاشم(الهاشميين)هما من فروع عبد المناف من قبيلة قريش.و بمجرد أن بعث الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله من بين الهاشميين أصيب الأمويون بالذهول و بدأوا يحاربون الرسول حتى إنهم أجبروه على الهجرة.
ص: 9
إلتحق بنو هاشم في المدينة بالرسول و وقعت مكة بيد بني أميه و خضعت كل قريش لهم.و أدى انتصار الرسول و خسارة قريش إلى أن يصبحوا مسلمين جميعا،لكن عداوة بني أمية إلى بني هاشم(عشيرة الرسول)استمرت إلى ما بعد ذلك،و تحمّل الإسلام على طول التاريخ ضربات شديدة بسبب هذه العداوة للإمام عليه السّلام.
قد كان رغم تظاهره بالإسلام و زعمه أن حكومته حكومة إسلامية و أنه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله كان امرءا ظالما يهيمن على مقدرات بلد دون حق.لذا فإن الإمام أبا عبد اللّه الحسين عليه السّلام ثار بوجهه مع قله الأنصار لأنّه رأى أن واجبه و تكليفه يقتضي ذلك،و أنّ عليه أن يستنكر ما يحدث و أن ينهى عن المنكر.
عند ما يرى سيد الشهداء(سلام اللّه عليه)أن حاكما ظالما يحكم في الناس بالجور و العدوان فإنه يقول:من رأى حاكما جائرا يحكم في الناس بالظلم و الجور فعليه أن يقوم بوجهه و يمنعه من الظلم بمقدار ما يستطيع و لو كان معه بضعة أنصار فقط يقفون بوجه ذلك الحاكم ذي الجيش العظيم الجرار.
لما أراد الحسين عليه السّلام أن يثور خطب في الناس خطبة أوضح فيها أسباب الثورة (1)و أسقط عذر من يتذرع.
فلننظر ماذا فعل يزيد ليثور سيد الشهداء عليه السّلام ضده و يصفه بما وصفه و سلك ذلك النهج،فالموضوع الذي تكلم به الإمام سيد الشهداء عليه السّلام يخص الجميع،فهو4.
ص: 10
يقول:(من رأى)يعني كل من رأى و عاصر سلطانا جائرا يتصف بتلك الصفات و بقي ساكتا أمامه لا يعارضه بقول و لا فعل فإن مصيره و مآله هو ذات مصير و مآل ذلك السلطان الجائر.
لقد كان يزيد امرء متشبثا-حسب الظاهر-بالإسلام و يعد نفسه خليفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و يؤدي الصلاة أيضا،و يمارس كل ما نمارسه نحن،و لكن ماذا ارتكب غير ذلك؟إنه يقترف المعاصي و يخالف سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.و كان يخالف أسلوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في معاملة المسلمين و صيانة دمائهم و حفظ أموالهم،فهو يسفك الدماء و يهدر الأموال و يبذرها،و هي ذات الأفعال التي كان يقوم بها أبوه معاوية و التي دعت أمير المؤمنين عليه السّلام إلى معارضته،كل ما في الأمر أن الإمام عليا عليه السّلام كان يمتلك جيشا في حين لم يمتلك الحسين عليه السّلام سوى عدد قليل في مقابل حكومة مقتدرة.
إن عظماء الإسلام قد ضحوا بأرواحهم عند ما رأوا الخطر محدقا بالإسلام و أن سمعته تكاد تشوّه فقد حاول معاوية و ابنه يزيد تشويه سمعة الإسلام و تقبيح صورته باسم الخلافة على المسلمين،فقد ارتكبوا باسم خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله تلك الجرائم،و عقدوا تلك المجالس.
و هنا اقتضى التكليف أن ينهض عظماء الإسلام بمهمة المعارضة و المجاهدة و إزالة التشويه الذي يوشك أن يلحقه هؤلاء بسمعة و مكانة الإسلام و ما يمكن أن يشتبه المغفلون في إدراكه و هو كون أن هذا هو الإسلام و أن الخلافة هي هذه التي يتظاهر بها معاوية و ابنه يزيد،الأمر الذي يتهدد الإسلام بالخطر و هذا ما يجب على الإنسان أن يندفع عنده للمجاهدة حتى لو أدى إلى التضحية بالنفس (1).ء.
ص: 11
قال السيد مرتضى العسكري:ينبغي أن نبحث في هذا المقام عن أمرين:أ-عن قاتل الإمام الحسين لماذا أقدم على قتله؟ب-عن الإمام الحسين لماذا اختار القتل.
و قد روى الطبري و غيره و اللفظ للطبري (1)في بيان ذلك و قال:بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه في رجب سنة ستين و أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و لم يكن ليزيد همة حين ولّى إلاّ بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته و إنه ولى عهده بعده و الفراغ من أمرهم،فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية و كتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة:أما بعد.
فخذ حسينا و عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا و السلام.
فأشار عليه مروان أن يبعث إليهم في تلك الساعة و يدعوهم إلى البيعة و الدخول في الطاعة فإن فعلوا قبل منهم و كفّ عنهم و إن أبوا قدّمهم فضرب أعناقهم فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل منهم في جانب و أظهر الخلاف و المنابذة و دعا إلى نفسه عدا ابن عمر فإنه لا يرى القتال إلاّ أن يدفع الأمر إليه عفوا.
فأرسل عبد اللّه بن عمرو بن عثمان إلى الحسين و ابن الزبير يدعوهما فوجدهما في المسجد فدعاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس فقالا:إنصرف الان
ص: 12
نأتيه فقال حسين لابن الزبير:أرى طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر فقال:و أنا ما أظن غيره.
فقام الحسين عليه السّلام و جمع إليه مواليه و أهل بيته و سار إلى باب الوليد و قال لهم:
إنى داخل فإن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي و الا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم،فدخل على الوليد و مروان جالس عنده فأقرأه الوليد الكتاب و دعاه إلى البيعة فاسترجع الحسين و قال:إن مثلي لا يعطى بيعته سرا و لا أراك تجتزئ بها منى سرا دون أن تظهرها على رؤوس الناس علانية،قال:أجل؟قال:
فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا فقال له الوليد،و كان يحب العافية:إنصرف على اسم اللّه،فقال له مروان:و اللّه لئن فارقك الساعة و لم يبايع لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم و بينه احبس الرجل و لا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه فوثب عند ذلك الحسين،فقال:يا ابن الزرقاء (1)أنت تقتلني أم هو؟كذبت و اللّه و أثمت (2).
و في تاريخ أعثم و مقتل الخوارزمي و مثير الأحزان (3)و اللهوف و اللفظ للأخير (4)،كتب يزيد إلى الوليد يأمره بأخذ البيعة على أهلها عامة و خاصة على5.
ص: 13
الحسين عليه السّلام و يقول له:إن أبى عليك فاضرب عنقه،ثم أوردوا الخبر نظير ما ذكره الطبري إلى قولهما،فغضب الحسين و قال:ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي؟كذبت و لؤمت نحن أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و يزيد فاسق شارب الخمر و قاتل النفس و مثلي لا يبايع مثله.
قال الطبري:فقال له الوليد-و كان يحب العافية-:انصرف على اسم اللّه.
و في الرواية الأولى:فلما أصبح الحسين لقية مروان فقال أطعني ترشد،قال:
قل،قال:بايع أمير المؤمنين يزيد فهو خير لك في الدارين فقال الحسين:"إنا للّه و انا إليه راجعون"و على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد (1).
أما ابن الزبير فإنهم ألحّوا عليه و تعلل و لم يحضر دار الوليد و بعث الوليد إلى عبد اللّه ابن عمر فقال:بايع ليزيد.
فقال:إذا بايع الناس بايعت فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان فتقدّم إلى الوليد فبايعه (2).
و في رواية:أن الحسين خرج من منزله بعد ذلك و أتى قبر جده فقال:السلام عليك يا رسول اللّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك و ابن فرختك و سبطك و الثقل الذي خلفته في أمتك،فاشهد عليهم يا نبي اللّه إنهم قد خذلوني و ضيعوني و لم يحفظوني،و هذه شكواي إليك حتى ألقاك صلى اللّه عليك.
ثم صف قدميه فلم يزل راكعا ساجدا (3)إلى الفجر.
و في رواية أخرى:فصلّى ركعات فلما فرغ من صلاته جعل يقول:اللهم هذا قبر نبيك محمد صلّى اللّه عليه و اله و أنا ابن بنت نبيك و قد حضرني من الأمر ما قد علمت،اللهم إني1.
ص: 14
أحب المعروف و أنكر المنكر و إني أسألك يا ذا الجلال و الاكرام بحق هذا القبر و من فيه إلاّ اخترت من أمري ما هو لك رضى و لرسولك رضى و للمؤمنين رضى،ثم جعل يبكى عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى فإذا هو برسول اللّه قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه و شماله و بين يديه و من خلفه فجاء و ضمّ الحسين إلى صدره و قبّل بين عينيه و قال"حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك،مذبوحا بأرض كربلاء،بين عصابة من أمتي،و أنت في ذلك عطشان لا تسقى،و ظمآن لا تروى،و هم في ذلك يرجون شفاعتي،ما لهم لا أنالهم اللّه شفاعتي ما لهم لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة،و ما لهم عند اللّه من خلاق،حبيبي يا حسين إن أباك و أمك و أخاك قدموا علي و هم إليك مشتاقون،و ان لك في الجنة لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة (1).الحديث.
و ذهب إلى قبر أمه و أخيه و ودعهما.
و روى عمر بن علي الأطراف و قال:لما امتنع أخي الحسين عليه السّلام عن البيعة ليزيد بالمدينة دخلت عليه فوجدته خاليا،فقلت له:جعلت فداك يا أبا عبد اللّه:حدثني أخوك أبو محمد الحسن عن أبيه عليه السّلام.
ثم سبقتني الدمعة،و علا شهيقي،فضمّني إليه،و قال:أحدّثك أني مقتول؟
فقلت:حوشيت يا ابن رسول اللّه.
فقال:سألتك بحق أبيك،بقتلي خبرك أبي؟
فقلت:نعم،فلولا تأولت و بايعت.
فقال:حدّثني أبي:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أخبره بقتله و قتلي و أن تربتي تكون بقرب تربته،فتظن أنك علمت ما لم أعلمه و اني لا أعطى الدنية من نفسي أبدا و لتلقين1.
ص: 15
فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذريتها من أمته و لا يدخل الجنة أحد آذاها في ذريتها (1).
كان حكام ذلك العصر و أشياعهم قد اعتادوا على تسمية تغيير أحكام اللّه بالتأويل كما شرحناه في بحث الإجتهاد حتى أصبح المتبادر إلى الذهن من لفظ التأويل هو التغيير،و أصبح ذلك شائعا و سائغا و من ثم كان معاصرو الإمام الحسين الذين بلغهم نبأ استشهاد الحسين في العراق عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يلحّون على الإمام الحسين أن يأول قضاء اللّه هذا أي يغيره بعدم ذهابه إلى العراق و بعضهم كان يضيف إلى ذلك طلبه من الإمام ان يأوله بالبيعة اي يغيره بالبيعة، و هذا ما عناه عمر بن علي بقوله(فلولا تأولت و بايعت)أي فلولا أولت قضاء اللّه بقتلك ببيعتك،و كذلك كان قصد محمد بن الحنفية في حوار أخيه الإمام الحسين و ان لم يصرح به.
كما روى الطبري و المفيد و غيرهما و اللفظ للمفيد:إن محمد بن الحنفية قال للحسين عليه السّلام لما عزم على الخروج من المدينة:يا أخي أنت أحب الناس إلي و أعزهم علي و لست أدخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك و أنت أحق بها.
تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية و عن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعك الناس و بايعوا لك حمدت اللّه على ذلك و ان اجتمع الناس على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك و لا عقلك و لا تذهب به مروءتك و لا فضلك إني أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك و أخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضا،فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا و أبا و أما أضيعها دما و أذلها أهلا.
فقال له الحسين عليه السّلام:فأين أذهب يا أخي؟قال:إنزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك و إن نبت بك لحقت بالرمال و شعف الجبال و خرجت من بلد إلى بلد1.
ص: 16
حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه فإنك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا (1).
و في فتوح أعثم و مقتل الخوارزمي بعده:فقال له الحسين:يا أخي و اللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية أبدا و قد قال صلّى اللّه عليه و اله:اللهم لا تبارك في يزيد،فقطع محمد بن الحنفية الكلام و بكى فبكى معه الحسين ساعة ثم قال:جزاك اللّه يا أخي عنى خيرا لقد نصحت و أشرت بالصواب و أنا أرجو أن يكون إن شاء اللّه رأيك موفقا مسددا و إني قد عزمت على الخروج إلى مكة،و قد تهيأت لذلك أنا و إخوتي و بنو إخوتي و شيعتي و أمرهم أمري و رأيهم رأيي و أما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم و لا تخف علي شيئا من أمورهم.
ثم دعا بدواة و بياض و كتب هذه الوصية لأخيه محمد (2). (3)9.
ص: 17
قال السيد مرتضى العسكري:ذكرنا في ما سبق كيف اجتهد الخلفاء بعد رسول اللّه في أحكام الإسلام حكما بعد حكم بما رأوا فيه مصلحة عامة أو مصلحة خاصة مما حفلت بذكره كتب الخلاف و أوردنا بعضها في ما سبق،و الى جانب ذلك وجه المسلمون توجيها خاصا إلى تقديس مقام الخليفتين أبي بكر و عمر خاصة بحيث أصبح مستساغا لدى عامتهم أن يشترط في البيعة بعد الخليفة عمر:العمل بكتاب اللّه و سنة نبيه و سيرة الشيخين،و بذلك أقر المسلمون أن تكون سيرة الشيخين في عداد كتاب اللّه و سنة نبيه،مصدرا للتشريع في المجتمع الاسلامي،و استمر الأمر كذلك حتى إذا جاء إلى الحكم الإمام علي عليه السّلام بقوة الجماهير بعد عثمان،لم يستطع أيضا أن يعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلامية التي اجتهد فيها الخلفاء، و تعالت صيحات:وا سنة عمراه،من جيشه عندما نهاهم عن إقامة صلاة النافلة جماعة في شهر رمضان،و لم يرضوا بسنة الرسول بديلا عن سنة عمر في هذا الحكم،و ذلك لان الجماهير المسلمة عند ما بايعته لم تكن تدرك بأنه مخالف في اتجاهه في الحكم سيرة الشيخين،و هذا ما كان يحاول معاوية جاهدا أن ينبه الجماهير الإسلامية إليه،ليثوروا عليه.
و الإمام و ان لم يستطع أن يعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلامية التي جاء بها الرسول بديلا عن اجتهادات الخلفاء،إستطاع هو وثلة من صحبه ان ينشروا بين المسلمين من حديث الرسول ما كان محظورا نشره قبل ذاك.
ص: 18
فأنتجت هذه النهضة من الإمام علي و جماعته في نشر الحديث المحظور عن الرسول،تيارا فكريا مخالفا لما ألفه المسلمون زهاء خمس و عشرين سنة مدة حكومة الخلفاء الثلاثة قبله،و هذا ما أشار إليه سليم بن قيس حين قال لأمير المؤمنين:"إني سمعت من سلمان و المقداد و أبي ذر شيئا من تفسير القرآن و أحاديث عن نبي اللّه صلّى اللّه عليه و اله أنتم تخالفونهم فيها،و تزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول اللّه متعمّدين و يفسّرون القرآن برأيهم؟"كان ما سمعه سليم من سلمان و أبي ذر و المقداد و ليس غيرهم قبل هذا،بتكتم و ائتمان على سر،ثم سمعه بعد ذلك من أمير المؤمنين و صحبه جهارا و في غير سر من قبل مناشدة أمير المؤمنين الركبان في رحبة مسجد الكوفة:من سمع النبي يقول في غدير خم(من كنت مولاه فهذا علي مولاه)فليشهد.
فقام اثنا عشر بدريا و شهدوا بذلك.
و ما كشفه عن واقع الأمر في خطبته الشقشقية حين قال:"أما و اللّه لقد تقمصها فلان-ابن أبي قحافة-و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل و لا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا و طفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه،فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى إلى فلان بعده.
شتان ما يومى على كورها و يوم حيان أخي جابر
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته،إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها،و يخشن مسها،و يكثر العثار فيها،و الإعتذار منها،فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم،و إن أسلس لها
ص: 19
تقحم،فمني الناس لعمر اللّه-بخبط و شماس و تلون و اعتراض،فصبرت على طول المدة و شدة المحنة،حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ،فيا للّه و للشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!!لكني أسففت إذ أسفّوا و طرت إذ طاروا،فصغى رجل منهم لضغنه و مال الآخر لصهره مع هن و هن إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه، و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث فتله، و أجهز عليه عمله و كبت به بطنته فما راعني إلا و الناس كعرف الضبع إلي،ينثالون علي من كل جانب،حتى لقد وطئ الحسنان،و شق عطفاي،مجتمعين حولي كربيضة الغنم فلما نهضت بالامر نكثت طائفة،و مرقت أخرى،و قسط آخرون...
الخطبة.
و مثل قوله:قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله متعمدين لخلافه،ناقضين لعهده مغيرين لسنته،و لو حملت الناس على تركها،و حوّلتها إلى مواضعها،و الى ما كانت في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،لتفرق عنى جندي حتى أبقى وحدي،أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللّه عزّ و جلّ و سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله (1). (2).3.
ص: 20
تلكم التظاهرة الضخمة في الأقوال أدت إلى انقسام الأمة إلى قسمين،و ذلك أن الناس مدى الدهر ينقسمون إلى قسمين:
1-همج رعاع،أتباع كل ناعق،يميلون مع كل ريح-كما وصفهم الإمام علي عليه السّلام (1).
2-و قسم آخر يتحركون،و اعين لتحركهم هادفين و ينظر في تقييم أفعال الناس في المجتمع و تعليلها إلى الواعين الهادفين.
و الواعون الهادفون في المجتمع يومذاك انقسموا على أثر تلك التظاهرة إلى قسمين:أ-محب لأهل البيت،موال لهم مقر بفضلهم.
ب-مستنكر للاستهانة بمقام الشيخين مستهزئ بأقوال الإمام،يزداد حقدهم له يوما بعد يوم،و كان جل هؤلاء الحاقدين على الإمام ممن ثار قبل ذلك على عثمان حتى قتلوه:و هؤلاء هم الخوارج الذين رفعوا شعار"لا حكم إلاّ اللّه"و أشرب في قلوبهم حب الشيخين،و السخط على عائشة،و طلحة،و الزبير،و عثمان، و علي.
و خرج هؤلاء على الإمام فقاتلهم في النهروان.
و لم يقض عليهم،فأردوه قتيلا في محرابه،و استولى على الحكم معاوية بعده،
ص: 21
فبذل جهده في عشرين سنة مدة حكمه في توجيه الأمة توجيها تساير مع هواه و تسير طائعة راغبة إلى ما يشتهيه.
و كان معاوية بالإضافة إلى ذلك يغيضه انتشار ذكر بني هاشم أعداء أسرته التقليديين عامة،و خاصة ذكر الرسول و ابن عمه الإمام علي،و ذلك لانتشار ذكرهما بين المسلمين انتشارا هائلا (1)في مقابل خمول ذكر بني أبيه أمثال عتبة، و شيبة،و أبي سفيان،و الحكم بن أبي العاص أولا،و ثانيا لما يناقض انتشار ذكر الرسول و ابن عمه ما يتوخاه من تركيز الخلافة لنفسه،و توريثه لعقبه،فإن مع انتشار ذكرهما تتجه أنظار المسلمين إلى شبليهما الحسن و الحسين،لهذا كله جد معاوية في إطفاء نورهم عامة،و خاصة ذكر الرسول و ابن عمه،فقدر لهذا،و دبّر ما يلي:
أ-رفع ذكر الخليفتين أبي بكر و عمر،و ألحق بهما أخيرا ابن عمه عثمان ثالث الخلفاء (2).
ب-العمل سرا لتحطيم شخصية الرسول في نفوس المسلمين و جهارا لتحطيم شخصية ابن عمه،و للوصول إلى هذين الهدفين،دفع قوما من الصحابة و التابعين ليضعوا أحاديث في ما يرفع ذكر الخلفاء،و يضع من كرامة الرسول و ابن عمه و صرف حوله و طوله في انجاح هذا التدبير،و كتم أنفاس من خالفه في ذلك من أولياء علي و أهل بيته و قتلهم شر قتلة،صلبا على جذوع النخل،و تمثيلاد.
ص: 22
بهم،و دفنهم أحياء.
فنجح في ما دبّر نجاحا منقطع النظير حين انتشر بين الأمة على أثر ذلك أحاديث تروى عن رسول اللّه أنه قال في مناجاته لربه:إني بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن لعنته أو سببته،فاجعلها له صلاة و زكاة و قربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة.
و في رواية"طهورا:أجرا" (1).
و أنه قال"أنتم أعلم بأمر دنياكم"أو قال"و إذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أنا بشر"و انه قال ذلك عندما نهاهم عن تأبير النخل و فسد تمرهم (2)أو أنه رفع زوجته عائشة لتنظر إلى رقص الحبشة بمسجده (3)،أو أنه أقيم مجلس الغناء في داره (4)6.
ص: 23
هذه الأحاديث إلى عشرات غيرها،نراها قد وضعت بإمعان في عصر معاوية (1)و امتد أثرها على مدرسة الخلفاء إلى يومنا الحاضر،و أنها هي التي جعلت طائفة من المسلمين لا ترى لرسول اللّه القدرة على إتيان المعجزات،و لا الشفاعة،و لا حرمة لقبره،و لا ميزة له بعد موته.
أما الإمام علي عليه السّلام فقد نجح معاوية في تحطيم شخصيته في المجتمع الاسلامي يومذاك إلى حد أن المسلمين استمروا على لعنه فوق جميع منابرهم في شرق الأرض و غربها،خاصة في خطبة الجمعة كفريضة من فرائض صلاة الجمعة زهاء الف شهر مدة حكم آل أمية،و الى جانب ذلك نجح معاوية في رفع مقام الخلافة في نفوس المسلمين (2).
و استمرت الأمة بعده في سيرها الفكري على هذا الاتجاه إلى حد أنه أمكن الولاة أن يقولوا على منابر المسلمين أخليفة أحدكم أكرم عنده أم رسوله؟أي أن الخليفة الذي يعتبرونه خليفة اللّه في الأرض أكرم على اللّه من رسوله خاتم النبيين (3).3.
ص: 24
و كانت نتيجة تلك المساعي أن المسلمين و غير المسلمين منذ عهد معاوية و إلى اليوم عرفوا رسول اللّه و ابن عمه و الخلفاء الثلاثة و شخصيات إسلامية أخرى من خلال ما وضع من حديث على عهد معاوية و كما أراد معاوية و كان ما أراده خلاف الواقع الذي كانوا عليه،و بالإضافة إلى ذلك كان لمعاوية اجتهادات في تغيير الأحكام الإسلامية بدّل منها ما بدّل باجتهاده،سمّى بعضها بأوليات معاوية (1).
استطاع معاوية بكل تلك الجهود أن يبدّل الإسلام و يعرّفه كما يشتهي،حتى لم يبق من الإسلام في آخر عهده إلاّ اسمه و من القرآن إلاّ رسمه،و إنما حافظ معاوية و من جاء بعده على اسم الإسلام لأنهم كانوا يحكمون باسم الإسلام.
كذلك كانت حالة المسلمين عندما توفي معاوية في سنة ستين و استولى على الحكم ابنه يزيد،فما كان أمام سبط الرسول و وريثه الا واحدة من اثنتين:البيعة، أو القتال.
و بيعة الحسين عليه السّلام ليزيد كان معناها إقراره على أفعاله و تصديقه لأقواله.
فأبى الحسين عليه السّلام أن يبايع يزيد و استشهد في سبيل ذلك (2).
ص: 25
فكيف كان يزيد في أفعاله و أقواله؟و لماذا أبى الإمام أن يبايعه؟و هل كان يعرف مصيره حين أبى؟و ماذا كان أثر استشهاده على الإسلام و المسلمين؟في ما يلي نحاول تفهم كل ذلك من خلال كتب الحديث و السيرة إن شاء اللّه تعالى.
أولا:يزيد في أفعاله و أقواله في تاريخ ابن كثير:كان يزيد صاحب شراب، فأحب معاوية أن يعظه في رفق،فقال:يا بني ما أقدرك على أن تصل حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك و قدرك و يشمت بك عدوك و يسئ بك صديقك،ثم قال:
يا بني إني منشدك أبياتا فتأدب بها و احفظها فأنشده:
أنصب نهارك في طلاب العلا و اصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجا و اكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهى فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكا قد باشر الليل بأمر عجيب
غطّى عليه الليل أستاره فبات في أمن و عيش خصيب
و لذة الأحمق مكشوفة يسعى بها كل عدو مريب (1).
و قال:و كان فيه أيضا إقبال على الشهوات و ترك بعض الصلوات،في بعض الأوقات،و إقامتها في غالب الأوقات (2).
ص: 26
لما أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس،طلب من زياد أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة،فكان جواب زياد له:ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد،و هو يلعب بالكلاب و القرود،و يلبس المصبغات،و يدمن الشراب،و يمشي على الدفوف و بحضرتهم الحسين بن علي،و عبد اللّه بن عباس،و عبد اللّه بن الزبير،و عبد اللّه بن عمر،و لكن تأمره يتخلق بأخلاق هؤلاء حولا أو حولين فعسانا أن نموه على الناس (1).
فاغزى معاوية يزيد الصائفة مع الجيش الغازي الروم«فتثاقل و عتل و أمسك عنه أبوه» (2)فأصاب المسلمين حمى و جدري في بلاد الروم و يزيد حينذاك كان مصطبحا بدير مران مع زوجته أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر،فلما بلغه خبرهم قال:
إذا ارتفقت على الأنماط مصطبحا بدير مران عندي أم كلثوم
فما أبالي بما لاقت جنودهم بالغذ قدونة من حمى و من موم (3)
و بعده في معجم البلدان:فبلغ معاوية ذلك فقال:لاجرم ليلحقن بهم و يصيبه ما أصابهم و الا خلعته فتهيأ للرحيل و كتب إليه:
تجنى لا تزل تعد ذنبا لتقطع حبل وصلك من حبالي
فيوشك أن يريحك من بلائي نزولي في المهالك و ارتحالي (4)
و أرسل معاوية يزيد إلى الحج و قيل بل أخذه معه فجلس يزيد بالمدينة على شراب فاستأذن عليه عبد اللّه بن العباس و الحسين بن علي فأمر بشرابه فرفع،ن.
ص: 27
و قيل له:إن ابن عباس ان وجد ريح شرابك عرفه،فحجبه و أذن للحسين،فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب،فقال:ما هذا يا ابن معاوية؟
فقال:يا أبا عبد اللّه هذا طيب يصنع لنا بالشام ثم دعا بقدح فشربه ثم دعا بقدح آخر فقال:إسق أبا عبد اللّه يا غلام.
فقال الحسين:عليك شرابك أيها المرء.
فقال يزيد:
ألا يا صاح للعجب دعوتك ثم لم تجب
إلى القينات و اللذات و الصهباء و الطرب
و باطية مكللة عليها سادة العرب
و فيهن التي تبلت فؤادك ثم لم تتب
فوثب الحسين عليه و قال:بل فؤادك يا ابن معاوية تبلت (1).
و حج معاوية و حاول أن يأخذ البيعة من أهل مكة و المدينة فأبى عبد اللّه بن عمر و قال:نبايع من يلعب بالقرود و الكلاب و يشرب الخمر و يظهر الفسوق،ما حجتنا عند اللّه؟
و قال ابن الزبير:لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق و قد أفسد علينا ديننا (2)و في رواية:إن الحسين قال له:كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عما كان احتويته لعلم خاص و قد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش و الحمام السبق لأترابهن،2.
ص: 28
و القينات ذوات المعازف و ضروب الملاهي تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول (1).
انتهى.
قال المؤلف:لست أدري هل كان هذا الحوار من سبط النبي مع معاوية و حوار ابن الزبير و ابن عمر معه في مجلس واحد أو في مجلسين،و مهما يكن من أمره فإن معاوية لم يستطع ان يأخذ البيعة من هؤلاء و استطاع أن يأخذ البيعة من أهل الحرمين و يموه عليهم أمر المبايعة في بيعة ابنه و ارتحل عنهم.
وجدنا يزيد في سفريه إلى الحج و الغزو يتظاهر باللامبالاة بالمقدسات الإسلامية و عدم الإكتراث بنكبة الجيش الاسلامي الغازي،خلافا لرغبة أبيه معاوية و وصية دعيه زياد أن يتظاهر بالتخلّق بالأخلاق الإسلامية حولا أو حولين عساهم ان يموهوا على الناس أمره و لم يكتف بذلك حتى نظم في سكره و إعلام أمره ما سارت به الركبان.
و أكثر يزيد من نظم الشعر في الخمر و الغناء مثل قوله:
معشر الندمان قوموا و اسمعوا صوت الأغاني
و اشربوا كأس مدام و اتركوا ذكر المثاني (2)
شغلتني نغمة العيدان عن صوت الأذان
و تعوضت من الحور عجوزا في الدنان
و قوله:
و لو لم يمس الأرض فاضل بردها لما كان عندي مسحة للتيمم
و أظهر ذات صدره في قصيدته التي يقول فيها:ة.
ص: 29
عليه هاتي و اعلني و ترنمي بذلك إني لا أحب التناجيا
حديث أبي سفيان قدما سما بها إلى أحد حتى أقام البواكيا
ألا هات اسقني على ذاك قهوة تخيرها العنسي كرما شاميا
إذا ما نظرنا في أمور قديمة وجدنا حلال شربها متواليا
و ان مت يا أم الأحيمر فانكحي و لا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإن الذي حدثت عن يوم بعثنا أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا
و لا بد لي من أن أزور محمدا بمشمولة صفراء تروى عظاميا
إلى غير ذلك مما نقلت من ديوانه.
انتهى نقلا عن تذكرة خواص الأمة (1).
يخاطب يزيد في هذه القصيدة حبيبته و يقول لها:ترنمي و أعلني قصة أبي سفيان لما جاء إلى أحد و فعل ما فعل،حتى أقام البواكي على حمزة و غيره من شهداء أحد،أعلني ذلك و لا تذكريه في نجوى،و اسقني على ذلك خمرا تخيرها الساقي من كروم الشام.
فإنا إذ نظرنا في أمور قديمة من أعراف قريش و آل أمية في الجاهلية وجدنا حلالا شربها متواليا و أما ما قيل لنا عن البعث فهي من قبيل أساطير(طسم)تشغل قلبنا فلا بعث و لا نشور فإذا مت فانكحي بعدي فلا تلاقي بعد الموت،ثم يستهزئ بالرسول،و يقول:و لا بد أن ألقاه بخمرة باردة تروي عظامي،كان يزيد يستهين بمشاعر المسلمين و ينادم النصارى.
و روى صاحب الأغاني و قال:كان يزيد بن معاوية أول من سنّ الملاهي في الإسلام من الخلفاء و آوى المغنين و أظهر الفتك و شرب الخمر،و كان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه،و الأخطل-الشاعر النصراني-و كان يأتيه من المغنين4.
ص: 30
سائب خاثر فيقيم عنده فيخلع عليه (1).
كان يزيد بن معاوية أول من أظهر شرب الشراب و الإستهتار بالغناء و الصيد و اتخاذ القيان و الغلمان و التفكه بما يضحك منه المترفون من القرود و المعافرة بالكلاب و الديكة (2).
و كان من الطبيعي أن يتأثر بيزيد حاشيته و يتظاهر الخلعاء و الماجنون أمرهم كما ذكره المسعودي في مروجه قال:و غلب على أصحاب يزيد و عماله ما كان يفعله من الفسوق،و في أيامه ظهر الغناء بمكة و المدينة،و استعملت الملاهي و أظهر الناس شرب الشراب.
و كان له قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته،و يطرح له متكأ،و كان قردا خبيثا،و كان يحمله على أتان وحشية قد ريضت و ذللت لذلك بسرج و لجام و يسابق بها الخيل يوم الحلبة فجاء في بعض الأيام سابقا،فتناول القصبة و دخل الحجرة قبل الخيل و على أبى قيس قباء من الحرير الأحمر و الأصفر مشمر و على رأسه قلنسوة من الحرير ذات الألوان بشقائق،و على الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان فقال في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم
تمسّك أبا قيس بفضل عنانها فليس عليها إن سقطت ضمان
ألا من رأى القرد الذي سبقت به جياد أمير المؤمنين أتان (3)
و روى البلاذري عن قصة هذا القرد و قال:كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين8.
ص: 31
يديه و يكنيه أبا قيس،و يقول:هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمسخ و كان يسقيه النبيذ و يضحك مما يصنع و كان يحمله على أتان وحشية و يرسلها مع الخيل فيسبقها،فحمله يوما و جعل يقول تمسك.البيتين (1).
و اشتهر يزيد بمنادمة القرود حتى قال فيه رجل من التنوخ:
يزيد صديق القرد مل جوارنا فحن إلى أرض القرود يزيد
فتبا لمن أمسى علينا خليفة صحابته الأدنون منه قرود (2)
و قال ابن كثير:اشتهر يزيد بالمعازف و شرب الخمور و الغناء و الصيد و اتخاذ القيان و الكلاب و النطاح بين الأكباش و الدباب و القرود و ما من يوم إلاّ و يصبح فيه مخمورا:و كان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال و يسوق به و يلبس القرد قلانس الذهب و كذلك الغلمان و كان يسابق بين الخيل و كان إذا مات القرد حزن عليه و قيل أن سبب موته أنه حمل قردة و جعل ينقزها فعضته (3).
و روى البلاذري عن شيخ من أهل الشام:إن سبب وفاة يزيد أنه حمل قردة على الأتان و هو سكران ثم ركض خلفها فسقط فاندقت عنقه أو انقطع في جوفه شيء.
و روى عن ابن عياش أنه قال:خرج يزيد يتصيد بحوارين و هو سكران فركب و بين يديه أتان وحشية قد حمل عليها قردا و جعل يركض الأتان و يقول:
أبا خلف إحتل لنفسك حيلة فليس عليها إن هلكت ضمان
فسقط و اندقت عنقه (4).س.
ص: 32
و لا منافاة بين هذه الروايات فمن الجائز أنه أركب قردة على أتان و ركب هو أيضا و ركض خلفه و جعل ينقزها فعضته و سقط و اندقت عنقه و انقطع في جوفه شيء و هكذا استشهد الخليفة قتيل القرد.
كان هذا شيئا من سيرة يزيد،و كان أبناء الأمة آنذاك قد تبلد إحساسها و أخلدت إلى سبات عميق و ما غيّر حالها تلك عدا استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام كما نشرحه في الباب التالي (1).2.
ص: 33
قال السيد الخامنئي:من المهم دراسة علل و دوافع ثورة الإمام الحسين عليه السّلام و الأسباب التي حدت به إلى الثورة؛أي تحليل الدوافع الدينية و العلمية و السياسية لهذه الثورة.
و سبق لنا و أن تحدثنا فيما مضى عن هذا الموضوع بالتفصيل،إضافة إلى ما للفضلاء و الأكابر من دراسات قيّمة فيه (1).
مع وجود كل ما قيل بشأن واقعة عاشوراء و ما قلناه نحن و سمعناه و لكن لا يزال هناك مجال للحديث و التأمل و التدبر و الإعتبار بهذه الحادثة.فهذه الحادثة العظيمة يمكن التأمل فيها من جهتين.
إن بحث الدروس المستقاة من عاشوراء بحث حيّ و خالد على مر الزمن و لا يختص بزمن معين دون سواه.
فدرس عاشوراء هو درس التضحية و الشجاعة و المواساة،و درس القيام للّه، و الإيثار و المحبّة.
و أحد دروس عاشوراء هي هذه الثورة الكبرى التي فجرتموها أنتم أبناء الشعب
ص: 34
الإيراني امتثالا لنداء حسين العصر و حفيد أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام.
و هذا بحد ذاته واحد من دروس عاشوراء.
لعاشوراء بيانات و دروس.عاشوراء علمتنا أنه يجب أن نضحي لأجل الدين، علّمتنا أنه يجب التغاضي عن كل شيء في سبيل القرآن،علّمتنا أنّ جميع الأشخاص من صغير أو كبير و من رجل أو امرأة و من كهل أو شاب و من شريف أو وضيع و من إمام أو رعية يقفون صفا واحدا في ميدان الصراع بين الحق و الباطل.
علّمتنا أنّ جبهة العدو مع كل قدراتها الظاهرية فإنها تتصدع،كما تصدعت جبهة بني أمية بواسطة قافلة سبايا عاشوراء في الكوفة و الشام و المدينة و أخيرا انجرّ الأمر الى انهيار الجبهة السفيانية بالثورة الحسينية.
تعلّمنا عاشوراء أنّ البصيرة لازمة للإنسان في دفاعه عن الدين أكثر من أي شيء آخر،فإن عديمي البصيرة ينخدعون من دون علم و يقعون في جبهة الباطل كما كان هناك أشخاص في جبهة إبن زياد و لم يكونوا فساقا و لا فجارا بل عديمي بصائر،هذه هي دروس من عاشوراء،بالطبع فإن هذه الدروس تكفي لنقل أمة من الذلة الى العزّ،هذه الدروس تستطيع أن تهزم جبهة الكفر و الإستكبار،و هي دروس حياتية.
هذه هي الجهة الاولى من قضية عاشوراء.
ص: 35
من الجهات المتعلقة بعاشوراء هي العبر المستفادة منها،فعاشوراء مضافا الى دروسها هي ساحة للعبر.
فيجب أن ينظر الإنسان في هذه الساحة فيعتبر.
ما معنى أخذ العبرة؟معناه أن يقيس نفسه مع ذلك الوضع و يدرك أنه في أي وضع و حال.ما الذي يهدده؟و ما هي الأشياء التي تلزمه؟هذه هي العبرة.
فمثلا عند ما تعبر الشارع و ترى سيارة مقلوبة أو مصطدمة باخرى و قد تضررت للغاية و قضي على ركابها فإنك تتوقف لترى ما هو السبب حتى تعتبر، و تعرف أية سرعة و أية قيادة تؤدي الى هذا المصير.
و هو نوع آخر من الدورس و لكنه درس عن طريق الإعتبار،و الآن نريد أن نبحث هذا الأمر بدقة أكثر.
و البحث في عبر عاشوراء يختص بالزمن الذي تكون فيه الحاكمية للإسلام.
و يمكن القول-على أدنى الاحتمالات-أنّ مثل هذا البحث يختص الجانب الأساسي منه بمثل هذا الزمن الذي يوجب علينا و على بلدنا أخذ العبرة.
و رأينا طرح هذه القضية وفقا للصيغة التالية،و هي كيف أنّ المجتمع الإسلامي الذي التفّ حول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله و أحبّه و آمن به و امتلأ بالدين حبّا و شغفا، و نشأ و تنامى في ضوء الأحكام التي سنتحدث لاحقا عن شيء منها،و فيه من أدرك
ص: 36
عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،كيف وصل به الحال بعد خمسين سنة أن يجتمع و يقتل سبط الرسول أبشع قتلة؟و هل هناك ارتداد و نكوص و انحراف أشد من هذا؟!
ألقت زينب الكبرى(سلام اللّه عليها)في سوق الكوفة خطبة عصماء بليغة تمحورت حول هذا،قالت فيها:«ألا يا أهل الكوفة يا أهل الختل و الغدر،أتبكون؟» و ذلك لأنهم حينما شاهدوا رأس الحسين عليه السّلام على الرمح،و بنت علي عليها السّلام مسبيّة، و لمسوا عمق المأساة ضجّوا بالبكاء.«فلا رقأت الدمعة و لا هدأت الرنّة،..»ثم قالت:
«إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة انكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم» (1).
و هذا هو النكوص و الارتداد و التراجع القهقرى.فأنتم في الحقيقة كالمرأة التي غزلت الصوف و من بعد ما أتمته نقضت الغزل و عادت إلى ما كانت عليه،و أنتم في حقيقة الأمر نقضتم غزلكم و أعدتموه صوفا،و هذا هو التراجع.و هذه عبرة.
كل مجتمع إسلامي معرّض لمثل هذا الخطر.لقد كانت أكبر مفخرة لإمامنا الخميني أنه حفّز الأمة على العمل بأحاديث الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله.
و هل يمكن مقارنة غير الأنبياء عليهم السّلام و غير المعصومين بشخصية عظيمة كشخصية الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله الذي بنى ذلك المجتمع؟!و لكن انتهى الحال بذلك المجتمع إلى اقتراف تلك الجريمة.فهل كل مجتمع إسلامي معرّض للإنسياق لمثل هذه الخاتمة؟
من الطبيعي أنه إذا اعتبر لا ينتهي إلى مثلها،و لكنه إذا لم يعتبر فمن الممكن أن يتسافل إلى هذا الحد.فهذه عبر عاشوراء.
أما نحن فقد وفّقنا في هذا العصر بحمد اللّه و فضله لاقتفاء السبيل من جديد، و إحياء إسم الإسلام في العالم،و رفع راية الإسلام و القرآن عالية.و كانت هذه2.
ص: 37
المنقبة من نصيب الشعب الإيراني الذي مرّت على ثورته عشرون سنة تقريبا و هو ما انفكّ مرابطا و صامدا على هذا النهج،إلا أننا إذا انتابتنا الغفلة،و لم نحترس أو نحاذر و نثبت على المسار كما ينبغي،فمن الممكن أن ننتهي إلى نفس ذلك المصير.
و هنا يتضح معنى العبرة من عاشوراء (1).4.
ص: 38
أول عبرة تلفت إنتباهنا في قضية عاشوراء هي أن نلاحظ ماذا حدث بعد خمسين سنة من وفاة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله بحيث وصل الحد الى أن يضطر مثل الإمام الحسين عليه السّلام الى أن يضحي بنفسه لأجل إنقاذ المجتمع الإسلامي،تارة تكون هذه التضحية بعد ألف عام من صدر الإسلام أو تكون في مركز الدول و الشعوب المعاندة للإسلام و المعارضة له و هذا كلام آخر،و لكن الذي يجدر بالبحث و التأمل هو أن تكون هذه الثورة في مركز الإسلام و في المدينة و مكة (مركز الوحي)و بواسطة الإمام الحسين ابن علي عليه السّلام بحيث لا يجد وسيلة غير التضحية بنفسه تضحية دموية عظيمة.
إذن فأي وضع كان بحيث يشعر الحسين بن علي عليه السّلام أن حياة الإسلام مرهونة بالتضحية بنفسه،و إلا سيفرّط بالإسلام؟
العبرة هنا،نحن يجب أن ننظر و نلاحظ الذي حدث حتى آل الأمر الى أن يصبح شخص كيزيد حاكما على المجتمع الإسلامي؟المجتمع الإسلامي الذي كان النبي الحاكم في مكة و المدينة يعطي فيه الرايات بيد المسلمين فيذهبون الى أقصى نقاط جزيرة العرب و حدود الشام و يهددون الإمبراطورية الرومانية و يفرّ جنود العدو أمامهم كذلك و يرجع المسلمون مؤزرين بالنصر(كما حدث في تبوك)كيف أصبح هذا المجتمع الإسلامي الذي كان يعلو في مسجده و شوارعه صوت تلاوة القرآن و يقرأ فيه شخصية كالنبي صلّى اللّه عليه و اله الآيات القرآنية بلحنه و أنفاسه و يعظ فيه الناس
ص: 39
و يقودهم الى الصراط القويم.
ماذا حلّ بهذا المجتمع و هذا البلد و هذه المدن بحيث ابتعدوا عن الإسلام لدرجة أن يتأمر عليهم شخص كيزيد؟
لماذ يحلّ ظرف بحيث يكون فيه مثل الحسين بن علي عليه السّلام مضطرا الى هذه التضحية العظيمة و التي لا نظير لها في التاريخ.
ما الذي حصل حتى وصلوا الى هذه الحالة؟هذه هي العبرة.يجب أن نبحث هذا الأمر بدقة.
نحن اليوم مجتمع إسلامي.و يجب أن نرى ما هي الآفة التي حلّت بذلك المجتمع الإسلامي بحيث أوكل أمره الى يزيد.ما الذي حصل؟حتى آل الأمر الى رفع رؤوس أولاد أمير المؤمنين عليه السّلام على القنا و أن يطاف بها في المدينة التي كان يحكم فيها قبل عشرين سنة!
الكوفة هي نفس تلك المدينة التي كان أمير المؤمنين عليه السّلام يتجول في أسواقها، و يحمل سوطه على عاتقه ليأمر الناس بالمعروف و ينهاهم عن المنكر.و هناك كانت تعلو أصوات تلاوة القرآن في أناء الليل و أطراف النهار من المسجد.هذه هي المدينة التي يطاف فيها ببنات و حرم أمير المؤمنين عليه السّلام أسارى في سوقها.
ما الذي حدث حتى وصل الحال الى هنا بعد عشرين عاما؟!
ص: 40
الجواب هو وجود مرض في المجتمع له القدرة على أن يوصل خلال بضع عقود مجتمعات كان يترأسها أمثال الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و أمير المؤمنين عليه السّلام الى هذا الوضع المأساوي.
إذن فهذا مرض خطير يجب أن نكون على حذر منه.فعند ما كان إمامنا العزيز يعد نفسه تلميذا من تلامذة الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله فإنّه كان يفتخر بذلك.لقد كان الإمام يفتخر بأنه قادر على إدراك أحكام النبي صلّى اللّه عليه و اله ابتلي بعد عدة سنوات بذلك الوضع.
و لذا يجب أن يحذر مجتمعنا من الإبتلاء بهذا المرض.العبرة هاهنا.يجب أن نحدد هذا المرض و نعتبره خطرا جديا و نتجنب عنه.
و في نظري فإن نداء عاشوراء هذا أشد فورية لنا اليوم من سائر دروس و نداءات عاشوراء.
يجب أن ندرك أيّ بلاء حلّ على المجتمع بحيث يطاف برأس الحسين بن علي عليه السّلام السبط الأول في العالم الإسلامي و ابن خليفة المسلمين علي بن أبي طالب عليه السّلام في نفس المدينة التي كان يتربع والده على منبر الخلافة فيها و من دون أن يتحرك ساكن يجب أن نفهم كيف جاء أشخاص من تلك المدينة الى كربلاء ليقتلوه هو و أصحابه عطاشى و يسبوا حرم أمير المؤمنين عليه السّلام.
ص: 41
الكلام كثير في هذا المجال.و لكنني أعرض آية قرآنية في مقام الجواب عن هذه التساؤلات.لقد أعطى القرآن الجواب و حدده للمسلمين في آفتين و مرضين.و هذه هي الآية: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (1).
إذن هناك عاملان هما أساس للضلالة و الإنحراف العام،أحدهما الإبتعاد عن ذكر الله و الذي يتجلى في الصلاة و العبادة،و الذي يعني الغفلة عن الله و المعنويات و فصل الحياة عن المعايير المعنوية،إهمال التوجه الى الله تعالى و الذكر و الدعاء و التوسل و طلب التوفيق منه،و التوكل عليه و فصل الحسابات الإلهية عن الحياة.
و العامل الآخر هو اتباع الشهوات و الملذات،و بعبارة واحدة:السعي وراء الدنيا و الإشتغال بجمع الثروة و المال و الوقوع فريسة للشهوات الدنيوية و اعتبارها أساسا و مبدأ و نسيان الأهداف الحقيقية.
هذا مرض رئيسي و خطير و يمكن أن نبتلي نحن به أيضا.فلو أنّ الحالة المبدئية تزول أو تضعف عندنا و كل منا يفكر بأن ينتزع حصته من الغنيمة حتى لا نتخلف في دنيانا عن الآخرين،و يقول في نفسه أن الآخرين قد جمعوا لأنفسهم و يجب أن نذهب نحن أيضا لنجمع لأنفسنا و نضع مصالحنا فوق مصالح المجتمع.
فمن المعلوم حينئذ أن يصل بنا الحال الى ذلك الوضع.فسر وجود النظام الإسلامي و بقائه و تطوره هو الإيمان و الهمم العالية و الإهتمام بالمبادئ و إحيائها.
ص: 42
و معلوم أنّ توهين الأهداف و اللامبالاة في أصول الإسلام و الثورة و فهم كل الامور و التعامل معها بذهنية مادية سوف يصل بالمجتمع الى تلك الوضعية.
و لهذا السبب ابتلي بها أولئك الناس،ففي وقت كان المسلمون يهتمون بتطوير الإسلام و رضى الله و تعليم الدين و المعارف الإسلامية و الإطلاع على القرآن و الأنس بمعارفه،و كان الجهاز الحكومي و الإداري للبلاد جهازا زاهدا في الدنيا نقيا،لا يعير أهمية لزخارف الدنيا و الشهوات الشخصية،فكانت النتيجة حينذاك تلك الحركة العظيمة التي توجه الناس فيها الى ربهم.
في تلك الوضعية يبرز مثل علي بن أبي طالب عليه السّلام خليفة للمسلمين و مثل الحسين ابن علي عليه السّلام شخصية مرموقة.
و السبب هو أنّ تلك المعايير تتجسد فيهم أكثر من غيرهم.عندما يكون المعيار هو الله و التقوى و الإعراض عن الدنيا و الجهاد في سبيل الله،فإن الذي يتواجد في الساحة حينئذ هم الأفراد الواجدون لهذه المعايير.هؤلاء هم الذين يأخذون مقاليد الامور بأيديهم و يصبح المجتمع مجتمعا إسلاميا.
و لكن عندما تتبدل المعايير الإلهية فسوف يستلم الامور كل من هو أحرص على الدنيا و أشد في إتباع الشهوة و تحصيل المنافع الشخصية و أبعد عن الصدق و الحقيقة،حينذاك تكون النتيجة صيرورة أمثال عمر بن سعد و الشمر و عبيد الله بن زياد أمراء،و ذهاب أمثال الحسين بن علي عليه السّلام الى المذبح و إستشهاده في كربلاء و هذه قضية منطقية ف(2+2-4).
لا ينبغي أن يسمح الأشخاص الحريصون بتبدل المعايير في المجتمع.فلو أبدل معيار التقوى في المجتمع فمما لا شك فيه أن يراق دم إنسان تقي كالإمام الحسين ابن علي عليه السّلام.
ص: 43
و لو أنّ الدهاء و الانغماس في الشؤون الدنيوية و الإيقاع بالآخرين و الدجل و عدم الإهتمام بالقيم الإسلامية،اعتبرت ملاكا في الأفضلية،فإن شخصا كيزيد يجب أن يكون على رأس السلطة و يجب أن يصبح شخص مثل عبيد الله الرجل الأول في العراق.
لقد كان همّ الإسلام هو تغيير هذه المقاييس و كل همّ ثورتنا كان الوقوف بوجه هذه المقاييس المادية العالمية الباطلة و الخاطئة و تغييرها.
ص: 44
دنيا اليوم هي دنيا الدجل و القوة و اتباع الشهوات و دنيا تفضيل القيم المادية على القيم المعنوية.هكذا هي الدنيا و لا يختص الأمر بأيامنا هذه.فلقرون متمادية كانت المعنويات تتجه نحو الضعف و الأفول.لقد سعى المستكبرون لمحو المعنوية.
أصحاب القدرة و عبدة المال و الأثرياء نسجوا نظاما و بساطا ماديا ترأسه قوة عظمى كأمريكا أكثر الجميع دجلا و مكرا و أقلهم رعاية للفضائل الإنسانية و رحمة بالبشرية.
هكذا قدرة في الرأس ويليها أصدقاؤها على الترتيب هذا وضع الدنيا.الثورة الإسلامية تعني بعث الإسلام من جديد و إحياء مبدأ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (1)و الثورة جاءت لتحطيم هذا الترتيب العالمي الخاطئ و تنشىء مكانه ترتيبا جديدا.
لو كان الترتيب العالمي ترتيبا ماديا فلا ريب في مجيء أفراد فاسدين،أتباع شهوات،ضالين و أشقياء مثل محمّد رضا على رأس الامور،و حينئذ ينبغي أن يكون شخص فاضل و متنوّر مثل الإمام في السجن أو المنفى.فليس للإمام مكان
ص: 45
في مجتمع بهذا الوضع.
عند ما تسود القوة و الفساد و الكذب و الرذيلة فإن إنسانا فاضلا و صادقا و نيرا و عارفا و متوجها الى الله إما أن يكون في السجون أو في المقاصل و المجازر.
و عند ما يترأس الامور شخص كالإمام فمعنى ذلك قلب الأوراق،و انزواء أتباع الشهوات و حب الدنيا و التعلق بها و الفساد،و معناه عودة التقوى و الزهد و الصفاء و النورانية و الجهاد و الحرص على الناس و الرحمة و المروءة و الأخوة و الإيثار و الصفح عن الآخرين.
عند ما يحكم الإمام فإن هذه الخصال و الفضائل سوف تسود في المجتمع، و هذه القيم هي التي سوف تطرح للناس.إذا حافظتم على هذه القيم فسوف يبقى نظام الإمامة،و حينئذ لن يؤتى بأمثال الحسين بن علي عليه السّلام الى المذبحة.
و لكن كيف إذا تخلينا عن هذه الامور؟كيف إذا فقدنا الروحية؟و كيف إذا انشغلنا بامور الرفاهية الشخصية بدلا من التوجه الى الوظيفة و التكليف و الهدف الإلهي؟كيف إذا أجبرنا الشاب(التعبوي)المؤمن و المخلص على الإنزواء و هو لا يريد منا سوى تهيئة ساحة يجاهد بها في سبيل الله،و سلّطنا على الأمور أفرادا ذوي وقاحة و جشع،و طمّاعين خبثاء؟في هذه الحالة سيتبدل كل شيء.
فلو كانت الفترة الفاصلة بين رحلة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله و شهادة فلذة كبده في صدر الإسلام خمسين سنة فمن الممكن أن تكون هذه الفترة أقصر بكثير في زماننا هذا،و ترتقي الفضائل و أصحاب الفضيلة على المقاصل بسرعة أكبر.يجب أن لا نسمح بوقوع أمر كهذا.يجب أن نواجه الإنحراف الذي يمكن أن يفرضه أعداؤنا علينا.هذا هو الإعتبار من عاشوراء.
ص: 46
إنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام عبرة لنا،و العبرة أن يرى الإنسان كيف أنّ الحسين بن علي عليهما السلام الّذي كان يجلس على كتف رسول الله صلى الله عليه و آله أمام أنظار المسلمين،يقتل بتلك الصورة الفجيعة بعد مرور نصف قرن من ذلك.فهذا الطفل الّذي يبجّل إلى هذا المدى من قبل النبيّ صلى الله عليه و آله أمام أعين النّاس،و لم يقل النبي صلى الله عليه و آله في حقّه إنّني أحبّه فحسب- فالإنسان قد يحبّ شخصا اليوم لكن قد يخرج حبّه من قلبه غدا لمشكلة بينهما-بل قال صلى الله عليه و آله:"سيدا شباب أهل الجنّة"،و الجنّة ثمرة لعاقبة العمل،فقد يكون الكثير صالحين في وسط الطريق لكنهم يتهاوون في النهاية،فعندما يقال:
سيد شباب أهل الجنّة،فمعناه أنك تذهب من الدّنيا سيّدا و محبوبا عند الله و تصبح سيّد شباب أهل الجنّة،و قد قال النبيّ صلى الله عليه و آله ذلك بحقّ الحسن و الحسين عليهما السلام،في حين أنّ هذه الأمّة قتلت الحسين بن علي عليهما السلام بتلك الصورة الفجيعة أمام أعين الّذين رأوه على كتف النبيّ صلى الله عليه و آله.
أليس من الهزل أن تساق بنات رسول الله صلى الله عليه و آله في الأسواق و الطرقات و تهان إمرأة كزينب عليها السلام،فكيف آل الأمر إلى هذا الحدّ؟
إنّها عبرة،و أعظم من درس.إنّها نظرة إلى أعماق الروح و دقائق التاريخ و الأحداث.
ص: 47
إنّ زينب الكبرى عليها السلام قد أشارت في الكوفة إلى هذا المرض(الردّة و الارتداد)فقالت:"إنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة انكاثا"،و هذا هو الإرتداد.
أي أنّ الخطر متربّص بأمّة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله بمقدار ما كان متربّصا بأمّة موسى عليه السلام.و إنّكم-و لله الحمد-فقد رأيتم الإمام(ره)عن قرب،و رأيتم كيف كان الإمام الخميني(ره)و ببيان يهيب بالشعب على إنجاز عمل ما،و تتذكّرون ما كان يحدث عند ما كان الإمام(ره)يقول شيئا في الحوادث المهمّة.
فمثلا لو ضاعفنا شخص الإمام(ره)إلى ما لا نهاية،لأصبح النبي صلى الله عليه و آله هذا الإنسان المتّصل بالوحي الإلهي و العالم بجميع الحوادث الصغرى و الكبرى،و كانت توحى إليه الآيات القرآنيّة،لكن على الرغم من أنّه صلى الله عليه و آله بنى المجتمع بكلّ صراحة و وضوح و دون أدنى إبهام إلاّ أنّه وقع بعده ارتداد فجيع و أليم لا ينسى في التاريخ أبدا.
فهذه هي جرثومة الردّة و الإرتداد (1).
ص: 48
إنّ العامل الرئيس في وقوع هذه القضيّة هو استشراء حبّ الدنيا و الفساد و الفحشاء بحيث سلبت الغيرة الدينية و الشعور بالمسؤولية الإيمانية،فإنّنا عند ما نؤكّد على قضيّة الفساد و الفحشاء،و الجهاد و النهي عن المنكر و أمثال هذه الامور، فإنّ أحد أسبابها الرئيسية هو تسبّبها في تخدير المجتمع،فالمدينة المنوّرة التي كانت القاعدة الاولى لتأسيس الحكومة الإسلامية تحوّلت بعد فترة قصيرة إلى مركز لأفضل الموسيقيين و المغنّين و أشهر الراقصات،بحيث عند ما كان يراد دعوة أفضل المغنّين إلى بلاط الشام،كانوا يبعثون إلى أفضل المغنّين و العازفين في المدينة.
و هذا التجاسر لم يحدث بعد مائة أو مائتي عام،إنّما في زمان استشهاد بضعة فاطمة الزهراء(عليها السلام)و قرّة عين الرسول صلّى اللّه عليه و اله،بل حتى قبل ذلك،أي في زمن معاوية،و لهذا أصبحت المدينة مركزا للفساد و الفحشاء،و وقع أبناء الشخصيات و الأعيان حتّى بعض شباب بني هاشم في الفساد و الفحشاء أيضا، و قد أدرك رجال الحكومة الفاسدة ما يجب فعله و وضع البنان عليه و الترويج له، و هذه البلية لم تنفرد بها المدينة فقط،بل وقعت فيها مناطق أخرى.
و من هنا تظهر أهمية التمسّك بالدين و التقوى و المعنوية و الورع و العفة،و لأجل ذلك كنّا نكرّر و نكرّر لصفوة شباب هذا العصر توصياتنا و تأكيداتنا بالحذر من
ص: 49
تيّار الفساد.
إنّ الباري تعالى قد حفظ-و لله الحمد-قداسة و معنوية هذه الثورة إلى اليوم، فالشباب أطهار و أتقياء،لكن اعلموا أنّ زينة الدنيا و بهرجها أمر خطير،تهزّ القلوب الراسخة و تزلزل الأقوياء،فيجب الصمود أمام هذه الوساوس،و هذا هو ما يعبّر عنه بالجهاد الأكبر،فلقد أدّيتم الجهاد الأصغر بالصورة المطلوبة،و بلغتم اليوم هذه المرحلة،فعليكم بأداء الجهاد الأكبر على النحو المطلوب أيضا.
إنّ الأعداء يرغبون في إلهاء الشعوب الإسلامية بعيش يسوده الذلّ و الغفلة و الغرق في مستنقع الفساد و الرضوخ لسلطة الأجانب،مثلما كان عليه شعبنا قبل الثورة،و ما عليه كثير من شعوب العالم اليوم.
ص: 50
العامل الآخر الذي أدّى إلى وقوع هذا الأمر-حيث يشاهد الإنسان هذا المعنى في حياة الأئمة(عليهم السلام)-هو إعراض و عدم اهتمام أتباع الحقّ الذين كانوا يشكّلون الأركان الحقيقيّة للولاية و التشيّع بمصير العالم الإسلامي،فقد تظاهر البعض بالحماس و الثورة فترة،فضايقهم الحكّام،كقضيّة الهجوم على المدينة في عهد يزيد،حيث ثار هؤلاء ضدّ يزيد،فبعث إليهم رجلا ظالما قام بمقتلة عظيمة، فتركت هذه الجماعة كل شيء جانبا و نست القضية،و هذه الجماعة لم تشمل كلّ أهل المدينة،و كانت الخلافات قائمة بينها،فافتقدوا للوحدة و التنظيم و الإرتباط الكامل بين الأفراد،أي عملوا خلافا للتعاليم الإسلامية تماما،و كانت النتيجة أنّ هاجمهم العدو بكل شراسة،فتراجع هؤلاء في أول خطوة.
و هذه نقطة مهمة؛لأنّ من البديهي أن تتقاتل جبهتا الحقّ و الباطل و توجّهان الضربات إلى بعضهما البعض،فكما أنّ جبهة الحقّ توجّه الضربات إلى الباطل،كذا الباطل يوجّه الضربات إلى جبهة الحقّ،فتتبادل الضربات،و تظهر نتيجته عند ما تتعب إحدى الجبهتين،فالجبهة التي تتعب بشكل أسرع تنهزم.
إنّ رمز استمرار تعاليم الأنبياء منذ البداية حتّى النهاية هو كلمة التوحيد و الفضائل و القيم الدينية التي كرّروها،و قد ملئت الدنيا بهذه التعاليم اليوم،و أينما تلقون أبصاركم تجدون تعاليم الأنبياء رغم القمع الذي واجهه الأنبياء عدا بعض منهم،فقد آذوا موسى عليه السّلام كثيرا،و طاردوا عيسى ابن مريم عليه السّلام و ضيّقوا عليه،
ص: 51
لكن رغم كلّ ذلك بقيت تعاليمهم إلى يومنا هذا،و السرّ الرئيسي هو عدم تقهقر الأنبياء عليه السّلام،و هزيمة أحدهم لم تسبّب تراجع الآخر عن محاربة الباطل،فقد تلقّى جميع الأنبياء عليه السّلام في حياتهم-عدا البعض منهم-الضربات من الأعداء،لكن كانت نتيجة عمل هذه المجموعة-الذين إمّا قتّلوا أو حرّقوا أو سجنوا أو قطّعوا بالمناشير و هم أحياء،أو عذّبوا من قبل المتسلّطين-إنّ العالم يعيش اليوم تحت ظلّ تعاليم الأنبياء(عليهم السلام)و تعاليمهم مطروحة أينما تذهبون،و كلّ الأخلاق الحسنة و المسمّيات الجميلة كالعدالة و الصلح و...سببها تعاليم الأنبياء عليه السّلام، و السرّ في ذلك هو عدم شعورهم بالتعب و تقهقرهم.
لكن هذه القاعدة كانت مفقودة في عهد الإمام الحسين عليه السلام و في ذلك المقطع من تاريخ الإسلام الذي وقعت فيه الكثير من الفجائع؛و ذلك لعدم وجود ارتباط و علاقة بينهم،و شعورهم بالهزيمة و التعب سريعا،و إخلائهم الساحة ليتقدّم العدوّ.
ص: 52
و لكن قد يأتي البعض و يتفلسف بأن الماضي لا يمكن أن يكون مثالا للحاضر.
هذه الآراء يثيرها البعض و يتصور أنه قادر على صياغتها كأطروحة فلسفية،لكنه لا يستطيع ذلك!و لا شأن لنا بأمثال هؤلاء.
القرآن صادق مصدّق و هو يدعونا إلى استقاء العبرة من التاريخ.
و الإعتبار بالتاريخ يعني حالة القلق،لأن التاريخ تكتنفه أمور لو أردنا الإعتبار بها لساورتنا بعض الهواجس،و هذه الهواجس ذات صلة بالمستقبل،و لكن لماذا؟ و ما سبب هذه الهواجس؟و ما الذي جرى عبر التاريخ؟
الواقعة التي حدثت كانت في صدر الإسلام.و الأمة الإسلامية حريّ بها أن تفكر في السبب الذي وصل بالبلاد الإسلامية بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و اله بخمسين سنة فقط إلى أن يجتمع أبناؤها من وزير و أمير و قائد و عالم و قاضي و قارئ للقرآن في الكوفة و كربلاء،و يمزقوا كبد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بتلك الطريقة الفجيعة.
على الإنسان أن يطيل النظر في الأسباب التي انتهت إلى تلك الحالة.
ص: 53
إنّ الأمور وصلت إلى الحد الذي جعلهم يأتون بحرم الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و اله إلى الشوارع و الأسواق أمام أنظار الناس و يسمونهم بسمة الخوارج.و الخوارج في الإسلام مصطلح يطلق على من يخرج على الإمام العادل و يشق عليه عصا الطاعة، و يستحق لعنة اللّه و رسوله و المؤمنين،هذا هو معنى الخوارج.و لهذا السبب كان المسلمون آنذاك يتنفّرون من الخوارج«من سلّ سيفه فدمه هدر» (1)،هذا مع أنّ الإسلام يولي أهمية فائقة لدماء الناس.
لقد أشاعوا أن سبط رسول اللّه،ابن فاطمة و ابن أمير المؤمنين،خارج على الإمام العادل-و ذلك الإمام العادل هو يزيد بن معاوية-و صدّقهم الناس!!
إنّ أفراد السلطة الحاكمة أناس ظلمة يقولون ما يحلو لهم،و لكن لماذا يصدّقهم الناس؟و لماذا يلتزمون الصمت إزاءهم؟إن ما يثير هواجسي هو هذا الجانب من القضية،لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟و لماذا أصيبت الأمة الإسلامية و هي على تلك الدرجة من التدقيق في تفاصيل الأحكام الإسلامية و الآيات القرآنية،لماذا أصيب بهذه الحالة من الغفلة و التهاون و التراخي الذي انتهى إلى بروز فاجعة كهذه؟هذه المسألة تشغل فكر الإنسان.
و هل نحن أقوى عزما و أشد شكيمة من مجتمع عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله و عهد
ص: 54
أمير المؤمنين عليه السّلام و ماذا نفعل حتى لا يجري مثلما جرى؟
طبعا السؤال الذي أثرته حول تلك الأسباب،لم يجب عليه أحد،و لكن جوابه عندي.
و أشير إلى أن أحدا لم يتحدث في هذا الموضوع؛أو أنهم قد تحدّثوا حوله و لكن ليس بالشكل الوافي و الكافي.
ص: 55
إذا لم نقف أنا و أنتم بوجه الرذائل و الإنحرافات،فلا تعجبوا إذا رأيتم مجتمعنا الإسلامي وصل إلى تلك الحالة التي كانت في المجتمع الإسلامي في عهد الحسين عليه السّلام،ربما بعد خمسين سنة أو بعد خمس سنوات أو بعد عشر سنوات،إلاّ إذا كانت هناك أبصار حادّة تسبر أغوار الأمور،و عين أمينة تدل على الطريق، و أصحاب فكر يوجهون الأمور،و إرادة صلبة تساند هذا المسار،ليتكون عند ذاك ساتر متين و قلعة حصينة لا يستطيع أحد اختراقها،و إلاّ فستتكرر الحالة ذاتها فيما إذا أهملنا،و عندها ستذهب كل هذه الدماء هدرا.
بلغت الأمور في ذلك العهد حدا تربع فيه أبناء و أحفاد من قتلوا يوم بدر على يد أمير المؤمنين عليه السّلام و حمزة و بقية قادة الإسلام،في مكان الرسول،و وضع أمامه رأس مهجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و صار يضرب على ثناياه بعود من الخيزران و ينشد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
هنا يأمر القرآن بالإعتبار و يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (1)انظروا ما الذي وقع،و التزموا جانب الحذر.
و لأجل أن يسري هذا المعنى إن شاء اللّه في الثقافة الحالية لبلدنا على يد المفكرين و الباحثين و أصحاب الرأي،سأتعرض إليكم باقتضاب لهذا الموضوع.
ص: 56
أقسام الناس في المجتمعات إذا نظرتم إلى المجتمع البشري؛أي مجتمع كان، و في أية مدينة أو بلد،تجدون الناس فيه يقسمون-من وجهة نظر معينة-إلى فئتين:
فئة تسير عن فكر و فهم و وعي و إرادة،و هي تعرف طريقها و تسلكه-و لا يهمنا في المقام أنّ هذه الفئة على صواب في مسلكها أو أنه مسلك خاطئ-هذه الفئة يمكن تسميتها بالخواص.
و فئة أخرى لا تنظر لترى ما هو الطريق الصحيح،و ما هو الموقف الصائب،و لا يهمّها أن تفهم و تحلّل و تقيس و تدرك،بل تتبع الجو السائد و الهوى العام،و لنسمّ هذه الفئة بالعوام،إذن فالمجتمع يمكن تصنيفه إلى خواص و عوام.دققوا النظر، أريد الاشارة إلى نقطة بشأن العوام و الخواص و يجب أن لا يقع فيها أي إلتباس.
من هم الخواص؟هل هم طبقة خاصّة؟كلا لأن هذه الفئة التي نسمّيها بالخواص تضم بين أفرادها أشخاصا متعلمين و آخرين غير متعلمين،فقد يكون أحيانا بين الخواص شخص غير متعلم لكنه يفهم ما ينبغي عليه فعله،و هو يعمل وفقا لتخطيط و إرادة حتى و إن لم يكن قد دخل المدرسة أو لديه شهادة أو يرتدي زي العلماء،لكنه متفهم لحقيقة الأمور.
في أيام اندلاع الثورة-و قبل انتصارها-كنت في المنفى في مدينة«إيرانشهر» و كان في إحدى المدن القريبة منها عدّة أشخاص من بينهم سائق،كان هؤلاء الأشخاص من ذوي الثقافة و المعرفة،رغم أنهم يصنّفون ظاهريا في عداد العوام،
ص: 57
إلاّ أنهم في الحقيقة كانوا من الخواص؛كانوا يأتون للقائنا في إيرانشهر بشكل منتظم،و ينقلون لي حوارهم مع عالم الدين في مدينتهم،و قد كان الآخر رجلا طيّبا إلاّ أنه كان من العوام!
لاحظوا،سائق الشاحنة من الخواص،بينما ذلك العالم المبجّل إمام الجماعة كان من العوام!كان العالم يقول:لماذا حينما يذكر اسم النبي صلّى اللّه عليه و اله تصلّون عليه مرّة واحدة،في حين إذا ذكر اسم السيد الخميني تصلّون على النبي ثلاث مرّات؟ألا تفهمون؟!فكان السائق يرد عليه بالقول:يوم نفرغ من المجابهة،يوم يكون الإسلام قد ساد كل الأرجاء،و إذا انتصرت الثورة فإنا سنترك الصلاة عند ذكر اسم الخميني،ثلاث مرّات،بل لا نصلي و لا مرّة واحدة؛هذه الصلوات الثلاثة أسلوب من أساليب المجابهة.لاحظوا أنّ هذا الرجل يفهم مع أنه سائق،لكن ذلك العالم لا يفهم.
ذكرت هذا المثال لتعلموا أننا حينما نقول الخواص،فلا يعني ذلك أنهم فئة ترتدي زيّا بعينه؛فقد يكون رجلا و قد يكون امرأة،و قد يكون ثريا و قد يكون فقيرا، و قد يكون من العاملين في الأجهزة الحكومية و قد يكون من المعارضين لأجهزة الحكومة الطاغوتية.و كلمة الخواص نقصد بها طبعا الصالح و الطالح منهم،ثم إننا سنصنّف الخواص إلى أقسام أخرى أيضا.
الخواص هم الذين عند ما يؤدون عملا يتخذون موقفا،و النهج الذي يختارونه، يختارونه عن فكر و تحليل،أي أنهم يفهمون و يقررون و يعملون.هؤلاء هم الخواص.و الذين يقفون في الجانب المقابل لهم هم العوام.
العوام هم الذين يسيرون مع مسير الماء،ليس لديهم تحليل للمواقف،حينما يشاهدون الناس يهتفون«يعيش»يهتفون معهم،و حينما يهتف الناس«الموت ل..»يرددون نفس الهتاف.عند ما تكون الأجواء في وضع معين يأتون هنا،و حينما
ص: 58
تكون على منوال آخر يذهبون هناك!
نفترض أنّ مسلم بن عقيل دخل الكوفة،تراهم يقولون:لقد وفد ابن عم الإمام الحسين عليه السّلام،لقد جاء مبعوث بني هاشم،و هو عازم على الثورة و النهوض، فيستثارون و يلتفون حوله و يبايعونه؛بايعه ثمانية عشر ألفا.و بعد خمس أو ست ساعات دخل رؤساء القبائل إلى الكوفة و قالوا للناس:لماذا اتخذتم هذا الموقف؟ عمّن تريدون الدفاع؟و ضد من؟إنكم ستدفعون الثمن غاليا!إنسحب أولا زعماء القبائل كل إلى داره.و بعد ما حاصر جنود ابن زياد دار طوعة للقبض على مسلم، إنبرى أولئك الناس أنفسهم لمحاربة مسلم!هؤلاءهم العوام.سلوكهم لا ينطلق عن تفكير،و لا ينبثق عن تشخيص،و لا هو قائم على تحليل صائب،بل يتحركون وفقا لما يمليه الجو العام.
إذن في كل مجتمع هناك خواص و هناك عوام.لنترك قضية العوام جانبا، و نبحث في وضع الخواص.
و يقسم الخواص طبعا إلى فريقين:خواص فريق الحق،و خواص فريق الباطل، أليس كذلك؟أهل الثقافة و الفكر و المعرفة منهم يعملون لصالح جبهة الحق.عرفوا الحق،و علموا أنّ الحق مع هذا الجانب فهم يتحركون و يعملون لأجله،إذن فهم يعرفون الحق،و قادرون على تشخيصه،هؤلاء يمثلون فريقا.أمّا الفريق الآخر فهم الذين يقفون على الطرف المضاد لطرف الحق.
و إذا ما عدنا إلى صدر الإسلام ثانية؛فهناك فريق أصحاب أمير المؤمنين
ص: 59
و الإمام الحسين عليه السّلام و بني هاشم.و فريق آخرهم أصحاب معاوية،كان فيهم من الخواص،كان فيهم أشخاص أذكياء من ذوي الرأي و التدبير يناصرون بني أمية، و هؤلاء من الخواص أيضا.
إذن خواص كل مجتمع على نمطين:الخواص من أنصار الحق،و الخواص من أنصار الباطل.و ماذا ترجون من الخواص المشايعين للباطل؟لا تتوقعوا منهم سوى التآمر ضد الحق و ضدكم.و هذا ما يفرض عليكم محاربتهم؛حاربوا الخواص من أنصار الباطل،هذا أمر لا نقاش فيه.
نأتي الآن إلى الخواص من أنصار الحق،و أنا أتحدث إليكم الآن،أنظروا إلى أنفسكم لتروا في أي موضع أنتم.و حينما نقول أنّ الأصل هو الفكر و الاتباع عن رؤية لا نخلط بين التاريخ و القصّة،التاريخ وجه آخر لسيرتنا الذاتية.
التاريخ معناه أنا و أنتم،معناه نحن الموجودون اليوم هنا.و إذا كنا نحن الذين نقوّم و نشرح التاريخ،فلا بدّ أن ينظر كلّ منا محله من هذه القصّة،و في أي موضع منها.ثم لنرى ما الذي فعله من كان يومذاك في مثل موضعنا حتى كان نصيبه الخسران،لخطئه؟حتى لا نقع في الخطأ نفسه.مثل ما هو متعارف في دروس التعليم العسكري،يفرض جهة معادية،و الأخرى جهتنا،ثمّ يلاحظ خطأ خطة جهتنا.
و تجدون أنّ العقل الذي وضع الخطّة قد أخطأ في هذا المكان،إذن حينما تريدون أنتم وضع الخطّة يجب أن لا تقعوا في ذلك الخطأ نفسه.أو يفرض أنّ الخطة كانت
ص: 60
صحيحة إلا أنّ الآمر أو المخابر أو المدفعي أو المراسل أو جنديا عاديا في جبهتنا إرتكب خطأ،تدركون أنتم وجوب عدم الوقوع في ذلك الخطأ.هكذا هي مسيرة التاريخ.و الآن عليكم العثور على ذاتكم في هذا المشهد الذي أتحدث عنه في صدر الإسلام.
بعض الناس من طبقة العوام،و لا قدرة لهم على اتخاذ القرار،و أمرهم منوط بالفرصة المتاحة أمام الخواص،فإذا صادف أن كانوا في زمن يتصدى لزمام الأمور إمام-كالإمام أمير المؤمنين عليه السّلام،أو كالإمام الراحل(ره)-و يسير بهم نحو الجنّة،فخير على خير.
و أمثال هؤلاء يسوقهم الصالحون،و ينتهي بهم الأمر إن شاء اللّه إلى الجنّة.أما إذا صادف و عاشوا في زمن من يصفهم القرآن بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (1)أو أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (2)،يكون مصيرهم إلى النار.
إذن احذروا أن تكونوا من العوام،و لا نقصد بكلامنا هذا وجوب إكمال مراحل دراسية متقدمة،أبدا،و قد قلت أن معنى العوام ليس هذا؛فما أكثر الذين أنهوا مراحل دراسية عليا،لكنهم يحسبون في عداد العوام،و ما أكثر من درسوا العلوم الدينية و هم من العوام،و ما أكثر الفقراء أو الأغنياء الذين يدخلون في عداد العوام.
إنّ صفة العوام رهن إرادتي و إرادتكم،و لهذا علينا أن ننتبه و لا نكون من العوام،أي يجب أن يكون كل فعل نفعله،عن بصيرة،و من لا يعمل عن بصيرة فهو من العوام،8.
ص: 61
و لهذا ورد في القرآن الكريم على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1).
إذن انظروا أولا هل أنتم من فئة العوام أم لا؟فإذا كنتم من تلك الفئة فسارعوا إلى الخروج منها،حاولوا أن تكون لكم قدرة على التحليل و الدراية و المعرفة.
أمّا إذا كنا في عداد الخواص،فلنرى هل نحن من خواص أنصار الحق أم من خواص أنصار الباطل؟و المسألة هنا واضحة؛فالخواص في مجتمعنا من أنصار الحق بلا ريب،لأنهم يدعون الناس إلى القرآن و إلى السنّة و إلى العترة و إلى سبيل اللّه،و إلى القيم الإسلامية،هذه هي طبيعة الجمهورية الإسلامية.إذن فلا نتحدث الآن عن الخواص من أنصار الباطل و لا شأن لنا بهم حاليا،بل تمام الكلام في الخواص من أنصار الحق،و المشكلة كلها تبدأ من هنا.
إعلموا يا أعزائي أنّ خواص أنصار الحق يقسمون إلى فريقين:
الفريق الأول هم الذين يتغلبون في الصراع مع مغريات الدنيا و الحياة من الجاه و الشهوة و المال و اللذة و الرفاه و السمعة.و الفريق الآخر هم الذين يخفقون في هذا الصراع.هذه-أي اللذة و السمعة و الجاه و ما شابه-كلها أمور حسنة،و كلها من مباهج الدنيا زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللّهُ عِنْدَهُ
ص: 62
حُسْنُ الْمَآبِ (1) .
و القرآن حينما يصفها بأنها متاع الحياة الدنيا فلا يعني ذلك أنها قبيحة،فالمتاع جعله اللّه ليتمتّع به الإنسان؛و لكن إذا انغمس فيها إلى الحد الذي يعجز معه عن اجتنابها فيما إذا استدعت التكاليف الصعبة منه ذلك،فهذا شيء،و إذا استمتع فيها إلى الحد الذي يستطيع معه الكف عنها بكل سهولة عند حصول أي امتحان عسير، فهذا شيء آخر.
هذه الأمور تستدعي إعمال النظر فيها،و تستلزم الدراسة و الدقّة؛لأن أفراد المجتمع،و النظام،و الثورة لا يمكن ضمان مستقبلهم اعتباطا،فكل مجتمع يوجد فيه هذان النمطان من أنصار الحق.إذا كان الفريق الصالح منهما،أي الذين يستطيعون عند الحاجة الانتهاء عن متاع الدنيا،هم الأكثر،فلن يقع المجتمع بما وقع فيه على عهد الإمام الحسين عليه السّلام،و كونوا على ثقة أنّ المستقبل سيكون مضمونا إلى الأبد.
أما إذا كانوا قلّة،و كان ذلك الفريق من الخواص،أي المناصرين للحق و لكن في الوقت نفسه تنهار معنوياتهم أمام المغريات الدنيوية،بما فيها من ثروة،و دار و شهرة و منصب و جاه،و الذين يعرضون عن سبيل اللّه لأجل أنفسهم،فيلتزمون الصمت حيثما يجب قول الحق،حفاظا على أرواحهم أو مناصبهم أو أعمالهم أو ثرواتهم أو لحب الأولاد و الأسرة و الأقارب و الأصدقاء،هؤلاء إذا كانوا هم الكثرة، فالويل الويل حينئذ،عندها ينزل السائرون على خطى الحسين عليه السّلام إلى أرض الشهادة و يقادون إلى مسالخ الذبح،و يتسلط أتباع يزيد على مقاليد الأمور، و سيحكم بنو أمية الدولة التي أسسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و يطول حكمهم ألف شهر،4.
ص: 63
و تتحول الإمامة إلى ملك و سلطان!
المجتمع الإسلامي مجتمع الإمامة،أي يكون الإمام فيه على رأس السلطة و هو الشخص الذي يكون بيده زمام الأمور،و الناس ينقادون له انقيادا قلبيا نابعا من الإيمان.
أما السلطان فهو على خلاف ذلك؛يحكم الناس بالقهر و الغلبة،و الناس لا يعتقدون به و لا يقبلون حكمه و لا يميلون إليه،و المقصود من الناس هنا ذو و الفهم و الوعي.
لقد بدّل بنو أمية الإمامة في الإسلام إلى سلطنة و ملكية،و حكموا هذه الدولة الإسلامية الكبرى ألف شهر أي تسعين سنة.حينذاك وضعت أسس بناء هشّ انتهى إلى الثورة ضد بني أمية الذين انقرضوا و جاء من بعدهم بنو العباس، و حكموا العالم الإسلامي ستة قرون أي ستمائة سنة على أساس أنهم خلفاء الرسول صلّى اللّه عليه و اله!
بنو العباس الذين كان خلفاؤهم أو بتعبير أدق ملوكهم يمارسون الفساد و الفسق و شرب الخمور و الفجور و الفحشاء و الخبائث و جمع الثروات و اللهو و الملذات و آلاف أنواع المفاسد الأخرى،كانوا يحضرون المساجد أيضا-كما هو حال سائر الملوك في العالم-و يأمّون الناس في الصلاة.و كان الناس يصلّون خلفهم اضطرارا-و إن لم يبلغ اضطرارهم ذلك الحد-أو من باب الاعتقاد المغلوط، و هو ما أدى بالنتيجة إلى تخريب معتقدات الناس!
إذا أصبح الخواص المناصرون للحق في مجتمع ما-كلهم أو أكثرهم-يخافون على حياتهم و على فقدان الأموال و المناصب و الجاه و المكانة الاجتماعية و يخشون العزلة،بسبب تعلقهم بالدنيا،حينذاك لا يناصرون الحق و لا يضحّون
ص: 64
بأنفسهم.و حينما تصير الأمور إلى هذا الحال،حينئذ يقع في طليعة الأمور استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام بتلك الصورة المأساوية،و يكون آخرها تسلط بني أمية و العصابة المروانية و من بعدهم بنو العباس،ثم سلسلة السلاطين الذين حكموا العالم الإسلامي إلى يومنا هذا.
انظروا اليوم الى العالم الإسلامي،و إلى مختلف البلدان الإسلامية،انظروا إلى محل بيت اللّه و المدينة المنورة و لاحظوا من يحكمهما،و هكذا في بقية الأماكن.
و من هنا تقولون في زيارة عاشوراء:«اللّهم العن أول ظالم ظلم حق محمّد و آل محمّد» (1)،و هذه هي الحقيقة.
حسنا،اقتربنا شيئا من تحليل واقعة عاشوراء ذات العبر الكثيرة،و بعد ما سمعتم هذه المقدّمة ننتقل إلى التاريخ.
بدأ انزلاق الخواص المؤيدين للحق بعد وفاة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله بست أو سبع أو ثمان سنوات،و حديثي هنا مع غض النظر عن مسألة الخلافة تماما،قضية الخلافة على حدة،بل أتحدث الآن حول هذا النهج بسبب ما يتصف به من خطورة.
القضايا بأجمعها وقعت بعد وفاة الرسول بسبع سنوات،و برزت أولى مؤشراتها في قولهم:لا يجوز أن يستوي ذو و السابقة في الإسلام-و هم أصحاب الرسول و من شهد منهم حروبه-مع سائر الناس؛هؤلاء يجب أن تكون لهم امتيازات! فمنحت لهم امتيازات مالية من بيت المال!
كانت هذه هي اللبنة الأولى،و هذا هو حال سائر التيارات المنحرفة؛تبدأ من نقطة صغيرة ثم يستفحل شأنها و يتفاقم مع كل خطوة.الانحرافات بدأت من هنا6.
ص: 65
إلى أن بلغت عهد عثمان،حيث آلت الأوضاع في أواسط عهد الخليفة الثالث إلى حالة صار فيها كبار صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله أثرى الأثرياء في زمانهم.أي أنّ كبار الصحابة من ذوي الأسماء المعروفة-كطلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و أمثالهم-الذين كان لهم مفاخر،باتوا من رأسماليي الطراز الأول!بحيث أن أحدهم لمّا مات و أرادوا تقسيم أمواله بين وارثيه اضطروا إلى كسر الذهب-الذي أذابه و حوّله إلى سبائك-بالفؤوس،كالحطب الذي يكسر بالفؤوس،فكم كان مقدار الذهب إذن حتى يكسر بالفؤوس؟و الحال أنّ الذهب يوزن بالمثاقيل،هذا ما سجّله التاريخ!
هذا ليس مما يقال أنّ الشيعة سطّروه في كتبهم،أبدا،هذا ما كتبه الجميع، فالمبالغ التي خلفوها من الدنانير و الدراهم كانت مبالغ خيالية!و هذه الحالة هي التي أدت إلى وقوع تلك الأحداث على عهد أمير المؤمنين عليه السّلام،أي بما أنّ البعض صار يولي أهمية فائقة للمنصب،لذلك فقد دخلوا في صراع معه.
ص: 66
هذا و قد مرت خمس و عشرون سنة على وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و اله،و قد بدأت الكثير من الأخطاء و الإشتباهات.إن نفس أمير المؤمنين عليه السّلام هي نفس الرسول صلّى اللّه عليه و اله، و لولا هذه الفترة-الخمس و عشرون سنة-لما كانت تواجه عليا عليه السّلام أية مشكلة في بناء ذلك المجتمع،إلا أنه عليه السّلام جوبه بمثل هذا المجتمع الذي يوصف بعض أفراده بأنهم«يتخذون مال اللّه دولا و عباده خولا و دينه دخلا بينهم» (1).
مجتمع ضاعت القيم فيه في خضم حب الدنيا،مجتمع يواجه فيه أمير المؤمنين عليه السّلام مصاعب جمّة عند ما يريد قيادة الناس إلى الجهاد.
كان أكثر الخواص في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام من المناصرين للحق؛أي من الذين كانوا يعرفون الحق،و لكنهم يرجحون الدنيا على الآخرة.و هو ما أدى به إلى خوض ثلاث معارك،و أنهى فترة حكمه التي استمرت أربع سنوات و تسعة أشهر في هذه المعارك الثلاثة!إلى أنّ استشهد في نهاية المطاف على يد أحد الأشقياء.
إنّ دم أمير المؤمنين عليه السّلام غال كدم الإمام الحسين عليه السّلام.تقرأون في زيارة عاشوراء:«السلام عليك يا ثار اللّه و ابن ثاره».أي أنّ اللّه تعالى هو ولي دم الإمام الحسين عليه السّلام و ولي دم أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام،و لم يرد مثل هذا التعبير لأحد غيره.
من البديهي ان لكل دم يراق ولي،و هو ما يسمّى بولي الدم؛فالأب ولي دم ولده،
ص: 67
و الولد ولي دم أبيه،و الأخ ولي دم أخيه،و يسمّى هذا عند العرب ثأرا،المطالبة بالدم و مالكية حق الدم يسمونها بالثأر.
و الذي يطالب بدم الإمام الحسين عليه السّلام هو اللّه تعالى،كما أنه هو المطالب بدم أمير المؤمنين عليه السّلام،إذن وليّ دم هاتين الشخصيتين هو اللّه تعالى.
ص: 68
و عند ما ثار الإمام الحسين عليه السّلام لم يأت الكثير من هؤلاء الخواص لنصرته مع ما كانت له من منزلة عظمى في المجتمع الإسلامي!لاحظوا مدى الضرر الناجم عن وجود هؤلاء الخواص في المجتمع؛الخواص الذين يرجّحون دنياهم حتى على مصير العالم الإسلامي لقرون مقبلة،مع ما كان للإمام الحسين عليه السّلام من مكانة و شهرة.
كنت أنظر في قضايا ثورة الإمام الحسين عليه السّلام و حركته من المدينة،و لاحظت أنه في الليلة التي سبقت مسيره من المدينة كان عبد اللّه بن الزبير قد خرج من المدينة أيضا،و في الحقيقة كان كلاهما في وضع واحد،و لكن أين الإمام الحسين عليه السّلام من عبد اللّه بن الزبير؟حديث الإمام الحسين،كلامه،خطابه،أجبر والي المدينة آنذاك-و هو الوليد-على أن يرقّق كلامه و لا يتبع الغلظة مع الحسين عليه السّلام،و ما إن تفوّه مروان بكلمة،إلاّ و الحسين عليه السّلام يرد عليه مهددا غاضبا، و لا حيلة لمروان إلاّ السكوت ذليلا.
هؤلاء الأشخاص أنفسهم ذهبوا و حاصروا دار عبد اللّه بن الزبير،فأخرج إليهم أخاه،فاستأذن منهم أن يسير معهم إلى دار الإمارة في تلك اللحظة،فأهانوه و هددوه إن هو لم يخرج إليهم قتلوه،حتى خضع لهم و توسّل إليهم في أن يأذنوا له أن يرسل أخاه،و غدا يأتيهم بنفسه.
و مع أنّ عبد اللّه بن الزبير كان شخصية بارزة أيضا إلا أن موقفه كان يختلف
ص: 69
إلى هذا الحد مع موقف الإمام الحسين عليه السّلام.لم يكن أحد يتجرأ على التصرف مع الإمام الحسين عليه السّلام أو مخاطبته بهذا الأسلوب لما له من حرمة و ما يتسم به من عظمة و شخصية و هيبة و قوّة روحية.
و في طريقه إلى مكة كان كل من يلقاه و يتكلم معه يخاطبه بالقول:جعلت فداك، أو بأبي أنت و أمي،أو عمّي و خالي فداك.هكذا كانوا يكلمون الإمام الحسين عليه السّلام، و هكذا كانت له مكانة ممتازة و بارزة في المجتمع الإسلامي.
جاءه عبد اللّه بن مطيع و هو بمكة و قال له:«يا ابن رسول اللّه،و لئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا إن قتلت لنسترقن من بعدك» (1).أي أنّ هؤلاء القوم يحجزهم عن أذانا خشيتهم لك و هيبتهم منك،و إنك إذا ثرت عليهم و قتلت اتخذونا رقيقا لهم.
كانت للإمام الحسين عليه السّلام مكانة و عظمة يخضع لها حتى عبد اللّه ابن عباس، و عبد اللّه بن جعفر و حتى عبد اللّه بن الزبير-مع أنه لم يكن ينظر للإمام الحسين عليه السّلام بعين الإرتياح-كان يبدي له غاية التبجيل و الإكرام.
جميع الأكابر و الخواص من أنصار الحق،أي الذين لم يكونوا إلى جانب الحكومة الأموية و لم يدخلوا جبهة الباطل،و حتى من بينهم الكثير من الشيعة الذين يقرّون بإمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و يعتبرونه الخليفة الأول شرعا،هؤلاء بأجمعهم حينما أحسوا ببطش السلطة الحاكمة،تخاذلوا رغبة في الحفاظ على أنفسهم و أموالهم و مناصبهم.و نتيجة لتخاذل هؤلاء،مال عوام الناس إلى جانب الباطل.4.
ص: 70
لو نظرنا إلى أسماء أهل الكوفة الذين كاتبوا الإمام الحسين عليه السّلام و دعوه للقدوم إليهم،و كان كلهم طبعا من طبقة الخواص و من أكابر القوم و وجهاء الناس،و كان عدد الرسائل هائلا بلغ مئات الصفحات،و ربّما ملأت عدّة أخرج.و الذين كتبوها غالبا من الأعيان و الوجهاء،يتبيّن من خلال لهجة تلك الرسائل كم عدد الخواص من أنصار الحق،من كان على استعداد للتضحية بدينه من أجل دنياه،و من منهم كان حريصا على التضحية بالدنيا في سبيل الدين.و هذا ما يمكن أن يستشف من خلال الرسائل.
و لكن بما أن عدد الذين كانوا يميلون إلى التضحية بالدين في سبيل الدنيا كان أكبر،آلت النتيجة إلى مقتل مسلم بن عقيل في الكوفة بعد ما كان قد بايعه ثمانية عشر ألفا من أهلها.
و بعد ذلك خرج منها عشرون أو ثلاثون ألفا لقتال الإمام الحسين عليه السّلام بكربلاء.
معنى هذا أنّ حركة الخواص تجلب في أعقابها حركة العوام.لا أدري هل عظمة هذه الحقيقة التي تلازم الناس الواعين على الدوام،تتبين لنا بشكل واضح صحيح أم لا؟لا بدّ و أنكم سمعتم بما جرى في الكوفة؛إذ كان القوم قد كتبوا الرسائل إلى الإمام الحسين عليه السّلام أن أقدم علينا معززا،فأوفد إليهم مسلم بن عقيل ليطلع على حقيقة الموقف؛إن كان خيرا سار إليهم بنفسه.
سار مسلم إلى الكوفة،و دخل دور كبار الشيعة؛و تلا عليهم كتاب الإمام
ص: 71
الحسين عليه السّلام إليهم،فأخذ الناس يفدون عليه زرافات زرافات و يعلنون عن ولائهم.
و كان النعمان بن بشير والي الكوفة آنذاك شخصا ضعيفا و مسالما،فأعلن أنه لا يقاتل إلا من يقاتله؛و لم ينهض لمجابهة مسلم بن عقيل،فرأى الناس أنّ المجال مفسوح أمامهم،فجاءوا إلى مسلم و بايعوه.
بعث بعض الخواص المؤيدين للباطل-من أنصار الأموين-رسالة إلى يزيد يعلمونه فيها إن كانت له في الكوفة حاجة فليولّي عليها رجلا حازما،و إن النعمان بن بشير لا طاقة له على مجابهة مسلم بن عقيل.
كتب يزيد إلى عبيد اللّه بن زياد الذي كان واليا على البصرة حينذاك يعلمه فيها بأنّه عيّنه واليا على الكوفة مع احتفاظه بولاية البصرة.و انطلق عبيد اللّه من ساعته يحث السير من البصرة إلى الكوفة.و يتضح دور الخواص أيضا من خلال مجيئه إلى هناك.
ص: 72
وصل عبيد اللّه إلى مشارف الكوفة ليلا،و ما إن رأى الناس رجلا ملثما قادما و معه الخيل و العدّة،حتى ظنّه العوام أنه الإمام الحسين عليه السّلام،فتقدموا إليه بكل بساطة و حييّوه قائلين:«السلام عليك يا ابن رسول اللّه».هذه صفة عوام الناس؛ ليست لأحدهم قدرة على التحليل أو النظر في الأمر،فما إن رأوا شخصا قادما و معه الخيل و العدّة حتى ظنّوه الإمام الحسين عليه السّلام حتى قبل أن يتحدث معهم بكلمة وحدة.و أخذ الجميع يردد:إنه الإمام الحسين عليه السّلام.كان الجدير بهم أن يتأملوا ليعرفوا من هو.
لكن هذا القادم لم يلتفت إلى الناس،و سار إلى دار الإمارة و عرّفهم بنفسه و دخل القصر.
و بدأ يخطط من هناك للقضاء على وثبة مسلم بن عقيل،و تركزت مساعيه على استخدام أشد أساليب الضغط و التهديد و التعذيب ضد أنصار مسلم بن عقيل.
و احتال على هاني بن عروة و استقدمه إلى القصر،و شجّ رأسه و وجهه.و لما احتشد بعض الناس حول القصر نجح بتفريقهم بأساليب الحيلة و الكذب.و هنا أيضا يتضح دور الخواص الفاسدين الذين يسمّون بأنصار الحق،و هم الذين عرفوا الحق و ميّزوه،لكنهم رجّحوا دنياهم على الدين.
ص: 73
و بعد أن سار مسلم بن عقيل بحشد كبير من أنصاره-جاء في كتاب ابن الأثير ان عددهم بلغ ثلاثين الفا،و الذين أحاطوا بداره فقط بلغ عددهم أربعة آلاف يحملون السيوف دفاعا عنه،كان هذا في اليوم التاسع من ذي الحجة-سارع ابن زياد إلى بث بعض خواص الباطل بينهم لأجل إثارة الخوف و الرعب فيهم، و يشيعوا بينهم أنّ لبني أمية كل شيء؛السلاح و المال و القوّة،و إنّ هؤلاء لا شيء عندهم.فاستشرى الذعر بين الناس و أخذوا يتفرقون عنه تدريجيا،و ما إن حان وقت صلاة العشاء حتى لم يبق مع مسلم أحد.
و نادى منادي ابن زياد:يجب أن يحضر الجميع إلى مسجد الكوفة عند صلاة العشاء ليصلّوا معه!و جاء في المصادر التاريخية أنّ المسجد امتلأ بالناس للصلاة خلف ابن زياد.
ص: 74
حسنا،لماذا آلت الأمور إلى ذلك المآل؟إنني حينما أنظر أرى أنّ ذلك يعزى إلى الخواص من أنصار الحق الذين سلك بعضهم مسلكا اتسم بغاية التخاذل،من أمثال شريح القاضي!شريح هذا لم يكن من بني أمية و كان يعرف حقيقة الأوضاع و يدرك الحق مع من.
فحينما جاءوا بهاني بن عروة و شجّوا رأسه و جرحوا وجهه و ألقوه في السجن،هبّت عشيرته و حاصرت قصر ابن زياد،فخشي ابن زياد اجتماعهم؛إذ يرون أن قاتل هاني هو ابن زياد،لذلك أمر شريحا أن يذهب ليرى بعينه أنّ هاني حيّ.
اطلع شريح على حياة هاني بنفسه و لكنه وجده مجروحا،فما إن رأى هاني شريحا القاضي حتى استغاث بالمسلمين(مخاطبا لشريح)أين قومي؟هل ماتوا؟ لماذا لا يأتون و ينقذوني مما أنا فيه؟
يقول شريح:أردت أن أذهب و أبلغ المجتمعين حول قصر الإمارة بمقالة هاني، لكن للأسف كان هناك جاسوس ابن زياد،فلم أستطع!ماذا يعني(لم استطع)؟يعني ترجيح الدنيا على الدين.
ص: 75
لعل شريح لو كان فعل ذلك لتغير التاريخ،لو قال للناس إنّ هاني حي و لكنه في السجن،و ابن زياد يريد قتله-و لم يكن ابن زياد قد استولى على الأمور بعد- لهجموا و أنقذوا هاني و أصبحوا أكثر قوّة و شكيمة و لقبضوا على ابن زياد و قتلوه أو أخرجوه من هناك،و لا ستتب أمر الكوفة للحسين عليه السّلام،و لما وقعت حادثة كربلاء!و لو لم تقع حادثة كربلاء لانتهى الأمر إلى استلام الإمام الحسين عليه السّلام لزمام الحكم،و لو أنّ هذا الحكم استمر تسعة أشهر-و ربما كان يمتد لفترة أطول- لكانت له بركة كبيرة في التاريخ.
قد تؤدي حركة ما أحيانا إلى تبديل وجه التاريخ.و قد تقود حركة أخرى مغلوطة و ناتجة عن الخوف و الضعف و حب الدنيا و الحرص على الحياة،إلى جعل التاريخ يتمرغ في مهاوي الضياع.أنت(يا شريح القاضي)لماذا لم تشهد بالحق حينما رأيت هاني على تلك الحالة؟!هذا هو دور الخواص الذين يفضّلون الدنيا على الدين.
حينما أمر ابن زياد رؤساء القبائل أن يذهبوا و يعملوا على تفريق الناس من حول مسلم،لماذا أطاعوا أمره؟فهم لم يكونوا بأجمعهم من الأمويين،و لم يكونوا قد قدموا من الشام،بل أن بعضهم كان ممن كتب الرسائل إلى الإمام الحسين عليه السّلام كشبث بن ربعي الذي كان قد كتب له رسالة و دعاه إلى القدوم!هذا الرجل كان من جملة الذين أمرهم ابن زياد بالسعي لتفريق الناس،فذهب و أخذ يثبط الناس و يستخدم أساليب التهديد و التخويف و الإغراء،و ساهم في تفريق الناس عنه.لماذا
ص: 76
فعلوا هكذا؟
لو أن شخصا كشبث بن ربعي خشي اللّه في لحظة مصيرية،بدلا من خشية ابن زياد،لتبدّل وجه التاريخ!لكن هؤلاء انبروا لتثبيط الناس؛فتفرق العوام.
و لكن لماذا تفرق الخواص المؤمنون المحيطون بمسلم؟مع أنهم كان من بينهم شخصيات خيّرة و صالحة و بعضهم سار في ما بعد إلى كربلاء و استشهد هناك.
لكنهم أخطأوا في ذلك الموقف.
من الطبيعي أنّ الذين استشهدوا في كربلاء قد كفّروا عن خطئهم ذلك.و نحن هنا لا نتحدث عنهم و لا نذكر أسماءهم.و لكن أيضا كان من بينهم من لم يأت إلى كربلاء!لم يستطيعوا أو لم يوفقوا،لكنهم انخرطوا في ما بعد في صفوف التوابين.
و لكن ما فائدة ذلك بعد ما وقعت فاجعة كربلاء و قتل سبط الرسول صلّى اللّه عليه و اله،و بدأت حركة التاريخ بالإنتكاس؟و لهذا السبب كان عدد التوابين عدّة أضعاف شهداء كربلاء.شهداء كربلاء صرعوا كلهم في يوم واحد،و التوابون صرعوا كلهم في يوم واحد أيضا.
و لكن تلاحظون أنّ الأثر الذي تركه التوابون في التاريخ لا يعدل واحدا من ألف مما خلّفه شهداء كربلاء!و ذلك لأنهم لم يبادروا إلى ذلك العمل في وقته،و لأن
ص: 77
تشخيصهم و قرارهم قد جاء متأخّرا.
لماذا تركوا مسلم وحده،بعد ما جاء إليهم كمندوب عن الإمام الحسين عليه السّلام، و بعد ما بايعوه و الكلام هنا للعوام لا للخواص لماذا حينما جنّ عليه الليل تركوه يلتجئ إلى دار طوعة؟!
لو أنّ الخواص لم يتخلّوا عن مسلم،و لو وقف الى جانبه على سبيل المثال مائة رجل،و آووه في دار أحدهم و دافعوا عنه،و مسلم حتى حينما كان وحده حينما أرادوا اعتقاله بقي يقاوم عدّة ساعات،و استطاع بعد أنّ هجموا عليه عدة مرّات- و رغم كثرة عددهم-أن يردهم على أعقابهم،و لو كان معه مائة رجل،هل كان بإمكانهم القبض عليه؟!كلا؛لأن الناس سيهبون لنجدتهم.
إذن الخواص قصّروا هنا إذ لم يهبّوا المؤازرة مسلم.
لاحظوا أينما تذهبون تصطدمون بموقف الخواص.من الواضح أنّ قرار الخواص في الوقت المناسب،و رؤيتهم الصائبة للأمور في الوقت المناسب، و تجاوزهم عن الدنيا في اللحظة المناسبة،و موقفهم في سبيل اللّه في الفرصة المؤاتية،هو الذي يستنقذ التاريخ و يصون القيم.
و هذا ما يوجب اتخاذ الموقف المناسب في اللحظة المناسبة،أما إذا فات الأوان، فلا جدوى في ما وراء ذلك.
ص: 78
بعد الانتخابات التي جرت في الجزائر و فازت فيها الجبهة الإسلامية،سيطر الجيش على مقاليد الحكم بتحريض من أمريكا و غيرها.
في اليوم الأول لمجيء حكومة العسكر إلى السلطة،لم تكن لها أية قوّة،فلو أن مسؤولي الجبهة الإسلامية قادوا الناس إلى الشوارع منذ اليوم الأول-و قد أعلنت لهم ذلك-حين لم تكن الحكومة العسكرية يومذاك على درجة من القوّة،و لا قادرة على أي عمل،لقضوا عليها و لأقاموا حكما إسلاميا،و لكانت في الجزائر اليوم حكومة إسلامية.و لكنهم لم يتخذوا قرارا كهذا.بعضهم أخذته الرهبة،و البعض الآخر انتابه الضعف،و البعض قال:لنا الرئاسة،أو لهذا أو لذاك!
عصر يوم الحادي و العشرين من بهمن عام 1357 ه ش أعلنت الأحكام العرفية في طهران،لكن الإمام دعا الناس للنزول إلى الشوارع و لو لم يتخذ الإمام هذا القرار في تلك اللحظة لكان محمّد رضا لا يزال يحكم هذا البلد.
و لو أنّ الناس حين إعلان الأحكام العرفية لزموا منازلهم،لبدأوا أول ما بدأوا بالإمام و من بعده مدرسة الرفاه ثم بقية المناطق،و لقضوا على كل شيء،و لكانوا
ص: 79
قتلوا في طهران خمسمائة ألف شخص،و انتهى كل شيء!على غرار ما حصل في أندونيسيا حيث قتلوا مليون شخص ثم عاد كل شيء إلى محلّه،و الإمام اتخذ القرار اللازم في اللحظة الحاسمة،في موقعه.
لو أنّ الخواص شخّصوا ما ينبغي عمله في الظرف المناسب،و طبّقوا ذلك لتغير وجه التاريخ،و لما سيق أمثال الحسين بن علي عليه السّلام إلى ميدان كميدان كربلاء.و إذا كان الخواص قد أساءوا الفهم،أو أبطأوا في الفهم،أو فهموا و لكن اختلفوا،و حتى إذا كان المتصدون للعمل كفوئين،إلا أنّ طبقة الخواص لم تتجاوب معهم،و قال أحد أفرادها نحن مشغولون حاليا و قال غيره لقد انتهت الحرب،دعونا نتفرّغ لأعمالنا و نكسب لقمة عيشنا و جمعوا خلال بضع سنوات إمكانات هائلة و إننا قد سئمنا القتال و التجوال بين هذه الجبهة و تلك؛تارة في جبهة الغرب و تارة في جبهة الجنوب،إذا تصرف الخواص بهذه الصورة،فاعلموا أنّ التاريخ ستتكرر فيه وقائع كواقعة كربلاء!
ص: 80
وعد اللّه تعالى بنصرة من ينصره،إن قام أحد للّه و بذل جهده يكون النصر حليفه لا بمعنى يكتب النصر لكل واحد من الأشخاص،بل معناه أنّ أية جماعة عند ما تتحرك تنال النصر،و من الطبيعي أنّ مسارها تحفّه المصاعب و القتل و الآلام،و لكن فيه انتصار أيضا.
يقول الباري تعالى: وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (1)و لا يقول ننصركم دون أن يدمى أنف أحدكم،لا أبدا،و إنما يقول إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (2).و لكن ينتصرون،هذه سنّة إلهية.
حينما نخاف على دمائنا،و على كرامتنا،و على أموالنا،و لأجل عوائلنا و أحبائنا، و حينما نخشى على الراحة و المعيشة الوادعة،و نحرص على الكسب و على الحصول على دار فيها غرفة أكثر من غرف الدار السابقة،عند ما تعيقنا أمثال هذه الأمور عن الحركة،يصبح من الواضح حينها أنه حتى لو كان أشخاص كالإمام الحسين تزعموا الطريق،لاستشهدوا عن آخرهم،مثلما استشهد أمير المؤمنين عليه السّلام،و كما استشهد الحسين عليه السّلام.
ص: 81
الخواص،الخواص،طبقة الخواص.أنظروا يا أعزائي أين موقعكم؛إن كنتم من الخواص-و أنتم فعلا منهم-فحاذروا.
في كل زمن كان يجب فيه على الخواص العمل بتكاليفهم و اجتناب انقيادهم لمغريات الدنيا،و يجب البحث في كيفية عدم الإنقياد للدنيا،مع ذكر الأمثلة و المصاديق على ذلك.
إنّ السير على طريق اللّه له معارضون على الدوام.و لو أن شخصا من هؤلاء الخواص الذين تحدثنا عنهم أراد أن يقدم على عمل-إنّ هو أراد ذلك-لا نبرى له جماعة آخرون من أولئك الخواص أنفسهم باللوم و التعنيف و التقريع على موقفه ذاك.
مثلما كانوا يفعلون في أيام ثورتنا.لكن الخواص يجب عليهم أن يقاوموا؛هذه إحدى ضرورات جهاد الخواص،و هي الصبر على اللوم و التقريع،لأنهم يتلقون من المعارضين التهم و الإساءات على الدوام.
إنّ أي عمل يؤديه الخواص و في أي قطاع كان،و قد يكون من القضايا الهامّة التي قد تطرأ في المستقبل،-و ما ذكر كان نموذجا مصغرا-سيؤدي إلى إثارة الإعتراضات و التساؤلات من قبل البعض! (1).
ص: 82
قال السيد باقر القرشي:و أحاطت بالإمام عليه السّلام عدة من المسؤوليات الدينية و الواجبات الاجتماعية و غيرها،فحفزته إلى الثورة،و دفعته إلى التضحية و الفداء و هذه بعضها:
و أعلن الإسلام المسؤولية الكبرى على كل مسلم عما يحدث في بلاد المسلمين من الأحداث و الأزمات التي تتنافى مع دينهم،و تتجافى مع مصالحهم،فإنه ليس من الإسلام في شي أن يقف المسلم موقفا يتسم بالميوعة و اللامبالاة أمام الهزات التي تدهم الأمة و تدمّر مصالحها،و قد أعلن الرسول صلّى اللّه عليه و اله هذه المسؤولية،يقول صلّى اللّه عليه و اله:
«كلكم راع،و كلكم مسؤول عن رعيته»فالمسلم مسؤول أمام الله عن رعاية مجتمعه،و السهر على صالح بلاده،و الدفاع عن أمته.
و على ضوء هذه المسؤولية الكبرى ناهض الإمام جور الأمويين،و ناجز مخططاتهم الهادفة إلى استعباد الأمة و إذلالها،و نهب ثرواتها،و قد أدلى عليه السّلام بما يحتّمه الإسلام عليه من الجهاد لحكم الطاغية يزيد،أمام الحر و أصحابه قال عليه السّلام:
«أيها الناس إن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله قال:من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله،مخالفا لسنّة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان،فلم
ص: 83
يغير عليه بقول و لا فعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله».
لقد كان الواجب الديني يحتّم عليه القيام بوجه الحكم الأموي الذي استحلّ حرمات الله،و نكث عهوده و خالف سنّة رسول الله صلّى اللّه عليه و اله،و قد صرّح جماعة من علماء المسلمين بأن الواجب الديني كان يقضي على الإمام أن ينطلق في ميادين الجهاد دفاعا عن الإسلام،و فيما يلي بعضهم.
و ألمع الإمام محمد عبده في حديثه عن الحكومة العادلة و الجائرة في الإسلام إلى خروج الإمام على حكومة يزيد،و وصفه بأنه كان واجبا شرعيا عليه،قال:«إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع،و حكومة جائرة تعطّله،وجب على كل مسلم نصر الأولى،و خذل الثانية...و من هذا الباب خروج الإمام الحسين عليه السّلام سبط الرسول صلّى اللّه عليه و اله على إمام الجور و البغي الذي ولي أمر المسلمين بالقوة و المنكر يزيد بن معاوية خذله الله،و خذل من انتصر له من الكرامية و النواصب».
و تحدث الأستاذ محمد عبد الباقي سرور عن المسؤولية الدينية و الاجتماعية اللتين تحتمان على الإمام القيام بمناهضة حكم يزيد قال:
«لو بايع الحسين يزيد الفاسق المستهتر،الذي أباح الخمر و الزنا و حط بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات،و عقد حلقات الشراب في مجلس الحكم،و الذي ألبس الكلاب و القرود خلاخل من ذهب،و مئات الآلاف من المسلمين صرعى الجوع، و الحرمان.
ص: 84
لو بايع الحسين يزيد أن يكون خليفة لرسول الله صلّى اللّه عليه و اله على هذا الوضع لكانت فتيا من الحسين بإباحة هذا للمسلمين،و كان سكوته هذا أيضا رضى،و الرضى من ارتكاب المنكرات و لو بالسكوت إثم و جريمة في حكم الشريعة الإسلامية، و الحسين بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصية المسؤولة في الجزيرة العربية بل في البلاد الإسلامية كافة عن حماية التراث الإسلامي لمكانته في المسلمين،و لقرابته من رسول رب العالمين،و لكونه بعد موت كبار المسلمين كان أعظم المسلمين في ذلك الوقت علما و زهدا و حسبا و مكانة.فعلى هذا الوضع أحس بالمسؤولية تناديه و تطلبه لإيقاف المنكرات عند حدها،و لا سيما أن الذي يضع هذه المنكرات و يشجع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله صلّى اللّه عليه و اله هذا أولا.
و ثانيا:إنه عليه السّلام جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب،و جاءه ثلاثون ألفا من الخطابات من ثلاثين ألف من العراقيين من سكان البصرة و الكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة يزيد بن معاوية،و ألحوا تكرارا هذه الخطابات حتى قال رئيسهم عبد الله بن الحصين الأزدي:يا حسين سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلب طلبنا،و تقوم بنجدة الإسلام،و كيف و الحسين ذو حمية دينية و نخوة إسلامية،و المفاسد تترى أمام عينيه،كيف لا يقوم بتلبية النداء، و على هذا الوضع لبى النداء،كما تأمر به الشريعة الإسلامية،و توجه نحو العراق».
و هذا الرأي وثيق للغاية فقد شفّع بالأدلة الشرعية التي حمّلت الإمام مسؤولية الجهاد و الخروج على حكم طاغية زمانه.
يقول الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود:«و رأى الحسين أنه مطالب الآن-يعني بعد هلاك معاوية-أن يعلن رفضه لهذه البيعة،و أن يأخذ البيعة لنفسه من
ص: 85
المسلمين،و هذا أقل ما يجب حفاظا لأمر الله،و رفعا للظلم،و إبعادا لهذا العابث يعني يزيد-عن ذلك المنصب الجليل».
و ممن صرّح بهذه المسؤولية الدينية الدكتور أحمد محمود صبحي قال:«ففي إقدام الحسين على بيعة يزيد انحراف عن أصل من أصول الدين من حيث أن السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد وراثة الملك إلا بدعة هرقلية دخيلة على الإسلام،و من حيث أن اختيار شخص يزيد مع ما عرف عنه من سوء السيرة،و ميله إلى اللهو و شرب الخمر،و منادمة القرود ليتولى منصب الخلافة عن رسول الله صلّى اللّه عليه و اله أكبر وزر يحل بالنظام السياسي للإسلام،يتحمل وزره كل من شارك فيه و رضي عنه،فما بالك إذا كان المقدم على ذلك هو ابن بنت رسول الله.
كان خروج الحسين إذا أمرا يتصل بالدعوة و العقيدة أكثر مما يتصل بالسياسة و الحرب».
يقول العلايلي:«و هناك واجب على الخليفة إذا تجاوزه وجب على الأمة إسقاطه، و وجبت على الناس الثورة عليه و هو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة،و إلا فأي تظاهر بخلافه يكون تلاعبا و عبثا،و من ثم وجب على رجل القانون أن يكون أكثر تظاهرا باحترام القانون من أي شخص آخر،و أكبر مسؤولية من هذه الناحية،فإذا فسق الملك ثم جاهر بفسقه و تحدى الله و رسوله
ص: 86
و المؤمنين لم يكن الخضوع له إلا خضوعا للفسق و خضوعا للفحشاء و المنكر،و لم يكن الإطمئنان إليه إلا اطمئنانا للتلاعب و المعالنة الفاسقة.
هذا هو المعنى التحليلي لقوله عليه السّلام:«و يزيد رجل فاسق،شارب للخمر و قاتل النفس المحرمة،معلن بالفسق».
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جماعة من العلماء في إلزام الإمام شرعا بالخروج على حكم الطاغية يزيد،و أنه ليس له أن يقف موقفا سلبيا أمام ما يقترفه يزيد من الظلم و الجور.
ص: 87
و كان الإمام عليه السّلام بحكم مركزه الاجتماعي مسؤولا أمام الأمة عما منيت به من الظلم و الاضطهاد من قبل الأمويين،و من هو أولى بحمايتها و رد الاعتداء عنها غيره فهو سبط رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و ريحانته،و الدين دين جده،و الأمة أمة جده،و هو المسؤول بالدرجة الأولى عن رعايتهما.
لقد رأى الإمام أنه مسؤول عن هذه الأمة،و أنه لا يجدي بأي حال في تغيير الأوضاع الاجتماعية التزام جانب الصمت،و عدم الوثوب في وجه الحكم الأموي الملىء بالجور و الآثام،فنهض عليه السّلام بأعباء هذه المسؤولية الكبرى،و أدى رسالته بأمانة و إخلاص،و ضحّى بنفسه و أهل بيته و أصحابه ليعيد على مسرح الحياة عدالة الإسلام و حكم القرآن.
و قامت الحجة على الإمام لإعلان الجهاد،و مناجزة قوى البغي و الإلحاد،فقد تواترت عليه الرسائل و الوفود من أقوى حامية عسكرية في الإسلام،و هي الكوفة فكانت رسائل أهلها تحمّله المسؤولية أمام الله إن لم يستجب لدعواتهم الملحة لإنقاذهم من عسف الأمويين و بغيهم،و من الطبيعي أنه لو لم يجيبهم لكان مسؤولا أمام الله،و أمام الأمة في جميع مراحل التأريخ،و تكون الحجة قائمة عليه.
ص: 88
و من أوكد الأسباب التي ثار من أجلها حفيد الرسول صلّى اللّه عليه و اله حماية الإسلام من خطر الحكم الأموي الذي جهد على محو سطوره،و قلع جذوره و إقبار قيمه،فقد أعلن يزيد و هو على دست الخلافة الإسلامية الكفر و الإلحاد بقوله:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل
و كشف هذا الشعر عن العقيدة الجاهلية التي كان يدين بها يزيد فهو لم يؤمن بوحي و لا كتاب،و لا جنة و لا نار،و قد رأى السبط أنه إن لم يثأر لحماية الدين فسوف يجهز عليه حفيد أبي سفيان و يجعله أثرا بعد عين،فثار عليه السّلام ثورته الكبرى التي فدى بها دين الله،فكان دمه الزاكي المعطر بشذى الرسالة،هو البلسم لهذا الدين،فإن من المؤكد أنه لولا تضحيته لم يبق للإسلام اسم و لا رسم،و صار الدين دين الجاهلية و دين الدعارة و الفسوق،و لذهبت سدى جميع جهود النبي صلّى اللّه عليه و اله و ما كان ينشده للناس من خير و هدى،و قد نظر النبي صلّى اللّه عليه و اله من وراء الغيب و استشف مستقبل أمّته،فرأى بعين اليقين،ما تمنى به الأمة من الانحراف عن الدين،و ما يصيبها من الفتن و الخطوب على أيدي أغيلمة من قريش،و رأى أن الذي يقوم بحماية الإسلام هو الحسين عليه السّلام فقال صلّى اللّه عليه و اله كلمته الخالدة:«حسين مني و أنا من حسين»فكان النبي صلّى اللّه عليه و اله حقا من الحسين لأن تضحيته كانت وقاية للقرآن، و سيبقى دمه الزكي يروي شجرة الإسلام على ممر الأحقاب و الآباد.
ص: 89
و من ألمع الأسباب التي ثار من أجلها الإمام الحسين عليه السّلام تطهير الخلافة الإسلامية من أرجاس الأمويين الذين نزوا عليها بغير حق..فلم تعد الخلافة-في عهدهم كما يريدها الإسلام-وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي بين الناس،و القضاء على جميع أسباب التخلف و الفساد في الأرض.
لقد اهتم الإسلام اهتماما بالغا بشأن الخلافة باعتبارها القاعدة الصلبة لإشاعة الحق و العدل بين الناس،فإذا صلحت نعمت الأمة بأسرها،و إذا انحرفت عن واجباتها فإن الأمة تصاب بتدهور سريع في جميع مقوماتها الفكرية و الاجتماعية..و من ثم فقد عني الإسلام في شأنها أشد ما تكون العناية،فألزم من يتصدى لها بأن تتوفر فيه النزعات الخيرة و الصفات الشريفة من العدالة و الأمانة، و الخبرة بما تحتاج إليه الأمة فى مجالاتها الإقتصادية و الإدارية و السياسية،و حرّم على من فقد هذه الصفات أن يرشح نفسه للخلافة..و قد تحدث عليه السّلام في أولى رسائله إلى أهل الكوفة عن الصفات التي يجب أن تتوفر فيمن يرشح نفسه إلى إمامة المسلمين و إدارة شؤونهم قال عليه السّلام:
«فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب،و الآخذ بالقسط،و الدائن بالحق،و الحابس نفسه على ذات الله».
فمن تحلّى بهذه الصفات كان له الحق في تقديم نفسه لإمامة المسلمين و خلافتهم،و من لم يتصف بها فلا حق له في التصدي لهذا المركز الخطير الذي كان
ص: 90
يشغله الرسول صلّى اللّه عليه و اله...إن الخلافة الإسلامية ليست مجرد سلطة زمنية على الأمة، و إنما هي نيابة عن الرسول صلّى اللّه عليه و اله و امتداد ذاتي لحكومته المشرقة.
و قد رأى الإمام الحسين أن مركز جده قد صار إلى سكير مستهتر لا يعي إلا شهواته و رغباته،فثار عليه السّلام ليعيد للخلافة الإسلامية كيانها المشرق و ماضيها الزاهر.
و لم تملك الأمة في عهد معاوية و يزيد إرادتها و اختيارها فقد كانت جثة هامدة لا وعي فيها و لا اختيار،قد كبّلت بقيود ثقيلة سدّت في وجهها منافذ النور و الوعي، و حيل بينها و بين إرادتها.
لقد عمل الحكم الأموي على تخدير المسلمين و شل تفكيرهم،و كانت قلوبهم مع الإمام الحسين،إلا أنهم لا يتمكنون من متابعة قلوبهم و ضمائرهم فقد استولت عليها حكومة الأمويين بالقهر،فلم يملكوا من أمرهم شيئا،فلا إرادة لهم و لا اختيار، و لا عزم و لا تصميم فأصبحوا كالأنصاب لا وعي فيهم و لا حراك،قد قبعوا أذلاء صاغرين تحت وطأة سياط الأمويين و بطشهم».
لقد هبّ الإمام إلى ساحات الجهاد و الفداء ليطعّم المسلمين بروح العزة و الكرامة،فكان مقتله نقطة تحوّل في تأريخ المسلمين و حياتهم،فانقلبوا رأسا على عقب،فتسلّحوا بقوة العزم و التصميم،و تحرّروا من جميع السلبيات التي كانت ملمة بهم،و انقلبت مفاهيم الخوف و الخنوع التي كانت جاثمة عليهم إلى مبادىء الثورة و النضال،فهبّوا متضامنين في ثورات مكثفة،و كان شعارهم(يا لثارات الحسين)فكان هذا الشعار هو الصرخة المدوية التي دكت عروش الأمويين و أزالت سلطانهم.
ص: 91
و انهار اقتصاد الأمة الذي هو شرايين حياتها الاجتماعية و الفردية فقد عمد الأمويون بشكل سافر إلى نهب الخزينة المركزية و الاستئثار بالفيء و سائر نمرات الفتوح و الغنائم،فحازوا الثراء العريض،و تكدست في بيوتهم الأموال الهائلة التي حاروا في صرفها،و قد أعلن معاوية أمام المسلمين أن المال مال الله،و ليس مال المسلمين فهو أحق به،و يقول سعيد بن العاص:إنما السواد بستان قريش،و قد أخذوا ينفقون الأموال على أغراضهم السياسية التي لا تمت بصلة لصالح الأمة.أما مواد إنفاقهم البارزة فهي:
أ-شراء الضمائر و الأديان،و قد تقدمت الشواهد المؤيدة لذلك عند البحث عن سياسة معاوية الاقتصادية.
ب-الإنفاق على لجان الوضع لافتعال الأخبار التي تدعم الكيان الأموي و تحط من قيمة أهل البيت،و قد ألمحنا إلى ذلك بصورة مفصلة.
ج-الهبات الهائلة و العطايا الوافرة للوجوه و الأشراف لكم أفواههم عما تقترفه السلطة من الظلم للرعية.
د-الصرف على المجون و الدعارة،فقد امتلأت بيوتهم بالمغنين و المغنيات و أدوات العزف و سائر المنكرات.
هذه بعض الموارد التي كان ينفق عليها الأموال،في حين أن الجوع قد نهش الأمة و عمّت فيها المجاعة،و انتشر شبح الفقر في جميع الأقطار الإسلامية سوى الشام فقد رفّه عليها لأنها الحصن المنيع الذي كان يحمي جور الأمويين و ظلمهم.
ص: 92
و قد ثار الإمام الحسين عليه السّلام ليحمي اقتصاد الأمة و يعيد توازن حياتها المعاشية،و قد صادر أموالا من الخراج كانت قد أرسلت لمعاوية،كما صادر أموالا أخرى أرسلت من اليمن إلى خزينة دمشق في أيام يزيد،و قد أنفقها على الفقراء و المعوزين،و كان عليه السّلام أكثر ما يعاني من الآلام هو أنه يرى الفقر قد أخذ بخناق المواطنين،و لم ينفق شيئا من بيت المال على إنعاش حياتهم.
و انتشرت المظالم الاجتماعية في أنحاء البلاد الإسلامية،فلم يعد قطر من الأقطار إلا و هو يعج بالظلم و الاضطهاد من جورهم،و كان من مظاهر ذلك الظلم مايلي:
-1-فقد الأمن
و انعدم الأمن في جميع أنحاء البلاد،و ساد الخوف و الإرهاب على جميع المواطنين،فقد أسرفت السلطة الأموية بالظلم،فجعلت تأخذ البريء بالسقيم، و المقبل بالمدبر،و تعاقب على الظنة و التهمة،و تسوق الأبرياء بغير حساب إلى السجون و القبور،و كان الناس في عهد زياد يقولون:«أنج سعد فقد هلك سعيد»و لا يوجد أحد إلا و هو خائف على دمه،و ماله،فثار الإمام الحسين عليه السّلام لينقذ الناس من هذا الجور الهائل.
-2-احتقار الأمة
و كان الخط السياسي الذي انتهجه الأمويون العمل على إذلال الأمة و الاستهانة بها و كان من مظاهر ذلك الاحتقار إنهم كانوا يختمون في أعناق المسلمين كما
ص: 93
توسم الخيل علامة لاستعبادهم كما نقشوا على أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعلوج من الروم و الحبشة و قد هب الإمام عليه السّلام في ميادين الجهاد ليفتح للمسلمين أبواب العزة و الكرامة،و يحطم عنهم ذلك الكابوس المظلم الذي أحال حياتهم إلى ظلام قاتم لا بصيص فيه من النور.
و ذهبت نفس الإمام الحسين أسى على ما عانته الشيعة-في عهد معاوية-من ضروب المحن و البلاء،فقد أمعن معاوية في ظلمهم و إرهاقهم و فتك بهم فتكا ذريعا،و راح يقول للإمام الحسين:«يا أبا عبد الله علمت أنا قتلنا شيعة أبيك فحنّطناهم و كفّناهم و صلّينا عليهم و دفناهم»و قد بذل قصارى جهوده في تصفية الحساب معهم،و قد ذكرنا عرضا مفصلا لما عانوه في عهد معاوية و خلاصته.
-1-إعدام أعلامهم كحجر بن عدي،و عمرو بن الحمق الخزاعي و صيفي بن فسيل و غيرهم.
-2-صلبهم على جذوع النخل.
-3-دفنهم أحياءا.
-4-هدم دورهم.
-5-عدم قبول شهاداتهم.
-6-حرمانهم من العطاء.
-7-ترويع السيدات من نسائهم.
-8-إذاعة الذعر و الخوف في جميع أوساطهم.
ص: 94
إلى غير ذلك من صنوف الإرهاق الذي عانوه،و قد ذعر الإمام الحسين عليه السّلام مما حل بهم،فبعث بمذكرته الخطيرة لمعاوية التي سجّل فيها ما ارتكبه جرائم في حق الشيعة،و قد ذكرناها في البحث عن حكومة معاوية.
لقد كانت الإجراءات القاسية التي اتخذها الحكم الأموي ضد الشيعة من أسباب ثورته فهب لإنقاذهم من واقعهم المرير،و حمايتهم من الجور و الظلم.
و من ألمع الأسباب التي ثار من أجلها أبو الشهداء عليه السّلام هو أن الحكم الأموي قد جهد على محو ذكر أهل البيت عليهم السّلام و استئصال مآثرهم و مناقبهم و قد استخدم معاوية في هذا السبيل أخبث الوسائل و هي:
-1-إفتعال الأخبار في الحط من شأنهم.
-2-إستخدام أجهزة التربية و التعليم لتربية النشء على بغضهم.
-3-معاقبة من يذكر مناقبهم بأقصى العقوبات.
-4-سبّهم على المنابر و المآذن و خطب الجمعة.
و قد عقد الإمام الحسين عليه السّلام مؤتمره السياسي الكبير في مكة المكرمة و أحاط المسلمين علما بالإجراءات الخطيرة التي اتخذها معاوية إلى إزالة أهل البيت عن الرصيد الإسلامي...و كان عليه السّلام يتحرق شوقا إلى الجهاد،و يود أن الموت قد وافاه و لا يسمع سب أبيه على المنابر و المآذن.
ص: 95
و عمد الأمويون إلى تدمير القيم الإسلامية،فلم يعد لها أي ظل على واقع الحياة الإسلامية و هذه بعضها:
و أشاع الأمويون الفرقة و الاختلاف بين المسلمين فأحيوا العصبيات القبلية، و شجّعوا الهجاء بين الأسر و القبائل العربية حتى لا تقوم وحدة بين المسلمين،و قد شجّع يزيد الأخطل على هجاء الأنصار الذين آووا النبي صلّى اللّه عليه و اله و حاموا عن دينه أيام غربة الإسلام و محنته.
لقد كانت الظاهرة البارزة في شعر ذلك العصر هي الهجاء المقذع فقد قصر الشعراء مواهبهم الأدبية على الهجاء و التفنن في أساليب القذف و السب للأسر التي كانت تنافس قبائلهم،و قد خلا الشعر الأموي عن كل نزعة إنسانية أو مقصد إجتماعي،و تفرّد بظاهرة الهجاء،و قد خولف بذلك ما كان ينشده الإسلام من الوحدة الشاملة بين أبنائه.
و هدم الأمويون المساواة العادلة التي أعلنها الإسلام،فقدّموا العرب على الموالي و أشاعوا جوا رهيبا من التوتر و التكتل السياسي بين المسلمين،و كان من
ص: 96
جراء ذلك أن ألّف الموالي مجموعة من الكتب في نقص العرب و ذمهم،كما ألّف العرب كتبا في نقص الموالي و احتقارهم،و على رأس القائمة التي أثارت هذا النحو من التوتر بين المسلمين زياد بن أبيه فقد كان حاقدا على العرب،و قد عهد إلى الكتاب بانتقاصهم.
و قد خالفت هذه السياسة النكراء روح الإسلام الذي ساوى بين المسلمين في جميع الحقوق و الواجبات على اختلاف قومياتهم.
و لم يعد أي مفهوم للحرية ماثلا على مسرح الحياة طيلة الحكم الأموي فقد كانت السلطة تحاسب الشعب حسابا منكرا و عسيرا على كل بادرة لا تتفق مع رغباتها، حتى لم يعد في مقدور أي أحد أن يطالب بحقوقه،أو يتكلم بأي مصلحة للناس فقد كان حكم النطع و السيف هو السائد في ذلك العصر.
لقد ثار أبو الأحرار لينقذ الإنسان المسلم و غيره من الاضطهاد الشامل و يعيد للناس حقوقهم التي ضاعت في أيام معاوية و يزيد.
ص: 97
و انهار المجتمع في عصر الأمويين،و تحلل من جميع القيم الإسلامية أما أهم العوامل التي أدت إلى انهياره فهي:
-1-حرمان المجتمع من التربية الروحية فلم يحفل بها أحد من الخلفاء سوى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقد عنى بها عناية بالغة إلا أنه قد مني بالأحداث الرهيبة التي منعته من مواصلة مسيرته في إصلاح الناس و تقويم أخلاقهم.
-2-إمعان الحكم الأموي في إفساد المجتمع و تضليله،و تغذيته بكل ما هو بعيد عن واقع الإسلام و هديه.
إن هذين العاملين-فيما تحسب-من أهم العوامل التي أدت إلى إنهيار ذلك المجتمع...أما مظاهر ذلك التحلل و الانهيار فهي:
و لم يتأثم أغلب أبناء ذلك المجتمع من نقض العهود و المواثيق،فقد كان عدم الوفاء بها أمرا عاديا،و متسالما عليه،و قد شجّعهم على ذلك(كسرى العرب)،فقد أعلن في خطابه بالنخيلة إن كل ما شرطه على نفسه للإمام الحسن لا يفي به،و عمد إلى نقض جميع الشروط التي أعطاها له..و كانت هذه الظاهرة من أبرز ذاتيات الكوفيين،فقد أعطوا للإمام الحسين أعظم العهود و المواثيق على مناصرته،
ص: 98
و مناجزة عدوه إلا أنهم خاسوا ما عاهدوا عليه الله فخذلوه و قتلوه.
و من الأعراض التي أصيب بها ذلك المجتمع عدم التحرج من الكذب و قد مني الكوفيون بذلك بصورة خاصة،فإنهم لما أحاطوا بالإمام الحسين عليه السّلام-يوم الطف -لقتله،وجه عليه السّلام سؤالا إلى قادة الفرق الذين كاتبوه بالقدوم إليهم فقال:
«يا شبث بن ربعي،و يا حجار بن أبجر،و يا قيس بن الأشعث،و يا زيد بن الحرث،ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار،و اخضر الجناب و إنما تقدم على جند لك مجندة..».
و لم تخجل تلك النفوس القذرة من تعمد الكذب فأجابوه مجمعين:
«لم نفعل».
و بهر الإمام فاندفع يقول:
«سبحان الله!!بلى و الله لقد فعلتم..».
و قد جروا إلى المجتمع بما اقترفوه من الآثام كثيرا من الويلات و الخطوب، و تسلّح بهم أئمة الظلم و الجور إلى اضطهاد المسلمين و إرغامهم على ما يكرهون.
و قد كان من أحط ما وصل إليه ذلك المجتمع من الإنحراف و الزيغ عرض الضمائر و الأديان لبيعها على السلطة جهارا،و قد ألمحنا إلى ذلك بصورة مفصلة عند البحث عن عهد معاوية.
ص: 99
و أقبل المجتمع بنهم على اللهو و الدعارة،و قد شجّع الأمويون بصورة مباشرة حياة المجون لزعزعة العقيدة الدينية من النفوس،و صرف الناس عما ينشده الإسلام من التوازن في سلوك الفرد.
هذه بعض الأمراض التي ألمّت بالمجتمع الإسلامي،و قد أدت إلى تسيبه، و انهيار قيمة و قد ثار الإمام الحسين عليه السّلام ليقضي على التذبذب و الإنحراف الذي منيت به الأمة.
و انبرى الإمام الحسين عليه السّلام للجهاد دفاعا عن حقوقه التي نهبها الأمويون و اغتصبوها،و أهمها-فيما نحسب-مايلي:
و آمن الإمام الحسين عليه السّلام-كأبيه-أن العترة الطاهرة أولى بمقام رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أحق بمركزه من غيرهم،لأنهم أهل بيت النبوة،و معدن الرسالة و مختلف الملائكة،بهم فتح الله،و بهم ختم-على حد تعبيره-و قد طبع على هذا الشعور و هو في غضون الصبا،فقد انطلق إلى عمر و كان على منبر رسول الله صلّى اللّه عليه و اله فصاح به:
ص: 100
«إنزل عن منبر أبي،و اذهب إلى منبر أبيك».
و لم ينفرد الإمام الحسين بهذا الشعور و إنما كان سائدا عند أئمة أهل البيت عليهم السّلام فهم يرون أن الخلافة من حقوقهم لأنهم ألصق الناس برسول الله صلّى اللّه عليه و اله و أكثرهم وعيا لأهدافه...و هناك شيء آخر جدير بالإهتمام و هو أن الحسين عليه السّلام كان هو الخليفة الشرعي بمقتضى معاهدة الصلح التي تم الإتفاق عليها،فقد جاء في بنودها ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده و الأمر بعده للحسن،فإن حدث به حدث فالأمر للحسين»و على هذا،فلم تكن بيعة يزيد شرعية،فلم يخرج الإمام الحسين عليه السّلام على إمام من أئمة المسلمين-كما يذهب لذلك بعض ذوي النزعات الأموية و إنما خرج عليه السّلام على ظالم مغتصب لحقه.
و الخمس حق مفروض لأهل البيت عليهم السّلام نص عليه القرآن و تواترت به السنّة، و لكن الحكومات السابقة تناهبته فلم تؤد لهم منه شيئا لشل حركة المقاومة عند العلويين،و قد أشار الإمام الحسين عليه السّلام إلى ذلك في حديثه مع أبي هريرة الذي نهاه عن الخروج على بني أمية،فقال عليه السّلام له:
«و يحك أبا هريرة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت».
و أكبر الظن أن المال الذي أخذته بنو أمية منه هو الخمس،و قد أعلن ذلك دعبل الخزاعي في رائعته التي أنشدها أمام الرضا عليه السّلام في خراسان بقوله:
أرى فيأهم في غيرهم متقسما و أيديهم من فيئهم صفرات
و التاع الإمام الرضا عليه السّلام فجعل يقلّب يديه و هو يقول:
«إنها-و الله-لصفرات»و قد أقض مضاجع العلويين منعهم من الخمس
ص: 101
باعتباره أحد المصادر الرئيسية لحياتهم الإقتصادية.
و لعل الإمام الحسين قد استهدف بنهضته إرجاع هذا الحق السليب لأهل البيت عليهم السّلام.
و من أوكد الأسباب التي ثار من أجلها أبي الضيم عليه السّلام إقامة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإنهما من مقومات هذا الدين،و الإمام بالدرجة الأولى مسؤول عنهما،و قد أدلى عليه السّلام بذلك في وصيته لأخيه ابن الحنفية التي أعلن فيها عن أسباب خروجه على يزيد،فقال عليه السّلام«إني لم أخرج أشرا،و لا بطرا،و لا ظالما،و لا مفسدا، و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر».
لقد انطلق عليه السّلام إلى ميادين الجهاد ليقيم هذا الصرح الشامخ الذي بنيت عليه الحياة الكريمة في الإسلام،و قد انهارت دعائمه أيام الحكم الأموي فقد أصبح المعروف في عهدهم منكرا،و المنكر معروفا،و قد أنكر عليهم الإمام في كثير من المواقف،و التي كان منها خطابه الرائع أمام المهاجرين و الأنصار،فقد شجب فيه تخاذلهم عن نصرة الحق و دحض الباطل،و إيثارهم للعافية،و قد ذكرناه في الحلقة الأولى من هذا الكتاب.
و مما قاله عليه السّلام في هذا المجال أمام أصحابه و أهل بيته يوم الطف:«ألا ترون إلى الحق لا يعمل به،و إلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه»لقد آثر الموت على الحياة،لأنه يرى الحق قد تلاشى و الباطل قد استشرى.
ص: 102
و عمد الحكم الأموي إلى نشر البدع بين المسلمين،التي لم يقصد منها إلا محق الإسلام،و إلحاق الهزيمة به،و قد أشار الإمام عليه السّلام إلى ذلك في رسالته التي بعثها لأهل البصرة يقول عليه السّلام:«فإن السنّة قد أميتت و البدعة قد أحييت».
لقد ثار عليه السّلام ليقضي على البدع الجاهلية التي تبناها الأمويون،و يحيي سنة جده التي أماتوها،فكانت نهضته الخالدة من أجل إماتة الجاهلية و نشر راية الإسلام.
و استشف النبي صلّى اللّه عليه و اله من وراء الغيب ما يمنى به الإسلام من الأخطار الهائلة على أيدي الأمويين،و أنه لا يمكن بأي حال تجديد رسالته و تخليد مبادئه إلا بتضحية ولده الإمام الحسين عليه السّلام فإنه هو الذي يكون الدرع الواقي لصيانة الإسلام فعهد إليه بالتضحية و الفداء،و قد أدلى الحسين بذلك حينما عذله المشفقون عليه من الخروج إلى العراق فقال عليه السّلام لهم:
«أمرني رسول الله صلّى اللّه عليه و اله بأمر و أنا ماض إليه..».
و يقول المؤرخون:إن النبي صلّى اللّه عليه و اله كان قد نعى الحسين إلى المسلمين و أحاطهم علما بشهادته و ما يعانيه من أهوال المصائب،و كان-باستمرار-يتفجع عليه و يلعن قاتله،و كذلك أخبر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بشهادته و ما يجري عليه،و قد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب الأخبار المتواترة بذلك...و كان الإمام الحسين عليه السّلام على علم وثيق بما يجري عليه فقد سمع ذلك من جده و أبيه و قد أيقن
ص: 103
بالشهادة،و لم يكن له أي أمل في الحياة فمشى إلى الموت بعزم و تصميم امتثالا لأمر جده الذي عهد إليه بذلك.
و من أوثق الأسباب التي ثار من أجلها أبو الأحرار هو العزة و الكرامة فقد أراد الأمويون إرغامه على الذل،و الخنوع،فأبى إلا أن يعيش عزيزا تحت ظلال السيوف و الرماح،و قد أعلن سلام الله عليه ذلك يوم الطف بقوله:
«ألا و إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة،و هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك و رسوله،و نفوس أبية،و أنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..».
و قال عليه السّلام:
«لا أرى الموت إلا سعادة و الحياة مع الظالمين الا برما..».
لقد عانق الموت بثغر باسم في سبيل إبائه و عزته،و ضحّى بكل شي من أجل حريته و كرامته.
ص: 104
و أيقن الإمام الحسين عليه السّلام أن الأمويين لا يتركونه،و لا تكف أيديهم عن الغدر و الفتك به حتى لو سالمهم و بايعهم،و ذلك لما يلي:
-1-إن الإمام كان ألمع شخصية في العالم الإسلامي،و قد عقد له المسلمون في دخائل نفوسهم خالص الود و الولاء لأنه حفيد نبيهم و سيد شباب أهل الجنة،و من الطبيعي أنه لا يروق للأمويين وجود شخصية تتمتع بنفوذ قوي،و مكانة مرموقة في جميع الأوساط فإنها تشكل خطرا على سلطانهم و ملكهم.
-2-إن الأمويين كانوا حاقدين على النبي صلّى اللّه عليه و اله لأنه و ترهم في واقعة بدر،و ألحق بهم الهزيمة و العار،و كان يزيد يترقب الفرص للإنتقام من أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و اله ليأخذ ثارات بدر منهم،و يقول الرواة إنه كان يقول:
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل
و لما استوفى ثأره و روى أحقاده بإبادتهم أخذ يترنم و يقول:
قد قتلنا القرم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل
-3-إن الأمويين قد عرفوا بالغدر و نقض العهود،فقد صالح الحسن معاوية، و سلّم إليه الخلافة و مع ذلك فقد غدر معاوية به فدس إليه سما فقتله،و أعطوا الأمان لمسلم بن عقيل فخانوا به..و قد ذكرنا في البحوث السابقة مجموعة من الشخصيات التي اغتالها معاوية خشية منهم.
و قد أعلن الإمام الحسين عليه السّلام أن بني أمية لا يتركونه يقول عليه السّلام لأخيه محمد بن
ص: 105
الحنفية:«لو دخلت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني» و قال عليه السّلام لجعفر بن سليمان الضبعي:
«و الله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة-يعني قلبه الشريف-من جوفي».
و اختار عليه السّلام أن يعلن عليهم الحرب و يموت ميتة كريمة تهز عروشهم و تقضي على جبروتهم و طغيانهم.
هذه بعض الأسباب التي حفّزت أبا الأحرار إلى الثورة على حكم يزيد.
و وصف جماعة من المتعصبين لبني أمية خروج الإمام على يزيد بأنه كان من أجل الملك و الظفر بخيرات البلاد،و هذا الرأي ينم عن حقدهم على الإمام بما أحرزه من الإنتصارات الرائعة في نهضته المباركة التي لم يظفر بمثل معطياتها أي مصلح اجتماعي في الأرض،و قد يكون لبعضهم العذر لجهلهم بواقع النهضة الحسينية، و عدم الوقوف على أسبابها،لقد كان الإمام على يقين بإخفاق ثورته في الميادين العسكرية،لأن خصمه كان يدعمه جند مكثف أولو قوة و أولو بأس شديد،و هو لم تكن عنده أية قوة عسكرية ليحصل على الملك،و لو كان الملك غايته-كما يقولون- لعاد إلى الحجاز أو مكان آخر حينما بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل،و انقلاب الكوفة عليه،و يعمل حينئذ من جديد على ضمان غايته،و نجاح مهمته،لقد كان الإمام على علم بأن الأوضاع السائدة كلها كانت في صالح بني أمية و ليس منها مما يدعمه أو يعود لصالحه،يقول ابن خلدون:«إن هزيمة الحسين كانت أمرا محتما لأن الحسين لم تكن له الشوكة التي تمكنه من هزيمة الأمويين لأن عصبية مضر في قريش،و عصبية قريش في عبد مناف و عصبية عبد مناف في بني أمية،فعرف
ص: 106
ذلك لهم قريش و سائر الناس لا ينكرونه».
لقد كانت ثورة الإمام من أجل غاية لا يفكر بها أولئك الذين فقدوا وعيهم، و اختيارهم فقد كان خروجه على حكم يزيد من أجل حماية المثل الإسلامية و القيم الكريمة من الأمويين الذين حملوا عليها معول الهدم..يقول بعض الكتاب المعاصرين:
«و يحق لنا أن نسأل ماذا كان هدف الحسين عليه السّلام،و ماذا كانت القضية التي يعمل من أجلها؟أما لو كان هدفه شخصيا يتمثل في رغبته في إسقاط يزيد ليتولى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمح إليها،ما وجدنا فيه هذا الإصرار على التقدم نحو الكوفة رغم وضوح تفرق الناس من حوله،و استسلامهم لابن زياد،و حملهم السلاح في أعداد كثيرة لمواجهته و القضاء عليه.
إن أقصر الناس نظرا كان يدرك أن مصيره لن يختلف عما آل إليه فعله.و لو كان الحسين بهذه المكانة من قصر النظر لعاد إلى مكة ليعمل من جديد للوصول إلى منصب الخلافة..و لو كان هدفه في أول الأمر الوصول إلى منصب الخلافة ثم لما بلغه مصرع ابن عمه قرر مواصلة السفر للثأر من قاتليه-كما يزعم بعض الباحثين-استجابة لقضية أهله و أقاربه،لو كان هذا هدفه لأدرك أن جماعته التي خرجت معه للثأر و هي لا تزيد على التسعين رجالا و نساءا و أطفالا لن تصل إلى شي من ذلك من دون أن يقضى على أفرادها جميعا،و بغير أن يضحي هو بنفسه ضحية رخيصة في ميدان الثأر.و من ثم يكون من واجبه للثأر أن يرجع ليعيد تجميع صفوف أنصاره و أقربائه،و يتقدم في الجمع العظيم من الغاصبين و الموتورين.
فالقضية إذا ليست قضية ثأر و الهدف ليس هدفا شخصيا،و إنما الأمر أمر الأمة، و القضية كانت للحق،و الإقدام إقدام الفدائي الذي أراد أن يضرب المثل بنفسه في
ص: 107
البذل و التضحية،و لم يكن إصرار الحسين على التقدم نحو الكوفة بعد ما علم من تخاذل أهلها و نكوصهم عن الجهاد إلا ليجعل من استشهاده علما تلتف حوله القلة التي كانت لا تزال تؤمن بالمثل و تلتمس في القادة من ينير لها طريق الجد في الكفاح..و تحريكا لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم و رعاية مصالحهم».
و ألمّ هذا القول بالواقع المشرق الذي ناضل من أجله الإمام الحسين فهو لم يستهدف أي مصلحة ذاتية،و إنما استهدف مصلحة الأمة و صيانتها من الأمويين (1).0.
ص: 108
قال السيد الخامني:هناك نموذجين يبيّنوا كيف أنّ المفاهيم الخاطئة بإمكانها تقسيم المجتمع إلى فئتين:
الأول في حرب صفين؛فبعدما تغلّب جيش أمير المؤمنين عليه السّلام على جيش معاوية،فإن معاوية و أتباعه رفعوا المصاحف على أسنّة الرماح،فوجدوها قد أحدثت خلافا بين جنود أمير المؤمنين عليه السّلام،حيث إن هذه الحركة تعني أنّ القرآن بيننا و بينكم،فانهار البعض قائلين لا طاقة لنا بمحاربة القرآن!في حين قال البعض الآخر بأنّ أساس قتال هؤلاء هو ضد القرآن،فرفعوا القرآن شكلا لكنهم يحاربون معناه و هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
و في النهاية دبّ الخلاف بين صفوف جيش المسلمين فتفرّقوا و ضعفوا،و كانت هذه هي حيلة العدو.
و أما النموذج الثاني فهو أيضا من نفس هذه الحرب،فعندما ألزموا أمير المؤمنين عليه السّلام بقبول التحكيم،برزت طائفة من داخل معسكر المؤمنين-و كانت من جماعته-و رفعت شعار"لا حكم إلاّ لله".و واضح أنه لا حكم إلا لله كما ورد في القرآن الكريم،فماذا أرادوا أن يقولوا؟لقد أرادوا بهذا الشعار خلع أمير
ص: 109
المؤمنين عليه السّلام من الخلافة!و لكن أمير المؤمنين كشف النقاب عن خطتهم،و قال:إنّ الحكم و الحكومة لله،و لكنهم لم يعنوا ذلك،بل عنوا"لا إمرة الا لله"،أي أنه لا داعي لوجود أمير المؤمنين عليه السّلام،بل إن على الله أن يأتي متمثلا و مجسدا ليدبر شؤونكم! فهذا الشعار أخرج مجموعة من معسكر أمير المؤمنين عليه السّلام فالتحقت بتلك الفرقة الجاهلة الضالة السطحية و ربما المغرضة،و من هنا نشأت قضية الخوارج.
ص: 110
إن هذه الأحداث تقع الآن بيننا و للآسف؛فثمة شعارات ترفع،بعضها واضح وجيد،و لكن العدو يستغلها.و إنني سأتحدث عن مصطلحين راجيا بذلك ألاّ يستطيع ذو و القلوب المريضة التفريق بيننا و بين أبناء الأمة الإسلامية بعد اليوم أبدا.فأحدهما"العنف"و الثاني"الإصلاح".فما هو المقصود بالعنف؟
إنّ العنف هو القتل و الضرب و السجن و سوء الخلق و الحدّة،و هو أمر واضح و معنى بديهي.و هناك سؤال ما زال يثار حول ما إذا كان العنف أمرا جيدا أم سيئا، أو ما إذا كان هذا الشخص يقبل العنف و ذلك الآخر يرفضه،أو ما إذا كان الإسلام يقول به أو لا يقول به!فهل هذا الموضوع معقد هكذا و بالغ الأهمية،أو أنّ هناك نوايا أخرى خلف الستار؟!
إن للإسلام رأيا واضحا و صريحا حول العنف؛فالإسلام لم يجعل العنف أصلا من حيث المبدأ،و لكنه لم ينفه أيضا في الحالات التي يكون فيها قانونيا.
إن لدينا نوعين من العنف،أحدهما قانوني،أي أنّ القانون يستخدم العنف عند الضرورة فينص على حبس هذا الشخص إذا ارتكب هذه الجناية أو الجريمة.فهذا عنف،لكنه ليس سيئا،لأنه يحول دون الاعتداء على حقوق البشر و يقمع الخارجين
ص: 111
على القانون و يجازي المعتدي.فإذا لم يستخدم العنف ضد المعتدين لازدادت الجرائم في المجتمع،فهو ضروري في هذه الحالة.
و الثاني عنف غير قانوني،أي أن يعتدي أحد على حقوق الآخرين كما يهوى و بلا سبب و لا دليل و خلافا للقانون و الدستور،كأن يصفع شخصا،فهل هذا جيد أم سيّئ؟!واضح أنه سيّئ و بلا شك.
إن الإسلام يصف سلوك الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله و خلقه الشخصي،فيقول فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (1)كما يقول القرآن الكريم في موضع آخر مخاطبا النبي صلّى اللّه عليه و اله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (2)فالجذر الثلاثي"غلظ"الذي ورد في الآية السابقة جاء في هذه الآية أيضا،سوى أن الآية الأولى تتحدث عن طبيعة التعامل مع المؤمنين و عن السلوك الفردي،و أما الثانية فتدور حول تطبيق القانون و إدارة المجتمع و استقرار الهدوء و النظام؛فالغلظة في الأولى أمر سيّئ،لكنها أمر جيد في الثانية، أي أنّ العنف سيّئ في الأولى و جيد في الثانية.
لقد دخل الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله مكة فاتحا،و التقى أولئك الذين آذوه و كذّبوه على مدى ثلاثة عشر عاما و جرّوا عليه كافة أنواع الويلات،و لكنه خاطبهم قائلا:
إذهبوا فأنتم الطلقاء..و لم ينتقم منهم.
ص: 112
و في نفس الوقت فإنه صلّى اللّه عليه و اله ذكر جماعة بالإسم و قال اقتلوهم حيث ثقفتموهم! و كان من بينهم أربع نساء و أربعة رجال.فهاهنا كان يلزم العنف،و أما هنالك فالرفق و اللين.
إن الإسلام يوضح الآثام و الذنوب،فيقول لا تتجسسوا،و لا تتبعوا عورات الآخرين و خطاياهم،و لا تتهموهم ظلما و عدوانا.و لكن عند ما تثبت الجريمة فإنه يقول: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ (1).
فالإسلام دين شامل و ليس أحادي الجانب؛فعند ما تقف الحكومة الإسلامية لمواجهة القوة و الإعتداء و الإضطرابات و الهجمات و الخروج عن القانون فلا بد لها من القوة و الصرامة و العنف دون خشية من هذه الكلمة.و بالعكس،أي عند ما تتعامل مع أفراد الشعب و الرعيّة،فعليها بالرفق و اللين عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (2)؛فلكل مقام مقال.
و عند ما توجه الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله إلى مكة في العام الثامن للهجرة في حجه الأخير-حجة الوداع-فإن أمير المؤمنين عليه السّلام كان على رأس بعثة في اليمن لتعليم أهله الدين و جمع أموال الزكاة،فكان من بينها عدد من البردات اليمنية،و هو نوع من الألبسة اليمنية الممتازة و المفضّلة يومذاك.و لم يكن لدى أمير المؤمنين عليه السّلام الوقت الكافي ليتحرك مع هذه القافلة،فوضع عليها أحد الأشخاص و أمره بالمجيء بهذا المتاع،و أسرع هو للالتحاق برسول الله صلّى اللّه عليه و اله ليكون معه في أداء مناسك الحج.
فلما وصلت القافلة إلى مكة ذهب أمير المؤمنين عليه السّلام ليستطلع أمرها،فاكتشف8.
ص: 113
عدم وجود تلك الألبسة اليمنية و أنهم قسموها فيما بينهم في غيابه،فارتدى كل واحد منهم بردة له!فقال ليس من الجائز تقسيمها قبل وصولها إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و اله-و بتعبير آخر وصولها إلى الخزانة كما هو الحال في زماننا هذا-و إن هذا خلاف الشرع و الدين!فأمرهم بخلعها،و من لم يشأ تسليمها أخذها منه بالقوة.
و بالطبع فإن المرء سيشعر بالضيق إذا جرّد من شيء ما إلاّ إذا كان شديد الإيمان؛ فذهب بعضهم إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و اله و اشتكوا إليه أمير المؤمنين!فسألهم ماذا حدث،و لماذا هذه الشكوى؟
فأجابوا لقد جرّدنا أمير المؤمنين من تلك الملابس.فقال لهم رسول الله صلّى اللّه عليه و اله:لا تلوموا عليّا على ذلك«إنه خشن في ذات الله» (1).
فالعنف القانوني هو ذلك الحد الذي يشرّعه الإسلام.و هو أمر ضروري فضلا عن أنه جيد.
و أما العنف غير القانوني فهو جريمة فضلا عن أنه سيّئ،و ينبغي مواجهته، و هذا هو رأي الإسلام؛فلا نقاش فيه و لا جدال حتى يأتي البعض بدون معرفة بالأسس الإسلامية و علم بحقيقة الأمور و يملأوا صفحات بعض الصحف بعناوين بارزة و مثيرة و مبهرة و مضلّلة!
و بالتأكيد فإن الأعداء الذين يريدون إشعال الساحة بنار البحث و الجدال حول هذا الموضوع لهم أهداف أخرى.إنهم يعتبرون العنف أمرا كلّيا،و لا يفرّقون بين العنف القانوني و غير القانوني،و ليسوا على وفاق مع العنف القانوني؛و هم يقولون إذا أثار أحد الاضطرابات في شوارع طهران،و سلب الناس أمنهم و راحتهم،و بدّد أموالهم،و عرّض أبناءهم للخطر،فلا تصطدموا به لأن هذا عنف،بينما هم5.
ص: 114
يمارسون أشد أنواع العنف و الوحشية في كافة أنحاء العالم!
إنّ الكيان الصهيوني-الذي تعتبر إذا عته من مروّجي معارضة العنف و التي ترفع باستمرار ذلك شعارا-يقصف جنوب لبنان كل يوم فيقتل النساء و الأطفال و الكبار و الصغار،و هكذا يفعل أيضا رفاقهم في كافة بقاع العالم و هم الذين يسيطرون على وسائل الإعلام العالمية!
إنني لا أنسى ألمي الشديد منذ عام و نصف لدى اغتيال الشهيد لاجوردي،ذلك الشهيد الرفيع المنزلة و السيد العزيز العظيم و الرجل صاحب الشخصية البارزة و الذي قدّم الكثير في مرحلة النضال السلبي و القمع،و هم لا يدرون كم عانى هذا الرجل و كيف عاش و كم تحمّل من آلام السجن و الإعتقال و كم قاسى من الشدائد، و كيف أنه تقبّل الكثير من المسؤوليات الصغيرة في ظاهرها و العظيمة و الشاقة في حقيقتها بعد انتصار الثورة ثم ختم جهاده بالشهادة.
و مع هذا فإن إحدى الصحف الألمانية تكتب في تلك الأيام و تقول:إن اغتيال لاجوردي ليس اغتيالا!أي أنهم حرّفوا أيضا معنى الإغتيال،فلماذا؟!لأن الذي قام به هم المتمردون في الداخل!و هكذا هي وسائل الإعلام العالمية حيث تسيطر الأمبراطورية الإستكبارية الخبرية على اتجاه الرأي العام العالمي و أفكاره.فكفاح الشعب الفلسطيني من أجل استرداد أراضيه المغتصبة يعتبر إرهابا،و نضال الشعب اللبناني لطرد المحتلين الصهاينة من أرضه يعدّ إرهابا،و أما دخول المجرمين الصهاينة إلى لبنان و قيامهم بعمليات الإختطاف و القتل و هدم القرى فليس إرهابا!إن هذا هو منطقهم،فيجب أن لا يخدعنا العدو بما يبثّه من دعايات،بل علينا أن نفكر و نستخدم عقولنا.
إن الاستقلال الفكري هو أسمى مظاهر استقلال الإنسان؛فانظروا ماذا يقول الإسلام،و تدبّروا المنطق السليم.هل العنف سيئ أم جيد؟و الجواب هو أنه ليس
ص: 115
سيئا و لا جيدا،و هو أيضا سيئ و جيد في نفس الوقت.فالعنف القانوني جيد و ضروري،و أما غير القانوني فهو سيئ و قبيح و إجرام.
إنهم يثيرون هذا الموضوع يوميا لكي يجعلوا الأجواء متوترة في البلاد،و هم دائما و بلا نهاية ينقلون كلاما عن هذا و كلاما عن ذاك و يحرّفون أقوال بعض الشخصيات البارزة ليقول أحد الشباب إنّ العنف جيد،بينما يقول الآخر كلا،بل قبيح،و يتهم الواحد الآخر بالعنف،فيتهمه الآخر أيضا بالعنف!فلماذا يفعلون كل هذا؟إن شبابنا ليسوا من أنصار العنف،و المؤمنون و المتدينون عندنا ليسوا من أنصار العنف.و لكن العنف سيستخدم عند ما يقتضي القانون ذلك.
إنّ القانون قانون و ليس أمرا خافيا.و عند ما أصدر الرسول صلّى اللّه عليه و اله أوامره بقتل أولئك النفر فإنه لم يقل ذلك في الخفاء،بل صرّح به و أعلنه على الملأ،و قال من رأى هند فليقتلها،و من رأى فلانا فليقتله.كما أن الإمام الخميني(رضوان الله عليه)قال أيضا من وجد سلمان رشدي فليقتله.
و الآن أيضا فإن القائد إذا رأى أن الأمر يقتضي ذلك فسيعلنه على رؤوس الأشهاد و لن يفعله في الباطن و لا في الخفاء! (1).6.
ص: 116
أشير أولا و كمقدّمة للموضوع إلى أنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله أرسى أسس نظام كانت بنيته الأساسية تقوم على عدّة ركائز..تعتبر أربعة منها الثقل في ذلك البناء، و هي:الأول:المعرفة المتقنة الخالية من الغموض في شؤون الدين،و معرفة الأحكام،و المجتمع،و التكليف،و معرفة اللّه و الرسول،و معرفة الطبيعة.و هذه هي المعرفة التي انتهت إلى تراكم العلوم و بلغت بالمجتمع الإسلامي في القرن الرابع للهجرة ذروة المدنية و الحضارة العلمية.
فالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و اله لم يترك أي إبهام و غموض.و لدينا في هذا الصدد آيات مدهشة من القرآن الكريم لا مجال هنا لذكرها.و حيثما كان هناك موضع غموض أو التباس،كانت تنزل آية تجلّيه.
الثاني:العدالة المطلقة التي لا محاباة فيها سواء في حقل القضاء،أم في حقل الإستحقاقات العامّة-لا ما يتعلق بحقه الشخصي إذ كان صلّى اللّه عليه و اله يعفو عن حقّه-أي العدل التام فيما يتعلق بعامة الناس و يجب تقسيمه بينهم بالعدل.و كذا العدالة في تطبيق حدود اللّه،و في توزيع المناصب و تفويض المسؤوليات،و تحمّل المسؤولية.
ص: 117
و من البديهي أنّ العدالة غير المساواة.لا يلتبس الأمر عليكم،فقد يكون في المساواة ظلم أحيانا.
بينما العدالة تعني وضع كل شيء في نصابه،و إعطاء كل شخص حقّه.فقد كان العدل حينذاك عدلا مطلقا لا تشوبه شائبة.و لم يكن في عهد الرسول استثناء لأي شخص يجعله خارج إطار العدالة.
الثالث:العبودية الخالصة للّه و الخالية من أي شرك؛أي العبودية للّه في العمل الفردي..العبودية في الصلاة حيث يجب أن يكون فيها قصد التقرب إليه.و كذلك العبودية له في بناء المجتمع و في النظام الحكومي و في نظام الحياة،و العلاقات الاجتماعية بين الناس.و هذا موضوع يستلزم بحد ذاته شرحا مستفيضا.
الرابع:المحبّة الغامرة و العاطفة الفياضة.و هذه من السمات الأساسية للمجتمع الإسلامي..حبّ اللّه،و حبّه تعالى للناس قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (1)، وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ
ص: 118
يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (1) ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2).1.
ص: 119
من المستحب تقبيل الأولاد،و تستحب محبتهم،و يستحب حب الزوجة، و يستحب حبّ الأخوة المسلمين و التحبب إليهم،و الأعظم هو حب الرسول صلّى اللّه عليه و اله و أهل بيته عليهم السّلام قال تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (1).لقد رسم الرسول صلّى اللّه عليه و اله هذه الخطوط العريضة و أرسى ركائز المجتمع على أساسها،و وضع معالم الحكومة عشر سنوات على هذا المنوال.و من الواضح طبعا أن تربية الناس تأتي على نحو تدريجي و لا تتحقق جملة وحدة.
و قد بذل الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله قصارى جهده على امتداد هذه السنوات العشرة لترسيخ تلك الأسس،و العمل على مد تلك الجذور في أعماق الأرض.
إلا أن فترة العشر سنوات تعتبر قصيرة جدا إذا ما أريد بها تربية الناس على خلاف ما كانوا قد ترعرعوا عليه من سجايا و خصائص،فقد كان المجتمع الجاهلي في كل شؤونه على النقيض تماما من مضامين هذه الركائز الأربعة؛لأنه كان فارغا من أية معرفة و غارقا في حيرة الجهل و الضلال،و لم تكن لديه أية عبودية للّه،بل كان مجتمع تجبّر و طغيان،و كان مجتمعا بعيدا عن العدالة و مليئا بألوان الظلم
ص: 120
و التمييز.
رسم أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة الثانية من نهج البلاغة صورة فنية رائعة عمّا كان سائدا في العصر الجاهلي من ظلم و تمييز،جاء فيها:«في فتن داستهم بأخفافها و وطأتهم بأظلافها» (1).
كان المجتمع آنذاك مجردا من معاني المحبّة،كانوا يئدون بناتهم،و كانت كل قبيلة تثأر لقتيلها من أي رجل تجده من قبيلة القاتل،سواء كان مستحقا للقتل أم غير مستحق،و سواء كان مجرما أم بريئا،و سواء كان عالما بتلك القضية أم لا..
كان يسودهم الإضطهاد و القسوة و الغلظة و الفضاضة المطلقة.
من نشأ في تلك الحالة يمكن أن يصلح و يهذّب على مدى عشر سنوات-إن تحققت شروط ذلك-و يمكن إدخاله في الإسلام،و لكن لا يمكن غرس هذه القيم و المفاهيم في أعماق نفسه إلى الحد الذي يجعل لديه القدرة على إيجاد نفس هذا التأثير على الآخرين.
دخل الناس في الإسلام أفواجا أفواجا،و دخل في الإسلام أناس لم يعايشوا الرسول صلّى اللّه عليه و اله و لم يدركوا تلك السنوات العشرة مع النبي صلّى اللّه عليه و اله.
و هنا تتجلّى أهمية مسألة الوصية التي يعتقد بها الشيعة،و يكمن منشأ الوصية و النص الإلهي،من أجل ديمومة ذلك النهج التربوي؛و إلا فمن الواضح أنّها ليست من سنخ أنواع الوصايا الأخرى المتداولة في هذا العالم،فكل إنسان يوصي قبل وفاته لابنه،إلا أنّ القضية هناك تعني لزوم استمرارية نهج الرسول صلّى اللّه عليه و اله من بعده.
لا أريد الدخول في المباحث الكلامية بل أريد تناول التاريخ بشيء من التحليل6.
ص: 121
و لتتناولوه أنتم أيضا بمزيد من التحليل.لهذا البحث-طبعا-صلة بالجميع و لا يختص بالشيعة وحدهم،فهو للشيعة و للسنّة و لجميع الفرق الإسلامية على حد سواء.و نظرا لما يتصف به من الأهمية،يجب أن يحظى إذن باهتمام من قبل الجميع.
ص: 122
و أما عن الوقائع التي جرت من بعد رحيل الرسول الأعظم،فما الذي حدا بالمجتمع الإسلامي خلال تلك الخمسين سنة للنكوص عن تلك الحالة إلى هذه؟ و هذا هو أصل القضية..و يجب أن يلاحظ متن التأريخ بشأنها.
من البديهي أنّ البناء الذي بناه الرسول ما كان لينهار بهذه السهولة.و لهذا نلاحظ أن من بعد رحيل الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله استمرت عامة الأمور-باستثناء قضية الوصية-على ما كانت عليه.
فكانت العدالة في وضع حسن،و الذكر في حالة حسنة،و العبادة على ما يرام.
و إذا نظر المرء إلى الهيكل العام للمجتمع الإسلامي في سنواته الأولى يجد الأمور كما كانت و لم يرجع شيء القهقرى.نعم كانت تقع بعض الحوادث بين الفينة و الأخرى إلا أنّ ظواهر الأمور كانت تعكس بقاء نفس الأسس و الركائز التي وضعها الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و اله.
بيد أنّ ذلك الوضع لم يدم طويلا،فكلما كان الوقت يمضي كان المجتمع الإسلامي ينحدر تدريجيا صوب الضعف و الخواء (1).
ص: 123
إنّ الوقت الذي استغرقته واقعة كربلاء لم يتجاوز نهارا أو زاد عليه قليلا، و استشهد فيها عدة أشخاص-إثنان و سبعونا و أكثر أو أقل بقليل-و الحال أنّ من استشهد أو يستشهد كثير.فشموخ واقعة كربلاء-و هي أهل لهذا الشموخ و العظمة،بل هي أسمى و أعظم و قد نفذ أثرها و بركاتها في عمق الوجود البشري- لم يكن إلاّ لحقيقة و روح هذه الواقعة،فهي بكل القضية و جسمها لم يكن ذا حجم يذكر،فهناك أطفال قتلوا في كل بقعة من العالم،بينما قتل في كربلاء رضيع لستة اشهر.
الأعداء أبادوا الأهالي في بعض الأماكن و قتلوا مئات الأطفال.القضية ليست مطروحة هنا في بعدها المادي،بل تكمن أهميتها في روحها و معناها.
روح القضية هي أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لم يكن يواجه في تلك الواقعة جيشا كبيرا جرّارا و لم تكن مواجهته مع الجمع الغفير-و إن زاد عدده مائة ضعف-بل إن مواجهة الإمام الحسين عليه السّلام مع عالم من الإنحراف و الظلمة،و هذا هو المهم.و هو في الوقت الذي كان يواجه فيه ذلك العالم من الظلمة و الظلم و الإنحراف،كان ذلك العالم يملك كل شيء،و لديه المال و الذهب و القوة و الكتّاب و الشعراء و المحدثون و الخطباء.
يا له من موقف رهيب،ترتعد له فرائص الإنسان،و لكن لم يرتعش للإمام
ص: 124
الحسين قلب و لا قدم.
و لم تساوره مشاعر الضعف و لم يتردد،و برز إلى الميدان وحيدا فريدا.
عظمة القضية تكمن في أنّ القيام كان للّه.
ص: 125
يمكن تنظير موقف الإمام الحسين عليه السّلام و مقايسته مع موقف جده رسول اللّه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و اله في بعثته؛فكما واجه النبي هناك عالما بأسره،وقف الإمام الحسين في كربلاء بمواجهة عالم بأسره.فالرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله لم يعتريه أي خوف،بل صمد و سار إلى الأمام،و كذلك الحال بالنسبة للإمام الحسين عليه السّلام الذي لم يرهبه شيء بل ثبت و سار قدما.
الحركة النبوية و الحركة الحسينية كدائرتين متحدتين في المركز متجهتين نحو مسار واحد.و هنا يظهر معنى«حسين مني و أنا من حسين».هذه عظمة موقف الإمام الحسين.
عند ما قال الإمام الحسين عليه السّلام ليلة العاشر من محرم:«إذهبوا فأنتم في حل مني و هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا و ليأخذ كل واحد منكم بيد واحد من أهل بيتي فالقوم يطلبوني...» (1).
لم يكن يمزح في قوله ذاك.نفترض لو أنهم وافقوه و انصرفوا و بقي وحده أو برفقة عشرة اشخاص،هل كان ذلك ينقص من عظمة عمله؟كلا،بل تبقى له هذه العظمة بعينها.
و لو كان بدل هؤلاء الإثنين و السبعين،اثنان و سبعون ألفا حول الحسين،هل
ص: 126
كان ذلك ينقص من عظمة موقفه؟أبدا إنّ عظمة موقف الحسين عليه السّلام تكمن في ثباته و اطمئنانه و هو يواجه دنيا تعترضه و تدّعي حقّه،فلم يتزلزل،و الحال أنّ موقفا كهذا،يضطرب فيه عامة الناس،و حتى المميزين المتفوقين منهم.
إن عبد اللّه بن عباس-و هو شخصية كبيرة مرموقة-و جميع أمراء قريش، كانوا في غاية الإستياء من ذلك الوضع.و هكذا كان حال عبد اللّه بن الزبير،و عبد اللّه بن عمر،و عبد الرحمن بن أبي بكر،و أبناء كبار الصحابة،و بعض الصحابة.كان في المدينة عدد كبير من الصحابة،و كانوا من ذوي المروءة-لا يتصوّرن أحد أنهم لم يكن لهم مروءة و غيرة-و هم أنفسهم الذين تصدوا لمسلم بن عقبة و قاتلوه في وقعة«الحرّة»حينما هجم على المدينة و ارتكب المذابح فيها بعد سنة من واقعة كربلاء.لا تتصوروا أنهم كانوا جبناء،بل كانوا فرسانا و شجعانا.
لكن شجاعة البروز إلى ساحة الحرب مسألة،و شجاعة مواجهة عالم برمّته مسألة أخرى.و الموقف الذي خاضه الحسين عليه السّلام هو الثاني،و كانت حركته لأجله.
و من هنا فإنّ حركة إمامنا الكبير كانت حركة حسينية؛لقد انطوى موقف إمامنا الكبير في عصرنا الحالي على نفحة من حركة الحسين عليه السّلام.قد يقول قائل أن الحسين قتل في صحراء كربلاء عطشانا،و إمامنا قد حكم و عاش بعز،و لما رحل شيّعته الجماهير.
لكنّ هذا ليس شاخص القضية و معلمها بل الأساس هو مواجهة غول عظيم- فارغ المحتوى-يرافقه كل شيء.
و قد ذكرت في ما مضى ما كان لدى أعداء الإمام الحسين من مال و قوة و فرسان و خطباء،و مبلّغين (1).9.
ص: 127
النظام الإسلامي إنما يعتريه التزلزل حقّا متى ما نسي امتلاكه لنموذج و مثال عظيم كعلي بن أبي طالب عليه السّلام.فيجب أن يكون الحكم العلوي نصب أعيننا على الدوام و نتحرك باتجاهه و نصبو إليه و نعمل من أجله،فأحلام من قاسى الظلم على مر العصور إنما ستتحقق في ظل حكومة تدار بالسيرة العلوية ليس إلاّ.
ما الذي قاسته البشرية على امتداد قرون تاريخها الطويل و أية آلام عانتها؟لقد قاست البشرية من الإجحاف و التمييز و الغطرسة و هيمنة القوى الغاصبة و كذلك من القسوة و التقاتل.
و لقد عانت البشرية من الجهل،حيث أطبقت القوى الظالمة على مقدرات البشر، و ناءت على الدوام بالجهل و الظلم و التمييز،و منها نجمت أغلب أنواع الحرمان على مر التاريخ،نجمت عن تسلّط الظالمين و الغرباء و عن الطبيعة الهمجية و القسوة و إشعال الحروب،و بقيت البشرية تعاني الحرمان من حقوقها الأصلية و الطبيعية؛ و الحكومة العلوية تحقق للبشرية العدالة و الإستقرار و الإيمان بالمعنويات و الصفاء و الأخوة و السلام و الصداقة الحقيقية،لا كالذين يرددون اسم و شعار السلام عالميا لكنهم هم الذين يؤججون نيران الحروب و هم الذين يثيرون الفتن بين البشر.
إن النظام العلوي و الحكومة العلوية تجعل الناس-ببركة العدل-يعيشون الأمن و الاستقرار الحقيقيين،و لو منح أمير المؤمنين عليه السّلام الفرصة لبنى عالما زاهرا ماديا
ص: 128
و معنويا ملؤه العدل و الإستقرار و السلام الحقيقي لم يسبق للبشرية أن رأت مثله؛ و اليوم من المستعصي بلوغ تلكم الأماني إلاّ في ظل مثل هذه السيرة.و بناء على هذا فإن السيرة العلوية تعد درسا أبديا بالنسبة لنا،لا تتوقف على عام واحد.
و بطبيعة الحال فإن الأهداف الكبرى إنما يتيسر تحقيقها بما يناسبها من الزمن المديد و السعي و المجاهدة،و لا يمكن بلوغها بالخلود إلى الدعة و مجانا،بل لا بد من بذل الجهد و التخطيط.
هنالك اتجاهان فيما يتعلق بمكافحة الفساد:أحدهما إفراط و الآخر تفريط؛ فالبعض عند ما يجري الحديث عن مكافحة الفساد يتصور أنها ذريعة سياسية لقمع هذا أو ذاك،و هذا خطأ،فمكافحة الفساد هي مكافحة للفساد..فإذا ما حدد مكمن الفساد في أي من المجتمعات و جرى القضاء عليه توقف الفساد،و إلاّ فإنه يستفحل..
و الفارق بين النظام الإسلامي و النظام الصالح و بين الأنظمة الفاسدة الهزيلة بوجه استشراء الفساد،هو أن كبار المسؤولين في بلادنا من الغيارى على الشعب و من ذوي الصلاح،و إن الصلاح هو السائد على برامج البلاد و مسيرتها.
و من الطبيعي وجود من هو فاسد أيضا،غاية الأمر أنه يتوجب التصدي له،و هذا النوع من التصدي هو الذي يحدو بالبعض لأن يتصوروا أن مكافحة الفساد عبارة عن حركة سياسية،و هو تصور خاطئ،فهي ليست حركة سياسية،و إنما هي حركة حقيقية و أمر ضروري.فيما يقف آخرون في مقابل ذلك ديدنهم الإفراط؛فإذا ما جرى الحديث عن الفساد تصوروا أنّ الفساد عمّ الأرجاء!كلا،فليس الأمر كذلك، فما يحفّزنا هو وجود الفساد و لو في مفصل واحد أو زاوية واحدة و على أيدي أناس معدودين،و نحن نعلم بأنه لو لم تكافح هذه الظاهرة فإنها ستتجذر و تتعمق و بالتالي يستعصي القضاء عليها و استئصالها،و ذلك لا يعني استيلاء العناصر
ص: 129
الفاسدة و المفسدة على زمام الأمور في كافة الأماكن.كلا،فكثيرة هي العناصر الصالحة المؤمنة الغيورة تتولى عملية التنفيذ و إنجاز مهماتها على أفضل وجه، غاية الأمر أن مفسدا أو مخربا واحدا يشوه صورة الآخرين (1).2.
ص: 130
ثمة نقطة في سورة الحمد.فحينما يدعو الإنسان ربّه: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (1)يوضح بعدها معنى ذلك الصراط المستقيم في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (2)فهو تعالى قد أنعم على كثير من الأقوام و الأمم؛فأنعم على بني اسرائيل: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (3)و النعمة الإلهية لا تختص بالأنبياء عليهم السّلام و الصالحين و الشهداء: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (4)هؤلاء أيضا نالوا النعمة،و كذلك بنو إسرائيل نالوا النعمة.
و الذين ينعم عليهم فريقان:
فريق حينما ينال النعمة لا يتعرض لغضب اللّه،و لا يحقق دواعي الغضب الإلهي و لا يضل سبيل الهداية،و هؤلاء هم الذين ندعوا اللّه أن يهدينا سبيلهم.و عبارة غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (5)تمثل في الحقيقة صفة اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي أنّ
ص: 131
صفة(الذين)هي(غير المغضوب عليهم).
أما الفريق الآخر فهم الذين حينما أنعم اللّه عليهم،بدّلوا النعمة و تمّردوا عليها، و لهذا حلّ عليهم غضبه.أو أنهم إئتموا بأولئك فضلّوا السبيل.
و تشير رواياتنا إلى أنّ المراد من اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم اليهود،و هذا البيان مصداق لتلك الحقيقة.لأن اليهود و حتى زمن النبي عيسى عليه السّلام،كانوا يحاربون النبي موسى و أوصياءه عن علم و قصد.
أمّا اَلضّالِّينَ فهم النصارى..إنهم ضلوا بادئ بدء أو ضل أكثرهم على أدنى الإحتمالات،حينما أنعم اللّه عليهم.
أمّا المسلمون فأنزل اللّه عليهم نعمته..إلاّ أنّ النعمة تبدّلت-نتيجة لما اقترفوه- صوب المغضوب عليهم و صوب الضالين.و لهذا ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:«لما قتل الحسين اشتد غضب اللّه على أهل الأرض» (1)و ذلك لأنه إمام معصوم.
و يفهم من هذا أنّ المجتمع الذي ينال النعمة الإلهية قد يسير في اتجاه يجلب عليه غضب اللّه.و لهذا يجب توقّي أقصى درجات الدقّة و الحذر في المسير،و هو أمر عسير طبعا و يستلزم الإنتباه و اليقظة.1.
ص: 132
أورد في ما يلي بعض الأمثلة.فالخواص و العوام أصبح لكل منهما وضعه الخاص به،فإذا ضلّ الخواص قد يدخلون في خانة «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» ،أما العوام قد يصبحون في فئة «الضّالِّينَ» .و كتب التاريخ زاخرة طبعا بالمصاديق و الأمثلة.
و سأنقل لكم-من هنا فصاعدا-مما جاء في تاريخ ابن الأثير،و أجتنب النقل من أي مصدر شيعي،بل و لا أنقل حتى من مصادر التاريخ السنيّة التي يشكك السنّة في رواياتها،مثل ابن قتيبة الدينوري؛إذ جاء في كتابه«الإمامة و السياسة»أمور و قضايا تثير الحيرة.
حينما ينظر المرء إلى مضامين كتاب ابن الأثير الموسوم ب«الكامل في التاريخ» يشعر بوجود عصبية أموية و عثمانية فيه،و أحتمل أنه انتهج ذلك الأسلوب مداراة لبعض الإعتبارات،فقد نقل هذا المؤرخ عن أحداث مقتل عثمان،إنّ عثمان قتله أهل مصر و الكوفة و البصرة و المدينة و غيرهم.و بعد ما نقل نصوص و أخبار تاريخية مختلفة يقول:و قد تركنا كثيرا من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتل (عثمان)لعلل دعت إلى ذلك.
و عند نقله لقصة أبي ذر و كيف أن معاوية حمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء،و نفّاه من المدينة إلى الربذة بصورة شنيعة،قال:و قد حصلت أمور لا يصح نقلها.و على هذا فإمّا أن يكون هذا المؤرخ قد انتهج أسلوبا من الرقابة الشخصية- حسب التعبير المعاصر-و إمّا أن يكون متعصبا.و هو على كل الأحوال لم يكن
ص: 133
شيعيا و لا يميل إلى التشيع،بل يحتمل أنه كان أموي و عثماني الهوى.و أؤكد ثانية على أنّ كل ما سأورده بعد الآن إنما أنقله عن ابن الأثير هذا.
أنقل في ما يلي أمثلة عن الخواص؛كيف كان الخواص على امتداد هذه السنوات الخمسين بحيث وصلت الأمور إلى هذا الحد؟و حينما أدقق النظر في أحداث و ظروف ذلك العصر ألاحظ أنّ هذه الركائز الأربعة:العبودية،و المعرفة،و العدالة، و المحبة..قد تزعزعت.و اضرب لكم بعض الأمثلة كما وردت في التاريخ عينا.
كان سعيد بن العاص من بني أمية و من أقارب عثمان.و قد تولّى بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليصلح ما كان قد أفسده الوليد.
قال ذات يوم رجل في مجلسه:«ما أجود طلحة!»و لا بدّ أنّ طلحة كان قد وهب أحدا مالا أو تكرّم على شخص.فقال سعيد:«إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادا»و كانت النشاستج ضيعة كبيرة قرب الكوفة يملكها صحابي الرسول صلّى اللّه عليه و اله،طلحة بن عبد اللّه الذي كان يعيش حينذاك في المدينة.ثم أردف قائلا:
«و اللّه لو أنّ لي مثله لأعاشكم اللّه به عيشا رغدا» (1).
قارنوا بين هذا الوضع و بين حالة الزهد في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و الفترة الأولى من بعد رحيله و لاحظوا طبيعة الحياة التي كان يعيشها الأكابر و الأمراء و الصحابة في تلك السنوات و كيف كانوا ينظرون إلى الدنيا.لقد وصلت الأمور إلى هذا الحد من بعد مضي عشر سنوات أو خمس عشرة سنة فقط!
المثال الآخر هو أبو موسى الأشعري..والي البصرة-و هو الأشعري صاحب الموقف الشهير في قضية التحكيم-فقد صعد المنبر ذات يوم،حينما كان واليا على3.
ص: 134
البصرة،كان الناس يستعدون لإحدى الغزوات،فنادى في الناس و حضّهم على الجهاد و ذكر شيئا في فضل الجهاد ماشيا،فترك نفر دوابهم و أجمعوا أن يخرجوا رجّالة طمعا في الثواب.«فحملوا على فرسهم»أي طردوها من أمام عيونهم لأنها تحرمهم من الثواب إلا أن جماعة آخرين من العقلاء فضلّوا التأمل و مشاهدة حقائق الأمور و قالوا لا نعجل في شيء حتى ننظر ما يصنع؛فإن أشبه قوله فعله، فعلنا كما يفعل.
جاء في نص عبارة ابن الأثير في هذا الصدد:«فلما خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلا» (1).
كانت تلك ممتلكاته الثمينة و كان مضطرا إلى اصطحابها حيثما حل و ارتحل و حتى في ميادين الجهاد.و سبب ذلك أنه لم تكن ثمة مصارف أو بنوك في ذلك العصر،أضف إلى أنّ الحكومات لا اعتبار لها،فقد يأتيه الأمر من الخليفة و هو في ساحة الجهاد بعزله من منصبه،و إذ حصل ذلك لا يمكنه الرجوع إلى البصرة و أخذ تلك الأموال،لذلك كان مضطرا لحملها معه.فحمل ممتلكاته الثمينة على أربعين بغلا و أخذها معه إلى ميدان الجهاد.
فلما خرج جاءه قوم و تعلّقوا بعنانه و قالوا:احملنا على بعض هذه الفضول و ارغب في المشي كما رغّبتنا،فضرب القوم بسوطه،فتركوا دابته فمضى.إلا أنهم طبعا لم يتحمّلوا ذلك منه بل ذهبوا إلى المدينة و شكوه إلى عثمان،فعزله.
إن أبا موسى الذي كان من صحابة الرسول صلّى اللّه عليه و اله و من طبقة الخواص،كان على مثل هذا الحال!
المثال الثالث هو سعد بن أبي وقاص الذي عيّن واليا على الكوفة فروي أن سعدار.
ص: 135
اقترض مالا من بيت المال.لم يكن بيت المال بيد الوالي،لأنهم كانوا في ذلك العصر ينصبون الوالي للقيام بأمور الحكومة و إدارة شؤون الناس،و ينصبون شخصا غيره للشؤون المالية و هو مسؤول أمام الخليفة مباشرة.و حينما عين سعد بن أبي وقاص واليا على الكوفة،كان خازن بيت المال عبد اللّه بن مسعود و كان صحابيا جليلا.
بعد ما اقترض سعد من عبد اللّه بن مسعود من بيت المال مالا،تقاضاه ابن مسعود بعد مدّة،فلم يتيسّر له قضاؤه،فارتفع بينهما الكلام،و اشتد النزاع و كان هاشم بن عتبة ابن أبي وقّاص حاضرا-و هو من أصحاب أمير المؤمنين و كان رجلا شريفا-فقال:إنكما لصاحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و الناس ينظرون إليكما،لا تتنازعا و حاولا حل القضية بينكما على نحو ما.
فخرج ابن مسعود-و كان رجلا أمينا-ثم استعان بأناس على استخراج المال من دار سعد بذلك،و هذا يعني أنّ المال كان موجودا.
و لما علم سعد إستعان-هو الآخر-بأناس آخرين على منع أولئك.و نتجت عن مماطلة ابن أبي وقّاص في رد الأموال منازعة شديدة.
فإذا كان سعد بن أبي وقاص و هو من أصحاب الشورى الستّة قد وصل به الأمر إلى هذا الحد بعد بضع سنوات بحيث وصف ابن الأثير تلك الحادثة بالقول:«فكان أول ما نزع به بين أهل الكوفة».فأول نزاع يقع بين أهل الكوفة-بتعبير ابن الأثير- سببه رجل من الخواص تغلّب عليه حب الدنيا إلى هذا الحد.
المثال الآخر هو أنّ المسلمين لما فتحوا بلاد أفريقية و قسموا الغنائم في الجيش،كان يجب عليهم إرسال خمس تلك الأموال إلى المدينة،و كان مقدارها هائلا.نقل ابن الأثير في موضع آخر أنّ هذا المبلغ حينما أرسل إلى المدينة اشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار.و كان هذا المبلغ ضخما جدا إضافة إلى أنّ
ص: 136
قيمة ذلك الخمس كانت أكبر من ذلك المبلغ بكثير.و كان هذا مما أخذ على الخليفة عثمان في ما بعد.
و كان عثمان يعتذر عن ذاك طبعا و يقول:إنه رحمي،و أنا أصل به رحمي لأنه يعيش في ضنك و أنا أريد مساعدته!و خلاصة القول هي أنّ الخواص كانوا يتهافتون على جمع الأموال.
و القضية الأخرى هي أنه عزل(عثمان)سعد بن أبي وقاص عن الكوفة و استعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط،و كان الأخير من أقارب الخليفة.و لما دخلها تعجّب أهلها من تولية هذا الشخص عليهم لأنه كان معروفا بالحماقة و الفساد، و فيه نزلت الآية الشريفة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1)أي أنّ القرآن وصفه بالفسق،لأنه جاء بخبر عاد بالضرر على البعض في عهد الرسول صلّى اللّه عليه و اله.
أنظروا إلى المعايير و المقاييس و تبدّل أحوال الناس.فهذا الشخص الذي سمّاه القرآن الذي كان الناس يقرأونه يوميا-فاسقا أصبح واليا.و حتى إنّ سعد بن أبي وقاص نفسه،و عبد اللّه بن مسعود تعجّبا حين شاهداه قادما إلى الكوفة واليا،و قال له عبد اللّه بن مسعود لما وقع بصره عليه:«ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس؟» (2).
و كانت دهشة سعد بن أبي وقاص من بعد آخر،حيث قال له:«أكست (3)بعدنا أم حمقنا بعدك؟»فقال له الوليد:«لا تجزعنّ أبا اسحق،كل ذلك لم يكن إنما هو الملك4.
ص: 137
يتغدّاه قوم و يتعشّاه آخرون» (1).
فتألم سعد بن أبي وقاص من هذا الكلام؛فهو من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و قال له:«أراكم جعلتموها ملكا!».
و روي أنّ عمر سأل سلمان ذات مرّة:«أملك أنا أم خليفة؟».و كان سلمان شخصية كبيرة و محترمة و هو من الصحابة الكبار و لرأيه وزن كبير.فقال له سلمان:إنّ أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر و وضعته في غير حقّه فأنت ملك لا خليفة.لقد بيّن له المعيار.
قال ابن الأثير:فبكى عمر (2).فقد كانت موعظة عميقة المغزى حقّا.فالقضية قضية خلافة،و الولاية و الخلافة معناها الحكومة المقرونة بالمحبّة و بالتلاحم مع الجماهير،و يواكبها عطف و حنو على أبناء الشعب،و هي ليست تسلّط أو تحكّم،في حين لا تحمل الملكية مثل هذا المعنى و لا شأن لها بشؤون الناس؛فالملك حاكم متسلّط يفعل ما يشاء.
هكذا كان حال الخواص،و إلى هذا الحد انتهى بهم المآل خلال تلك السنوات.
و هذا ما حصل طبعا في عهد الخلفاء الراشدين الذين كانوا يولون أهمية للتمسك بالأحكام،بسبب معايشتهم فترة طويلة لعهد الرسول الأعظم الذي لا زال صداه صلّى اللّه عليه و اله يدوي في المدينة حتى ذلك الحين،و كان شخص كعلي بن أبي طالب عليه السّلام حاضرا في ذلك المجتمع.و لكن بعد انتقال مركز الخلافة إلى دمشق تجاوزت القضية تلك الحدود كثيرا.
كانت هذه أمثلة بسيطة لما كانت عليه أحوال الخواص.و لو نقّب شخص فير.
ص: 138
تاريخ ابن الأثير أو المصادر التاريخية الأخرى المعتبرة لدى الأخوة المسلمين لعثر على آلاف-و ليس مئات-الأمثلة من هذا القبيل (1).لأنه من الطبيعي حينما تضيع العدالة،و حينما تزول عبودية اللّه،يصبح المجتمع مجتمعا خاويا و تفسد النفوس.
فذلك المجتمع حين يصل به التهافت على حطام الدنيا و اكتناز الثروة إلى ذلك الحد،و الشخص الذي ينقل فيه المعارف للناس هو كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم لاحقا و لم يدرك عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله؛فهو لم يدخل الإسلام في عهد الرسول و لا في عهد أبي بكر و إنّما في عهد عمر،و توفي في عهد عثمان..ما بالك بذلك المجتمع؟!
يقول البعض إن تسمية هذا الرجل بكعب الأخبار خطأ،و إنما هو«كعب الأحبار»،و الأحبار جمع حبر،و الحبر هو عالم اليهود.فهذا الرجل كان قطب علماء اليهود..وثب فدخل في الإسلام،ثم أخذ يتحدث في مسائل الإسلام.
و كان ذات يوم جالسا في مجلس عثمان إذ دخل أبو ذر،فقال قولا أغضب أبا ذر، فقال أبو ذر:ما لك ههنا؟أتعلّمنا الإسلام و أحكامه و نحن سمعناها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله؟
حينما تفتقد المعايير و تضيع المقاييس و تتقوّض القيم،و تفرغ القضايا من المحتوى..و تقتصر على الظواهر،و حينما يستولي حب الدنيا و جمع المال على أناس قضوا عمرا مديدا بالعزة و الزهد في زخارف الدنيا و قيّض لهم نشر تلك الراية عاليا،حينها يتصدى لشؤون الثقافة و المعرفة مثل ذلك الشخص الذي اعتنق الإسلام لاحقا و يطرح باسم الإسلام ما يراه هو شخصيا لا ما يقوله الإسلام،ثم يريد البعض تقديم قوله على قول مسلم له سابقة في الإيمان!م.
ص: 139
هذا حال الخواص.
ثم إنّ العوام يتبعون الخواص و يسيرون وراءهم حيثما ساروا.و لهذا فإنّ من أكبر الجرائم التي ترتكبها الشخصيات البارزة المتميّزة في المجتمع هو انحرافها؛ لأن انحرافها ينتهي إلى انحراف الكثير من الناس الذين إذا رأوا القيم قد خرقت و أن الأعمال تناقض الأقوال و تناقض ما جاء في سنة الرسول،تجدهم يسيرون هم أيضا في هذا المسار أسوة بالخواص.
و أنقل لكم مثلا عن عامة الناس..كتب والي البصرة إلى الخليفة يذكر له كثرة أهل البصرة و عجز خراجهم عن المصارف،و سأله أن يزيد أهل البصرة خراج مدينتين.و لما بلغ أهل الكوفة ذلك سألوا واليهم عمار بن ياسر-الرجل النبيل الذي بقي صامدا كالطود الشامخ..و لا شك في أنه كان هناك أشخاص لم تهزّهم الهزاهز إلا أنّ عددهم كان قليلا-أن يكتب للخليفة يطلب منه أن يزيدهم خراج مدينتين.إلا أنه رفض تلبية طلبهم فأبغضوه لذلك و شكوه إلى الخليفة،فعزله عن الولاية.
و وقع مثل هذا لأبي ذر و لآخرين،و لعل عبد اللّه بن مسعود كان أحدهم.فحينما لا تراعى مثل هذه الجوانب يتجرد المجتمع حينها من القيم.و هنا تكمن واحدة من تلك العبر.
ص: 140
إعلموا يا أعزائي أنّ المرء لا يقف على حقيقة مثل هذه التطورات الإجتماعية إلا بعد مرور وقت طويل.و هذا ما يوجب علينا الإنتباه و الحذر و المراقبة؛و هو معنى التقوى..فالتقوى معناها أنّ يتحرّز على نفسه من ليس له سلطان إلا على نفسه،و أن يتحرّز على نفسه و على غيره من له سلطان على غيره أيضا.أما الذين يقفون على رأس السلطة فيجب عليهم التحرز على أنفسهم و على المجتمع كلّه لكي لا ينزلق نحو التهافت على الدنيا و التعلق بزخارفها،و لا يسقط في هاوية حب الذات.
و هذا لا يعني طبعا الإنصراف عن بناء المجتمع،بل يجب بناء المجتمع و الاستكثار من الثروة،و لكن لا لأنفسهم،فهذا مستقبح.كل من لديه قدرة على زيادة ثروة المجتمع و القيام بإنجازات كبرى،يكسب ثوابا عظيما.لقد استطاع البعض خلال هذه السنوات بناء البلد و رفع راية الإعمار عاليا و إنجاز أعمال كبرى، و هذه مفخرة لهم،و لا يدخل عملهم هذا في إطار حب الدنيا.و إنما يصدق حب الدنيا فيما لو كان المرء يطلب النفع لذاته و يعمل لنفسه،أو يفكر في جمع الثروة لنفسه من بيت مال المسلمين أو من غيره.و هذا هو التصرف القبيح.
يجب إذن الحذر من الوقوع في مثل هذه المنزلقات،و إذا انعدم الحذر ينحدر المجتمع تدريجيا نحو التخلي عن القيم و يبلغ مرحلة لا تبقى له فيها سوى القشرة الخارجية،و قد يأتيه على حين غرّة و يفاجئه ابتلاء شديد-كالإبتلاء الذي تعرّض له ذلك المجتمع حين اندلاع ثورة أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام-فلا يخرج منه ظافرا.
ص: 141
عرضت على عمر بن سعد ولاية الري.و كانت الري في ذلك الوقت ولاية شاسعة و غنيّة.و لم يكن منصب الإمارة(على عهد بني أمية)كمنصب المحافظ في الوقت الحاضر؛فالمحافظون اليوم موظفون حكوميون يتقاضون مرتبات و يبذلون جهودا شاقّة.و لم يكن الأمر حينذاك على هذا النحو.الشخص الذي ينصب واليا كان مطلق اليد في التصرف بجميع الثروات الموجودة في تلك المدينة يتصرف فيها كيف يشاء بعد أن يرسل مقدارا منها إلى عاصمة الخلافة.و لهذا كان لمنصب الوالي أهمية عظمى.
ثم شرطوا تولّيه الري بمحاربة الحسين عليه السّلام.
من الطبيعي أنّ الإنسان النبيل و صاحب القيم لا يتردد لحظة في رفض مثل هذا العرض،ما قيمة الري و غير الري؛لو وضعت الدنيا بين يديه فلا يعبس بوجه الحسين عليه السّلام و لا يكفهر بوجه الحسين؛فما بالك بالنهوض لمحاربة عزيز الزهراء عليها السّلام و قتله هو و أطفاله.
هكذا يقف الإنسان الذي يحمل قيما.و لكن حينما يكون المجتمع خاويا و مجردا من القيم،و حينما تضعف هذه المبادئ الأساسية بين أفراد المجتمع،ترتعد الفرائص عند ذاك،و أكثر ما يستطيع المرء عمله في مثل هذا الموقف هو أنه يستمهلهم ليلة واحدة للتفكير في الأمر.و حتى لو أنه فكر سنة كاملة لوصل إلى نفس النتيجة و لا تخذ نفس القرار؛إذ لا قيمة لمثل هذا النمط من التفكير،إلا أنّ الرجل
ص: 142
فكر في الأمر ليلة و أعلن في اليوم التالي عن موافقته على ذلك العرض.لكن اللّه تعالى لم يمكّنه من بلوغ تلك الغاية.
و كانت نتيجة ذلك أن وقعت فاجعة كربلاء (1).3.
ص: 143
لقد استشهد أمير المؤمنين عليه السّلام بسبب تلك الأوضاع.و من بعده جاء ابنه الحسن عليه السّلام الذي لم يتسنّ له الصمود بوجه تلك الحالة أكثر من ستة أشهر،إذ تخلّى عنه أنصاره و تركوه فريدا وحيدا؛فرأى أنه إذا سار لمحاربة معاوية بهذه الثلّة القليلة و استشهد فلن يطالب أحد حتى بثأره نتيجة لاستشراء الإنحطاط الأخلاقي في المجتمع الإسلامي،و بين هؤلاء الخواص!و إن دعاية معاوية و أمواله و حيله ستستحوذ على الجميع،و سيقول الناس بعد مضي سنة أو سنتين:إنّ الإمام الحسن عليه السّلام لم يحسن صنعا-أساسا-حين تحدّى معاوية،و معنى هذا أنّ دمه سيذهب هدرا،لذلك تحمّل جميع المصاعب و لم يلق بنفسه في ميدان الشهادة.
ص: 144
أنتم تعلمون أنّ الشهادة تكون أحيانا أسهل من البقاء على قيد الحياة.و هذا المعنى يدركه جيدا أهل الحكمة و الدقة و الآفاق المعنوية.أحيانا تصبح الحياة و العمل في أجواء معيّنة أصعب بكثير من القتل و الشهادة و لقاء اللّه،لكن الإمام الحسن عليه السّلام سلك هذا السبيل الأصعب.
في تلك الأوضاع كان الخواص في حالة انهيار و لم يكونوا على استعداد للقيام بأي تحرّك.و لهذا السبب حينما استلم يزيد السلطة ثار عليه الإمام الحسين عليه السّلام؛ لأن يزيد بما يتصف به من صفات سيئة كان من السهولة محاربته،و فيما لو قتل أحد في محاربته لا تذهب دماؤه هدرا.
كانت الأوضاع في عهده لا خيار فيها إلاّ خيار الثورة،على العكس من زمن الإمام الحسن عليه السّلام الذي فيه خياران خيار الشهادة و خيار الحياة،و كان البقاء على قيد الحياة أكثر ثوابا و جدوى و مشقة من القتل،و الإمام الحسن عليه السّلام اختار هذا المسلك الأوعر.و لكن الوضع لم يكن على هذه الصورة في عهد الإمام الحسين عليه السّلام و لم يكن هناك إلاّ خيار واحد!و البقاء على قيد الحياة الذي يعني عدم الثورة ما كان له آنذاك أي معنى،كان لا بد له من الثورة،سواء انتهى به الأمر إلى القبض على الحكم أم كان مصيره إلى الشهادة.كان عليه أن يرسم الطريق و يركز لواء الدلالة عليه،ليكون واضحا أنّ الأمور إذا بلغت هذا الحد لا بدّ و أن يكون التحرك في هذا
ص: 145
الاتجاه(الثورة) (1).
قال السيد محمد باقر القرشي:و تقلّد الإمام الحسن عليه السّلام أزمّة الخلافة الإسلامية بعد أبيه،فتسلم قيادة حكومة شكلية عصفت بها الفتن،و مزقت جيشها الحروب و الأحزاب و لم تعد هناك أية قاعدة شعبية تستند إليها الدولة،فقد كان الاتجاه العام الذي يمثله الوجوه و الأشراف مع معاوية،فقد كانوا على اتصال وثيق به قبل مقتل الإمام و بعده،كما كان لهم الدور الكبير في إفساد جيش الإمام حينما مني جيش معاوية بالهزيمة و الفرار،و على أي حال فإن الإمام الحسن بعد أن تقلّد الخلافة أخذ يتهيأ للحرب،و قد أمر بعقد اجتماع عام في جامع الكوفة و قد حضرته القوات المسلحة و غيرها،و ألقى الإمام خطابا رائعا و مؤثرا دعا فيه إلى تلاحم القوى و وحدة الصف،و حذّر فيه من الدعايات التي تبثها أجهزة الحكم الأموي،ثم ندب الناس لحرب معاوية فلما سمعوا ذلك وجلت قلوبهم و كمّت أفواههم،و لم يستجب منهم أحد سوى البطل الملهم عدي بن حاتم فانبرى يعلن دعمه الكامل للإمام، و وجه أعنف اللوم و التقريع لأهل الكوفة على موقفهم الإنهزامي و استبان للإمام و غيره أن جيشه لا يريد الحرب،فقد خلع يد الطاعة،و انساب في ميادين العصيان و التمرد.
و بعد جهود مكثفة قام بها بعض المخلصين للإمام نفر للحرب أخلاط من الناس -على حد تعبير الشيخ المفيد-كان أكثرهم من الخوارج و الشكاكين و ذوي الأطماع،و هذه العناصر لم تؤمن بقضية الإمام،و قد تطعمت بالخيانة و الغدر، و يقول الرواة أن الإمام أسند مقدمة قيادة جيشه لعبيد الله بن العباس الذي وتره معاوية بابنيه ليكون ذلك داعية إخلاص له و حينما التقى جيشه بجيش معاوية،مد2.
ص: 146
إليه معاوية أسلاك مكره فمنّاه بمليون درهم يدفع نصفه في الوقت و النصف الآخر إذا التحق به و سال لعاب عبيد الله فاستجاب لدنيا معاوية و مال عن الحق فالتحق بمعسكر الظلم و الجور و معه ثمانية آلاف من الجيش غير حافل بالخيانة و العار، و لا بالأضرار الفظيعة التي ألحقها بجيش ابن عمه،فقد تفللت جميع وحداته و قواعده،و لم تقتصر الخيانة على عبيد الله،و إنما خان غيره من كبار قادة ذلك الجيش،فالتحقوا بمعاوية،و تركوا الإمام في أرباض ذلك الجيش المنهزم يصعد آهاته و آلامه.
و لم تقتصر محنة الإمام و بلاؤه في جيشه على خيانة قادة فرقه،و إنما تجاوز بلاؤه إلى ما هو أعظم من ذلك،فقد قامت فصائل من ذلك الجيش بأعمال رهيبة بالغة الخطورة و هي:
ص: 147
و قام الرجس الخبيث الجراح بن سنان بالإعتداء على الإمام فطعنه في فخذه بمغول فهوى الإمام جريحا،و حمل إلى المواني لمعالجة جرحه و طعنه شخص آخر بخنجر في أثناء الصلاة كما رماه شخص بسهم في أثناء الصلاة إلا أنه لم يؤثر فيه شيئا و أيقن الإمام أن أهل الكوفة جادون في قتله و اغتياله.
و أصيب ذلك الجيش بدينه و عقيدته فقد رموا حفيد نبيهم و ريحانته بالكفر و المروق من الدين،فقد جابهه الجراح بن سنان رافعا عقيرته قائلا:
«أشركت يا حسن كما أشرك أبوك...».
و كان هذا رأي جميع الخوارج الذين كانوا يمثّلون الأكثرية الساحقة في ذلك الجيش.
و الخيانة العظمى التي قام بها بعض زعماء ذلك الجيش أنهم راسلوا معاوية و ضمنوا له تسليم الإمام أسيرا أو اغتياله متى رغب و شاء،و أقض ذلك مضجع الإمام فخاف أن يؤسر و يسلّم إلى معاوية فيمن عليه،و يسجل بذلك يدا لبني أمية على الأسرة النبوية،كما كان عليه السّلام يتحدث بذلك بعد إبرام الصلح.
ص: 148
و عمد أجلاف أهل الكوفة إلى نهب أمتعة الإمام و أجهزته فنزعوا بساطا كان جالسا عليه كما سلبوا منه رداءه.
هذه بعض الأحداث الرهيبة التي قام بها ذلك الجيش الذي تمرّس في الخيانة و الغدر.
ص: 149
و وقف الإمام الحسن من هذه الفتن السود موقف الحازم اليقظ الذي تمثّلت فيه الحكمة بجميع رحابها و مفاهيمها،فرأى أنه أمام أمرين:
-1-أن يفتح باب الحرب مع معاوية،و هو على يقين لا يخامره أدنى شك أن الغلبة ستكون لمعاوية،فإما أن يقتل هو و أصحابه و أهل بيته الذين يمثلون القيم الإسلامية،و يخسر الإسلام بتضحيتهم قادته و دعاته من دون أن تستفيد القضية الإسلامية أي شيء فإن معاوية بحسب قابلياته الدبلوماسية يحمل المسؤولية على الإمام،و يلقي على تضحيته ألف حجاب،أو أنه يؤسر فيمنّ عليه معاوية فتكون سبة على بني هاشم و فخرا لبني أمية.
-2-أن يصالح معاوية فيحفظ للإسلام رجاله و دعاته،و يبرز في صلحه واقع معاوية،و يكشف عنه ذلك الستار الصفيق الذي تستر به،و قد اختار عليه السّلام هذا الأمر على ما فيه من قذى في العين و شجى في الحلق،و يقول المؤرخون إنه جمع جيشه فعرض عليهم الحرب أو السلم فتعالت الأصوات من كل جانب و هم ينادون.
«البقية البقية»
لقد استجابوا للذل،و رضوا بالهوان،و مالوا عن الحق،و قد أيقن الإمام أنهم قد فقدوا الشعور و الإحساس،و أنه ليس بالمستطاع أن يحملهم على الطاعة و يكرههم على الحرب فاستجاب-على كره و مرارة-إلى الصلح.
ص: 150
لقد كان الصلح أمرا ضروريا يحتّمه الشرع،و يلزم به العقل،و تقضي به الظروف الإجتماعية الملبدة بالمشاكل السياسية فإن من المؤكد أنه لو فتح باب الحرب لمني جيشه بالهزيمة،و منيت الأمة من جراء ذلك بكارثة لا حد لأبعادها.
أما كيفية الصلح و شروطه و أسبابه و زيف الناقدين له فقد تحدثنا عنها بالتفصيل في كتابنا حياة الإمام الحسن عليه السّلام.
ص: 151
و الشي المحقق أن الإمام الحسين قد تجاوب فكريا مع أخيه في أمر الصلح،و أنه تم باتفاق بينهما فقد كانت الأوضاع الراهنة تقضي بضرورته،و أنه لا بد منه، و هناك بعض الروايات الموضوعة تعاكس ما ذكرناه،و أن الإمام الحسين كان كارها للصلح و قد همّ أن يعارضه فأنذره أخوه بأن يقذفه في بيت فيطينه عليه حتى يتم أمر الصلح،فرأى أن من الوفاء لأخيه أن يطيعه و لا يخالف له أمرا فأجابه إلى ذلك،و قد دللنا على افتعال ذلك و عدم صحته إطلاقا في كتابنا حياة الإمام الحسن.
و لما أبرم أمر الصلح خف عدي بن حاتم و معه عبيدة بن عمر إلى الإمام الحسين و قلبه يلتهب نارا فدعا الإمام إلى إثارة الحرب قائلا:
«يا أبا عبد الله شريتم الذل بالعز،و قبلتم القليل و تركتم الكثير،أطعنا اليوم، و اعصنا الدهر،دع الحسن،و ما رأى من هذا الصلح،و اجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة و غيرها و ولني و صاحبي هذه المقدمة،فلا يشعر ابن هند إلا و نحن نقارعه بالسيوف».
فقال الحسين عليه السّلام:«إنا قد بايعنا و عاهدنا و لا سبيل لنقض بيعتنا»و لو كان الحسين يرى مجالا للتغلب على الأحداث لخاض الحرب،و ناجز معاوية،و لكن قد سدّت عليه و على أخيه جميع النوافذ و السبل،فرأوا أنه لا طريق لهم إلا الصلح.
ص: 152
و تحوّلت الخلافة الإسلامية من طاقتها الأصيلة و مفاهيمها البناءة إلى ملك عضوض مستبد لا ظل فيه للعدل،و لا شبح فيه للحق قد تسلّطت الطغمة الحاكمة من بني أمية على الأمة و هي تمعن في إذلالها و نهب ثرواتها،و إرغامها على العبودية،يقول بعض الكتاب:«و نجم عن زوال الخلافة الراشدة و انتقال الخلافة إلى بني أمية نتائج كبيرة فقد انتصرت أسرة بني أمية على الأسرة الهاشمية،و هذا كان معناه انتصار الأرستقراطية القرشية،و أصحاب رؤوس المال و المضاربات التجارية على أصحاب المبادىء و المثل،لقد كان نصر معاوية هزيمة لكل الجهود التي بذلت للحد من طغيان الرأسمالية القرشية،هزيمة لحلف الفضول،و هزيمة للدوافع المباشرة لقيام الإسلام و حربه على الإستغلال و الظلم،هزيمة للمثل و المبادىء،و نجاح للحنكة و السياسة المدعومة بالتجربة و المال،و لقد كان لهذه الهزيمة وقع مفجع على الإسلام و أجيال المسلمين..».
و يقول(نيكلسون):
«و اعتبر المسلمون انتصار بني أمية و على رأسها معاوية انتصارا للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول و أصحابه العداء،و التي جاهدها رسول الله صلّى اللّه عليه و اله حتى قضى عليها،و صبر معه المسلمون على جهادها و مقاومتها حتى نصرهم الله،و أقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء و الضراء،و أزال سيادة رهط كانوا يحتقرون
ص: 153
الفقراء،و يستذلون الضعفاء،و يبتزون الأموال...».
و على أي حال فقد فجع العالم الإسلامي-بعد الصلح-بكارثة كبرى فخرج من عالم الدعة و الأمن و الإستقرار إلى عالم مليء بالظلم و الجور فقد أسرع الأمويون بعد أن استتب لهم الأمر إلى الإستبداد بشؤون المسلمين،و إرغامهم على ما يكرهون.
و عانى الكوفيون من الظلم ما لم يعانه غيرهم،فقد أخذت السلطة تحاسبهم حسابا عسيرا على وقوفهم مع الإمام في أيام صفين،و عهدت في شؤونهم إلى الجلادين أمثال المغيرة بن شعبة و زياد بن أبيه فصبّوا عليهم وابلا من العذاب الأليم،و أخذ الكوفيون يندبون حظهم التعيس على ما اقترفوه من عظيم الإثم في خذلانهم للإمام أمير المؤمنين و ولده الحسن،و جعلوا يلحّون على الإمام الحسين بوفودهم و رسائلهم لينقذهم من ظلم الأمويين و جورهم إلا أن من المدهش حقا أنه لما استجاب لهم شهروا في وجهه السيوف،و قطعوا أوصاله و أوصال أبنائه على صعيد كربلا..و بهذا ينتهي بنا المطاف عن أفول دولة الحق (1).2.
ص: 154
أسباب واقعة الطف
علل و أسباب نهضة عاشوراء 3
خطورة معاوية و يزيد على الإسلام 7
شهادة الحسين عليه السلام لم تكن هزيمة 9
سبب استشهاد الإمام الحسين عليه السلام 12
حال المسلمين قبل قيام الإمام الحسين عليه السلام 18
انقسام الأمة إلى قسمين 21
نتيجة مساعي الخليفة معاوية 25
امتناع الإمام الحسين عليه السلام من بيعة يزيد 26
دراسة علل ثورة الإمام الحسين عليه السلام 34
الدروس المستقاة من عاشوراء 34
العبر العاشورائية 36
ما حلّ بالمجتمع حتى يضطر الحسين للتضحية 39
مرض المجتمع الإسلامي الخطير 41
آفتان و مرضان للإنحراف 42
أثر التخلي عن القيم و الفضائل:حاكميّة يزيد 45
ص: 155
نظرة إلى دقائق التاريخ 47
الحسين عليه السلام و الارتداد 48
سبب واقعة كربلاء 49
سبب آخر لواقعة كربلاء 51
الماضي مثال للحاضر 53
ماذا حصل في كربلاء 54
ماذا حصل في مجتمع النبي حتى ذبحوا ابنه؟56
أثر الخواص و العوام 57
أقسام الخواص 59
خواص أنصار الحق 60
أقسام أنصار الحق 62
مرحلة أمير المؤمنين عليه السلام 67
تكليف الخواص 69
خواص أهل الكوفة و فعلهم 71
نموذج للعوام 73
مسلم ضحيّة العوام 74
تخاذل أنصار الحق 75
أثر كذبة شريح القاضي على التاريخ 76
أثر تخاذل شبث بن ربعي 77
أثر التحرك في وقته 77
أثر تخلي الخواص عن مسلم 78
أثر موقف الخواص في الوقت المناسب 78
ص: 156
نموذج تاريخي معاصر 79
نموذج تاريخي معاكس 79
أثر تقصير الخواص 80
النصر مشروط بالتضحية 81
عدم إنقياد الخواص للدنيا 82
نظرة في أسباب الثورة الحسينية 83
1-المسؤولية الدينية 83
-1-الإمام محمد عبده:84
-2-محمد عبد الباقي:84
-3-عبد الحفيظ أبو السعود:85
-4-الدكتور أحمد محمود صبحي:86
-5-العلايلي:86
2-المسؤولية الاجتماعية 88
3-إقامة الحجة عليه 88
4-حماية الإسلام 89
5-صيانة الخلافة 90
6-تحرير إرادة الأمة:91
7-تحرير اقتصاد الأمة:92
8-المظالم الاجتماعية:93
9-المظالم الهائلة على الشيعة:94
10-محو ذكر أهل البيت:95
11-تدمير القيم الإسلامية:96
ص: 157
أ-الوحدة الإسلامية 96
ب-المساواة:96
ج-الحرية:97
12-انهيار المجتمع 98
1-نقض العهود 98
2-عدم التحرج من الكذب 99
3-عرض الضمائر للبيع 99
4-الإقبال على اللهو 100
13-الدفاع عن حقوقه 100
1-الخلافة 100
2-الخمس 101
14-الأمر بالمعروف:102
15-إماتة البدع:103
16-العهد النبوي:103
17-العزة و الكرامة:104
18-غدر الأمويين و فتكهم:105
رأي رخيص:106
أثر المفاهيم الخاطئة على المجتمعات 109
نماذج من التاريخ 109
رأي الإسلام في العنف 111
العنف القانوني 111
العنف غير القانوني 112
ص: 158
بداية الإنحراف
ركائز بنية النظام النبوي 117
الفرق بين العدل و المساواة 118
الحب..حب الزوجة و حب الأولاد 120
المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول 9 123
مواجهة الإمام الحسين في كربلاء مع عالم من الانحراف 124
تشابه موقف النبي و الإمام الحسين عليهما السلام 126
الإنحراف في زمن أمير المؤمنين عليه السلام 128
أنواع النعم 131
نماذج الإنحرافات قبل عصر الحسين عليه السلام 133
أهمية التقوى 141
الإنحراف في عهد الحسين عليه السلام 142
مرحلة الإمام الحسن عليه السلام 144
الفرق بين زمن الحسن و زمن الحسين عليهما السلام 145
1-الإعتداء على الإمام:148
2-الحكم عليه بالكفر:148
3-الخيانة العظمى:148
4-نهب أمتعة الإمام:149
الصلح:150
موقف الإمام الحسين عليه السلام 152
ص: 159
عدي بن حاتم مع الحسين:152
تحوّل الخلافة:153
الفهرس 155
ص: 160