موسوعه اهل البيت عليهم السلام
نويسنده: السيد علي عاشور
دارالنظير عبود - بيروت - لبنان
مشخصات ظاهري: 20 ج
1427ه - 2006م
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 3
ص: 4
الجزء الخامس
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
نماذج من محاذير تقديم المفضول
مما تقدم يعلم كون علي أفضل أهل زمانه،و بعيدا عن الهفوات و الأخطاء بسبب طهارته و عصمته صلوات اللّه عليه.
و من الطبيعي أن الخليفة عند ما لا يكون أعلم أهل زمانه و أفضلهم و لا يتمتع بالعصمة و الطهارة أن يقع في كثير من الأخطاء و الهفوات و التي تؤدي إلي هتك الدين و أهله.
و سوف نسلط هنا الضوء-قبل استكمال النص علي أمير المؤمنين علي عليه السّلام-علي الأخطاء التي حصلت من الخلفاء الذين لم يكونوا أفضل أهل زمانهم و لم يتمتعوا بالعصمة و الطهارة...
***
ص: 5
ص: 6
*أخرج أبو بكر بن أبي شيبة قال:جاء عيينة بن حصين و الأقرع بن حابس إلي أبي بكر فقال:«يا خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إنّ عندنا ارضا سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها و نزرعها و لعل اللّه أن ينفع بها بعد اليوم؟».
فقال أبو بكر لمن حوله من المسلمين:ما ترون؟
قالوا:لا بأس.
فكتب لهما كتابا و أشهد فيه شهودا،و لم يكن عمر حاضرا.
فلما سمع عمر ما في الكتاب اخذه منهما فمحاه،فتذمرا!!».
و زاد في الدر المنثور و المطالب العالية:«فتناوله عمر من أيديهما فتفل فيه فمحاه فتذمرا، و قالا له مقالة سيئة».
فقال عمر:«إنّ رسول اللّه كان يتألفكما و الإسلام يومئذ ذليل،و أن اللّه قد أعزّ الإسلام فاذهبا [فاجهدا علي جهدكما]».
فذهبا إلي أبي بكر يتذمران.
و جاء عمر و هو مغضب حتي وقف علي أبي بكر فقال:من حملك علي أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟...،فكل المسلمين أوسعهم مشورة و رضا.
و زاد المتّقي الهندي:قالا:و الله ما ندري أنت الخليفة أم عمر.
فقال:«بل هو،و لو شاء كان» (1).
قال البويصري بعد الحديث:رجاله ثقات (2).
-هذا فعل أبي بكر في أموال المسلمين،فكان يعطي و يمنع علي حسب مزاجه لا رقيب و لا عتيد و لا ميزان شرعي.
ص: 7
كيف،و هو الذي نفل لخالد قلنسوة هرمز التي بلغت مائة الف درهم؟! (1)
*و من مفارقاته انهزامه و فراره يوم أحد:
قال أبو جعفر الاسكافي:و أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين و أرباب السيّر ينكرونه، و جمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلاّ علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة (2).
و روي مسلم عن أنس:أنّ النبي افرد في سبعة من الأنصار و رجلين من قريش طلحة و سعد (3).
و روي أنه انهزم يوم أحد غير علي (4).
هذا إضافة إلي فراره يوم حنين و الخندق (5).
*و قال المسعودي:كتب معاوية إلي محمد بن أبي بكر ردا علي رسالة له:
«مع كلام كثير لك فيه تضعيف،و لأبيك فيه تعنيف ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب و قديم سوابقه-إلي ان قال:
فقد كنا و أبوك فينا[في حياة من نبينا]نعرف فضل ابن أبي طالب و حقه لازما لنا مبرورا [مبرزا]علينا،فلما اختار اللّه لنبيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما عنده،و أتم له ما وعده و أظهر دعوته و أبلج حجته و قبضه اللّه إليه صلوات اللّه عليه.
فكان أبوك و فاروقه أول من ابتزّه حقه و خالفه علي أمره[أول من أنزله منزلته عندهما]،علي ذلك اتفقا و اتّسقا...
فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبد به[اسسه]و نحن شركاؤه،و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب و لسلّمنا به،و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله؛فعب أباك بم بدا لك،أو دع ذلك،و السلام علي من أناب» (6).
*و من هفواته سوء أخلاقه حتي أنّبه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (7).6.
ص: 8
*و رفع صوته فوق رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فنزل قوله تعالي: لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ (1).
*و قال له النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يوما:«لمّا تكلمت ذهب الملك و جاء الشيطان» (2).
*و من ذلك قصة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة حيث قتله و مو مسلم و نكح امرأته بلا عدة لجمالها،فقال عمر لأبي بكر:«إنّ عليك أن تقيده بمالك».
فسكت أبو بكر.
فقال عمر لخالد:«أما و الله إن أمكنني اللّه منك لأرجمنك».
فكان عمر يحرض أبا بكر علي خالد و يشير عليه أن يقتصّ منه بدم مالك و يهدده بالرجم،فقال أبو بكر:«أيها يا عمر،ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه» (3).
كم كانت أموال الناس عرضة لأهوائهم و كذا أعراضهم و دماؤهم!
*و اعلم أنّ عمر و إن كان قد عزل خالدا عن إمارته سنة سبع عشرة،و لكنه لم يقم عليه الحد فيما بعد كما وعد،و لعل سبب ذلك أنه اتفق معه علي قتل سعد بن عبادة-الذي كان معارضا لعمر يوم السقيفة-فقتله خالد في الشام،علي ما روي البلاذري عن الكلبي (4).
*و اعلم أيضا أنّ عمر رد امرأة مالك بن نويرة بعدما ولدت من خالد،ورد السبي الذي سباه خالد في أيام أبي بكر،و كذا الأموال و الأسري و المسجونين (5).
فأما أن أبا بكر خالف الإسلام،و إما أن عمر انتهك حرمة الرحمن،و إما أنهما تقمصا ما ليس لهما؟!ف.
ص: 9
و هذا من نتائج تقديم المفضول:«قتل سبي زنا سرقة»-.
أي حكمة تدعي لتقديم المفضول؟!
بعد هذا كله كيف يريدنا العامة أن نقبل غلوهم في حق هذا الرجل؟!
كيف نصدق حديث:«يتجلي اللّه لعباده في الآخرة عامة،و يتجلي لأبي بكر خاصة» (1).
قال الذهبي في الحديث:و أحسب محمدا بن خالد وضعه (2).
و قال الخطيب:لا أصل له (3).
فأين كان هذا التجلّي عند ما كان أبو بكر يعثو فسادا في أرض المسلمين و أموالهم و أعراضهم!!
و قولهم:«اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر و عمر» (4).
فهل يأمرنا نبي الرحمة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن نفتش بيوت الأنبياء و نأمر بإحراقها و ضرب بناتهم؟!هذا معني الإقتداء في أفعال الرجلين.
هل يأمرنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن نفر من ساحة المعركة كما فعل هو و صاحبه فيما تقدم و يأتي؟!
و قولهم:«ليلة و يوم من أبي بكر خير من عمر و آل عمر» (5).
*و لكن كما قال العجلوني:و باب فضائل أبي بكر أشهر المشهورات من الموضوعات كحديث أنّ اللّه يتجلي...إلخ (6).
***
*فعن ثور الكندي قال:«كان عمر يعس بالمدينة في الليل،فسمع صوت رجل في بيت يتغني فتسّور عليه فوجده عند امرأة و عنده خمر فقال:يا عبد اللّه أظننت أن اللّه يسترك و أنت علي معصيته؟!
فقال:و أنت يا أمير المؤمنين!!فلا تعجل؛فإن كنت قد عصيت اللّه في واحدة فقد عصيت اللّه
ص: 10
فيّ ثلاث قال اللّه تعالي: لاٰ تَجَسَّسُوا و قد تجسست.
و قال: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا فقد تسورت عليّ.
و قد قال اللّه تعالي: لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ و قد دخلت بيتي بغير إذن و لا سلام.
فقال عمر:هل عندك من خير إن عفوت عنك؟
قال:نعم» (1).
و لا أدري من أولي بالعفو،الذي عصي مرة واحدة أم من عصي ثلاثا و كان خليفة!
*و ليس هذه المرة الوحيدة التي يتجسس فيها عمر علي رعيته،فقد روي ابن الاثير له تجسسا مع عبد الرحمن بن عوف أخرجه عبد الرزاق و عبد بن حميد و الخرائطي من المسور عن عبد الرحمن ابن عوف،و أخرجه سعيد بن منصور و ابن المنذر عن الشعبي و الحسن عليه السّلام (2).
-هكذا يكون الخليفة المفضول يتجسس و يعطل الحدود،إذ علي الحاكم أن يعمل بعلمه؟!
*و من ذلك أنه سأل أحد أمراء الشام(حابس بن سعد)عن سيرته و ما يصنعه بالقرآن و الأحكام،فأجابه بما يرضيه فاستحسن منه و أقره علي عمله بالالتحاق به،فلما وليّ رجع فقال:يا أمير المؤمنين إني رأيت البارحة رؤيا أقصّها عليك،رأيت الشمس و القمر يقتتلان و مع كل واحد منهما جنود من الكواكب؟!
فقال عمر:فمع أيهما كنت؟
قال:مع القمر.
فقال:عزلتك،لأنّ اللّه قال: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنٰا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنٰا آيَةَ النَّهٰارِ مُبْصِرَةً (3).
هذا هو الميزان عند عمر في تعيين الحكام و عزلهم،و ما أشد نظره في تأويل القرآن؟ر.
ص: 11
*و من ذلك انهزامه يوم أحد علي ما أقر به الفخر الرازي و غيره (1).
و كذا فراره يوم حنين و الخندق (2).
*و من ذلك تعطيله حدّ المغيرة بن شعبة حتي خاطبه الحسن بن علي عليه السّلام قائلا:«إنّ حدّ اللّه في الزنا ثابت عليك،و لقد درأ عمر حقا اللّه سائله عنه» (3).
و أخرج الحفاظ تصريحه بذلك للمغيرة حيث قال عمر:«و الله ما أظن أن أبا بكرة كذب عليك،و ما رأيتك إلاّ خفت أن أرمي بحجارة من السماء» (4).
*و من ذلك أذيته لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إغضابه:
كإغضابه عند ما عرض عليه كتب اليهود،فعن عبد اللّه بن ثابت قال:جاء عمر بن الخطاب إلي النبي فقال:يا رسول اللّه إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟
قال:فتغير وجه رسول اللّه و قال:«و الذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسي ثم اتبعتموه و تركتموني لضللتم» (5).
و أخرجه ابن أبي شيبة عن جابر بلفظ:أنّ عمر أتي النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقال:يا رسول اللّه!إني أصبت كتابا حسنا!!من بعض أهل الكتاب.
قال:فغضب و قال:«أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب!فو الذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية» (6).
و أخرجه السمرقندي عن الحسن البصري بلفظ:أنّ عمر قال يا رسول اللّه إنّ أناسا من اليهود و النصاري يحدثون بأحاديث أفلا نكتب بعضها!!
فنظر إليه نظرة عرف الغضب في وجهه قال:«أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصاري! لقد جئتكم بها ببيضاء نقية» (7).ي.
ص: 12
*أقول:من خلال هذه التعابير يتبين أمور:
1-أنّ عمر كان يحضر مجالس اليهود بعد إسلامه،و قد صرّح بذلك ابن شبة في التاريخ (1).
2-تعبيره(بأخ لي)فقد اتخذ اليهود أخوة له.
3-وصفه لتلك الكتب المحرّفة بأنها حسنة.
4-أن الفعل تكرر منه و ذلك لأن رواية السمرقندي كان يسأل عن أصل كتابتها أما غيرها فتنص أنه كتبها و عرضها علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (2).
*و من ذلك اعتراضه علي رسول اللّه في أكثر من موضع:
1-يوم صلاته علي بن أبي (3).
2-يوم اعتراضه في الكلالة (4).
3-يوم وفاة النبي الأعظم صلوات اللّه عليه و هو أشدّها.
4-و يوم صلح الحديبية.
***
و هو حديث إتهام النبي الأعظم بالهجر (5).
*قال الحافظ النمري:و كان عمر القائل حينئذ:قد غلب عليه الوجع-و ربما صحّ-و عندكم القرآن،فكان ابن عباس يقول:«إنّ الرزية كل الرزية...» (6).
و قالت زينب بنت جحش و صواحبها:ائتوا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلم بحاجته.
و في المجمع قالت:و يحكم عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إليكم.
فقال عمر رضي اللّه عنه:قد غلبه الوجع!و عندكم القرآن!حسبنا كتاب الله!من لفلانة و فلانة؟.
ص: 13
و في المجمع:فقال بعض القوم:اسكتي فإنه لا عقل لك.
قال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أنتم لا أحلام لكم» (1).
و روي أبو يعلي بسند رجاله رجال الصحيح عن جابر:«أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلّون و لا يضلّون،و كان في البيت لغط فتكلم عمر بن الخطاب، فرفضها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم» (2).
*قال المقريزي:فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«ائتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» فتنازعوا؛فقال بعضهم:«ماله؟أهجر!» (3).
*و قال البلاذري رواية عن ابن عباس:قال:«ائتوني بالدواة و الكتف أكتب لكم كتابا لا تضلون معه بعدي أبدا».
فقالوا:أتراه يهجر.و تكلموا و لغطوا.فغمّ ذلك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أضجره.
فقال:«إليكم عني».
و لم يكتب شيئا (4).
و قال القاضي عياض:قوله ما شأنه هجر،و إنّ رسول اللّه ليهجر و كذا عند أبي ذر،و في باب الجوائز:هجر،و عند مسلم في حديث إسحاق:يهجر،و في رواية قبيصة هجر (5).
و قال القسطلاني في معرض ذكر ألفاظ الحديث:فقال بعضهم:إنه قد غلبه الوجع،-فقالوا ما شأنه يهجر استفهموه-و عن ابن سعد«إنّ نبي اللّه ليهجر» (6).
*قال الإمام الغزالي:لكن أسفرت الحجة وجهها و أجمع الجماهير علي متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع و هو يقول:«من كنت مولاه فعلي مولاه»،فقال عمر:بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي و مولي كل مؤمن؛فهذا تسليم و رضي و تحكيم.ثم بعد هذا غلب الهوي لحب الرياسة[حبا للرياسة]و حمل عمود الخلافة،و عقود النبوة[و عقد البنود]و خفقان الهوي).
ص: 14
في قعقعة الرايات و اشتباك ازدحام الخيول و فتح الأمصار[و أمر الخلافة و نهيها فحملهم علي الخلافة]و سقاهم كأس الهوي فعادوا إلي الخلاف الأول،فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا[فبئس ما يشترون].
و لما مات رسول اللّه قال قبل وفاته[بيسير]ائتوني بدواة و بياض لأزيل لكم أشكال الأمر و أذكر لكم من المستحق لها بعدي[لأكتب لكم كتابا لا تختلفوا فيه بعدي]قال عمر رضي اللّه عنه:
«دعوا الرجل فإنه ليهجر» (1).
و قال ابن حزم في الحديث و ضرره علي الإسلام:و بالجملة فالكتاب كان رافعا لهذا النزاع (الاختلاف فيمن يلي أمر المسلمين بعده)و لو لم يكن فيه إلاّ الإستراحة من سفك الدماء في أمر عثمان و من بعده،فلا حول و لا قوة إلاّ بالله تعالي،فلقد هلكت في هذا طوائف و تمادي ضلالهم إلي اليوم (2).
*أقول:لقد تنبأ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بفعلة عمر هذه حيث قال يوما:«لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري إما أمرت به أو نهيت عنه،و هو متكيء علي أريكته فيقول:ما ندري ما هذا!عندنا كتاب اللّه و ليس هذا فيه!و ما لرسول اللّه أن يقول ما يخالف القرآن و بالقرآن هداه اللّه» (3).
*قيل أن الرواية الأنسب بحال عمر الصحابي بالاستفهام(أهجر)و ذلك لعدم إمكان تأويلها بما يتناسب مع رسول البشرية،و استدلوا بأنه لو كان علي غير الإستفهام لاعترض عليه (4).
*أقول:أولا:في بعض روايات البخاري و مسلم بغير استفهام كما تقدم.
ثانيا:الدليل علي اعتراض رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الصحابة علي عمر عند مقولته الشنيعة:
فاعتراض رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان بقوله:«فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه»كما في رواية البخاري.
قال القسطلاني في شرح هذا الحديث:..و يحتمل عكسه أي الذي أشرت عليكم به من الكتابة خير مما تدعونني إليه من عدمها،بل هذا هو الظاهر..
إلي أن قال:و لكن أسف علي ما فاته من البيان بالتنصيص عليه لكونه أولي من الاستنباط (5).).
ص: 15
و قال النبي معترضا:«أنتم لا أحلام لكم»كما تقدم (1).
و مما يشير إلي إعتراض النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما تقدم عن أبي يعلي:فتكلم عمر بن الخطاب فرفضها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم» (2).
و أيضا ما تقدم عن البلاذري:فغمّ ذلك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أضجره.
فقال:«إليكم عني»و لم يكتب شيئا (3).
فمنها اعتراض ابن عباس المشهور بقوله:إنّ الرزية كل الرزية من حال بين رسول اللّه و الكتاب (4).
و منها قول زينب و غيرها كما تقدم:ائتوا رسول اللّه صلي اللّه عليه و سلم بحاجته.
و في المجمع قالت:و يحكم عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إليكم (5).
و منها ما عند البخاري و مسلم«فاختلف أهل البيت»«ما ينبغي عند نبي تنازع».
فاختلافهم دليل علي أنهم كانوا حزبين:حزب عمر و حزب من يريد للكتاب أن يرفع الخلاف فيما بعد.
و كذلك التنازع الحاصل يشير إلي ذلك.
هذا و قد قال عمر بنفسه لابن عباس:
«لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة علي الإسلام،فعلم رسول اللّه إنّي علمت ما في نفسه فأمسك!» (6).
*و اعلم أنّ الهجر معناه كما في لسان العرب:القبيح من الكلام،و الهذيان،و هجر به في النوم يهجر هجرا:حلم و هذي،و في الحديث قالوا ما شأنه أهجر،أي اختلف كلامه بسبب المرض (7).
ص: 16
و قال:الهذيان:كلام غير معقول مثل كلام المبرسم و المعتوه (1).
و قال القسطلاني:فقالوا ما شأنه أهجر بهمزة لجميع رواة البخاري،و في الرواية التي في الجهاد بلفظ«فقالوا هجر»بغير همزة.
و وقع للكشميهني هناك«فقالوا هجر،هجر رسول الله»أعاد هجر مرتين.
قال عياض:معني أهجر أفحش،يقال هجر الرجل إذا هذي،و أهجر إذا أفحش (2).
قال القاضي عياض في مشارق الأنوار:يقال:أهجر الرجل إذا قال الفحش (3).
***
-قال الواقدي و غيره:قالوا:فلما اصطلحوا فلم يبق الاّ الكتاب،وثب عمر إلي رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال:يا رسول اللّه ألسنا بالمسلمين؟
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«بلي».
قال:فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟
فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أنا عبد اللّه و رسوله و لن أخالف أمره،و لن يضيعني».
فذهب عمر إلي أبي بكر رضي اللّه عنه فقال:يا أبا بكر ألسنا بالمسلمين؟.
فقال:بلي.
فقال عمر:فلم نعطي الدنيّة في ديننا؟
فقال أبو بكر:إلزم غرزه!فإني أشهد أنه رسول الله،و أنّ الحق ما أمر،و لن نخالف أمر اللّه و لن يضيعه اللّه!
و لقي عمر من القضية أمرا كبيرا،و جعل يرد علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الكلام و يقول:علام نعطي الدنية في ديننا؟
فجعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول:«أنا رسول اللّه و لن يضيعني»!
قال:فجعل يرد علي النبي صلي اللّه عليه و سلم الكلام.
قال:يقول أبو عبيدة بن الجراح:ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول اللّه يقول ما يقول؟
ص: 17
قال:تعوّذ بالله من الشيطان و اتهم رأيك!
قال عمر:فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حياء،فما أصابني قط شيء مثل ذلك اليوم.
فكان ابن عباس رضي اللّه عنه يقول:قال لي عمر في خلافته،و ذكر القضية:«ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلاّ يومئذ،و لو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة عن القضية لخرجت».
قال أبو سعيد الخدري:جلست عند عمر بن الخطاب يوما،فذكر القضية فقال:لقد دخلني يومئذ من الشك،و راجعت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ مراجعة ما راجعته مثلها قط.
و الله لقد دخلني يومئذ من الشك حتي قلت في نفسي:لو كنا مائة رجل علي مثل رأيي ما دخلنا فيه أبدا!.
قال عمر:فوثبت إلي أبي جندل أمشي إلي جنبه،و سهيل بن عمرو يدفعه،و عمر يقول:إصبر يا أبا جندل،فإنما هم المشركون،و إنما دم أحدهم دم كلب،و إنما هو رجل و أنت رجل و معك السيف!فرجوت أن يأخذ السيف و يضرب أباه،فظن الرجل بأبيه،فقال عمر:يا أبا جندل،إنّ الرجل يقتل أباه في الله،و الله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله،فرجل برجل!قال:و أقبل أبو جندل علي عمر فقال:مالك لا تقتله أنت؟
قال عمر:نهاني رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عن قتله و قتل غيره.
قال أبو جندل:ما أنت أحق بطاعة رسول اللّه مني!.
و قال عمر و رجال معه من أصحاب النبي صلي اللّه عليه و سلم:يا رسول الله،ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام...إلخ» (1).
انظر عزيزي القاريء إلي تشكيك هذا الرجل بعصمة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،و عدم انقياده إلي أوامره.
و بعد ذلك يأتي بعض من عاصرناه ليقول:إنّ اعتراض عمر فيه دليل علي وعي الصحابة!!
أجل!أصبحت معصية الرسول وعيا يقتدي بها!
أصبح إفشال و نقض الصلح الذي أمر به اللّه عز و جل و نفذّه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،الذي لا ينطق عن الهوي،أصبح ذلك من حضارة الدين الإسلامي!
و من العجيب جهل القائل بندم عمر ندما شديدا و تصدّقه عنه و ذبح العقائق من أجل تشكيكه هذا و ارتيابه بنبوة النبي كما صرّح هو بذلك (2).1.
ص: 18
و من هفوات عمر فعلته الشنيعة مع صاحبه و نديمه في الإغارة علي بيت الطهر،ذلك البيت الذي كان يتلو رسول اللّه آية التطهير علي بابه مدة من الزمن كما تقدّم.
*قال المسعودي في مروج الذهب:و كان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه في حصر بني هاشم في الشعب و جمعه الحطب ليحرقهم،و يقول:إنما أراد بذلك أن لا تنتشر الكلمة و لا يختلف المسلمون،و أن يدخلوا في الطاعة فتكون الكلمة واحدة.كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر فإنه أحضر الحطب ليحرّق عليهم الدار (1).
هذا في شرح النهج.
*أما في مروج الذهب المطبوع و المحرّف فقال المسعودي:«و حدّث النوفلي في كتابه في الأخبار عن ابن عائشة عن أبيه عن حماد بن سلمة قال:كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جري ذكر بني هاشم و حصره إياهم في الشعب و جمعه الحطب لتحريقهم و يقول إنما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته،كما أرهب بنو هاشم و جمع لهم الحطب لإحراقهم إذ هم أبوا البيعة فيما سلف، و هذا الخبر لا يحتمل ذكره هنا و قد أتينا علي ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت و أخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان»انتهي (2).
فحذف اسم عمر منها.
و قد فصّلناه في تاريخ فاطمة عليها السّلام فارتقبه هناك.
***
*شربه الخمر دون كثير من المسلمين،كما يحدثنا الزمخشري في قصة تحريم الخمر قال:
أنزل اللّه تعالي في الخمر ثلاث آيات أولها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ .
فكان المسلمون بين شارب و تارك،إلي أن شرب رجل و دخل في الصلاة فهجر،فنزلت: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقْرَبُوا الصَّلاٰةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ فشربها من شرب من المسلمين حتي شربها عمر،
ص: 19
فأخذ لحي بعير فشج رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد علي قتلي بدر بشعر الأسود بن عبد يغوث:
و كائن بالقليب قليب بدر من الفتيان و الشرب الكرام
أ يوعدنا ابن كبشة أن سنحيي و كيف حياة إصداء وهام
ألا من مبلغ الرحمن عني بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي و قل لله يمنعني طعامي (1)
-و أخرجه الطبراني في الأوسط بتغاير جاء فيه:«فدعا النبي عمر فتلا هذه الآية،فكأنها لم توافق من عمر الذي أراد....إلي أن نزل: إِنَّمَا الْخَمْرُ .
فقال عمر:«نتهينا يا رب» (2).
ما هذا الخليفة الذي يشرب الخمر دون عامة المسلمين!؟و من أين جاءه هذا الشعر الذي لا ينشده إلاّ من ارتدّ عن الإسلام؟!.
و هل هو نفس الشعر الذي أنشده أبو بكر عند ما شرب؟!
*و من ذلك ما روي عن السائب بن يزيد قال:اتي عمر بن الخطاب فقالوا:يا أمير المؤمنين إنّا لقينا رجلا يسأل عن تاويل القرآن فقال:اللهم أمكنّي منه،فبينما عمر ذات يوم يغذّي الناس إذ جاءه رجل عليه ثياب و عمامة يتغدي،حتي إذا فرغ قال:يا أمير المؤمنين: وَ الذّٰارِيٰاتِ ذَرْواً فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً .
فقال عمر:أنت هو؟فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتي سقطت عمامته،فقال:
و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك،ألبسوه ثيابه و احتملوه علي قتب» (3).
هكذا تكون الدعوة للإسلام؟!و قارن بين ما يأتي من مناظرة أمير المؤمنين و ابن عباس للخوارج.
*و من ذلك ما رواه الزمخشري عنه أنّه قال لرباح بن المعترف غنّي،فغنّاه فأصغي إليه عمر و قال:أجدت بارك اللّه عليك.
فقال:يا أمير المؤمنين لو قلت:زه كان أعجب إلي،قال:و ما زه؟
قال:كلمة كان كسري إذا قالها أعطي من قالها له أربعة آلاف درهم.ن.
ص: 20
قال:إن شئت أن أقولها لك فعلت فأما أعطي أربعة آلاف درهم فلا يجوز لي من أموال المسلمين:قال:فبعضها من مالك،فأعطاه أربعمائة درهم.
قال يرفأ (1):أتصل المغني؟
قال[عمر]:خدعني» (2).
*و من ذلك ما جري بينه و بين العباس في داره القريب من المسجد فطلبه عمر ليوسع المسجد فرفض العباس،قال عبد اللّه بن أبي بكر:
قال عمر:لآخذنّه منك،فقال أحدهما لصاحبه:فاجعل بيني و بينك حكما،فجعلا بينهما أبي ابن كعب.
فقص عليه عمر قصته ثم قص العباس قصته.فقال:إنّ عندي علما مما اختلفتما فيه، و لأقضين بينكما بما سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،سمعته يقول:إنّ داود لما أراد أنّ يبني بيت المقدس و كان بيت ليتيمين من بني إسرائيل في قبلة المسجد فأراد منهما البيع فأبيا عليه.فقال:لآخذنه، فأوحي اللّه عز و جل إلي داود إنّ أغني البيوت عن المظلمة بيتي و قد حرّمت عليك بنيان بيت المقدس.
قال:فسليمان.فأعطاه سليمان.
فقال عمر لابي:و من لي بأنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال هذا؟
و في رواية ابن سعد عن سالم أبي النضر:فأخذ عمر بمجامع أبي بن كعب فقال:جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه،لتخرجن مما قلت فجاء يقوده حتي دخل المسجد فأوقفه علي حلقة من أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فيهم أبو ذر.
رجعنا إلي رواية ابن أبي بكير:فقال أبي لعمر:أتظن إني أكذب علي رسول الله؟لتخرجن من بيتي.-و في رواية ابن سعد:يا عمر أتتهمني علي حديث رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم؟-فخرج إلي الأنصار فقال:أيكم سمع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول كذا و كذا فقال هذا:أنا،و قال هذا أنا،حتي قال ذلك رجال.فلمّا علم ذلك عمر قال:أما و الله لو لم يكن غيرك لأجزت قولك و لكني أردت أن أستثبت» (3).
*و هنا مواضع للطعن:ع.
ص: 21
منها:جهله بحديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مع أنه عرفه جملة من الأنصار و الأصحاب،فما هذا الخليفة الذي لا يعرف الأحاديث المشهورة؟.
و منها:اتهام أبيّ بالكذب علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و منها:أخذه بمجامع ابيّ و قوله:جئت بما هو أشد منه لتخرجن مما قلت،فأراد عمر أن يكذب أبي حديث رسول اللّه و يأتي له بحديث مزور يجعل الحكم لصالحه،إذ لا يهمه من الحديث إلاّ ما وافق مصالحه سواء كانت شخصية كحديث الدواة و البياض الذي أراد أن يقوله رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في مرض وفاته فاتهمه بالهجر كما تقدم.
أم كانت مصلحة عامة و لكن فيها من الشخصية ما لا يخفي كما في الزيادة في المسجد.
و أما قوله أردت أن أستثبت-أو ليكون حديث رسول اللّه ظاهرا كما في رواية ابن سعد-فإنه لا يخفي أنه بعدما انهزم عمر و لم يستطيع أن يهدد أبيّ و أن يأخذ منه رواية مختلقة اعتذر بذلك.
و إلاّ لما ذا لم يستثبت من أول الأمر،و ألفاظ الإستثبات معروفة!!.
و لما ذا لم يستثبت في حديث أبي بكر و الذي تفرد به كما يعترفون:
نحن معاشر الأنبياء لا نورث!
و منها:عدم إمكانه فصل الدعوي،فما هذا الخليفة الذي لم يستطع أن يحكم في قضية حكم بها أبي،و من هو أبي و ما هو علمه؟ما هذا الخليفة الذي في كل قضية يذهب إلي من يعلّمه حكم القرآن و السنّة فيها!!.
-و عزيزي القاريء لا تدع الشيطان يوسوس في صدرك ليقول لك أن علي بن أبي طالب كان يتحاكم مع خصمه إلي قاضيه.
و ذلك في القصة المشهورة بينه و بين اليهودي الذي سرق الدرع من بيت المال فحاكمه أمير المؤمنين إلي شريح فقال شريح للأمير أعندك بينه؟فقال الأمير:لا،غير إني تركته البارحة في بيت المال و لم أجده إلاّ مع اليهودي اليوم.
فحكم شريح لليهودي لأنّ الدرع في يده.
فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:لا أريد أن أنقض حكمك و لكن إعلم أنك أخطأت في مواضع:أولا علي الحاكم أن يعمل بعلمه و أنت تعلم إني صادق و بالأمس كان يقول رسول اللّه علي مع الحق و الحق مع علي (1).ي.
ص: 22
ثانيا لم تساوي بيني و بين اليهودي،و كنيتني بإمرة المؤمنين مع إننا خصمان.
عندها تقدم اليهودي و تشهّد بالشهادتين علي يدي أمير المؤمنين لما رأي من عدله عليه السّلام، و اعترف (1).
ففرق واضح بين مرافعة عمر و مرافعة أمير المؤمنين،فالأول كان يجهل بالحكم و أراد التحريف،بينهما الأمير كان يعلم بالحكم و لكنه أراد العدل و المساواة و أن الناس سواسية كأسنان المشط كما كان بالأمس محمد بن عبد اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و أما حكم شريح فهو كحكم عمر عند ما سألته فاطمة فدكا.
و كحكمه عند ما قالت له عليها السّلام:إذا شهد علي أربع شهود ما كنت صانع؟أو قول أمير المؤمنين لأبي بكر:لو أن شهودا شهدوا علي فاطمة بنت رسول اللّه بفاحشة ما كنت صانعا بها؟
قال اللعين:كنت اقيم عليها الحد!!؟
قال عليه السّلام:إذا كنت عند اللّه من الكافرين،لأنك رددت شهادة اللّه لها بالطهارة و قبلت شهادة الناس عليها (2).
*و من ذلك ما رواه الحاكم و صححه و لم يطعن به الذهبي عن جابر الأسدي قال:كنت محرما فرأيت ظبيا فأصبته فمات فوقع في نفسي من ذلك فأتيت عمر بن الخطاب أسأله فوجدت إلي جنبه رجلا أبيض رقيق الوجه،فإذا هو عبد الرحمن بن عوف فسألت عمر فالتفت إلي عبد الرحمن فقال تري شاة تكفيه.قال نعم.فأمرني أن أذبح شاة،فلما قمنا من عنده قال صاحب لي:إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتي سأل الرجل،فسمع عمر بعض كلامه فعلاه عمر بالدرة ضربا ثم أقبل علي ليضربني فقلت:يا أمير المؤمنين إني لم أقل شيئا إنما هو قال.
قال:فتركني» (3).
*و من ذلك إنكار عبادة بن الصامت علي عامله معاوية و لم يعزله (4).
*و من ذلك ما أخرجه مسلم و غيره عن عبد الرحمن بن أبزي:إنّ رجلا أتي عمرا فقال:إني أجنبت فلم أجد ماء؟فقال عمر:لا تصلّ.فقال عمار:أما تذكر يا أمير المؤمنين إذا أنا و أنت فية.
ص: 23
سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصل و أما أنا فتمعكت في التراب و صليت.فقال النبي:إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك و كفيك؟فقال عمر:إتق اللّه يا عمار.قال:إن شئت لم أحدث به.
و في لفظ آخر:إن شئت لما جعل اللّه علي من حقك أن لا أحدث به أحدا و لم يذكر» (1).
و في ثالثة:إن شئت لم أذكره ما عشت أو ما حييت قال:كلا و الله و لكن نوليك من ذلك ما توليت» (2).
و ذكره البخاري و حذف-كعادته-ما يهين عمر في هذه الواقعة (3).
*و من ذلك أنّ عمر رد السبي الذي سباه خالد في أيام أبي بكر و الاموال و اطلق المحبوسين و أفرج عن الأسري (4).
و كتب إليه أبو المختار بن أبي الصعق:
ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمير اللّه في المال و الأمر
فلا تدعنّ أهل الرساتيق و القري يخونون مال اللّه في الأدم و الحمر
و أرسل إلي النعمان و ابن معقل و أرسل إلي حزم و أرسل إلي بشر
و أرسل إلي الحجاج و اعلم حسابه و ذاك الذي في السوق مولي بني بدر
الي آخر الأبيات.
و أغرم عمر بن الخطاب تلك السنة جميع عماله أنصاف أموالهم و لم يغرم قنفذ العدوي شيئا.
و سأل سليم أمير المؤمنين علي عليه السّلام عن ذلك فأجابه ما ملخّصه:
أما أنه لم يغرم قنفذا فلأنه ضرب فاطمة بالسوط-كما سيأتي في سيرة فاطمة عليها السّلام-.
و أما بقية العمال فإن كانوا خونة فيجب أخذ كل المال و عزلهم عن العمل و إن كانوا أمناء فلا يجوز أخذ شيء منه (5).
و كذلك الكلام في خالد.
*و من ذلك عدم مساواته في العطاء قال اليعقوبي و ابن أبي الحديد و غيرهم:و أما عمر فإنه4.
ص: 24
لمّا ولي الخلافة فضل بعض الناس علي بعض.و قد أشار علي أبي بكر أيام خلافته بذلك فلم يقبل، ثم عدل عن ذلك في آخر حياته (1).
*و من ذلك جهل عمر بشكوك الصلاة و اعترافه أنه لم يسمع شيئا حولها من الرسول و لم يسأل عنها حتي جاء عبد الرحمن بن عوف و علّمه (2).
*و من ذلك جهله في حكم المرأة التي ولدت لستة أشهر و كأنّه لا يعرف القرآن حتي همّ برجمها فعلّمه أمير المؤمنين عليه السّلام فرجع إلي قوله معترفا بجهله قائلا:اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب-لو لا علي لهلك عمر (3).
*و من ذلك قوله علي المنبر:من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب و من أراد أن يسأل عن الفقه[الحلال و الحرام]فليأت معاذ بن جبل و من أراد ان يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت و من أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإني له خازن» (4).
هذا هو عمر بن الخطاب؛الجاهل بأحكام القرآن؛و النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول قدّموا أقرأكم؟!
الجاهل بالفقه،و الرسول ينادي قدّموا أفقهكم؟!
الجاهل بالفرائض و رسول الله أوجب تقديم الأعلم؟!
نعم له علم بالمال،و لطالما عشق الناس ذلك وسعوا لتحقيق أغراضهم الدنيوية،فالمهم المال و الناس عبيد الأغنياء و من بيدهم الأموال.
أمّا الفقه و القرآن و الفرائض فهي عند طائفة من المسلمين شيء ثانوي فحتي لو كان الإنسان جاهلا بها يكفيه علمه بالأموال و توزيعها و عدّها و خزنها.
و ليس لأحد أن يناقش في هذا الخبر فهو متداول في كتب القوم و يفتخرون به لمعاذ و أبي و زيد بل لعمر في حكمة توزيع الأموال.
صححه الحاكم و لم يغمز به الذهبي.
علي أن له شواهد كثيرة:2.
ص: 25
-منها ما تقدم في رجوع عمر إلي أمير المؤمنين عليه السّلام في الفقه و الفرائض و أحكام القرآن كما تقدّم و هو ينبيء عن جهله بها (1).
-و منها رجوعه إلي عبد الرحمن بن عوف في مسألة شرعية (2).
-و منها رجوعه إلي ابن عباس و تعلمه منه (3).
-و منها ما تقدم من رجوعه إلي أبي بن كعب.
-و منها أمر معاذ باخذ العلم عن أربعة دون عمر (4).
و نكتفي بما ذكرنا من هذه الهفوات حيث أنّنا لسنا في صدد تعداد كل هفوات الرجل و إلاّ لاحتجنا إلي بعير محملة،إنما نحن في صدد ذكر أثر تقديم غير الأفضل.
و من أراد مزيد بيان فليرجع إلي ما ذكره الأميني في غديره حيث فصّل للرجل نحو مائة هفوة من هفواته (5).
هذا و في رواية مفصلة عن أمير المؤمنين ذكرها الصحابي سليم فيها معرفة حقيقة هذا الرجل و مدي علمه و احاطته بالأمور فلتراجع (6).
*فذلكة:أخي القاريء لا عجب مما ذكرناه فقد أوضح لنا بنفسه السبب في ذلك عند ما سئل عن إذن الدخول فلم يعرف قال:«ألهاني الصفق بالأسواق» (7).
أو الإعتراض علي رسول اللّه و أذيته كما تقدم أو رفعه صوته فوق صوت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حتي نزل قوله تعالي: لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» (8).
و أخبرنا الحفّاظ أنه كان سهل الحديث و متهاونا فيه (9).
و لذلك كان يمنع الحديث (10)،و يحرق الكتب (11)،و يحرف القرآن (12).2.
ص: 26
هذه نماذج من بعض هفوات الخليفة الثاني و ما أكثرها،و هناك فضيحة كبري له عند الموت من أراد الوقوف عليها فليرجع لما ذكره الديلمي (1).
بعد ما تقدم من نماذج تقديم المفضول و هفوات الخليفة الأول و الثاني و ما يأتي للثالث.
كيف يطمئن الإنسان بما يرويه العامة من أحاديث ترفع من شأنهم إلي ما فوق البشر نحو:
«لو كان نبي بعدي لكان عمر» (2).
«إنّ اللّه جعل الحق علي لسان عمر» (3).
«كنا نتحدث أنّ ملكا ينطق علي لسان عمر» (4).
«ما كنا نبعد أنّ السكينة تنطق علي لسان عمر» (5).
«لو وضع علم عمر في كفّة و علم أهل الأرض في كفّة لرجح علم عمر» (6).
«إنّ اللّه عند لسان عمر و يده» (7).
فأين كانت نبوّة عمر عند تركه للصلاة مدة و انهزامه يوم احد و تجسسه علي المسلمين؟!.
و أين كان الحق المجعول علي لسان عمر عند ما عيّن أحد امراء الشام لحسن كلامه فيه ثم عزله للمنام؟!.
و ما بال الملك لا ينطق علي لسانه عند تعطيل حد المغيرة بن شعبة؟!
و أين ذهبت السكينة عند إحراقه بيت الزهراء و الإغارة عليه و عند شربه الخمر دون المسلمين؟!.
و أين وضع علم عمر عند إرجاعه الناس إلي معاذ و زيد و أبيّ،و عند جهله بشكوك الصلاة و التيمم و عند إرجاع معاذ إلي غيره؟!.
و أين ذلك كله عند ما وصف الرسول الأعظم بالهجر؟!.
ص: 27
و لو صحت هذه الأحاديث،فإنها تثبت فضله علي أبي بكر فأين إجماعهم علي فضله عليه!؟
أم أنّ الخطابية علي صواب!؟ (1).
أم أنّ الراوندية أصوب؟! (2).
***
و لا عجب بعد ذلك أن يندم أبو بكر علي كشف بيت العصمة و الطهارة ندما عند بلوغ الروح الحلقوم و هم ينظرون!
قال الطبراني رواية عن عبد الرحمن بن عوف:قال أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه:«أمّا إني لا آسي علي شيء إلاّ علي ثلاث فعلتهن وددت إني لم افعلهن حتي قال:فوددت إني لم اكن كشفت بيت فاطمة و تركته و أن أغلق[أعلن]علي الحرب[و إن كانوا قد غلقوه علي الحرب]،و ودت إني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر».
رواه الطبراني و الطبري و ابن عبد ربه و الذهبي و المسعودي و الهيتمي و غيرهم (3).
و روي ابن سعد و ابن عبد ربه و المتقي الهندي و غيرهم ندم عمر عند وفاته و قوله:«ليتني كنت هذه التبنة،ليتني لم أخلق،ليت أمي لم تلدني،ليتني لم أك شيئا،ليتني كنت منسيا،يا ليتني كنت كبش أهلي فجعلوا بعضي شواء و بعضي قديدا ثم أكلوني فأخرجوني عذرة و لم أكن بشرا،ويل لعمر و لأم عمر إن لم يعف-يغفر-اللّه عنه» (4).
ص: 28
و عن الشعبي:قال عمر:«وددت أن أخرج منها كفافا كما دخلت لا علي و لا لي» (1).
و يكفي ندمهم عن صحيفة العار التي تعاقدوا عليها في حياة النبي (2).
و لا عجب عند اعتراف معاذ عند موته بما حصل بعد يوم الغدير و تآمره مع عمر و أبي بكر و أبو عبيدة.
و اعلم أن محمد بن أبي بكر نقل عن أبيه أنه قال نفس هذه المقولة عند وفاته.
و كذا عمر بن الخطاب فتكون قد صدرت في كل من تعاقد علي صحيفة العار.
و كلهم رددوا هذه المقولة.
قال معاذ عند موته:«ويل لي ويل لي من موالاتي عتيقا و عمر علي خليفة رسول اللّه و وصيه علي بن أبي طالب» (3).
و قال محمد بن أبي بكر عند ما سمع هذا الحديث أن أبي قال نفس هذه المقالة،فقالت عائشة:أنّه يهجر.
فلما سمع عبد اللّه بن عمر هذه المقالة قال:إن أبي قال مثلها ما زاد و لا نقص.
و من أراد تمام الحديث فيرجع لما كتبه الديلمي (4).
***
*قال الطبري:إنّ عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية و لا سيما الفساق منهم و أرباب السفه و قلة الدين (5).
*و ذكر المسعودي في معرض التحدث عن المنافق وليد اثناء توليته(من قبل عثمان إمرة الكوفة):
أن الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه و مغنّيه من أول الليل إلي الصباح،فلما آذنه المؤذنون
ص: 29
بالصلاة خرج منفصلا في غلائله،فتقدّم إلي المحراب في صلاة الصبح،فصلي بهم أربعا،و قال:
«أتريدون أن أزيدكم؟و قيل:أنّه قال في سجوده و قد أطال:إشرب و اسقني،فقال له بعض من كان خلفه في الصف الأول:ما تزيد لا زادك اللّه من الخير،و الله لا أعجب إلاّ ممن بعثك الينا واليا و علينا أميرا،و كان هذا القائل عتاب بن عيلان الثقفي» (1).
و عند ما رفع أمره إلي عثمان حضر الوليد و حضر الشهود فلم يقم عثمان الحدّ و زجرهم و دفع في صدورهم فذهبوا إلي أمير المؤمنين علي عليه السّلام فجاء و خاطبه:«دفعت الشهود و أبطلت الحدود؟
فوافق علي حدّه و لم يحدّه أحد توقيا من عثمان لقرابته فحدّه أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام و ضرب به الأرض فقال عثمان ليس لك أن تفعل هذا به،قال:بل و شرا من هذا إذا فسق و منع حق اللّه تعالي أن يؤخذ منه» (2).
*و ليس هذا أول حدّ يعطله عثمان فهناك الكثير من ذلك حتي روي البلاذري عن أبي إسحاق قول عائشة:«إنّ عثمان أبطل الحدود و توعّد الشهود» (3).
*و يذكر بعض الرواة أنّ سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة من قبل عثمان أنه لم يكن يجلس مع عثمان علي سريره إلاّ العباس بن عبد المطلب،و أبو سفيان بن حرب،و الحكم بن أبي العاص، و الوليد بن عقبة.
و لم يكن سريره يسع إلاّ عثمان و واحد منهم،فأقبل الوليد يوما فجلس فجاء الحكم بن أبي العاص،فأومأ عثمان إلي الوليد فرحل له عن مجلسه،فلما قدم الحكم قال الوليد:لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك علي ابن عمك،و كان الحكم عم عثمان،و الوليد أخاه لأمه.
فقال عثمان:إنّ الحكم شيخ قريش،فما البيتان؟قال الوليد:
رأيت لعم المرء زلفي قرابة دوين أخيه حادثا لم يكن قدما
فأملت عمرا أن يشب (4)و خالدا لكي يدعو اني يوم نائبة عما
فرق له عثمان،و قال:قد ولّيتك الكوفة (5).ة.
ص: 30
-من يؤمن بتقدم المفضول علي الفاضل لا بدّ أن يرضي بهذا الميزان للولاية و للتسلط علي رقاب الناس.
أصبح المهاجرون و الأنصار و الذين فيهم خيرة الصحابة يحكمهم الزناة و الفسقة و شاربي الخمور.
و لا تتعجب عزيزي القاريء عند ما تذهب أهل العامة إلي جواز كون الخليفة أو إمام الجماعة الذي هو حجّتهم في تقديم الخليفة فاجرا حتي اخترعوا:«صل وراء البرّ و الفاجر» (1).
و إلاّ كيف يبرروا عمل الخلفاء الراشدين؟!و الأئمة المضلّين و هم سكاري؟!
*و أخرج البخاري في صحيحه و غيره عن أنس قول رسول اللّه عند قبر أم كلثوم زوجة عثمان:
هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟
فقال أبو طلحة أنا،فقال:«فأنزل في قبرها» (2).
-قال ابن بطال:أراد النبي أن يحرم عثمان النزول في قبرها و قد كان أحق الناس بذلك لأنه كان بعلها و فقد منها علقا لا عوض منه لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه و لم يشغله الهم بالمصيبة و انقطاع صهره من النبي عن المقارفة (3).
و قال فليح:أراه يعني الذنب (4).
و قال الأصمعي:قرف عليه فهو يقرف قرفا إذا بغي عليه (5).
-و هذا يؤيد ما ورد عن الشيعة من بغي عثمان علي أم كلثوم قبل يوم الوفاة و وفاتها بسبب ضربها (6).
و هل يعقل أنّ الرسول بعدها زوجه ابنته الأخري؟
*و خطب عثمان عند ما افتضح أمره في جوهرة كانت في بيت المال فقال:«لنأخذ حاجتنا من هذا الفيء و إن رغمت أنوف أقوام؟!6)
ص: 31
فقال عمار:«أشهد اللّه أنّ أنفي أول راغم من ذلك».
فقال عثمان:«أ عليّ يا ابن المتكأ تجتري!خذوه؟!».
فاخذ.
و دخل عثمان فدعا به فضربه حتي غشي عليه و أدخل بيت أم سلمة...
فقالت:«هذا شعر النبي و ثوبه و نعله لم يبل و أنتم تعطّلون سنّته!!».
و ضج الناس و خرج عثمان عن طوره حتي لا يدري ما يقول (1).
فتأمل هنا في ثلاثة نقاط:
1-أخذ أموال المسلمين بغير حق و تبذيره:و هذا ليس بالمستهجن فهو الذي منح أبو سفيان- شيخ بني أمية-ألف درهم في اليوم الأول من خلافته (2).
-و هو الذي أعطي سعد بن العاص ألف درهم فكلّمه علي عليه السّلام و آخرون في ذلك فقال:إن له قرابة و رحما،قالوا:أ فما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذو رحم! (3).
-و هو الذي أعطي مروان خمس غنائم أفريقية سنة 27 و وهب لأخيه عبد الرحمن بن سعد بن أبي سرح خمس غنيمة المغرب فأنكر الناس ذلك.و نحو ذلك من العطايا كثير (4).
2-ضرب عمار:و هذا ليس بأول صحابي جليل يضربه فقد ضرب عبد اللّه بن مسعود و قال فيه:إنّه قدمت عليكم دويبة سوء» (5).
-و هو الذي نفي صادق اللهجة أبا ذر الغفاري (6)إلي الربذة بعد تعذيبه فمات فيها (7).ة.
ص: 32
-و لو استطاع أن ينفي أمير المؤمنين عليه السّلام لما قصّر (1).
-و هو الذي نفي كعب بن عبدة و ضربه عشرين سوطا (2).
-و ضرب ابن حنبل الجمحي و سيّره إلي خيبر و حبسه في جبل القموص (3).
-و ضرب ابن الحبكة ثم ندم (4).
-و هو الذي سيّر جملة من الصحابة من الكوفة و البصرة إلي الشام كما ذكر الطبري و ابن عبد ربه و غيرهما (5).
3-خروج عثمان عن طوره حتي لا يدري ما يقول:و ليس بالبعيد من رجل لا يدري كيف توزن الأعمال و تقام الخلافة و تحكم البلاد و توزّع الثروات و تقدم نماذج ذلك و يأتي.
-و كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام:«يا عثمان إن الحق ثقيل مريء و إن الباطل خفيف و بيء و إنك متي تصدّق تسخط و متي تكذب ترضي» (6).
*و هو الذي فرّ يوم أحد و حنين كما روي عن ابن عمر انه اذنب ذنبا عظيما فعفي اللّه عنه (7).
*و أخرج مسلم أنه يوم أحد ما بقي إلاّ طلحة و سعد (8).
بل هو اعترف به كما ذكره المتقي الهندي (9).
*و يكفي طعنا علي عثمان كتابه إلي عبد اللّه بن أبي سرح عامله علي مصر:
ذكره الواقدي و المدائني و ابن الكلبي و الطبري و غيرهم من المؤرخين و اللفظ للطبري:«أما بعد فانظر فلانا و فلانا و فلانا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عليك فانظر فلانا و فلانا فعاقبهم بكذا و كذا منهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و حمله عثمان علي جمله...فلما رأوه فتّشوه فوجدوا معه كتابا...
فلما رأوا ذلك رجعوا...».7.
ص: 33
و في رواية:«أن يقتل بعضم و يصلب بعضهم...».
ثم قالوا له عند ما أنكر الكتاب:«ما أنت إلاّ صادق أو كاذب فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حق،و إن كنت صادقا فقد استحققت ان تخلع لضعفك و غفلتك و خبث بطانتك...و إنك ضربت رجالا من أصحاب رسول اللّه و غيرهم حين يعظونك و يامرونك بمراجعة الحق...».
«و انك قد أحدثت أحداثا فاستحققت بها الخلع فإذا كلمت فيها أعطيت التوبة ثم عدت اليها و الي مثلها...».
«و كيف نقبل توبتك و قد بلونا منك إنك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلاّ عدت إليه فلسنا منصرفين حتي نعزلك...» (1).
و قال له أمير المؤمنين عليه السّلام:إني كنت قد كلمتك مرة بعد مرة فكل ذلك تخرج فتكلم و نقول و تقول ذلك كله فعل مروان و سعد و ابن عامر و معاوية،أطعتهم و عصيتني قال عثمان:«فإني أعصيهم و أطيعك» (2).
هذا و لا تنسي حرقه للمصاحف (3).
هذا نموذج من هفوات الخليفة الثالث و هو قليل من كثير مسطور في كتب التاريخ و السير.
و من أراد المزيد فعليه بمراجعة كتاب البحاثة المتتبع العلامة الأميني في كتابه الغدير،فقد ذكر قريب من أربعين موردا من هفوات عثمان في الفقه و غيره،جمعها-بعونه تعالي-من كتب العامة و أمهات مصادرهم؛حجّة عليهم لمن كان له قلب أو ألقي السمع و هو شهيد (4).
***
بعد أن بيّنت لك طرفا من تصرفات المفضول أعني الخلفاء الثلاثة و المحاذير التي نشبت من جراء توليهم الإمارة و الخلافة الجاهلين بأحكامها و إحكامها.
سوف نمر مرورا سريعا علي شخصية الفاضل علي بن أبي طالب عليه السّلام،الذي زان و زين الخلافة.
ص: 34
و ذلك بملاحظة أمور:
*الأمر الأول:رجوع الصحابة إلي أمير المؤمنين علي عليه السّلام.
من الملاحظ بل لا يشك فيه متتبع،رجوع جميع الصحابة خاصة الخلفاء إلي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛و عدم رجوعه إلي واحد منهم.
كما تقدم مفصلا.
*الأمر الثاني:ما جري بين الخريت بن راشد السامي و أمير المؤمنين عليه السّلام عند ما حكم الحكمان قال:«و الله لا أطعت أمرك و لا صلّيت خلفك.
فدعاه علي إلي ان يناظره و يفاتحه.
فقال:اعود اليك غدا» (1).
و في لفظ الطبري:فقال له علي:«هلم أدارسك الكتاب و أناظرك في السنن و أفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك» (2).
و كذلك محاورته الخوارج عموما حتي رجع أكثر من أربعين ألفا عن قتاله (3).
و قال لهم:«نوادعكم إلي مدة نتدارس فيها كتاب اللّه لعلنا نصطلح».
و قال:«أبرزوا منكم إثني عشر نقيبا و أبعث منا مثلكم نجتمع بمكان كذا فيقوم خطباؤنا بحججنا و خطباؤكم بحججكم.ففعلوا و رجعوا» (4).
تأمّل في تعامل و حلم الخليفة مع من خرج عليه.
أنظر إذا كان الحاكم عالما بامور الخلافة فإنه يكون علي بصيرة من أمره؛يدري ما يقول و يفعل.
و قارن ذلك مع ضرب الصحابة و إهانتهم من عمر و عثمان كما تقدم،و مع قتال أبي بكر لأهل الردة بدعواه أو غيرهم بلا إستفسار عن أحوالهم أو مناظراتهم،و بلا تفريق بين فئة و أخري حتي قتل المسلمون و سبيت نساؤهم بل و نكحت بلا عدة!
ثم أحكم علي من شابه رسول الرحمة صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في تصرفاته.
*الأمر الثالث:ما جري بين عقيل بن أبي طالب و أمير المؤمنين عليه السّلام في بيت المال،عند ماا.
ص: 35
طلب زيادة من العطاء قال عليه السّلام:«فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها،فقلت له:ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه و تجرّني إلي نار سجرها جبارها لغضبه!!» (1).
و نحو ذلك كثير مذكور في كتب التاريخ و كيفية حرصه عليه السّلام علي بيت المال و عدم إبقاء شيء فيه مع وجود الفقراء (2).
و قارن ذلك مع أفعال الخلفاء.
و تذكر فعل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ببيت المال.
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلاّ دينار أرصده لدين.و أتته دنانير مرة فقسمه و بقيت منها ستة فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نوم حتي قام و قسمها و قال:الآن استرحت» (3).
و قال أنس:«كان رسول اللّه لا يدّخر شيئا لغد» (4).
و معلوم و كما قال ابن رسول اللّه الحسن عليه السّلام:«إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم» (5).
و غير هذا لا يعتبر خليفة بل ما هو إلاّ الملك كما قال عليه السّلام (6).
هذا الخليفة المثالي الذي يكون أمينا علي الأمة و أموالها،أما ذاك الذي يعطي بني أمية عطاء بلا حدود فما هو إلاّ متلبس به من جراء ظروف باتت واضحة.
هذا هو الفرق بين الزاهد و المتواضع الأمين الفاضل و بين النهم المتكبر المترف المفضول.
*الأمر الرابع:عهده إلي مالك الأشتر حيث ذكر له فيه سيرة الولي في رعيته و انه كأحدهم و أمره بالتواضع و الزهد و الفطنة و نحو ذلك (7).ر.
ص: 36
و كذا كتابه إلي عثمان بن حنيف (1).
فقارن ذلك بعمل الخلفاء و رسائلهم لعمالهم و خاصة عثمان عند ما قال له الوليد بن عقبة:«إنّ عبد الرحمن بن مسعود يضيق علينا في بيت المال فعزله و ضربه» (2).
*الأمر الخامس:ما كتبه إلي عمر بن أبي سلمة حين عزله عن البحرين:
«إني قد وليت النعمان بن عجلان البحرين من غير ذم لك و لا تهمة فيما تحت يدك،و لعمري لقد أحسنت الولاية و أديت الأمانة فاقبل إلي غير ظنين و لا ملوم فاني أريد المسير الي ظلمة أهل الشام،و أحببت أن تشهد معي أمرهم فإنك ممن أستظهر به علي اقامة الدين و جهاد العدو و جعلنا اللّه و إياك من الذين يهدون بالحق و به يعدلون» (3).
و كتب إلي الأشعث بن قيس و هو بأذربيجان و كان عثمان ولاه إياها فأقره عليها يسيرا ثم عزله:
«إنما غرّك من نفسك إملاء اللّه لك فما زلت تأكل رزقه و تستمتع بنعمته و تذهب طيباتك في أيام حياتك فأقبل و أحمل ما قبلك من الفيء و لا تجعل علي نفسك سبيلا» (4).
و كتب إلي زياد مستفسرا:«...إنّ سعدا ذكر لي إنك شتمته ظالما و جبهته تجبرا و تكبرا و قد قال رسول اللّه الكبرياء و العظمة منه[الله]فمن تكبّر سخط اللّه عليه،و أخبرني إنك مستكثر من الألوان في الطعام و إنك تدهن كل يوم فماذا عليك لو صمت لله اياما،و تصدقت ببعض ما عندك محتسبا و أكلت طعامك في مرة مرارا أو أطعمته فقيرا» (5).
و نحو ذلك من الكتب إلي عماله التي تبين سهره علي الأمة و مصالحها و عزل من لا يهتم بامور المسلمين أو يسرق من أموالهم سواء كان من أقربائه أم لا و كلامه مع ابن عباس معروف (6).
بل كان يغرم من فعل كالمنذر بن الجارود (7).
تأمّل ذلك و قارنه مع ما تقدم من القوم.
*الأمر السادس:شجاعة أمير المؤمنين و ثباته في أشد المواطن مع رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هذا مما لا شك فيه عند كل المسلمين بل و المشركين.2.
ص: 37
و قارن ذلك مع انهزام أبي بكر و عمر و عثمان-و الذي كان أول من فرّ في يوم أحد و حنين- كما ذكر الفخر الرازي و غيره (1).
*الأمر السابع:قوله عليه السّلام علي المنبر:«سلوني قبل أن تفقدوني فإني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض»و نحو هذا من الألفاظ المتقدمة.
و كان لا يقول هذه المقولة غيره.
هكذا يجب أن يكون الخليفة.
و قارن ذلك بما تقدم عن عمر في خطبته المعروفة«بالجابية»من إرجاع الناس في القرآن لابي، و الفقه و السنة لمعاذ،و الفرائض لزيد،أما المال فإليه.
فما فضله علي هؤلاء حتي تقدم عليهم.
و معلوم أن عمر كان يرجع لكثير من الصحابة سواء كان عندهم علم أم لا.
و أنهاها الأميني إلي خمس و عشرين نفر أخذ عنهم (2).
*الأمر الثامن:و أكبر مقارنة نستطيع أن نقدمها لقرائنا الكرام تلك الإحتجاجات التي كان يحرج فيها الخلفاء و كان المنقذ لهم-أو للإسلام-الفاضل الهمام علي بن أبي طالب ليتبين عجزهم عن القيام بمهام القيادة و رعاية الأمة.
و الذين كانوا جميعا يصرّحون بذلك حتي قال عمر يوما:«لولاك لافتضحنا» (3).
و تقدما ما ينبيء عن ذلك.
هذا إضافة إلي أرائهم الشاذة و الجهل بكتاب اللّه و سنة نبيهم و حكمهم بغير ما أنزل اللّه سبحانه،عند ما تعرض عليهم هذه الأسئلة التي لا يستطيع الإجابة عليها إلاّ خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الحقيقي.
و تقدم أيضا نموذج من ذلك و لمن أراد المزيد فليراجع المصادر التالية (4).:-
ص: 38
و علي ضوء ذلك نستطيع أن نورد ما قاله الدكتور طه حسين:
لو احتج المسلمون أثناء السقيفة بعد وفاة النبي:أنّ عليا كان أقرب الناس إليه و كان ربيبه و كان خليفته علي ودائعه و كان أخاه بحكم تلك المؤاخاة.
و كان ختنه و اب عقبه و كان صاحب لوائه و كان خليفته في أهله و كانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسي بنص الحديث عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نفسه.
لو قال المسلمون هذا كله و اختاروا عليا بحكم هذا كله لما ابعدوا و لا انحرفوا.
و كل شيء يرشح عليا للخلافة..قرابته من النبي و سابقته في الإسلام و مكانته بين المسلمين و حسن بلائه في سبيل اللّه و سيرته التي لم تعرف العوج قط و شدته في الدين و فقهه بالكتاب و السنة و استقامة رأيه (1).
و تقدم منا مفصلا خصائص أمير المؤمنين و الصفات الحميدة التي امتاز بها علي جميع الصحابة من كونه:خير الصحابة و الأمة و أفضل الناس و أحب الخلق و أعلمهم و أشجعهم و أفقههم و أقضاهم و أشدهم إيمانا و بأسا و عبقريهم.
و أنه أول من صلي و عبد اللّه و صدق النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و كل ذلك رواية و من طرق متكثرة ليست ببعيدة.
و لا ننسي أن نشيد بما ذكره ابن حجر العسقلاني حيث أسهب في ذكر خصائص أمير المؤمنين عليه السّلام بما يفصل ما ذكره طه حسين،بل و يزيد عليه أحيانا فليراجع (2).
***
عزيزي القاريء بعد ذلك ما ذا نختار قدوة لنقدمه لعالمنا المعاصر،و أية موازين تناسب اتخاذها لاختيار الإمام و الخليفة؟
هل نتبني المفضول الذي لا علم و لا تقوي و لا ورع له يتناسب مع مكانته،أم الفاضل الذي بعلمه يهديك،و بعقله يرشدك إلي الصراط المستقيم؟!
ص: 39
و قبل أن تحكم تذكر قوله تعالي: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْديٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (1).
و عندها يحسن حكمك علي هذه القضية لتعلم أنّ عصمة الخليفة أمر ضروري للأمة و الذي تفرد بها علي بن أبي طالب عليه السّلام.
قال أبو محمد بن متّوية في كتاب الكفاية:إنّ أدلة النصوص قد دلّت علي عصمة علي بن أبي طالب و هو أمر اختص به دون غيره من الصحابة (2).
***
الإجماع علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ بعد كلام طويل تقدم:«و بقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-صلوات اللّه عليه-فيكون أحق بالإمامة لما أجمعت عليه الأمة و لدلالة الكتاب و السنة عليه» (3).
و قال الشيخ المفيد(قدس):فإن قال[قائل]:فخبّروني الآن من كان الإمام بعد الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و القائم في رئاسة الدين مقامه،لأعرفه فؤأءديّ بمعرفته ما افترض له علي من الولاء؟
قيل له:من أجمع المسلمون علي اختلافهم في الآراء و الاهواء علي إمامته بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له ذلك من اجتماع خصال الفضل له و الأقوال فيه و الأفعال:
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام.
فإن قال:أبينوا لي عن صحّة هذا المقال،فإني أراكم مدعين الإجماع فيما ظاهره الإختلاف، و لست أقنع منكم فيه إلاّ بالشرح لوجهه و البيان.
قيل له:ليس فيما حكيناه من الإجماع اختلاف ظاهر و لا باطن،فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب،أفلا تري أن الشيعة من فرق الأمة تقطع بإمامته عليه السّلام بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل،و تقضي له بذلك إلي وقت وفاته،و تخطّيء من شك في هذا المقال علي كل حال؟
ص: 40
و الحشوية (1)و المرجئة (2)و المعتزلة (3)متفقون علي إمامته عليه السّلام بعد عثمان و أنه لم يخرج عنها حتي توفاه اللّه تعالي راضيا عنه سليما من الضلال؟
و الخوارج-و هم أخبث أعدائه و أشدهم عنادا (4)-يعترفون له بالإمامة كاعتراف الفرق الثلاث و ان فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال؟
و لا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه.
فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الإجماع علي إمامته بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما وصفناه.انتهي كلامه رفع من مقامه (5).
***
عدم خلو الزمان من الحجة
دلالة العقل و النقل علي عدم خلو الأرض من الحجّة و وجوبها في كل زمان لا يشك فيه عاقل.
و سوف يأتي في القسم الثاني في أنواع النصوص الروايات المفصلة علي ذلك.
*قال الشيخ الطبرسي:قد ثبت بالدلالة القاطعة وجوب الإمامة في كل زمان لكونها لطفا في فعل الواجبات و الإمتناع من المقبحات،فإنا نعلم ضرورة عند وجود الرئيس المهيب يكثر الصلاح من الناس و يقل الفساد.. (6).
و إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام مقطوعة التحقق،لما نحن بصدد بيانه من أدلة،و دعوي إمامة غيره مقطوعة العدم،لعدم ثبوت العصمة بل عدم ادعائها لغيره (7).
ص: 41
آية التصدق
قوله تعالي: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ (1).
و قد أجمع (2)الفريقان علي أنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يصلي في المسجد.
فمن ذلك ما أخرجه الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عن عمار بن ياسر قال:
«وقف بعلي سائل و هو راكع في صلاة تطوّع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتي رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فأعلمه ذلك فنزلت علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية...» (3).
و أخرج ابن جرير عن مجاهد أيضا نزولها في حقه (4).
و روي في تفسير ابن كثير عن أبي سعيد الأشج عن سلمة بن كهيل (5).
و روي في تفسير الفخر الرازي عن عطاء عن ابن عباس و عبد اللّه بن سلام و أبي ذر (6).
و قال الثعالبي:و لكن اتفق مع ذلك أنّ علي بن أبي طالب أعطي خاتمه و هو راكع (7).
و رواه الخوارزمي في مناقبه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و فيه:و بصر[النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم]بسائل فقال له النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
«هل أعطاك أحد شيئا؟»
قال:نعم،خاتما من ذهب.
فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من أعطاك؟
قال:ذلك القائم،و أومي بيده إلي علي عليه السّلام.
فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«علي أي حال أعطاك هو؟».
قال:أعطاني و هو راكع،فكبّر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (8).
و في تفسير الثعلبي قال:قال السدي و عتبة بن أبي الحكم و غالب بن عبد الله:«إنما عني بهذه الآية علي بن أبي طالب عليه السّلام لأنه مر به سائل و هو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه» (9).
ص: 42
و روي نحوه الزمخشري في تفسير الآية (1).
و أخرجه القزويني بسنده إلي أنس بلفظ:«أنّ سائلا أتي المسجد و هو يقول:من يقرض الملي الوفي»،و علي رضي اللّه عنه راكع،يقول بيده خلفه للسائل-أي اخلع الخاتم من يدي.
قال:فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا عمر وجبت».
قال بأبي و أمي يا رسول اللّه ما وجبت قال:«وجبت له الجنة و الله ما خلعه من يده حتي خلعه من كل ذنب و من كل خطيئة» (2).
و في الاحتجاج عن الإمام الهادي عليه السّلام في معرض تأييد حديث الثقلين:«فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب اللّه مثل قوله: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ .
ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السّلام أنه تصدق بخاتمه و هو راكع فشكر اللّه ذلك له و أنزل الآية به» (3).
***
*أخرج الإمام الغزالي و الخصيبي أنّ الخاتم الذي تصدق به أمير المؤمنين عليه السّلام كان خاتم سليمان جاء به جبرائيل قال عليه السّلام:«..ثم أمرني فنزعت خاتم سليمان فجئتك به فأخذه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فأعطاه عليا فوضعه في إصبعه،...فلما كانوا في صلاة الظهر تصور جبرائيل عليه السّلام بصورة سائل طائف بين الصفوف فبينا هم في الركوع إذ وقف السائل من وراء علي طالبا،فأشار علي بيده فطار الخاتم إلي السائل فضجّت الملائكة تعجبا،فجاء جبرائيل مهنيا و هو يقول أنتم أهل بيت أنعم اللّه عليكم لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فأخبر النبي عليا،فقال علي عليه السّلام ما نصنع بنعيم زائل و ملك حائل و دنيا في حلالها حساب و في حرامها عقاب! (4).
و الروايات في ذلك من الفريقين كثيرة رواها كل من:علي عليه السّلام و ابن عباس و عمار و سلمة بن كهيل و مجاهد و السدي و أبي رافع و عتبة و غالب و محمد بن الحنفية و عبد الملك بن أبي جعفر و أنس
ص: 43
و عبد اللّه بن سلام و سعيد بن جبير و أبي جعفر الباقر و طاووس و عبد الرزاق و عطاء و ابن جريح و المقداد (1).
-و قد دوّن حسان بن ثابت هذه الواقعة بشعره فانشأ بحضره رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي و كل بطيء في الهدي و مسارع
أ يذهب مدحيك و المحبر ضائعا و ما المدح في حبّ الإله بضائع
فأنّت الذي أعطيت إذ كنت راكعا فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية فبينها في محكمات الشرائع (2)1.
ص: 44
*و بعد ذلك لا يصار إلي ما رواه عكرمة (1)من أنها نزلت في أبي بكر كما ذكر الرازي في تفسيره (2)ذلك أنه قول شاذ مخالف لإجماع الفريقين.
و لو صح لرأيت كتبهم مليئة به.
كيف؟و هم الذين يتمسكون بأوهن الاشياء لإثبات فضائل الأول و الثاني و الثالث.
علي أن عكرمة من الخوارج متّهم بالكذب و الوضع (3).
قال في الطبقات:كان عكرمة يري رأي الخوارج...و ليس يحتج بحديثه (4).
و في جلاء الافهام:عكرمة قد ضعفه كثير من الأئمة منهم يحيي بن سعيد الأنصاري قال:
ليست أحاديثه بصحاح.
و قال الإمام أحمد:أحاديثه ضعاف،و قال أبو حاتم:عكرمة هذا صدوق و ربما و هم و ربما دلس (5).
و قد تقدم تضعيفه.
***
ذكر علماء اللغة و التفسير أنّ الولي هو الأولي بلا خلاف (6).
*قال السيد المرتضي:قد ثبت أنّ لفظة وليكم في الآية تفيد من كان أولي بتدبير أموركم و يجب طاعته عليكم.
ثم استدل-قده-بقول أهل اللغة:لأنهم يقولون:هذا ولي المرأة-إذا كان يملك تدبير إنكاحها و العقد عليها...و يصفون السلطان بأنه:(ولي أمر الرعية)و من يرشح الخلافة:(ولي عهد المسلمين).
و قال المبرد:أصل تأويل(الولي)الذي هو أولي أي أحق،و مثله المولي.
ثم استدل بكلمة:وليكم-علي انحصارها بفرد أمير المؤمنين عليه السّلام ملخصه:
ص: 45
أنّ الكاف و الميم يراد بها أربعة وجوه:
1-جميع المكلفين من مؤمن و كافر.
2-الكفار دون المؤمنين.
3-المؤمنون دون الكفار.
4-بعض المؤمنين.
و الوجه الأول و الثاني باطلان لعدم جواز تولّي الكفار علي المؤمنين خاصة في تدبير الأمور و التملك.
و الوجه الثالث لا يصح مع فرض الولي لأن المراد بالتولية أنّ بعض المؤمنين أو أحدهم يولّي علي البقية فيكون ولي و مولي.
فيتعين النحو الرابع.
و مع وجود أداة الحصر-إنما-يتعين كون الولي شخص واحد لأنها تنفي الحكم عمن عدا المذكور،نحو:إنما لك عندي درهم.
و بذلك تنتفي الموالاة في الدين و المحبة لعدم صحة التخصيص فيهما فالمؤمنون كلهم مشتركون في هذا المعني.
قال تعالي: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ (1).
و بذلك ثبت انحصار الولي في شخص واحد،و الموالاة في أمر التدبير و فرض الطاعة (2).
*و قال العلامة الطباطبائي:فالمحصل في معني الآية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعا من حق التصرف و مالكية التدبير.
ثم نقل كلام الراغب في المفردات:الولاء و التوالي أن يحصل شيئان فصاعدا وصولا ليس بينهما ما ليس منهما و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الصداقة و النصرة و الإعتقاد،و الولاية و النصرة و الولاية تولي الأمر،و قيل:الولاية و الولاية واحدة نحو الدلالة و الدلالة و حقيقته تولي الأمر (3).
*و قال نحو هذه المقولة السيد المرتضي و الشيخ المفيد و الكراجكي تلميذه و ابن البطريق (مفصلا) (4).1.
ص: 46
*و قال في معجم المقاييس:ولي الواو و اللام و الياء:أصل صحيح يدل علي القرب.
و من الباب:المعتق و المعتق و الصاحب و الحليف و ابن العم و الناصر و الجار كل هؤلاء من الولي و هو القرب (1).
*و قال ابن منظور:قال ابن الأثير:و كأنّ الولاية تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل.
*و قال ابن سيده:ولي الشيء و ولي عليه ولاية و ولاية،و قيل:الولاية الخطة كالإمارة، و الولاية المصدر.
*و قال ابن السكيت:الولاية بالكسر السلطان و الولاية و الولاية النصر و قال سيبويه:الولاية بالفتح المصدر و الولاية بالكسر الإسم مثل الإمارة...فإذا أرادوا المصدر فتحوا.
ثم قال:الوليّ:ولي اليتيم الذي يلي أمره و يقوم بكفايته،و ولي المرأة الذي عقد النكاح عليها لا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه (2).
*و قال في مجمع البحرين:الولي هذا الذي له النصرة و المعونة.
و الولي الذي يدير الأمر.
و السلطان ولي أمر الرعية و منه قول الكميت في حق علي بن أبي طالب عليه السّلام:
و نعم ولي الأمر بعد وليّه و منتجع التّقوي و نعم المقرّب (3)
و المتحصل من ذلك كله أنّ الولاية بالكسر-و هي الإسم-و بالفتح-و هي المصدر-لها عدة استعمالات و هي:
الأولي بالشيء،الرب،المالك،السيد،المنعم،المعتق،الناصر،المحب،التابع،الجار، ابن العم،الحليف،العقيد،الصهر،العبد،المعتق،المنعم عليه،العم،الابن،ابن الاخت، الشريك،الصاحب،النزيل،القريب،الفقيد،الولي،المتصرف في الأمر،المتولي في الأمر و شواهد ذلك مدونة في كتب اللغة و التاريخ (4).
و الذي يعين كل معني منها هي القرينة الصارفة للمعاني الأخري عن اللفظ.
الأول:قوله تعالي: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا (5).
ص: 47
الدال علي وحدة الولاية التي أسندت إلي اللّه و الرسول و الذين آمنوا،بدليل عدم تكرار الولاية لكل الأفراد و وجود أداة الحصر في الجملة.
فحصر الولاية سبحانه و تعالي به و برسوله من بعده ثم بالذين آمنوا،علي العكس في قوله تعالي: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (1).
حيث أفرد الطاعة له لاختصاصها به و التي هي بمعني العبادة،و أفرد الطاعة للرسول و التي هي بمعني تنفيذ الأوامر.
و يؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس قال:لما مرّ به السائل و في يده خاتم قال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«من أعطاك هذا الخاتم؟».
قال:ذاك الراكع و كان علي يصلي.
فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«الحمد لله الذي جعلها فيّ و في أهل بيتي» (2).
و عن الامامين محمد الباقر و جعفر الصادق عليهما السّلام،و أبي رافع و عمار بن ياسر جميعا عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أوصي من آمن بي و صدّقني بولاية علي بن أبي طالب فمن تولاه فقد تولاني و من تولاني فقد تولي اللّه عز و جل».حديث حسن عال مشهور اسند عند أهل النقل (3).
و في لفظ آخر:«فإنّ ولاءه ولائي و ولائي ولاء اللّه» (4).
و في ثالث:«اللهم من آمن بي و صدّقني فليتول علي بن أبي طالب فإن ولايته ولايتي و ولايتي ولاية الله» (5).
و أخرجه الطبراني بلفظ:«من أحب أن يحيا حياتي و يموت موتي...فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدي و لن يدخلكم في ضلالة» (6).9-
ص: 48
و عن علي بن موسي الرضا و ابن عباس عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:«معاشر الناس من أحب أن يتمسك بالعروة الوثقي التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية علي بن أبي طالب،فإن ولايته ولايتي و طاعته طاعتي» (1).
الثاني:قد يدّعي أنّ الأصل في المولي:الأولي.و ما تبقّي من ألفاظ تحتاج إلي قرينة تدل عليها و ذلك بملاحظة ما يلي:
*قال أبو عبيدة معمر بن المثني في كتاب تفسير غريب القرآن عند تفسير قوله تعالي: فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاٰ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوٰاكُمُ النّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (2).
يريد جل اسمه:هي أولي بكم،و استشهد بقول اللبيد:
فغدت كلا الفرخين تحسب أنه مولي المخافة و خلفها و إمامها
و معناه أولي بالمخافة (3).
*و قال الفراء في كتاب معاني القرآن في تفسير الآية:الولي و المولي في لغة العرب واحد (4).
*و هو قول الزجاج و الكلبي (5).
*و في تفسير ابن كثير و البيضاوي:هي مولاكم،أي هي أولي بكم و استشهدا ببيت لبيد أيضا (6).
*و قال ابن الأنباري في تفسير المشكل في القرآن:أنّ المولي:الولي،و المولي:الأولي بالشيء،و استشهد بالآية المتقدمة و بيت لبيد و بقوله:
كانوا موالي حق يطلبون به فأدركوه و ما ملّوا و لا لغبوا (7)
*و قال الاخطل بن أبي العباس المبرد:الولي:هو الأحق و الأولي و مثله المولي (8).
*و قال المبرد في كتاب الصلاة:أصل الولي الذي هو أولي اي أحق (9).5.
ص: 49
*و قال الشرقاوي:علي مولي من كنت مولاه معناه من كان لي عليه سيادة فعلي له عليه السيادة (1).
*و قال العلامة العزيزي:أي من كنت أتولاه فعلي يتولاه (2).
-فتبين من ذلك أن المتبادر من هذه اللفظة هو الأولي و الأحق بالتصرف،و كل المعاني الأخري تحتاج إلي قرينة لدلالة لفظة الولي أو المولي عليه.
و في الآية،و كذا في حديث الغدير الآتي لا قرينة في البين علي المعاني الأخري،بل كل القرائن علي معني الأولي و الأحق.
و بعبارة أخري:المعاني الأخري إما واضحة الثبوت لأمير المؤمنين كابن العم و الصهر...
و إما واضحة الإنتفاء كالعبد و المعتق.
و علي الأول يكون عبثا سواء في الآية أم حديث الغدير.
و علي الثاني يكون خطأ؛فيتعين ما هو المتبادر منها و ما فهمه أهل اللغة و العلماء،بل و الشعراء.
و قد ذكر العلاّمة الأميني الصحابة و الحفاظ الذين حصروا لفظ المولي بالأولي:
منهم ابن عباس و الكلبي و الفراء و أبو عبيدة و الاخفش و أبو زيد و البخاري و ابن قتيبة و الشيباني و الطبري و الأنباري و الوراق و غيرهم (3).
الأمر الثالث:رجوع كل المعاني للأولي:
ثم إنّ المتأمل يدرك أنّ المعاني كلها ترجع إلي ما هو المتبادر من هذه اللفظة:
*قال الكراجكي:فمالك الرق لما كان أولي بتدبير عبده من غيره كان لذلك مولاه.
و المعتق لما كان أولي بمعتقه في تحمله لجريرته و ألصق به من غيره كان مولاه.
و ابن العم لما كان أولي بالميراث ممن هو ابعد منه في نسبه و أولي أيضا من الأجنبي بنصرة ابن عمه كان مولي.
و الناصر لما اختص بالنصرة و صار بها أولي كان لذلك مولي.
و اذا تأملت بقية الاقسام وجدتها جارية هذا المجري (4).
*و ذكر الأميني في غديره رجوع المعاني كلها(26)إلي الأولي مفصلا و قال:إذن فليس9.
ص: 50
المولي إلاّ معني واحد و هو الأولي بالشيء،و تختلف هذه الأولوية بحسب الإستعمال في كل مورده،فالاشتراك معنوي و هو أولي من الإشتراك اللفظي (1).
*و قال السبط ابن الجوزي بعد ذكر المعاني العشرة للمولي:
و إذا ثبت هذا لم يجز حمل لفظة المولي في هذا الحديث علي مالك الرق لأن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن مالكا لرق علي عليه السّلام حقيقة.
و لا علي المولي المعتق لأنه لم يكن معتقا لعلي،و لا علي المعتق لأن عليا كان حرا،و لا علي الناصر لأنه عليه السّلام كان ينصر من ينصر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يخذل من يخذله.
و لا علي ابن العم لأنه كان ابن عمه،و لا علي الحليف لأن الحليف يكون بين الغرماء للتعاضد و التناصر و هذا المعني موجود فيه،و لا علي المتولي لضمان الجريرة لما قلنا انه انتسخ ذلك،و لا علي الجار لأنه يكون لغوا من الكلام و حوشي منصبه الكريم من ذلك.
و لا علي السيد المطاع لأنه كان مطيعا له يقيه بنفسه و يجاهد بين يديه،و المراد من الحديث الطاعة المحضة المخصوصة؛فتعين الوجه العاشر و هو الأولي و معناه من كنت أولي به من نفسه فعلي أولي به.
قال:و قد صرّح بهذا المعني الحافظ أبو الفرج يحيي بن السعيد الثقفي الأصبهاني في كتابه المسمي بمرج البحرين،فإنه روي هذا باسناده إلي مشايخه و قال فيه:«فأخذ رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بيد علي عليه السّلام فقال:من كنت وليه و أولي به من نفسه فعلي وليه.
فعلم أن جميع المعاني راجعة إلي الوجه العاشر و دل عليه أيضا قوله عليه السّلام أ لست أولي بالمؤمنين من أنفسهم و هذا نص صريح في إثبات إمامته و قبول طاعته.
و كذا قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«و أدر الحق معه حيث دار و كيف ما دار»؛فيه دليل علي أنه ما جري خلاف بين علي و بين أحد من الصحابة إلاّ و الحق مع علي عليه السّلام،و هذا باجماع الأمة.
ألا تري أن العلماء إنما استنبطوا احكام البغاة من وقعة الجمل و صفين.انتهي كلام ابن الجوزي (2).
الأمر الرابع:من الملاحظ أنّ إجماع الرواة علي نزول الآية في أمير المؤمنين يعطي قرينة علي إرادة الحكم و الأمرة و ذلك بملاحظة ما يلي:
1-إحتجاج الحسن عليه السّلام في خطبته بعد وفاة أبيه بهذه الآية فقال:«نحن ثاني كتاب اللّه فيهر.
ص: 51
تفصيل كل شيء،لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد،فالمعول علينا في تفسيره،فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة إذا كانت بطاعة اللّه عز و جل و طاعة رسوله مقرونه قال جل شأنه: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (1).
2-أن في بعضها تعقيب للرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بذكر نص الغدير«...من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه».رواه الطبراني في الاوسط (2).
3-ما ورد أن سبب نزول آية التبليغ إنكار البعض لولاية و خلافة الأمير الثابتة بآية التصدق، كما روي عن زرارة و الفضيل و بكير و ابن مسلم و بريد و أبي الجارود جميعا عن أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام و عن ابن عباس و عن أبي ذر أيضا قال:«أمر اللّه عز و جل رسوله بولاية علي عليه السّلام و أنزل عليه: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ .
قال:فرض اللّه ولاية أوليّ الأمر فلم يدروا ما هي؛فأمر اللّه محمدا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلوة و الزكوة و الصوم و الحج،فلما أتاه ذلك من اللّه ضاق بذلك صدر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تخوف عن أن يرتدوا عن دينهم و أن يكذبوه،فضاق صدره و راجع ربه عز و جل فأوحي اللّه إليه:
يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ فصدع بأمر اللّه تعالي ذكره،فقام بولاية علي يوم غدير خم فنادي الصلوة جامعة و أمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب» (3).
4-إن بعض الروايات عند ذكر التصدق بالخاتم صرح الرسول بمعني الولاية بها و شبّهها بطلب موسي هارون وزيرا له قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«اللهم إن موسي سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هٰارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي .
فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمٰا سُلْطٰاناً فَلاٰ يَصِلُونَ إِلَيْكُمٰا بِآيٰاتِنٰا أَنْتُمٰا وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغٰالِبُونَ (4).
«اللهم و أنا محمد نبيك و صفيك اللهم،فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري».5.
ص: 52
قال أبو ذر:فما استتم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الكلمة حتي نزل جبرائيل من عند اللّه تعالي فقال:«يا محمد إقرأ.
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«ما أقرأ؟»
قال:إقرأ: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ (1).
5-إنّ بعض الروايات جعلت الآية مؤيدا لحديث الثقلين كما روي عن الإمام الهادي قال:
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إني مستخلف فيكم خليفتين كتاب اللّه و عترتي».
قال عليه السّلام:فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب اللّه مثل قوله[تعالي]: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ.. (2).
و سوف يأتي أيضا تضمن حديث الغدير لحديث الثقلين و دلالته علي الإمامة.
6-أخرج الطبراني و أبو نعيم و ابن عساكر و روي الحاكم و صححه عن زيد قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«من أحب أن يحيي حياتي و يموت موتتي و يسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فإنّ ربي عز و جل غرس قصباتها بيده،فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدي و لن يدخلكم في ضلالة» (3).
و أخرجه في الحلية باسناد صحيح عن حذيفة و زيد و ابن عباس (4).
و بلفظ ابن عباس:«...فليوال عليا من بعدي و ليتقد باهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي رزقوا فهمي و علمي» (5).ي.
ص: 53
و عن زياد بن مطرف و الحسين بن علي عليه السّلام عن رسول اللّه قال:«من أحب أن يحيي حياتي...و يدخل الجنة التي و عدني ربي فليتول علي بن أبي طالب و ذريته أئمة الهدي و مصابيح الدجي من بعده فإنهم لن يخرجوكم من باب هدي إلي باب ضلالة» (1).
فبقرينة الإقتداء و إخراج الناس من الضلالة يتبين أن الكلام عن أمر الخلافة.
لذا عند ما يصف اللّه سبحانه و تعالي الأنبياء عليهم السّلام يصفهم كهداة للبشرية،لاحظ قوله تعالي:
وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا و قوله:
وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا (2) .
7-أنه ورد أن المراد من الآية ما اريد في قوله تعالي: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (3).
فعن الحسين بن أبي العلا:قال:ذكرت لأبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قولنا في الأوصياء إنّ طاعتهم مفترضة؟
فقال عليه السّلام:«نعم هم الذين قال اللّه عز و جل: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و هم الذين قال اللّه عز و جل: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ (4).
و من ذلك ما روي عن سليم بن قيس قال:قال أمير المؤمنين في أيام خلافة عثمان في مسجد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«..فأنشدكم اللّه عز و جل أتعلمون حيث نزلت: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .
و حيث نزلت: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ و حيث نزلت: وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ لاٰ رَسُولِهِ وَ لاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً قال الناس:يا رسول اللّه هذه خاصة في بعض المؤمنين أم عامة لجميعهم؟
فأمر اللّه عز و جل نبيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يعلمهم ولاة أمرهم و أن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلوتهم و زكوتهم و صومهم و حجهم:فنصبني بغدير خم....
قالوا:اللهم نعم قد سمعنا ذلك كله و شهدنا كما قلت سواء (5).ن.
ص: 54
8-أنه ورد عن ابن عباس قول النبي بعد قصة التصدق: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْغٰالِبُونَ (1).
***
بعد هذه الأدلة و البراهين لا يصار إلي ما يذكر هنا و هناك لصرف الآية عن إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.
و من ذلك ما ذكره المتعصب الفخر الرازي في تفسيره،حيث عند تعرضه للآية أخذته العصبية بالإثم و العدوان و صار يهذو بكلامه يمينا و شمالا:
فمرة قال:لو صح ذلك لاستدل بها الأمير علي خلافته ثم قطع بعدم استدلاله بها.
و الحال أن أمير المؤمنين استدل بهذه الآية،و احتج بها علي أبو بكر كما روي عنه قال عليه السّلام:
«فأنشدك بالله إلي الولاية من اللّه مع ولاية رسوله في أنه زكاة الخاتم لي أم لك؟».
قال:بل لك (2).
و أخري قال:إنّ أمير المؤمنين لم يكن لديه مال حتي يخرج زكاته (3)،و غفل عن عدم انحصار دفع الزكاة بالواجبة،أو حمل الزكاة علي الصدقة المستحبة،و التي جل الروايات تعبر عن فعل أمير المؤمنين:بتصدق..أو من تصدق علي الفقير (4)و نحو ذلك.
بل استدل الزمخشري و البيضاوي علي أن صدقة التطوع تسمي الزكاة (5).
أم تراه لم يفهم معني الخاتم!.
و ثالثة استدل بالسياق بآية: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰاريٰ أَوْلِيٰاءَ .
و قال المراد هنا من الولاية النصرة و المحبة فلا بد أن يراد بآية التصدق كذلك (6).
و قد غفل علي ما أسسه هو،فإن السياق قد يختلف فقد ذكر هو و اجمع عليه الفريقان تخلّف
ص: 55
سياق آية التطهير الوارد في نساء النبي إلي إرادة خصوص علي و أهل بيته،أو هم مع نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما تقدم مفصلا.
علي أنّ المراد من الآية عدم إتباع و الإقتداء باليهود و النصاري،و الإقتداء و الاتباع إذا لم يدع انحصاره بالخلافة و اتخاذهم خلفاء،فهو لا أقل محتمل للوجهين،فلا معني لما ذكره.
و رابعة و خامسة..لا داعي لذكرهما فإنّ كلامه علي ما عرفت..بل في تفسيره ردّ لفضائل أمير المؤمنين عليه السّلام و انكار نزول الآيات به.
و نقول كما قال المولي أحمد الهروي حفيد التفتازاني في كتاب الفوائد في العلوم المختلفة:
إن في تفسير فخر الرازي كل شيء إلاّ التفسير (1).
***
نصّ الغدير
قوله تعالي: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاٰمَ دِيناً (2).
و قد أجمع المفسرون و الرواة علي نزولها في يوم غدير خم (3)عند ما قضي رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مناسكه و انصرف راجعا إلي المدينة،حتي وصل إلي غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق
ص: 56
المدنيين و المصريين و العراقيين،في الثامن عشر من ذي الحجة،نزل عليه جبرائيل الأمين مبلغا عن اللّه تعالي قوله: يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ (1)(2).
و أمره أن يقيم عليا علما للناس و يبلّغهم ما نزل فيه من الولاية و الطاعة علي كل أحد،و كان أوائل القوم قريبا من الجحفة فأمر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يردّ من تقدم منهم و يحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان،و كان يوما هاجرا يضع الرجل بعض ردائه علي رأسه و بعضه تحت قدميه من شدة الحر.
فقام خطيبا وسط القوم علي أقتاب الأبل و أسمع الجميع،فذكّرهم بجميع تعاليم الإسلام الأصول منه و الفروع.
*بعض نصوص الغدير (3):روي الوليد بن صالح عن امرأة زيد بن أرقم قالت:أقبل نبي اللّهة-
ص: 57
من مكة في حجة الوداع حتي نزل صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بغدير الجحفة بين مكة و المدينة فأمر بالدوحات فقمّ ما تحتهن من شوك ثم نادي:«الصلاة جامعة!».ا-
ص: 58
فخرجنا إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في يوم شديد الحر،و إن منا لمن يضع رداءه علي رأسه و بعضه1-
ص: 59
علي قدميه من شدة الرمضاء حتي انتهينا إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،فصلي بنا الظهر ثم انصرف إلينا فقال:
«الحمد لله نحمده و نستعينه و نؤمن به و نتوكل عليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن أضل و لا مضل لمن هدي و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أن محمدا عبده و رسوله.
أما بعد:أيها الناس فإنه لم يكن لنبي من العمر إلاّ نصف من عمّر من قبله و إنّ عيسي ابن مريم لبث في قومه أربعين سنة و إني قد اسرعت في العشرين،ألا و إني يوشك أن أفارقكم إلاّ و إني مسؤول و أنتم مسؤولون،فهل بلّغتكم؟فماذا أنتم قائلون؟!.ر.
ص: 60
فقام من كل ناحية من القوم مجيب يقولون:نشهد إنك عبد اللّه و رسوله و قد بلّغت رسالته و جاهدت في سبيله و صدعت بأمره و عبدته حتي أتاك اليقين جزاك اللّه عنا خير ما جزي نبيا عن أمّته.
فقال:«أ لستم تشهدون أنّ لا إله إلاّ اللّه لا شريك له؟و أنّ محمدا عبده و رسوله،و أنّ الجنة حق و أن النار حق و تؤمنون بالكتاب كله؟».
قالوا:بلي.
قال:«فإني أشهد أن قد صدقتكم و صدقتموني ألا و إني فرطكم و إنكم تبعي توشكون أن تردوا علي الحوض فأسألكم حين تلقونني عن ثقلي كيف خلفتموني فيهما».
قال:فأعيل علينا ما ندري ما الثقلان حتي قام رجل من المهاجرين و قال:بأبي أنت و أمي أنت يا نبي اللّه ما الثقلان؟
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«الأكبر منهما كتاب اللّه تعالي سبب طرف بيد اللّه و طرف بأيديكم فتمسّكوا به و لا تضلوا،و الأصغر منهما عترتي من استقبل قبلتي و أجاب دعوتي فلا تقتلوهم و لا تقهروهم و لا تقصروا عنهم فإني قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني،ناصرهما لي ناصر و خاذلهما لي خاذل و وليهما لي ولي و عدوهما لي عدو.
ألا و إنها لم تهلك أمة قبلكم حتي تدين بأهوائها و تظاهر علي نبوتها و تقتل من قام بالقسط،ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السّلام فرفعها ثم قال:
«من كنت مولاه فهذا مولاه و من كنت وليه فهذا وليه الّلهم وال من والاه و عاد من عاداه»، قالها ثلاثا.هذا آخر الخطبة (1).
و في رواية أبي هريرة:«أ لست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟».
قالوا:بلي يا رسول الله.
قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه».
فقال عمر بن الخطاب:بخ بخ[هنيئا]لك يا علي بن أبي طالب أصبحت مولاي و مولي كل مؤمن،فانزل اللّه تعالي: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2).ت.
ص: 61
و في نص آخر عن جرير أخرجه الطبراني قال:شهدنا الموسم في حجة الوداع مع رسول اللّه و هي حجة الوداع فبلغنا مكانا يقال له غدير خم فنادي الصلاة جامعة فاجتمعنا المهاجرون و الأنصار فقام رسول اللّه وسطنا فقال:«أيها الناس بم تشهدون».
قالوا:نشهد أن لا إله إلاّ الله.
قال:«ثم مه؟».
قالوا:و أنّ محمدا عبده و رسوله.
قال:«فمن وليكم؟».
قالوا:اللّه و رسوله مولانا.
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«من وليكم؟ثم ضرب بيده علي عضد علي رضي اللّه عنه فأقامه فنزع عضده فأخذ بذراعه فقال:من يكن اللّه و رسوله مولياه فإنّ هذا مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه،اللهم من أحبه من الناس فكن له حبيبا و من أبغضه فكن له مبغضا،اللهم إني لا أجد أحدا أستودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين غيرك فاقض فيه بالحسني».
قال بشر:قلت:من هذين العبدين الصالحين؟
قال الراوي:لا أدري (1).
*أقول:هما الحسن و الحسين عليهما السّلام.
لما روي عن زيد أنه قال ليزيد أو عبيد اللّه عند ما نكث الحسين بالقضيب:«اللهم إني أستودعكهما و صالح المؤمنين» (2)!!.
و يؤيده قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«صالح المؤمنين علي» (3).
***3.
ص: 62
*قال جمال الدين النيسابوري في الأربعين:حديث الغدير تواتر عن أمير المؤمنين عليه السّلام و هو متواتر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (1).
*و قال في الأزهار في مناقب إمام الأبرار:و قد تواتر هذا الخبر حد التواتر (2).
*و قال الحافظ الجزري بعد ذكر نص الغدير:هذا حديث حسن من هذا الوجه صحيح من وجوه كثيرة،تواتر عن أمير المؤمنين علي و هو متواتر أيضا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رواه الجم الغفير عن الجم الغفير،و لا عبرة بمن حاول تضعيفه (3)ممن لا اطلاع له في هذا العلم (4).
*و قال محمد بن اسماعيل الأمير في كتابه الروضة الندية:حديث الغدير عند أكثر ائمة الحديث (5).
*و قال شمس الدين الذهبي:هذا الحديث متواتر (6).
*و قال السيوطي:إنه حديث متواتر (7).
*و ممن صرح بتواتره:المناوي في التيسير نقلا عن السيوطي،و شارح المواهب اللدنية، و المناوي في الصفوة (8).
*و قال ابن المغازلي:هذا الحديث صحيح عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد روي حديث غدير خم عن رسول اللّه نحو من مائة نفس منهم العشرة،و هو حديث ثابت لا أعرف له علة،تفرد علي عليه السّلام بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد (9).
*و قال علاء الدين السمناني المكي المتوفي 736 في العروة الوثقي:هذا حديث متفق علي صحته (10).
ص: 63
و قد أفرد الطبري له كتابا سماه(حديث الولاية)و ذكر له نحو خمس و سبعين طريقا،و رواه ابن عقدة من مائة و خمس طريقا (1).
و قال أبو المعالي إمام الحرمين أستاذ أبي حامد:رأيت مجلدا في بغداد في يد صحافي فيه روايات خبر غدير خم مكتوبا عليه:المجلدة الثامنة و العشرون من طرق قوله:«من كنت مولاه فعلي مولاه»،و يتلوه المجلدة التاسعة و العشرون (2).
و قال الكنجي:جمع الدارقطني طرقه في جزء،و جمع الحافظ ابن عقدة كتابا مفردا فيه (3).
و قال العلوي الهدار الحداد:كان الحافظ أبو العلاء العطار الهمداني المتوفي 569 يقول:
أروي هذا الحديث بمائتي و خمسين طريقا (4).
و قال الحسكاني:و طرق هذا الحديث متستقصاة في كتاب:(دعاة الهداة إلي اداء حق الموالاة)من تصنيفي في عشرة اجزاء (5).
-هذا إضافة إلي الشعراء الذين دوّنوا هذا الحديث بكل تفاصيله كما يأتي (6).
و بالجملة صحة الغدير لا يشك بها مسلم بقي علي إسلامه و بمراجعة طرقه و مصادره المتقدمة يتضح ذلك جليا.
***
بعد التسليم بصدور حديث الغدير بكل تفصيلاته التي ذكرها البعض و اختصرها البعض الآخر اعتمادا علي ما في الكتب المطوّلة.
كان لا بدّ من النظر في دلالة حديث الغدير لإنكار البعض ما يتبادر من هذا الحديث و هو دلالته علي الخلافة.
ص: 64
قال الحافظ الكنجي:حديث الغدير دليل علي التولية و هي الإستخلاف (1).
و لعل فقرات حديث الغدير من أوضح الفقرات في الدلالة علي هذا المعني،و لكن عند الإنكار لا بدّ من الإثبات،و بالخصوص لفظة:الولي-إضافة إلي ظروف الواقعة و مكانها و زمانها، و قد تقدم في الآية السابقة معني الولي و الأقوال فيه.
و أثيتنا انحصار المعني بالتولي و الأمرة،و أن المعاني الأخري تحتاج إلي القرائن لتدل عليها.
و بذلك نثبت دلالته علي الإمامة نعم:
يبقي أمور تتعلق بخصوصية غدير خم:
*الأمر الأول:أنّه في بعض طرق الغدير شبّه الرسول أمير المؤمنين عليه السّلام بهارون حيث قال:
«ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسي[إلاّ أنه لا نبي بعدي]ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (2).
و ليس هذا التشبيه عبثيا بل يريد صلوات اللّه عليه أن يؤكد علي:
أ-حاجة الأمة إلي الوزير و الوصي و الخليفة ليحمي الرسالة و يقوّم المسيرة التي ابتدأها الأنبياء عليهم السّلام.
ب-إظهار كفاءة أمير المؤمنين و إنه بمنزلة الأنبياء و الأوصياء يصلح أن يشدّ به العضد صلوات اللّه عليه.
ج-دفع إشكال القرابة،حيث أن اللّه سبحانه و تعالي إنما استجاب دعوة موسي في أخيه عليهما السّلام لأهلية هارون و كفاءته في قيادة الأمة بعد موسي عليه السّلام،و لم يختاره من أجل الاخوة.
و النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم طلب من اللّه سبحانه و تعالي أن يستجيب له في دعوته لأمير المؤمنين عليه السّلام علي أساس الأهلية و هكذا حصل،و بذلك يكون الرسول الأعظم قد قطع الطريق علي المنافقين الذين كانوا يخططون لعزل أمير المؤمنين عليه السّلام من منصبه بإشكال القرابة،و أنّ الإمامة لا تجتمع مع النبوة في بيت واحد:
فقد روي أبو بكر عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قوله:«إنا أهل بيت أكرمنا اللّه عز و جل و اصطفانا و لم يرض لنا بالدنيا،و أنّ اللّه لا يجمع لنا النبوة و الخلافة».
فشهد له بذلك أربعة نفر:عمر و أبو عبيدة و معاذ بن جبل و سالم مولي أبي حذيفة (3).
و قال عمر لابن عباس في حوار طويل جاء فيه:«...كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة و الخلافة9.
ص: 65
فتجفخوا علي قومكم بجحا بجحا،فاختارت قريش لأنفسها فاصابت و وفقت» (1).
و نحو ذلك من الأقاويل كثيرة منهم (2).
و تقدم منها في مطلع البحث،و يكفي لردّها ثبوت إمامة علي و الحسن و الحسين و المهدي عليهم السّلام.
*الأمر الثاني:واقعة الغدير لما ذا كانت في هذا المكان و الزمان؟!
ما هذا الأمر المهم الذي لا يؤجل إلي خارج الصحراء أو الي المدينة؟
ما هذا الأمر الخطير الذي من أجله يأمر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الناس رجالا و نساء أطفالا و شيوخا أن يجلسوا تحت الشمس المحرقة،و فوق الأرض الملذعة و الذي بدوره يشكل حرجا علي أكثر الحاضرين؟!
ما هذا الأمر الذي يجعل النبي الاكرم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يسأل الناس عن إيمانهم بالله تعالي و برسوله،و عن أولي الناس بهم...و يأخذ بعرض مباديء الإسلام بأصوله و فروعه عليهم؟
و ما هذا الأمر المستقبلي الذي يستحق أن ينزل فيه قرآنا ناطقا: يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ (3).
ما هذا الأمر الذي يعلّق عليه سبحانه و تعالي قبول الرسالة المحمدية التي قضي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عمره الشريف في تبليغها؟
و هل كان هذا الأمر الخطير إخبارهم في ذلك الزمان و المكان-بأنه يحب عليا و هو أقرب الناس إليه أو إنه ابن عمه و صهره و ما شابه ذلك من المعاني البينة الثابتة أو المنفية؟!
و ما بال الاحاديث الأخري،ألم تبين فضل علي و قربه و أخوّته و قرابته؟!!
أم إنه أمر الولاية.
و التي بها تصان الدعوة المحمدية،و تحفظ الكتب السماوية و تتم بها الرسالة الملكوتية،فانزل اللّه في ذلك اليوم: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي .3.
ص: 66
فقال الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عقيب ذلك:«الله أكبر علي إكمال الدين و إتمام النعمة و رضي الرب برسالتي و الولاية لعلي من بعدي».و نحو ذلك من الألفاظ (1).
نعم هي وحدها التي تستحق أن تكون بهذا المكان و بذلك الزمان و أن توصف بتلك الأوصاف العظيمة.
*الأمر الثالث:أنّ الناس جميعا و خاصة الشيخين فهموا من واقعة الغدير كونها مسألة جديدة أراد طرحها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،لا إنه يريد تكرار شيء سابق يعرفه جلّ الصحابة.
و من تتبع بعض جزيئات الواقعة و ما نتج عنها أدرك ذلك:
1-قول عمر و أبي بكر:هنيئا لك[بخ بخ]يا ابن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولي كل مؤمن و مؤمنة.
رواه أكثر الحفاظ من طرق (2).
2-قول أبي بكر لعمر عند ما قال النبي الأعظم:«الّلهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله»هذه هي الفضيلة.أخرجه أبو نعيم في التاريخ عن جابر (3).
*قال الإمام الغزالي:لكن أسفرت الحجة وجهها و أجمع الجماهير علي متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع و هو يقول:«من كنت مولاه فعلي مولاه»،فقال عمر:بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي و مولي كل مؤمن؛فهذا تسليم و رضي و تحكيم.ثم بعد هذا غلب الهوي لحب الرياسة[حبا للرياسة]و حمل عمود الخلافة،و عقود النبوة[و عقد البنود]و خفقان الهوي في قعقعة الرايات و اشتباك ازدحام الخيول و فتح الأمصار[و أمر الخلافة و نهيها فحملهم علي4.
ص: 67
الخلافة]و سقاهم كأس الهوي فعادوا إلي الخلاف الأول،فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا[فبئس ما يشترون]و لما مات رسول اللّه قال قبل وفاته[بيسير]ائتوني بدواة و بياض لأزيل لكم إشكال الأمر و أذكر لكم من المستحق لها بعدي[لأكتب لكم كتابا لا تختلفوا فيه بعدي]قال عمر رضي اللّه عنه:دعوا الرجل فإنه ليهجر (1).
3-اعتراض الحارث أو الحرث علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الصريح في عدم قبوله الولاية و خلافة علي،و إلاّ لا معني لاعتراضه علي كون علي ابن عمه أو صهره،و القصة معروفة في آية سَأَلَ سٰائِلٌ حيث خاطب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بقوله:«يا محمد أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنك محمد رسول اللّه فقبلنا منك و أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك....ثم لم ترض بهذا حتي رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا[حتي نصبت هذا الغلام-حتي يرفع علينا ابن أبي طالب]و قلت:من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أم من اللّه» (2).
4-إعتراض معاوية بن أبي سفيان علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يوم غدير خم علي ولاية علي عليه السّلام الدال علي أنّ التولية بمعني الخلافة و الإمامة و إلاّ لما كان هناك معني لها.
و ذلك ما رواه لنا حذيفة قال:كنت و الله جالسا بين يدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قد نزل غدير خم، و قد قضّ المجلس بالمهاجرين و الأنصار فقام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي قدميه فقال:«يا أيها الناس إنّ اللّه أمرني بأمر فقال: يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ثم نادي علي بن أبي طالب.
فأقامه عن يمينه ثم قال:«يا أيها الناس ألم تعلموا إني أولي منكم بأنفسكم؟»
فقالوا:اللهم بلي.
قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله».
فقال حذيفة:فو الله لقد رأيت معاوية قام و تمطي و خرج مغضبا واضعا يمينه علي عبد اللّه بنر.
ص: 68
قيس الاشعري و يساره علي المغيرة بن شعبة ثم قام يمشي متمطئا و هو يقول:
لا نصدق محمدا علي مقالته و لا نقّر لعلي بولايته.
فأنزل اللّه تعالي: فَلاٰ صَدَّقَ وَ لاٰ صَلّٰي وَ لٰكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰي ثُمَّ ذَهَبَ إِليٰ أَهْلِهِ يَتَمَطّٰي .
فهم به رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يرده فيقتله فقال له جبرئيل:«لا تحرك به لسانك لتعجل به»فسكت عنه (1).
*و روي أنّ الآية نزلت في أبي بكر عند ما قال عمر في غدير خم:ما يألوا أن يرفع خسيسته، فقال أبو بكر:لا و الله لا أسمع و لا أطيع أبدا،ثم اتكأ عليه ثم تمطي و انصرفا فأنزل اللّه فَلاٰ صَدَّقَ وَ لاٰ صَلّٰي (2).
*و روي في الآية أنّ جبرائيل نزل عن النبي محذّرا عمر من الإعتراض علي الغدير (3).
5-قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في بعض طرق الحديث:«اللهم أنت شهيد عليهم إني قد بلّغت و نصحت» (4).
و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«كأني دعيت فأجبت»أو:«ألا و إني أوشك أن أفارقكم» (5).
و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«فليبلّغ الشاهد الغايب (6).
و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إنّ اللّه أرسلني برسالة ضاق بها صدري و ظننت أن الناس مكذّبي فأوعدني لأبلّغها أو ليعذّبني»و نحوه ذلك (7).
كلها تؤكد علي أنّ هناك أمرا خطيرا لم يبينه فيما سبق.
6-ما روي عن أبي سعيد الخدري و غيره و اتفق عليه أحمد و مسلم و البخاري قال:قال رسول الله:«أيها الناس أ لستم تزعمون أني أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟».
قالوا:بلي يا رسول الله.
قال:«فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه..».
قال ابن عباس:«وجبت و الله في أعناق[رقاب]القوم» (8).ه.
ص: 69
فقوله وجبت للإشارة إلي البيعة.
7-ما يفهم من استفسار عطية قال:أتيت زيد بن أرقم-فسأله عن الغدير فذكر له حديث الغدير-،قال عطية:فقلت له:هل قال:اللهم وال من والاه و عاد من عاداه؟
قال:إنما أخبرك كما سمعت (1).
فتأكيد عطية عليه لما فهمه من الولاية أنها أمر جديد.
8-تعريض أمير المؤمنين بأبي بكر في مسألة البيعة كما روي عن جابر و ابن عباس قال عليه السّلام:
«يا أبا بكر و علي مثلي يتفقه الجاهلون،و أن رسول اللّه امركم ببيعتي و فرض عليكم طاعتي،و جعلني فيكم كبيت اللّه الحرام يؤتي و لا يأتي» (2).
و يؤيده ما أخرج الديلمي في الفردوس قول النبي الأعظم لعلي عليه السّلام:«يا علي إنما أنت بمنزلة الكعبة تؤتا[تؤتي و لا تأتي]و لا يأتي فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموا[فمكنوا]لك هذا الأمر فاقبله منهم و إن لم يأتوك فلا تأتهم» (3).
-و نحو ذلك من الحوادث المشيرة إلي فهمهم الخلافة من نص الغدير،و قد تقدم طرف منها في مطلع البحث عند تصريح الصحابة،و يأتي أيضا ما يشير إليه.
*و قد تبين لك أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يريد أمرا من نص الغدير لم يطرحه من قبل.
و أنّ معناه واحد و هو الإمامة و الخلافة،كما فهمه الحارث فاعترض،و معاوية فانمغص، و عمر و أبي بكر فاستنكرا و ابن عباس فشهد،و علي فاحتج،و الشعراء فأنشدوا،و النبي فضاق صدره حتي بلّغه.
***
و الشعراء فهموا أيضا الإمامة و الأولية في الطاعة من الغدير إنّ في عصر النبي الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أو ما تلاه من العصور:
*فهم حسان الصحابي:
يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم و أكرم بالنبي مناديا
ص: 70
فقال له قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماما و هاديا (1)
*ما فهمه الصحابي قيس بن سعد قال (2):
حسبنا ربنا الذي فتح البصرة بالامس و الحديث يطول
و علي إمامنا و إمام لسوانا أتي به التنزيل
يوم قال النبي من كنت مولاه فهذا مولاه خطب جليل
إنما قال النبي علي الأمة حتم ما فيه قال و قيل (3)
يوم الغدير سوي العيدين لي عيد يوم يسر به السادات و الصيد
نال الإمامة فيه المرتضي و له فيها من اللّه تشريف و تمجيد (4)
*و قال عمرو بن العاص الصحابي:
و كم قد سمعنا من المصطفي وصايا مخصّصة في علي
و في يوم خم رقي منبرا و بلغ و الصحب لم ترحل
ما منحه إمرة المؤمنين من اللّه مستخلف المنحل (5)
*و قال محمد الحميري:(و كان من القرن الأول في عصر معاوية)
علي إمامنا بأبي و أمي أبو الحسن المطهر من حرام
تناسوا نصبه في يوم خم من الباري و من خير الأنام (6)
*ما فهمه الشيخ الأديب علي بن أحمد الفنجكردي:
لا تنكر غدير خم إنه كالشمس في اشراقها بل اظهر
في إمامة حيدر و جماله و جلاله حتي القيامة يذكر
أولي الأنام بأن يوالي المرتضي من يأخذ الاحكام منه و يأثر
و علي إمامنا و إمام لسوانا اتي به التنزيل6.
ص: 71
يوم قال النبي من كنت مولاه فهذا مولاه خطب جليل (1)
*و قال الكميت الشهيد(126):
و يوم الدوح دوح غدير خم أبان له الولاية لو اطيعا
و لكن الرجال تبايعوها فلم ار مثلها خطرا منيعا[مبيعا]
فلم أر مثل ذاك اليوم يوما و لم ار مثله حقا اضيعا (2)
*ما فهمه السيد الحميري المتوفي 173 ه:
من الذي أحمد من نبيهم يوم غدير الخم ناداه
أقامه من بين أصحابه و هم حواليه فسمّاه
هذا علي بن أبي طالب مولي لمن قد كنت مولاه (3)
أوصي النبي بخير وصية يوم الغدير بأبين الإفصاح (4)
قاله:بخ بخ من مثلكا أصبحت مولي المؤمنين يا لها
يا عجبا و للزمان عجب تلقي ذوو الفكر به ضلالها
إنّ رجالا بايعته انما بايعت اللّه فما بدا لها؟! (5)
و نحو ذلك من أشعاره في الغدير (6)
و قال العبدي الكوفي من علماء القرن الثاني:
إني نصبت عليا هاديا علما بعدي و إنّ عليا خير منتصب
فبايعوك و كل باسط يده إليك من فوق قلب عنك منقلب (7)
*و قال أبو تمام في قصيدة له:
فكان لهم جهر بإثبات حقه و كان لهم في بزهم حقه جهد (8)
*و قال دعبل الخزاعي الشهيد 246 في قصيدة له جاء فيها:5.
ص: 72
فإن جحدوا كان الغدير شهيده و بدر و أحد شامخ الهضبات (1)
هذه جملة من أشعار الشعراء و فهمهم لحديث الولاية و الغدير.
و هناك الكثير من هؤلاء الشعراء أغمضنا عن ذكرهم للكفاية (2).
***
و دعاؤه المستجاب علي من أنكر هذا الحديث بالبرص و العمي و السراة و الرجع أمثال عبد الرحمن بن مدلج و يزيد بن وديعة و زيد بن أرقم و أنس و براء و جرير (1).
كل ذلك يعطي دليلا لا مفر منه علي أنّ المراد من الغدير الإمامة و الخلافة و إلاّ لما كان هناك معني لكثرة الإستشهاد به و التي في بعضها تصريح بالخلافة كما يأتي،و كذلك لا مبرر لدعاء الأمير علي الصحابة و هو العطوف الرحيم،و لما ذا ينكر كون علي ابن عم الرسول أو ناصره أو نحوه من المعاني البعيدة عن ذهن العربي الأصيل الشريف.
و هذا الإستشهاد شمل أكثر الخلفاء.
ففي عهد الأول قال عليه السّلام ثاني يوم السقيفة:«يا هؤلاء أكنت أدع رسول اللّه مسجي لا أواريه و أخرج أنازع في سلطانه،و الله ما خفت أحدا يسمو له و ينازعنا أهل البيت فيه و يستحل ما استحللتموه،و لا علمت أنّ رسول اللّه ترك يوم غدير خم لأحد حجة و لا لقائل مقالا،فأنشد اللّه رجلا سمع النبي يوم غدير خم يقول»من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله«أن يشهد الآن بما سمع».
قال زيد بن أرقم:فشهد إثنا عشر رجلا بدريا و كنت ممن سمع القول من رسول اللّه فكتمت الشهادة يومئذ،فدعا علي عليّ فذهب بصري (2).
و خطبهم سابع وفاة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:فخرج رسول اللّه إلي حجة الوداع ثم صار إلي غدير خم فأمر
ص: 74
فأصلح له شبه المنبر ثم علاه و أخذ بعضدي حتي رئي بياض إبطيه رافعا صوته قائلا في محفله:«من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه»فكانت علي ولايتي ولاية اللّه و علي عداوتي عداوة الله.
و أنزل اللّه في ذلك اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاٰمَ دِيناً (1).
و قال لأبي بكر في منزله عليه السّلام:«فأنشدك بالله أنا المولي لك و لكل مسلم بحديث النبي يوم الغدير أم أنت؟».
قال:بل أنت (2).
و قال له:«فهل فيكم أحد قال له رسول اللّه من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه فليبلّغ الشاهد الغائب ذلك غيري؟»
قالوا:لا (3).
-و في رواية أخري قال:«و قمتم بأجمعكم تهنون رسول اللّه و تهنوني بكرامة اللّه لنا فدنا عمر و ضرب علي كفي و قال بحضرتكم:بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولي المؤمنين».
فقال أبو بكر:ذكّرتني أمرا يا أبا الحسن (4).
و قال للعباس:«أقسمت عليك يا عم أن لا تتكلم و إن تكلمت فلا تتكلم إلاّ بما يسره[يقصد أبا بكر]و ليس لهم عندي إلاّ الصبر كما أمرني نبي اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،دعهم ما كان لهم يا عم بيوم الغدير مقنع» (5).
*و قال لأبي بكر في المسجد:«إنّ رسول اللّه أمركم ببيعتي و فرض عليكم طاعتي و جعلني فيكم كبيت اللّه يؤتي و لا يأتي» (6).
*و في عهد عثمان يوم الشوري قال:كما عن واثلة أنه سمع علي يقول لهم يوم الشوري:..ق.
ص: 75
قال عليه السّلام:«أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله:من كنت مولاه فعلي مولاه».
قالوا:اللهم لا (1).
و احتجاجه في عهد عثمان مذكور في الغدير مفصلا عن فرائد السمطين (2).
*و من ذلك احتجاجه بالغدير علي معاوية حيث قال له:«و أوجب لي ولايته عليكم خليلي يوم دوح غدير خم» (3).
*و منه احتجاجه علي طلحة و شهادة طلحة له بالغدير (4).
***
احتجاج فاطمة عليها السّلام
-من ذلك ما روي عن أم كلثوم عن أمها الصديقة الطاهرة قالت عليها السّلام:«أنسيتم قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يوم غدير خم:من كنت مولاه فعلي مولاه،و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنت مني بمنزلة هارون من موسي عليهما السّلام» (5).
-و منه ما روي عن محمد بن لبيد عند ما سألها هل نص رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قبل وفاته علي علي بالإمامة؟
قالت:«وا عجباه أنسيتم يوم غدير خم؟!» (6).
-و عن عبد اللّه بن عبد الرحمن:قال:«و خرجت فاطمة بنت رسول اللّه إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت:لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم تركتم رسول اللّه جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم فيما بينكم و لم تؤمرونا و لم تروا لنا حقا،كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم،و الله لقد عقد له
ص: 76
يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء و لكنكم قطعتم الأسباب بينكم و بين نبيكم و الله حسيب بيننا و بينكم في الدنيا و الآخرة» (1).
و اختصره ابن قتيبة بلفظ:«لم تستأمرونا و لم تردّوا لنا حقا...فانصرفوا (2).
-و عن ابن عباس و زينب بنت أمير المؤمنين و الحسن بن الحسن و غيرهم قالت في خطبتها في مجلس أبي بكر:«فما جعل اللّه لأحد بعد غدير خم من حجة و لا عذر» (3).
*هذا إضافة إلي إحتجاج كثير من الصحابة و أهل البيت:ذكر جلّها العلامة الأميني في غديره فلتراجع هناك (4).
*و من هذه الإحتجاجات التي لم يذكرها الأميني في الغدير:
1-احتجاج قيس بن سعد علي أبي بكر (5):فعن ابن عباس قال:قال قيس لأبي بكر:و الله لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي و لا لساني و لا حجة لي في علي بعد يوم الغدير و لا كانت بيعتي لك إلاّ كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (6).
2-إحتجاج أبي بن كعب:قال بعدما خطب أبو بكر يوم الجمعة أول شهر رمضان:
...أ لستم تعلمون أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قام فينا مقاما أقام فيه عليا فقال:«من كنت مولاه فهذا مولاه يعني عليا و من كنت نبيه فهذا أميره».و له ألفاظ أخري (7).
3-احتجاج أسامة بن زيد أيضا علي أبي بكر في رد رسالة له:من أسامة بن زيد عامل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي غزوة الشام،أمّا بعد فقد أتاني منك كتاب ينقض اوله آخره،ذكرت في أوله أنك خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و ذكرت في آخره أنّ المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك أمرهم و رضوك فاعلم أني و من معي من جماعة المسلمين و المهاجرين فلا و الله ما رضيناك و لا وليناك أمرنا،و انظر أن تدفع الحق إلي أهله و تخليهم و إياه فإنهم احق به منك،فقد علمت ما كان من قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عليّ يوم الغدير فما طال العهد فتنسي،أنظر مركزك و لا تخالف فتعصي اللّه و رسوله و تعصي من استخلفه0.
ص: 77
رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليك و علي صاحبك و لم يعزلني حتي قبض رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و إنك و صاحبك رجعتما و عصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذن (1).
4-احتجاج المقداد بن الاسود قال:يا أبا بكر إرجع عن ظلمك...و سلّم الأمر لصاحبه الذي هو أولي به منك فقد علمت ما عقده رسول اللّه في عنقك من بيعته (2).
يشير إلي بيعة علي من أبي بكر يوم الغدير.
5-إحتجاج أبو الهيثم بن التيهان قال:و أنا أشهد علي نبينا صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه أقام عليا-يعني في يوم غدير خم-فقالت الأنصار ما إقامه للخلافة،و قال بعضهم:ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنه مولي من كان رسول اللّه مولاه،و كثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه عن ذلك فقال:قولوا لهم علي ولي المؤمنين بعدي و أنصح الناس لأمتي،و قد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنّ يوم الفصل كان ميقاتا (3).
6-إحتجاج ابن عباس علي من وقع في علي (4).
7-إحتجاج سعد بن أبي وقاص أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف و الشاشي في مسنده (5).
8-احتجاج سلمان المحمدي:قال:فو الله لقد سلّمنا عليه بأمرة المؤمنين مع رسول الله (6).
*أقول:تقدّم غير هذه الإحتجاجات في مطلع الكتاب عند ذكر تصريحات الصحابة في أحقيّة أمير المؤمنين عليه السّلام بالخلافة؛فلا تغفل.
*الأمر الخامس:إنّ كثيرا من الروايات قرنت حديث الغدير بحديث الثقلين،و هذا يدل علي أن اللّه أمر رسوله أن يوصي الأمة بالقرآن و أهل بيته كخليفتين يرجع إليهم المسلمين بعد وفاة الرسول الأعظم كما في تعابير أحاديث الثقلين الآتية مفصلا.
كما عن الطحاوي قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا أيها الناس أ لستم تشهدون أنّ اللّه ربكم؟»
قالوا:بلي.7.
ص: 78
قال:«من كنت مولاه فعليّ مولاه،إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، كتاب اللّه بأيديكم و أهل بيتي» (1).
و في رواية أخري زاد علي ما تقدم:«..أنّ اللّه مسائلكم كيف خلفتموني في كتابه و أهل بيتي، ثم قال:أيها الناس من أولي بالمؤمنين».
قالوا:اللّه و رسوله أعلم.
قال:«إنّ أولي الناس بالمؤمنين أهل بيتي قال ذلك ثلاث مرات،ثم قال في الرابعة و أخذ بيد علي:اللهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه،اللهم وال من والاه و عاد من عاداه يقولها ثلاث مرات ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» (2).
و أخرج الطبراني و غيره عن زيد بن أرقم قال:«إني قد دعيت فأجبت إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتي يردا عليّ الحوض إنّ اللّه مولاي و أنا ولي كل مؤمن من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» (3).
و نحو ذلك من الروايات الآتية (4).
*الأمر السادس:قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أ لست أولي بكم من أنفسكم»«أ لست[تعلمون أني]أولي بكل مؤمن من نفسه» (5)الواقع قبل حديث الغدير:ي.
ص: 79
و الذي هو إشارة إلي الآية الكريمة: اَلنَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1).
و الأولي هنا إشارة إلي تدبير الأمور و قيادتهم.
*قال البغوي في تفسير الآية: اَلنَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه فيهم و وجوب طاعته عليهم (2).
*و قال الشوكاني:يجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم و يقدّموا طاعته (3).
*و قال سبط ابن الجوزي:...و دلّ عليه أيضا قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أ لست أولي بالمؤمنين من أنفسهم، و هذا نص صريح في إثبات إمامته و قبول طاعته...» (4).
*و فسّر ذلك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عدة روايات صريحة:فعن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:قال الرسول:«إنّ اللّه مولاي و أنا مولي المؤمنين و أنا أولي بهم منهم بأنفسهم من كنت مولاه فعلي مولاه والي اللّه من والاه و عادي من عاداه».فقام سلمان فقال:يا رسول اللّه ولاء ما ذا فقال:«من كنت أولي به من نفسه فعلي أولي به من نفسه فأنزل الله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ» (5)؟.
و قيل لأبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام جعفر بن محمد ما أراد رسول اللّه بقوله لعلي يوم الغدير:من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال؟
فاستوي جعفر بن محمد قاعدا ثم قال:«سئل و الله عنها رسول اللّه فقال:«الله مولاي و أولي بي من نفسي لا أمر لي معه و أنا ولي المؤمنين أولي بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي و من كنت أولي به من نفسه لا أمر له معي فعلي بن أبي طالب مولاه أولي به من نفسه و لا أمر له معه» (6).
-و عن عبد اللّه بن جعفر أمام جملة من الصحابة في مجلس معاوية:«يا معاوية إني سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يقول علي المنبر و أنا بين يديه و عمر بن أبي سلمة و...-إلي أن قال-اللهم وال من والاه و عاد من عاداه.
أيها الناس أنا أولي بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معي أمر و علي من بعدي أولي بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر ثم ابني الحسن أولي بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر ثم عاد1.
ص: 80
فقال أيها الناس إذا انا استشهدت فعلي أولي بكم من أنفسكم» (1).
-و عن سليم عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:«إني أولي بالمؤمنين من أنفسهم ثم أخي علي بن ابي طالب أولي بالمؤمنين من أنفسهم فإذا استشهدنا فابني الحسن أولي بالمؤمنين من أنفسهم ثم ابني الحسين أولي بالمؤمنين من أنفسهم فإذا استشهد فابني علي أولي بالمؤمنين من أنفسهم و ستدركه يا علي ثم ابنه محمد بن علي أولي بالمؤمنين من أنفسهم و ستدركه يا حسين ثم تكلمه إثني عشر إماما من ولد الحسين» (2).
و عن ابن عباس قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«الله ربي و لا إمارة لي معه و أنا رسول ربي و لا إمارة معي و علي ولي من كنت وليه و لا إمارة معه» (3).
و روي قريب منه في مودة القربي (4).
-و عن وهب بن حمزة و الحسين بن علي عليه السّلام:«قال وهب:صحبت عليا من المدينة إلي مكة فرأيت منه بعض ما أكره فقلت لئن رجعت إلي رسول اللّه لأشكونك إليه،فلما قدمت لقيت رسول اللّه فقلت:رأيت من علي كذا و كذا.
فقال لا تقل هذا،فهو أولي بالناس[بكم]بعدي.أخرجه ابن منده و الطبراني و أبو نعيم (5).
و في لفظ آخر عن وهب:«...علي أولي الناس بكم بعدي» (6).
و عن عمران بن حصين:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«علي ولي كل مؤمن من بعدي و الباقي سواء» (7).
و تأتي بقية الروايات المشابهة من طرق في النص الجلي.
و عن فاطمة الزهراء عليها السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا علي أنت الإمام و الخليفة بعدي و أنت أولي بالمؤمنين من أنفسهم» (8).5.
ص: 81
و عن الحسين بن علي عليه السّلام قال:«أنزل اللّه تبارك و تعالي هذه الآية: وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ (1).
سألت رسول اللّه عن تأويلها فقال:«و الله ما عني غيركم و أنتم أولوا الأرحام فإذا مت فأبوك علي أولي بي و بمكاني فإذا مضي أبوك فأخوك الحسن أولي به» (2).
*الأمر السابع:ملاحظة الروايات التي قرنت حديث الغدير بآية الطاعة.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام:«فأنشدكم اللّه عز و جل أتعلمون حيث نزلت يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و حيث إلي أن يقول-فأمر اللّه عزّ و جلّ نبيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن يعلمهم ولاة أمرهم و أن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلوتهم و زكوتهم و صومهم و حجهم:
فنصبني للناس بغدير خم» (3).
-و أخرج الطبراني عن عمار:وقف علي علي بن أبي طالب عليه السّلام سائل و هو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فأعلمه ذلك،فنزلت علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية:
إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ .
فقرأها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثم قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» (4).
هذه عدة أمور تدل علي انحصار الولي بالخلافة و الطاعة.
و في الختام:نسأل اللّه أن يتقبل منا ولاءنا لأمير المؤمنين و مولي الموحدين عليه السّلام لأنّ المرء مسؤول عن هذه الولاية يوم القيامة كما أخرجه الإمام الواحدي (5).
***
حديث المنزلة
و هو من الأحاديث المتفق علي صحتها و المتواترة في حق علي عليه السّلام.
و لعله أوضح الطرق دلالة علي الإمامة،حتي صرّح العامة بذلك مخصصيه بغزوة تبوك و فيه أبحاث:
ص: 82
1-أمكنة صدور حديث المنزلة و مواطنه.
2-رواة حديث المنزلة و مصادره.
3-صحة المنزلة و تواتره.
4-الإحتجاجات بحديث المنزلة.
5-دلالة حديث المنزلة علي الإمامة.
6-تحريفات في حديث المنزلة.
***
و عامر بن سعد (1)،و مالك بن أنس (2)،و عمر بن ميمون (3)،و ابن عباس (4)،و زيد بن أرقم (5)، و البراء بن عازب (6)،و مجاهد (7)،و أبي سعيد (8)،و سعد بن مالك (9)،و أبي سعيد الخدري (10)، و جابر الأنصاري (11)،و أبي الطفيل (12)،و أنس بن مالك (13)،و عبد اللّه ابن مسعود (14)،و علي أمير المؤمنين عليه السّلام (15).
و في لفظ:«أنت مني مكان هارون من موسي» (16).
و أخرجه الخطيب البغدادي عن بريدة بلفظ:«يا أيها الناس ما منكم الاّ من له خاصة من أهله،و إن عليا خاصتي من أهلي،و إنما خلفته كما خلف موسي هارون،إنصرف فإنّ ما هناك لا5.
ص: 84
يستقيم الاّ بي أو بك إلاّ أنك لست بنبي» (1).
روي عن عبد اللّه بن أبي أوفي قال:دخلت علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في مسجده فقال لي:«أين فلان و أين فلان فجعل ينظر في وجوه أصحابه و يتفقدهم و يبعث إليهم حتي توافوا عنده فحمد اللّه و أثني عليه و آخي بينهم».
فقال له علي بن أبي طالب:«لقد ذهبت روحي يا رسول اللّه حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري،فإن كان هذا من اللّه فلك العتبي و الكرامة».
فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«و الذي بعثني بالحق ما أخرتك لا لنفسي،و أنت مني بمنزلة هارون من موسي،و أنت أخي و وارثي».
قال ابن الجوزي:أخرجه أحمد في الفضائل عن غير رواية عبد المؤمن (2)،و رجاله ثقاة و الدليل علي صحته أنه أخرج الترمذي بمعناه في جامعه (3).
و أخرجه الطبراني عن ابن عباس بلفظ:«...أغضبت عليّ حين آخيت بين المهاجرين و الأنصار و لم أؤاخ بينك و بين أحد منهم؟
أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه ليس بعدي نبي،ألا من أحبك حفّ بالأمن و الإيمان،و من أبغضك أماته اللّه ميتة جاهلية و حوسب بعمله في الإسلام» (4)و رواه جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن علي عليهم السّلام (5).
و أخرجه أحمد عن محدوح بن زيد الباهلي أو مخدوج بن زيد الهذلي أو مجدوج ابن مزيد الالهاني أو الذهلي (6).
ص: 85
و روي أيضا عن يعلي بن مرة (1)،و ابن عباس (2)،و زيد بن أبي أوفي (3)،و مجاهد عن ابن عباس (4)،و أبو الطفيل (5)،و زيد بن أرقم (6)،و أنس (7).
رواه أنس بن مالك قال:لما كان يوم المباهلة و آخي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بين أصحابه المهاجرين و الأنصار(و ساق الحديث إلي أن قال)فأخذ بيده و أرقاه المنبر و قال:«اللهم هذا مني و أنا منه،ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسي،ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (8).
أقول:المشهور أنّ المؤآخاة لم تكن يوم المباهلة،بيد أنه يأتي أنها تكررت أكثر من مرة.
قالت أسماء بنت عميس:قال رسول اللّه لعلي يوم ولادة الحسن عليه السّلام:«أي شيء سميت ابني؟.
قال عليه السّلام:ما كنت لأسبقك بذلك.
فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«و لا أنا سابق ربي به».
فهبط جبرائيل فقال:يا محمد إن ربك يقرؤك السلام و يقول لك:«علي منك بمنزلة هارون من موسي و لكن لا نبي بعدك،فسم ابنك هذا باسم ولد هارون» (9).
ص: 86
و رواه الصدوق عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عن أسماء عن فاطمة عليها السّلام (1).
و رواه الملاّ عن جابر في وسيلة المتعبدين (2).
و أخرجه السمهودي في جواهر العقدين (3).
و أخرجه الطبري من حديث أسماء بلفظ:«هبط جبرائيل علي النبي فقال يا محمد إنّ ربك يقرؤك السلام و يقول لك:علي منك بمنزلة هارون من موسي لكن لا نبي بعدك» (4).
قالت أسماء بنت عميس:قال رسول اللّه لعلي يوم ولادة الحسين عليه السّلام:«أي شيء سميت ابني»و ساق الحديث نحو ما تقدم عن الإمام الحسن عليه السّلام (5).
و رواه الصدوق عن الرضا عن آبائه عن أسماء عن فاطمة عليها السّلام (6).
و السمهودي في جواهر العقدين (7).
و أخرجه الطبري عن أسماء بلفظ:«هبط جبرائيل علي النبي فقال يا محمد إنّ ربك يقرؤك السلام و يقول لك:علي منك بمنزلة هارون من موسي لكن لا نبي بعدك» (8).
و قد حذف الطبراني صدر الحديث (9).
ذلك ما أخرجه الثعلبي في تفسيره:عن محمد بن عبيد اللّه بن أبي رافع عن أبيه عن جده:أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم جمع بني عبد المطلب في الشعب و هم يومئذ أربعون رجلا فجعل لهم علي عليه السّلام فخذا من شاة(الي أن قال):فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إنّ اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الاقربين،و رهطي المخلصين و ان اللّه تعالي لم يبعث نبيا إلاّ جعل له من أهله أخا و وارثا و وزيرا و وصيا و خليفة في أهله؛فأيكم يبايعني علي أنه أخي و وزيري[و وصيي]و وارثي دون أهلي و يكون مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي؟».
فسكت القوم،فاعاد الكلام عليهم ثلاث مرات.
فقام علي و هم ينظرون كلهم إليه فبايعه و أجابه إلي ما دعاه» (1).
و نحوه عن قيس بن سعد بن عبادة و فيه:«...فقد جعله اللّه من نبيه بمنزلة هارون من موسي» (2).
مسلم بن يسار عن جابر الأنصاري قال:لما قدم علي علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بفتح خيبر قال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لو لا تقول فيك طائفة من أمتي ما قالت النصاري في المسيح بن مريم لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بملأ إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك و من فضل طهورك فاستشفوا به،و ليكن حسبك أن تكون مني و أنا منك ترثني و أرثك و أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي» (3).
أخرجه الخوارزمي عن أبي ذر قال:إحتج علي اليوم الأول من بيعة عثمان فقال:«هل تعلمون أني كنت إذا قاتلت عن يمين رسول اللّه قال:أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي؟».
قالوا:اللهم نعم (4).
ص: 88
ابن عباس قال:رأيت أبا ذر الغفاري متعلقا بحلقة بيت اللّه الحرام و هو يقول:إني رأيت رسول اللّه في العام الماضي و هو آخذ بهذه الحلقة و هو يقول:«يا أيها الناس لو صمتم حتي تكونوا كالحنايا..(إلي أن قال)علي سيد المسلمين و إمام المتقين يقتل الناكثين و المارقين و الجاحدين، و علي مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي» (1).
فعن جابر الأنصاري قال:جاءنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و نحن مضطجعون في المسجد و في يده عسيب رطب فضربنا و قال:«أ ترقدون في المسجد؟إنه لا يرقد فيه أحد».
فاجفلنا و اجفل معنا علي بن أبي طالب فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«تعال يا علي إنه يحل لك في المسجد ما يحل لي،يا علي ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ النبوة» (2).
و رواه زيد بن أبي أوفي بلفظ:دخل رسول اللّه فقام علي فقال:«أنت مني بمنزلة هارون من موسي غير انه لا نبي بعدي» (3).
و عن حذيفة بن أسيد قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إنّ رجالا يجدون في أنفسهم إني أسكنت عليا في المسجد،و الله ما أخرجتهم و لا أسكنته إنّ اللّه أوصي إلي موسي و أخيه أَنْ تَبَوَّءٰا لِقَوْمِكُمٰا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ (4)و أمر موسي أن لا يسكن مسجده و لا ينكح فيه و لا يدخله إلاّ هارون و ذريته،و إنّ عليا بمنزلة هارون من موسي» (5).
فعن أبان عن سليم بعد ما دعي لعلي بالشفاء فعوفي فبشّره فقال:«إني لم أسأل اللّه شيئا إلاّ اعطانيه و لم أسأل لنفسي شيئا إلاّ سألت لك مثله-إلي أن قال-و سألته أن يجعلك مني بمنزلة
ص: 89
هارون من موسي و أن يشد بك أزري و يشركك في أمري ففعل إلاّ أنه لا نبي بعدي،فرضيت» (1).
فعند ما بلغ ذلك رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غضب و خرج فاتي المنبر و فزعت الأنصار فجاءت شاكة في السلاح فقال:«ما بال القوم يعيرونني بقرابتي و قد سمعوا مني ما قلت في فضلهم(إلي أن قال)و قد سمعتم ما قلت في أفضل أهل بيتي و خيرهم فيما خصه اللّه به و إكرامه و فضله علي من سبقه في الإسلام و بلائه فيه و قرابته مني،و إنه مني بمنزلة هارون من موسي،ثم تزعمون أنّ مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة نبتت في كناسة» (2).
و روي عن زيد بن أبي أوفي حديث المنزلة في المسجد مختصرا بحذف قول عمر و غضب الأنصار قال:دخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في المسجد فقام علي فقال:«إنك مني بمنزلة هارون من موسي غير أنه لا نبي بعدي» (3).
أخرجه القرماني عن ابن عقيل عن أبيه قال:نازعت عليا و جعفر بن أبي طالب بين يدي رسول اللّه في شيء فقلت و الله ما أنتما بأحب إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مني إنّ قرابتنا لواحدة،و إنّ أبانا و أمنا لواحد أ ليس كذلك يا رسول الله؟
فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا عقيل و الله اني لاحبك لخلتين لقرابتك و لحب أبي طالب ابيك، و كان أحبهم إلي أبي طالب.
و أما أنت يا جعفر إنّ خلقك يشبه خلقي.
و أما أنت يا علي،فأنت مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي» (4).
و رواه في تاريخ دمشق مختصرا (5).
أخرجه النسائي و ابن عساكر عن هاني بن هاني بن علي:لما صدرنا من مكة إذا ابنة حمزة
ص: 90
تنادي:يا عم يا عم،فتناولها علي و أخذها فقال لصاحبته:«دونك ابنة عمك محملها»،فاختصم فيها علي و زيد و جعفر،فقال علي:إن أخذتها هي ابنة عمي.و قال جعفر:إبنة عمي و خالتها تحتي، و قال زيد إبنة أخي،فقضي بها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لخالتها.و قال:«الخالة بمنزلة الأم»،و قال لعلي:
«أنت مني بمنزلة هارون و أنا منك»و قال لجعفر:«اشبهت خلقي و خلقي و قال لزيد:يا زيد أنت أخونا و مولانا» (1).
و رواه في تاريخ دمشق عن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر عن أبيه (2).
و ذلك ما روي عن جابر الأنصاري-رواه الثعلبي في تفسيره-أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم نزل بخم فتنحي الناس ثم قال:«أيها الناس إني قد كرهت تخلّفكم عني حتي خيّل إليّ أنه ليس بشجرة أبغض اليكم من شجرة تليني ثم قال:لكن علي بن أبي طالب أنزله اللّه مني بمنزلة هارون من موسي و أنزلني منه منزلته مني» (3).
و ذلك ما روته كريمة ابنة عقبة قالت:سمعت فاطمة بنت حمزة تقول:كنت عند رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فسمعته يقول:«علي مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي» (4).
أخرج الطبراني و البيهقي عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه لأم سلمة:«هذا علي بن أبي طالب لحمه لحمي[سيط لحمه بلحمي]و دمه دمي هو مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي[هذا علي سيد مبجل مؤمل المسلمين و أمير المؤمنين و موضع سري و علمي و بابي الذي آوي إليه و هو الوصي علي أهل بيتي و علي الأخيار من امتي هو أخي في الدنيا و الآخرة،و هو معي في السناء الأعلي،اشهدي يا أم سلمة إنّ عليا يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين]» (5).
ص: 91
كالمروي عن عبد اللّه بن عباس قال:سمعت عمر بن الخطاب يقول:كنت انا و أبو عبيد و أبو بكر و جماعة من الصحابة إذ ضرب النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بيده علي منكب علي فقال له:«يا علي أنت أول المؤمنين إيمانا،و أول المسلمين إسلاما،و أنت مني بمنزلة هارون من موسي».خرّجه ابن السمان (1).
أقول:روي حديث المنزلة عن عمر مختصرا من عدة طرق (2).
و رواه الإمام الباقر بتفاوت عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته الوسيلة (3).
الضحاك عن ابن عباس قال:رأيت عليا أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فاحتضنه من خلفه فقال:«بلغني أنك سمّيت أبا بكر و عمر و ضربت أمثالهما و لم تذكرني».
فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أنت مني بمنزلة هارون من موسي» (4).
أخرجه القزويني بسنده إلي معاوية بن أبي سفيان قال:حق لك يا ابن ذات النطاقين إني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال:«دخلت أنا و الزبير بن العوام علي رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم متصافحين و هو في بيت خديجة بنت خويلد،فسلّمنا عليه فقال:و عليكما السلام و رحمة الله،يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسي،ثم قال يا علي..» (5).
أخرجه ابن بابويه عن علي بن موسي الرضا عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال:«بينما أنأ أمشي مع النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في بعض طرقات المدينة إذ لقينا شيخا طويلا كث اللحّية بعيد ما بين المنكبين فسلّم علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و رحّب به ثمّ التفت إليّ فقال السّلام عليك يا رابع الخلفاء و رحمة اللّه و بركاته أ ليس كذلك هو يا رسول اللّه فقال له رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بلي ثمّ مضي فقلت يا رسول اللّه ما هذا الذّي قال لي هذا الشيخ و تصديقك له قال أنت كذلك و الحمد لله أنّ اللّه تعالي قال في
ص: 92
كتابه: إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و الخليفة المجعول فيها آدم عليه السّلام و قال عزّ و جلّ: يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ و هو الثّاني و قال عزّ و جلّ حكاية عن موسي حين قال لهارون: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ فهو هارون إذ استخلفه موسي عليه السّلام علي قومه و هو الثالث و قال اللّه تعالي: وَ أَذٰانٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَي النّٰاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فكنت أنت المبلغ عن اللّه تعالي و عن رسوله و أنت وصيّي و وزيري و قاضي ديني و المؤدّي عنّي فأنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلاّ انّه لا نبي بعدي فأنت رابع الخلفاء كما سلّم عليك الشيخ أو لا تدري من هو قلت:لا، قال:ذاك أخوك الخضر عليه السّلام فاعلم» (1).
أخرجه الكوفي عن أم سلمة أنها قالت لابن عباس:...سمعته يقول في علي قبل موته بجمعة فإن زاد علي جمعة فلن يزيد علي عشرة أيام...إلي أن قالت:«اسمعي يا أم سلمة قولي و احفظي وصيتي و اشهدي و أبلغي:هذا أخي في الدنيا و الآخرة..و هو مني بمنزلة هارون من موسي غير أنه لا نبي بعدي» (2).
*أقول:تقدّم حديث المنزلة عن أم سلمة في غير هذا الموطن فلا منافاة لأنها قالت لمن سألها عن سماعها حديث المنزلة من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:أمّا مرة واحدة فلا،و لكن سمعته من رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم مرارا (3).
قال أمير المؤمنين عليه السّلام:إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أوعز اليّ قبل وفاته و قال لي:«يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي و تنقض فيك عهدي و إنك مني بمنزلة هارون من موسي و أن الأمة بعدي كهارون و من اتبعه و السامري و من اتبعه» (4).
من ذلك ما روي عن مقاتل بن سليمان عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا علي أنت مني بمنزلة شيث من آدم و بمنزلة سام من نوح،و بمنزلة إسحاق من إبراهيم،كما قال تعالي: وَ وَصّٰي بِهٰا إِبْرٰاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ و بمنزلة هارون من موسي،و بمنزلة شمعون من عيسي،و أنت وصي و وارثي و أنت أقدمهم سلما و أكثرهم علما و أوفرهم حلما و أشجعهم قلبا و أسخاهم كفا،و أنت إمام أمتي و قسيم الجنّة و النار و بمحبتك
ص: 93
يعرف الأبرار من الفجار و يميز بين المؤمنين و المنافقين و الكفار» (1).
و روي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أيضا باختلاف يسير جاء فيه:«يا علي أنت مني بمنزلة هبة اللّه من آدم و بمنزلة سام من نوح و بمنزلة إسحاق من إبراهيم و بمنزلة هارون من موسي،و بمنزلة شمعون من عيسي إلاّ أنه لا نبي بعدي،يا علي أنت وصيي و خليفتي فمن جحد وصيتك و خلافتك فليس مني و لست منه و انا خصمه يوم القيامة،يا علي أنت أفضل أمتي فضلا و أقدمهم سلما و أكثرهم علما و أوفرهم حلما و أشجعهم قلبا و أنجاهم كفا،يا علي أنت الإمام بعدي و الأمير،و أنت الصاحب بعدي و الوزير و ما لك في أمتي من نظير يا علي أنت قسيم الجنة و النار بمحبتك يعرف الأبرار من الفجار و يتميز بين الأشرار و الأخيار و بين المؤمنين و الكفار» (2).
كالمروي عن أسماء بنت عميس قالت:سمعت رسول اللّه يقول:«اللهم إني أقول كما قال أخي موسي و اجعل لي وزيرا من أهلي أخي عليا أشدد به أزري و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا»أخرجه أحمد في المناقب و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر (3).
و نحوه عن النسيم عن رجل من خثعم (4)،و عن ابن عباس عن أبي ذر (5).
و أخرج السلفي في الطيوريات عن أبي جعفر محمد بن علي نحوه بزيادة:«اللهم اشدد أزري بأخي علي»فأجابه إلي ذلك (6).
و عن جابر الأنصاري قال قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إلهي و سيدي إنك أرسلت موسي إلي فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيرا يشد به عضده و يصدق به قوله و إني أسألك يا سيدي و الهي ان تجعل لي من أهلي وزيرا تشد به عضدي فاجعل لي عليا وزيرا و أخا و اجعل الشجاعة في قلبه
ص: 94
و ألبسه الهيبة علي عدوه..و إني سألت ذلك ربي عز و جل فأعطانيه» (1).
قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك بعدي و تنقض فيك عهدي و إنك بمنزلة هارون من موسي و أنّ الأمة بعدي كهارون و من اتبعه و السامري و من اتبعه» (2).
***
روي حديث المنزلة عن كل من:
علي بن أبي طالب-عمر-عامر بن سعد-سعد بن أبي وقاص-أم سلمة-أبو سعيد-بن عباس-جابر الأنصاري-أبو هريرة-جابر بن سمرة-حبشي بن جنادة-و أنس-مالك بن الحويرث -أبو أيوب-يزيد بن أبي أوفي-أبو رافع-زيد بن أرقم-البراء-عبد اللّه بن أبي أوفي-معاوية بن أبي سفيان-ابن عمر-بريدة بن الحصيب-خالد بن عرفطة-حذيفة بن أسيد-أبو الطفيل-أسماء بنت عميس-فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم-فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب-و عبد اللّه بن جعفر- و معاذ و نبيط بن شريط-و عبد اللّه بن مسعود-و أبي سريحة-و أبي بريدة الأسلمي-و عقيل بن أبي طالب-و محمد الباقر-و حبيب بن أبي ثابت-و فاطمة بنت علي-و شرحبيل بن سعد-و عمر- (3).
هذا إضافة إلي ما يأتي في الهوامش:
عن سعد بن زيد و عبد الرحمن بن سائط و عمرو بن قيس و سفيان الثوري و سعد بن مالك- و أبي ذر-و أبي بن كعب (4).
ص: 95
بعد هذه الطرق المتعدّدة و الحوادث المتنوعة لحديث المنزلة،و التي كان في بعضها يؤكد الرسول تأكيدا عليه إشعارا بتسالمه بينهم؛يصدّق القائلين بتواتر هذا الحديث.
ص: 96
و يؤيد ذلك ما يلي:ي-
ص: 97
*ففي شرح الرسالة للشيخ جسوس ما نصه:و حديث«أنت مني بمنزلة هارون من موسي» متواتر (1).
*و قال الحاكم:هذا حديث دخل حد التواتر (2).
*و قد صرح السيوطي أيضا و غيره بتواتره (3).
*و قال ابن الجوزي و الخطيب التبريزي:أخرجاه في الصحيحين و اتفقا عليه (4).
*و قال ابن أبي الحديد:خبر المنزلة مجمع علي روايته بين سائر فرق الإسلام (5).
*و قال الكنجي:هذا حديث متفق علي صحته رواه الأئمة و الحفاظ...و اتفق الجميع علي صحته حتي صار ذلك إجماعا منهم (6).0.
ص: 98
*و قال محمد الجزري الشافعي بعد ذكر حديث المنزلة عن عائشة بنت سعد:متفق علي صحته بمعناه من حديث سعد (1).
*قال الحسكاني:هذا حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ[العبدي المتوفي 417]يقول:خرّجته بخمسة آلاف إسناد (2).
*و قال ابن عبد البر و التلمساني:و هو من أثبت الآثار و أصحها (3).
*و قد أخرجه أحمد من طرق كلها صحيحة (4).
***
و مما يدلل علي تواتر هذا الحديث الإحتجاجات التي كانت يحتج به أمام الصحابة و لم يكن يعترض أحد:
و جاء ذلك عند وفاة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي أبي بكر و عمر (5).
و احتج به أيضا سابع وفاة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:...و اصطفاني بخلافته في أمته فقال و قد حشده المهاجرون و الأنصار و انغصّت بهم المحافل:«أيها الناس إنّ عليا مني كهارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي» (6).
-و احتج به أيضا علي أبي بكر في منزله عليه السّلام قائلا:«فأنشدك بالله إلي الوزارة مع رسول الله، و المثل من هارون من موسي أم لك؟».
قال:بل لك (7).
ص: 99
-و ضمن احتجاجه في الشوري علي أصحابها روي ذلك عمرو بن واثلة قال:سمعت عليا يقول:«أ فيكم أحد أخو رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غيري؟إذ آخي بين المؤمنين فآخي بيني و بين نفسه و جعلني منه بمنزلة هارون من موسي إلا أني لست بنبي».
قالوا:لا (1).
و قريب منه عن أبي ذر أنه سمع عليا عليه السّلام يقول:«هل تعلمون إني كنت إذا قاتلت عن يمين رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي؟».
قالوا:اللهم نعم (2).
-و احتج به أيضا في مسجد رسول اللّه في أيام عثمان كما عن أبان عن سليم:
قال عليه السّلام:«أفتقرّون أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال في غزوة تبوك:أنت مني بمنزلة هارون من موسي و أنت ولي كل مؤمن من بعدي».
قالوا:اللهم نعم (3).
و روي ابن عباس احتجاجا له به بلا ذكر المكان (4).
ذلك ما روي عن ابنتها أم كلثوم قالت:قالت فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أ نسيتم قول رسول اللّه يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه؟
و قوله:أنت مني بمنزلة هارون من موسي» (5).
و في رواية رواها الطبري من طرق متعددة في خطبتها في مجلس أبي بكر:«أنسيتم قول رسول الله:أنت مني بمنزلة هارون من موسي،و قوله:إني تارك فيكم الثقلين،ما أسرع ما أحدثتم و أعجل ما نكثتم و...» (6).
و ذلك في مجلس معاوية و بحضور عمرو و الوليد بن عقبة و عتبة قال عليه السّلام في معرض ذكر
ص: 100
فضائل الأمير عليه السّلام:«..و قال له رسول الله:أنت مني بمنزلة هارون من موسي و أنت أخي في الدنيا و الآخرة.و أنت يا معاوية نظر النبي اليك يوم الاحزاب».
و ذكر فيه فضائح معاوية و لعن الرسول إياه و فضائح عمرو و عتبة و الوليد مفصلا (1).
و ذلك عند مسيره إلي مكة حيث حج مع أهل بيته و أصحابه فخطب فيهم بمني خطبة كبيرة و فيهم قريب مئتي رجل من الصحابة:
قال عليه السّلام فيها:«أنشدكم اللّه أتعلمون أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال له في غزوة تبوك:أنت مني بمنزلة هارون من موسي،و أنت ولي كل مؤمن بعدي».
قالوا:اللهم نعم (2).
و هو أهمها أخرجه ابن عساكر و البغدادي و هو إحتجاج الإمام زين العابدين بالمنزلة علي فضل الإمام علي علي الشيخين (3).
و سوف يأتي في دلالة المنزلة-في عمومية الحديث.
قال في محضر أبي بكر بعد السقيفة:أ لستم تعلمون أن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:«يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسي طاعتك واجبة علي من بعدي كطاعتي في حياتي غير أنه لا نبي بعدي؟».
(الي أن قال):«و إن اللّه تعالي أوصي إلي أن أتخذ عليا أخا كما أنّ موسي اتخذ هارون أخا و اتخذ ولده ولدا فقد طهّرتهم كما طهّرت ولد هارون إلاّ إني قد ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك» (4).
و ذلك أمام جملة من الصحابة عند معاوية في حديث طويل جاء فيه:
ص: 101
«لم يبق منهم علي ما عاهدوا عليه نبيهم غير صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسي..» (1).
فعن ابن عباس قال:رأيت أبا ذر الغفاري متعلقا بحلقة بيت اللّه الحرام و هو يقول:إني رأيت رسول اللّه في العام الماضي و هو آخذ بهذه الحلقة و هو يقول:«يا أيها الناس لو صمتم حتي تكونوا كالحنايا..(إلي أن قال)علي سيد المسلمين و إمام المتقين يقتل الناكثين و المارقين و الجاحدين، و علي مني بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي» (2).
9 و 10-إحتجاج عمر بن الخطاب و معاوية علي من انكر علم أمير المؤمنين بهذا الحديث علي ما رواه ابن عساكر في تاريخه و الحاكم و أحمد (3).
11-إحتجاج الإمام الرضا عليه السّلام مع المأمون علي العلماء (4).
12-إحتجاج ابن عباس به علي من وقع في علي عليه السّلام (5).
13-إحتجاج سعد بن أبي وقاص علي معاوية كما أخرجه مسلم و غيره،و علي من وقع في علي مرة أخري (6).
ص: 102
***
ذكرنا أنّ دلالة حديث المنزلة علي خلافة أمير المؤمنين من أوضح الطرق،ذلك إنّ الحديث واضح في أنه يريد أن يجعل لعلي منصبا جديدا فشبّهه بالنبي هارون و نسبه إليه كنسبة هارون إلي موسي.
فدلالة الحديث هي نفس الصفات التي يتلبس بها هارون الشخصية أو التي يتّصف بها لقربه من موسي و لكونه خليفته و نائبه و أخيه و حبيبه و وصيه.
و من يشك في دلالة هذا الحديث فإنما هو يشك في صفات هارون،و هذا ما يدل عليه الإستثناء-إلا النبوة-فما عداها مثبت لعلي بالمطابقة.
*قال علي عليه السّلام:...و اصطفاني بخلافته في أمته فقال و قد حشده المهاجرون و الأنصار و انغصت بهم المحافل:«أيها الناس إنّ عليا مني كهارون من موسي إلاّ أنه لا نبي بعدي» (1).
*و تقدم عن النبي قوله في الحديث:«و إنما خلفته كما خلف موسي هارون» (2).
و يؤيد ذلك بعض الإحتجاجات المتقدمة خاصة التي كانت في أيام السقيفة و الشوري،و التي كانوا يصرّحون بأنه أولي بالخلافة لمكان حديث المنزلة.
و بالأخص إحتجاج فاطمة عليها السّلام.
ص: 103
*و نقل الكنجي عن شعبة بن الحجاج قوله في الحديث:(و كان هارون أفضل أمة موسي فوجب أن يكون علي أفضل من كل أمة محمد صيانة بهذا النص الصحيح الصريح كما قال موسي لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح) (1).
و قال في موضع آخر:بعد ذكر حديث:علي كنفسي (2)-و من المعلوم أنه يمتنع أن تكون نفس علي هي نفس النبي،و لا بدّ أن يكون المراد هو المساواة بين النفسين،و هذا يقتضي أنّ كل ما حصل لمحمد من الفضائل و المناقب فقد حصّل مثله علي،ترك العمل بهذا النص في فضيلة النبوة، فوجب أن تحصل المساواة بينهما فيما وراء ذلك.
ثم لا شك أنّ محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان أفضل الخلق بسائر الفضائل فلما كان علي مساويا له في تلك الصفات يجب أن يكون أفضل،و لم أر الأصوليين أجابوا عن هذا بشيء (3).
*و جزم أبو جعفر الإسكافي بتقدم أمير المؤمنين علي و أفضليته علي الخلفاء بحديث المنزلة (4).
*و سأل معلي بن سليمان محمد بن عبد اللّه عن الحديث فقال:أراد به أن يطاع من بعده كما يطاع النبي في حياته (5).
*و قال الطيبي في شرح الحديث:يعني أنت متصل و نازل بمنزلة هارون من موسي،و فيه تشبيه و وجه الشبه مبهم بيّنه بقوله:إلا أنه لا نبي بعدي.فعرف أنّ الإتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة بل من جهة ما دونها و هي الخلافة (6).
*و قال ابن أبي الحديد بعد ذكر الحديث:أثبت له جميع مراتب هارون من موسي (7).
*و قال في موضع أخر:و قول النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أنت مني بمنزلة هارون من موسي»و ذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام كما أنّ هارون معصوم عن مثل ذلك (8).4.
ص: 104
*و قال أبو جعفر الحسني بعد ذكر كلام قدّمناه (1)يساوي فيه بين النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين في جملة من الصفات و الأفعال:فأبان نفسه منه بالنبوة و أثبت له ما عداها من جميع الفضائل و الخصائص مشتركا بينهما (2).
-و اذا ثبت ذلك فنقول:
صفات هارون بل لعلها أبرز صفة فيه كونه وصيا و خليفة و نائبا لموسي.فيكون معني الحديث:
أنت وصيي و خليفتي و نائبي كما كان هارون نائبا و خليفة و وصيا لموسي.
و هذا يدل علي الفورية بعد وفاة الرسول لأنّ هارون كان كذلك لو عاش،و الاّ لبين الرسول خلاف ذلك،علي أنه لم يرد هذا الحديث-من الوجه الصحيح-في غير علي عليه السّلام حتي يقول بتقديمه في الخلافة عليه.
و العامة أكثرها متفقة معنا علي معني الحديث و تقول أنّ عليا كان خليفة للرسول و لكنها تخصص ذلك بمدة غزوة تبوك (3).
و بعدما تقدم أنّ حديث المنزلة ليس مخصوصا بغزوة تبوك بل كان متزامنا لكل مراحل حياة الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فمن اليوم الأول للدعوة-يوم الدار-و حتي قبيل وفاة الرسول كان هذا الحديث يخرج من الفم المقدس لأبي القاسم محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حق المرتضي عليه السّلام.
فينبغي علي هذا:أن تذعن العامة إلي عمومية دلالة المنزلة لثبوت الدليل عليه.
***
و مما يدل علي عموم الحديث ما تقدم من طرق قول النبي لعلي عليه السّلام:«ما سألت اللّه شيئا إلا سألت لك مثله و لا سالت اللّه شيئا إلا أعطانيه إلا أنه قيل لي:لا نبوة بعدك» (4).
-و قال الإمام علي بن الحسين بعدما استفاد أفضلية علي علي أبي بكر و عمر من حديث المنزلة لأنه لم يكن في بني إسرائيل أفضل من هارون:
كما أخرجه ابن عساكر عن حكيم بن جبير قال:قلت لعلي بن الحسين:إنّ ناسا عندنا بالعراق يقولون:أنّ أبا بكر و عمر خير من علي!
ص: 105
فقال علي بن الحسين:«فكيف أصنع بحديث حدّثنيه سعيد بن المسيب عن سعد بن ابي وقاص؟قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعلي:أنت مني بمنزلة هارون من موسي غير أنه لا نبي بعدي» (1).
و في رواية أخري عنه:قلت لعلي بن الحسين:جعلت فداك كان أبو جحيفة يزعم أنه سمع عليا يقول:«ألا أخبركم بأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر ثم سكت».
فقال علي بن الحسين:فهذا سعيد بن المسيب أخبرني انه سمع سعدا قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي،هل كان في بني اسرائيل بعد موسي أفضل من هارون عليه السّلام».
قلت:لا.
فضرب علي كتفي ثم قال لي علي بن الحسين:«فأين ذهب بك!!» (2).
*و فسّر أمير المؤمنين ذلك ضمن احتجاجه علي المهاجرين في عهد عثمان قائلا:
و الدليل و الله علي باطل ما شهدوا و ما قلت يا طلحة:قول نبي اللّه يوم غدير خم:«من كنت أولي به من نفسه فعلي أولي به من نفسه فكيف أكون أولي بهم من أنفسهم و هم أمراء عليّ و حكّام؟».
و قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أنت مني بمنزلة هارون من موسي غير النبوة فلو كان مع النبوة غيرها لاستثناه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم» (3).
*و كذا فهم الحسن البصري عند ما سئل عن علي عليه السّلام قال:ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع:ائتمانه علي براءة،و ما قال له الرسول في غزاة تبوك فلو كان غير النبوة شيء يفوته لاستثناه (4).
***
*و كذا ما شرحه المأمون لاسحاق بن إبراهيم في مناظرته الطويلة جاء فيها:
يا إسحاق أتروي حديث:أنت مني بمنزلة هارون من موسي؟
ص: 106
قلت:نعم يا أمير المؤمنين قد سمعته و سمعت من صحّحه و جحده.
قال:فمن أوثق عندك من سمعت منه فصحّحه أو من جحده؟
قلت:من صحّحه.
قال:فهل يمكن أن يكون الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خرج بهذا القول؟
قلت أعوذ بالله.
قال:فقال[أي الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم]قولا لا معني له فلا يوقف عليه؟
قلت:أعوذ بالله.
قال:فما تعلم أن هارون كان أخا موسي لأبيه و أمه؟
قلت:بلي.
قال:فعلي أخو رسول اللّه لأبيه و أمه؟
قلت:لا.
قال:أو ليس هارون[كان]نبيا و علي غير نبي؟
قلت:بلي.
قال:فهذان الحالان معدومان في علي و قد كانا في هارون؛فما معني قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنت مني بمنزلة هارون من موسي؟
قلت له:[إنما]أراد أن يطيب بذلك نفس علي لمّا قال المنافقون أنه خلفه استثقالا له.
قال:فأراد أن يطيب نفسه بقول لا معني له؟
قال:فأطرقت.
قال:يا إسحاق له معني في كتاب اللّه بيّن.
قلت:ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال:قوله عزّ و جلّ حكاية عن موسي:أنه قال لأخيه هارون «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ».
قلت:يا أمير المؤمنين إنّ موسي خلف هارون في قومه و هو حي و مضي إلي ربه و ان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خلف عليا كذلك حين خرج إلي غزاته.
قال:كلا ليس كما قلت؛أخبرني عن موسي حيث خلف هارون هل كان معه حيث ذهب الي ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني اسرائيل؟
قلت:لا.
ص: 107
قال:أو ليس استخلفه علي جماعتهم؟
قلت:نعم.
قال:فأخبرني عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حين خرج إلي غزاته هل خلف إلاّ الضعفاء و النساء و الصبيان فأنّي يكون مثل ذلك.
و له عندي تأويل آخر من كتاب اللّه يدل علي استخلافه إياه لا يقدر أحد ان يحتج فيه و لا أعلم أحدا احتج به و أرجو أن يكون توفيقا من الله.
قلت:و ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال:قوله عزّ و جلّ حيث حكي عن موسي قوله: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هٰارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنٰا بَصِيراً (1)فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسي وزيري من أهلي و أخي شدّ اللّه به أزري و أشركه في أمري كي نسبح اللّه كثيرا و نذكره كثيرا،فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئا غير هذا،أو لم يكن ليبطل قول النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أن يكون لا معني له؟ (2).
***
و عادة البعض (3)عند ما يجدوا أنّ بعض الفضائل لأمير المؤمنين عليه السّلام توجب تقديمه علي الشيخين يقوموا إما بتحريف تلك الفضيلة أو بالطعن علي راويها و إما نسبتها إلي غير أمير المؤمنين عليه السّلام فإن استطاعوا نسبتها إلي الشيخين فهو و الا فالي الثالث و إن عجزوا فإلي أي رجل كان؛المهم عندهم عدم الإذعان للحق لكي لا تعلو أنوف أقوام أخري.كما يأتي في غير موضع من هذا الكتاب.
و شاءت اليد الأموية أن يكون حديث المنزلة من الأحاديث المحكومة عليه بالتحريف و التزوير.
أما التحريف فهو ما أخرجه ابن عدي عن محمد بن نوح عن جعفر بن محمد الناقد عن عمار ابن هارون المستملي البصري عن قزعة بن سويد البصري عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رفعه:ما
ص: 108
نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر...و فيه-و أبو بكر و عمر مني بمنزلة هارون من موسي.
و أخرجه ابن جرير الطبري عن بشير بن دحية عن قزعة بن سويد (1).
و في رواية عن ابن أبي أوفي قال لأبي بكر:أنت مني بمنزلة قميصي من جسدي (2).
و كذب هذا الحديث لا يكاد يصدق،و راويه أكذب و نقله أفحش.
و كيف يصدق خبر تواتر عن أمير المؤمنين و احتج به و احتجت به فاطمة بنت محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أيام عنفوان أبي بكر و عمر و لم يعترضا و لم يذكراه.
كيف يصدق خبر في رواته عمار المستملي الذي قال فيه ابن عدي:عامة ما يرويه غير محفوظ،يسرق الحديث،و قال الخطيب متروك الحديث.
و فيه قزعة قال فيه أحمد مضطرب الحديث شبه متروك.و قال ابن حبان:كان كثير الخطأ فاحش الوهم فلما كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره.
و ضعفه العجلي و الآجري و البخاري و النسائي و الهروي و أبو حاتم و غيرهم (3).
و أما بشر بن دحية فضعفه الذهبي و قال بعد رواية هذا الحديث:هذا كذب و من بشرا؟! (4).
و أما رواية ابن أوفي ففي سندها عبد المؤمن ابن عباد العبدي و الحسين بن محمد الذراع الضعيفان.
و من العجيب تشبيه عمر و أبي بكر بهارون و تقدم صفتهما و سيرتهما مع الناس،و الأجدر أن نقول كما قال سلمان المحمدي:«علي في شبه هارون و عتيق في شبه العجل و عمر في شبه السامري» (5).
و ذكر الأمير أيضا في معرض ذكر مثالب أبي بكر و عمر:«سبحان الله!ما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتها و فتنتها من عجلها و سامريها» (6).
و عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك بعدي و تنقض فيك عهدي و إنك مني بمنزلة هارون من موسي و أن الأمة بعدي كهارون و من اتبعه و السامري و من اتبعه» (7).ل.
ص: 109
فذلك ما روي عن حريز بن عثمان بن جبر بن أحمر رواه عنه اسماعيل بن عياش قال:سمعت حريز بن عثمان قال:هذا الذي يرويه الناس عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم انه قال لعلي:«أنت مني بمنزلة هارون من موسي»حق و لكن أخطأ السامع!!
قلت:فما هو؟
قال:إنما هو أنت مني بمنزلة قارون من موسي!!
قلت عمن ترويه؟
قال:سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله و هو علي المنبر!! (1).
و هذا أفحش من سابقه و أكذب.
و كيف يصدق هذا في حق سيد المتقين و امامهم و عزهم و شرفهم؟
و كيف يصدر من منبع الوحي و التنزيل؟
و كيف يصح معه الإستثناء:إلا أنه لا نبي بعدي-و هل يراد أنّ قارون كان نبيا؟!
و يكفي طعنا في الحديث أنّ فيه حريز بن عثمان الكذّاب متروك الحديث مبغض أمير المؤمنين (2).
أما إسماعيل بن عياش فكان أهل حمص ينتقصونه و تكلم فيه قوم (3).
***
حديث الدار
عند نزول قوله تعالي: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (4).
تواترت الروايات في نقل مضمون هذا الخبر الشريف منها ما روي عن شريك قال:لما نزلت هذه الآية وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع النبي أهل بيته فاجتمعوا ثلاثين فأكلوا و شربوا ثلاثا،ثم
ص: 110
قال لهم:«من يضمن عني ديني و مواعيدي و يكون خليفتي و يكون معي في الجنة؟».
فقال رجل لم يسمه شريك:يا رسول اللّه أنت كنت تجد من يقوم بهذا!.
ثم قال الآخر:يعرض ذلك علي أهل بيته.
فقال علي عليه السّلام:أنا.
فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أنت» (1).
و في نص آخر رواه ابن اسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم جاء فيه:
«...فأخذ برقبتي و قال:إنّ هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا» (2).
و منها ما أخرجه الطبري و ابن كثير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم(بعد ذكر قصة الإطعام):«يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة،و قد أمرني اللّه تعالي أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني علي هذا الأمر علي أن يكون أخي و وصي و خليفتي فيكم».
قال:فأحجم القوم عنها جميعا و قلت:-و إني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا-أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه،فأخذ برقبتي ثم قال:«إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا».
قال:فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لإبنك و تطيع (3).
و أخرجه بهذا اللفظ أبو جعفر الإسكافي في نقض العثمانية و قال:إنه روي في الخبر الصحيح (4).
و رواه الثعلبي في تفسيره بلفظ:«إجلس فأنت أخي و وصي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي» (5).
و رواه الثعلبي أيضا بلفظ آخر:«فأيكم يقوم فيبايعني علي أنه أخي و وزيري و وصي و يكون بمنزلة هارون من موسي؟»فقال علي عليه السّلام:أنا (6).ه.
ص: 111
و أخرجه ابن مردويه و الطبري و أحمد بلفظ:«من يبايعني علي أن يكون أخي و صاحبي و وليكم من بعدي»،فمددت يدي و قلت:انا أبايعك،فبايعني علي ذلك (1).
و أخرجه في الملل و النحل بلفظ:«من الذي يبايعني علي روحه و هو وصيي و ولي هذا الأمر من بعدي» (2).
و الروايات في هذا المضمون متواترة من طرق العامة و الخاصة (3)..-
ص: 112
و عرفت مما تقدم أن الألفاظ التي وصف الرسول الأعظم فيها الأمير عليه السّلام هي:«وليكم من بعدي-يكون خليفتي-يقضي ديني و مواعيدي-يكون وليي و وصيي بعدي-وزيري و وارثي و خليفتي بعدي-خليفتي فيكم-يكون بمنزلة هارون من موسي-من يبايعني».
و المنصف من مجموع هذه العبارات يدرك ما هو مراد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و أنه يريد أن يعيّن الإمام و الخليفة الذي ينوب عنه بعد وفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و مما يؤيد ذلك إحتجاج الأمير بحديث الدار علي أبي بكر حيث قال له:«فقد أخذ عليك بيعتي في أربع مواطن:في يوم الدار و في بيعة الرضوان و تحت الشجرة و في بيت أم سلمة» (1).
و قد ذكر الشاعر القدير عبد المسيح الإنطاكي المصري بعد ذكر حديث الدار عدة أبيات في وصف الدار و إطعام القوم جاء فيها:
فقال:ما جاء قبلي قومه أحد بمثلها جئت من نعماء أسديها
لكم بها الخير في دنيا و آخرة اذا انضويتم إلي زاهي معانيها
فمن يوازرني منكم فذاك أخي و ذاك يخلفني في رعي ناميها
إلي أن قال:
و قال:هذا أخي ذا وارثي و خليفتي علي امتي يحمي مراعيها
و قال:فرض عليكم حسن طاعته بعدي و امرته ويل لعاصيها (2)
-و لكن أصحاب النفوس المريضة يقومون و يتمسكون ببعض الروايات المحرّفة أو الناقصة ليثبتوا أنّ هدف الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو قضاء الدين و المواعيد أو بحصر الخلافة في الأهل،و لا أدري ما قيمة هذه المسائل في الدين الاسلامي الجديد الذي يريد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن ينشره في قومه من خلال النص الإلهي وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ .
و إليك بعض تلك الروايات:
ففي تفسير ابن كثير عن ابن جرير عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إنّ هذا أخي و كذا و كذا فاسمعوا له و أطيعوا» (3).
و في رواية آخري:«أيكم يقضي عني ديني و يكون خليفتي من أهلي» (4).ق.
ص: 113
و في ثالثة:«من يضمن عني ديني و مواعيدي» (1).
إلي غير ذلك من الروايات الموضوعة و المحرّفة أو الناقصة و التي سوف تقف علي بعضها بعد قليل.
عزيزي القاريء:تأمل في كلمة:كذا و كذا..فما معني هذه الكلمات؟!
و لما ذا تخفي كلمة خليفتي أو وزيري أو وصيي من بعدي؟!!
و ما مسألة ديون رسول الله؟و هل كان عليه ديون في بداية الدعوة؟!
و أما خلافة الأهل،فهي فرع تسليم بني هاشم و بني المطلب و عمومته جميعا لنبوته و رياسته حتي يفرض عليهم خليفته عليهم،و الحال أنهم لم يسمعوا بالإسلام قبل ذلك.
***
و المنافقون قاتلهم اللّه استفادوا من تعدد النسخ و المطابع ليدسّوا حقدهم الجاهلي فقاموا بتحريف واضح في حديث الدار و إليك بعض تلك الروايات:
1-ذكر محمد حسين هيكل في كتابه الموسوم ب:حياة محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم-حديث الدار بكامله في الطبعة الأولي سنة 1354 هجري ص:104.
بينما حذف في الطبعة الثانية و ما بعدها من الحديث:«و أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم»!!
2-ما في تفسير الطبري ج:19 ص:121 الطبعة الثانية-مصطفي الحلبي و 75/19 الأميرية مصر-سنة 1328 الطبعة الأولي-فإنه ذكر الحديث مع حذف:«إنّ هذا أخي و وصي و خليفتي فيكم»و ذكر بدل ذلك:«إنّ هذا أخي و كذا و كذا».
بينما نجده في تاريخه ج:2 ص:319 ط.دار المعارف بمصر و 63/2 الاستقامة بالقاهرة- ذكر الحديث بكامله كما تقدم هنا!!
«يريد اعداء اللّه أن يطفئوا نور أخي و يأبي اللّه إلا أن يتم نوره» (2).
و الأعجب من ذلك ما رواه الطبراني و ابن مردويه و الآجري و غيرهم عن أبي إمامة،حيث أرادوا أن يخونوا الأمة و يحرّفوا التاريخ ظنا منهم أنّ اللّه غافل عن مكرهم.
ص: 114
قال:لما نزلت وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بني هاشم فأجلسهم علي الباب و جمع نساءه و أهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال:
«يا بني هاشم إشتروا أنفسكم من النار..إلي أن قال.
يا عائشة بنت أبي بكر و يا حفصة و يا أم سلمة و يا فاطمة بنت محمد و يا أم الزبير عمّة رسول اللّه إشتروا أنفسكم من اللّه و اسعوا في فكاك رقابكم فاني لا[اطلب]أملك لكم من اللّه شيئا و لا أغني».
فبكت عائشة و قالت:[يا حبي]و هل يكون ذلك يوم لا تغني عنا شيئا؟
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«نعم ثلاثة مواطن..».إلخ.
و فيه تصدّر عائشة للمجلس و نقاشها رسول اللّه و كأنها حبر من الأحبار! (1).
لا أدري ما ذا يقال لمثل هؤلاء؟!
فأين عائشة في ذلك الزمان لتتصدي و تتصدّر المجلس،تبكي تاره و تتحدث أخري و تحاور ثالثة؟!
و كم كان عمرها؟!بل هل ولدت بعد أم أنها كانت تحدث من صلب أبي بكر؟! (2).
و لما ذا لا ذكر لخديجة صلوات اللّه و سلامه عليها؟!
و أين الشخصيات البارزة أنذاك فما بالها لا تتفوه بكلمة؟!.
و لما ذا يحذف قول علي عليه السّلام؟!
إن في عقيدة كاتب هذه الأحرف أن المراد من ذلك تمييع واقعة الدار و تغيير مسارها في إثبات الإمامة و الخلافة لأمير المؤمنين عليه السّلام.
«يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم و يأبي اللّه إلاّ أن يتم نوره و لو كره الكافرون» (3).م-
ص: 115
نص الأفعال
و ذلك بملاحظة أفعال الرسول الاكرم تجاه أمير المؤمنين عليه السّلام و مقارنتها ببقية تصرفاته تجاه الصحابة،فنحن نعرف من خلال معاملة الناس بعضهم مع بعض؛إنّ الذي يريد أن يوكل شخصا أو أن ينصبه أميرا مكانه في حياته أو بعد مماته يحاول أن يفهم الناس ذلك من خلال تصرفاته تجاه هذا الوكيل أو الوزير.
فكيف إذا كانت المسألة مسألة إمامة و ولاية علي البشرية جمعاء؟!
بل كيف إذا كانت هذه الأفعال صادرة من الرسول الاكرم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و الذي يعتبر تصرفه مهما كان حجة علينا لأنه لا ينطق عن الهوي.
فإنّ الإنسان يقطع من خلال تصرفات النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تجاه أمير المؤمنين عليه السّلام أنه يريد أن ينصبه خليفة و وصيا علي أمّته بعد وفاته صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و إليك بعض تلك الأفعال:
-أخرج الطبراني في الأوسط بسنده عن الحسين بن علي قال:«جاءت الأنصار تبايع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم علي العقبة،فقال:قم يا علي فبايعهم.
فقال:علي ما أبايعهم يا رسول الله؟
قال:علي أن يطاع اللّه و لا يعصي،و علي أن تمنعوا رسول اللّه و أهل بيته و ذريته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم» (1).
و زيد في رواية قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لعلي:«ألحق فيها....قال علي:فوضعتها و الله علي رقاب الناس (القوم)فوفي بها من وفي و هلك بها من هلك» (2).
و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يدخل علي النبي بلا إذن و يخلو به في كل يوم و ليلة (3).
و روي عن عبد اللّه بن نجيّ عن علي قال:«كان لي من رسول اللّه مدخلان بالليل و بالنهار
ص: 116
و كنت إذا دخلت عليه و هو يصلّي تنحنح» (1).
و روي سليم عن أمير المؤمنين عليه السّلام قوله:«و قد كنت أنا أدخل علي رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كل يوم دخلة و كل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار،و قد علم أصحاب رسول اللّه أنه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري فربما كان يأتيني رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أكثر من ذلك في بيتي،و كنت إذا دخلت عليه ببعض منزله أخلاني و أخلا بي و أقام عني نساءه فلا يبقي عنده غيري،و إذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة و لا أحد من ابني» (2).
و سئل الأقثم بن العباس:كيف ورث علي عليه السّلام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دونكم؟
قال:لأنه كان أولنا به لحوقا و أشدّنا به لزوقا (3).
و قالت أم سلمة:و الذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (4).
حتي صرّح له الرسول بذلك قائلا:«إن اللّه تعالي أمرني أن أدنيك و لا أقصيك و أن أعلمك و أن تعي و حق علي اللّه تعالي أن تعي»رواه الحاكم و ابن جرير و ابن المغازلي و ابن عساكر (5).
و من ذلك ما روي عن الباقر عن محمد بن الحنفية قال:قال أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل جاء فيه:
«لم يكن أحد آنس به أو أستنيم إليه،أو أعتمد عليه،أو أتقرب به غير رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو رباني صغيرا و بوأني كبيرا،و كفاني العيلة،و جبرني من اليتم،و أغناني عن الطلب،و وقاني التكسب،و عالني في النفس و الأهل و الولد في تصاريف أمور الدنيا،مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلي معالي الحظوة عند اللّه عز و جل» (6).
و كان النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يعتمد عليه في المهمات الصعبة و لم يضعه مأمورا قط بل كان دائما أميرا آمرا (7).
و قد شاركه في المباهلة و آله دون غيره ما أهميتها في تثبيت الإسلام (8).ن.
ص: 117
و خصّه بعقد الأخوة دون جميعهم (1).
و أمره أن يكون هو الذي يسدد دينه و مواعيده (2).
و لم يدخل المدينة حتي قدم عليه (3).م.
ص: 118
و انتجاه دون غيره يوم الطائف و غيره (1).
و أدخله المسجد حين أخرجهم،كما يأتي مفصلا (2).
و زوجّه ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السّلام (3).
و كان نائبه في كل الأمور المهمة و المصيرية،فلم يكن ليؤدي عنه إلا هو في حياته و بعدها.
*و تبليغ براءة من المشهورات،ورد أبي بكر حتي رجع يبكي مخافة نزول شيء فيه من القرآن أو افتضاحه به (4).ق-
ص: 119
بل ورد رجوع عمر معه من تبليغ البراءة،كما أخرجه الحاكم (1).
*و كان موضع سر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم دون أصحابه:
فعن عائشة:«كان علي...مبثة رسول اللّه و موضع أسراره» (2).
و عن أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام قال:قال أمير المؤمنين:«دخلت علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو في بعض حجراته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت قال لي:يا علي أما علمت أنّ بيتي بيتك فما لك تستأذن عليّ.
فقلت:يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أحببت أن أفعل ذلك.
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:يا علي أحببت ما أحب اللّه و أخذت بآداب الله.
فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:يا علي أما علمت أنك أخي،أما علمت إنه أبي خالقي و رازقي أن يكون لي سرّ دونك،يا علي أنت وصيي من بعدي و أنت المظلوم بعدي» (3).
و عن سلمان:«فو الذي نفسي بيده لا يخبركم أحد بسرّ نبيكم بعده» (4).).
ص: 120
*قال الشيخ الأجل المفيد:(أما الإجماع علي الأفعال الدالة علي وجوب الإمامة و الأقوال:
فإنّ الأمة متفقة علي أن رسول اللّه قدّمه في حياته،و أمّره علي جماعة من وجوه أصحابه،و استخلفه في أهله و استكفاه أمرهم عند خروجه إلي تبوك قبل وفاته،و اختصه لإيداء أسراره،و كتب عهوده، و قيامه مقامه في نبذها إلي أعدائه،و قد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم عليه فعلم اللّه سبحانه أنه لا يصلح له فعزله بالوحي من سمائه.
و لم يزل يصلح به إفساد من كان علي الظاهر من خلصائه و يسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه و قضائه.
و ليس يمكن أحد إدّعاء هذه الأفعال من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لغير أمير المؤمنين عليه السّلام علي اجتماع و لا اختلاف فيقدح بذلك اس ما أصّلناه و بيّناه) (1).
*و قال الشيخ الأعظم الطبرسي:(أما النص الدال علي إمامته بالفعل و القول:فهو أفعال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم المبينة لأمير المؤمنين عليه السّلام من جميع الأمة الدالة علي استحقاق التعظيم و الاجلال و التقديم التي لم تحصل و لا بعضها لأحد سواه،و ذلك مثل إنكاحه ابنته الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السّلام،و مؤآخاته إياه بنفسه،و إنه لم يندبه لأمر مهم و لا بعثه في جيش قط إلي آخر عمره إلا كان هو الوالي عليه المقدّم فيه،و لم يولّ عليه أحدا من أصحابه و أقربيه،و إنه لم ينقم عليه شيئا من أمره مع طول صحبته إياه،و لا أنكر منه فعلا و لا استبطأه و لا استزاده في صغير من الأمور و لا كبير،هذا مع كثرة ما عاتب سواه من أصحابه اما تصريحا و إما تلويحا) (2).
*و قال الديلمي:(إنّ عليا ما زال في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أميرا واليا مستخلفا مطاعا و ولاه المدينة،و استقضاه علي اليمن،و أعطاه الراية و اللواء في جميع الحروب و لم يكن في عسكر غاب النبي عنه إلا كان هو الأمير عليه،و استخلفه حين هاجر من مكة في قضاء ديونه،و رد ودائعه و حمل نسائه و أهله،و بات علي فراشه في بذل نفسه وقاية له،مع أنّ غيره لم يستصلح بشيء من ذلك في حياة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،مع كونه ظهيرا له،و عزل عن تبليغ براءة و لم يستصلح لها و لمّا استخلفته عائشة في الصلاة سأل من المصلي؟فقال له:أبو بكر،فخرج متكئا علي علي و الفضل بن العباس فزحزحه و صلي،و كان أسامة أميرا عليه و علي عمر و لم يكن علي فيه،فليت شعري!كيف يفوض إليه أمر الإمامة مع أنه لم يصلح لتفويض بعض اليسير و يترك من استحصله عليه السّلام لأكثر الأمور و شدائد الوقائع إنّ هذا لشيء عجاب،أعاذنا اللّه و إياكم ممن اتبع الهوي و الإغترار و الأباطيل و المني بمحمد و آله الطاهرين) (3).ه.
ص: 121
و قد سدّ كل أبواب المسجد سوي بابه عليه السّلام كما تواترت الروايات بذلك عن كل من:علي نفسه،و حذيفة بن أسيد،و سعد بن أبي وقاص،و سعد بن مالك،و البراء بن عازب،و ابن عباس، و جابر الأنصاري،و جابر بن سمرة،و نافع مولي ابن عمر،و مسلم الهلالي عن أخيه،و عمرو بن سهل،و عاصم بن عدي،و أبي عمران،و الرضا عن آبائه،و أبي ذر و واثلة معا عن علي،و عائشة، و المطلب بن عبد اللّه بن حنطب،و أبي الحمراء،و حبة العرني،و بريدة الأسلمي،و عامر الشعبي، و ابن مسعود،و ام سلمة،و أنس بن مالك و عبد اللّه بن مسعود و عدي بن ثابت و عبد اللّه بن الرقيم الكناني (1).
ص: 122
أخرج الطبراني و أحمد عن ابن عباس من ضمن احتجاجه علي قوم:...و سدّ رسول اللّه أبواب المسجد غير باب علي فيدخل المسجد جنبا و هو طريقه ليس له طريق غيره (1).
و عن أبي ذر أنّه سمع علي يحتج أول يوم من البيعة لعثمان قال:«هل تعلمون أنّ أحدا كان يدخل المسجد غيري جنبا؟».
ص: 123
قالوا:اللهم لا.
قال:«فأنشدكم اللّه هل تعلمون أن أبواب المسجد سدها و ترك بابي؟».
قالوا:اللهم نعم (1).
و أخرج العقيلي و ابن عساكر و الخوارزمي عن واثلة أنه سمع علي يناشدهم يوم الشوري قائلا:
«أ منكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا غيري؟».
قالوا:[اللهم]لا.
قال:«أفيكم أحد يطهره كتاب اللّه غيري حتي سدّ النبي أبواب المهاجرين و فتح بابي إليه حتي قام إليه عمّاه:حمزة و العباس فقالا:يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سددت أبوابنا و فتحت باب علي؟فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:ما أنا فتحت بابه و لا سددت أبوابكم بل اللّه فتح بابه و سدّ أبوابكم».
قالوا:[اللهم]لا (2).
و أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة قال:«أمر رسول اللّه بسد أبواب المسجد كلها غير باب علي رضي اللّه عنه.
فقال العباس:يا رسول اللّه قدر ما أدخل أنا وحدي و أخرج؟
قال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:ما أمرت بشيء من ذلك،فسدّها كلها غير باب علي و ربما مرّ و هو جنب» (3).
و أخرج أحمد و أبو يعلي عن ابن عمر قال:كنا نقول في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«رسول اللّه خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر،و لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم:زوّجه رسول اللّه ابنته و ولدت له،و سدّ الأبواب إلا بابه في المسجد و أعطاه الراية يوم خيبر»إسناده حسن (4).
*أقول:رواه في المستدرك عن أبي هريرة عن عمر قال:«لقد أعطي علي بن أبي طالب1.
ص: 124
ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من أن أعطي حمر النعم.
قيل:و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟
قال:تزوجه فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و سكناه المسجد مع رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يحل له فيه ما يحل له و الراية يوم خيبر».
هذا حديث صحيح الإسناد (1).
و كذا رواه القندوزي عن أحمد (2).
و الجزري عن الحاكم (3).
و عن عبد اللّه بن مسلم الهلالي عن أبيه عن أخيه قال:«لما أمر بسدّ أبوابهم التي في المسجد خرج حمزة بن عبد المطلب يجر قطيفة له حمراء و عيناه تذر فإن يبكي و يقول:يا رسول اللّه أخرجت عمك و أسكنت ابن عمك.
فقال:ما أنا أخرجتك و لا أسكنته و لكن اللّه أسكنه» (4).
و أخرج البزار عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:أخذ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بيدي فقال:«إنّ موسي سأل ربه ان يطهر مسجده بهارون و إني سألت ربي أن يطهّر مسجدي بك و بذريتك،ثم أرسل إلي أبي بكر سدّ بابك فاسترجع ثم قال:سمع و طاعة فسدّ بابه،ثم أرسل إلي عمر ثم أرسل إلي ابن عباس مثل ذلك.
ثم قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:ما انا سددت أبوابكم و فتحت باب علي و لكن اللّه فتح باب علي و سدّ أبوابكم» (5).
و أخرجه العقيلي بسنده عن أنس بن مالك (6).
روي أيضا عن ابن عباس مع تفاوت بسيط (7).ة.
ص: 125
و في رواية اخري قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«سدّوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب».
فخرج الناس مبادرين،و لكل رجل منهم باب إلي المسجد أبو بكر و عمر و عثمان و غيرهم (1).
و عن جابر بن سمرة:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«سدّوا أبواب المسجد إلا باب علي».
فقال رجل:أترك لي قدر ما أخرج و أدخل؟.
فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لم أومر بذلك».
قال:اترك بقدر ما أخرج صدري يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم؟.
فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لم أؤمر بذلك»،و أنصرف.
قال رجل:فبقدر رأسي يا رسول الله؟.
فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لم أأمر بذلك».
و أنصرف واجدا باكيا حزينا.
فقال رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لم أؤمر بذلك سدّوا أبواب المسجد إلا باب علي» (2).
و قريب منه عن بريدة الأسلمي إلا أنّ فيه:
فقال رجل:دع لي كوة تكون في المسجد فأبي،و ترك باب علي مفتوحا فكان يدخل و يخرج منه و هو جنب (3).
و عن عمرو بن سهل:قال له رجل من أصحابه:يا رسول اللّه دع لي كوة أنظر إليك فيها حين تغدو و حين تروح؟
فقال:«لا و الله و لا مثل ثقب الإبرة» (4).
و عن علي عليه السّلام:«...فقال عمر:فأذن لي في خوخة أنظر إليك منها!
فقال:«قد أبي اللّه ذلك».
فقال:فمقدار ما أضع عليه وجهي؟
قال:«قد أبي اللّه ذلك».2.
ص: 126
فقال:فمقدار ما أضع عليه عيني.
قال:«قد أبي اللّه ذلك،و لو قلت قدر طرف إبرة لم آذن لك،و الذي نفسي بيده ما أنا أخرجتكم و لا أدخلتهم و لكن اللّه أدخلهم و أخرجكم.
ثم قال:لا ينبغي لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر يبيت في هذا المسجد جنبا إلاّ لمحمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و المنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم» (1).
و أخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء و حبة العرني قالا:أمر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أن تسدّ الأبواب التي في المسجد فشقّ عليهم،قال حبة:إني لأنظر إلي حمزة بن عبد المطلب و هو تحت قطيفة حمراء و عيناه تذرفان و هو يقول:أخرجت عمك و أبا بكر و عمر و العباس و أسكنت ابن عمك.
فقال رجل يومئذ:ما يألو برفع ابن عمه.
قال:فعلم رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه قد شقّ عليهم فدعا الصلاة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم خطبة قط كان أبلغ منها تمجيدا و توحيدا،فلما فرغ قال:«يا أيها الناس ما أنا سددتها و لا أنا فتحتها و لا أنا أخرجتكم و أسكنته ثم قرأ: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَويٰ مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَويٰ وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحيٰ (2).
و أخرجه أبو نعيم في فضائل الصحابة عن بريدة مع تفاوت بسيط (3).
و أخرج أحمد و النسائي و أبو يعلي و البزار و الطبراني في الأوسط بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال:أمر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد و ترك باب علي فقالوا:يا رسول اللّه سددت أبوابنا كلها إلا باب علي.
قال:«ما أنا سددت أبوابكم و لكن اللّه سدّها» (4).
و أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر أنه سئل عن علي فقال:«أنظر إلي منزله من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فإنه سدّ أبوابنا في المسجد و أقرّ بابه» (5).
و أخرج البزار عن مصعب بن سعد عن أبيه أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:«سدّوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة علي» (6).6.
ص: 127
*هذه بعض نصوص حديث سد الأبواب و هناك الكثير منها لم أذكرها اقتصرت علي ذكر مصادرها و رواتها كما تقدم.
هذا و قد أخرج السيوطي عشرين حديثا عن جملة من الحفّاظ و من طرق جمعها في رسالة سماها«شد الأثواب في سد الأبواب» (1).
***
أجمع الحفّاظ علي صحة حديث سد الأبواب و ترك باب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام إلا من كان في قلبه بغض له من أجل قتل أجداده في بدر واحد.
و كما علمت مفصلا فقد روي عن أكثر من بضع و عشرين طريقا عن أجلاّء الصحابة أكثرها حسان و بعضها صحاح،و جلّ رواتها ثقاة كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني (2).
*و قد صرّح السيوطي و غيره بتواتره (3).
*و قال في القول المسدد:هو حديث مشهور له طرق متعددة كل طريق منها علي انفراده لا تقصر عن رتبه الحسن و مجموعها مما يقطع بصحته.
و قال:فهذه الطرق المتظاهرة من روايات الثقاة تدل علي أن الحديث صحيح دلالة قوية (4).
و قال:هذه الأحاديث تقوّي بعضها بعضا و كل طريق منها صالحة للإحتجاج فضلا عن مجموعها...و قد أخطأ[ابن الجوزي]في ذلك خطأ شنيعا فإنه سلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة مع أن الجمع بين القصتين ممكن (5).
و قال في أجوبته علي المصابيح:و قد ورد من طرق كثيرة صحيحة أنّ النبي لما أمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب علي،فشقّ علي بعض الصحابة،فأجابهم بعذره في ذلك (6).
ص: 128
*و قال الجويني:و حديث سدّ الأبواب رواه نحو من ثلاثين رجلا من الصحابة (1).
*و قال سبط ابن الجوزي:حديث سدّ الأبواب إلا باب علي أخرجه أحمد و الترمذي و رجاله ثقاة و يؤيده قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك»،كما في رواية أبو سعيد الموثّقة (2).
-و علي سبيل المثال:رواية زيد بن أرقم (3)رجالها رجال الصحيح إلا أبي عبد اللّه ميمون و قد وثقه غير واحد و صحّح له الترمذي حديثا غير هذا (4)،و أخرجه الحاكم و صحّحه (5).
و كذا رواية ابن عمر (6)رجالها رجال الصحيح كما رواها الهيثمي عن أحمد و أبو يعلي و السمهودي في الوفاء (7).
و رواه أحمد و رجاله ثقاة و ليس فيه هشام بن سعد (8).
و الرواية الثانية لابن عمر رجالها رجال الصحيح إلا العلاء و هو ثقة وثّقه ابن معين و غيره (9).
و تقدم رواية لابن عمر صححها النسائي و أحمد بإسناد حسن (10).
و رواية عمر صححها الحاكم كما تقدم.
و رواية زيد و ابن عباس (11)صححهما الحاكم و أقرهما الذهبي (12).9.
ص: 129
و رواية ابن عباس الأخري حسّنها الكنجي و قال ابن حجر و الهيثمي رجاله ثقاة (1)و رواية سعد ابن مالك رواها أحمد بإسناد حسن (2).
و رواية سعد الأخري رواها أحمد و النسائي بإسناد قوي (3).
و روايته الثالثة عند الطبراني رجالها ثقاة (4).
و رواية زيد بن أرقم أخرجها أحمد و الحاكم و النسائي و رجالها ثقاة (5).
و رواية ابن عباس أخرجها أحمد و النسائي و رجالهما ثقاة (6).
*أقول:إضافة إلي ما تقدّم من نصوص و ما تقدم مفصلا في المصادر فقد تلقّي الحفّاظ هذا الحديث بالقبول و رووه من طرق متعددة و إليك نموذج من ذلك:
أخرجه أحمد في مسنده عن سعد ابن مالك و ابن عمر و زيد،و النسائي عن زيد و سعد ابن أبي وقاص و ابن عباس و ابن عمر بسند صحيح،و أبو نعيم عن ابن عباس و بريدة الأسلمي و ابن مسعود و علي و سعد،و الخطيب عن جابر،و الحاكم عن زيد،و ضياء الدين في الأحاديث المختارة عن زيد،و الترمذي عن ابن عباس،و الكلاباذي في المعاني عن ابن عباس و ابن عمر،و الطبراني عن ابن عباس و سعد و جابر بن سمرة،و البخاري في التاريخ عن ابن سمرة،و العقيلي عن أنس،و البزار عن علي (7).
***ش.
ص: 130
و مما يؤيد صحة هذا التواتر إحتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام فيه إنّ في حياة أبي بكر أو في الشوري،و كذا احتجاجات ابن عباس و بعض الصحابة به (1).
-قال عليه السّلام في منزله لأبي بكر:«فأنشدك اللّه أنت الذي أمرك رسول اللّه بفتح بابه في مسجده عند ما أمر بسدّ أبواب جميع أهل بيته و أصحابه و أحلّ لك فيه ما أحلّ اللّه له أم أنا؟».
قال:بل أنت (2).
و تقدم في مطلع النصوص احتجاج علي عليه السّلام به يوم الشوري،و أول يوم بويع فيه،و يأتي احتجاج ابن عمر به.
و قال يوم الشوري:«أفيكم أحد يطهره كتاب اللّه غيري حين سدّ رسول اللّه أبواب المهاجرين جميعا و فتح بابي».
فقالوا:لا (3).
أخرجه سليم بن قيس من مناشدة الإمام الحسين للصحابة و التابعين في مكة المكرة قبل خروجه إلي كربلاء قال:
«أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم اشتري موضع مسجده و منازله فابتناه ثم ابتني عشرة منازل تسعة له و جعل عاشرها في وسطها لأبي،ثم سدّ كل باب شارع إلي المسجد غير بابه،
ص: 131
فتكلم في ذلك من تكلم فقال:ما أنا سددت أبوابكم و فتحت بابه و لكن اللّه أمرني» (1).
-و أخرج ابن أبي شيبة و الحاكم و ابن عساكر عن عمر بن الخطاب قال:لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من أن أعطي حمر النعم.
قيل:و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟قال:تزوجه فاطمة بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،و سكناه المسجد مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يحل له فيه ما يحل له،[سدّ الأبواب الاّ بابه]و الراية[الحربة]يوم خيبر-هذا حديث صحيح الإسناد (2).
و كذا رواه القندوزي عن أحمد (3)و الجزري عن الحاكم (4).
قال:«كنا نقول في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:رسول اللّه خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر،و لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم:زوّجه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ابنته و ولدت له،و سدّ الأبواب إلاّ بابه في المسجد،و إعطائه الراية يوم خيبر» (5).
فعند عمر و ابنه كما أنّ علي زوج فاطمة الزهراء دون غيره،فكذلك فتح بابه في المسجد له دون غيره.
*احتجاج سعد:أخرجه الشاشي قال سعد لمروان لما سب عليا:أخبرك بأربع سبق لعلي من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا ينبغي أحد منا ينتحلهن،دخل علينا رسول اللّه المسجد و نحن رقود فينا أبو بكر و عمر فجعل يوقظنا رجلا رجلا و يقول:«لا ترقدوا في المسجد أرقدوا في بيوتكم»حتي انتهي إلي علي فقال:«يا علي أمّا أنت فنم فإنه يحل لك فيه ما يحل ليّ» (6).
و احتج علي معاوية به لترك القتال معه (7).
ص: 132
و احتج به أيضا علي الحارث بن مالك (1).
و ذلك يوم السقيفة حيث قال:يا أيها الناس...ألا إنّ عليا عنده علم المنايا و علم الوصايا و فصل الخطاب علي منهاج هارون بن عمران؛إذ يقول محمد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا علي أنت وليي و وصيي و خليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسي» (2).
*و لأم سلمة احتجاج في الحديث علي أبي بكر (3).
***
و نحن إنما جئنا بحديث سدّ الأبواب لإثبات نص الأفعال الصادرة من رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم تجاه أمير المؤمنين عليه السّلام وحده.
و لكن القوم و من باب الجني علي أنفسهم،أفادوا أنّ حديث سدّ الأبواب يدل علي الخلافة:
قال ابن حبان معللا:إذا المصطفي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حسم عن الناس كلهم أطماعهم في أن يكونوا خلفاء بعده غير أبي بكر بقوله:«سدوا عني كل خوخة في المسجد» (4).
قال الخطابي و ابن بطال:في هذا الحديث إشارة قوية إلي استحقاق أبي بكر للخلافة و لا سيما و قد ثبت أنّ ذلك كان في آخر حياة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (5).
و قال المقريزي:فكان أمر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بإبقاء خوخة أبي بكر في المسجد مع منع الناس كلهم من ذلك؛إشارة و دليل علي خلافته بعد رسول اللّه و إنّ ذلك من رسول اللّه تنبيها للناس بأن أبا بكر يصير إمام المسلمين و يخرج من بيته إلي المسجد كما كان رسول اللّه يخرج،ذكره ابن بطال (6).
و قال الحافظ بن رجب الحنبلي:«سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلاّ باب أبي بكر» و في هذا إشارة إلي أنّ أبا بكر هو الإمام بعده،فإن الإمام يحتاج إلي سكني المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره (7).
ص: 133
و قال الحافظ ابن حجر:و قد ادعي بعضهم أنّ الباب كناية عن الخلافة (1)و الأمر بالسد كناية عن طلبها،كأنه قال:لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها و إلي هذا جنح ابن حبان (2).
و قال:و في ذلك إشارة إلي استخلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلي المسجد كثيرا دون غيره (3).
ثم إنّ القوم يشيرون بذلك إلي أحاديث سد الأبواب النازلة في أبي بكر و هي مروية في فضائل أبي بكر في جل كتبهم.
و لذا حاولوا الجمع بين هذه الأحاديث لصحتها جميعا عندهم.
-قال الحافظ ابن حجر:و محصل الجمع أنّ الأمر بسد الأبواب وقع مرتين،ففي الأولي استثني عليا لما ذكره من كون بابه كان إلي المسجد و لم يكن له غيره،و في الأخري استثني أبا بكر.
و لكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي علي الباب الحقيقي و ما في قصة أبي بكر علي الباب المجازي،و المراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه،و كانهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها و أحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلي المسجد منها فأمروا بعد ذلك بسدها.
-و بها جمع بينهما الطحاوي في مشكل الآثار و الكلاباذي في معاني الأخبار (4).
-و قال العيني في العمدة:إن حديث سد الأبواب كان آخر حياة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في الوقت الذي أمرهم أن لا يؤمهم إلا أبو بكر (5).
***
فنحن أوردناه لتأييد نص الأفعال و هو حاصل علي كل الآراء و الأقوال.
و أمّا علي رأي ابن حجر و العسقلاني و الطحاوي و الكلاباذي و من وافق قولهم كالسمهودي و غيره القائلين بصحة حديث الأبواب في علي علي الحقيقة و في أبي بكر علي المجاز،فهم عندهم
ص: 134
الحديث يدل علي خلافة علي عليه السّلام بالحقيقة و علي خلافة أبي بكر بالمجاز!.
ذلك أن الخطابي و ابن بطال و ابن حبان و المقريزي و غيرهم أفادوا دلالة الحديث علي الخلافة و دعواها.و هذا جمع بين القولين.
-و أما جمع الحافظ ابن حجر و الطحاوي و القاضي المالكي و الكلاباذي و من قال بقولهم (1)فيردّه أمور:
*الأمر الأول:أنّ النبي في باديء الأمر لم يأمر فقط بسد الأبواب بل أمر بسد كل ثقب في المسجد من باب و خوخة أو ما ينظر منه أو كوة،بل و مثل ثقب الإبرة كما تقدم في رواية عمرو بن سهل و جابر بن سمرة و بريدة و علي.
فالروايات مصرحة بهذا المنع فلا معني للإستثناء،إلا علي القول بمعصية أجلاّء الصحابة في أمره،مع قوله في بعض طرقه:«سدوا قبل أن ينزل العذاب».
خاصة أنّ القول بتكرار القصة دعوي لا دليل عليها في الروايات سوي تأييد قول البكرية في وضعهم لحديث سد الأبواب إلا باب أبي بكر.
*الأمر الثاني:إنّ هذا الجمع إن أريد منه أنّ الرسول سد الأبواب إلا باب علي،ثم سدّ الخوخات إلا خوخة أبي بكر فإنه ينافي الكثير من الروايات المصرحة-و التي منها رواية البخاري في الصحيح-بأن الرسول استثني باب أبي بكر لا خوخته،التي رويت عن أبي سعيد و أيوب بن بشير و معاوية و أنس و عائشة و يحيي بن سعد و حكيم بن عمير و أبي الحويرث.
و في المقابل الروايات المعبّرة بالخوخة ليست إلاّ رواية ابن عمر و ابن عباس (2).
هذا بناء علي أنّ المراد من الخوخة الكوة لا الباب كما فهمه القاضي المالكي في أحكامه و الكلاباذي في معانيه و الطحاوي في المشكل.
*و قال السيوطي:قد ثبت بالأحاديث السابقة و قرّر العلماء أنّ أبا بكر لم يؤذن له في فتح الباب،بل أمر بسد بابه،و إنما اذن له في خوخة صغيرة و هي المراد من حديث البخاري (3).
علي أنه في ذلك الأزمان لم يكن متعارف سوي الأبواب و النوافذ و لا ثالث.
و يشهد له ما تقدم في الاحاديث من طمع الصحابة ببقاء كوة أو مقدار الإبرة و ما شابهه،و لا قائل منهم ببقاء الخوخة إما لعدم الفرق بينها و بين الباب،و إما لعدم وجودها أصلا،فسد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّمب.
ص: 135
الأبواب و النوافذ و الكوة و ما شابه ذلك جميعا،فكيف يصح بعدها أمرهم بسد الخوخات أو النوافذ،و هل هو إلاّ تحصيل للحاصل!!
هذا مع أنه منافي لما روي أنّ الرسول سد كل الخوخات الاّ خوخة علي (1).
*و إن أريد منه أنّ الخوخة شبيه الباب أو نفسه-كما هو نص أكثر الروايات كما تقدم-،فهذا ما منع منه رسول اللّه أولا،و هو المرور و الدخول من الدور إلي المسجد و الروايات مصرحة بذلك.
فلا معني للإستثناء مرة أخري لأبي بكر مع عدم وجود المستثني منه؛إذ المفروض أن الصحابة جميعا التزموا بالأمر و سدّوا الأبواب و الذي منهم أبو بكر كما تقدم التصريح به،فلا معني للحديث مع الاستثناء،نعم لو وضع البكرية الحديث بنحو:«يا أبا بكر إفتح بابك المغلق دون الصحابة» لكان له وجه،لعدم تنافيه مع أحاديث سد الأبواب من الأول،إذ يقال أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في أخر عمره فتح باب أبي بكر الذي كان مسدودا،و لكن يد التزوير كانت ناقصة!!.
نعم يبتلي بأنه يعارض بقاء باب علي مفتوحا مع أنّ المتفق عليه بقاء بابه مفتوحا بعد وفاة النبي،إذ النبي لم يستثني من الصحابة-في أحاديث فتح باب أبي بكر-باب علي.
بل أصل أحاديث الباب في أبي بكر لا تصح لأنها لم تستثني باب علي المفتوح.
علي أنّ الهدف من السد هو إلغاء المرور لمن ليس أهلا له لا مجرد اغلاق الأبواب.
نقل المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع:«سدّوا هذه الأبواب الشوارع إلي المسجد إلاّ باب..،فقال عمر دعني يا رسول اللّه أفتح كوة انظر إليك تخرج إلي الصلاة!.
فقال:لا (2).
فلاحظ أولا:أنّ المأمور به سدّ نفس الأبواب لا الكوّة.
و ثانيا:من هذا الحديث يعلم أنّ الرسول لم يأمرهم بسد شيء قبل ذلك لأنّ عمر كان بابه مفتوح،و كذلك بقية الصحابة.
و هذا دليل علي عدم إمكان الجمع،ثم علي بطلان أحاديث السد في حق الخليفة الأول،و أنه من وضع البكرية كما قال ابن أبي الحديد،أو بخصوصيته لعلي كما قال الجصّاص.
*الأمر الثالث:إنّ علة سد الأبواب-و التي صرّح الرسول في كثير من طرقها بأن اللّه هو الذي سدّ أبوابكم و فتح باب علي أو أخرجكم و أدخله-هي طهارة علي و أهل بيته و نجاسة غيره،ب.
ص: 136
كما صرّحت بذلك رواية أمير المؤمنين عليه السّلام المتقدمة و احتجاجه يوم الشوري،و رواية ابن زبالة عن رجل من أصحاب الرسول صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،و كذلك رواية أنس و ابن عباس و الهلالي التي نصّ بها النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أنه دعا اللّه أن يطهر مسجده بعلي و بذريته من بعده كما فعل موسي عليه السّلام،و يأتي أنّ البزار أخرجه عن علي عليه السّلام (1).
-و يؤيده بل هو نصّ فيه،ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس و البزار عن محمد بن علي الباقر بسند جيد من التعبير بالخروج من المسجد لا بعنوان سد الأبواب (2).
و عليه فلا معني لاستثناء باب أو خوخة أبي بكر،لأن أبا بكر كعمر و عثمان و العباس و حمزة من هذه الناحية،أعني ناحية عدم الطهارة،إلاّ أن يقال أنّ أبا بكر طهر في آخر حياته!و لو كان لا بدّ من الاستثناء لاستثني خوخة لعميه.
و يؤيده ما روي عن ابن عباس و غيره كما تقدم أنّ علي كان يمر بالمسجد و هو جنب.
و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«سألت ربي أن يطهّر مسجدي بك و بذريتك».أخرجه البزار (3).
بل هناك كثير من الروايات صرحت بأنه لا يحل لغير النبي و علي عليهما السّلام الجماع و عرك النساء في المسجد،كما أخرجها ابن مردويه،و الترمذي و حسّنه،و النووي و قال:حسّنه الترمذي لشواهد، و البيهقي في السنن،و ابن منيع في مسنده عن جابر،و ابن أبي شيبة في مسنده عن أم سلمة،و أبي يعلي في مسنده و القاضي اسماعيل في أحكام القرآن عن ابن حنطب،و أبي يعلي في المسند عن أبي سعيد،و ابن عساكر في التاريخ من طرق (4).
منها:ما أخرجه ابن عساكر و ابن أبي شيبة في مسنده عن أم سلمة قالت:خرج النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من بيته حتي انتهي إلي صرح المسجد فنادي بأعلي صوته:«إنه لا يحل المسجد لجنب و لا لحائض إلا لمحمد و أزواجه و علي و فاطمة بنت محمد ألا هل بيّنت لكم الأسماء أن تضلوا» (5).ة.
ص: 137
و أخرجه البيهقي بلفظ:«ألا لا يحل المسجد لجنب و حائض إلاّ لرسول اللّه و علي و فاطمة و الحسن و الحسين» (1).
و أخرج ابن راهويه في مسنده و البيهقي في السنن عن عائشة:«وجّهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض و جنب إلاّ لمحمد و آل محمد» (2).
و أخرج البزار عن علي قال:أخذ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بيدي فقال:«إنّ موسي سأل ربه أن يطهّر [يظهر]مسجدي بهارون و إني سألت ربي أن يطهر مسجدي بك و بذريتك».
ثم أرسل إلي أبي بكر أن سدّ بابك،فاسترجع!.
ثم قال سمع و طاعة،ثم أرسل إلي عمر...» (3).
و استشهد ابن عباس و علي كما تقدم بحديث سد الأبواب لحليّة دخول المسجد لعلي و لطهارته كما طهر هارون.
و كذا الرواية عن ابن عمر و علي و أبي رافع المصرحة بذلك (4).
و تقدم كلام سبط ابن الجوزي في تاييد حديث سد الأبواب برواية حرمة دخول المسجد لغير علي،و كذا فعل الحافظ ابن حجر في القول المسدد (5).
*و أما ما تقدم أن علة فتح باب أبي بكر هي احتياجه كخليفة إلي الدخول و الخروج للمسجد؛ فمردودة بما تقدم من أنّ العلة الطهارة.
علي أنه كان لا بدّ من فتح باب لعمر و عثمان لخلافتهما و لو عند توسعة المسجد،و التي مدتها أطول من خلافة الأول فالحاجة أكثر.
بل حتي في خلافته كان دخول عمر للمسجد أكثر،و قد تقدم قول البعض لأبي بكر:«أنت الخليفة أم هو؟!.ثة
ص: 138
فقال أبو بكر:بل هو و لو شاء كان».
قال البوصيري بعد الحديث:رجاله ثقات (1).
هذا مضافا إلي أنّ العلماء صرّحوا أنّ المعيار في فتح باب أبي بكر هو إجازة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم،قال السيوطي:لو بقيت دار أبي بكر و اتفق هدمها و إعادتها أعيدت بتلك الخوخة كما كانت بلا مرية،فلا تجوز الزيادة فيها بالتوسعة و لا جعلها في موضع آخر من المسجد؛اقتصارا علي ما ورد الإذن من الشارع الواقف فيه (2).
*الأمر الرابع:ما ورد من بعض الطرق المتقدّمة أنّ النبي سد كل خوخة إلاّ خوخة علي عليه السّلام و هو لا يدع للجمع مجال.
و في بعضها مصرّح بأنّ النبي أمر بسد باب أبي بكر بالاسم لا خوخته،كما تقدم في رواية أمير المؤمنين و كذا رواية ابن زبالة (3).
*الأمر الخامس:ما تقدم في احتجاج علي و بعض الصحابة بالحديث و إنه لم يفتح غير بابه مع سد كل الأبواب،و لم يعترض أحد عليه و أن أبا بكر كان له بابا كما كان لك.
و التي منها علي نفس أبي بكر،فلو صحت أحاديث أبي بكر لقال له:فتح النبي بابي كما فتح بابك؟!
*الأمر السادس:أنه علي رأي ابن حبان و الخطابي و ابن بطال القائلين بدلالة الحديث علي الخلافة يستحيل الجمع إلاّ علي القول بتعدد الخليفة!.
*الأمر السابع:إنّ بعض الروايات التي تقول أن العباس أو حمزة اعترضا علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك نحو ما روي عن الهلالي:«يا رسول اللّه أخرجت عمك و أسكنت ابن عمك» (4)،فكان الأولي من العباس الإعتراض علي ترك باب أبي بكر لا الإعتراض علي باب علي المطهّر بآية التطهير و الذي بيته في المسجد.
و إن كان بعد استشهاد حمزة لاعترض العباس.
و من ذلك يعلم بطلان أصل حديث سد الأبواب إلاّ باب أبو بكر كما صرح بذلك ابن أبي2.
ص: 139
الحديد قال:إنّ سد الأبواب كان لعلي فقلّبته البكرية إلي أبي بكر (1).
*الأمر الثامن:قال الجصّاص:فأخبر في هذا الحديث بحظر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم الاجتياز كما حظر عليهم القعود،و ما ذكر من خصوصية علي رضي اللّه عنه صحيح...و إنما كانت الخصوصية فيه لعلي دون غيره...فثبت بذلك أنّ سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين و غير مجتازين (2).
*الأمر التاسع:أنه من المسلم به وجود عمر و أبي بكر في جيش أسامة و ذلك قبيل وفاة النبي الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هذا بنفسه خير دليل علي:
1-بطلان أصل حديث سد الأبواب في أبي بكر لأنه لم يكن حاضرا عند وفاة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:أما قبل الوفاة بأيام فالمفروض أنه في جيش أسامة و النبي لعن من تخلّف عنه.
و أما قبيل الوفاة فتقدم أنه كان في منزله بالسنخ.
2-و لو سلّم فلا يدل علي الخلافة لأن النبي الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كان يعلم بوفاته-كما تقدم في الكتاب الثاني مفصلا-فكيف يعقل إبعاده عن الخلافة،ثم سد بابه الدال علي الخلافة!؟.
***
*ليس من الغريب تحريف حديث سد الأواب بل هذه من عادة المنافقين إذا لم يستطيعوا ردّ فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام أوجد مثلها في غيره،أخرج أحمد في المناقب و ابن راهويه في المسند و عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال:سألت الزهري من كان كاتب الكتاب يوم الحديبية؟ فضحك و قال:علي،و لو سألت هؤلاء قالوا عثمان.يعني بني أمية (3).
-و كما تقدم في حديث المنزلة المتواتر في علي من طرقهم فضلا عن طرقنا،و كيف رووا أنّه في أبي بكر و عمر (4).
-و كذلك حديث المباهلة قالوا إنّ النبي جمع أبو بكر و عمر و أهل بيته (5).
ص: 140
-و كذلك حديث مدينة العلم المستفيض في علي عليه السّلام،فرووا عن اسماعيل بن علي بن المثني الاسترآبادي:أنا مدينة العلم و أبو بكر أساسها و عمر حيطانها و عثمان سقفها و علي بابها.
فسألوه أن يخرج لهم إسناده فوعدهم به و في هذا الرجل يقول ابن السمعاني في الأنساب كان يقول له:كذاب ابن كذاب،و يقول النخبثي:كان يقص و يكذب (1).
و قال ابن حجر في الفتاوي:حديث:أنا مدينة العلم و علي بابها رواه جماعة و صححه الحاكم و حسّنه الحافظان العلائي و ابن حجر (2).
و قال في الحديث الأول:أنا مدينة العلم و أبو بكر أساسها و رواه صاحب مسند الفردوس و تبعه ابنه بلا اسناد عن ابن مسعود مرفوعا،و هو حديث ضعيف كحديث أنا مدينة العلم و علي بابها و معاوية حلقها (3).
-و كحديث خلق علي و محمد من طينة واحدة (4)فرووه في أبي بكر و عمر (5).
-و كتحريف آية: وَ صٰالِحُ الْمُؤْمِنِينَ (6)حتي رووا أنه أبو بكر و عمر معا و في رواية في عمر خاصة (7).
-و حديث معاذ إنّ اللّه ليكره في السماء أن يخطأ علي في الأرض-أخرجه الديلمي في الفردوس (8)،فروي في حق أبي بكر و قال ابن الجوزي موضوع (9).ة.
ص: 141
-و كحديث إن أحب الخلق إلي الرسول علي و فاطمة المتقدم من طرق،فرووا عن عمرو بن العاص قال:يا رسول اللّه أي الناس أحب إليك؟
قال:عائشة،قال:من الرجال؟قال:أبو بكر (1).
و هذا بعينه تقدم من طرق في علي و فاطمة فتأمّل السرقات المفضوحة!؟!
-و حديث:أول من تنشق عنه الأرض المروي في علي (2)،فرووه في أبي بكر و عمر (3)- و حديث كفة الميزان المشهور يوم الخندق في علي،رووه عن أبي بكر و عمر (4).
-حتي حديث:الحق مع علي و علي مع الحق،رووه في حق عمر:«الحق بعدي مع عمر حيث كان» (5).
-و حديث العلم عشرة أجزاء لعلي تسعه،رووه في عمر قال ابن مسعود:أني لأحسب عمر قد رفع معه يوم مات تسعة أعشار العلم (6).
-و حديث كون علي و فاطمة في درجة الرسول يوم القيامة (7)،فرووه في أبي بكر (8).ث.
ص: 142
-و من ذلك ما روي عن عبد اللّه بن داود الواسطي عن عبد الرحمن عن جابر عن أبي بكر في حق عمر قال له:يا خير الناس بعد رسول الله.
فقال أبو بكر:اما إنك إن قلت ذاك،فلقد سمعت رسول اللّه يقول ما طلعت الشمس علي رجل خير من عمر (1).
فتقدم ما تواتر من الروايات في كون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير الناس و البشر و من أبي فقد كفر.
علي أن عبد اللّه ضعفوه و عبد الرحمن تكلموا فيه و كما قال الذهبي:الحديث شبه موضوع (2).
-و كحديث أنّ علي أول من يدخل الجنة (3)،فجعلوه في أبي بكر (4).
-و حديث الدواة و الكتف عند وفاة الرسول فرووه في أبي بكر:آتوني بدواة و كتف لأكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه من بعدي (5).
و لو صح هذا فلما ذا اعترض عمر و وصف النبي بالهجر؟!إلاّ أن نقول أن عمر كان يرغب فيها لنفسه (6).
-و كحديث وضوء علي من قدح الذهب و المنديل الذي جاء به جبرائيل (7)،فرووه في أبي بكر (8).
-و كحديث شهرة علي في السماء أكثر من الأرض (9)،رووه في أبي بكر (10).ظ.
ص: 143
-و كحديث نصب الكرسي علي العرش لعلي بين إبراهيم و محمد (1)فرووه في أبي بكر (2).
-و كحديث وجود اسم علي مع اسم محمد في السماء (3)،فرووه في أبي بكر و عمر بل و في عثمان (4).
-و كحديث رجحان إيمان علي علي الناس فرووه في أبي بكر (5).
-و كحديث التفاحة التي خرجت منها الجارية لعلي (6)،فرووه في عثمان (7).
-و كحديث أنت وليي في الدنيا و الآخرة (8)رووه في عثمان (9).
-و كحديث سؤال اللّه للنبي عن من خلّفه لأمته فقال:تركت عليا (10)،فرووه في أبي بكر (11).
-و حديث عدم معاتبة اللّه لعلي في شيء و معاتبة بقية الاصحاب (12)،فرووه في أبي بكر (13).
-و حديث قتل علي لمرحب أخرجه مسلم و الحاكم و قال:الاخبار متواترة علي أن قاتلي.
ص: 144
مرحب علي (1)،فرووه في محمد بن سلمة (2).
-و آية: وَ الَّذِي جٰاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ في علي (3)،قالوا أنه أبو بكر (4)،روي عن موسي ابن عمير و هو واه كما قال الذهبي (5).
-و كحديث الحديقة أو القصر التي رآها النبي في الجنّة لعلي (6)رووها في عمر (7).
-و حديث أنّ أهل البيت في قبة من ياقوتة تحت العرش (8)،فرووه في أبي بكر من طريق الذراع الكذاب الدجال كما يقول الدارقطني،و قال ابن الجوزي و الخطيب:الحديث باطل-موضوع لا أصل له (9).
-و كحديث معرفة الإمام علي لصوت الخضر عليه السّلام عند ما جاء يعزي أهل البيت عليهم السّلام بموت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (10)،فرووه في أبي بكر.
-و حديث المودة المستفيض في حق علي و فاطمة و الحسنين،رووه في حق أبي بكر (11).6.
ص: 145
و حديث أهل بيتي أمان لأمتي،أخرج الحاكم عن المكندر عن أبيه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ضمن حديثه عن الصلاة قال:..ثم رفع رأسه إلي السماء فقال:«النجوم أمان لاهل السماء فإن طمست النجوم أتي السماء ما يوعدون،و أنا أمان لاصحابي فإذا قبضت أتي أصحابي ما يوعدون،و أهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي أتي أمتي ما يوعدون» (1).
فرووه مع قصة الصلاة و رفع رأس النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إلي السماء بلفظ:(و أصحابي أمنة لأمتي..) (2).
-و من ذلك سرقة رثاء فاطمة للنبي المشهور:«ما ذا علي من شم تربة أحمد»حيث نسبوه لعائشة (3).
-و من ذلك سرقة زهد أمير المؤمنين عليه السّلام و زيارته للقبور حيث روي المفسر المشهور الثعلبي و ابن حبان دخول علي المقابر و قوله:«السلام عليكم يا أهل القبور أموالكم قسّمت.....فهتف هاتف:و عليكم السلام....» (4).فرواه بعضهم نفسه عن عمر و ذكر مقولته (5).
***
النص الجلّي
و هي النصوص الصادرة عن رسول اللّه الصريحة في إمامة و خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام و قدمنا بعضها في مطلع البحث و إليك بقيتها:
منها ما روي متواترا عن عمران بن حصين و ابن عباس و ابن أبي ليلي و ام سلمة و علي و غيرهم عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:«إنّ عليا مني و أنا منه و هو ولي كل مؤمن[و مؤمنة-المؤمنين]بعدي» (6).
ص: 146
و عن ابن عباس و بريدة و وهب بن حمزة و جابر و ابن حصين و البراء قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:
«علي وليكم بعدي» (1).
و منها عن علي بن موسي الرضا عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم قال:«من كنت وليه فعلي وليه و من كنت إمامه فعلي إمامه» (2).
و عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في حديث قدسي:«يا محمد إني قد جعلت عليا إمام المسلمين فمن تقدم عليه أخزيته» (3).
و قريب منه عن الحسين بن علي عليه السّلام (4).
و عن ابن عباس أيضا:«علي إمام أمتي و أميرها و إنه لوصيي و خليفتي» (5).
و عن جابر و ابن عباس و علي بن الحسين عليه السّلام:«أنت الإمام لأمتي[و خليفتي عليها من بعدي]» (6).
و في لفظ:«إمام الأمة و قائدها علي» (7).
و عن الحسين بن علي عليه السّلام:«أشهدكم إنه إمام خلقي و مولي بريتي» (8).2.
ص: 147
و عن ابن عباس في حديث طويل:«أما علي فإنه أخي و شقيقي و صاحب الأمر بعدي و صاحب لوائي في الدنيا و الآخرة و صاحب حوضي و شفاعتي و هو مولي كل مسلم و إمام كل مؤمن و قائد كل تقي،و هو وصييّ و خليفتي علي أهلي و امتي في حياتي و بعد موتي» (1).
و من ذلك ما روي عن علي عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«يا علي أنت الحجة بعدي علي الخلق اجمعين» (2).
و نحوه عن ابن عباس و الحسين السبط عليه السّلام (3).
و عن أنس في حديث صححه سبط ابن الجوزي:«إنّ وصيي و وارثي و منجز و عدي علي بن أبي طالب» (4).
و عن أبي أيوب و سلمان في حديث طويل عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«ثم نظر نظرة فاختار عليا أخي و وزيري و وارثي و وصيي و خليفتي في أمتي و ولي كل مؤمن بعدي من والاه والاه اللّه و من عاداه عاداه الله» (5).
و قريب منه عن الأعمش (6).
و عن فاطمة الزهراء عليها السّلام قالت:سمعت رسول اللّه يقول لعلي:«يا علي أنت الإمام و الخليفة بعدي و أنت أولي بالمؤمنين من أنفسهم» (7).
و عن ابن عباس و أنس في حديث النجم قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصي من بعدي،فقام فتية من بني هاشم فنظروا فإذا النجم قد انقضّ في منزل علي بن أبي طالب».
فقالوا يا رسول اللّه قد غويت في حب علي،فأنزل الله: وَ النَّجْمِ إِذٰا هَويٰ مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَويٰ وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحيٰ... أخرجه الجوزقاني و ابن عساكر و ابن المغازلي (8).1-
ص: 148
و روي حديث النجم عن محمد بن علي الباقر عليه السّلام بتفصيل آخر (1).
و عن ابن عمر و سعيد بن المسيب و سلمان و علي و أنس جميعا عن رسول اللّه قال:«ألا يرضيك يا علي أنك أخي و وزيري» (2).
و قريب منه عن أسماء و حذيفة و ابن عباس (3).
و تواتر عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«علي وصيي-وصيي في أمتي»أو ما يقرب من هذه الألفاظ (4).
و عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«لما أسري بي إلي السماء إلي سدرة المنتهي وقفت بين يدي اللّه عز و جل فقال:يا محمد.
فقلت:لبيك و سعديك.ن.
ص: 149
قال:قد بلوت خلقي فأيهم رأيت أطوع لك؟
قلت:«رب عليا».
قال:صدقت يا محمد فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدّي عنك و يعلّم عبادي من كتابي ما لا يعلمون؟
قلت:رب اختر لي إن خيرتك خيرتي.
قال[عز من قائل]:«قد اخترت لك عليا فاتخذه لنفسك خليفة و وصيا و نحلته علمي و حلمي و هو أمير المؤمنين حقا لم يبلغها أحد قبله و ليس لأحد بعده» (1).
و تقدم من طرق عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«أوحي إليّ في علي ثلاثة أشياء ليلة أسري بي:إنه سيد المؤمنين و إمام[ولي]المتقين و قائد الغر المحجلين[و يعسوب الدين]»خرّجه المحاملي و الجوزقاني و أبو نعيم (2).
و أخرج البزار و ابن قانع في معجمه و البارودي في المعرفة و الحاكم عن أسعد بن زرارة و الديلمي عن علي:«يا علي إنك لسيد المسلمين[و يعسوب المؤمنين]و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين» (3).
***
و بعد هذه الطرق التسعة المختلفة و المتعددة يقطع الإنسان أنّ خليفة و وصي رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
و إذا كانت هذه الأقوال لا تثبت إمامة و ولاية الأمير عليه السّلام فأية كلمات يراد لها بعد ذلك أن تثبت معني ما.
ص: 150
إذا كان قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم (1):«من كنت مولاه فعلي مولاه»و«يا أيها الناس إني قد تركت فيكم الثقلين،خليفتين»و«أنت يا علي...أخي و خليفتي و وصي»و«أنت بمنزلة هارون من موسي» و«علي وصيي»و«علي خليفتي»و«علي خليفة من بعدي»و«علي الإمام من بعدي»و«يا جابر:لأنهم عترتي و لحمي و دمي فأخي سيد الأوصياء..»و«أقضي أمتي علي بن أبي طالب»«أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب».
و قوله:«لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة فإن لم تكن نبيا فإنك وصي نبي و وارثه» (2).
هذا مقال رسول اللّه جاء به أهل الرواية في العالي من الخبر (3)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (4) .
وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَويٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحيٰ (5) .
و لكن:و كما تنبأت أم سلمة و فاطمة عليها السّلام:
«و الله ما أنصف أمة محمد نبيهم إذ قدّموا ما أخّره اللّه عز و جل و أخّروا ما قدمه اللّه تعالي و رسوله» (6).
و قالت عليها السّلام:«و بأي عروة تمسّكوا استبدلوا و الله الذنابي بالقوادم و العجز بالكاهل» (7).
و كما تنبّأ رسول البشرية محمد بن عبد اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:«إنّ الأمة ستغدر بك من بعدي»رواه أنس و علي و ابن عباس و أبي عثمان الهندي و غيرهم (8).
«ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتي يفقدوني[إلا بعد موتي-حتي أفارق الدنيا- بعدي]»أخرجه الطبراني و البزار و أبو يعلي و ابن عساكر و الحاكم (9).
*أخرج الديلمي في الفردوس عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم:د-
ص: 151
«يا علي لو أن عابدا عبد اللّه عز و جل مثل ما قام نوح في قومه.
و كان له مثل[جبل]احد ذهبا فأنفقه في سبيل الله،و مد في عمره حج ألف عام علي قدميه ثم قتل بين الصفا و المروة مظلوما و لم يوالك يا علي لن يشم رائحة الجنة و لم[لن]يدخلها» (1).
جعلنا اللّه من المتمسكين بولاية علي أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين ما سبح نجم و أفل آخر.
***
قال عليه السّلام:تعلّموا العلم فإنّ تعلمه حسنة و مدارسته تسبيح و البحث عنه جهاد و تعليمه من لا يعلمه صدقة و بذله لأهله قربة،فهو معالم الحلال و الحرام و مسلك إلي الجنة و مؤنس في الوحدة و صاحب في الغربة و دليل في السراء و الضراء و سلاح علي الأعداء و زين الأخلاء،يرفع اللّه به أقواما فيجعلهم إلي الخير أئمة يقتدي بهم،ترمق أعمالهم و تقتبس آثارهم ترغب الملائكة في خلقهم و يسبحون لهم في عبادتهم و يضعون لهم أجنحتهم،يستغفر لهم حتي حيتان البحر و هوامه و سباع البر و أنعامه فالعلم حياة القلوب و نور الأبصار من العمي و قوة الأبدان من الضعف،ينزل اللّه تعالي حامله منازل الأخيار و يمنحه صحبة الأبرار و يرفعه في الدنيا و الآخرة،و بالعلم يطاع اللّه و يعبد، بالعلم يعرف و يؤخذ و بالعلم توصل الأرحام و يعرف الحلال و الحرام،فالعلم إمام العقل يلهمه اللّه السعداء و يحرمه الأشقياء (2).
و قال عليه السّلام:عليكم بالعلم فإنّه صلة بين الاخوان و دال علي المرؤة و تحفة في المجالس و صاحب في السفر و مؤنس في الغربة،و أنّ اللّه يحب المؤمن العالم الفقيه الزاهد الخاشع الحي الحليم الحسن الخلق المقتصد المتعفف (3).
ص: 152
و قال عليه السّلام:طلاب العلم ثلاثة أصناف فاعرفوهم بصفاتهم و نعوتهم،فصنف طلبوه للمماراة و الجدل،و صنف طلبوه للإستطالة و الحيل،و صنف طلبوه للتفقة و العمل،فأمّا صاحب المماراة و الجدل فمؤذ متأذ متعرض للمقال في أندية الرجال تحلّي بتذكر العلم و خفة الحلم تسربل بالتخشع و تخلي من الورع فدق اللّه في هذا خيشومه و قطع منه حيزومه،و أمّا صاحب الإستطالة و الحيل فذو خبّ و ملق مستطيل علي أمثاله و أشباهه لحلوائهم هاضم و لدينه حاطم فأعمي اللّه علي هذا خبره و قطع من آثار العلماء أثره،و أما صاحب الفقه و العمل فذو كآبة و خشوع و إنابة و خضوع قد خشع في برنسه و قام الليل في حندسه يخشع داعيا مقبلا علي شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد اللّه من هذا أركانه و أعطاه يوم القيامة أمانه و حباه مغفرته و رضوانه.
و قال عليه السّلام:
من تواضع للمعلمين و ذل للعلماء ساد بعلمه،فالعلم يرفع الوضيع و تركه يضع الرفيع،و رأس العلم التواضع،و بصره البراءة من الحسد،و سمعه الفهم،و لسانه الصدق،و قلبه حسن النيّة،و عقله معرفة أسباب الأمور،و من ثمراته التقوي و اجتناب الهوي و اتباع الحق و مجانبة الذنوب و مودة الإخوان و الإستماع من العلماء و القبول منهم،و من ثمراته ترك الإنتقام عند القدرة،و استقباح مقاربة الباطل،و استحسان متابعة الحق،و قول الصدق،و التجافي عن سرور في غفلة،و عن فعل ما يعقب ندامة،و العلم يزيد العقل (1)عقلا و يورث متعلمه صفات حميدة،فيجعل الحليم أميرا،و ذا المشورة وزيرا،و يقمع الحرص،و يخلع المكر،و يميت البخل،و يجعل مطلق الفحش مأسورا،و بعيد السداد قريبا.
و قال عليه السّلام:الفقيه كل الفقيه من لم يقنط العباد من رحمة الله،و لم يؤمنهم من عذاب الله، و لم يرخص لهم في معاصي الله،و لم يترك القرآن رغبة عنه إلي غيره،ألا لا خير في علم ليس فيه فقه،ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر،ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر،ألا لا خير في نسك ليس فيه ورع (2).
و قال عليه السّلام في وصيته لكميل بن زياد:القلوب أوعية و خيرها أوعاها،إحفظ ما أقول لك:
الناس ثلاثة:عالم رباني،و متعلم علي سبيل نجاة،و همج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجأوا إلي ركن وثيق،العلم خير من المال،العلم يحرسك و أنت تحرس المال،العلم يزكو علي الإنفاق و العمل،و المال تنقصه النفقة،العلم حاكم و المال محكوم عليه،محبة العالم دين يدان بها،تكسبه الطاعة في حياته و جميل الأحدوثة بعد موته،مات خزّان0.
ص: 153
المال و هم أحياء،و العلماء باقون ما بقي الدهر،أعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة،إنّ هاهنا-و أومي بيده إلي صدره-علما لو أصبت له حملة،بل أصبت لقنا غير مأمون عليه،يستعمل آلة الدين للدنيا،يستظهر بنعم اللّه علي عباده،و بحججه علي كتابه،أو معاندا لأهل الحق لا بصيرة له،يقدح الشك في قلبه بأول غارس من شبهة لا ذا و لا ذاك،فمنهوم باللذات سلس القياد للشهوات،أو مغرم يجمع الأموال و الادّخار،أقرب شبها بهم الأنعام السائمة،كذلك يموت العلم بموت حامليه،اللهم بلي لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة،لكيلا تبطل حجج اللّه و بيناته،اولئك هم الأقلون الأعظمون عند اللّه قدرا،بهم يحفظ اللّه حججه حتي يؤدوها إلي نظرائهم و يزرعوها في قلوب أشباههم،هجم بهم العلم علي حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعره المترفون و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون،صحبوا الدنيا بأبدان،أرواحهم معلقة في المحل الأعلي،آه آه شوقا إلي رؤيتهم،و أستغفر اللّه لي و لك،إذا شئت فقم (1).
و قال عليه السّلام:الناس ثلاثة:عالم رباني،و متعلم علي سبيل النجاة،و همج رعاع تبع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور الحكمة،و لا لجأوا إلي ركن وثيق (2).
و ينبغي للعالم أن يكون صدوقا ليؤمن علي ما قال،و أن يكون شكورا ليستوجب المزيد،و أن يكون حمولا ليستحق السيادة،و أن يعمل بعلمه ليقتدي الناس به.
و قال عليه السّلام:كن بالتواضع بالعلم كالجاهل،و كن بالإقتصاد في المنطق كالعي،و اكتف بالكفاف من المنطق إن غلبت علي العمل،فأحل علي العلم تلحق بالعلماء،و إن غلبت علي المنطق فأحل علي الصمت فإنّه سبيل البلغاء،الصمت أجلب للمرؤة (3)و آنفا للحسد،كم من باك علي الدنيا طال بكاؤه منها،و كم من مصلح لها بافساد نفسه لها،و كم من مستبق لها إنّما جعل نفسه مستباحة لها،و كم من عاجز عن نفسه بالقوة بغيره،المجانبة تجلب المعاندة،و طول الصمت خير من مماراة الجاهل،و القطيعة خير من مواصلة أهل الشر،و بالعلم تنكشف هذه الأشياء.
و قال عليه السّلام:إنّ أبغض الخلائق إلي اللّه تعالي رجلان،رجل و كله اللّه تعالي إلي نفسه،فهو جائر عن قصد السبيل،مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة،فهو فتنة لمن افتتن به،ضال عن الهدي من كان قبله،مضل لمن اقتدي به في حياته و بعد مماته،حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته،و رجل قمش جهلا،موضع في جهال الأمة،عاد في أغباش الفتنة عما في عقد الهدنة،قد سمّاه أشباهة.
ص: 154
الناس عالما و ليس به فكر،فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر،حتي إذا ارتوي من آجن و أكثر من غير طائل،جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس علي غيره،فإن نزلت به إحدي المبهمات هيّأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به،فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت،و لا يدري هل أصاب أم أخطأ؟إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ،و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب،جاهل خبّاط جهالات،غاش ركّاب عشوات،لم يعض علي العلم بضرس قاطع،يذري الروايات إذراء الريح الهشيم (1)،تصرخ من جور قضائه الدماء،و تعج منه المواريث إلي اللّه تعالي، من معشر يعيشون جهالا و يموتون ضلالا،و ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب آثروا تلاوته،و ترد علي أحدهم القضية في حكم من الأحكام،فيحكم فيها برأيه ثم ترد بعينها علي غيره،فيحكم فيها بخلاف قوله،ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا،و الههم واحد و نبيّهم واحد و كتابهم واحد.
فأمرهم اللّه باختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه!
أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان لهم علي إتمامه!
أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضي!
أم أنزل اللّه تعالي دينا تاما فقصّر الرسول صلّي اللّه عليه و سلّم عن تبليغه و أدائه و الله سبحانه و تعالي يقول: مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْءٍ (2)و فيه تبيان كل شيء و ذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضا و أنّه لا إختلاف فيه فقال تعالي: وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاٰفاً كَثِيراً (3)فإنّ القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق لا تفني عجائبه و لا تنقضي غرائبه و لا تكشف الظلمات إلاّ به (4).
و قال:قصم ظهري رجلان عالم متهتك و جاهل متنسك هذا ينفر الناس بهتكه(و هذا يضلّ الناس بتنسكه) (5).
أقلّ الناس قيمة أقلهم علما إذ قيمة كل امريء ما يحسنه (6).
كفي بالعلم شرفا أنّه يدّعيه من لا يحسنه و يفرح إذا نسب إليه و كفي بالجهل ضعة أنّه يتبرأ منه4.
ص: 155
من هو فيه و يغضب إذا نسب إليه (1).
و الناس عالم أو متعلم و سائرهم همج لا خير فيهم (2).
و قال عليه السّلام للحسن:يا بني جالس العلماء فإنّك إن أصبت حمدوك و إن جهلت علموك و إن أخطأت لم يعنّفوك،و لا تجالس السفهاء فإنّهم خلاف ذلك (3).
و قال عليه السّلام:الناس أربعة:فرجل يعلم و يعلم أنّه يعلم فاقبلوه،و رجل يعلم و لا يعلم أنّه يعلم فناس فذكّروه،و رجل لا يعلم و يعلم أنّه لا يعلم فمسترشد فأرشدوه،و رجل لا يعلم و لا يعلم أنّه لا يعلم فجاهل فارفضوه (4).
و قال عليه السّلام:العقل عقلان،عقل الطبع و عقل التجربة و كلاهما يؤدي إلي المنفعة،و الموثوق به صاحب العقل و الدين،و من فاته العقل و المرؤة فرأس ماله المعصية،و صديق كل امريء عقله و عدوه جهله،و ليس العاقل من يعرف الخير من الشر و لكن العاقل من يعرف خير الشرّين،و مجالسة العقلاء تزيد في الشرف،و العقل الكامل قاهر للطبع السوء،و علي العاقل أن يحصي علي نفسه مساوئها في الدين و الرأي و الأخلاق و الأدب فيجمع ذلك علي صدره أو في كتاب و يعمل في إزالتها (5).
و قال عليه السّلام:الإنسان عقل و صورة،فمن أخطأه العقل و لزمته الصورة لم يكن كاملا و كان بمنزلة من لا روح فيه،فمن طلب العقل المتعارف فليعرف صورة الاصول و الفضول،فإنّ كثيرا من الناس يطلبون الفضول و يضيّعون الأصول،فمن أحرز الأصل إكتفي به عن الفضل،و أصل الأمور في الإنفاق طلب الحلال لما ينفق و الرفق في الطلب،و أصل الامور في الدين أن يعتمد علي الصلوات و يجتنب الكبائر،و ألزم ذلك لزوم من لا غني له عنه طرفة عين،و إن حرمته هلكت فإن جاوزته إلي الفقه و العبادة فهو الحظ،و إنّ أصل العقل العفاف و ثمرته البراءة من الآثام،و أصل العفاف القناعة و ثمرتها قلة الأحزان،و أصل النجدة القوة و ثمرتها الظفر،و أصل الفعل القدرة و ثمرتها السرور،و لا يستعان علي الدهر إلاّ بالعقل و لا علي الأدب إلاّ بالبحث و لا علي الحسب إلاّ بالوفاء و لا علي الوقار إلاّ بالمهابة و لا علي السرور إلاّ باللين و لا علي اللب إلاّ بالسخاء و لا علي البذل إلاّ بالتماس المكافأة و لا علي التواضع إلاّ بسلامة الصدر،و كل نجدة تحتاج إلي العقل و كل معرفة تحتاج إلي التجارب و كل رفعة تحتاج إلي حسن أحدوثة و كل سرور يحتاج إلي أمن و كل قرابة تحتاج إلي مودة و كل علم يحتاج إلي قدرة و كلّ مقدرة تحتاج إلي بذل،و لا تعرض لما لا4.
ص: 156
يعنيك بترك ما يعنيك،فرب متكلم في غير موضعه قد أعطبه ذلك (1).
و قال عليه السّلام:لا تسترشد إلي الحزم بغير دليل العقل فتخطيء منهاج الرأي،فإنّ أفضل العقل معرفة الحق بنفسه،و أفضل العلم (2)وقوف الرجل عند علمه،و أفضل المرؤة إستبقاء الرجل ماء وجهه،و أفضل المال ما وقي به العرض و قضيت به الحاجة (3)(4).
و قال عليه السّلام:علي العاقل ما لم يكن مغلوبا أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات:فساعة يرفع فيها بحاجته إلي(ربه،و ساعة يحاسب فيها نفسه،و ساعة يفضي فيها بحاجته إلي)إخوانه الذين يصرفونه عن عيوبه و ينصحونه في أموره،و ساعة يخلي فيها بين نفسه و بين لذته مما يحلّ و يجمل به، و إنّ هذه الساعات هي عون علي الساعات الأخر (5).
و قال عليه السّلام:علي العاقل أن لا يكون شغله إلاّ في ثلاث خصال:إما تزود لمعاده،أو مرمة لمعاشه،أو لذة في غير محرم،أغلي الأشياء أصلا و أحلاها ثمرة صالح الأعمال،و حسن الأدب، و عقل مستعمل،رويدك لا تشهر و وار شخصك لا يذكر،و تعلّم تعلم،و اصمت تسلم،و لا عليك إذا عرّفك اللّه دينه أن لا تعرف الناس و لا يعرفوك (6).
و قال عليه السّلام:أحذركم الدنيا،فإنّها خضرة حلوة حفّت بالشهوات،و تحببت بالعاجلة و عمرت بالآمال و تزينت بالغرور،لا تؤمن فجعتها و لا يدوم خيرها،ضرارة غدارة غرارة زائلة بائدة أكالة غوالّة،لا تعدو إذا تناهت إلي أمنية أهل الرضا بها و الرغبة فيها أن تكون فيها كما قال اللّه تعالي:
كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيٰاحُ (7) علي أنّ امرؤ لم يكن فيها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة،و لم يلق من سرائها بطنا إلاّ منحته من ضرائها ظهرا،و لم تنله فيها ديمة رخاء إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء،و حريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تسمّي له متنكرة، و إن جانب منها إعذوذب و احلولي لأمر منه جانب فأوبي،و إن لقي امرء من غضارتها رغبا زودته من نوائبها تعبا،و لم يمس إمرء منها في جناح أمن إلاّ أصبح في خوافي خوف،غرور فانية فان من عليها،من أقلّ منها استكثر مما يؤمنه،و من إستكثر منها لم يدم له و زال عما قليل عنه،كم من واثق بها قد فجعته و ذي طمأنينة إليها صرعته و ذي خدع قد خدعته و ذي أبّهة قد صيّرته حقيرا و ذي نخوة قد صيّرته خائفا فقيرا و ذي تاج قد أكبّته لليدين و الفم،سلطانها دول و عيشها رنق و عذبها أجاج5.
ص: 157
و حلوها صبر و غذاؤها سمام و أسبابها رمام،حيّها بعرض موت و صحيحها بعرض سقم و منيعها بعرض إهتضام،عزيزها مغلوب و ملكها مسلوب و ضيفها مثلوب و جارها محروب،ثم(من)وراء ذلك هول المطلع و سكرات الموت و الوقوف بين يدي الحكم العدل ليجزي الذي أساؤا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسني،أ لستم في منازل من كان أطول منكم أعمارا و آثارا و أعدّ منكم عديدا و أكثف جنودا و أشد منكم عتودا؟
تعبّدوا للدنيا أي تبعد و آثروها أي إيثار ثم ضعنوا عنها بالصغار،فهل بلغكم أنّ الدنيا سخت لهم بفدية أو أغنت عنهم فيما قد أهلكهم من خطب؟بل قد أوهنتهم بالقوارع و ضعضعتهم بالنوائب و عفرتهم للمناخر و أعانت عليهم ريب المنون،فقد رأيتم تنكّرها لمن دان بها و أجدّ إليها،ضعنوا عنها لفراق أمد إلي آخر المسند! (1)هل أحلّتهم إلاّ الضنك أو زودتهم إلاّ التعب أو نوّرت لهم إلاّ الظلمة أو أعقبتهم إلاّ النار!
أ فهذه تؤثرون أم علي هذه تحرصون أم إلي هذه تطمئنون! (2)
يقول اللّه جلّ من قائل: مَنْ كٰانَ يُرِيدُ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (3)فبئست الدار لمن لم يتّهمها و لم يكن فيها علي و جل منها.
اعلموا و أنتم تعلمون أنكم تاركوها لأبد،فإنّما هي كما نعتها اللّه تعالي لهو و لعب،و اتعضوا بالذين كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون و يتخذون مصانع لعلّهم يخلدون،و اتعضوا بالذين قالوا من أشد منّا قوة،و اتّعضوا بإخوانهم الذين نقلوا إلي قبورهم لا يدعون ركبانا،قد جعل لهم من الضريح أكنانا و من التراب أكفانا و من الرفات جيرانا،فهم جيرة لا يجيبون داعيا و لا يمنعون ضيما قد بادت أضغانهم فهم كمن لم يكن،و كما قال اللّه تعالي: فَتِلْكَ مَسٰاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّٰ قَلِيلاً وَ كُنّٰا نَحْنُ الْوٰارِثِينَ (4)استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا و بالأهل غربة جاؤها كما فارقوها بأعمالهم إلي خلود الأبد،كما قال عزّ و جلّ: كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ (5)(6).
و قال عليه السّلام:أيّها الذام للدنيا أنت المجترم عليها أم هي المجترمة عليك!فقال قائل من6.
ص: 158
الحاضرين:بل أنا المجترم عليها يا أمير المؤمنين.فقال له عليه السّلام:فلم ذممتها،أ ليست دار صدق لمن صدقها و دار غني لمن تزود منها و دار عافية لمن فهم عنها!مسجد أحبائه و مصلّي (1)أنبيائه و مهبط ملائكته و متجر أوليائه،اكتسبوا فيها الطاعة و ربحوا منها الجنة فمن ذا يذمها و قد أذنت بانتهائها و نادت بانقضائها و أنذرت ببلائها،فإن راحت بفجعة فقد غدت بمبتغي،و إن اغضرت بمكروه فقد أسفرت بمشتهي،ذمّها رجال يوم الندامة و مدحها آخرون،حدّثتهم فصدقوا و ذكّرتهم فذكروا،فيا أيها الذام لها المعني بغرورها متي غرّتك!
أم متي استندمت (2)إليك بمصادع آبائك في البلي!
أم بمضاجع أمهاتك تحت الثري!
كم عللت بدنك و مرضت و أذاقتك شهدا أو صبرا!
فإن ذممتها لصبرها فامدحها لشهدها و إلاّ فاطرحها لا مدح و لا ذم،قد مثلت لك نفسك حتي ما يغني عنك بكاؤك و لا يرحمك أخاك (3).
و قال عليه السّلام:إنّ الدنيا قد أدبرت و أذنت بوداع،و إنّ الآخرة قد أقبلت و أذنت باطلاع،ألا و إنّ المضمار اليوم و السباق غدا،ألا و إنّ السبقة الجنة و الغاية النار،الاّ و إنكم في أيام مهل من ورائه يحثّه عجل،فمن عمل في أيام مهلة قبل حضور (4)أجله(نفعه عمله و لم يضره أجله،و من لم يعمل أيام مهله قبل حضور أجله)ضره أجله و لم ينفعه عمله،و لو عاش أحدكم ألف عام كان الموت بالغه و نحبه لاحقه،فلا تغرنّكم الأماني و لا يغرنكم بالله الغرور،قد كان قبلكم لهذه الدنيا سكان شيّدوا فيها البنيان و وطنوا الأوطان،أصبحت أبدانهم في قبورهم هامدة و أنفسهم خامدة،فتلهّف المفرط منهم علي ما فرّط يقول:يا ليتني نظرت لنفسي،يا ليتني كنت أطعت ربي (5).
و قال عليه السّلام:إنّ الدنيا ليست بدار قرار و لا محل إقامة،إنّما أنتم فيها كركب عرسوا و ارتاحوا (6)ثم استقلّوا فغدوا و راحوا،دخلوها خفافا و ارتحلوا منها ثقالا،فلم يجدوا عن مضحيا.
ص: 159
عنها نزولا (1)و لا إلي ما تركوا بها رجوعا،جدّ بهم فجدّوا و ركنوا إلي الدنيا فما استعدّوا،حتي أخذوا بكظمهم،و خلصوا إلي دار قوم لم يبق من أكثرهم خبر و لا أثر قل في الدنيا لبثهم و عجّل بهم إلي الآخرة بعثهم و أصبحتم حلولا في ديارهم و ظاعنين علي آثارهم و المنايا تسير سيرا ما فيه أين و لا بطء،نهاركم بأنفسكم دؤوب و ليلكم بأرواحكم ذهوب و أنتم تقتفون من حالهم حالا و تحتذون من أفعالهم مثالا،فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنّما أنتم فيها سفر حلول و الموت بكم نزول فتتصل فيكم مناياه و تمضي بكم مطاياه إلي دار الثواب و العقاب و الجزاء و الحساب،فرحم اللّه من راقب ربه و خاف ذنبه و جانب هواه و عمل لآخرته و أعرض عن زهرة الدنيا (2).
و قال عليه السّلام:كأن قد زالت(عنكم الدنيا كما زالت)عمن كان قبلكم فاكثروا عباد اللّه اجتهادكم فيها بالتزود من يومها القصير ليوم الآخرة الطويل فإنها دار العمل و الآخرة دار القرار و الجزاء فتجافوا عنها،فإنّ المغترّ من اغترّ بها،لن تعدوا الدنيا إذا تناهت إليها،امنية أهل الرغبة فيها المطمئنين إليها المغترين بها أن تكون كما قال اللّه تعالي: كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ الْأَرْضِ (3)مما يأكل الناس و الأنعام إلاّ أنّه لم يصب امرؤ منكم في هذه الدنيا حبره (4)إلاّ أعقبته عبرة و لا يصبح امرؤ في الحياة إلاّ و هو خائف منها أن تؤول جائحة أو تغير نعمة أو زوال عافية، و الموت من وراء ذلكم و هول المطلع و الوقوف بين يدي الحكم العدل،ليجزي كل نفس بما كسبت و يجزي الذين أساؤا بما عملوا،و يجزي الذين أحسنوا بالحسني (5).
و قال عليه السّلام:ما لكم و الدنيا،فمتاعها إلي انقطاع و فخرها إلي و بال و زينتها إلي زوال و نعيمها إلي بؤس و صحتها إلي سقم أو هرم و مال ما فيها إلي نفاد و شيك و فناء قريب كل مدة فيها إلي منتهي و كل حيّ بها إلي مقاربة البلي.أ ليس لكم في آثار الأولين و آبائكم الماضين معتبر و تبصرة إن كنتم تعقلون!
ألم تروا إلي الماضين منكم لا يرجعون و إلي الخلف الباقين منكم لا يبقون!
أولستم ترون أهل الدنيا يمسون و يصبحون علي أحوال شتي!
ميت يبكي و آخر يعزّي و صريع مبتلي و عائد يعود و دنف بنفسه يجود و طالب و الموت يطلبه و غافل و ليس بمغفول عنه علي أثر الماضي و يمضي الباقي و إلي اللّه عاقبة الامور (6).
و قال عليه السّلام:انظروا إلي الدنيا نظر الزاهدين فيها فإنّها عن قليل تزيل الساكن و تفجع المترف،4.
ص: 160
فلا تغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها،فرحم اللّه امرءا تفكر و اعتبر و ابصر أدبار ما قد أدبر و حضور ما قد حضر (1)فكان ما هو كائن من الدنيا،عن قليل لم يكن و كان ما هو كائن من الآخرة لم يزل و كلما هو آت قريب.
فكم من مؤمل(ما)لا يدركه و جامع ما لا يأكله و مانع ما(لا)يتركه و لعله من باطل جمعه أو حق منعه أصابه حراما و ورثه عدوانا فاحتمل ما ضرّه و باء بوزره و قدم علي ربه آسفا لاهفا خسر الدنيا و الآخرة،ذلك هو الخسران المبين (2).
و قال عليه السّلام:مثل الدنيا مثل الحيّة،لين مسّها قاتل سمها فأعرض عمّا يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها و كن آنس ما تكون اليها و أوحش ما تكون منها،فإنّ صاحبها كلما اطمأن منها إلي سرور أشخصته(إلي مكروه)فقد يسر المرء بما لم يكن ليفوته،و يحزن لفوات ما لم يكن ليصيبه أبدا و إن جهد،فليكن سرورك بما قدمت من عمل أو قول و ليكن أسفك علي ما فرطّت فيه من ذلك و لا تكن علي ما فاتك من الدنيا حزينا و ما أصابك منها فلا تنعم به سرورا و اجعل همّك لما بعد الموت،فإنّما توعدون لآت (3).
و قال عليه السّلام:أنظروا إلي الدنيا نظر الزاهدين فيها،فانها عن قليل تزيل الساكن و تفجع المترف، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها،فرحم اللّه امرءا تفكر و اعتبر و أبصر أدبار ما قد أدبر و حضور ما قد حضر،فكان ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن و ما هو كائن من الآخرة لم يزل،اي و الله عن قليل تشقي المترف و تحرك الساكن و تزيل الثاوي،صفوها مشوب بالكدرة و سرورها منسوج بالحزن و آخر حياتها مقترن بالضعف فلا يعجبنكم ما يغرنكم منها،فعن كثب تنقلون عنها و كلمّا هو آت قريب،و هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلي اللّه مولاهم الحق، و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون (4).
و قال عليه السّلام:احذركم الدنيا فإنّها ليست بدار غبطة،قد تزينت بغرورها و غرّت بزينتها لمن كان ينظر إليها فاعرفوها كنه معرفتها،فإنّها دار هانت علي ربها،قد اختلط حلالها بحرامها و حلوها بمرّها و خيرها بشرها و لم يذكر اللّه تعالي شيئا اختصه منها لأحد من أوليائه و لا أنبيائه و لم يصرفها عن أعدائه،فخيرها زهيد و شرّها عتيد و جمعها نفيد و ملكها سليب و عزها يبيد،فالمستمتعون بالدنيا تبكي قلوبهم و إن فرحوا يشتدّ مقتهم لأنفسهم و إن اغتبطوا ببعض ما منها رزقوا،الدنيا فانية لا بقاء5.
ص: 161
لها و الآخرة باقية لا فناء لها،الدنيا مقبلة إلي الآخرة و الآخرة ملجأ الدنيا و ليس للآخرة منتقل و لا منتهي،من كانت الدنيا همّه إشتدّ لذلك غمّه و من آثر الدنيا علي الآخرة حلّت به الفاقرة (1).
و قال عليه السّلام:إنّما الدنيا دار فناء و عناء و غيرة و عبر،فمن فنائها انّك تري الدهر موترا قوسه مفوّقا نبله يرمي الصحيح بالسقم و الحي بالموت و البريء بالتهم،و من عنائها أنّك تري المرء يجمع ما لا يأكل و يبني ما لا يسكن و يأمل ما لا يدرك،و من عبرها أنّك تري المرحوم مغبوطا،و المغبوط مرحوما ليس بينهم إلاّ نعيم زال أو مثلة حلت أو موت نزل،و من عبرها أنّ المرء يسوف عليه أمله حتي يختطفه دونه أجله (2).
و قال عليه السّلام:إجعل الدنيا شوكا و انظر أين تضع قدمك منها،فإنّ من ركن اليها خذلته،و من آنس بها أوحشته،و من رغب فيها أوهنته،و من انقطع اليها قتلته،و من طلبها أرهقته،و من فرح بها أترحته،و من طمع فيها صرعته،و من قدّمها أخّرته،و من أكرمها أهانته،و من آثرها باعدته من الآخرة،و من بعد من الآخرة قرب من النار،فهي دار عقوبة و زوال و فناء و بلاء،نورها ظلمة و عيشها كدر و غنيها فقير و صحيحها سقيم و عزيزها ذليل،فكل منعم برغدها شقي و كل مغرور بزينتها مفتون،و عند كشف الغطاء يعظم الندم و يخمد الصدر أو يذم.
و قال عليه السّلام:يأتي علي الناس زمان لا يعرف فيه إلاّ الماحل و لا يطرف فيه إلاّ الفاجر و لا يؤتمن(فيه)إلاّ الخائن و لا يخون إلاّ المؤتمن،يتخذون الفيء مغنما و الصدقة مغرما و صلة الرحم منّا و العبادة إستطالة علي الناس و تعديّا،و ذلك يكون عند سلطان النساء و مشاورة الإماء و إمارة الصبيان (3).
و قال عليه السّلام:إحذروا الدنيا إذا أمات الناس الصلاة و أضاعوا الأمانات و اتبعوا الشهوات و استحلّوا الكذب و أكلوا الربا و أخذوا الرشا و شيدوا البناء و اتبعوا الهوي و باعوا الدين بالدنيا و استخفوا بالدماء و ركنوا إلي الرياء و تقاطعت الأرحام،و كان الحلم ضعفا و الظلم فخرا و الأمراء فجرة و الوزراء كذبة و الأمناء خونة و الأعوان ظلمة و القراء فسقة،و ظهور الجور و كثرة الطلاق و موت الفجأة و حلّيت المصاحف و زخرفت المساجد و طوّلت المنابر و نقضت العهود و حزنت القلوب و استحلوا المعارف و شربت الخمور و ركبت الذكور و اشتغل النساء بالنساء و شاركن أزواجهن في التجارة حرصا علي الدنيا و علت الفروج السروج و تشبهن بالرجال،فحينئذ عدّوا أنفسكم في الموتي،و لا تغرنّكم الحياة الدنيا.7.
ص: 162
ألا فإنّ الناس اثنان:برّ تقي و آخر شقي،و الدار داران لا ثالث لهما و الكتاب واحد لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها،ألا و حب الدنيا رأس كل خطيئة و باب كلّ بلية و مجمع كل فتنة و داعية كل ريبة،و الويل لمن جمع الدنيا و أورثها من لا يحمده،و قدم علي من لا يعذره،الدنيا دار المنافقين و ليست بدار المتقين،فليكن حظك من الدنيا قوام صلبك و امساك نفسك و التزود ليوم معادك (1).
و قال عليه السّلام:يا دنيا يا دنيا أ بي تعرضت أم إليّ تشوقت!هيهات هيهات غري غيري قد بنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك،فعمرك قصير و عيشك حقير و خطرك كبير،آه من قلة الزاد و وحشة الطريق (2).
و قال عليه السّلام:إحذروا الدنيا فإنّ في حلالها حساب و حرامها عقاب و أولها عناء و آخرها فناء، من صح فيها هرم و من مرض فيها ندم و من استغني فيها فتن و من افتقر فيها حزن و من أتاها فاتته و من بعد عنها أتته و من نظر إليها أعمته و من نظر بها بصرته،إن أقبلت غرت و إن أدبرت ضرت (3).
و قال عليه السّلام:المؤمنون هم أهل الفضائل هديهم السكوت(و هيبتهم الخشوع و سمتهم التواضع) (4)،خاشعين غاضّين أبصارهم عمّا حرم اللّه عليهم،رافعين أسماعهم إلي العلم،نزلت في أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء لو لا الآجال التي كتبت عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين شوقا إلي الموت و خوفا من العقاب (5)،عظم الخالق في أنفسهم و صغر ما دونه في أعينهم،فهم كأنهم قد رأوا الجنة و نعيمها و النار و عذابها فقلوبهم محزونة و شرورهم مأمونة و حوائجهم خفيفة و أنفسهم ضعيفة و معونتهم (6)لإخوانهم عظيمة،اتخذوا الأرض بساطا و ماءها طيبا و رفضوا الدنيا رفضا و صبروا،أيامها قليلة فصارت عاقبتهم راحة طويلة تجارتهم مربحة يبشّرهم بها رب كريم،أرادتهم الدنيا فلم يريدوها و طلبتهم فهربوا منها.
فأمّا الليل فأقدامهم مصطفّة يتلون القرآن يرتّلونه ترتيلا فإذا مروا بآية فيها(تشويق ركنوا إليها طمعا و تطلعت إليها أنفسهم تشوقا فيصيرونها نصب أعينهم،و إذا مروا بآية فيها)تخويف أصغوا إليها بقلوبهم و أبصارهم فاقشعرت منها جلودهم و وجلت قلوبهم خوفا و فرقا،نحلت لها أبدانهم و ظنّوا أنّ
ص: 163
زفير جهنم و شهيقها و صلصة حديدها في آذانهم مكبين علي وجوههم و أكفّهم،تجري دموعهم علي خدودهم يجأرون إلي اللّه في فكاك رقابهم.
و أما النهار فعلماء أبرار أتقياء قد براهم الخوف،فهم أمثال القداح إذا نظر إليهم الناظر يقول بهم مرض و يقول قد خولطوا و ما خولطوا،إذا ذكروا عظمة اللّه و شدّة سلطانه و ذكروا الموت و أهوال القيامة و جفت قلوبهم و طاشت لحومهم و ذهلت عقولهم،فإذا إستفاقوا من ذلك بادروا إلي اللّه بأعمال زاكية،لا يرضون بالقليل و لا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون و من أعمالهم مشفقون، إن زكي أحدهم خاف اللّه و غاية التزكية فقال:أنا أعلم بنفسي من غيري و ربي أعلم بي مني،اللهم لا تؤاخذني بما يقولون و اجعلني كما يظنون و اغفر لي ما لا يعلمون.
و من علامات أحدهم (1):أن يكون له حزم في لين،و إيمان في يقين،و حرص علي تقوي، و فهم في فقه،و حلم في علم،و كيس في رفق،و قصد في غني،و خشوع في عبادة،و تحمّل في فاقة،و صبر في شدّة،و إعطاء في حق،و طلب لحلال،و نشاط في هدي،و تحرّج في طمع،و تنزّه عن طمع (2)،و برّ في إستقامة،و اعتصام بالله من متابعة الشهوات،و إستعاذة به من الشيطان الرجيم، يمسي و همّه الشكر و يصبح و شغله الذكر،أولئك الآمنون المطمئنون الذين يسقون من كأس لا لغو فيها و لا تأثيم (3).
و قال عليه السّلام:المؤمنون هم الذين عرفوا إمامهم فذبلت شفاههم،و غشيت عيونهم و نهجت ألوانهم حتي عرفت في وجوههم عبرة الخاشعين،فهم عباد اللّه الذين مشوا علي الأرض هونا و اتخذوها بساطا و ترابها فراشا،رفضوا الدنيا و أقبلوا علي الآخرة علي منهاج المسيح بن مريم،إن شهدوا لم يعرفوا و إن غابوا لم يفتقدوا و إن مرضوا لم يعادوا،صوّام الهواجر قوّام الدياجر تضمحل عنهم كل فتنة و تنجلي عنهم كل شبهة (4)،أولئك أصحابي فاطلبوهم في أطراف الأرضين،فان لقيتم منهم أحدا فاسألوه يستغفر لكم.
و قال عليه السّلام:شيعتنا المتباذلون في ولايتنا المتحاببون في مودتنا المتآزرون في أمرنا،(الذين)إن غضبوا لم يظلموا،و إن رضوا لم يسرفوا،بركة علي من جاوروه،سلم لمن خالطوه،أولئك هم السائحون الناحلون الذابلون،ذابلة شفاههم،خمصة بطونهم،متغيرة ألوانهم،مصفرّة وجوههم، كثير بكاؤهم،جارية دموعهم،يفرح الناس و يحزنون،و ينام الناس و يسهرون(إذا شهدوا لم يعرفوا و إن غابوا لم يفتقدوا و إذا خطبوا الأبكار لم يزوجوا)قلوبهم محزونة،و شرورهم مأمونة،و أنفسهم عفيفة،و حوائجهم خفيفة،ذبل الشفاه من العطش،خمص البطون من الجوع،عمش العيون منة.
ص: 164
السهر،الرهبانية عليهم لائحة،الخشية لهم لازمه،كلّما ذهب منهم سلف خلف في موضعه خلف، أولئك الذين يردون القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر،يغبطهم الأولون و الآخرون،لا خوف عليهم و لا هم يحزنون (1).
و قال عليه السّلام:المؤمن يرغب فيما يبقي،و يزهد فيما يفني،يمزج الحلم بالعلم و العلم بالعمل، بعيد كسله،دائم نشاطه،قريب أمله،حيّ قلبه،ذاكر لسانه،لا يحدث بما لا يؤتمن عليه الأصدقاء،و لا يكتم شهادة الأعداء،لا يعمل شيئا من الخير رياء و لا يتركه حياء،الخير منه مأمول،و الشر منه مأمون،إن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين،و إن كان من الغافلين كتب في الذاكرين،يعفو عمّن ظلمه،و يعطي من حرمه،و يصل من قطعه،و يحسن إلي من أساء إليه،لا يعزب حلمه و لا يعجل فيما يريبه،بعيد جهله،لين قوله،قريب معروفه،غائب منكره،صادق كلامه،حسن فعله،مقبل خيره،مدبر شرّه،في الزلازل وقور،و في المكاره صبور،و في الرخاء شكور،لا يحيف علي من يبغض،و لا يأثم فيمن يحب،و لا يدّعي ما ليس له،و لا يجحد حقا عليه،يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه،لا يضيع ما استحفظ،و لا يرغب فيما لا تدعوه الضرورة إليه،لا ينابز بالألقاب،و لا يبغي علي أحد،و لا يهزأ بمخلوق،و لا يضار بالجار،و لا يشمت بالمصائب،مؤد بأداء الأمانات،مسارع إلي الطاعات،محافظ علي الصلوات،بطيء عن المنكرات،لا يدخل علي الامور بجهل،و لا يخرج عن الحق بعجز،إن صمت فلا يغمّه الصمت، و إن نطق لا يقول الخطأ،و إن ضحك فلا يعلو صوته سمعه،و لا يجمح به الغضب،و لا يغلبه الهوي،و لا يقهره الشح،و لا تملكه الشهوة،يخالط الناس ليعلم،و يصمت ليسلم،و يسأل ليفهم، ينصت للخير ليعمل به و لا يتكلم به ليفتخر علي ما سواه،نفسه منه في عناء،و الناس منه في راحة، يبعث (2)نفسه لآخرته،و يعصي هواه لطاعة ربه،بعده عمن تباعد منه نزاهة،و دنوه ممن دنا منه لين (3)و رحمة،ليس بعده تكبرا،و لا قربه خديعة،مقتد بمن كان قبله من أهل الإيمان،إمام لمن بعده من البررة المتّقين (4).
و قال عليه السّلام:طوبي للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة،أولئك قوم إتخذوا أرض اللّه مهادا و ترابها و سادا و ماؤها طيبا،و جعلوا الكتاب شعارا و الدعاء دثارا،إنّ اللّه أوحي إلي عبده المسيح عليه السّلام أن قل لبني إسرائيل:لا تدخلوا بيتا من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة،و أبصار خاشعة، و أكف نقية،و أعلمهم إنّي لا أجيب لأحد منهم دعوة و لأحد من خلقي قبله مظلمة (5).2.
ص: 165
و قال عليه السّلام:المؤمن وقور عن الهزاهز،ثبوت عند المكاره،صبور عند البلاء،شكور عند الرخاء،قانع بما رزقه الله،لا يظلم الأعداء،و لا يتحامل للأصدقاء،الناس منه في راحة،نفسه في تعب،العلم خليله،و العقل قرينه،و الحلم وزيره،و الصبر أميره و الرفق أخوه،و اللين ولده.
و قوله عليه السّلام:لنوف التكالي (1)هل تدري (2)يا نوف من شيعتي؟
قال:لا و الله.
قال:شيعتي:الذبل الشفاه،الخمص البطون،الذين تعرف الرهبانية و الربانية في وجوههم، رهبان بالليل،أسد بالنهار،الذين إذا جنّهم الليل إتزروا علي أوساطهم(و ارتدوا علي أطرافهم) و صفّوا أقدامهم و افترشوا جباههم،تجري دموعهم علي خدودهم،يجأرون إلي اللّه في فكاك أعناقهم،و أمّا النهار:فحكماء علماء،كرام نجباء،أبرار أتقياء.
يانوف شيعتي:من لم يهرّ هرير الكلب،و لا يطمع طمع الغراب،و لم يسأل الناس و لو مات جوعا،إن رأي مؤمنا أكرمه،و إن رأي فاسقا هجره،هؤلاء و الله شيعتي (3).
و قال نوف:عرضت لي حاجة إلي أمير المؤمنين عليه السّلام علي بن أبي طالب فاستبعت (4)إليه جندب بن زهير،و الربيع بن خيثم،و ابن أخيه همام بن عبادة بن خيثم و كان من أصحاب البرانس المتعبّدين(فأقبلنا إليه)فألقيناه حين خرج يؤمّ المسجد،فأفضي و نحن معه إلي نفر متدينين،قد أفاضوا في الأحدوثات تفكها و هم يلهي بعضهم بعضا بها فأسرعوا إليه قياما و سلّموا عليه،فرد التحيّة ثم قال:من القوم؟
فقالوا:أناس من شيعتك يا أمير المؤمنين.
فقال لهم خيرا،ثم قال:يا هؤلاء مالي لا أري فيكم سمة شيعتنا،و حلّية أحبتنا؟
فأمسك القوم حياء،فأقبل عليه جندب و الربيع فقالا له:ما سمة شيعتكم يا أمير المؤمنين؟ فسكت،فقال همام-و كان عابدا مجتهدا-:أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت و خصّكم و حباكم لما أنبأتنا بصفة شيعتكم.
فقال عليه السّلام:شيعتنا:هم العارفون بالله،العاملون بأمر الله،أهل الفضائل،و الناطقون بالصواب،مأكولهم القوت،و ملبسهم الإقتصاد،و مشيهم (5)التواضع،نجعوا لله بطاعته،و خضعوا له بعبادته،فمضوا غاضّين أبصارهم عما حرّم اللّه عليهم،واقفين أسماعهم علي العلم بدينهم،نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء،رضا عن اللّه تعالي بالقضاء،فلو لا الآجالم.
ص: 166
التي كتب اللّه لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلي لقاء اللّه و الثواب،و خوفا من أليم العقاب،عظم الخالق في أنفسهم،و صغر ما دونه في أعينهم،فهم و الجنة كمن رآها فهم علي أرائكها متكئون،و هم و النار كمن رآها فهم فيها يعذبون،صبروا أياما قليلة فأعقبتهم راحة طويلة، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها،و طلبتهم فأعجزوها،أمّا الليل:فصافّون أقدامهم،تالون(لأجزاء القرآن)يرتّلونه ترتيلا،يعظون أنفسهم بأمثاله،و يستشفون لدائهم بدوائه تارة و تارة،مفترشون جباههم و أكفهم و ركبهم و أطراف أقدامهم،تجري دموعهم علي خدودهم،يمجّدون جبارا عظيما، و يجأرون إليه في فكاك رقابهم،هذا ليلهم.
و أمّا نهارهم:فحكماء علماء،بررة أتقياء،براهم خوف بارئهم،فهم كالقداح،تحسبهم مرضي و قد خولطوا و ما هم بذلك،بل خامرهم من عظمة ربهم،و شدة سلطانه ما طاشت له قلوبهم،و ذهلت منه عقولهم،فإذا إستقاموا من ذلك بادروا إلي اللّه تعالي بالأعمال الزاكية،لا يرضون له بالقليل،و لا يستكثرون الجزيل،فهم لأنفسهم متهمون،و من أعمالهم مشفقون،تري لأحدهم قوة في دين،و حزما في لين،و إيمانا في يقين،و حرصا علي علم،و فهما في فقه،و علما في حلم،و كيسا في قصد،و قصدا في غني،و تحملا في فاقه،و صبرا في شدة،و خشوعا في عبادة، و رحمة لمجهود (1)،و إعطاء في حق،و رفقا في كسب،و طلبا في حلال،و تعففا في طمع،و طمعا في غير طبع،و نشاطا في هدي،و اعتصاما في شهوة،و برا في إستقامة،لا يغرّه ما جهله،لا يدع إحصاء ما عمله،يستبطي نفسه في العمل و هو من صالح عمله علي و جل،يصبح و شغله الذكر، و يمسي و همه الشكر،يبيت حذرا من سنة الغفلة،و يصبح فرحا بما أصاب من الفضل و الرحمة،إن إستصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤالها مما إليه تشره،رغبة فيما يبقي،و زهادة فيما يفني، قد قرن العمل بالعلم(و العلم) (2)بالحلم،يظل دائما نشاطه،بعيدا كسله،قريبا أمله،قليلا زلله، متوقعا أجله،خاشعا قلبه،ذاكرا ربه،قانعة نفسه،عازبا جهله،محرزا دينه،ميتا داؤه،كاظما غيظه،صافيا خلقه،آمنا منه جاره،سهلا أمره،معدوما كبره (3)،بيّنا صبره،كثيرا ذكره،لا يعمل شيئا من الخير رياء و لا يتركه حياء،اولئك شيعتنا و أحبّتنا و منا و معنا،آها شوقا إليهم.
فصاح همام صيحة و وقع مغشيا عليه،فحرّكوه فإذا هو(ميت)قد فارق الدنيا رحمه الله، فغسل و صلي عليه أمير المؤمنين،و نحن معه فشيّعه عليه السّلام (4).0.
ص: 167
هذه صفتهم و هي صفة المؤمنين و قد تقدم بعضها.
و قال عليه السّلام:الجنة التي أعدّها اللّه تعالي للمؤمنين خطّافة لأبصار الناظرين،فيها درجات متفاضلات و منازل متعاليات،لا يبيد نعيمها،و لا يضمحل حبورها،
و لا ينقطع سرورها،و لا يضعن مقيمها،و لا يهرم خالدها،و لا يبوس ساكنها،أمن سكانها من الموت فلا يخافون،صفا لهم العيش،و دامت لهم النعمة،في أنهار من ماء غير آسن،و أنهار من لبن لم يتغير طعمه،و أنهار من خمر لذة للشاربين،و أنهار من عسل مصفي،و لهم فيها من كل الثمرات،و مغفرة من ربهم علي فرش منضودة،و أزواج مطهرة،و حور عين كأنهن اللؤلؤ المكنون، و فاكهة كثيرة لا مقطوعة و لا ممنوعة، وَ الْمَلاٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ، سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ بِمٰا صَبَرْتُمْ،فَنِعْمَ عُقْبَي الدّٰارِ (1).
أصدر هذا النوع بما أورده عنه عليه السّلام عبد الله بن عباس(رضي اللّه عنه)فإنّه نقل عنه أنّه قال:
ما إنتفعت بكلام بعد رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كانتفاعي بكتاب كتبه علي بن أبي طالب عليه السّلام فإنّه كتب إليّ:
أما بعد،فإنّ المرء يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه،و يسرّه درك ما لم يكن ليفوته،فليكن سرورك بما نلت من آخرتك،و ليكن أسفك علي ما فاتك (2)منها،و ما نلت من دنياك فلا تكن (3)به فرحا،و ما فاتك منها فلا تأس عليه حزنا،و ليكن همك فيما فاتك بعد الموت،و السلام (4).
و قال عليه السّلام لجماعة:خذوا عني هذه الكلمات فلو ركبتم المطي حتي تنضوه ما أصبتم مثلها، لا يرجونّ عبدا إلاّ ربه،و لا يخافنّ إلاّ ذنبه،و لا يستحي إذا لم يعلم أن يتعلم،و لا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم،و اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،و لا خير في جسد لا رأس له،فاصبروا علي ما كلّفتموه رجاء ما وعدتموه (5).
و قال عليه السّلام:الشيء شيئان،شيء قصر عني لم أرزقه فيما مضي و لا أرجوه فيما بقي،و شيء لا أناله دون وقته،و لو إستعنت عليه بقوة أهل السموات و الأرض،فما أعجب أمر هذا الإنسان يسرّه
ص: 168
درك ما لم يكن ليفوته،و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه،و لو أنّه فكر لأبصر و لعلم أنّه مدبر،و اقتصر علي ما تيسّر و لم يتعرض لما تعسّر،و استراح قلبه ممّا استوعر،فبأيّ هذين أفني عمري،فكونوا أقل ما تكونون في الباطن أموالا،أحسن ما تكونون في الظاهر أحوالا،فإنّ اللّه تعالي أدّب عباده المؤمنين أدبا حسنا فقال جلّ من قائل: يَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لاٰ يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً (1)(2).
و قال عليه السّلام:لا تكون غنيّا حتي تكون عفيفا،و لا تكون زاهدا حتي تكون متواضعا،و لا(تكون حليما حتي)تكون وقورا،و لا يسلم لك قلبك حتي تحبّ للمؤمنين ما تحبّ لنفسك،و كفي بالمرء جهلا أن يرتكب ما نهي عنه،و كفي به عقلا أن يسلم الناس من شرّه،فأعرض عن الجهل و أهله، و أكفف عن الناس ما تحب أن يكف عنك،و أكرم من صافاك،و أحسن مجاورة من جاورك،و ألن جانبك،و اكفف الأذي،و اصفح عن سوء الأخلاق،و لتكن يدك العليا إن استطعت،و وطّن نفسك علي الصبر علي ما أصابك،و ألهم نفسك القنوع،و اتهم الرجاء و أكثر الدعاء،تسلم من سورة الشيطان،و لا تنافس علي الدنيا (3)،و لا تتبع الهوي،و توسط في الهمّة تسلم ممّن يتبع عثراتك،و لا تك صادقا حتي تكتم بعض ما تعلم،إحلم عن السفيه يكثر أنصارك عليه،عليك بالشيم العالية تقهر من يناويك،قل الحق،و قرّب المتّقين،و اهجر الفاسقين،و جانب المنافقين،و لا تصاحب الخائنين (4).
و قال عليه السّلام:قل عند كلّ شدة لا حول و لا قوة إلاّ بالله تكف بها،و قل عند كل نعمة الحمد لله تزدد منها،(و قل)إذا أبطأت عليك الأرزاق فاستغفر (5)اللّه يوسع عليك،عليك بالحجّة الواضحة التي لا تخرجك إلي عوج،و لا تردك عن منهج،الناس ثلاث:عالم رباني،و متعلم علي سبيل النجاة،و همج رعاع،مفتاح الكرم التقوي و مفتاح الجنة الصبر و مفتاح الشرف التواضع و مفتاح الغني اليقين،من أراد أن يكون شريفا فليلزم التواضع،عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله، الطمأنينة قبل الحزم ضد الحزم(المغتبط من حسن يقينه) (6).
و قال عليه السّلام:اللهو يسخط الرحمن،و يرضي الشيطان،و ينسي القرآن،عليكم بالصدق فإنّ اللّه مع الصادقين،المغبون من غبن دينه،جانبوا الكذب فإنه يجانب (7)الايمان،و الصادق علي سبيلب.
ص: 169
نجاة و كرم،و الكاذب علي شفا هلك و هون،قولوا الحق تعرفوا به و إعملوا الحق تكونوا من أهله و أدّوا الأمانة إلي من إئتمنكم و لا تخونوا من خانكم و صلوا أرحامكم و عودوا بالفضل علي من حرمكم و أوفوا إذا عاهدتم و اعدلوا إذا حكمتم لا تفاخروا بالآباء و لا تنابزوا بالألقاب و لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا تقاطعوا و أفشوا السلام و ردّوا التحية بأحسن منها و ارحموا الأرملة و اليتيم و أعينوا الضعيف و المظلوم و أطيبوا المكسب و أجملوا في الطلب (1).
و قال عليه السّلام:لا راحة لحسود،و لا مودة لملول،و لا مروة لكذوب،و لا شرف لبخيل،و لا همة لمهين،و لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس،الوحدة راحة،و العزلة عبادة،و القناعة غنيمة، و الإقتصاد بلغة،و عدل السلطان خير من خصب الزمان،و العزيز بغير اللّه ذليل،و الغني الشره فقير، لا يعرف الناس إلاّ بالإختبار فاختبر أهلك و ولدك في غيبتك،و صديقك في مصيبتك،و ذا القرابة عند فاقتك،و ذا التودد و الملق عند عطلتك،لتعلم بذلك منزلتك منهم و احذر ممن إذا حدّثته ملّك (2)،و إذا حدثّك غمّك،و إن سررته أو ضررته سلك معك فيه سبيلك،و إن فارقك ساءك مغيبه بذكر سوأتك،و إن مانعته بهتك و افتري و إن وافقته حسدك و اعتدي،و إن خالفته مقتك و ماري، معجز (3)عن مكافاة من أحسن إليه،و يفرط علي من بغي عليه،يصبح صاحبه في أجر،و يصبح هو في وزر،لسانه عليه لا له،و لا يضبط قلبه قوله،يتعلم المراء و يفقه الرياء،يبادر الدنيا و يواكل التقوي،فهو بعيد من الإيمان قريب من النفاق،مجانب للرشد مرافق للغي،فهو باغ غاو لا يذكر في المهتدين (4).
و قال عليه السّلام:لا تحدّث عن غير ثقة فتكون كذّابا،و لا تصاحب همّازا فتكون مرتابا،و لا تخالط ذا فجور فتري متهما،و لا تجادل عن المجانين فتصبح ملوما،و قارن أهل الخير تكن منهم،و باين أهل الشر تبن عنهم،و اعلم أنّ من الحزم العزم،و احذر اللجاج تنج من كبوته،و لا تخن من إئتمنك و إن خانك في أمانته،و لا تذع سر من أذاع سرّك،و لا تخاطر بشيء رجاء ما هو أكثر منه،و خذ الفضل و أحسن البذل و قل للناس حسنا،و لا تتخذ عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك،و ساعد أخاك و إن جفاك و إن قطعته فاستبق له بقية من نفسك،و لا تضيعن حق أخيك فتعدم أخوته،و لا يكن أشقي الناس بك أهلك،و لا ترغبن فيمن زهد فيك،و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه،و اعلم أنّ عاقبة الكذب الذم،و عاقبة الصدق النجاة (5).
و نقل عنه عليه السّلام:أنّه رأي جابر بن عبد الله(رضي اللّه عنه)و قد تنفس الصعداء،فقال عليه السّلام (له):يا جابر علام تنفسك أعلي الدنيا؟7.
ص: 170
فقال جابر:نعم.
فقال له:ملاذ الدنيا سبعة:المأكول،و المشروب،و الملبوس،و المنكوح،و المركوب، و الشموم،و المسموع،فألذّ الماكولات العسل و هو بصاق من ذبابة،و أجلّ المشروبات الماء و كفي بإباحته و سياحته علي وجه الأرض،و أعلي الملبوسات الديباج و هو من لعاب دودة،و أعلي المنكوحات النساء و هي مبال في مبال و مثال لمثال (1)و إنّما يراد(أحسن ما في المرأة) (2)لا قبح ما فيها،و أعلي المركوبات الخيل و هي قواتل،و أجلّ المشمومات المسك و هو دم من سرّة دابة، و أجلّ المسموعات الغناء و الترنم و هو إثم،فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل.
قال جابر بن عبد الله:فو الله ما خطرت الدنيا بعدها علي قلبي.
و قال عليه السّلام:في الأمثال:بالصبر يناضل الحدثان،الجزع من أنواع الحرمان،العدل مألوف و الهوي عسوف،و الهجران عقوبة العشق،البخل جلباب المسكنة،لا تأمننّ ملولا،إزالة الرواسي أسهل من تأليف القلوب المتنافرة،من اتبع الهوي ضل،الشجاعة صبر ساعة،خير الامور أوسطها، القلب بالتعلل رهين،من ومقك أتعبك (3)،القلة ذلة،المجامعة مسكنة،خير أهلك من كفاك،ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة،من ولع بالحسد ولع به الشؤم،كم تلف من صلف و كم ترف من سرف،عدو عاقل خير من صديق أحمق،التوفيق من السعادة و الخذلان من الشقاوة،من بحث عن (4)عيوب الناس فبنفسه بدأ،من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته،من سلم من ألسنة الناس كان سعيدا،من صحب الملوك تشاغل بالدنيا،الفقر طرف من الكفر،من وقع في ألسنة الناس هلك،من تحفّظ من سقط الكلام أفلح،كل معروف صدقة،كم من غريب خير من قريب،لو ألقيت الحكمة علي الجبال لقلقلتها (5)،كم من غريق هلك في بحر الجهالة،و كم من عالم قد أهلكته الدنيا،خير إخوانك من واساك و خير منه من كفاك،خير مالك ما أعانك علي حاجتك،خير من صبرت عليه من لا بد لك منه،أحق من أطعت مرشد لا يعصيك،من أحب الدنيا جمع لغيره، المعروف فرض و الايام دول (6)،عند تناهي البلاء يكون الفرج،من كان في النعمة جهل قدر البلية، من قل سروره كان في الموت راحته،قد ينمي القليل فيكثر و يضمحل الكثير فيذهب،ربّ أكلة منعت أكلات،أفلح حجة من شهد له خصمه بالفلح،السؤال مذلّة و العطاء محبّة،من حفر لأخيه بئرا كان بتردّيه فيها جديرا (7)،أملك عليك لسانك،حسن التدبير مع الكفاف أكفي من الكثير معد.
ص: 171
الإسراف،الفاحشة كاسمها،مع كلّ جرعة شرقة و مع كل أكلة غصة،بحسب السرور يكون التنغيص،الهوي يهوي بصاحبه (1)الهوي،عدو العقل[الهوي] (2)،الليل أخفي للويل،صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار،من أكثر من شيء عرف به،ربّ كبير جاهه صغير،ربّ ملول لا ذنب له،الحرّ حرّ و لو مسه الضرّ،ما ضلّ من استرشد و لا حار من استشار،الحازم لا يستبدّ برأيه، آمن من نفسك عندك من وثقت به علي سرّك،المودة بين الآباء قرابة بين الأبناء (3).
و قال عليه السّلام:من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه،من بالغ في الخصومة أثم،و من قصّر عنها (4)ظلم،من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته،إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها،من عظّم صغار المصائب إبتلاه اللّه بكبارها،الولايات (5)مضامير الرجال،ليس بلد بأحق بك من بلد،خير البلاد ما حملك،إذا كان في الرجل خلّة رائعة فانتظر أخواتها،الغيبة جهد العاجز،ربّ مفتون يحسن القول فيه،ما لابن آدم و الفخر أوله نطفة و آخره جيفة،لا يرزق نفسه،و لا يدفع حتفه،الدنيا تغر و تضر و تمر،إنّ اللّه تعالي لم يرضها ثوابا لأوليائه،و لا عقابا لأعدائه،و أنّ أهل الدنيا كركب بيناهم حلّوا إذ صاح سائقهم (6)،من صارع الحق صرعه،القلب مصحف البصر، التقي رئيس الأخلاق،ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله،و أحسن منه تيه الفقراء علي الأغنياء توكلا (7)علي الله،كل مقتصر عليه كاف،الدهر يومان يوم لك و يوم عليك فإن كان لك فلا تبطر (8)و إن كان عليك فلا تضجر،من طلب شيئا ناله أو بعضه،الركون إلي الدنيا مع ما يعاين منها جهل،و التقصير في حسن العمل مع الوثوق بالثواب عليه غبن،و الطمأنينة إلي كل أحد قبل الإختبار عجز،و البخل جامع لمساويء الأخلاق،نعم اللّه علي العبد مجلبة لحوائج الناس إليه فمن قام لله فيها بما يجب عرّضها للدوام و البقاء،و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال و الفناء،الرغبة مفتاح النصب،و الحسد مطية التعب،من علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه،من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه،العفاف زينة الفقر (9)و الشكر (10)زينة الغني،رسولك ترجمان عقلك و كتابك أبلغ ما ينطق عنك،الناس أبناء الدنيا و لا يلام الرجل علي حب امّه،الطمع ضامن غير وفيّ،و الأماني تعمي أعين البصائر،لا تجارة كالعملر.
ص: 172
الصالح و لا ربح كالثواب و لا قائد كالتوفيق و لا حسب كالتواضع و لا شرف كالعلم و لا ورع كالوقوف عند الشبهة و لا قرين كحسن الخلق و لا عبادة كأداء الفرائض و لا عقل كالتدبير و لا وحدة أوحش من العجب،و من أطال الأمل أساء العمل (1).
و سمع عليه السّلام رجلا من الحرورية يقرأ و يتهجد،فقال:نوم علي يقين خير من صلاة في شك (2).
[و قال عليه السّلام]:إذا تمّ العقل نقص الكلام،قدر الرجل علي قدر همته،قيمة كل امريء ما يحسنه،المال مادة الشهوات،الناس أعداء ما جهلوه،أنفاس المرء خطاه إلي أجله (3).
سئل عليه السّلام عن أحوال الإسلام و الإيمان و الكفر و النفاق فذكر ما يطرب سماعه و يعجب إبداعه، فقال عليه السّلام:أمّا الإسلام:فسهلة شرائعه لمن رزقه،و عزّة أركانه علي من حرّمه،لا يصطلمه محارب،و لا يحاربه فائز،عزّ لمن تولاّه،علّو لمن دخل فيه،هاد لمن اقتفاه،زينة لمن تحلّي به، نور لمن انتجاه (4)،عصمة لمن تمسّك به،شرف لمن عرفه،حجة لمن خاصم به،لب لمن تدبر، يقين لمن عقل،بصيرة لمن عزم،آية لمن توسم،عبرة لمن اتعظ،نجاة لمن صدق،راحة لمن فوض،مودة لمن أصلح،زلفي لمن ارتقب،ثقة لمن توكل،خير لمن سارع،الحق سبيله،و الهدي صفته،و الحسني ثمرته،فهو أبلج المنهاج،مشرق المنار،مضيء المصابيح،جامع الحلية،قديم العزّة،يسير المسلك،واضح البيان،الأمر (5)منهاجه،و الصالحات مناره،و الفقه مصابيحه،و الدنيا مضماره،و الموت غايته،و القيامة حلبته،و الجنة سبقته،و النار نقمته،و المحسنون فرسانه،و الله تعالي وليّ ذلك كلّه.
و أمّا الإيمان:فعلي أربع دعائم:علي الصبر،و اليقين،و العدل،و الجهاد.
فالصبر:علي أربع شعب،فمن إشتاق إلي الجنة صبر عن الشهوات،و من أشفق من النار صبر علي (6)المحرّمات،و من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب،و من ارتقب الموت سارع إلي الخيرات.
و اليقين:علي أربع شعب:بصيرة الفطنة،و تأول الحكمة،و معرفة العبرة،و اتّباع سنة الأولين،فمن أبصر الفطنة تأول الحكمة،و من تأول الحكمة عرف العبرة،و من عرف العبرة عرف السنّة،و من عرف السنّة فكأنّه كان في الأولين.
ص: 173
و العدل:علي أربع شعب:علي الفهم،و العلم،و الحلم،و الحكم،فمن فهم جمع العلم، و من علم عرف شرائع الحلم،و من عرف شرائع الحلم لم يضل في الحكم،و من حكم عدلا لم يفرط في أمره و عاش حميدا.
و الجهاد:علي أربع شعب:الأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر،و الصدق في المواطن، و شنآن الفاسقين،فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين،و من نهي عن المنكر أرغم أناف الفاسقين،و من صدق في المواطن قضي الذي عليه،و من شنأ الفاسقين غضب لله،و من غضب لله غضب اللّه له فأزلفه و أعلي مقامه.
و أما الكفر:فعلي أربع دعائم:الشقاق،و الغلو،و الشك،و الشبهة.
و الشقاق:من ذلك أربع شعب:الجفاء،و العماء،و الغفلة،و العتو،فمن جفا احتقر الحق و جهر بالباطل و مقت العلماء و أصرّ علي الحنث العظيم،و من عمي نسي الذكر و اتبع الظن و طلب المغفرة بلا توبة و لحّ عليه الشيطان،و من غفل حار عن الرشد و غرّته الأماني و أخذته الحسرة و الندامة و بدا له من اللّه ما لم يكن يحتسبه،و من عتا عن أمر اللّه أذلّه اللّه بعز سلطانه و صغّره بجلاله كما اغتر بربه الكريم.
و الغلو:علي أربع شعب:التعمق،و التنازع،و الزيغ،و الشقاق،فمن تعمق(له)لم يثبت (1)إلي الحق و لم يزدد إلاّ تمردا في الغمرات و لم ينحسر عنه فتنة إلاّ غشيته اخري و انخرق دينه فهو يهوي في أمر مهيج،و من نازع تخاصم و من تخاصم إنقطع به العمل عن سلوك نهج النجاح،و من زاغ قبحت عنده الحسنة و حسنت عنده السيئة،و من شاق اعورت عليه طرقه،و اعترض عليه أمره، و ضاق مخرجه،و ضلّ هداه إذ لم يتبع سبيل المؤمنين.
و الشك:علي أربع شعب:الهول،و التردد،و الإقدام،و الاستسلام،فمن هاله ما بين يديه نكص علي عقبيه،و من تردد في الريب سبقه الأولون فادركه الآخرون،و من أقدم بلا بصيرة و طئته سنابك الشيطان،و من استسلم لهلكة الدنيا و الآخرة هلك،فمن نجا فمن فضل اليقين،فبأي آلاء ربكما تتماري.
و الشبهة:علي أربع شعب:إعجاب بالزينة (2)،و سؤال النفس،و تأول العوج،و لبس الحق بالباطل،و الزينة باقية علي البغية (3)و العجب بها راسخ في الجبلة،فإنّ النفس تهجم علي الشهوة فتسولها،و أنّ العوج يميل ميلا عظيما،و أنّ اللبس ظلمات بعضها فوق بعض.ة.
ص: 174
و أمّا النفاق:فعلي أربع دعائم:الهوي،و الهوينا،و الحفيظة،و الطمع.
فالهوي:علي أربع شعب:البغي،و العدوان،و الشهوة،و الطغيان،فمن بغي كثرت غوائله و نصر عليه و تخلي عنه،و من أعتدي لم تؤمن بوائقه و لم يسلم قلبه و لم يعدل نفسه عن الشهوات و إتيان الخبيثات،و من طغي ضلّ عن المحجة بلا حجّة.
و الهوينا:علي أربع شعب:الغرة،و الأمل،و الهيبة،و المماطلة،و ذلك أنّ الهيبة تؤخر الحق،و تعضد الغرة بالمماطلة في الأمل حتي يقدم الأجل و لو لا الأمل علم الانسان (1)ما هو فيه، و لو علم ذلك مات خاليا من الهوي.
و الحفيظة:علي أربع شعب:الكبر،و الفخر،و الحميّة،و العصبيّة،فمن إستكبر أدبر عن الحق،و من فخر فجر،و من حمي أصرّ،و من أخذته العصبيّة جار،و بئس الأمر بين إدبار و فجور و إصرار و جور عن الصراط المستقيم.
و الطمع:علي أربع شعب:الفرح،و المرح،و اللجاجة،و البطر.
فالفرح مكروه عند اللّه تعالي،و المرح خيلاء،و اللجاجة بلاء فيمن اضطرّته حبائل الآثام، و البطر لهو و لعب و شغل و استبدال الذي هو أدني بالذي هو خير،و كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروها (2).
قد اشتمل كتاب نهج البلاغة المنسوب إليه عليه السّلام علي أنواع من خطبه و مواعظه الصادعة بأوامرها و نواهيها،المطلّعة أنوار الفصاحة و البلاغة،مشرقة من ألفاظها و معانيها الجامعة حكم عيون علم المعاني و البيان علي اختلاف أساليبها،مودعة فيها و لا يليق نقل ما فيه مع شهرته و كثرة نسخه بمنصب من نصب نفسه لجمع أشتاب المناقب من أرجاء محالها و نواحيها،و إن حصل الإعراض عن نقله لم تظفر يد الطلب بالمقاصد التي تتواخاها و تتبّعها (3)،فرأيت أن أقتصر علي شيء يسير منها لئلا اخلي هذا النوع الذي هو أحد دعائم هذا الفصل عنها.
فمنها ما ذكره بعد إنصرافه من صفّين:أحمده استتماما لنعتمه،و استسلاما لعزّته،و استعصاما
ص: 175
من معصيته،و أستعينه فاقة إلي كفايته،إنّه لا يضل من هداه،و لا يئل (1)من عاداه،و لا يفتقر من كفاه، فإنّه أرجح ما وزن،و أفضل ما (2)حزن،و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه[وحده لا شريك له] (3)،شهادة ممتحنا إخلاصها،معتقدا مصاصها،نتمسك بها أبدا ما أبقانا،و ندخرها لأهوال (4)ما يلقانا،فانها عزيمة الايمان،و فاتحة الإحسان،و مرضاة الرحمن[و مدحرة الشيطان] (5)،و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله،أرسله بالدين (6)،و العلم المأثور،و الكتاب المسطور،و النور الساطع،و الضياء اللاّمع، و الأمر الصادع،إزاحة للشبهات،و احتجاجا بالبيّنات،و تحذيرا بالآيات،و تخويفا بالمثلات،و الناس في فتن،انجذم فيها حبل الدين،و تزعزعت سواري اليقين،و اختلف النجر (7)،و تشتت الأمر، و ضاق (8)المخرج،و عمي المصدر،فالهدي خامل،و العمي شامل،عصي الرحمن،و نصر الشيطان، و خذل الإيمان،فانهارت دعائمه،و تنكرت معالمه،و درست سبله،و عفت شركه،أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه،و وردوا مناهله،بهم سارت (9)أعلامه و قام لواؤه،في فتن داستهم بأخفافها، و وطئتهم بأظلافها،[و قامت علي سنابكها] (10)فهم فيها[تائهون حائرون جاهلون] (11)مفتونون في خير دار،و شرّ جيران،نومهم سهود،و كحلهم دموع،بأرض عالمها ملجم،و جاهلها مكرم (12).
و منها:أيّها الناس،شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة،و عرّجوا عن طريق المنافرة،وضعوا تيجان المفاخرة،أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح[هذا] (13)ماء آجن،و لقمة يغص بها آكلها،و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه،فإن أقلّ يقولوا حرص علي الملك، و إن أسكت يقولوا جزع من الموت،هيهات بعد اللتيّا و التي،و الله لإبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه،بل اندمجت علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة (14).9.
ص: 176
و من خطبة له عليه السّلام:أمّا بعد؛فإنّ الدنيا قد أدبرت و أذنت بوداع،و إنّ الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطّلاع،ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السباق،و السبقة الجنّة،و الغاية النار.
أفلا تائب من خطيئته قبل منيته (1)!ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه!
ألا و إنّكم في[أيام] (2)أمل،من ورائه أجل؛فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله و لم يضرره أجله،و من قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله و ضرّه أجله.
ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة.
ألا و إنّي لم أر كالجنّة نام طالبها،و لا كالنار نام هاربها.
ألا و إنّه من لا ينفعه الحق يضرّه الباطل،و من لا يستقيم به الهدي يجرّ به الضلال[إلي الردي].
ألا و أنّكم قد أمرتم بالظعن و دللتم علي الزاد،و إنّ أخوف ما(أخاف) (3)عليكم إتّباع الهوي و طول الأمل،فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا (4).
و من خطبة له عليه السّلام في استنفار الناس إلي أهل الشام و قد تثاقلوا:
أف لكم!لقد سئمت عتابكم.أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا،و بالذلّ من العزّ خلفا! إذا دعوتكم إلي جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت في غمرة،و من الذهول في سكرة.
يرتجّ عليكم حواري فتعمهون؛فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون.
ما أنتم لي بثقة سجيس اللّيالي،و ما أنتم(لي)ركن يمال بكم،و لا زوافر عزّ يفتقر إليكم،ما أنتم إلاّ كإبل (5)ضلّ رعاتها؛فكلّما جمعت من جانب إنتشرت من آخر (6).لبئس(العمل و العمر) (7)اللّه سعر نار الحرب أنتم؛!تكادون و لا(تكيدون،و تنتقص) (8)أطرافكم فلا تتعظون (9)؛لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون،غلب و الله المتخاذلون.ن.
ص: 177
و أيم الله؛إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس الوغي (1)،و استحرّ الموت؛قد انفرجتم عن ابن أبي طالب إنفراج الرأس.
و الله إنّ أمرأ يمكّن عدوّه من نفسه؛يعرق لحمه،و يهشم عظمه،و يفري جلده،لعظيم عجزه، ضعيف[ما ضمت عليه جوانح] (2)صدره،أنت فكن ذاك إن شئت؛فأمّا أنا فو الله دون أن أعطي ذلك،ضرب بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام،و تطيح السواعد و الأقدام،و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء (3).
و من خطبة[له]عليه السّلام[بعد التحكيم]:الحمد لله و إن أتي الدهر بالخطب الفادح،و الحدث الجليل فإنّه لا ينجو من الموت من خافه و لا يعطي البقاء من أحبّه ألا و إنّ الوفاء توأم الصدق و لا أعلم جنّة أوقي منه و ما يغدر من علم كيف المرجع.
و لقد أصحبنا في زمان[قد] (4)اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا و نسبهم أهل الجهل فيه إلي حسن الحيلة.مالهم قاتلهم اللّه و قد يري الحوّل القلّب وجه (5)الحيلة و دونها مانع من[أمر] (6)اللّه تعالي و نهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة[عليها]و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (7).
و من كلامه لأصحابه في بعض مواقف صفين:
معاشر المسلمين،إستشعروا الخشية،و تجلببوا السكينة (8)،و عضّوا علي النواجذ،فإنّه أنبي للسيوف عن الهام،و أكملوا الّلامة،و قلقلوا السيوف من (9)أغمادها قبل سلّها،و الحظوا الخزر، و اطعنوا الشزر،و نافحوا بالظّبا،و صلوا السيوف بالخطا،و اعلموا أنّكم بعين من اللّه تعالي،و مع ابن عمّ رسول الله،فعاودوا الكرّ،و استحيوا من الفرّ،فإنّه عار في الأعقاب،و نار يوم الحساب، و طيبوا عن أنفسكم نفسا،و امشوا إلي الموت مشيا سجحا،عليكم بهذا السواد الأعظم،و الرواق المطنّب،فاضربوا بثجة،فإنّ الشيطان كامن في كسره،و قد قدّم للوثبة يدا و أخّر للنكوص رجلا.
فصمدا صمدا،حتّي ينجلي عمود الحق و أنتم الأعلون،و الله معكم،و لن يتركم أعمالكم (10).
و ترغيبه فيه عليه السّلام:رحم اللّه عبدا سمع حكما فوعي،و دعي إلي رشاد فدنا،و أخذ بحجزة هاد8.
ص: 178
فنجا؛راقب ربه،و خاف ذنبه،و قدّم خالصا،و عمل صالحا،إكتسب مذخورا[و اجتنب محذورا] (1)و رمي غرضا،و أحرز (2)عوضا،كابر هواه،و كذّب مناه،جعل الصبر مطية نجاته،و التقوي عدة وفاته،ركب الطريقة الغرّاء،و لزم المحجة البيضاء،اغتنم المهل،و بادر الأجل،و تزود من العمل قبل انقطاع الأمل (3).
و من خطبة يوبخ أهل الكوفة و قد تثاقلوا في الخروج إلي الخوارج معه:
أيّها الفئة المجتمعة أبدانهم المتفرقة أديانهم،إنّه و الله ما عزة دعوة من دعاكم،و لا إستراح قلب من قاساكم،كلامكم يوهن الصم الصلاب،و فعلكم يطمع فيكم عدوكم المرتاب،إذا دعوتكم إلي أمر فيه صلاحكم و الذب عن حريمكم إعتراكم الفشل و جئتم بالعلل،ثم قلتم كيت و كيت و ذيت و ذيت،أعاليل و أضاليل و أقوال الأباطيل،ثم سألتموني(التأخير)دفاع ذي الدين المطول (4)، هيهات هيهات!إنّه(لا يدفع الضيم الذل) (5)،و لا يدرك الحق إلاّ بالجد،فخبروني يا أهل العراق مع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟أم أية دار تمنعون؟الذليل و الله من نصرتموه و المغرور من غررتموه، أصبحت لا أطمع في نصركم و لا أصدّق قولكم،فرّق اللّه بيني و بينكم،و أبدلكم بي غيري و أبدلني بكم من هو خير لي منكم،أما إنّه ستلقون بعدي ذلا شاملا و سيوفا قاطعة،و أثره قبيحة يتخذها الظالمون عليكم سنة فتبكي عيونكم،و يدخل الفقر بيوتكم و قلوبكم،و تمنون في بعض حالاتكم (6)إنّكم رأيتموني فنصرتموني و أرقتم دماءكم دوني،فلا يبعد اللّه إلاّ من ظلم.
يا أهل الكوفة:أعظكم فلا تتعظون،و أوقظكم فلا تستيقظون!إنّ من فاز بكم فقد فاز بالخيبة،و من رمي بكم فقد(رمي)بافوق ناصل،أف لكم!لقد لقيت منكم برحا،يوما أناديكم و يوما أناجيكم (7)فلا أحرار عند النداء،و لا ثبة عند المصائب،فيالله ما ذا منيت به منكم،لقد منيت (8)بصمّ لا يسمعون و كمه لا يبصرون،و بهم لا يعقلون،أما و الله لو أني حين أمرتكم بأمري حملتكم علي المكروه منّي،فإذا استقمتم هديتم،و إن أبيتم بدأت بكم و لكانت الزلفي (9)،و لكني تراخيت لكم و توانيت عنكم و تماديتم في غفلتكم،فكنت أنا و أنتم كما قال الأول:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوي فلم يستبينوا الرشد إلاّ ضحي الغد (10)8.
ص: 179
اللهم إنّ دجلة و الفرات نهران أصمّان أبكمان،فأرسل عليهما ماء بحرك و أنزع منهم ماء نصرك،حبذا إخواني الصالحون!إن دعوا إلي الإسلام قبلوا و قرأوا القرآن فاحكموه،و ندبوا إلي الجهاد فطلبوه،فحقيق لهم الثناء الحسن،وا شوقاه إلي تلك الوجوه.
ثم ذرفت عيناه و نزل عن المنبر،و قال (1):إنّا لله و إنّا إليه راجعون إلي ما صرت إليه،صرت إلي قوم إن أمرتهم (2)خالفوني،و إن اتبعهم تفرقوا عني،جعل اللّه لي منهم فرجا عاجلا.
ثم دخل منزله فجاء رجل من أصحابه فقال:يا أمير المؤمنين إنّ الناس قد ندموا علي تثبطهم و قعودهم و علموا أنّ الحظ في إجابتك لهم،فلو عاودتهم (3)في الخطبة.فلمّا أصبح من غد دخل المسجد الأعظم و نودي بالناس فاجتمعوا فلمّا غصّ المسجد من الناس صعد المنبر و خطب(هذه الخطبة) (4).
فقال(بعد أن حمد اللّه تعالي) (5):أيها الناس!ألا ترون إلي أطرافكم قد انتقضت،و إلي بلادكم تغزي و أنتم ذوو عدد جم و شوكة شديدة؟فما بالكم اليوم لله أبوكم من أين تؤتون و من أين تسخرون و أني تؤفكون،إنتبهوا رحمكم اللّه و تحركوا لحرب عدوكم،فقد أبدت الرغوة عن الصريح لذي عينين،و قد أضاء الصبح لذي عشا،فاسمعوا قولي هداكم اللّه إذا قلت،و أطيعوا أمري إذا أمرت،فو الله لئن أطعتموني لن تغووا،و إن عصيتموني لن (6)،خذوا للحرب اهبتها و أعدّوا لها عدتها (7)و أجمعوا لها،فقد شبّت و أوقدت نارها،و تحرك لكم الفاسقون لكي يطفئوا نور اللّه و يغزوا عباد الله،فو الله إن لو لقيتهم وحدي و هم أضعاف ما هم عليه لما كنت بالذي أخافهم،و لا أستوحش(منهم و)من قتالهم،فإنّي من ضلالهم (8)التي هم عليها،و الحق الذي أنا عليه لعلي بصيرة و يقين،و إنّي إلي لقاء ربي لمشتاق،و لحسن (9)ثوابه لمنتظر،و هذا القلب الذي ألقاهم به، هو القلب الذي لقيت به الكفار مع رسول الله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو القلب الذي لقيت به أهل الجمل،و أهل صفين ليلة الهرير،فإذا أنا أنفرتكم فانفروا خفافا و ثقالا،و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل اللّه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.اللهم إجعلنا و إيّاهم علي الهدي،و جنبنا و إياهم البلوي،و اجعل الآخرة لنا و لهم خيرا من الاولي (10).:-
ص: 180
فلمّا فرغ من كلامه أجابه الناس سراعا فخرج إلي الخوارج.
و نقل أنّ جماعة حضروا لديه،و تذاكروا فضل الخط،و ما فيه فقالوا:ليس في الكلام أكثر من الألف،و يتعذّر النطق بدونها.
فقال لهم في الحال هذه الخطبة من غير سابق فكرة،و لا تقدم روية،و سردها و ليس فيها ألف:(و هي هذه):حمدت من عظمت منّته،و سبغت نعمته،و تمت كلمته،و نفذت مشيئته،و بلغت حجته،و عدلت قضيته و سبقت غضبه رحمته،حمدته حمد مقرّ بربوبيته،متخضّع لعبوديته،متضل (1)من خطيئته،معترف بتوحيده،مستعيذ من وعيده،مؤمل من ربه مغفرة تنجيه،يوم يشغل كل عن فصيلته و بنيه.
و نستعينه و نسترشده،و نؤمن به و نتوكل عليه،و شهدت له شهود عبد (2)موقن،و فردته تفريد مؤمن متقن،و وحدته توحيد عبد مذعن،ليس له شريك في ملكه،و لم يكن له وليّ في صنعه (3)، جلّ عن مشير و وزير،عون و معين و نظير.علم فستر،و بطن فخبر،و ملك فقهر،و عصي فغفر،و عبد فشكر،و حكم فعدل،و تكرم و تفضل لن يزول و لم يزل،ليس كمثله شيء،و هو قبل كل شيء و بعد كل شيء،ربّ متفرد بعزته،متمكن بقوته،متقدّس بعلوّه،متكبّر بسموّه،ليس يدركه بصر،و لم يحيط به نظر،قويّ منيع،بصير سميع،رؤوف رحيم.
عجز عن وصفه من وصفه،و ضلّ عن نعته من عرفه،قرب فبعد،و بعد فقرب،يجيب دعوة من يدعوه،و يرزقه و يحبوه،ذو لطف خفيّ،و بطش قويّ،و رحمة موسعة،و عقوبة موجعة،رحمته جنّة عريضة مونقة،و عقوبته جحيم ممدودة موبقة.
و شهدت ببعث محمّد (4)عبده،و رسوله،و نبيّه،و صفيّه،و حبيبه،و خليله،بعثه في خير عصر، و حين فترة و كفر،رحمة لعبيده،و منّة لمزيده،ختم به نبوّته،و وضحت به حجته،فوعظ و نصح، و بلّغ و كدح (5)،رؤوف بكل مؤمن،رحيم سخيّ،وليّ رضيّ زكيّ،عليه رحمة و تسليم،و بركة و تعظيم،و تكريم من ربّ غفور رحيم،قريب مجيب حليم.
وصيّتكم معشر من حضر بوصيّة ربّكم،و ذكّرتكم سنّة نبيكم،فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، و خشية تذري دموعكم،و تقيّة تنجيكم قبل يوم يذهلكم و يبتليكم،يوم يفوز فيه من ثقل وزنح.
ص: 181
حسنته (1)،و خفّ وزن سيئته (2)،و عليكم بمسألة ذل و خضوع،و تملق و خشوع و توبة و نزوع و ليغنم كلّ منكم صحّته قبل سقمه،و شبيبته قبل هرمه،وسعته قبل فقره،و فرغته قبل شغله،و حضره قبل سفره،و حياته قبل موته،قبل أن يهن و يمرض و يسقم،و يملّه طبيبه،و يعرض عنه حبيبه،و ينقطع عمره و يتغير عقله،ثم قيل:هو موعوك،و جسمه منهوك،ثم جدّ في نزع شديد،و حضر كلّ قريب و بعيد،فشخص ببصره،و طمح بنظره،و رشح جبينه،و خطف عرينه،(و سكن حنينه)،و جذبت نفسه،و بكت عرسه،و حفر رمسه،و يتمّ منه ولده،و تفرق عنه عدده،و فصم جمعه،و ذهب بصره و سمعه،و جرّد،و غسل،و نشّف و سجّي،و بسط له و هيّء،و نشر عليه كفنه،و شدّ منه ذقنه،و حمل فوق سرير،و صلّي عليه بتكبير،بغير سجود و تعفير،و نقل من دور مزخرفة،و قصور مشيّدة،و فرش منجّده،فجعل في ضريح ملحود ضيق مرصود،بلبن منضود،مسقّف بجلمود،و هيل عليه عفره، و حثي مدره،و تحقق حذره،و نسي خبره،و رجع عنه وليّه،و نديمه و نسيبه و حميمه،و تبدّل به قريبه و حبيبه،فهو حشو قبر،و رهين حشير (3)،يدب في جسمه دود قبره،و يسيل صديده من منخره، و تسحق تربته لحمه،و ينشف دمه،و يرم عظمه حتي(يوم)حشره،فينشره من قبره(و) (4)ينفخ في صور،و يدعي لمحشر و نشور.
فثمّ بعثرت قبور،و حصّلت سريرة صدور،و جيء بكلّ نبي(و صدّيق)و شهيد،و نطيق و قعد لفصل حكمه قدير،بعبده خبير بصير،فكم زفرة تغنيه،و حسرة تضنيه،في موقف مهيل،و مشهد جليل،بين يدي ملك عظيم،بكلّ صغيرة و كبيرة عليم،فحينئذ يلجمه عرقه،و يحفزه قلقه،فعبرته غير مرحومة،و صرخته غير مسموعة،و برزت صحيفته و تبينت جريرته فنظر في سوء عمله،و شهدت عينه بنظره،و يده ببطشه،و رجله بخطوه،و جلده بلمسه،و فرجه بمسه،و تهدده منكر و نكير،و كشف له حيث يصير،فسلسل جيده،و غلّت يده،و سيق يسحب وحده،فورد جهنم بكرب شديد،و ظلّ يعذّب في(جهنم)جحيم،و يسقي شربة من حميم،تشوي وجهه،و تسلخ جلده،يستغيث فيعرض عنه خزنة جهنم،و يستصرخ خفية بندم.
نعوذ بربّ قدير،من شرّ كلّ مصير،و نسأل عفو من رضي عنه،و مغفرة من قبل منه و هو وليّ مسألتي،و منجح طلبتي،فمن زحزح عن تعذيب ربّه جعل في جنّته بقربه،و خلّد في قصور و نعمة و ملك بحور عين و تقلّب في نعيم،و سقي من تسنيم مختوم بمسك و عبير يشرب من خمر معذوذب شربه ليس تنزف لبّه.هذه منزلة من خشي ربّه،و حذر نفسه و تلك عقوبة من عصي مشيئته،و سولت له نفسه معصيته،لهم قول فصل خير قصص قصّ و وعظ به و نصّ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (5)(6).0.
ص: 182
و ممّا نقل عنه عليه السّلام من المنهاج البديع،و الازدواج الصنيع،ما جمع بلاغة التصحيف،و براعة التأليف قوله عليه السّلام:غرّك عزّك فصار قصار ذلك ذلّك فاخش فاحش فعلك فعلّك بهذا تهدي و السلام (1).
و ممّا نقل عنه عليه السّلام في هذا المقام ما هو أفصح وضعا،و أرجح نفعا،و أبلغ الأنواع البلاغة و الفصاحة جمعا قوله:(العالم حديقة،سياجها الشريعة،و الشريعة سلطان تجب له الطاعة،و الطاعة سياسة يقوم بها الملك،و الملك راع يعضده الجيش،و الجيش أعوان يكفلهم المال،و المال رزق تجمعه الرعيّة،و الرعية سواد يستعبدهم العدل،و العدل أساس به قوام العالم) (2).
و مما نقل عنه قوله:أوجب اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك،و الصلاة تنزيها من الكبر،و الزكاة سببا للرزق،و الصيام إبتلاء للإخلاص،و الحجّ تقوية للدين،و الجهاد عزّ للإسلام،و الأمر بالمعروف مصلحة للخلق،و النهي عن المنكر ردعا للسفهاء،و صلة الرحم منماة للعدد،و القصاص حقنا للدماء،و إقامة الحدود إعظاما للمحارم،و حرّم الزنا تصحيحا للأنساب،و شرب الخمر تحصينا للعقول،و السرقة حفظا للأموال،و اللواط تكثيرا للنسل،و الكذب تشريفا للصدق،و شرّع الشهادات استظهارا علي الجاحدين،و السلام أمنا للخائفين،و الأمانة نظاما للامة،و الطاعة تعظيما للإمامة (3).3.
ص: 183
تمهيد 5
ما كان في أيام الخليفة الأول 7
*نقطة علي السطر:10
ما كان من عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء 10
اعتراض عمر يوم وفاة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 13
اعتراض عمر يوم الحديبية 17
هتك بيت الزهراء عليها السّلام 19
و من هفوات الخليفة الثاني 19
*نقطة علي السطر:27
حين لا ينفع الندم 28
ما كان من عثمان بن عفان 29
مقارنة بين تصرفات الفاضل و المفضول 34
الخاتمة 39
الإجماع علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام 40
عدم خلو الزمان من الحجة 41
آية التصدق 42
في أنّ الخاتم كان خاتم سليمان عليه السّلام 43
دلالة الآية علي الإمامة 45
مناقشات في آية التصدق 55
نصّ الغدير 56
صحة و تواتر الغدير 63
دلالة حديث الغدير 64
فهم الشعراء لحديث الغدير 70
استشهاد الأمير عليه السّلام بالغدير 73
نموذج من استشهاد الأمير بالغدير 74
و من الاحتجاجات بالغدير:76
احتجاج فاطمة عليها السّلام 76
حديث المنزلة 82
مكان صدور حديث المنزلة و مواطنه 83
رواة حديث المنزلة و مصادره 95
صحة المنزلة و تواتره 96
الاحتجاجات بحديث المنزلة 99
دلالة حديث المنزلة علي الإمامة 103
ما جاء في عمومية الحديث 105
استدلال المأمون بحديث المنزلة 106
تحريفات في حديث المنزلة 108
*الطريق السابع:حديث الدار 110
تحريف في حديث الدار 114
*الطريق الثامن:نص الأفعال 116
حديث سد الأبواب 122
بعض نصوص حديث سد الأبواب 123
صحة و تواتر حديث سد الأبواب 128
الاحتجاجات بحديث سد الأبواب 131
احتجاج الإمام الحسين عليه السّلام 131
دلالة حديث سد الأبواب 133
قولنا في دلالة الحديث 134
نموذج من سرقة فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام 140
*الطريق التاسع:النص الجلّي 146
الخاتمة 150
في فصاحة علي عليه السّلام و جمل من كلامه 152
ما قاله في الحكم و الأمثال 168
في ما قاله عن الإسلام و الإيمان 173
بعض الخطب و المواعظ 175
ص: 184