حياة الإمام موسي بن جعفر عليهما السلام ، دراسة و تحليل المجلد 1

اشارة

حياة الإمام موسي بن جعفر عليهما السلام ، دراسة و تحليل

باقر شريف قرشي

دارالبلاغة - بيروت - لبنان

مشخصات: 2ج

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الأول

مقدمة الطبعة الثانية

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و اذا استعرض الباحث أي جانب من حياة الامام موسي(ع)فانه يجد تراثا نديا مشرقا يفيض بالخير و الجمال،و يحمل العطاء السمح،و التوجيه المشرق للأمة.

ان حياة الامام موسي بجميع ابعادها تتميز بالصلابة في الحق،و الصمود أمام الأحداث،و بالسلوك النير الذي لم يؤثر فيه أي انحراف أو التواء، و انما كان متسما بالتوازن،و منسجما مع سيرة الرسول الاعظم(ص)و هديه و اتجاهه،و التزامه بحرفية الاسلام.

و كان من بين تلك المظاهر الفذة التي تميزت بها شخصيته هو الصبر علي الأحداث الجسام،و المحن الشاقة التي لاقاها من طغاة عصره،فقد امعنوا في اضطهاده،و التنكيل به،و قد أصر هارون الرشيد علي ظلمه فعمد الي اعتقاله و زجه في ظلمات السجون،و بقي فيها حفنة من السنين يعاني الآلام و الخطوب و لم يؤثر عنه أنه ابدي أي تذمر أو شكوي أو جزع مما ألمّ به،و انما كان علي العكس من ذلك يبدي الشكر للّه،و يكثر من الحمد له علي تفرغه لعبادته،و انقطاعه لطاعته.

و اجمع المترجمون له أنه كان من اعظم الناس طاعة،و اكثرهم عبادة للّه فكانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود كما كانت لجده الامام زين العابدين من قبل حتي لقب بذي الثفنات،و قد بهر العقول بكثرة عبادته حينما كان في السجن،فكان يصوم نهاره،و ينفق ليله ساهرا في

ص: 7

عبادة اللّه،و قد أدلي الفضل بن الربيع بحديث له عن عبادته عليه السلام حينما كان سجينا في داره،و قد دلّ علي مدي تجرده عن الدنيا و اقباله علي اللّه،و سنذكره عند الحديث عن سجنه.

و قد بهر هارون بما رأه من تقوي الامام و كثرة عبادته فراح يبدي اعجابه قائلا:«إنه من رهبان بني هاشم!!».

و لما سجن(ع)في بيت السندي بن شاهك اقبل علي عبادة اللّه فكان في جميع أوقاته مشغولا بذكره تعالي،و كانت عائلة السندي تطل عليه فتري هذه السيرة التي تحاكي سيرة الأنبياء،فاعتنقت شقيقة السندي فكرة الامامة،و كان من آثار ذلك أن أصبح كشاجم حفيد السندي من اعلام الشيعة في عصره.

انها سيرة تملك القلوب و المشاعر فهي مترعة بجميع معاني السمو و النبل و الزهد في الدنيا و الاقبال علي اللّه.

و هناك ظاهرة أخري من ظواهر شخصيته الكريمة،و هي السخاء، فقد اتفق المؤرخون أنه كان من أندي الناس كفا،و اكثرهم عطاء للمعوزين،و كانت تضرب بصراره المثل،فكان الناس يقولون:«عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي الفقر»و كان يصل الفقراء و المحرومين في غلس الليل البهيم لئلا يعرفه أحد،و قد انفق جميع ما يملكه بسخاء علي الضعفاء و المنكوبين،و اغدق عليهم العطاء الجزيل،و انقذ الكثيرين منهم من مرارة الفقر و الحرمان.

و اجمع الرواة انه(ع)كان يملك طاقات هائلة من العلم،فكان اعلم المسلمين في عصره،و قد احتف به العلماء و الرواة فكان لا يفتي بنازلة أو حادثة الا بادروا إلي تسجيلها و تدوينها،و قد رووا عنه مختلف العلوم و الفنون خصوصا فيما يتعلق بالتشريع الاسلامي،فقد زودهم بطاقات ندية منه،

ص: 8

و يعتبر في هذا المجال هو أول من فتق باب الحلال و الحرام من أئمة أهل البيت(ع) (1).

لقد قام الامام موسي(ع)بعد أبيه الامام الصادق(ع)بادارة شئون جامعته العلمية التي تعتبر اول مؤسسة ثقافية في الاسلام،و أول معهد تخرجت منه كوكبة من كبار العلماء في طليعتهم أئمة المذاهب الاسلامية و قد قامت بدور مهم في تطوير الحياة الفكرية،و نمو الحركة العلمية في ذلك العصر،و امتدت موجاتها الي سائر العصور و هي تحمل روح الاسلام و هديه،و تبث رسالته الهادفة الي الوعي المتحرر و اليقظة الفكرية، و سنتحدث عن مدي معطياتها في غضون هذا الكتاب.

لقد كان الامام موسي(ع)من المع أئمة المسلمين في علمه،و سهره علي نشر الثقافة الاسلامية و ابراز الواقع الاسلامي و حقيقته.

و يضاف الي نزعاته الفذة التي لا تحصي حلمه و كظمه للغيظ،فكان الحلم من خصائصه و مقوماته،و قد اجمع المؤرخون أنه كان يقابل الاساءة بالاحسان،و الذنب بالعفو،شأنه في ذلك شأن جده الرسول الاعظم(ص) و قد قابل جميع ما لاقاه من سوء و أذي،و مكروه من الحاقدين عليه بالصبر و الصفح الجميل حتي لقب بالكاظم و كان ذلك من أشهر القابه.

و هكذا إذا استعرضنا نزعات الامام،و قابلياته الفذة،و ما أثر عنه في ميادين السلوك و الاخلاق،فانا نجده حافلا بكل مقومات الانسانية، و ما لها من مفاهيم بناءة خيرة،و عسي أن يلمّ هذا الكتاب ببعض جوانبها المشرقة،أو يعطي أضواء عنها.

(2) و لم تكن الشيعة تقدس أئمة أهل البيت(ع)تقديسا دينيا مجردا0.

ص: 9


1- الفقه الاسلامي مدخل لدراسة نظام المعاملات ص 160.

عن الوعي و العمق،و انما يستند في حقيقته و جوهره بل في جميع ابعاده إلي الدقة و التأمل و الإدراك حسب ما دللوا عليه،و أقاموه من الأدلة الوثيقة التي هي بعيدة كل البعد عن عنصر الجدل و النقاش...إن إيمان الشيعة بل ايمان جميع المسلمين بلزوم مودة أهل البيت انما هو مستمد من واقع الاسلام و روحه،و من صميم رسالته،فقد أوجب علي كل مسلم أن يكنّ لهم في أعماق ذاته و دخائل نفسه أعمق الود و خالص الحب،و قد نطقت بذلك آية المودة قال تعالي: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي (1)فقد أجمع المفسرون أنها نزلت في أهل البيت(ع) (2)و إلي مضمون الآية يشير الامام الشافعي بقوله:

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم فرض من اللّه في القرآن أنزله

و تواترت النصوص الصحيحة في لزوم مودة أهل البيت،و ان النبي حرب لمن حاربهم،و سلم لمن سالمهم،و قد قرنهم بمحكم التنزيل قال(ص):

«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي،أحدهما أعظم من الآخر،كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلي الأرض،و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتي يردا علي الحوض،فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (3).2.

ص: 10


1- سورة الشوري:آية 23.
2- تفسير الرازي 406/7،الدر المنثور 7/7،تفسير النيسابوري،و روي أبو نعيم بسنده عن جابر قال:جاء أعرابي إلي النبي(ص)فقال يا محمد اعرض علي الاسلام،فقال تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،و ان محمدا عبده و رسوله قال:تسألني عليه أجرا؟قال:-لا-الا المودة في القربي،قال:قرباي أو قرباك؟قال:قرباي،قال:هات أبايعك،فعلي من لا يحبك،و لا يحب قرباك لعنة اللّه،قال رسول اللّه(ص):آمين.
3- صحيح الترمذي 308/2،أسد الغابة 12/2.

ان حديث الثقلين قد أجمع المسلمون علي روايته،و هو من أوثق الاحاديث النبوية و أكثرها ذيوعا،و هو يحمل جانبا مهما من جوانب العقيدة الاسلامية،كما أنه من اجلي الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الامامة في أهل البيت،و في عصمتهم من الاخطاء و الاهواء لأن النبي(ص)قرنهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،فلا يفترق أحدهما عن الآخر،و من الطبيعي ان صدور أية مخالفة لاحكام الدين تعتبر افتراقا عن الكتاب العزيز،و قد نفي الرسول(ص) افتراقهما حتي يردا عليه الحوض،فدلالته علي العصمة و لزوم مودتهم ظاهرة جلية.

و قد كرر النبي(ص)هذا الحديث في غير موطن لأنه يهدف الي صيانة الامة و الحفاظ علي استقامتها و عدم انحرافها في المجالات العقائدية و غيرها إن تمسكت بأهل البيت و لم تتقدم عليهم،و لم تتأخر عنهم (1).

و قال(ص):«انما مثل أهل بيتي كسفينة نوح،من ركبها نجا، و من تخلف عنها غرق،و انما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني اسرائيل من دخله غفر له» (2)يقول الامام شرف الدين في مراجعاته القيمة في بيان الحديث ما نصه.

«و أنت تعلم أن المراد من تشبيههم عليهم السلام بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله و فروعه عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار،و من تخلف عنهم كان كمن آوي«يوم الطوفان»الي جبل ليعصمه من أمر اللّه،غير أن ذاك غرق في الماء و هذا في الحميم و العياذ باللّه.

و الوجه في تشبيههم عليهم السلام بباب حطة هو أن اللّه جعل ذلك الباب9.

ص: 11


1- حياة الامام الحسن 90/1.
2- مجمع الزوائد 168/9.

مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله و البخوع لحكمه،و بهذا كان سببا للمغفرة.

هذا وجه الشبه،و قد حاوله ابن حجر إذ قال:-بعد أن أورد هذه الاحاديث و غيرها من أمثالها-.

«و وجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم و عظمهم شكرا لنعمة مشرفهم،و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات،و من تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم،و هلك في مفاوز الطغيان»الي ان قال:

«و بباب حطة-يعني وجه تشبيههم بباب حطة-أن اللّه جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع و الاستغفار سببا للمغفرة،و جعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها» (1).

هذه بعض النصوص الواردة في اهل البيت،و هي صريحة في دلالتها علي لزوم مودتهم،و هو أمر مجمع عليه بين المسلمين،الا ان الذي يهمنا هو أن نلمع بإيجاز الي مظاهر ذلك الولاء الخالص عند الشيعة،و هو يحمل في واقعه طابع الغلو و الافراط في الحب كما يتهمهم بذلك بعض خصومهم أو انه بعيد عن ذلك،و فيما أحسب ان الحديث عن أمثال هذه البحوث من موجبات الالفة و التقريب بين المسلمين فانها تزيل من طريقنا ما خلفته الاجيال من عوادي السوء و مغبات التفرق و الانقسام.

ان مظاهر الولاء للعترة الطاهرة عند الشيعة هي ما يلي:

أولا-إن الشيعة تأخذ معالم الدين أصولا و فروعا من أئمة أهل البيت(ع)و تجمع علي أن التعبد باقوالهم و افعالهم و تقريرهم انما هو من السنة التي يجب العمل بها عينا،و بذلك فقد بنت أطارها العقائدي علي ما أثر عن أهل البيت،و لا تتعدي في المجالات التشريعية الي غيرهم من بقية المذاهب الاسلامية،و لم يكن ذلك عن تحزب أو تعصب لأهل البيت،4.

ص: 12


1- المراجعات:ص 54.

و انما النصوص القطعية التي أثرت عن الرسول الاعظم(ص)هي التي نصت علي ذلك كحديث الثقلين و غيره من الاحاديث المتواترة التي اجمع المسلمون علي صحتها،و هي تدل بوضوح علي لزوم التمسك بالعترة الطاهرة و التعبد بما روي عنها بعد القطع أو الظن المعتبر بصحة صدوره عنهم، و قد أوضح هذه الجهة و أولادها بمزيد من البيان و الاستدلال سماحة الامام المغفور له شرف الدين في مراجعاته القيمة قال رحمه اللّه:«إن تعبدنا في الاصول بغير المذهب الاشعري،و في الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب،و لا لريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب،و لا لعدم عدالتهم و امانتهم و نزاهتهم،و جلالتهم علما و عملا.

لكن الأدلة الشرعية أخذت باعناقنا الي الأخذ بمذاهب الأئمة من أهل بيت النبوة،و موضع الرسالة،و مختلف الملائكة،و مهبط الوحي و التنزيل فانقطعنا إليهم في فروع الدين و عقائده،و أصول الفقه و قواعده و معارف السنة و الكتاب و علوم الأخلاق و السلوك و الآداب نزولا علي حكم الأدلة و البراهين،و تعبدا بسنة سيد النبيين و المرسلين صلي اللّه عليه و آله و عليهم أجمعين.

و لو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد،أو تمكنا من تحصيل نية القربة للّه سبحانه في مقام العمل علي مذهب غيرهم لقصصنا أثر الجمهور وقفونا إثرهم تأكيدا لعقد الولاء،و توثيقا لعري الإخاء،لكنها الأدلة تقطع علي المؤمن وجهته،و تحول بينه و بين ما يروم».

و أضاف لهذا قوله:

«و ما أظن أحدا يجرأ علي القول بتفضيلهم-اي أئمة المذاهب- في علم أو عمل علي أئمتنا،و هم أئمة العترة الطاهرة،و سفن نجاة الأمة و باب حطتها،و أمانها من الاختلاف في الدين،و اعلام هدايتها،و ثقل

ص: 13

رسول اللّه،و بقيته في أمته،و قد قال صلّي اللّه عليه و آله و سلم،فلا تقدموهم فتهلكوا،و لا تقصروا عنهم فتهلكوا،فانهم أعلم منكم،لكنها السياسة،و ما أدراك ما اقتضت في صدر الاسلام» (1).

و قد أيّد شيخ الازهر الشيخ سليم هذا الجانب المشرق من حديث الامام شرف الدين قال:

«بل قد يقال إن أئمتكم الاثني عشرة أولي بالاتباع من الأئمة الأربعة و غيرهم،لأن الاثني عشرة كلهم علي مذهب واحد قد محصوه و قرروه باجماعهم بخلاف الأربعة فان الاختلاف بينهم شائع في أبواب الفقه كلها، فلا تحاط موارده و لا تضبط،و من المعلوم ان ما يمحصه الشخص الواحد لا يكافئ في الضبط ما يمحصه اثنا عشر إماما،هذا كله مما لم تبق فيه وقفة لمنصف،و لا وجهة لمتعسف» (2).

و أكّد هذه الظاهرة الشيخ شلتوت شيخ الجامع الازهر،فاعلن أن الفقه الامامي من أوثق ما كتب في الفقه الاسلامي اصالة في الفكر،و عمقا في الاستدلال و قربا للواقع.

و من الطبيعي ان هذه الظاهرة التي تمسكت بها الشيعة و اعلنتها في جميع المحالات ليس فيها أي جانب من الغلو،و انما هي متسمة بالاعتدال و عدم الانحراف في جميع أبعادها.

ثانيا-ان الشيعة تجمع علي أن أئمة أهل البيت(ع)من عباد اللّه المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول،و هم بأمره يعملون،و انهم أهل الذكر و أولي الأمر و بقية اللّه،و خيرته،و حزبه،و عيبة علمه،و انهم ساسة العباد،و اركان البلاد،و أبواب الإيمان،قد عصمهم اللّه من الفتن،4.

ص: 14


1- المراجعات:ص 40-41.
2- المراجعات:ص 144.

و طهرهم من الدنس،و اذهب عنهم الرجس،و طهرهم تطهيرا،و وصفهم الامام امير المؤمنين(ع)بقوله:

«هم عيش العلم و موت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم،و ظاهرهم عن باطنهم،و صمتهم عن حكم منطقهم،لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه،هم دعائم الاسلام،و ولائج الاعتصام،بهم عاد الحق في نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه،و انقطع لسانه عن منبته،عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية فان رواة العلم كثير و رعاته قليل» (1).

و وصفهم شاعر الاسلام الأكبر الكميت في احدي روائعه بقوله:

القريبين من ندي و البعيدين من الجور في عري الأحكام

و المصيبين باب ما أخطأ النا س و مرسي قواعد الاسلام

و الحماة الكفاة في الحرب إن لفّ ضرام وقوده بضرام

و الغيوث الذين إن أمحل النا س فمأوي حواضن الأيتام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال سيرة طبين بالأمور الجسام

ساسة لا كمن يري رعية النا س سواء و رعية الاغنام (2)

هذه بعض نزعات أهل البيت كما وصفها شاعر العقيدة الكميت و هو معاصر لهم قد اختلط بهم،و اختبر أخلاقهم،فآمن بأنهم سلام اللّه عليهم نسخة لا ثاني لها في تاريخ الانسانية علما و سخاء و تحرجا في الدين،و قد اندفع منا ظلا في سبيلهم فنظم هاشمياته فيهم،و هي تصور الجانب الكثير من الفكرة الشيعية مع الاستدلال عليها بالآيات تارة و بالسنة أخري.

و علي أي حال فان الشيعة الامامية تبرأ من الغلو في أئمتهم،و تجمع علي ضلالة المغالين و خروجهم من الدين.ت.

ص: 15


1- نهج البلاغة محمد عبده 259/2.
2- الهاشميات.

ان حقيقة الغلو رفع الامام الي منزلة الإله المعبود،فقد قال الغلاة للامام امير المؤمنين(ع):أنت أنت،قال:و من أنا؟قالوا:الخالق الباري فاستتابهم فلم يرجعوا عن غيهم،فعمد إلي احراق بعضهم،فكانوا يقولون:و هم يساقون الي النار،إنه اللّه،و انه هو الذي يعذب بالنار (1).

هذا هو منطق الغلاة الحاد في الدين و خروج عن عبودية اللّه و ارتداد عن الاسلام،و كان موقف أئمة أهل البيت(ع)معهم موقفا صارما و عنيفا فقد حكموا بوجوب قتلهم،و حرمة الاختلاط بهم،و عزلهم عن جماهير المسلمين و قد لعن الامام موسي(ع)محمد بن بشير لما غالي فيه،و دعا عليه،و تبرأ منه (2).

ان عقيدة الشيعة في أئمة اهل البيت مستمدة من روح الاسلام و صميمه و ليس فيها-و الحمد للّه-أي غلو أو خروج عن منطق العقل،و انما هي ناصعة نقية تتسم بالاصالة و المنطق و الدليل.

ثالثا-ان الشيء البارز من مظاهر الولاء الذي تكنه الشيعة لأئمتها انها تقوم بدورها باحياء ذكرهم و الاشادة بفضلهم فتقيم الحفلات التأبينية علي ما أصابهم من عظيم الخطب و فادح الرزء،و يعرض فيها الي سيرتهم و مثلهم الحافلة بتقوي اللّه،و حب الصالح العام و التفاني في سبيل الحق و خدمة الأمة،كما تقوم الشيعة بزيارة تلك المراقد الطاهرة للتبرك و التقرب بها الي اللّه،فانها من أعظم مظاهر الود الذي فرضه اللّه للعترة علي جميع المسلمين.

هذه بعض مظاهر الولاء الذي تكنه الشيعة للأئمة عليهم السلام و ليس فيه أي شائبة للغلو أو افراط في الحب،و علي هذا الاساس المعتدل8.

ص: 16


1- التنبيه و الرد علي أهل البدع ص 14.
2- رجال الكشي:ص 298.

المعتدل من الحب نتحدث عن الامام موسي(ع)بأمانة و اخلاص شأننا في ذلك شأن الباحث الذي يخلص للحق مهما استطاع إليه سبيلا.

(3) و الشيء الذي يدعو الي التساؤل هو أنا لم نجد إماما من أئمة أهل البيت(ع)قد عاش آمنا مطمئنا في حياته بعيدا عن الخوف و الفزع و الإرهاق فقد عانوا جميعا أشد ألوان الظلم و الجور و الاضطهاد،و كانت نهاية المطاف المحزن لكل واحد منهم القتل أو السم و لعل اهم أسباب ذلك-فيما نحسب- يعود الي ما يلي:

انهم سلام اللّه عليهم بحسب مركزهم الاجتماعي،و ولايتهم العامة علي الأمة كانوا مسئولين عن رعايتها،و صيانة حقوقها،و تأمين مصالحها و كانوا لا يقرون علي كظة ظالم و لا سغب مظلوم،و كانوا ينعون علي حكام عصورهم سياستهم التي لم تحفل بالنظر للصالح العام،و انما كانت تستهدف الاثرة و الاستغلال،و ارغام الناس علي ما يكرهون فلم يؤثر عن الكثيرين منهم-امثال معاوية بن أبي سفيان و يزيد بن معاوية و مروان بن الحكم و نظرائهم من ملوك الامويين و العباسيين-أي جد في امور الرعية او اخلاص لقضاياها أو سهر علي مصالحها و انما كانوا جادين في اشاعة الظلم الاجتماعي و الجور علي العامة،و انصرفوا الي اللذة و المجون،قد حفلت قصورهم بقطاع من المغنين و المغنيات و تعاطي الخمور،و لم يعد عندهم ذكر للّه و اليوم الآخر بالرغم من ان منطق الحكم الذي كانوا يمثلونه كان حكما اسلاميا قد عهد إليه القيام بشئون الدين،و هم لا يمثلونه بقليل و لا بكثير فقد جافت سيرتهم جميع سنن الاسلام و احكامه حسب ما أجمع عليه المؤرخون.

و تميز موقف الأئمة المعصومين(ع)مع جبابرة عصورهم الحاكمين

ص: 17

بالشدة و الصرامة فلم يخلدوا معهم الي الدعة و السكون،و انما اعلنوا المقاومة و المعارضة لهم،و كانت ذات طابعين:

1-المقاومة الايجابية

و قد اختار هذا النهج الثوري الامام الحسين(ع)حينما أعلن طاغية عصره يزيد بن معاوية الكفر و الالحاد،و الخروج علي ارادة الأمة،و تصميمه علي اذلالها و استعبادها،و ارغامها علي ما تكره،فاضطر(ع)الي اعلان الثورة مع علمه(ع)بقلة الناصر و خذلان الصديق،و انه لا بد أن تتناهب السيوف و الرماح جسمه الشريف،و قد أدلي(ع)بذلك و هو في مكة المكرمة بقوله:

«و ما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف،و خير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا فيملأن مني أكراشا جوفا و اجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم» (1).

لقد أخبر أبي الضيم عما يلاقيه في كربلا من تقطيع اعضائه و أوصاله علي صعيدها و ما اولهه الي هذا المصير المشرق الذي تنتصر به مبادئه الهادفة الي تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس.

لقد قدم سيد الشهداء علي تلك التضحية الجبارة ليزيل عن جسم الأمة ذلك التخدير الذي طعمه بها الحكم الأموي،و كان لمقتله الشريف أثره الفعال في ايقاظ الجماهير و وعيها،فقد تصعدت العمليات الثورية حتي اطاحت بالحكم الأموي و أزالت جميع آثاره من العالم العربي و الاسلامي.

ص: 18


1- اللهوف:ص 33.

2-المقاومة السلبية

و أختار هذا المنهج السليم بعض الأئمة الطاهرين لعلمهم بأن المقاومة الايجابية لا تجدي في التغلب علي الاحداث نظرا للظروف السياسية القائمة التي تؤدي الي حتمية فشل الثورة،و عدم انتفاع القضية الاسلامية بها و من ثمّ اعلنوا المقاومة السلبية،و كان من مظاهرها حرمة الاتصال بالجهاز الحاكم،و حرمة الترافع الي مجالس القضاء حسب ما دونه فقهاء الامامية في كتاب القضاء،و هي طريقة مجدية ذات أثر بالغ في تحقيق الأهداف السليمة التي تنشدها أئمة أهل البيت(ع)و قد أكد هذه السياسة السلبية الامام موسي(ع)في حديثه مع صفوان الجمال،و سنذكره بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

و سلك المستر غاندي هذه السياسة النيرة في تحريره للهند فانه حرم علي الهنود التعاون و التجاوب مع الاستعمار البريطاني،و قد نجحت هذه السياسة نجاحا باهرا فقد اضطر المستعمرون الي الجلاء عن الهند،و منحها الاستقلال السياسي.

و من المؤسف ان العلويين الثوار من الحسنيين و غيرهم لم يسيروا علي وفق هذه السياسة البناءة المعتدلة التي رفع شعارها الأئمة(ع)فقد رفعوا علم الثورة علي الحكم الأموي و العباسي،و لم يكتب لثوراتهم النجاح لعدم وضعها علي خطط سليمة،فلذا منيت بالفشل،و قد جرت لهم كثيرا من المشاكل و المصاعب،و اخلدت لهم الآلام و الخطوب.

و لم يكد يخفي علي السلطات الحاكمة أمر هذه السياسة السلبية التي اعتمد عليها أئمة اهل البيت(ع)فقد كانت الاستخبارات منتشرة في جميع الاوساط و هي تنقل إليها كل بادرة أو جزئية تحدث في البلاد،فقد نقلت الي

ص: 19

هارون قصة صفوان الجمال حينما عمد الي بيع جماله التي كان يكريها له في موسم الحج استجابة لنصيحة الامام موسي(ع)فأرسل هارون خلفه و رام قتله إلا انه عدل عن ذلك، و علي أي حال فان الحكومات القائمة آنذاك قد وجهت جميع اجهزتها للعمل ضد أهل البيت و قد استخدمت معهم الوسائل التالية:

1-مقابلتهم بمزيد من العنف و الاضطهاد،و المبالغة في قهرهم و ظلمهم الي حد لا يوصف لفضاعته و مرارته،و قد أفرد أبو الفرج الاصفهاني كتابا خاصا،و هو«مقاتل الطالبيين»عرض فيه ما جري عليهم و علي سائر العلويين من المحن الشاقة و التنكيل الهائل.

2-فرض الحصار الاقتصادي عليهم اضعافا لشوكتهم،و قد عمد هارون الي تطبيق هذه السياسة علي الامام موسي،فانه حينما سافر الي يثرب اجزل العطاء لجميع أبناء الصحابة سوي الامام فانه لم يصله بما يتفق مع مكانته،فسأله المأمون عن ذلك فقال له:إن فقره أحب إلي من غناه، و لو أوصلته بما يستحق لخرج علي،و قد وضع الرصد و العيون علي من يصله بالاموال فأوجب ذلك شدة الضيق و الجهد عليه و هكذا كانت سياسة اولئك الحكام مع الائمة المعصومين متسمة بفرض الفقر و الحرمان عليهم،و قد بلغ الضيق بعموم العلويين اقصاه في أيام المتوكل،فكان من يصلهم يتعرض للسخط و الانتقام،و قد بلغت الفاقة بهم انهم كانوا لا يملكون في بيوتهم سوي عباءة واحدة فاذا رام أحد منهم أن يخرج ارتدي بها (1)و قد عمد المتوكل الي قطع جميع مواردهم الاقتصادية.

3-حجبهم عن العالم الاسلامي،و فرض الرقابة الشديدة و المطاردة المفزعة علي جميع من يتصل بهم،و قد أدي ذلك بطبيعة الحال الي ظهورن.

ص: 20


1- مقاتل الطالبين.

النزعات المختلفة بين الشيعة،و لم يكن هناك أي مجال لأئمة الهدي للعمل علي توحيد صفوف الشيعة و ازالة النزعات المذهبية الحادثة فيما بينهم (1)4-انها أسرفت الي حد بعيد في القسوة علي الشيعة فقد صبت عليهم ألوانا قاسية من العذاب الأليم،و قد تحدث الامام الباقر(ع)عن المحن الشاقة التي واجهتها الشيعة أيام الحكم الأموي قال(ع):

«و قتلت شيعتنا بكل بلدة،و قطعت الايدي و الارجل علي الظنة و التهمة و كان من يذكر بحبنا أو الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله و هدمت داره» (2).

و قد صعدت الحكومات الاموية و العباسية جميع أجهزتها الدعائية ضد الشيعة حتي أصبح حب أهل البيت عارا و منقصة،و يشار الي الشيعي بالخيبة و الخسران كما حكم بعضهم ان حب أهل البيت مروق من الدين،و خروج عن الاسلام و الي ذلك كله يشير شاعر العقيدة و الجهاد الكميت بقوله:

يشيرون بالأيدي إليّ و قولهم الا خاب هذا و المشيرون أخيب

فطائفة قد كفرتني بحبكم و طائفة قالوا مسيء و مذنب

يعيبونني (3)من خبهم و ضلالهم علي حبكم بل يسخرون و اعجب

و قالوا ترابي هواه و رأيه بذلك أدعي فيهم و ألقب (4)

و علي أي حال فان تلك الاجراءات القاسية التي اتخذتها السلطات ضد أئمة أهل البيت(ع)قد خولف بها عما أثر عن النبي(ص)في لزوم المودة لعترته،و وجوب رعايتها و تكريمها في كل شيء.ت.

ص: 21


1- عقائد الزيدية.
2- شرح النهج 15/3.
3- الخب الخديعة.
4- الهاشميات.

علي أن السلطات الحاكمة في عصورهم كانت تؤمن بأن الأئمة لم يكن لهم أي أرب في الحكم،و انما كانوا يستهدفون اشاعة العدل و المساواة، و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة العامة بين المسلمين،و لكن ذلك لم يكن يتفق مع سياستهم الهادفة الي الاثرة و الاستغلال و صرف بيت المال علي الماجنين و العابثين فلذا كانوا يحقدون علي كل من يطالب بالاصلاح الاجتماعي و العدالة الاجتماعية.

و مضافا لذلك كله فقد كان الكثيرون من اولئك الحكام يحقدون علي أئمة الهدي نظرا لاجماع المسلمين علي تكريمهم و تعظيمهم،و الاشادة بفضلهم فقد كان المنصور يعلم أن الامام الصادق كان بمعزل عن الحركات السياسة في عصره،و لم يكن يبغي الحكم و السلطان،و انه نهي العلويين عن اعلان الثورة عليه،و كان قبل ذلك قد بشره بمصير الخلافة إليه،و مع ذلك فلم يتركه و شأنه وادعا آمنا ينشر علوم جده بين المسلمين،فقد جلبه غير مرة الي عاصمته محاولا اغتياله،و لم يكن هناك أي دافع سوي الحقد عليه لعظم شخصيته و مكانته عند المسلمين،و كذلك هارون الرشيد فانه كان يعلم ان الامام موسي لم يكن يستهدف منازعته علي سلطانه،أو البغي عليه إذ لم تكن عند الإمام قوي يعتمد عليها في منازعته و الخروج عليه،و مع ذلك فقد نكل به اعظم التنكيل فزجه في ظلمات السجون،و دس إليه السم حتي قضي علي حياته و سبب ذلك هو الحسد و الحقد لما يتمتع به الامام من سمو المكانة عند جميع المسلمين.

(4) و حفل عصر الامام موسي بكثير من الازمات و الاحداث الجسام، و من بينها الثورات المتسمة بالعنف و سفك الدماء،و كان من أهمها الثورة الكبري التي اطاحت بالحكم الأموي،فقد اندفعت الشعوب الاسلامية بحماس بالغ الي الثورة العارمة علي ذلك الحكم الذي جهد علي اذلالها و حرمانها من

ص: 22

جميع مقومات الحياة.

و كان شعار الثورة الدعوة الي الرضا من آل محمد،و قد استجابت له الشعوب،و تعطشت له القلوب،فان آل محمد هم الركيزة الأولي للاهداف الضخام التي ينشدها المجتمع الاسلامي من العدل و الحرية و المساواة.

و التفت الجماهير حول هذه الثورة تحميها و تصونها،و تقدم في سبيلها المزيد من التضحيات،فقد آمنت أن لا سبيل لكرامتها و حمايتها من الاستغلال و الاضطهاد الا اذا آل الحكم الي العلويين قادة العدل،و حماة الحق.و الملجأ للمظلومين و المضطهدين.

و لم يظن أحد أن الثورة تحمل في اعماقها الدعوة لنبي العباس فان هذه الأسرة لم يكن لها أي عمل ايجابي في خدمة الجماهير،و لم ينالوا أي ضيم أو ارهاق من السلطة الاموية،فقد كانوا و ادعين آمنين تجزل لهم السلطات بالعطاء،و توفر لهم العيش و الثراء،مضافا الي ذلك انها لم يكن لها ماض زاهر،فقد حفل تأريخ بعضهم بالغدر و الخيانة للأمة.

و علي أي حال فقد انحرفت الثورة عن مخططاتها الاصلية،و اتجهت الي حمل الحكم لبني العباس،و قد عين العباسيون أبا مسلم الخراساني قائدا عاما للثورة،و منحوه ثقتهم،و قد امعن في سفك الدماء و اراقتها بغير حق فقد أجمع الرواة أنه كان سفاكا آثما لم يحفل بأي جريمة يقترفها،قد هانت عنده النفوس و الأرواح،فكان يأخذ البريء بالسقيم،و المقبل بالمدبر،و يقتل علي الظنة و التهمة،و كان عدد من قتله-فيما يقول المؤرخون- ستمائة ألف،الأمر الذي يدل علي أنه لا عهد له باللّه و لا باليوم الآخر.

و قد أقر العباسيون جميع خططه الارهابية،و تعزو بعض المصادر الي بني العباسيين انهم هم الذين عهدوا إليه بذلك.

و علي أي حال فان الحكم لم ينته لبني العباس الا علي بحور من الدماء

ص: 23

و جبال من جثث الضحايا و الابرياء،و حينما قبضوا علي زمام السلطة اتجهوا الي الابادة الشاملة للأمويين و من يمت إليهم فأشاعوا فيهم القتل و التنكيل، و لم يقر الامام الصادق(ع)ذلك،فقد طالب السلطة بالعفو و الصفح عنهم و بهذا نقف علي مدي الانسانية الفذة الماثلة في أهل البيت فانهم لم يخلدوا الي منطق التشفي و الانتقام من العدو مهما كانت إساءته إليهم،فقد كان شأنهم العفو و الرفق و الاحسان مع المعتدين و الظالمين لهم.

و حاول أبو سلمة أحد نقباء الدولة العباسية،و العضو الفعال في قيادة ثورتهم أن ينقل الخلافة الي العلويين،و سواء كان ذلك عن خديعة و مكر أم عن جد و اخلاص منه في الامر،فقد أوفد رسائله الي يثرب فقام رسوله فناول الامام الصادق احدي رسائله فأمر(ع)باحراقها بالنار أمامه،فطالبه الرسول بالجواب،فقال له:هو ما رأيت،و عدل الرسول الي ذي النفس الزكية و أخيه فناولهما رسائل أبي سلمة،فوجد عندهما استجابة ملحة الي طلبه،و أشار عليهما الامام الصادق بأن لا ينخدعا بذلك،فان الامر لا يتم لهما،فلم يذعنا له،و اتخذا ذلك منه حسدا لهما-فيما يقول الرواة-و لم يمض كثير من الوقت حتي أعلن العلويون ثورتهم علي المنصور،و قد التفت حولها الجماهير الهائلة.

و انبري الفقهاء،و أعلام الفكر الاسلامي الي تأييدها،الا انه لم يكتب لها النجاح،فقد تمكنت جيوش العباسيين من اخمادها و القضاء عليها، و قد عرض هذا الكتاب لبيان ذلك بصورة مفصلة.

و ما انتهت ثورة العلويين الا و رءوسهم قد حملت علي أطراف الرماح يطاف بها في الاقطار و الامصار،كما كان الحال أيام الحكم الاموي،و لم يرع المنصور آواصر الرحم التي بينه و بين العلويين،فقد جهد بعد ذلك الي قتلهم و مطاردتهم لم يستثن في ذلك الشيخ و الطفل،و انما عمهم جميعا بتعذيبه الذي لا يوصف لقسوته،حتي تمني العلويون رجوع الحكم الاموي

ص: 24

علي ما فيه من قسوة و عذاب.

و قد تركت الاجراءات القاسية التي اتخذها المنصور تجاه العلويين أعمق الحزن و أمضه في نفس الامام الصادق،و ولده الامام موسي،فقد رأوا ابناء عمومتهم ينكل بهم المنصور افظع التنكيل،و هم لا يجدون سبيلا الي نصرتهم و انقاذهم مما هم فيه.

و من بين تلك المشاكل التي حفل بها عصر الامام موسي الحركات الفكرية الهدامة كالزندقة و غيرها،فقد كانت تستهدف القضاء علي الاسلام و تقويض دعائمه،و قد امتدت الي كثير من الاقطار الاسلامية،و هي تسعي جاهدة الي العبث بفلسفة الاخلاق الاسلامية،و انكار الاديان جميعا و حمل الناس علي ارتكاب المحرمات،و العبث بالآداب العامة،و إفساد سائر النظم الاجتماعية.

و قد تصدي الامام الصادق(ع)و ولده الامام موسي الي مقاومة تلك المبادئ،و تزييفها بالادلة العلمية.

و يضاف لتلك المذاهب الهدامة مبادئ أخري دهمت العالم الاسلامي في تلك العصور و هي تدعو الي تفكيك الروابط الاجتماعية،و تفريق كلمة المسلمين،و تضليل الرأي العام في كثير من جوانب حياته العقائدية،و قد تصدي الامام موسي و أبوه الامام الصادق من قبل الي ايقاظ المسلمين و تحذيرهم منها،و قد عرض الكتاب بصورة موضوعية الي بسط الكلام في ذلك كله.

(5) و ليس في ميادين الخدمة الاجتماعية ما هو أعم نفعا و أكثر عائدة علي الامة من نشر فضائل أهل البيت(ع)و عرض سيرتهم و شئونهم،فانها تمد المجتمع بما يحتاجه من مقومات النهوض و الارتقاء...ما أحوج المسلمين

ص: 25

الي التوجيه المشرق المنبعث من رسالة أهل البيت الهادفة الي نكران الذات و التضحية في سبيل اللّه،و الانطلاق نحو العمل المثمر البناء.

إن الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون زاخر بأمواج من الفتن و الاضطراب فقد عبثت القوي الاستعمارية بمقوماتهم،و سلبتهم جميع مقدراتهم،و غذت فيهم جميع عوامل الضعف و الانحلال،حتي غدوا بأقصي مكان من الذل و الهوان،و نحن نؤمن ايمانا لا يخامره ادني شك أنه لا يمكن أن تكون للمسلمين نهضة يصلون بها الي اهدافهم السليمة ما لم يقتدوا بأئمة أهل البيت في سلوكهم و تعاليمهم فان في كل جانب منها ملتقي اصيل للوعي المتحرر و المثل العليا و الايمان الكامل بحق الأمة،و عسي أن نكون في بحثنا عن سيرة الامام موسي(ع)قد ساهمنا في مجال الخدمة الاجتماعية.

لقد نشر هذا الكتاب سنة(1378 ه-)و نفذت نسخة،و قد كثر علي الطلب و الالحاح من المعنيين بأمثال هذه البحوث،فعرضت ذلك علي المحسن الكبير الحاج محمد رشاد عجينة نجل الوجيه الحاج محمد جواد عجينة،فاستجاب حفظه اللّه مشكورا و موفقا الي القيام بطبعه،سائلا من اللّه أن يوفقه الي احياء مآثر أهل البيت(ع)و أن يمنحه المزيد من الأجر انه تعالي ولي ذلك و القادر عليه.

و تفضل علي أخي سماحة العلامة الكبير الشيخ هادي القرشي باعادة النظر في فصول الكتاب،كما تفضل سماحته بمراجعة كثير من المصادر فأفادني بما عثر عليه من البوادر التي تتعلق بحياة الامام(ع)،و قد وجدت بعد البحث الجاد أن كثيرا من الفصول التي كتبتها تحتاج الي التهذيب و التحليل كما تبدل رأيي في كثير من بحوثه،و سيجد القارئ أن هذه الطبعة بما أضيف لها غير الطبعة الأولي مضافا الي جودة الطبع و اناقته التي اشتهرت بها مطبعة الآداب.

ص: 26

و في ختام هذا التقديم أرجو من المعنيين بهذه البحوث أن يتفضلوا علينا بالنقد و التصحيح عسي أن نصل جميعا الي خدمة هذه الأمة انه تعالي ولي السداد و التوفيق.

باقر شريف القرشي النجف الأشرف /1ذي الحجة1389/ ه-

ص: 27

مقدّمة الطبعة الأولي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الامام موسي بن جعفر عليه السلام فذ من أفذاذ العقل الانساني، و من كبار أئمة المسلمين،و أحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي اضاء الحياة الفكرية في الاسلام.

الامام موسي من أئمة العترة الطاهرة الذين قرنهم الرسول الاعظم(ص) بمحكم التنزيل،و جعلهم قدوة لأولي الالباب،و سفنا للنجاة و أمنا للعباد، و جعلهم باب حطة يغفر لمن دخلها،فهم شجرة النبوة و محط الرسالة، و مختلف الملائكة،و معادن العلم،و ينابيع الحكم-كما يقول الامام امير المؤمنين- (1)و لهم في مدح اللّه غني عن مدح المادحين و وصف الواصفين،قال تعالي: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2)لقد طهرهم اللّه من الزيغ و الرجس و برأهم من الآفات كما أوضح بهم معالم الدين،و أتم بهم الحجة علي الخلق أجمعين.

لقد حاكت سيرتهم بجميع أبعادها سيرة جدهم(ص)،إيمانا باللّه، و حبا للخير و نكرانا للذات...و لو استعرضنا حياة أي إمام منهم لوجدناها مجدبة من المغريات،لم تتلوث باقذار المادة،و لم تكدر جوهرها مآثم هذه

ص: 28


1- شرح النهج 214/1
2- سورة الأحزاب،نصت المصادر التالية علي اختصاص الآية بآل البيت تفسير الرازي 783/6،تفسير ابن جرير 5/22،مسند الامام احمد بن حنبل 107/4،سنن البيهقي 150/2،صحيح مسلم 331/2، الخصائص الكبري 264/2،مشكل الآثار 334/1.

الحياة،و انما كانت طافحة بالمآثر و الفضائل،فهم جميعا في بداية حياتهم و نهايتها قدوة فذة لكل انسان نبيل يتطلع الي المثالية الكاملة،و يهفو الي الانسانية الرفيعة.

(2) إن للامام موسي(ع)سيرة ندية عطرة امتازت بأنها سلسلة جهاد متواصل و ثورة صاخبة علي أئمة الظلم و الطغيان الذين اغتصبوا الخلافة الاسلامية من أهلها بالغلبة و القوة،و أكرهوا العالم الاسلامي علي الخضوع لسياستهم الملتوية التي روعت المجتمع،و سلبته حرياته،و أفقدته الأمن و الدعة و الاستقرار.

في تلك الفترات العصبية أعلن الامام موسي مقاومته السلبية لحكومة هارون و تولي بنفسه قيادة الحزب المعارض فاصدر فتواه و حكمه بحرمة التعاون مع الاجهزة الحاكمة لأن التعاون معهم فيه دعم للظالمين،و قد حرمه الاسلام قال تعالي: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (1)و استثني من ذلك من يقوم بخدمة اجتماعية أو يسدي يدا علي الفقراء فيقضي مهامهم و شئونهم فانه لا حرج عليه في الانضمام الي السلك الحاكم،و قد سمح لعلي بن يقطين أن يتولي منصب الوزارة لهارون حينما ضمن له القيام بذلك.

إن الامام لو صانع هارون الرشيد أو تقرب إليه و جاراه-كالكثيرين من باعة الضمير-لاغدق عليه بالاموال الكثيرة و الثراء العريض،و لم يتعرض إليه بأي سوء أو مكروه،الا انه لم يخضع له،و لم يخف من جوره و بطشه فانطلق يعلن الحق،و يندد بالظلم،و يشجب الجور،و يدعو الي تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة،و قد لاقي في سبيل ذلك العناء المرهق13

ص: 29


1- سورة هود:آية 113

و الجهد الشاق،و قد تلقي تلك الآلام الجسام بالصبر الجميل و كظم الغيظ حتي عرف بهذا اللقب و اشتهر به.

(2) و لم يقتصر الامام موسي وحده علي ما لاقاه من المحن و الخطوب فقد شاركه فيها جمهور شيعته و القائلين بامامته فقد واجهوا من العناء و الجهد ما لا سبيل الي تصويره،و يعود السبب في ذلك الي ايمانهم الوثيق بالامامة و هي عنصر أساسي في كيانهم العقائدي،و تقضي هذه الفكرة بعدم شرعية الحكومات التي توالت علي المسلمين سواء أ كانت من بني أمية أم من بني العباس أم من غيرهم،فان الذين تصدوا الي الحكم لم تتوفر فيهم الصفات التي ينشدونها في الامام من العدالة،و التحرج في الدين،و العلم بما تحتاجه الامة في جميع مجالاتها القضائية و الادارية و السياسية،فلذا كانوا يعملون جاهدين علي اسقاط تلك الحكومات،و سلب ثقة الجماهير عنها،و قد واجهوا في سبيل ذلك من المعضلات السياسية القاسية ما لم تلاقه أي طائفة اسلامية.

و مما زاد الشيعة علي الإيمان بالنضال الشاق في سبيل فكرتهم أنهم رأوا أولئك الملوك الذين اختلسوا السلطة الاسلامية قد امعنوا في الظلم و الجور،و جهدوا علي ارغام الناس علي الذل و العبودية،و علي قطع كل لسان يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر.

و رأوا أولئك الملوك الذين يزعمون أنهم يمثلون ظل اللّه و عدله في الأرض ينفقون لياليهم في الطرب و المجون و السكر،و ينفقون أيامهم في البحث عن الفتيات الحسان اللاتي يجدن العزف و يثرن الغرام.

و رأوا خزينة الدولة تنفق بسخاء علي العابثين و الماجنين،و علي ما يفسد الاخلاق،و يثير الشهوات،و لم يعد ما يصرف منها علي الشؤون العامة الا النزر اليسير،و اصبحت الحياة الاقتصادية بصورة عامة يسودها

ص: 30

الفقر و الحرمان.

و رأوا أن مصالح الأمة لم توضع علي مائدة البحث قد أهملت جميع شئونها و أمورها،فقد اقبل أولئك الملوك علي اللذات و الشهوات،و تركوا امور الرعية بأيدي غلمانهم و جواريهم و نسائهم يتصرفون فيها حسب أهوائهم و ميولهم.

و رأوا شئون الدين قد أهملت،و لم يعد اي ظل للخطوط العريضة التي ينشدها الاسلام في ظل حكمه من بسط العدل،و نشر الرفاهية،و اشاعة الدعة و الاستقرار بين الناس.

و دفعتهم هذه العوامل الي الثورات الملتهبة،و هم يطالبون بتحقيق العدالة و رفع الغبن و الاسي عن الناس،و أمعنت السلطات بعد اخماد ثوراتهم في قتلهم و تنكيلهم و ارهاقهم الي حد لا يوصف لفضاعته و مرارته.

(4) و أروع ثورة اجتماعية عرفها التاريخ الاسلامي ثورة الامام امير المؤمنين رائد العدالة الكبري في الأرض،فقد كانت ثورته الصاخبة علي الظلم و الغبن تستهدف إقامة مجتمع تتهيأ فيه الفرص المتكافئة لجميع الناس علي اختلاف ميولهم و أديانهم بحيث لا يوجد فيهم محروم او عاطل.

لقد حاول الامام أن يغير مجري التأريخ،و يدفع الانسان الي التطور الاجتماعي و يحقق له المزيد من المكاسب الاجتماعية،فيوفر له الحرية و العدالة و المساواة في ضمن اطارها الاسلامي الاصيل.

لقد حاول الامام باخلاص بالغ أن يقيم علي الكرة الارضية نهضة فكرية جبارة تعني باشاعة العلم،و تطوير العمل،و اقامة مناهج تربوية تغير السلوك العام للانسان فتبث في اعماقه روح الإيمان و المحبة و التعاون في المجالات الاجتماعية،و تزيل عنه روح الانانية و الكراهة و الشر،الي غير ذلك من

ص: 31

الاهداف العريضة التي كان ينشدها الامام في ظل حكومته.

و لم تع القوي المنحرفة عن الاسلام هذه الاهداف الاجتماعية التي اعلنها الامام،فانها لم تكن بأي حال تهتم بمصلحة الأمة،و انما كانت تتطلب اقامة نفوذها و استغلالها علي حساب الضعيف و المحروم فأعلنت سخطها علي الامام،و اعلنت الحرب عليه،و قد تذرعت بدم عثمان و اتخذته وسيلة لعصيانها المسلح،فقاومها الامام و قضي علي فاولها في البصرة الا انه لم يمض قليل من الوقت حتي ناجزه معاوية و بعد صراع رهيب استطاعت جيوش الامام ان تدحر القوي الاموية الا انه من المؤسف أن الجيش الذي خف مع الامام لم يقرر حق مصيره و مصير الاجيال الصاعدة فقد خدعهم ابن العاص برفع المصاحف بأسلوب ساخر هزيل،و قد أدي ذلك الي انقلاب الجيش علي اعقابه و تفلل جميع قواعده،كما أدي الي خذلان الامام(ع) و انتصار القوي المعادية للاسلام عليه،و قد نجم من ذلك أن مني العالم الاسلامي بكثير من النكبات و الخطوب التي لا تزال آثارها باقية حتي يوم الناس هذا،و قد ألمع الي ذلك الاستاذ مالك بن نبي الجزائري في ايضاحه للمقررات التي اتخذها مؤتمر(باندونج)اذ يقول:«و لقد عرف التأريخ الاسلامي لحظة كهذه-أي في تقرير المصير-في معركة صفين تلك الحادثة المؤسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار،الاختيار الحتم بين علي و معاوية،بين المدينة و دمشق،بين الحكم الديمقراطي الخليفي،و الحكم الأسري و لقد اختار المجتمع الاسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تأريخه الطريق الذي قاده اخيرا الي القابلية للاستعمار و الي الاستعمار» (1).

لقد كانت حادثة صفين بداية الشر و بداية الانقلاب في تأريخ الأمة الاسلامية،فقد اخلدت لها الفتن،و جرت لها الويلات و الكوارث،و كان1/

ص: 32


1- الفكرة الافريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج111/

من أظهر مخلفاتها إماتة الوعي الاسلامي في النفوس و الخنوع أمام الظلم و الجور،و قد مثل ذلك بصورة مؤلمة حقا في مأساة الإمام موسي(ع) فان هارون قد زجه في ظلمات السجون في بغداد و هي زاخرة بالمسلمين و القائلين بامامته في حين لم تنبر منهم طائفة الي المطالبة باطلاق سراحه،حتي توفي غريبا في سجن السندي بن شاهك فعمد الي وضع جثمانه علي جسر الرصافة ببغداد محاولا بذلك الحط من شأنه،و لم يهبوا الي انقاذه من أيدي الشرطة،ان سبب ذلك يرجع الي الخنوع و الذل الذي خيم علي النفوس.

(5) و كان من أهم ما عني به الامام موسي(ع)نشر الثقافة الاسلامية و اشاعة المعارف العامة بين الناس،و قد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول،و تثقيف الافكار،و تقديم المسلمين في الميادين العلمية.

لقد احتف بالامام اثناء اقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء و رواة الحديث ممن تتلمذوا في جامعة أبيه الكبري التي انارت العقل الانساني و اطلقته من عقال الجهل،و قد أفاض عليهم الامام الشيء الكثير من عاومه و معارفه التي هي مستمدة من علم جده الرسول(ص)كما زود الفقه الاسلامي بطاقات كبيرة من آرائه الحصيفة،و رواياته عن آبائه،و له تنسب مجموعة كثيرة من الاحكام الاسلامية بجميع أنواعها من العبادات و المعاملات،و قد دونت في موسوعات الحديث و الفقه،و نظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد الاسلامية،و تحدث الركبان بوفرة مواهبه و مقدراته العلمية و قد دان شطر كبير من المسلمين بامامته و جعلوا مودته و الأخذ بقوله فرضا من فروض الدين.

و كان اجماع المسلمين علي تكريمه و تعظيمه و تقديمه بالفضل علي سائر الهاشميين و غيرهم من اعلام العصر بل حتي علي الخلفاء،فان ذلك موجب

ص: 33

لاثارة الاحقاد عليه،و الحسد له في نفوس خصومه،فاجمعوا علي التنكيل به و حجبه عن العلماء و حرمانهم من الانتهال من نمير علومه،و بذلك فقد جنوا علي العلم جناية لا تعدلها أي جناية.

لقد اضطر العلماء اثناء حبس الامام في البصرة و في بغداد ان يتصلوا به و يأخذوا من علومه و لكن ذلك كان مع تستر و خوف بالغين من السلطة التي لم تكن تهتم بالتقدم العلمي لشعوبها.

(6) و نقدم الي المكتبة الإسلامية هذا المجهود المتواضع الذي هو صفحة من حياة الامام موسي،و مثل موجز لشخصيته العظيمة،و لا نزعم أنه قد استوعب حياته،أو ألمّ بجميع شئونه،فذاك أمر لا تسعه عشرات من أمثال هذا الكتاب،فان الباحث المتتبع يجد صورا مشرقة كثيرة من حياته،و ما أثر عنه من حكم الآراء سواء أ كانت في ميادين السلوك و الاخلاق أم في غيرها و انما أعطي صورة موجزة لبعض مثله و معارفه و تراثه،كما ذكر كوكبة من اصحابه و رواة حديثه و ابنائه مع الالماع الي شيء من تراجمهم،و اعطي دراسة عن العصر العباسي الأول و ما مر فيه من الازمات الفكرية و الاحداث الخطيرة كما عرض الي الاسباب التي أدت الي انهيار الامبراطورية الاموية،و بحث عن اعمال ملوك بني العباس المعاصرين له،و ما نشروه من الظلم و الاضطهاد تجاه العلوين،و نختلف كثيرا في هذه البحوث عن بقية المؤرخين فانا لا نقف علي نقل الاحداث،و انما ننظر إليها بدقة و شمول فنحللها،و نكشف عن ابعادها،و قد بحثنا عن ذلك كله ببحث موضوعي بعيد عن التحيز و رائدنا الاخلاص للحق راجين ان يكون ذلك خدمة للاسلام و خدمة لعلم من اعلامه النابهين و هو تعالي ولي التوفيق.

المؤلف

ص: 34

ولادته و نشأته

اشارة

ص: 35

ص: 36

و الظاهرة الفذة التي امتاز بها الاسلام علي بقية الاديان و المذاهب الاجتماعية الاخري هو أنه رفع شعار المساواة،و هدم الحواجز بين الناس، و قد تبني ذلك بصورة ايجابية فعالة،فجهز جميع طاقاته و امكانياته في تطبيقها علي مسرح الحياة،و اعتبرها عنصرا أساسيا من عناصر حضارته، و عاملا مهما في بناء تكوينه الاجتماعي.

الناس في شريعة اللّه سواسية كأسنان المشط،لا امتياز لاحد علي احد و لا تقديم لقوم علي آخرين،فهم علي صعيد واحد من ناحية حقوقهم و كرامتهم،لا تفاوت بينهم الا بالتقوي و العمل الصالح الذي يقرب الانسان من ربه،و يبعده عن عوامل الشر،و نزعات الطيش و الغرور.

بهذه المبادئ العليا التي تجمع القلوب،و توحد ما بين المشاعر و العواطف جاء الاسلام،و عليها ارتكزت دعوته،و دعا لمن يتصدي لتصديعها أن يعلو وجهه بالسيوف لئلا تكون بين المسلمين ثغرة يتصدع بها شملهم،و تتمزق بها وحدتهم.

و قد تنكر الامويون لهذه القاعدة الاساسية في الاسلام فحملوا معول الهدم علي انقاضها،لانها تتنافي مع ميولهم الجاهلية،و تتنافي مع مصالحهم الطبقية،فراحوا يعملون بقوي مسعورة الي محوها عن الحياة الاسلامية، و قد تجلي ذلك فيما عمدوا إليه من المبالغة في الذم و التقريع لمن يتزوج بأمة من العرب،و لم يقتصروا علي ذلك و انما تعدوه الي القسوة و التعذيب لمن يشذ عن ذلك،فقد علم طاغية من ولاتهم ان شخصا من بني سليم قد تزوج بأمة فأمر باحضاره،و ضربه مائة سوط،و فرق بينه و بين زوجه، و حلق رأسه و لحيته و حاجبيه» (1)و في عرفهم أنه قد اقترف بذلك جناية و سعي في الارض فسادا يستحق عليه التنكيل.4.

ص: 37


1- الاغاني 150/4.

و حرموا علي ابن الامة أن يتولي أي منصب من مناصب الدولة،أو يتقلد وظيفة من الوظائف العامة،و زعموا عدم صلاحيته لها (1)و بهذا المنطق الجاهلي احتج طاغية الامويين هشام بن عبد الملك علي زيد بن علي شهيد الشرف و الإباء فقد قال له هشام يحاجه:

«بلغني أنك تذكر الخلافة،و تتمناها،و لست أهلا لها،و أنت ابن أمة».

فانبري إليه زيد فسدد له سهما من منطقه الفياض قائلا له:

«إن الامهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات،و قد كانت أم اسماعيل أمة لام إسحاق فلم يمنعه ذلك أن بعثه اللّه نبيا،و جعله أبا للعرب،و أخرج من صلبه خير الأنبياء محمد(ص)..» (2).

و لما تبني الامويون هذه السياسة النكراء التي تتصادم مع واقع الاسلام انبري إليها أهل البيت بالانكار و التشهير فهتفوا بما جاء به جدهم المنقذ الاعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلم من المساواة العادلة بين المسلمين،و ضربوا للناس أمثلة عملية واضحة لتأكيدها،فقد اعتق الامام زين العابدين جارية له و بعد العتق تزوج بها،و قد انتهز هذه البادرة خصمه عبد الملك فراح يندد به و يعيب عليه،فبعث له رسالة يلومه فيها،و هذا نصها:

«أما بعد،فقد بلغني تزويجك مولاتك،و قد علمت أنه كان في اكفائك من قريش من تمجد به في الصهر،و تستنجبه من الولد،فلا لنفسك نظرت،و لا علي ولدك أبقيت و السلام؟..».

و لما مثل الكتاب بين يدي الامام نظر فيه فرأي روح الجاهلية ماثلة في سطوره و حروفه،فرده(ع)بهذا الجواب الذي تمثلت فيه مبادئ5.

ص: 38


1- العقد الفريد 160/4.
2- الكامل لابن الاثير 84/5.

الاسلام و أهدافه و هذا نصه:

«أما بعد،فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي،و تزعم أنه كان في نساء قريش من أمجد به في الصهر،و استنجبه في الولد،و إنه ليس فوق رسول اللّه(ص)مرتقي في مجد،و لا مستزاد في كرم،و إنما كانت ملك يميني خرجت مني بأمر أراده اللّه عز و جل التمست فيه ثوابه ثم ارتجعتها علي سنته،و من كان زكيا في دينه فليس يخل به شيء من أمره،و قد رفع اللّه بالاسلام الخسيسة،و أتم به النقيصة،و أذهب اللوم فلا لوم علي امرئ مسلم،انما اللوم لوم الجاهلية..» (1).

هذا هو منطق الاسلام في عدله و مساواته،فالشرف الواقعي في حسابه يحوم حول طاعة اللّه،و التمسك بأهداب دينه،فمن هذب نفسه،و صانها عن الاثم و المنكر،و تحرج في دين اللّه،فهو الفذ الذي له الامتياز في الاسلام،و أما التفوق بالعنصريات و سائر الاعتبارات المادية الاخري،فانها لا تدخل في منطق الفضل و الشرف عند اللّه.

أي حزازة علي الامام حينما تزوج بأمة مسلمة بعد ما أعتقها فانه لم يجاف بذلك كتاب اللّه و سنة نبيه.

إن الاسلام بكل اعتزاز و فخر قد ساوي بين جميع المسلمين،و جعل المسلم كفؤ المسلمة و الغي جميع التفوقات التي ينظر إليها العرف الجاهلي،و قد زوج الرسول الاعظم زينب بنت جحش من مولاه زيد بن حارثة،و هو لا يدانيها في مكانتها الاجتماعية،و قصة جويبر البائس المسكين مشهورة مستفيضة،و بذلك فقد أقام الاسلام قاعدة اساسية للرابطة الزوجية تبتني علي الوحدة في الدين،و المحبة في اللّه.

و لما اتسع الاسلام في عصوره الاولي،و غزت جنوده الباسلة اكثر4.

ص: 39


1- اعيان الشيعة 480/4.

المعمورة في الدعوة الي اللّه اتسعت حركة الرقيق و جلبه اتساعا هائلا،لا يخلو في كثير من صوره-فيما نحسب-عن عدم المشروعية،و ذلك لعدم التزام السلطات الحاكمة في تلك العصور بما أثر عن الاسلام في كيفية الرق.

و علي أي حال فقد كانت أسواق يثرب تعج بالنخاسين الذين يجلبون الرقيق لبيعه،و كان شارع في بغداد يسمي شارع الرقيق (1)يعرض فيه الرقيق لبيعه.

و كان موقف أهل البيت أمام هذا الرقيق المنكوب هو الرحمة به و العطف عليه فكانوا يشترون منه حسب المستطاع،و يعتقونه لوجه اللّه،فكان احمد ابن الامام موسي(ع)يستنسخ المصحف ثم يبيعه و يشتري بثمنه الرقيق و يعتقهم لوجه اللّه،و قد اعتق الف نسمة من كد يده،و لم يكتفوا بهذا البر و انما كانوا يسدون يدا علي من اعتقوه فيمنحونه نصيبا وافرا من المال ليستغني به عما في أيدي الناس،فيتخلص بذلك في وقت واحد من رق العبودية و كابوس الفقر.

و كان الامام موسي يحفز أصحابه،و يحثهم علي اتخاذ القيان،و الزواج بهن فقد قال لهم:

«اتخذوا القيان،فان لهن فطنا و عقولا ليست لكثير من النساء..» (2)و لم يقتصر أهل البيت(ع)علي هذا الاحسان المستفيض للرقيق،و انما تعدوه الي المصاهرة،و ذلك للتدليل علي الغاء الاسلام للتفاوت،و تحطيما للاجراءات الاموية الفاسية التي اتخذت ضدهم.

و كانت أم الامام موسي من تلكم النسوة اللاتي جلبن لاسواق يثرب و قد خصها اللّه بالفضل،و عناها بالشرف،فصارت وعاء للامامة،5.

ص: 40


1- مروج الذهب 316/3.
2- الاتحاف بحب الاشراف:ص 55.

و إناء للفضيلة و الكرامة.

أما كيفية زواج أبي عبد اللّه الصادق بها فقد حدث عنها ابن عكاشة الاسدي،و نعرض حديثه بايجاز يقول:دخلت علي الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام،و كان ولده أبو عبد اللّه ماثلا بين يديه،فقدم له عنب، فالتفت إلينا يرشدنا الي آداب الأكل قائلا:

«حبة،حبة يأكله الشيخ،و الصبي الصغير،و ثلاثة و اربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع،و كله حبتين فانه يستحب..».

يقول ابن عكاشة:نظرت الي أبي عبد اللّه الصادق فرأيته قد بلغ مبالغ الرجال،فعرضت علي أبيه زواجه فقلت له:

«سيدي:لأي شيء لا تزوج أبا عبد اللّه،فقد أدرك التزويج؟!.» فأخبرني الامام عن عزمه علي ذلك،و كانت بين يديه صرة فقال لي:

«أما انه سيجيء نخاس من أهل بربر،فينزل دار ميمون فنشتري له بهذه الصرة جارية..».

و خرج القوم من ثوي الامام و مضت علي ذلك حفنة من الزمن فدخل عليه ابن عكاشة مع زمرة من إخوانه فلما استقر بهم الجلوس أخبرهم الامام بمجيء النخاس و وصول الجارية معه.و أمرهم أن يبادروا لشرائها بتلك الصرة التي رأوها من قبل،فقاموا جميعا و قلوبهم مليئة بالغبطة و السرور و لما انتهوا الي النخاس طلبوا منه عرض ما عنده من الجواري عليهم فأخبرهم أنه لم يبق عنده سوي جاريتين مريضتين احداهما أمثل من الاخري فطلبوا منه احضارهما فقام و أخرجهما إليهم فوقع نظرهم علي الماثلة للشفاء، و سامها عليهم بسبعين دينارا،فراموا منه تخفيض ثمنها فأبي،ففتحوا الصرة فإذا بها سبعون دينارا.فدفعوها له و أخذوا الجارية و جاءوا بها الي الامام،فحمد اللّه و أثني عليه و قد شمله الفرح فقال لها:

ص: 41

«ما اسمك؟» فأجابته بصوت خافت يقطر حياء:

«حميدة» (1).

و انبري الامام فمنحها وساما من الشرف و التكريم قائلا:

«حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة».

و التفت الي ولده و السرور باد عليه،فوهبه اياها (2)و تزوج بها أبو عبد اللّه فكانت من أعز نسائه،و أحبهن إليه،و آثرهن عنده.

و اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا في نسبها فقيل انها اندلسية،و تكني لؤلؤة (3)و قيل انها بربرية (4)و هي بنت صالح البربري (5)و قيل انها شقيقة صالح (6)و ذهب بعضهم الي انها رومية (7)و قيل انها من أجل بيوت العجم (8)و أهمل الكثيرون من المؤرخين نسبها و لم يتعرضوا له.7.

ص: 42


1- حميدة:يضم الحاء،و فتح الميم،و سكون الياء المثناة،و فتح الدال جاء ذلك في النفحة العنبرية(ص 15)مخطوط بمكتبة الامام كاشف الغطاء العامة،و جاء فيه أنه قيل إن اسمها نباتة.
2- أصول الكافي 476/1 بحار الأنوار 232/11.
3- مرآة العقول 451/1،معالم العترة.
4- كشف الغمة 2/3.
5- اعلام الوري،بحار الأنوار،و في المناقب 323/4،حميدة المصفاة ابنة صاعد البربري.
6- مختصر اخبار الخلفاء:ص 39.
7- تحفة الازهار و زلال الانهار للسيد ضامن بن شدقم مخطوط يوجد في قسم المخطوطات من مكتبة الامام كاشف الغطاء.
8- الانوار البهية:ص 87.

و كانت السيدة حميدة تعامل في بيتها معاملة كريمة،فكانت موضع عناية و تقدير عند جميع العلويات،كما ان الامام الصادق كان يغدق عليها بمعروفه،و قد رأي فيها وفور العقل و الكمال،و حسن الايمان،و أثني عليها ثناء عاطرا فقال فيها:

«حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب،ما زالت الأملاك تحرسها حتي أديت إلي كرامة من اللّه و للحجة من بعدي..» (1).

لقد كانت هذه السيدة طاهرة الذيل،نقية الثوب،بريئة من النقص قد أترعت نفسها بالايمان و الصلاح،و قد غذاها الامام الصادق بعلومه، حتي اصبحت في طليعة نساء عصرها علما و ورعا و ايمانا،و قد عهد إليها الامام الصادق بتفقيه نساء المسلمين و تعليمهن الاحكام الشرعية (2)و اجدر بها أن تحتل هذه المكانة،و ان تكون من المع نساء عصرها في العفة و الفقه و الكمال.

الوليد المبارك

و يمتد الزمن بعد زواج الامام بها،و العيش هادئ و الحياة البيتية حافلة بالمسرات،قد غمرتها المودة،و ترك الكلفة،و اجتناب هجر الكلام و مره.

و في فترات تلك المدة السعيدة عرض لها حمل،و سافر الامام أبو عبد اللّه الي بيت اللّه الحرام لاداء فريضة الحج،فحملها معه و بعد الانتهاء من

ص: 43


1- بحار الأنوار 232/11،أصول الكافي 477/1،اعيان الشيعة القسم الثاني من 5/4.
2- الأنوار البهية:ص 78.

مراسيمه قفلوا راجعين الي يثرب،فلما انتهوا الي«الأبواء» (1)أحست حميدة بالطلق فأرسلت خلف الامام تخبره بالأمر لأنه قد عهد إليها أن لا تسبقه بشأن وليده،و كان أبو عبد اللّه يتناول طعام الغذاء مع جماعة من أصحابه،فلما وافاه النبأ المسر قام مبادرا إليها فلم يلبث قليلا حتي وضعت حميدة سيدا من سادات المسلمين،و إماما من أئمة أهل البيت.

لقد أشرقت الدنيا بهذا المولود المبارك الذي ما ولد-في عصره- أيمن،و لا أكثر عائدة و لطفا علي الاسلام منه.

لقد ولد أبر الناس،و أعطفهم علي الفقراء،و أكثرهم عناء و محنة في سبيل اللّه و أعظمهم عبادة و خوفا من اللّه.

و بادر الامام أبو عبد اللّه فتناول وليده فأجري عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذن في أذنه اليمني،و أقام في اليسري.

لقد كانت أول صورة فتح الامام موسي عليها عينيه صورة أبيه الذي ما أظلت سماء الدنيا أسمي و لا أعظم شأنا منه بعد آبائه،و كانت أول كلمة قرعت سمعه كلمة التوحيد التي تنطوي علي الايمان بما له من معني.

و انطلق الامام أبو عبد اللّه عائدا الي اصحابه،و قد علت علي ثغره ابتسامة فبادره أصحابه قائلين:

«أسرك اللّه،و جعلنا فداك،يا سيدنا ما فعلت حميدة؟».1.

ص: 44


1- الأبواء:بالفتح ثم السكون،و واو و الف ممدودة،قرية من أعمال الفرع بالمدينة،و به قبر الزاكية آمنة بنت وهب أم النبي العظيم(ص) و وجه تسمية المكان بهذا الاسم-كما قيل-انه كان يكثر به الوباء،و قال ثابت اللغوي:سميت الأبواء لتبوء السيول بها،و هو حسن.معجم البلدان 92/1.

فبشرهم بمولوده المبارك،و عرفهم عظيم أمره قائلا:

«قد وهب اللّه لي غلاما،و هو خير من برأ اللّه».

أجل انه خير من برأ اللّه علما و تقوي و صلاحا،و تحرجا في الدين و أحاط الامام أصحابه علما بأن وليده من أئمة أهل البيت(ع)الذين فرض اللّه طاعتهم علي عباده قائلا لهم:

«فدونكم،فو اللّه هو صاحبكم» (1).

و كانت ولادته في«الأبواء»و قيل في يثرب (2)و هو مخالف لما عليه عامة المؤرخين،و كانت سنة ولادته(128 ه-) (3)و قيل سنة (129 ه-) (4)و ذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.

اطعام عام

و لم يطل الامام أبو عبد اللّه(ع)المكث في الأبواء فقد ارتحل عنها و اتجه الي يثرب وفور وصوله أقام تكريما لوليده فأطعم الناس من أجله اطعاما عاما ثلاثة أيام (5)و توافدت عليه جماهير شيعته تهنيه بمولوده المبارك

ص: 45


1- بحار الانوار 230/11،دلائل الامامة،
2- وفيات الاعيان 395/4.
3- تهذيب التهذيب 34/10،الطبقات الكبري 33/1،نور الأبصار ص 135،المناقب 323/4،كشف الغمة 2/3.
4- اعيان الشيعة 3/4،و جاء في تحفة الأزهار أنه ولد قبل طلوع فجر يوم الثلاثاء من صفر سنة(127 ه-)و جاء في بحر الانساب أنه ولد يوم الأحد لسبع ليال خلون من صفر،و عين هذا جاء في الدروس.
5- اعيان الشيعة 3/4.

و تشاركه في مسراته و أفراحه.

الطفولة الزاكية

و أخذ الامام موسي يتدرج في طفولته،و هو يرضع من ثدي الايمان و يتربي في حجر الاسلام،يغذيه الامام أبو عبد اللّه الصادق(ع)بعطفه و حنانه،و يفرغ عليه أشعة من روحه العظيمة،و يرشده الي العادات الشريفة،و يهديه الي السلوك النير و قد التقت به في سنه المبكر جميع عناصر التربية الاسلامية حتي بلغ في صغره من الكمال و التهذيب ما لم يبلغه أي انسان.

حب و تكريم

و قطع الامام موسي شوطا من طفولته و هو ناعم البال يستقبل الحياة كل يوم بحفاوة و تكريم،فأبوه يغدق عليه بعطفه المستفيض،و جماهير المسلمين تقابله بالعناية و التكريم،و قد قدمه الامام الصادق(ع)علي بقية ولده،و حمل له من الحب ما لا يحمله لغيره،فمن مظاهر وده أنه وهب له قطعة من أرض تسمي البسرية،كان قد اشتراها بست و عشرين الف دينار (1)و سئل عن مدي حبه له فقال:

«وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبي أحد» (2).

و تكلم الامام موسي و هو طفل بكلام أثار اعجاب أبيه فاندفع

ص: 46


1- دلائل الامامة:ص 49-50.
2- الاتحاف بحب الأشراف:ص 54.

أبوه قائلا:

«الحمد للّه الذي جعلك خلفا من الآباء،و سرورا من الأبناء،و عوضا عن الاصدقاء» (1).

و تعتقد الشيعة ان مقام الامامة كمقام النبوة بعيد عن المحاباة و الاندفاع بعاطفة الحب،سوي ما يتصل بتأييد الفضيلة و الاشادة بالايمان،و علي ضوء ذلك فالامام أبو عبد اللّه(ع)انما أعلن حبه العارم و مودته الوثيقة لولده لأنه رآه صورة صادقة عنه في مواهبه و عبقرياته،و رأي أنه الامام من بعده علي أمة جده.

صفته:

و وصف رواة الأثر ملامح صورته فقالوا:كان أسمر شديد السمرة (2)و قيل كان اسود اللون (3)و قيل أزهر اللون،ربع القامة،كث اللحية (4)و وصفه شقيق البلخي فقال:كان حسن الوجه،شديد السمرة،نحيف الجسم.

هيبته و وقاره

و حاكي الامام موسي في هيبته هيبة الأنبياء،و بدت في ملامح شكله سيماء الأئمة الطاهرين من آبائه،فما رآه أحد إلا هابه،و أكبره،و قد صور مدي هيبته و وقاره أبو نؤاس شاعر البلاط العباسي حينما التقي به في الطريق،فاندفع أبو نؤاس يقول:

ص: 47


1- بحار الانوار:237/11.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ،أخبار الدول:ص 112.
3- عمدة الطالب:ص 185 النفحة العنبرية:ص 15،و زاد فيه أنه كان رابط الجأش واسع العطاء.
4- أعيان الشيعة 9/4.

إذا أبصرتك العين من غير ريبة و عارض فيك الشك أثبتك القلب

و لو أن ركبا أمموك لقادهم نسيمك حتي يستدل بك الركب

جعلتك حسبي في أموري كلها و ما خاب من أضحي و أنت له حسب (1)

لقد كانت هذه الابيات دفعة من دفعات الروح،و يقظة من يقظات الضمير الحي،فان أبا نؤاس الذي قضي أيام حياته في اللهو و المجون،و كان يعيش علي موائد بني العباس،قد انبري الي هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان من يمدح فيه أهل البيت ينال العقوبة و السخط،فقد دفعته الي ذلك واقعية الامام و مثاليته التي لا ند لها في عصره.

و بهرت أنوار الامام شاعر المعرة أبا العلاء فانطلق في قصيدته التي رثي بها أبا أحمد حفيد الامام،يقول:

و يخال موسي جدكم لجلاله في النفس صاحب سورة الاعراف (2)

و لم يكن أبو العلاء يظن بأحد خيرا أو يمدح انسانا الا ان يختبره و يقف علي واقع أمره و قد انتهت إليه انباء الامام موسي و عرف أنه نسخة لا ثاني لها فلذا انطلق مع المادحين و الواصفين.

نقش خاتمه

أما نقش خاتمه فيدل علي مدي تعلقه باللّه و انقطاعه إليه فقد كانت صورته«الملك للّه وحده» (3).

ص: 48


1- المناقب 318/4.
2- سقط الزند.
3- أخبار الدول:(ص 112).

كنيته

أبو الحسن الاول،أبو الحسن الماضي،أبو ابراهيم،أبو علي، أبو اسماعيل.

ألقابه:

اشارة

أما القابه فتدل علي مظاهر شخصيته و نواحي عظمته،و هي كما يلي:

الصابر

لأنه صبر علي الآلام و الخطوب التي تلقاها من حكام الجور،و الفراعنة الطغاة فقد جرعوه نغب التهمام،و قابلوه بجميع الوان الإساءة و المكروه.

الزاهر لأنه زهر بأخلاقه الشريفة و كرمه المضيء الذي مثل به خلق جده الرسول(ص).

العبد الصالح

و لقب بالعبد الصالح لعبادته،و اجتهاده في الطاعة،حتي صار مضرب المثل في عبادته علي ممر العصور و الاجيال و قد عرف بهذا اللقب عند رواة الحديث فكان الراوي عنه يقول حدثني العبد الصالح.

السيد

لانه من سادات المسلمين،و إمام من أئمتهم،و قد مدحه بهذا اللقب الشاعر الشهير أبو الفتح بقوله:

أنا للسيد الشريف غلام حيثما كنت فليبلغ سلامي

و اذا كنت للشريف غلاما فأنا الحر و الزمان غلامي (1)

ص: 49


1- أخبار الدول:ص 113.

الوفي

لأنه أوفي إنسان خلق في عصره،فقد كان وفيا بارا باخوانه و شيعته و بارا حتي باعدائه و الحاقدين عليه.

الأمين

و كل ما للفظ الامانة من معني قد مثل في شخصيته العظيمة فقد كان أمينا علي شئون الدين و احكامه،و أمينا علي أمور المسلمين و قد حاز هذا اللقب كما حازه جده الرسول الاعظم من قبل،و نال به ثقة الناس جميعا.

قائد العسكر

و من ألقابه(ع)قائد الجيش و العسكر (1)،و استقرب ثقة الاسلام المحقق الشهير الشيخ عباس القمي نضّر اللّه مثواه،أن السبب في ذلك أنه عليه السلام مثّل المنصور في يوم النيروز فدخل عليه الجيش و الامراء يهنونه و يحملون له الهدايا و الألطاف الامر الذي لم يتفق لاحد من آبائه و أبنائه و بهذه المناسبة لقب بذلك (2).

الكاظم

و انما لقب بذلك لما كظمه من الغيظ عما فعل به الظالمون من التنكيل و الارهاق حتي قضي شهيدا مسموما في ظلمات السجون لم يبد لاحد آلامه و أشجانه بل قابل ذلك بالشكر للّه و الثناء عليه،و يقول ابن الاثير:«إنه عرف بهذا اللقب لصبره،و دماثة خلقه،و مقابلته الشر بالاحسان» (3).

ص: 50


1- تحفة الازهار،و زلال الانهار.
2- الكني و القاب(ج 1 ص 176).
3- مختصر تأريخ العرب:ص 209.

ذو النفس الزكية

و ذلك لصفاء ذاته التي لم تتلوث بمآثم الحياة و لا بأقذار المادة حتي سمت،و انبتلت عن النظير.

باب الحوائج

و هذا أكثر ألقابه ذكرا،و أشهرها ذيوعا و انتشارا،فقد اشتهر بين العام و الخاص أنه ما قصده مكروب أو حزين إلا فرج اللّه آلامه و أحزانه و ما استجار أحد بضريحه المقدس إلا قضيت حوائجه،و رجع إلي أهله مثلوج القلب مستريح الفكر مما ألم به من طوارق الزمن و فجائع الايام،و قد آمن بذلك جمهور شيعته بل عموم المسلمين علي اختلاف طبقاتهم و نزعاتهم، فهذا شيخ الحنابلة و عميدهم الروحي أبو علي الخلال يقول:

«ما همني أمر فقصدت قبر موسي بن جعفر الا سهل اللّه تعالي لي ما أحب..» (1).

و قال الامام الشافعي:

«قبر موسي الكاظم الترياق المجرب» (2).

و قد أثقلت كوارث الدهر و مصائب الايام كوكبة من الشعراء و الأدباء ففزعوا إليه و لاذوا بضريحه متوسلين به الي اللّه في رفع محنهم و كشف ما ألمّ بهم من البلاء و المكروه ففرج اللّه عنهم ذلك،و قد قرأنا لهم الشيء الكثير من بليغ النظم،و لو اردنا أن نذكر ما أثر عنهم في ذلك لبلغ مجلدا ضخما،و لكنا نذكر بعضهم،فمنهم الحاج محمد جواد البغدادي فقد سعي الي مثوي الامام في حاجة يطلب قضاءها و هو يقول:

يا سمي الكليم جئتك أسعي نحو مغناك قاصدا من بلادي

ص: 51


1- تأريخ بغداد:(ج 1 ص 120)الشيعة و التأريخ.
2- تحفة العالم:(ج 2 ص 20).

ليس تقضي لنا الحوائج إلا عند باب الرجاء جد الجواد

و قد شطرهما آية اللّه العظمي السيد مهدي آل بحر العلوم نوّر اللّه مثواه بقوله:

يا سمي الكليم جئتك أسعي و الهوي مركبي و حبك زادي

مسني الضر و انتحي بي فقري نحو مغناك قاصدا من بلادي

ليس تقضي لنا الحوائج إلا عند باب الحوائج المعتاد

عند بحر الندي ابن جعفر موسي عند باب الرجاء جد الجواد (1)

و خمسها الخطيب عباس البغدادي بقوله:

لم تزل للانام تحسن صنعا و تجير الذي أتاك و ترعي

و إذا ضاقت الفضا بي ذرعا يا سمي الكليم جئتك أسعي

و الهوي مركبي و حبك زادي

أنت غيث للمجدبين و لو لا فيض جدواكم الوجود اضمحلا

قسما بالذي تعالي وجلا ليس تقضي لنا الحوائج إلا

عند باب الرجاء جد الجواد

و ممن نظم في ذلك شاعر النبوغ و العبقرية المرحوم السيد عبد الباقي العمري بقوله:

لذ و استجر متوسلا إن ضاق أمرك أو تعسر

بأبي الرضا جد الجوا د محمد موسي بن جعفر (2)

لقد كان الامام موسي في حياته مفزعا و ملجأ لعموم المسلمين و كذلك كان بعد وفاته حصنا منيعا لمن استجار به لأن اللّه عز اسمه قد منحه بقضاء3.

ص: 52


1- ديوان السيد مهدي آل بحر العلوم مخطوط بمكتبة العلامة السيد صادق آل بحر العلوم
2- ديوان عبد الباقي:ص 133.

حوائج المستجيرين بضريحه و الي ذلك أشار ثابت الواعظ في قصيدته التي مدح بها يحيي بن جعفر أبا الفضل بقوله:

و في الجانب الشرقي يحيي بن جعفر و في الجانب الغربي موسي بن جعفر

فذاك الي اللّه الكريم شفيعنا و هذا الي المولي الامام المطهر (1)

لقد اعتقد أغلب المسلمين أن اللّه يكشف البلاء،و يدفع الضر بالالتجاء الي ضريح الامام(ع)و روي الخطيب البغدادي قصة كان فيها شاهد عيان فقد رأي امرأة مذهولة قد فقدت رشدها،و هامت في تيار من الهواجس و الهموم لأنها أخبرت أن ولدها قد ارتكب جريمة،و ألقت عليه السلطة المحلية القبض و أودعته في السجن،فأخذت تهرول نحو ضريح الامام مستجيرة به فرآها بعض الأوغاد ممن لا يؤمن بالامام فقال لها:

-الي أين؟ -الي موسي بن جعفر،فانه قد حبس ابني.

فقال لها بسخرية و استهزاء:

«إنه قد مات في الحبس».

فاندفعت تقول بحرارة و قد لذعها قوله:

«اللهم بحق المقتول في الحبس ان تريني القدرة».

فاستجاب اللّه دعاءها،فأطلق سراح ولدها،و أودع ابن المستهزئ في ظلمات السجون بجرم ذلك الشخص (2)و هكذا أراد اللّه أن يريها القدرة و يري ذلك الشخص كرامة الامام عنده،و أنا شخصيا قد ألمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي ففزعت إليه،و هرعت الي ضريحه بنية صادقة ففرج اللّه عني،و كشف عني ما ألمّ بي،و لا شك في هذهد.

ص: 53


1- النجوم الزاهرة.
2- تأريخ بغداد.

الظاهرة التي اختص بها الامام الا من هو مرتاب في دينه و اسلامه.

لقد آمن المسلمون بذلك منذ فجر تأريخهم،و اعتقدوا اعتقادا لا يخامره أدني شك في أن أهل البيت(ع)لهم المقام الكريم عند اللّه،و انه يستدفع بهم البلاء،و تستمطر السماء-كما قال جابر بن عبد اللّه في حديثه مع الامام علي بن الحسين(ع)-و قال الفرزدق في قصيدته العصماء التي مدح بها الامام زين العابدين:

من معشر حبهم دين و بغضهم كفر و قربهم منجي و معتصم

يستدفع السوء و البلوي بحبهم و يسترب به الاحسان و النعم

ان قبورهم ملاذ و ملجأ للسائلين يقول الجواهري:

و الناصبين بيوتهم و قبورهم للسائلين عن الكرام دليلا

و الطامسين من الجهالة غيهبا و المطلعين من النهي قنديلا (1)

لقد منحهم اللّه بألطافه،و خصهم بالمزيد من كرماته أحياء و أمواتا.8.

ص: 54


1- ديوان الجواهري 177/3-178.

عبقريّة و نبوغ

اشارة

ص: 55

ص: 56

و قبل أن نتحدث عن الذكاء المفرط الذي اتصف به الامام موسي(ع) في سنه المبكر،نعرض الي أن العوامل التربوية التي تتكون منها الشخصية الفذة قد ظفر الامام بأروع وسائلها،و معطياتها.

لقد نص علماء التربية و غيرهم علي العوامل المؤدية الي بناء الكيان التربوي،و الي النتائج السلوكية للشخص و هي:

العوامل التربوية

1-الوراثة

و ذهب علماء الوراثة و النفس الي أن الوراثة من الاسباب الفعالة في التكوين النفسي و النمو الفكري،و ان الذكاء،و سائر الوان النضوج العقلي للشخص يستند الي الوراثة استنادا مباشرا،فالفرع لا يقتصر في مشابهته لأصله علي مظاهره الشكلية،و انما يشابهه في خواصه الذاتية،و في أدق صفاته،يقول«هكسلي»:

«إنه ما من أثر أو خاصة لكائن عضوي الا و يرجع الي الوراثة أو الي البيئة،فالتكوين الوراثي يضع الحدود لما هو محتمل،و البيئة تقرر أن هذا الاحتمال سيتحقق،فالتكوين الوراثي إذن ليس الا القدرة علي التفاعل مع أية بيئة بطريق خاص..».

و معني هذا أن جميع الآثار و الخواص التي تكون في الأجهزة الحية من الانسان ترجع الي الوراثة او الي البيئة و المحيط الذي يعيش فيه الانسان، و أكد«مندل»هذه الظاهرة الوراثية التي تسمي بالوراثة الاقترانية فقال:

«ان كثيرا من الصفات الوراثية تنتقل بدون تجزئة أو تغيير من أحد الاصلين او منهما الي الفرع».

و قرر«جنجز»ذلك بقوله:«إن كل انسان لديه قوي موروثة

ص: 57

كامنة،و لكن اظهار أية واحدة يقف علي الظروف التي تحيط بهذه القوي عند نموها..».

و قد اكتشف الاسلام هذه الظاهرة،قبل أن يكتشفها علماء الوراثة و النفس،فقد أثر عن النبي(ص)أن رجلا من الانصار أقبل إليه،فقال له:

يا رسول اللّه،هذه بنت عمي،و أنا فلان ابن فلان..حتي عد عشرة آباء له،و هي بنت فلان حتي عد عشرة آباء لها،و ليس في حسبي و لا حسبها حبشي،و انها وضعت هذا الحبشي،فأطرق رسول اللّه(ص)ثم رفع رأسه و قال له:

«إن لك تسعة و تسعين عرقا،و لها تسعة و تسعون عرقا،فاذا اشتملت اضطربت العروق،و سأل اللّه عز و جل كل عرق منها أن يذهب الشبه إليه قم فانه ولدك،و لم يأتك إلا من عرق منك،أو عرق منها..» فانصرف الرجل آخذا بيد امرأته،و ولده،و في حديث آخر«تخيروا لنطفكم فان العرق دساس».

و أشار القرآن الكريم الي ما تنقله الوراثة من أدق الصفات،قال تعالي حكاية عن نبيه نوح:«رب لا تذر علي الارض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا الا فاجرا كفارا» (1)لقد دلت الآية بوضوح علي انتقال عقائد الكفر و الالحاد بالوراثة من الآباء الي أبنائهم...و قد حفلت موسوعات الحديث بالاخبار الكثيرة التي وردت عن أئمة أهل البيت(ع)و هي تدل علي واقع الوراثة و قوانينها و آثارها و مالها من الأهمية البالغة في حياة الانسان (2).

و علي ضوء قاعدة الوراثة نجزم بأن الامام موسي(ع)قد ورث منم.

ص: 58


1- سورة نوح:آية 26.
2- النظام التربوي في الاسلام.

آبائه(ع)جميع صفاتهم التي امتازوا بها علي سائر الناس من الكرم و السخاء و الحلم و الرحمة و حب الخير،و البر بالناس،و التفاني في سبيل الصالح العام.

2-الأسرة

إن الأسرة احدي العوامل الاساسية في بناء الكيان التربوي،و ايجاد عملية التطبع الاجتماعي،فلها الأثر التام في تكوين شخصية الطفل،و اكسابه العادات التي تبقي ملازمة له طوال حياته،فان الطفل مقلد للغير في عاداته و سلوكه،يقول ما ندر:

«إن الطفل في أصغر ما يلزمه من العادات،و في أهم الخصائص العقلية،و في الموقف العام الذي يقفه من الناس،و في وجهة النظر العامة التي ينظر بها الي الحياة أو العمل في كل هذه الاشياء مقلد الي حد كبير،و قد يكون التقليد أحيانا شعوريا مقصودا،و لكنه في أغلب الحالات يكون لا شعوريا،فاذا منح الطفل بتقليده الاشخاص المهذبين ظل متأثرا باخلاقهم و عواطفهم، و ان هذا التأثير في اول الامر يعتبر تقليدا،و لكنه سرعان ما يصبح عادة و العادة طبيعة ثانية،و التقليد هو أحد الطريقين اللذين تكتسب بهما الخصائص الفردية،و تتكون بهما الاخلاق الشخصية» (1).

و علي هذا الرأي فالامام كان وحيدا في خصائصه و مقوماته لأنه نشأ في أسرة هي معدن التقوي،و خزنة الحكمة و العلم،و مختلف الملائكة،و مهبط الوحي و التنزيل،و إليها تنتهي كل مكرمة و فضيلة في الاسلام.

لقد نشأ الامام موسي في احضان أبيه الامام الصادق الذي ما عرف التأريخ الانساني نظيرا له في إيمانه و تقواه و سائر نزعاته عدا آبائه الأئمة

ص: 59


1- علم النفس في الحياة.

الطاهرين،و قد قال فيه تلميذه مالك بن أنس:«ما رأت عين،و لا سمعت أذن،و لا خطر علي قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق،علما و عبادة و ورعا»و قال عمرو بن المقدام:«كنت اذا نظرت الي جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين» (1)و قال الشهيد زيد بن علي(ع):

«في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج اللّه به علي خلقه،و حجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من تبعه و لا يهتدي من خالفه» (2)و قد سكب هذا الامام العظيم في نفس ولده موسي جميع مثله و نزعاته حتي صار بحكم نشأته و تربيته من أفذاذ الفكر الاسلامي و من ابرز أئمة المسلمين.

3-البيئة

و أجمع المعنيون في البحوث التربوية علي أن البيئة من أهم العوامل التي تعتمد عليها التربية فهي التي تكون في نفس الطفل الغرائز و العادات،فاذا كانت سليمة حسنت آثارها،و اذا كانت ملوثة بالجرائم و الانحراف فان النشيء حتما يصاب بعاهاتها و آفاتها.

إن الانسان لا يخضع في سلوكه لتكوينه الداخلي فحسب،و انما يخضع للعوامل الخارجية التي تتفاعل معه،و تؤثر فيه،و بذلك تطبع البيئة آثارها في دخائل الذات،و اعماق النفس،و بها تحقق درجة عالية من التكامل الاجتماعي فيما اذا حسنت.

ان استقرار البيئة الاجتماعية،و عدم اضطراب الأسرة لها دخل كبير في استقامة سلوك النشيء و وداعته و سلامته من الانحراف،و قد بحثت مؤسسة

ص: 60


1- تهذيب التهذيب 104/2.
2- المناقب 147/2.

اليونسكو في هيئة الامم المتحدة عن المؤثرات غير الطبيعية في نفسية الطفل و بعد دراسة مستفيضة قام بها الاخصائيون ادلوا بما يلي:

«مما لا شك فيه ان البيئة المستقرة سيكولوجيا،و الاسرة الموحدة التي يعيش اعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه تكيف الطفل من الناحية العاطفية،و علي هذا الاساس يستند الطفل فيما بعد في تركيز علاقاته الاجتماعية بصورة فرضية،أما إذا شوهت شخصية الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع» (1).

و كانت البيئة التي عاش فيها الامام بيئة دينية تسودها القيم الانسانية و المثل العليا،و اما البيت الذي عاش فيه فقد كان معهدا من معاهد الفضيلة و مدرسة من مدارس الايمان و التقوي،قد غمرته المودة،و عدم الكلفة و اجتناب هجر الكلام و مره و بذلك فقد توفرت للامام جميع عناصر التربية الرفيعة.

ذكاء و نبوغ

و قسم علماء النفس الذكاء الي نوعين،الذكاء الاجتماعي،و الذكاء المجرد،و قالوا:في التفرقة بينهما،إن الذكاء الاجتماعي يتمثل في فهم الناس فهما صحيحا،و السلوك معهم بحكمة و روية،و الذكاء المجرد قوامه فهم المدركات الكلية و الرمزية التي منها فهم المذاهب العلمية و التمييز بين الصحيح منها و السقيم (2).

ص: 61


1- أثر الأسرة و المجتمع في الاحداث الذين هم دون الثالثة عشر، مؤسسة اليونسكو ص 35.
2- مجلة حياتك العدد 157/6 مقال للبروفسور«ثورندك».

و قد جمع الامام موسي في سنه المبكر بين هذين النوعين و ذلك في فهمه للناس و سلوكه معهم بالحكمة و الروية،و ادراكه لحقائق الامور،و معرفته بخفايا الأشياء التي لم يدركها كبار العلماء.

و هناك ظاهرة تملك القلوب اعجابا و دهشة و هي احاطة الامام موسي(ع) في سنه المبكر بأنواع من العلوم و المعارف مع ان المرحلة الاولي من سني حياة الانسان لا تساعده علي ذلك،و لا يمكن تعليل هذا الامر إلا بما تلتزم به الشيعة،و تجمع عليه من ان الامام في جميع مراحل حياته لا بد ان يكون أعلم أهل عصره،و اكثرهم دراية،و احاطة بجميع ما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها،و ان علمه إلهامي لا كسبي كما هو الحال في الأنبياء.

و لم يختص الامام موسي بهذه الظاهرة فقد شاركه فيها جميع أئمة أهل البيت(ع)فقد كان حفيده الجواد اصغر الأئمة سنا،و قد رجعت إليه الشيعة،و قالت:بامامته بعد وفاة أبيه الرضا(ع)و كان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين،و قد عقد له المأمون مؤتمرا علميا،و عهد الي كبار الفقهاء و العلماء ان يمتحنوه بأهم المسائل و اكثرها غموضا و تعقيدا فتقدموا إليه و سألوه فأسرع الي الجواب عنها و خاضوا معه مختلف العلوم و الفنون و قد أجاب عن كل ما سأل عنه،و خرج منهم ظافرا منتصرا قد ملك قلوبهم اعجابا به،و قد دان شطر منهم بامامته،و قد أجمع المترجمون للامام الجواد علي تدوين ذلك عنه.

و للتدليل علي مدي المقدرات العلمية الهائلة التي كان يتمتع بها الامام موسي في حال صباه نذكر بعض البوادر التي أثرت عنه في سنه المبكر.

ص: 62

مع أبي حنيفة

كان أبو حنيفة من الذاهبين الي(الجبر)و الداعين إليه،و بنص هذا الرأي علي أن الفعل الصادر من الانسان ليس مخلوقا له،و ليس صادرا منه باختياره،و انما هو مخلوق للّه،و صادر عن ارادة اللّه،و ان ارادة الانسان و قدرته لا مدخل لها في ايجاد أي فعل سواء أ كان صادرا منه باختياره أم مكرها عليه،و قد اجمعت الشيعة علي بطلان ذلك،و بعده عن الصواب و قد أثبت علماء الاصول زيفه،و قرروا بصورة وجدانية ان أي فعل اختياري لا بد أن يسبق بمقدمات ارادية و هي:

1-تصور الشيء في الذهن 2-ميل النفس له 3-الجزم بفائدته فاذا تمت هذه الجهات في أفق النفس تعلقت الارادة بالفعل،و سعي الانسان لايجاده أو الي الامر به،حسنا كان ذلك العمل او قبيحا (1)و ليس هناك أي قسر أو اجبار للانسان علي فعله.

و علي أي حال فان أبا حنيفة في طليعة الذاهبين الي«الجبر»و قد سافر

ص: 63


1- أوضح هذه الامور و أولاها بمزيد من البيان و الاستدلال الاستاذ آية اللّه العظمي السيد أبو القاسم الخوئي،في بحوثه في علم الاصول،و قد استدل بالادلة الحاسمة علي بطلان الجبر و التفويض و أثبت«الامر بين الامرين» و هو ما ذهب إليه أئمة أهل البيت و قد دونا ما أفاده في كتابنا«تقريرات آية اللّه الخوئي)في علم الاصول.

الي يثرب ليحاجج الامام الصادق(ع)الذي عرف بانه من خصوم هذه الفكرة،و لما انتهي إليها قصد دار الامام،و جلس في دهليز الدار ينتظر الأذن و بينما هو جالس اذ خرج صبي يدرج فبادره أبو حنيفة قائلا:

«أين يضع الغريب؟» فالتفت إليه الصبي،و قال له:علي رسلك،ثم جلس متأدبا،و استند الي الحائط،و اتبري إليه يجيبه عن سؤاله قائلا:

«توق شطوط الانهار،و مساقط الثمار،و أفنية المساجد،و قارعة الطريق و توار خلف الجدار،و لا تستقبل القبلة،و لا تستدبرها،وضع أين شئت»و قد بين له الاماكن التي يكره و يحرم فيها التغوط،فبهر أبو حنيفة و ذهل فانه لم يحسب أن هناك صبيا يملك هذه المقدرة العلمية،و اندفع قائلا:

-ما اسمك؟ -موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب و لما عرف أبو حنيفة أن الصبي فرع من دوحة النبوة و الامامة اطمأنت نفسه،و تقدم إليه بالسؤال الذي أعده للامام الصادق قائلا:

«يا غلام ممن المعصية؟هل هي من اللّه أو من العبد؟» و انطلق الامام فأجابه:

«لا تخلو أما أن تكون من اللّه،و ليس من العبد شيء،فليس للّه أن يأخذ العبد بما لم يفعل،و أما أن تكون من العبد و من اللّه،و اللّه أقوي الشريكين،فليس للشريك القوي أن يأخذ الضعيف بذنب هما فيه سواء، و إما أن تكون من العبد،و ليست من اللّه فان شاء عفا،و ان شاء عاقب و هو المستعين..».

و حفل هذا الاستدلال بمقتضي الحصر العقلي بجميع مقومات الأدلة العلمية الوثيقة التي لا تقبل الحل أو النقض.

ص: 64

و وقف أبو حنيفة مبهورا قد ملئت الدهشة اهابه فانطلق يرفع عقيرته قائلا:

«قد استغنيت،بما سمعت!!» و خرج منهزما قد بان عليه العجز،و لم يجتمع بالامام الصادق،و قد شاع رد الامام عليه و عجزه عن جوابه في الاوساط العلمية،و قد انبري بعض الشعراء الي نظم جوابه(ع)بقوله:

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها إحدي ثلاث معان حين نأتيها

اما تفرد بارينا بصنعتها فيسقط اللوم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لالهي في جنايتها ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (1)

لقد دلت هذه البادرة علي مدي ما وصل إليه الامام موسي من العلوم و المعارف في سنه المبكر،فقد ادرك ما لا تدركه أفكار كبار العلماء،حتي لم يستطع أبو حنيفة الوقوف أمام منطقه الفياض،و لم يجد طريقا أسلم له و لا احفظ لمكانته سوي الانهزام،و عدم الخوض معه بأي مسألة من المسائل و بهذا فقد ثبت أنه كان يملك رصيدا كبيرا من العلم و الذكاء ما لا يملكه أي انسان في هذا السن عدا من خص بالامامة من آبائه و ابنائه.

حكمه علي أبي الخطاب

كان محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي الشهير بأبي الخطاب من أئمة الملحدين في العالم العربي و الاسلامي،و قد أفسد علي الناشئة الاسلامية دينها فقد ابتدع مبدءا حارب فيه جميع النظم الاسلامية،و قد ذكر اصول دعوته

ص: 65


1- أمالي المرتضي 105/1-106،بحار الانوار 1049/4

القاضي أبو حنيفة المغربي فقال:

«و زعم أن جعفر بن محمد إله-تعالي اللّه عن قوله-و استحل المحارم كلها و رخص فيها،و كان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة أتوه و قالوا يا أبا الخطاب خفف علينا فيأمرهم بتركها حتي تركوا جميع الفرائض و استحلوا جميع المحارم،و ارتكبوا المحظورات و أباح لهم أن يشهد بعضهم لبعض بالزور،و قال من عرف الامام فقد حل له كل شيء كان حرم عليه» (1).

و قد ظهرت مبادئه الهدامة علي مسرح الكوفة،كما ظهر في وقت كان الاضطراب السياسي في أوجه و الدعوة العباسية تشق طريقها في ثبات و نجاح فساعدته الظروف أن يجمع حوله من أبناء الكوفة تلاميذ يلقنهم تعاليمه،و يرسم لهم خطط الدعوة و التجمع و الظهور (2)و لما بلغت بدعه و الحاده الامام الصادق(ع)تبرأ منه،و لعنه علي رءوس الاشهاد لانه كان من أصحابه و أتباعه ثم ارتد بعد ذلك،و قد هرع عيسي الشلقاني الي الامام الصادق عليه السّلام يسأله عن رأيه في هذا الملحد الخطير،فقال(ع):

«يا عيسي،ما منعك أن تلقي ابني-يعني الامام موسي-فتسأله عن جميع ما تريد؟».

فانعطف عيسي نحو الامام و كان آنذاك صبيا في المكتب فلما رآه عليه السلام انبري إليه مجيبا قبل أن يسأله قائلا له:

«يا عيسي،ان اللّه تبارك و تعالي أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا،و أخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبدا،و أعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم إياه،و إن أبا الخطاب ممن أعير الايمان3.

ص: 66


1- دعائم الاسلام:ص 64.
2- حركات الشيعة:ص 73.

تم سلبه إياه..».

و أكبر عيسي جواب الامام فقام إليه و ضمه و قبل ما بين عينيه و انطلق يقول:

«بأبي أنت و أمي،ذرية بعضها من بعض،و اللّه سميع عليم!!».

ثم قفل راجعا الي الامام أبي عبد اللّه فاخبره بالعجب الذي رآه، من مواهب الامام موسي(ع)فقال له أبو عبد اللّه:

«يا عيسي:إن ابني هذا لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم..».

ثم إنه أمر باخراج ولده من المكتب،و في ذلك الوقت أيقن عيسي بامامة موسي(ع)و انه ولي عهد أبيه و خليفته علي الناس أجمعين (1)، و من بوادر ذكائه المفرط أنه جاء الي أبيه فأجلسه في حجره و كان معه لوح فقال له:يا بني اكتب«تنح عن القبيح و لا ترده»فلما رسم ذلك قال له يا بني اجزه،فاندفع فورا يقول:«و من أوليته حسنا فزده»ثم القي له الامام شطرا آخر يطلب منه اجازته و هو«ستلقي من عدوك كل كيد» فأجازه«إذا كاد العدو فلا تكده»و فرح الامام بمواهب ولده و عبقريته فضمه إليه و هو يبدي اعجابه به قائلا:(ذرية بعضها من بعض) (2)و من آيات نبوغه في طفولته ما حدث به صفوان الجمال،قال:سألت أبا عبد اللّه(ع)عن صاحب هذا الامر؟-أي عن الحجة من بعده- فقال لي:

(صاحب هذا الامر لا يلهو و لا يلعب) يقول صفوان:بينما يحدثني عن ذلك،إذ أقبل أبو الحسن موسي2.

ص: 67


1- البحار:237/11.
2- المناقب:380/2.

و هو صبي يافع و معه بهمة عناق (1)و هو يخاطبها قائلا:اسجدي لربك فأخذه أبو عبد اللّه(ع)و ضمه إليه و هو يقول له:

(بأبي أنت و أمي من لا يلهو و لا يلعب!!) (2).

نسوق هذه البوادر و هي تكشف جانبا كبيرا من نبوغه و ذكائه و كأنه بهذا الذكاء العجيب لم يمر في مرحلة من مراحل الطفولة.1.

ص: 68


1- البهمة:الواحدة من أولاد الضان.
2- البحار:236/11.

في جامعة الإمام الصّادق

اشارة

ص: 69

ص: 70

و كان من أهم ما عني به الاسلام في رسالته المشرقة نشر الوعي الثقافي و اشاعة العلم بين الناس،و من أجل ذلك جعل طلب العلم فريضة دينية يتحتم علي المسلمين القيام بها لتطوير حياتهم في المجالات الاقتصادية و السياسية و جعلهم أمة صالحة تتوفر فيهم القيادة الرشيدة لشعوب العالم و أممه.

ان الاسلام يؤمن بالعلم،و يؤمن بمقدرته الخلافة في صنع الحضارة الانسانية،و انه لا يمكن للانسان أن يصل الي أهدافه السليمة في بناء مجتمعه إلا علي أساس من الوعي العلمي القائم علي الفهم،و التعقل لحقائق الأمور و من ثمّ فقد جعل الاسلام التسلح بالعلم ضرورة فردية و اجتماعية.

و قد قام أئمة أهل البيت(ع)بدور إيجابي في بعث الحركة العلمية و تطويرها في دنيا العرب و الاسلام،بالرغم من المضايقات الشديدة التي كانوا يلاقونها من حكام عصورهم،و من أبرز الفعاليات التي بذلوها في هذا السبيل تشكيل جامعة علمية تهدف الي بسط العلم بجميع أنواعه و تهدف الي تحرير افكار المسلمين من رواسب الجهل و الجمود،و نعرض فيما يلي الي بعض شئونها.

المؤسس الأول

و المؤسس الأول لهذه الجامعة العلمية الكبري الامام امير المؤمنين الرائد الأول للعلم و التطور في الاسلام،و قد جهد علي نشر العلوم و تثقيف المسلمين و قد اتخذ جامع الكوفة مدرسة له،فكان يلقي من علي منبره خطبه الذهبية الحافلة بعلم الاقتصاد و السياسة و الادارة و الفلسفة و الحكمة،و اصول التربية الواعية الهادفة الي اقامة حسن السلوك و الاخلاق،و قد خص اصحابه و حواريه بعلومه النيرة المستمدة من علوم النبي العظيم(ص)فقد أخذوا منه علم

ص: 71

الكلام و التوحيد و علم الفقه و الشريعة و التفسير،و علوم البلاغة و غيرها،و قد أمدوا العالم الاسلامي بمؤلفاتهم و تراثهم،فكان منهم عبد اللّه بن عباس حبر الامة،و المرجع الكبير لعلوم القرآن،و منهم أبو الأسود الدؤلي الاستاذ الاول في علم النحو،و منهم أبو رافع الذي هو أول من صنف علم المغازي و السير في الاسلام (1)و هو صاحب كتاب السنن و الاحكام و القضاء (2)و كانت الصحابة تكبر هذا الكتاب،و تعظمه (3)الي كثير من أمثال هؤلاء العلماء الذين أضاءوا الحياة الفكرية في الاسلام و قام الامام الحسن(ع)ريحانة الرسول و سبطه الاول بعد أبيه بتنمية تلك المؤسسة العلمية و رعايتها،و لكنها انتقلت من الكوفة الي يثرب بعد غدر أهل العراق به و قد اتخذ(ع)الجامع النبوي معهدا له فكان يلقي به محاضراته العلمية،و قد ذكر رواة الأثر بعض اعلام تلامذته و رواة حديثه و هم:

الحسن المثني،و المسيب بن نجبة،و سويد بن غفلة،و العلا بن عبد الرحمن،و الشعبي،و هبيرة بن بركم،و الاصبغ بن نباتة،و جابر بن خلد،و أبو الجواز،و عيسي بن مأمون بن زرارة،و نفالة بن المأموم، و أبو يحيي عمير بن سعيد النخعي،و أبو مريم بن قيس الثقفي،و طحرب العجلي،و اسحاق بن يسار والد محمد بن اسحاق،و عبد الرحمن بن عوف و سفين بن الليل،و عمر بن قيس الكوفيون (4).

و قد ازدهرت يثرب في ذلك العصر فكانت من أخصب البلاد الاسلامية علما و أدبا و ثقافة.

و انبري الامام الحسين(ع)بعد وفاة أخيه الي رعاية ذلك المعهد،ر.

ص: 72


1- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام(ص 232).
2- اعيان الشيعة /1القسم الثاني(ص 34-35).
3- رجال النجاشي(ص 5).
4- حياة الامام الحسن 280/2 نقلا عن تأريخ ابن عساكر.

و تغذية طلابه بأنواع العلوم إلا أنه لم يطل معهم العهد فقد ابتلي بطاغية زمانه يزيد بن معاوية،و امتحن به امتحانا عسيرا،فقد اعلن يزيد الكفر و الالحاد فرأي(ع)أن الواجب الديني يحتم عليه أن يفدي دين جده بدمه الغالي، و أن يقدم الكواكب من ابنائه و أهل بيته ضحايا في سبيل كلمة التوحيد و انقاذ المسلمين من جور الامويين و بطشهم،و قد سجل(ع)بذلك أروع تضحية في سبيل الحق و المبدأ لم يشاهد التأريخ الانساني أسمي و لا أنبل منها.

و بعد شهادة أبي الضيم انصرف الامام ولده علي بن الحسين (1)الي العبادة فكان يصوم نهاره،و ينفق ليله متعبدا حتي صار كالشن البالي من كثرة عبادته،بالاضافة الي الاحزان الموجعة التي تنتابه في كل فترة من حياته علي ما حل بأبيه من الرزايا و الخطوب،فكانت فاجعة كربلا ماثلة امامه،و هو غارق في تيار من الآلام و الأحزان،و قد عد احد البكائين الخمس اللذين مثلوا الأسي و اللوعة في دنيا الوجود،و مع هذه الآلام المبرحة التي لم تفارقه،فقد قام(ع)بدور مهم في تزويد العلماء و الرواة بأحاديثه في مختلف العلوم و الفنون فقد روي عنه اولاده محمد و زيد و عبد اللّه و أبو سلمة بن عبد الرحمن و طاوس بن كيسان،و أبو الزناد،و عاصم بن عمر بن قتادة،و عاصم بن عبيد اللّه،و القعقاع بن حكيم،و زيد بن اسلم و الحكم بن عتيبة،و حبيب بن أبي ثابت،و أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل،و مسلم البطين،و يحيي بن سعيد الانصاري،و هشام بن عروة7.

ص: 73


1- قال الزهري:ما رأيت قرشيا افضل من علي بن الحسين،و قال أيضا ما رأيت أحدا كان افقه منه،و قال ابن وهب عن مالك لم يكن في أهل بيت رسول اللّه(ص)مثل علي بن الحسين. تهذيب التهذيب 305/7.

و علي بن زيد بن جدعان و آخرون (1).

لقد روي عنه هؤلاء الرواة مختلف العلوم.و رووا عنه«الصحيفة السجادية»التي هي انجيل آل محمد(ص)و ذلك لما حوته من الثروات الفكرية المتميزة بوضع قواعد الاخلاق،و أصول الفضائل،و علوم التوحيد و غيرها.

و رووا عنه«رسالة الحقوق»التي هي أروع رسالة ألفت في الاسلام فقد وضعت الاسس الخلاقة لحقوق الدولة علي الشعب،و حقوق الشعب علي الدولة،و حقوق المسلمين بعضهم علي بعض،كما صاغت البرامج العامة لاصول التربية و انواع السلوك و آداب التعليم،و حقوق المعلم علي المتعلمين الي غير ذلك من الحقوق التي لا غني للناس عنها في حياتهم الفردية و الاجتماعية.

و رووا عنه الحكم الصائبة و الآراء القيمة و الامثال السائرة،و بذلك فقد ساهم الامام في بناء الحياة العلمية،و تطوير الحياة الفكرية في الارض.

و قام الامام محمد الباقر(ع) (2)بعد وفاة أبيه برعاية تلك المؤسسة الدينية و تزويد علمائها و طلابها بعلوم الاسلام و آدابه،و قد ازدهرت في عصره معاهد العلم،و التف حوله العلماء ينتهلون من نمير علومه،و كان1.

ص: 74


1- تهذيب التهذيب 305/7.
2- لقب بالباقر لتبحره في العلم،و قد لقبه بذلك النبي(ص)قبل أن يولد عليه السلام كما في حديث جابر بن عبد اللّه الانصاري ان الرسول(ص) قال له:(يوشك أن تبقي حتي تلقي ولدا لي من الحسين يقال له محمد يبقر العلم بقرا فاذا لقيته فاقرأه مني السلام)جاء ذلك في الفصول المهمة لابن الصباغ(ص 193)و قريب منه جاء في عيون الاخبار لابن قتيبة 212/1.

المرجع الوحيد للعالم الاسلامي في عصره لعلوم الشريعة،و فيه يقول مالك الجهني:

إذا طلب الناس علم القرآن كانت قريش عليه عيالا

و ان فاه فيه ابن بنت النبي تلقت يداه فروعا طوالا

نجوم تهلل للمدلجين فتهدي بأنوارهن الرجالا (1)

و كان علماء عصره يتصاغرون أمامه (2)اعترافا منهم بسمو منزلته العلمية التي لا يدانيها أحد.

و روي عنه ثقاة الرواة طاقات كبيرة من فقه اهل البيت(ع)أمثال زرارة بن أعين الذي قال فيه الامام الصادق(ع):«لو لا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب» (3)و محمد بن مسلم،و قد سمع منه ثلاثين الف حديث (4)و أبو بصير،و قد قال الامام الصادق فيه و في اخوانه:«لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست» (5)و عبد الملك بن أعين،و قد دعا له الامام الصادق،فقال اللهم ان أبا الضريس كنا عنده خيرتك من خلقك،فصيره في ثقل محمد صلواتك عليه يوم القيامة» (6)و روي عنه عمر بن دينار و هو من رجال الصحاح الستة،و الاعرج و الزهري و ابو جهضم موسي بن سالم،و القاسم بن الفضل،و الاوزاعي،و ابن جريح،و الاعمش و شيبة بن نصاح،و عبد اللّه بن أبي بكر،و عمر بن حزم،و عبد اللّه7.

ص: 75


1- الاتحاف بحب الاشراف ص 52.
2- مرآة الجنان 248/1.
3- رجال الكشي ص 88.
4- رجال الكشي ص 112.
5- رجال الكشي ص 113.
6- رجال الكشي ص 117.

ابن عطاء،و بسام الصيرفي،و حرب بن سريج،و حجاج بن أرطاة، و محمد بن سوقة،و مكحول بن راشد،و معمر بن بسام (1)و غيرهم، و قد ازدهرت الحياة العلمية،و نمت في دوره جامعة أهل البيت(ع)التي أمدت العالم الاسلامي بجميع مقومات النهضة الفكرية.

في عهد الامام الصادق

و فجّر الامام الصادق(ع)ينابيع العلم و الحكمة في الارض،و فتح للناس أبوابا من العلوم لم يعهدوها من قبل،و قد ملأ الدنيا بعلمه-كما قال الجاحظ- (2)و نقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان،و انتشر صيته في جميع البلدان-كما أدلي بذلك ابن حجر- (3).

و من أبرز الفعاليات التي بذلها الامام في نشر العلم و اشاعته بين الناس تنميته لجامعة أهل البيت،و مدها بعناصر الحياة و البقاء،و نظرا لدوره الايجابي في اتساعها و انطلاقها من مستوي خاص الي مستوي عال بلغت به القمة من بين المعاهد و الجامعات العلمية في جميع العصور،و لهذا فقد نسبت إليه،و أضيفت له.

لقد عملت جامعة الامام الصادق علي ايقاظ الفكر البشري،و بلورة العقلية الاسلامية،و تطوير المجتمع الانساني،و قد انتجت صفوة العلماء، و قادة المفكرين و الملهمين،و قد جهدوا علي نشر العلم بجميع أنواعه،و ببركة جهودهم نضجت الحياة الفكرية في ذلك العصر،و استحق أن يمنح و سام

ص: 76


1- تهذيب التهذيب 350/9.
2- رسائل الجاحظ للسندوبي ص 106.
3- الصواعق المحرقة ص 120.

العصر الذهبي في الاسلام.

و أدلي بعض الباحثين عن مدرسة الامام بما نصه:

«و الحقيقة ان مدرسة الامام جعفر الصادق الفكرية قد انجبت خيرة المفكرين،و صفوة الفلاسفة،و جهابذة العلماء،و اذا كانت هناك حقيقة يجب أن تقال فهي:أن الحضارة الاسلامية و الفكر العربي مدينان لهذه المدرسة الفكرية بالتطور و الرقي و الخلود،و لعميدها الصادق بالمجد العلمي و التراث الثمين».

لقد عملت مدرسة الامام علي الانطلاق الفكري،و نشر الوعي العلمي و قد جندت جمهرة كبيرة من العلماء للقيام بتثقيف المسلمين،و تهذيبهم، و تقديمهم في الميادين العلمية،و فيما يلي عرض موجز لشؤون هذا المعهد الكبير في عهد الامام الصادق(ع).

عوامل النمو و الازدهار

أما العوامل التي أدت الي نمو مدرسة الامام الصادق و انطلاقها-ففيما نحسب-هي ما يلي:

1-إن العالم الاسلامي في عهد الامام الصادق(ع)كان يرزح بالفتن و الاضطراب،و يموج بالأهواء الفاسدة و النزعات الخاصة،قد سادت فيه الأحزاب التي أدت الي تفكك المجتمع،و تفلل قطعاته،قد اشتعلت نار الحرب في جميع حواظره و أقاليمه،و ذلك بسبب انهيار الامبراطورية الأموية و قيام الدولة العباسية و قد انصرف المسلمون بسبب تلك الأحداث الجسام عن العلوم و المعارف و اتجهوا الي تلك الأحداث الرهيبة فهم ما بين مؤيد للعهد المباد و بين مؤيد للحكم الجديد،و قد انشغلوا بالدفاع عن افكارهم

ص: 77

السياسية عن طلب العلم و التوجيه الديني.

و اغتنم الامام هذه الفرصة السانحة فانبري يعمل مجدا في نشر الثقافة الاسلامية التي هي جزء من رسالة الاسلام،و قد وجد المسلمون من جديد الفرصة للرجوع الي ظلال الاسلام الذي جعل طلب العلم فريضة من فرائض الدين،و وجدوا في حفيد الرسول الأعظم القائد الموجه لبناء كيانهم الحضاري و العلمي،فاقبلوا علي مدرسته ينتهلون من نميرها.

2-ان الامام الصادق(ع)كان بمعزل عن التدخل في أي شأن من شئون الدولة الأموية و العباسية،فلم يباشر عملا ايجابيا يصطدم بأهداف احدي الدولتين،أو يمس الوتر الحساس من اهدافهم السياسية،فقد كان بمعزل عن الجميع،و قد أحبوه و تطلبوا رضاءه،و لم تراقبه السلطة المحلية أو تضيق عليه،و تمنعه من نشر علومه،و قد وجد المجال أمامه فسيحا لفتح أبواب مدرسته و تغذية طلابه بسائر الوان العلوم و المعارف،و قد سارع كبار العلماء و المحدثين و الرواة الي الانتماء لمعهده،و قد وجد(ع)بهم خير عون لأداء رسالته الاصلاحية الخالدة التي بلورة عقلية المجتمع الاسلامي، و أنقذته من رواسب الجهل و الجمود.

3-و كان من عوامل النمو لهذا المعهد الكبير أن الامام الصادق(ع)،هو الذي كان يتولي ادارة شئون هذا المعهد،و يقوم برعايته،و قد أجمع المسلمون علي اختلاف طوائفهم و نزعاتهم أنه من ألمع أئمة المسلمين في علمه و فقهه و مواهبه،و من الطبيعي ان لشخصية العميد الأثر التام في نجاح المدرسة و ازدهارها،و بذلك فقد توفرت جميع العوامل الحساسة لنجاح مدرسة الامام و نموها.

ص: 78

المركز العام

و اختار الامام يثرب دار الهجرة،و مهبط الوحي فجعل فيها معهده الكبير و مدرسته العظمي،و بفضل جهوده و مساعيه كانت يثرب حاظرة من حواظر العلم في الاسلام،و معهدا من معاهد العلوم.

أما محل التدريس فكان-بالطبع-الجامع النبوي فيه كان الامام يلقي محاضراته و دروسه التي خاض بها جميع الفنون،و في بعض الاحيان كان يلقي دروسه في بهو بيته،و قد ازدهرت يثرب بطلابه و استعادت نشاطها و مكانتها في توجيه المجتمع الاسلامي.

البعثات العلمية

و لما فتح الامام أبواب مدرسته أسرع الي الانتهاء إليها جميع رواد الفضيلة و العلم من شتي الاقطار الاسلامية،و ذلك للانتهال من علوم الامام و تهذيب نفوسهم بأحكام الدين،و تعاليمه،و مضافا لذلك فان الانتماء لمدرسة أهل البيت من موجبات الشرف و الفخر عند المسلمين،و تحدث الاستاذ السيد عبد العزيز الأهل عن البعثات العلمية التي التحقت بمدرسة الامام(ع)فقال:

«و أرسلت الكوفة.و البصرة،و واسط،و الحجاز،الي جعفر بن محمد افلاذ اكبادها من كل قبيلة،من بني أسد،و من غني، و مخارق،وطي،و سليم،و غطفان،و غفار،و الأزد،و خزاعة،و خثعم و مخزوم،و بني ضبة،و من قريش،و لا سيما بني الحارث بن عبد المطلب

ص: 79

و بني الحسن بن علي..و رحل جمهور من الأحرار،و ابناء الموالي من أعيان هذه الأمة من العرب،و فارس،و لا سيما مدينة قم..» (1).

لقد اشتركت البلاد الاسلامية في ارسال ابنائها و أفلاذ اكبادها الي مدرسة الامام للانتهال من نمير علومه،و اخذ احكام الدين من حفيد النبي العظيم(ص)،و قد حقق المجتمع الاسلامي بذلك نصرا رائعا في تأييد الحركة العلمية،و المساهمة في بناء كيانها.

عدد طلابها

و لما فتحت مدرسة الامام أبوابها لجميع ابناء المسلمين بادر جمهور غفير من رواد العلم الي الالتحاق بها فكان عددهم فيما ذكر الرواة اربعة اربعة آلاف طالب (2)و هو عدد ضخم لم يعهد له نظير في أي معهد علمي في ذلك العصر،و كان فيهم من كبار العلماء و المحدثين الذين اصبح بعضهم أئمة و رؤساء لبعض المذاهب الاسلامية،و قد نقلوا عن الامام من العلوم و المعارف ما سارت به الركبان،و انتشر ذكره في جميع البلدان» (3).

و قد صنف الحافظ ابو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي كتابا في اسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الامام الصادق فذكر ترجمة اربعة آلاف راو منهم (4)و قال المحقق في(المعتبر):و في زمانه انتشر عنه-اي عن الامام الصادق-من العلوم الجمة ما بهر به العقول،و روي عنه جماعة

ص: 80


1- جعفر بن محمد ص 59.
2- الارشاد،اعلام الوري،المعتبر،الأنوار،الذكري.
3- الصواعق المحرقة ص 120.
4- تاريخ الكوفة ص 40.

من الرجال ما يقارب اربعة آلاف رجل،و قال السيد محمد صادق نشأة:

«كان بيت جعفر الصادق كالجامعة يزدان علي الدوام بالعلماء،الكبار في الحديث و التفسير و الحكمة و الكلام فكان يحضر مجلس درسه في اغلب الأوقات الفان و بعض الاحيان اربعة آلاف من العلماء المشهورين،و قد الف تلاميذه من جميع الأحاديث و الدروس التي كانوا يتلقونها في مجلسه مجموعة من الكتب تعد بمثابة دائرة علمية للمذهب الشيعي أو الجعفري..» (1)و قد اتسعت بذلك الحركة العلمية في ذلك العصر،و امتدت موجاتها الي العصور الصاعدة و هي تبث النور و الهدي و الصلاح لجميع المسلمين.

فروعها:

و قفل راجعا الي وطنه اغلب من تخرج من مدرسة الامام و ظفر بثروة علمية،و حينما استقروا في أوطانهم قاموا بدور مهم في بسط الثقافة الاسلامية و تأسيس المعاهد العلمية و الاندية الدينية التي عملت علي تهذيب النفوس و رفع مستوي الاخلاق،و اعظم تلك المعاهد التي أسست هو المعهد الديني الكبير الذي أقيم في جامع الكوفة فقد التحق به من كبار المتخرجين من مدرسة الامام تسعمائة عالم كما حدثنا بذلك الحسن بن علي الوشاء (2)قال:أدركت في

ص: 81


1- الإمام الصادق و المذاهب الأربعة 62/1.
2- الحسن بن علي بن زياد الوشاء بجلي كوفي،كان من وجوه هذه الطائفة و من عيونها اختص بالامام الرضا عليه السلام،وعد من خلص أصحابه،ألف عدة كتب منها كتاب(ثواب الحج)و(المناسك) و(النوادر)و(مسائل الرضا)و غيرها جاء ذلك في التعليقات(ص 103)

هذا المسجد-يعني مسجد الكوفة-تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر ابن محمد» (1)و بذلك فقد اتسعت الحركة العلمية اتساعا هائلا حتي شملت جميع المناطق الاسلامية،و قد أدلي بذلك الاستاذ السيد مير علي الهندي بقوله:

(و لا مشاحة ان انتشار العلم في ذلك الحين قد ساعد علي فك الفكر من عقاله،فاصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الاسلامي و لا يفوتنا أن نشير الي أن الذي تزعم تلك الحركة هو حفيد (علي بن أبي طالب)المسمي بالامام(جعفر)و الملقب(بالصادق) و هو رجل رحب أفق التفكير،بعيد أغوار العقل،ملمّ كل الإلمام بعلوم عصره،و يعتبر في الواقع أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الاسلام،و لم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب،بل كان يحضرها طلاب الفلسفة و المتفلسفون من الانحاء القاصية..» (2).

و قد انتهلت من نمير علومه كثير من الاسر العلمية في الكوفة و عرفت بعد ذلك بالفقه و الحديث كبيت آل حيان التغلبي،و آل أعين،و بني عطية و بيت بني دراج و غيرهم من الأسر العلمية (3)و قد احتفت به هذه الأسر اثناء اقامته بالكوفة أيام السفاح و قد استقر بقاؤه فيها سنتين،و كان منزله في بني عبد القيس،و قد ازدحمت عليه الشيعة تستفتيه،و تسأله عن احكام دينها،و يحدثنا محمد بن معروف الهلالي عن كثرة زحام الناس و اقبالهم عليه قال:

«مضيت الي الحيرة الي(جعفر بن محمد)فما كان لي فيه حيلة من8.

ص: 82


1- المجالس السنية(ج 5 ص 28).
2- جعفر بن محمد ص 59.
3- تأريخ الكوفة ص 408.

كثرة الناس فلما كان اليوم الرابع رآني فأدناني،و تفرق الناس عنه،و مضي يريد قبر امير المؤمنين(ع)فتبعته،و كنت اسمع كلامه و أنا معه أمشي..» و علي أي حال فان مدرسة الامام و سائر المنظمات العلمية التي تفرعت منها قد أقامت صروح العلم و الفضيلة في العالم الاسلامي.

الأخصائيون من طلابه

و تخصص الكثيرون من طلاب الامام في جملة من العلوم و الفنون فقد تخصص في الفلسفة و علم الكلام و مباحث الامامة هشام بن الحكم،و هشام ابن سالم،و مؤمن الطاق،و محمد بن عبد اللّه الطيار،و قيس الماصر،و غيرهم و تخصص في علم الفقه و اصوله و التفسير و سائر العلوم الدينية زرارة بن أعين و محمد بن مسلم،و جميل بن دراج،و بريد بن معاوية،و إسحاق بن عمار، و عبيد اللّه الحلبي و ابو بصير،و أبان بن تغلب،و الفضيل بن يسار.

و ابو حنيفة،و مالك بن أنس،و محمد بن الحسن الشيباني،و سفيان بن عيينة و يحيي بن سعيد،و سفيان الثوري،و أمثالهم،و تخصص في علم الكيمياء جابر بن حيان الكوفي و هو أشهر كيمياوي في العالم العربي-كما قال فانديك- و تخصص في حكمة الوجود و أسرار الخليقة المفضل بن عمر،كما تناول في كتابه الذي أملاه عليه الامام الصادق اغلب أبواب علم الطب فقد خاض فيه وظائف الاعضاء،و دوران الدورة الدموية،و الجراثيم المسببة للامراض و تشريح الانسان،و غيرها.

ان جامعة الامام الصادق(ع)بكل اعتزاز و فخر قد سبقت المعاهد العلمية في تأسيس الاختصاص بالدراسات العلمية.

ص: 83

تدوين العلوم

و حث الامام الصادق طلابه علي تدوين دروسه و محاضراته التي تناولت اغلب العلوم و الفنون،و ذلك خوفا عليها من الاضطراب و الضياع،و قد أكد الدعوة علي هذه الجهة في غير موطن.

روي أبو بصير قال:دخلت علي أبي عبد اللّه فقال:«ما يمنعكم من الكتابة؟!إنكم لن تحفظوا حتي تكتبوا،إنه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها».

و روي أبو بصير قال:سمعت أبا عبد اللّه يقول:«اكتبوا فانكم لا تحفظون حتي تكتبوا».

قال عاصم:«سمعت أبا بصير يقول:قال أبو عبد اللّه الصادق(ع) «اكتبوا فانكم لا تحفظون الا بالكتابة» (1).

و قد استجاب طلابه الي هذه الدعوة النيرة التي تحمل في اعماقها انارة الفكر الانساني،و اشاعة العلم و بسطه بين الناس،و قد اقبل اصحابه علي تدوين العلوم،فقد الف أبان بن تغلب.

1-كتاب معاني القرآن 2-كتاب القراءات (2)3-كتاب الفضائل 4-الاصول في الرواية 5-غريب القرآن

ص: 84


1- وسائل الشيعة،كتاب الشهادات:الباب الثامن.
2- فهرست ابن النديم:ص 308.

و ألف محمد بن علي البجلي الكوفي الشهير بمؤمن الطاق ما يلي:

1-كتاب الامامة 2-كتاب المعرفة 3-كتاب اثبات الوصية 4-كتاب الرد علي المعتزلة في امامة المفضول 5-كتاب في أمر طلحة و الزبير و عائشة 6-كتاب افعل،لا تفعل 7-المناظرة مع أبي حنيفة (1)و ألف هشام بن الحكم أبو محمد البغدادي في مختلف العلوم و الفنون و ذكر ابن النديم له سبعة عشر مؤلفا نذكرها في ترجمته عند عرض اصحاب الامام موسي(ع).

و ألف المفضل بن عمر كتاب(التوحيد)و هو من أجل الكتب الاسلامية فقد عرض فيه الي خلق الانسان و تكوينه و ما في اعضائه من الاسرار و الغرائب كما عرض فيه الي كثير من البحوث الطبية (2).

و ألف جابر بن حيان كتابا في علم الكيمياء يقع في الف ورقة تضمنت رسائل الامام التي بلغت خمسمائة رسالة (3)و كانت هذه الرسائل مصدرا خصبا لعلم الكيمياء،و استفاد منها علماء هذا الفن فائدة كبري،و قد أثني علي جابر و اكبر مجهوده جميع رجال العلم من المسلمين و المستشرقين و فيما يلي1.

ص: 85


1- فهرست ابن النديم:250،فهرست الشيخ الطوسي:121
2- علق عليه و شرحه شرحا وافيا صديقنا المغفور له الشيخ محمد الخليلي،و قد كشف ما فيه من العلوم و الاسرار و البحوث الطبية التي تتفق مع العلم الحديث و قد اسماه«أمالي الامام الصادق»يقع في جزءين.
3- الاعلام 186/1 الطبعة الأولي،مرآة الجنان 304/1.

كلمة رائعة للاستاذ عبد الرحمن بدوي أبدي اعجابه و اكباره بشخصية جابر التي هي إحدي شموع تلك المدرسة،و هذا نصها:

«لن يستطيع الباحث في تأريخ الفكر الاسلامي أن يجد شخصية أعرب و أخصب من شخصية جابر بن حيان،فهي شخصية أمعنت في الغموض،و اكتنفها السر حتي كادت ان تكون اسطورة،و تسامت في التفكير حتي ليقف المرء اليوم ذاهلا أمام ما تقدمه لنا من نظرات علمية فلسفية كلها عمق و كلها حياة،و أمام هذه الروح العامة التي تسودها روح التنوير و النزعة الانسانية التي تصبو الي اكتناه كل الأسرار،و تشعر بما يشيع فيها من قوي إلهية مبدعة فترتفع بالانسان الي مقام الألوهية،و يحدوها الأمل في التقدم المستمر الوثاب للانسانية في تطورها،و شخصية هذا حظها الروحي ستظل حية باستمرار لأنها من النماذج الحية أبدا للانسان السالك سبيله قدما نحو تحقيق(الصورة)العليا علي الأرض،و لن يستطيع البحث العلمي و الفيلولوچي و الحضاري أن يفرغ منها فراغا تاما مهما أنفق من جهد في هذا السبيل بل ستمضي في البعد كلما توغل في الطريق إليها،و سيزداد مقدارها كلما تلمس المرء نواحيها،و نحن اليوم أبعد ما نكون عن إدراكها إجمالا فضلا عن الاحاطة بخطوطها الرئيسية،و تياراتها التوجيهية..» (1).

و جابر بن حيان من أقطاب جامعة الامام،و من أعلامها النابهين الذين يعدون بحق من المؤسسين للحركة الثقافية في العالم الاسلامي و غيره.

و هناك جمع غفير من نوابغ تلاميذ الامام ألفوا في مختلف العلوم كزرارة و أبي بصير و اسماعيل بن أبي خالد و غيرهم،و قد ترجم فقيد الاسلام الشيخ آغا بزرگ نضّر اللّه مثواه في«الذريعة» (2)مأتي رجل4.

ص: 86


1- الالحاد في الاسلام ص 189.
2- الذريعة 301/6-374.

من مصنفي تلامذة الامام الصادق،و كانت تلك المؤلفات الضخمة دائرة معارف واسعة،و أصبحت مصدرا للمذهب الشيعي،و دليلا علي مدي ثروته العلمية و الفكرية.

اعتزاز و افتخار

و اعتز تلاميذ الامام بالحضور في مجلس درسه،و فخروا بذلك كثيرا و جعلوا الانتماء لمدرسته من المآثر التي تؤهلهم الي المراكز العليا في المجتمع الاسلامي،و ممن فخر بذلك أبو حنيفة فقد قال:

«لو لا السنتان لهلك النعمان» (1).

لقد اعتز أبو حنيفة بالأيام التي حضر فيها درس الامام،و جعلها من أفضل أدوار حياته العلمية،و تحدث مالك بن أنس عن استاذه الامام فقد قال فيه:

«ما رأت عين،و لا خطر علي قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق(ع)علما و عبادة و ورعا..» (2).

و تحدث عنه مرة أخري فقال:

«لقد كنت أري جعفر بن محمد،و كان كثير التبسم،فاذا ذكر عنده النبي(ص)اصفر لونه،و ما رأيته يحدث عن رسول اللّه(ص) الا علي طهارة،و لقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه الا علي ثلاث خصال:إما مصليا،و إما صامتا،و إما يقرأ القرآن،و لا يتكلم بما لا

ص: 87


1- الأعلام 186/1،التحفة الاثني عشرية ص 8.
2- التوسل و الوسيلة ص 52.

يعينه.و كان من العلماء و العباد الذين يخشون اللّه..» (1).

ان من الحق أن يعتز أبو حنيفة و مالك و أمثالهما بالانتماء لمدرسة الامام و بالحضور في مجلس أبحاثه،فانه(ع)المنبع الاصيل للعلوم التي ورثها من آبائه و من جده الرسول العظيم الذي فجر ينابيع العلم و الحكمة في الارض.

طابعها الخاص

إن جامعة الامام الصادق(ع)كان لها طابع خاص انفردت به عن بقية المؤسسات و هو الاستقلال الذاتي المتميز بعدم الارتباط بأي جهاز رسمي،فلم يكتب للسلطة أن تستخدمها في أي غرض من أغراضها السياسية إذ لم يكن لها أي سلطان عليها،فقد كانت تتمتع بالحرية الواسعة سواء في مناهجها التعليمية أو في مجالاتها الفكرية،و لم تتلق من السلطة الحاكمة أي دعم اقتصادي أو مادي،و انما كانت منفصلة عنها،و مبتعدة في سلوكها عن جميع المؤثرات الخارجية،فهي تسير بوحي من الروح الاسلامية المشرقة،و تسلك في طريق واضح بعيد عن الالتواء و الانحراف هدفها خدمة الأمة،و رائدها الحق.

و حاول المنصور أن يجلب الامام الصادق،و يكتسب وده و ثقة تلامذته و شيعته فكتب إليه:

«لم لا تخشانا كما يخشانا سائر الناس؟!».

فأجابه الامام عن خطته و سلوكه قائلا:

«ليس عندنا من الدنيا ما نخافك عليه،و ليس عندك من الآخرة ما نرجوك له..».

ص: 88


1- التوسل و الوسيلة ص 52.

لم يكن عند الامام أي شيء من حطام الدنيا حتي يخاف عليه من سلطان المنصور،و ليس عند المنصور من متع الآخرة حتي يرجوه و يتصل به،و سلك المنصور طريقا آخر فكتب الي الامام:

«إنك تصحبنا لتنصحنا».

فأجابه الامام:

«من أراد الآخرة فلا يصحبك،و من أراد الدنيا فلا ينصحك..» و بهذا المنطق الحافل بجميع مقومات الحق اعرب الامام عن سلوكه في الابتعاد عن السلطة و عدم التعاون معها،و تحدث الاستاذ أسد حيدر عن هذا الطابع النير الذي امتازت به مدرسة الامام بقوله:

«كان طابع مدرسة الامام الصادق الذي طبعت عليه،و منهجها الذي اختصت به-من بين المدارس الاسلامية-هو استقلالها الروحي، و عدم خضوعها لنظام السلطة،و لم تفسح المجال لولاة الأمر أن يتدخلوا في شئونها،أو تكون لهم يد في توجيهها و تطبيق نظامها،لذلك لم يتسنّ لذوي السلطة استخدامها في مصالحهم الخاصة،أو تتعاون في شئون الدولة و من المستحيل ذلك-و ان بذلوا جهدهم في تحقيقه-فهي لا تزال منذ نشأتها الأولي تحارب الظالمين،و لا تركن إليهم،كما لا تربطها و إياهم روابط الالفة،و لم يحصل بينها و بينهم انسجام،و بهذا النهج الذي سارت عليه،و الطابع الذي اختصت به،أصبحت عرضة للخطر فكان النزاع بينها و بين الدولة يشتد،و العداء يتضخم،فلا الدولة تستطيع التنازل لمنهج المدرسة فتكسب ودها،و تسعد بمعاونتها،و لا المدرسة في امكانها أن تتنازل لارادة الدولة،فتؤازرها،و تسير بخدمتها،و تتعاون معها،و كيف يكون ذلك؟و هي منذ نشأتها الأولي ترتبط بالثقلين كتاب اللّه،و عترة رسوله، و هما متلازمان متكاتفان لن يفترقا في أداء واجبهما لارشاد الأمة و هدايتها،

ص: 89

فالقرآن ينهي عن معاونة الظالمين،و الركون إليهم«و لا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون اللّه من أولياء ثم لا تنصرون» (1)و سارت علي هذا المنهج المشرق جميع المؤسسات العلمية التي تخضع في مناهجها و سلوكها لمدرسة الامام(ع)كجامعة النجف الاشرف،و جامعة قم فان كلا منهما يسيران علي وفق الأهداف الاصلية التي اعلنها الامام الصادق و اتخذها شعارا و منهجا لمدرسته من عدم الارتباط و التعاون مع السلطات الحاكمة.

فزع السلطة:

و فزعت السلطات الحاكمة من مدرسة الامام،و هالها اتساع نطاقها، و كثرة المنتمين إليها و هم يحملون علوم الامام،و يحدثون الناس عنها، و ينشرون فضائله،و مناقب أهل البيت(ع)و قد أقض ذلك مضاجع المنصور و خشي علي مصالحه السياسية،و خاف أن يفتتن الناس به-علي حد قوله- فعهد الي أبي حنيفة أن يسأل الامام بأعقد المسائل و اكثرها غموضا،و لنترك أبا حنيفة يحدثنا عن ذلك قال أبو حنيفة:

(ما رأيت افقه من جعفر بن محمد،لما أقدمه المنصور بعث الي فقال يا أبا حنيفة إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فيهأت له أربعين مسألة،ثم بعث الي جعفر و هو بالحيرة فأحضره فدخلت عليه،و جعفر بن محمد عن يمينه،فلما بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر

ص: 90


1- الامام الصادق و المذاهب الأربعة 15/3.

ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور فسلمت عليه،و أومأ فجلست ثم التفت إليه قائلا:

«يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة؟» قال(ع):نعم أعرفه ثم التفت إلي المنصور،و قال يا أبا حنيفة:الق علي أبي عبد اللّه مسائلك فجعلت الق عليه،فيجيبني،فيقول:أنتم تقولون:كذا،و أهل المدينة يقولون:كذا،و نحن نقول:كذا،فربما تابعنا،و ربما خالفنا،حتي أتيت علي الاربعين مسألة ما أخل منها بمسألة واحدة..» (1).

و دلت هذه البادرة علي مدي حنق السلطة و حقدها،و حذرها من الامام كما دلت علي مدي المقدرة العلمية الهائلة التي كان يتمتع بها الامام.

و قد عمد المنصور الي مكافحة مدرسة الامام،و التقليل من أهميتها، و عزل الإمام عن الأمة،فوجه نظره إلي مالك بن أنس،و أحاطه بكثير من التبجيل و التكريم ليجعله قبال الامام،و مرجعا للامة،و عهد إليه بوضع كتاب يحمل الناس بالقسر علي العمل به،و امتنع مالك من اجابته الا انه اجبره علي ذلك،و قال له:ضعه فما احد اليوم أعلم منك (2)فوضع مالك الموطأ،و أمر الرشيد عامله علي المدينة أن لا يقطع أمرا دون مالك، و كان الرشيد يجلس علي الأرض لاستماع حديثه (3).

و التزمت الدولة مالك،و سخرت جميع أجهزتها الدعائية لنشر مذهبه و حمل الناس عليه،كل ذلك لصرف الناس عن مذهب أهل البيت الذي علا أمره بسبب الامام جعفر الصادق(ع).ي.

ص: 91


1- تذكرة الحفاظ للذهبي.
2- شرح الموطأ للزرقاني 8/1.
3- مناقب مالك للزاوي.

كما بالغ الرشيد في تعظيم ابي يوسف و اكرامه لأنه تلميذ أبي حنيفة و ناشر مذهبه،و قد بلغ من مكانته عند الرشيد أنه ولاه منصب رئاسة القضاء،و لم يقلد ببلاد العراق و خراسان و الشام و مصر قاضيا الا باشارة أبي يوسف و أمره (1)و قال له الرشيد:

«يا أبا يعقوب لو جاز لي ادخالك في نسبي و مشاركتك في الخلافة المفضية إلي لكنت حقيقا به» (2).

و هكذا اخذت السلطة العباسية تسعي جاهدة الي تأسيس بعض المذاهب الاسلامية و اضفاء التكريم،و العناية البالغة علي أصحابها،و ارغام الأمة علي الأخذ بآرائها،و العمل بما تفتي به كل ذلك لصرف المسلمين عن مدرسة أهل البيت و مذهبهم،و قد فتح المنصور أبواب هذا الاضطهاد الفكري، و سار من بعده ملوك بني العباس يقتفون أثره في اخماد الوعي الديني المستمد من رسالة أهل البيت.

المناهج التعليمية:

اشارة

و تناولت محاضرات الامام و بحوثه القيمة جميع الفنون العلمية من النقلية و العقلية،و مذاهب الكلام،و الوان الآداب،و ضروب الثقافة العالية كعلم الفقه و الحديث،و علوم القرآن الكريم،و الطب،و الكيمياء،و النبات، و غيرها من العلوم التي لها الاثر التام في التقدم الاجتماعي،و من أبرز العلوم التي تناولها الامام بالبسط و التحليل الفقه الاسلامي بجميع ابوابه من العبادات و المعاملات و العقود و الايقاعات.

ص: 92


1- خطط المقريزي 144/4.
2- المكافأة لابن الداية ص 63.

و لم يقتصر الامام في بحوثه علي الناحية العلمية فقد توسع في محاضراته الي نشر الآداب الاجتماعية،و مكارم الأخلاق،و آداب السلوك و غيرها، و فيما يلي عرض موجز لبعضها:

مكارم الاخلاق

كان عليه السلام يحث أصحابه و شيعته علي التحلي بمكارم الاخلاق و محاسن الافعال ليكونوا قدوة صالحة الي المجتمع،و قد صدرت منه بهذا الصدد وصايا منها وصيته الي ولده الامام موسي،و قد جاء فيها:

«يا بني؟إنه من رضي بما قسم له استغني،و من مد يمينه الي ما في يد غيره مات فقيرا،و من لم يرض بما قسمه اللّه له اتهم اللّه في قضائه، و من استصغر زلة نفسه استكبر زلة غيره.

يا بني:من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته،و من سل سيف البغي قتل به،و من احتفر لأخيه بئرا سقط فيها،و من داخل السفهاء حقر،و من خالط العلماء وقر،و من دخل مداخل السوء أتهم.

يا بني،إياك أن تزدري بالرجال فيزدري بك،و إياك و الدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.

يا بني:قل الحق لك أو عليك.

يا بني:كن لكتاب اللّه تاليا،و للسلام فاشيا،و بالمعروف آمرا و عن المنكر ناهيا،و لمن قطعك واصلا،و لمن سكت عنك مبتدئا،و لمن سألك معطيا،و إياك و النميمة فانها تزرع الشحناء في قلوب الرجال،و إياك و التعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف.

يا بني:إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه،فان للجود معادنا و للمعادن

ص: 93

أصلا،و للاصول فروعا،و للفرع ثمرا،و لا يطيب ثمر الا بفرع،و لا فرع الا بأصل و لا أصل ثابت الا بمعدن طيب.

يا بني:إذا زرت فزر الاخيار،و لا تزر الفجار فانهم صخرة لا ينفجر ماؤها و شجرة لا يخضر ورقها،و أرض لا يطيب عشبها..» (1)و قد حفلت هذه الوصية بأعمال الخير،و ألمت بمكارم الاخلاق، و احتوت علي اسس الفضائل و الآداب،و كان عليه السلام-متصلا-يزود ابناءه و أصحابه بمثل هذه النصائح القيمة و الدروس النافعة ليكونوا دعاة للاصلاح و الرشاد،و وجه(ع)رسالة الي بعض أصحابه أمرهم فيها بمكارم الأخلاق و محاسن الاعمال و قد جاء فيها:

«عليكم بحب المساكين المسلمين،فان من حقرهم و تكبر عليهم فقد زل عن دين اللّه،و اعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين القي اللّه عليه المقت فاتقوا اللّه في اخوانكم فان لهم عليكم حقا أن تحبوهم،فان اللّه أمر نبيه بحبهم فمن لم يحب من أمر اللّه بحبه فقد عصي اللّه و رسوله،و من عصي اللّه و رسوله و مات علي ذلك مات من الغاوين.

إياكم ان يبغي بعضكم علي بعض فانها ليست من خصال الصالحين، فانه من بغي صير اللّه بغيه علي نفسه،و صارت نصرة اللّه لمن بغي عليه و من نصره اللّه غلب،و أصاب الظفر من اللّه.

إياكم أن يحسد بعضكم بعضا فان الكفر أصله الحسد.

إياكم أن تعينوا علي مسلم مظلوم،يدعو اللّه عليكم،و يستجاب له فيكم،فان أبانا رسول اللّه(ص)قال:ان دعوة المظلوم مستجابة.

إياكم أن تشره نفوسكم إلي شيء مما حرم اللّه عليكم فان من انتهك ما حرم اللّه عليه حال اللّه).

ص: 94


1- الامام جعفر الصادق:ص 79-80،و قريب منه جاء في حلية الأولياء(ج 3 ص 135).

بينه و بين الجنة..» (1).

لقد دعي(ع)أصحابه بهذه الوصية الي عمل الخير و الأخذ بالقيم الرفيعة التي تبعد الانسان عن الشر،و توجهه نحو الكمال،و قد ورد منه بمثل هذا الشيء الكثير و هو يحفز فيه أصحابه الي التحلي بمكارم الاخلاق و محاسن الأعمال.

العدل:

لا شك أن العدل هو العرق النابض في جسم المجتمع،و عليه تبتني الحياة و تقام دعائم الأمن و الاستقرار في الأرض،و قد حاضر فيه الامام فوصفه بأروع معني،و أوجز لفظ فقال:

«العدل أحلي من الماء يصيبه الظمآن».

و قال:«ما أوسع العدل و إن قل..».

و قال:«اتقوا اللّه و اعدلوا فانكم تعيبون علي قوم لا يعدلون..» إن العدل هو الهدف الأسمي لجميع الشعوب الحرة التي ناضلت كثيرا و جاهدت طويلا في سبيل تحقيقه،و هو من الأهداف الرئيسية التي عملت علي تدعيمها و نشرها مدرسة الامام في المجتمع الاسلامي.

إيثار الحق:

كان الامام-دوما-يشيد بالحق إذ هو ظل اللّه في الأرض،و قد وصفه الامام لأصحابه فجعله لب الايمان و حقيقته فقال فيه:

«إن من حقيقة الايمان أن تؤثر الحق و إن ضرك علي الباطل و إن نفعك».

إن متابعة الحق و اتباعه،و تقديمه علي المصالح الخاصة من أهم الحقائق

ص: 95


1- تحف العقول:ص 76.

التي هتف بها الاسلام و عززته مدرسة الامام.

الاصلاح:

و أفضل الأعمال و أحبها عند اللّه هو الاصلاح بين الناس حتي أباح المشرع الأعظم الكذب-الذي هو من أعظم الموبقات-في سبيل الاصلاح و رفع التخاصم و اشاعة الحب و الوئام بين الناس،و قد ندب الامام أصحابه إلي ذلك و حثهم علي هذه المكرمة فقال:

«صدقة يحبها اللّه،إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا،و تقارب بينهم إذا تباعدوا..».

إن الاصلاح بمعناه الشامل هو الهدف الأقصي لأهل البيت(ع)و قد كرسوا حياتهم في سبيله و لاقوا المزيد من الاضطهاد و الجور من أجله.

الظلم:

و تسالمت عقول البشر في جميع الاجيال و الأزمان علي قبح الظلم و استهجانه لأنه منبع الفساد و مصدر الجرائم،و قد حرم الامام جميع صوره و ألوانه فقال(ع):

«العامل بالظلم،و المعين له،و الراضي به كلهم شركاء ثلاثتهم» (1)و حرم(ع)التعاون مع الظالمين و الاشتراك معهم بأي عمل ايجابي يرجع الي بسط نفوذهم و تقوية سلطانهم فقد سأله بعض أصحابه عن جواز البناء لهم و كراية النهر،فقال له:

«ما أحب أن أعقد لهم عقدة،أو وكيت لهم وكاءا،و لا مدة بقلم إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من النار».

و حدث(ع)أصحابه عن عظم جريمة الظلم عند اللّه فقال لهم:

ص: 96


1- الكافي:في باب الظلم.

«اتقوا الظلم،فان دعوة المظلوم تصعد الي السماء»و حدثهم عن أقبح أنواع الظلم فقال لهم:«ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عونا إلا اللّه»إلي غير ذلك من الأخبار التي وردت عنه في التحذير عن الظلم و تحريم جميع أنواعه،كما بسط(ع)لأصحابه الأضرار البالغة التي تترتب عليه في كثير من محاضراته القيمة الأمر الذي دل علي مدي اهتمامه بتحقيق الأمن و السلام بين الناس.

التعاون:

و حث الامام أصحابه علي التعاون الوثيق فيما بينهم لأن ذلك يوجب اشاعة المحبة و الالفة فيما بينهم،و قد روي صفوان الجمال قال:«كنت عند أبي عبد اللّه(ع)إذ دخل عليه رجل من أهل مكة-يقال له«ميمون» فشكا إليه تعذر الكراء فالتفت إلي قائلا:

«قم فأعن أخاك».

فقمت معه فيسر اللّه كراه فرجعت الي مجلسي،فقال لي أبو عبد اللّه:

-ما صنعت في حاجة أخيك؟ -قضاها اللّه،بأبي أنت و أمي.

-اما انك إن تعن أخاك المسلم أحب إلي من طواف اسبوع في البيت».

و قال(ع)لجميل بن دراج:

«من صالح الأعمال البر بالاخوان،و السعي في حوائجهم،و ذلك مرغمة للشيطان و تزحزح عن النيران،و دخول في الجنان،يا جميل،اخبر بهذا الحديث غرر أصحابك.

-جعلت فداك و من غرر أصحابي؟

ص: 97

-هم للبارون بالاخوان في العسر و اليسر» (1).

معرفة اللّه:

إن معرفة اللّه من أهم الواجبات الاسلامية،و قد حث الامام أصحابه عليها و كشف لهم جليل آثارها فقال:

«لو يعلم الناس ما في فضل معرفة اللّه عز و جل ما مدّوا أعينهم الي ما متع اللّه به الأعداء من زهرة هذه الحياة الدنيا و نعيمها،و كانت دنياهم أقل عندهم مما يطئونه بأرجلهم،و لنعموا بمعرفة اللّه عز و جل و تلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنات مع أولياء اللّه،إن معرفة اللّه عز و جل أنس من كل وحشة،و صاحب من كل وحدة،و نور من كل ظلمة، و قوة من كل ضعف،و شفاء من كل سقم».

ثم إنه(ع)أخذ يبين لأصحابه ما لقيه أولياء اللّه من العناء و رهيب العذاب من أعدائه تعالي فقال:

«قد كان قبلكم قوم يقتلون و يحرقون و ينشرون بالمناشير،و تضيق عليهم الارض برحبها،فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه،من غير ترة و تروا من فعل ذلك بهم و لا أذي،بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد،فاسألوا درجاتهم،و اصبروا علي نوائب دهركم تدركوا سعيهم..» (2).

و هذا الوصف الرائع قد أحاط بحقيقة المتقين و المت بواقعهم و جهادهم و ايمانهم الوثيق باللّه.

ص: 98


1- خصال الصدوق.
2- روضة الكافي.

صفات المؤمنين:

كان عليه السلام-دوما-يلقي علي أصحابه و طلاب مدرسته أوصاف المؤمنين و المتقين ليهتدوا بهم و يتخذوهم قدوة صالحة،قال(ع):

«المؤمن له قوة في دين،و حزم في لين،و ايمان في يقين،و حرص في فقه،و نشاط في هدي،و بر في استقامة،و علم في حلم،و كيس في رفق،و سخاء في حق،و قصد في غني،و تجمل في فاقة،و عفو في مقدرة و طاعة اللّه في نصيحة،و انتهاء في شهوة،و ورع في رغبة،و حرص في جهاد،و صلاة في شغل،و صبر في شدة،في الهزاهز وقور،و في الرخاء شكور،لا يغتاب،و لا يتكبر،و لا يقطع الرحم،و ليس بواهن،و لافظ و لا غليظ،و لا يسبقه بصره،و لا يفضحه بطنه،و لا يغلبه فرجه،و لا يحسد الناس،و لا يعير (1)و لا يعير (2)،و لا يسرق،ينصر المظلوم و يرحم المسكين،نفسه منه في عناء،و الناس منه في راحة،و لا يرغب في عز الدنيا،و لا يجزع من ذلها،للناس هم قد أقبلوا عليه،و له هم قد شغله،لا يري في حكمه نقص،و لا في رأيه وهن،و لا في دينه ضياع يرشد من استشاره،و يساعد من ساعده،و يكيع (3)عن الخناء و الجهل..» (4).

و وصف عليه السلام المؤمن فقال:

ص: 99


1- بتضعيف الياء و كسرها.
2- بتضعيف الياء و فتحها.
3- يكيع:أي يجبن.
4- أصول الكافي:(ج 2 ص 209).

«لا يكون المؤمن مؤمنا حتي يكون كامل العقل،و لا يكون كامل العقل حتي تكون فيه عشر خصال،الخير منه مأمول،و الشر منه مأمون يستقل كثير الخير من نفسه،و يستكثر قليل الخير من غيره،و يستكثر قليل الشر من نفسه،و يستقل كثير الشر من غيره،و لا يتبرم بطلب الحوائج قبله،و لا يسأم من طلب العلم عمره،الذل أحب إليه من العز (1)و الفقر أحب إليه من الغني،حسبه من الدنيا القوت،و العاشرة،و ما العاشرة لا يلقي أحدا إلا قال هو خير مني و أتقي،فاذا لقي الذي هو خير منه تواضع له ليلحق به،و إذا لقي الذي هو شر منه و أدني،قال لعل شر هذا ظاهر و خيره باطن،فاذا فعل ذلك علا و ساد أهل زمانه» (2).

الورع:

كان(ع)يوصي أصحابه بالورع عن محارم اللّه:و من أقواله لهم:

«عليكم بالورع فانه لا ينال ما عند اللّه إلا بالورع» (3).

و قال عليه السلام:

«عليكم بتقوي اللّه و الورع،و الاجتهاد،و صدق الحديث،و أداء الامانة،و حسن الخلق،و حسن الجوار،و كونوا دعاة الي انفسكم بغير ألسنتكم،و كونوا زينا و لا تكونوا شيئا..» (4).

و نكتفي بهذا النزر اليسير من تعاليمه الرفيعة التي زود بها المجتمع الاسلامي،و وضع بها قواعد الاخلاق و آداب السلوك.

ص: 100


1- لعله يريد أن الذل في طاعة اللّه أحب إليه من العز في معصية اللّه
2- مجالس الشيخ الطوسي.
3- أصول الكافي:(ج 2 ص 76).
4- نفس المصدر.

في عهد الامام موسي:

و قطع الامام موسي(ع)شوطا من حياته في جامعة أبيه الكبري، و كان من أبرز العلماء النابهين،كما شارك أباه في القاء محاضراته العلمية، و سانده في تعزيزها،و تقديمها في الميادين الثقافية،و بعد انتقال أبيه الي حظيرة القدس تولي إدارة شئون هذه المدرسة الكبري،و قام بنشر العلوم و بث روح الفضيلة،و قد احتف به العلماء و الرواة لا يفارقونه و لا يفترقون عنه،يسجلون أحاديثه و أبحاثه و فتاواه،فقد روي السيد ابن طاوس (1)أن أصحاب الامام و خواصه كانوا يحضرون مجلسه و معهم في اكمامهم الواح آبنوس لطاف و أميال فاذا نطق بكلمة أو أفتي في نازلة بادروا الي تسجيل

ص: 101


1- السيد ابن طاوس:هو السيد الجليل العالم العابد رضي الدين أبو القاسم علي بن سعد الدين بن ابراهيم الحسيني،كان يسكن الحلة الفيحاء و لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه.و خشونة رجليه،و هو من أجلاء السادة و من عيونهم و كان نقيبا لهم،له مؤلفات كثيرة دلت علي سعة معارفه و علومه.و قد ذكر مناقبه و علومه بالتفصيل الحجة الثبت السيد محمد باقر الخوانساري في مؤلفه روضات الجنات(ج 3 ص 43-47)و جاء في الكني و الألقاب(ج 1 ص 338)أن السيد تولي نقابة الطالبيين و كان يجلس في قبة خضراء و الناس تقصده و قد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد و ذلك عقيب وقعة بغداد،و في ذلك يقول علي بن حمزة: فهذا علي نجل موسي بن جعفر شبيه علي نجل موسي بن جعفر فذاك بدست للامامة أخضر و هذا بدست للنقابة أخضر توفي السيد يوم الاثنين خامس ذي القعدة سنة 664 ه-.

ذلك (1)و قد روي عنه هؤلاء العلماء جميع أنواع العلوم علي اختلافها و تباعد أطرافها،و ببركة جهوده و جهود أبيه فقد عمت الحركة العلمية جميع الحواضر الاسلامية و العربية و أصبح تراثهما العلمي يتناقله العلماء جيلا بعد جيل.1.

ص: 102


1- الأنوار البهية:ص 91.

مثله العليا

اشارة

ص: 103

ص: 104

و بلغ الامام موسي(ع)في مواهبه و عبقرياته أعلي مستويات الانسانية و قيمها،فهو بحكم قابلياته و مقدراته فذ من أفذاذ العقل الانساني،و مثل رائع من أمثلة الخير و الكمال في الارض.

لقد كان الامام موضع اعتزاز و فخر للعالم الاسلامي،و ذلك لما أثر عنه من الفضائل و المآثر كسعة العلم و الحلم،و دماثة الاخلاق،و السخاء و الاحسان الي الناس،و الصمود أمام الأحداث،الي غير ذلك من نزعاته الكريمة التي يقدسها كل انسان يؤمن بالمثل العليا،و الانسانية الكريمة و نعرض فيما يلي بعض نزعاته و صفاته:

امامته:

و منحه اللّه بالإمامة،و خصه بالنيابة العامة عن جده الرسول(ص) فهو أحد أوصيائه،و خلفائه علي أمته،و الإمامة-حسب ما تراه الشيعة- كالنبوة لا يمنحها اللّه إلا للذوات الخيرة التي طهرت من الأرجاس و الآثام و انمحت عنها أفانين الظلم و الأباطيل،و هي من أسمي المناصب الالهية لا يتوج بها إلا أفضل الخلق و أكرمهم عند اللّه،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن«الإمامة»لأنها ترتبط ارتباطا ذاتيا و موضوعيا بما نحن فيه.

معني الامامة:

و حددها علماء الكلام فقالوا:«الامامة رئاسة عامة في أمور الدين و الدنيا لشخص انساني..»فالامام-حسب هذا التحديد-هو الزعيم العام و الرئيس المتبع الذي له السلطة الشاملة علي جميع شئون الناس الدينية و الدنيوية،

ص: 105

فالنبي(ص)أولي بالمؤمنين من أنفسهم فكذلك الامام حسب ما نص عليه النبي(ص)في خطابه بغدير خم حينما نصب الامام أمير المؤمنين(ع)خليفة و اماما علي المسلمين من بعده.

الحاجة الي الامامة:

إن الامامة قاعدة من قواعد الاسلام و أصل من أصوله،و قد اتفق المسلمون علي ضرورتها،و حتميتها لأن الشريعة الاسلامية مجموعة من الاحكام و القواعد ففيها الحدود و العقوبات،و فيها الحكم بما أنزل اللّه،و الأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر،و فيها الجهاد في سبيل اللّه،و الذب عن حياض الدين،و غير ذلك من الاحكام التي لا يمكن للفرد أن يقيمها من دون امام يتولي تنفيذها،يقول ابن تيمية:

«ان ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين،بل لا قيام للدين إلا بها،و لأن اللّه أوجب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر،و نصرة المظلوم و كذلك سائر ما أوجبه اللّه من الجهاد و العدل،و اقامة الحدود،و لا تتم إلا بالقوة و الامارة..» (1).

ان المسلمين لا بد لوجودهم السياسي و الديني من امام يسوس أمرهم و يعالج قضاياهم علي ضوء كتاب اللّه،و سنة نبيه،و يسير فيهم بسيرة قوامها العدل الخالص و الحق المحض.

ان الامامة ضرورة من ضروريات الحياة الاسلامية لا يمكن الاستغناء عنها،فيها تتحقق العدالة الكبري التي ينشدها اللّه في الارض.

و من أهم الأمور الداعية إليها ايصال الناس الي معرفة اللّه و طاعته،

ص: 106


1- السياسة الشرعية ص 172-173.

و تغذية المجتمع بروح الايمان و التقوي و ابعاده عن نوازع الشر و الغرور.

الاتفاق علي وجوبها:

إن الامامة بمعناها القيادي للامة قد اتفق المسلمون علي وجوبها و ضرورتها سوي(الخوارج)فانهم قالوا:لا يلزم الناس فرض الامامة، و انما عليهم ان يتعاطوا الحق فيما بينهم (1)و قد أجمع المسلمون علي زيف ذلك و بطلانه،و قد تضافرت الأخبار علي ضرورتها فقد أثر عن النبي(ص) أنه قال:«من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»و قال(ص):

«من فارق الجماعة فمات،مات ميتة جاهلية،و من قاتل تحت راية عصبية يغضب لعصبة أو يدعو الي عصبة،أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية» (2).

و قال ابن خلدون:«إن نصب الامام واجب قد عرف وجوبه في الشرع باجماع الصحابة و التابعين،لأن أصحاب رسول اللّه(ص)عند وفاته بادروا الي بيعة أبي بكر،و تسليم النظر إليه في امورهم،و كذا في كل عصر من بعد ذلك،و لم تترك الناس فوضي في عصر من الأعصار.و استقر ذلك اجماعا دالا علي وجوب نصب الامام..» (3).

لقد أجمع المسلمون منذ فجر تأريخهم علي ضرورة الامام،و انها من الواجبات التي لا تستقيم الحياة الاسلامية بدونها.

ص: 107


1- الملل و الأهواء 87/4.
2- الحديث رواه مسلم و النسائي.
3- المقدمة ص 151.

واجبات الامام:

و أناط الاسلام بالامام جميع المسئوليات الضخمة،فأوجب عليه السهر علي مصالح المسلمين،و رعاية شئونهم،و العمل علي تطوير حياتهم، و ابعادهم عن جميع عوامل الانحطاط و التأخر،و قد ذكر المعنيون بهذه البحوث بعض الواجبات المهمة التي يجب عليه القيام بها،و هي:

1-حفظ الدين،و حراسة الاسلام،و صيانته من المستهترين بالقيم و الأخلاق.

2-حماية بيضة الإسلام،و الذب عن الحرم ليتصرف الناس في معايشهم و ينتشروا في اسفارهم،آمنين علي انفسهم و أموالهم.

3-تحصين الثغور بالعدد و وفور العدد حتي لا يظفر العدو بغرة فينتهك فيها محرم،أو يسفك فيها دم مسلم أو معاهد.

4-جهاد الكفرة المعاندين للاسلام حتي يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين قياما بحق اللّه بظهور دينه علي الدين كله.

5-تنفيذ الاحكام،و قطع الخصومات حتي لا يتعدي ظالم،و لا يضعف مظلوم.

6-اقامة الحدود لتتوقي المحارم،و تصان الأنفس و الأموال.

7-اختيار الامناء و الأكفاء،و تقليد الولايات للثقات النصحاء لتضبط الاعمال بالكفاءة،و تحفظ الأموال بالامناء.

8-جباية أموال الفيء،و الصدقات و الخراج علي ما أوجبه الشرع نصا أو اجتهادا من غير حيف و لا عسف 9-تقدير العطاء و ما يستحقه كل واحد في بيت المال من غير سرف

ص: 108

و لا تقتير،و دفعه إليهم في وقت معلوم لا تأخير فيه و لا تقديم.

10-مشارفة الامور العامة بنفسه غير معتمد علي ولاته و عماله،فقد يخون الأمين،و يغش الناصح،و قد قال تعالي: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (1).

و في الصحيحين (2)من رواية ابن عمر قال:سمعت رسول اللّه(ص) يقول:«كلكم راع،و كلكم مسئول عن رعيته،و المرأة في بيت زوجها راعية و مسئولة عن رعيتها،و الخادم في مال سيده،و هو مسئول عن رعيته،قال:فسمعت هذا من رسول اللّه(ص)و أحسبه قال:

و الرجل في مال أبيه راع و مسئول عن رعيته،فكلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته».

و أخرج الترمذي (3)من حديث عمرو بن مرة الجهني قال لمعاوية:

سمعت النبي(ص)يقول:«ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجات و المسكنة إلا أغلق اللّه أبواب السماء دون خلته (4)و حاجته و مسكنته» و يقول محمد بن يزداد وزير المأمون مخاطبا له:

من كان حارس دنيا إنه قمن أن لا ينام و كل الناس نوام

و كيف ترقد عينا من تضيقه همان من أمره نقض و ابرام (5)

و وصفت هذه الامور بانها دستور شامل لو نقلناه الي لغة العصر،/1

ص: 109


1- سورة ص:آية 26.
2- البخاري 62/9 و مسلم 213/12
3- صحيح الترمذي 73/6
4- الخلة:الحاجة و الفقر
5- مآثر الانافة في معالم الخلافة 59/1

و مصطلحاته لسامق بل لتفوق في احاطته و شموله علي ما احتوته الدساتير العالمية من واجبات الحاكمين و التزاماتهم (1).

و من يمعن النظر فيما أثر عن الامام امير المؤمنين(ع)يري أن واجبات الامام(ع)أشمل من ذلك فانها تمتد الي اقامة صروح الأخلاق و الفضيلة و بناء مجتمع يعيش في ظلال العدل و الحق و تستأصل-فيه صور الانتهازية و الوصولية،و بذور البغي و الفساد و قد تحدثنا عن ذلك بصورة مفصلة في كتابنا«نظام الحكم و الادارة في الاسلام».

صفات الامام:

و لا بد أن تتوفر في الامام جميع النزعات الخيرة،و الصفات الرفيعة، و المثل الكريمة،من العلم و التقوي،و سجاحة الرأي،و اصالة التفكير،و الدراية التامة بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها،و ذكر المعنيون بالفقه السياسي في الاسلام الشروط التي يجب أن تتوفر فيه و هي:

1-العدالة علي شروطها الجامعة،و هي الامتناع من ارتكاب كبائر الذنوب و عدم الاصرار علي صغائرها.

2-العلم المؤدي الي الاجتهاد في النوازل و الاحكام.

3-سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.

4-سلامة الاعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة،و سرعة النهوض.

5-الرأي المفضي الي سياسة الرعية،و تدبير المصالح.

ص: 110


1- دولة القرآن ص 82.

6-الشجاعة و النجدة المؤدية الي حماية بيضة الاسلام،و جهاد العدو 7-النسب و هو أن يكون الامام من قريش.

و قد ذكر هذه الاوصاف كل من الماوردي و ابن خلدون (1)و ذكر الجويني و الايجي،و الجرجاني و الفارابي أوصافا أخر ذكرناها مفصلة في كتابنا «نظام الحكم و الادارة في الإسلام».

و تعتقد الشيعة ان الامام يجب أن يكون أفضل الناس في ملكاته و عبقرياته و انه لا بد فيه من:

1-العصمة:

إن عصمة الامام-عند الشيعة-قاعدة أساسية في الامامة،و هي من المبادئ الأولية في كيانهم العقائدي،و قد عرفها المتكلمون،فقالوا:

إنها لطف من اللّه يفيضها علي أكمل عباده،و أفضلهم عنده،و بها يمتنع من ارتكاب الآثام و الجرائم عمدا و سهوا...و قد أثارت عليهم هذه العقيدة الكثير من التهم و الطعون،و اتهمهم قوم بالغلو و الافراط في الحب.

و لكنا إذا رجعنا إلي الأدلة نجدها مؤيدة لما تذهب إليه الشيعة،و يكفينا في الاستدلال علي ذلك آية التطهير قال تعالي:«إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا» (2)و هي تدل بوضوح علي عصمة أئمة أهل البيت(ع)من الذنوب و طهارتهم من الزيغ و الرجس،و ذلك بما جاء فيها من حصر إرادة اذهاب الرجس-أي المعاصي-بكلمة انما التي هي من أقوي أدوات الحصر،و بدخول الكلام في الكلام الخبري،و تكرار لفظ

ص: 111


1- الأحكام السلطانية ص 4،المقدمة ص 135.
2- سورة الأحزاب:آية 33.

الطهارة،و كل ذلك يدل بحسب الصناعة علي الحصر و الاختصاص،كما ان ارادة اللّه باذهاب الرجس عنهم يستحيل فيها أن يتخلف المراد عن الارادة قال تعالي: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و بهذا يتم الاستدلال علي عصمتهم من كل ذنب و معصية (1)كما أن حديث الثقلين يدل علي العصمة بوضوح،فقد قرن فيه الرسول(ص)بين الكتاب و عترته،و كما ان الكتاب العزيز معصوم من الخطأ و الزلل فكذلك العترة،و الا لما صحت المقارنة و المساواة بينهما.و بعد توفر الأدلة الحاسمة علي اعتبارها في الامام فلا مساغ للانكار علي الشيعة بذلك،قال العلامة الشيخ محمد أمين زين الدين:

«و ما يصنع الشيعة إذا اضطرتهم طبيعة الاسلام ذاتها الي هذه العقيدة؟ و ما يعملون إذا قادتهم نصوص القرآن و صحاح السنة و دلائل العقل؟ ما يعملون اذا قادتهم هذه الحجج كلها قودا الي هذه النتيجة؟ و العصمة التي يشترطونها في امام المسلمين،هل تخرج به عن مصاف البشر،و تلحقه بعداد الآلهة كما يشتهي أن يقول المتقولون؟ هل العصمة في ذاتها جزء إلهي حتي اذا اشترطناها فقد قلنا في الخليفة بالحلول؟و هل للالوهية أجزاء لتعد العصمة من هذه الأجزاء،و لتستطيع هذه الفرية أن تقف علي قدم،أ لم تشترطها جمهرة المسلمين في رسالة الرسول؟ فهلا كانت لها هذه اللازمة هناك؟و هل نقدها أحد هناك بمثل هذا النقد؟العصمة شرط في رسالة الرسول لدي جمهور المسلمين و إن اختلفت فرقهم في تحديد هذا الشرط:أ هو العصمة في عهد النبوة فقط أم العصمة حتي فيما قبل هذا العهد؟4.

ص: 112


1- بسطنا البحث في دلالة الآية في الجزء الأول من حياة الامام الحسن ص 69-74.

و يقول:و شيعة أهل البيت وحدهم يقولون:الشرط في رسالة الرسول و في امامة الامام العصمة في كل أدوار الحياة من جميع أصناف الذنوب، و من جميع أنواع النقائص حتي من الخطأ و الغفلة و السهو.

و العصمة رصيد نفساني كبير يتكون من تعادل جميع القوي النفسانية، و بلوغ كل واحدة منها أقصي درجة يمكن أن يبلغها الانسان،ثم سيطرت القوة العقلية علي جميع هذه القوي و الغرائز و الركائز سيطرة كاملة حتي لا تشذ في أمر و لا تستغل دونها في عمل.

هذه الحصانة الذاتية التي يرتفع بها الانسان الأعلي عن الاتضاع في طبيعته،و يمتنع بها عن الانزلاق في ارادته،ثم عن الانحرافات و الالتواءات التي تترسب في منطقة اللاشعوري و تتحول-كما يقول العلماء النفسانيون- عقدا نفسية تتحكم في دوافع المرء و في سلوكه،و في اتجاهاته و ملكاته و تسوقه من حيث لا يريد الي النشوز عن الحق و الشرود عن العدل،هذه الحصانة الذاتية التي توقظ مشاعر الانسان الكامل فلا يغفل،و يعتلي بملكاته و اشراقه فلا ينزلق،و لا يكبو،و التي تكفل له صحته النفسية من كل وجه،هذه هي العصمة التي يشترطها مذهب أهل البيت في الرئيس الأعلي لحكومة الاسلام،و في ظني انه شرط بمنتهي الجلاء كما انه بمنتهي الحكمة..» (1)ان المنطق العلمي بجميع أبعاده يقضي بصحة ما تذهب إليه الشيعة من اعتبار العصمة في أئمة أهل البيت(ع)اما القول المعاكس له فهو بعيد عن منطق الدليل و البرهان.

و بقي هنا شيء و هو اعتقاد الشيعة بأن الامام لا بد أن يكون أعلم الناس و أفضلهم في مقدراته العلمية،و قد أوضح هذه الجهة و أولاها بمزيد من البيان و الاستدلال سماحة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر قال:5.

ص: 113


1- الاسلام ص 283-285.

«أما علمه-أي علم الإمام-فهو يتلقي المعارف و الاحكام الالهية، و جميع المعلومات من طريق النبي أو الامام من قبله،و إذا استجد شيء لا بد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها اللّه تعالي فيه فان توجه الي شيء و شاء أن يعلمه من طريق علي وجهه الحقيقي لا يخطأ فيه كل ذلك مستند الي البراهين العقلية،و لا يستند الي تلقينات المعلمين،و إن كان علمه قابلا للزيادة و الاشتداد،و لذا قال(ص):«رب زدني علما» و أضاف يقول بعد الاستدلال علي ذلك:

و يبدو واضحا هذا الأمر في تأريخ الأئمة عليهم السلام كالنبي محمد(ص) فانهم لم يتربوا علي أحد،و لم يتعلموا علي يد معلم،من مبدأ طفولتهم الي سن الرشد حتي القراءة و الكتابة،و لم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ علي تبدل استاذ في شيء من الأشياء مع ما لهم من منزلة علمية لا تجاري.و ما سئلوا عن شيء إلا أجابوا عليه في وقته،و لم تمر علي ألسنتهم كلمة«لا أدري»و لا تأجيل الجواب الي المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك في حين أنك لا تجد شخصا مترجما له من فقهاء الإسلام و رواته و علمائه إلا ذكرت في ترجمته و تربيته و تلمذته علي غيره و أخذ الرواية أو العلم علي المعروفين و توقفه في بعض المسائل أو شكه في كثير من المعلومات كعادة البشر في كل عصر و مصر» (1).

و عرض سماحة الامام كاشف الغطاء الي صفات الإمام(ع)و قال فيما يختص في مواهبه العلمية:

«و أن يكون-أي الإمام-أفضل أهل زمانه في كل فضيلة و أعلمهم بكل علم لأن الغرض منه تكميل البشر و تزكية النفوس،و تهذيبها بالعلم و العمل الصالح«هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته4.

ص: 114


1- عقائد الإمامية ص 51-54.

و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة»و الناقص لا يكون مكملا،و الفاقد لا يكون معطيا،فالامام في الكمالات دون النبي و فوق البشر» (1).

هذا هو الرأي الصريح للشيعة في علم الامام،و ليس فيه أي غلوكما يتهمهم بذلك خصومهم.

تعيين الامام

و تجمع الشيعة علي أن تعيين الامام ليس بيد الأمة،و لا بيد أهل الحل و العقد منها،و الانتخاب في الإمامة باطل و الاختيار فيها مستحيل فحالها كحال النبوة فكما أنها لا تكون بايجاد الانسان و رغبته كذلك الامامة لأن العصمة التي هي شرط في الإمامة-عندهم-لا يعلمها إلا اللّه المطلع علي خفايا النفوس،و دخائل القلوب،فهو الذي يمنحها لمن يشاء من عباده، و يختاره لمنصب الإمامة و الخلافة.

و ما النبوة و الامامة بما هما-منصب إلهي-يجوز فيهما الترشيح و الانتخاب،فان تعيينهما من مختصاته تعالي،و قد اعلن ذلك الكتاب العزيز قال تعالي: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ» (2)و قال تعالي: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالي عَمّا يُشْرِكُونَ (3)و شأن الإمامة كشأن النبوة لا رجوع فيها الي اختيار الشعب و ارادته.

و دلتهم علي ذلك النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت(ع)و من

ص: 115


1- أصل الشيعة و أصولها ص 103 ط العرفان.
2- سورة ص:آية 26
3- سورة القصص:آية 68.

تلك النصوص ما استدل به حجة اللّه علي أرضه،و خليفته علي عباده الذي يقيم اعوجاج الحق،و يصلح ما فسد من نظام الدين مهدي هذه الأمة عجل اللّه فرجه،و ذلك عند ما سأله سعد بن عبد اللّه عن العلة التي تمنع من اختيار الناس اماما لأنفسهم فأجابه(ع)قائلا:

-يختارون مصلحا أو مفسدا؟ -بل مصلحا -فهل يجوز أن تقع خيرتهم علي المفسد بعد أن لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من إصلاح أو فساد -بلي -فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك،اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه و أنزل الكتب عليهم،و أيدهم بالوحي و العصمة،إذ هم أعلام الأمم،و أهدي إلي الاختيار،منهم مثل موسي و عيسي هل يجوز مع وفور عقلهما،و كمال علمهما إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما علي المنافق و هما يظنان أنه مؤمن.

-لا -هذا موسي كليم اللّه مع وفور عقله و كمال علمه،و نزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه،و وجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في ايمانهم و اخلاصهم،فوقعت خيرته علي المنافقين قال اللّه عز و جل:

«و اختار موسي قومه سبعين رجلا لميقاتنا»الي قوله:«لن نؤمن لك حتي نري اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم»فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوة واقعا علي الأفسد دون الأصلح،و هو يظن أنه الأصلح علمنا أن الاختيار ليس إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور،و تكن الضمائر» (1).13

ص: 116


1- بحار الانوار 127/13

إن الطاقات البشرية قاصرة عن إدراك الأصلح الذي تسعد به الأمة و انما أمر ذلك بيد اللّه تعالي العالم بخفايا الأمور.

كلمة الامام الرضا

و من أعمق الأدلة علي الإمامة،و اكثرها استيعابا و شمولا،و بيانا لمنصبها،و استحالة الانتخاب فيها حديث الامام الرضا عليه السلام مع عبد العزيز بن مسلم فقد أوضح الامام الكثير من جوانب الامامة،و فيما يلي بعض نصوص الحديث.

قال عبد العزيز بن مسلم:كنا في أيام علي بن موسي الرضا(بمرو) فاجتمعنا في مسجد جامعها فدار بين الناس أمر الإمامة،و ذكروا كثرة الاختلاف فيها.و بعد انتهاء الحديث،قمت فدخلت علي الامام الرضا عليه السلام فأخبرته بما خاض فيه الناس فتبسم(ع)ثم قال:

«يا عبد العزيز.جهل القوم،و خدعوا عن أديانهم.إن اللّه تبارك و تعالي لم يقبض نبيه(ص)حتي أكمل له الدين،و أنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء،بين فيه الحلال و الحرام.و الحدود و الاحكام و جميع ما يحتاج إليه كملا،فقال عز و جل:«ما فرطنا في الكتاب من شيء» (1)و أنزل في حجة الوداع و هي آخر عمره «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (2).

و أمر الامامة من تمام الدين،و لم يمض(ص)حتي بين لأمته معالم دينهم،و أوضح لهم سبيلهم،و تركهم علي قصد الحق،و أقام لهم عليا

ص: 117


1- سورة الأنعام:آية 38
2- سورة المائدة:آية 3

علما و اماما،و ما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا بينه،فمن زعم أن اللّه عز و جل لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه عز و جل،و من رد كتاب اللّه تعالي فهو كافر.

هل يعرفون قدر الامامة و محلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجل قدرا،و أعظم شأنا،و أعلي مكانا،و أمنع جانبا،و أبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم،أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم.

إن الإمامة خص اللّه بها ابراهيم الخليل(ع)بعد النبوة،و الخلة مرتبة ثالثة،و فضيلة شرفه بها،و أشاد بها ذكره،فقال عز و جل:

«إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً فقال الخليل سرورا بها:«و من ذريتي»قال اللّه عز و جل:«لا ينال عهدي الظالمين»فابطلت هذه الآية امامة كل ظالم الي يوم القيامة،و صارت في الصفوة،ثم اكرمه اللّه عز و جل بأن جعل ذريته أهل الصفوة و الطهارة فقال عز و جل: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (1)فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتي ورثها النبي(ص)قال عز و جل: إِنَّ أَوْلَي النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (2)فكانت له خاصة فقلدها عليا بأمر اللّه عز و جل علي رسم ما فرضه اللّه عز و جل فصارت له في ذريته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم و الايمان بقوله عز و جل وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ68

ص: 118


1- سورة الأنبياء:آية 72-73
2- سورة آل عمران:آية 68

فِي كِتابِ اللّهِ إِلي يَوْمِ الْبَعْثِ (1) .

فهي:في ولد علي خاصة الي يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد(ص) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟إن الإمامة هي منزلة الأنبياء،و إرث الأوصياء ان الامامة خلافة اللّه عز و جل،و خلافة الرسول و مقام أمير المؤمنين،و ميراث الحسن و الحسين عليهما السلام.

إن الإمامة زمام الدين،و نظام المسلمين و صلاح الدنيا،و عز المؤمنين إن الامامة أسس الاسلام النامي،و فرعه السامي بالامام تمام الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و توفير الفيء و الصدقات،و امضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور،و الأطراف.

الامام يحل حلال اللّه،و يحرم حرام اللّه،و يقيم حدود اللّه،و يذب عن دين اللّه،و يدعو الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة».

و يسترسل الامام(ع)في حديثه في بيان أوصاف الامام،و ما وهبه اللّه من الكمال و العبقريات،و أدلي بعد ذلك بأن الناس عاجزون عن معرفة حقيقته،و إدراك فضائله فقال:

«فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام و يمكنه اختباره؟هيهات هيهات!! ضلت العقول،و تاهت الحلوم،و حارت الألباب،و حسرت العيون، و تصاغرت العظماء،و تحيرت الحكماء،و تقاصرت الحلماء و حصرت الخطباء و جهلت الألباء،و كلت الشعراء،و عجزت الأدباء،و عييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله،فأقرت بالعجز و التقصير، و كيف يوصف له؟أو ينعت بكنهه،أو يفهم شيء من أمره،أو يوجد من يقوم مقامه،و يغني غناه،لا.و اني...

أين الاختيار من هذا؟56

ص: 119


1- سورة الروم:آية 56

أين العقول عن هذا؟ أين يوجد مثل هذا؟ ظنوا أن يوجد ذلك في غير آل الرسول(ص)،كذبتهم و اللّه أنفسهم و منتهم الباطل،فارتقوا مرتقي صعبا دحضا،تزل الي الحضيض أقدامهم.

راموا إقامة الامام بعقول جائرة.بائرة ناقصة،و آراء مضلة،فلم يزدادوا إلا بعدا«قاتلهم اللّه أني يؤفكون»لقد راموا صعبا،و قالوا إفكا «و ضلوا ضلالا بعيدا»و وقعوا في الحيرة،إذ تركوا الامام عن بصيرة «و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل و ما كانوا مستبصرين»و رغبوا عن اختيار اللّه،و اختيار رسوله الي اختيارهم،و القرآن يناديهم وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالي عَمّا يُشْرِكُونَ (1)و قال اللّه عز و جل وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (2)و قال عز و جل: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلي يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (3)و قال عز و جل: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلي قُلُوبٍ أَقْفالُها (4)أم طبع اللّه علي قلوبهم فهم لا يفقهون أم قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ، وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ4.

ص: 120


1- سورة القصص-آية 68
2- سورة الأحزاب:آية 36
3- سورة القلم:آية 36-41.
4- سورة محمد:آية 24.

لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (1) و قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا (2)بل هو فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (3).

فكيف لهم باختيار الامام؟!!و الامام عالم لا يجهل،راع لا ينكل معدن القدس و الطهارة،و النسك و الزهادة،و العلم و العبادة،مخصوص بدعوة الرسول،و هو من نسل المطهرة البتول،لا مغمز فيه في نسب، و لا يدانيه ذو حسب،فالنسب من قريش،و الذروة من هاشم،و العترة من آل الرسول(ص)و الرضا من اللّه،شرف الأشراف،و الفرع من عبد مناف،نامي العلم،كامل الحلم،مضطلع بالامامة عالم بالسياسة، مفروض الطاعة،قائم بأمر اللّه عز و جل،ناصح لعباد اللّه،حافظ لدين اللّه.

و تعرض(ع)بعد هذا الي علم الأنبياء و الأئمة فقال:

«إن الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه عليهم يوفقهم اللّه،و يؤتيهم من مخزون علمه.و حكمه ما لا يؤتيه غيرهم،فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم،ثم انظروا في قوله تعالي: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (4)و قوله عز و جل:

وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (5) و قوله عز و جل في طالوت إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ69

ص: 121


1- سورة الأنفال:آية 21-23
2- سورة البقرة:آية 93
3- سورة الحديد:آية 21
4- سورة يونس:آية 35
5- سورة البقرة:آية 269

وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (1) و قال عز و جل لنبيه: وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً و قال عز و جل في الأئمة من أهل بيت نبيه(ص)و عترته و ذريته أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلي ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفي بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (2)و ان العبد إذا اختاره اللّه عز و جل لأمور عباده شرح صدره لذلك،و أودع قلبه ينابيع الحكمة،و ألهمه العلم إلهاما فلم يع بعده بجواب،و لا يحيد فيه عنه الصواب،و هو معصوم،مؤيد،موفق مسدد،قد أمن الخطايا و الزلل،و العثار،يخصه اللّه بذلك ليكون حجته علي عباده و شاهده علي خلقه، ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .

فهل يقدرون علي مثل هذا فيختاروه؟!أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه،تعدوا و بيت اللّه الحق،و نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون،و في كتاب اللّه الهدي و الشفاء فنبذوه،و اتبعوا أهواءهم فذمهم اللّه و مقتهم و أتعسهم،فقال عز و جل: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُديً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (3)و قال عز و جل:

فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (4) و قال عز و جل: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلي كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (5).35

ص: 122


1- سورة البقرة:آية 247
2- سورة النساء:آية 54-55
3- سورة القصص:آية 50
4- سورة محمد:آية 8
5- سورة المؤمن:آية 35

و انتهي بذلك حديث الامام(ع) (1)و هو حافل بأروع صور الاستدلال و الحجة علي ضرورة الإمامة،و استحالة الاختيار و الانتخاب فيها،و وجوب رجوع التعيين في ذلك الي اللّه تعالي وحده فهو الذي يختار لهذا المنصب الرفيع من يشاء من عباده ممن تتوفر فيه صفات الخير و الكمال،و طهارة النفس،و صفاء الذات،و عدم الانقياد و الخضوع لدواع الهوي،و نوازع الشرور و الغرور حتي يصلح لهداية الناس،و اصلاحهم،و غرس روح الثقة و الفضيلة في نفوسهم.

نصوص الامامة:

إن تعيين الامام عند الشيعة ينحصر في النص،و لا سبيل لغيره في ذلك،و عليه فيجب علي النبي(ص)أن يعين من يخلفه من بعده،و كذلك يجب علي الامام من بعده أن ينص علي الخلف الذي يجب أن يرجع إليه الناس،و قد حفلت جميع كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع بتدوين صور النصوص في ذلك فقد قال(ص)في أمير المؤمنين(يوم الدار):

«هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا» (2)و أخرج الطبراني بالاسناد الي سلمان الفارسي،قال:قال رسول اللّه(ص):إن وصي و موضع سري،و خير من أترك بعدي،و ينجز عدتي،و يقضي ديني علي بن أبي طالب (3)و أخرج أبو نعيم الحافظ في«حلية الأولياء»عن أنس قال:قال رسول اللّه(ص):يا أنس أول من يدخل عليك من

ص: 123


1- عيون أخبار الرضا 216/1-222 أصول الكافي.
2- كنز العمال 392/6 و غيره.
3- كنز العمال 154/6.

هذا الباب إمام المتقين،و سيد المسلمين،و قائد الغر المحجلين،و خاتم الوصيين،قال أنس:فجاء علي،فقام رسول اللّه(ص)مستبشرا فاعتنقه و قال له:أنت تؤدي عني،و تسمعهم صوتي،و تبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي (1).

و أخرج الطبراني في الكبير بالاسناد الي أبي أيوب الانصاري عن رسول اللّه(ص)قال:يا فاطمة.أ ما علمت أن اللّه عز و جل اطلع علي أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيا،ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحي إلي فأنكحته،و اتخذته وصيا (2).

و روي المحب الطبري بسنده عن أنس قال:قلنا لسلمان سل النبي(ص) من وصيه؟فقال سلمان:يا رسول اللّه من وصيك؟قال:يا سلمان من كان وصي موسي؟قال:يوشع بن نون قال:فان وصي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعدي علي بن أبي طالب (3).

و روي المحب الطبري عن بريدة قال:قال رسول اللّه(ص):لكل نبي وصي و وارث،و ان عليا وصي و وارثي (4).

و وردت نصوص نبوية متواترة رواها الفريقان في امامة السبطين و الريحانتين عليهما السلام فقد قال(ص)فيهما:«أنتما الامامان و لأمكما الشفاعة» (5)و قال(ص)و هو يشير الي الحسين:هذا إمام ابن امام أخو إمام2.

ص: 124


1- حلية الأولياء 63/1
2- كنز العمال 153/6 مجمع الزوائد 353/8
3- الرياض النضرة 178/2
4- الرياض النضرة 178/2 و في كنوز الحقائق للمناوي ص 121 انه(ص)قال:«لكل نبي وصي و وارث،و علي وصي و وارثي».
5- الاتحاف بحب الاشراف ص 129،نزهة المجالس 184/2.

أبو أئمة تسعة (1)و أخرج الصدوق في الاكمال بالاسناد الي سلمان قال:

دخلت علي النبي(ص)فاذا الحسين بن علي علي فخذه و هو يلثم فاه، و يقول:أنت سيد ابن سيد،أنت إمام بن إمام أخو إمام أبو الأئمة، و أنت حجة اللّه و ابن حجته،و أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم (2).

و استفاضت كتب الحديث بنصوص نبوية أخري تحصر الامامة في اثني عشر اماما كلهم من قريش فقد روي جابر بن سمرة قال:سمعت رسول اللّه(ص)-يوم جمعة عشية رجم الأسلمي-يقول:لا يزال الدين قائما حتي تقوم الساعة،و يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (3)و أخرج الصدوق في الاكمال بسنده الي الامام الصادق(ع)عن أبيه عن جده قال:قال رسول اللّه(ص):الأئمة اثنا عشر أولهم علي و آخرهم القائم هم خلفائي و أوصيائي (4).

و روي الحافظ أبو نعيم بسنده عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه(ص) من سره أن يحيي حياتي و يموت مماتي و يسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليا من بعدي،و ليوال وليه،و ليقتد بالأئمة من بعدي فانهم عترتي خلقوا من طينتي،و رزقوا فهما و علما،و ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي،لا أنا لهم اللّه شفاعتي» (5)./1

ص: 125


1- منهاج السنة 210/4.
2- المراجعات ص 228
3- صحيح مسلم كتاب الامارة،مسند الامام أحمد بن حنبل 89/5 صحيح البخاري 164/4
4- المراجعات ص 227
5- حلية الأولياء 86/1

و يضاف الي تلك النصوص النبوية،النصوص التي رواها الثقات و المتحرجون في دينهم عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في نص كل إمام منهم علي الامام الذي يخلفه من بعده،فقد أوصي أمير المؤمنين(ع)حينما حضرته الوفاة الي ولده الامام الحسن(ع)و قال له:«يا بني أمرني رسول اللّه أن أوصي إليك،و أن أدفع إليك كتبي و سلاحي،كما أوصي إلي رسول اللّه(ص)،و دفع إلي كتبه و سلاحه،و أمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها الي أخيك الحسين»ثم أقبل علي الحسين فقال:«و أمرك رسول اللّه أن تدفعها إلي ابنك هذا-و أشار الي زين العابدين-ثم أخذ بيد علي بن الحسين و قال:«و أمرك رسول اللّه أن تدفعها الي ابنك محمد.فأقرئه من رسول اللّه و مني السلام» (1).

و هناك مئات أمثال هذه النصوص حفلت بها كتب الحديث و هي تدل علي لزوم النص في الامامة،و بطلان غيره و قد أخذت بها الشيعة في بناء عقيدتها في الامامة.

النص علي امامته:

اشارة

و عرف الامام الصادق(ع)شيعته بامامة ولده موسي(ع)منذ أن أشرقت الدنيا بولادته،و كان في كل مناسبة يحيطهم علما بذلك و يوصيهم بضرورة الكتمان خوفا عليهم و علي ولده من السلطة الحاكمة،و لما أخذ(ع) بعنق السبعين من سني حياته هرعت إليه طائفة من الشيعة تسأله عن الامام من بعده لتعقد له الولاء و الطاعة،و ترجع إليه في أمور دينها فأجابهم(ع) بأن الحجة من بعده ولده موسي(ع)،و فيما يلي عرض لتلك النصوص:

ص: 126


1- كشف الغمة 151،أصول الكافي.

1-المفضل بن عمر:

و المفضل بن عمر الجعفي (1)من عيون الشيعة و أعلامها البابهين،و قد سأل الامام جعفر بن محمد عليه السلام عن الحجة من بعده ليتولاه و يدين بامامته فقال(ع):

«يا مفضل،الامام من بعدي ابني موسي،الخلف المأمول المنتظر» (2)

2-يزيد بن سليط:

و يزيد بن سليط ثقة أمين من أهل الورع و العلم (3)قصد بيت اللّه الحرام و معه زمرة من أصحابه فالتقي في أثناء الطريق بالامام أبي عبد اللّه و كان معه ولده و حاشيته فبادر إلي الامام يسأله عن الحجة من بعده قائلا:

«بأبي أنتم و أمي،أنتم الأئمة المطهرون،و الموت لا يعري منه أحد فمن القائم من بعدك؟فأشار(ع)الي ولده موسي و أخذ يبين له ما تحلي به ولده من المثل العليا قائلا:

«فعنده علم الحكمة،و الفهم،و السخاء،و المعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم،و فيه حسن الخلق،و حسن الجوار، و هو باب من أبواب اللّه،و فيه أخري هي خير من هذا كله..».

-بأبي أنت و أمي،و ما هي!!؟ -يخرج اللّه تعالي منه غوث هذه الأمة،و غياثها،و علمها،و نورها و فهمها،و حكيمها،خير مولود و خير ناشئ،يحقن اللّه به الدماء، و يصلح به ذات البين،و يلم به الشعث،و يشعب به الصدع،و يكسو به العاري،و يشبع به الجائع،و يؤمن به الخائف،و ينزل به القطر،و يأتمر

ص: 127


1- تأتي ترجمته في كوكبة الرواة و الأصحاب.
2- البحار:(ج 11 ص 234)الارشاد.
3- تأتي ترجمته.

له العباد،خير كهل،و خير ناشئ.قوله حكم،و صمته علم يبين للناس ما يختلفون فيه..» (1).

و قد أخبر(ع)بما منح اللّه به ولده بأن جعل من ذريته مهدي آل محمد(ع)الذي بشر به النبي و الأئمة من بعده،و هو الذي يقيم الاعوجاج و يصلح ما فسد من نظام الدنيا و الدين،و لا يخرج حتي يسود الفساد و يعم الظلم و تنتشر الفوضي،و يشيع التفسخ،و تموج الأرض بالفتن و الاضطراب عجل اللّه فرجه،و جعلنا من دعاته و أنصاره.

3-داود بن كثير:

و هرع داود بن كثير،الي الامام أبي عبد اللّه يسأله عن الامام من بعده قائلا:

جعلني اللّه فداك،و قد مني للموت قبلك،إن كان كون فالي من أرجع؟ -إلي ابني موسي.

و اطمأن داود بذلك،و استراح ضميره فلم يداخله الشك و لم يتحير في معرفة الامام كما حدث بذلك بقوله:«ما شككت في موسي طرفه عين (2).

4-الفيض بن المختار:

و تشرف الفيض بزيارة الامام أبي عبد اللّه عليه السّلام فجري بينهما حديث في شأن أبي الحسن موسي،و بينما هما يتحدثان في أمره إذ دخل الامام موسي فالتفت أبو عبد اللّه الي الفيض قائلا:

«يا فيض هو صاحبك الذي سألت عنه،فقم فقر له بحقه».

ص: 128


1- البحار:(ج 11 ص 234).
2- نفس المصدر.

فاندفع الفيض يلثم يد الامام و رأسه،و يدعو اللّه له بالبقاء و الحياة، و التفت الي أبي عبد اللّه قائلا:

-جعلت فداك أ فأخبر به أحدا..؟ -نعم أهلك،و ولدك،و رفقاءك.

و بهذا نقف علي مدي التكتم الشديد من الامام و شيعته،خوفا من السلطة الجائرة،و انبري الفيض إلي خلص أصحابه فأتحفهم بهذا النبأ المسر و كان من جملتهم يونس بن ظبيان،فأراد أن يزداد يقينا فبادر الي ثوي الامام فلما انتهي إليه بادر إليه الامام أبو عبد اللّه قائلا:

«يا يونس،الأمر كما قال لك الفيض».

فانصرف يونس و هو مثلوج القلب قد غمره الفرح و السرور بهذه النعمة التي ظفر بها (1).

5-ابراهيم الكرخي:

و زار ابراهيم الكرخي الامام جعفر بن محمد(ع)و بينما هو جالس بخدمة الامام إذ أقبل أبو الحسن موسي فقام إليه ابراهيم اجلالا،فالتفت إليه أبو عبد اللّه.

«يا ابراهيم:اما إنه صاحبك من بعدي،اما ليهلكن فيه قوم، و يسعد فيه آخرون،فلعن اللّه قاتله،و ضاعف العذاب علي روحه،اما ليخرجن اللّه من صلبه خير أهل الأرض في زمانه سمي جده-يعني محمد المهدي عجل اللّه فرجه سمي النبي و شبيهه في تحطيمه للظلم و القضاء علي الظالمين- و وارث علمه،يقتله جبار بني فلان بعد عجائب طريفة حسدا له و لكن اللّه بالغ أمره و لو كره المشركون».

و أخذ يتحدث عن ولده،و ما منحه اللّه من اللطف و الكرامة قائلا:

ص: 129


1- أصول الكافي:(ج 1 ص 309)البحار)ج 11 ص 234).

«يخرج اللّه من صلبه تمام اثني عشر مهديا،اختصهم اللّه بكرامته، و أحلهم دار قدسه،المقر بالثاني عشر منهم كالشاهر سيفه بين يدي رسول اللّه(ص)يذب عنه».

و لما انتهي(ع)الي هذه الفقرات من حديثه دخل عليه بعض عملاء الأمويين فقطع(ع)الحديث،و أراد ابراهيم إتمامه فلم يظفر به فرحل عن يثرب الي وطنه و لما كان العام المقبل تشرف بالمثول بين يدي الامام و هو يتحرق شوقا الي سماع بقية كلامه فأدرك عليه السلام ذلك فقال:

«يا ابراهيم:المفرج الكرب عن شيعته بعد ضنك شديد،و بلاء طويل،و جزع و خوف،فطوبي لمن أدركه،ثم قال له:حسبك يا ابراهيم».

و فرح ابراهيم بهذا الكلام من حديث الامام و انطلق يقول:

«ما رجعت بشيء أسر من هذا لقلبي،و لا أقر لعيني» (1).

6-عيسي العلوي:

و دخل عيسي بن عبد اللّه العلوي علي الامام جعفر بن محمد يسأله عن الحجة من بعده قائلا:

«إن كان كون-و لا أراني اللّه ذلك-فبمن آتم؟».

فأومأ عليه السلام الي ولده موسي فانبري عيسي قائلا:

-فان حدث بموسي حدث فبمن آتم؟.

-بولده.

-فان حدث بولده حدث،و ترك أخا كبيرا و ابنا صغيرا فبمن آتم؟.

-بولده،ثم هكذا أبدا.

-فان لم أعرفه،و لا أعرف موضعه؟.

ص: 130


1- البحار:(ج 11 ص 235).

-تقول:اللهم،إني أتولي من بقي من حججك من ولد الامام الماضي فان ذلك يجزيك..» (1).

7-معاذ بن كثير:

و قصد معاذ بن كثير (2)الامام الصادق يسأله عن الامام الذي يتولاه من بعده قائلا:

«أسأل اللّه الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها..».

-قد فعل اللّه ذلك.

-من هو جعلت فداك؟.

فأشار الي ولده موسي و هو راقد قائلا:هذا الراقد،و كان آنذاك غلاما (3).

8-منصور بن حازم:

و دخل منصور بن حازم علي الامام أبي عبد اللّه يطلب منه تعيين الامام من بعده قائلا:

-بأبي أنت و أمي إن الأنفس يغدا عليها و يراح فاذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد اللّه:فهذا هو صاحبكم،و أشار الي أبي الحسن موسي ثم وضع يده علي منكب ولده مدلا عليه،و كان عمره آنذاك خمس سنين (4).

ص: 131


1- أصول الكافي:(ج 1 ص 309)البحار:(ج 11 ص 235)
2- معاذ بن كثير الكسائي الكوفي من خواص الامام أبي عبد اللّه، و من فقهاء هذه الطائفة و أحد أعلامها،جاء ذلك في التعليقات:(ص 335).
3- كشف الغمة:(ص 244)أصول الكافي:(ج 1 ص 308)البحار: (ج 11 ص 235)الارشاد:(ص 264).
4- أصول الكافي:(ج 1 ص 309).

9-سليمان بن خالد:

و حدث سليمان بن خالد قال:كنت جالسا أنا و جماعة من أصحابي عند الامام أبي عبد اللّه عليه السلام فدعا(ع)ولده موسي فلما مثل بين يديه التفت الي أصحابه قائلا:

«عليكم بهذا بعدي،فهو و اللّه صاحبكم» (1).

10-صفوان الجمال:

تقدم نص حديثه الذي استدللنا به علي ذكاء الامام و عبقريته في دور طفولته.

11-اسحاق بن جعفر:

و حدث اسحاق بن الامام الصادق قال:كنت عند أبي فسأله عمران ابن علي عن الامام من بعده قائلا:

-جعلت فداك الي من نفزع و يفزع الناس بعدك؟.

-الي صاحب الثوبين الأصفرين الطالع عليكم من الباب.

فجعل علي يتشوف و يترقب الداخل من الباب فلم يلبث أن خرج إليهم الامام موسي،و هو صبي يافع و عليه ثوبان اصفران،و عنده غديرتان (2).

12-علي بن جعفر:

و روي علي نجل الامام الصادق عليه السلام،قال:«سمعت أبي جعفر ابن محمد(ع)يقول لجماعة من خاصته و أصحابه،استوصوا بابني موسي خيرا فانه أفضل ولدي،و من اخلف بعدي،و هو القائم مقامي و الحجة للّه تعالي علي كافة خلقه» (3).

ص: 132


1- الارشاد:(ص 265)أصول الكافي:(ج 1 ص 310).
2- كشف الغمة:(ص 244)الارشاد:(ص 265)البحار.
3- كشف الغمة:(ص 244)الارشاد:(ص 266).

13-يزيد بن اسباط:

و دخل يزيد بن اسباط علي الامام أبي عبد اللّه(ع)عائدا له في مرضه الذي توفي فيه.فالتفت له الامام قائلا:

«يا يزيد أ تري هذا-و أشار لولده موسي-إذا رأيت الناس قد اختلفوا فيه،فاشهد عليّ بأني اخبرتك أن يوسف انما كان ذنبه عند اخوته حتي طرحوه في الجب،الحسد له حين اخبرهم أنه رأي أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و كذلك لا بد لهذا الغلام من أن يحسد...».

ثم استدعي بأولاده عبد اللّه و اسحاق و محمد و العباس،و موسي فقال لهم:

«هذا-و أشار لولده موسي-وصي الأوصياء،و عالم العلماء، و شهيد علي الأموات و الأحياء..» (1).

14-سلمة بن محرز:

و ندد بعض المنافقين من العجلية في عقيدة الشيعة التي تنص علي أن الامام لا بد أن يخلفه إمام،و الامام الصادق ليس له خلف ليقوم مقامه، و قد ذكر ذلك أمام سلمة بن محرز فلما سمع كلامه فزع الي الامام(ع) -و هو متألم-لينقل له حديثه و يطلب منه تعيين الامام من بعده قائلا:

«سيدي:إن رجلا من العجلية،قال لي:كم عسي أن يبقي لكم هذا الشيخ-يعني أبا عبد اللّه-إنما سنة أو سنتان حتي يموت،ثم تصيرون ليس لكم أحد تنظرون إليه..».

-فقال له أبو عبد اللّه:أ لا قلت له:هذا موسي بن جعفر قد أدرك ما يدرك الرجال...الخ (2).

ص: 133


1- البحار:(ج 11 ص 236).
2- البحار:(ج 11 ص 237).

15-زرارة بن أعين:

و روي زرارة بن اعين (1)قال:دخلت علي أبي عبد اللّه(ع)و كان عنده سيد ولده أبو الحسن موسي،و في مجلسه جثمان قد غطي بثوب فأمرني أبو عبد اللّه(ع)أن أحضر له داود الرقي،و حمران و أبا بصير،فخرجت لدعوتهم فصادفني المفضل بن عمر قاصدا نحو الامام،و رأيت الناس تتوافد علي بيت الامام:فمضيت مسرعا فدعوت القوم إليه فلما تشرفوا بمقابلته التفت(ع)الي داود الرقي فقال له:اكشف عن وجه اسماعيل،فكشف عن وجهه و إذا به جثة هامدة لا حراك فيها فقال عليه السلام لداود:

-يا داود:أ هو حي أم ميت؟ -يا سيدي:بل هو ميت.

و جعل يعرض ذلك علي جميع حضار مجلسه يشهدهم علي وفاته،و يطلب منهم الاقرار و الاعتراف بموته،و انما فعل ذلك ليفند مزاعم بعض الشيعة الذين ذهبوا الي أن اسماعيل هو الامام بعد أبيه نظرا لصلاحه و وفور علمه

ص: 134


1- زرارة بن أعين الشيباني من أقطاب الشيعة و في طليعة علمائها في الفقه و الحديث و الكلام-كما قال ابن النديم-و قد اعتز به الامام أبو عبد اللّه عليه السلام فنصبه علما للفتيا بين شيعته،و قال للفيض بن المختار:«إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس و أومأ بيده الي زرارة»و قال عليه السلام: «لو لا زرارة و نظراؤه لاندرست أحاديث أبي»و روي زرارة الكثير من فقه أهل البيت و أحاديثهم و كل ما رواه فهو صحيح مقبول،و نظرا لاتصاله الوثيق و قربه بأهل البيت فقد طعن فيه أعدائهم و مخالفوهم فاتهموه بشتي التهم و الطعون،و لم يحط ذلك من كرامته و منزلته،فقد عرف الجميع ما لزرارة من أياد بيضاء علي العلم و الدين،توفي رحمه اللّه سنة 150 ه- راجع ترجمته في النجاشي و الكشي و الفهرست و التعليقات و لسان الميزان و غيرها.

فأراد(ع)أن يثيبهم الي الرشاد،و يرجعهم الي الصواب،و يدلهم علي أن الامام من بعده ولده موسي،ثم أنه أمر بتجهيزه فغسل و أدرج في اكفانه ثم أمر المفضل بن عمر أن يحسر عن وجهه ثانيا ليراه الناس و يقطعوا بموته حتي لا يبقي مجال للشك في ذلك،و بعد هذا أراد الزيادة في التأكيد و نفي الريب فالتفت الي جميع أصحابه قائلا:

-أ هو حي أم ميت؟.

فهتفوا جميعا معترفين بموته فرفع(ع)يديه الي السماء و انطلق يقول:

«اللهم:اشهد فانه سيرتاب فيه المبطلون،يريدون إطفاء نور اللّه -و أشار لولده موسي-بأفواههم،و اللّه متم نوره و لو كره المشركون» ثم إنه أمر أن يواري الجثمان في مقره الأخير،و بعد أن وسد في ملحود قبره و أهيل عليه التراب التفت الي أصحابه ليرفع عنهم الشبه و الظنون قائلا:

«الميت،المكفن،المحنط،المدفون في هذا اللحد من هو؟.

فانبروا جميعا قائلين:إنه اسماعيل،فقال(ع):اللهم،اشهد،ثم أخذ بيد ولده موسي و هو يقول:

«هو الحق،و الحق معه و منه الي أن يرث اللّه الأرض و من عليها...» (1).

و قد فند(ع)بهذه التصريحات المتكررة الشبه التي حامت عند بعض أصحابه حول إمامة ولده إسماعيل،و قد بين لهم غير مرة أن الامامة ليست بيده و انما هي بيد اللّه تعالي فهو الذي يمنحها لمن يشاء من عباده،و قد روي أبو بصير قال:كنت عند أبي عبد اللّه(ع)فذكر أصحابه الأوصياء و ذكروا اسماعيل،فالتفت إلي الامام قائلا:

-لا و اللّه،يا أبا محمد،ما ذاك إلينا،و ما هو إلا اللّه عز و جل ينزل).

ص: 135


1- البحار:(ج 11 ص 237).

واحدا بعد واحد..» (1).

و قد صرح(ع)بأن تعيين الامام لا يرجع إليه و انما هو بيد اللّه تعالي فهو الذي يختاره من بين عباده ممن تتوفر فيه النزعات الخيرة و المواهب الكريمة و ليس لأحد-بعد ذلك-أن يختار،و قد عرف ذلك و آمن به الخواص من الشيعة كما حدث بذلك ظريف بن ناصح (2)قال:كنت مع الحسين بن زيد و معه ابنه علي إذ مر بنا أبو الحسن موسي عليه السلام فسلم و انصرف،فقلت للحسين:

«جعلت فداك يعرف موسي بقائم آل محمد(ع)؟».

-إن يكن أحد يعرفه فهو،ثم قال:و كيف لا يعرفه؟!و عنده خط علي بن أبي طالب و إملاء رسول اللّه(ص)».

فانبري إليه ولده قائلا:

-كيف لم يكن ذلك عند أبي زيد بن علي؟!.

-يا بني:إن علي بن الحسين،و محمد بن علي سيدا الناس و إماماهم فلزم-يا بني-أبوك زيد أخاه،و تأدب بأدبه،و تفقه بفقهه.

-يا أبة:ان حدث بموسي(ع)حدث يوصي الي أحد من اخوته.

-لا-و اللّه لا يوصي إلا الي ابنه..» (3).

16-بعض الشيعة:

و دخل علي الامام بعض شيعته يطلب منه أن يعين له الامام من

ص: 136


1- البحار:(ج 11 ص 227).
2- ظريف بن ناصح:كوفي نشأ ببغداد ثقة في حديثه،ألف عدة كتب منها كتاب(الديات)،و كتاب(الحدود)،و كتاب(النوادر) جاء ذلك في التعليقات ص 186.
3- زيد بن علي ص 193 نقلا عن قرب الاسناد مخطوط.

بعده فقال(ع):

«سابعكم قائمكم ألا و هو سمي صاحب التوراة-يعني موسي بن عمران عليه السلام- (1).

17-بعض أصحابه:

و تشرف بعض أصحاب الامام بمقابلته فطلب منه أن يعين له الحجة من بعده فقال(ع)له:عد الأيام فعدها من الأحد حتي بلغ السبت فقال له الامام:

-كم عددت؟.

-سبعة.

فانبري قائلا:سبت السبوت،و شمس الدهور،و نور الشهور،من لا يلهو،و لا يلعب،و هو سابعكم قائمكم،ثم أشار لولده موسي (2).

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض النصوص الواردة من الامام جعفر بن محمد(ع)في إمامة ولده أبي الحسن موسي(ع)،و هي تفيد القطع بامامته،و الامامة-كما ذكرنا-من أهم الطاف اللّه تعالي التي خص بها أئمة أهل البيت،فبها تلتقي جميع عناصر الصلاح و الكمال،و نعرض فيما يلي الي بعض مثله الأخري التي تكشف عن سر إمامته.

مواهبه العلمية:

كان الامام موسي(ع)أعلم أهل عصره بجميع أنواع العلوم العقلية و النقلية،و كان علمه إلهاميا كعلم الأنبياء و الأوصياء لا كسبيا كبقية الناس

ص: 137


1- دائرة المعارف لفريد و جدي:(ج 9 ص 594)الملل و النحل
2- نفس المصدر.

و قد أقام المتكلمون من الشيعة علي ذلك سيلا من الأدلة لا تقبل الجدل و الشك و شهد للامام موسي(ع)بوفور علمه أبوه الامام جعفر بن محمد فقال في حقه لعيسي:

«إن ابني هذا لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم» و قال فيه:

«و عنده علم الحكمة،و الفهم،و السخاء،و المعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم».

و يكفي للتدليل علي سعة علومه رواية العلماء عنه جميع الفنون من علوم الدين و غيرها مما ملأوا به الكتب،و ألفوا المؤلفات الكثيرة،حتي عرف بين الرواة بالعالم،و قال الشيخ المفيد:

و قد روي الناس عن أبي الحسن موسي فأكثروا،و كان أفقه أهل زمانه (1).

عبادته و تقواه:

اشارة

نشأ الامام موسي في بيت القداسة و التقوي،و ترعرع في معهد العبادة و الطاعة،بالاضافة الي أنه ورث من آبائه حب اللّه و الايمان به و الاخلاص له فقد قدموا نفوسهم قرابين في سبيله،و بذلوا جميع إمكانياتهم في نشر دينه و القضاء علي كلمة الشرك و الضلال؟فأهل البيت أساس التقوي و معدن الايمان و العقيدة،فلولاهم ما عبد اللّه عابد و لا وحده موحد.و ما حقت فريضة،و لا أقيمت سنة،و لا ساغت في الاسلام شريعة.

لقد رأي الامام(ع)جميع صور التقوي ماثلة في بيته،فكان أبوه

ص: 138


1- الارشاد:ص 272.

الامام الصادق(ع)لا يخلو-كما يقول مالك-من خصال ثلاث:إ ما صائما و اما قائما،و اما ذاكرا،و كان يطعم الفقراء و يكسوهم حتي لم يبق لعياله شيء من طعام و كسوة (1)بذل كل ذلك بسخاء في سبيل اللّه و التقرب إليه.

رأي الامام موسي ذلك من أبيه فتطبع عليه و صار من مقومات ذاته و من عناصر شخصيته،و حدث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه (2)حتي لقب بالعبد الصالح،و بزين المجتهدين إذ لم تر عين انسان نظيرا له قط في الطاعة و العبادة،و نعرض انموذجا من مظاهر طاعته و عبادته:

انموذجا من مظاهر طاعته و عبادته:

أ-صلاته:

إن أجمل الساعات و أثمنها عند الامام(ع)هي الساعات التي يخلو بها مع اللّه عز اسمه فكان يقبل عليه بجميع مشاعره و عواطفه و قد حدث الرواة أنه إذا وقف بين يدي اللّه تعالي مصليا أو مناجيا أو داعيا ارسل ما في عينيه من دموع،و خفق قلبه،و اضطرب موجدة و خوفا منه،و قد شغل أغلب أوقاته في الصلاة فكان يصلي نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح،ثم يعقب حتي تطلع الشمس،و يخر للّه ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء و التمجيد حتي يقرب زوال الشمس (3)،من مظاهر طاعته انه دخل مسجد النبي(ص)في أول الليل فسجد سجدة واحدة و هو يقول بنبرات تقطر إخلاصا و خوفا منه:

«عظم الذنب عندي،فليحسن العفو من عندك،يا أهل التقوي، و يا أهل المغفرة».

ص: 139


1- صفوة الصفوة:(ج 2 ص 98).
2- جوهرة الكلام:ص 139.
3- كشف الغمة:ص 276.

و جعل يردد هذه الكلمات بانابة و خشوع و بكاء حتي أصبح الصبح (1)و لما أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السجون تفرغ للطاعة و العبادة حتي بهر بذلك العقول و حير الألباب،فقد شكر اللّه علي تفرغه لطاعته قائلا:

«اللهم،إني طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك،و قد استجبت مني فلك الحمد علي ذلك..» (2).

لقد ضرب الامام الرقم القياسي للعبادة فلم يضارعه أحد في طاعته و اقباله علي اللّه،فقد هامت نفسه بحبه تعالي،و انطبع في قلبه الايمان العميق.

و حدث الشيباني (3)عن مدي عبادته،فقال:

كانت لأبي الحسن موسي(ع)في بضع عشر سنه سجدة في كل يوم بعد ابيضاض الشمس الي وقت الزوال (4)،و قد اعترف عدوه هارون الرشيد بأنه المثل الأعلي للانابة و الايمان،و ذلك حينما أودعه في سجن).

ص: 140


1- وفيات الأعيان:(ج 4 ص 293)و كنز اللغة:ص 766،
2- وفيات الأعيان(ج 4 ص 293)المناقب(ج 2 ص 379)
3- الشيباني:هو أبو عبد اللّه محمد بن الحسن مولي لبني شيبان حضر مجلس أبي حنيفة سنين،و تفقه علي أبي يوسف،و صنف الكتب الكثيرة و نشر علم أبي حنيفة و قال الشافعي:حملت من علم محمد بن الحسن وقر بعير و قال أيضا:ما رأيت أحدا يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن.توفي بالري سنة 187 ه- و هو ابن ثمان و خمسين سنة جاء ذلك في طبقات الفقهاء:ص 114.
4- البحار:(ج 11 ص 298).

الربيع (1)فكان يطل من أعلي القصر فيري ثوبا مطروحا في مكان خاصا:

ص: 141


1- الربيع بن يونس كان حاجبا للمنصور ثم صار وزيرا له بعد أبي أيوب،و كان المنصور كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه قال له يوما: ويحك،يا ربيع ما أطيب الدنيا لو لا الموت،فقال له الربيع:ما طابت الدنيا إلا بالموت،قال له:و كيف ذلك؟فأجابه لو لا الموت لم تقعد هذا المقعد،فقال له:صدقت،و قال له المنصور:لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة بنومة،و يقال إن الربيع لم يكن له أب يعرف،و ان بعض الهاشميين وفد علي المنصور فجعل يحدثه و يقول له:كان أبي رحمه اللّه، و كان،و كان،و أكثر من الترحم عليه،فقال له الربيع:كم تترحم علي أبيك بحضرة أمير المؤمنين؟فقال له الهاشمي:أنت معذور لأنك لا تعرف مقدار الآباء فخجل،أشد الخجل،و من أبدع الصدف التي اتفقت للربيع مع المنصور انه لما دخل المدينة قال له:ابغني رجلا عاقلا عالما ليوقفني علي دورها فقد بعد عهدي بديار قومي،فالتمس له الربيع فتي من أعلم الناس و أعقلهم،فكان لا يبتدئ بالاخبار عن شيء حتي يسأله المنصور فيجيبه بأحسن عبارة و أجود بيان و أوفي معني،فأعجب المنصور به فأمر له بمال فتأخر عنه،و دعته الضرورة الي استنجازه،فاجتاز المنصور و معه الفتي ببيت عاتكة الأموية،فقال له:يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص بن محمد الانصاري: يا بيت عاتكة الذي أتغزل حذر العدي و به الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود و انني قسما إليك مع الصدود لأميل ففكر المنصور في قوله،و قال إنه لم يخالف عادته بابتداء الاخبار دون الاستخبار إلا لأمر و أقبل يردد القصيدة و يتصفحها بيتا فبيتا حتي انتهي الي قوله فيها:

من البيت لم يتغير عن موضعه فيتعجب من ذلك و يقول للربيع:

-ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟!.

-يا أمير المؤمنين:ما ذاك بثوب،و إنما هو موسي بن جعفر،له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس الي وقت الزوال.

فبهر هارون و انطلق يبدي إعجابه.

-اما إن هذا من رهبان بني هاشم!! و التفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الامام و عزوفه عن الدنيا طالبا أن يطلق سراحه و لا يضيق عليه قائلا:

-يا أمير المؤمنين:ما لك قد ضيقت عليه في الحبس!!؟ فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من عدم الرحمة و الرأفة قائلا:

«هيهات:لا بد من ذلك!.» (1).

إن هارون يعلم مآثر الامام و زهده،و لكن حرصه علي الدنيا و حبه للملك هو الذي أعماه لأن يضيق علي الامام،و سنوضح ذلك بمزيد من البيان عند التعرض لما لاقاه الامام منه من الخطوب الهائلة و المحن السود.

و روت شقيقة السندي بن شاهك-حينما سجن الامام في بيت أخيها- عن عبادة الامام فقالت:

«إنه إذا صلي العتمة حمد اللّه و مجده و دعاه الي أن يزول الليل،ثم).

ص: 142


1- و أراك تفعل ما تقول و بعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل فقال المنصور للربيع:هل أوصلت الي الرجل ما أمرنا له به،فقال له:تأخر عنه لعلة فقال:عجله له مضاعفا،و هذا الطف تعريض من الفتي و أحسن فهم من المنصور،توفي الربيع سنة 170 ه- جاء ذلك في وفيات الأعيان:(ج 1 ص 231-233)ط بولاق.

يقوم،و يصلي حتي يطلع الصبح،فيصلي الصبح،ثم يذكر اللّه حتي تطلع الشمس،ثم يقعد الي ارتفاع الضحي،ثم يرقد و يستيقظ قبل الزوال،ثم يتوضأ و يصلي حتي يصلي العصر،ثم يذكر اللّه حتي يصلي المغرب،ثم يصلي ما بين المغرب و العتمة،فكان هذا دأبه الي أن مات» (1)،و هذه البوادر التي نقلت دلت علي شغف الامام بالعبادة و إقباله علي اللّه و قد شغل أغلب أوقاته في الصلاة،و لكثرة سجوده فقد كانت له ثفنات كثفنات البعير،و كان له غلام يقص اللحم من جبينه و عرنين أنفه،و قد ألمع الي ذلك بعض الشعراء بقوله:

طالت لطول سجود منه ثفنته فقرحت جبهة منه و عرنينا

رأي فراغته في السجن منيته و نعمة شكر الباري بها حينا (2)

ب-صومه:

أنفق الامام أغلب أيام حياته في طاعة اللّه فكان يصوم في النهار و يقوم مصليا في الليل،خصوصا لما سجنه هارون فانه لم يبارح العبادة الاستحبابية بجميع أنواعها من صوم و غيره،و هو يشكر اللّه و يحمده علي هذا الفراغ الذي قضاه في عبادته.

ج-حجه:

و ما من شيء يحبه اللّه و ندب إليه إلا فعله الامام عن رغبة و اخلاص فمن ذلك أنه حج بيت اللّه ماشيا علي قدميه،و النجائب تقاد بين يديه، و قد حج معه أخوه علي بن جعفر و جميع عياله أربع مرات،و حدث علي ابن جعفر عن الوقت الذي قطعوا به طريقهم فقال:كانت السفرة(الاولي) ستا و عشرين يوما،و(الثانية)كانت خمسا و عشرين يوما،و(الثالثة)

ص: 143


1- تأريخ أبي الفداء:(ج 2 ص 12).
2- الأنوار البهية:ص 93.

كانت أربعا و عشرين يوما،و(و الرابعة)كانت إحدي و عشرين يوما (1)و كان في أغلب أسفاره الي بيت اللّه يتنكب الطريق،و ينفرد عن الناس،قد تعلق قلبه و فكره باللّه تعالي،و قد حج عليه السلام مرة فلم يصبح معه أحدا،و جرت له قصة مع شقيق البلخي (2)أجمع علي ذكرها أغلب2)

ص: 144


1- البحار:(ج 11 ص 261).
2- شقيق البلخي من كبار العباد و الزهاد في العالم الاسلامي كان في بداية أمره من المرابين فتاب الي اللّه توبة نصوحة فتصدق بأمواله البالغة ثلاثمائة الف درهم.و كانت له ثلاثمائة قرية فتصدق بها حتي أنه لما استشهد في غزوة(كولان)لم يكن يملك كفنا يلف به،و قد لبس ثياب الصوف الخشنة عشرين سنة،و قال:عملت في القرآن عشرين سنة حتي ميزت الدنيا من الآخرة في حرفين،و هو قوله تعالي: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها،وَ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقي و كان يقول:ثلاث خصال هي تاج للزهد:(الأولي)أن يميل علي الهوي و لا يميل مع الهوي، و(الثانية)ينقطع الزهد الي الزهد بقلبه،و(الثالثة)أن يذكر كلما خلي بنفسه كيف مدخله في قبره و كيف مخرجه،و يذكر الجوع و العطش و العري و طول القيامة،و الحساب،و الصراط،و طول الحساب،و الفضيحة البادية،فاذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور،فاذا كان ذلك كان من محبي الزهاد،و من أحبهم كان معهم،و قال:من أراد أن يعرف معرفة باللّه فلينظر الي ما وعده اللّه،و وعده الناس بأيهما قلبه أوثق،و قال لبعض أصحابه اتق الأغنياء فانك متي ما عقدت قلبك معهم،و طمعت فيهم فقد اتخذتهم ربا من دون اللّه عز و جل،جاء ذلك في حلية الأولياء:«ج 8 ص 59-71»،و قد ذكر له صاحب الحلية الشيء الكثير من الكلمات الحكمية و الوصايا الرفيعة،و جاء في لسان الميزان(ج 3 ص 151-152)

من ترجم للامام،و هذا نصها:

خرج شقيق حاجا بيت اللّه الحرام سنة 149 ه- أو سنة 146،فنزل القادسية،و لما استقر به المكان أخذ يشرف علي الحجاج،و ينظر الي استعدادهم و بينما هو مشغول بالنظر الي الحجيج إذ وقع بصره-كما يقول- علي شاب حسن الوجه،شديد السمرة،نحيف الجسم،فوق ثيابه ثوب من صوف،قد جلس وحده،منفردا عن الناس،بعيدا عن شئونهم، لم يختلط معهم،فدار في خلده،أن هذا الفتي من الصوفية يريد أن يكون عبثا ثقيلا علي الحاج حيث لا متاع عنده،و لم يصحب معه ما يحتاج إليه المسافر من المتاع اللازم،فصمم شقيق علي أن يمضي إليه،و يوبخه ليرتدع عما هو فيه،و يثيب الي الصواب فلما دنا منه انبري إليه الفتي قبل أن يفتح معه الحديث قائلا له بنبرات تقطر لطفا:

«يا شقيق:اجتنبوا كثيرا من الظن،إن بعض الظن إثم!!».

و لم يتكلم بأكثر من هذا.ثم إنه تركه و انصرف عنه،فبهر شقيق و بقي حائر الفكر مذهول اللب،من أمر الفتي الذي نطق باسمه،و عرف دخائل نفسه،و قد داخله الشيء الكثير من الاكبار له،و اطمأن بأنه من عباد اللّه الصالحين،و قد ندم علي ما فرط في أمره،فصمم علي الالتحاق به ليعفو عنه،و يحله من خطيئته،فجد في طلبه فلم يدركه،فلما نزلت القوافل بوادي(فضة)نظر شقيق و اذا بصاحبه واقف يصلي و أعضاؤه تضطرب خوفا من اللّه،و دموعه تتبلور علي خديه،فصبر حتي فرغ من صلاته،فالتفت إليه الفتي قبل أن يسأله قائلا له:

«يا شقيق:اتل،و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدي»-.

ص: 145

ثم إنه تركه و انصرف عنه،و هام شقيق في تيار من الهواجس و الأفكار،و أخذ يقول:يا للّه!يا للعجب!!إنه تكلم بما انطوت عليه نفسي مرتين.

إنه من الابدال.

إنه من المنيبين المهتدين،و أخذ يطيل التفكير في شأنه،و سارت القافلة تطوي البيداء،فلما انتهت الي(الأبواء)خرج شقيق يتجول فيها فوقع نظره علي الفتي فبادر إليه،و اذا به واقف علي بئر يستقي منها،و بيده ركوة قد سقطت في البئر فرمق السماء بطرفه،و جعل يخاطب اللّه بمنتهي الخضوع و الايمان قائلا:

أنت شربي إذا ظمئت من الما ء و قوتي إذا أردت الطعاما

«إلهي:و سيدي،مالي سواك فلا تعدمنيها..».

و لم يزد علي ذلك حتي ارتفع الماء فورا،الي رأس البئر و الركوة طافية عليه،فمد يده فتناولها ثم توضأ منها،و صلي أربع ركعات،ثم مال الي كثيب من الرمل فتناول منه قبضة و جعلها في الركوة فحركها و شرب منه،فسلم عليه شقيق و قال له:

-اطعمني،مما رزقك اللّه.

-يا شقيق:لم تزل نعم اللّه علي ظاهرة و باطنة،فاحسن ظنك بربك ثم ناوله الركوة فشرب منها،فاذا فيها سويق و سكر،فما شرب شقيق -كما يقول-شرابا قط ألذ و لا أطيب منه،و بقي أياما و هو لا يشتهي الطعام و الشراب،ثم إنه مضي عنه،فلم يجتمع به إلا بمكة،فرآه الي جانب(قبة الشراب)في غلس الليل البهيم و هو قائم يصلي بخشوع و أنين و بكاء،فلم يزل كذلك حتي انبثق نور الفجر،ثم انه قام الي(حاشية المطاف)فركع ركعتي الفجر،و صلي صلاة الصبح مع الناس،ثم انعطف

ص: 146

نحو البيت،فطاف فيه بعد شروق الشمس،و بعد الفراغ من الطواف صلي صلاة الطواف،ثم خرج من البيت فتبعه شقيق يريد السلام عليه و التشرف بمقابلته،و إذا بالخدم و الموالي قد طافوا حوله و أحاطوا به يمينا و شمالا، و انكبت عليه جماهير الناس تلثم يديه و أطرافه فتعجب شقيق من ذلك و بادر الي من حوله يسأله عن اسم صاحبه فقيل له:«هذا موسي الكاظم».

فعند ذلك آمن شقيق و تيقن بأن تلك الكرامة جديرة بالامام (1)و نظم بعض الشعراء هذه البادرة بقوله:

سل شقيق البلخي عنه بما عاين منه و ما الذي كان أبصر

قال:لما حججت عاينت شخصا شاحب اللون ناحل الجسم أسمر

سائرا وحده و ليس له زاد فما زلت دائما أتفكر

و توهمت أنه يسأل الناس و لم أدر انه الحج الأكبر

ثم عاينته و نحن نزول دون قيد علي الكثيب الأحمر

يضع الرمل في الاناء و يشربه فناديته و عقلي محير

اسقني شربة فلما سقاني منه عاينته سويقا و سكر

فسألت الحجيج من يك هذا قيل هذا الامام موسي بن جعفر (2)

لقد دلت قصة شقيق علي بعض كرامات الامام و ما اتصف به من الايمان و العلم بما انطوت عليه النفوس.قب

ص: 147


1- اخبار الدول:ص 112،جوهرة الكلام:(ص 140-141) مختار صفوة الصفوة:ص 153،جامع كرامات الأولياء:(ج 2 ص 229) نور الأبصار:ص 135،مثير الغرام،معالم العترة،المناقب،البحار، كشف الغمة،و غيرها.
2- مطالب السئول:ص 84،البحار:(ج 11 ص 55)المناقب
د-تلاوته للقرآن:

كان الذكر الحكيم رفيق الامام في خلواته،و صاحبه في وحشته و كان يتلوه بامعان و تدبر،و كان من أحسن الناس صوتا به،فاذا قرأ يحزن، و يبكي السامعون لتلاوته (1).

و حدث حفص عن كيفية تلاوته للقرآن فقال:و كانت قراءته حزنا فاذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا (2)بهذه الكيفية كان يتلو آيات الذكر الحكيم فكان يمعن في تعاليمه و يمعن في آدابه،و يتبصر في أوامره و نواهيه و أحكامه

ه-بكاؤه من خشية اللّه:

و كان الامام موسي عليه السلام أكثر الناس خشية و أعظمهم خوفا من اللّه فكان كجده امير المؤمنين(ع)في مظاهر خوفه و خشيته من اللّه و قد حدث الرواة عن مدي خوفه من اللّه فقالوا:إنه كان يبكي من خشية اللّه حتي تخضل كريمته الشريفة،من دموع عينيه (3).

و-عتقه للعبيد:

و من مظاهر طاعة الامام(ع)عطفه و احسانه علي الرقيق فقد أعتق منه الف مملوك (4)كل ذلك لوجه اللّه،و ابتغاء مرضاته، و التقرب إليه.

ص: 148


1- المناقب:(ج 2 ص 379).
2- البحار:(ج 11 ص 265).
3- كشف الغمة:(ص 247).
4- الدر النظيم في مناقب الأئمة ليوسف بن حاتم الشامي مخطوط نفيس في مكتبة الامام الحكيم العامة.

زهده:

كان الامام في طليعة الزاهدين في الدنيا و المعرضين عن نعيمها و زخارفها فقد اتجه الي اللّه و رغب فيما أعده له في دار الخلود من النعيم و الكرامة، و قد حدثنا عن مدي زهده ابراهيم بن عبد الحميد فقال:دخلت عليه في بيته الذي كان يصلي فيه،فاذا ليس في البيت شيء سوي خصفة،و سيف معلق،و مصحف (1)،لقد كان عيشه زهيدا،و بيته بسيطا فلم يحتو علي شيء حتي من الأمتعة البسيطة التي تضمها بيوت الفقراء الأمر الذي دل علي تجرده من الدنيا،و إعراضه عنها.علي أنه كانت تجبي له الأموال الطائلة،و الحقوق الشرعية من العالم الشيعي،بالاضافة الي أنه كان يملك البسرية و غيرها من الأراضي الزراعية التي تدر عليه بالأموال الخطيرة،و قد أنفق جميع ذلك بسخاء علي البائسين و المحرومين في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته،و كان(ع) دوما يتلو علي أصحابه سيرة أبي ذر الصحابي العظيم الذي ضرب المثل الأعلي لنكران الذات و التجرد عن الدنيا و الزهد في ملاذها،فقال(ع):

«رحم اللّه أبا ذر.فلقد كان يقول:جزي اللّه الدنيا عني مذمة بعد رغيفين من الشعير،أتغذي بأحدهما،و أتعشي بالآخر،و بعد شملتي الصوف ائتزر باحدهما و أتردي بالأخري..» (2).

و هكذا كان عليه السلام قد وضع نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة النبي(ص)يشيد بذكراهم،و يتلو سيرتهم الوضاءة علي أصحابه لتكون لهم قدوة حسنة في هذه الحياة.

ص: 149


1- البحار:(ج 11 ص 265).
2- أصول الكافي:(ج 2 ص 134).

جوده و سخاؤه:

و الامام موسي(ع)من أرقي أمثلة التكامل الانساني في مواهبه،و من تلك المواهب الكريمة الماثلة فيه أنه كان ندي الكف،مبسوط اليدين بالعطاء و مما لا شبهة فيه أن السخاء انما ينم عن طيب النفس،إذا كان بداعي الخير و الاحسان لا بدواع أخري كحب الظهور و ذيوع الاسم فان ذلك لا يعد من السخاء بل يباينه بكل ما للتباين من معني.

لقد تجلي الكرم الواقعي،و السخاء الحقيقي في الامام فكان مضرب المثل للكرم و المعروف،فقد فزع إليه البائسون و المحرومون لينقذهم من كابوس الفقر و جحيم البؤس و قد أجمع المؤرخون أنه أنفق عليه السلام جميع ما عنده عليهم كل ذلك في سبيل اللّه لم يبتغ من أحد جزاء أو شكورا،و كان(ع) في صلاته يتطلب الكتمان و عدم الذيوع لئلا يشاهد علي الآخذ ذلة الحاجة و كان يلتمس في ذلك وجه اللّه و رضاه،و لهذا كان يخرج في غلس الليل البهيم فيوصل الطبقة الضعيفة ببره و إحسانه و هي لا تعلم من أي جهة تصلها تلك المبرة،و كان يوصلهم بصراره التي تتراوح ما بين المائتي دينار الي الاربعمائة دينار (1)و كان يضرب المثل بتلك الصرار فكان أهله يقولون:

«عجبا لمن جاءته صرار موسي و هو يشتكي القلة و الفقر!!» (2).

و بلغ من عطفه المستفيض أنه إذا بلغه عن شخص يؤذيه و يسيء إليه بعث له بصرة فيها الف دينار (3)،و قد قامت هباته السرية و صلاته الخفية

ص: 150


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 28)كنز اللغة:ص 766.
2- عمدة الطالب:ص 185.
3- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 27).

باعاشة فقراء يثرب،فكانوا جميعا يرتعون بنعمته و يعيشون من عطاياه، و قد ذكر المؤرخون جمهرة كبيرة ممن أغدق عليهم الامام ببره،نقتصر منهم علي ما يلي:

1-محمد البكري:

و كانت لمحمد بن عبد اللّه البكري ديون علي جماعة من أهالي يثرب فقدم إليهم ليستحصل ديونه منهم فبقي مدة يطالبهم،و يلح عليهم فلم يظفر بشيء من ديونه فعنّ له أن يتشرف بمقابلة الامام،و يشكو له الحاجة و الفقر،فمضي إليه و كان(ع)في بعض ضياعه(بنقمي) (1)،و لما وصل الي محل الامام خرج عليه السلام و كان بخدمته غلام معه منسف (2)فيه قديد (3)مجزع (4)فأكلوا منه جميعا و بعد الفراغ من تناول الطعام سأله الامام عن حاله فأخبره بقصته و ضيق حاله،فقام عليه السلام فدخل البيت ثم خرج فأمر غلامه بالانصراف لئن يراه فيكون ذل علي السائل ثم أعطاه صرة فيها ثلاثمائة دينار-لعلها اكثر من ديونه-فأخذها محمد و انصرف شاكرا للامام و داعيا له بالخير (5).).

ص: 151


1- نقمي:بالتحريك و القصر من النقمة و هي العقوبة،موضع من اعراض المدينة كان لآل أبي طالب،جاء ذلك في معجم البلدان:(ج 8 ص 310).
2- المنسف:بالكسر يستعمل في تصفية الحب و غربلته.
3- القديد:اللحم المشرر الذي قطع و شرر كما في تاج العروس: (ج 2 ص 461).
4- المجزع:كل شيء اجتمع فيه سواد و بياض.
5- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 28).

2-غلام زنجي:

و خرج الامام من يثرب مع حاشيته و بعض أولاده الي ضياعه الواقعة بساية (1)و قبل الانتهاء إليها استراحوا في بعض المناطق المجاورة لها،و كان الوقت آنذاك شديد البرد،فبينما هم جلوس إذ خرج إليهم عبد زنجي فصيح اللسان و هو يحمل علي رأسه قدرا يفور،فوقف أمام غلمان الامام و قال لهم:

-أين سيدكم؟.

-هو ذاك-و أشاروا الي أبي الحسن- -أبو من يكني؟.

-أبو الحسن.

فوقف بين يديه و هو يتضرع قائلا له:

-يا سيدي:هذه عصيدة أهديتها إليك.

فقبل الامام هديته و أمره بأن يضعها عند الغلمان فوضعها عندهم ثم انصرف فلم يلبث إلا قليلا حتي أقبل و معه حزمة من الحطب فوقف قبال الامام و قال له:

-يا سيدي:هذا حطب أهديته إليك.

فقبل عليه السلام هديته و أمره أن يلتمس له قبسا من النار،فمضي قليلا ثم جاء بالنار فأمر الامام بكتابة اسمه و اسم مولاه و بعد تسجيله أمر بعض ولده بالاحتفاظ به عند الحاجة،ثم أنهم رحلوا الي ضياعهم فمكثوا فيها أياما،و بعدها اتجهوا الي بيت اللّه الحرام،فاعتمر(ع)فيه،و بعد فراغه أمر صاعدا أن يفتش عن مالك العبد و قال له:

«إذا علمت موضعه فاعلمني حتي أمشي إليه،فاني اكره أن أدعوهع.

ص: 152


1- ساية:واد من حدود الحجاز فيه مزارع.

و الحاجة لي».

فمضي ففتش عن الرجل حتي ظفر به،فعرفه و عرف أنه ممن يدين بالامامة،و بعد السلام عليه سأله الرجل عن قدوم الامام فأنكر عليه صاعد ذلك،ثم سأله عن سبب مجيئه فأخبره بأن له حوائج دعته الي السفر،فلم يقتنع الرجل بذلك و غلب علي ظنه تشريف الامام الي مكة،ثم ودعه صاعد و قفل راجعا الي الامام،فتبعه الرجل و سار علي أثره فالتفت صاعد فرآه يسير خلفه فكلما أراد التخلي عنه فلم يتمكن فسارا معا حتي أقبلا الي الامام فلما مثلا عنده أخذ(ع)يؤنب صاعدا علي اخبار الرجل بقدومه فاعتذر له بأنه لم يخبره و لكنه تبعه بغير اختيار منه،و بعد ما استقر الرجل التفت عليه السلام إليه قائلا:

-غلامك فلان تبيعه؟.

-جعلت فداك،الغلام لك و الضيعة و جميع ما أملك.

-اما الضيعة فلا أحب أن أسلبكها..».

و جعل الرجل يتضرع الي الامام و يتوسل إليه ليقبلهما منه،و الامام ممتنع من إجابته،و أخيرا اشتري(ع)الغلام مع الضيعة بألف دينار فأعتق الغلام،و وهب له الضيعة،كل ذلك ليجازي الاحسان بالاحسان و يقابل المعروف بالمعروف،و قد وسع اللّه علي العبد ببركة الامام حتي اصبح أبناؤه من أثرياء مكة و صرافيها (1).

3-عيسي بن محمد:

و حدث عيسي بن محمد القرطي قال:زرعت بطيخا و قثاء و قرعا (2)ة.

ص: 153


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 29-30)البداية و النهاية: (ج 10 ص 183).
2- القرع:نوع من اليقطين،الواحدة قرعة.

في موضع بالجوانية (1)علي بئر يقال لها أم عضام،فلما قرب الخير و استوي الزرع بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله،و كنت قد غرمت عليه مع ثمن جملين مائة و عشرين دينارا،فبينما أنا جالس إذ طلع علي الامام موسي بن جعفر(ع)فسلم ثم قال لي:

-كيف حالك؟.

-أصبحت كالصريم (2)بغتني الجراد،فأكل زرعي.

-كم غرمت فيه؟ -مائة و عشرين دينارا مع ثمن الجملين.

فالتفت(ع)لعرفة،و قال له:زن لابن المغيث مائة و خمسين دينارا ثم قال لعيسي:فربحك ثلاثون دينارا مع الجملين (3).

4-فقير:

و دخل علي الامام فقير يسأله العطاء فأراد(ع)اختباره ليكرمه علي مقدار معرفته فقال له:

-لو جعل لك التمني في الدنيا ما كنت تتمني؟.

-كنت أتمني أن ارزق التقية في ديني و قضاء حقوق اخواني.

فاستحسن(ع)جوابه و أمر بأن يعطي الف دينار (4).و قد حفلت كتب التأريخ بذكر الكثير من بره و احسانه علي البائسين فقد أغدق عليهم منف.

ص: 154


1- الجوانية:بالفتح و تشديد ثانيه:و كسر النون و ياء مشددة: موضع أو قرية قرب المدينة،جاء ذلك في معجم البلدان(ج 2 ص 175) طبع بيروت.
2- الصريم:الأرض المحصود زرعها.
3- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 29)و كشف الغمة:(ص 243).
4- الوسائل:باب الأمر بالمعروف.

جوده و معروفه ما أغناهم به عن الحاجة و السؤال.

و من آيات كرمه(ع)أنه أولم وليمة في مناسبة لبعض أولاده فأطعم أهالي يثرب اطعاما شاملا ثلاثة أيام،فعابه علي ذلك بعض حساده، فقال(ع):

«ما آتي اللّه نبيا من أنبيائه شيئا إلا و قد آتي محمدا(ص)و زاده ما لم يؤتهم قال تعالي لسليمان بن داود:«هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب (1)(2)،و كان(ع)يقول:

«من موجبات المغفرة إطعام الطعام» (3).

و كان(ع)لا يري للمال قيمة سوي ما يرد به جوع جائع أو يكسو به عاريا،و قد تلقي هذه الصفة الرفيعة من آبائه الذين ضربوا أسمي الأمثلة للجود و السخاء و المعروف.

حلمه:

و اهتم الاسلام اهتماما بالغا في تركيز الحلم في نفوس المسلمين،و جعله عادة لهم،و قد أثرت عن النبي و أئمة الهدي طائفة كبيرة من الأخبار تحث علي التحلي به فقد قال النبي(ص):«اللهم اغنني بالعلم،و زيني بالحلم» و قال(ص):«ما أعز اللّه بجهل قط،و لا أذل بحلم قط»و قال الامام أمير المؤمنين«ليس الخير أن يكثر مالك و ولدك،و لكن الخير أن يكثر علمك و حلمك»و قال الامام زين العابدين:«إنّه ليعجبني الرجل أن

ص: 155


1- سورة ص آية 39.
2- فروع الكافي:باب الولائم.
3- الوسائل.

يدركه حلمه عند غضبه»و قال الامام الصادق:«كفي بالحلم ناصرا» (1).

و كانت هذه الظاهرة من أبرز صفات الامام موسي(ع)فقد كان مضرب المثل في حلمه و كظمه للغيظ،و كان يعفو عمن أساء إليه،و يصفح عمن اعتدي عليه،و لم يكتف بذلك و انما كان يحسن لهم و يغدق عليهم بالمعروف ليمحو بذلك روح الشر و الانانية من نفوسهم،و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من حلمه فقد رووا أن شخصا من احفاد عمر بن الخطاب كان يسيء للامام،و يكيل السب و الشتم لجده امير المؤمنين(ع)فأراد بعض شيعة الامام اغتياله فنهاهم(ع)عن ذلك و رأي أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه فقيل انه يزرع في بعض نواحي المدينة،فركب(ع)بغلته و مضي إليه متنكرا،فوجده في مزرعته فأقبل نحوه فصاح به العمري لا تطأ زرعنا،فلم يعتن الامام إذ لم يجد طريقا يسلكه غير ذلك،و لما انتهي إليه جلس الي جنبه و أخذ يلاطفه و يحدثه بأطيب الحديث،و قال له بلطف و لين:

-كم غرمت في زرعك هذا؟.

-مائة دينار.

-كم ترجو أن تصيب منه؟، -أنا لا أعلم الغيب!!.

-انما قلت لك:كم ترجو أن يجيئك منه؟.

-أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار؟.

فأعطاه(ع)ثلاثمائة دينار،و قال:هذه لك و زرعك علي حاله فتغير العمري،و خجل من نفسه علي ما فرط من قبل في حق الامام،و تركه(ع)م.

ص: 156


1- النظام التربوي في الاسلام.

و مضي الي الجامع النبوي،فوجد العمري قد سبقه،فلما رأي الامام مقبلا قام إليه تكريما و انطلق يهتف:

«اللّه أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء».

فبادر إليه اصحابه منكرين عليه هذا الانقلاب،فأخذ يخاصمهم،و يتلو عليهم مناقب الامام و مآثره،و يدعو له،فالتفت(ع)إلي أصحابه قائلا:

«أيما كان خيرا؟ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟» (1).

لقد كان موقف الامام مع جميع مناوئيه و مبغضيه موقف اللطف و الاحسان فقد وضع نصب عينيه قوله تعالي: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ و بذلك فقد أعطي لأصحابه درسا رائعا لكيفية النصح و الارشاد و بين لهم أن الدعوة و التبشير لا بد أن يبتنيان علي الحق الرفيع،و يرتكزان علي سعة الصدر و الحلم،و إذا لم يحفها ذلك فانها لا تكاد تجدي في ميادين الاصلاح.

و من آيات حلمه(ع)أنه اجتاز علي جماعة من حساده و أعدائه، و كان فيهم ابن هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام و يدعيها فمضي الرجل الي الامام و تعلق بزمام بغلته فادعاها له فعرف الامام غايته فنزل عن بغلته و أعطاها له (2).لقد أقام(ع)بذلك أسمي مثل للانسانية الفذة و الحلم الرفيع.

و كان(ع)يوصي أبناءه بالتحلي بهذه الصفة الرفيعة و يأمرهم بالصفح عمن أساء إليهم فقد جمعهم و أوصاهم بذلك فقال:

«يا بني:إني أوصيكم بوصية من حفظها انتفع بها،اذا أتاكم آت).

ص: 157


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 28-29)كشف الغمة:(ص 247).
2- البحار:(ج 11 ص 277).

فأسمع أحدكم في الاذن اليمني مكروها ثم تحول إلي اليسري فاعتذر لكم، و قال:إني لم أقل شيئا فاقبلوا عذره.. (1).

و بهذه الوصية نقف علي مدي حلمه و سعة خلقه و يترتب علي ذلك كثير من الفوائد الاجتماعية،فان قبول عذر المسيء و عدم مقابلته بالمثل من أهم الوسائل الداعية للتآلف و المحبة و جمع الكلمة،و ازالة البغضاء بين الناس.

ارشاده و توجيهه:

إن إرشاد الناس الي الحق و هدايتهم الي الصواب من أهم الأمور الاصلاحية التي كان الامام يعني بها،فقد قام بدور مهم في انقاذ جماعة ممن أغرتهم الدنيا و جرفتهم بتياراتها.و ببركة ارشاده و وعظه لهم تركوا ما هم فيه من الغي و الضلال و صاروا من عيون المؤمنين.و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة له في هذا المجال فقد رووا قصته مع بشر الحافي،فقد كان في بداية أمره فيما يقول الرواة يتعاطي الشراب و يقضي لياليه و أيامه في المجون و الدعارة فاجتاز الامام عليه السلام علي داره ببغداد فسمع الملاهي و أصوات الغناء و القصب تعلو من داره،و خرجت منها جارية و بيدها قمامة فرمت بها في الطريق،فالتفت الامام إليها قائلا:

«يا جارية:صاحب هذه الدار حر أم عبد؟.

«حر».

«صدقت،لو كان عبدا لخاف من مولاه».

و دخلت الجارية الدار،و كان بشر علي مائدة السكر،فقال لها:

ما أبطأك؟فنقلت له ما دار بينها و بين الامام فخرج بشر مسرعا حتي

ص: 158


1- الفصول المهمة لابن الصباغ:220.

لحق الامام فتاب علي يده،و اعتذر منه و بكي (1)و بعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه و اتصل باللّه عن معرفة و ايمان حتي فاق أهل عصره في الورع و الزهد،و قال فيه ابراهيم الحربي:

«ما أخرجت بغداد أتم عقلا،و لا أحفظ للسانه،من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل» (2).

و قد أعرض عن زينة الحياة الدنيا،و رضي بالقناعة،و قال فيها:

لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتع بعز الغناء لكان ذلك يجزي،ثم أنشأ يقول:

أفادتني القناعة أي عز و لا عز أعز من القناعة

فخذ منها لنفسك رأس مال و صير بعدها التقوي بضاعة

تحز حالين تغني عن بخيل و تسعد في الجنان بصبر ساعه

و كان يتذمر من أهل عصره،و يكره الاختلاط بهم و ذلك لفقدان المؤمنين و الاخيار،و كثرة الأشرار و المنحرفين،لذلك ابتعد عن الاجتماع بكثير من الناس حتي أن المأمون تشفع بأحمد بن حنبل في أن يأذن له في زيارته فأبي و لم يجبه (3)،و من شعره في تذمره من أهل زمانه قوله:

ذهب الرجال المرتجي لفعالهم و المنكرون لكل أمر منكر

و بقيت في خلف يزين بعضهم بعضا ليدفع معور عن معور (4)).

ص: 159


1- الكني و الألقاب:(ج 2 ص 150)نقلا عن منهاج الكرامة للعلامة،و ذكر المناوي هذه البادرة في الكواكب الدرية:ص 208 إلا أنه لم يصرح باسم الامام موسي.
2- تأريخ بغداد:(ج 7 ص 73).
3- الكواكب الدرية:(ج 1 ص 208).
4- تأريخ بغداد:(ج 7 ص 77).

و تجرد عن الدنيا،و انقطع الي اللّه حتي صار من أقطاب العارفين كل ذلك ببركة وعظ الامام و إرشاده له (1).

و ممن أرشدهم الامام الي طريق الحق:الحسن بن عبد اللّه فقد كان شخصية مرموقة عند الملوك زاهدا في الدنيا يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر لا تأخذه في اللّه لومة لائم،فاجتمع بالامام فقال(ع)له:

-يا أبا علي،ما أحب الي ما أنت عليه،و أسرني به،إلا أنه ليست لك معرفة فاطلب المعرفة.

-و ما المعرفة؟.

-تفقه و اطلب الحديث.

فذهب الرجل فكتب الحديث عن مالك و عن فقهاء أهل المدينة، و عرضه علي الامام فلم يرض(ع)،و أرشده الي فقه أهل البيت و أخذ الأحكام منهم،و الاعتراف لهم بالامامة فانصاع الرجل لذلك و اهتدي (2)لقد كان عليه السلام يدعو الناس الي فعل الخير و يدلهم علي العمل الصالح و يحذرهم لقاء اللّه و اليوم الآخر،فقد سمع رجلا يتمني الموت فانبري(ع) له قائلا:

-هل بينك و بين اللّه قرابة يحابيك لها؟.

-لا -فأنت إذن تتمني هلاك الأبد (3).).

ص: 160


1- توفي بشر سنة 227 ه- و دفن في بغداد،و له جامع يقع بجانب مسجد الامام الاعظم،و اما القبر المشهور بقبر شيخ بشار فانه ليس بقبر بشر الحافي كما توهم بعضهم بل هو لبشار المعروف بالزهد.
2- المناقب:(ج 3 ص 407)ط النجف.
3- الاتحاف بحب الأشراف:(ص 55).

لقد عني الامام بارشاد المسلمين الي فعل التقوي و عمل الخير،و سنذكر بعض نصائحه الرفيعة،و ارشاداته القيمة الحافلة بالنصح و التوجيه عند عرض تراثه العلمي و الأدبي.

احسانه الي الناس:

و كان الامام بارا بالمسلمين محسنا لهم فما قصده احد في حاجة إلا قام بقضائها،فلا ينصرف منه إلا و هو ناعم الفكر مثلوج القلب،و كان(ع) يري أن إدخال الغبطة علي الناس و قضاء حوائجهم من أهم أفعال الخير فلذا لم يتوان قط في إجابة المضطر،و رفع الظلم عن المظلوم،و قد أباح لعلي بن يقطين الدخول في حكومة هارون و جعل(كفارة عمل السلطان الاحسان الي الاخوان)مبررا له،و قد فزع إليه جماعة من المنكوبين فكشف آلامهم و ملأ قلوبهم رجاء و رحمة.

و من هؤلاء الذين أغاثهم الامام(ع)شخص من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري فلم يتمكن من أدائها،و خاف علي نعمته أن تسلب منه،فأخذ يطيل الفكر فيما يعمل،فسأل عن حاكم الري، فأخبر أنه من الشيعة،فطوت نيته علي السفر الي الامام ليستجير به فسافر الي يثرب فلما انتهي إليها تشرف بمقابلة الامام فشكا إليه حاله و ضيق مجاله،فزوده عليه السلام برسالة الي والي الري جاء فيها بعد البسملة:

«اعلم أن للّه تحت عرشه ظلا لا يسكنه إلا من أسدي الي أخيه معروفا،أو نفس عنه كربة،أو أدخل علي قلبه سرورا،و هذا أخوك و السلام..».

ص: 161

و أخذ الرسالة،و بعد أدائه لفريضة الحج،اتجه الي وطنه،فلما وصل،مضي الي الحاكم ليلا،فطرق عليه باب بيته فخرج غلامه، فقال له:

-من أنت؟.

-رسول الصابر موسي؟.

فهرع الي مولاه فأخبره بذلك فخرج حافي القدمين مستقبلا له، فعانقه و قبّل ما بين عينيه،و جعل يكرر ذلك،و يسأله بلهفة عن حال الامام،ثم إنه ناوله رسالة الامام فقبلها و قام لها تكريما،فلما قرأها استدعي بأمواله و ثيابه فقاسمه في جميعها و أعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة و هو يقول له:

-يا أخي هل سررتك؟.

-أي و اللّه و زدت علي ذلك!!.

ثم استدعي السجل فشطب علي جميع الديون التي عليه و أعطاه براءة منها،و خرج الرجل و قد طار قلبه فرحا و سرورا،و رأي أن يجازيه علي إحسانه و معروفه فيمضي الي بيت اللّه الحرام فيدعو له،و يخبر الامام بما أسداه إليه من البر و المعروف،و لما أقبل موسم الحج مضي إليه ثم اتجه الي يثرب فواجه الامام و أخبره بحديثه،فسر(ع)بذلك سرورا بالغا، فقال له الرجل:

-يا مولاي:هل سرك ذلك؟.

-أي،و اللّه!!لقد سرني،و سر أمير المؤمنين.و اللّه لقد سر جدي رسول اللّه(ص)،و لقد سر اللّه تعالي..».

و قد دل ذلك علي اهتمامه البالغ بشئون المسلمين و رغبته الملحة في قضاء حوائج الناس و بذلك ينتهي بنا الحديث عن ذكر بعض مثل الامام و صفاته.

ص: 162

أقوال و آراء

ص: 163

ص: 164

و ظاهرة أخري من حياة الامام موسي(ع)ربما تكون أعمق،و اكثر شمولا من غيرها و هي اجماع معظم المسلمين علي اختلاف ميولهم و مذاهبهم علي اجلاله و تعظيمه،و انه في مقدمة القافلة من أئمة المسلمين في علمه و تقواه و زهده و تحرجه في الدين،و انه ممن طبق العالم شذي و عبيرا بسيرته و سلوكه و رسوخ يقينه،و قد سجل كبار العلماء و المؤلفين و غيرهم انطباعاتهم و احاسيسهم و هي مليئة بالاكبار و التعظيم له.و فيما يلي عرض لذلك:

1-الامام الصادق:

و أشاد الامام الصادق عليه السلام بفضل ولده،و بيّن للمسلمين ما مثل فيه من المواهب و العبقريات،فقال:

«ولدي موسي شبيه عيسي بن مريم» (1).

و قال:«و فيه علم الحكمة،و الفهم،و السخاء،و المعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم،و فيه حسن الخلق،و الجوار، و هو باب من أبواب اللّه».

و أثرت عنه كثير من الاخبار و هي تشيد بفضل الامام موسي(ع) و تعرب عن مآثره و مواهبه.

2-هارون الرشيد:

و اعترف هارون الرشيد-الذي هو خصم الامام و أعدي أعدائه- بمواهب الامام و مناقبه،و أنه أحق بالخلافة من غيره،و قد صرح بذلك حينما سأله ولده المأمون عن اكباره و تقديره له،فقال له:

«يا بني:هذا إمام الناس و حجة اللّه علي خلقه،و خليفته علي عباده،أنا إمام الجماعة في الظاهر و الغلبة و القهر،و انه و اللّه لأحق بمقام رسول اللّه(ص)مني و من الخلق جميعا،و و اللّه لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه فان الملك عقيم»و أضاف الي ذلك قوله:«يا بني).

ص: 165


1- دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي:(ج 9 ص 594).

هذا وارث علم النبيين هذا موسي بن جعفر إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا» (1).

3-ابن الساعي:

«اما الامام الكاظم فهو صاحب الشأن العظيم،و الفخر الجسيم، كثير التهجد،الجاد في الاجتهاد،المشهود له بالكرامات،المشهور بالعبادات المواظب علي الطاعات،يبيت الليل ساجدا،و قائما و يقطع النهار متصدقا و صائما،و لفرط حلمه،و تجاوزه عن المعتدين عليه كان كاظما،يجازي المسيء باحسانه إليه،و يقابل الجاني بعفوه عنه،و لكثرة عبادته يسمي بالعبد الصالح،و يعرف بالعراق بباب الحوائج الي اللّه لنجح المتوسلين الي اللّه تعالي به،كراماته تحار منها العقول،و تقضي بان له قدم صدق عند اللّه لا تزول» (2).

4-عبد اللّه بن أسعد اليافي:

«الامام موسي كان صالحا عابدا،جوادا حليما،كبير القدر،و هو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الامامية،و كان يدعا بالعبد الصالح لعبادته و اجتهاده،و كان سخيا كريما،كان يبلغه عن الرجل ما يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها الف دينار» (3).

5-ابن الجوزي:

«موسي بن جعفر كان يدعا العبد الصالح،و كان حليما و كريما إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال» (4).2.

ص: 166


1- ينابيع المودة:(ج 3 ص 32).
2- مختصر أخبار الخلفاء:ص 39.
3- مرآة الجنان:(ج 1 ص 394).
4- مختار صفوة الصفوة:ص 152.

6-أبو حاتم:

«موسي بن جعفر ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين» (1).

7-القرماني:

«موسي هو الامام الكبير الأوحد،الحجة الساهر ليله قائما،القاطع نهاره صائما،المسمي لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدين كاظما،و هو المعروف بباب الحوائج لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط» (2).

8-محمد بن احمد الذهبي:

«كان موسي من أجواد الحكماء،و من العباد الأتقياء،و له مشهد معروف ببغداد..» (3).

9-خير الدين الزركلي:

«موسي بن جعفر الصادق بن الباقر،أبو الحسن سابع الأئمة الاثني عشر عند الامامية،كان من سادات بني هاشم،و من أعبد أهل زمانه، و أحد كبار العلماء الأجواد..» (4).

10-الحسن بن عبد اللّه البخشي:

«هو الامام الكبير القدر،و الكثير الخير،كان رضي اللّه عنه يسهر ليله و يصوم نهاره،و سمي كاظما لفرط تجاوزه عن المعتدين،و هو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج،لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط و كانت له كرامات ظاهرة و مناقب باهرة،تسنم ذروة الشرف و علاها و سما).

ص: 167


1- تهذيب التهذيب:(ج 10 ص 34).
2- أخبار الدول:112.
3- ميزان الاعتدال:(ج 3 ص 209).
4- الأعلام:(ج 3 ص 108).

أوج المزايا فبلغ أعلاها..» (1).

11-احمد بن عبد اللّه الخزرجي:

«موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي،أبو الحسن الكاظم:المدني،روي عن أبيه،و عنه ابنه علي الرضا و أخواه علي و محمد ابنا جعفر بن محمد،و طائفة،قال أبو حاتم،ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين و قال يحيي بن الحسين انه اذا بلغه عن رجل يؤذيه،يبعث إليه بصرة فيها الف دينار،و حبسه المهدي ثم أطلقه..» (2).

12-ابن حجر العسقلاني:

«موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي المعروف بالكاظم صدوق عابد من الطبقة السابعة..» (3).

13-السيد علي فكري:

«قال بعض أهل العلم:الكاظم هو الامام الكبير القدر الأوحد الحجة الحبر،جمع من الفقه و الدين بما لا مزيد عليه..» (4).

14-الدكتور زكي مبارك:

«كان موسي بن جعفر سيدا من سادات بني هاشم،و اماما مقدما في العلم و الدين..» (5).).

ص: 168


1- النور الجلي في نسب النبي:ص 97،مخطوط نفيس توجد نسخة منه بخط المؤلف بمكتبة الاستاذ الشيخ علي الخاقاني.
2- خلاصة تهذيب الكمال:(ص 334).
3- التقريب:(ص 366).
4- احسن القصص:(ج 4 ص 293).
5- شرح زهر الآداب:(ج 1 ص 132).

15-علي بن محمد المالكي الشهير بابن الصباغ:

«و أما مناقبه،و كراماته الظاهرة،و فضائله و صفاته الباهرة تشهد له بأنه اقترع (1)قبة الشرف و علاها،و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها و ذللت له كواهل السيادة فامتطاها،و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها فاصطفاها..» (2).

16-الفضل بن الحسن الطبرسي:

«قد اشتهر بين الناس أن أبا الحسن موسي كان أجل ولد الصادق شأنا،و أعلاهم في الدين مكانا،و أفصحهم لسانا،و كان أعبد أهل زمانه و أعلمهم و أفقههم..» (3).

17-محمد أمين غالب:

«و كان العلويون يقتدون بالرجل العظيم الامام موسي الكاظم،المشهور بالتقوي،و كثرة العبادة حتي سماه المسلمون«العبد الصالح»و كان يلقب أيضا بالرجل الصالح تشبيها له بصاحب موسي بن عمران،المذكور في القرآن،و كان كريما سخيا..» (4).

18-ابن معية:

«الامام موسي الكاظم و يلقب بأبي الحسن،و أبي ابراهيم،و أمه أم ولد و كان عظيم الفضل جليل القدر حبسه الهادي ثم أطلقه لمنام رآه،).

ص: 169


1- اقترع:أي اختار.
2- الفصول المهمة:(ص 214).
3- أعلام الوري في أعلام الهدي:(ص 178).
4- تأريخ العلويين:(ص 157-158).

ثم حبسه الرشيد و مضي في حبسه شهيدا» (1).

19-السيد كاظم اليماني:

«موسي الكاظم و هو خامس سبط و سابع إمام سمي الكاظم لكظمه الغيظ و حلمه،و كان يخرج بالليل،و في كمه صرر من دراهم فيعطي من أراد بره،و كان يضرب المثل بصبر موسي و سيرته،و كان إذا صلي العشاء لم يزل يحمد اللّه و يدعو الي نصف الليل،و اذا صلي الصبح ذكر اللّه تعالي الي طلوع الشمس،و كان هذا دأبه..» (2).

20-محمد بن علي بن شهر اشوب:

«و كان الامام أجل الناس شأنا،و أعلاهم في الدين مكانا،و أسخاهم بنانا،و أفصحهم لسانا،و أشجعهم جنانا،قد خص بشرف الولاية و حاز إرث النبوة،و تبوأ محل الخلافة،سليل النبوة و عقيد الخلافة» (3).

21-السيد ضامن بن شدقم:

«السيد الكريم،و الامام الحليم،و سمي الكليم و الصابر الكظيم،صاحب العسكر ذو الشرف الأنور،و النور الأزهر و المجد الأظهر،و النسب الاطهر الصالح الأمين،الصابر الصائم،القائم،الحاكم علي المحكوم،الشهيد المسموم المشهود له بالكرامات،المجدّ في العبادات،المواظب علي الطاعات المقيم ليله راكعا و ساجدا،الصائم نهاره،و في سبيل اللّه مجاهدا،المجازي المسيء باحسانه،الكاظم غيظه،المنتشر حلمه و امتنانه،قائد الجيش،المدفون بمقابر قريش،الامام بالحق أبي ابراهيم،و أبي الحسن الامام موسي الكاظم).

ص: 170


1- سبك الذهب في سبك النسب،مخطوط توجد منه نسخة بمكتبة الامام كاشف الغطاء العامة.
2- النفحة العنبرية في أنساب خير البرية:(ص 15).
3- المناقب:(ج 2 ص 383).

ابن الامام جعفر الصادق..» (1).

22-علي بن محمد الصوفي:

«كان موسي عظيم الفضل رابط الجأش،واسع العطاء،و قيل ان أهله كانوا يقولون:عجبا لمن جاءته صرار موسي فشكا القلة..» (2).

23-محمد الصبان:

«أما موسي الكاظم فكان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللّه،و كان من أعبد أهل زمانه و من أكابر العلماء الأسخياء..» (3).

24-احمد بن حجر الهيثمي:

«موسي الكاظم:هو وارث أبيه علما و معرفة و كمالا و فضلا سمي الكاظم لكثرة تجاوزه و حلمه،و كان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللّه،و كان أعبد اهل زمانه،و أعلمهم و أسخاهم» (4).

25-احمد بن أبي يعقوب المعروف بابن واضح:

«كان موسي بن جعفر عليه السلام من أشد الناس عبادة،و كان قد روي عن أبيه» (5).

26-عبد الوهاب الشعراني:

«موسي الكاظم أحد الأئمة الاثني عشر،و هو ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،كان يكني بالعبد الصالح لكثرة عبادته و اجتهاده و قيامه بالليل،و كان اذا بلغه عن أحد يؤذيه يبعث إليه).

ص: 171


1- تحفة الأزهار و زلال الأنهار.
2- المجدي:مخطوط نفيس بمكتبة الامام كاشف الغطاء.
3- اسعاف الراغبين المطبوع علي هامش نور الأبصار:(ص 213).
4- الصواعق المحرقة:(ص 121).
5- تأريخ اليعقوبي:(ج 3 ص 145).

بمال...» (1).

27-النبهاني:

«موسي الكاظم أحد أعيان أكابر الأئمة من ساداتنا آل البيت هداة الاسلام رضي اللّه عنهم أجمعين،و نفعنا ببركتهم و أماتنا علي حبهم و حب جدهم الأعظم..» (2).

28-محمد بن طلحة الشافعي:

«موسي بن جعفر الكاظم(ع)هو الامام الكبير القدر،العظيم الشأن الكبير،المجتهد الجاد في الاجتهاد،المشهور بالكرامات،يبيت الليل ساجدا و قائما،و يقطع النهار متصدقا و صائما،و لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدين عليه،دعي كاظما،كان يجازي المسيء باحسانه إليه،و يقابل الجاني بعفوه عنه،و لكثرة عبادته كان يسمي بالعبد الصالح،و يعرف بالعراق بباب الحوائج الي اللّه لنجح مطالب المتوسلين الي اللّه تعالي به، كراماته تحار منها العقول،و تقضي بأن له عند اللّه تعالي قدم صدق لا تزل و لا تزول» (3).

29-الشيخ المفيد:

«كان أبو الحسن موسي أعبد أهل زمانه،و أفقههم و أسخاهم كفا و أكرمهم نفسا،و كان أوصل الناس لأهله و رحمه،و كان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين و الورق،و الأدقة و التمور فيوصل إليهم ذلك و لا يعلمون من أي جهة هو» (4).).

ص: 172


1- الطبقات الكبري:(ص 33).
2- جامع كرامات الأولياء:(ج 2 ص 229).
3- مطالب السئول(ص 83).طبع ايران.
4- الارشاد:(ص 271).

30-حفص:

«ما رأيت أحدا أشد خوفا علي نفسه من موسي بن جعفر،و لا أرجي للناس منه» (1).

31-الشبلنجي:

«قال بعض أهل العلم:الكاظم هو الامام الكبير القدر الأوحد الحجة الحبر الساهر ليله قائما،القاطع نهاره صائما المسمي،لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدين كاظما،و هو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج الي اللّه و ذلك لنجح المتوسلين به..» (2).

32-علي بن عيسي الأربلي:

«مناقب الكاظم(ع)و فضائله و معجزاته الظاهرة،و دلائله و صفاته الباهرة،و مخائله تشهد أنه اقترع قمة الشرف و علاها و سما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها،و ذللت له كواهل السيادة فركبها و امتطاها،و حكم في غنائم المجد فاختار صفاياها و اصطفاها:

تركت و الحسن تأخذه تصطفي منه و تنتجب

فانتقت منه أحاسنه و استزادت فضل ما تهب

طالت أصوله فسمت الي أعلي رتب الجلال،و طابت فروعه فعلت الي حيث لا ينال،يأتيه المجد من كل أطرافه،و يكاد الشرف يقطر من أعطافه،«أتاه المجد من هنا و هنا،و كان له بمجتمع السيول»السحاب الماطر قطرة من كرمه،و العباب الزاخر نغبة (3)من نغبه و اللباب الفاخر من عد منة.

ص: 173


1- البحار:(ج 11 ص 265)
2- نور الأبصار:(ص 135).
3- النغبة:بالضم،الجرعة.

عبيده و خدمه كأن الشعري (1)علقت في يمينه،و لا كرامة للشعر العبور و كأن الرياض أشبهت خلايقه،و لا نعمي لعين الروض الممطور و هو عليه السلام غرة في وجه الزمان،و ما الغرور و الحجول (2)و هو أضوأ من الشمس و القمر،و هذا جهد ما يقال بل هو و اللّه أعلي مكانة من هذه الأوصاف و أسمي و أشرف عرقا من هذه النعوت و أنمي،فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره أو ترقي همة البليغ الي نعت فخاره،أو تجري جياد الأقلام في حلبات صفاته،أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته،كاظم الغيظ،و صائم القيظ،عنصره كريم،و مجده حادث و قديم،و خلق سؤدده و سيم،و هو بكل ما يوصف به زعيم،الآباء عظام و الأبناء كرام و الدين متين و الحق ظاهر مبين،و الكاظم في أمر اللّه قوي أمين،و جوهر فضله غال ثمين، و واصفه لا يكذب و لا يمين،قد تلقي راية الامامة باليمين فسما(ع)الي الخيرات منقطع القرين،و أنا أحلف علي ذلك فيه و في آبائه باليمين،كم له من فضيلة جليلة،و منقبة بعلو شأنه كفيلة،و هي إن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة،و مهما عد من المزايا و المفاخر فهي فيهم صادقة و في غيرهم مستحيلة إليهم ينسب العظماء و عنهم يأخذ العلماء و منهم يتعلم الكرماء،و هم الهداة الي اللّه تعالي،فبهداهم اقتده..» (3).

33-الخطيب البغدادي:

«و كان الامام موسي سخيا كريما،و كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها الف دينار،و كان يصر الصرر ثلاثمائة دينار و أربعمائة).

ص: 174


1- الشعري:بالكسر،الكوكب الذي يطلع في الجوزاء و طلوعه في شدة الحر.
2- الحجول:يوم مضيء مشرق بالسرور.
3- كشف الغمة:(ص 255).

و مائتين ثم يقسمها بالمدينة،و كانت صرر موسي بن جعفر إذا جاءت الانسان استغني..» (1).

34-الدكتور محمد يوسف موسي:

«و نستطيع أن نذكر أن أول من كتب في الفقه هو الامام موسي الكاظم الذي مات سجينا عام 183 ه- و كان ما كتبه إجابة عن مسائل وجهت إليه تحت اسم(الحلال و الحرام) (2).

35-الشيخ سليمان المعروف بخواجة كلان:

«موسي الكاظم و هو وارثه-أي وارث أبيه جعفر بن محمد-علما و معرفة و كمالا و فضلا،سمي الكاظم لكثرة تجاوزه و حلمه،و كان عند أهل العراق معروفا بباب قضاء الحوائج،و كان أعبد أهل زمانه و أعلمهم و أسخاهم..» (3).

36-النسابة أحمد بن علي:

«كان موسي الكاظم عظيم الفضل رابط الجأش،واسع العطاء لقب بالكاظم لكظمه الغيظ،و حلمه،و كان يخرج في الليل و في كمه صرر من الدراهم فيعطي من لقيه و من أراد بره،و كان يضرب المثل بصرة موسي و كان أهله يقولون:عجبا لمن جاءته صرة موسي فشكا القلة» (4).

37-محمود بن وهيب القراغولي:

«موسي بن جعفر وارث أبيه علما و معرفة و كمالا،و فضلا،سمي بالكاظم لكظمه الغيظ،و كثرة تجاوزه و حلمه،و كان معروفا عند أهل).

ص: 175


1- تأريخ بغداد:(ج 13 ص 27-28).
2- الفقه الاسلامي مدخل لدراسة نظام المعاملات فيه:(ص 160)
3- ينابيع المودة:(ص 362).
4- عمدة الطالب:(ص 185).

العراق بباب قضاء الحوائج عند اللّه،و كان أعبد أهل زمانه،و أعلمهم و أسخاهم..» (1).

38-محمد أمين السويدي البغدادي:

«موسي الكاظم هو الامام الكبير القدر الكثير الخير،كان يقوم ليله و يصوم نهاره،و سمي الكاظم لفرط تجاوزه عن المعتدين» (2).

39-الدكتور عبد الجبار الجومرد:

«الامام الكاظم:هو موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب(ع)و كان ذا تأريخ حافل بالزهد و الورع و الكرم و دماثة الخلق،و قد لقب بالكاظم لأنه كان يحسن الي من يسيء إليه» (3).

40-جمال الدين الاتابكي:

«كان موسي يدعا بالعبد الصالح لعبادته،و بالكاظم لعلمه (4)ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع و عشرين و مائة،و كان سيدا عالما فاضلا سنيا جوادا ممدوحا مجاب الدعوة» (5).

هذه بعض الآراء التي دوّنها كبار العلماء في مؤلفاتهم و هي تحمل طابع التقدير و الاكبار للامام،و قد أجمعت علي اتصاف الامام بما يلي:

1-انه أعلم أهل زمانه،و أفقههم.

2-اجتهاده في العبادة و الطاعة الي حد لا يجاريه أحد.).

ص: 176


1- جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام:(ص 139).
2- سبائك الذهب:(ص 73).
3- هارون الرشيد:(ج 1 ص 177).
4- انما لقب الامام بالكاظم لكظمه للغيظ وسعة حلمه لا لعلمه، فانه لا مناسبة بين الأمرين.
5- النجوم الزاهرة(112/2).

3-انه احلم الناس و اكظمهم للغيظ،و انه يقابل الجاني و المعتدي عليه بالعفو و الاحسان.

4-انه من اجود الناس و أسخاهم و أنداهم كفا فبصرره يضرب المثل و يستغني بكرمه من يصله.

5-انه باب للحوائج عند اللّه،و قد خصه تعالي بهذه الكرامة و منحه بهذا اللطف فضمن لمن توسل به أن يقضي حاجته و مهمته و لا يرجع الي اهله الا و هو مثلوج الفؤاد ناعم الفكر.

6-انه ذو كرامات تحار منها العقول و الالباب.

7-انه أوصل الناس لأهله و رحمه.

8-انه من أفصح الناس و أبلغهم.

9-انه امام من أئمة المسلمين و من حجج اللّه علي خلقه.

10-انه بلغ القمة في تواضعه و دماثة اخلاقه.

و روي المؤرخون ما يدعم هذه الظاهرة الكريمة فيه،فقالوا أنه مر برجل من اهل السواد ذميم المنظر،فسلم عليه و نزل عنده و حادثه طويلا،ثم عرض عليه القيام بحاجته،و قضاء شئونه،و انصرف عنه،و ثقل ذلك علي بعض من صحب الامام،فأنكر عليه صنعه،و اخذ يندد بالامام قائلا له:

-يا ابن رسول اللّه أ تنزل الي هذا،ثم تسأله حوائجه،و هو إليك أحوج؟ فغاظ ذلك الامام،و انطلق يجيبه بروح الاسلام و وعيه الذي لا يفرق بين المسلمين قائلا له:

«عبد من عبيد اللّه،و أخ في كتاب اللّه،و جار في بلاد اللّه،يجمعنا و اياه خير الآباء آدم،و أفضل الاديان الاسلام،و لعل الدهر يرد من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه..»

ص: 177

انه ليس من الاسلام في شيء التفرقة بين صفوف المسلمين،فهم جميعا علي صعيد واحد،و ان اكرمهم عند اللّه اتقاهم.

بهذه الروح الفواحة بالايمان و التقوي كان الامام عليه السلام يعالج النفوس المريضة التي اتزعت بالانانية،و الآفات الاجتماعية.

و هذه الصفات الماثلة في الامام هي السر في عظمته،و السر في اجماع العلماء علي اكباره و اتفاق المسلمين علي محبته.

ص: 178

من تراثه الفكري

اشارة

ص: 179

ص: 180

أما تراث الامام الفكري الذي زوّد به أصحابه و طلاب مدرسته فهو من أروع ما خلفه أئمة المسلمين من الثروات الفكرية،و من أنفس ما أبقاه علماء الاسلام من التراث العلمي،فقد تناول كثيرا من العلوم كعلم الحكمة و الكلام،و علم الفقه و التفسير و الحديث و غيرها من العلوم،و يضاف إليها حكمه و آراؤه القيمة التي تناولت آداب السلوك،و الاخلاق،و قواعد الاجتماع و هي حافلة بأروع صور الفصاحة و البلاغة البالغتين حد الاعجاز، و فيما يلي عرض موجز لبعضها:

رسالته في العقل:

اشارة

العقل هو القوة المبدعة التي منحها اللّه للانسان و شرفه و ميزه به علي بقية الموجودات،و جعله خليفة في الأرض،و قد استطاع بعقله و تفكيره أن يستخدم الكائنات،و يكشف أسرارها،و يميط الحجاب عن دقائقها، و ان يغزو الفضاء،و يصل الي الكواكب،و يكتشف ما فيها كل ذلك وصل إليه الانسان و سيصل في مستقبله القريب أو البعيد الي ما هو أعمق و أشمل من ذلك.

لقد انتهي الانسان في انطلاقه الرائع الي هذه الاكتشافات المذهلة بفضل عقله،و ادراكه،و علمه،و قد تحدث الامام موسي عن أهم آثار العقل و استدل علي فضله بالآيات الكريمة،و ذلك في حديثه الذهبي الذي زود به تلميذه هشام بن الحكم،و يعتبر هذا الحديث من أهم الثروات الفكرية التي اثرت عن الامام،و قد شرحه شرحا فلسفيا صدر المتألهين الآخوند ملا صدرا (1)و قال في تقريضه ما نصه:

ص: 181


1- الشيخ ملا صدرا هو محمد بن ابراهيم الشيرازي الحكيم المتأله

«هذا الحديث مشتمل علي بيان حقيقة العقل بالمعني المذكور-أعني المرتبة الرابعة من العقول الاربعة المذكورة في علم النفس-و محتو علي معظم صفاته و خواصه و مدائحه،و متضمن لمعارف جليلة قرآنية،و مقاصد شريفة إلهية لم يوجد نظيرها في كثير من مجلدات كتب العرفاء،و لم يعهد شبيهها في نتائج أنظار العلماء النظار ذوي دقائق الأفكار إلا منقولا عن واحد من الأئمة الأطهار أو مسندا من طريقهم أو طريق العامة الي الرسول المختار(ص)، و الحديث مشتمل علي خطابات ذكر في كل منها بابا عظيما من العلم،بعضها في العلوم الالهية و بعضها في علم السماء و العالم،و بعضها في علم الفلكيات،و بعضها في علم الأكوان و المواليد،و بعضها في علم النفس،و بعضها في تهذيب الأخلاق و تطهير النفوس من الرذائل،و بعضها في السياسات المدنية،و بعضها في المواعظ و النصائح،و بعضها في علم الزهد و ذم الدنيا،و بعضها في علم المعاد و الرجوع الي اللّه،و بعضها في مذمة الكفرة و الجهلة و سوء عاقبتهم و انقلاب نشأتهم الي نشأة البهائم و انهم صم بكم عمي لأنهم لا يعقلون.الي غير ذلك من العلوم و المعارف..».

و نقدم نص حديث الامام(ع)مشفوعا بشرح موجز اقتبسنا بعضه مما ذكره فيلسوف الاسلام الشيخ ملا صدرا في تفسيره لهذا الحديث قال عليه السلام:

«يا هشام:إن اللّه تبارك و تعالي بشّر أهل العقل و الفهم في كتابه).

ص: 182

فقال:(فبشر عبادي،الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،أولئك الذين هداهم اللّه و أولئك هم أولو الألباب) (1).

استدلّ الامام(ع)بهذه الآية الكريمة علي تقديم أهل العقول المستقيمة علي غيرهم لأن اللّه قد بشرهم بالهداية و النجاح،و قد تضمنت الآية التي استشهد بها الامام جملة من الفوائد العلمية نذكر فائدتين منها:

1-وجوب الاستدلال:

إن الانسان إذا وقف علي جملة من الأمور فيها الصحيح و الفاسد،و كان في الصحيح هدايته و في السقيم غوايته فانه يتحتم عليه أن يميز بينهما ليعرف الصحيح منها فيتبعه و الفاسد فيبتعد عنه،و من الطبيعي أن ذلك لا يحصل إلا باقامة الدليل و الحجة،و بهذا يستدل علي وجوب النظر و الاستدلال في مثل ذلك.

2-حدوث الهداية:

و دلت الآية علي حدوث الهداية و عروضها،و من المعلوم أن كل عارض لا بد له من موجد كما لا بد له من قابل،أما الموجد للهداية فهو اللّه تعالي و لذلك نسبها إليه بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ و أما القابلون لها فهم أهل العقول المستقيمة و الي ذلك أشار تعالي بقوله:

(أولئك هم أولو الألباب)و من المعلوم ان الانسان انما يقبل المعرفة و الهداية لا من جهة جسمه و أعضائه بل من جهة عقله،فلو لم يكن كامل العقل امتنع عليه حصول المعرفة و الفهم كما هو ظاهر،و قد أقام الشيخ ملا صدرا رحمه اللّه الدليل علي حدوث الهداية و علي أن فاعلها هو اللّه تعالي،و أطال الكلام في ذلك.

قال(ع):18

ص: 183


1- سورة الزمر:آية 17-18

«يا هشام ان اللّه تبارك و تعالي اكمل للناس الحجج بالعقول،و نصر النبيين بالبيان،و دلهم علي ربوبيته بالأدلة فقال: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ،وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (1).

أفاد الامام في حديثه أن اللّه اكمل نفوس أنبيائه بالعقول الفاضلة،ليكونوا حججا علي عباده،و هداة لهم الي طريق الخير و النجاة،و لو لم يمنحهم بذلك لما صلحوا لقيادة الأمم و هدايتها فان الناقص لا يكون مكملا لغيره.

لقد نصر اللّه انبياءه ببيان الحق،و آيات الصدق،و دلهم علي ربوبيته و علمهم طريق معرفته،و توحيده بأدلة حاسمة تشهد علي وجوده،و تدل علي وحدانيته،و الآيات التي دلهم عليها من آثار خلقه،و من المعلوم- حسب ما ذكره المنطقيون-ان المعلول يدل علي العلة،و الأثر يدل علي المؤثر،و قد تضمنت الآية الكريمة التي تضمنها حديث الامام علي جملة من الآثار العظيمة التي يستدل بها علي وجود اللّه تعالي و هي:

1-خلق السماوات:

ان من أعظم آيات اللّه الباهرات خلقه للسماوات التي زينها بالكواكب التي تسبح في الفضاء،و تسير في مداراتها،و تتباعد بعضها عن بعض حسب قواعد الجاذبية.و هي مسخرة في حركاتها،و انجذابها و جذبها بأمر اللّه تعالي،يبلغ حجم الواحدة من بعض الكواكب اضعاف حجم الارض عشرات الآلاف،و بعضها اكبر من الارض عدة ملايين،و هي تسير في افلاكها و منحنياتها لا يصطدم بعضها ببعض،و هي تنادي بوجود اللّه جلت

ص: 184


1- سورة البقرة:آية 163-164.

قدرته،قال سماحة الامام المغفور له الشيخ محمد عبده:

«تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف لكل طائفة منها نظام كامل محكم،و لا يبطل نظام بعضها نظام الآخر لأن للمجموع نظاما عاما واحدا يدل علي أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه و تقديره و حكمته و تدبيره،و أقرب تلك الطوائف إلينا ما يسمونه النظام الشمسي نسبة الي شمسنا هذه التي تفيض أنوارها علي أرضنا فتكون سببا للحياة النباتية و الحيوانية،و الكواكب التابعة لهذه الشمس مختلفة في المقادير و الأبعاد،و قد استقر كل منها في مداره،و حفظت النسبة بينه و بين الأخر بنسبة إلهية،و لو لا هذا النظام لانفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا، و هلكت العوالم بذلك فهذا النظام آية علي الرحمة الالهية كما انه آية علي الوحدانية..» (1).

إن ما اكتشفه العلم الحديث من النجوم هو بمقدار من الكثرة بحيث لو كنا نعد النجوم كلها بسرعة 1500 نجم في الدقيقة لاستغرق عدنا 700 سنة،أما نسبة الأرض إليها فهي أقل كثيرا من نقطة علي حرف في مكتبة تضم نصف مليون من الكتب من الحجم المتوسط (2).

و مما لا شبهة فيه أنها لم تكن ناشئة عن الصدفة،و هل انها المدبرة و الخالقة لهذه العوالم اذ كيف يمكن أن تفسر هذه العلميات المعقدة المنضمة بتفسير يقوم علي المصادفة و التخبط العشوائي«و كيف نستطيع أن نفسر هذا الانتظام في ظواهر الكون و العلاقات السببية و التكامل و الفرضية و التوافق و التوازن التي تنتظم بسائر الظواهر،و تمتد آثارها من عصر الي عصر،كيف يعمل هذا الكون من دون أن يكون له خالق مدبر هو الذي خلقه و أبدعه8.

ص: 185


1- تفسير المنار 60/2.
2- اللّه يتجلي في عصر العلم ص 48.

و دبر سائر أموره».

يقول جون وليام كوتس:

«ان هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الاتقان و التعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض المصادفة.إنه ملئ بالروائع و الأمور المعقدة التي تحتاج الي مدبر،و التي لا يمكن نسبتها الي قدر أعمي.

و لا شك ان العلوم قد ساعدتنا علي زيادة و فهم و تقدير ظواهر هذا الكون و هي بذلك تزيد من معرفتنا باللّه و من ايماننا بوجوده» (1).

2-الارض:

و من عجائب آيات اللّه خلقه لهذا الكوكب الذي نعيش عليه،فقد جعله تعالي يدور حول محوره في كل 24 ساعة مرة واحدة،و سرعة حركته (1000)ميل في الساعة،و لو كان يدور حول محوره بسرعة 100 ميل في الساعة لكان طول الليل عشرة أمثال ما عليه الآن،و كذا طول النهار، و كانت الشمس محرقة في الصيف لجميع النبات،و في الليالي الباردة كان ينجمد ما عليها من نبات و حيوان كما انها لو اقتربت الشمس من الأرض أكثر مما عليه الآن لازدادت الاشعة التي تصل إليها بدرجة تؤدي الي امتناع الحياة فوقها كما انها لو ابتعدت عنها اكثر مما عليها لحدث العكس و قلت الاشعة و ازدادت قسوة البرد بدرجة تؤدي الي امتناع الحياة عليها و لو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر أو حتي أن قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلاف الجوي و المائي اللذين يحيطان بها،و لصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت،و لو كان

ص: 186


1- اللّه يتجلي في عصر العلم ص 48. (2)التكامل في الاسلام 66/4.

قطرها ضعف قطرها الحالي لأصبحت جاذبيتها للاجسام ضعف ما هي عليه و انخفض تبعا لذلك ارتفاع غلافها الهوائي،و زاد الضغط الجوي و هو يوجب تأثيرا بالغا علي الحياة فان مساحة المناطق الباردة تتسع اتساعا كبيرا،و تنقص مساحة الاراضي الصالحة للسكني نقصا ذريعا،و بذلك تعيش الجماعات الانسانية منفصلة أو في أماكن متنائية فتزداد العزلة بينها، و يتعذر السفر و الاتصال بل قد يصير ضربا من ضروب الخيال.

و لو كانت الارض في حجم الشمس لتضاعفت جاذبيتها للاجسام التي عليها الي 150 ضعفا و نقص بذلك ارتفاع الغلاف الجوي،و وصل وزن الحيوان الي زيادة 150 ضعف عن وزنه الحقيقي كما تتعذر الحياة الفكرية بصورة عامة (1).

و خص اللّه الأرض بميزة أخري بأن جعل لها غلافا غازيا كثيفا سمكه يقدر ب 800 كيلومتر،و هو يتكون من جميع العناصر الضرورية للحياة، و هو السبب في حيلولة الشهب القاتلة الي الارض كما انه السبب في ايصال حرارة الشمس بصورة معتدلة الي الارض بحيث يمكن ان تعيش علي سطحها النباتات و الحيوانات كما ان له الأثر في نقل المياه و البخار من المحيطات الي القارات و لولاه لتحولت القارات الي أرض قاحلة،و ليس لبعض الكواكب هذا الغلاف مما سبب عدم ظهور الحياة عليها فالمريخ له غلاف غازي و لكنه رقيق جدا و غير صالح للحياة لخلوه من الاوكسجين و الزهرة لها غلاف غازي و لكنه مكون من ثاني اوكسيد الكربون مما يجعله غير صالح لظهور الحياة و كذلك القمر له غلاف،و لكنه رقيق،و خال من العناصر الضرورية للحياة مثل الاوكسجين (2)./6

ص: 187


1- اللّه يتجلي في عصر العلم ص 10-11
2- التكامل في الاسلام 128/6

و مما ميز اللّه به الأرض بأن جعلها غبراء اللون لتكون قابلة للانارة و الضياء،و جعلها متوسطة في الصلابة ليمكن المشي عليها،و لتقبل الزرع و الحرث،و ناهيك بما في مائها و أنهارها و جبالها و معادنها من الآيات و العجائب قال سماحة الامام المغفور له كاشف الغطاء:

«حقا إن من أعظم تلك الآيات التي نمر عليها في كل وقت و علي كل حال هذه الأرض التي نعيش عليها،و نعيش منها و نعيش بها،منها بدؤنا و إليها معادنا.(منها بدأناكم و إليها تعودون)لا نزال نمشي علي الأرض،و نثير ترابها في الحرث و النسل،و نتقلب عليها للضرع و المرع،و نزاولها في عامة شئون الحياة،و لا تزال تدر علينا بخيراتها و بركاتها و نحن ساهون لاهون،و عن آياتها معرضون غافلون عما فيها من عظيم القدرة،و باهر الصنعة،و دلائل العظمة و القوة،هذا التراب الذي قد نعده من أحقر الأشياء و أهونها و الذي هو في رأي العين شيء واحد و عنصر فرد،كم يحتوي علي عناصر لا تحصي و خواص لا تتناهي،تنثر فيه حب القمح فيعطيك أضعافا من نوعه،و تنثر فيه الفول و العدس و أمثالهما من القطانيات المختلفة في الطعوم و الخواص فتعيدها إليك مضاعفة مترادفة،و تغرس في نفس ذلك التراب نواة النخل و بذرة الكرم،و أقلام التين و التفاح و أمثالها من الفواكه فتثمر تلك الثمار الشهية المختلفة الأذواق المتغايرة الخواص،و قال رحمه اللّه:الأرض هي أم المواليد الثلاثة:الجماد،و النبات،و الحيوان،و تحوطها العناية بالروافد الثلاثة:

الماء،و الهواء و الشمس،فهي الحياة و هي الممات،و فيها الداء،و منها الدواء و قد تحصي نجوم السماء،أما نجوم الأرض فلا تحصي.

نعم لا تحصي نجوم الارض و لا معادن الارض و لا عناصر الأرض، و لا تزال الشريعة الاسلامية قرآنها و حديثها يعظم شأن الأرض و ينوه عنها صراحة و تلميحا فيقول: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلي طَعامِهِ أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (1).

ص: 188

نعم لا تحصي نجوم الارض و لا معادن الارض و لا عناصر الأرض، و لا تزال الشريعة الاسلامية قرآنها و حديثها يعظم شأن الأرض و ينوه عنها صراحة و تلميحا فيقول: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلي طَعامِهِ أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (1).

إن الأفكار الثاقبة و العقول الجبارة التي استخدمت جميع وسائل العلم الحديث لم تصل الي تحليل جميع عناصر الارض و استخراج جميع كنوزها، مع انها بعض مخلوقات اللّه بل من أبسطها فسبحانه ما أجل قدرته و أعظم صنعه..!

3-اختلاف الليل و النهار:

و من آيات اللّه تعالي اختلاف الليل و النهار،و ذكر علماء التفسير للاختلاف وجهين:(أحدهما)انه افتعال مأخوذ من خلفه يخلفه إذا ذهب الاول و جاء الثاني فيكون المراد باختلاف الليل و النهار تعاقبهما في الذهاب و المجيء(الثاني)الاختلاف في الطول و القصر و النور و الظلمة و الزيادة و النقيصة،و كما انهما يختلفان في الزمان فكذلك يختلفان في المكان فكل ساعة فرضت معينة في موضع من الأرض بأنها صبح مثلا فهي في موضع آخر ظهر،و في مكان ثالث عصر و من رابع مغرب و هلم جرا و ذلك لكروية الارض،و هذا الاختلاف من آثار النظام الشمسي الذي يدل علي وحدة اللّه و وجوده،و هناك مصالح لا تحصي ترتبت علي هذا الاختلاف كانتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب و المعيشة في النهار و طلب الراحة و النوم في الليل (2)الي غير ذلك من المصالح الحيوية التي ذكرها العلماء في

ص: 189


1- الارض و التربة الحسينية:ص 10-13.
2- تفسير الرازي:(ج 2 ص 65-66).

سر هذا الاختلاف التي تكشف عن وجوده تعالي و جميل صنعه و عظيم قدرته!.

4-جريان الفك:

و من آياته تعالي جريان الفلك في الماء فانه لو لا توسط الماء في اللطافة و الخفة لما أمكن جريان البواخر و السفن فيه،كما انه لو لا الرياح المعينة علي تحريكها الي الجهات المختلفة حسب اغراض الناس لما أمكن النفع بها،و قد جعل اللّه تلك الرياح متوسطة في الهدوء و لو كانت عاصفة لتحطمت البواخر،بالاضافة الي أن مواد السفن من الخشب و الحديد و غيرها هي من خلق اللّه تعالي و من إيجاده،و إن كانت الهيئة التركيبية من الناس (1)و جميع هذه الأمور التي المحنا إليها من فعل اللّه و من آثاره.

5-نزول الماء من السماء:

و من عظيم آيات اللّه تعالي انزاله الماء من السماء فانه من عجائب صنعه و باهر قدرته،فقد خلقه مركبا من الاوكسجين و الهيدروجين و غيرهما بنسب متفاوتة و مقادير معينة.و كل عنصر من أجزائه يختلف عن العنصر الآخر و يخالفه و جعله تعالي سببا لحياة الاجسام النامية فقال:«و جعلنا من الماء كل شيء حيا»كما جعله تعالي سببا لحياة الانسان و سببا لرزقه و معيشته فقال:

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ .

و إنما كان نزول المطر حياة للارض-كما صرحت به الآية الكريمة- لأن فيها قوة الحياة الحيوانية و النباتية،و ان كانت القوة بعيدة بالقياس الي

ص: 190


1- تفسير الرازي:(ج 2 ص 68).

الحيوانية،فاذا نزل عليها الماء ظهر فيها من العشب و الكلاء و ما شاكله من النباتات التي يعيش بها الانسان و تحيي بها دواب الأرض،أو لأنه يحصل للارض بسبب نزول المطر النبات و الازهار و الرياحين فتكسي بذلك ثوبا من الحسن و الجمال تبعث علي البهجة و المسرة لمن نظر إليها و هذا هو المراد من حياتها،و علي كل ففي ذلك آيات و شواهد علي وجود الصانع و باهر قدرته.

و لو أمعن الانسان في النبات و الزرع و ما فيهما من العجائب لآمن بقدرة اللّه و جمال صنعه و تدبيره،فان الزرع يخرج علي الحد الذي يحتاج إليه العباد في أوقات معلومة فما يخرج في موسم الربيع لا يدرك في الخريف و ما يخرج في الصيف لا يوجد في الشتاء،و مضافا الي ذلك تغاير الاشجار و الثمار فانها متغايرة بألوانها و طعمها و رائحتها مع أنها تسقي بماء واحد و تخرج من أرض واحدة،فلو نظر الانسان الي ذلك بعين البصيرة لآمن بربه و ما زاغ قلبه و ما خرج عن جادة الايمان.

6-بث الدواب في الأرض:

و من آيات اللّه العظيمة بث الحيوانات في الأرض المختلفة في أنواعها و أصنافها و أشكالها و شرفها و خستها المتباينة في أخلاقها و طبائعها و معيشتها و الانسان من جملة الحيوانات،و لكنه من أشرفها و أرقاها فهو خليفة اللّه في أرضه لأن فيه انموذجا لجميع ما في العالمين عالم الملك،و عالم الملكوت خصوصا بحسب وعيه و ادراكه،و احاطته بكثير من الحقائق و المعلومات الكلية و الجزئية فهو عالم بنفسه بل هو أكبر من العالم يقول الامام امير المؤمنين(ع):

ص: 191

أ تحسب انك جرم صغير و فيك انطوي العالم الأكبر

إن الانسان بحسب تكوينه من أعظم آيات اللّه ففيه من الاجهزة الدقيقة ما لا تحصي و لا تعد كتكوين العين التي تحتوي علي التنظيمات التلسكوبية و المكروسكوبية و هي تحتوي علي 130 مليون من مستقبلات الضوء،و هي أطراف أعصاب الابصار،و يقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا و نهارا،و تعتبر حركته حركة لا ارادية،و يمنع عنها الاتربة و الذرات كما يكسر من حدة الشمس،و جعل لها السائل المحيط بها المعروف بالدموع من أقوي المطهرات و المعقمات الي غير ذلك مما هو أبلغ دليل علي وجود اللّه و في الانسان حاسة السمع،و هي من أعجب اجهزة الانسان فان فيه التيه و قد قال فيه العالم(كورثي):

«إن التيه يشتمل علي نوع من الاقنية بين لولبية،و نصف مستديرة و ان في القسم اللولبي وحده اربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس».

ما طول تلك الأقواس؟ ما حجمها؟ كيف ركبت؟ إنها دقة تحير الالباب،فسبحان اللّه المكون و المصور،و في الانسان حاسة الشم،و هي من اعظم آيات اللّه،فان مركز هذه الحاسة منطقة محدودة من الغشاء المخاطي المبطن لتجويف الأنف،تسمي منطقة الشم،و هي خالية من الأهداب،و بها عدة خلايا شمية طويلة رقيقة تنقل الأثر الي المخ، و ذلك في جزء من الأنف،و هو المدخل الرئيسي للجهاز التنفسي الذي يتوقف عليه حياة الانسان.

و في الانسان الجهاز العظمي،و هو يتكون من 206 عظم،و يتصل

ص: 192

بعضها ببعض بالمفاصل التي تحركها العضلات،و هذه العظام مصنع الحياة في الجسم اذ انها تكون الكريات الدموية الحمراء و البيضاء و انها اساس الحياة و من عجيب أمر هذه الكريات انها في كل دقيقة من حياة الانسان يموت منها ما لا يقل عن مائة و ثمانين مليونا بسبب دفاعها عن الجسم ضد الميكروبات الوافدة،و اضافة لما تصنعه العظام من كريات الدم فانها مخزن تحفظ للجسم ما يزيد علي حاجته من الغذاء سواء كان ذلك في داخل العظام نفسها كالمواد الدهنية و الزلالية أو علي العظام نفسها كالمواد الجيرية.

اما ملاءمة العظام لما خلقت له فهذا أمر عجيب.فعظام الجمجمة التي تحمي المخ أشد صلابة من غيرها،و أكثرها سمكا لانها تحمي انسجة رقيقة و دقيقة.

الي غير ذلك مما في الانسان من الاجهزة المحيرة كالجهاز العصبي و الجهاز التناسلي،و الجهاز اللمفاوي،و الجهاز العضلي (1)و هي تدل بوضوح علي مكونها و خالقها،فانها لا يمكن ان تتكون صدفة فان حديث المصادفة اصبح من الخرافات التي لا يؤمن بها من كان له أدني تفكير و شعور.

7-تصريف الرياح:

من آيات اللّه تصريفه للرياح فانها تأتي جنوبا،و شمالا،و قبولا و دبورا،هذا هو كيفية تصريفها (2).

ص: 193


1- يراجع في هذه البحوث بصورة مستفيضة الي المصادر التالية: اللّه و العلم الحديث،أمالي الامام الصادق،اللّه يتجلي في عصر العلم،العلم يدعو للايمان.
2- تفسير الطبري 65/2.

ان الرياح:هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلي من الجو إذا سارت متوازية مع سطح الارض،و تختلف سرعة الرياح حتي تصل الي مائة كيلومتر في الساعة،و تسمي زوبعة،و إذا زادت عليها تسمي اعصارا،و قد تصل سرعتها الي 240 كيلومترا في الساعة،و هذه الرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء و توزيعه،كما انها من أهم الوسائل لتلقيح النباتات.فقد ثبت ان هناك قسما كبيرا من النبات لا يتم تلقيحه الا بالهواء،قال تعالي: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (1).

8-تسخير السحاب:

و من آياته تعالي تسخير السحاب،فقد سخره في أوقات مخصوصة لاحياء العباد و البلاد،و لو دام وجوده لعظم ضرره لأنه يستر أشعة الشمس كما يؤدي الي فساد جميع المركبات التي تتوقف علي الجفاف،و بانقطاعه يعظم الضرر لأنه يؤدي الي القحط فيهلك الانسان و الحيوان فكان تقديره بالاوقات الخاصة و الفصول المعينة لأجل الصالح العام.

ان السحاب يتكون من تكاثف البخار في الهواء،و يختلف ارتفاع السحب علي حسب نوعها،فمنها ما يكون علي سطح الأرض كالضباب، و منها ما يكون ارتفاعه بعيدا الي اكثر من 12 كيلومترا كسحاب(السيرس) الرقيق.

و عند ما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومترا في الساعة لا يمكن نزول قطرات المطر المتكون،و ذلك لمقاومة الرياح لها،..

ص: 194


1- سورة الحجر:آية 22.

و كلما تناثرت النقط تشحن بالكهرباء الموجبة،و تنفصل عنها الكهرباء السالبة التي تحملها الرياح..و بعد مدة تصير مشحونة شحنا وافرا بالكهرباء، و عند ما تقترب الشحنتان بعضها من بعض بواسطة الرياح..يتم التفريغ الكهربائي،و ذلك بمرور شرارة بينهما،و يستغرق وميض البرق لحظة قصيرة و يكون شكله خطا منكسرا،و يسمع بعده الرعد و هو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء،و تخيم السحابة،و ينزل منها المطر فتأخذ منه الأرض ما قدر اللّه لها من الماء.

فانظر كيف ولدت الرياح الكهرباء بنوعيه في السحب،و سببت نزول المطر منها (1)كل ذلك بتقدير اللّه العزيز العليم،و تحدث الطنطاوي في تفسيره عن السحب و فوائدها قال:

«تعجب كيف كان السحاب ليس يرتفع عن وجه الارض في الجو اكثر من ستة عشر الف ذراع،و إن أقربه ما كان مماسا لوجه الارض نادر في بعض البلدان إذ لو كان السحاب مماسا لوجه الارض لأضر ذلك بالحيوان و النبات و أمتعة الناس.إلي أن قال:كما أنه لو كان بعيدا شديد الارتفاع في الهواء حتي لا يري لكانت الامطار و الثلوج تأتي مفاجأة و الناس و الحيوان عنها غافلون لا يتحرزون فيكون الضرر عاما» (2).

هذا بعض ما في الآية الكريمة من الشواهد و الأدلة علي وجود اللّه تعالي الذي هو المصدر لوجود هذه العوالم و قد استدل الامام(ع)بهذه الآيات لدعم حقيقة الايمان باللّه،و تحرير العقول من خرافات الشرك و فيما يلي فصل آخر من حديثه(ع)قال:).

ص: 195


1- اللّه و العلم الحديث ص 174-175.
2- تفسير الجواهر:(ج 1 ص 155).

«يا هشام:قد جعل اللّه ذلك (1)دليلا علي معرفته بأن لهم مدبرا فقال: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2)و قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّي مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّي وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)و قال:

ان في اِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)و قال: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها،قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (5)و قال: وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقي بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلي بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (6)و قال: وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (7)و قال: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ،نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ4.

ص: 196


1- اسم الاشارة يرجع الي الآية المذكورة او لكلامه المتقدم.
2- سورة النحل:آية:12.
3- سورة المؤمن:آية:66.
4- قد أخذ هذا من مضمون الآية الرابعة في سورة الجاثية.
5- سورة الحديد:آية 18.
6- سورة الرعد:آية:4.
7- سورة الروم:آية:24.

اَلَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1) و قال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ،تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).

استدل(ع)بهذه الآيات الكريمة علي آثار اللّه تعالي الدالة علي وجوده و وحدانيته،و قد بسطنا الكلام في بعضها،و إنما أعادها(ع)للتنبيه علي وثاقة الأدلة فانه لو أمعن بها العاقل المفكر و تدبرها لآمن بذلك و لم يبق عنده أي مجال للشك،و لذا كررها تعالي في كتابه الحكيم،ثم انه(ع) ذكر بعض الموبقات و الجرائم التي حرمها القرآن و هي:

1-الشرك باللّه.

2-عصيان الأبوين.

3-قتل الاولاد خشية إملاق.

4-الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

5-قتل النفس المحترمة.

و لو لا خوف الاطالة لبسطنا الكلام في بيان بقية الآيات التي استشهد بها الامام في حديثه،و لننتقل الي فصل آخر من كلامه،قال عليه السلام:

«يا هشام:ثم وعظ أهل العقل و رغبهم في الآخرة فقال: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (3).

استدل(ع)بالآية الكريمة علي ترغيب اللّه تعالي لعباده العقلاء في دار الخلود و النعيم و ذمه لدار الدنيا لأنها محصورة علي الاكثر في اللهو و اللعب1.

ص: 197


1- سورة الانعام:آية 151.
2- سورة الروم:آية:28.
3- سورة الانعام:آية:31.

فينبغي للعقلاء أن يزهدوا فيها و يجتنبوا شرها و حرامها،و يعملوا للدار الباقية التي أعدت للمتقين و الصالحين و لننتقل الي فصل آخر من حديثه قال(ع):

«يا هشام:ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالي: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (1)و قال: إِنّا مُنْزِلُونَ عَلي أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).

استدل(ع)بهذه الآيات الكريمة علي تدميره تعالي للذين لا يعقلون من الامم السالفة التي كفرت باللّه و قد نزلت الآيات في قوم لوط حينما جحدوا اللّه و كفروا بآياته فأنزل تعالي بهم عقابه و جعل موطنهم بحيرة منتنة قبيحة المنظر و جعلها بسبيل مقيم يمر بها المارون ليلا و نهارا و لذا قال تعالي:

وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ.. (3) و قد جعلهم تعالي عبرة و موعظة للذين يعقلون،فان فيه تحذيرا لهم من مخالفة المرسلين و المصلحين فان عاقبة المخالفة و العصيان الدمار و الهلاك (4)،و قال عليه السلام:

«يا هشام:إن العقل مع العلم قال تعالي: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ،وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (5).

استدل(ع)بالآية الكريمة علي ملازمة العقل للعلم فان العقل بجميع مراتبه لا ينفك عن العلم و لا يفترق عنه،و سبب نزول الآية فيما يقوله المفسرون3.

ص: 198


1- سورة الصافات:آية:136 و 137 و 138.
2- سورة العنكبوت:آيه:33 و 34.
3- تفسير ابن كثير:(ج 4 ص 20).
4- روح المعاني:(ج 7 ص 313).
5- سورة العنكبوت:آية:43.

ان الكافرين قالوا إن اللّه كيف يضرب الأمثال بالهوام و الحشرات كالبعوض و الذباب و العنكبوت،و الامثال ينبغي ان تضرب بغير ذلك من الامور الخطيرة و هو منطق هزيل،فان التشبيه انما يكون بليغا فيما اذا كان مؤثرا في النفس فاذا قال الحكيم لمن يغتاب انسانا إنك بهذه الغيبة كأنك تأكل لحم الميتة لأنك تغتابه فان هذا يؤثر في ردعه اكثر مما يؤثر قوله:إن الغيبة حرام أو تورث العتاب و الشحناء بين الناس.

و أشار تعالي بقوله: وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ إلي أن معرفة حقيقة الاشياء و التمييز بين صحيحها و سقيمها لا يعقلها إلا من حصل له العلم و المعرفة فغير العالم لا يفقه ذلك (1)و لننتقل الي فصل آخر من كلامه قال(ع):

«يا هشام:ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (2)و قال: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (3)و قال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (4)و قال: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (5)و قال: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُريً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ،بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّي ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ4.

ص: 199


1- تفسير الرازي.
2- سورة البقرة:آية:169.
3- سورة البقرة:آية:171.
4- سورة يونس:آية:42.
5- سورة الفرقان:آية:44.

لا يَعْقِلُونَ (1) و قال: وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (2).

استدل الامام(ع)بالآيات الكريمة علي ذم من لا يعقل،و نتعرض فيما يلي الي بعض معانيها ليتضح استشهاد الامام بها:

(الآية الأولي):

دلت علي ذم من يتبع أسلافه و مشايخه في الامور الدينية من غير بصيرة و لا دليل،فان الذي يحفزهم الي اتباعهم انما هو الجهل و الغباوة و التعصب،و قد نزلت الآية في اليهود حينما دعاهم رسول اللّه(ص) الي الاسلام فرفضوا ذلك،و قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فانهم كانوا خيرا منا (3)و لو كانت لهم عقول مستقيمة،و نضوج فكري لفقهوا أن التقليد في العقائد لا يقره العقل السليم،فالعقيدة لا بد أن تؤخذ من الدليل العلمي الصحيح فانها أساس لحياة الانسان و سلوكه قال الامام الشيخ محمد عبده في تفسيره:

«لو كان للمقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية باسلوبها لتنفيرهم من التقليد فانهم في كل ملة و جيل يرغبون عن اتباع ما أنزل اللّه استئناسا بما ألفوه مما ألفوا آباءهم عليه،و حسبك بهذا شناعة إذ العاقل لا يؤثر علي ما أنزل اللّه تقليد أحد من الناس مهما كبر عقله و حسن سيره،إذ ما من عاقل إلا و هو عرضة للخطأ في فكره،و ما من مهتد إلا و يحتمل أن يضل في سيره،فلا ثقة في الدين إلا بما أنزل اللّه، و لا معصوم إلا من عصم اللّه،فكيف يرغب العاقل عما أنزل اللّه الي اتباع الآباء مع دعواه الايمان بالتنزيل،علي أنه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجبن.

ص: 200


1- سورة الحشر:آية:13.
2- سورة البقرة:آية:43.
3- التبيان:(ج 1 ص 188)ط ايران.

أن ينفره عن التقليد قوله تعالي: وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (1).

(الآية الثانية):

متصلة بالآية الأولي،و متممة لها فانه تعالي لما حكي حالة الكفار في إصرارهم علي التقليد الأعمي عند دعوتهم الي الاسلام ضرب اللّه للسامعين مثلا عن حالهم-لئلا ينخدعوا بهم-بأنهم كالانعام و البهائم التي لا تعي دعاء الراعي لها سوي سماع الصوت منه دون أن تفهم المعني،فكذلك هؤلاء لا يتأملون دعوة الحق و لا يعونها فهم بمنزلة من لا يعقل و هذا أعظم قدح و ذم للذين لا يعقلون.

(الآية الثالثة):

حكي فيها تعالي حال بعض الكفار بأنهم في منتهي القسوة و جمود الطبع و خمود نار الذهن فانهم يستمعون الي ما يتلي عليهم من الآيات و الأدلة علي صحة دعوة النبي(ص)و لكنهم صم من ناحية إدراك المعني و تفهمه، و انه لا جدوي و لا فائدة في دعوتهم الي اعتناق هذا الدين فقد بلغوا النهاية في أمراضهم العقلية و النفسية بحيث لا يجدي معهم العلاج و النصح.

(الآية الرابعة):

خاطب اللّه فيها نبيه بأن لا يطمع في إيمان بعض الكفرة لانهم كالأنعام في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من الآيات الباهرة فهم أضل سبيلا من الأنعام لأنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها و تهتدي لمراعيها و مشاربها و تأوي الي معاطنها و مرابضها و هؤلاء لا ينقادون لربهم و خالقهم و رازقهم فلا يعرفون احسانه و نعمه بالاضافة الي أن الحيوانات لم تعطل قوة من قواها المودعة فيها بل صرفت كل قوة الي ما خلقت له،و أما الكفرة فقد عطلوا قواهم0)

ص: 201


1- المنار:(ج 1 ص 100)

العقلية فضيعوا الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها و هي معرفة اللّه و الايمان به فلذا كانوا أضل سبيلا من البهائم.

(الآية الخامسة):

احتوت علي ذم الكفرة لأن فيهم ثلاث من الصفات الذميمة و هي:

1-الجبن عن الحرب.

2-البأس الشديد فيما بينهم.

3-تشتت قلوبهم.

و علل تعالي الصفات الثلاث أو الاخيرة بعدم العقل،فان العاقل لا يكون جبانا كما انه لا يقع بأس أو خلاف بينه و بين غيره فان ذلك ينشأ من الجهل و الغباوة،و ذلك لا يتصف به المؤمنون و قد أشار(ع)إليهم بقوله:

«المؤمنون يد واحدة علي من سواهم»و ذلك لاتحاد أفكارهم و وحدة اتجاههم فلا يعقل التفرق و الانقسام بين صفوفهم.

(الآية السادسة):

نزلت في علماء اليهود فقد كانوا يقولون لاقربائهم من المسلمين:

اثبتوا علي ما انتم عليه و هم لا يؤمنون بالاسلام (1)و كان الاحري بهم أن يعتنقوا الاسلام ثم يأمرون الغير بالتمسك به.

إلي هنا ينتهي بنا الحديث في بيان الآيات التي استدل بها(ع)علي ذم من لا يعقل من الناس،و لننتقل الي فصل آخر من كلامه، قال(ع):

«يا هشام:ثم ذم اللّه الكثرة فقال: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (2)،و قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ6.

ص: 202


1- مجمع البيان:(ج 1 ص 98).
2- سورة الانعام:آية:116.

اَلسَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1) و قال تعالي: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (2).

استدل(ع)بالآيات الثلاث علي ذم اكثر الناس لأنهم قد حجبوا عن نفوسهم الحق و توغلوا في الباطل و غرقوا في الشهوات إلا من رحمه اللّه منهم و أخرجه من الظلمات الي النور،و نعرض فيما يلي الي مدلول الآيات -بايجاز-:

(الآية الاولي):

خاطب فيها تعالي نبيه(ص)و أراد به غيره أو ان الخطاب له و لغيره في أنه(ص)لو أطاع الجمهور من الناس و سار علي وفق أهوائهم و ميولهم لأضلوه عن دين اللّه و صرفوه عن الحق:

(الآية الثانية):

دلت بحسب مفهومها علي أن اكثر الناس يقولون.ما لا يعلمون، و انهم لا يؤمنون باللّه في قلوبهم بل انما يجري علي السنتهم من دون أن ينفذ الي اعماق نفوسهم.

(الآية الثالثة):

خاطب فيها تعالي نبيه بأنه لو سأل المشركين من هو الذي أنزل الماء من السماء الذي هو سبب رزقهم و حياتهم؟لأجابوه بأنه هو اللّه تعالي الموجد للممكنات بأسرها و مع ذلك فانهم يشركون به و يعبدون بعض مخلوقاته التي لا يتوهم منها القدرة علي ايجاد أي شيء-فالحمد للّه-علي اظهارهم الحجة و اعترافهم بأن الخالق لأصول النعم و فروعها هو اللّه تعالي فيكون3.

ص: 203


1- سورة لقمان:آية:25.
2- سورة العنكبوت:آية:63.

الحمد الذي ذكره تعالي كالحمد عند رؤية المبتلي (1)،و نعرض الي فصل آخر من كلامه قال عليه السلام:

«يا هشام:ثم مدح القلة فقال: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (2)و قال: وَ قَلِيلٌ ما هُمْ (3)و قال: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ (4)و قال: وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (5)و قال: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (6)و قال: وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (7)و قال:و اكثرهم لا يَشْعُرُونَ .

استدل(ع)بالآيات الكريمة علي مدحه قلة المؤمنين و ندرة وجودهم و قد صرحت الاخبار الواردة عن أهل البيت(ع)بذلك فقد قال أبو عبد اللّه عليه السلام:(المؤمنة أعز من المؤمن،و المؤمن أعز من الكبريت الأحمر، فمن رأي منكم الكبريت الأحمر؟» و يعود السبب في هذه القلة الي أن الايمان الحقيقي باللّه من أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الانسان،و هناك موانع كثيرة تحول دون الوصول الي هذا الايمان كانحطاط التربية و سوء البيئة و غيرهما من الحواجز التي تؤدي الي حجب الانسان عن خالقه و تماديه في الاثم.

و المراد من قوله تعالي: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ليس معناه3.

ص: 204


1- روح المعاني:(ج 6 ص 423).
2- سورة سبأ:آية:13.
3- سورة ص:آية:24.
4- سورة غافر:آية:28.
5- سورة هود:آية:40.
6- سورة الانعام:آية:37.
7- سورة المائدة:آية:103.

التلفظ بكلمة الشكر للّه،بل معناه صرف العبد جميع ما أنعم اللّه عليه فيما خلق لأجله و هذه مرتبة عظيمة لا تصدر إلا ممن عرف اللّه و اعتقد بأن جميع النعم و الخيرات صادرة منه،فيعمل علي تحصيل الخير و محاربة آفات نفسه،و حينئذ يكون من الشاكرين للّه و الشكر بهذا المعني من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلا القليل،و نعرض الي فصل آخر من كلامه قال(ع):

«يا هشام:ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر و حلاهم بأحسن الحلية،فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (1)و قال: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (2)و قال تعالي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (3)و قال تعالي: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمي إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (4)و قال تعالي: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (5)و قال تعالي:

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (6) و قال تعالي: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَي الْهُدي،وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ8.

ص: 205


1- سورة البقرة:آية:268.
2- سورة آل عمران:آية:6.
3- سورة آل عمران:آية:189.
4- سورة الرعد:آية 19.
5- سورة الزمر:آية:8.
6- سورة ص:آية:28.

هُديً وَ ذِكْري لِأُولِي الْأَلْبابِ (1) و قال تعالي: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْري تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (2).

استدل(ع)بالآيات الكريمة علي مدح العقلاء الكاملين و تفوقهم علي غيرهم فقد مدحهم تعالي بأحسن الصفات و أضفي عليهم أسمي النعوت، و نقدم بيانا موجزا عن مفادها حتي يتضح استشهاد الامام بها:

(الآية الاولي):

دلت علي أنه تعالي منح بعض عباده(الحكمة)و هي من أعظم المواهب و من أجل الصفات فقد قيل في تعريفها،انها العلم الذي تعظم منفعته و تجل فائدته.

و وصف تعالي من منح بها بأنه أوتي خيرا كثيرا كما أنه تعالي ذكر أنه لا يعلم معني الحكمة أو القرآن إلا أولو الألباب.

(الآية الثانية):

وصف تعالي فيها عباده الكاملين في عقولهم بثلاثة أوصاف:

1-الرسوخ في العلم.

2-الايمان باللّه.

3-العرفان بأن الكل من عند اللّه (3).

و حكم تعالي بأن المتصفين بهذه النعوت الشريفة هم العقلاء الكاملون الذين هم ذوو الألباب.

(الآية الثالثة):

سبق الكلام في تفسيرها و بيانها.م.

ص: 206


1- سورة غافر:آية:52.
2- سورة الذاريات:آية:54.
3- أي كلا من المتشابه و المحكم.

(الآية الرابعة):

دلت علي التعجب و الانكار علي من يدعي المساواة بين العالم باحكام القرآن و بين غيره مع ان الفرق بينهما كالفرق بين الأعمي و البصير،و الحي و الميت!.

(الآية الخامسة):

دلت علي التفاوت بين من يسهر ليله في طاعة اللّه و بين غيره الذي يقضي أوقاته بالملاهي و الملذات و هو معرض عن ذكر اللّه،فكيف يكونان متساويين.

(الآية السادسة):

دلت علي أن القرآن الحكيم لما كان مشتملا علي أسرار عظيمة و معارف جليلة و آيات باهرة أنزله تعالي الي عباده ليتدبروه و يتفهموه،و لكن هذا التدبر إنما يظفر به من له تفكير سليم.

(الآية السابعة):

دلت علي أنه تعالي أورث بني إسرائيل الكتاب فجعلهم حملة له، و إنما منحهم ذلك ليكون هدي و ذكري لأولي الألباب.

(الآية الثامنة):

خاطب اللّه فيها نبيه(ص)بالاستمرار في الذكر و عدم الاعتناء بالجاهلين الذين لا يعون و لا يتدبرون دعوته فان شأنه(ص)الافاضة و نشر التعليم و بسط القوي الروحية و لم ينتفع بذلك الا المؤمنون،قال(ع):

«يا هشام:إن اللّه تعالي يقول في كتابه:«إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب» (1)-يعني عقل-و قال تعالي: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ6.

ص: 207


1- سورة ق:آية 36.

اَلْحِكْمَةَ (1) يعني الفهم و العقل».

ذكر(ع)أنه ليس المراد بالقلب الذي ذكر في الآية الاولي هو العضو الخاص الموجود في الانسان و سائر البهائم،بل المراد منه هو العقل الذي يدرك المعاني الكلية و الجزئية و يتوصل الي معرفة حقائق الأشياء و هو في الحقيقة الكيان المعنوي للانسان و أشارت الآية الثانية الي نعمته تعالي علي لقمان فقد وهبه الحكمة و هي من أفضل النعم و أجلها،و أخذ(ع) يتلو علي هشام بعض حكم لقمان و نصائحه فقال:

«يا هشام:ان لقمان قال لابنه:تواضع للحق تكن أعقل الناس و ان الكيس لدي الحق يسير،يا بني:إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوي اللّه،و حشوها الايمان،و شراعها التوكل، و قيمها العقل و دليلها العلم،و سكانها الصبر».

عرض(ع)في حديثه لبعض وصايا لقمان،فقد أوصي ولده بالتواضع للحق و هو أن لا يري الانسان لنفسه وجودا إلا بالحق و لا قوة له و لا لغيره إلا باللّه،و التواضع من أفضل الأعمال،و قد ورد عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنه قال:(من تكبر وضعه اللّه،و من تواضع للّه رفعه اللّه).

إن الانسان كلما تجرد عن الانانية و محا عن نفسه التكبر زاده اللّه شرفا و فضلا.

و شبه لقمان الدنيا بالبحر،و وجه الشبه تغير الدنيا و تغير أشكالها و صورها في كل لحظة فالكائنات التي فيها كالامواج التي تكون في البحر معرضا للزوال و الفناء،و يحتمل أن يكون وجه الشبه أن الدنيا كالبحر الذي يعبر عليه الناس فكذلك الدنيا يعبر عليها الناس الي دار الآخرة و تكون1.

ص: 208


1- سورة لقمان:آية:11.

النفوس فيها كالمسافرين،و الابدان كالسفن و البواخر تنقلهم من دار الدنيا الي دار الخلود،و قد غرق عالم كبير من الناس في هذه الدنيا،و انما غرقوا لتهالكهم علي الشهوات،و إذا كانت الدنيا بحرا توجب الغرق و الهلاك، فلا نجاة منها و لا سلامة إلا بسفينة التقوي و الصلاح،و ليكن شراعها التوكل علي اللّه و الاعتماد عليه في جميع الامور،كما انه لا بد من عقل يكون قيما لتلك السفينة و ربانا لها،و العقل دليله العلم فان نسبته إليه كنسبة النور من السراج و الرؤية من البصر،و مع هذه الخصال لا بد من الصبر فان ارتقاء الانسان و قربه من ربه لا يحصل إلا بمجاهدات قوية للنفس و لننتقل الي مشهد آخر من كلامه قال(ع):

«يا هشام:إن لكل شيء دليلا،و دليل العقل التفكر،و دليل التفكر الصمت،و لكل شيء مطية،و مطية العقل التواضع و كفي بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام:ما بعث اللّه أنبياءه و رسله الي عباده الا ليعقلوا عن اللّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة،و أعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلا،و اكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا و الآخرة».

استدل عليه السلام في كلامه الاخير علي شرف الأنبياء و فضلهم بكمال عقولهم و قد قال النبي(ص)لأمير المؤمنين:يا علي إذا تقرب الناس الي خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه أنت بالعقل حتي تسبقهم»ان وفور العقل من أفضل ما يمنح به الانسان إذ به يتوصل الي سعادة الدنيا و الفوز في دار الآخرة.

قال عليه السلام:

«يا هشام:إن للّه علي الناس حجتين:حجة ظاهرة،و حجة باطنة فاما الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة(ع)و أما الباطنة فالعقول».

ص: 209

«يا هشام:ان العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره و لا يغلب الحرام صبره».

تعرض(ع)في الفقرات الاخيرة من كلامه الي بعض أحوال العقلاء من أنهم لا تمنعهم كثرة نعم اللّه عليهم من شكره تعالي كما لا تزيل صبرهم النوائب و الكوارث.

قال عليه السلام:

«يا هشام:من سلط ثلاثا علي ثلاث فكأنما أعان علي هدم عقله:

من أظلم نور تفكره بطول أمله،و محا طرائف حكمته بفضول كلامه، و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنما أعان هواه علي هدم عقله،و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه».

تعرض(ع)في كلامه الي أن في الانسان قوتين متباينتين،و هما العقل و الهوي،و لكل واحدة منهما صفات ثلاث تضاد الصفات الأخري، فصفات العقل:التفكر و الحكمة و الاعتبار،و صفات الهوي:طول الامل و فضول الكلام،و الانغماس في الشهوات.

أما طول الامل في الدنيا فانه يمنع من التفكر في أمور الآخرة،و يحمل النفس علي الاقبال في أمور الدنيا،و هذا هو المراد من قوله(ع):«اظلم نور تفكره بطول أمله»ان طول الأمل يبدد نور الفكر بالظلمة و يحجبه عن الانطلاق في ميادين الخير.

أما فضول الكلام فانه يمحي طرائف الحكمة من النفس.

و أما الاشتغال باللذات و الانصراف الي الشهوات فانه يعمي القلب و يذهب بنور الايمان و يطفئ نور الاستبصار و الاعتبار من النفس فمن سلط هذه الخصال الشريرة علي نفسه فقد أعان علي هدم عقله،و من هدم عقله فقد أفسد دينه و دنياه.

ص: 210

قال عليه السلام:

«يا هشام:كيف يزكو (1)عند اللّه عملك و أنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك،و أطعت هواك عن غلبة عقلك.

يا هشام:الصبر علي الوحدة علامة قوة العقل،فمن عقل عن اللّه (2)اعتزل أهل الدنيا و الراغبين فيها،و رغب فيما عند اللّه،و كان اللّه آنسه في الوحشة و صاحبه في الوحدة و غناه في العيلة،و معزه من غير عشيرة.

يا هشام:نصب الحق (3)لطاعة اللّه،و لا نجاة الا بالطاعة،و الطاعة بالعلم و العلم بالتعلم،و التعلم بالعقل يعتقد (4)و لا علم إلا من عالم رباني، و معرفة العلم بالعقل.

يا هشام:قليل العمل من العالم مقبول مضاعف«و كثير العمل من أهل الهوي و الجهل مردود».

مراده(ع)أن قليل العمل من العالم مقبول و سببه أن بالعلم صفاء القلوب و طهارة النفوس و التوصل الي معرفة اللّه عز شأنه.

و فضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيرها في صفاء القلب و إزالة الحجب و الظلمة عن النفس،و هي تختلف بحسب الاشخاص فرب انسان يكفيه قليل العمل في صفاء نفسه نظرا للطافة طبعه،ورقة حجابه،و رب انسان لا يؤثرم.

ص: 211


1- يزكو:الزكاة لغة الطهارة و النماء و هي تطلق علي العين و المعني فيقال:زكي ماله-أي نما ماله-و يقال زكي عمله-أي طهر عمله،و يحتمل كلا المعنيين في المقام.
2- أي حصلت له معرفة اللّه و العلم بصفاته و أحكامه و شرائعه.
3- نصب الحق:مبني للمجهول-أي وجد الحق لطاعة اللّه.
4- يعتقد-أي يشتد و يستحكم.

العمل الطيب الذي يصدر منه في صفاء ذاته.نظرا لكثافة طبعه و كثرة الحجب علي نفسه.

قال(ع):

«يا هشام:إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة،و لم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا فلذلك ربحت تجارته.

يا هشام:إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟و ترك الدنيا من الفضل،و ترك الذنوب من الفرض».

قال(ع):

يا هشام:إن العاقل نظر الي الدنيا و الي أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة،و نظر الي الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة،فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام:إن العقلاء زهدوا في الدنيا و رغبوا في الآخرة،لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة و الآخرة طالبة و مطلوبة فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتي يستوفي منها رزقه،و من طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه و آخرته».

و توضيح الفقرات الاخيرة من حديثه(ع)قوله:«الدنيا طالبة مطلوبة»يعني أن الدنيا توصل الرزق المقدر الي من هو فيها،و بهذا الاعتبار تكون طالبة،و أما مطلوبيتها فهو سعي أبنائها و جدهم لتحصيل نعمها،و أما طلب الآخرة فهو إتيان الموت و حلول الأجل المحتوم لجميع من في الدنيا فهي تطلبهم لتنقلهم من الدنيا إليها،و أما مطلوبيتها فهو سعي أبنائها الصلحاء في تحصيل الأعمال الصالحة ليكونوا آمنين من العقاب و العتاب قال(ع):

«يا هشام:من أراد الغني بلا مال و راحة القلب من الحسد،

ص: 212

و السلامة في الدين.فليتضرع الي اللّه عز و جل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه،و من قنع بما يكفيه استغني و من لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبدا.

يا هشام:ان اللّه حكي عن قوم صالحين أنهم قالوا:ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب،حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود الي عماها و رداها،انه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه،و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه علي معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه و لا يكون أحد كذلك الا من كان قوله لفعله مصدقا و سره لعلانيته موافقا،لأن اللّه تبارك اسمه لم يدل علي الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».

أشار الامام(ع)بكلامه الاخير الي ان المؤمن اذا لم يكن قلبه مستضيئا بنور اللّه تعالي و عقله مهتديا بهدي اللّه،فانه لا يكون آمنا من الزيغ كما لا يكون آمنا من الارتداد بعد الدخول في حظيرة الاسلام،و قد أشار القرآن الكريم الي هذه الظاهرة قال تعالي:و ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلي قُلُوبِهِمْ و قال تعالي: مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ و لذلك يدأب الصالحون بالسؤال من اللّه في أن لا تزيغ قلوبهم و أن لا يضلوا عن دينه فان النفوس البشرية بحسب نشأتها و خلقتها إذا لم يساعدها التوفيق لا تنجو من وساوس الشيطان و غوايته.

قال(ع):

«يا هشام كان أمير المؤمنين(ع)يقول:ما عبد اللّه بشيء أفضل من العقل،و ما تم عقل امرئ حتي يكون فيه خصال شتي:الكفر و الشر منه مأمونان،و الرشد و الخير منه مأمولان،و فضل ماله مبذول،و فضل قوله مكفوف،و نصيبه من الدنيا القوت،لا يشبع من العلم دهره،الذل

ص: 213

أحب إليه مع اللّه من العز مع غيره،و التواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره،و يستقل كثير المعروف من نفسه و يري الناس كلهم خيرا منه،و انه شرهم في نفسه،و هو تمام الامر).

استدل(ع)علي مقصوده بكلام جده أمير المؤمنين(ع)الذي تعرض فيه لصفات العقلاء و خصائص أفعالهم.

قال(ع):

يا هشام:إن العاقل لا يكذب و ان كان فيه هواه.

يا هشام:لا دين لمن لا مروة له،و لا مروة لمن لا عقل له،و ان أعظم الناس قدرا الذي لا يري الدنيا لنفسه خطرا.أما إن أبدانكم ليس لها ثمن الا الجنة فلا تبيعوها بغيرها».

و توضيح ما أفاده في قوله عليه السلام:«أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها»:هو أنه لا يليق أن يكون ثمنا لهذه الابدان سوي الجنة،و نقل صاحب الوافي عن استاذه إيضاحا لمقالة الامام ما نصه:

«إن الابدان في التناقص يوما فيوما و ذلك لتوجه النفس منها الي عالم آخر فان كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا و انقطاع حياته البدنية الي اللّه سبحانه و الي نعيم الجنان لكونه علي منهج الهداية و الاستقامة فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع اللّه تعالي،و لهذا خلقه اللّه عز و جل و ان كانت شقية كانت غاية سعيه و انقطاع أجله و عمره الي مقارنة الشيطان و عذاب النيران لكونه علي طريق الضلالة فكأنه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية و اللذات الحيوانية التي ستصير نيرانا محرقة و هي اليوم كامنة مستورة عن حواس أهل الدنيا و ستبرز يوم القيامة«و برزت الجحيم لمن يري»معاملة

ص: 214

مع الشيطان و خسر هنالك المبطلون» (1).

قال(ع):

«يا هشام إن أمير المؤمنين(ع)كان يقول:إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال:يجيب إذا سئل،و ينطق إذا عجز القوم عن الكلام و يشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله،فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق».

إن أمير المؤمنين(ع)قال:لا يجلس في صدر المجلس الا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهن فمن لم يكن فيه شيء فجلس فهو أحمق.

و قال الحسن بن علي(ع):إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، فقيل له:يا ابن رسول اللّه و من أهلها؟.

-الذين قصهم اللّه في كتابه و ذكرهم فقال:إنما يتذكر أولو الألباب قال:هم أولو العقول.

و قال علي بن الحسين(ع):مجالسة الصالحين داعية الي الصلاح و آداب العلماء زيادة في العقل،و طاعة ولاة العدل تمام العز،و استثمار المال تمام المروة و ارشاد المستشير قضاء النعمة،و كف الأذي من كمال العقل،و فيه راحة البدن عاجلا و آجلا.

يا هشام:ان العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه،و لا يسأل من يخاف منعه،و لا يعد ما لا يقدر عليه،و لا يرجو ما يعنف برجائه،و لا يقدم علي ما يخاف فوته بالعجز عنه».

أشار(ع)بهذه الفقرات الاخيرة الي حزم العاقل و احتياطه في أقواله و تحفظه علي شرفه و منزلته،و توقفه من الاقدام علي ما لا يثق بحصوله.ي.

ص: 215


1- الوافي.

و انتهت هذه الرسالة الرفيعة علي رواية ثقة الاسلام الشيخ الكليني (1)و قد ذكر زيادة عليها الحسن بن علي الحراني في كتابه(تحف العقول) و قد أهملها الكليني،و قد رأينا أن نقتطف منها بعض الوصايا من دون أن نعلق عليها إيثارا للاختصار و إتماما للفائدة و الي القراء ذلك، قال(ع):

«يا هشام:من كف نفسه عن أعراض الناس أقاله اللّه من عثرته يوم القيامة،و من كف غضبه عن الناس كف اللّه عنه غضبه يوم القيامة.

يا هشام:وجد في ذوابة (2)سيف رسول اللّه(ص)إن أعتي الناس علي اللّه من ضرب غير ضاربه و قتل غير قاتله.و من تولي غير مواليه فهو كافر بما أنزل اللّه علي نبيه محمد(ص)و من أحدث حدثا (3)أو آوي محدثا لم يقبل اللّه منه يوم القيامة صرفا و لا عدلا.

يا هشام أفضل ما يتقرب به العبد الي اللّه بعد المعرفة به الصلاة و بر الوالدين و ترك الحسد و العجب و الفخر.

يا هشام:اصلح يومك الذي هو أمامك،فانظر أي يوم هو،و اعدّ له الجواب،فانك موقوف و مسئول.و خذ موعظتك من الدهر و أهله، الي أن قال:و انظر في تصرف الدهر و أحواله،فان ما هو آت من الدنيا كما ولي منها،فاعتبر بها،و قال علي بن الحسين(ع):«إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض و مغاربها بحرها و برها و سهلهاة.

ص: 216


1- أصول الكافي:(ج 1 ص 13-20)و ذكرت أيضا في الوافي (ج 1 ص 26-28).
2- الذوابة:من كل شيء أعلاه و من السيف علاقته،و من السوط طرفه.
3- الحدث:الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد و لا معروف في السنة.

و جبلها عند ولي من أولياء اللّه و اهل المعرفة بحق اللّه كفيء الظلال،ثم قال(ع):أو لا حر يدع هذه اللماظة (1)-يعني الدنيا-لأهلها فليس لأنفسكم ثمن الا الجنة فلا تبيعوها بغيرها،فانه من رضي من اللّه بالدنيا فقد رضي بالخسيس.

يا هشام:ان كل الناس يبصرون النجوم و لكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها و منازلها،و كذلك انتم تدرسون الحكمة،و لكن لا يهتدي بها منكم الا من عمل بها.

يا هشام:مكتوب في الانجيل:«طوبي للمتراحمين،أولئك هم المرحومون يوم القيامة.طوبي للمطهرة قلوبهم،أولئك هم المتقون يوم القيامة.طوبي للمتواضعين في الدنيا،أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.

يا هشام:قلة المنطق حكمة عظيمة.فعليكم بالصمت،فانه دعة حسنة و قلة وزر،و خفة من الذنوب.فحصنوا باب الحلم،فان بابه الصبر،و ان اللّه عز و جل يبغض الضحاك من غير عجب،و المشاء الي غير إرب،و يجب علي الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيته،و لا يتكبر عليهم، فاستحيوا من اللّه في سرائركم،كما تستحيون من الناس في علانيتكم،و اعلموا ان الكلمة من الحكمة ضالة المؤمن،فعليكم بالعلم قبل أن يرفع و رفعه غيبة عالمكم بين أظهركم.

يا هشام:تعلم من العلم ما جهلت،و علم الجاهل مما علمت،عظم العالم لعلمه،و دع منازعته،و صغر الجاهل لجهله،و لا تطرده و لكن قرّبه و علمه.ا.

ص: 217


1- اللماظة:بالضم بقية الطعام الذي يكون في الفم،و بقية الشيء القليل،و المراد بها هنا الدنيا.

يا هشام:ان كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها، و قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه:«ان للّه عبادا كسرت قلوبهم خشيته فأسكتتهم عن المنطق،و انهم لفصحاء عقلاء،يستبقون الي اللّه بالأعمال الزكية،لا يستكثرون له الكثير و لا يرضون لهم من أنفسهم بالقليل،يرون في أنفسهم أنهم أشرار و أنهم لأكياس و أبرار.

يا هشام:الحياء من الايمان،و الايمان في الجنة،و البذاء من الجفاء، و الجفاء في النار.

يا هشام:المتكلمون ثلاثة:فرابح،و سالم،و شاجب (1)فأما الرابح فالذاكر للّه،و أما السالم فالساكت،و أما الشاجب فالذي يخوض في الباطل،ان اللّه حرم الجنة علي كل فاحش بذي قليل الحياء لا يبالي ما قال و لا ما قيل فيه،و كان أبو ذر(رضي اللّه عنه)يقول:«يا مبتغي العلم ان هذا اللسان مفتاح خير و مفتاح شر،فاختم علي فيك كما تختم علي ذهبك و ورقك».

يا هشام:بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين،يطري أخاه اذا شاهده،و يأكله اذا غاب عنه،ان أعطي حسده،و ان أبتلي خذله، ان أسرع الخير ثوابا البر،و أسرع الشر عقوبة البغي،و ان شر عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه،و هل يكب الناس علي مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم،و من حسن اسلام المرء ترك ما لا يعنيه.

يا هشام:لا يكون الرجل مؤمنا حتي يكون خائفا راجيا،و لا يكون خائفا راجيا حتي يكون عاملا لما يخاف و يرجو.

يا هشام:قال اللّه عز و جل:و عزتي و جلالي و عظمتي و قدرتي و بهائي و علوي في مكاني لا يؤثر عبد هواي علي هواه الا جعلت الغني في نفسه،ب.

ص: 218


1- الشاجب:كثير الهذيان و الكلام،و الهالك هو الأنسب.

وهمه في آخرته،و كففت عليه في ضيعته،و ضمنت السماوات و الارض رزقه،و كنت له من وراء تجارة كل تاجر.

يا هشام:عليك بالرفق،فان الرفق يمن،و الخرق شؤم،ان الرفق و البر و حسن الخلق يعمر الديار و يزيد في الرزق.

يا هشام قول اللّه تعالي: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ .جرت في المؤمن و الكافر و البر و الفاجر،من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به،و ليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتي تري فضلك،فان صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء.

يا هشام:إن مثل الدنيا مثل الحية مسها لين.و في جوفها السم القاتل يحذرها الرجال ذوو العقول و يهوي إليها الصبيان بأيديهم.

يا هشام:اصبر علي طاعة اللّه،و اصبر عن معاصي اللّه،فانما الدنيا ساعة،فما مضي منها فليس تجد له سرورا و لا حزنا،و ما لم يأت منها فليس تعرفه،فاصبر علي تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت.

يا هشام:مثل الدنيا مثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتي يقتله.

يا هشام:إياك و الكبر فانه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر،الكبر رداء اللّه فمن نازعه رداءه أكبه اللّه في النار علي وجهه.

يا هشام:ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم،فان عمل حسنا استزاد منه و ان عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب إليه.

يا هشام تمثلت الدنيا للمسيح(ع)في صورة امرأة زرقاء فقال لها:

كم تزوجت؟فقالت:كثيرا،قال:فكل طلقك؟فقالت:بل كلا قتلت قال المسيح فويح لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين.

ص: 219

يا هشام:ان ضوء الجسد في عينه،فان كان البصر مضيئا استضاء الجسد كله،و ان ضوء الروح العقل،فان كان العبد عاقلا كان عالما بربه.

و اذا كان عالما بربه أبصر دينه،و اذا كان جاهلا بربه لم يقم له دين، و كما لا يقوم الجسد الا بالنفس الحية فكذلك لا يقوم الدين الا بالنية الصادقة و لا تثبت النية الصادقة الا بالعقل.

يا هشام:ان الزرع ينبت في السهل و لا ينبت في الصفا (1)فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع و لا تعمر في قلب المتكبر الجبار،لأن اللّه جعل التواضع آلة العقل،و جعل التكبر من آلة الجهل،أ لم تعلم أن من شمخ الي السقف برأسه شجبه،و من خفض رأسه استظل تحته و أكنه، و كذلك من لم يتواضع للّه خفضه اللّه و من تواضع للّه رفعه.

يا هشام:ما أقبح الفقر بعد الغني،و أقبح الخطيئة بعد النسك،و أقبح من ذلك العابد للّه ثم يترك عبادته.

يا هشام:لا خير في العيش إلا لرجلين:لمستمع واع،و عالم ناطق.

يا هشام:ما قسم بين العباد أفضل من العقل،نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل.

يا هشام:قال رسول اللّه(ص):اذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فانه يلقي الحكمة،و المؤمن قليل الكلام كثير العمل و المنافق كثير الكلام قليل العمل.

يا هشام:أوحي اللّه تعالي الي داود(ع)قل لعبادي:لا يجعلوا بيني و بينهم عالما مفتونا بالدنيا فيصدهم عن ذكري،و عن طريق محبتي و مناجاتي أولئك قطاع الطريق من عبادي،ان أدني ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبتي و مناجاتي من قلوبهم.د.

ص: 220


1- الصفا:الحجر الصلد.

يا هشام:من تعظم في نفسه لعنته ملائكة السماء و ملائكة الارض، و من تكبر علي اخوانه و استطال عليهم فقد ضاد اللّه،و من ادعي ما ليس له فهو أعني لغير رشده.

يا هشام أوحي اللّه تعالي الي داود،يا داود حذر و أنذر أصحابك عن حب الشهوات فان المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني.

يا هشام:اياك و الكبر علي أوليائي و الاستطالة بعلمك فيمقتك اللّه فلا تنفعك بعد مقته دنياك و لا آخرتك،و كن في الدنيا كساكن دار ليست له إنما ينتظر الرحيل.

يا هشام:مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة،و مشاورة العاقل الناصح يمن و بركة و رشد و توفيق من اللّه،فاذا أشار عليك العاقل الناصح فاياك و الخلاف فان في ذلك العطب (1).

يا هشام:اياك و مخالطة الناس و الأنس بهم الا ان تجد منهم عاقلا و مأمونا فانس به و اهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية،و ينبغي للعاقل اذا عمل عملا أن يستحي من اللّه،و اذا تفرد له بالنعم أن يشارك في نعمه أحدا غيره،و اذا مر بك أمران لا تدري أيهما خير و أصوب،فانظر أيهما أقرب الي هواك فخالفه،فان كثير الصواب في مخالفة هواك،و اياك أن تطلب الحكمة و تضعها في الجهال.

فانبري إليه هشام قائلا:

«فان وجدت رجلا طالبا لها غير أن عقله لا يتسع لضبط ما ألقي إليه».

فتلطف له في النصيحة،فان ضاق قلبه فلا تعرض نفسك للفتنة.

ثم انه استرسل عليه السلام في حديثه فقال:و احذر رد المتكبرين،ك.

ص: 221


1- العطب:الهلاك.

فان العلم يذل علي ان يملي علي من لا يفيق،فقال هشام:فان لم أجد من يعقل السؤال عنها؟فقال(ع):فاغتنم جهله عن السؤال حتي تسلم من فتنة القول و عظيم فتنة الرد،و اعلم أن اللّه لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم و لكن رفعهم بقدر عظمته و مجده،و لم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم و لكن آمنهم بقدر كرمه و جوده،و لم يفرح المحزونين بقدر حزنهم و لكن بقدر رأفته و رحمته،فما ظنك بالرءوف الرحيم الذي يتودد الي من يؤديه بأوليائه،فكيف بمن يؤذي فيه؟و ما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب علي من يعاديه،فكيف بمن يترضاه،و يختار عداوة الخلق فيه.

يا هشام:من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه،و ما أوتي عبد علما فازداد للدنيا حبا الا ازداد من اللّه بعدا،و ازداد اللّه عليه غضبا.

يا هشام:ان العاقل اللبيب من ترك ما لا طاقة له به،و اكثر الصواب في خلاف الهوي،و من طال أمله ساء عمله.

يا هشام:لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل!!.

يا هشام:اياك و الطمع،و عليك باليأس مما في أيدي الناس،و أمت الطمع من المخلوقين،فان الطمع مفتاح للذل،و اختلاس للعقل و اختلاق للمروات،و تدنيس للعرض،و ذهاب للعلم،و عليك بالاعتصام بربك و التوكل عليه،و جاهد نفسك لتردها عن هواها فانه واجب عليك كجهاد عدوك،فقال له هشام:

فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة؟.

-أقربهم إليك و أعداهم لك،و أضرهم بك و أعظمهم لك عداوة، و أخفاهم لك شخصا مع دنوه منك،و من يحرض عليك أعداءك و هو إبليس الموكل بوسواس القلوب فله فلتشتد عداوتك،و لا يكونن أصبر علي مجاهدتك لهلكتك منك علي صبرك لمجاهدته فانه أضعف منك في قوته،و أقل

ص: 222

ضررا في كثرة شره،اذا أنت اعتصمت باللّه فقد هديت الي صراط مستقيم.

يا هشام:من اكرمه اللّه بثلاث فقد لطف له،عقل يكفيه مؤونة هواه،و علم يكفيه مؤونة جهله،و غني يكفيه مخافة الفقر.

يا هشام:احذر هذه الدنيا و احذر أهلها،فان الناس فيها علي أربعة أصناف:رجل متردي معانق لهواه،و متعلم مقري كلما ازداد علما ازداد كبرا يستعلي بقراءته و علمه علي من هو دونه،و عابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته،يحب أن يعظم و بوقر،و ذي بصيرة عالم عارف بطريق الحق يحب القيام به و لكنه عاجز أو مغلوب فلا يقدر علي القيام بما يعرفه،فهو محزون مغموم بذلك و هو أمثل أهل زمانه و أوجههم عقلا» (1)الي هنا ينتهي بنا الحديث في هذه الوصية القيمة التي حوت أصول الفضائل و الآداب و قواعد السلوك و الاخلاق،و قد وضع فيها المناهج العامة لما يصلح الحياة الفردية و الاجتماعية.

رسالته في التوحيد:

و من تراثه القيم رسالته في التوحيد و هي-علي ايجازها-مدعمة بالحجج الكلامية علي وجود اللّه تعالي،و بيان صفاته الايجابية و السلبية،و قد كانت هذه الرسالة-فيما يرويه المؤرخون-جوابا عن رسالة وجهها إليه الفتح بن عبد اللّه يسأله عن ذلك فأجابه(ع)بعد البسملة بما نصه:

«الحمد للّه الملهم عباده حمده،و فاطرهم علي معرفة ربوبيته،الدال

ص: 223


1- تحف العقول:ص 390-400.

علي وجوده بخلقه،المستشهد بآياته علي قدرته (1)الممتنعة من الصفات ذاته (2)و من الأبصار رؤيته (3)و من الأوهام الاحاطة به (4)لا أمد لكونه (5)و لا غاية لبقائه (6)لا تشمله المشاعر،و لا تحجبه الحجب (7)و الحجاب بينه و بين خلقه خلقه إياهم،لامتناعه مما يمكن في ذواتهم (8)و لا مكانة:

ص: 224


1- أراد(ع)أن اللّه استشهد علي قدرته الباهرة بآياته العظيمة كخلق السماوات و الأرض و الشمس و القمر،و يعبر عنها بالآيات الافقية،و بخلق الأرواح و العقول و النفوس و ادراكاتها و تسمي بالآيات النفسية و هي تدل علي عظيم قدرته تعالي.
2- اشار(ع)الي أن صفات اللّه عين ذاته تعالي و ليست عارضة عليه كعروضها علي الممكن،و قد أقيمت الأدلة الوافرة في علم الكلام علي ذلك
3- أراد(ع)أن الأبصار تمتنع من رؤيته تعالي،و فيه ايماء لطيف الي عدم امتناع ادراك البصائر و القلوب من رؤيته،و لكنها تراه بنور المعرفة و حقيقة الايمان كما قال(ع):«و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان).
4- أراد(ع)ان اللّه يحيط بما سواه فكيف يحيط به شيء من الأوهام التي لا تتعلق الا بالمعاني الجزئية المحدودة.
5- اي انه تعالي فوق الآجال و الازمنة فلا أمد له،فان الزمان مخلوق له.
6- المراد:ان بقاء اللّه تعالي قائم بذاته لا بصفة عارضة.
7- المراد:انه تعالي لا يمكن أن تحجبه الحجب فانها مختصة بالجسمانيات الحادثة التي أفاض تعالي عليها الوجود.
8- يعني انه تعالي يمتنع عليه ما يمكن في ذوات عباده من الاحداث و الأمور الناقصة:

مما يمتنع منه (1)و لافتراق الصانع من المصنوع و الحاد من المحدود و الرب من المربوب (2)الواحد بلا تأويل عدد (3)و الخالق لا بمعني حركة (4)و البصير لا بأداة و السميع لا بتفريق آلة (5).ب.

ص: 225


1- أراد(ع)ان الصفات التي يمتنع جريانها علي ذاته تعالي هي الصفات الممكنة،و يراد بالامكان الامكان العام الشامل للامتناع،و عليه فتوصف بالامتناع في مقام حملها عليه تعالي،و في بعض النسخ«و لا مكان ذواتهم مما يمنع منه ذاته»و المراد منها ان ذوات العباد متصفة بالامكان الخاص،و يمتنع ان يتصف به تعالي لأنه واجب الوجود.
2- المراد:ان ذات الصانع تفترق عن ذات المصنوع،و وجهه كمال الصانع،و نقص المصنوع،و كذلك يفترق الحاد عن المحدود فان الحاد هو اللّه تعالي،و هو غير متناه،و المحدود هو الانسان و هو متناه.أما أدلة ذلك فقد تعرضت له كتب الحكمة و الكلام.
3- المراد:ان وحدة اللّه و وحدة صفاته ليست من باب الأعداد التي تحصل كثرتها من تكرر العدد،فوحدة علم اللّه لا ثاني لها خارجا و لا ذهنا و كذا وحدة قدرته و ارادته و سائر صفاته،فلا تدخل تلك الوحدة في باب الاعداد فان وحدة كل شيء ليست الا نفس وجوده الخاص،و اذا كان وجود اللّه لا مثل له خارجا و لا ذهنا فكذلك وحدته تكون خاصة غير داخلة في باب الاعداد.
4- يعني ان خلق اللّه و إيجاده للاشياء انما هو من باب الافاضة و الابداع لا من باب المباشرة و العمل،كما ان الحركة انما هي من عوارض الاجسام و هو منزه عنها.
5- ان اللّه لو كان مفتقرا في صفاته الي آلة للزم إمكانه،فان المفتقر للغير انما هو الممكن لا الواجب.

و الشاهد لا بمماسة (1)و الباطن لا باجتنان (2)و الظاهر البائن لا بتراخي مسافة (3)أزله نهي لمجاول الأفكار (4)و دوامه ردع لطامحات العقول (5)قد حسر كنهه نوافذ الأبصار،و قمح وجوده جوائل الأوهام (6)أول الديانة به معرفته (7)و كمال معرفته توحيده،و كمال توحيده نفي الصفاته.

ص: 226


1- المماسة:من خواص الاجسام و هو تعالي منزه عنها فلا تعرض عليه أوصافها.
2- الاجتنان:الاستتار،و المراد ان العقول لا تصل الي ادراك كنهه لا من جهة استتاره بستر أو حجاب،و انما هي قاصرة عن ادراكه و تصوره.
3- مراده ان اللّه تعالي في غاية الظهور لأن وجوده مجرد عن الحجب أو الغواشي الساترة،و انما كان تعالي بائنا لا بتراخي مسافة لأنه تعالي منزه عن الأبعاد و المسافات و الحركات فانما يتصف بها الممكن لا الواجب.
4- المراد أن أزلية اللّه ليست من الأزمنة و انما هي فوق الزمان فلا سبيل الي العقول-التي هي من الزمنيات-ان تدرك أزليته تعالي.
5- اراد(ع)أن دوام اللّه و بقاءه محيطان بالأزمان و الآباد،و العقول لا تتوصل الي ادراك ذلك.
6- المراد:ان اللّه تعالي قد قهر بوجوده أن تجول فيه الأوهام فتصل الي ادراك كنهه.
7- يعني أن اول الدين و بدايته أن يعرف الانسان أن للعالم صانعا و مدبرا،و للمعرفة مراتب و هي: 1-التصديق بوجوده تعالي. 2-تفرده بالألوهية،و نفي الشريك عنه. 3-مرتبة الاخلاص و الايمان بقدرته و صفاته المتحدة مع ذاته.

عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف.و شهادة الموصوف أنه غير الصفة و شهادتهما جميعا بالتثنية،الممتنع منه الأزل،فمن وصف اللّه فقد حده (1).

و من حده فقد عده (2)و من عده فقد أبطل أزله (3)و من قال:

كيف؟فقد استوصفه (4)و من قال:فيم فقد ضمنه،و من قال علي م؟ فقد جهله (5)و من قال:اين فقد أخلي منه (6)و من قال ما هو فقدة.

ص: 227


1- المراد:أن من وصف اللّه بصفة و لم يجعلها عين ذاته فقد جعله محدودا فان كل صفة تكون غير الذات لا بد أن تقع تحت مقولة من المقولات التسع،و لها حد خاص،و الوجود لا يعرض عليها الا بعد ان تكون لها حدود معينة،و الحال ان اللّه هو الذي يفيض الوجود علي غيره فكيف يوصف بهذه الصفة العارضة.
2- اراد(ع)أن من يحد اللّه فقد جعله من جملة المعدودات،و قد بينا استحالة ذلك بالنسبة إليه تعالي.
3- المراد:ان كل معدود مفتقر في وجوده الي غيره،و كل من كان مفتقرا الي غيره فهو مسبوق بالعدم،و من جعل اللّه في سلسلة المعدودات فقد أبطل أزليته.
4- يعني أن من قال بذلك فقد جعل للّه وصفا زائدا علي ذاته،و قد بينا امتناع ذلك.
5- ان القول بذلك مستلزم لاثبات الجسمانية للّه،و هي مستحيلة بالنسبة إليه تعالي.
6- يعني أن من قال بذلك فقد أخلي منه تعالي سائر الامكنة،و الحال أن كل ذرة من ذرات الكون لا تخلو منه تعالي و لكن لا علي وجه الحلول و قد استدل علي ذلك في علوم الحكمة.

نعته (1)و من قال:الي م؟فقد غاياه،عالم اذ لا معلوم،و خالق اذ لا مخلوق،و رب اذ لا مربوب،و كذلك يوصف ربنا،و فوق ما يصفه الواصفون (2)..» (3).

و بهذا تنتهي هذه الرسالة المنعمة بأصول التوحيد و قواعده،و قد أثر كثير منها عن الامام أمير المؤمنين(ع)و لكن أئمة أهل البيت(ع) كثيرا ما تتشابه كلماتهم في علم التوحيد فهم واضعوا قواعده و اصوله و منشؤا ادلته و براهينه،فبهم عرف هذا العلم،و منهم استمدت أصوله و قواعده.

البداء:

اشارة

و مسألة البداء من غوامض المسائل الكلامية و أكثرها تعقيدا،و قد وقع الخلاف فيه بين المسلمين،فأجمعت الشيعة علي صحته و الالتزام به، و أنكره أهل السنة و الجماعة،و قد شهروا به علي الشيعة،و عدوه-فيما يرونه-من المؤاخذات التي تواجه كيانهم العقائدي.و لعل السبب-فيما

ص: 228


1- المراد:أن كلمة(ما هو؟)تقع في السؤال عن ماهية الشيء -التي تسمي بما الحقيقية-و تقع في جوابها النعوت الكلية الذاتية المركبة من الجنس و الفصل القريبين،و الحال ان وجوده تعالي وجود بحت بلا ماهية، و كل ما لا ماهية له لا نعت له كما هو مقرر في فن الحكمة.
2- المراد:ان عقول الواصفين لا يمكن أن تدرك كنه كماله تعالي لأنه فوق عقولهم فانها من الممكنات المتناهية،و هي لا يمكن أن تحيط بكنه غير المتناهي.
3- اصول الكافي 139/1-140.

نحسب-يعود الي أنه لم يتضح لهم بصورة موضوعية معني البداء و حقيقته الذي تقول به الشيعة فأنكروه عليهم،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عنه قبل أن نعرض الي رأي الامام فيه.

المعني اللغوي:

البداء في اللغة-اسم ممدود-مشتق من البدو و هو الظهور،و هو اسم لرأي حادث متجدد يستصوبه صاحبه،و يقدمه علي رأيه الأول (1)و في الحديث«بدا للّه عز و جل أن يبتليهم»أي قضي بذلك و هو معني البداء (2).

حقيقته عند الشيعة:

و التزمت الشيعة بالبداء،و صرحت به أئمة أهل البيت(ع)فقد ورد عنهم أنه«ما عبد اللّه بشيء مثل البداء»و قد أثبت العلماء الأعلام بالأدلة الوافرة امكانه و ضرورة الالتزام به و لكن لا علي إطلاقه-كما سنوضحه- و ممن بحث عنه بصورة موضوعية و شاملة آية اللّه العظمي السيد أبو القاسم الخوئي فقد قرره في بحثه كما كتبه في(بيانه)،و نسوق نص ما كتبه في (البيان)قال ما نصه:

«ان البداء الذي تقول به الشيعة الامامية انما يقع في القضاء غير المحتوم أما المحتوم منه فلا يتخلف،و لا بد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء و توضيح ذلك:ان القضاء علي ثلاثة أقسام:

الأول:قضاء اللّه الذي لم يطلع عليه احدا من خلقه،و العلم المخزون الذي استأثر به نفسه.و لا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم،بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت(ع)ان البداء إنما ينشأ

ص: 229


1- الصحاح:القاموس،أساس البلاغة.
2- البداية:109/1.

من هذا العلم.

روي الشيخ الصدوق في(العيون)باسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا(ع)قال لسليمان المروزي:رويت عن أبي عبد اللّه(ع)أنه قال:ان للّه عز و جل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء،و علما علمه ملائكته و رسله فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه و روي الشيخ محمد بن الحسن الصفار في(بصائر الدرجات)باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع)قال:إن للّه علمين:علم مكنون مخزون لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء،و علم علمه ملائكته و رسله و أنبياءه و نحن نعلمه (1).

الثاني:قضاء اللّه الذي أخبر نبيه و ملائكته بأنه سيقع حتما،و لا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء،و ان افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ منه.

قال الرضا(ع)لسليمان المروزي في الرواية المتقدمة عن الصدوق:

إن عليا كان يقول:العلم علمان،فعلم علمه اللّه ملائكته و رسله،فما علمه ملائكته و رسله فانه يكون،و لا يكذّب نفسه و لا ملائكته و لا رسله،و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو و يثبت ما يشاء (2).

و روي العياشي عن الفضيل.قال:سمعت أبا جعفر(ع)يقول:

من الامور أمور محتومة جائية لا محالة،و من الامور أمور موقوفة عند اللّهر.

ص: 230


1- و رواه الشيخ الكليني عن أبي بصير.الوافي باب البداء(ج 1 ص 113).
2- و رواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر(ع) نفس المصدر.

يقدم منها ما يشاء،و يمحو ما يشاء،و يثبت منها ما يشاء،لم يطلع علي ذلك أحدا-يعني الموقوفة-فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه،و لا نبيه،و لا ملائكته.

الثالث:قضاء اللّه الذي أخبر نبيه و ملائكته بوقوعه في الخارج الا أنه موقوف علي أن لا تتعلق مشيئة اللّه بخلافه.و هذا القسم هو الذي يقع فيه البداء«يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب.للّه الامر من قبل و من بعد».

و قد استدل-سماحته-علي ان البداء الذي تقول به الشيعة:هو القسم الثالث من القضاء-بجملة من الاخبار و الروايات المأثورة عن اهل البيت(ع)و أضاف بعد ذلك إيضاحا وافيا لحقيقة البداء بقوله:

و البداء انما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو و الاثبات و الالتزام بجواز البداء لا يستلزم نسبة الجهل الي اللّه سبحانه،و ليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته و جلاله.

فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان اللّه و قدرته في حدوثه و بقائه،و ان ارادة اللّه نافذة في الأشياء أزلا و أبدا بل و في القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الالهي و بين علم المخلوقين فعلم المخلوقين-و ان كانوا أنبياء أو أوصياء-لا يحيط بما أحاط به علمه تعالي فان بعضا منهم و ان كان عالما-بتعليم اللّه اياه-بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم اللّه المخزون الذي استأثر به لنفسه،فانه لا يعلم بمشيئة اللّه تعالي-لوجود شيء-أو عدم مشيئته الا حيث يخبره اللّه تعالي به علي نحو الحتم.

و القول بالبداء يوجب انقطاع العبد الي اللّه و طلبه اجابة دعائه منه، و كفاية مهماته،و توفيقه للطاعة،و ابعاده عن المعصية،فان انكار البداء

ص: 231

و الالتزام بأن ما جري به قلم التقدير كائن لا محالة-دون استثناء-يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن اجابة دعائه.فان ما يطلبه العبد من ربه و ان كان قد جري قلم التقدير بانفاذه فهو كائن لا محالة،و لا حاجة الي الدعاء و التوسل.و إن كان قد جري القلم بخلافه لم يقع أبدا،و لم ينفعه الدعاء و لا التضرع.و اذا يئس العبد من اجابة دعائه ترك التضرع لخالقه حيث لا فائدة في ذلك.و كذلك الحال في سائر العبادات و الصدقات التي ورد عن المعصومين(ع)انها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد (1).

و دعم السيد قوله بعد هذا بالآيات و الأخبار الواردة من الفريقين علي ضرورة البداء و لزوم القول به.

هذا هو رأي الشيعة في البداء-كما أفاده آية اللّه الخوئي-و هو صريح واضح يقضي بصحته الدليل و يعضده البرهان.

الانكار علي الشيعة:

و البداء الذي تلتزم به الشيعة-كما ذكرنا-لا يشذ عن القواعد العلمية و لا يخالف قاعدة اسلامية و لكن خصومهم قد شهروا به عليهم ففسروه بتفسير مجاف لما تراه الشيعة،و فيما يلي عرض لبعض الناقدين:

1-سليمان بن جرير و نقل الشهرستاني عن سليمان بن جرير أنه قال:ان أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم«الاولي»القول بالبداء،فاذا قالوا:انه سيكون لهم أمر و شوكة ثم لا يكون الامر علي ما اخبروه قالوا:بدا للّه تعالي فيه

ص: 232


1- البيان في تفسير القرآن:(ج 1 ص 271-276).

و قد قال فيه زرارة بن أعين شعرا:

و تلك أمارات تجيء لوقتها و مالك عما قدر اللّه مذهب

و لو لا البدا سميته غير فائت و نعت البدا نعت لمن يتقلب

و لو لا البدا ما كان ثم تصرف و كان كنار دهرها تتلهب

«الثانية»:التقية فكلما أرادوا شيئا تكلموا به فاذا قيل لهم هذا خطأ قالوا:انما قلناه تقية (1).

2-الفخر الرازي قال الرازي-عند تفسير قوله تعالي يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ :- قالت الرافضة:البداء جائز علي اللّه تعالي،و هو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده (2).

3-احمد أمين قال الدكتور احمد امين:«و رأينا بعض الشيعة يري البداء الذي أنكره اليهود،و أقدم من قال به المختار بن أبي عبيد:الذي كان يدعو لمحمد بن الحنفية.و يقول الشهرستاني:«انما صار المختار الي البداء لأنه كان يدّعي علم ما يحدث من الاحوال إما بوحي يوحي إليه،و اما برسالة من قبل الامام،فكان اذا وعد أصحابه بكون شيء و حدوث حادثة فان وافق كونه قوله جعله دليلا علي صدق دعواه،و ان لم يوافق قال:قد بدا لربكم.و كان لا يفرق بين النسخ و البداء،فاذا جاز النسخ في الاحكام جاز البداء في الأخبار»و قد اعتنق كثير من الشيعة مذهب البداء و طبقوه في كثير من مسائلهم التأريخية،و قال أحد أئمتهم:«لا يعبد اللّه بأحسن من القول بالبداء»لأنه يفتح باب التوبة في طلب العفو من اللّه،و كاني.

ص: 233


1- شرح اصول الكافي نقلا عن الرازي في خاتمة كتاب المحصل.
2- تفسير الرازي.

اليهود أقوي المعارضين في البداء» (1).

و هؤلاء الناقدون للشيعة-علي مقالتهم بالبداء-لم يكن رأيهم قريبا من الواقع و ذلك لعدم وقوفهم علي حقيقة البداء الذي تذهب إليه الشيعة.

إنكار اليهود:

و أول من انكر البداء و احاله اليهود فقد ذهبوا الي أن قلم التقدير و القضاء حينما جري علي الاشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة بعكسه و خلافه،و بسبب ذلك قالوا:يد اللّه مغلولة عن الفيض و البسط و الاخذ و العطاء لأنه قد جري فيها قلم التقدير فلا يمكن فيها التغيير و التبديل.

رأي الامام موسي:

و تحدث الامام موسي عليه السلام عن البداء في حديثه مع المعلي بن محمد،و قد سأله عن كيفية علم اللّه فأجابه(ع)بجواب عرض فيه لأهم المسائل الفلسفية و الكلامية،و هذا نصه:

قال عليه السلام:

«علم وشاء،و أراد و قدر،و قضي،و أمضي فأمضي ما قضي،و قضي ما قدر،و قدر ما أراد،فبعلمه كانت المشيئة و بمشيئته كانت الارادة، و بارادته كان التقدير،و بتقديره كان القضاء،و بقضائه كان الامضاء،و العلم يتقدم علي المشيئة،و المشيئة ثانية،و الارادة ثالثة (2)و التقدير واقع علي

ص: 234


1- فجر الاسلام:(ج 1 ص 354). اولا-العلم و هو في المقام عبارة عن تصور الشيء،و هو أول المبادئ الاختيارية للافعال. ثانيا-المشيئة. ثالثا-الارادة و هي العزم علي الفعل أو الترك. رابعا-التقدير و هو تعيين المكان و الزمان الذي يوجد فيه الفعل بعد تصوره و تصور أوصافه. خامسا-القضاء و هو ايجاب العمل. سادسا-الايجاد للشيء. و هذه المراتب بعضها مرتب علي بعض ترتبا ذاتيا كل في محله.
2- مراده:ان علم اللّه تعالي له مراتب ستة بعضها مترتب علي بعض،و هي:

القضاء بالامضاء (1)فلله تبارك و تعالي البداء فيما علم متي شاء،و فيما أراد لتقدير الاشياء (2)فاذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء،فالعلم في المعلوم قبل كونه،و المشيئة في المنشأ قبل عينه،و الارادة في المراد قبل قيامه،و التقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها و توصيلها (3)عينا و وقتا (4)و القضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات (5)ذوات الاجسام المدركاترم

ص: 235


1- مراده ان التقدير مع ترتبه و تقدمه الذاتي علي القضاء فانه واقع عليه و موجب لجعله اقتضاء خاصا لايجاد خاص،فالتقدير ينبعث منه امضاء الاقتضاء.
2- بيان لوقوع البداء في أي مرتبة من المراتب السابقة،و قد تقدم بيانها بالتفصيل.
3- مراده:ان الانواع الطبيعية و الطبائع الجسمانية موجودة في علم اللّه الأزلي،و مشيئته و ارادته الذاتيتين.
4- أشار(ع)الي تركيب الاجسام من العناصر المختلفة.
5- يعني ان الذي يتعلق القضاء بامضائه انما هو الشيء المبرم

بالحواس من ذي لون و ريح و وزن وكيل و ما دبّ و درج من إنس و جن و طير و سباع و غير ذلك مما يدرك بالحواس فلله تعالي فيه البداء مما لا عين له فاذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء و اللّه يفعل ما يشاء (1)فبالعلم علم الاشياء قبل كونها (2)و بالمشيئة عرف صفاتها و حدودها و أنشأها قبل اظهارها و بالارادة ميز أنفسها في ألوانها و صفاتها،و بالتقدير قدر أقواتها و عرف أولها و آخرها و بالقضاء أبان للناس أماكنها و دلهم عليها و بالامضاء شرح عليها و أبان أمرها و ذلك تقدير العزيز العليم».

و انتهي بذلك هذا الحديث الحافل بأروع المسائل الكلامية و أشدها غموضا،و قد اعرب فيه الامام عن المرحلة التي يقع فيها البداء من علم اللّه،و قد اوضحنا ذلك فيما سبق.

الايمان باللّه

ان النفوس اذا أترعت بروح الايمان باللّه فقد صفت من الذنوب و زكت من الزيغ،..فبالايمان تسود العدالة و المحبة،و تنتشر الفضيلة و المودة،و يقضي علي جميع أنواع الرذائل الاجتماعية من الظلم و الغبن و الاعتداء..

لقد بعث اللّه الأنبياء و الرسل الي عباده ليغرسوا في نفوسهم هذه الظاهرة

ص: 236


1- بين(ع)المرحلة التي يقع فيها البداء من علم اللّه.
2- مراده بيان الخواص التي تترتب علي المراتب الستة من علم اللّه تعالي و قد بينها(ع)في حديثه.

الكريمة،و قد تحدث الامام عنه ففضله علي جميع الأعمال و ذلك حينما سأله شخص فقال له:

-أيها العالم،اخبرني أي الأعمال أفضل عند اللّه؟.

-ما لا يقبل عمله الا به.

-و ما ذلك؟!!.

-الايمان باللّه،الذي هو أعلي الاعمال درجة،و أسناها حظا، و أشرفها منزلة.

-اخبرني عن الايمان أقول و عمل أم قول بلا عمل؟.

-الايمان عمل كله،و القول بعض ذلك العمل بفرض من اللّه،بين في كتابه،واضح نوره،ثابتة حجته،يشهد به الكتاب و يدعو إليه.

-صف لي ذلك حتي أفهمه؟.

-ان للايمان حالات و درجات و طبقات و منازل،فمنه التام المنتهي تمامه،و منه الناقص البين نقصانه،و منه الزائد الراجح زيادته.

-إن الايمان ليتم و يزيد و ينقص؟!!.

-نعم.

-و كيف ذلك؟!!.

ان اللّه تبارك و تعالي فرض الايمان علي جوارح بني آدم،و قسمه عليها و فرقه عليها فليس من جوارحهم جارحة الا و هي موكلة من الايمان بغير ما وكلت به أختها،فمنها قلبه الذي به يعقل و يفقه و يفهم،و هو أمير بدنه الذي لا تورد الجوارح،و لا تصدر الا عن رأيه و أمره،و منها يداه اللتان يبطش بهما،و رجلاه اللتان يمشي بهما و فرجه الذي ألباه و عيناه اللتان يبصر بهما،و أذناه اللتان يسمع بهما،و فرض علي القلب غير ما فرض علي اللسان،و فرض علي اللسان غير ما فرض علي العينين،و فرض علي العينين

ص: 237

غير ما فرض علي السمع،و فرض علي السمع غير ما فرض علي اليدين،و فرض علي اليدين غير ما فرض علي الرجلين،و فرض علي الرجلين غير ما فرض علي الفرج،و فرض علي الفرج غير ما فرض علي الوجه،فأما ما فرض علي القلب من الايمان فالاقرار،و المعرفة،و التصديق،و التسليم،و العقد و الرضا بأن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له،أحدا،صمدا،لم يتخذ صاحبة و لا ولدا،و ان محمدا(ص)عبده و رسوله..» (1).

العلم:

و حمل أئمة اهل البيت(ع)مشعل النهضة العلمية في العالم الاسلامي، فأسسوا في حواظره معالم الحياة الفكرية،و دعوا المسلمين دعوات جادة تحمل طابع النصح و التوجيه لهم في أن يبنوا حياتهم علي اساس من الوعي العلمي،و قد ملئت موسوعات الحديث و الفقه بما أثر عنهم من أحاديث الترغيب في طلب العلم.

و عني الامام موسي(ع)بهذه الدعوة الخلافة فأمر المسلمين بالجد علي تحصيل العلم و التفقه في الدين،و حذرهم من طلب بعض العلوم التي لا يستفيدون بها في تطوير حياتهم،فقد روي المؤرخون انه دخل مسجد النبي(ص) فرأي قوما قد طافوا برجل و هم يعظمونه و يبالغون في تكريمه فقال(ع) لبعض أصحابه:

-من هذا؟ -علامة! -و ما العلامة؟

ص: 238


1- اصول الكافي:(ج 2 ص 38-39).

-أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها.

-ذاك علم لا يضر من جهله،و لا ينفع من علمه.

و التفت الي اصحابه فبين لهم العلوم النافعة التي ينبغي لهم أن ينفقوا حياتهم علي تحصيلها فقال:

«انما العلم ثلاثة:آية محكمة أو فريضة عادلة،أو سنة قائمة،و ما خلاهن فهو فضل..».

انه ليس في علم الانساب،و لا في معرفة وقائع العرب ما يبعث علي النماء الفكري،او يصنع حضارة انسانية،او يخلق تقدما و تطورا في حياة المسلمين فهو علم لا يضر من جهله،و لا ينفع من علمه،فلذا قلل الامام من أهميته،و دعا الي صرف الوقت في غيره من سائر العلوم.

و حدث الامام عليه السلام اصحابه عما ينبغي عليهم أن يعرفوه قال(ع):

«وجدت علم الناس في أربع:«اولها»أن تعرف ربك(الثانية) أن تعرف ما صنع بك«الثالثة»ان تعرف ما أراد منك«الرابعة»أن تعرف ما يخرجك عن دينك».

و أوضح هذه الفقرات الاربعة سماحة المغفور له السيد محسن الأمين قال:

«الاولي»وجوب معرفة اللّه التي هي اللطف«الثانية»معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر و العبادة«الثالثة»أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك،و ندبك الي فعله لتفعله علي الحد الذي اراده منك فتستحق بذلك الثواب«الرابعة»أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعته فتجتنبه» (1).4.

ص: 239


1- اعيان الشيعة 57/4.

التفقه في الدين:

اشارة

و حث الامام المسلمين علي التفقه في الدين،و معرفة الاحكام الشرعية فقال لهم:

«تفقهوا في دين اللّه،فان الفقه مفتاح البصيرة،و تمام العبادة، و السبب الي المنازل الرفيعة و الرتب الجليلة في الدين و الدنيا،و فضل الفقيه علي العابد كفضل الشمس علي الكواكب،و من لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له عملا..».

و سأله بعض أصحابه عما يحتاج إليه من الاحكام الشرعية قائلا:

«هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟.

فقال(ع):«ان الناس لا يسعهم أن يتركوا ما يحتاجون إليه في امور دينهم».

مجالسة العلماء:

و أمر(ع)اصحابه بملازمة العلماء و مجالستهم و ذلك للاستفادة من علومهم و آدابهم و الاقتداء بسلوكهم فقال(ع):

«محادثة العالم علي المزابل خير من محادثة الجاهل علي الزرابي» (1).

فضل الفقهاء:

و أشاد(ع)بفضل الفقهاء الذين هم أعلام الدين و حملة كتاب اللّه فقال(ع)محدثا عن جده رسول اللّه(ص)في فضلهم:

«قال رسول اللّه(ص):الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا».

ص: 240


1- الزرابي:البسط و الفرش الفاخرة.

فانبري إليه احد اصحابه قائلا:

-يا رسول اللّه،ما دخولهم في الدنيا؟.

-اتباع السلطان،فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم.

العمل:

و أعلن الاسلام دعوته الاكيدة علي العمل و الكسب،قال تعالي:

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ،وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ،وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) .

ان الاسلام دعا الناس الي العمل،و حثهم عليه ليكونوا ايجابيين في حياتهم يتمتعون بالجد و النشاط ليفيدوا و يستفيدوا،و كره لهم الحياة السلبية و الانكماش عن العمل الذي يؤدي الي عرقلة الاقتصاد،و شيوع الفقر و الحاجة في البلاد.

و قد استفاضت كتب الحديث بما أثر عن النبي(ص)و أوصيائه في الحث علي العمل،و اضفاء النعوت الكريمة عليه فهو جهاد،و شرف،و عبادة و من سيرة الأنبياء.

و كان أئمة أهل البيت(ع)يزاولون العمل بأنفسهم ليقتدي بهم المسلمون،فهذا الامام جعفر الصادق(ع)كان يعمل في بعض بساتينه، فقد حدث ابو عمر الشيباني قال:رأيت أبا عبد اللّه(ع)و بيده مسحاة، و عليه ازار غليظ و العرق يتصبب منه،فقلت له:

«جعلت فداك اعطني اكفك» فقال(ع):«اني أحب أن يتأذي الرجل بحر الشمس في طلب

ص: 241


1- سورة الجمعة:آية:10

المعيشة» (1).

و كان الامام الكاظم(ع)يعمل لاعاشة عائلته،فقد روي الحسن بن علي بن أبي حمزة قال:رأيت أبا الحسن موسي يعمل في أرض له،و قد استنقعت قدماه في العرق فقلت له:

جعلت فداك،اين الرجال؟ -يا علي،عمل باليد من هو خير مني و من أبي في أرضه.

فبهر الحسن و انطلق يقول:

-من هو؟ -رسول اللّه(ص)و أمير المؤمنين و آبائي كلهم قد عملوا بأيديهم، و هو من عمل النبيين و المرسلين و الصالحين» (2).

و اعطي(ع)بذلك درسا رائعا عن الاسلام من أنه دين العمل و الجد و ان الشخص مهما علت منزلته فهو مأمور بالعمل ليكف نفسه و من يعول به عما في أيدي الناس.

التحذير من الكسل:

و نهي الاسلام عن الكسل لأنه موجب لشل الحركة الاقتصادية، و تجميد طاقات الانسان،و فساد المجتمع،و قد ورد في الأدعية المأثورة عن أئمة الهدي بالتعوذ منه،فقد جاء عنهم«اللهم اني اعوذ بك من الكسل و السأم و الفترة»و قال الامام الصادق(ع):لبعض اصحابه:«اياك و الكسل و الضجر فانهما مفتاح كل سوء..انه من كسل لم يؤد حقا،و من ضجر

ص: 242


1- العمل و حقوق العامل في الاسلام ص 135.
2- من لا يحضره الفقيه 53/3.

لم يصبر علي حق» (1).

و أوصي الامام موسي بن جعفر(ع)بعض ولده بالجد في اموره و الحذر من الكسل فقال(ع):

«إياك و الكسل و الضجر فانهما يمنعاك من حظك في الدنيا و الآخرة» لقد كان الامام(ع)يكره الكسل و البطالة،و يمقت صاحبها لأنها تؤدي الي الفقر و السقوط،و ذهاب المروءة،و من يتصف به يكون في حكم الموتي لا تفكير له و لا تدبر.

الاقتصاد:

و أوصي(ع)اصحابه بالاقتصاد،و نهاهم عن التبذير و الاسراف لأن بهما زوال النعمة فقال(ع):

«من اقتصد و قنع بقيت عليه النعمة،و من بذّر و أسرف زالت عنه النعمة».

و قال عليه السلام:

«ما عال امرئ اقتصد» ان من معالم الاقتصاد الاسلامي المنع من التبذير لأن فيه اضاعة للاموال و فسادا للاخلاق،و نشرا للميوعة و التحلل،و اثارة للحقد و الكراهية في نفوس الفقراء الذين لا يجدون السعة في المال،و قد تحدثنا عن هذه الظاهرة بصورة موضوعية و شاملة في كتابنا«العمل و حقوق العامل في الاسلام».

ص: 243


1- العمل و حقوق العامل في الاسلام ص 140

مكارم الاخلاق:

اشارة

و جاء الاسلام بمكارم الاخلاق،و اعتبرها قاعدة اساسية في رسالته المشرقة قال الرسول(ص):«انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق»فكان(ص) في اخلاقه المثل الاعلي للانسانية الكريمة،و سار من بعده أئمة الهدي يقتفون آثاره في تأسيس معالم الاخلاق و مكارم الاعمال،و ذلك بسلوكهم،و فيما أثر عنهم من الوصايا،و الارشادات لاصحابهم.

و قد عني الامام بهذه الظاهرة فكان دوما يوصي اصحابه بالتحلي بالصفات الكريمة ليكونوا بسلوكهم و هديهم قدوة صالحة للمجتمع،حتي يستطيعوا علي نشر مفاهيم الخير و الصلاح بين الناس،و نعرض الي بعض ما أثر عنه في ذلك.

للسخاء و حسن الخلق:

و حث(ع)اصحابه علي التحلي بالسخاء و حسن الخلق قال:

«السخي الحسن الخلق في كنف اللّه،لا يتخلي اللّه عنه،حتي يدخله الجنة،و ما بعث اللّه نبيا الا سخيا،و ما زال أبي يوصيني بالسخاء و حسن الخلق..».

الورع:

كان عليه السلام كثيرا ما يوصي اصحابه و شيعته بالورع عن محارم اللّه،قال:

ص: 244

«كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول:ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن».

الصبر:

و أوصي(ع)اصحابه بالتمسك بالصبر ان نزلت بهم كارثة أو حل بهم خطب فان الجزع يذهب بالاجر الذي أعده اللّه للصابرين قال(ع):

«المصيبة لا تكون مصيبة يستوجب صاحبها أجرها الا بالصبر و الاسترجاع عند الصدمة».

قال(ع):«ان الصبر علي البلاء أفضل من العافية عند الرخاء» قال(ع):«المصيبة للصابر واحدة و للجازع اثنتان»

الصمت:

و أوصي(ع)اصحابه بالصمت و بين لهم فوائده قال:

«ان الصمت باب من أبواب الحكمة،و ان الصمت يكسب المحبة انه دليل علي كل خير».

العفو و الاصلاح:

و حث(ع)اصحابه علي العفو و الاحسان لمن أساء إليهم،كما شجعهم علي الاصلاح بين الناس،و بين لهم عاقبة المحسنين و المصلحين و ما لهم من الاجر عند اللّه فقال:

ص: 245

«ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر علي اللّه فليقم،فلا يقوم إلا من عفا و أصلح».

قول الخير:

و أوصي(ع)اصحابه بقول الخير و اسداء المعروف الي الناس،فقد قال للفضل بن يونس:

أبلغ خيرا و قل خيرا،و لا تكن إمعة (1).

-ما الامعة؟.

-لا تقل:انا مع الناس،و انا كواحد من الناس.ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال:«يا أيها الناس انما هما نجدان (2)نجد خير،و نجد شر،فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير».

قول الحق:

و امر(ع)اصحابه بقول الحق:و اظهاره و التجنب عن الباطل قال:

«اتّق اللّه،و قل الحق و ان كان فيه هلاكك فان فيه نجاتك،أي فلان اتق اللّه ودع الباطل و ان كان فيه نجاتك،فان فيه هلاكك».

حسن الجوار:

و أوصي(ع)اصحابه بالاحسان الي الجار و الصبر علي تحمل الأذي

ص: 246


1- الإمع و الإمعة-بالكسر فالتشديد-قيل أصله إني معك.
2- النجد:الطريق الواضح المرتفع.

و المكروه منه قال(ع):

«ليس حسن الجوار كف الأذي،و لكن حسن الجوار الصبر علي الأذي».

اغاثة المستجير:

و حث(ع)أصحابه علي إغاثة المستجير و قضاء حاجته فقال:

«من قصده رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية اللّه عز و جل» (1)و قد أمرهم بقضاء حوائج الناس فقال:من أتاه اخوه المؤمن في حاجة فانما هو رحمة من اللّه تبارك و تعالي ساقها إليه،فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا،و هو موصول بولاية اللّه،و ان رده عن حاجته و هو يقدر علي قضائها سلط اللّه عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة..»و قال(ع)في فضل من لا يرد حاجة اخيه المؤمن:«ان للّه عبادا في الارض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة،و من أدخل علي مؤمن سرورا فرح اللّه قلبه يوم القيامة» (2).

زيارة الاخوان:

و أمر(ع)اصحابه بالتوادد و التآلف و زيارة بعضهم بعضا لأنها توجب المحبة و شيوع المودة،مضافا لما لها من الأجر العظيم عند اللّه،

ص: 247


1- الوسائل:باب الأمر بالمعروف.
2- نفس المصدر.

قال:

«من زار أخاه المؤمن للّه لا لغيره يطلب به ثواب اللّه،و كل اللّه عز و جل به سبعين الف ملك من حين يخرج من منزله حتي يعود إليه ينادونه ألا طبت و طابت لك الجنة،تبوأت من الجنة منزلا..».

الرضاء بقضاء اللّه:

و حث(ع)اصحابه علي الرضا بقضاء اللّه و التسليم لمشيئته و أمره قال:

«ينبغي لمن عقل عن اللّه أن لا يستبطئه في رزقه،و لا يتهمه في قضائه».

شكر النعمة:

و أوصي(ع)اصحابه باظهار نعم اللّه و شكرها قال:

«التحدث بنعم اللّه شكر،و ترك ذلك كفر،فاربطوا نعم ربكم بالشكر،و حصنوا أموالكم بالزكاة،و ادفعوا البلاء بالدعاء،فان الدعاء جنة ترد البلاء و قد أبرم إبراما..».

محاسبة النفس:

و حث(ع)اصحابه علي محاسبة نفوسهم و النظر في اعمالهم فان كانت حسنة استزادوا منها،و ان كانت سيئة طلبوا من اللّه المغفرة و الرضوان قال:

«ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم،فان عمل حسنا استزاد منه،و ان عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب منه..».

الاستشارة:

و اوصي(ع)شيعته بالاستشارة في أمورهم،و عدم الاستبداد بها قال:

ص: 248

«من استشار لا يعدم عند الصواب مادحا،و عند الخطأ عاذرا..»

مساوئ الافعال:

و نهي(ع)أصحابه عن التخلق بالصفات الذميمة،و ارتكاب أي عمل غير صالح و فيما يلي ذلك:

اتباع الهوي:

قال(ع):«اتق المرتقي السهل إذا كان منحدره و عرا،إن أبي قال:لا تدع النفس و هواها،فان هواها رداها،و ترك النفس و ما تهوي اذاها،و كف النفس عما تهوي دواها».

العقوق:

قال(ع):قال رسول اللّه(ص):«كن بارا و اقتصر علي الجنة، و ان كنت عاقا فظا فاقتصر علي النار».

استصغار الذنب:

قال(ع):«لا تستكثروا كثير الخير و لا تستقلوا قليل الذنوب، فان القليل من الذنوب يجتمع حتي يكون كثيرا،و خافوا في السر حتي تعطوا من انفسكم النصف».

المزاح:

قال(ع)لبعض ولده:«اياك و المزاح فانه يذهب بنور ايمانك و يستخف بمروءتك..».

ص: 249

أدعيته:

اشارة

و انقطع الامام الي اللّه فكان في جميع اوقاته يلهج بذكره تعالي، و يدعوه دعاء المنيبين،و قد حفلت كتب الأدعية بالشيء الكثير من ادعيته اما فائدة الدعاء فقد تحدث عنها بقوله:

«عليكم بالدعاء،فان الدعاء للّه و الطلب الي اللّه يرد البلاء و قد قدر و قضي و لم يبق الا امضاؤه،فاذا دعي اللّه عز و جل،و سئل صرف البلاء».

و تحدث(ع)مرة اخري عما يترتب علي الدعاء من الفوائد فقال:

«ما من بلاء يقع علي عبد مؤمن فيلهمه اللّه عز و جل الدعاء الا كان كشف ذلك البلاء وشيكا و ما من بلاء يقع علي عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلا فاذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء و التضرع الي اللّه عز و جل» (1)و نقدم عرضا موجزا لبعض أدعيته.

دعاؤه علي ظالم له:

دعا(ع)بهذا الدعاء الشريف في قنوته علي بعض ظالميه و اكبر الظن انه احد خلفاء العباسيين المعاصرين له الذين جرعوه انواع الغصص و الآلام و نحن نقدم نصه الكامل ليتضح منه ما قاساه الامام من طواغيت زمانه،«اللهم،اني و فلان ابن فلان،عبدان من عبيدك،نواصينا بيدك تعلم مستقرنا و مستودعنا و منقلبنا،و مثوانا،و سرنا،و علانيتنا تطلع علي نياتنا و تحيط بضمائرنا،علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه،و معرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نعلنه،و لا ينطوي عندك شيء من أمورنا،و لا ينستر دونك حال من أحوالنا،و لا لنا منك معقل يحصننا،و لا حرز يحرزنا،و لا مهرب

ص: 250


1- اصول الكافي:(ج 2 ص 553).

لنا نفوتك به،و لا تمنع الظالم منك حصونه،و لا يجاهدك عنه جنوده، و لا يغالبك مغالب بمنعه،أنت مدركه اينما سلك و قادر عليه اينما لجأ، فمعاذ المظلوم منابك،و توكل المقهور منا عليك،و رجوعه إليك،يستغيث بك اذا خذله المغيث،و يستصرخك اذا قعد عنه النصير،و يلوذ بك اذا نفته الافنية،و يطرق بابك اذا اغلقت عنه الابواب المرتجة،و يصل إليك اذا احتجبت عنه الملوك الغفلة،تعلم ما حل به من قبل أن يشكوه إليك، و تعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له،فلك الحمد بصيرا عليما لطيفا، اللهم،و انه قد كان في سابق علمك و محكم قضائك،و جاري قدرك،و نافذ امرك،و ماضي مشيئتك في خلقك أجمعين شقيهم و سعيدهم و برهم و فاجرهم ان جعلت«لفلان ابن فلان»علي قدرة فظلمني بها و بغي علي بمكانها و استطال و تعزز بسلطانه الذي خولته اياه،و تجبر و افتخر بعلو حاله الذي نولته،و غره املاؤك،و أطغاه حلمك عنه فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه،و تعمدني بشر ضعفت عن احتماله،و لم اقدر علي الاستنصاف منه لضعفي،و لا علي الانتصار لقلتي فوكلت أمره إليك،و توكلت في شأنه عليك،و توعدته بعقوبتك،و حذرته ببطشك،و خوفته بنقمتك،فظن ان حلمك عنه من ضعف،و حسب أن إملاءك له من عجز،و لم تنهه واحدة عن اخري،و لا انزجر عن ثانية بأولي لكنه تمادي في غيه،و تتابع في ظلمه،ولج في عدوانه و استشري في طغيانه جرأة عليك يا سيدي و مولاي و تعرضا لسخطك الذي لا تحبسه عن الباغين،فها أنا يا سيدي مستضام تحت سلطانه مستذل بفنائه مبغي علي،و جل خائف،مروع مقهور قد قل صبري و ضاقت حيلتي،و تغلقت علي المذاهب الا إليك،و انسدت عني الجهات الا جهتك،و التبست علي اموري في دفع مكروهه و اشتبهت علي الآراء في ازالة ظلمه،و خذلني من استنصرته من خلقك،و اسلمني من تعلقت به

ص: 251

من عبادك،فاستشرت نصحي فأشار علي بالرغبة إليك،و استرشدت دليلي فلم يدلني الا إليك،فرجعت إليك يا مولاي صاغرا راغما مستكينا عالما انه لا فرج لي الا عندك،و لا خلاص لي الا بك انتجز وعدك في نصرتي و اجابة دعائي لأن قولك الحق الذي لا يرد و لا يبدل،و قد قلت تباركت و تعاليت «و من بغي عليه لينصرنه اللّه»و قلت جل ثناؤك،و تقدست أسماؤك:

«ادعوني استجب لكم»فأنا فاعل ما امرتني به لا منا عليك،و كيف أمن به و أنت دللتني عليه،فاستجب لي كما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد و اني لأعلم يا سيدي ان لك يوما تنتقم فيه من الظالم للمظلوم،و أتيقن ان لك وقتا تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب لأنه لا يسبقك معاند،و لا يخرج من قبضتك منابذ،و لا تخاف فوت فائت و لكن جزعي و هلعي لا يبلغان الصبر علي اناتك،و انتظار حلمك فقدرتك يا سيدي فوق كل قدرة، و سلطانك غالب كل سلطان،و معاد كل احد إليك و ان أمهلته،و رجوع كل ظالم إليك و ان انظرته،و قد أضرني-يا سيدي-حلمك عن(فلان) و طول اناتك له،و إمهالك اياه،و يكاد القنوط ان يستولي علي،لو لا الثقة بك،و اليقين بوعدك،فان كان في قضائك النافذ و قدرتك الماضية انه ينيب،او يتوب،او يرجع عن ظلمي و يكف عن مكروهي،و ينتقل عن عظيم ما ركب مني،فصل علي محمد و آله،و أوقع ذلك في قلبه قبل إزالة نعمتك التي أنعمت بها عليه،و تكدير معروفك الذي صنعته إليه، و ان كان علمك به غير ذلك من مقامه علي ظلمي،فاني أسألك يا ناصر المظلومين المبغي عليهم اجابة دعوتي فصل علي محمد و آله و خذه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر و افجأه في غفلته مفاجاة مليك منتصر و اسلبه نعمته و سلطانه و افضض عنه جموعه و أعوانه و مزق ملكه كل ممزق،و فرق انصاره كل مفرق،و اعزله من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر و الاحسان،و انزع عنه سربال عزك الذي لم يجازه بالاحسان،و اقصمه

ص: 252

يا قاصم الجبابرة،و اهلكه يا مهلك القرون الخالية،و ابره يا مبير الأمم الظالمة،و اخذله يا خاذل الفرق الباغية،و ابتر عمره،و ابتز ملكه،و عف أثره،و اقطع خبره،و اطف ناره،و اظلم ناره،و كور شمسه،و ازهق نفسه،و اهشم سوقه،وجب سنامه،و ارغم أنفه،و عجل حتفه و لا تدع له جنة الا هلكتها،و لا دعامة الا قصمتها،و لا كلمة مجتمعة الا فرقتها و لا قائمة علو الا وضعتها،و لا ركنا الا وهنته،و لا سببا الا قطعته، و أرنا انصاره و جنوده عبيدا بعد العزة،و اجعلهم متفرقين بعد اجتماع الكلمة و مقنعي الرءوس بعد الظهور علي الامة،و اشف بزوال امره القلوب الوجلة و الأفئدة اللهيفة،و الأمة المتحيرة،و البرية الضائعة،و اظهر بزواله الحدود المعطلة،و السنن الداثرة،و الأحكام المهملة،و المعالم المتغيرة،و الآيات المحرفة،و المدارس المهجورة،و المحاريب المجفوة،و المشاهد المهدومة،و اشبع به الخماص السابغة،و ارو به اللهوات اللاغبة و الأكباد الضامية،و أرح به الأقدام المتعبة،و اطرقه ببلية لا اخت لها،و بساعة لا مثوي فيها،و بنكبة لا انتعاش معها،و بعثرة لا إقالة منها،و ابح حريمه،و نغص نعيمه،و أره بطشتك الكبري،و نقمتك المثلي،و قدرتك التي هي فوق قدرته،و سلطانك الذي هو أعز من سلطانه،و أغلبه لي بقوتك القوية،و محالك الشديد،و امنعني منه بمنعك،و ابتله بفقر لا يجبره،و بسوء لا يستره، وكله الي نفسه فيما تريد انك فعال لما تريد،و ابره من حولك و قوتك، وكله الي حوله و قوته و ازل مكره بمكرك،و ادفع مشيئته بمشيئتك،و اسقم جسده،و ايتم ولده و نقص اجله،و خيب امله،و ازل دولته،و اطل عولته،و اجعل شغله في بدنه،و لا تفكه من حزنه،و صير كيده في ضلال و امره الي زوال و نعمته الي انتقال وجده في سفال و سلطانه في اضمحلال،و عاقبته الي شر مآل و امته بغيظه إن أمته،و ابقه بحسرته ان أبقيته،و قني شره و همزه و لمزه

ص: 253

و سطوته و عداوته،و المحه لمحة تدمر بها عليه،فانك اشد بأسا و أشد تنكيلا..» (1).

و يلمس في هذا الدعاء الشريف مدي الخطوب الفادحة و الآلام المرهقة التي تلقاها الامام من خصمه،فانه لم يدع عليه بهذا الدعاء الا بعد أن ملأ قلبه بالحزن الشديد و الألم المرير.

دعاؤه عند الحاجة:

و كان(ع)يدعو بهذا الدعاء اذا اصابته فاقة او أعواز.

«يا اللّه:اسألك بحق من حقه عليك عظيم أن تصلي علي محمد و آل محمد و أن ترزقني العمل بما علمتني من معرفة حقك،و أن تبسط علي ما حظرت من رزقك» (2).

دعاؤه لوفاء الدين:

و شكا الي الامام بعض اصحابه الديون المتراكمة عليه فكتب(ع)له هذا الدعاء و أمره ان يدعو به.

«اللهم،اردد الي جميع خلقك مظالمهم التي قبلي صغيرها و كبيرها في يسر منك و عافية،و ما لم تبلغه قوتي،و لم تسعه ذات يدي،و لم يقو عليه بدني،و يقيني و نفسي،فأده عني من جزيل ما عندك من فضلك ثم لا تخلف علي منه شيئا تقضيه من حسناتي يا ارحم الراحمين،اشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،و اشهد ان محمدا عبده و رسوله و أن الدين كما شرع و ان الاسلام كما وصف،و ان الكتاب كما انزل،و أن القول كما حدث و ان اللّه هو الحق المبين،ذكر اللّه محمدا و أهل بيته بخير،و حيا محمدا)،

ص: 254


1- مهج الدعوات:(ص 67-72.)
2- اصول الكافي:(ج 2 ص 553)،

و اهل بيته السلام..» (1).

دعاء الحجاب:

كان عليه السلام يتحجب بهذا الدعاء،و يتقي به شر من يخاف شره،و هو:

«توكلت علي الحي الذي لا يموت،و تحصنت بذي العزة و الجبروت و استعنت بذي الكبرياء و الملكوت،مولاي استسلمت إليك،فلا تسلمني و توكلت عليك فلا تخذلني،و التجأت الي ظلك البسيط فلا تطرحني أنت الطلب و إليك المهرب،تعلم ما اخفي و ما اعلن و تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور،فامسك عني اللهم ايدي الظالمين من الجن و الانس أجمعين و اشفني،و عافني يا ارحم الراحمين..» (2).

و نكتفي بهذا المقدار من ادعيته المقدسة التي تدل علي مدي انقطاعه الي اللّه و تعلقه به و ذكرت له ادعية كثيرة في(الاقبال)و(مهج الدعوات) و غيرهما مما ألف في هذا الموضوع.

وعظ و ارشاد:

كان(ع)في اغلب الأوقات يدلي بنصائحه الرفيعة،و ارشاداته القيمة الي اصحابه و الي من يمت إليه،و كان(ع)دوما يحذرهم من عذاب اللّه و عقابه و يخوفهم الدار الآخرة،و هذه بعض وصاياه.

وصيته لبعض ولده:

قال(ع):يا بني،اياك ان يراك اللّه في معصية نهاك عنها،و اياك

ص: 255


1- اصول الكافي:(ج 2 ص 555).
2- مهج الدعوات:(ص 373).

ان يفقدك اللّه عند طاعة أمرك بها،و عليك بالجد،و لا تخرجن من نفسك التقصير عن عبادة اللّه،فان اللّه عز و جل لا يعبد حق عبادته،و اياك و المزاح فانه يذهب بنور ايمانك،و يستخف بمروءتك،و اياك و الكسل و الضجر فانهما يمنعانك حظك من الدنيا و الآخرة» (1).

ارشاد و توجيه:

و وجه(ع)ارشادا عاما لجميع المسلمين جاء فيه:

«كفي بالتجارب تأديبا،و بممر الايام عظة،و بأخلاق من عاشرت معرفة،و بذكر الموت حاجزا من الذنوب و المعاصي،و العجب كل العجب للمحتمين من الطعام و الشراب مخافة الداء ان نزل بهم كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار اذا اشتعلت في ابدانهم..» (2).

وصية عامة:

و أوصي(ع)عموم اصحابه بتنظيم اوقاتهم،و العمل علي تهذيب نفوسهم قال(ع):

«اجتهدوا في ان يكون زمانكم اربع ساعات:ساعة لمناجاة اللّه،و ساعة لأمر المعاش،و ساعة لمعاشرة الاخوان و الثقات الذين يعرفونكم عيوبكم،و يخلصون لكم في الباطن،و ساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم و بهذه الساعة تقدرون علي الثلاث ساعات،و لا تحدثوا انفسكم بفقر و لا بطول عمر،فانه من حدث نفسه بالفقر بخل،و من حدثها بطول العمر يحرص اجعلوا لأنفسكم حظا من الدنيا باعطائها ما تشتهي من الحلال و ما لا يثلم المروءة،و ما لا سرف فيه،و استعينوا بذلك علي أمور الدين،فانه روي

ص: 256


1- الوافي:(ج 3 ص 78).
2- الدر النظيم.

«ليس منا من ترك دنياه لدينه او ترك دينه لدنياه» (1).

الحث علي فعل الخير:

قال(ع):من استوي يوماه فهو مغبون،و من،كان آخر يوميه أشرها فهو ملعون،و من لم يعرف الزيادة علي نفسه فهو في النقصان،و من كان الي النقصان اكثر فالموت خير له من الحياة..» (2).

و بهذا مرض الموجز ينتهي بنا الكلام من بعض مواعظه و ارشاداته و ننتقل الي فصل آخر من تراثه.

مناظراته و احتجاجاته:

اشارة

و للامام(ع)مناظرات و احتجاجات بليغة مع خصومه المناوئين له كما جرت له مناظرات اخري مع بعض علماء اليهود و النصاري،و قد افلج(ع) الجميع بما أقامه من الأدلة الوافرة علي صحة مدعاه و بطلان ما ذهبوا إليه، و قد اعترفوا بالعجز و الفشل،و بغزارة علم الامام،و تفوقه عليهم و فيما يلي بعضا منها:

1-مع نفيع الانصاري:

و شرّف(ع)بلاط الملك هارون،فلما رآه حاجب البلاط قابله بالتكريم و الحفاوة و قدمه علي غيره لمقابلة هارون،و كان في مجلس الانتظار نفيع الأنصاري فلما رأي تلك الحفاوة البالغة احترق قلبه من الغيظ و ساءه تكريم الامام،فالتفت الي عبد العزيز و كان معه فقال له:

ص: 257


1- تحف العقول(ص 409)عرضنا لبيان هذا الحديث بصورة موضوعية و شاملة في كتابنا«العمل و حقوق العامل في الاسلام».
2- الاتحاف بحب الاشراف:(ص 55).

-من هذا الشيخ؟.

-أو ما تعرفه!!هذا شيخ آل أبي طالب،هذا موسي بن جعفر.

فانبري نفيع يندد بالعباسيين علي تكريمهم للامام قائلا:

ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير،أما لئن خرج لأسوأنه.

فزجره عبد العزيز و نهره قائلا:

«لا تفعل،فان هؤلاء أهل بيت لم يتعرض لهم أحد بخطاب الا وسموه -بالجواب-سمة يبقي عارها عليه أبد الدهر..».

و لما انتهي الامام من مقابلة هارون،و خرج من عنده اقبل عليه نفيع يشتد فامسك بزمام دابته و قال له:

-من أنت؟ -يا هذا،ان كنت تريد النسب فأنا ابن محمد حبيب اللّه،و ابن اسماعيل ذبيح اللّه،و ابن ابراهيم خليل اللّه،و ان كنت تريد البلد فهو الذي فرض اللّه عز و جل علي المسلمين و عليك ان كنت منهم الحج إليه، و ان كنت تريد المفاخرة فو اللّه ما رضي مشركوا قومي بمسلمي قومك أكفاء لهم حتي قالوا يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قريش،خل عن زمام دابتي.

و انصرف نفيع و هو لا يبصر طريقه من الخجل و العار الذي وسمه به الامام (1).

2-مع الفضل بن الربيع:

و تشرف هارون الرشيد بزيارة قبر النبي(ص)فاجتمع به الامام(ع) و بعد انتهاء المقابلة،خرج(ع)فاجتاز علي محمد الامين ابن الرشيد،فالتفت

ص: 258


1- نزهة الناظر في تنبيه الخاطر:ص 45.

محمد الي الفضل بن الربيع قائلا له:عاتب هذا،فقام الفضل الي الامام فقال له:

كيف لقيت امير المؤمنين علي هذه الدابة التي ان طلبت عليها لم تسبق و ان طلبت عليها تلحق؟ -لست احتاج ان أطلب،و لا أن اطلب،و لكنها دابة تنحط عن خيلاء الخيل،و ترتفع عن ذلة العير،و خير الامور اوسطها..» (1).

فتركه الامام و انصرف،و بدا علي الفضل الارتباك و العي و العجز.

3-مع أبي يوسف:

و امر هارون الرشيد أبا يوسف (2)ان يسأل الامام بحضرته لعله أن يبدي عليه العجز فيتخذ من ذلك وسيلة للحط من كرامته،و لما اجتمع(ع) بهم وجه إليه ابو يوسف السؤال الآتي:

-ما تقول في التظليل للمحرم؟ -لا يصلح.

-فيضرب الخباء في الأرض و يدخل البيت؟ -نعم.

-فما الفرق بين الموضعين؟ -ما تقول في الطامث ا تقضي الصلاة؟ -لا

ص: 259


1- زهر الآداب(ج 1 ص 132).
2- ابو يوسف:هو يعقوب بن ابراهيم الأنصاري،ولد سنة 113 ه-،و توفي ببغداد سنة 282 ه- و كان من اصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي و اخذ الفقه عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي ثم عن ابي حنيفة و ولي القضاء لهارون الرشيد جاء ذلك في طبقات الفقهاء:ص 113.

-ا تقضي الصوم؟ -نعم -و لم؟ -هكذا جاء -و هكذا جاء هذا فسكت أبو يوسف و لم يطق جوابا و بدا عليه الخجل و العجز فقال هارون:

-ما أراك صنعت شيئا؟ -رماني بحجر دامغ (1)، و تركهما الامام و انصرف عنهما و قد خيم عليهما الحزن و الشقاء.

4-مع أبي حنيفة:

و دخل ابو حنيفة علي الامام الصادق(ع)فقال له:

رأيت ابنك موسي يصلي و الناس يمرون بين يديه،فلم ينههم عن ذلك؟!.

فأمر أبو عبد اللّه(ع)باحضار ولده فلما مثل بين يديه قال له:

«يا بني،ان أبا حنيفة يذكر انك كنت تصلي و الناس يمرون بين يديك؟».

«نعم،يا أبت ان الذي كنت اصلي له كان اقرب إلي منهم،يقول اللّه عز و جل:«و نحن اقرب إليه من حبل الوريد».

و فرح الامام الصادق(ع)و سر سرورا بالغا بما ادلي به ولده من المنطق الرائع،فقام إليه فضمه و انطلق قائلا:

ص: 260


1- المناقب:(ج 3 ص 429).

«بأبي أنت و أمي يا مودع الاسرار!!» (1).

5-مع هارون الرشيد:

و لما اعتقل هارون الرشيد الامام موسي(ع)و بقي في السجن حفنة من السنين امر يوما باحضاره في بلاطه،فلما حضر و استقر به المجلس التفت إليه هارون و قد نخر الغيظ قلبه قائلا:

-يا موسي بن جعفر:خليفتين يجبي لهما الخراج؟!!.

-يا أمير المؤمنين،أعيذك باللّه ان تبوء باثمي و إثمك،و تقبل الباطل من أعدائنا علينا،فقد علمت انه قد كذب علينا منذ قبض رسول اللّه(ص) بما علم ذلك عندك،فان رايت بقرابتك من رسول اللّه(ص)أن تأذن لي أن احدثك بحديث اخبرني به ابي عن آبائه عن جدي رسول اللّه(ص):

-قد أذنت لك.

-أخبرني ابي عن آبائه عن جدي رسول اللّه(ص)انه قال:«ان الرحم اذا مست الرحم تحركت و اضطربت»،فناولني يدك.

فرق هارون و زال غضبه فمد إليه يده و جذبه الي نفسه و عانقه طويلا ثم ادناه منه و قد اغرورقت عيناه بالدموع و التفت إليه قائلا له بنبرات تقطر عطفا:

«صدقت،و صدق جدك،لقد تحرك دمي،و اضطربت عروقي حتي غلبت علي الرقة،و فاضت عيناي،و أنا أريد أن أسألك عن اشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم اسأل عنها احدا،فان أنت اجبتني عنها خليت عنك و لم اقبل قول احد فيك،و قد بلغني انك لم تكذب قط،فاصدقني عما أسألك مما في قلبي».

-ما كان علمه عندي فاني مخبرك به،إن أنت آمنتني.

ص: 261


1- البحار:(ج 12 ص 283).

-لك الأمان،إن أنت صدقتني،و تركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

-سل عما شئت.

-لم فضلتم علينا و نحن و أنتم من شجرة واحدة،و بنو عبد المطلب و نحن و انتم واحد،فبنو العباس و انتم ولد أبي طالب،و هما عما رسول اللّه(ص)،و قرابتهما منه سواء؟ -نحن اقرب.

-و كيف ذلك؟ -لأن عبد اللّه و أبا طالب لأب و أم،و أبوكم العباس ليس هو من أم عبد اللّه و أبي طالب.

-لم ادعيتم انكم ورثتم النبي(ص)و العم يحجب ابن العم،و قبض رسول اللّه(ص)و قد توفي أبو طالب قبله،و العباس عمه حي؟ -إن رأي أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة،و يسألني عن كل باب سواها.

-لا-أو تجيب؟ -آمني.

-قد آمنتك قبل الكلام، -جاء في قول علي(ع):انه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أم أنثي لأحد سهم الا الأبوين و الزوج و الزوجة،و لم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث،الا ان تيما و عديا،و بني أميّة قالوا:العم والد،رأيا منهم بلا حقيقة و لا أثر عن النبي(ص)ثم انه(ع)ذكر له جملة من فقهاء العصر الذين أفتوا بما أفتي به جده امير المؤمنين(ع)في هذه المسألة و أضاف(ع) الي ذلك قوله:

ص: 262

«روي قدماء العامة،عن النبي(ص)أنه قال:(علي أقضاكم) و كذلك قال عمر بن الخطاب:(علي أقضانا)و هو-أي القضاء-اسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي(ص)أصحابه من القراءة و الفرائض،و العلم داخل في القضاء».

و بعد ما ادلي(ع)بهذه الحجة الدامغة طلب منه هارون الرشيد المزيد من الايضاح و البيان فقال(ع):ان النبي لم يورث من لم يهاجر،و لا اثبت له ولاية حتي يهاجر.

قال هارون:ما حجتك؟ قال(ع):قول اللّه تبارك و تعالي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّي يُهاجِرُوا (1)،و ان عمي العباس لم يهاجر.

فتغير لون هارون و تميز من الغيظ فقال للامام:

-هل أفتيت أحدا بذلك من أعدائنا أم أخبرت به أحدا من الفقهاء؟ -لا-و ما سألني عنها أحد سواك.

فسكن غضبه و قال:

لم جوزتم للعامة و الخاصة ان ينسبوكم الي رسول اللّه(ص)و يقولوا:

لكم يا بني رسول اللّه،و أنتم بنو علي،و إنما ينسب المرء الي أبيه،و فاطمة انما هي وعاء،و النبي(ص)جدكم من قبل أمكم؟ -لو ان النبي(ص)نشر فخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه؟ -سبحان اللّه!!و لم لا أجيبه،بل أفتخر علي العرب و العجم و قريش بذلك.

-لكنه لا يخطب مني و لا أزوجه.3.

ص: 263


1- سورة الأنفال آية 73.

-و لم؟ -لأنه ولدني و لم يلدك.

-أحسنت يا موسي!! -كيف قلتم:إنا ذرية النبي:و النبي لم يعقب،و انما العقب للذكر لا للأنثي،و انتم ولد بنته.

-أسألك بحق القرابة الا ما أعفيتني.

-لا-أو تخبرني عن حجتكم فيه يا ولد علي،و أنت يا موسي يعسوبهم و إمام زمانهم،و لست أعفيك.

-تأذن لي في الجواب؟ -هات.

-قال اللّه تعالي في كتابه: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسي وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيي وَ عِيسي وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ (1)من أبو عيسي يا أمير المؤمنين؟ -ليس لعيسي أب.

-انما ألحقه اللّه تعالي بذراري الأنبياء من طريق مريم،و كذلك ألحقنا بذراري النبي(ص)من قبل أمنا فاطمة(ع) و طلب هارون من الامام أن يزيد في حجته و برهانه،فأجابه الي ذلك فقال(ع):

«قال اللّه عز و جل: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَي الْكاذِبِينَ (2)فلم يدع أحد أن النبي(ص)أدخل60

ص: 264


1- سورة الأنعام:آية 84-85.
2- سورة آل عمران:آية 60

تحت الكساء عند مباهلة النصاري إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين،فكان تأويل قوله تعالي:ابناءنا الحسن و الحسين،و نساءنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب(ع)و أضاف الي هذه الحجة برهانا آخر و هو ان العلماء قد أجمعوا علي ان جبرئيل قال:يوم أحد،يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي فقال(ص)انه مني و انا منه،فقال و انا منكما» (1).

و انقطعت حجة هارون و لم يجد طريقا يسلكه،لأن الامام قد أدلي بحجج دامغة لا مجال للشك فيها،ثم ان هارون طلب منه ان يزوده برسالة موجزة تجمع اعمال الدين فكتب(ع)بعد البسملة ما نصه:

«جميع امور الأديان أربعة:امر لا اختلاف فيه،و هو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون إليها،و الأخبار المجمع عليها،و هي الغاية المعروض عليها كل شبهة،و المستنبط منها كل حادثة،و امر يحتمل الشك و الانكار،فسبيله استنصاح اهله (2)الحجة عليه مما ثبت لمنتحليه من كتاب مجمع علي تأويله او سنة عن النبي(ص)لا اختلاف فيها،او قياس تعرف العقول عدله و لا يسع خاصة الأمة و عامها الشك فيه و الانكار له،و هذان الأمران من امر التوحيد فما دونه الي أرش الخدش فما دونه فهذا المعروض الذي يعرض عليه امر الدين،فما ثبت لك برهانه اصطفيته،و ما غمض عليك صوابه نفيته،فمن أورد واحدة من هذه الثلاثة (3)فهي الحجة البالغة التي بينها اللّه في قوله لنبيه: قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَه.

ص: 265


1- البحار:(ج 12 ص 274-275).
2- ورد في بعض النسخ:استيضاح أهله.
3- الظاهر ان المراد بهذه الثلاث:الكتاب و السنة و القياس الذي تعرف العقول عدله.

لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (1) يبلغ الحجة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه،لأن اللّه عدل لا يجور،يحتج علي خلقه بما يعلمون و يدعوهم الي ما يعرفون لا الي ما يجهلون و ينكرون..».

فأجازه هارون و أكرمه (2)و انصرف الامام و قد دل خصمه-المسمي بخليفة المسلمين و أمير المؤمنين-علي امور الدين كما أوضح له منزلة أهل البيت و صحة اقوالهم و دعم ما ذهب إليه بأوثق الأدلة و البراهين.

و ذكر رواة الأثر له مناظرة أخري مع هارون،و الذي نراه انها من الموضوعات،و انها الي الخيال أقرب منها الي الواقع،و فيما يلي نصها:

حج هارون الرشيد بيت اللّه الحرام فمنعت الشرطة دخول الحجاج الي البيت حال طوافه،و بينما هو مشغول في الطواف و قد احاطت به الحرس اذ بادر اعرابي الي البيت و جعل يطوف معه فأقبل عليه الحاجب قائلا:

-تنح يا هذا عن وجه الخليفة.

-ان اللّه ساوي بين الناس في هذا الموضع،فقال:«سواء العاكف فيه و البادي».

فكف الحاجب عنه،و كلما طاف الرشيد طاف الاعرابي امامه،و نهض الرشيد الي الحجر الأسود ليقبله فسبقه الاعرابي إليه و لثمه،و صار الرشيد الي(المقام)ليصلي فيه فسبقه الاعرابي و صلي امامه فالتاع هارون و استولي عليه الغضب فأمر حاجبه باحضاره فانبري إليه قائلا:

-اجب امير المؤمنين.

-ما لي إليه حاجة فأقوم إليه،فان كانت الحاجة إليه فهو بالقيام أوليه.

ص: 266


1- سورة الأنعام:آية 149.
2- تحف العقول:ص 407-408،و رواه المفيد في الاختصاص و المجلسي في البحار بصورة أوجز من هذه.

فمضي الحاجب الي الرشيد فقال:صدق،ثم مشي إليه فلما وصل سلم عليه و قال:

-يا اعرابي أجلس؟ -ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس،إنما هو بيت اللّه نصبه لعباده فان أحببت أن تجلس فاجلس،و ان أحببت ان تنصرف فانصرف!! فجلس هارون و هو مغيظ محنق فقال له:

-ويحك!!مثلك من يزاحم الملوك؟! -نعم.و فيّ مستمع (1).

-فاني سائلك،فان عجزت آذيتك.

-سؤالك هذا سؤال متعلم؟او سؤال متعنت؟ -بل سؤال متعلم.

-اجلس مكان المسئول من السائل.و سل،و أنت مسئول.

-اخبرني ما فرضك؟ -ان الفرض واحد،و خمسة،و سبعة عشر،و اربع و ثلاثون،و اربع و تسعون،و مائة و ثلاثة و خمسون علي سبعة عشر،و من اثني عشر واحد و من اربعين واحد،و من مائتين خمس،و من الدهر كله واحد، و واحد بواحد.

فضحك الرشيد،و قال مستهزءا به:

-ويحك أسألك عن فرضك و أنت تعد علي الحساب؟!! -أ ما علمت ان الدين كله حساب،و لو لم يكن الدين حسابا لما اتخذ اللّه للخلائق حسابا ثم قرأ(و ان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفي بنا حاسبين).ه.

ص: 267


1- في مستمع:أي عندي علم يجب ان يستمع إليه.

-بين لي ما قلت:و الا امرت بقتلك بين الصفا و المروة.

فقال الحاجب:لهارون:

-هبة للّه و لهذا المقام.

فضحك الاعرابي من قوله،فغضب منه هارون و قال له:

-مم ضحكت؟ -تعجبا منكما!!اذ لا ادري من الأجهل منكما الذي يستوهب أجلا قد حضر،او الذي استعجل أجلا لم يحضر؟!! فقال الرشيد:فسر ما قلت؟ -أما قولي:الفرض واحد فدين الاسلام كله واحد و عليه خمس صلوات و هي سبعة عشر ركعة،و أربع و ثلاثون سجدة،و اربع و تسعون تكبيرة،و مائة و ثلاث و خمسون تسبيحة،و اما قولي:من اثني عشر واحد فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا،و أما قولي:من الاربعين واحد فمن ملك اربعين دينارا اوجب اللّه عليه دينارا،و أما قولي:من مائتين خمسة فمن ملك مائتي درهم اوجب اللّه عليه خمسة دراهم،و أما قولي:فمن الدهر كله واحد فحجة الاسلام،و أما قولي:واحد بواحد فمن أهرق دما بغير حق وجب إهراق دمه قال اللّه تعالي: اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ .

فانطلق هارون يعرب عن اعجابه بغزارة علمه قائلا له:للّه درك!! ثم انه أمر باعطائه بدرة فقال له الاعرابي:بم استوجبت هذه البدرة، بالكلام أو بالمسألة؟ -بل بالكلام.

-فاني أسألك عن مسألة فان أتيت بها كانت لك البدرة تتصدق بها في هذا الموضع الشريف،فان لم تجبني عنها اضفت الي البدرة بدرة اخري لأتصدق بها علي فقراء الحي من قومي.

ص: 268

فأمر هارون باحضار بدرة اخري و قال له:

-سل عما بدا لك.

-اخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟ فتغير هارون و استولي عليه الغضب فاندفع قائلا:

-ويحك مثلي من يسأل عن هذه المسألة!! -سمعت ممن سمع من رسول اللّه(ص)انه قال:من ولي أقواما وهب له من العقل كعقولهم،و أنت إمام هذه الأمة،يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك و من الفرائض إلا اجبت عنه،فهل عندك له جواب؟.

-لا-بين لي ما قلته و خذ البدرتين.

-ان اللّه لما خلق الأرض خلق دبابات الأرض من غير فرث و لا دم خلقها من التراب،و جعل رزقها و عيشها منه،فاذا فارق الجنين أمه لم تزقه،و لم ترضعه،و كان عيشها من التراب فقال هارون:و اللّه ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة.

فأخذ الاعرابي البدرتين و انصرف فتبعه بعض الناس فسأل عن اسمه فاذا هو الامام موسي بن جعفر(ع)فانعطف الي هارون فأخبره بذلك، فقال هارون:

-ينبغي ان تكون هذه الورقة من تلك الشجرة (1).

و الذي يبعثنا علي الريبة في هذه الرواية ما يلي:

1-انها احتوت علي قيام الامام بمزاحمة هارون في طوافه و صلاته و هو بعيد عن هدي الامام و سلوكه،و لم يكن هناك أي أثر ديني يترتب علي هذه العملية.).

ص: 269


1- المناقب:(ج 3 ص 427-429).

2-خفاء شخصية الامام علي هارون و عدم معرفته به طيلة هذه المناظرة التي استوعبت وقتا كبيرا مع أن هارون يعرف الامام،و لم يكد يخفي عليه امره.

3-أخذ الامام البدرتين من هارون،و هو بعيد كل البعد عما عرف به الامام من الآباء،و عدم الخضوع الي هارون و غيره من ملوك عصره.

4-ان هذه القصة بجميع ابعادها سؤالا و جوابا لا تخلو من هزال، و بعد عن المنطق فهي الي الخيال أقرب منها الي الواقع...ان كثيرا من امثال هذه الامور هي من وضع الغلاة و المفوضة،و لا نصيب لها من الصحة حسب ما اعتقد.

6-مع علماء اليهود:

و قصد وفد من علماء اليهود الامام الصادق ليحاججونه في الاسلام فلما تشرفوا بالمثول بين يديه انبروا إليه يطلبون منه الحجة و الدليل علي نبوة رسول اللّه(ص)قائلين:

-أي معجز يدل علي نبوة محمد(ص)؟ -كتابه المهيمن،الباهر لعقول الناظرين،مع ما أعطي من الحلال و الحرام،و غيرهما مما لو ذكرناه لطال شرحه.

-كيف لنا ان نعلم هذا كما وصفت؟ فانطلق الامام موسي و كان آنذاك صبيا قائلا لهم:

-و كيف لنا بأن نعلم ما تذكرون من آيات اللّه لموسي علي ما تصفون؟ -علمنا ذلك بنقل الصادقين.

-فاعلموا صدق ما أنبأتكم به بخبر طفل لقنه اللّه تعالي من غير تعليم و لا معرفة عن الناقلين.

ص: 270

فبهروا و آمنوا بقول الامام الكاظم-الذي هو المعجز بحق-و هتفوا معلنين اسلامهم قائلين:

-نشهد أن لا إله الا اللّه،و ان محمدا رسول اللّه،و أنكم الأئمة الهادون و الحجج من عند اللّه علي خلقه...

و لما أدلي الامام موسي بهذه الحجة و أسلم القوم علي يده،و ثب إليه أبو عبد اللّه فقبل ما بين عينيه و قال له:أنت القائم من بعدي،ثم انه(ع) أمر بكسوة لهم و أوصلهم فانصرفوا و هم شاكرون (1).

7-مع بريهة:

كان بريهة من أقطاب النصاري و من علمائها النابهين،و كان يطلب الحق و يبغي الهداية فاتصل بجميع الفرق الاسلامية و اخذ يحاججهم فلم يصل الي الهدف الذي يريده،فوصفت له الشيعة و وصف له هشام بن الحكم فقصده و معه مائة عالم من علماء النصاري فلما استقر به المجلس سأله عن أهم المسائل الكلامية و العقائدية فاجابه عنها هشام ثم ارتحلوا جميعا الي التشرف بمقابلة أبي عبد اللّه(ع)و قبل الالتقاء به اجتمعوا بالامام موسي فقص عليه هشام مناظراته و حديثه مع بريهة فالتفت(ع)الي بريهة قائلا:

-يا بريهة:كيف علمك بكتابك؟ -أنا به عالم.

-كيف ثقتك بتأويله؟ -ما أوثقني بعلمي به!! فأخذ(ع)يقرأ عليه الانجيل و يرتل عليه فصوله فلما سمع ذلك بريهة آمن بأن دين الاسلام حق و ان الامام من شجرة النبوة فانبري إليه قائلا:

ص: 271


1- البحار:(ج 4 ص 148).

-اياك كنت اطلب منذ خمسين سنة،أو مثلك!! ثم انه أسلم و أسلمت معه زوجته و قصدوا جميعا ابا عبد اللّه(ع)فحكي له هشام الحديث و إسلام بريهة علي يد ولده موسي فسر(ع)بذلك و التفت(ع) قائلا له:

«ذرية بعضها من بعض و اللّه سميع عليم».

و انبري بريهة الي أبي عبد اللّه قائلا:

-جعلت فداك،اني لكم التوراة و الانجيل و كتب الأنبياء؟!! -قال هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرءوها،و نقولها كما قالوها:ان اللّه لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول:لا أدري.

و لزم بريهة الامام أبا عبد اللّه و صار من خلص أصحابه و لما انتقل الامام(ع)الي دار الخلود اتصل بالامام موسي حتي توفي في عهده (1)

8-مع راهب:

كان في الشام راهب تقدسه النصاري و تعظمه،و كان يخرج لهم في السنة يوما فيعظهم،فالتقي به الامام في ذلك اليوم الذي يعظ به و قد طافت به الرهبان و عليه القوم،فلما استقر المجلس بالامام التفت إليه الراهب قائلا:

-يا هذا،أنت غريب؟ -نعم.

-منا أو علينا؟ -لست منكم.

-أنت من الامة المرحومة؟ -نعم- -أمن علمائها أم من جهالها؟

ص: 272


1- البحار:(ج 4 ص 147).

-لست من جهالها؟ فاضطرب الراهب،و تقدم الي الامام يسأله عن أعقد المسائل عنده قائلا:

-كيف طوبي،أصلها في دار عيسي عندنا،و عندكم في دار محمد(ص) و أغصانها في كل دار؟ -انها كالشمس يصل ضوؤها الي كل مكان و موضع و هي في السماء.

-ان الجنة كيف لا ينفذ طعامها و إن أكلوا منه،و كيف لا ينقص منه شيء؟ -انه كالسراج في الدنيا يقتبس منه،و لا ينقص منه شيء.

-ان في الجنة ظلا ممدودا،ما هو؟ -الوقت الذي قبل طلوع الشمس،هو الظل الممدود،ثم تلا قوله تعالي: أَ لَمْ تَرَ إِلي رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ .

-ان أهل الجنة يأكلون و يشربون كيف لا يكون لهم غائط و لا بول؟ -انهم كالجنين في بطن أمه.

-ان لأهل الجنة خدما كيف يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟ -ان الانسان اذا احتاج الي شيء عرفت اعضاؤه ذلك فتعرفه الخدم فيحققون مراده من غير أمر.

-مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟ -مفتاح الجنة قول العبد:لا إله الا اللّه.

-صدقت.

ثم انه أسلم هو و قومه (1).).

ص: 273


1- المناقب:(ج 3 ص 427).

هذه بعض احتجاجات الامام و مناظراته،و سنذكر قسما آخر منها في بعض فصول الكتاب.

نظمه الشعر:

أما نظمه للشعر فقليل جدا و قد ذكر الشيخ المفيد له أبياتا تلاها الامام الرضا(ع)علي المأمون و نسبها(ع)الي أبيه:

كن للمكاره بالعزاء مدافعا فلعل يوما لا تري ما تكره

فلربما استتر الفتي فتنافست فيه العيون و انه لمموه

و لربما خزن الأديب لسانه حذر الجواب و انه لمفوه

و لربما ابتسم الوقور من الأذي و ضميره من حره يتأوه (1)

و ذكر ذو النون المصري أنه اجتاز في أثناء سياحته علي قرية تسمي بتدصر فرأي جدارا قد كتبت عليه هذه الأبيات و هي:

أنا ابن مني و المشعرين و زمزم و مكة و البيت العتيق المعظم

و جدي النبي المصطفي و أبي الذي ولايته فرض علي كل مسلم

و أمي البتول المستضاء بنورها اذا ما عددناها عديلة مريم

و سبطا رسول اللّه عمي و والدي و أولاده الأطهار تسعة أنجم

متي تعتلق منهم بحبل ولاية تفز يوم يجزي الفائزون و تنعم

أئمة هذا الخلق بعد نبيهم فان كنت لم تعلم بذلك فاعلم

أنا العلوي الفاطمي الذي ارتمي به الخوف و الأيام بالمرء ترتمي

فضاقت بي الأرض الفضاء برحبها و لم استطع نيل السماء بسلم

فالممت بالدار التي انا كاتب عليها بشعري فاقر ان شئت و المم

ص: 274


1- الأمالي:ص 150.

و سلم لأمر اللّه في كل حالة فليس أخو الاسلام من لم يسلم

قال ذو النون فعلمت انه علوي قد هرب من السلطة و ذلك في خلافة هارون،و احتمل المجلسي ان تكون هذه الأبيات للامام الكاظم(ع)ذهب الي ذلك المكان و كتبها لاتمام الحجة علي أعدائه (1)و يبعد ذلك أن الامام لم يهرب من السلطة و لم يتخف في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيما منكرا علي هارون و علي غيره من ملوك عصره و لم يهرب من السلطة و لم يخف من جورها و سنذكر ذلك بالتفصيل.

جوامع الكلم:

و له(ع)كلمات حكمية قد تطرق فيها لبعض الشؤون الأخلاقية و الاجتماعية،زيادة علي ما ذكرناه،و قد آثرنا ذكرها من دون إيضاح او تعليق و هي:

قال(ع):لا تذهب الحشمة بينك و بين أخيك،و ابق منها،فان ذهابها ذهاب الحياء.

قال(ع):عونك للضعيف من أفضل الصدقة.

قال(ع):يعرف شدة الجور من حكم به عليه.

قال(ع):تعجب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل من الجاهل.

قال(ع):لا تصلح المسألة الا في ثلاث:في دم منقطع،أو غرم مثقل،أو حاجة مدقعة.

قال(ع):المؤمن أعز من الجبل،الجبل يستفل بالمعاول،و المؤمن

ص: 275


1- البحار:(ج 11 ص 286).

لا يستفل دينه بشيء.

قال(ع):أداء الأمانة و الصدق يجلبان الرزق،و الخيانة و الكذب يجلبان الفقر و النفاق.

و سأله عبيد اللّه بن اسحاق المدائني فقال له:ان الرجل يراني فيحلف باللّه انه يحبني،أ فأحلف باللّه انه لصادق؟فقال(ع):امتحن قلبك فان تحبه فاحلف و الا فلا.

قال(ع):من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله،و خاب أمله.

قال(ع):لا خير في العيش الا لمسمع واع او عالم ناطق.

قال(ع):ان صلاحكم من صلاح سلطانكم،و ان السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم،فأحبوا له ما تحبون لانفسكم و اكرهوا له ما تكرهون لانفسكم.

قال(ع):لمحمد بن الفضل:يا محمد كذب سمعك و بصرك عن أخيك و ان شهد عندك خمسون قسامة،و قال لك قولا:فصدقه و كذبهم و لا تذيعن شيئا يشينه.

قال(ع):من دعا قبل الثناء علي اللّه و الصلاة علي النبي(ص)كان كمن رمي بسهم بلا وتر.

قال(ع):افضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج.

قال(ع):التودد الي الناس نصف العقل.

قال(ع):كثرة الهم تورث الهرم.

قال(ع):العجلة هي الخرق.

قال(ع):قلة العيال أحد اليسارين.

قال(ع):من أحزن والديه فقد عقهما.

قال(ع):الصنيعة لا تكون صنيعة الا عند ذي دين أو حسب،

ص: 276

و اللّه ينزل المعونة علي قدر المؤنة،و ينزل الصبر علي قدر المصيبة.

قال(ع):اذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتي يعرف ذلك منه.

قال(ع):المؤمن مثل كفتي الميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه قال(ع):و قد حضر ميتا أنزل في قبره،ان شيئا هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله،و ان شيئا هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره.

قال(ع):اشتدت مئونة الدين و الدنيا،أما مئونة الدنيا فانك لا تمد يدك الا وجدت فاجرا قد سبقك إليها،و أما مئونة الآخرة فانك لا تجد أعوانا يعينونك عليها.

قال(ع):لا تبذل لاخوانك من نفسك ما ضرره عليك أعظم من منفعته لهم.

قال(ع):أخذ أبي بيدي،و قال يا بني:ان ابي محمد بن علي أخذ بيدي،و قال ان أبي علي بن الحسين أخذ بيدي و قال:يا بني:افعل الخير الي كل من طلبه منك فان كان من أهله فقد أصبت موضعه،و ان لم يكن له بأهل كنت أهله،و ان شتمك رجل عن يمنك ثم تحول الي يسارك و اعتذر إليك فاقبل منه.

قال(ع):ما أهان الدنيا قوم قط الا هنأهم اللّه اياها و بارك لهم فيها،و ما أعزها قوم قط إلا بغضهم اللّه اياها.

و ذكر في مجلسه بعض الجبابرة،فقال(ع):أما و اللّه لئن عز بالظلم في الدنيا ليذلن بالعدل في الآخرة.

قال(ع):من أتي الي أخيه مكروها فبنفسه بدأها.

قال(ع):من ولده الفقر أبطره الغني.

قال(ع):ما استسب اثنان الا انحط الأعلي منهما الي المرتبة السفلي.

ص: 277

قال(ع):المؤمن أخو المؤمن لأمه و أبيه و ان لم يلده أبوه،ملعون من اتهم أخاه،ملعون من لم ينصح لأخيه،ملعون من استأسر لأخيه، ملعون من احتجب عن أخيه،ملعون من اغتاب أخاه.

قال(ع):قلة الوفاء عيب بالمروءة.

قال(ع):المعروف تلو المعروف غل لا يفكه الا مكافأة او شكر.

قال(ع):لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال.

قال(ع):قلة الشكر تزهد في اصطناع المعروف.

قال(ع):رأس السخاء أداء الأمانة.

قال(ع):من لم يكن له من نفسه واعظ تمكن منه عدوه-يعني به الشيطان-.

قال(ع):المغبون من غبن من عمره ساعة.

قال(ع):من كثر خلقه لم يعرف بشره.

قال(ع):من ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه فيها لم ينل جسيما.

قال(ع):أولي العلم بك ما لا يصلح لك العمل الا به،و أوجب العلم عليك ما أنت مسئول عن العمل به،و ألزم العلم ما دلك علي صلاح قلبك و أظهر لك فساده،و أحمد العلم عاقبة ما زاد في عقل العاقل،فلا تشغلن بعلم لا يضرك جهله،و لا تغفلن عن علم يزيد في جهلك تركه.

قال(ع):اياك ان تمنع في طاعة اللّه فتنفق مثليه في معصية اللّه.

قال(ع):من تكلم في اللّه هلك،و من طلب الرئاسة هلك،و من دخله العجب هلك.

سأله رجل عن الجواد:فقال(ع):ان لكلامك وجهين.فان كنت تسأل عن المخلوقين،فان الجواد الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه.

و البخيل من بخل بما افترض اللّه عليه،و ان كنت تعني الخالق فهو الجواد

ص: 278

ان أعطي،و هو الجواد ان منع لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك و ان منعك منعك ما ليس لك.

قال(ع):ان قوما يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفا هم الآمنون يوم القيامة.

قال(ع):فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد علي إبليس من ألف عابد،لأن العابد همه ذات نفسه فقط،و هذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد اللّه و إمائه لينقذهم من يد إبليس و مردته و لذلك هو أفضل عند اللّه من الف عابد و الف عابد قال عبد اللّه بن يحيي:كتبت الي الامام موسي في دعاء«الحمد للّه منتهي علمه»فكتب(ع)لا تقولن:منتهي علمه،فانه ليس لعلمه منتهي و لكن قل:منتهي رضاه.

قال(ع):كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون.

قال علي بن سويد السائي:سألت أبا الحسن الأول عن قول اللّه عز و جل وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فقال(ع):التوكل علي اللّه درجات:منها ان تتوكل عليه في أمورك كلها،فما فعل بك كنت عنه راضيا.تعلم أنه لا يألوك الا خيرا و فضلا،و تعلم ان الحكم في ذلك إليه، و تثق به فيها و في غيرها.

قال(ع):ان اهل الارض لمرحومون ما تحابوا و أدوا الأمانة و عملوا بالحق.

قال(ع):لا تضيع حق أخيك اتكالا علي ما بينك و بينه فانه ليس بأخ من ضيعت حقه،و لا يكونن أخوك أقوي علي قطيعتك منك علي صلته.

ص: 279

قال(ع):ان الأنبياء و أولاد الأنبياء و أتباع الأنبياء خصوا بثلاث خصال،السقم في الأبدان،و خوف السلطان و الفقر.

قال(ع)لبعض ولده:لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة اللّه و طاعته فان اللّه عز و جل لا يعبد حق عبادته.

قال(ع):ان اللّه عز و جل يقول:إني لم أغن الغني لكرامة له علي و لم أفقر الفقير لهوان به علي،و هو مما ابتليت الأغنياء بالفقراء،و لو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة.

قال(ع):اذا لم تستح فاعمل ما شئت.

و حدث العباس بن هلال الشامي قال قلت لأبي الحسن موسي:جعلت فداك ما أعجب الي الناس من يأكل الجشب،و يلبس الخشن و يتخشع؟!! فقال(ع):أ ما علمت أن يوسف نبي و ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب و يجلس في مجالس آل فرعون فيحكم،فلم يحتج الناس الي لباسه و انما احتاجوا الي قسطه،و انما يحتاج من الامام اذا قال:صدق، و اذا وعد انجز،و اذا حكم عدل،إن اللّه لم يحرم طعاما و لا شرابا من حلال،انما حرم الحرام قل او كثر،و قد قال اللّه من حرم زينة اللّه التي اخرج لعباده و الطيبات من الرزق».

قال موسي بن بكر:سألت أبا الحسن(ع)عن الكفر و الشرك أيهما أقدم فقال لي:ما عهدي بك تخاصم،فقلت:امرني هشام بن سالم ان أسألك،فقال لي:الكفر أقدم و هو الجحود قال اللّه عز و جل: إِلاّ إِبْلِيسَ أَبي وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ .

قال علي بن سويد:سألت أبا الحسن موسي(ع)عن الضعفاء-أي ضعفاء العقيدة-فكتب(ع)لي الضعيف من لم ترفع له حجة،و لم يعرف الاختلاف فاذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف.

ص: 280

قال علي بن سويد:سألت أبا الحسن عن العجب الذي يفسد العمل فقال(ع):العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه و يحسب انه يحسن صنعا،و منها أن يؤمن العبد بربه فيمن علي اللّه عز و جل،و للّه عليه فيه المن.

قال(ع):من طلب هذا الرزق من حله ليعود به علي نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه فان غلب عليه فليستدن علي اللّه و علي رسوله ما يقوت به عياله فان مات و لم يقضه كان علي الامام قضاؤه فان لم يقضه كان عليه وزره ان اللّه عز و جل يقول:انما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين،الي قوله تعالي: وَ الْغارِمِينَ ،و هذا فقير مسكين مغرم.

قال(ع):قال رسول اللّه(ص):من أفتي الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات و الأرض.

قال(ع):أحسن من الصدق قائله،و خير من الخير فاعله.

قال علي بن جعفر:سألت اخي موسي بن جعفر فقلت له:

-أصلحك اللّه،أ يكون المؤمن بخيلا؟ -نعم.

-أ يكون خائنا؟ -لا-و لا يكون كاذبا،ثم قال(ع):ان أبي حدثني عن آبائه عن رسول اللّه(ص)أنه قال:كل خلة يطوي المؤمن عليها ليس الكذب و الخيانة و قال(ع):سأل رجل رسول اللّه(ص)ما حق الوالد علي ولده؟ فقال(ص)لا يسميه باسمه،و لا يمشي بين يديه،و لا يجلس قبله،و لا يستسب له (1).

قال(ع):قال رسول(ص):من اصبح و هو لا يهم بظلم احده.

ص: 281


1- أي لا يعمل فعلا يصير سببا لسب الناس الي أبيه.

غفر اللّه ما اجترم (1).

قال(ع):جاء رجل الي رسول اللّه(ص)فقال له يا رسول اللّه ما حق ابني هذا؟ فقال(ص):ان تحسن اسمه و أدبه.

قال(ع):نعم المال النخل الراسخات في الوحل المطعمات في المحل.

و نقتصر علي هذا المقدار من جوامع كلماته(ع)و له تراث آخر يتعلق في رد الملحدين و غيرهم و سوف نقدمه عند عرض مشاكل عصره و فيما يلي بعض المصادر التي اقتبسنا منها هذه الكلمات القيمة و هي:

1-الوسائل:لمحمد بن الحسن الحر العاملي 2-من لا يحضره الفقيه:للصدوق محمد بن علي القمي 3-المحاسن:لأبي جعفر احمد بن محمد البرقي 4-اصول الكافي:لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي 5-عيون اخبار الرضا:للصدوق محمد بن علي القمي 6-أعيان الشيعة:للسيد محسن الأمين العاملي 7-ميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي 8-الاتحاف في حب الاشراف:للشبراوي 9-نور الأبصار:للشبلنجيّ 10-الاحتجاج:للطبرسي 11-قرب الاسناد:لعبد اللّه بن جعفر الحميري 12-الوافي:لمحسن القاشاني 13-تأريخ اليعقوبي:لأحمد بن أبي يعقوب المعروف بابن واضح 14-مجموعة ورام:لورام بن أبي فراس 15-تحف العقول:للحسن بن علي 16-نزهة الناظر في تنبيه الخاطر:للحسين بن محمد الحلوانيب.

ص: 282


1- اجترم:اكتسب.

انهيار الحكم الأموي

اشارة

ص: 283

ص: 284

كان الامام موسي(ع)أيام الثورة العارمة علي الحكم الأموي في سن مبكر،فقد كان عمره الشريف-حسب ما يقول الرواة-مما يزيد علي اربع سنين،و هو دور يسمح لصاحبه أن ينقل الي دخيلة نفسه كثيرا من المشاهدات و الصور التي تمر عليه،و لا سيما اذا كانت من الاحداث الجسام فانها تؤثر-من دون شك-في دخائل ذاته،و تتفاعل معه،و تترك فيه كثيرا من الانطباعات حسب ما يقوله علماء النفس.

و قد شاهد الامام أو سمع و هو في سنه المبكر الثورة العارمة التي عمت جميع الاقالي م الاسلامية علي الحكم الأموي،فقد واكبت تلك الثورة كثيرا من الأحداث الرهيبة فجبال من جثث الضحايا و بحور من الدماء بذلت بسخاء للتخلص من ذلك الحكم الاسود القائم علي الجور و الاستغلال و التنكر لحقوق الانسان.

و لسنا بصدد البحث عن تأسيس الدولة الأموية،و بيان دوافع ايجادها فذاك أمر يحز في النفس،و يترك لهب الحزن في القلوب،فان هذه الدولة لم تتأسس الا لعزل أهل البيت(ع)و اقصائهم عن قيادة الأمة حسب ما هو معلوم من مبدأ الشوري الذي صمم لأجل هذه الغاية...و قد رافقت تلك الدولة في جميع مراحلها كثيرا من المشاكل الاجتماعية ما أثرت به علي الحياة الاسلامية العامة من اضاعة الاهداف الاصلية التي ينشدها الاسلام في ظلال حكمه من نشر العدالة و المساواة و الرفاهية و الدعة بين الناس.

لقد جمدت بصورة قطعية جميع المفاهيم الاسلامية البناءة،و ضاعت آمال الاسلام في ايجاد مجتمع متحرر من الجهل و الجمود،و البؤس و الفقر لقد تبدلت الحياة الكريمة التي سعي الاسلام الي ايجادها الي حياة قائمة تسودها النزعات الجاهلية،و يعمها الظلم و الجور و الانحراف عن القيم الانسانية.

ص: 285

و لا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن الاسباب التي طوت ذلك الحكم الاسود،و أزالت وجوده البغيض عن العالم الاسلامي،فان الحديث عن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا-فيما نحسب-بالبحث عن حياة الامام موسي فانها تصور لنا محنة أهل البيت(ع)في تلك الادوار الرهيبة،و ما عانوه من الظلم المرير و الجور الشديد،و ما قاسته شيعتهم من المجازر و السجون و المطاردة و التنكيل،و ما عاناه المسلمون جميعا من الاضطهاد الجماعي المتميز بسلب حرياته،و شل اقتصاده،و اشاعة البؤس و الفقر و انعدام الأمن في ربوعه الي غير ذلك من الوان الظلم و الاضطهاد،و من الطبيعي أن لذلك أثرا كبيرا في تكوين حياة الامام موسي،و انطباعها علي الحزن العميق، و الأسي الشديد...و فيما يلي عرض موجز لبعض تلك الاحداث.

اسباب الانهيار

التنكيل بأهل البيت:

و كان الشيء البارز في السياسة الأموية انها وجهت جميع أجهزتها الادارية و الاقتصادية و السياسية الي اضطهاد أهل البيت(ع)و التنكيل بهم و كان من مظاهر ذلك:

1-انها فرضت سبهم،و انتقاصهم علي جميع المسلمين،و جعلته فرضا دينيا يسألون عنه و يحاسبون عليه،فكان الخطيب يبدأ خطابه و يختمه بسب العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم،و بلغ الانحطاط الفكري و الاجتماعي أقصاه عند تلك السلطات الحاكمة،فكان الانتهازيون و باعة الضمير يتوصلون إليها بانتقاص عترة النبي(ص)و سبها،فقد روي المؤرخون ان شخصا ذميم المنظر جاء يشتد الي الحجاج و هو رافع عقيرته:

«أيها الامير ان أهلي عقوني فسموني عليا،و اني فقير بائس،و انا الي صلة الامير محتاج..».

فتضاحك الحجاج،و قال له:

ص: 286

(للطف ما توصلت به فقد وليتك موضح كذا..» (1).

إن مناصب الدولة،و أموالها تمنح بغير حساب للادعياء و الاغنياء لأنهم ينتقصون أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

و قد أثار ذلك كوامن الحقد و الغيظ في نفوس المؤمنين و المتحرجين في دينهم فاندفعوا الي اعلان سخطهم علي الأمويين،و كان من بينهم الشاعر الملهم كثير بن كثير فقد قال:

لعن اللّه من يسب عليا و حسينا من سوقة و إمام

أ يسب المطهرون جدودا و الكرام الأخوال و الأجداد

يأمن الطير و الحمام و لا يأمن آل الرسول عند المقام

طبت بيتا و طاب اهلك أهلا أهل بيت النبي و السلام

رحمة اللّه و السلام عليهم كلما قام قائم بسلام (2)

و صورت هذه الأبيات مدي الاستياء الشامل و الحزن العميق لانتقاص أهل البيت كما حكت أصدق الود و خالصه لهم.

2-و استخدمت السلطة التربية لمحاربه أهل البيت،و هي أخطر وسيلة اعتمدت عليها لدعم غرضها فقد عهدت الي معلمي الكتاتيب أن يغذوا الاطفال بروح الكراهية و العداء لآل النبي(ص)و أن يمعنوا في غرس هذه النزعة الشريرة في نفوسهم من أجل أن ينشأ جيل حاقد علي آل البيت(ع) و كان ذلك من أفتك الوسائل و أكثرها خطرا علي الاسلام،فقد باعدت بين بعض المسلمين و بين عترة النبي(ص)التي فرض اللّه مودتها في محكم6.

ص: 287


1- حياة الامام الحسن بن علي 336/2
2- شرح ابن أبي الحديد 475/3،عرضنا كلمات الاحرار الذين نقدوا الامويين علي ذلك في كتابنا حياة الامام الحسن بن علي 338/2 -346.

كتابه،و لا تزال آثار هذه الظاهرة السيئة باقية حتي يوم الناس هذا.

3-انها أقامت لجان الوضع لتضع الحديث و تنمقه في مثالب أهل البيت،و تضع أحاديث المدح و الثناء للصحابة و بني أمية،و مما وضعوه، أن النبي(ص)قال«ان آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء انما ولي اللّه» و روي أبو هريرة عميد هذه اللجنة أن الرسول(ص)قال:«ان ابا طالب في ضحضاح من نار»و هو الذي اكثر من الرواية في كفر أبي طالب مؤمن قريش و حامي الاسلام و المنلفح عن رسول اللّه(ص)في احرج المواقف و اكثرها صعوبة،و سبب ذلك التقليل من أهميته و الحط من مآثره و مناقبه.

و علي أي حال فان السلطات الأموية قد عنت بلجان الوضع،و جهدت باذاعة أخبارها المفتعلة ضد أهل البيت(ع)و ذلك لتظليل الرأي العام و صرفه عن عترة رسول اللّه(ص)و ذريته.

4-و أمعن الأمويون في قتل العترة الطاهرة فقد امتدت ايديهم الأثيمة الي تلك النفوس الزكية التي أوجب اللّه ودها علي جميع المسلمين، فقد كان لهم ضلع كبير في اغتيال الامام امير المؤمنين(ع)حسب ما حققناه (1)و اغتال معاوية سبط النبي(ص)الأول و ريحانته الامام الحسن(ع)فدس له السم علي يد زوجته جعيدة بنت الأشعث (2)و قام بعده يزيد بارتكاب أفضع جريمة هزت الضمير الانساني و ذلك بابادته للعترة الطاهرة علي صعيد كربلاء فقد أوجبت هذه المأساة الكبري التي مني بها العالم الاسلامي شعوراسن

ص: 288


1- حققنا ذلك في تقديمنا لكتاب«معاوية أمام محكمة الجزاء» تأليف العلامة الكبير الشيخ مهدي القرشي.
2- حياة الامام الحسن

عاما بالاستياء و الكراهية لبني أمية،و سببت الهاب نار الثورات العارمة ضد ذلك الحكم الجاهلي.

و قام طاغية بني مروان هشام بن عبد الملك بقتل زيد بن علي بن الحسين(ع)و أمر الرجس الخبيث بوضع رأس زيد في مجلسه و أمر جميع من يدخل عليه بأن يطأ بحذائه وجه زيد الذي هو قطعة من كبد رسول اللّه(ص).

و كتب هشام الي و الي الكوفة أن يبقي زيدا مصلوبا،و لا ينزله عن خشبته قاصدا اذلال العلويين.و التشفي منهم،و بقي جسده الطاهر مرفوعا علي أعواد المشانق تصهره الشمس،و تذروه الرياح،قد وضعوا عليه الحرس خوفا من أن يختلس و يواري في التراب،و عمدت السلطة بعد ذلك الي احراق الجثمان العظيم و ذره في الهواء (1).

و عمد الامويون الي قتل يحيي بن زيد الثائر العظيم،ففي ذمة اللّه ما لاقته عترة رسول اللّه(ص)من القتل و التنكيل و الظلم و الهوان من بني أمية التي انتهكت بذلك حرمة النبي(ص)في عترته التي هي أولي بالرعاية و العطف من كل شيء.

و علي أي حال فان ما واجهته العترة الطاهرة من صنوف الكوارث و الخطوب طيلة الحكم الأموي قد أوجب سخط الاخيار و المتحرجين في دينهم،كما أوجب التحام القوي،و انتفاضة الشعوب الاسلامية الي الثورة الكبري التي اطاحت بحكم الامويين.ية

ص: 289


1- عقائد الزيدية

اضطهاد الشيعة:

و لاقت الشيعة في عهد الامويين المزيد من الجور و الاضطهاد،فقد صبت السلطات عليهم جام غضبها،و قابلتهم بجميع الوان العنف،لأنهم القوة الواعية التي تدفع الشعوب الاسلامية الي مناهضة الجور،و مناجزة الظلم، فكانت معظم الثورات الدامية التي أذعرت السلطات الأموية تستند الي الشيعة فهم قادة النضال و دعاة العدالة الاجتماعية،و ملهمي الشعوب روح التضحية في سبيل المبدأ و العقيدة.

لقد قاموا بأحرج الظروف،و أشدها أزمة و تعقيدا بمناهضة الظلم و مكافحة الجور،و تحرير المجتمع من الذل و العبودية،و قد قاسوا في سبيل ذلك أعنف المشاكل و أشدها لوعة و مرارة،و قد تحدث عنها الامام الباقر(ع)بقوله:

«و قتلت شيعتنا بكل بلدة،و قطعت الايدي و الأرجل علي الظنة، و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره» (1).

و قد كتب معاوية الي جميع عماله و ولاته بعد عام الصلح مذكرة جاء فيها:

«..انظروا الي من قامت عليه البينة انه يحب علينا و اهل بيته فامحوه من الديوان و اسقطوا عطاءه و رزقه.و شفع ذلك بنسخة اخري:

من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به و اهدموا داره» (2).

ص: 290


1- شرح ابن ابي الحديد 15/3.
2- نفس المصدر.

لقد واجهت الشيعة من العناء و الارهاق ما لا سبيل الي تصويره،و كان من اشدهم محنة شيعة أهل الكوفة أيام معاوية فقد استعمل عليهم زياد ابن أبيه،و كان بهم عالما فاشاع فيهم القتل و الاعدام فقتلهم تحت كل حجر و مدر و قطع أيديهم و أرجلهم،و سمل عيونهم،و صلبهم علي جذوع النخل و شردهم و طردهم (1).

و قد أوجبت هذه السياسة النكراء اشاعة السخط و التذمر بين جميع المسلمين فانهم لم يألفوا هذه السياسة،و لم يعهدوها من قبل،فانهم لم يواجهوا من الحكومات السابقة مثل هذا الاضطهاد و التنكيل بأحد من المسلمين.

و قد سعت الشيعة جاهدة بعد ما حل بها من الاضطهاد و الجور إلي العمل المتواصل علي اسقاط الحكم الأموي،و فل عروشه،فنظموا صفوفهم و شكلوا المنظمات السرية التي عملت علي ايقاظ الرأي العام،و بعثه الي ساحات النضال و التضحية للتخلص من الحكم الأموي.

واقعة الحرة:

و من أهم المآسي التي رزء بها العالم الاسلامي واقعة الحرة فقد انتهكت فيها كرامة الاسلام و حرمة الرسول(ص)فقد اعلنت القيادة العسكرية بعد احتلالها ليثرب اباحة الدماء و الاعراض و الاموال،و قد أسرف الجيش الأموي في ذلك بصورة لم يعهد لها نظير في القسوة و الغلظة،فقد استباح قتل النساء و الاطفال و الابرياء،و انتهاك الأعراض،و قد لجأ المدنيون الي قبر النبي(ص)و اعتصموا به لاعتقادهم ان قداسته سوف تحميهم و تعصمهم من الاعتداء الا ان تلك الوحوش الكاسرة لم تقم وزنا لحرمة

ص: 291


1- حياة الامام الحسن بن علي 348/2

القبر و لم ترجو له وقارا،فقد عمدوا الي قتلهم و انتهاك أعراضهم في الجامع النبوي،و قد علق مؤرخ أوربي علي هذا الحادث المؤسف بقوله:

«إن تأثير هذا الحادث علي العالم الاسلامي كان هائلا مروعا،فكأن الأمويين قد أرادوا أن يوفوا ما عليهم من دين حينما عاملهم الرسول و جيشه بالرحمة و العطف فشردوا و قتلوا خيرة شباب المدينة،و رجالها الميامين كما أجبروا من تبقي منهم علي مبايعة يزيد علي أنهم خول يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم فمن امتنع عن ذلك و سمه بالكي علي رقبته.

و قد اصبحت مدينة الرسول في حكم بني أمية كالواحة في الصحراء التي تحيط من جهاتها الأربع الكآبة الموحشة،و الظلام الدامس،و لم تسترد المدينة قط عهودها الغابرة حتي أصبحت في عصر بني أمية بلدة الماضي السحيق» (1).

و قد ذعر المسلمون من هذه الحادثة النكراء التي لم ترع فيها حرمة النبي(ص)في مجاوريه الذين آووه و نصروه و قاموا بحمايته أيام محنة الاسلام و غربته،و إذا بهم تستباح دماؤهم و تنتهك أعراضهم،و تنهب أموالهم، و يرغمون علي البيعة بأنهم خول و عبيد ليزيد..و ما انتهت هذه الكارثة الاليمة إلا بموجات من السخط و التذمر،فقد اصبحت حديث الناس في أنديتهم،و كانت من أوثق الاسباب التي أدت الي التحام القوي،و تعبئة الرأي العام الي الثورة الكبري التي اطاحت بالحكم الأموي.

سياسة الكفر و الظلم:

و الشيء المحقق الذي لم يختلف فيه المؤرخون هو أن الامويين لم تكن لهم أي نزعة اسلامية،و انما كانوا علي نزعاتهم الجاهلية،فلم ينفث الاسلام

ص: 292


1- مختصر تأريخ العرب ص 75

الي دخائل قلوبهم،و انما جري علي السنتهم خوفا من حد السيوف و أسنة الرماح،و لما دخلوا في حظيرة هذا الدين أخذوا يكيدون له،و يترقبون الفرص للانتقام منه و لما آل أمر المسلمين الي عميد الامويين عثمان بن عفان حسب المخطط الرهيب الذي صممته الشوري،سارع أبو سفيان الزعيم الأموي الي قبر سيد الشهداء حمزة فركله برجله و قال:

«يا أبا عمارة!..إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسي في يد غلماننا يتلعبون به..».

ثم مضي مثلوج القلب،و دخل علي عثمان فقال:«اللهم،اجعل الأمر أمر جاهلية،و الملك ملك غاصبية،و اجعل أوتاد الأرض لبني أمية» (1).

لقد قال أبو سفيان كلمة الكفر:أمام عثمان،و هو خليفة المسلمين و لم يوجه له عتابا أو ينزل به عقابا.

و كانت هذه النزعة الالحادية ماثلة في معاوية،و ظل متأثرا بها طوال حياته،و قد أعرب عن هذه الظاهرة في حديثه الخطير مع المغيرة بن شعبة فقد كشف فيه جانبا كبيرا عن واقعه الجاهلي و عدم ايمانه بالاسلام.و هذا نص حديثه فيما رواه مطرف بن المغيرة قال:وفدت مع أبي المغيرة علي معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية و عقله، و يعجب بما يري منه،و أقبل ذات ليلة فأمسك عن العشاء و هو مغتم أشد الغم،فانتظرته ساعة.و ظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له:

-ما لي أراك مغتما منذ الليلة؟ -يا بني جئت من أخبث الناس!!/6

ص: 293


1- تأريخ ابن عساكر 407/6

-و ما ذاك؟ -خلوت بمعاوية فقلت له:إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فانك قد كبرت،و لو نظرت الي اخوانك من بني هاشم فوصلت ارحامهم،فو اللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فقال لي:

«هيهات هيهات!!ملك أخو تيم فعدل،و فعل ما فعل،فو اللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره،الا ان يقول قائل أبو بكر.ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين فو اللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره الا ان يقول قائل عمر.ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه،فعمل ما عمل،و عمل به فو اللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره،و ذكر ما فعل به،و ان أخا بني هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات«أشهد ان محمدا رسول اللّه»فأي عمل يبقي بعد هذا لا أم لك إلا دفنا دفنا» (1).

و هذه البادرة تدل بوضوح علي كفره و الحاده،و علي حقده البالغ علي النبي(ص)فقد هاله و أزعجه ذكره في كل يوم خمس مرات في الأذان و لو وجد سبيلا لمحا اسمه،و طمس معالم دينه،و لشدة بغضه للنبي(ص) انه مكث في ايام خلافته اربعين جمعة لا يصلي فيها علي النبي و قد سئل عن ذلك فقال:

«لا يمنعني من ذكره الا ان تشمخ رجال بآنافها» (2).

و تمثلت هذه الظاهرة الالحادية بجميع ابعادها في ولده يزيد فانه بعد توليته الحكم اعلن الكفر و المروق من الدين،و قد اعلن كلمة الالحاد بقوله:/2

ص: 294


1- ابن أبي الحديد 357/2.
2- حياة الامام الحسن بن علي 149/2

لعبت هاشم في الملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل

و هكذا اذا استعرضنا سيرة اغلب ملوك بني أمية لوجدناها حافلة بالزندقة و الحقد علي الاسلام،و قد حاولوا جميعا محو سطوره و اطفاء نوره و لو لا فيض عارم في مبادئه و عناية فيه من اللّه للف لواؤه،و لم يبق له ذكر و لا أثر.

و قد ساس الامويون الأمة الاسلامية بسياستهم الالحادية التي لا تؤمن بالاسلام كقاعدة أساسية في ميادين الحكم و الادارة،و الاقتصاد و السياسة، فغيروا جميع المناهج الحية التي أقامها الاسلام لاصلاح المجتمع،فعطلوا الحدود،و استحلوا ما حرم اللّه،و أقاموا أحكامهم علي الشبهة،و قتلوا علي الظنة و التهمة،و نهبوا أموال المسلمين و ثرواتهم،و قد ألمع الي ذلك سديف بن ميمون (1)في دعائه عن جور الأمويين و ظلمهم بقوله:لك

ص: 295


1- سديف بن ميمون:شاعر مفلق،و أديب بارع،و خطيب مصقع،بليغ في رعايته للمناسبات،و اصابته للأهداف،قال النمري: ما كان في زمان سديف أشعر منه،و لا أطبع،و لا أقدر علي ما يريده من الشعر،كان مولي لامرأة من خزاعة،و كان لها زوج من اللهيبين، و ادعي سديف بذلك ولاء بني هاشم،و زعم المدائني أنه مولي بني العباس و شاعرهم،جاء ذلك في طبقات الشعراء(ص 39-40)و في العمدة (ص 45)أنه لما خرج محمد بن الحسن بالمدينة علي ابي جعفر المنصور قال له: إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا بعد التباعد و الشحناء و الاحن و تنقضي دولة احكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا إن الخلافة فيكم يا بني حسن فلما بلغ المنصور ذلك كتب الي عبد الصمد ان يدفنه حيا ففعل ذلك و جاء في تأريخ ابن عساكران المنصور رمي به في بئر بعد أن ضربه.

«اللهم:قد صار فيئنا دولة بعد القسمة،و امارتنا غلبة بعد المشورة و عهدنا ميراثا بعد الاختيار للامة،و اشتريت الملاهي و المعارف بسهم اليتيم و الأرملة،و حكم في أبشار المسلمين أهل الذمة،و تولي القيام بأمرهم كل فاسق محلة فلا ذائد يذود عن هلكة،و لا مشفق ينظر إليهم بعين الرحمة، و لا رادع يردع من آوي إليهم بمظلمة،و لا ذو شفقة يشبع الكبد الحري من السغب،فهم أهل ضرع و ضيعة،و حلفاء كآبة و ذلة،قد استحصد زرع الباطل،و بلغ نهايته،و استجمع طريده،و استوسق و ضرب بجرانه اللهم فأتح له يدا من الحق حاصدة تجتث سنامه،و تهشم سوقه،و تبدد شمله،و تفرق كلمته ليظهر الحق في أحسن صورته،و أتم نوره،و أعظم بركته،اللهم:و قد عرفنا من انفسنا خلالا لا تقعد بنا عن استجابة الدعوة،و أنت المتفضل علي الخلائق أجمعين،و المتولي الاحسان الي السائلين فآت لنا من أمرنا حسب كرمك وجودك،و امتنانك،فانك تقضي ما تشاء و تفعل ما تريد...» (1).

و قد ألم دعاء سديف بوصف رائع للسياسة الأموية التي انتهكت حقوق المسلمين،و كفرت بجميع القيم العليا التي جاء بها الاسلام و حاربت جميع مبادئه و مناهجه.

و علي أي حال فان الأمويين قد ساسوا الاقاليم الاسلامية بسياسة قد بنيت علي الكفر و الخروج علي ارادة الامة،و قد اعتقد المسلمون بأن في في ظفر الأمويين بالحكم انما هو فوز للقوي المعادية للاسلام،و قد جاء هذا المعني فيما كتبه فيكلسن قال:

«اعتبر المسلمون انتصار بني أمية و علي رأسهم معاوية انتصارا

ص: 296


1- طبقات الشعراء ص 37-38.

؟؟؟للأرستقراطية الوثنية،التي ناصبت الرسول و أصحابه العداء،و التي جاهدها رسول اللّه(ص)حتي قضي عليها،و صبر معه المسلمون علي جهادها و مقاومتها حتي نصرهم اللّه فقضوا عليها،و أقاموا علي انقاضها دعائم الدين الاسلامي،ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء و الضراء و أزال سيادة رهط كانوا يحتقرون الفقراء،و يستذلون الضعفاء،و يبتزون الأموال،لذلك لاندهش إذ كره المسلمون بني أمية و غطرستهم،و كبرياءهم و اثارتهم للاحقاد القديمة،و نزوعهم للروح الجاهلية..» (1).

و لم يكن يخالط المسلمين شك في أن الأمويين خصوم الاسلام و اعداؤه الذين حاولوا اخفات صوته،و اخماد ضوئه،و انهم انما دخلوا في حظيرته طمعا في الأمرة،و سعيا وراء مصالحهم الخاصة،و قد أكد ذلك العلامة«دوزي» بقوله:

«إن جمهور المسلمين كانوا يرون أن من بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الاسلام الا سعيا وراء مصالحهم الشخصية،و انهم لا حق لهم في الخلافة و لا غيرها،فقد كانت سياسة بني أمية تهدف الي جعل الخلافة ملكا كسرويا،و ليس أدل علي ذلك من قول معاوية:«؟؟ الملوك» (2).

إن من يتصفح السياسة الأموية يري أنها كانت ترمي الي بسط الالحاد و اشاعة الكفر،و فل عروش الاسلام،و ازالة وجوده،و ذلك بما صعده الأمويون من العمليات التخريبية ضده كابادة اعلامه أمثال حجر بن عدي،و عمرو ابن الحمق الخزاعي،و ميثم التمار،و رشيد الهجري،و أمثالهم من قادة الفكر في الاسلام.).

ص: 297


1- تأريخ الاسلام السياسي 398/1
2- ملوك الطوائف و نظرات في تأريخ الاسلام(ص 381).

و قد أوجبت هذه السياسة المعادية للاسلام انتفاضة الجماهير الاسلامية و اجماعها علي حرب الامويين و ازالة دولتهم و سلطانهم.

السياسة المالية:

و للاسلام اقتصاده الخلاق الذي ينعش الشعوب،و يزيد من دخلها الفردي،و يزيل عنها كايوس الفقر و الحرمان،و قد أوجب علي الدولة مراقبة الاقتصاد العام،و العمل علي زيادة الانتاج،و صرف الخزينة العامة علي المصالح الحيوية،و لم يبح ان يصرف قليل أو كثير من أموال الأمة في غير تطورها الاقتصادي و الصناعي،حسب ما هو معلوم من مخططات السياسة المالية في الاسلام.

و قد جافي الامويون هذه السياسة المشرقة،و ابتعدوا عنها،و كان أول من انحرف عنها عثمان بن عفان فقد صرف بيت المال علي بني أمية و آل أبي معيط،و خص الوجوه و الاشراف و ذوي النفوذ بالهبات الضخمة و الثراء العريض،و حرم العامة من الانفاق عليها،و قد أوجبت هذه السياسة الملتوية اخفاقه فقد سخط عليه الأخيار و المتحرجون في دينهم،و طالبوه بالعدول عنها الا انه لم يعن بهم و أصر علي تنفيذ سياسته فثار عليه المسلمون و أردوه صريعا يتخبط بدمه،و قد ارهق المسلمين في ايام حكمه و حملهم عناء شديدا،و كذلك أجهدهم بعد قتله حسب ما أجمع عليه المؤرخون.

و قد سار الامويون طيلة حكمهم علي وفق السياسة العثمانية فخصوا انفسهم و من يمت إليهم بالاموال و الثراء و حرموا الأمة ان تتمتع بالرفاهية فقد اصطفوا جميع ثرواتها و امكانياتها الاقتصادية و تركوا شبح الفقر ماثلا في كل بيت من بيوت المسلمين،و قد فزع والي مصر الي العاهل الاموي

ص: 298

سليمان بن عبد الملك شاكيا له ما يعانيه المصريون من الاضطهاد و الثقل من الضرائب التي فرضت عليهم قائلا له:

«يا أمير المؤمنين:إني ما جئتك حتي أنهكت الرعية،و جهدت فان رأيت أن ترفق بها،و تخفف من خراجها ما تقوي به علي عمارة بلادها و صلاح معايشها فافعل فانه يستدرك ذلك في العام المقبل...» و هذا منطق حق و عدل الا ان الطاغية الجبار لم يع ذلك،و اجابه بما انطوت عليه نفسه من النزعات الشريرة قائلا:

«هبلتك أمك،احلب الدر فاذا انقطع فاحلب الدم و النجا» (1)و هل هناك ظلم أفحش او أقسي من هذا الظلم؟ أي استهانة بحقوق الانسان و كرامته مثل هذه الاستهانة؟إنه يريد ان يحكم علي المجتمع بالدمار،و يسلبه حياته،و مقوماته و لما شاع هذا الظلم الفاحش اخذ العمال و الولاة يتقربون إليهم بظلم الرعية و الجور عليها،فقد روي المؤرخون ان عبيد اللّه بن الحجاب صاحب الخراج علي مصر أراد ان يتقرب الي هشام بن عبد الملك فكتب إليه إن ارض مصر تحتمل الزيادة فأمره ان يزيد في كل دينار قيراطا (2).

و هكذا أخذت البلاد الاسلامية ترزح تحت كابوس ثقيل من الفقر و الحرمان قد سلبت جميع مقوماتها،و صارت بأيدي هؤلاء الأوغاد يصرفونها بسخاء علي المجون و الدعارة و افساد الاخلاق،و لم يعد ما يصرف من تلك الاموال علي المصالح العامة.).

ص: 299


1- الجهشياري(ص 51-52).
2- تأريخ الحركات الفكرية في الاسلام(ص 42).

الضرائب الاضافية:

و أمعنت السلطات الاموية في جهد الرعية و ارهاقها،فقد سلبتها جميع مقدراتها و امكانياتها الاقتصادية،و ذلك بما فرضته عليها من الضرائب التي لم يألفها المسلمون،و لم يقرها دينهم،و قد روي المؤرخون ألوانا قاسية من تلك الضرائب و كان من بينها ما يلي:

1-الرسوم علي الصناعات و الحرف (1).

2-الرسوم:علي من أراد الزواج او يكتب عرضا (2).

3-الرسوم:علي اجور البيوت (3).

4-ضريبة النيروز،و أول من سنها معاوية بن أبي سفيان،و قد بلغت عشرة ملايين درهم (4).

5-الضريبة علي من أسلم (5)و السبب في ذلك شل الحركة الاسلامية و وقف انتشارها.

و المهم في هذه الضرائب الاضافية انها لم تكن محدودة،و انما كان أمرها بيد الولاة و الجباة فهم الذين يقدرونها حسب رغباتهم و ميولهم، و تحدث«بندلي جوزه»عن شدة وطأتها و ثقلها بقوله:

ص: 300


1- تأريخ الحركات الفكرية في الاسلام(ص 42).
2- الطبري 129/8،تأريخ ابن الأثير 23/5.
3- الوزراء و الكتاب(ص 24).
4- الحركات الفكرية في الاسلام(ص 42)،تأريخ التمدن الاسلامي 22/2.
5- التمدن الاسلامي 21/2.

«انها كانت أشد وطأة من الخراج و الجزية لأنها لم تكن محدودة و لا مستندة الي قاعدة مقبولة بل كان مقدارها يتوقف علي رغبة العمال» (1)و سأل صاحب أخناء بمصر عمرو بن العاص ان يخبره بمقدار ما عليه من الجزية فأجابه ابن العاص:

«لو أعطيتني من الارض الي السقف ما أخبرتك ما عليك انما أنتم خزانة لنا ان كثر علينا كثرنا عليكم،و ان خفف عنا خففنا عنكم» (2).

و ليس في مفاهيم الظلم الاجتماعي اكثر من هذا الظلم و لا أشد وطأة منه علي المجتمع الانساني فالشعوب خزانة لهؤلاء الحاكمين أو بستان لهم- علي حد تعبير ابن العاص-و قال معاوية:«الأرض للّه و أنا خليفة اللّه فما آخذ من مال اللّه فهو لي و ما تركته كان جائزا لي».

إن هذه السياسة النكراء قد أثارت سخط المجتمع و الهبت العواطف و المشاعر بروح الثورة،و النضال علي قلب ذلك الحكم و ازالة وجوده و آثاره.

اصطفاء الاموال:

و جهدت الحكومات الأموية في فقر المسلمين و تجويعهم فسلكت كل طريق يؤدي الي نشر الفاقة و الحرمان بينهم،و كان من بين الوسائل التي اتخذها الأمويون الي فقر المسلمين اصطفاء أموالهم فقد كتب معاوية الي زياد بن أبيه عامله علي العراق ان يصطفي له الصفراء و البيضاء.

فأوعز زياد الي عماله بذلك و أمرهم أن لا يقسموا بين المسلمين ذهبا

ص: 301


1- الحركات الفكرية(ص 42).
2- تأريخ التمدن الاسلامي 79/4-80.

و لا فضة (1).

و كتب معاوية الي وردان عامله علي مصر«ان تزد علي كل امرئ من القبط قيراطا،فكتب إليه وردان:كيف أزيد عليهم و في عهدهم ان لا يزاد عليهم؟».

و كانت الحال كذلك في سائر الولايات الاسلامية فقد صادر احد اخوة الحجاج املاك الاهالي ببلاد اليمن (2).

لقد اتخذ الامويون مال اللّه دولا،و عباد اللّه خولا كما اخبر الصادق الامين(ص)عما تمني به أمته في ظلال الحكم الاموي الجائر،و قد أثارت هذه السياسة عليهم سخط العامة فهبوا الي اعلان الثورة و الاطاحة بحكم الظلم و الجور.

رفض الناس لاملاكهم:

و لفداحة الضرائب،و ثقلها فقد عمد المزارعون الضعفاء الي رفض اراضيهم و التخلي عنها،و التجأ بعضهم الي تسجيلها باسم احدي شخصيات العرب،او باسم احد رجال الدولة لأجل حمايتهم،و كانوا يدفعون عوض هذا التسجيل قسما من الحاصلات الزراعية (3)أما في ولاية الحجاج فقد سجل عدد كبير من الملاكين اراضيهم باسم مسلمة بن عبد الملك.

لقد لاقت الشعوب الاسلامية في تلك الأدوار المظلمة اشد الوان العسف و الاضطهاد فهي تكدح و تعطي ثمرة جهودها الي اولئك الطغاة

ص: 302


1- التمدن الاسلامي 79/4
2- تأريخ الاسلام 474/1
3- الوزراء و الكتاب(ص 118)

ليصرفونه علي المجون و الدعارة و الشهوات.

و بقي هذا الحال المرير مستمرا،حتي دور النبيل عمر بن عبد العزيز فلمس المجتمع في عهده بعض الوان الدعة و الرفاهية،فأمر بالغاء تلك الضرائب الاضافية (1)،و لما انتهي دوره عاد الشقاء الي الناس،فقد أمر يزيد بن عبد الملك بارجاع تلك الضرائب،و كتب الي عماله مذكرة جاء فيها:

«اما بعد:فان عمر كان مغرورا،فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده و أعيدوا الناس الي طبقتهم الأولي اخصبوا أم أجدبوا،أحبوا أم كرهوا حيوا أم ماتوا» (2).

و لما انتهي هذا المرسوم الملكي الي العمال أخذوا بخناق الناس و شددوا عليهم فأعادوا الضرائب الي حالتها الأولي (3).

لقد انحرف الأمويون عن القصد،و جانبوا العدل،و ابتعدوا عن الطريق القويم،و هذا هو السر في اجماع المسلمين علي بغضهم في جميع أدوار الحياة الاسلامية.

الولاة و الجباة:

و أقام الامويون ولاتهم و جباتهم من شذاذ الآفاق أمثال زياد بن أبيه،و المغيرة بن شعبة،و بسر بن أبي ارطاة،و سمرة بن جندب و خالد القسري،و الحجاج بن يوسف الثقفي،و نظرائهم من الظلمة المستبدين

ص: 303


1- الطبري 129/8
2- الادارة الاسلامية(ص 114)
3- تأريخ اليعقوبي 55/2

الذين أثبتوا في نشاطهم السياسي و الاداري انهم أعداء الانسانية،و انهم لا عهد لهم بالرحمة و الرأفة او بأي مثل كريم يمتاز به الانسان عن الحيوان السائم.

لقد سلط الامويون هؤلاء الجفاة الأوغاد علي رقاب المسلمين فامعنوا في ظلمهم،و انتهاك حرماتهم،و سلب أموالهم،يقول النمري لعبد الملك مبينا له جور عماله،و اضطهادهم لقومه حتي افتقروا و هربوا في البيداء، و ليس معهم سوي إبل مهزولة،يقول النمري:

أ خليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة و أصيلا

إن السعاة عصوك يوم أمرتهم و اتوا دواهي لو علمت و غولا

أخذوا العرين فقطعوا حيزومه بالاصبحية قائما مغلولا (1)

حتي اذا لم يتركوا لعضامه لحما و لا لفؤاده معقولا (2)

جاءوا بصكهم و أحدر أسأرت منه السياط يراعه اجفيلا (3)

أخذوا حمولته فأصبح قاعدا لا يستطيع عن الديار حويلا

يدعو امير المؤمنين و دونه خرق تجر به الرياح ذيولا (4)

كهداهد كسر الرماة جناحها تدعو بقارعة الطريق هديلا

أ خليفة الرحمن ان عشيرتي أمسي سوامهم عزين فلو لا (5)

قوم علي الاسلام لما يتركوا ما عونهم و يضيعوا التهليلا (6)ة.

ص: 304


1- الحيزوم:وسط الظهر،الاصبحية جمع أصبح السياط.
2- المعقول:الادراك.
3- اشأرت:أي بقيت في الاناء بقية،الاجفيل:الخائف.
4- الخرق:الصحراء الواسعة.
5- عزين:الجماعات.
6- الماعون:الزكاة.

قطعوا اليمامة يطردون كأنهم قوم أصابوا ظالمين فتيلا

شهري ربيع ما تذوق لبونهم الا حموضا و خمة و ذبيلا (1)

و أتاهم يحيي فشد عليهم عقدا يراه المسلمون ثقيلا (2)

كتبا تركن غنيهم ذا عيلة بعد الغني و فقيرهم مهزولا

فتركت قومي يقسمون امورهم إليك أم يتربصون قليلا (3)

و قد صور النمري بهذا الشعر الجور الهائل و المظالم الفظيعة التي صبها الولاة علي قومه،و قد استمر هذا الظلم حتي في دور عمر بن عبد العزيز الذي هو أعدل ملوك بني أمية-كما يقولون-فان عماله لم يألوا جهدا في اخذ اموال الناس بغير حق يقول كعب الاشعري مخاطبا له:

إن كنت تحفظ ما يليك فانما عمال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للذي تدعو له حتي تجلد بالسيوف رقاب

بأكف منصلتين اهل بصائر في وقعهن مزاجر و عقاب (4)

و كان عمر يخطب علي المنبر فانبري إليه رجل فقطع عليه خطابه و قال له:

إن الذين بعثت في أقطارها نبذوا كتابك و استحل المحرم

طلس الثياب علي منابر ارضنا كل يجور و كلهم يتظلم (5)

و أردت ان يلي الامانة منهم عدل و هيهات الأمين المسلم (6)/3

ص: 305


1- الخموض:المر المالح،
2- يحيي:احد السعادة الظالمين.
3- حياة الامام الحسن 202/2 نقلا عن طبقات الشعراء(ص 439)
4- البيان و التبيان 358/3
5- طلس الثياب:الوسخة منها.
6- البيان و التبيان 359/3

لقد بالغ الولاة و الجباة في اضطهاد المجتمع الاسلامي،و سلبه جميع مقوماته الاقتصادية،و لم يفعلوا ذلك من عند أنفسهم،و انما كان بايعاز من ملوك الأمويين،فهم كانوا يدفعونهم الي النهب،و يقاسمونهم ما يسلبونه من الناس،و قد جاء هذا المعني صريحا فيما قاله:«فان فلوتن»:

«و بدل ان يتخذ الخلفاء-اي خلفاء الأمويين-التدابير لمحاسبة الولاة،و منعهم من الظلم نجدهم يقاسمونهم في فوائدهم من الأموال التي جمعوها بتلك الطرق المفضوحة،و هذا معناه رضي الخلفاء بسوء تصرف العمال مع أهل البلاد بالاضافة الي انه دليل علي أن بعضهم كان يهمه مصالح الخزينة المركزية بالدرجة الأولي..» (1).

إن ملوك الامويين لم يحاسبوا ولاتهم و جباتهم علي ما اقترفوه من الظلم الفاحش و النهب الفظيع لأموال الأمة،فقد كان ذلك بدفع منهم،فان الوالي كلما اشتد ظلمه،و جار في حكمه ازداد قربا منهم،فزياد بن أبيه كان اقرب الناس الي معاوية حتي الصق نسبه به،و ذلك لبطشه و جوره، و فتكه الذريع بالمسلمين،و الحجاج بن يوسف الثقفي كان من اقرب الولاة الي عبد الملك و آثرهم عنده حتي فوض أمر العراق إليه يتصرف فيه حيثما يشاء،و ذلك لعنفه و اسرافه في اراقة الدماء.

و علي أي حال فان ما عاناه المسلمون من جور العمال و ظلمهم من أهم اسباب الثورة الكبري التي اطاحت بنظام الحكم الأموي،و طوت سلطانه.).

ص: 306


1- السيادة العربية(ص 28).

احتقار الشعوب:

و الشيء البارز في السياسة الأموية ازدراء الشعوب الاسلامية،فقد كان ملوك الأمويين يبالغون في الاستخفاف بحق شعوبهم،يقول الوليد بن يزيد الأموي:

فدع عنك ادكارك آل سعدي فنحن الأكثرون حصي و مالا

و نحن المالكون الناس قسرا نسومهم المذلة و النكالا

و نوردهم حياض الخسف ذلا و ما نألوهم الا خبالا

و صور هذا الشعر مدي الاستهتار الفاحش بحق الأمة،و الاستهانة بارادتها و قيمها.

و قال عبد الملك بن مروان في خطابه الذي ألقاه في يثرب أمام أبناء المهاجرين و الانصار:

«الا و اني لا أداوي أمر هذه الأمة الا بالسيف حتي تستقيم قناتكم، و انكم تحفظون اعمال المهاجرين الأولين،و لا تعملون مثل عملهم،و انكم تأمروننا بتقوي اللّه،و تنسون ذلك من أنفسكم،و اللّه لا يأمرني أحد بتقوي اللّه بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه..» (1).

و حفل هذا المنطق القاسي الرهيب بالطغيان الفاجر علي الأمة،فقد جعل مداواتها بنشر القتل و الخوف و الارهاب لا ببسط العدل و الرفاهية بينها...

و يقول ابن العاص:«انما السواد بستان قريش»و معني هذا ان السواد ملك للامويين لا لأهله فانهم عبيد و خول لهم،لا حرية لهم و لا

ص: 307


1- نظام الحكم و الادارة في الاسلام(ص 285).

اختيار،و كان هذا منطق السياسة الأموية في جميع فتراتها لا تري هناك وجودا للأمة،و كان هذا من أهم العوامل التي ادت الي قلب الحكم الأموي و انهياره.

اضطهاد الذميين:

و قضي الاسلام في تشريعه الرائع الاصيل باحترام كافة الأديان، و ضمان كرامة ابنائها،و منحهم الحرية التامة فلهم أن يتمتعوا بجميع ما يتمتع به المسلمون من الحقوق ما داموا داخلين في ذمة الاسلام.

انه ليس من الاسلام ان يضطهد أي انسان مهما كانت ميوله و معتقداته ما لم يحدث فتنة أو فسادا في الأرض،يقول الامام امير المؤمنين(ع)رائد العدالة الكبري في عهده الدولي:«الناس صنفان اما أخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق».

لقد تبني الاسلام بصورة ايجابية شعار العدالة و الحرية و المساواة بين جميع الناس في ضمن اطارها الاسلامي،و لكن السياسة الاموية في جميع مخططاتها قد حملت معول الهدم علي ما تبناه الاسلام في ميادين الاصلاح الاجتماعي فعاملت الذميين معاملة قاسية لا تتفق مع روح الاسلام و هديه، فقد روي المؤرخون أن اسامة بن زيد التنوخي،القائم بأمر الخراج من قبل يزيد بن عبد الملك قد اوقع بالذميين و ارهقهم فأخذ أموالهم،و وسم أيديهم (1)و فرض عبد العزيز بن مروان الجزية علي الرهبان،و هي أول جزية أخذت منهم (2).

ص: 308


1- خطط المقريزي 395/4
2- نفس المصدر.

ان جور الأمويين و ظلمهم قد عمّ جميع المواطنين،و لم يقتصر علي المسلمين الأمر الذي أوجب شيوع الحقد و الكراهية عند جميع الناس لحكمهم.

ظلمهم للموالي:

و قضت السياسة الأموية بحرمان الموالي من جميع الحقوق الطبيعية للانسان فعاملتهم معاملة الحيوان السائم،و قابلتهم بمزيد من العنف و الاضطهاد مع دخولهم في حظيرة الاسلام الذي هتف بحقوق الانسان،و اعلن المساواة العادلة بين جميع الطبقات،هذا مع ان فيهم طبقة كبيرة من اعلام الاسلام و قادته الفكريين،و ان شطرا كبيرا من الفتوحات الاسلامية قد قام علي جهودهم و جهادهم،و من المؤسف حقا أن الامويين لم يألوا جهدا في اذلالهم و ارهاقهم،و قد روي المؤرخون الوانا بغيضة من ذلك العسف،و قد فتح عليهم باب الظلم و الجور-كسري العرب-معاوية بن أبي سفيان فقد انتهك حرماتهم و رام سفك دمائهم بغير حق فقد دعا كلا من الاحنف بن قيس التميمي،و سمرة بن جندب الهلالي و قال لهما:إني رأيت هذه الحمر -أي الموالي من الفرس-قد كثرت،و اراها قد قطعت علي السلف، و كأني انظر وثبة منهم علي العرب و السلطان،فقد رأيت ان أقتل شطرا لاقامة السوق،و عمارة الطريق فما ترون؟»فأيده سمرة،و عارضه الاحنف، و أقنعه بأن لا يفعل (1)و قد سار علي هذه الخطة الفاجرة ملوك الأمويين من بعده فهانوا الموالي و حرموهم من العطاء و الرزق و قد جاء أحد الخراسانيين الي عمر بن عبد العزيز يطالبه بالعدالة و المساواة قائلا:

ص: 309


1- العقد الفريد 270/2

«يا أمير المؤمنين عشرون الفا من الموالي يغزون بلا عطاء،و لا رزق و مثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤدون الخراج..» (1).

لقد قابلتهم السلطات الأموية بالحرمان و الاجحاف فحرمتهم من العطاء و القوت مع انهم كبقية الجنود يغزون و يفتحون،و هذا مما أوجب زيادة النقمة في صفوفهم،و اتساع نطاق العداء لهم،و انضمامهم الي كل ثورة ضدهم يقول الجاحظ في كتابه-العرب و الموالي-ان الحجاج بن يوسف لما خرج عليه عبد الرحمن بن الاشعث،و حاربه،و لقي ما لقي من قراء اهل العراق،كان اكثر من قاتله الموالي من أهل البصرة،فجمعهم بعد اطفائه تلك الثورة،و قال لهم:«انما أنتم علوج و عجم و قراؤكم اولي بكم» ثم فرقهم حيث شاء في البلاد النائية،و نقش علي يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها (2).

و بلغ من تعصبهم الأعمي انهم كانوا لا يرون الموالي أكفاء لهم فكانوا ينادونهم بأسمائهم و القابهم،و لا يكنونهم بالكني لما في الكنية من الشعور بالمساواة لهم،كما كانوا لا يسمحون لهم بالسير في الصف أمامهم أو معهم الا وراءهم،و لا يجعلون منهم قائدا علي جيش عربي،و لا يجيزون لأحد منهم ان يصلي اماما علي جنازة أحد من العرب،و إذا اطعموا أحدا من الموالي معهم-لعلمه و فضله-اجلسوه علي السفرة في طريق الخباز،لكي يعلم من يراه أنه ليس عربيا في الصميم،و إذا اقبل العربي من السوق و معه شيء فرأي مولي دفعه إليه ليحمله عنه فلا يمتنع،و كان إذا لقيه راكبا و أراد ان ينزل فعل (3).34

ص: 310


1- الطبري:134/8،ابن الأثير 19/5
2- العقد الفريد 271/2
3- ضحي الاسلام 18/1-34

لقد ذكر المؤرخون صورا كثيرة من الوان هذا الاضطهاد الجماعي للموالي الأمر الذي خولف فيه عما الزم به الاسلام من المساواة العادلة بين جميع المسلمين من دون فرق بين عربيهم و اعجميهم،و أبيضهم و أسودهم.

لقد سببت هذه التفرقة العنصرية شق كلمة المسلمين،و اشاعة الاحقاد و الاختلاف بينهم،كما سببت ان يكون الموالي في طليعة الثوار علي الحكم الأموي و سببا في تحطيم ملكهم.

خلاعة الخلفاء:

و انغمس ملوك الأمويين في الدعارة و المجون فتهالكوا علي اللذة و الشهوات و الاستهتار بالقيم الاخلاقية،و قد انتشر التسيب و التحلل في أيامهم و شاع استعمال الخمر و القمار،و قد صرفت الدولة أغلب مقدراتها علي المغنين و الماجنين و العابثين،و جلبت جميع ادوات اللهو و آلات الغناء،و فيما يلي بعض خلفائهم الماجنين:

يزيد بن عبد الملك:

و انقطع يزيد بن عبد الملك الي العقار و القيان،و كان يسمي خليع الأمويين،شغف بجاريتين من جواريه تدعي احداهما(حبابة)و الاخري (سلامة)و قطع ايام حياته في احضانهما،غنته حبابة يوما بقولها:

بين التراقي و اللهاة حرارة ما تطمئن و لا تسوغ فتبرد

فطرب حتي فقد رشده،و أخذ يطير فقالت ساخرة به:

«يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة!!».

و أخذ يقول:بلا اختيار«و اللّه لأطيرن»و انطلقت تسخر به و تهزأ

ص: 311

من الأمة التي مكنته من رقابها قائلة له:

-علي من تدع هذه الأمة؟ -عليك ثم انعطف عليها فجعل يقبل يدها،و هي تعبث به و تسخر منه.

خرج يوما يتنزه في بعض نواحي الأردن،و معه جاريته حبابة فأخذ يتعاطي معها كئوس الخمر،فلما ثملا رماها بحبة عنب فدخلت فمها، فشرقت منها فتمرضت و ماتت،و قد فقد رشده علي موت هذه المغنية فقد تركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتي أنتنت و هو يشمها و يلثم جسدها و هي جثة هامدة و يبكي عليها أمر البكاء،و قد كلمه بعض خواصه في أمرها فأذن في دفنها،و رجع الي قصره كئيبا،حزينا فسمع احدي جواريه تقول:

كفي حزنا بالهائم الصب أن يري منازل من يهوي معطلة قفري

فأخذ يبكي أمر البكاء و قد استولي عليه الحزن و الأسي،و مكث في قصره سبعة أيام لا يواجه الناس حدادا و حزنا علي هذه الفاجرة،فأشار عليه أخوه مسلمة بالخروج الي الناس لئلا يشيع عنه هذا المنكر فيزهدون فيه،فاستجاب لنصحه و خرج الي الناس (1)و هذه البادرة قد دلت علي خلاعة هذا الماجن الذي يلي به الاسلام و بأمثاله من الماجنين الذين تقلدوا زمام الحكم.

الوليد بن يزيد:

و صح عن النبي(ص)انه قال:«ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد،لهو شر علي هذه الأمة من فرعون علي قومه»و قد أيد).

ص: 312


1- ابن الأثير:(ج 5 ص 57).

الأوزاعي أنه هو الوليد بن يزيد (1)و قد تمادي هذا الطاغية الخليع في الدعارة فكان أول من حمل المغنين من البلدان،و جالس الملهين،و اظهر الشراب و الملاهي،و العزف،و قد انتشر في عصره الفساد و انعكف الناس علي تعاطي الخمر و شربها،و كان مغرما بها،و قد وصفها بأدق وصف بقوله:

و صفراء كالزعفران سباها لنا التجر من عسقلان

تريك القذاة و عرض الانا ء ستر لها دون مس البنان

لها حبب كلما صفقت تراها كلمعة برق يماني (2)

و بلغ من مجونه انه أراد ان يبني فوق البيت الحرام قبة يشرب فيها الخمور و يشرف منها علي الطواف (3)و لكن اللّه حال بينه و بين ذلك و قصم ظهره و أخذه أخذ عزيز ذي انتقام فقد ظهر عليه يزيد بن الوليد مع جماعة من أهل بيته فقتلوه و احتزوا رأسه و نصبوه بدمشق (4).

و من خلاعة هذا الماجن المستهتر ان ابن عائشة القرشي (5)غناه بقوله:ني

ص: 313


1- أمالي المرتضي:(ج 1 ص 79).
2- مروج الذهب:(ج 3 ص 147).
3- الأمالي:(ج 1 ص 89).
4- اليعقوبي:(ج 3 ص 73).
5- ابن عائشة:هو عبد الرحمن بن عبيد اللّه،و عائشة أمه هي أم محمد بنت عبد اللّه بن عبيد اللّه من تيم قريش،يكني أبا سعيد،و كانت سمية أم زياد بن أبيه إحدي جداته و في ذلك يقول: أيا أسفي علي إسعاف دهر و حظ من حظوظ بني الزواني علي اني أمت الي الليالي بعرق من سمية غير و اني جاء ذلك في طبقات الشعراء:(ص:337-338).

اني رأيت صبيحة النحر حورا نفين عزيمة الصبر

مثل الكواكب في مطالعها عند العشاء أطفن بالبدر

و خرجت ابغي الأجر محتسبا فرجعت موقورا من الوزر

فطرب حتي فقد صوابه و التفت الي ابن عائشة قائلا:

«احسنت و اللّه،بأمير المؤمنين،اعد بحق عبد شمس اعد..».

فأعادها عليه فقال له:احسنت و اللّه،بحق أمية اعد،فأعادها عليه فأخذ يتخطي آباءه واحدا بعد واحد و هو يقسم عليه بهم ليعيدها عليه فأعادها عليه مرارا و هو ثمل لا يعقل قد أفسدت الخمرة عقله و انكبّ علي ابن عائشة فجعل يقبل أطرافه و أعضاءه عضوا عضوا حتي انتهي الي عورته و بعد صراع طويل دام بينهما استطاع هذا الخليع-المسمي بأمير المؤمنين، و خليفة المسلمين-تقبيل عورة ابن عائشة بصورة مخزية تندي منها خجلا وجه الانسانية،ثم انه نزع ثيابه فألقاها عليه،و بقي مجردا بادي العورة حتي أتوه بثياب غيرها فلبسها ثم منحه الف دينار و حمله علي بغلته،و طلب منه ان يركبها علي بساطه ثم ودعه قائلا له:«قد تركتني علي أحر من جمر الغضا» (1).

هذه صورة موجزة عن دعارة ملوك الأمويين و خلاعتهم،و تماديهم في اللهو و الفساد الأمر الذي سبب اشاعة الحقد عليهم و الكراهية لحكمهم.).

ص: 314


1- مروج الذهب:(ج 3 ص 148).

العصبية بين اليمنية و النزارية:

و من أهم العوامل التي أدت الي تلاشي الحكم الأموي نشوب النزاع بين اليمانية و النزارية و تصاعد العداء فيما بينهما،الأمر الذي أدي الي اضعاف الدولة،و ذلك لانضمام اليمانية الي الدولة العباسية،و قد أوجد هذا النزاع العلويون فان الكميت شاعر الاسلام الاكبر لما أنشد هاشمياته التي مدح فيها اهل البيت(ع)قصد عبد اللّه بن الحسن فطلب منه أن ينشيء شعرا يثير به حفائظ النفوس بين العرب لعل فتنة تحدث فتكون سببا لزوال دولة الامويين فاستجاب الكميت و انطلق ينظم قطعا من الشعر الحماسي الرائع يذكر فيها مناقب قومه اليمانيين و يفضلهم علي القحطانيين،و مما قاله:

لنا قمر السماء و كل نجم تشير إليه أيدي المهتدينا

وجدت اللّه اذ سمي نزارا و اسكنهم بمكة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات و للناس القفا و لنا الجبينا

و قد أثر شعره في القلوب تأثيرا عظيما حتي ثارت الحفائظ بين القبيلتين و شاع البغض و العداء بينهما،و انتصر للقحطانية شاعر اهل البيت دعبل الخزاعي،و اكبر الظن انه كان بين الشاعرين اتفاق علي ذلك فانهما معا من شعراء اهل البيت و كلاهما قد ضرب الرقم القياسي لاعمق الود و الولاء لهم و مما قاله دعبل في الرد علي الكميت:

أ فيقي من ملامك يا ظعينا كفاك اللوم مر الأربعينا

أ لم تحزنك أحداث الليالي يشيبن الذوائب و القرونا

أحيي الغر من سروات قومي لقد حييت عنا يا مدينا

فان يك آل إسرائيل منكم و كنتم بالأعاجم فاخرينا

ص: 315

الي ان يقول:

و ما طلب الكميت طلاب وتر و لكنا لنصرتنا هجينا

لقد علمت نزار ان قومي الي نصر النبوة فاخرينا

و أخذت كل قبيلة تفتخر علي الأخري و تدلي بمناقبها و مكارمها حتي اتسع العداء و شمل سكان القري و البادية و تخربت من أجل ذلك القلوب.

و انفصمت عري الوحدة بين هاتين الأسرتين اللتين تعدان من أعظم سكان الجزيرة العربية عددا و نفوذا،و قد نتج من ذلك أن مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء الأمويين قد تعصب للنزاريين،مما سبب انحراف اليمانيين عنه و انضمامهم الي الدعوة العباسية،و بذلك فقد ضعف كيان الدولة الأموية الي أبعد الحدود (1).

نتائج الأحداث:

اشارة

إن الأحداث الرهيبة التي مني بها العالم الاسلامي من جراء الحكم الاموي الجائر في سياسته،و اقتصاده،و ادارته،قد اعقب ما يلي:

1-الثورات المحلية:

و انطلقت في اغلب الاقاليم الاسلامية عدة ثورات محلية انتقاما من السلطة و كراهية لها كثورات العلويين،و ثورات الخوارج،و هي ثورات متصلة،قد دوخت السلطة،و أضعفت كيانها الاقتصادي و العسكري، و من الطبيعي ان هذه الثورات انما حدثت نتيجة لانتشار الظلم الاجتماعي، و فقدان العدل و المساواة بين المسلمين،و لو ان الحكومات الاموية سارت

ص: 316


1- مروج الذهب:(ج 3 ص 159-163).

في سياساتها الداخلية علي وفق الأهداف العليا التي ينشدها الاسلام في ظلال حكمه لما منيت بتلك الكوارث و الزعازع.

2-الدعوة الي العلويين:

و انعقدت في يثرب و الكوفة أحزاب سرية،و قد عملت بكل اجهزتها علي الدعوة للرضا من آل محمد(ص)و ارجاع الخلافة الاسلامية لأهل البيت(ع) و قد حفل منطق الدعوة بما يلي:

اولا-انها كانت تذيع بين المسلمين ما ورد في فضل العترة الطاهرة من الآيات و الاخبار التي تلزم المسلمين برعايتهم و مودتهم،و الرجوع إليهم و كان من اساليب الدعوة انهم يقولون للناس:

-هل فيكم احد يشك ان اللّه عز و جل بعث محمدا و اصطفاه؟ -لا -أ فتشكون ان اللّه أنزل عليه كتابه فيه حلاله و حرامه و شرائعه؟ -لا -أ فتظنونه خلفه عند غير عترته و اهل بيته؟ -لا -أ فتشكون ان اهل البيت معدن العلم،و أصحاب ميراث رسول اللّه(ص) الذي علمه اللّه؟ -لا (1)و قد سبب هذا الاسلوب الرائع التفاف المسلمين حول أهل البيت، و تعطشهم الي ايام حكمهم.

و كان المنصور الدوانيقي يجوب في الارياف و ينشد مديح اهل البيت

ص: 317


1- الكامل لابن الأثير(17/5)

و اكبر الظن انه قد عهد إليه القيام بهذه المهمة.

ثانيا-انها كانت تذيع ما جري علي آل النبي(ص)من النكبات و الخطوب مما يذيب لفائف القلوب،و يثير روح الحقد و الكراهية للامويين و يدفع الجماهير الي الثورة علي النظام القائم.

ثالثا-انها كانت تبشر بالأهداف الاصيلة،و المثل العليا التي تنشدها العترة الطاهرة في ظلال حكمها العادل من نشر الأمن و الدعة و الرفاهية بين الناس،و القضاء علي جميع الوان الغبن الاجتماعي،و الظلم الاجتماعي،و ان لا حكم يضمن للمسلمين كراماتهم،و يصون حقوقهم،و يحقق آمالهم الا في ظل حكم اهل البيت(ع)الذي هو امتداد لحكم الاسلام،و تطبيق لعدله و مساواته.

رابعا-انها كانت تقوم بافهام المسلمين بأن ما حل فيهم من المحن و النكبات في ظل الحكم الاموي انما هو من النتائج المباشرة لعملية فصل الخلافة عن أهل البيت الذين هم سدنة الوحي و عدلاء الذكر الحكيم،و ان الصدر الاول هم الذين فسحوا المجال بسقيفتهم الي القوي المعادية للاسلام ان تنزو علي منابر الحكم،و تستولي علي زمام السلطة فتمعن في اذلال المسلمين و ارغامهم علي ما يكرهون.

إن الصدر الاول لو تابعوا النبي(ص)فيما احتاط به لامته من جعل الخلافة في اعلام عترته،وقاية للامة من الانحراف،و صيانة لها من الزيغ و الضلال،و انطلاقا لها في ميادين التقدم الاجتماعي،لو انهم و اكبوا النبي(ص)و تابعوه لما حدثت تلك الخطوب و الرزايا في العالم الاسلامي، و ما مني بالحكم الاموي الذي اتخذ عباد اللّه خولا،و مال اللّه دولا.

لقد كانت هذه الدعوة الخلافة تشق طريقها في أجواء العالم الاسلامي و تغزو العواطف و المشاعر،فقد آمن بها المسلمون كقاعدة اساسية لتطورهم

ص: 318

الاجتماعي،و انقاذهم من جور الامويين و ظلمهم و استبدادهم.

لقد قامت الدعوة الي العلويين علي هذا الاساس من الوعي الديني و الوعي الاجتماعي،و مما يؤكد ذلك ان القاسم بن مجاشع احد قادة الدولة العباسية بعث بوصيته الي المهدي ليشهد فيها،و قد جاء في بنودها:

«شهد اللّه ان لا إله الا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط،لا إله الا هو العزيز الحكيم،ان الدين عند اللّه الاسلام،يشهد بذلك،و يشهد ان محمدا عبده و رسوله،و ان علي بن أبي طالب(ع)وصي رسول اللّه(ص) و وارث الامامة من بعده».

فلما قرأ المهدي الفقرات الأخيرة من الوصية رماها من يده،و نظر إليه نظرة غضب فقال له القاسم:أ ليس علي هذا كان خروجنا علي بني أمية؟فأجابه المهدي بأنهم قد عدلوا عن ذلك بعد أن استتب لهم الأمر وصفا لهم الملك.

و هذه البادرة تدل بوضوح علي ان الدعوة كان من صميمها التبشير بأن الامام امير المؤمنين(ع)وصي رسول اللّه(ص)و خليفته من بعده علي أمته،و انه مع اعلام ذريته ورثة علم النبي(ص)و سفن نجاة هذه الأمة،فلا بد ان تكون قيادة الامة لهم،و ان ترجع لهم السلطة العليا في الاسلام.

3-الاضطراب العام:

و شاع الاضطراب و انتشرت الفتن في جميع انحاء العالم الاسلامي فقد ساد عليه الخوف و الفزع من الحكم القائم،و قد وصف الشاعر الشهير الحارث ابن عبد اللّه الجعدي الحالة الراهنة في عموم البلاد بقوله:

أبيت ارعي النجوم مرتفقا (1) إذا استقلت تجري أوائلها

ص: 319


1- المرتفق:الواقف الثابت.

من فتنة اصبحت مجللة (1) قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان و العراق و من بالشام كان شجاه (2)شاغلها

فالناس منها في لون مظلمة دهماء مثلجة غياطلها

يمسي السفيه الذي يعنف بالجه ل سواء فيه و عاقلها

و الناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها

يغدون منها في كل مبهمة عمياء تمني لها غوائلها

لا ينظر الناس في عواقبها الا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر او كصيحة حب- لي طرقت حولها قوابلها

فجاء فينا أزري بوجهته فيها خطوب حمر زلازلها (3)

و قد جاء هذا الوصف رائعا دقيقا لحالة المواطنين،فقد ألم بما منوا به من الفتن و الاضطراب.و وصف حالة المجتمع شاعر آخر و هو العباس ابن الوليد بقوله:

إني اعيذكم باللّه من فتن مثل الجبال تسامي ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم فاستمسكوا بعمود الدين و ارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم إن الذئاب اذا ما ألحمت رتعوا

لا تبقرن بأيديكم بطونكم فثم لا حسرة تغني و لا جزع (4)

لقد انصبت الفتن علي المجتمع كالجبال-كما يقول ابن الوليد-من جراء سياسة الأمويين التي بنيت علي العسف و التنكيل بجميع المواطنين،).

ص: 320


1- مجللة:أي شاملة
2- شجاه:حزنه
3- تأريخ الطبري:(ج 9 ص 38).
4- تأريخ ابن الأثير:(ج 5 ص 105).

و كان من الطبيعي أن تحدث تلك الفتن انفجارا عاما لا تقف في وجهه أي قوة في العالم.

الثورة الكبري:

و انتفضت جميع الشعوب الاسلامية من أقصاها الي أدناها كالمارد الجبار و هي تحطم جميع القيود و الحواجز التي وضعت عليها،و هي تهتف بسقوط الحكم الأموي،و تدعوا للرضا من آل محمد(ص)و قد عجزت السلطات المحلية عن اخماد نار الثورة التي أخذت بالتوسع و الازدياد.

و نعرض فيما يلي-بإيجاز-الي بعض فصول تلك الثورة الكبري، و ما رافقته من أحداث.

مؤسسو الثورة:

و الشيء المحقق هو ان أول من صمم الثورة،و وضع مناهجها و أساليبها هم العلويون،و ذلك لما عانوه من ظلم الأمويين و جورهم،فانطلقوا يعملون جميع الوسائل لقلب الحكم الأموي،و ليس للعباسيين في بداية الأمر أي ضلع في ذلك،فقد كانوا بمعزل عن الاشتراك في أي عمل سياسي،و انما كانوا مسالمين للدولة،و مساندين لسياستها،و كان الأمويون يمنحونهم الهبات،و يوفرون لهم المزيد من العطاء لكسب و دهم،و اضعاف كيان العلويين،و كان المسلمون ينظرون إليهم نظرة عادية،و ذلك لعدم قيامهم بأي عمل ايجابي كان في صالح المجتمع الاسلامي.

و أما تبني العباسيين للثورة فانما كان بعد ما بدا الضعف و الانهيار في الحكم الأموي،و اطمئنوا بنجاح الثورة فانضموا الي العلويين،و قد اختلف

ص: 321

المؤرخون في كيفية انضمامهم الي الثورة فذهب فريق منهم الي أن أبا هاشم ابن محمد بن الحنفية الزعيم البارز في العلويين لما خشي سليمان بن عبد الملك أمره أخذ يستميله بالدعوة إليه فأجابه الي ذلك،و لما قدم عليه أظهر له الود،و قابله بمزيد من التبجيل و التكريم،و لكنه دبر قتله فدس له السم و هو في طريقه الي الحميمة التي يقطن بها العباسيون،و لما شعر بدنو أجله عهد بأمره الي محمد بن علي،و أفضي باسراره إليه،و عرفه بأسماء الدعاة في الاقطار،و ذهب بعض المؤرخين الي أن أبا هاشم لم يعهد بأمره الي محمد بن علي،و لكنه لما حل عنده و رأي ما فيه من ثقل حاله أخذ يستدرجه حتي أخبره بما عنده،و لما توفي عثر علي الملفات التي كانت فيها أسرار الدعوة و أسماء الدعاة (1).

و علي أي حال فقد تبني العباسيون منذ تلك اللحظة الأمر،و أخذوا يعملون علي تنسيق الثورة و تنظيمها.

مركز الثورة:

و انعقدت في يثرب الدعوة الي الثورة علي الحكم الأموي،و بعد اغتيال أبي هاشم انتقلت الي الحميمة ببلقاء الشام فصارت مركز الدعوة فبها كانت توضع المخططات،و تصمم المناهج الثورية و ترسل الي الدعاة في الكوفة التي هي الوطن الأم للدعوة العلوية،و ترسل أيضا الي الدعاة في خراسان التي عرفت بالنصب و العداء للامويين بسبب اضطهادهم للفرس و لميلهم الي التشيع.

و قد ارسلت الدعاة الي خراسان في زي التجار فقاموا ينشرون مساوئ الحكم الأموي،و يذكر ما حل بأهل البيت من الخطوب و النكبات،و قد

ص: 322


1- الامامة و السياسة 140/2-141

استجاب الخراسانيون للدعوة و انضموا إليها (1)و قد وصف خراسان محمد ابن علي للدعاة و أكد عليهم ببذل المزيد من النشاط فيها قائلا لهم:

«عليكم بخراسان فان هناك العدد الكثير،و الجلد الظاهر،و هناك صدور سليمة،و قلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء،و لم تتوزعها النحل، و هم جند لهم أبدان و أجسام و مناكب و كواهل و أصوات هائلة...و بعد فاني أتفاءل الي المشرق،و إلي مطلع سراج الدنيا و مصباح الخلق..» (2)و بذل الدعاة المزيد من نشاطهم في خراسان حتي تبلورت فيها الدعوة و قامت علي سوقها عبلة الذراع مفتولة الساعد فقد تفاني الخراسانيون في حمايتها و صيانتها،و اعتقدوا جازمين انها تقوم بحمايتهم من جور الأمويين و استغلالهم.

مؤتمر الأبواء:

و عقد الهاشميون مؤتمرا لهم في الأبواء تداولوا فيه شئون الدعوة، و تعيين المرشح للخلافة من بينهم،و قد حضره كل من ابراهيم الامام، و السفاح،و المنصور،و صالح بن علي،و عبد اللّه بن الحسن،و ابناه محمد و ابراهيم و محمد بن عبد اللّه بن عمرو،و غيرهم،و قام فيهم صالح بن علي خطيبا فقال:

«إنكم القوم الذين تمتد أعين الناس إليهم فقد جمعكم اللّه في هذا الموضع فاجتمعوا علي بيعة أحدكم،فتفرقوا في الآفاق،و ادعوا اللّه،لعل اللّه أن يفتح عليكم و ينصركم..»

ص: 323


1- الفخري(ص 122-123).
2- احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم(ص 293-294).

فانبري أبو جعفر المنصور فقال:

«لأي شيء تخدعون أنفسكم.و اللّه لقد علمتم ما الناس أميل أعناقا و لا أسرع إجابة منهم الي هذا الفتي-و أشار بيده الي محمد بن عبد اللّه بن الحسن-..» فانطلقوا جميعا يؤيدون مقالته قائلين:

«صدقت،إنا لنعلم هذا» و قاموا فبايعوا محمدا،و بايعه ابراهيم الامام،و المنصور و السفاح و سائر من حضر ذلك الاجتماع (1).

و لم يف العباسيون بهذه البيعة فقد خانوا بعهدهم،و نقضوا ميثاقهم فأخذوا يعملون بالخفاء لانفسهم فأفهموا الدعاة بذلك،و أوصوهم بالسر و الكتمان خوفا من انتفاضة العلويين عليهم،و عدم استجابة الناس لهم إذ لم تكن لهم أي ركيزة اجتماعية،و لم يكن لهم تأريخ ناصع،فلذا أوصوا الدعاة بالكتمان،و أمروهم بأن يدعوا الناس للرضا من آل محمد.

و علي أي حال فقد اتخذ العباسيون الدعوة الي العلويين شعارا لهم لينالوا ثقة الأمة،و يكسبوا ود أهل البيت و عطفهم.

انتخاب أبي مسلم:

و انتخب ابراهيم الامام عميد الأسرة العباسية غلامه أبا مسلم الخراساني قائدا عاما للحركة الانقلابية،و الزم الدعاة و الشيعة بطاعته فقد جاء في كتابه الذي كتبه الي من في الكوفة و خراسان من الشيعة«إني قد أمرت أبا مسلم

ص: 324


1- مقاتل الطالبيين(ص 256).

بأمري فاسمعوا له و أطيعوا،و قد أمرته علي خراسان و ما غلب عليه» (1).

و كان عمر أبي مسلم يومئذ تسعة عشر سنة حسب ما أجمع عليه المؤرخون و كان يقظا حساسا حديدي الارادة،فاتكا غادرا لم يعرف الرحمة و الرأفة و كان من أمهر السياسيين في حياكة المؤامرات و الدسائس.

و قد دهش الجميع لترشيح أبي مسلم لهذا المنصب الخطير نظرا لحداثة سنة،و قلة تجاربه،و قد أبي جمع من الدعاة طاعته،و الانصياع لأوامره الا ان ابراهيم الامام الزمهم بالسمع و الطاعة له (2)فلم يجدوا بدا بعد ذلك من متابعته (3).

وصية ابراهيم لأبي مسلم:

و أوصي ابراهيم الامام غلامه بهذه الوصية الحافلة بالإثم و المنكر و الخروج عن الدين فقد جاء فيها:

«يا عبد الرحمن،إنك منا أهل البيت فاحفظ وصيتي:انظر هذا الحي من اليمن،فأكرمهم و حل بين ظهرانيهم،فان اللّه لا يتم هذا الأمر الا بهم.و انظر هذا الحي من ربيعة،فاتهمهم في أمرهم.و انظر هذا الحي من مضر،فانهم العدو القريب الدار.فاقتل من شككت في أمره و من وقع في نفسك منه شيء.و إن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم

ص: 325


1- الطبري احداث سنة 128 ه-
2- تأريخ ابن الأثير 295/4
3- لقد قتل أبو مسلم جميع من عارض في اختياره حسب ما نص عليه المؤرخون.

بالعربية فافعل.فأيما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله..» (1).

و ان صحت هذه الوصية فانها تدل علي أن الرجل لا عهد له بالمثل الانسانية،و لا علاقة له بالاسلام الذي احتاط بالدماء و حرم سفكها بغير حق.

لقد أخذ أبو مسلم بوصية ابراهيم فأسرف في اراقة الدماء،و انتهاك الحرمات،فقتل ستمائة الف عربي بالسيف صبرا عدا من قتل في الحرب -حسب ما نص عليه المؤرخون-فأشاع الحزن و الحداد و الثكل في بلاد المسلمين،و هو أمر لا يقدم عليه من كانت له أي نزعة دينية أو انسانية

في خراسان:

و بعد أن تم ترشيح أبي مسلم زعيما للقيادة العسكرية من بني العباس توجه من فوره الي خراسان ليقود المناضلين الي ساحة الحرب للاجهاز علي الحكم الأموي،و حين وصوله التقي بالدعاة و الزعماء فخطب فيهم قائلا:

«اشعروا قلوبكم الجرأة فانها من أسباب الظفر،و اكثروا ذكر الضغائن فانها تبعث علي الاقدام،و الزموا الطاعة فانها حصن المحارب...» (2).

و أخذ ينظم الحركة تنظيما رائعا دقيقا،يصور للناس فساد الحكم الأموي و ما يسومهم به من الظلم و الارهاق،و انه سوف ينشر العدل و الدعة و الرفاهية فيما بينهم حتي استجابت له القلوب و رحبت به جماهير الخراسانيين و التفوا حوله،و بذلك فقد تكونت النواة الأولي لجيوش بني العباس.

ص: 326


1- تأريخ ابن الأثير 295/4
2- العقد الفريد 158/1

و الشيء الوحيد الذي استطاع أن يحرز به أبو مسلم النصر،و يتغلب به علي الاحداث هو استغلاله للعصبية القبلية في خراسان فقد كان اليمانيون مع خلاف مع المضريين،و اخذ أبو مسلم يغذي هذه الظاهرة العدائية، و يوقدها.فكلما أوشك شملهم ان يجتمع علي حربه أوغر صدور طائفة علي الأخري،و أثار الموتور بطلب الثأر من واتره،و بذلك فقد شغلهم عن مناجزته حتي تم له الأمر.

مع نصر بن سيار:

و لما رأي نصر بن سيار قوة أبي مسلم،و استحكام نفوذه أرسل الي العاهل الأموي مروان رسالة يستنهضه فيها الي مساعدته،و يستمد منه العون قبل أن تحترق حكومته بنار الثورة،و كتب في رسالته هذه الأبيات الحماسية:

أري خلل الرماد وميض نار و يوشك أن يكون لها ضرام

فان النار بالعيدان تذكي و ان الحرب أولها كلام

فان لم يطفئها عقلاء قوم يكون وقودها جثث و هام

أقول من التعجب:ليت شعري أ أيقاظ أمية أم نيام

فان كانوا لحينهم نياما فقل قوموا فقد حان القيام

و عجز مروان عن اجابته فكتب إليه يخبره بضعفه،و عجزه عن اخماد تلك النار بقوله:«يري الشاهد ما لا يراه الغائب».

و لما يئس نصر من نجدته استنجد بوالي العراق يزيد بن عمرو بن هبيرة،و كتب إليه رسالة،و ختمها بهذه الابيات:

أبلغ يزيد و خير القول أصدقه و قد تبينت أن لا خير في الكذب

ص: 327

بأن أرض خراسان رأيت بها بيضا اذا أفرخت حدثت بالعجب

فراخ عامين إلا انها كبرت و لم يطرن و قد سربلن بالزغب

فان يطرن و لم يحتل لهن بها يلهبن نيران حرب أيما لهب

فقال يزيد لحامل الرسالة:«قل لصاحبك:لا غلبة الا بكثرة، فليس له عندي رجل) (1).

و فكر نصر في الخروج من الأزمة،فأرسل الي كل من الكرماني و شيبان الخارجي هذه الابيات يقول:

ابلغ ربيعة في مرو،و من يمن ان اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب

و لينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا حربا،يحرق في حافاتها الحطب

ما بالكم تنشبون الحرب بينكم كأن أهل الحجا عن رأيكم عيب

و تتركون عدوا قد أحاط بكم ممن تجمع لا دين و لا حسب

لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم و لا صريح موال،ان هم نسبوا

قوم يقولون قولا ما سمعت به عن النبي و لا جاءت به الكتب

من كان يسألني عن أصل دينهم فان دينهم أن يقتل العرب (2)

و لم تجد محاولات نصر في التغلب علي الأحداث فقد أخذت الثورة تتسع،و حواضر خراسان تسقط واحدة اثر أخري،و كان أبو مسلم يطرب من النصر الذي أحرزه و ينشد:

أدركت بالحزم و الكتمان ما عجزت عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا

ما زلت أسعي بجهدي في دمائهم و القوم في غفلة بالشام قد رقدوا/4

ص: 328


1- تاريخ ابن الأثير 305/4
2- تأريخ ابن الأثير 304/4

حتي طرقتهم بالسيف فانتبهوا من نومة لم ينمها قبلهم أحد

و من رعي غنما في أرض مسبعة و نام عنها تولي رعيها الاسد (1)

و انبرت جيوش أبي مسلم تحتل المدن و الحصون،و تلحق بالعدو الخسائر الفادحة في الارواح و الاموال،و لم يستطع نصر الوقوف أمام تلك القوي الهائلة فانهزم راكبا جواده،و سلك المفازة بين الري و همذان فمات في مجاهلها كمدا (2).

و احتل أبو مسلم خراسان،و ما والاها من المدن و القري،و اتجه بعد ذلك الي تحرير العراق،و سارت جيوشه كالموج تخفق عليها الرايات السود التي هي شعار بني العباس،فقامت باحتلال العراق من دون أن تلقي أي مقاومة،و قد برزت بذلك حكومة بني العباس علي يدي أبي مسلم.

اما الحديث عن سقوط الدولة الاموية،و مقتل عاهلها مروان و ما لاقاه الامويون من صنوف الجهد و التنكيل من بني العباس فسوف نتحدث عنه عند البحث عن عهد السفاح.

ان الحديث عن العوامل التي أدت الي سقوط الدولة الاموية أمر تقتضيه ضرورة البحث عن حياة الامام موسي(ع)فقد قطع شوطا من حياته،و هو يسمع بتلك الازمات الاجتماعية التي غيرت مجري الحياة العامة فقد بلغ عمره الشريف حين سقوط الدولة الاموية احدي عشر سنة و هو دور يسمح لصاحبه أن ينقل الي دخائل نفسه كثيرا من المشاهدات و الصور التي تمر عليه.و قد رأي انحراف الثورة عن مجراها فقد كان باعثها ارجاع/2

ص: 329


1- وفيات الاعيان 282/1
2- مروج الذهب 204/2

الحكم لأهل البيت(ع)حتي تنعم الأمة بالعدل و الرفاهية و الدعة و الاستقرار و لكنها مع الاسف قد حملت الخلافة الي بني العباس،و إذا بهم يمعنون في قتل العلويين و مطاردتهم،و التنكيل بهم،و إذا ببيوت العلويين يعمها الأسي و الثكل و الحداد،و من الطبيعي ان لذلك أثرا بالغا في نفس الامام موسي(ع) فقد اترعت نفسه بالاسي الشديد و الحزن العميق.

ص: 330

في عهد السّفاح

اشارة

ص: 331

ص: 332

البيعة لأبي العباس السفاح

اشارة

و استقبلت الكوفة بيعة أبي العباس السفاح بكثير من الوجوم و القلق و الاضطراب لان الدولة الاموية لا تزال قائمة،و هي تسيطر علي أغلب الاقاليم الاسلامية،و العاهل الأموي مروان معسكر علي نهر الزاب في جيش ضخم يزيد علي مائة الف من فرسان الجزيرة و الشام و الموصل، و ليس مع الخليفة العباسي سوي خراسان و اطرافها،و الكوفة و لم تدخل البصرة و لا واسط في اطار البيعة...مضافا الي أن الدعوة للخلافة انما كانت للرضا من آل محمد،و لم يرد ذكر لبني العباس،فان الجماهير انما خاضت التيارات النضالية من أجل العلويين الذين هم الركيزة الاولي للعدل الاجتماعي،و ضمان مصالح الأمة.

و لم يدر في خلد احد ان الخلافة تؤول الي بني العباس لأن النفوس كانت مترعة بالشكوك و الريبة منهم،فان منهم من عرف بالغدر و الخيانة للامة في أدق ظروفها،و أحرج ساعاتها،كعبيد اللّه بن العباس الذي خان اللّه و رسوله بانضمامه الي معسكر معاوية في غلس الليل البهيم بعد أن قبض الرشوة،و ترك سبط النبي(ص)..و مما زاد في ارتياب المسلمين منهم انهم كانوا مسالمين للحكم الاموي في جميع فتراته،و لم يقوموا بأي عمل ايجابي في مناهضة جور الامويين و ظلمهم.

و علي أي حال فقد استقبلت الكوفة-في يوم الجمعة 12 ربيع الاول سنة 132 ه- موكب أبي العباس السفاح و هو متجه الي الجامع،و بعد اداء فريضة الصلاة ارتقي ابو العباس أعواد المنبر،و كان موعوكا فخطب الناس خطبة رائعة بليغة اثني فيها علي بني العباس،و قد جاء فيها:

«يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا،و منزل مودتنا،أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك،و لم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم،حتي أدركتم زماننا، و أتاكم اللّه بدولتنا،فأنتم أسعد الناس بنا،و اكرمهم علينا و قد زدتكم في

ص: 333

أعطياتكم مائة درهم فأنا السفاح المبيح،و الثائر المنيح...» (1).

و انبري من بعده عمه داود بن علي فخطب في الناس خطابا بليغا أثني فيه علي بني العباس و ذم فيه بني أمية،و جاء فيه:

«أيها الناس:إنا و اللّه ما خرجنا في طلب هذا الامر لنكثر لجينا و لا عقيانا (2)و لا نحفر نهرا،و لا نبني قصرا،و إنما أخرجتنا الأنفة من ابتزازهم حقنا،و الغضب لبني عمنا،و ما كرهنا من أموركم،فلقد كانت أموركم ترمضنا (3)و نحن علي فرشنا.و يشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم و استنزالهم (4)لكم و استئثارهم بفيئكم و صدقاتكم و مغانمكم عليهم،لكم ذمة اللّه تبارك و تعالي و ذمة رسوله(ص)و ذمة العباس رحمه اللّه علينا أن نحكم فيكم بما انزل اللّه،و نعمل فيكم بكتاب اللّه،و نسير في العامة و الخاصة بسيرة رسول اللّه(ص)...».

و أخذ يمني أهل الكوفة بالصلة و العطاء،و يكيل لهم الوعود،و قد اشرأبت إليه الاعناق،و اصغت إليه الاسماع،و هو يؤكد لهم ان الدولة الجديدة ستحقق لهم العدل السياسي و العدل الاجتماعي،و تسير فيهم بسياسة قوامها الحق المحض..ثم نزل ابو العباس عن المنبر و معه عمه داود بن علي حتي دخل قصر الامارة،و بقي أبو جعفر المنصور في المسجد يأخذ البيعة فيه علي الناس،فلم يزل يأخذها عليهم حتي صلي بهم العصر ثم المغرب و العشاء الي ساعة متأخرة من الليل (5)./4

ص: 334


1- في الطبري«و الثائر المبير».
2- اللجين:الفضة،العقيان:الذهب الخالص
3- ترمضنا:أي تحرقنا
4- في الطبري«و استذلالهم»
5- تأريخ ابن الاثير 325/4

و لم يطل أبو العباس الاقامة في الكوفة التي هي مقر العلويين فخرج منها و أقام بمعسكر أبي سلمة الخلال-في حمام أعين-،و بعدها أخذ في بناء(الهاشمية)لتكون عاصمة لدولته.

وقعة الزاب:

و حينما تولي ابو العباس السفاح منصب الخلافة ارسل قواته المسلحة بقيادة محمد بن عبد اللّه بن علي لقتال العاهل الاموي مروان الحمار،و سار عبد اللّه يطوي البيداء بجيشه الضخم،فالتقي بجيش العدو بالزاب قرب الموصل، و كانت رايات بني العباس تحملها الرجال علي الجمال البخت (1)و قد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف و الغرب،فلما رآها مروان ذهل و قال لمن حوله:

«أ ما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا!!أ ما ترون أعلامهم فوق هذه الابل كأنها قطع الغمام السود!!».

و بينما هو ينظر إليها،و قد طار قلبه رعبا و فزعا اذ نفرت قطع كبيرة من الغربان السود،فنزلت علي اول عسكر عبد اللّه بن علي فاتصل سوادها بسواد تلك الرايات فصارت كالليل البهيم،فازداد فزع مروان و انبري يقول:

«أ ما ترون الي السواد قد اتصل بالسواد حتي صار الكل كالسحب السود المتكاثفة!!».

و أقبل مروان علي رجل الي جانبه فقال له:بنبرات تقطر فزعا و خوفا -أ لا تعرفني من صاحب جيشهم؟».

ص: 335


1- البخت:نوع من الأبل الواحد بختي.

-عبد اللّه بن علي بن العباس بن عبد المطلب.

-ويحك أمن ولد العباس هو؟ -نعم -و اللّه لوددت أن علي بن أبي طالب مكانه في هذا الصف.

لقد ايقن مروان بالمصير المحتوم،و تمني أن يكون الفاتح الامام امير المؤمنين(ع)ليقابلهم بالعفو و الاحسان،و يصفح عنهم،و لم يفهم الرجل مقالة مروان،و دار في خلده أنه يتهم الامام بالجبن فانبري إليه قائلا:

-أ تقول هذا لعلي مع شجاعته؟ -ويحك ان عليا مع شجاعته صاحب دين،و ان الدين غير الملك، و إنا نروي عن قديمنا أنه لا شيء لعلي و لا ولده في هذا» (1).

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين،و ما عتمت جيوش الامويين ان تحطمت شر تحطيم،فانهزم مروان و ولي منكسرا مع بعض فلول جيشه حتي أتي الموصل فمنعه أهلها من الدخول إليها خوفا من نقمة الجيش العباسي المنتصر و ولي منهزما نحو حران،و لكنه لم يستطع البقاء فيها فانحدر نحو مدينة حمص و الجيش العباسي يلاحقه،و التحق بدمشق فأراد و إليها نصرته الا انه لم يستطع لضيق الوقت،فقد زحف العدو وراءه،فتوجه الي الاردن فوجدها قد رفعت اعلام بني العباس فحاد عنها،و نزل في فلسطين،و علم مروان ان دمشق قد سقطت بأيدي العباسيين فاستولي عليه الرعب،فترك مقامه في فلسطين و اتجه الي مصر فنزل في قرية(بوصير)و أقام في كنيسة كانت فيها فأدركته كتائب صالح بن علي في ليلة مظلمة،و دارت بين الفريقين معركة دامية قتل فيها مروان و انبري إليه شخص من أهل الكوفة فاحتز رأسه).

ص: 336


1- شرح ابن أبي الحديد(134/7).

و استخرج لسانه فجاءت هرة فاختطفته منه (1).

و انتهت بذلك الدولة الأموية التي حكمت بالظلم و الجور،و عاثت فسادا في الارض،فاتخذت مال اللّه دولا،و عباد اللّه خولا،و قد انتقم اللّه منهم أمرّ الانتقام و أشده فجعل ملكهم هباء و نصرهم جفاء،و كتب لهم الخزي و العار علي ممر العصور الصاعدة.

و حمل رأس مروان الي أبي العباس السفاح فلما رآه سجد و أطال السجود ثم رفع رأسه،و قال:

«الحمد للّه الذي لم يبق ثأرنا قبلك و قبل رهطك،الحمد للّه الذي أظفرنا بك،و أظهرنا عليك.ما أبالي متي طرقني الموت،و قد قتلت بالحسين(ع)ألفا من بني أمية،و أحرقت شلو هشام بابن عمي زيد كما أحرقوا شلوه.ثم تمثل:

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم و لا دماؤهم جمعا ترويني

و حول وجهه الي القبلة فسجد ثانية و تمثل:

أبي قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواطع في ايماننا تقطر الدما

اذا خالطت هام الرجال تركتها كبيض نعام في الثري قد تحطما

و التفت الي حضار مجلسه فقال لهم:اما مروان فقتلناه بأخي ابراهيم و قتلنا سائر بني أمية بحسين،و من قتل معه،و بعده من بني عمنا أبي طالب (2)،و قد رسخ بذلك ملك بني العباس و أصبح السفاح ملكا علي المسلمين في جميع أقطارهم.).

ص: 337


1- مختصر أخبار الخلفاء.
2- شرح ابن أبي الحديد(131/7).

هرب الأمويين:

و لما انهارت الدولة الأموية فزع الأمويون،و امتلأت قلوبهم بالذعر و الهلع فهام بعضهم علي وجهه في البيداء،و من الهاربين عبد اللّه و عبيد اللّه ابنا مروان،و معهما لمة من نسائهم و اصحابهم،فوافوا بلاد«النوبة»فأكرمهم عظيمها،و أرادوا اللجوء الي بلاده فأبي خوفا من سلطة العباسيين،فخرجوا خائفين حتي انتهوا الي«بجاوة»فقاتلهم عظيمها،و انصرفوا يريدون اليمن و قد اترعت نفوسهم بالجزع و الذعر فعرض لهم طريقان بينهما جبل فسلك كل واحد منهما في طريق و هما يعتقدان انهما يلتقيان بعد ساعة.

فسارا تمام اليوم فلم يلتقيا،و راما الرجوع فلم يمكنهما ذلك،فسارا أياما فلقي عبيد اللّه(منسرا)من مناسر الحبشة فقاتلهم و أخيرا قتل عبيد اللّه و استأسر أصحابه و نهب الحبشيون جميع ما عندهم من الأمتعة و تركوهم عراة حفاة حتي هلكوا من العطش فكان الرجل منهم يبول في يده و يشربه و يبول و يعجن به الرمل و يأكله حتي لحقوا عبد اللّه بن مروان و قد ناله من العناء و الشدة اكثر مما نالهم و معه عدة من حرمه و هن عراة حفاة قد تقطعت أقدامهن من المشي و شربن البول حتي تقطعت شفاههن و قد وافوا(المندب)فأقاموا به شهرا و جمع الناس لهم شيئا ثم خرجوا يريدون مكة و هم في زي الحمالين (1).

لقد صب اللّه عليهم هذا العذاب الشديد و الخوف المرهق فجعلهم من أعظم العظات و العبر لأعداء الشعوب.

ص: 338


1- اليعقوبي:(ج 3 ص 84-85)،العقد الفريد:(ج 3 ص 198-199).

الإبادة الشاملة:

اشارة

و اخذت الحكومة العباسية تطارد الأمويين و تستأصل شأفتهم بغير هوادة و لا رحمة فأشاعت فيهم القتل و أبادتهم تحت كل حجر و مدر،و فيما يلي بعض ما لاقوه من الابادة و التنكيل:

1-في البصرة:

و قام سليمان بن علي في البصرة بقتل الأمويين و التنكيل بهم،فأعدم منهم جماعة ثم أمر بهم فجروا بأرجلهم و القوا في الطرق حتي أكلتهم الكلاب،و قد اختفي كثير منهم كعمر بن معاوية فقد بقي وقتا طويلا خائفا متسترا حتي صافت به الارض فالتجأ الي سليمان بن علي فوقف علي رأسه و هو لا يعرفه فقال له و قد بدت عليه الذلة و الانكسار:

-لفظتني البلاد إليك.و دلني فضلك عليك،فاما قتلتني فاسترحت و إما رددتني سالما فأمنت.

-من أنت؟ فعرفه بنفسه فرق له و قال له:

-مرحبا بك،ما حاجتك؟ -إن الحرم اللواتي أنت أولي الناس بهن،و أقربهم إليهن قد خفن لخوفنا.

-حقن اللّه دمك و وفر مالك.

ثم آمنه و كتب بذلك الي السفاح فأقرّ أمنه (1).

ص: 339


1- الكامل:(ج 5 ص 206).
2-في مكة و المدينة:

و قتل داود بن علي جماعة منهم بمكة و المدينة،و قد انشده ابراهيم بن هرمة أبياتا يحفزه فيها علي الاستمرار في تتبعهم و القضاء عليهم قائلا:

فلا عفا اللّه عن مروان مظلمة و لا أمية بئس المجلس البادي

كانوا كعاد فأمسي اللّه أهلكهم بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلن يكذبني من هاشم أحد فيما أقول و لو أكثرت تعدادي (1)

و قد تأسف الشيخ محمد الخضري علي ما صنعه بهم داود بن علي فقال:

«حتي لم يبق منهم احدا ارضاء لشهوة الانتقام التي تمسكت في قلوب بني العباس و لم تخجلهم تلك الوحشية القاسية..» (2).

لقد تأسف الخضري علي مقتل الأمويين و لم يأسف علي ما فعلوه بعترة النبي الأعظم من القتل و السبي،و بما انزلوه بأحرار المسلمين من التنكيل و الارهاق و التعذيب و غير ذلك من الفضائع و الفضائح،و كان من المحتم ان يلاقوا ذلك،فقد كتب اللّه علي الظالمين اللعنة و الخزي،و أجري في قضائه انه لا بد أن يلاقوا مصيرهم الحافل بالخسران و سوء المصير،و لكن الخضري لا ينظر الي الواقع إلا بمنظار أسود،قد أكلت العصبية قلبه،فهام بحب اسياده الأمويين فبكي لحالهم و تألم علي مصيرهم.

3-في الحيرة:

و لما استتب الأمر الي أبي العباس أخذ يتتبع الأمويين فلم يظفر بأحد منهم حتي نفذ فيه حكم الاعدام لأجل تدعيم ملكه و سلطانه،و إرضاء لأبناء عمومته العلويين،و رعاية لعواطف اكثر المواطنين الذين نكبتهم السلطة

ص: 340


1- مختصر تأريخ الخلفاء(ص 4).
2- المحاضرات:(ص 49).

الأموية،و قد استأمنه سليمان بن هشام بن عبد الملك فآمنه فدخل عليه في الحيرة و معه جماعة من الأمويين،و بينما هم جلوس إذ دخل عليه حاجبه فقال له:

«يا أمير المؤمنين:رجل حجازي أسود،راكب علي نجيب متلثم يستأذن و لا يخبر باسمه،و يحلف أن لا يحسر اللثام عن وجهه حتي يراك!!» -هذا مولاي سديف فليدخل.

فدخل سديف،فلما رأي السفاح و حوله بنو أمية قد جلسوا علي النمارق و الكراسي تحرق قلبه من الغيظ و انبري مستأذنا منه ليتلو عليه أبياته الحماسية فأذن له فاندفع قائلا و هو مغيظ محنق:

أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس

بالصدور المقدمين قديما و الرءوس القماقم الرّواس

يا أمير المطهرين من الذم و يا رأس منتهي كل رأس

أنت مهدي هاشم و هداها كم أناس رجوك بعد إياس

لا تقيلن عبد شمس عثارا و اقطعن كل رقلة و غراس

انزلوها بحيث أنزلها اللّه بدار الهوان و الاتعاس

خوفهم أظهر التودد منهم و بهم منكم كحر المواسي

و اذكروا مصرع الحسين و زيدا و قتيلا بجانب المهراس

و الامام الذي بحران أمسي رهن قبر ذي غربة و تناسي

و ألهبت هذه الأبيات قلب السفاح فأخذ الغيظ منه مأخذا عظيما حتي بان علي سحنات وجهه فشعر بذلك بعض الأمويين فانطلق يقول:

«قتلنا و اللّه العبد» و أخذ السفاح يتحرق قلبه غيظا و موجدة،و صاح بالخراسانيين:

خذوهم،فانبري إليهم الخراسانيون بالدبابيس فضربوهم ضربا بالغا حتي

ص: 341

سقطوا علي وجوههم،و أمر السفاح ان يمد عليهم خوان الطعام،ففرش عليهم الخوان،و وضع عليهم الطعام،و جلس السفاح مع حاشيته يتناولون الغذاء و هم يسمعون أنينهم حتي هلكوا عن آخرهم و بدي الفرح علي وجه السفاح فقال:

-ما أكلت في عمري أكلة أهنأ من هذه الأكلة..».

ثم رفع الطعام عنهم،و سحبت جثثهم فرميت بالطرق فأكلت الكلاب أكثرها (1)و أطل عليهم سديف و هو مثلوج القلب ناعم الفكر فانبري قائلا:

طمعت أمية أن سيرضي هاشم عنها و يذهب زيدها و حسينها

كلا و رب محمد و إلهه حتي يبيد كفورها و خئونها (2)

و لما فرغ السفاح من قتل الأمويين،و محاهم من دنيا الوجود اندفع و هو جذلان مبتهج يقول:

بني أمية قد أفنيت جمعكم فكيف لي منكم بالأول الماضي

يطيّب النفس ان النار تجمعكم عوضتم من لظاها شر معتاض

منيتم لا أقال اللّه عثرتكم بليث غاب الي الأعداء نهاض

إن كان غيظي لفوت منكم فلقد منيت منكم بما ربي به راضي

و هكذا كانت نهاية الظالمين و اعداء الشعوب القتل و الدمار و الخزي و العار

نبش قبور الأمويين:

و تتبع العباسيون خصومهم الأمويين أحياء فأبادوهم-كما ذكرنا-و انعطفوا علي أمواتهم فنبشوا قبورهم،و أحرقوا ما تبقي من عظامهم النخرة و جري ذلك بعد ما احتلت الجيوش العباسية دمشق فأمر عبد اللّه بن علي القائد العام للقوات

ص: 342


1- مختصر أخبار الخلفاء:(ص 10).
2- العقد الفريد:(ج 3 ص 207).

المسلحة بنبش قبورهم فنبشوا قبر الطاغية معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الرماد،و نبشوا قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا فيه جمجمة و نبشوا قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد،و أخرج جسد هشام بن عبد الملك فضرب بالسياط،و صلب ثم أحرق و ذر في الهواء (1)الي هنا ينتهي بنا الحديث عن الأمويين و ما جري عليهم من الاندحار و الدمار

السفاح و العلويون:

و لم يكن من المتوقع عند احد ان يفوز العباسيون بالخلافة لأن الثورة الكبري التي اطاحت بالحكم الاموي انما كانت من اجل العلويين،فقد كانت هتافات المتظاهرين بالدعوة«الي الرضا من آل محمد»و كانت هذه الدعوة شعار الثوار الذين بذلوا المزيد من التضحيات في سبيلها،و كان العباسيون أنفسهم لا يحلمون بذلك فقد بايع السفاح و أخوه المنصور محمدا ذا النفس الزكية،و لكن الاقدار قد حولت الأمر عن العلويين،و حملته الي العباسيين.

و لما صفا الملك لأبي العباس جهد في ارضاء العلويين فمنحهم بالعطاء الجزيل،و قابلهم بشتي الوان التبجيل و التكريم،و قضي علي خصومهم الامويين،و كانت العلاقة فيما بينهما ظاهرا علاقة ود و صفاء،و اما في الواقع فان العلويين قد انطوت نفوسهم علي الحزن العميق،و الأسي الشديد و ذلك لمكيدة العباسيين بهم و استئثارهم بالخلافة من دون ان يأخذوا رأيهم في الأمر.

و علي أي حال فان العلويين قد وفدوا علي أبي العباس و هو في الانبار

ص: 343


1- الكامل:(ج 5 ص 205).

يهنئونه بالخلافة،و لم يفد عليه محمد و ابراهيم فرابه ذلك،و التفت الي ابيهما عبد اللّه فقال له:

-ما منعهما أن يفدا مع من وفد علي من أهل بيتهما؟ -ما كان تخلفهما لشيء يكرهه أمير المؤمنين.

فقبل السفاح العذر علي مضض و كره،و مما زاد في قلق السفاح و اضطرابه من محمد و أخيه أنه لما بني مدينة الانبار التي اتخذها عاصمة له دخلها مع أخيه أبي جعفر،و عبد اللّه بن الحسن،و هو يسير بينهما، و يطلعهما علي ما في المدينة من المصانع و القصور فظهرت من عبد اللّه فلتة فجعل يتمثل بهذين البيتين:

أ لم تر جوشنا قد صار يبني قصورا نفعها لبني نفيلة (1)

يؤمل أن يعمر عمر نوح و أمر اللّه يحدث كل ليلة (2)

فتغير وجه أبي العباس،فالتفت ابو جعفر المنصور الي عبد اللّه فقال له:

-أ تراهما ابنيك و الأمر صائر إليهما لا محالة؟ -لا و اللّه ما ذهبت،و لا أردته،و لا كانت الا كلمة جرت علي لساني لم الق لها بالا.

و قد أوحشت هذه الكلمات قلب السفاح فلما عزم العلويون علي الخروج الي يثرب اجزل لهم العطاء و بعث معهم رجلا من ثقاته فقال له:قم بانزالهم و لا تأل في الطافهم،و كلما خلوت معهم فاظهر الميل إليهم،و التحامل علينا،و علي ناحيتنا،و انهم احق بهذا الأمر منا،و احص لي ما يقولون و ما يكون منهم في مسيرهم و مقدمهم.م»

ص: 344


1- في زهر الآداب«أ لم تر حوشبا لما تبني»
2- في المقاتل«ان يعمر الف عام»

و حينما وصل عبد اللّه الي يثرب اجتمع به ولده،و سألوه عن كل صغيرة و كبيرة فأخذ يشرح لهم الحالة،و حفزهم علي الثورة،و كان ذلك الرجل حاضرا فحفظ جميع ما دار بينهم فلما عاد الي ابي العباس اطلعه علي جميع ما شاهده من بني الحسن فوغر صدره عليهم،و اشتد غضب المنصور عليهم.

و أخذ الذين يتزلفون الي السلطة يختلقون السعايات و يفتعلون الوشايات بأن العلويين يدعون الناس الي خلع بيعة السفاح،فضاق السفاح بذلك ذرعا،و كتب الي عبد اللّه كتابا شفعه بهذا البيت:

أريد حياته و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

فأجابه عبد اللّه برسالة فند فيها تلك المزاعم،و كتب في آخرها هذه الأبيات:

و كيف يريد ذاك و أنت منه بمنزلة النياط من الفؤاد

و كيف يريد ذاك و أنت منه و زندك حين يقدح من زناد

و كيف يريد ذاك و أنت منه و أنت لهاشم رأس و هاد (1)

و اطمأن بذلك ابو العباس،و سكن روعه الا ان أبا جعفر المنصور كان يحثه،و يدفعه الي الايقاع بمحمد و ابراهيم فزجره السفاح و قال له:

«من شدد نفر،و من لان تأسف،و التغافل من سجايا الكرام» (2)و سلك مع العلويين مسلك السياسي المحنك فلم يقابلهم بأذي و لا مكروه، بل كان يتظاهر بالود و العطف عليهم.1)

ص: 345


1- تأريخ اليعقوبي(97/3).
2- شذرات الذهب(159/1)

موقف الامام الصادق:

اشارة

و تميز موقف الامام الصادق(ع)بالحياد،و الالتجاء الي الدعة و السكون و عدم القيام بأي نشاط سياسي فانه كان يعلم باخفاقه،و عدم عائدته علي الأمة بأي مكسب سوي الضرر الشامل الذي يفتك بالمجتمع و يجر له كثيرا من النكبات و الخطوب.

و قد أصر الامام علي هذه الخطة السليمة في موقفه مع العلويين تارة و مع دعاة الدولة العباسية أخري،و فيما يلي إيضاح ذلك:

1-مع العلويين:

و استشف الامام الصادق(ع)من وراء الغيب أن الخلافة بعد سقوط الدولة الاموية لا بد أن تؤول الي العباسيين،و ليس للعلويين فيها أي نصيب و كان يمعن في نصحهم،و تحذيرهم من التصدي لطلب الحكم،و قد روي المؤرخون بوادر كثيرة مما أثر عنه في هذا المجال،فقد رووا أن العلويين و العباسيين أيام الحكم الاموي اجتمعوا و اتفقوا علي أن يبايعوا محمدا ذا النفس الزكية،فأرسلوا خلف الامام الصادق(ع)و عرضوا عليه ذلك فنهاهم عنه،و قال لهم:

«لا تفعلوا فان الأمر لم يأت بعد».

فغضب عبد اللّه بن الحسن و حسب ان ذلك حسد لابنه،فنظر إليه الامام نظرة رحمة و اشفاق و قال له:

«لا و اللّه،ما ذاك يحملني،و لكن هذا-و أشار الي أبي العباس السفاح-و اخوته و ابناؤهم دونكم».

ص: 346

و نهض الامام متأثرا،فتبعه عبد الصمد،و أبو جعفر المنصور فقالا له:

«يا أبا عبد اللّه أ تقول ذلك»؟ «نعم و اللّه أقوله و أعلمه» (1).

و بالغ(ع)في نصحه لعبد اللّه في ان يعزب عن هذا الأمر،و لا يورط نفسه و ابنيه فيه،و قد قال(ع)له:

«انها-اي الخلافة-و اللّه ما هي إليك،و لا الي ابنيك،و لكنها لهؤلاء-و أشار الي بني العباس-و ان ابنيك لمقتولان» (2).

ان هذا العلم،و هذا الايحاء مستمد من علم رسول اللّه(ص)فهم اوصياؤه و ورثة علمه،و سدنة حكمته،و موطن أسراره.

لقد منح(ع)ابناء عمه بالنصيحة،و أشار عليهم بما فيه نجاتهم، و أعلمهم بأنهم لن ينالوا هذا الأمر،و لو تابعوه لجنبوا نفوسهم المهالك و المصاعب،و ما فجعوا الأمة برزاياهم،و لكنهم-رضي اللّه عنهم-لهم عذرهم-في ذلك-فقد لاقوا المزيد من الذل و الهوان من تلك السلطات المستهترة التي لم تأل جهدا في قهرهم و ارغامهم علي ما يكرهون فانطلقوا الي ساحات الجهاد أحرارا و ماتوا كراما تحت ظلال الاسنة، و سوف نعرض ذلك بمزيد من التفصيل عند البحث عن عهد الطاغية أبي جعفر المنصور.

2-مع أبي سلمة:

و لما اشرفت الدولة الأموية علي الانهيار تحت وطأة الجيوش العباسية

ص: 347


1- مقاتل الطالبيين:(ص 555).
2- نفس المصدر.

و ضرباتها المتلاحقة لها،رأي أبو سلمة الذي لقب بوزير آل محمد أن يحول الخلافة الي العلويين،و سواء أ كان ذلك عن جد و اخلاص منه أم عن مكيدة و خديعة لهم،فقد كتب الي ثلاثة منهم يعرض عليهم ما فكر به،و هم:الامام جعفر بن محمد،و عبد اللّه المحض،و عمر الاشرف بن الامام زين العابدين(ع)و سلم رسائله الي مولي من مواليهم الذين يقطنون الكوفة و أوصاه بقوله:

«اقصد أولا جعفر بن محمد الصادق(ع)فان أجاب فابطل الكتابين الآخرين،فان لم يجب فالق عبد اللّه المحض فان أجاب فابطل كتاب عمر الأشرف،و ان لم يجب فالق عمر».

و انطلق الرسول حتي اذا انتهي الي يثرب بدأ بمقابلة الامام أبي عبد اللّه الصادق(ع)فسلمه الكتاب ليلا،فتناول(ع)الكتاب بعد ما عرض عليه حديث أبي سلمة فقال(ع):

«ما أنا و أبو سلمة و هو شيعة لغيري؟» و انبري الرسول للامام قائلا له:

«اقرأ الكتاب،و اجب عليه بما تري» فقال الامام لخادمه:ادن السراج مني،فأدناه فوضع الكتاب علي النار حتي احترق،فقال له الرسول:

-أ لا تجيبه؟ -قد رأيت الجواب و تمثل(ع)ببيت للكميت:

فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها و يا حاطبا في غير حبلك تحطب

فخرج الرسول من عنده،و أتي عبد اللّه بن الحسن،و دفع إليه الكتاب فقرأه و ابتهج،فلما كان الغد من ذلك اليوم ركب عبد اللّه

ص: 348

حتي أتي منزل أبي عبد اللّه الصادق(ع)فقام(ع)تكريما له و قابله بمزيد من الحفاوة و قال له:

-يا أبا محمد ما أتي بك؟ -هو أجل من أن يوصف!! -ما هو؟ -هذا كتاب أبي سلمة يدعوني الي الخلافة،و قد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان.

فتأثر(ع)منه،و قال له:

«يا أبا محمد و متي كان أهل خراسان شيعة لك أنت بعثت أبا مسلم الي خراسان،و أنت أمرتهم بلبس السواد؟هل تعرف أحدا منهم باسمه أو بصورته؟فكيف يكونون شيعة لك،و أنت لا تعرفهم،و هم لا يعرفونك؟».

فأخذ عبد اللّه يحاججه،و يجادله،فقطع(ع)حديثه،و قال له:

«قد علم اللّه أني أوجب النصح علي نفسي لكل مسلم،فكيف أدخره عنك،فلا تمن نفسك الأباطيل،فان هذه الدولة ستتم لهؤلاء-يعني بني العباس-و قد جاءني مثل هذا الكتاب الذي جاءك» (1).

لقد كشف الامام في حديثه المشرق صفحة من صفحات الغد المجهول فأنارها بعلمه،و لم يبق بها أي خفاء و التباس،من حتمية مصير الخلافة لبني العباس،و عقم المعارضة لهم،و ما انتهت حفنة من السنين حتي تحقق تنبؤه و صدقه في ذلك.

و علي أي حال فقد كان رفض الامام لدعوة أبي سلمة يحمل جانبا كبيرا من الاصالة و العمق في مجريات الأحداث،فان دعوة أبي سلمة ان).

ص: 349


1- مروج الذهب 184/3،الآداب السلطانية(ص 137).

كان جادا فيها لم تكن بداعي الايمان بحق أهل البيت،و انما كانت ناشئة عن دواع أخري من ضياع مصالحه و آماله،و إلا فلما ذا لم يراسلهم قبل هذا الوقت الحافل بالاخطار،فان الجيوش العباسية التي زحفت الي احتلال العراق لم تكن شيعة للعلويين،و انما هي شيعة لبني العباس قد صهرتهم دعوتهم،فكيف يستجيب الامام لدعوة أبي سلمة أو يسير في مجاهل هذه التيارات القاتمة المحفوفة بالمهالك و الاخطار..علي أن عبد اللّه ابن الحسن قد استجاب له،فما ذا جناه منه غير الدمار الشامل له و لأسرته و لم يخف امر هذه الدعوة علي بني العباس فقد اوجبت قلقهم و اضطرابهم و تصميمهم علي قتله،فقد روي المؤرخون ان ابا العباس و أبا جعفر المنصور قد اتفقا علي ان يخرج المنصور الي خراسان لزيارة أبي مسلم و يحدثه في امر ابي سلمة،و يطلب منه القيام باغتياله،فخرج المنصور حتي انتهي الي ابي مسلم فعرض عليه الأمر فقال له:«أ فعلها أبو سلمة؟أنا أكفيكموه»ثم دعا احد قواده«مرار بن أنس الضبي»،و قال له:

«انطلق الي الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته،و انته في ذلك الي رأي الامام»فسار مرار مع جماعة من جنده الي الكوفة،و كان ابو سلمة يسمر عند السفاح الذي تظاهر باعلان العفو و الرضا عنه،فجلس مرار مع جماعته في طريقه،فلما خرج ابو سلمة في منتصف الليل بادر الي قتله،و أشاعوا في الصباح ان الخوارج هي التي قتلته (1)و انتهي بذلك امر ابي سلمة في فجر مولد الدعوة العباسية.د.

ص: 350


1- الطبري احداث سنة 132 ه- و قتل ابو سلمة في 15 من شهر رجب و ذلك بعد هزيمة مروان بشهر واحد.

3-مع ابي مسلم:

و لما استبان لأبي مسلم واقع العباسيين و غدرهم حاول أن ينقل الأمر الي اهل البيت(ع)فكتب الي الامام الصادق رسالة جاء فيها:

«إني قد أظهرت الكلمة،و دعوت الناس عن موالاة بني أمية الي موالاة اهل البيت،فان رغبت فلا مزيد عليك..».

فكتب الامام(ع)جوابا له تمثلت فيه الحكمة و الوعي،و الادراك لحقائق الأمور،و قد جاء فيه:

«ما أنت من رجالي،و لا الزمان زماني» (1).

أجل كيف يكون أبو مسلم من رجال الامام أبي عبد اللّه الصادق(ع) الذي هو الثقل الأكبر في الاسلام؟ ان اصحاب الامام و دعاته انما هم الاخيار المتحرجون في دينهم الذين يؤثرون طاعة اللّه علي كل شيء.

كيف يرضي الامام ان يتسلم السلطة من أبي مسلم الذي استحل جميع ما حرم اللّه و سفك دماء المسلمين بغير حق؟

ندم أبي مسلم:

لقد ندم أبو مسلم في آخر الأمر علي ما اقترفه من الموبقات و الآثام و عزي جميع ما فعله الي السفاح،و قد جاء ذلك في رسالته التي رفعها الي أبي جعفر المنصور فقد جاء فيها:

«كنت اتخذت أخاك إماما،و جعلته علي الدين دليلا لقرابته،

ص: 351


1- الملل و النحل 241/1

و الوصية التي زعم انها صارت إليه،فأوطأ بي عشوة الضلالة،و أوهقني في ربقة الفتنة،و أمرني ان آخذ بالظنة،و أقتل علي التهمة،و لا أقبل المعذرة،فهتكت بأمره حرمات حتم اللّه صونها،و سفكت دماء فرض اللّه حقنها،و زويت الأمر عن أهله،و وضعته منه في غير محله،فان يعف اللّه عني فبفضل منه،و إن يعاقب فبما كسبت يداي،و ما اللّه بظلام للعبيد..» (1).

لقد كشف أبو مسلم في رسالته عن ندمه و بربرية السفاح و قسوته،و ان جميع ما فعله من سفك الدماء،و هتك الحرمات،و إذاعة الرعب،و نشر الارهاب كل ذلك مستند الي أوامر السفاح.

و ادلي ابو مسلم بتصريح آخر يقرب من ذلك رفعه الي ابي جعفر المنصور و قد جاء فيه:

«أما بعد:فاني اتخذت رجلا إماما،و دليلا علي ما افترض اللّه علي خلقه،و كان في محلة العلم نازلا،و في قرابته من رسول اللّه(ص)،قريبا فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه اللّه الي خلقه،و كان كالذي ادلي بغرور،و أمرني أن اجرد السيف،و ارفع المرحمة و لا أقبل المعذرة،و لا أقيل العثرة،ففعلت توطيدا لسلطانكم،حتي عرفكم من كان يجهلكم،و أطاعكم من كان عدوكم،و أظهركم اللّه بعد الخفاء و الذل و الحقارة..» (2).

و اعرب ابو مسلم بهذا التصريح الخطير عما اتصف به السفاح من الخداع و التضليل،و عدم الايمان بالقيم الانسانية.

و قد بلغ به و خز الضمير و الندم علي ما ارتكبه من عظيم الإثم انه10

ص: 352


1- تأريخ بغداد 208/10
2- البداية و النهاية 64/10

كان لا يرجو مغفرة اللّه له فكان يدعو بعرفات:

«اللهم:إني تائب إليك مما لا أظنك ان تغفر لي» فقيل له:أ فيعظم علي اللّه غفران ذنبك؟ فقال:إني نسجت ثوب ظلم ما دامت الدولة لبني العباس،فكم من صارخة تلقني عند تفاقم الظلم فكيف يغفر لمن هذا الخلق خصماؤه (1).

لقد أفسد ابو مسلم أمر آخرته،و باع دينه في سبيل توطيد الملك لبني العباس،و قد ندم حيث لا يجديه الندم،فما كان اللّه ليتلطف بالعفو و الغفران علي من اراق بحورا من دماء الابرياء بغير حق،و اشاع في بلاد المسلمين الثكل و الحزن و الحداد.

وفاة السفاح:

و مرض السفاح مرضه الذي توفي فيه،و بقي أياما يعاني أشد الآلام و أقساها.

و لما ثقل حاله،و اشتد به المرض ارسل الي ابن أخيه عيسي بن موسي،و في رواية الي عمه عيسي بن علي،فناوله كتابا مغلقا،و كتب علي غلافه:«من عبد اللّه و وليه إلي آل رسول اللّه(ص)و الأولياء و جميع المسلمين»و أوصاه بكتمان أمره اذا خرجت نفسه حتي يقرأ الكتاب علي الناس،و لم يكن احد يدري لمن اوصي بالخلافة من بعده (2)و في ليلة الأحد الموافق:12 ذي الحجة سنة(136 ه-)توفي

ص: 353


1- الكني و الالقاب 151/2 نقلا عن ربيع الابرار.
2- تأريخ اليعقوبي:348/3

السفاح (1)و انتقل الي اللّه فسجاه عيسي بن علي بثوبه،و كتم علي الناس موته،فلما اصبح الصبح جمع رجال بني العباس،و كبار رجال الدولة فنعي إليهم السفاح،و اخرج إليهم كتاب البيعة مغلقا،ففض الكتاب أمامهم و اذا به يوصي بالخلافة لأخيه أبي جعفر،و بولاية العهد الي ابن أخيه عيسي ابن موسي بن محمد،و اخذ البيعة علي الحاضرين لأبي جعفر المنصور،ثم قام بعد ذلك بمواراته فدفن في قصره حسب وصيته (2).

و انتهت بذلك حياة السفاح الحافلة بسفك الدماء،و هتك الحرمات، و قد ختم حياته بفرض اخيه المنصور خليفة علي المسلمين،و هو من أشر خلق اللّه،و أخبث حاكم في الاسلام لؤما و انحرافا عن العدل،فقد جهد في فقر المسلمين و اشاعة الذعر و الخوف في جميع انحاء العالم الاسلامي كما سنذكره بالتفصيل.

الي هنا ينتهي بنا الحديث عن الامام موسي(ع)في عهد السفاح، فرأي و هو في غضون الصبا و ريعة العمر محنة المجتمع الاسلامي و شقاءه بتلك الادوار الرهيبة التي اجتازت عليه فانه لم ينتقل من جور الامويين و ظلمهم حتي وقع تحت وطأة الحكم العباسي فأخذ يعاني الجور و الاستبداد،و العسف و الارهاق،و اخذت السلطة العباسية تمعن في افقار المسلمين و نهب ثرواتهم و صرفها بسخاء علي المجون و الدعارة كما كان الحال أيام الحكم الاموي،و من الطبيعي ان لذلك أثرا كبيرا في حياة الامام موسي(ع)و انطوائها علي الحزن و الأسي./4

ص: 354


1- مروج الذهب:181/3
2- ابن الأثير:347/4

في عهد المنصور

اشارة

ص: 355

ص: 356

و لم تكن للمنصور اية سابقة من السوابق،أو مأثرة من المآثر حتي يستحق الخلافة التي هي من اعظم المراتب في الاسلام،فلم يكن يملك أي نزعة انسانية أو صفة شريفة تؤهله للقيام بشئون المسلمين،فقد اجمع المؤرخون انه تسربل باللؤم و البخل،و خسة الطبع،و دناءة النفس،و كان الغدر و الفتك من ابرز مظاهر شخصيته،و قد ساس المسلمين سياسة من لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر فأشاع بينهم الخوف و الارهاق،و سلبهم جميع مقوماتهم الاقتصادية،حتي تمنوا رجوع الحكم الاموي،و عودة أيامهم علي ما فيها من قسوة و عذاب،يقول احد مخضرمي الدولتين:

يا ليت جور بني مروان دام لنا و ليت عدل بني العباس في النار

و قال الثائر العظيم محمد ذو النفس الزكية في حديثه الذي أدلي به عن جور العباسيين و ظلمهم:

«و لقد كنا نقمنا علي بني أمية ما نقمنا،فما بنو العباس الا أقل خوفا للّه منهم،و ان الحجة علي بني العباس لأوجب منها عليهم،و لقد كانت للقوم مكارم و فواضل ليست لأبي جعفر..» (1).

و قد افرط في سفك الدماء الي حد لا يوصف فقتل علي الظنة و التهمة و تنكر لجميع الناس فلم تسلم منه حتي أسرته فأباد اعلامها و قطع رءوسها، و يعزي ذلك الي حقده و طيشه،و قد وصفه الاستاذ السيد مير علي بقوله:

«كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء،و تعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط في حين كان خلفه لا يفتك بأحد الا بعد كثير من التروي و الامعان،و علي الجملة كان أبو جعفر سادرا في بطشه مستهترا في فتكه،و تعتبر معاملته لأولاد علي صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي،و يقول السيوطي:كان المنصور أول من أحدث ثغرة الخلاف10

ص: 357


1- الأغاني:106/10

بين العباسيين و العلويين بعد ان كانا كتلة واحدة» (1).

و وصفه ابن هبيرة (2)و هو من معاصريه بقوله:«ما رأيت رجلا في حرب او سلم أمكر،و لا أنكر،و لا اشد تيقظا من المنصور حتي لقد حاصرني في تسعة شهور و معي فرسان العرب فجهدنا كل الجهد علي أن ننال من عسكره شيئا فما قدرنا لشدة ضبطه لعسكره،و كثرة تيقظه» (3).

و قد استطاع ببطشه و كيده أن يؤسس الدولة العباسية،و يسيطر علي جميع اجهزة الحكم سيطرة كاملة.

و كان من أقسي ما قام به من الظلم جوره البالغ علي العلويين، و معاملتهم بما لا يوصف من العنف و الاضطهاد فقد صب عليهم جام غضبه فنكل بهم أفظع التنكيل،و لم يرع فيهم أواصر الرحم،و قربهم من الرسول(ص)و قد شاهد الامام موسي(ع)ما حل باسرته من صنوف المحن و الارهاق،فكان لذلك أثره الكبير في نفسه فقد صارت موطنا للآلام و الاحزان.

لقد قطع الامام موسي(ع)عقدين من سني حياته في دور المنصور).

ص: 358


1- مختصر تأريخ العرب(ص 184).
2- ابن هبيرة:هو عمر بن سعد بن عدي الفزاري ولي العراقين ليزيد بن عبد الملك ست سنين،و كان يكني أبا المثني،و يقول الفرزدق مخاطبا لعبد الملك في أمر ابن هبيرة: أوليت العراق و رافديه فزاريا احذ يد القميص تفتق بالعراق أبو المثني و علّم قومه أكل الخبيص و المراد بقوله:«أحذ يد القميص»انه خفيف اليد كناية عن خيانته الكني و الألقاب 434/1 نقلا عن المعارف لابن قتيبة.
3- العصر العباسي(ص 68).

فرأي تلك السياسة النكراء التي تحمل شارات الموت و الفناء لجميع المواطنين ...و لا بد لنا من البحث عن مظاهر شخصية المنصور،و سياسته و اعماله فان البحث عن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بحياة الامام موسي لأنه يصور لنا العصر الذي عاش فيه،و ما لاقي فيه المسلمون من جهد و عناء فان لذلك أثرا في انطباعاته عن كثير من الاحداث،و فيما يلي عرض موجز للتعريف بشخصية المنصور:

مظاهر شخصية المنصور:

اشارة

اما الخصائص التي عرف بها المنصور،و كانت من مقوماته و ذاتياته فهي:

1-البخل:

اشارة

و مما لا شبهة فيه ان البخل هو المنبع الوحيد لجميع الرذائل النفسية فصاحبه قد انمحت عن اعماق نفسه جميع الوان الاريحية و النبل،و قد تحمل هذه الصفة علي التمادي في الإثم،و تلقيه في شر عظيم.

و كانت هذه النزعة الشريرة من ابرز صفات المنصور،فقد كان مضرب المثل في بخله،و قد عرض الدولة الاسلامية للمجاعة الشاملة و البؤس و الحرمان و نظرا لبخله الشديد فقد لقب بالدوانيقي.

قال ابن الأثير:إنما سمي المنصور بالدوانيقي لبخله و ذلك لما حفر الخندق بالكوفة قسط علي كل منهم دانقا و صرفه علي الحفر،و الدانق سدس الدرهم،ثم قال و في سنة 155 ه عمل المنصور للكوفة و البصرة سورا و خندقا و أمر لمن عمل بالسور و الخندق لكل واحد خمسة دراهم،فلما

ص: 359

فرغوا أمر بجمعهم و أخذ من كل واحد اربعين درهما و في ذلك يقول الشاعر يا لقومي ما لقينا من أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا و جبانا الأربعينا (1)

و لما فرغ من بناء بغداد حاسب امراء جيشه و الزمهم بما بقي عندهم حتي استوفي من بعضهم ما اقتضاه الحساب خمسة عشر درهما (2)و كان يحاسب العمال و لو كان بقدر الدانق و الحبة (3)،و اما مظاهر بخله فهي كما يلي:

أ-حرمانه لنفسه:

و قد حمله بخله و لؤمه علي حرمان نفسه من التمتع بلذائذ الحياة فكان يتحاشي النعم،و يلبس ما خشن من الثياب و ربما رقع قميصه بيده، و قد قال الامام الصادق(ع)فيه:

«الحمد للّه الذي ابتلاه بفقر نفسه في ملكه» (4).

و رأته احدي جواريه و عليه قميص مرقع فقالت ساخرة منه:

«أ خليفة و ثوب مرقوع؟» فضحك و قال لها:ويحك أ ما سمعت قول الشاعر بن هرمة:

قد يدرك الشرف الفتي و قميصه خلق و جيب قميصه مرقوع (5)

إنه لم يدرك الشرف،و انما انتهي الي قرار سحيق من الخسة و اللؤم و ضعة النفس.

ص: 360


1- الكامل.
2- الفخري:(ص 118).
3- عنوان المجد:(ص 161).
4- الفخري:(ص 115).
5- تأريخ بغداد 57/1
ب-الشح علي الأصدقاء:

و كان المنصور ضنينا بالمال علي نفسه و اصدقائه فلم يجد بشيء عليهم و لم يفكر في صلتهم،فقد كان له زميل أيام فقره و فاقته و هو الوضين بن عطاء،فاستدعاه حينما استولي علي دست الحكم فلما مثل عنده أخذ يسأله عن حاله و شئونه قائلا له:

«يا أبا عبد اللّه ما مالك»؟ -الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين.

-ما عيالك؟ -ثلاث بنات و امرأة و خادم لهن.

-اربع في بيتك؟ -نعم.

و أخذ يردد ذلك عليه و يستفهم عن كمية عياله حتي اعتقد الوضين انه سيصله و يمنحه العطاء،ثم انه رفع رأسه إليه بعد تفكير طويل قائلا:

«أنت أيسر العرب،أربع مغازل يدرن في بيتك!! (1).

بهذه الكيفية المخجلة كانت نفسه الوضيعة التي تسربلت بالبخل و اللؤم فليس فيها بصيص من نور الرأفة و الرحمة.

ج-حرمان الادباء:

كانت الدولة الأموية تغدق بالأموال الطائلة علي الشعراء و الأدباء حتي ازدهر الأدب و راج سوقه و كانت الأوساط الاجتماعية تنظر الي هذه الطبقة ببالغ الاهتمام نظرا لاعتناء الدولة و احتفائها بها،و لما انتهي الدور الي المنصور بالغ في اذلالهم و تحطيمهم و حرمانهم من الصلة و الدخول عليه،فكان لا يؤذن لهم إلا بعد جهد كثير،و قد وفد عليه أبو نحيلة،فوقف بباب

ص: 361


1- عصر المأمون:(ج 1 ص 294).

بلاطه مستأذنا فلم يأذن له بالدخول و الخراسانيون و غيرهم يدخلون و يخرجون بلا عناية و هم يستهزءون به و يسخرون منه،و رآه بعض اصدقائه و هو بتلك الحالة من الذل و الهوان فقال له:

-كيف تري ما أنت فيه من هذه الدولة؟ فانبري مجيبا بهذه الأبيات التي ارتجلها و هو يصور ما هو فيه:

أكثر خلق اللّه بي لا يدري من أي خلق اللّه حين يلقي

و حلة تنشر ثم تطوي و طيلسان يشتري فيغلي

لعبد عبد او لمولي مولي يا ويح بيت المال ما ذا يلقي (1)

إن الذي دعا المنصور الي الاستهانة بهذه الطبقة المثقفة هو البخل و الشح.

و روي المؤرخون من شحه و قطيعته للشعراء:أن المؤمل بن أميل قدم علي المهدي ولي عهد المنصور فمدحه بقصيدة رائعة ملكت مشاعره فأعطاه عشرين الف درهم،و رفع صاحب البريد رسالة الي المنصور يحيطه علما بالامر،فلما انتهت إليه و علم بالحال تميز غيظا و رفع من فوره رسالة الي ولده يندد فيها بفعله و قد جاء فيها«انما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم».

و كتب الي كاتب المهدي ان يبعث إليه الشاعر فورا فطلبه الكاتب فلم يظفر به،فأخبره أنه توجه الي مدينة السلام،فبعث احد ضباط جيشه مع دورية من الشرطة و أمرهم بالقاء القبض عليه فأقاموا بجسر النهروان فلا يجتاز عليهم احد الا سألوه عن اسمه،فاجتاز عليهم المؤمل فسألوه عن اسمه فأخبرهم به،فألقوا عليه القبض فكادت روحه أن تزهق من الخوف و الذعر و جاءوا به الي الربيع حاجب المنصور فانبري الي المنصور فأخبره).

ص: 362


1- الأغاني:(ج 18 ص 148).

بالعثور عليه،فأمر بادخاله فلما مثل بين يديه التفت إليه و هو مغيظ محنق قائلا:

-أنت المؤمل بن أميل؟ -نعم اصلح اللّه أمير المؤمنين.

-هيه،أتيت غلاما غرا فخدعته!!.

-نعم أصلح اللّه أمير المؤمنين،أتيت غلاما كريما فخدعته فانخدع فهدأت ثورة المنصور و سكن غضبه،ثم امره بأن يتلو عليه قصيدته فانبري منشدا:

هو المهدي إلا أن فيه مشابه صورة القمر المنير

تشابه ذا و ذا فهما إذا ما أنارا مشكلان علي البصير

فهذا في الظلام سراج ليل و هذا في النهار سراج نور

و لكن فضل الرحمن هذا علي ذا بالمنابر و السرير

و بالملك العزيز فذا أمير و ما ذا بالأمير و لا الوزير

و نقص الشهر يخمد ذا و هذا منير عند نقصان الشهور

فيا بن خليفة اللّه المصفي به تعلو مفاخرة الفخور

لئن فتّ الملوك و قد توافوا إليك من السهولة و الوعور

لقد سبق الملوك أبوك حتي بقوا من بين كاب أو حسير

و جئت وراءه تجري حثيثا و ما بك حين تجري من فتور

فقال الناس ما هذان إلا بمنزلة الخليق من الجدير

لئن سبق الكبير فأهل سبق له فضل الكبير علي الصغير

و إن بلغ الصغير مدي كبير لقد خلق الصغير من الكبير

فلم يملك المنصور اعجابه بهذه المقطوعة الرائعة التي احتوت علي أجمل آيات المدح و الثناء فقال له:

ص: 363

«و اللّه لقد احسنت!!و لكن هذا لا يساوي عشرين الف درهم أين المال؟ فأجابه بالحضور،و هو يرعد من الخوف و الذعر،فأمر حاجبه بقبضها و اعطائه اربعة آلاف درهم،فامتثل الحاجب ذلك.

و دلت هذه البادرة علي ضعة نفسه و حرصه الذي ينم عن نفس لا عهد لها بالاريحية و النبل.

و روي المؤرخون من بخله انه كان في طريقه الي مكة فطلب أن يؤتي له بحاد يحدو به،فجيء له بسلم الحادي فحدا به،فطرب حتي كاد ان يسقط من الراحلة،فاجازه بنصف درهم،فأنكر عليه ذلك و قال له:

-يا أمير المؤمنين لقد حدوت بهشام بن عبد الملك فأجازني عشرة آلاف درهم!! فنظر إليه المنصور بحنق و قال له:

-ما كان له ان يعطيك من بيت المال.

و أمر حاجبه الربيع بأن يقبضها منه،فاخذ سلم يتوسل إليه و يحلف له أنه لم يبق من تلك الاموال شيء،و ما زال يتوسل بالمنصور حتي تركه و شرط عليه ان يحدو به ذهابا و إيابا بغير ثمن (1)،و يقول بشر المنجم دعاني أبو جعفر يوما عند المغرب فبعثني في بعض الأمر،فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فاذا دينار فقال:خذ هذا و احتفظ به فاخذته فهو عندي الي الساعة مخافة أن يطالبني به لأنه لم يقل خذه لك (2).

و لما اصدر المرسوم الملكي الذي يقضي بأن تلبس الرعية القلانس الطوال8.

ص: 364


1- الاغاني 110/13،تأريخ الخلفاء(ص 267).
2- الطبري:احداث سنة 158.

المفرطة اندفع الشاعر الفكهي أبو دلامة يعرض ببخل المنصور قائلا:

و كنا نرجي من إمام زيادة فزاد الامام المصطفي في القلانس

نراها علي هام الرجال كأنها دنان يهود جللت بالبرانس (1)

لقد جهد المنصور في احتكار أموال الأمة و كنزها،و عدم انفاق أي شيء منها علي المصلحة العامة مما أشاع الفقر و البؤس في جميع أنحاء البلاد.

د-مع المهدي:

كان المهدي آثر الناس عند المنصور و أقربهم إليه حتي جعله ولي عهده،و قد قابله بالجفاء علي ابسط قضية مادية،فقد حدّث واضح مولاه قال اني لواقف يوما علي رأس أبي جعفر اذ دخل عليه المهدي و عليه قباء أسود جديد فسلم و جلس،ثم قام منصرفا فاتبعه ابو جعفر ببصره لحبه له و اعجابه به،فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده،فقام و مضي لوجهه غير مكترث به،فلما نظر المنصور الي ذلك فقد صوابه، فأمر برده فاندفع إليه بشراسة و قد استولي عليه الغضب فهاجمه قائلا له:

«يا أبا عبد اللّه:استقلالا للمواهب!!أم بطرا بالنعمة،أم قلة علم بالمصيبة؟كأنك جاهل بما لك و ما عليك..» (2).

لقد ساق لولده هذا اللون من العتب المر من اجل أمر زهيد لا يعني به اغلب الناس.

و روي واضح انه دخل علي المنصور فقال له:انظر ما عندك من الثياب الخلقان،فاجمعها فاذا علمت بمجيء المهدي فجئني بها قبل أن يدخل و ليكن معها رقاع،ففعلت،فدخل المهدي فوجد اباه يقدر الرقاع علي

ص: 365


1- تأريخ الخلفاء:(ص 262).
2- عصر المأمون:(ج 1 ص 93).

خروق الثياب فضحك و قال له:

يا امير المؤمنين من هاهنا يقول الناس:نظروا في الدينار و الدرهم و لم يقل الدانق لئلا يثير عواطفه،فقال له المنصور:انه لا جديد لمن لا يصلح خلقه،و هذا الشتاء قد حضر،و نحتاج الي كسوة للعيال و الولد، فقال المهدي:علي كسوة امير المؤمنين و عياله و ولده،فقال له دونك فافعل (1).

و روت جاريته خالصة قالت:دخلت علي المنصور فاذا هو يتشكي وجع ضرسه،فلما سمع حسي قال:ادخلي فدخلت،و اذا هو واضع يده علي صدغيه،فسكت ساعة،ثم قال لي:

-يا خالصة كم عندك من المال؟ -الف درهم.

-ضعي يدك علي رأسي و احلفي.

فخافت منه،و قالت:عندي عشرة آلاف دينار،فقال:احمليها إلي،فدخلت علي المهدي و الخيزران فأخبرتهما بما حدث فركلها المهدي برجله،و قال لها ما ذهب بك إليه؟ما به من وجع،و لكني سألته بالأمس مالا فتمارض،احملي إليه ما قلت له،و لما جاءه المهدي قال له:يا أبا عبد اللّه تشكو الحاجة،و هذا المال عند خالصة (2).

لقد قابل ولده المهدي بكثير من الجفاء،و هو آثر الناس عنده و سبب ذلك حرصه،و خساسة طبعه.

ه-مع الفقيه ابن السمان:

و كان الفقيه ازهر السمان صديقا للمنصور قبل أن يلي الخلافة،فلما

ص: 366


1- تأريخ الطبري.
2- الطبري:أحداث سنة 158 ه-

صارت إليه قصده،فقال له المنصور:

-ما حاجتك؟ -علي دين أربعة آلاف درهم،و داري مستهدمة،و ابني يريد البناء بأهله.

فأمر له بمبلغ من المال،و نهاه عن المجيء إليه فقال له:

-لا تأتنا طالب حاجة بعد هذا.

-افعل.

و مضت اشهر معدودة فعاد ابن السمان إليه فنظر إليه المنصور بنظرات تقطر غيظا و قال له:

-ما جاء بك؟ -لم أجئ طالب حاجة،و لكن مسلما.

-أظنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الاولي..لا تأتنا طالب حاجة، و لا مسلما و أمر له بصلة.

و خرج ابن السمان،و لكنه لم يلبث ان عاد إليه ثالثة،فقال له المنصور:

-ما جاء بك؟ -لم آت طالب حاجة،و لا مسلما،و لكن دعاء سمعته منك قبلا أحببت ان آخذه عنك.

-لا تأخذه فانه غير مستجاب،لأني قد دعوت اللّه ان يريحني من خلقتك فلم يفعل،و صرفه و لم يعطه شيئا (1).

و-مع عماله:

و قابل المنصور عماله بمزيد من الحرمان و الضيق،و قد ذكر المؤرخون

ص: 367


1- الطبري:احداث سنة 158 ه-

بوادر كثيرة من عسفه معهم،فقد رووا انه ولي رجلا عملا في ناحية فأتمه،و دخل عليه فقدم له الحساب،و قام لينصرف فقال له المنصور:

-أشركتك في أمانتي،و وليتك فيئا من فيء المسلمين فخنته.

-أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين ما صحبني من ذلك شيء الا درهم في كمي،صررته لكي اكتري به بغلا يوصلني عيالي،فادخل بيتي،و ليس معي شيء من مال اللّه،و لا مالك.

فقال له المنصور:ما أظنك الا صادقا،هلّم درهمنا فأخذه منه و وضعه تحت لبده (1).

و رفع إليه عامله زياد بن عبد اللّه الحارثي رسالة يسأله فيها الزيادة في عطائه،و كانت الرسالة في منتهي البلاغة و الفصاحة فأعجب بها المنصور، و وقع عليها:

«ان الغني و البلاغة إذا اجتمعا في رجل ابطراه،و امير المؤمنين يشفق عليك من ذلك فاكتف بالبلاغة» (2).

لقد انتهي المنصور في بخله الي حضيض من الشح و اللؤم ماله من قرار فكان به من سيئات الدنيا و مساوئ الملوك.

أسباب حرصه:

إن هذا البخل البالغ حد الافراط في نفس المنصور ناشئ عن خبث ذاته و خسة طبعه،و عدم ايمانه باللّه.

و تحدث المنصور أمام حاشيته و خواصه عن الاسباب التي دعته ان

ص: 368


1- الطبري
2- تأريخ الخلفاء:(ص 267)

يمعن في افقار الرعية،و الضيق عليها قائلا:

صدق ابن الاعرابي حيث يقول:«اجع كلبك يتبعك».

فانبري إليه أبو العباس الطوسي فرد عليه قائلا:

«يا أمير المؤمنين أخشي ان يلوح له غيرك برغيف فيتبعه و يدعك» (1)حفنة من التراب علي المنصور و علي كل حاكم يستهين بحقوق الشعب لقد جعل الطاغية الجبار اخضاع الشعب منحصرا في جوعه و فاقته لا بنشر العدل و الرفاهية بين ابنائه.

و تحدث المنصور عن الاسباب التي دعته الي احتكار الاموال الضخمة في خزائنه من دون ان ينفق منها شيئا علي المصالح العامة فقال:

«من قلّ ماله قل رجاله،و من قل رجاله قوي عليه عدوه،و من قوي عليه عدوه اتضع ملكه،و من اتضع ملكه استبيح حماه..» (2)و هكذا كانت فكرته الخاطئة مبنية علي ادخار الأموال،و عدم انفاقها علي المسلمين..انه من دون شك من ابرز من عناهم اللّه تعالي بقوله:

وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمي عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوي بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (3) .35

ص: 369


1- عصر المأمون 93/1
2- تأريخ اليعقوبي 121/3
3- سورة التوبة آية:34 و 35

استبداده:

كان المنصور في جميع ما يتعلق بمملكته مستبدا لا يستشير احدا فيما يتصرف فيه،و اذا أدلي عليه احد برأي خالفه،فقد روي المؤرخون انه احضر ابن أخيه عيسي بن موسي و أمره بقتال محمد بن عبد اللّه فقال له عيسي:

«يا أمير المؤمنين:شاور عمومتك».

فزجره قائلا له:اين قول ابراهيم بن هرمة.

تزور امرئ لا يمخض القوم سره و لا ينتجي الأذنين فيما يحاول

اذا ما أتي شيئا مضي كالذي أتي و إن قال إني فاعل فهو فاعل

ثم قال:«امض أيها الرجل فو اللّه ما يراد غيري و غيرك:و ما هو إلا أن تشخص او أشخص أنا».

بمثل هذا الاعتزاز بالنفس كان يتحكم في رقاب المسلمين و في جميع امكانياتهم،و كان يتمثل دائما بقول الهيثم بن عدي لينوه عن طغيانه و استبداده:

إن قناتي لنبع لا يؤيسها غمز الثقاف و لا دهن و لا نار

متي أجر خائنا تأمن مسارحه و إن أخف آمنا تقلق به الدار

سيروا إلي و غضوا بعض أعينكم إني لكل امرئ من جاره جار (1)

و دل ذلك علي مدي ما يحمله من طيش و غرور و استبداد بشئون المسلمين،و قد ادت هذه السياسة الملتوية الي نشر الرعب و اذاعة الفزع بين جميع الناس.

ص: 370


1- الطبري:(ج 9 ص 316).

فتكه:

اشارة

كان الفتك و الاغتيال من عوامل الاستمتاع النفسي عند المنصور فكان ألذ شيء عنده سفك الدماء،و قد تمادي في ذلك بقسوة و جفاء لم يعرف لهما نظير في تأريخ المجازر البشرية:

إنه لم يلج في دخائل نفسه بصيص من نور الرأفة و الرحمة فكان يطربه عويل اليتامي،و نوح الأيامي،و أنين الجرحي.

لقد عمد هذا الطاغية السفاك الي اغتيال جماعة من رءوس دولته، و بناة سلطانه ممن كان يحذر منهم،و يخشي بأسهم،و نعرض فيما يلي لبعضهم

1-ابو مسلم:

و لم تقم الدولة العباسية إلا علي أكتاف أبي مسلم فهو باعثها و مؤسسها و غارس بذرتها،و لو لا جهوده لم يرفع لبني العباس علم،و لم يذكر لهم اسم،و قد تنكر له المنصور فجازاه جزاء سنمار،فاستدعاه و آمنه و قابله بمزيد من الحفاوة و التكريم و انزله قصرا من قصوره و دعا رئيس حرسه عثمان بن نهيك،و شبيب بن واج،و ابو حنيفة حرب بن قيس و قال لهم:

تكونوا خلف الرواق إذا دخل علي أبو مسلم فاذا صفقت بيدي،دخلتم فقتلتموه،و اقبل ابو مسلم علي عادته فأجلس في الحجرة المجاورة،و أخبر بأن المنصور في شغل فجلس مليا ثم اذن له بالدخول فدخل و سلم عليه، فنظر إليه نظرة انتقام و غيظ،و قال له:اخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة؟

ص: 371

-كرهت اجتماعنا علي الماء فيضر ذلك بالناس.

و أخذ يعدد عليه اعماله المنكرة،و يعاتبه و أبو مسلم يعتذر عن ذلك، و لما طال عتابه له قال أبو مسلم:

-لا يقال هذا لي بعد بلائي و ما كان مني!! فصاح به المنصور يا ابن الخبيثة،و اللّه لو كانت أمة مكانك لاجزأت إنما عملت في دولتنا،و بريحنا،فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا،و ابو مسلم يعتذر منه،و لم يجد معه الاعتذار،و صفق عاليا بيده فدخل القوم عليه و بأيديهم السيوف،و شعر أبو مسلم بالموت يدنو منه فقال متوسلا بالمنصور:

-استبقني لعدوك -و أي عدو اعدي لي منك فأخذته السيوف،و هو يصيح العفو:

و أجهز عليه القوم فقتلوه،و أخذ المنصور يرتجل:

زعمت أن الدين لا يقتضي فاستوف بالكيل أبا مسلم

سقيت كأسا كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم (1)

و أمر أن ترمي جثته في نهر دجلة فالقيت فيه (2)و طويت بذلك حياة أبي مسلم غدرا علي يد المنصور،و قد خسر أبو مسلم بذلك أمر آخرته و دنياه و ذلك هو الخسران المبين./2

ص: 372


1- ابن الاثير:355/4
2- اليعقوبي:399/2

2-عبد اللّه بن علي:

و اعطي المنصور عمه عبد اللّه بن علي أمانا بأن لا يفتك به بعد ما ثار عليه،و لكنه خاس بعهده،فقد دعا ولي عهده عيسي بن موسي،و قال له:خذ إليك عبد اللّه بن علي ريثما أعود من مكة،و لا تثقل عليه، فانه عمي و أخو الحاضرين من شيوخ آل بيتك،ثم دعاه سرا و قال له:

يا عيسي إن هذا أراد أن يزيل الخلافة عني و عنك،و أنت ولي عهدي، و الخلافة صائرة إليك،فخذه و اضرب عنقه و اياك ان تخور و تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت ثم مضي الي الحج (1).

و شاور عيسي بن موسي كاتبه يونس بن أبي فروة و أخبره بالأمر، فقال له يونس:

«إن هذا الرجل قد دفع إليك عمه علنا أمام ذويه،و أوصاك سرا بقتله،فهو يريد ان يقتله علي يدك،ثم يقيدك به فيقتلك،و الرأي أن تستره في منزلك فلا تطلع علي أمره أحدا،و ترسل الي المنصور انك قد قتلته،فان طالبك به علانية دفعته علانية،و اياك أن تأتي به سرا» (2)و فعل عيسي ذلك،و شاع بين العباسيين أنه قد قتله،و لما عاد المنصور من مكة،توافد عليه بنو العباس،و كلموه في شأن عمه،فقال لهم:اني اعطيته أمامكم الي ولي عهدي،و أوصيته به و قد سألته فقال قد مات:

و دعا بعيسي فلما مثل عنده صاح به:

-لم قتلت عمي؟

ص: 373


1- الطبري:266/6
2- الطبري:

-أنت أمرتني بقتله -لم آمرك بذلك -هذا كتابك إلي فيه -لم اكتبه و لما رأي الجد من المنصور خاف علي نفسه،فقال له:هو عندي فقال:ادفعه الي أبي الأزهر المهلب بن أبي عيسي،فلم يزل عنده محبوسا ثم أمره بقتله،فدخل عليه،و معه جارية فبدأ بعبد اللّه فخنقه حتي مات ثم مده علي الفراش،و انعطف علي الجارية ليقتلها،فقالت له:

«يا عبد اللّه قتلة غير هذه القتلة؟» فأشاح بوجهه عنها،ثم أمر بها فخنقت،و وضعها معه علي الفراش و أدخلت يدها تحت جنبه،و يده تحت جنبها كالمعتنقين،ثم أمر بالبيت فهدم عليهما و أحضر القاضي ابن علام مع جماعة للاطلاع علي الأمر، و أخرجت الجثتان فدفنتا في مقرهما الاخير (1).

3-محمد بن أبي العباس:

و اتخذ المنصور طبيبا نصرانيا استعان به علي قتل من لا يحب أن يتجاهر بقتله،و كان الطبيب فظا غليظ القلب،قد اغتال جملة من الابرياء في و صفاته الطبية حسب أمر المنصور له،و ممن اغتالهم محمد بن أبي العباس فقد أوعز إليه المنصور بذلك فصنع له سما قاتلا،و انتظر علة تحدث فيه فعرضت له حرارة في بدنه،فراجعه،فأعطاه ذلك السم فلما تناوله تقطعت أمعاؤه،و هلك من فوره،فرفعت أمه شكواها الي المنصور،فأمر بضربه

ص: 374


1- مروج الذهب:230/3

ثلاثين سوطا،و سجنه أياما،ثم اطلق سراحه،و وهبه ثلاثمائة دينار.

هذه بعض اغتيالات المنصور و هي تدل علي نفس شريرة لا عهد لها بالعفو و الرحمة،فقد كان بامكانه ان يقابلهم بالاحسان،و يجعلهم تحت الرقابة إن خاف منهم الخروج علي سلطانه،و لكن ذلك بعيد عن نزعاته المترعة بالحقد و القسوة.

موبقاته:

اشارة

و حفل تأريخ هذا الطاغية السفاك بسجل من الجرائم و الموبقات،فقد تفجرت سياسته بكل ما خالف كتاب اللّه و سنة نبيه،فروع المسلمين، و اشاع الرعب و الفزع و الخوف في جميع انحاء البلاد،و قضي علي الحياة الفكرية و الاجتماعية في الاسلام،و نعرض فيما يلي الي بعض موبقاته:

1-ترويع المدنيين:

و قابل المنصور أهالي يثرب بمزيد من الاضطهاد و العنف و الجور، و سلبهم جميع مقوماتهم الاقتصادية فقطع عنهم الميرة في البر و البحر (1)و أراد بهذه الحرب الاقتصادية أن يشغلهم بالبؤس و المجاعة عن مناهضته و الانكار علي سياسته،و قد ولي عليهم رباح بن عثمان المري و كان فظا غليظ القلب تنفر منه النفوس لشراسة طبعه،و حينما ولاه المنصور جمع الناس،و نزا علي المنبر فأعلن لهم سياسته الارهابية الحاملة لشارات الموت و العذاب قائلا:

ص: 375


1- ابن الأثير:261/5

يا أهل المدينة أنا الافعي ابن الافعي،ابن عثمان بن حيان،ابن عم مسلم بن عقبة،المبيد خضراءكم،و المفني رجالكم،و اللّه لأدعها بلقعا لا ينبح فيها كلب..».

انه الطغيان الفاجر،و الاستهتار بحياة الناس،و كراماتهم،فالابادة الشاملة و اخلاء الوطن من أهله هو الشعار الذي يسوس به البلاد،و ساعد اللّه المسلمين علي هذه المحن و الخطوب التي تذيب لفائف القلوب،و تذوب النفوس لهولها أسي و حسرات.

و لم ينه هذا الوحش الكاسر هذه الكلمات القاسية حتي اندفع جمع من الأحرار الذين غامروا بحياتهم فردوا عليه بأعنف القول قائلين بلسان واحد:

«و اللّه يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا» و رفع هذا الوغد الأثيم بالفور رسالة الي العاهل العباسي يعرفه فيها بخروج أهل المدينة عن الطاعة و اصرارهم علي التمرد و العصيان،و لما انتهي إليه الكتاب كتب لأهل المدينة رسالة ملأها بالانذار و الوعيد،و أمر عامله أن يتلوها عليهم،فلما وصلت إليه،جمعهم و قرأها عليهم و قد جاء فيها:

«يا أهل المدينة،إن واليكم كتب إلي يذكر غشكم،و خلافكم و سوء رأيكم،و استمالتكم علي بيعة أمير المؤمنين،و أمير المؤمنين يقسم باللّه لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا،و ليقطعن البر و البحر عنكم،و ليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد،و بعاد الأرحام بنو (1)قعر بيوتكم يفعلون ما يؤمرون و السلام».

و اندفع جمع من الغياري و الأحرار الي معارضته قائلين:

«كذبت يا ابن المجلود حدين»م.

ص: 376


1- كذا في الأصل،و في الهامش«ينوون»و لعل الصحيح «يثورون»في قعر بيوتكم.

ثم انهم رموه بالحصا من كل جانب فولي خائفا الي مقصورته فأغلقها عليه،و اعتصم بها فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي أحد أذناب السلطة و هو يدعوه الي التنكيل بالثائرين قائلا:

«أصلح اللّه الأمير،انما يصنع هذا رعاع الناس،فاقطع أيديهم، و اجلد ظهورهم..».

و أشار عليه بعض من حضر من الهاشميين بعدم الاعتناء بمقالة هذا العبد الذي تنكر لوطنه و أبناء بلاده،و أشاروا عليه أن يرسل خلف الوجوه و الأشراف فيقرأ عليهم رسالة المنصور ليري رأيهم فيها،فاستجاب لذلك فأرسل خلفهم و قرأ عليهم كتاب المنصور،فانبري إليه حفص بن عمر بن عبد اللّه ابن عوف الزهري،و أبو عبيدة بن عبد الرحمن الأزهر فقالا له:

«كذبت و اللّه ما أمرتنا فعصيناك،و لا دعوتنا فخالفناك..» ثم التفتا الي ممثل المنصور و رسوله:

«أتبلغ أمير المؤمنين عنا؟» -ما جئت إلا لذاك.

-قل له:أما قولك:إنك تبدل المدينة و أهلها بالأمن خوفا،فان اللّه عز و جل وعدنا غير هذا،قال اللّه عز و جل:«و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا»فنحن نعبده لا نشرك به شيئا..» (1).

و هكذا عامل المنصور أهالي المدينة بهذه القسوة و الجفاء فلم يحترم جوارهم لرسول اللّه(ص)و لم يراع ما لآبائهم من الفضل في إقامة هذا الدين و تدعيم أسسه.).

ص: 377


1- اليعقوبي:(ج 3 ص 110-111).

2-الاستهانة بالكعبة:

و كفر المنصور بالاسلام،و تنكر لجميع مبادئه و أهدافه،فقد حاول نقل الكعبة المقدسة من محلها الي دار السلام،كما بني بناية ضخمة في عاصمته بغداد سماها بالقبة الخضراء استهانة بالكعبة الشريفة (1)و بذلك فقد كشف عن كفره و مروقه من الدين.

3-اختلاس الأموال:

و جهد المنصور في انهاك الرعية و اضطهادها فقد عمد الي نهب الأموال و اختلاسها،فقد روي المؤرخون انه أخذ أموال الناس حتي ما ترك عند احد فضلا،و كان مبلغ ما أخذه منهم ثمانمائة الف الف درهم (2)و هو يعادل في يومنا هذا اربعة آلاف مليون دينار حسب قيمة العملة (3)و جاء في وصيته الأخيرة الي ولده المهدي«و قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي» (4).

لقد كانت سياسته المالية مبنية علي النهب و السلب،و اصطفاء الأموال و أخذها بغير حق،و قد ترك البؤس و الفقر مخيمين علي جميع المناطق الاسلامية

ص: 378


1- الطبري:(ج 3 ص 197).
2- اليعقوبي:121/2
3- أبو جعفر المنصور(ص 416)
4- تأريخ اليعقوبي:349/2

4-التنكيل بالعلويين:

و محنة العلويين في عهد الطاغية المنصور من أقسي المحن و افجعها فقد صب عليهم جميع أنواع العذاب،و قابلهم بمزيد من العنف و الجور فأباد شيوخهم و شبابهم،و لم يرحم أحدا منهم،و كان ماحل بهم من التنكيل اضعاف ما واجهوه أيام الحكم الأموي،حتي قيل في ذلك:

تالله ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس

و صور مدي ما حل بهم من الرزايا و الخطوب شاعر العقيدة دعبل الخزاعي بقوله:

و ليس حي من الاحياء نعلمه من ذي يمان و من بكر و من مضر

الا و هم شركاء في دمائهم كما تشارك إيسار علي جزر

قتل و أسر و تحريق و منهبة فعل الغزاة بأرض الروم و الخزر

أري أمية معذورين إن قتلوا و لا أري لبني العباس من عذر

لقد واجهوا أعنف المشاكل،و أقسي الرزايا و الخطوب في سبيل تحرير المجتمع الاسلامي،و انقاذه من الجور و الاستبداد.

و اندفعوا بكل اعتزاز و فخر الي ساحات الجهاد و النضال فماتوا كراما أحرارا فأضاءوا الطريق للاحرار و المناضلين،و فتحوا لهم ابواب الكفاح و الجهاد،و رسموا لهم طريق الخلاص من حكم الذل و العبودية.

و قبل أن نتحدث عما جري عليهم في عهد المنصور نستعرض اسباب ثوراتهم و نضالهم.

ص: 379

بواعث الثورة:

اشارة

أما الاسباب التي حفزتهم الي الثورات العارمة سواء في حكم بني أمية او في حكم بني العباس فهي:

الاسباب التي حفزتهم الي الثورات

1-الشعور بالمسؤولية:

و العلويون بحكم نسبهم الوضاح يرون أنهم مسئولون عن صيانة المجتمع و دفع الويلات و الخطوب عنه،و قد كشف الامام امير المؤمنين(ع)في بعض كلماته عن السر في احجامه عن مبايعة أبي بكر بقوله:

«اللهم:انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان،و لا التماس شيء من فضول الحطام،و لكن لنرد المعالم من دينك،و نظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك،و تقام المعطلة من حدودك» (1).

لقد امتنع الامام من بيعة أبي بكر من أجل هذه الاهداف النبيلة،فكان يري نفسه مسئولا عن رعاية الأمة و اقامة الاصلاح الشامل في رحابها فلذا انطلق يعلن سخطه علي من سبقة من الخلفاء.

و قد رأي العلويون ان الشعوب الاسلامية في تلك العهود المظلمة ترزح تحت كابوس ثقيل من الظلم و الجور و الفقر فانطلقوا الي ساحات الجهاد و الكفاح في سبيل تحريرها،و قد وافي محمد بن ابراهيم العلوي الكوفة يسأل عن أخبار الناس،و يتحسسها،و يتأهب لأمره،و بينما هو يسير في بعض

ص: 380


1- نهج البلاغة محمد عبده:18/2

شوارع الكوفة إذ وقع بصره علي عجوز تتبع أحمال الرطب فتلقط ما يسقط منها،و تجمعه في كساء رث كان عليها،فلم يستطع أن يسير،و بادر يسألها عن صنعها فقالت له:

«إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي،ولي بنات لا يعدن علي أنفسهن بشيء،فأنا أتبع هذا الطريق،و أتقوته أنا و ولدي».

فجمد دمه،و انفجر بالبكاء،و قال لها:«أنت و اللّه و أشباهك تخرجوني غدا حتي يسفك دمي» (1).

لقد دفعهم هذا الشعور الفياض بالرحمة و العطف علي الفقير و المحروم الي مناجزة الظالمين،و مناهضة الطغاة الحاكمين الذين استأثروا بأموال الامة و قوتها فانبروا الي ميادين الجهاد لمكافحة ذلك الطغيان و الاستبداد.

2-الشمم و الإباء:

و فطرت نفوس العلويين علي العزة و الكرامة،و جبلت علي النبل و الشهامة و قد جهدت السلطات الجائرة في عصورهم علي اذلالهم فلم يطيقوا صبرا، و تسابقوا الي الشهادة لينعموا بالكرامة،و لما حاول يزيد بن معاوية ارغام سبط النبي(ص)و ريحانته الامام الحسين(ع)علي البيعة له،و الدخول في طاعته.فانبري(ع)الي ساحات الجهاد،و اعلن يوم الطف كلمته الخالدة التي رسم فيها الآباء بما له من معني مشرق قال(ع):

«الا و إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة،و هيهات منا الذلة،يأبي اللّه لنا ذلك،و رسوله و المؤمنون،و حجور طابت،و بطون

ص: 381


1- مقاتل الطالبيين:(ص 521)

طهرت،و أنوف حمية،و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام» (1).

و دارت هذه الكلمات النيرة مع الفلك و ارتسمت فيه فكانت درسا رائعا للمجاهدين من أبنائه،يقول زيد بن علي لما جهد الطاغية هشام في اذلاله:

«ما كره قوم حر السيوف الا ذلوا» و لما عذله جماعة عن الثورة و خوفوه القتل أجابهم:

بكرت تخوفني المنون كأنني اصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها ان المنية منهل لا بد ان أسقي بكأس المنهل (2)

و لما أمعن الأمويون علي ارغام يحيي بن زيد علي الهوان و الذل،اندفع الي الثورة،و اخذ يخاطب نفسه الكبيرة قائلا:

يا ابن زيد أ ليس قد قال زيد من أحب الحياة عاش ذليلا

كن كزيد فأنت مهجة زيد و اتخذ في الجنان ظلا ظليلا (3)

أنت-و اللّه-يا يحيي مهجة زيد،و أنت قطعة من كبد جدك الرسول(ص)قد حملت في أعماق نفسك الكبيرة الشمم و الإباء،فأبيت ان تعيش ذليلا مضاما فترجلت الي ساحة الحرب برغبة و شوق لتموت حرا كريما.

لقد ملأ العلويون بثوراتهم المقدسة تأريخ الاسلام بالفخر و الشرف و المجد،و رسموا للشعوب الاسلامية في جميع مراحل حياتها طريق الكفاح و النضال في سبيل الحرية و الكرامة.ية

ص: 382


1- قريب من ذلك جاء في تأريخ ابن عساكر:333/4
2- الروض النضير:75/1
3- عقائد الزيدية
3-حرمانهم من حقوقهم:

و أمعنت السلطات الحاكمة في ظلم العلويين،و حرمانهم من جميع حقوقهم الطبيعية فأشاعت فيهم الحاجة و الفقر،و قد قوبلوا بالاضطهاد و الحرمان منذ وفاة النبي(ص)فقد حرموا من الخمس الذي فرضه اللّه لهم و صودرت منهم فدكا لئلا تقوي شوكتهم،و استبد القوم بشئون الخلافة و الحكم،و أعرضوا عن عترة النبي(ص)و بالغوا في الحط من شأنهم، و قد ابدي الامام امير المؤمنين حزنه العميق في خطبته«الشقشقية»علي ضياع حقه،و في«نهج البلاغة»قطع كثيرة من كلامه تهز اعماق النفوس قد اعلن فيها سخطه علي نهب تراثه و سلطانه.

و قد تشبعت بهذه الفكرة نفوس ابنائه،فجاهدوا طويلا في ارجاع هذا الحق لهم،و لما تلا دعبل الخزاعي قصيدته علي الامام الرضا(ع) و بلغ الي هذا البيت.

أري فيئهم في غيرهم متقسما و أيديهم من فيئهم صفرات

أثار ذلك احزان الامام،و جعل يقلب يده الشريفة و يقول بنبرات تقطر أسي و حزنا:

«نعم و اللّه انها لصفرات» و هكذا نجد هذا الشعور المرهف بالأسي عند أئمة اهل البيت(ع) و عند شيعتهم،فراحوا يناضلون في سبيله،و قد قدم العلويون مع شيعتهم المزيد من التضحيات حتي ملئت بهم السجون و القبور،و واجهوا اعنف المشاكل و أقساها.

هذه بعض العوامل التي حفزت العلويين علي الانتفاضة و الثورة علي

ص: 383

الحكام الظالمين من بني أمية أو بني العباس.

كلمة الامام ابن الساعي:

و تحدث الامام الفقيه ابن الساعي عن اسباب ثورات العلويين،و قد حفل حديثه بالاستدلال الوثيق علي ما ذهب إليه و هذا نصه:

«إن من يمعن النظر كل الامعان بتأريخ الاسلام يعلم علما يقينا أن كل من خرج من آل بيت النبي(ص)ما كان ذلك منه إلا عن مصيبة نابته،و ضنك مسه،و فاقة لحقته،و ذل أهانه،فان الأمويين كانوا يمنون علي الموالي و صعاليك العرب بمئات ألوف من الدنانير،و يعطونهم الاقطاع و الضيعات،و يستعملونهم علي الممالك،و يستوزرونهم،و يقترون علي الفاطميين حتي يصير الفاطمي في ضيق و محنة شديدة بحيث لا يجد ثمن جارية زنجية يصون بها عفته،و لا ثمن كسوة يستر بها بدنه،و يري أن المخازي الذين يفرطون لبني أمية،و يتمسخرون لهم في مجالسهم،و يشاركونهم في شرابهم و فسقهم و فجورهم في النعم و العز،يتقلبون في انواع الرفاهة،فهنالك يهز الجماعة الفاطمية شرفهم و نخوتهم فيخرجون لا خروجا عن الطاعة،و لا نقضا للبيعة،و لكن يقولون ان أرض اللّه واسعة فيهاجر احدهم الي ناحية من الارض فيها قوم من أمة جده(ص)فاذا وصلهم حركتهم نخوة الدين فاحترموه و أكرموه و آلفته قلوبهم و اجتمعوا عليه فمتي بلغ خبره،الأمويين قالوا خرج و رب الكعبة،و ساقوا عليه القواد و الجنود،و لا يزالون حتي يتركوه شهيدا،و كذلك بنو العباس،و ما ذاك إلا لأن اللّه تعالي اختار لآل نبيه المحنة في هذه الدار الفانية،و النعيم في الآخرة الباقية،و قد جعلهم اللّه في كل زمان مرآة حال أهل ذلك الزمان مع اللّه تعالي،فالزمان الذي

ص: 384

يكرم به أهل البيت(ع)و يحمي به لائذهم،و يؤمن خائفهم و يعطي سائلهم و يقضي به حوائجهم فحال أهله مع اللّه تعالي حسن و العكس بالعكس، و لهم رضي اللّه عنهم عند اللّه تعالي المكانة الرفيعة،و المنزلة العظيمة و بهم هدي اللّه الامة،و أزال عنها الظلمة و جدهم(ص)للناس كافة هو الرحمة.

محبتهم دين و ودهم هدي و بغضهم كفر و نصرهم تقوي (1)

و رأي الامام ابن الساعي رأي وثيق للغاية،فان حرمان العلويين من حقوقهم الطبيعية،و المبالغة في التضييق عليهم ماديا بحيث لا يجد الفرد منهم سد رمقه،و ستر بدنه كان مما حفزهم الي الثورة،و الموت تحت ظلال الأسنة أحرارا كراما.

و نعود بعد هذا العرض الموجز لاسباب ثورة العلويين الي ما عانوه من جور المنصور و ارهاقه.

التجسس علي العلويين:

كان المنصور يعلم باجماع المسلمين علي حب العلويين و ذلك لما اتصفوا به من سجاحة الخلق،و طيب الأعراق،و بسط الكف،و الغزارة في العلم الي غير ذلك من مكارم الاخلاق التي تؤهلهم الي مركز الخلافة الاسلامية و قيادة الأمة...كما كان يعلم ببغض الناس له و كراهيتهم لملكه نظرا لما اتصف به من الشح و البخل و القسوة و الجفاء و المكر و غيرها من رذائله و مساوئه مضافا الي مساوئ أسرته التي عرفت بالخيانة للامة.

لقد انفق المنصور لياليه ساهرا يفكر في البغي علي العلويين و الكيد

ص: 385


1- مختصر اخبار الخلفاء:(ص 26).

لهم،فأجمع رأيه علي أن يبعث عينا له ليقف علي أمورهم و شئونهم و يتعرف علي محمد و أخيه ابراهيم،فاختار رجلا،و كتب معه كتابا علي السنة الشيعة الي محمد يذكرون طاعتهم،و مسارعتهم و بعث بمال و الطاف،و قدم الرجل الي المدينة،فدخل علي عبد اللّه بن الحسن،فسأله عن ابنه محمد فكتم خبره و أخذ الرجل يتردد،و يلح عليه في المسألة،فانخدع عبد اللّه به،و قال له:انه في جبل جهينة،و أمره بأن يمر بعلي الذي يدعي بالأغر فهو يرشده الي مكانه،و كان للمنصور كاتب يتشيع فكتب الي عبد اللّه بن الحسن يخبره بذلك العين،و لما قدم كتابه ارتاعوا منه فبعثوا أبا هبار الي محمد و علي بن الحسن يحذرهما الرجل،فخرج أبو هبار حتي وافي محمدا في موضعه فاذا هو جالس في كهف و معه جماعة من اصحابه و ذلك العين معهم و هو أعلاهم صوتا،و أشدهم انبساطا،فلما رأي أبا هبار خافه،و عرف أن أمره قد انكشف للقوم،و قال أبو هبار لمحمد:لي إليك حاجة فقام معه فأخبره بأمر الرجل،و أشار عليه بقتله الا ان محمدا لم يستجب لذلك،و أشار عليه ثانيا بأن يوثقه و يودعه عند بعض أرحامه فاستجاب لذلك،و لما شعر الرجل بما دبر له انهزم،و تواري عنهم ففتشوا عنه فلم يظفروا به،و انطلق متواريا حتي وافي المنصور و أخبره بالامر.

و استدعي المنصور عقبة بن سلم الأزدي،و قال له:إني اريدك لأمر أنا معني به لم ازل أرتاد له رجلا عسي أن تكونه،و ان كفيتنيه رفعتك ...فقال عقبة:أرجو أن أصدق ظن امير المؤمنين في،فأمره المنصور بأن يخفي شخصه،و يستر أمره،و يلتقي به في وقت عينه له،و لما حان ذلك الوقت خف إليه،فقال له المنصور ان بني عمنا هؤلاء قد أبوا الا كيدا لملكنا،و اغتيالا له،و لهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم، و يرسلون إليهم بصدقات أموالهم،و الطاف من الطاف بلادهم،فاخرج

ص: 386

بكسي و ألطاف و عين حتي تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم تسير ناحيتهم فان كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب و اللّه بهم و أقرب،و إن كانوا علي رأيهم علمت ذلك و كنت علي حذر فأشخص حتي تلقي عبد اللّه بن الحسن متخشعا و متقشفا فان جبهك-و هو فاعل-فاصبر و عاوده حتي يأنس بك،و يلين لك ناحيته فاذا أظهر لك ما قبله فاعجل علي.

و شخص عقبة الي يثرب فقدم علي عبد اللّه فناوله الكتاب فأنكره و نهره،و لم يزل يتردد عليه حتي قبل كتابه و ألطافه و أنس به فسأله عقبة الجواب،فقال:اما الكتاب فاني لا اكتب الي أحد و لكن أنت كتابي إليهم فاقرأهم السلام،و اعلمهم انني خارج (1)و عين له وقت الخروج، و رجع عقبة الي المنصور فأخبره بالأمر (2)فاضطرب اشد الاضطراب، و أخذ يمعن في التفكير فلم ير وسيلة انجع من سفره الي يثرب ليتولي بذاته قمع الحركة و القضاء علي خصومه العلويين (3).

القبض علي العلويين:

و انتظر المنصور موسم الحج فلما حل سافر هو و حاشيته الي بيت اللّه الحرام،و بعد انتهائه من مراسيمه قفل راجعا الي يثرب،و قد صحب معه عقبة بن سلم الذي كان عينا له علي العلويين،و قد اوصاه قبل سفره بقوله:

ص: 387


1- في الطبري«و اخبرهم ان ابني خارجان»
2- الكامل 370/4-371
3- الطبري 181/9

اذا لقيني بنو الحسن و فيهم عبد اللّه فأنا مكرمه و رافع محلته (1)و داع بالغداء فاذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما فانه سيصرف عنك بصره فاستدر حتي ترمز ظهره بابهام رجلك حتي يملأ عينه منك، ثم حسبك و إياك أن يراك ما دام يأكل و لما انتهي المنصور الي يثرب استقبله الحسنيون و فيهم عبد اللّه بن الحسن فقابله بالعناية و التكريم،و اجلسه الي جانبه،و دعا بالغداء فأصابوا منه ثم رفع بصره فقام عقبة،و قام بما عهد إليه المنصور،ثم وثب و جلس أمام المنصور ففزع عبد اللّه و ارتاع منه، و قال للمنصور:

«أقلني يا أمير المؤمنين أقالك اللّه» فصاح به الخبيث الدنس «لا اقالني اللّه ان أقلتك» (2)و أمر بأن يكبل بالحديد،و يزج في السجن،فكبل مع جماعة من العلويين و حبس في بيت مروان،و القيت تحته ثلاث من حقائب الأبل محشوة بالتبن،و دخل عليه جماعة بعثهم والي المدينة إليه فأخذوا يحذرونه من بطش المنصور،و نقمته،و طلبوا منه أن يخبرهم بمكان ولديه لينجو من السجن فالتفت عبد اللّه إلي الحسن بن زيد (3)قائلا له:ه

ص: 388


1- في الطبري«و رافع مجلسه»
2- الكامل 371/4
3- الحسن بن زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع)روي عن أبيه و ابن عمه عبد اللّه بن الحسن و روي عنه جماعة،و ذكره ابن حبان في الثقات ولاه المنصور المدينة خمس سنين ثم غضب عليه و حبسه الي أن أخرجه المهدي و لم يزل معه،و قال الزبير:كان الحسن فاضلا شريفا و قد مدحه علي بن هرمة بعدة قصائد،و هو والد السيدة الجليلة نفيسة توفي سنة 168 ه بطريق مكة بالحاجز-كما ذكره الخطيب-و هو ابن خمس و ثمانين سنة و صلي عليه علي بن المهدي جاء ذلك في تهذيب التهذيب(ج 2 ص 279)

يا ابن أخي،و اللّه لبليتي أعظم من بلية إبراهيم(ع)إن اللّه عز و جل أمر إبراهيم أن يذبح ابنه و هو للّه طاعة،فقال ابراهيم: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (1)و إنكم جئتموني في أن آتي بابني هذا الرجل فيقتلهما،و هو للّه جل و عز معصية،فو اللّه يا ابن أخي لقد كنت علي فراشي فما يأتيني النوم و إني علي ما تري أطيب نوما..» (2).

لقد كانت محنة عبد اللّه في ولديه من اشق المحن و أقساها فقد وقع بين مصيبتين لا منجاة له من احدهما اما ان يبقي في ظلمات السجون يعاني الآلام،و اما أن يخبر بولديه فيعرضهما للموت،و لكنه اختار أن يضحي بنفسه ليقوما باداء رسالتهما فينقذا الأمة من حكم المنصور و طغيانه.

حملهم الي العراق:

و أقام العلويون في سجن الطاغية السفاك-في يثرب-ثلاث سنين، و هم يعانون أهوال الخطوب،و أشدها محنة و قسوة،و قد أثار سجنهم سخط الاخيار و المتحرجين في دينهم،و اخذت الاندية تتحدث عن محنتهم و ما سيجري عليهم في عهد هذا الطاغية الجبار،و قد نقلت إليه الاستخبارات تذمر العامة و نيلهم منه،فقرر أن يمضي الي الحج،و يبحث عن أمر العلويين ليتخذ معهم التدابير اللازمة.

و في سنة(142 ه-)سافر الي الحج،و بعد ما قضي مناسكه رجع

ص: 389


1- سورة الصافات:آية 106
2- مقاتل الطالبيين:(ص 216)

و جعل طريقه علي الربذة فأقام فيها،و استقبله رباح واليه علي يثرب فرده إليها و أمره باشخاص العلويين إليه فقفل رياح راجعا الي يثرب،و مضي الي السجن فأخرج العلويين،و قد وضع في أيديهم الحديد،و جيء بهم الي مسجد النبي(ص)و قد ازدحم عليهم الناس،و هم ما بين باك و واجم قد اذهلهم الخطب،و جعل رياح يوسعهم شتما و قذفا،و طلب من الناس شتمهم الا انهم أخذوا يسبونه،و يشتمون المنصور.

لوعة الامام الصادق:

و فجع الامام الصادق بما حل بأهل بيته من الرزء القاصم فقد بلغ به الحزن الي واد ما له من قرار...لقد أطل عليهم حينما حملوا فأرسل ما في عينيه من دموع،و التفت الي الحسن بن زيد قائلا له:

«يا أبا عبد اللّه و اللّه لا تحفظ للّه حرمة بعد هذا (1)و اللّه ما وفت الانصار و لا ابناء الانصار لرسول اللّه(ص)بما اعطوه من البيعة علي العقبة» و أخذ(ع)يذكر له قصة العقبة قائلا:«إن النبي(ص)قال لعلي:

خذ عليهم البيعة بالعقبة،فقال:كيف آخذ عليهم؟فقال(ص):علي ان يمنعوا رسول اللّه و ذريته مما يمنعون منه أنفسهم و ذراريهم».

و سكت هنيئة و نفسه الشريفة قد ذابت حزنا،ثم قال بنبرات ملؤها الأسي:

«اللهم فاشدد وطأتك علي الانصار..» (2)و روي عبد اللّه بن ابراهيم الجعفري عن خديجة بنت عمر بن علي

ص: 390


1- في الطبري«بعد هؤلاء»
2- مقاتل الطالبيين(ص 219-220)

أنهم لما أوقفوا عند باب المسجد-الباب الذي يقال له باب جبرئيل-اطلع عليهم الامام ابو عبد اللّه،و عامة ردائه مطروح بالأرض،ثم اطلع من باب المسجد،فقال:لعنكم اللّه يا معشر الانصار-ثلاثا-ما علي هذا عاهدتم رسول اللّه،و لا بايعتموه،أما و اللّه إن كنت حريصا،و لكني غلبت و ليس للقضاء مدفع،ثم قام و أخذ إحدي نعليه فأدخلها،رجله،و الأخري في يده،و عامة ردائه يجره في الأرض ثم دخل بيته فحم عشرين ليلة لم يزل يبكي فيها الليل و النهار (1).

لقد ذاب قلب الامام من الحزن،و هامت نفسه في تيار من الهواجس و الآلام،فخلد الي البكاء يخفف به لوعة المصاب و الحزن.

رسالته الي عبد اللّه:

و أرسل الامام الصادق(ع)رسالة الي عبد اللّه بن الحسن يعزيه فيها علي ما حل به من المصاب الأليم و هذا نصها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم الي الخلف الصالح و الذرية الطيبة من ولد أخيه و ابن عمه أما بعد:فلئن كنت قد تفردت أنت و أهل بيتك ممن حمل معك بما أصابكم،ما انفردت بالحزن و الغيظ و الكآبة و أليم وجع القلب دوني،و لقد نالني من ذلك من الجزع و القلق و حر المصيبة مثل ما نالك،و لكن رجعت الي ما أمر اللّه جل و عز به المتقين من الصبر و حسن العزاء حين قال لنبيه صلي اللّه عليه و آله الطيبين: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا (2)و حين يقول

ص: 391


1- بحار الأنوار:283/47
2- سورة الطور:آية 48

لنبيه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (1)و حين يقول لنبيه(ص)حين مثل بحمزة وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (2)فصبر رسول اللّه و لم يعاقب.

و حين يقول:«و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوي» (3).و حين يقول: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (4).و حين يقول: إِنَّما يُوَفَّي الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (5).و حين يقول لقمان لابنه: وَ اصْبِرْ عَلي ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (6)و حين يقول عن موسي و قالَ مُوسي لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (7).و حين يقول: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (8).و حين يقول: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (9)و حين يقول: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ17

ص: 392


1- سورة القلم:آية 48
2- سورة النحل:آية 126
3- سورة طه:آية 132
4- سورة البقرة:آية 156-157
5- سورة الزمر:آية 10
6- سورة لقمان:آية 17
7- سورة الأعراف:آية 128
8- سورة العصر:آية 3
9- سورة البلد:آية 17

مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ (1) و حين يقول: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (2)و حين يقول:

وَ الصّابِرِينَ وَ الصّابِراتِ (3) و حين يقول: وَ اصْبِرْ حَتّي يَحْكُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (4)و أمثال ذلك من القرآن كثير.

و اعلم أي عم و ابن عم أن اللّه جل و عز لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط و لا شيء أحب إليه من الضر و الجهد و البلاء مع الصبر،و انه تبارك و تعالي لم يبال بنعيم الدنيا لعدوه ساعة قط،و لو لا ذلك ما كان اعداؤه يقتلون اولياءه و يخوفونهم،و يمنعونهم،و اعداؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون و لو لا ذلك لما قتل زكريا و يحيي بن زكريا ظلما و عدوانا في بغي من البغايا و لو لا ذلك ما قتل جدك علي بن أبي طالب(ع)لما قام بأمر اللّه جل و عز ظلما،و عمك الحسين بن فاطمة صلي اللّه عليهم اضطهادا و عدوانا.

و لو لا ذلك ما قال اللّه جل و عز في كتابه: وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (5)و لو لا ذلك لما قال في كتابه: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (6).

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«لو لا أن يحزن المؤمن لجعلت56

ص: 393


1- سورة البقرة:آية 155
2- سورة آل عمران:آية 146
3- سورة الأحزاب:آية 35
4- سورة يونس:آية 109
5- سورة الزخرف:آية 33
6- سورة المؤمنون:آية 55-56

للكافر عصابة من حديد فلا يصدع رأسه أبدا»و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«إن الدنيا لا تساوي عند اللّه جل و عز جناح بعوضة»و لو لا ذلك ما سقي كافرا منها شربة من ماء،و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:

«لو أن مؤمنا علي قلة جبل لابتعث اللّه له كافرا أو منافقا يؤذيه»و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«انه اذا أحب اللّه قوما او أحب عبدا صب عليه البلاء صبا فلا يخرج من غم إلا وقع في غم».

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:«ما من جرعتين أحب الي اللّه عز و جل أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا من جرعة غيظ كظم عليها، و جرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء و احتساب»و لو لا ذلك لما كان أصحاب رسول اللّه(ص)يدعون علي من ظلمهم بطول العمر و صحة البدن،و كثرة المال و الولد،و لو لا ذلك ما بلغنا أن رسول اللّه(ص)كان اذا خص رجلا بالترحم عليه و الاستغفار استشهد،فعليكم يا عم و ابن عم و بني عمومتي و اخوتي بالصبر و الرضا و التسليم و التفويض الي اللّه عز و جل و الرضا بالصبر علي قضائه،و التمسك بطاعته،و النزول عند أمره،أفرغ اللّه علينا و عليكم الصبر،و ختم لنا و لكم بالأجر و السعادة،و انقذنا و إياكم من كل هلكة بحوله و قوته انه سميع قريب،و صلي اللّه علي صفوته من خلقه محمد النبي و أهل بيته..» (1).

و كانت هذه الرسالة سلوي لهم فيما عانوه من شدة المحن و الخطوب، كما انها احتوت علي مدحهم و الثناء عليهم،و لو كانوا في خروجهم علي المنصور بغير وجه مشروع لما توجع عليهم الامام،و أثني عليهم فان شأن الامامة كشأن النبوة بعيد عن المحاباة و الاندفاع بأي عاطفة من عواطف الحب).

ص: 394


1- بحار الانوار:(299/47-301)،الاقبال(ص 49 -51).

و مما يدل علي انهم كانوا علي حق أنه(ع)كان يتطلع بلهفة الي التعرف علي اخبارهم فقد روي خلاد بن عمير الكندي مولي آل حجر بن عدي قال دخلت علي أبي عبد اللّه(ع)فقال:

«هل لكم علم بآل الحسن؟» يقول خلاد:و كان قد اتصل بنا عنهم خبر،فلم نحب أن نبدأه به فقلنا له:نرجوا أن يعافيهم اللّه،فقال(ع):

«و اين هم من العافية؟» ثم بكي حتي علا صوته،و بكينا معه (1)و يضاف الي ذلك ما ورد في حقهم من المدح فقد روي خلاد عن أبيه عن فاطمة بنت الحسين(ع) قالت:سمعت أبي(ع)يقول:يقتل منك أو يصاب منك نفر بشط الفرات ما سبقهم الأولون،و لا يدركهم الآخرون،و انه لم يبق من ولدها غيرهم (2).

و علي أي حال فانهم لم يخرجوا علي حكومة المنصور إلا بوعي من روح الاسلام و هديه الذي ألزم بمناهضة الظلم،و مقاومة الجور و الطغيان.

في الربذة:

و سارت قافلة العلويين من يثرب،فلما بعدت عنها بثلاثة أميال أنزلوا عن رواحلهم،و جيء لهم بحدادين فألقوا كل رجل منهم في كبل و غل و قد ضاقت حلقتا القيد الذي كبل به عبد اللّه بن الحسن فتأوه من الألم فأقسم عليه أخوه البار علي بن الحسن ان يحولها إليه فحولت له،و بذلك

ص: 395


1- بحار الأنوار 302/47
2- بحار الأنوار 302/47

ضرب المثل الأعلي للاخاء الصادق.

و لما انتهت القافلة الي الربذة أنزل العلويون عن رواحلهم و هم مكبلون بالحديد تصهرهم الشمس،و أمر المنصور بادخال محمد بن عبد اللّه عليه (1)فلما مثل عنده قابله المنصور بالسب و الشتم و القذف،و اتهمه بامور أمسكنا عن ذكرها لفحشها،فان هذا الخبيث الدنس الذي حفل تأريخه بالعار و الخزي لم يتحرج من الاتهام و الكذب و قول الإفك.

و أمر الباغي الأثيم بتجريد محمد من ثيابه فجرد منها حتي بدت عورته و أمر جلاوزته بضربه،فعلته الجلاوزة بالسياط فضرب خمسين و مائة سوط و قد بلغ به الالم كل مبلغ،و المنصور جذل مسرور،و أصاب احدي السياط وجهه،فقال للجلاد:«اكفف عن وجهي فان له حرمة من رسول اللّه(ص)»:

فانبري المنصور الي الجلاد قائلا:

«الرأس..الرأس» فضربه ثلاثين سوطا علي رأسه،ثم دعا بساجور (2)من خشب شبيه به في طوله فشد في عنقه،و شدت به يداه،و أخرج ملببا فدخل علي اصحابه كأنه زنجي قد غيرت السياط لونه،و أسالت دمه،و أصاب سوط منها احدي عينيه فسالت،و وثب إليه مولي لابي جعفر فقال له:

الا الوثك بردائي؟فقال له بلي جزيت خيرا،فو اللّه لشفوف إزاري أشد علي من الضرب الذي نالني،فألقي عليه المولي الثوب (3).

و استدعي محمد و هو بتلك الحالة ماء فلم يسقه أحد سوي رجل من/6

ص: 396


1- البداية و النهاية 81/10
2- الساجور:خشبة تعلق بعنق الكلب
3- الطبري 179/6

أهالي خراسان فانبري إليه و سقاه الماء،و لم يلبثوا قليلا حتي اجتاز عليهم المنصور و هو في محله،فانطلق إليه عبد اللّه بن الحسن يذكره بما أسداه جده الرسول(ص)من الفضل و الاحسان علي العباس جد المنصور حينما جيء به أسيرا قائلا له:

«ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر؟» فأشاح المنصور بوجهه عنه،و قد لذعه قوله،و أمر بحمل العلويين الي العراق.

في الهاشمية:

و أخذت قافلة العلويين تطوي البيداء،و تسرع بهم الي القبور و السجون حتي انتهت الي«الهاشمية»فأمر المنصور بزجهم في سجن لا يعرف فيه الليل من النهار فأودعوا فيه،و كانوا لا يعرفون فيه وقت الصلاة لظلمته،فجزءوا القرآن الكريم خمسة أجزاء فكانوا يصلون الصلاة علي فراغ كل واحد منهم لحزبه (1).

و أمر المنصور باحضار محمد بن ابراهيم،و كان آية في جماله و بهاء وجهه،و كان الناس يذهبون الي النظر لحسنه،و لما حضر عند المنصور التفت إليه بسخرية قائلا:

-أنت المسمي بالديباج الأصفر؟ -نعم -أما و اللّه لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا من أهل بيتك.

ص: 397


1- مروج الذهب 225/3

ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت،و أدخل فيها،فبنيت عليه و هو حي (1)لقد تفجرت سياسة هذا الباغي الأثيم تجاه العلويين بجميع ألوان المنكرات و الموبقات،فلم يرع حرمة رسول اللّه(ص)في ابنائه،و عمد لي ابادتهم بصورة لم يعهد لها نظير في تأريخ المجازر البشرية.

و بلغ من قساوة جلاوزته ان عبد اللّه بن الحسن شيخ العلويين استدعي بماء فطلب بعضهم الاذن من المنصور في ذلك فسمح له فجاء إليه بماء بارد فبينما هو يشرب اذ وثب إليه أبو الأزهر فضرب الاناء برجله بشدة فألقي عبد اللّه ثناياه في الاناء (2).

و بقي العلويون في سجن المنصور و هم يعانون أهوال الخطوب و أقسي المصائب،فكانوا يتوضّئون في مواضعهم حتي اشتدت عليهم الرائحة و احتال بعض مواليهم فادخل لهم شيئا من الغالية فكانوا يدفعون بشمها الروائح الكريهة،و لكنها لم تكن تجدي شيئا،فقد ورمت أقدامهم،و سري الورم الي قلوبهم فمات اكثرهم،و أمر الطاغية بهدم السجن علي من بقي فهدم عليهم،فمات اكثرهم و فيهم عبد اللّه بن الحسن (3).

و حفلت هذه المأساة الخالدة في دنيا الاحزان بأنواع الرزايا و الخطوب فقد انتهكت فيها حرمة الرسول الاعظم(ص)في ذريته و ابنائه،فلم يرع لهم المنصور أي حرمة،و لم يراقب اللّه فيهم.

ففي سبيل اللّه تلك النفوس الزكية التي وهبت أرواحها للّه لتنقذ عباده من شر تلك الطغمة الحاكمة التي كفرت بجميع القيم الانسانية.

و قد أثارت هذه المأساة الكبري موجات من السخط علي بني العباس/3

ص: 398


1- الطبري 398/9
2- مقاتل الطالبيين(ص 243)
3- مروج الذهب 225/3

و قد اندفع.بو فراس الحمداني بعد احقاب من السنين يهجو العباسيين علي هذه الجريمة النكراء التي اقترفها جدهم المنصور،قال:

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن أباهم العلم الهادي و أمهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم و لا يمين و لا قربي و لا ذمم

هلا صفحتم عن الأسري بلا سبب للصافحين ببدر عن أسيركم

هلا كففتم عن الديباج سوطكم و عن بنات رسول اللّه شتمكم

ما نزهت لرسول اللّه مهجته عن السياط فهلا نزه الحرم

ما نال منهم بنو حرب و ان عظمت تلك الجرائم الا دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة و كم دم لرسول اللّه عندكم

أنتم له شيعة فيما ترون و في اظفاركم من بنيه الطاهرين دم

هيهات لا قربت قربي و لا رحم يوما إذا أقصت الاخلاق و الشمم

كانت مودة سلمان له رحما و لم يكن بين نوح و ابنه رحم (1)

و في هذا الشعر أعمق الحزن علي ما أصاب العلويين من الرزايا و النكبات في عهد المنصور و سائر ملوك بني العباس الذين قطعوا أواصر الرحم و القربي و تنكروا للاحسان الذي أسداه الرسول الاعظم علي جدهم العباس فقد قابلوا ذلك بانزال أمر العقاب و أقساه بذرية النبي و عترته.

مصادرة أموال العلويين:

و لما اعتقل المنصور العلويين،و أودعهم في ظلمات السجون عهد الي عامله بمصادرة جميع اموالهم،و بيع رقيقهم (2)و صادر أموال الامام الصادق(ع)

ص: 399


1- الغدير 238/3
2- البداية و النهاية 81/10

و لما هلك المنصور ارجعها المهدي الي الامام موسي(ع).

ثورة الزكي محمد:

و كان محمد بن عبد اللّه بن الحسن من أعلام العلويين في علمه و فقهه و شجاعته و جوده،و قد جمع في برديه كل فضل موروث و مكسوب،و قد سمي بذي النفس الزكية و صريح قريش لأنه لم يجيء من أم ولد في جميع آبائه و امهاته بل جاء خالصا نقيا من قريش،و سماه الناس بالمهدي الذي بشر به النبي(ص) (1)و في ذلك يقول الشاعر:

إنا لنرجو أن يكون محمد إماما به يحيا الكتاب المنزل

به يصلح الاسلام بعد فساده و يحيا يتيم بائس و معول

و يملأ عدلا أرضنا بعد ملئها ضلالا و يأتينا الذي كنت آمل (2)

و كان يشبه جده الرسول(ص)في خلقه و أخلاقه،و أعتقد أهل المدينة أنه لو جاز أن يبعث اللّه نبيا بعد محمد(ص)لكان هو (3).

و قد رشح للخلافة باجماع الهاشميين،و كان المنصور الدوانيقي يسير بخدمته،و يسوي عليه ثيابه،و يمسك له دابته تقربا إليه كما بايعه مع أخيه السفاح مرتين،و بعد اختلاس العباسيين للحكم تألم محمد أشد الألم و اقساه و أخذ يدعو الناس لنفسه فاستجابوا له،و ظل مختفيا مع أخيه ابراهيم و دعاتهم تجوب في الاقطار للدعوة إليهم،و كان أبوهما عبد اللّه يمجد فيهما روح الثورة و يحفزهما علي النضال فقد قال لهما:

ص: 400


1- غاية الاختصار(ص 12)
2- مقاتل الطالبيين(ص 243)
3- شذرات الذهب 213/1

«إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين» (1).

و لما بلغ محمد وفاة أبيه عبد اللّه مع ابناء عمومته من العلويين في سجن المنصور،و ما حل فيهم من صنوف التنكيل و التعذيب،تواعد هو و أخوه ابراهيم علي اعلان الثورة في يوم مخصوص،فأعلن محمد الأمر في يثرب في الوقت المقرر له-علي ما قيل-و انبري الناس الي مبايعته،و استبشروا ببيعتهم له،و قام جيشه باحتلال الدوائر الرسمية،و بالاستيلاء علي بيت المال و هرعت أهالي اليمن و مكة الي بيعته و قد اجتمعت الجموع الحاشدة في يثرب تظهر له الطاعة و الانقياد،و قد قام فيهم خطيبا فقال بعد حمد اللّه و الثناء عليه:

«أما بعد:أيها الناس فانه كان من أمر هذا الطاغية عدو اللّه أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندا للّه في ملكه تصغيرا للكعبة الحرام،و إنما أخذ فرعون حين قال:أنا ربكم الأعلي، و ان أحق الناس بالقيام بهذا الدين ابناء المهاجرين و الانصار المواسين.

اللهم:انهم قد احلوا حرماتك،و حرموا حلالك،فآمنوا من أخفت، و أخافوا من آمنت اللهم فاحصهم عددا،و اقتلهم بددا،و لا تغادر منهم أحدا.

أيها الناس:اني و اللّه ما خرجت من بين أظهركم،و انتم عندي لا أهل قوة،و لا شدة،و لكن اخترتكم لنفسي،و اللّه ما جئت هذه و في الارض مصر يعبد فيه اللّه إلا و قد أخذ لي البيعة فيه» (2)./9

ص: 401


1- مقاتل الطالبيين(ص 243)
2- الطبري 219/9

و دل هذا الخطاب علي أخذ البيعة له من جميع الاقاليم الاسلامية إلا ان بعض المعلقين علي خطابه ذهب الي أن ذلك كان مكيدة من المنصور فهو الذي أوعز الي ولاته بمراسلة محمد و الاستجابة الي دعوته حتي يبادر الي اعلان الثورة قبل أن تستكمل مخططاتها ليمكن القضاء عليها في بدايتها.

و علي أي حال فان الانباء حينما وافت المنصور وجه جيشا لقتاله يقدر عدده بأربعة آلاف فارس،و جعل قيادته العامة الي ولي عهده عيسي بن موسي،و سارت الجيوش،تطوي البيداء حتي انتهت الي يثرب،و حينما علم محمد بقدوم جيوش المنصور بث جيوشه في الشوارع و الأزقة،و قبل أن تندلع نيران الحرب خطب في جيشه فقال:

«أيها الناس،إنا قد جمعناكم للقتال و أخذنا عليكم المناقب،و ان هذا العدو منكم قريب،و هو في عدد كثير،و النصر من اللّه،و الأمر بيده، و انه قد بدا لي أن آذن لكم،و أفرج عنكم المناقب،فمن أحب أن يقيم أقام،و من أحب أن يضعن ضعن..» و كان هذا الخطاب خطاب مخذول لا وثوق له بالنصر،و لا أمل له في التغلب علي الأحداث نظرا لضخامة جيش العدو،و قلة من معه،و لم يرغم اصحابه علي الخوض في الحرب،كما لم يعتمد علي وسائل الخداع و التضليل و هو موقف تمثلت فيه الشهامة و النبل.

و لما سمع خطابه الانتهازيون و ذوو الاطماع تفرقوا عنه،و بقي في خلص اصحابه (1)و لم تكن لهم قدرة علي الدفاع عنه،و قد خف إليه عبد اللّه بن جعفر(2) فقال له:ام

ص: 402


1- الطبري
2- عبد اللّه بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن الامام امير المؤمنين المعروف بالافطح،قال الشيخ المفيد:كان اكبر اخوته بعد اسماعيل،و لم تكن له منزلة عند أبيه،و كان متهما في الخلاف علي أبيه فقد قيل:انه كان يخالط الحشوية،و يميل الي مذهب المرجئة،و ادعي بعد وفاة أبيه الامامة محتجا بأنه اكبر اخوته فتبعه جماعة من البسطاء،ثم رجع اكثرهم الي القول بامامة الامام موسي(ع)-كما سنوضحه-جاء ذلك في تنقيح المقال 174/2

«بأبي أنت و أمي،إنه و اللّه مالك بما رأيت طاقة،و ما معك أحد يصدق القتال،فاخرج الساعة حتي تلحق بالحسن بن معاوية بمكة فان معه جلة اصحابك..».

فانطلق محمد يجيبه بما انطوت عليه نفسه الكبيرة من الشرف و النبل قائلا:

«يا أبا جعفر،و اللّه لو خرجت لقتل اهل المدينة،و اللّه لا أرجع حتي أقتل أو اقتل،و أنت مني في سعة فاذهب حيث شئت» (1).

ان محمدا إذا ترك يثرب فان جيش المنصور سيحتلها،و يقابل المدنيين بمنتهي القسوة و الانتقام،و ينتهك جميع الحرمات،فرأي محمد أن يقيم فيها و يضحي بنفسه في سبيل أمن الناس و سلامتهم.

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين،و بعد صراع رهيب بين قوي الحق و قوي البغي أصيب القائد العظيم محمد ذو النفس الزكية بجراح خطير فسقط علي الارض،و برك علي ركبتيه،فبادر إليه الاثيم حميد بن قحطبة و هو يصيح بالجند لا تقتلوه فكفوا عنه فقام الوغد بنفسه ليبوء بالإثم و الجحيم فاحتز رأسه الشريف (2).ين

ص: 403


1- الطبري 224/9
2- مقاتل الطالبيين

و انتهت بذلك صفحة من أروع صفحات الجهاد المقدس،و انطوت أعظم حركة اصلاحية في العالم الاسلامي كانت تهدف الي نشر العدل، و سيادة الامن و الدعة بين الناس.

و انهارت القوي الخيرة،و تحطمت آمال الاحرار فقد فقدوا قائدهم الاعلي الذي كان منارا لهم في طريق النضال و الجهاد.

ثورة الزكي ابراهيم:

كان ابراهيم بن عبد اللّه من قادة الفكر،و من أعلام عصره في علمه و أدبه و أخلاقه و حسن تدبيره،و قد اترعت نفسه الزكية بالايمان بحق الأمة فانطلق في ميادين الجهاد لينقذها من حكم العبودية و الذل،و يحقق في رحابها عدل الاسلام و احكام القرآن.

و الشيء الذي عرف به ابراهيم انه كان حديدي الارادة،و كان يقظا حساسا،فقد طلبه المنصور أشد الطلب،و بث عليه العيون،و قد استطاع أن يجلس علي موائد المنصور من دون أن يشعر به،و قد حدث عن ذلك بقوله:

«اضطرني الطلب بالموصل حتي جلست علي موائد المنصور،و قد قدم إليها يطلبني فلفظتني الأرض فجعلت لا أجد مساغا.و وضع الطلب و المراصد و دعا الناس الي غدائه فدخلت فيمن دخل،و اكلت فيمن أكل ثم خرجت،و قد كف الطلب».

و في هذا الاقدام دليل علي ما يحمله من القابليات الفذة التي تجعله في مصاف العظماء الذين لا يفكرون بالهزيمة،و لا تغير من عزيمتهم الاحداث الجسام،و قد اتته الأنباء المريعة بمقتل أخيه،و هو يخطب علي المنبر فجعل

ص: 404

يتمثل بهذه الأبيات:

أبا المنازل يا خير الفوارس من يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

اللّه يعلم أني لو خشيتهم و أوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه و لم أسلم أخي لهم (1) حتي نموت جميعا أو نعيش معا

ثم تبلورت دموعه علي وجهه الشريف،و أخذ يؤبن أخاه و يصوغ من حزنه كلمات قائلا:

اللهم:إنك تعلم أن محمدا انما خرج غضبا لك و نفيا لهذه المسودة و ايثارا لحقك،فارحمه،و اغفر له،و اجعل الآخرة خير مرد له و منقلب في الدنيا..» (2)و رثي أخاه بهذه الابيات:

سأبكيك بالبيض الرقاق و بالقنا فان بها ما يدرك الطالب الوترا

و إنا أناس لا تفيض دموعنا علي هالك منا و لو قصم الظهرا

و لست كمن يبكي أخاه بعبرة يعصرها من ماء مقلته عصرا

و لكني أشفي فؤادي بغارة ألهب في قطري كتائبها جمرا

لقد تمثلت البطولة بما لها من معني مشرق بهذا الموقف الرائع الذي وقفه ابراهيم،فلم يوهن عزيمته مقتل أخيه العظيم،و انما زاده ايمانا و تصميما علي المضي في طريق الكفاح و النضال.

و أعلن ابراهيم في البصرة ثورته الكبري علي حكومة المنصور فاستجاب له المسلمون،و انضموا الي دعوته،و كان سفيان بن معاوية والي البصرة من المؤيدين له،و كان علي اتصال دائم معه،يطلعه علي كل ما جدّ للمنصور من رأي في أمر البصرة و ساعده في كثير من شئون الثورة.2)

ص: 405


1- في رواية«و لم يسلم أخي»
2- مقاتل الطالبيين(ص 342)

و احتل ابراهيم البصرة،و وجه دعاته الي الاهواز و فارس و واسط و المدائن فاستجابت هذه الاقطار و بايعته،و خفق علم الدولة العلوية عليها، و توالت أنباء الثورة العارمة علي المنصور فهاله ذلك و جزع جزعا شديدا، و خيم عليه الذعر،و قد دخل عليه الحجاج بن قتيبة فرآه ينكث الارض بمخصرته و ينشد:

و نصبت نفسي للرماح دريئة إن الرئيس لمثل ذاك فعول

فقال له الحجاج:ادام اللّه عزك،و نصرك اللّه علي عدوك أنت كما قال الأعشي:

و إن حربهم أوقدت بينهم فحرت لهم بعد ابرادها

وجدت صبورا علي حرها و كر الحروب و تردادها

فقال المنصور:يا حجاج إن ابراهيم قد عرف و عورة جانبي و صعوبة ناحيتي و خشونة قرني،و إنما جرأه علي المسير إلي من البصرة هذه الكور المطلة علي عسكر امير المؤمنين،و أهل السواد معه علي الخلاف و المعصية، و قد رميت كل كورة بحجرها،و كل ناحية بسهمها،و وجهت إليه الشهم النجد الميمون المظفر عيسي بن موسي في كثير من العدد و العدة،و استعنت باللّه عليه،و استكفيته إياه فانه لا حول و لا قوة لامير المؤمنين الا به.

و لما توفرت لإبراهيم الجيوش المزودة بالعدة و العدد عزم علي المسير الي حرب المنصور فأشار عليه اصحابه البصريون أن يقيم في البصرة،و يرسل الجنود فاذا انهزموا امدهم بغيرهم،و قال قوم من أهل الكوفة:إن بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك،و إن لم يروك قعدت بهم أسباب شتي، و استجاب ابراهيم لرأي الكوفيين،فتوجه بنفسه الي حرب المنصور،و لو انه أقام بالبصرة لتغلب علي الاحداث و تم له النصر.

و وجه المنصور الي حرب ابراهيم جيشا بلغ عدده خمسة عشر الفا،

ص: 406

و جعل قيادته العامة الي ولي عهده عيسي بن موسي،و جعل علي مقدمته حميد بن قحطبة،و قال له لما ودعه:ان هؤلاء الخبثاء-يعني المنجمين- يزعمون انك إذا لقيت ابراهيم تجول اصحابك جولة حتي تلقاه،ثم يرجعون إليك و تكون العاقبة لك.

و سار ابراهيم بجيشه يطوي البيداء،و سمع و هو ينشد في طريقه أبيات القطامي:

أمور لو يدبرها حكيم إذن أنهي وهيب ما استطاعا

و معصية الشفيق عليك مما يزيدك مرة منه استماعا

و خير الأمر ما استقبلت منه و ليس بأن تتبعه التباعا

و لكن الأديم اذا تفري بلي و تعيبا غلب الصناعا (1)

و دل ذلك علي ندمه علي مسيره،فقد استبان له انه لو بقي بالبصرة لكان خيرا له،و توجه بجيشه الي«باخمري»و لم يتجه الي الكوفة مخافة ان تستباح الأعرض،و تقتل الاطفال،و أشار عليه قوم بالمسير الي الكوفة فانه اضمن الي نجاحه إلا انه لم يستجب لهم مخافة ما ذكرناه.

و اندلعت نار الحرب بين الفريقين فانهزم جيش المنصور شر هزيمة حتي انتهت طلائعها الي الكوفة فوجل المنصور و رام الهزيمة،و جعل يقول للربيع متعرضا بما أخبر به الامام الصادق(ع)من فوز العباسيين بالحكم:

«أين قول صادقهم،و كيف لم ينلها ابناؤنا فاين امارة الصبيان؟!!» و بعد ما حوصر و ضيق عليه أمر بجعل الابل و الدواب علي جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها.

و كرت جيوش المنصور راجعة بعد هزيمتها بسبب نهر لقيها فلم تقدر علي اجتيازه،فعادوا بأجمعهم،و كان أصحاب ابراهيم قد مخروا الماء ليكون/5

ص: 407


1- الكامل 18/5

قتالهم من وجه واحد،فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار،و ثبت ابراهيم في نفر من أصحابه فقاتلهم حميد بن قحطبة،و جعل يرسل بالرؤوس الي عيسي،و جاء سهم غادر فوقع في حلق ابراهيم فنحره فتنحي عن موقفه،و قال لاصحابه:انزلوني فانزلوه عن مركبه و هو يقول:«و كان أمر اللّه قدرا مقدورا»أردنا أمرا و أراد اللّه غيره.

و اجتمع عليه اصحابه و خاصته يحمونه،و يقاتلون دونه فقال حميد بن قحطبة شدوا علي تلك الجماعة حتي تزيلوهم عن موضعهم،و تعلموا ما اجتمعوا عليه،فشدوا عليهم يقاتلونهم حتي أفرجوهم عن ابراهيم فاحتزوا رأسه الشريف فأتوا به عيسي فسجد و بعث برأسه الي المنصور (1).

و بذلك انتهت اروع صفحة من صفحات الجهاد المقدس،و طويت أعظم شخصية في العالم الاسلامي كانت تروم القضاء علي الظلم و الجور و اعادة الحياة الكريمة في الاسلام.

و لما انتهي مقتل الشهيد العظيم الي المنصور الخبيث اللئيم كاد ان يطير فرحا فقد تحققت جميع آماله و أمانيه،و كان بين يديه طعام قد استطابه فقال لمن حوله:

«أراد ابراهيم أن يحرمني هذا و أشباهه» (2).

ان ثورة الزكي ابراهيم رائد الحق و العدالة لم تكن من أجل متع الحياة و لذائذها،و انما كانت لتحطيم المنكر و ابادة الظلم،و انقاذ الناس من الحكم الارهابي الذي ساد عليهم أيام المنصور.

ان تلك الثورة الخالدة كانت من أجل تحقيق المثل العليا و تطبيق احكام القرآن علي واقع الحياة العامة بين الناس:/3

ص: 408


1- الكامل 19/5
2- مروج الذهب 224/3

و التفت المنصور و هو جذلان مسرور الي حضار مجلسه قائلا لهم:

«تالله ما رأيت أنصح من الحجاج لبني مروان؟!!».

فانبري إليه المسيب بن زهرة الضبي يظهر له أنهم أطاعوه اكثر من اطاعة الحجاج لاسياده الأمويين قائلا:

«يا أمير المؤمنين،ما سبقنا الحجاج لأمر فتخلفنا عنه،و اللّه ما خلق اللّه علي جديد الارض خلقا أعز علينا من نبينا(ص)و قد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك و فعلنا فهل نصحناك؟».

فلذع قوله المنصور فصاح به:

«اجلس لا جلست» (1).

و صفا الملك للمنصور بعد ثورة العلويين،و راح الطاغية الجبار بعد ذلك يمعن في ظلم الرعية و ارهاقها،فقد تفللت القوي الخيرة التي كان يحذرها و يخشي بأسها،و أخذ يجد في التنكيل ببقية العلويين،و استئصال شأفتهم،و نعرض فيما يلي الي بعض ما لاقوه من صنوف الارهاق الذي لا يوصف لفضاعته و قسوته.

وضعهم في الاسطوانات:

و لما خمدت ثورة العلويين جعل يطلب من بقي منهم طلبا حثيثا فمن ظفر به جعله في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص و الآجر،و ظفر بغلام من ولد الحسن و كان حسن الوجه فسلمه الي البناء و أمره أن يجعله في جوف اسطوانة و يبني عليه،و وكل به من ثقاته من يراعي ذلك فجعله البناء في جوف اسطوانة و قد دخلته رقة عليه فترك له في الاسطوانة منفذا يدخل

ص: 409


1- مروج الذهب 224/3

منها الروح،و قال للغلام:لا بأس عليك فاصبر فاني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة اذا جن الليل.

و لما جن الليل جاء البناء فأخرج العلوي،و قال له:اتق اللّه في دمي و دم العملة الذين معي،و غيب شخصك،فاني انما اخرجتك في ظلمة هذه الليلة لأني خفت أن يكون جدك رسول اللّه(ص)يوم القيامة خصمي بين يدي اللّه،و اكد عليه بأن يواري نفسه فطلب منه الغلام أن يعرف أمه بذلك لتطيب نفسها،و يقل جزعها،و هرب الغلام و لا يعلم في أي ارض اقام فيها،و انتهي البناء الي الدار الذي عينه العلوي فسمع دوبا كدوي النحل من البكاء فعرف أنها أمه فأسرها بخبر ولدها،و انصرف عنها (1).

خزانة رءوس العلويين:

و حديث الخزانة ملئ بالأسي و الشجون فقد ملأها برءوس العلويين شيوخا و شبابا و أطفالا،و أوصي ريطة زوج المهدي أن لا يفتحها المهدي و لا يطلع عليها الا بعد هلاكه،و قد دونها الطبري في تأريخه و هذا نصها:

«لما عزم المنصور علي الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي و كان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد،و عهد إليها و دفع إليها مفاتيح الخزائن،و تقدم إليها و أحلفها و وكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن،و لا تطلع عليها أحدا إلا المهدي،و لا هي الا ان يصح عندها موته،فاذا صح ذلك اجتمعت هي و المهدي و ليس معهما احد حتي يفتحا الخزانة،فلما قدم المهدي من الري الي مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح و أخبرته أنه تقدم إليها ألا يفتحه،و لا يطلع عليه أحد حتي يصح

ص: 410


1- بحار الانوار 306/47-307،عيون اخبار الرضا 111/1

عندها موته،فلما انتهي الي المهدي موت المنصور،و ولي الخلافة فتح الباب و معه ريطة،فاذا ازج كبير فيه جماعة من قتلي الطالبيين،و في آذانهم رقاع فيها انسابهم،و اذا فيهم أطفال،و رجال شباب،و مشايخ عدة كثيرة،فلما رأي ذلك المهدي اإرتاع لما رأي و أمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها،و عمل فوقها دكانا (1).

لقد احتفظ المنصور بتلك الخزانة،و ادخرها(ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون)ادخرها«ليوم الفصل»يوم يعض الظالم علي يديه.

استرحام العلويين:

و أخذ العلويون يسترحمون هذا الطاغية،و يطلبون منه العفو إلا انه لم تحركه العواطف الانسانية،و لا الرحم الماسة للصفح عنهم فقد توجه الي بيت اللّه الحرام و بينما هو يسير في موكبه اذ انطلقت إليه ابنة عبد اللّه ابن الحسن فتلت عليه هذه الأبيات الرقيقة:

ارحم صغار بني يزيد انهم يتموا لفقدك لا لفقد يزيد

و ارحم كبيرا سنه متهدما في السجن بين سلاسل و قيود

و لئن أخذت بجرمنا و جزيتنا لنقتلن به بكل صعيد

ان جدت بالرحم القريبة بيننا ما جدكم من جدنا ببعيد

فلم يحرك ضميره القاسي هذا الاستعطاف الرقيق فكان جوابه لها:

«أ ذكرتنيه يا بنت عبد اللّه» ثم أمر به فأهدر في المطبق،و لفظ فيه انفاسه الأخيرة (2)

ص: 411


1- الطبري 320/6 الطبعة الأولي
2- جاء في تذكرة الخواص(ص 230)ان قول فاطمة بنت عبد اللّه«و ارحم صغار بني يزيد»انما وقع من فلتات لسانها اذ لم يكن لعبد اللّه بن الحسين ابن اسمه يزيد و لا يعرف في آل أبي طالب من اسمه يزيد الا يزيد بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر،و قد انكر عليه بنو هاشم هذا و هجروه لاجل ما سمي به.

لقد انتهي المنصور الي حضيض من اللؤم و القسوة ما له من قرار:

الإمام الصادق في ذمة الخلود:

و قاسي الامام الصادق في عهد المنصور جميع أنواع الخطوب و الآلام فرأي ما قاساه المسلمون من الجهد و البلاء،و ما عاناه العلويون من صنوف التنكيل و التعذيب،و قد كانت سلامته من المنصور اعجوبة بالرغم من تحرزه و توقيه من الاشتراك في أي ميدان من الميادين السياسية،و يدل علي ذلك حديثه المشهور:

«عزت السلامة حتي لقد خفي مطلبها فان تكن في شيء فيوشك ان تكون في الخمول،فان طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت،و السعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها».

لقد حاول المنصور ان يفتك به مرارا،و لكن اللّه رد عنه كيده، و قد احضره غير مرة و هو يتميز غيظا،و يحاول قتله،و قد دفع اللّه عنه شره،و قد ارسل إليه مرة الربيع فأنفذ إليه ولده محمد و أمره أن يأتي به علي الحالة التي هو عليها،و قال له:امض الي جعفر بن محمد فتسلق علي حائطه و لا تفتح عليه بابا فيغير بعض ما هو عليه،و لكن انزل عليه نزولا،فقام محمد بما أمر به،فوجد الامام قائما يصلي فلما فرغ من صلاته قال له:

-اجب امير المؤمنين

ص: 412

-دعني ألبس ثيابي -ليس الي ذلك من سبيل فجاء بالامام علي حالته،و ادخله عليه،فقال له المنصور بنبرات تقطر غضبا:

«يا جعفر ما تدع حسدك و بغيك و افسادك علي أهل هذا البيت من بني العباس،و ما يزيدك اللّه بذلك إلا شدة حسد،و نكد ما تبلغ به ما تقدره».

فقال له الامام:

«و اللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من هذا و لقد كنت في ولاية بني أمية و أنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا و لكم،و انهم لاحق لهم في هذا الأمر،فو اللّه ما بغيت عليهم،و لا بلغهم عني سوء،مع جفاهم الذي كان بي،و كيف يا أمير المؤمنين اصنع الآن هذا؟و أنت ابن عمي و أمس الخلق بي رحما،و اكثرهم عطاء و برا،فكيف افعل هذا؟» فأطرق المنصور برأسه ساعة الي الارض و رفع رأسه و قال له:

«أبطلت و أثمت» و أخرج إضبارة كتب،فرمي بها إليه،و قال له:هذه كتبك الي اهل خراسان تدعوهم الي نقض بيعتي و ان يبايعوك دوني.

فقال له الامام:

«و اللّه يا امير المؤمنين ما فعلت،و لا أستحل ذلك،و لا هو من مذهبي،و اني لمن يعتقد طاعتك علي كل حال،و قد بلغت من السن ما قد اضعفني عن ذلك،لو اردته فصيرني الي بعض حبوسك حتي يأتيني الموت فهو مني قريب».

فصاح به الخبيث اللئيم:لا و لا كرامة،ثم اطرق برأسه،و ضرب

ص: 413

يده الي السيف،فسل منه مقدار شبر،و أخذ بمقبضه ثم رده و قال للامام بكلمات قاسية:

«يا جعفر أ ما تستحي مع هذه الشيبة،و مع هذا النسب أن تنطق بالباطل و تشق عصا المسلمين؟تريد أن تريق الدماء،و تطرح الفتنة بين الرعية و الأولياء».

فقال له الامام:«لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت،و لا هذه كتبي و لا خطي،و لا خاتمي»ثم انتضي من السيف ذراعا،و عمد فأرجعه.

و أقبل يعاتبه و الامام يعتذر منه،ثم انتضي السيف الا شيئا يسيرا منه ثم اغمده،و اطرق برأسه الي الارض ثم رفع رأسه،و قال:أظنك صادقا و أمر الربيع أن يأتيه بالغالية فأخذ منها و وضعه علي كريمة الامام و كانت بيضاء فاسودت،و بالغ في اكرام الامام و تبجيله،و كان سبب ذلك انه رأي برهانا من ربه فعفا عنه (1).

لقد كان المنصور يحقد علي الامام أشد الحقد بسبب اجماع المسلمين علي تعظيمه،و قد خبا أمام جذوة اسمه الوهاج اسم المنصور فالعالم الإسلامي كان يتحدث بذكره،و يتناقل فضائله و علومه،و قد حاول الطاغية الجبار أن يستدرجه في موكبه فكتب إليه:

«لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟» و قد ظن ان الامام(ع)سيبادر الي اجابته شأن الكثيرين ممن أغرتهم الدنيا،و لم يعلم أن الامام(ع)يتحرج من الاتصال به،فقد وضع نصب عينيه قوله تعالي: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ،و بعد ما قرأ(ع)رسالة المنصور أجابه:

«ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه،و لا عندك من الآخرة ما نرجوك2)

ص: 414


1- بحار الأنوار 195/47-199،مهج الدعوات(ص 192)

له،و لا أنت في نعمة فنهنيك عليها،و لا تعدها نقمة فنعزيك عليها فلم نغشاك؟».

و لكن المنصور لم يع كلام الامام فقد اغرته الدنيا،و اعمي قلبه حب الملك و السلطان،فلما قرأ كتاب الامام أجابه:

«إنك تصحبنا لتنصحنا» فرد عليه الامام(ع):«من أراد الدنيا فلا ينصحك،و من أراد الآخرة فلا يصحبك».

و باء المنصور بالفشل فلم تتحقق منيته،و قد اجتمع(ع)به فوقع علي وجه المنصور بعض الذباب فدفعه بيده فعاد إليه حتي ضجر منه فالتفت الي الامام قائلا:

«يا ابا عبد اللّه،لم خلق اللّه الذباب؟» فلم يعن(ع)به و اجابه غير مكترث به قائلا:«ليذل به الجبابرة» و قد ساء المنصور ذلك،و ثقل عليه عدم اعتناء الامام به فراح يطيل التفكير في اغتياله.

و صمم الطاغية علي ان يقدم علي أخطر موبقة و أعظم جريمة في الاسلام غير حافل بالعار و النار،فدس الي الامام سما فاتكا علي يد عامله علي يثرب و لما تناوله الامام تقطعت أمعاؤه و أخذ يعاني الآلام القاسية.و الأوجاع المؤلمة،و لما شعر بدنو الأجل المحتوم منه أمر باحضار آله،و من يمت إليه و بعد اجتماعهم عنده زودهم بهذه الوصية القيمة قائلا:

«إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة» ثم انه عهد بأمره سرا الي ولده الامام موسي(ع)و أوصاه بوصاياه الخاصة،و عهد بأمره امام الناس الي خمسة أشخاص،و هم أبو جعفر المنصور،و محمد بن سليمان،و عبد اللّه،و موسي،و حميدة،و انما فعل

ص: 415

ذلك خوفا علي ولده من السلطة الكافرة كما تبين ذلك بوضوح بعد وفاته فقد كتب المنصور الي عامله يأمره بقتل وصي الامام ان كان معينا،فرد عليه عامله أنهم خمسة و هو أحدهم،فقال المنصور ليس الي قتل هؤلاء من سبيل.

و اشتد الألم بالامام فأخذ يعاني الأوجاع القاسية،و لما دنا منه الأجل المحتوم اخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم و يناجي ربه و يبتهل إليه حتي فاضت نفسه الزكية الي جنة المأوي،و سمت الي الرفيق الاعلي تلك النفس العظيمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضي من سالف الزمن-عدا آبائه-و ما هو آت حلما و علما و برا و عطفا علي جميع الناس.

لقد مات عميد الاسلام و الموجه الأول للقافلة الاسلامية الذي بذل بدوره جميع جهوده في اشعاع الفكر الانساني و بث روح العلم و الفضيلة بين الناس و كان موته من الأحداث الخطيرة التي مني بها العالم الاسلامي فلقد اهتزت جميع ارجائه لهوله.

و ارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميين و علا الصراخ و العويل من بيوت يثرب،و هرعت الناس كعرف الضبع و هم ما بين و آجم و صائح و مشدوه و نائح علي فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذا لهم و مفزعا في جميع الامور و قام الامام موسي(ع)و هو مكلوم القلب قد ذابت نفسه أسي و حسرات فأخذ في تجهيز أبيه،و هو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون فغسل الجسد الطاهر و كفنه بثوبين شطويين (1)كان يحرم فيهما،و في قميص و عمامة كانت للامام زين العابدين(ع)و لفه ببرد اشتراه الامام موسي(ع) باربعين دينارا،و بعد الفراغ من تجهيزه صلي عليه الامام موسي(ع)،ثم حمل الجثمان المقدس علي أطراف الأنامل و قد احتفت به الجماهير الحاشدة،ر.

ص: 416


1- شطويين:مفرده شطا احدي قري مصر.

و جيء به الي البقيع المقدس فدفن في مقره الأخير بجوار أبيه الباقر و جده زين العابدين(ع)،و وقف علي حافة القبر الشاعر الشهير أبو هريرة فأخذ يؤبن الامام بهذه الأبيات:

أقول و قد راحوا به يحملونه علي كاهل من حامليه و عاتق

أ تدرون ما ذا تحملون الي الثري ثبيرا ثوي من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه ترابا و قبلا كان فوق المفارق (1)

و بعد الفراغ من دفن الامام(ع)و تأبينه أقبل المسلمون يرفعون الي الامام موسي التعازي و يبدون له المواساة بمصابه الأليم و هو واقف يشكرهم علي مواساتهم و تعازيهم،ثم قفل راجعا الي ثويه،و قد احتف به أهل بيته و خلص أصحابه،و أمر(ع)بالوقت ان يوضع ضياء في المحل الذي قبض فيه أبوه جريا علي السنة،و بقي ذلك الضياء يوقد في كل يوم حتي اعتقل(ع)في العراق (2).

و تقلد الامام منصب الزعامة الكبري بعد وفاة أبيه،و كان عمره الشريف آنذاك عشرين سنة (3)و المنصور في السنة العاشرة من سلطانه،

رجوع الشيعة للامام موسي:

و لما فجع العالم الشيعي بوفاة زعيمه الروحي العظيم الامام الصادق(ع) رجع من بعده الي ولده الامام موسي،فقد بعثت جميع الاقطار التي تدين بالامامة وفودها لتعيين الامام بعد ابي عبد اللّه(ع)و جاءت تلك الوفود

ص: 417


1- اصول الكافي
2- الجواهر:كتاب الطهارة
3- صفة الصفوة

الي يثرب فالتقت بالامام موسي و آمنت بامامته و عقدت له الولاء و الطاعة فقد وجدت فيه كل ما هو ماثل في أبيه من العلم و الايمان و التقوي و الصلاح و ما ماثل ذلك من الصفات الرفيعة التي لا توجد إلا عند من عصمه اللّه من الزلل،و طهره من الرجس،و اختاره لارشاد عباده الي سواء السبيل.

و حدث هشام بن سالم أحد عيون الشيعة و وجوهها عن كيفية رجوعه و رجوع اخوانه الي الامام بعد وفاة أبيه يقول:كنت بالمدينة مع محمد بن النعمان صاحب الطاق حين وفاة الامام أبي عبد اللّه،و قد اجتمع الناس علي عبد اللّه بن جعفر ظانين أنه صاحب الأمر و القائم بعد أبيه فدخلت عليه مع أصحابي و لما استقر بنا المجلس وجهنا له السؤال الآتي:

-كم تجب الزكاة في المائتين من الدراهم؟ -خمسة دراهم.

-ففي المائة؟ -درهمان و نصف.

و تعجبوا من هذه الفتوي التي لا تمت الي الشريعة الاسلامية بصلة، فان النصاب الأول في نصاب الدراهم مائتان و ما نقص عنها فليس عليه شيء و طفق هشام يقول مستهزءا بهذه الفتوي التي لا مدرك لها:

-و اللّه ما تقول المرجئة هذا!! -و اللّه ما ادري ما تقول المرجئة؟ و خرج هشام و محمد من عنده و هما لا يبصران الطريق من الألم و الحزن لعدم ظفرهما بالامام القائم بعد أبي عبد اللّه و جعل هشام يقول:

«الي المرجئة،الي القدرية،الي المعتزلة،الي الزيدية،الي الخوارج؟!!».

و بينما كان هشام و محمد هائمين في تيار من الهواجس و الأفكار لا يعلمان

ص: 418

أي مبدأ يعتنقانه اذ اطل عليهما شيخ فأومأ الي هشام يشير إليه باتباعه،فتوهم هشام أنه من عيون المنصور و جواسيسه قد فهم حديثهما فالتفت الي صاحبه و قد استولي عليه الذعر و الارتباك و أمره بالبعد عنه ليكون وحده الذي ينال العقوبة و الجزاء،فتبع الشيخ حتي أورده علي الامام موسي بن جعفر عليه السلام،فلما دخل سكن روعه و حينما استقر به المجلس التفت إليه الامام قائلا بنبرات تفيض لطفا و حنانا:

«إلي لا الي المرجئة،و لا الي القدرية،و لا الي المعتزلة،و لا الي الزيدية..» ففرح هشام لأنه ظفر ببغيته حيث أخبره الامام بما انطوت عليه نفسه و تلك من امارة الامامة و علائمها،و وجه له هشام السؤال الآتي:

-جعلت فداك مضي أبوك؟ -نعم.

-مضي موتا؟ -نعم.

-من لنا بعده؟ -إن شاء اللّه أن يهديك هداك -جعلت فداك إن عبد اللّه أخاك يزعم أنه الامام بعد أبيه.

-عبد اللّه يريد أن لا يعبد اللّه -من لنا بعده؟ فأجابه مثل جوابه الأول،و طفق هشام يقول:

-أ فأنت هو:

لا اقول ذلك و أخطأ هشام في حديثه و التفت الي خطله فقال:

-عليك إمام؟

ص: 419

-لا فداخله من الاكبار و الاجلال ما لا يعلم به إلا اللّه،ثم قال له:

-جعلت فداك،أسألك عما كنت اسأل به أباك؟ -سل و لا تذع،فان أذعت فهو الذبح ثم وجه إليه أسئلة كثيرة فاذا به بحر لا ينزف لكثرة علمه،و فضله و انبري بعد معرفته و وثوقه بامامته قائلا:

-جعلت فداك،شيعة ابيك في ضلال فالقي إليهم هذا الأمر،و ادعوهم إليك،فقد اخذت علي الكتمان؟ -من أنست به رشدا فالق إليه،و خذ عليه الكتمان،فان اذاع فهو الذبح-و اشار بيده الي حلقه- ثم خرج و هو ناعم الفكر مسرور القلب بما ظفر به،فبادر إليه صاحبه قائلا:

-ما وراءك؟ -الهدي ثم حدثه بالأمر،و قصدا زرارة و أبا بصير و بعد الاجتماع بهما نقل لهما الحديث،فبادر زرارة و أبو بصير الي الامام و سألاه عن بعض المسائل فأجاب عنها فقطعا بامامته،و أقبلت جماهير الشيعة تتري أفواجا نحو الامام و هي تعقد له الولاء و الطاعة،و تعترف بامامته،و قد دانت الأغلبية الساحقة من الشيعة بامامته سوي أصحاب عمار الساباطي فانهم بقوا علي فكرتهم مصرين (1).

و تولي الامام(ع)بعد وفاة ابيه القيام بشئون الشيعة و بنشر المبادئ الاسلامية العليا و تزويد العلماء و الطلبة بشتي انواع العلوم و المعارف،و قد8)

ص: 420


1- المجالس:(ج 5 ص 328)

وضعت عليه الحكومة بعد ذلك الرقابة الشديدة فلم يتمكن علي الاتصال بالشيعة علنا كما لم تتمكن الشيعة علي التصريح بعقيدتها و مبدأها.

الانكار علي سياسة المنصور:

اشارة

و أخذت سياسة المنصور تتفجر بكل ما خالف كتاب اللّه و سنة نبيه فقد عمد الي قتل الابرياء،و هتك الأعراض،و سلب الأموال،و زج الأحرار في السجون،و مطاردة رجال الفكر،و استئصال ذرية النبي(ص) و قد أثار ذلك موجات من السخط عليه،فقد اندفع بعض اعلام الاسلام الي الانكار عليه،و فيما يلي عرض لبعضهم:

1-عبد اللّه بن طاوس:

و دخل عبد اللّه بن طاوس اليماني (1)علي المنصور و معه مالك بن أنس،فالتفت إليه المنصور قائلا:

-حدثني عن أبيك -حدثني أبي،ان أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه اللّه في سلطانه فادخل عليه الجور في حكمه» فالتاع المنصور و بدا عليه الغضب الهائل،و تيقن مالك بهلاك صاحبه فضم إليه ثيابه لئلا يصيبها دم عبد اللّه،و التفت المنصور الي عبد اللّه قائلا له:

ص: 421


1- عبد اللّه بن طاوس بن كيسان اليماني،كان فقيها عالما بالعلوم العربية و كان شديد البغض لآل البيت(ع)توفي في زمان المنصور،جاء ذلك في تهذيب التهذيب(ج 5 ص 267-268)

«ناولني الدواة» فلم يناولها له،فصاح به المنصور:

-لم لا تناولني الدواة؟ -أخاف أن تكتب بها معصية و لم يجد المنصور جوابا له فأمر باخراجه،فانصرف عبد اللّه،و ترك المنصور يتميز غيظا و غضبا (1).

2-سفيان الثوري:

و دخل سفيان الثوري (2)علي المنصور،فلما استقر به المجلس التفت الي المنصور بكل جرأة قائلا له:

«اتّق اللّه،فانك انما نزلت هذه المنزلة،و صرت الي هذا الموضع بسيوف المهاجرين و الأنصار،و أبناؤهم يموتون جوعا،حج عمر بن الخطاب فما انفق إلا خمسة عشر دينارا،و كان ينزل تحت الشجر».

فقال له المنصور مستهزءا به:

-إنما تريد أن أكون مثلك

ص: 422


1- شذرات الذهب(ج 2 ص 188)
2- هو شيخ الاسلام و سيد الحفاظ،قال ابو أسامة من أخبرك أنه رأي مثل سفيان فلا تصدقه،و قال ابن ذئب:ما رأيت بالعراق أحدا يشبه ثوريكم،ولد سنة 97 ه- و طلب العلم و هو حدث،و كان ابوه من علماء الكوفة،توفي في البصرة متخفيا من المهدي لأنه كان قوالا بالحق شديد الانكار،كانت وفاته في شهر شعبان سنة 161 ه-،جاء ذلك في تذكرة الحفاظ(ج 1 ص 190-192)،و قد اقتبس الكثير من علومه من الامام الصادق(ع)لأنه كان من تلامذته.

-لا تكن مثلي،و لكن كن دون ما أنت فيه،و فوق ما أنا فيه فصاح به المنصور«اخرج»فانبري إليه الثوري و هو يسدد له سهما من منطقه الفياض قائلا:

-إني لأعلم مكان رجل واحد،لو صلح صلحت الأمة كلها.

-من هو؟ -أنت يا أمير المؤمنين ثم تركه و انصرف عنه،و قد كوي قلبه بكلامه (1).

3-ابن أبي ذئب:

و دخل جماعة من كبار الفقهاء في الاسلام علي المنصور عند ما ولي الخلافة،و كان مجلسه مهيبا مفزعا،فقد جلس علي فراش قد نظم بالدر و الأحجار الكريمة،و أحاط به جمع من حراسه قد شهروا السيوف يترقبون صدور الأمر منه باعدام أي شخص كان،و لما استقر المجلس بالفقهاء رمقهم المنصور بطرفه و هو يقطر غضبا و حنقا عليهم،قائلا لهم:

«أما بعد يا معشر الفقهاء،فقد بلغ أمير المؤمنين عنكم ما أخشن صدره،و ضاق به ذرعه،و كنتم أحق الناس بلزوم الطاعة و النصيحة في السر و العلانية لمن استخلفه اللّه عليكم».

فانطلق إليه الزعيم الديني مالك بن أنس يظهر له الطاعة و كذب الوشاة عليهم قائلا:

«يا أمير المؤمنين،قال اللّه تعالي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فهدأت ثورة المنصور و سكن غضبه و التفت إليهم قائلا:

ص: 423


1- المسامرات(ج 1 ص 98)

«أي الرجال أنا عندكم؟أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور؟» و توسل إليه مالك باللّه،و تشفع إليه بالنبي(ص)أن يعفيه عن الجواب فعفاه عنه و انبري إليه ابن سمعان الذي كان من«وعاظ السلاطين» مبينا له أنه ظل اللّه في ارضه و انه رمز العدالة و محقق السلام بين الناس قائلا له:

«أنت و اللّه خير الرجال،يا أمير المؤمنين،تحج بيت اللّه الحرام، و تجاهد العدو،و تؤمن السبل،و يأمن الضعيف بك أن يأكله القوي،و بك قوام الدين،فأنت خير الرجال و أعدل الأئمة».

و قد تزلف الي المنصور بهذا المنطق الرخيص الذي هو منطق العملاء و العبيد فانه ينم عن نفس طبع عليها الخنوع و النفاق،و التفت المنصور الي ابن أبي ذئب (1)قائلا له:

«ناشدتك اللّه،أي الرجال أنا عندك؟» فانطلق مجيبا له كالاسد الهادر لم يخفه ذلك المنظر الرهيب و لم يخش بأس تلك السلطة الجائرة،فقد كان يملك ضميرا حيا،و رصيدا قويا من الايمان و العقيدة قائلا له:

«أنت و اللّه عندي شر الرجال،استأثرت بمال اللّه و رسوله،و سهم1)

ص: 424


1- ابن ابي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن القرشي العامري المدني الفقيه قال احمد بن حنبل:كان ابن أبي ذئب افضل من مالك إلا أن مالكا أشد تنقية للرجال منه،و قال الواقدي:إنه من أورع الناس و أفضلهم،ولد سنة ثمانين،و كان قوالا بالحق لا يهاب السلطة،فقد دخل المهدي مسجد النبي(ص) فلم يبق أحد من الناس إلا قام له إجلالا و تكريما سوي ابن أبي ذئب، فقيل له:قم فهذا امير المؤمنين،قال إنما يقوم الناس لرب العالمين، توفي سنة 159 ه- جاء ذلك في تذكرة الحفاظ(ج 1 ص 179-181)

ذوي القربي و اليتامي و المساكين،و أهلكت الضعيف،و أتعبت القوي، و أمسكت أموالهم،فما حجتك غدا بين يدي اللّه:

و ما وسع المنصور أمام لسع الحق إلا أن يغضب و يصيح:

«ويحك!!ما تقول؟:أتعقل؟أنظر ما أمامك؟-و أشار الي الجلادين».

فانبري إليه مبينا له عدم اعتنائه بهم قائلا:

«نعم،قد رأيت أسيافا،و إنما هو الموت،و لا بد منه عاجله خير من آجله..».

و قام عنه،و قد حطم كيانه بهذه الصراحة التي انبعثت عن ضمير حي (1).

4-عبد الرحمن بن زياد:

و وفد عبد الرحمن بن زياد الافريقي علي المنصور فأقام بباب بلاطه شهرا لا يمكنه من الدخول عليه،ثم أذن له فلما استقر به المجلس قال له:

-ما أقدمك؟ -ظهر الجور ببلادنا فجئت لأعلمك،فاذا الجور يخرج من دارك، و رأيت أعمالا سيئة،و ظلما فاشيا ظننته لبعد البلاد منك،فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم..» فالتاع المنصور من كلامه و أمر باخراجه (2)و وفد عليه مرة اخري فقال له:

-كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟

ص: 425


1- الامامة و السياسة(ج 2 ص 185-187)
2- تأريخ بغداد(ج 10 ص 215)

-ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئا الا رأيته في سلطانك -إنا لا نجد الأعوان -إن عمر بن عبد العزيز قال:إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها،فان كان برا أتوه ببرهم و ان كان فاجرا أتوه بفجورهم، فأطرق المنصور و لم يفه بشيء (1).

5-مصلح كبير:

و أعظم ناقد للمنصور قام بدوره بنقد سياسته،التي لا تتفق مع الحق و العدالة،هو مصلح كبير ضن التأريخ بالتصريح باسمه،فقد أوقف المنصور علي جرائمه،و حاسبه علي اعماله،و هذا نص حديثه،بينما كان المنصور يطوف بالبيت إذ انطلق إليه ذلك الرجل و هو يقول:

«اللهم:إني أشكو إليك ظهور البغي و الفساد في الأرض و ما يحول بين الحق و أهله من الطمع..» فوقعت هذه الكلمات كصاعقة علي رأس المنصور الطاغية الجبار فلما فرغ من طوافه أمر باحضاره،فلما مثل بين يديه سأله عن قوله فطلب منه الأمن و عدم التعرض له إن كشف الحقيقة و أدلي بالحق فآمنه المنصور؟ فقال له:

«إن من دخله الطمع حتي حال بين الحق و أهله هو أنت يا أمير المؤمنين -ويحك!!و كيف يدخلني الطمع و الصفراء و البيضاء عندي و الحلو و الحامض في قبضتي؟!! -إن اللّه استرعاك للمسلمين و أموالهم فجعلت بينك و بينهم حجابا من الجص و الآجر،و أبوابا من الحديد،و حجابا معهم الأسلحة،و أمرتهم

ص: 426


1- تأريخ الخلفاء:(ص 268)

أن لا يدخل عليك الا فلان و فلان،و لم تأمر بايصال المظلوم و لا الملهوف و لا الضعيف و لا الفقير و لا الجائع و لا العاري و ما منهم إلا و له في هذا المال حق فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك و آثرتهم علي رعيتك يجيء لك الأموال فلا تعطيها،و تجمعها فلا تقسمها قالوا:هذا قد خان اللّه تعالي،فما لنا لا نخونه،و قد سخر لنا نفسه،فاتفقوا علي أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا،و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم الا أقصوه و نفوه حتي تسقط منزلته،و يتضع قدره،فلما اشتهر هذا عنك و عنهم عظمهم الناس و هابوهم،فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليقووا بهم علي ظلم رعيتك،ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا بهم ظلم من دونهم فامتلأت بلاد اللّه بالطمع ظلما و فسادا،و صار هؤلاء شركاؤك في سلطانك و أنت غافل فان جاء متظلم حيل بينه و بين الدخول إليك،فان أراد رفع قصته إليك وجدك قد منعت من ذلك،و جعلت رجلا ينظر في المظالم فلا يزال المظلوم يختلف إليه و هو يدافعه خوفا من بطانتك و اذا صرخ بين يديك ضرب ليكون نكالا لغيره،و أنت تنظر و لا تفكر فما بقاء الاسلام علي هذا،فان كنت يا أمير المؤمنين إنما تجمع الاموال لولدك فقد اراك اللّه في الطفل يسقط من بطن أمه و ما له في الارض مال و ما من مال إلا و دونه يد شحيحة تحتويه فلا يزال اللّه يلطف بذلك الطفل حتي يكثر ماله،و تعظم رغبة الناس إليه،و لست الذي تعطي و انما اللّه الذي يعطي من يشاء بغير حساب،و إن كنت إنما تجمع المال لتشييد الملك و تقويته فقد أراك اللّه في بني أميّة ما أغني عنهم ما جمعوه من الذهب و الفضة،و لا ما أعدوه من الرجال و السلاح و الكراع حين أراد اللّه تعالي بهم ما اراد،و ان كنت انما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها،فو اللّه ما فوق ما أنت فيه منزلة إلا منزلة لا تنال بخلاف

ص: 427

ما أنت عليه..» (1).

و قد كشف هذا الناقد العظيم بهذا التصريح عن جميع ما يعانيه المسلمون من الظلم و الجور الذي صبه عليهم المنصور و عملاؤه الخونة الذين نهبوا ثروات الأمة،و حجبوا عن المنصور أخبار الرعية و ما تعانيه من الضغط و الجور،فاذا فزع إليه مظلوم حالوا بينه و بين الدخول عليه، و إذا رفع عقيرته بالشكاية و الاستغاثة نكلوا به ليكون عبرة للغير،و المنصور قد حجب نفسه عن الرعية لا يهتم بصالحها و لا يفكر في رفع مستواها قد عكف علي كنز الاموال و ادخارها فلم ينفق منها شيئا علي المسلمين.

6-عمرو بن عبيد

و اجتمع بالمنصور عمرو بن عبيد (2)فقال له:بكل جرأة و إقدام -إنه ما عمل وراء بابك بشيء من كتاب اللّه و لا سنة نبيه -فما أصنع؟قد قلت لك:خاتمي بيدك،فتعال أنت و اصحابك فاكفني.

ص: 428


1- مختصر أخبار الخلفاء:(ص 17-18)
2- عمرو بن عبيد البصري شيخ المعتزلة في عصره،و أحد الزهاد المشهورين،كان جده من سبي فارس،و أبوه نساجا،ثم شرطيا للحجاج في البصرة،و اشتهر عمرو بعلمه،و زهده،و فيه قال المنصور: كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد له رسائل و خطب و كتب منها(التفسير)و الرد علي القدرية،توفي بالقرب من مكة،و رثاه المنصور،و لم يسمع بخليفة رثي من دونه سواه، جاء ذلك في الاعلام:(ج 2 ص 736).

-ادعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك،إن ببابك الف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق..» (1)و لم يجد الوعظ و الارشاد مع المنصور.فقد ظل متماديا في جوره و طغيانه لم يحذر من عقاب اللّه،و لم يخف من اليوم الآخر.

الامام موسي مع المنصور:

و شاهد الامام موسي(ع)جميع الرزايا و النكبات التي حلت باهل بيته و أسرته فانطوت نفسه علي الحزن العميق،و الأسي المرير،و قد صبر محتسبا كاظما للغيظ.

و لم يشترك الامام في الميادين السياسية،و لم ينضم الي الثوار من العلويين لعلمه بفشل حركتهم،و عدم نجاحها،فلذا كف عنه المنصور الاذي و المكروه،و قد طلب منه أن يمثله في يوم النوروز و ينوب عنه في قبض الهدايا و التحف التي اعتاد الوجوه و الاشراف و زعماء الجيش تقديمها الي الخليفة فقد سن ذلك معاوية بن أبي سفيان في الاسلام و سار علي منواله و خطته الملوك من بعده،و قد امتنع(ع)من اجابته قائلا:

«اني قد فتشت الاخبار عن جدي رسول اللّه(ص)فلم أجد لهذا العيد خبرا،و انه سنة للفرس قد محاها الاسلام،و معاذ اللّه ان نحي ما محاه الاسلام..».

فلم يعتن المنصور بعدم مشروعيته،و أصر علي الامام أن ينوب عنه لان في ذلك مجاراة لجنوده الفرس الذين اعتادوا علي الاحتفال بهذا اليوم، و لم يجد الامام بدا من اجابته فجلس في مكانه و دخل عليه الوجوه،الزعماء

ص: 429


1- عيون الأخبار 337/2

يهنئونه و يحملون له الهدايا و التحف،و علي رأسه شخص من قبل المنصور يسجل ما يصل إليه،و في الوقت دخل علي الامام شيخ طاعن في السن رث الهيئة و هو يحمل له هدية أثمن من الجوهر و أغلي من جميع ما قدم له فوقف قبال الامام و هو يقول.

«يا سيدي اني رجل صعلوك لا مال لي لأتحفك به،و لكني اتحفك بأبيات ثلاث قالها جدي في جدك الحسين..».

-مرحبا بك و بهديتك،اتل ما قال.

فانطلق يقول:

عجبت لمصقول علاك فرنده يوم الهياج و قد علاك غبار

و لأسهم نفذتك دون حرائر يدعون جدك و الدموع غزار

أ لا تضعضعت السهام و عاقها عن جسمك الاجلال و الاكبار

فانقلبت مسرات ذلك اليوم الي مأتم حافل بالاسي و الحزن علي سيد الشهداء(ع)و التفت إليه الامام و قد استولي عليه الشجي و الحزن قائلا له:

«قبلت هديتك،اجلس بارك اللّه فيك..» ثم انه رفع رأسه الي الخادم فقال له:امض الي المنصور و عرفه بهذا المال و ما يصنع به،فمضي الي المنصور و أخبره بمقالة الامام،فقال له جميع ما وصل فهو هدية له،فقفل راجعا الي الامام و اخبره بالامر،فوهب(ع) جميع تلك الاموال الضخمة الي الشيخ كرامة لجده الذي رثي سيد الشهداء بهذه الابيات الرقيقة (1).

و لم تصرح هذه الرواية انه(ع)في أي بلد أقام ممثلا عن المنصور، هل في يثرب أم في بغداد؟فقد أهملت هذه الجهة مضافا الي ما عرف به المنصور من البخل و الشح،و هذا مما يوجب الريبة في الرواية.4)

ص: 430


1- المناقب:(ج 2 ص 380)،البحار(ج 11 ص 264)

هلاك المنصور:

و قرر المنصور السفر الي مكة،و اعتقد أنه سيهلك في سفره،و قد هام في تيار من الهواجس و الافكار فكان يقول:«إني ولدت في شهر ذي الحجة و توليت الخلافة في ذي الحجة،و أهجس في نفسي اني أموت في ذي الحجة هذه السنة» (1)و قد عهد بأمره الي ولده المهدي،و نصبه ملكا من بعده و قد اوصاه بهذه الوصية التي كشفت جانبا كبيرا من سياسته الارهابية التي اشاعت الفقر و الخوف و السجون بين المسلمين فقد جاء فيها:

«اني تركت بعض المسيئين من الناس ثلاثة أصناف فقيرا لا يرجو الا غناك،و خائفا لا يرجو الا أمنك،و مسجونا لا يرجو الفرج الا منك فاذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية،لا تمدد لهم كل المد..و قد جمعت لك من الاموال ما لم يجمعه خليفة قبلي و جمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي و بنيت لك مدينة لم يكن في الاسلام مثلها..». (2)

انه لم يترك بعض المسيئين من الناس علي ثلاثة اصناف،و انما ترك الناس جميعا كذلك فقد روعهم بخوفه،و سلبهم الامن و الدعة،و نشر الفقر و المجاعة بينهم،و ملئ السجون بالاحرار و المصلحين.

و سار موكبه من بغداد يطوي البيداء فلما بعد عن الكوفة عرض له وجعه علي اشد ما يكون،و أخذت الهواجس تنتابه في الطريق فجعل يقول للربيع:«بادر بي الي حرم ربي و أمنه هاربا من ذنوبي».

ص: 431


1- ابن الاثير 43/5
2- تأريخ اليعقوبي 349/3

و بلغ المرحلة الاخيرة من طريقه فقال له الربيع:قد وصلنا(بئر ميمون)و قد دخلنا الحرم فقال له المنصور:(الحمد للّه فهل لك أن توصلني الي الكعبة؟»و ثقل حاله فلم يتمكن الربيع علي أن يواصل السير فاقام هناك،و منع الناس من الدخول عليه،و في فجر يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة(158)هلك الطاغية الجبار الذي اذاق الناس جميع صنوف الظلم و الخوف.

لقد انطوت تلك الصفحة الحافلة بالجور و الاثم و الموبقات،فلم يعهد المسلمون في جميع مراحل تأريخهم حاكما أظلم و لا اعنف و لا اقسي من المنصور و كان عمر الامام موسي(ع)آنذاك ثلاثين سنة،و قد قضي زهرة حياته في عهد هذا الطاغية و هو مكلوم القلب حزين النفس قد طافت به الآلام حزنا علي المسلمين و جزعا علي ما لاقاه العلويون من التنكيل و العذاب الاليم،و هنا نودعه لنلتقي به في عهد المهدي.

ص: 432

في عهد المهدي

اشارة

ص: 433

ص: 434

استقبل العالم الاسلامي حكومة المهدي بمزيد من الأفراح و المسرات و ذلك لما لاقاه في عهد المنصور من الشدة و الصرامة و الجور في الحكم فقد انتهت بموته فالمهدي ألين جانبا من أبيه فقد عرف بالسخاء و بسط الكف و عدم القسوة و الغلظة.

و حينما استقل المهدي علي دست الحكم أصدر مرسوما ملكيا بالعفو عن جميع المعتقلين و المساجين السياسيين سوي من كان في عنقه دم أو كان ذا فساد في الأرض،كما رد جميع الأموال المنقولة و غير المنقولة التي صادرها أبوه ظلما و عدوانا الي أهلها،فرد علي الإمام موسي ما صادره أبوه من أموال الإمام الصادق(ع)،و يعود السبب في جميع ذلك الي انه قد تلقي الملك علي جانب عظيم من الاستقرار و الطمأنينة بالاضافة الي ذلك فانه ظفر بثراء عريض جهد في جمعه أبوه المنصور فقتر علي نفسه و علي الأمة فلم ينعم هو و لا المجتمع بخيرات ذلك المال الكثير،و من المؤسف أن المهدي قد انفق جميع الثروات الضخمة علي اللهو و المجون و الهبات للعملاء و الماجنين،و لم تستفد الطبقة الضعيفة منها شيئا فانه لم يرفه عليها بشيء فلم يكن له هم إلا اشباع شهواته و الاسراف في البذخ و الترف و المجون.

و علي اي حال فان المهدي لا يقاس بأبيه فقد خالفه بأغلب صفاته و اعماله إلا انه ورث منه العداء العارم للعلويين و شيعتهم،فقد كان يبغضهم بغضا شديدا،لقد ورث ذلك من أبيه المنصور الذي كان يعتقد ان لا بقاء له في الحكم و السلطان إلا بالقضاء علي العلويين و شيعتهم...و نعرض فيما يلي الي بعض نزعاته و اعماله،و ما لاقاه الامام موسي(ع)في عهده.

ص: 435

[بعض نزعاته و اعماله]

خلاعته و مجونه

:

و الخلافة الاسلامية ظل اللّه في الارض فلا بد ان تمثل اهداف الاسلام و واقعه و هديه،و لا بد أن تصان من العبث و المغريات،و تنزه عن اللهو و المجون،و لكن حكام الأمويين و العباسيين لم يوثر عن الكثيرين منهم انهم قد ابتعدوا عما حرمه اللّه من المنكر و اللهو فقد حولوا الخلافة الاسلامية الي مسارح للرقص و اللذة و الفساد،و لو انهم خلعوا عن نفوسهم ثوب الخلافة لصانوا الاسلام،و حافظوا علي مثاليته.

و شاع اللهو في عهد المهدي،و انتشر المجون،و سادت الميوعة و التحلل بين الناس،فقد ذاع شعر بشار،و حفظ الناس تغزله بالنساء،و قد ضج الاشراف و الغياري من ذلك،و دخل علي المهدي يزيد بن منصور فطلب منه أن يوقف بشارا عند حده و يمنعه من الغزل المكشوف فاستدعاه المهدي و نهاه عن ذلك،و إليه يشير بشار بقوله:

قد عشت بين الريحان و الراح و ال زهر في ظل مجلس حسن

و قد ملأت البلاد ما بين فغ فور الي القيروان فاليمن (1)

بشعر تصلي له العوائق و الثب ب صلاة الغواة للوثن

ثم نهاني المهدي فانصرفت نفسي صنيع الموفق اللقن

فالحمد للّه لا شريك له ليس بباق شيء علي الزمن

و مع ذلك فقد ظل بشار يتغزل و يمجن من طريق خفي،و في ذلك يقول:

يا منظرا حسنا رأيته من وجه جارية فديته

ص: 436


1- فغفور:من ملوك الصين

بعثت إلي تسومني ثوب الشباب و قد طويته

و اللّه رب محمد ما إن غدرت و لا نويته

أمسكت عنه و ربما عرض البلاء و ما ابتغيته

إن الخليفة قد أبي و إذا أبي شيئا أبيته

و نهاني الملك الهما م عن النساء فما عصيته

بل قد وفيت و لم أضع عهدا و لا وأيا وأيته (1)

و أنا المطل علي العدي و إذا غلا الحمد اشتريته

و أميل في أنس الندي م من الحياء و ما اشتهيته

و يشوقني بيت الحبي- ب اذا غدوت و أين بيته

حال الخليفة دونه فصبرت عنه و ما قليته

و يقول أيضا:

دفنت الهوي فلست بزائر سليمي و لا صفراء ما قرقر القمري

تركت لمهدي الأنام و صالها و راعيت عهدا بيننا ليس بالختر (2)

و لو لا أمير المؤمنين محمد لقلبت فاها او لكان بها فطري

لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة فما أنا بالمزداد وقرا علي وقر (3)

لقد ضيق عليه في بادئ الامر ثم أطلق سراحه،و لكنه انجرف هو بتيار من المجون و الدعارة،و يعتبر المؤسس الاول للهو في دولة بني العباس يقول الجاحظ:

«إنه احتجب بادئ ذي بدء عن المغنين ثم قال:انما اللذة في4)

ص: 437


1- الوأي:الوعد
2- الختر:الغدر و الخديعة
3- ضحي الاسلام:(ج 1 ص 112-114)

مشاهدة السرور في الدنو ممن سرني فأما من وراء وراء فما خيرها و لذتها؟» (1)و بلغه حسن صوت ابراهيم الموصلي و جودة غنائه فقربه إليه و اعلي من شأنه (2)و لما أقبل علي المجون و اللهو ظن الناس به الظنون و اتهموه بشتي التهم و الي ذلك يشير بشار بن برد العقيلي في هجائه له:

خليفة يزني بعماته يلعب بالدف و بالصولجان

أبدلنا اللّه به غيره و دس موسي في حر الخيزران (3)

و ذكر الجاحظ أنه كان يحب القيان و سماع الغناء،و كان معجبا بجارية يقال لها:«جوهر»كان قد اشتراها و له فيها شعر (4)و كان مولعا بشرب الخمر حتي نهاه عن ذلك وزيره يعقوب بن داود قائلا له:

«أبعد الصلاة في المسجد تفعل هذا؟».

فلم يلتفت لنصحه و قد سمع بذلك بعض الشعراء الماجنين فحبذ له الاستمرار في شربها و عدم الاعتناء بقول وزيره قائلا:

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا و اقبل علي صهباء طيبة النشر (5)

لقد اطلق المهدي العنان لشهواته و ملذاته و مجونه حتي نشأ ولده ابراهيم و بنته علية علي ذلك،فكان ابراهيم شيخ المغنين و علية في طليعة المغنيات و العازفات في بغداد.7)

ص: 438


1- التاج:(ص 35)
2- الاغاني(ج 5 ص 5)
3- شذرات الذهب(ج 1 ص 265)
4- اخلاق الملوك:(ص 34)
5- الفخري:(ص 167)

بذخه و اسرافه:

و أسرف المهدي علي شهواته جميع ما تركه المنصور من الاموال الطائلة التي نهبها من المسلمين فقد صرفها المهدي علي الملذات و المجون و ترك المجتمع يئن من آلام الفقر و البؤس،و قد بذخ المهدي بذخا كثيرا بهر الناس به و أهم صورة لبذخه و اسرافه كانت في تزويجه لولده هارون بالسيدة زبيدة فقد احتفل احتفالا كبيرا،و انفق عليه من أموال المسلمين خمسين الف الف درهم،و قد أقام الدعوة في قصر الخلد علي ضفاف دجلة،و وجه الدعوة الي الناس قبل شهور فدعا جميع الآفاق فأقبلوا مبادرين و قد منوا انفسهم بالاموال الطائلة،فنزلوا ضيوفا عند المهدي و قد أتي بالآلات المختلفة فكان منها أوان صنعت بالذهب و الفضة و كانت الفرش و البسط ارمنية فاخرة قد ظفر بها العباسيون حينما استولوا علي مقدرات الدولة الاموية،و كانت تلك البسط من تراث الوليد بن يزيد و كان مغرما بها فكان يزين بها ارض مجلسه و حيطان قصوره.و كانت أفخر ما اهدي للخلفاء و قد قال عنها( ماركوبولو)الرحالة:لم تر عين أجمل و لا أجود منها،و أتي أيضا بالثياب المطرزات بالذهب،و بالطيب المختلف الالوان و الضروب،و بالجوهر الذي ملأ به الصناديق الكبار،و بالحلي المرتفعات الاثمان،و ملأ القصر بأجمل الوصائف و الخدم و الغلمان.

فلما كانت ليلة الزفاف،ألبست زبيدة قميصا كله من الدر الكبار، ما لم ير مثله،و لم يقف أحد من المقومين له علي قيمة لنفاسته،و البسها بدنة امرأة هشام بن عبد الملك،و البدنة ثوب كله من الذهب.لا يدخل فيه من الغزل سوي اوقيتين،و ينسج سائره بالذهب،و زينها بالحلي حتي

ص: 439

لم تقدر علي المشي لكثرة ما عليها من الجوهر.و يقول متز:«إن هذا شيء لم يسبق إليه أكاسرة الفرس،و لا قياصرة الروم و لا ملوك الغرب».

و جاءت نساء بني هاشم فكان يدفع لكل واحدة منهن ثوب و شيء، و كيس فيه دنانير و آنية ملآي بالفضة و كان الخدم يملئون أواني الذهب بالدراهم و أواني الفضة بالدنانير ثم يدفعون ذلك الي وجوه الناس،و يردفونه بنوافح المسك و قطع العنبر (1)و ذكر الشابشتي في كتابه«الديارات»ان المهدي لما زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه استعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة و صناديق الجوهر و الحلي و التيجان و الاكاليل و قباب الفضة و الذهب و الطيب و أعطاها بدنة عبدة امرأة هشام قال:و لم ير في الاسلام مثلها،و مثل الحب الذي كان فيها،و كان في ظهرها و صدرها خطان من ياقوت أحمر و باقيها من الدر الكبار الذي لا يوجد مثله (2)و يقال أن المقومين لم يقفوا علي قيمة هذا الدر لنفاسته (3).

هذه صورة من صور البذخ و الاستهتار بأموال المسلمين التي احتاط بها الاسلام أشد الاحتياط و الزم بانفاقها علي المصالح العامة،و حرم علي ولاة الامور أن يصطفوا لانفسهم منها أي شيء.

و من بذخه و استهانته بأموال الدولة أنه اشتري فصا من ياقوت أحمر كان في غاية النفاسة بثلاثمائة الف دينار،و كانت الاموال أكياسا فلما نضد بعضها علي بعض صارت كالجبل،و لما استلمه وهبه لولده الهادي (4)1)

ص: 440


1- بين الخلفاء و الخلعاء(ص 25-26)نقلا عن الديارات«دير السوسي».
2- الديارات(ص 100)
3- تحفة العروس:(ص 36)
4- الجماهر:(ص 61)

و بهذا نقف علي مدي اسرافه و تبذيره،و من يستطيع يا تري في ذلك العصر أن يجابه الخليفة بالنقد و يقول له ان تلك الأموال ملك للامة و ليس له فيها أي نصيب،و لا حق له في التصرف بها،

نفوذ المرأة:

و المرأة بطبيعتها تدفعها تيارات العواطف الي تحقيق رغباتها،فكيف يصح لها ان تتصرف في امور المجتمع،و قد شعر بذلك المنصور و السفاح فانهما لم يدعا أي مجال للمرأة بالدخول في الشؤون السياسية،و لكن لما ولي الخلافة المهدي بدا سلطان المرأة ينفذ فان زوجه الخيزران كان لها سلطان و نفوذ قوي علي القصر،و الندماء،و الحجاب و الأطباء و غيرهم فكانت تقرب من تشاء،و تبعد من تشاء،و قد اخذت في مناكدة بختشيوع بن جورجيس الطبيب الشهير فأرغمت المهدي علي اعادته الي جنديسابور (1)و منذ ذلك اليوم أخذ نفوذ المرأة يزداد و يقوي حتي بلغ أوجه في أواسط الدولة العباسية و آخرها الأمر الذي ادي الي شيوع الاضطراب و عدم الاستقرار بين الناس.

الرشوة و الظلم:

و انشغل المهدي بلهوه و ملذاته عن رعيته فأهمل شئونها فأخذ ذئاب عماله ينهبون الاموال و يسلبون الثروات،و انتشرت الرشوة انتشارا هائلا عند جميع الموظفين خصوصا في اقليم مصر فقد كان الوالي عليه موسي بن

ص: 441


1- اخبار الحكماء للقفطي:(ص 101)

مصعب،فشدد في أخذ الخراج،و زاد علي كل فدان ضعف ما تقبل به و جعل الخراج علي اهل الاسواق و الدواب،و عمد الي الرشوة في الأحكام و الي ذلك يشير الشاعر بقوله:

لو يعلم المهدي ما ذا الذي يفعله موسي و أيوب

بأرض مصر حين حلابها لم يتهم في النصح يعقوب (1)

و قد عمد المهدي نفسه الي ظلم الناس و الاجحاف بحقوقهم،فقد أمر بجباية اسواق بغداد،و جعل الاجرة عليها (2)و قد اشتد الضغط علي المواطنين،و نال اهل الخراج من الشدة و العذاب الي حد لا سبيل الي تصويره (3)و ان رفع أحد عقيرته شاكيا أو مستغيثا فمصيره الي القبور او الي السجون.

العناية بالوضاعين:

و قرب المهدي طائفة من علماء السوء الذين لم تتهذب ضمائرهم بتعاليم الدين،فراحوا يؤيدون الظالمين و يسبغون عليهم الالقاب الحسنة،و النعوت الشريفة تقربا إليهم و طمعا في دنياهم،و قد نسوا المثل العليا التي جاء بها الاسلام فانساقوا وراء الطمع و الجشع،و تهالكوا علي المادة،و صعروا جباههم أمام الملوك و السلاطين،فأحاطوهم بهالة من التقديس و التعظيم، و أبرزوهم الي المجتمع انهم يمثلون ارادة اللّه و ان الخطأ لا يتطرق إليهم، هؤلاء هم الذين فتكوا بالاسلام و شوهوا معالمه،و قد قرب المهدي جماعة

ص: 442


1- الولاة و القضاة:(ص 125)
2- تأريخ اليعقوبي:(ج 3 ص 134)
3- الجهشياري:(ص 103)

من هؤلاء العبيد فأخذوا ينمقون الأباطيل و يلفقون الأكاذيب في مدح المهدي و الثناء عليه،و هم أمثال أبي معشر السندي الذي هو اكذب انسان تحت السماء (1)و كغياث بن ابراهيم الذي عرف هوي المهدي في الحمام و عشقه لها فحدثه عن أبي هريرة أنه قال:

«لا سبق إلا في حافر او نصل،و زاد فيه أو جناح..» فأمر له المهدي عوض افتعاله للحديث بعشرة آلاف درهم،و لما ولي عنه قال لجلسائه:

«أشهد أنه كذب علي رسول اللّه(ص)ما قال رسول اللّه ذلك، و لكنه أراد ان يتقرب إلي..» (2)و مع علمه بكذبه علي رسول اللّه(ص)فقد أوصله و أعطاه،و بذلك فقد شجع حركة وضع الحديث،و عمل علي تنميتها،و هي من أعظم الكوارث التي مني بها الاسلام فقد اوجبت الحط من شأنه،و ادخال كثير من الخرافات فيه،و سنذكر ذلك بمزيد من البيان عند عرض«مشكلات عصر الامام»

عداؤه للعلويين:

و ورث المهدي من أبيه المنصور العداء الشديد للعلويين و شيعتهم فقد أترعت نفسه بالبغضاء و الكراهية لهم،و يعود السبب في ذلك الي أن العباسيين لم يكن لهم أي حق في الحكم،فان الثورة علي الحكم الاموي انما قامت من اجل العلويين حماة العدل و الحق في الاسلام.

لقد كانت الثورة تحمل طابع التشيع و واقعه فقد اتخذه الثوار شعارا

ص: 443


1- تأريخ بغداد:(ج 6 ص 346)
2- تأريخ بغداد 193/2

لهم فناضلوا من أجله،و قد انضم العباسيون الي الدعوة علي هذا الاساس و آية ذلك ان المهدي دخل علي أبي عون و هو من اعز اصحابه و آثرهم عنده عائدا له،و طلب منه المهدي ان يعرض عليه حوائجه ليقوم بقضائها فقال له ابو عون:

-حاجتي ان ترضي عن ولدي عبد اللّه فقد طالت موجدتك عليه -يا أبا عبد اللّه انه علي غير الطريق و علي خلاف رأينا و رأيك،انه يقع في الشيخين و يسيء القول فيهما -هو و اللّه يا أمير المؤمنين علي الأمر الذي خرجنا عليه،و دعونا إليه فان كان قد بدا لكم فمرونا بما احببتم حتي نطيعكم..» (1).

و هذه البادرة تدل بوضوح علي أن الثورة علي الحكم الاموي انما كانت شيعية بجميع أبعاد هذه الكلمة،و هناك بادرة أخري تدل علي ذلك فقد بعث القاسم بن مجاشع بوصيته الي المهدي ليشهد فيها،و قد جاء فيها:

«شهد اللّه أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله الا هو العزيز الحكيم،ان الدين عند اللّه الاسلام يشهد بذلك،و يشهد أن محمدا عبده و رسوله،و ان علي بن أبي طالب وصي رسول اللّه(ص)و وارث الامامة من بعده».

فلما قرأ المهدي الفقرات الأخيرة من الوصية رماها من يده و لم ينظر في باقيها (2).

لقد آمن بذلك خواص بني العباس،و اعتقدوا جازمين ان الثورة انما قامت من أجل التشيع الا ان العباسيين الذين اختلسوا الحكم قد انحرفوا عنها من اجل اطماعهم،و بقائهم علي دست الحكم./6

ص: 444


1- تأريخ الطبري احداث سنة 169
2- الطبري 397/6

و علي أي حال فان المهدي كان يكن في اعماق نفسه البغض الشديد للعلويين،اما مظاهر ذلك العداء فهي:

اغداق الاموال علي انتقاص العلويين:

و سرف المهدي الاموال الضخمة علي انتقاص أهل البيت و الحط من شأنهم،و قد عرف فريق من الشعراء المرتزقين ان الوسيلة في ثرائهم انتقاصهم لأهل البيت و المبالغة في ذمهم فراحوا يلفقون الأكاذيب في هجائهم،و من جملة هؤلاء العبيد بشار بن برد المعروف بالزندقة و الالحاد فقد دخل علي المهدي و أنشده قصيدته التي يقول فيها:

يا ابن الذي ورث النبي محمدا دون الاقارب من ذوي الأرحام

الوحي بين بني البنات و بينكم قطع الخصام فلات حين خصام

ما للنساء مع الرجال فريضة نزلت بذلك سورة الانعام (1)

أني يكون و ليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام

فأجازه المهدي علي ذلك بسبعين الف درهم تشجيعا له و لغيره من باعة الضمير علي انتقاص اهل البيت،و لما سمع الامام موسي(ع)بقصيدة بشار تأثر أشد التأثر و نام ليلته قلقا متألما،و قد سمع هاتفا يتلو عليه أبياتا تعارض ابيات بشار و هي:

أني يكون و لا يكون و لم يكن للمشركين دعائم الاسلام

لبني البنات نصيبهم من جدهم و العم متروك بغير سهام

ما للطليق و للتراث و إنما سجد الطليق مخافة الصمصام

ص: 445


1- ليس في سورة الانعام ما يشير الي هذا المعني بل ليس فيها اي حكم من أحكام الميراث.

و بقي ابن شلة واقفا متلددا فيه و يمنعه ذوو الأرحام

ان ابن فاطمة المنوه باسمه حاز التراث سوي بني الأعمام (1)

و لما شاع ذلك عن المهدي أخذ الشعراء يتقربون إليه في هجاء أهل البيت فمنهم مروان بن أبي حفص فقد انشد بين يديه هذه القصيدة التي يقول فيها:

هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها

أو تدفعون مقالة عن ربكم جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية بتراثهم فأردتم ابطالها

فلما سمع ذلك المهدي زحف عن مصلاه حتي صار علي البساط و هو لا يملك نفسه قائلا له:

-كم بيت هي؟ -مائة بيت فأمر له بمائة الف درهم،و قال له:«إنها لأول مرة أعطيها شاعر في خلافة بني العباس» (2)لقد وهب هذه الاموال الخطيرة للحط من شأن اهل البيت و التقليل من اهميتهم،و هو لم ينل مع باقي أسرته مركز الخلافة الاسلامية الا باسم العلويين و جهادهم و تضحياتهم.4)

ص: 446


1- احتجاج الطبرسي:(ص 214)،و قيل ان الابيات لمحمد بن يحيي التغلبي جاء ذلك في(الشعر في بغداد ص 110)
2- تأريخ بغداد:(ج 3 ص 144)

نكبته لوزيره يعقوب:

كان يعقوب بن داود قد احرز عند المهدي نفوذا كثيرا حتي أخلص له في الحب و شاركه في جميع اموره،و قد اعلن ذلك في ديوانه الرسمي و في ذلك يقول مسلم الخاسر:

قل للامام الذي جاءت خلافته تهدي إليه بحق غير مردود

نعم القرين علي التقوي أعنت به أخوك في اللّه يعقوب بن داود

و غلب يعقوب علي امر المهدي فكانت جميع أموره بيده يتصرف فيها حيثما شاء،و قد حقد عليه جماعة من أعدائه و حسدوه علي هذا النفوذ العظيم فأهابوا بالمهدي علي إبعاده عن منصبه فلم يقبل ذلك منهم و امتنع من إجابتهم،و جعل حساده يعملون شتي الوسائل لابعاده عن منصبه،فقد اجتاز المهدي علي جدار فرأي قد كتب عليه هذا البيت:

للّه درك يا مهدي من رجل لو لا اتخاذك يعقوب بن داود

فلم يعتن به و أمر أن يكتب تحته هذه العبارة«علي رغم الكاتب و أنفه،و تعسا لجده»،و لما يئس منه أعداؤه جعلوا يستنجدون بني أمية و يطلبون يقظتهم و في ذلك يقول بشار بن برد:

بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة اللّه بين الناي و العود (1)

و لما سدت علي مناوئيه جميع الطرق سلكوا طريقا آخر تمكنوا به من زوال نعمته و انزال الكارثة به،فقد قالوا للمهدي انه يميل للعلويين و انه من أنصارهم و دعاتهم،و انه كان معهم عند قيامهم علي أبيه،و كان كاتبا

ص: 447


1- ابو الفداء:(ج 2 ص 10)

عند ابراهيم بن عبد اللّه،و قد خرج مع محمد في ثورته علي المنصور في يثرب و لما سمع المهدي بهذه النقاط تغير حاله و انقلب رأسا علي عقب و هام في تيار من الهواجس و الهموم فأراد اختباره و الوقوف علي حقيقة حاله فدعاه الي بلاطه و قد فرشه بفرش موردة كما لبس ثيابا موردة،و علي رأسه جارية جميلة،و أظهر المهدي السرور و الارتياح،و أهدي له جميع ما في ذلك المجلس من الأفرشة الثمينة مع الجارية،و طلب منه مهمة أن يقوم بها و هي أن يعدم علويا أراد التخلص منه،فأجابه يعقوب الي ذلك بعد ان اقسم له بالايمان المؤكدة ان يقوم بذلك،و انصرف يعقوب و معه العلوي فلما استقر في ثويه تكلم مع العلوي فرآه أديبا كاملا ناضجا،و توسل إليه العلوي بشتي الوسائل ان يعفو عنه و يخلي سبيله فأجابه الي ذلك و أعطاه أموالا يستعين بها علي دهره و محنته،و كانت الجارية التي أهداها له المهدي عينا عليه فمضت الي المهدي فنقلت له الحديث بكامله،فأرسل المهدي الشرطة و العيون خلف العلوي حتي قبضوا عليه و لما جاءوا به أخفاه ثم امر باحضار يعقوب فلما مثل عنده سأله عن العلوي فأخبره بانه قد نفذ فيه حكم الاعدام،فقال له المهدي:انه قد مات،فقال يعقوب:نعم،و طلب منه المهدي ان يضع يده علي رأسه،و يقسم علي ذلك،ففعل،فقال المهدي لغلام له:اخرج إلينا من في هذا البيت،فاخرج العلوي،فلما رآه يعقوب تحير،و امتنع عليه الكلام فقال له المهدي:قد حل لي دمك و لو آثرت اراقته لأرقته ثم امر بسجنه مؤبدا في المطبق (1)و صادر جميع أمواله،و بقي في سجنهري

ص: 448


1- المطبق حبس مظلم كبير بناه المنصور بين طريق البصرة و طريق باب الكوفة،و باسمه سمي الشارع الذي يقع فيه هذا السجن،و كان متين البناء قوي الاساس و كان من اهم سجون بغداد و استمر الي عهد المتوكل، جاء ذلك في(بغداد في عهد الخلافة العباسية ص 34)و جاء في الفخري (ص 221)ان المطبق كانت فيه غرف واسعة و ضيقة و آبار يسجن فيها و ان يعقوب بن داود قد دلي بحبل في بئر مظلمة لا يري فيها ضوء.

حتي آل الامر الي الرشيد فتوسط في اطلاق سراحه يحيي بن خالد البرمكي فعفا عنه،فخرج هزيل الجسم مكفوف البصر قد لبس ثوبا من الذل و الهوان (1)و دلت هذه البادرة علي مدي بغض المهدي للعلويين و شيعتهم.

مع الامام موسي:

اشارة

و لم يتعرض المهدي في بداية حكمه الي الامام بمكروه و لم ينله بسوء و قد اكتفي عن التنكيل به بوضع الرقابة الشديدة عليه،و لما شاع ذكره في الاوساط و ذاع صيته لم يملك المهدي غضبه فعمد الي اعتقاله و لكنه سرعان ما اطلق سراحه لانه قد رأي برهانا من ربه كما سنذكره،و نعرض بعض البوادر التي جرت للامام معه مع بيان اعتقاله.

استدلاله علي حرمة الخمر:

حج المهدي بيت اللّه الحرام،و بعد أدائه للمناسك قفل الي زيارة قبر النبي(ص)و قد بذل أموالا طائلة الي المدنيين،و اجتمع به الامام فلما استقر به المجلس وجه له المهدي السؤال الآتي:

-هل الخمر محرمة في كتاب اللّه؟فان الناس انما يعرفونها،و لا يعرفون التحريم.

ص: 449


1- الوزراء و الكتاب(ص 119-121)،الفخري(ص 161 -163)،و جاء في الفرج بعد الشدة:(ج 1 ص 141)ان يعقوب ابن داود قال:قد بنيت علي قبة في المطبق فمكثت فيها خمسة عشر سنة.

-بل هي محرمة في كتاب اللّه -في أي موضع هي محرمة؟ -قول اللّه عز و جل:«انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي بغير الحق»و أخذ(ع)يدلي عليه المراد من الآية الكريمة قائلا:

أما قوله:«ما ظهر منها»يعني الزنا المعلن،و نصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية،و أما قوله:«و ما بطن» يعني ما نكح الآباء،لان الناس قبل ان يبعث النبي(ص)إذا كان للرجل زوجة و مات عنها زوجها تزوجها من بعده ابنه اذا لم تكن أمه،فحرم اللّه ذلك،و اما«الاثم»فانها الخمرة بعينها و قد قال اللّه تبارك و تعالي:

في موضع آخر يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فاما الاثم في كتاب اللّه،فهو الخمر و الميسر و اثمهما كبير» و لم يملك المهدي اعجابه بالامام فالتفت الي علي بن يقطين قائلا له:

-هذه و اللّه فتوي هاشمية -صدقت،و اللّه يا أمير المؤمنين،الحمد للّه الذي لم يخرج هذا العلم منكم اهل البيت» فلذعه هذا الكلام،فلم يملك صوابه فاندفع قائلا:«صدقت يا رافضي» (1).

تحديد فدك:

و لما اعلن المهدي رد المظالم الي اهلها دخل عليه الامام موسي(ع) فرآه مشغولا بذلك فالتفت إليه قائلا:

ص: 450


1- البحار:(ج 4 ص 48)

-ما بال مظلمتنا لا ترد:

-و ما ذاك يا أبا الحسن؟ -فدك -حدها لي -حد منها جبل أحد،و حد منها عريش مصر،و حد منها سيف البحر،و حد منها دومة الجندل.

-كل هذه حدود فدك؟ -نعم فتغير المهدي و بدا الغضب علي سحنات وجهه فقد اعلن له الامام ان جميع اقاليم المملكة الاسلامية قد اخذت منهم.

فانطلق المهدي قائلا:

«هذا كثير انظر فيه» (1)

توسعة المسجد الحرام:

و أمر المهدي بتوسعة المسجد الحرام مع الجامع النبوي و ذلك في سنة (161 ه-) (2)و قد امتنع ارباب الدور المجاورة للجامعين من بيعها علي الحكومة،فسأل المهدي فقهاء العصر عن جواز اجبارهم علي ذلك فقالوا له:لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد غصبا،و كان بمجلسه علي بن يقطين فاشار عليه ان يرفع استفتاء في المسألة الي الامام موسي(ع)فاستصوب رأيه و كتب الي عامله علي يثرب يأمره بأن يسأل الامام عن ذلك،فلما انتهي الكتاب إليه مضي الي الامام،و عرض عليه السؤال فكتب(ع)

ص: 451


1- عمدة الاخبار في مدينة المختار:(ص 316)
2- تأريخ اليعقوبي:(ج 3 ص 393)

الجواب و هذا نصه بعد البسملة:

(إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس،فالناس أولي ببنائها،و ان كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولي بفنائها».

و لما انتهي الجواب الي المهدي امر بهدم الدور و اضافتها الي ساحة المسجدين و فزع اربابها الي الامام و التمسوا منه ان يكتب لهم رسالة الي المهدي ليعوضهم عن ثمن دورهم،فأجابهم و كتب الي المهدي رسالة في ذلك فلما وصلت إليه أوصلهم و ارضاهم (1)و ليس هذا نوعا من الاستملاك الذي يعبر عنه في الوقت الحاضر بالاستملاك للمصلحة العامة كما فهمه بعض المعاصرين بل ان هذا حكم شرعي يتبع أدلته الخاصة التي نصت علي ان للجامع فناء و ان من نزل به لا حرمه لما يقيمه فيه من بناء، و نسب المحدث الحافظ أبو الخطاب،القصة للامام الصادق(ع)مع المنصور (2)و هو بعيد فان التأريخ لم يحدث عن قيام المنصور بحركة عمرانية للجامعين.

اعتقال الامام:

و لما شاع ذكر الامام و انتشر اسمه في جميع الآفاق لم يملك المهدي غيظه و حقده فخاف علي كرسيه،و اعتقد ان ملكه لا يستقر الا باعتقال الامام،فكتب الي عامله علي المدينة يأمره بارسال الامام إليه فورا،و لما وصلت الرسالة إليه توجه الي الامام و أخبره بذلك فتجهز(ع)للسفر من وقته فسار(ع)حتي انتهي الي زبالة فاستقبله أبو خالد بكآبة و حزن فنظر إليه الامام نظرة رأفة و رحمة و قال له:

-ما لي أراك منقبضا؟!! -كيف لا انقبض!!و أنت سائر الي هذا الطاغية و لا آمن عليك

ص: 452


1- البحار:(ج 4 ص 248)
2- النبراس:(ص 24)

فهدأ(ع)روعه و أخبره انه لا ضير عليه في سفره هذا،و ضرب له موعدا يجتاز فيه عليه،ثم انصرف الامام متوجها الي بغداد،فلما وصل إليها أمر المهدي باعتقاله و ايداعه في السجن،و نام المهدي تلك الليلة فرأي في منامه الامام امير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)و هو متأثر حزين فخاطبه:

«يا محمد،فهل عسيتم أن توليتم ان تفسدوا في الارض و تقطعوا أرحامكم».

فقام المهدي من نومه فزعا مرعوبا فاستدعي حاجبه الربيع فلما مثل بين يديه كان المهدي يردد الآية الكريمة،و أمره باحضار الامام موسي، فلما أقبل إليه قام فعانقه و أجلسه الي جانبه ثم قال له بعطف و لين:

«يا أبا الحسن،إني رأيت امير المؤمنين علي بن أبي طالب يقرأ علي كذا-و اشار الي الآية-أ فتؤمنني ان لا تخرج علي او علي احد من ولدي؟ -و اللّه ما فعلت ذلك،و لا هو من شأني -صدقت،يا ربيع،اعطه ثلاثة آلاف دينار و رده الي اهله الي المدينة،فقام الربيع فشايعه و أحكم امره و سرحه في الليل فما اصبح عليه الصبح إلا و هو في الطريق (1)و سارت قافلة الامام تطوي البيداء حتيه.

ص: 453


1- تأريخ بغداد(ج 13 ص 30-31)،وفيات الاعيان(ج 4 ص 493)و ذكر ابن شهرآشوب في المناقب:(ج 2 ص 264)ان المهدي استدعي حميد بن قحطبة في منتصف الليل و قال له:ان اخلاص ابيك و اخيك فينا أظهر من الشمس و حالك عندي موقوف،فقال له حميد:افديك بالمال و النفس و الأهل و الولد و الدين فقال له للّه درك،و عاهده علي ذلك و أمره بقتل الامام الكاظم في السحر بغتة،فنام المهدي فرأي في منامه عليا يشير إليه و يقرأ«فهل عسيتم»الآية،فانتبه مذعورا و نهي حميدا عما أمره،و اكرم الامام الكاظم و اعطاه.

انتهت الي«زبالة»في اليوم الذي عينه لأبي خالد و كان يترقب قدوم الامام في ذلك الوقت بفارغ الصبر فلما قدم(ع)عليه بادر إليه و هو يلثم يديه و اطرافه و الفرح باد عليه فادرك الامام سروره البالغ فقال له:

«إن لهم إلي عودة لا اتخلص منها» (1)و اشار(ع)بذلك الي ما يصنعه به هارون من اعتقاله في سجونه حتي يلفظ أنفاسه الأخيرة بها،و لم يجلب المهدي الامام الي بغداد سوي هذه المرة و قد قطع(ع)من سني حياته في دوره عشر سنين و قد قام خلال هذه المدة بنشر العلم و تغذية الناشئة العلمية بأنواع العلوم و الآداب و هذه المدة من أهم ادوار حياته التي شيد بها صروح العلم و الفضيلة و الاخلاق.

وفاة المهدي:

و اختلف المؤرخون في سبب وفاة المهدي،فقيل انه خرج الي الصيد و اخذ في مطاردة ضبي حتي دخل الي خربة فتبعه و كان باب تلك الخربة ضيقا فاصاب ظهره حتي تقطع عموده الفقري فمات في يومه،و قيل ان بعض جواريه كانت تغار من جارية كان يهواها و يخلص لها فدست لها سما في بعض المآكل فأكل المهدي منه و هو لا يعلم به،و علي اي حال فانه لما توفي جزع عليه اهله و ساد عليهم الحزن،و قد خرجت بعد موته بعض جواريه و قد لبسن المسوح حزنا و حدادا عليه،و إليهن يشير ابو العتاهية بقوله:

رحن في الوشي و اقبلن عليهن المسوح كل نطاح من الدهر له يوم نطوح لست بالباقي و لو عمرت ما عمر نوح فعلي نفسك نح ان كنت لا بد تنوح (2)الي هنا ينتهي بنا الحديث عن عصر المهدي و ما لاقاه الامام(ع)في دوره

ص: 454


1- نور الابصار:(ص 136)،البحار:(ج 11 ص 252)
2- الفخري:(ص 157)

في عهد الهادي

اشارة

ص: 455

ص: 456

استقبل موسي الهادي الدولة الاسلامية في ايام شبابها الغض،و نضارة غصنها الرطب،و في إبان قوتها الكاملة،و ثروتها الموفورة،و قد بويع له،و هو في غضارة العمر فقد كان عمره-حسب ما يقول الرواة-خمسا و عشرين سنة (1)و كان سادرا في الطيش و الغرور،و متماديا في الاثم و الفجور،و قد اراح اللّه منه العباد في بداية ملكه فلم تطل أيامه،و لو امتد به العمر لواجه المسلمون في عهده أعنف المشاكل و أقساها،فقد كان طاغية جبارا لا يتحرج من سفك الدماء و اراقتها بغير حق،و قد أسرف في سفك دماء العلويين، فأنزل بهم العقاب الصارم،و قد اجمع رأيه علي التنكيل بالامام موسي(ع) الا ان اللّه قصم ظهره قبل ان يقوم بذلك،و لا بد لنا من وقفة قصيرة للتحدث عنه.

نزعاته:

اشارة

و اتصف موسي الهادي بنزعات شريرة ظهرت في سلوكه و أعماله حتي نقم عليه القريب و البعيد،و بغضه الناس جميعا و قد حقدت عليه أمه الخيزران فقد بلغ بها الغيظ و الكراهية له انها هي التي قتلته...أما نزعاته فهي كما يلي

أ-غروره و طيشه:

لقد تولي الهادي الخلافة و هو في ريعان الشباب فدفعه ذلك الي التمادي في الغرور و الطيش،و من مظاهر ذلك انه كان اذا مشي مشت الشرطة بين يديه بالسيوف المشهورة و الاعمدة و القسي الموتورة (2)ليظهر بذلك أبهة الملك و السلطان،و العلو علي الناس.

ص: 457


1- خلاصة الذهب المسبوك(ص 75)
2- حضارة الاسلام في دار السلام(ص 84)

ب-لهوه و مجونه:

و كان موسي الهادي خليعا ماجنا،قد اقبل علي الدعارة و اللهو،فبذل الاموال الضخمة بسخاء علي شهواته و طربه،فقد اعطي ابراهيم الموصلي خمسين الف دينار لأنه غناه بثلاثة أبيات اطربته (1)و غناه بصوت فاطربه فوهب إليه ثلاثين الف دينار (2)و قد كلف بالغناء كلفا شديدا فصرف الكثير من خزينة الدولة علي المغنين،و قال اسحاق الموصلي:لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب (3).

و تهالك علي شرب الخمر فكان اول خليفة عباسي أغري بالخمر (4)و تبعه علي ذلك الرشيد (5)و سائر ملوك بني العباس من بعده.

ج-شراسته:

كان سيئ الخلق شرسا،يقول الجاحظ عنه:كان الهادي شكس الاخلاق صعب المرام،قليل الاغضاء،سيئ الظن،قلّ من توقاه،و عرف أخلاقه -إلا أغناه،و ما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال (6).

ص: 458


1- العصر العباسي(ص 128)
2- الاغاني 241/5
3- الاغاني 6/5
4- الجهشياري(ص 144)
5- الطبري 489/6،الاغاني 216/5
6- التاج في اخلاق الملوك(ص 35)

د-عداؤه للعلويين:

و بالغ هذا الطاغية المغرور في تنكيل العلويين و ارهاقهم فاذاع فيهم الخوف و الرعب،و قطع ما أجراه لهم المهدي من الارزاق و الاعطية،و كتب الي جميع الآفاق في طلبهم،و حملهم الي بغداد (1).

لقد قاسي العلويون في الفترة القصيرة من هذا الحكم الارهابي جميع الوان الاضطهاد و الجور،فقد امعنت السلطة في ظلمهم،و اذلالهم،و ارغامهم علي ما يكرهون،و هذا مما ادي الي انطلاقهم في ميادين الجهاد،و اعلانهم للثورة الكبري الهادفة الي انقاذ الامة من الجور و الطغيان،و هذا ما سنتحدث عنه.

كارثة فخ:

و افظع كارثة واجهها العالم الاسلامي هي مأساة(فخ)ففد ضارعت حادثة كربلاء في آلامها و شجونها،و قد تحدث الإمام الجواد عليه السلام عن مدي أثرها البالغ علي اهل البيت(ع)بقوله:

«لم يكن لنا بعد الطف مصرع اعظم من فخ» لقد انتهكت في هذه الكارثة الكبري حرمة النبي(ص)في عترته و ذريته،فقد اقترف العباسيون فيها عين ما اقترفه الامويون من الجرائم و الموبقات في مأساة كربلاء،فرفعوا رءوس العلويين علي اطراف الرماح و معها الاسري يطاف بها في الاقطار و الامصار،و تركوا الجثث الزواكي ملقاة علي أديم الارض من دون ان يخفوا الي مواراتها مبالغة منهم في التشفي

ص: 459


1- اليعقوبي 136/3

و الانتقام من آل البيت،و بذلك فقد حاكت رزية كربلاء بجميع فصولها المؤلمة.

و فيما يلي عرض موجز لبعض فصول تلك الكارثة،و بيان موقف الإمام موسي(ع)منها،و ما جري عليه:

الحسين الثائر العظيم:

اشارة

و الذي فجر الثورة علي الحكم العباسي هو الحسين بن علي،و قبل البحث عن ثورته نتحدث عن نسبه و نزعاته و صفاته:

أ-نسبه الوضاء:

أما نسبه الكريم فهو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،و أمه زينب بنت عبد اللّه بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) و كان يقال لزينب و زوجها علي بن الحسن«الزوج الصالح»لعبادتهما.

و لما قتل ابو جعفر المنصور اباها و اخاها،و عمومتها و بنيهم،و زوجها كانت تلبس المسوح،و لا تجعل بين جسدها،و بينها شعارا حتي لحقت باللّه عز و جل،و كانت تندب اهلها أفجع ندبة حتي يخشي عليها،و لا تذكر المنصور بسوء تحرجا من ذلك،و كراهة ان تشفي نفسها بما يؤثمها،و لا تزيد علي القول:«يا فاطر السماوات و الارض،يا عالم الغيب و الشهادة الحاكم بين عباده احكم بيننا و بين قومنا بالحق،و أنت خير الحاكمين».

و كانت ترقص ولدها الحسين في صغره و هي تتنبأ فيه ان يرفع علم الثورة علي العباسيين فكانت تقول له:

ص: 460

تعلم يا بن زيد و هند (1) كم لك بالبطحاء من معد

من خال صدق ماجد و جد (2)

ب-نشأته:

نشأ الحسين في بيت قد غمرته الآلام و الأحزان،و عمه الثكل و الحداد علي شهداء أسرته الذين أبادهم المنصور،فهو لم يشاهد في بيته سوي البكاء و الجزع،فانطوت نفسه علي حزن عميق و أسي مرير،فتحفز منذ نعومة اظفاره الي الأخذ بثأرهم،و مناجزة خصومهم.

ص: 461


1- هند:أم زينب،و هي بنت ابي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصير،و كانت قبل عبد اللّه بن الحسن زوجا الي عبد الملك بن مروان،فلما مات رجعت بميراثها منه،فقال عبد اللّه لامه فاطمة:اخطبي لي علي هند فعذلته،و قالت له: أ تطمع فيها،و أنت ترب لا مال لك،فتركها و مضي الي ابيها فخطبها منه فرحب به،و أجابه الي ذلك،و قال له:زوجتك،و لا تبرح، و دخل علي بنته فقال لها:يا بنية هذا عبد اللّه بن الحسن أتاك خاطبا فقالت له:ما قلت له؟فقال:قد زوجته،فأقرته علي ذلك،و دخل بها،و أمه لا تشعر بذلك،فأقام سبعا،و جاء الي أمه،و عليه درع الطيب و هو في غير ثيابه فقالت له أمه:يا بني من أين لك هذا؟فقال:من التي زعمت انها لا تريدني.الأغاني 209/18
2- مقاتل الطالبيين(ص 431-432)

ج-نزعاته الفذة:

و التقت بشخصية الحسين جميع الصفات الكريمة من العلم و التقوي و الورع و الصلاح،و الزهد في الدنيا،و كان من اسخياء عصره،و قد روي المؤرخون بوادر كثيرة من كرمه،و قد روي أبو الفرج عن الحسن بن هذيل، قال:

كنت اصحب الحسين بن علي صاحب فخ فقدم الي بغداد فباع ضيعة له بتسعة آلاف دينار فخرجنا فنزلنا(سوق اسد)فبسط لنا علي باب الخان،فأتي رجل معه سلة فقال له:مر الغلام يأخذ مني هذه السلة، فقال له:و ما أنت؟قال:أنا اصنع الطعام الطيب،فاذا نزل هذه القرية رجل من اهل المروءة اهديته إليه،قال:يا غلام خذ السلة منه،و عد إلينا لتأخذ سلتك،قال:ثم اقبل علينا رجل عليه ثياب رثة،فقال:

اعطوني مما رزقكم اللّه،فقال لي الحسين:ادفع إليه السلة،و قال له:

خذ ما فيها ورد الاناء،ثم اقبل،و قال:إذا رد السلة فادفع إليه خمسين دينارا،و إذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائة دينار،فقلت له:إبقاء مني عليه-جعلت فداك،بعت عينا لك،لتقضي دينا عليك فسألك سائل فاعطيته طعاما هو مقنع له،فلم ترض حتي أمرت له بخمسين دينارا،و جاءك رجل بطعام لعله يقدر فيه دينارا او دينارين،فأمرت له بمائة دينار، فقال:

يا حسن ان لنا ربا يعرف الحسنات،اذا جاء السائل فادفع إليه مائة دينار،و اذا جاء صاحب السلة فادفع إليه مائتي دينار،و الذي نفسي بيده إني لأخاف أن لا يقبل مني،لأن الذهب و الفضة و التراب عندي بمنزلة

ص: 462

واحدة(1).

انها نفوس كريمة تحمل نفحات من روح جدهم الرسول(ص) الذي جاء لاسعاد الناس،و رفع الشقاء عنهم.

و روي الحسن بن هذيل قال:بعت للحسين بن علي حائطا باربعين الف دينار فنثرها علي بابه،فما دخل الي اهله منها حبة،كان يعطيني كفا كفا فاذهب به الي فقراء اهل المدينة(2).

انه معدن من معادن المعروف و الاحسان،فلم ير للمال قيمة سوي ما يرد به جوع جائع او يكسو به عاريا،شأنه شأن آبائه الذين أفاضوا البر و الخير علي جميع الناس.

ما أثر عن النبي فيه:

و أثر عن النبي(ص)انه اجتاز بفخ فصلي باصحابه صلاة الجنازة ثم قال:يقتل هاهنا رجل من اهل بيتي في عصابة من المؤمنين،ينزل لهم بأكفان و حنوط من الجنة،تسبق ارواحهم أجسادهم الي الجنة(3).

و روي محمد بن اسحاق عن ابي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال:

مر النبي(ص)بفخ فنزل فصلي ركعة،فلما صلي الثانية بكي،و هو في الصلاة فلما رأي الناس النبي(ص)يبكي بكوا،فلما انصرف قال:ما يبكيكم؟قالوا:لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول اللّه،قال:نزل علي جبرئيل لما صليت الركعة الأولي،فقال:يا محمد ان رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان،و أجر الشهيد معه اجر شهيدين(4).

ما أثر عن الامام الصادق فيه:

و روي النضر قال:اكريت جعفر بن محمد من المدينة الي مكة،فلما ارتحلنا من بطن مر،قال لي:يا نضر اذا انتهيت الي فخ فاعلمني

ص: 463


1- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)
2- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)
3- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)
4- مقاتل الطالبيين(ص 436-441)

قلت له:

-أ لست تعرفه؟ -بلي و لكن اخشي ان تغلبني عيني قال نضر:فلما انتهينا الي فخ دنوت من المحمل فاذا هو نائم فتنحنحت فلم يتنبه،فحركت المحمل فجلس،فقلت له:قد بلغت،فقال:حل محملي فحللته،ثم قال:صل القطار فوصلته،ثم تنحيت به عن الجادة فانخت بعيره فقال:ناولني الإداوة،و الركوة،فتوضأ و صلي ثم ركب فقلت:جعلت فداك،رأيتك قد صنعت شيئا أ هو من مناسك الحج؟ قال:لا و لكن يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق ارواحهم اجسادهم الي الجنة (1)

السبب في ثورته:

و اجمع المؤرخون علي أن السبب في ثورة الحسين العظيم يعود الي ما عاناه من الضغط الهائل و الجور الشديد،فقد استعمل موسي الهادي واليا علي يثرب عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب (2)،و كان فظا غليظ القلب شرس الاخلاق قد عرف بالنصب و العداء للامام امير المؤمنين(ع) و قد بالغ الاثيم في اذلال العلويين و ظلمهم،فألزمهم بالمثول عنده في كل يوم،و فرض عليهم الرقابة الشخصية فجعل كل واحد منهم يكفل

ص: 464


1- مقاتل الطالبيين(ص 437)
2- الكامل 74/5،و في مقاتل الطالبيين(ص 243)ان موسي الهادي ولي المدينة اسحاق بن عيسي بن علي فاستخلف عليها رجلا من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبد اللّه.

صاحبه بالحضور عنده،و قبضت شرطته علي كل من الحسن بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن،و مسلم بن جندب،و عمر بن سلام،و ادعت الشرطة انها وجدتهم علي شراب فامر بضربهم فضرب الحسن ثمانين سوطا،و ابن جندب خمسة عشر سوطا،و ابن سلام سبعة اسواط،و جعل في اعناقهم حبالا،و أمر ان يطاف بهم في شوارع يثرب ليفضحهم،فبعثت إليه الهاشمية صاحبة الراية السوداء في ايام محمد بن عبد اللّه فقالت له:لا و لا كرامة لا تشهر احدا من بني هاشم،و تشنع عليهم و أنت ظالم،فكف عن ذلك،و خلي سبيلهم.

و ولي العمري علي الطالبيين رجلا يعرف بأبي بكر بن عيسي الحائك مولي الانصار فعرضهم يوم الجمعة،و لم يأذن لهم بالانصراف الي منازلهم حتي حضر وقت الصلاة فالحوا عليه في اداء الفريضة فاذن لهم بعد جهد، و بعد ادائها حبسهم في المقصورة الي العصر لا لشيء سوي أن يتقرب الي العمري بذلك.

ثم انه عرضهم و دعا بالحسن بن محمد فلم يحضر،فقال ليحيي و الحسين ابن علي:

«لتأتياني به أو لأحبسنكما،فقد تغيب عن العرض ثلاثة أيام؟..» فرداه ردا حفيا الا انه لم يجد مع هذا الوغد حتي اضطر يحيي الي مقابلته بالمثل،فخرج مغضبا الي العمري فاخبره بالامر فأمر باحضارهما فلما مثلا عنده اخذ يتهدد و يتوعد،فضحك الحسين من منطقه الهزيل و قال له باستهزاء و سخرية:

«أنت مغضب يا ابا حفص؟!!» فثار العمري و استاء منه لأنه كناه و لم يلقبه بالولاية و الامرة قائلا:

«أ تهزأ بي و تخاطبني بكنيتي؟»

ص: 465

فانبري إليه الحسين فسدد له سهما من بليغ منطقه قائلا:

«قد كان أبو بكر و عمر و هما خير منك يخاطبان بالكني فلا ينكران ذلك،و أنت تكره الكنية و تريد المخاطبة بالولاية!!» فثار العمري و لم يملك صوابه قائلا:

«آخر قولك شر من أوله» -معاذ اللّه،يأبي اللّه لي ذلك و ما أنا منه!! -أ فانما ادخلتك علي لتفاخرني و تؤذيني؟ و غضب يحيي من اعتدائه الصارخ علي الحسين فقال له:

-ما تريد منا؟ -اريد ان تأتياني بالحسن بن محمد -لا نقدر عليه هو في بعض ما يكون فيه الناس فابعث الي آل عمر ابن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا،ثم اعرضهم رجلا رجلا فاذا لم تجد فيهم من قد غاب اكثر من غيبة الحسن عنك فقد انصفتنا..

ففقد العمري صوابه و راح يحلف بطلاق زوجته و حرية مماليكه أن لا يخلي عن الحسين حتي يأتيه بالحسن في باقي يومه و ليلته فان فعل فذاك و إلا فيركب الي«سويقة» (1)فيخربها و يحرقها،و يضربه الف سوط، و ان ظفر بالحسن ليهريق دمه،فوثب إليه يحيي و هو لا يبصر طريقه من الاستياء و قد عزم علي الثورة و مناجزة تلك الحكومة قائلا:

«أنا اعطي اللّه عهدا،و كل مملوك لي حر إن ذقت الليلة نوما حتي آتيك بالحسن بن محمد،أو لا اجده فأضرب عليك بابك حتي تعلم اني قد جئتك»./5

ص: 466


1- سويقة:منزل لبني الحسن يقع بالقرب من المدينة،و هو من جملة صدقات الامام امير المؤمنين(ع)معجم البلدان 18/5

و خرجا منه و هما مغيظان قد لذعهما جفاؤه و التفت الحسين الي يحيي منددا بما اعطاه من العهد للعمري باحضار الحسن قائلا:

«بئس لعمر اللّه ما صنعت حين تحلف لتأتينه به،و أين تجد حسنا» فاخبره انه قد واري في كلامه و انه يقصد القيام بوجهه قائلا:

«لم أرد ان آتيه بالحسن و اللّه،و إلا فانا نفي من رسول اللّه(ص) و من علي(ع)،بل اردت ان دخل عيني نوم حتي اضرب عليه بابه و معي السيف إن قدرت عليه قتلته..» و التقي الحسين بالحسن فقال له:

«يا بن عمي،قد بلغك ما كان بيني و بين هذا الفاسق،فامض حيث احببت».

-لا،و اللّه،يا ابن عمي،بل أجيء معك الساعة حتي اضع يدي في يده ما كان اللّه ليطلع علي و أنا جاء الي محمد(ص)و هو خصمي و حجيجي في دمك،و لكن أقيك بنفسي لعل اللّه يقيني من النار..» و تمثل الشرف و النبل بهذه الكلمات التي تنم عن نفس لم تعرف الخيانة و الغدر،و لم يدنسها حب الحياة.

و اجتمع العلويون و من يمت إليهم من المؤمنين و الصالحين فتذاكروا ما قابلهم العمري من الصلافة فصمموا علي أن يهجموا عليه داره،فاقتحموا عليه الدار فولي الجبان هاربا بصورة مخزية ثم قال يحيي:

«هذا الحسن قد جئت به فهاتوا العمري،و إلا و اللّه خرجت من يميني».

و هذه البادرة هي السبب في ثورة الحسين و انتفاضته فقد ألجأته السلطة الحمقاء الي القيام بوجهها فانه رأي أما أن يرضخ الي الذل و الخنوع الأمر الذي يأباه العلويون الذين رسموا الاباء و العز في دنيا العرب و الاسلام،و أما

ص: 467

الموت في سبيل الكرامة،التي هي شعار العلويين حتي قالوا:«ما كره قوم حر الجلاد إلا ذلوا».

و اختار الحسين طريق الكفاح و النضال فصمم مع الصفوة من اهل بيته علي الموت تحت ظلال الأسنة أحرارا كراما.

شهادته:

و رفع الحسين راية الثورة و اعلن الجهاد المقدس فالتحق به الطالبيون و لم يتخلف عنه إلا نفر يسير،و أقبل بموكبه الجهير الي الامام موسي يستشيره في ثورته فلما استقر به المجلس عرض فكرته علي الامام فالتفت(ع) إليه قائلا:

«انك مقتول فأحدّ الضراب،فان القوم فساق يظهرون إيمانا، و يضمرون نفاقا و شركا،فانا للّه و إنا إليه راجعون،و عند اللّه احتسبكم من عصبة».

لقد رأي الامام(ع)ان الحركة لا بد ان تفشل و يذهب العلويون ضحية العدوان الغادر،و لكن الحسين لم يجد بدا من الثورة لما ناله من الضيم و الهوان،فقام من عند الامام و جمع الناس فصلي بهم و بعد الفراغ من الصلاة قام خطيبا بين الناس فقال بعد حمد اللّه و الثناء عليه:

«أنا ابن رسول اللّه،و في حرم رسول اللّه أدعوكم الي سنة رسول اللّه(ص) (1)أيها الناس أ تطلبون آثار رسول اللّه(ص)في الحجر

ص: 468


1- ذكر الطبري في تأريخه ان الحسين قال في آخر خطابه«أدعوكم الي كتاب اللّه،و سنة نبيه.فان لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في اعناقكم»

و العود،و تضيعون بضعة منه» (1).

و لما انتهي خطابه الرائع اقبلت إليه الجماهير تبايعه علي كتاب اللّه و سنة نبيه،و الدعوة للرضا من آل محمد(ص) (2)و قيل أنه قال لمن بايعه:

«أبايعكم علي كتاب اللّه،و سنة رسول اللّه و علي ان يطاع اللّه و لا يعصي،و أدعوكم الي الرضا من آل محمد،و علي ان نعمل فيكم بكتاب اللّه و سنة نبيه(ص)و العدل في الرعية،و القسم بالسوية،و علي أن تقيموا معنا و تجاهدوا عدونا،فان نحن وفينا لكم وفيتم لنا،و إن نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم» (3).

و دل هذا الخطاب علي ما ينشده في ثورته الاصلاحية من تحقيق العدالة الاجتماعية و رفع مستوي الحياة،و تطبيق احكام القرآن،و إقامة عدل الاسلام.

و بعد ما بايعه الناس خرج قاصدا الي مكة قد احتف به أهل بيته و اصحابه البالغ عددهم زهاء ثلاثمائة رجل،و استخلف علي يثرب واليا من قبله دينار الخزاعي،و اخذ يجد في مسيره حتي انتهي الي«فخ»فعسكر فيه،و لحقته الجيوش العباسية بقيادة العباس بن محمد،و موسي بن عيسي فالتقي الجيشان يوم التروية وقت صلاة الصبح فحملت جيوش البغي و الضلال علي تلك القلة المؤمنة التي لا هدف لها إلا انقاذ المجتمع من ايدي الطغمة الحاكمة التي عاثت في الارض فسادا.

و بعد صراع رهيب بين قوي الحق و البغي قتل الحسين بسهم غادر رماه0)

ص: 469


1- المقاتل:(ص 484)
2- الطبري(ج 10 ص 25)
3- المقاتل:(ص 490)

به حماد التركي الوغد الأثيم،و استشهد اكثر اصحاب الحسين،و حزت رءوسهم (1)و حملت الي الخليفة العباسي و عمدت الجيوش العباسية التي لم تعرف الشرف و الانسانية،الي دفن اصحابهم الفجرة و تركوا الحسين و اصحابه الأحرار مجزرين كالاضاحي لا مغسلين و لا مكفنين،و أبردت برءوسهم الي موسي ابن عيسي و كان في مجلسه جماعة من العلويين في طليعتهم الامام موسي(ع) فلما رآها الامام هاله منظرها المؤلم الحزين فاندفع(ع)يؤبن الحسين و يصوغ من حزنه و لوعته كلمات قائلا:

«إنا للّه،و انا إليه راجعون،مضي و اللّه مسلما صالحا،صواما، قواما،آمرا بالمعروف،ناهيا عن المنكر،ما كان في اهل بيته مثله..» (2)لقد كان قتل الحسين من الأحداث الكبار في ذلك العصر فقد احدث صدعا في الاسلام أي صدع فانتهكت في قتله حرمة النبي(ص)التي هي احق الحرمات بالرعاية،و قد اندفع شعراء الشيعة يبكون علي مصرعه أمر البكاء،و يندبونه باشجي ندبة فممن رثاه عيسي بن عبد اللّه بقوله:

فلأبكين علي الحسين بعولة و علي الحسن (3)

و علي ابن عاتكة الذي أثووه ليس له كفن (4)

تركوا بفخ غدوة في غير منزلة الوطن7)

ص: 470


1- ذكر الطبري في تأريخه(ج 10 ص 28)ان عدد الرءوس التي احتزت كانت مائة و نيفا.
2- المقاتل:(ص 453)
3- هو الحسن بن محمد بن الحسن السبط(ع)و قد أسر في الواقعة و ضربت عنقه صبرا.
4- ابن عاتكة:هو عبد اللّه بن اسحاق بن الحسن المثني كما في الاستقصاء(ج 1 ص 67)

كانوا كراما قتلوا لا طائشين و لا جبن

غسلوا المذلة عنهم غسل الثياب من الدرن

هدي العباد بجدهم فلهم علي الناس المنن (1)

و رثاه شاعر آخر بقصيدة جاء فيها:

يا عين ابكي بدمع منك منهتن (2) فقد رأيت الذي لاقي بنو حسن

صرعي بفخ تجر الريح فوقهم أذيالها و غوادي الدلج المزن

حتي عفت أعظم لو كان شاهدها محمد ذب عنها ثم لم تهن (3)

ما ذا يقولون و الماضون قبلهم علي العداوة و البغضاء و الاحن

ما ذا يقولون:ان قال النبي لهم ما ذا صنعتم بنا في سالف الزمن

لا الناس من مضر حاموا و لا غضبوا و لا ربيعة و الاحياء من يمن

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرما و قد رعي الفيل حق البيت ذي الركن (4)

لقد كان مصرع الحسين الشهيد من الاحداث الجسام في الاسلام،فقد ترك ألما ممضا في نفوس المسلمين يذكرونه بكثير من الأسي و الشجون.

وصول الأسري الي الهادي:

و أرسلت رءوس الأبرار الطاهرين الي الطاغية الهادي،و معها الأسري و قد قيدوا بالحبال و السلاسل،و وضعوا في أيديهم و أرجلهم الحديد قد خيم عليهم الذل و الهوان،و أمر الطاغية الأثيم بقتلهم،فقتلوا صبرا،و صلبوا علي

ص: 471


1- مروج الذهب:(ج 3 ص 248-249)
2- في معجم البلدان(منك منهمر).
3- في المعجم(ثم لم يهن)
4- مقاتل الطالبيين(ص 460)

باب الحبس (1)و كان من الأسري رجل انهكته العلة،فقال للهادي يستعطفه:

«أنا مولاك يا أمير المؤمنين» فصاح به الهادي،و قال:مولاي يخرج علي؟و كان مع موسي سكين فقال:و اللّه لأقطعنك بهذه السكين مفصلا مفصلا و مكث الرجل ساعة فغلبت عليه العلة فمات حتف أنفه (2).

و وضعت رءوس العلويين بين يدي الطاغية فجعل يترنم بهذه الابيات:

بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعد ما دفنتم بصحراء الغميم القوافيا

فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله فيقبل ضيما أو يحكم قاضيا

و لكن حكم السيف فيكم مسلط فنرضي اذا ما اصبح السيف راضيا

فان قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ظلمنا و لكنا أسأنا التقاضيا (3)

و دل هذا الشعر علي غروره و طيشه،و روحه الانتقامية التي لم تألف الرحمة و الرأفة.

تهديده للامام موسي:

و لما استأصل موسي الهادي شأفة العلويين،أخذ يتوعد الاحياء منهم بالقتل و الدمار،و قد ذكر عميدهم و سيدهم الامام موسي(ع)فقال:

«و اللّه ما خرج حسين الا عن امره،و لا اتبع الا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت قتلني اللّه ان أبقيت عليه»

ص: 472


1- تأريخ الطبري 29/10
2- مقاتل الطالبيين(ص 453)
3- معجم البلدان 308/6

و أضاف يقول في تهديده:«و لو لا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور ما كان به جعفر-يعني الامام الصادق(ع)-من الفضل المبرز عن أهله في دينه،و عمله و فضله،و ما بلغني من السفاح فيه من تعريضه و تفضيله،لنبشت قبره و أحرقته بالنار احراقا».

و كان في مجلسه القاضي أبو يوسف،فانبري إليه قائلا:

«نساؤه طوالق،و عتق جميع ما يملك من الرقيق،و تصدق جميع ما يملك من المال،و حبس دوابه،و عليه المشي الي بيت اللّه إن كان مذهب موسي ابن جعفر الخروج،و لا يذهب إليه،و لا مذهب أحد من ولده و لا ينبغي أن يكون هذا منهم».

و لم يزل يلطف به،حتي سكن غضبه (1)و دل هذا الموقف الكريم علي نبل أبي يوسف و شرفه.

استهزاء الامام به:

و انتهي تهديد الهادي الي الامام(ع)فخف إليه أهل بيته و أصحابه مسرعين فزعين قد استولي عليهم الرعب،فأشاروا مجمعين علي الامام ان يختفي ليسلم من شر هذا الطاغية،فتبسم(ع)لأنه قد استشف من وراء الغيب هلاك هذا الباغي و تمثل(ع)بقول كعب بن مالك (2):

ص: 473


1- بحار الأنوار 278/11
2- كعب بن مالك بن أبي كعب الخزرجي شاعر رسول اللّه(ص) و أحد السبعين الذين بايعوه بالعقبة،و شهد المشاهد كلها سوي واقعة بدر و هو القائل: و ببئر بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا و محمد و قال في مدح بني هاشم: يا هاشما ان الإله حباكم ما ليس يبلغه اللسان المفصل قوم لأصلهم السيادة كلها قدما و فرعهم النبي المرسل بيض الوجوه تري بطون اكفهم تندي اذا غبر الزمان الممحل توفي في خلافة الامام امير المؤمنين(ع)بعد أن كف بصره،معجم الشعراء(ص 342)

زعمت سخينة (1)أن ستغلب ربها و ليغلبن مغالب الغلاب

و أنشد بيتا آخر:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ابشر بطول سلامة يا مربع

و دل ذلك علي سخريته البالغة بتهديد الهادي له،فقد علم(ع)ان اللّه سيقصم ظهره قبل أن يناله بسوء و مكروه.

دعاؤه عليه:

و أقبل الامام موسي(ع)نحو القبلة،و أخذ يتضرع الي اللّه،و يتوسل إليه لينجيه من شر هذا الطاغية،و قد دعا بهذا الدعاء الجليل:

«إلهي:كم من عدو انتضي علي سيف عداوته،و شحذ لي ظبة مديته و أرهف لي شباحده،و داف لي قواتل سمومه،و سدد نحوي صوائب سهامه،و لم تنم عني عين حراسته،و أضمر أن يسومني المكروه،و يجرعني ذعاف مرارته،فنظرت الي ضعفي عن احتمال الفوادح،و عجزي عن الانتصار ممن قصدني بمحاربته،و وحدتي في كثير من ناواني،و ارصادهم

ص: 474


1- سخينة:طعام يتخذ من الدقيق كانت قريش تعير به حتي صار لقبا لها.

لي فيما لم أعمل فيه فكري في الارصاد لهم بمثله،فأيدتني بقوتك،و شددت أزري بنصرك،و فللت لي شباحده،و خذلته بعد جمع عديده و حشده، و أعليت كعبي عليه،و وجهت ما سدد إلي من مكائده إليه،و رددته،و لم يشف غليله،و لم تبرد حرارات غيظه،و قد عض علي أنامله،و أدبر موليا قد أخفقت سراياه فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب،و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لأنعمك من الشاكرين،و لآلائك من الذاكرين.

إلهي:و كم من باغ بغاني بمكائده،و نصب لي أشراك مصائده،و وكل بي تفقد رعايته،و أضبأ إلي اضباء السبع لطريدته انتظارا لانتهاز فرصته، و هو يظهر لي بشاشة الملق،و يبسط لي وجها غير طلق فلما رأيت دغل سريرته،و قبح ما انطوي عليه بشريكه في صلبه،و اصبح مجلبا إلي في بغيه اركسته لأم رأسه و أثنيت بنيانه من أساسه فصرعته في زبيته و أرديته في مهوي حفرته،و رميته بحجره و خنقته بوتره و ذكيته بمشاقصته و كبيته بخنجره و رددت كيده في نحره،و ربقته بندامته،و فتنته بحسرته فاستخدم و استخذأ و تضاءل بعد نخوته،و انقمع بعد استطالته ذليلا مأسورا في ربق حبائله التي كان يؤمل أن يراني فيها يوم سطوته و قد كدت لو لا رحمتك تحل بي ما حل بساحته فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي أناة لا يعجل صل محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي:و كم من حاسد شرق بحسده و شجا بغيظه،و سلقني بحد لسانه و وخزني بمؤق عينه،و جعل عرضي غرضا لمراميه،و قلدني خلالا لم يزل فيه،فناديتك يا رب مستجيرا بك،واثقا بسرعة اجابتك متوكلا علي ما لم ازل اعرفه من حسن دفاعك عالما أنه لم يضطهد من آوي الي ظل كنفك و أن لا تفزع الفوادح من لجأ الي معقل الانتصار بك،و حصنتني من باسه

ص: 475

بقدرتك فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب،و ذي أناة لا يعجل، صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لانعمك من الشاكرين،و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من سحائب مكروه قد جليتها،و سماء نعمة أمطرتها و جداول كرامة أجريتها،و أعين أحداث طمستها،و ناشئة رحمة نشرتها و جنة عافية ألبستها،و غوامر كربات كشفتها،و أمور جارية قدرتها إذ لم يعجزك إذ طلبتها،و لم تمتنع عليك اذ أردتها فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب، و ذي أناة لا يعجل،صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من ظن حسن حققت و من عدم املاق جبرت،و من مسكنة فادحة حولت،و من صرعة مهلكة انعشت،و من مشقة ازحت لا تسأل يا سيدي عما تفعل،و هم يسألون،و لا ينقصك ما انفقت و لقد سألت فأعطيت و لم تسأل فابتدأت و استميح باب فضلك فما أكديت،أبيت إلا انعاما و امتنانا و الا تطولا يا رب و احسانا و أبيت يا رب إلا انتهاكا لحرماتك و اجتراء علي معاصيك و تعديا لحدودك و غفلة عن وعيدك و طاعة لعدوي و عدوك لم يمنعك يا إلهي و ناصري اخلالي بالشكر عن اتمام احسانك،و لا حجزني ذلك عن ارتكاب مساخطك،اللهم:فهذا مقام عبد ذليل اعترف لك بالتوحيد و أقر علي نفسه بالتقصير في اداء حقك و شهد لك بسبوغ نعمتك عليه،و جميل عاداتك عنده و احسانك إليه،فهب لي يا إلهي و سيدي من فضلك ما أريده سببا الي رحمتك و اتخذه سلما اعرج فيه الي مرضاتك و آمن به من سخطك بعزتك و طولك و بحق محمد نبيك و الأئمة صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين،فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب،و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد،و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك

ص: 476

من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد أمسي و أصبح في كرب الموت و حشرجة الصدر و النظر الي ما تقشعر منه الجلود و تفزع إليه القلوب و انا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لانعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد أمسي سقيما موجعا مدنفا من انين و عويل يتقلب في غمه و لا يجد محيصا و لا يسيغ طعاما و لا يستعذب شرابا و لا يستطيع ضرا و لا نفعا و هو في حسرة و ندامة و أنا في صحة من البدن و سلامة من العيش كل ذلك منك،صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين، و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد امسي و اصبح خائفا مرعوبا مسهدا مشققا وحيدا و جاهلا هاربا طريدا او منحجزا في مضيق او مخبأة من المخابئ قد ضاقت عليه الأرض برحبها فلا يجد حيلة و لا منجا و لا مأوي و لا مهربا و أنا في أمن و امان و طمأنينة و عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و سيدي كم من عبد امسي و أصبح مغلولا مكبلا بالحديد بأيدي العداة لا يرحمونه فقيدا من بلده و ولده و اهله منقطعا عن اخوانه يتوقع كل ساعة بأية قتلة يقتل او بأي مثلة يمثل و أنا في عافية من ذلك كله فلك الحمد من مقتدر لا يغلب و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح يقاسي الحرب و مباشرة القتال بنفسه قد غشيته الاعداء من كل جانب و السيوف و الرماح و آلة الحرب

ص: 477

يتقعقع في الحديد مبلغ مجهوده و لا يعرف حيلة و لا يهتدي سبيلا و لا يجد مهربا و قد ادنف بالجراحات او متشحطا بدمه تحت السنابك و الأرجل يتمني شربة من ماء او نظرة الي أهله و ولده لا يقدر عليها و أنا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لانعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد امسي و اصبح في ظلمات البحر و عواصف الرياح و الأهوال و الأمواج يتوقع الغرق و الهلاك لا يقدر علي حيلة او مبتلي بصاعقة أو هدم او حرق او شرق او خسف او مسخ او قذف و انا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي أناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين إلهي و كم من عبد امسي و اصبح مسافرا شاحطا عن اهله و وطنه و ولده متحيرا في المفاوز تائها مع الوحوش و البهائم و الهوام وحيدا فريدا لا يعرف حيلة و لا يهتدي سبيلا أو متأذيا ببرد أو حر او جوع او عري أو غيره من الشدائد مما أنا منه خلو و انا في عافية من ذلك كله فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

إلهي و كم من عبد امسي و اصبح فقيرا عائلا عاريا مملقا مخفقا مهجورا جائعا خائفا ضمآنا ينتظر من يعود عليه بفضل،او عبد وجيه هو أوجه مني عندك او اشد عبادة لك مغلولا مقهورا قد حمل ثقلا من تعب العناء و شدة العبودية و كلفة الرق و ثقل الضريبة او مبتلي ببلاء شديد لا قبل له به إلا بمنك عليه و انا المخدوم المنعم المعافي المكرم في عافية مما هو فيه فلك الحمد يا رب من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين.

ص: 478

إلهي و سيدي و مولاي و كم من عبد امسي و اصبح شريدا طريدا متحيرا جائعا خائفا حاسرا في الصحاري و البراري احرقه الحر و البرد و هو في ضر من العيش و ظنك من الحياة و ذل من المقام ينظر الي نفسه حسرة لا يقدر علي ضر و لا نفع و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله الا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لأنعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا ارحم الراحمين يا مالك الراحمين مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح عليلا مريضا سقيما مدنفا علي فرش العلة و في لباسها يتقلب يمينا و شمالا لا يعرف شيئا من لذة الطعام و لا من لذة الشراب ينظر الي نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرا و لا نفعا و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لانعمك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد دنا من حتفه و قد احدق به ملك الموت في اعوانه يعالج سكرات الموت و حياضه،تدور عيناه يمينا و شمالا لا ينظر الي احبائه و اودائه و اخلائه قد منع عن الكلام و حجب عن الخطاب ينظر الي نفسه حسرة فلا يستطيع لها نفعا و لا ضرا و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح في مضايق الحبوس و السجون و كربها و ذلها و حديدها يتداوله اعوانها و زبانيتها فلا يدري اي حال يفعل به و اي مثلة يمثل به فهو في ضر من العيش و ضنك من الحياة ينظر الي

ص: 479

نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرا و لا نفعا و أنا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا ارحم الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد استمر عليه القضاء و احدق به البلاء و فارق أوداءه و احباءه و اخلاءه و امسي حقيرا اسيرا ذليلا في ايدي الكفار و الأعداء يتداولونه يمينا و شمالا قد حصر في المطامير و ثقل بالحديد لا يري شيئا من ضياء الدنيا و لا من روحها ينظر الي نفسه حسرة لا يستطيع لها ضرا و لا نفعا و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد اشتاق الي الدنيا للرغبة فيها الي ان خاطر بنفسه و ماله حرصا منه عليها قد ركب الفلك و كسرت به و هو في آفاق البحار و ظلمها ينظر الي نفسه حسرة لا يقدر لها علي ضر و لا نفع و أنا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك فلا إله إلا أنت سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لك من العابدين و لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

مولاي و سيدي و كم من عبد امسي و اصبح قد استمر عليه القضاء و احدق به البلاء و الكفار و الأعداء و اخذته الرماح و السيوف و السهام و جندل صريعا قد شربت الأرض من دمه و اكلت السباع و الطيور من لحمه و انا خلو من ذلك كله بجودك و كرمك لا باستحقاق مني يا لا إله إلا أنت

ص: 480

سبحانك من مقتدر لا يغلب و ذي اناة لا يعجل صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا مالك الراحمين.

و عزتك يا كريم لاطلبن مما لديك و لألحن عليك و لألجأن إليك و لأمدن يدي نحوك مع جرمها إليك فبمن اعوذ يا رب و بمن ألوذ،لا احد لي إلا أنت أ فتردني و أنت معولي و عليك معتمدي و أسألك باسمك الذي وضعته علي السماء فاستقلت و علي الجبال فرست و علي الأرض فاستقرت و علي الليل فاظلم و علي النهار فاستنار ان تصلي علي محمد و آل محمد و ان تقضي لي جميع حوائجي و تغفر لي ذنوبي كلها صغيرها و كبيرها و توسع علي من الرزق ما تبلغني به شرف الدنيا و الآخرة يا ارحم الراحمين.

مولاي بك استغثت فصل علي محمد و آل محمد و اغثني و بك استجرت و اغنني بطاعتك عن طاعة عبادك و بمسألتك عن مسألة خلقك و انقلني من ذل الفقر الي عز الغني و من ذل المعاصي الي عز الطاعة فقد فضلتني علي كثير من خلقك جودا و كرما لا باستحقاق مني.

إلهي فلك الحمد علي ذلك كله صل علي محمد و آل محمد و اجعلني لنعمائك من الشاكرين و لآلائك من الذاكرين و ارحمني برحمتك يا ارحم الراحمين» (1).

و بعد فراغ الامام(ع)من دعائه الشريف التفت الي اصحابه يهدأدر

ص: 481


1- يعرف هذا الدعاء بدعاء الجوشن الصغير،و قد ذكره السيد ابن طاوس في مهج الدعوات(ص 220-427)و الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان نقلا عن الكفعمي في هامش كتاب البلد الأمين،و ذكره ابن شهر اشوب في المناقب،و قد اختلفت نسخ الدعاء في هذه المصادر

روعهم،و يفيض عليهم قبسا من علمه المستمد من علم جده الرسول(ص) قائلا:

«ليفرج روعكم فانه لا يأتي أول كتاب من العراق إلا بموت موسي الهادي».

فانبروا يطلبون منه ان يكشف لهم الحجاب قائلين:

«و ما ذاك اصلحك اللّه؟» «و حرمة صاحب هذا القبر-و أشار الي قبر النبي(ص)-قد مات موسي الهادي من يومه هذا،و اللّه إنه لحق مثل ما انكم تنطقون..» فتفرق القوم و هم ينتظرون بفارغ الصبر ورود البريد من العراق فما كان باسرع من أن وافاهم و هو يحمل لهم البشري بهلاك الطاغية،و قد نظم بعض اهل البيت هذه الكرامة التي جرت علي يد الامام بقوله:

و سارية لم تسر في الأرض تبتغي محلا و لم يقطع بها البعد قاطع (1)

سرت حيث لم تحد الركاب و لم تنخ محلا و لم يقصر لها البعد مانع

تمر وراء الليل و الليل ضارب بجثمانه فيه سمير و هاجع

تفتح أبواب السماء و دونها اذا قرع الأبواب منهن قارع

اذا وردت لم يردد اللّه وفدها علي أهلها و اللّه راء و سامع

و إني لأرجو اللّه حتي كأنما أري بجميل الظن ما هو صانع (2)8)

ص: 482


1- و سارية:اي رب سارية اخذت من السري و هو السير بالليل و المراد رب دعوة لم تجر في الأرض بل صعدت الي السماء فلم يقطعها قاطع لبعد المسافة فصعدت الي اللّه فاستجاب الدعاء و انتقم من الظالمين.
2- المناقب:(ج 2 ص 378)

هلاك موسي الهادي:

و استجاب اللّه دعاء وليه العبد الصالح فأهلك عدوه الطاغية الجبار فاراح العباد و البلاد من شره،و جوره،أما سبب وفاته فتعزوه بعض المصادر الي ؟كانت في جوفه فهلك منها (1)و صرحت اكثر المصادر أن أمه الخيزران غضبت عليه لأنه قطع نفوذها لقصة مشهورة و انها خافت منه علي ولدها هارون الذي كان أحب إليها من الدنيا و من فيها (2)فأوعزت الي جواريها بخنقه،فعمدت الجواري الي قتله و هو نائم (3)و مهما يكن من أمر فقد انطوت صفحة هذا الطاغية،و لم تطل أيامه فقد كانت خلافته سنة و بضعة اشهر،و لكنها كانت مجهدة و ثقيلة علي المسلمين فقد واجهوا فيها اعنف المشاكل و اكثرها محنة و صعوبة،فقد رءوا رءوس ابناء النبي علي الرماح يطاف بها في الأقطار و الأمصار،و اسراهم يقتلون و يصلبون،لم ترع فيهم حرمة الرسول الأعظم(ص)و لا حرمة الاسلام الذي فرض ودهم علي جميع المسلمين.

و مما زاد في محنة المسلمين و عنائهم ان موسي الهادي اقبل علي اللهو و العبث و المجون و اخذ يصرف الخزينة المركزية علي شهواته،و يهب أضخم الأموال للمغنين غير حافل بما الزم به الاسلام من الاحتياط الشديد في اموال المسلمين،و حرمة صرفها في غير صالحهم و تطورهم الاقتصادي.

لقد رأي الامام موسي(ع)تلك الأحداث الجسام،و رافق كثيرا

ص: 483


1- الطبري:(ج 10 ص 33)
2- الطبري:36/10
3- الجهشياري(ص 175)،اليعقوبي 138/3

من مآسيها فزادته عناء و جهدا،فقد رأي الحق مضاعا،و العدل مجافي و لم يكن هناك أي ظل للحياة الاسلامية،فقد خالفت السلطات الحاكمة آنذاك جميع ما أثر عن الاسلام في عالم السياسة و الاقتصاد و الادارة الي هنا ينتهي بنا الحديث في هذه«الحلقة الأولي»من هذا الكتاب و نلتقي مع القراء في«الحلقة الثانية»فنقدم لهم عرضا شاملا لبعض شئون الامام و احواله.

ص: 484

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.