مصباح المنهاج - كتاب التجارة المجلد 2

اشارة

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 1

اشارة

مصباح المنهاج

ص: 2

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

ص: 3

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 4

الجزء الثاني

(5)

آداب التجارة

بسم الله الرحمن الرحيم

(مسألة 43): يستحب التفقه فيها (1)

---------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطاهرين. ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) كما ذكره غير واحد. واستدل عليه بمعتبر الأصبغ بن نباتة: (سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول علي المنبر: يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر. والله للربا في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل علي الصفا...)(1) ، وموثق طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم) (2) ، وغيرهما.

لكنها ظاهرة في وجوب التعلم وجوباً طريقياً بملاك التحفظ من الوقوع في الحرام، نظير ما يذكر في الأصول من وجوب الفحص عن الأدلة وتعلم الأحكام قبل الرجوع للأصول الترخيصية، وعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص من المخصص ونحو ذلك. وهو المتعين لهذه النصوص، ولجميع الأدلة المذكورة هناك. ولاسيما وأن الأصل الأولي يقتضي بطلان المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها بمجرد احتمال بطلانها ولو مع عدم العلم الإجمالي بذلك. وربما يرجع إلي ذلك ما عن الإيضاح من أن التعلم قد يجب.

-

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

ص: 5

(6)

ليعرف صحيح البيع من فاسده، ويسلم من الربا. بل مع الشك في الصحة والفساد لا يجوز له ترتيب آثار الصحة (1) بل يتعين عليه الاحتياط.

---------------

هذا وفي الجواهر: (وعلي كل حال فالمراد بالتفقه المستحب إحراز المعرفة قبل الشروع مخافة عدم التنبه لكثير مما يعتبر فيه علي وجه يق) تضي فساده، فتندرج في أكل المال بالباطل، لا مطلقاً، ضرورة وجوبها بحكم الشرع في كل فعل وترك، فإن طلب العلم فريضة علي كل مسلم، نعم لا يعتبر في الشروع في أسباب المعاملة سبق العلم بالصحة والفساد... فله حينئذ إيقاع المعاملة مثلاً، ثم السؤال عن صحتها وفسادها ثم ترتيب الآثار علي ذلك).

وظاهره حمل نصوص المقام علي استحباب سبق التعلم علي إيقاع أسباب المعاملة في مقابل تأخيره عنها مع الإتيان به قبل ترتب الأثر، لا في مقابل عدم الإتيان به رأساً. لكنه مخالف لظاهر النصوص المذكورة، لظهور التعليل فيها بخوف الوقوع في الربا في أن المراد ترك التعلم رأساً، وذلك ملزم بحملها علي وجوب التعلم، ولا يبقي لاستحباب سبق التعلم وجه.

ولا يخلو كلامه عن تدافع لظهور صدره في أن استحباب سبق التعلم علي إيقاع المعاملة للحذر من فساد المعاملة الموجب لأكل المال بغير حق المناسب لكون سبق التعلم في مقابل تركه رأساً، وظاهر ذيله أن المستحب سبق التعلم في مقابل تأخيره عن الشروع فيها قبل ترتيب الأثر عليها، لا في مقابل تركه رأساً، والأول يقتضي الوجوب كما ذكرناه واعترف به في أثناء كلامه، والثاني مخالف لظاهر نصوص المقام، لظهور أن الوقوع في الربا مثلاً إنما يكون بترك التعلم رأساً، فلاحظ.

(1) لأصالة عدم ترتب الأثر، الذي هو الأصل الأولي في جميع المعاملات، كما لا يجوز ترتيب آثار الفساد عليها، لما دل علي وجوب الفحص، حيث يمنع من الرجوع للأصول قبله، بل يتعين الاحتياط، كما ذكره (قدس سره). وذلك إما بتجنب إيقاع المعاملة، أو التقايل فيها بعد إيقاعها، أو التصالح والتراضي بين المتعاملين مع قطع

ص: 6

(7)

ويستحب أن يساوي بين المبتاعين (1)، فلا فرق بين المماكس ونحوه بزيادة السعر في الأول أو بنقصه (2).

---------------

النظر عنها، أو غير ذلك، ولا يجوز ترتيب أثر الصحة أو البطلان إلا بعد الفحص عن حكم المعاملة.

(1) كما ذكره غير واحد. لخبر عامر بن جذاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(أنه قال في رجل عنده بيع فسعره سعراً معلوماً، فمن سكت عنه ممن يشتري منه باعه بذلك السعر، ومن ماكسه وأبي أن يبتاع منه زاده. قال: لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس، فأما أن يفعله بمن أبي عليه وكايسه وبمنعه من لم يفعل فلا يعجبني إلا أن يبيعه بيعاً واحداً) (1) .

(2) كأن التعميم المذكور بلحاظ قوله (عليه السلام):

(فلا يعجبني إلا أن يبيعه بيعاً واحداً) فإن مقتضاه عدم التفاضل بين المبتاعين لا بزيادة المماكس ولا بنقصه، لكن الظاهر عدم الإطلاق له، وأن المتيقن منه التوحيد في البيع في مقابل زيادة المماكس، ولا يعم نقصه.

هذا وسياق الخبر يقضي بأن المراد من زيادة المماكس هو زيادة الثمن عليه، بأن يبيعه بسعر أعلي من سعر غير المماكس. لكن الظاهر إرادة زيادة المثمن عليه، كما نبه له في مرآة العقول، بأن يعطي المماكس بالثمن الواحد أكثر من ما يعطي غير المماكس، فيكون السعر في حقه أقل، أو يراد بالزيادة كون البيع أصلح وأحسن في حق المماكس. فإن المنصرف منه أن الزيادة المذكورة استجابة لامتناعه، لا عقوبة له علي الامتناع، ولأن ذلك هو المتعارف، ولظهور قوله (عليه السلام):

(ويمنعه من لم يفعل) في أن الأمر الممنوع منه خير للمشتري، ولقضاء المناسبات الإرتكازية بابتناء الحكم علي الإرفاق بغير المماكس، لترسله وغفلته، وهو يناسب ما ذكرنا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 7

(8)

أما لو فرق بينهما لمرجحات شرعية كانت - كالعلم والتقوي وغيرهما - فالظاهر أنه لا بأس به (1). ويستحب أن يقيل النادم (2)، ويشهد

---------------

ومنه يظهر عدم كراهة زيادة السعر عند السوم علي من يعرف منه المماكسة تحفظاً من مماكسته، الذي قد يجر للبيع منه بالسعر الأكثر، لخروجه عن مقتضي النص.

(1) لخروجه عن موضوع النص. بل صرح فيه بعدم البأس بتفضيل الرجلين والثلاثة من دون التزام بالتفضيل لأجل المماكسة. ومنه يظهر عدم الكراهة في الترجيح لجهات أخر، كالصداقة والرحمية والحاجة إلي غير ذلك من المرجحات الشرعية وغيرها.

(2) كما ذكره غير واحد. ويقتضيه غير واحد من النصوص، كموثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: أربعة ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: من أقال نادماً، أو أغاث لهفان، أو أعتق نسمة، أو زوج عزباً) (1) ، وخبر هارون بن حمزة عنه (عليه السلام):

(أيما عبد أقال مسلماً في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة) (2) ، وغيرهما.

وفي الجواهر: (للأخبار التي لا فرق فيها بين البايع والمشتري وبين المؤمن والمسلم وغيرهما)، وما ذكره من عدم الفرق بين البايع والمشتري في محله. أما عدم الفرق بين المؤمن والمسلم وغيرهما فلا يخلو عن إشكال، لأنه وإن كان مقتضي إطلاق الموثق وغيره، إلا أن انصرافه للمسلم بل المؤمن قريب جداً، لقضاء المناسبات الإرتكازية بابتناء الحكم علي مراعاة مقتضي الولاية الخاصة بالمؤمنين ورعاية حقهم وحرمتهم. ومنه يظهر أنه مقتضي عموم استحباب قضاء حاجة المؤمن.

نعم، قد يستحب بعنوان ثانوي من باب رجحان حسن المخالطة والمعاشرة مع المخالفين، بل مطلق الناس. بل لا يبعد رجحانه في نفسه، لكونه من مكارم الأخلاق. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة حديث: 5، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة حديث: 5، 2.

ص: 8

(9)

الشهادتين عند العقد (1)، ويكبر الله تعالي عنده (2)، ويأخذ الناقص ويعطي الراجح (3).

---------------

(1) لم أعثر عاجلاً علي ما تضمن ذلك من النصوص، وإنما المذكور فيها ذكر الشهادتين في ضمن دعاء يقوله الشخص عند الدخول للسوق أو عند جلوسه في موضعه منه(1). وفي خبر أبي عبيدة: (قال الصادق (عليه السلام):

من قال في السوق: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. كتب الله له ألف [ألف] حسنة) (2) . ولعل ذلك هو مراد بعض من ذكر الشهادتين، لا استحباب الإتيان بها عند العقد، كما في المتن.

(2) لم أعثر عاجلاً علي ما تضمن ذلك، وإنما ذكر التكبير للمشتري مرة في صحيح حريز(3) ، وثلاثاً في صحيح محمد بن مسلم(4) قبل دعاء خاص. وهو الذي ذكره في الشرايع، وقد يحمل عليه ما في القواعد من ذكر التكبير عند الشراء. لكنه ذكر الشهادتين أيضاً، ولم يتضح مستنده.

(3) كما في الشرايع وظاهر الوسائل، ويدل علي الثاني موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال:

مر أمير المؤمنين (عليه السلام) علي جارية قد اشترت لحماً من قصاب، وهي تقول: زدني. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): زدها فإنه أعظم للبركة) (5) .

وقد يستدل عليه أيضاً بما في صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد عنه (عليه السلام):

(قال: لا يكون الوفاء حتي يرجح) (6) ونحوه غيره. لكنه يدل علي وجوب ما يعلم معه بتحقق الوفاء خروجاً عن مقتضي الاشتغال اليقيني، ولا يدل علي وجوب ما زاد علي

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 18 من أبواب آداب التجارة، ومستدرك الوسائل باب: 15 من أبواب آداب التجارة.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(5) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(6) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

ص: 9

(10)

(مسألة 44): يكره مدح البايع سلعته، وذم المشتري لها (1)، وكتمان العيب (2)

---------------

ذلك ولا علي استحبابه.

وفي مرسل عوالي اللآلي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أنه قال للوازن: زن وأرجح) (1) . وعن الرواشح أن ذلك صدر منه (صلي الله عليه وآله وسلّم) حينما دفع الفضة ليوزن منها ويؤخذ الثمن، وهو يدل علي استحباب الزيادة للمشتري إذا دفع الثمن للبايع. نعم هما مختصان بالموزون المعرض للزيادة والنقصان عرفاً، ولا عموم لغيره، كالمعدود ونحوه من ما ينضبط.

أما الأول - وهو أخذ الناقص - فلم يتضح الدليل عليه. وفي الجواهر: (للاحتياط في التجنب عن البخس... ولما عساه يفهم من قوله تعالي: (ويل للمطففين الذين... الخ) من حسن خلافه). وهو كما تري.

(1) كما ذكره غير واحد. لموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

من باع واشتري فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشترين ولا يبيعن: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والحمد إذا باع، والذم إذا اشتري) (2) ، ومرفوع أحمد ابن محمد بن عيسي: (كان أبو إمامة صاحب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يقول: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يقول:

أربع من كن فيه طاب مكسبه: إذا اشتري لم يعب، وإذا باع لم يحمد، ولا يدلس، وفي ما بين ذلك لا يحلف) (3) . هذا ولو كان الذم والمدح كذباً، أو مؤديين للغش كانا محرمين، فلا إشكال في حرمتها.

(2) كما ذكره غير واحد، لموثق السكوني المتقدم، وفي مرسل أحمد بن محمد ابن يحيي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في حديث:

(ولا تكتم عيباً يكون في تجارتك... ) (4) ، ويأتي تمام الكلام في ذلك.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 7 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3، 7.

ص: 10

(11)

إذا لم يؤد إلي غش (1)، وإلا حرم، كما تقدم، والحلف علي البيع (2)، والبيع في المكان المظلم الذي يستتر فيه العيب (3).

---------------

(1) بأن لم يبتن البيع علي سلامة المبيع، كما لو تبرأ البايع من العيوب أو ابتني البيع علي كون المبيع معرضاً للعيب، كبيع الأشياء المستعملة وكان العيب من شأنه الظهور بالفحص.

لكن في عموم الخبرين المتقدمين له إشكال، لأن المنصرف من الكتمان ما يكون الغرض منه ستر العيب، الذي يتحقق بالكتمان فيه الغش المحرم، فيرجع للتدليس الذي تضمنه مرفوع أحمد بن محمد بن عيسي المتقدم، والغش الذي تضمنته النصوص الكثيرة(1) ، وتقدم الكلام فيه في المسألة السادسة والعشرين من المقدمة في المكاسب المحرمة. ومن ثم يشكل البناء علي الكراهة مع عدم لزوم الغش، كما في الفرض المتقدم.

(2) كما ذكره غير واحد، ويقتضيه موثق السكوني ومرفوع أحمد بن محمد بن عيسي المتقدمان، وخبر درست عن أبي الحسن موسي (عليه السلام)

:(قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم، أحدهم اتخذ الله بضاعة لا يشتري إلا بيمين ولا يبيع إلا بيمين) (2) ، وغيرها مما ورد في المقام، كما يقتضيه عموم النهي عن اليمين حتي الصادق الذي تضمنته النصوص الكثيرة(3). أما اليمين الكاذب فهو من أعظم المحرمات.

(3) كما ذكره غير واحد. ويقتضيه صحيح هشام بن الحكم:

(كنت أبيع السابري في الظلال فمر بي أبو الحسن الأول راكباً فقال: يا هشام إن البيع في الظلال غش، والغش لا يحل) (4) . لكن ستر العيب غش محرم، وحمل الصحيح عليه ملزم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 1، 2، 3 من أبواب كتاب اليمين.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 58 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 11

(12)

والربح علي المؤمن زائداً علي مقدار الحاجة (1)

بحمله علي الحرمة، كما هو مقتضي تطبيق كبري الغش فيه.

اللهم إلا أن يحمل التطبيق المذكور في الصحيح علي المبالغة، من أجل أن البيع في الظلال لا يستلزم ستر العيب، بنحو يصدق به الغش، بل غايته احتياج ظهوره إلي شيء من الفحص يتعارف وقوعه من المشتري، وإن أمكن خفاؤه علي المسترسل، ومثل ذلك لا يوجب صدق الغش عرفاً. ولاسيما وأنه لم يفرض في مورد كون المبيع معيباً، فلابد من كون التطبيق مبنياً علي المبالغة بلحاظ أنه مع البيع في الظلال لا يتضح حال البيع بجلاء من جميع الجهات غالباً، ومثل ذلك وإن لم يوجب الغش المحرم، إلا أنه مخالف للأولي، وللاستظهار في التعريف بالمبيع، فيحمل علي التوسع لبيان الكراهة.

ولابد حينئذ من حمل مراد الأصحاب علي ذلك، بقرينة حكمهم بالكراهة واستدلالهم عليها بالصحيح، وإلا فالجمود علي العنوان المذكور في كلامهم يقتضي الحرمة. ولعله لذا قال في مفتاح الكرامة: (ثم إنا لم نعثر علي قائل بالحرمة، وإن نقله صاحب الكفاية).

(1) كما صرح به غير واحد، بل نسب للأصحاب. ولعله المراد من ما في الشرايع من كراهة الربح علي المؤمن إلا مع الضرورة.

أما النصوص ففي خبر فرات بن الأحنف عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(قال: ربح المؤمن علي المؤمن ربا) (1) ، ونحوه أو عينه خبره الآخر(2).

وفي خبر سالم: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخبر الذي روي أن ربح المؤمن علي المؤمن ربا ما هو؟ فقال: ذلك إذا ظهر الحق وقام قائمنا أهل البيت، فأما اليوم فلا بأس بأن تبيع من الأخ المؤمن وتربح عليه)(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 5، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 5، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 5، 4.

ص: 12

(13)

وعلي الموعود بالإحسان (1)، والسوم ما بين طلوع الفجر وطلوع

---------------

وفي معتبر سليمان بن صالح وأبي شبل جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: ربح المؤمن علي المؤمن ربا إلا أن يشتري بأكثر من مائة درهم، فاربح عليه قوت يومك، أو يشتريه للتجارة، فاربحوا عليهم وأرفقوا بهم) (1) .

وفي خبر ميسر: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام):

إن عامة من يأتيني إخواني، فحدّ لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلي غيره، فقال لي: إن وليت أخاك فحسن، وإلا فبعه بيع البصير المداق) (2) . والمراد بقوله: (إن وليت...) بيعه برأس المال الذي هو بيع التولية في مقابل المرابحة والمواضعة. كما أن الظاهر أن المراد بقوله

:(فبعه بيع البصير المداق) هو البيع بالربح القليل الذي لا يرضي المشتري بأكثر منه إذا كان بصيراً ناقداً، بخلاف ما إذا كان مسترسلاً غافلاً، فهو من الإضافة للمفعول. واحتمال كونه من الإضافة للفاعل، ليدل علي الترخيص في البيع بالربح الكثير الذي يقدم عليه البايع إذا كان بصيراً ناقداً بعيد جداً، لا يناسب سياق الكلام.

وحينئذ فمقتضي الجمع بين الأولين أن الحكم بحرمة الربح علي المؤمن اقتضائي لا مجال لفعليته قبل ظهور الحق وقيام القائم (عجل الله فرجه). كما أن مقتضي الأخيرين استحباب عدم الربح عليه مطلقاً وبيعه تولية، كما تضمنه الرابع، بل كراهة الربح عليه إذا كان دون المائة درهم ولم يشتر للتجارة كما تضمنه الثالث، وكراهة الربح الكثير مطلقاً، كما يستفاد منهما معاً.

(1) كما ذكره غير واحد، بل نسب للأصحاب. لمرسل علي بن عبد الرحيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سمعته يقول:

إذا قال الرجل للرجل: هلم أحسن بيعك يحرم عليه الربح) (3) . قال في مفتاح الكرامة: (ثم إن أقل الإحسان ترك الربح وبيع التولية، وخلف الوعد غير مستحسن). وهو كما تري، فإنه يكفي في الإحسان تقليل الربح،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 13

(14)

الشمس (1)، وأن يدخل السوق قبل غيره (2)

---------------

وبه ينفذ الوعد، فالنهي عن الربح رأساً تعبد لا يقتضيه الوعد. نعم لابد من البناء علي الكراهة بعد ضعف الخبر وعدم ظهور عامل بظاهره.

كما أنه لو ابتنت المعاملة علي الوعد المذكور، بحيث كان مضمونه بمنزلة الشرط الضمني، تعين العمل بمقتضي الوعد، بنحو يتحقق به الإحسان ولو بتقليل الربح مع ثبوت الخيار بالإخلال بذلك.

(1) كما صرح به غير واحد، بل نسب للأصحاب. لمرفوع علي بن أسباط:

(نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن السوم ما بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس) (1) وحيث كان السوم هو بيان سعر السلعة، فمقتضاه خصوصية ذلك في الكراهة، دون بقية مقدمات التجارة، كالذهاب للسوق، وعرض السلعة، بل حتي البيع مع معرفة قيمة السلعة، أو إيكال تعيينه للبايع، كما يتعارف كثيراً.

اللهم إلا أن يحمل علي الكناية عن مطلق الاشتغال بشؤون التجارة كما هو غير بعيد، فيناسب ما ورد من استحباب الاشتغال في الوقت المذكور بتعقيب الصلاة، مثل قوله (عليه السلام) في حديث الأربعمائة:

(الجلوس في المسجد بعد طلوع الفجر إلي طلوع الشمس أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض) (2) ، وصحيح ابن أبي يعفور: (أنه قال للصادق (عليه السلام):

جعلت فداك يقال: ما استنزل الرزق بشيء مثل التعقيب فيما بين طلوع الفجر إلي طلوع الشمس. فقال: أجل... ) (3) وغيرهما.

(2) كما ذكره غير واحد، لصحيح جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لجبرئيل:

أي البقاع أحب إلي الله تعالي ؟ قال: المساجد، وأحب أهلها إلي الله تعالي أولهم دخولاً إليها وآخرهم خروجاً منها. قال: فأي البقاع أبغض إلي الله تعالي ؟ قال: الأسواق، وأبغض أهلها إليه أولهم دخولاً إليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 18 من أبواب التعقيب حديث: 10، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 18 من أبواب التعقيب حديث: 10، 6.

ص: 14

(15)

ومبايعة الأدنين (1)

---------------

وآخرهم خروجاً منها)(1).

لكنه - مع اختصاصه بأهل السوق - ظاهر في كراهة كون الإنسان أول داخل وآخر خارج، بحيث يكون عادة له، المناسب لشدة حرصه واهتمامه بكسب المال، الذي يستفاد النهي عنه من النصوص، ولاسيما مرسل ابن فضال عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع، ودون طلب الحريص الراضي لدنياه المطمئن إليها، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف [النصف. خ ل] المتعفف... ) (2) .

وحينئذ لا ينهض بكراهة المبادرة لدخول السوق من دون ذلك، ولاسيما مع ما في خبر خالد بن نجيح: (

قال أبو عبد الله (عليه السلام):... عليكم بتقوي الله... وإذا صليتم فانصرفتم فبكروا في طلب الرزق، واطلبوا الحلال، فإن الله سيرزقكم ويعينكم عليه) (3) .

(1) كما في الشرايع والدروس، ولم أعثر علي نص به. نعم في خبر عيسي: (قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إياك ومخالطة السفلة، فإن السفلة لا يؤول إلي خير) (4) ، وفي معتبر أبي بصير ومحمد بن مسلم عنه (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال

:(احذروا السفلة من لا يخاف الله عز وجل، وفيهم قتلة الأنبياء وفيهم أعداؤنا) (5) . لكن بينهما وبين المدعي عموم من وجه موردي.

وعن الصدوق: (جاءت الأخبار في معني السفلة علي وجوه منها: أن السفلة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 13 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

(5) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 15

(16)

وذوي العاهات والنقص في أبدانهم (1) والمحارفين (2)، وطلب تنقيص

- هو الذي لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه. ومنها: أن السفلة من يضرب بالطنبور. ومنها: أن السفلة من لم يسره الإحسان ولم تسؤه الإساءة، والسفلة من ادعي الإمامة وليس لها بأهل)(1). وفي صحيح البزنطي المروي عن مستطرفات السرائر: (سئل أبو الحسن (عليه السلام) عن السفلة ؟ قال:

السفلة الذي يأكل في الأسواق) (2) ، وفي المرسل عن الرضا (عليه السلام):

(السفلة من كان له شيء يلهيه عن الله عز وجل) (3) . ولا يخفي أن البناء علي كراهة مبايعة هؤلاء كلهم صعب جداً.

(1) كما في النهاية والشرايع والدروس وغيرها. لخبر ميسر بن عبد العزيز: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تعامل ذا عاهة، فإنه أظلم شيء)(4) ، ونحوه خبراه الآخران(5) ، بل لعلهما عينه. لكن التعليل يقضي بتخصيص ذلك بالمعاملة المبنية علي المخالطة والاستمرار التي قد يتعرض صاحبها للظلم.

(2) كما في النهاية والدروس والجواهر. لصحيح الوليد بن صبيح: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تشتر من محارف، فإن صفقته لا بركة فيها)(6) ، ونحوه في حديثه الآخر إلا أنه قال: (فإن خلطته لا بركة فيها)(7). والمحارف بفتح الراء من الحرفة بضم الحاء وكسرها: الحرمان وسوء الحظ.

نعم، في معتبر سعيد بن غزوان: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): المؤمن لا يكون محارفاً)(8). وكأنه يبتني علي أن توفيقه لنعمة الإيمان تكشف عن كونه مباركاً ذو حظ جيد، وأن ضيق رزقه ابتلاء لا يبتني علي سوء حظه، فيكون حاكماً علي الصحيح المتقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 22 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 22 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 3.

(6) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3، 5.

(7) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3، 5.

(8) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3، 5.

ص: 16

(17)

الثمن بعد العقد (1)

---------------

(1) كما ذكره جماعة. لصحيح زيد الشحام: (أتيت أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام)

بجارية أعرضها عليه، فجعل يساومني وأنا أساومه ثم بعته إياها، فضمن علي يدي. ف قلت: جعلت فداك إنما ساومتك لأنظر المساومة أتنبغي أو لا تنبغي. ف قلت: قد حططت عنك عشرة دنانير، فقال: هيهات، ألا كان هذا قبل الضمنة، أما بلغك قول أبي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الوضيعة بعد الضمنة حرام)(1) ، وفي معتبر إبراهيم الكرخي: (اشتريت لأبي عبد الله (عليه السلام) جارية، فلما ذهبت أنقدهم قلت: أستحطهم ؟ قال: لا، إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن الاستحطاط بعد الضمنة)(2). ومقتضي الأول المنع من قبول المشتري بتنقيص الثمن وإن لم يطلب ذلك.

وكيف كان فلابد من حملهما علي الكراهة لمعتبر المعلي بن خنيس: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري المتاع ثم يستوضع قال: لا بأس، وكلمت له رجلاً في ذلك)(3) ونحوه غيره(4).

لكن عن الكاشاني والبحراني البناء علي حرمة الاستحطاط وحمل نصوص الجواز علي الاستيهاب. ولعله لموثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له: الرجل يستوهب من الرجل شيء بعد ما يشتري فيهب له أيصلح له ؟ قال: نعم)(5) ، وقريب منه خبر يوسف بن يعقوب(6).

ويشكل: أولاً: بأن جواز الاستيهاب الذي تضمنه الخبران لا ينافي جواز الاستيضاع أيضاً الذي تضمنته معتبر المعلي.

وثانياً: بأن الظاهر رجوع أحدهما للآخر، لوضوح أنه لا يراد باستيضاع الثمن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 6، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 6، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 2، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 4، 7.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب آداب العقد حديث: 4، 7.

ص: 17

(18)

والزيادة وقت النداء (1)

---------------

جعله أقل مما وقع عليه، لامتناع ذلك في نفسه، لتبعية الثمن للعقد، وهو لا ينقلب عما وقع عليه، بل طلب اكتفاء البايع ببعض الثمن، وإبراء ذمة المشتري من الباقي إن كان ذمياً وهبته له إن كان معيناً خارجياً، وذلك هو المراد من الاستيهاب في الحديثين الأخيرين. وحمله علي خصوص استيهاب بعض الثمن مع تعينه خارجاً، إما لكون الثمن خارجياً، أو لكونه ذمياً قد تعين بالقبض، بعيد جداً لا يناسب إطلاق الخبرين، ومن ثم لا مخرج عما ذكره المشهور من حمل نصوص النهي علي الكراهة.

(1) كما ذكره غير واحد. لخبر الشعيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:

إذا نادي المنادي فليس لك أن تزيد، وإنما يحرم الزيادة النداء، ويحلها السكوت) (1) ، وفي رواية الصدوق له: (وإنما تحرم الزيادة والنداء يسمع، ويحللها السكوت). وربما كان منشأ النهي أن الزيادة وقت النداء قد لا يسمعها المنادي، فيشتبه الحال، ويقع الخلاف.

هنا وفي السرائر بعد أن تعرض لما في النهاية من النهي عن الزيادة وقت النداء قال:

(لأن ذلك علي ظاهره غير مستقيم، لأن الزيادة حال النداء غير محرمة ولا مكروهة، فأما الزيادة المنهي عنها هو [هي] عند الانتهاء وسكون نفس كل واحد من البيعين علي البيع بعد استقراء [استقرار. ظ] الثمن والأخذ، والشروع في الإيجاب والقبول، فعند هذه الحال لا يجوز السوم علي سوم أخيه، لأن السوم في البيع هو الزيادة في الثمن بعد قطعه والرضا به بعد حال المزايدة وانتهائها وقبل الإيجاب والقبول... ) .

وكأنه نظر في ذلك إلي قصور أدلة النهي عن الدخول في سوم المؤمن عن بيع المزاد، وأغفل خبر الشعيري، إما لعدم إطلاعه عليه، أو لعدم تعويله عليه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 18

(19) (19)

لطلب الزيادة (1). أما الزيادة بعد سكوت المنادي فلا بأس بها (2). والتعرض للكيل أو الوزن أو العد أو المساحة إذا لم يحسنه حذراً من الخطأ (3) والدخول في سوم المؤمن (4).

---------------

(1) متعلق بقوله: (النداء).

(2) بلا إشكال، لما سبق في خبر الشعيري، ولابتناء المزايدة علي ذلك.

(3) كما ذكره غير واحد. وقد يستدل عليه بمرسل مثني الخياط عن أبي عبد الله (عليه السلام) ومرسل الصدوق عن ميسر بن حفص عنه (عليه السلام): (قلت له: رجل من نيته الوفاء، وهو إذا كال لم يحسن أن يكيل، قال: فما يقول الذين حوله ؟ قلت: يقولون: لا يوفي، قال: هذا [هو] ممن لا ينبغي أن يكيل)(1). لكنه ظاهر في نهيه عن الكيل مع عدم وفائه واقعاً، لا مع عدم إحسانه الكيل، وإن أمكن أن يوفي، كما هو محل الكلام، وحينئذ لابد من حمل النهي فيه علي الحرمة الواقعية، من دون أن ينفع في محل الكلام.

هذا وفي المسالك: (وحرمه بعض الأصحاب) وفي الجواهر:

(وهو كذلك مع تحقق التأدية المزبورة [يعني: الأداء إلي المحرم] إلا مع عدمها، والخوف من ذلك لا يقتضي الحرمة) .

ويشكل بأنه حيث كان الواجب هو الوفاء فلابد من إحرازه، لاستصحاب عدم الوفاء، الراجع إلي استصحاب عدم تسليم ما يستحق. ولأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. ومن هنا يتعين البناء علي الحرمة الظاهرية مع الخوف، وعدم إحراز الوفاء. أما الحكم الواقعي فهو يدور مدار الواقع حِلاً وتحريماً. وعلي كل حال لا مجال للبناء علي الكراهة لا واقعاً ولا ظاهراً.

(4) كما ذكره جماعة كثيرة، وفي الجواهر وعن غاية المرام للصيمري أنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 19

بل الأحوط تركه (1). والمراد به الزيادة في الثمن الذي بذله المشتري (2)،

---------------

المشهور. وحكم بالتحريم في المبسوط والنهاية والسرائر والوسيلة وجامع المقاصد ومحكي فقه الراوندي، وقد يظهر من إطلاق النهي في الغنية، كما يظهر من الدروس ومحكي التنقيح والميسية التوقف.

والأصل في ذلك خبر الحسين عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال: (ونهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أن يدخل في سوم أخيه المؤمن)(1) ، وفي مرسل دعائم الإسلام عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): (أنه نهي أن يساوم الرجل علي سوم أخيه)(2). وقد يدل عليه مرسل عوالي اللآلي عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (لا يبيع أحدكم علي بيع أخيه) و(3) بحمل البيع علي مقدماته.

ولا مجال للبناء علي التحريم بعد ضعف سند الأخبار، وظهور عدم بناء المشهور عليه. بل ربما كان مراد بعض من عبر بالتحريم الكراهة، لكثرة تسامح القدماء في ذلك. ولاسيما بعد ذكر بعضهم له في باب الآداب، كما في النهاية، وعدم ظهور اشتهار الحديث في مجاميع أحاديث الأئمة (عليهم السلام)، وإنما ذكره الصدوق في حديث المناهي الضعيف السند المشتمل علي كثير من الآداب، مع أن شيوع الابتلاء بذلك يناسب ورود نصوص كثيرة فيه، وفي التفاصيل والفروع المناسبة له لو كان الحكم مبنياً علي الإلزام.

(1) خروجاً عن شبهة الخلاف المتقدم، وإن عرفت ضعفه. ومن ثم كان الاحتياط منه (عليه السلام) استحبابياً، لأنه سبق منه الفتوي بالكراهة.

(2) هذا هو الدخول في السوم علي المشتري. لكن الظاهر عدم توقفه علي الزيادة، بل المعيار فيه علي الدخول في السوم في محاولة المنع من تمامية المعاملة لصاحب السوم الأول والعدول بها للثاني، ولو لكون الثاني أحب لصاحب المعاملة من دون أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 4.

ص: 20

أو بذل مبيع له غير ما بذله البايع (1)، مع رجاء تمامية المعاملة بينهما (2)، فلو انصرف إحداهما عنها، أو علم بعدم تماميتها بينهما، فلا كراهة. وكذا لو كان البيع مبنياً علي المزايدة (3).

---------------

يزيد في الثمن، عملاً بالإطلاق.

(1) كما ذكره غير واحد، لصدق الدخول في السوم حينئذ. وهذا هو الدخول في السوم علي البايع.

(2) مقتضي الإطلاق كراهة الدخول في السوم ماداما مشغولين بالمساومة غير منصرفين عن المعاملة، حتي لو علم بعدم تماميتها، لعدم التوافق بينهما.

ودعوي: أن المنصرف كون منشأ الكراهة هو محاولة المنع من تمامية المعاملة لصاحب السوم الأول، فمع العلم بعدم تماميتها لا موضوع لها. مدفوعة: بأنه كما يمكن أن يكون المعيار ذلك، يمكن أن يكون المعيار هو مراعاة الطرف الأول، ولو لأن في الدخول عليه استهانة به، أو جرحاً لعواطفه. ومن ثم لا مخرج عن الإطلاق.

نعم، لو انصرفا عن المعاملة فلا إشكال في ارتفاع الكراهة، لأن موضوعها الدخول في سوم المؤمن، لا مطلق السوم بعد سومه. ومنه يظهر عموم عدم الكراهة مع انصرافهما عن المعاملة لما إذا احتمل أو علم بأن البايع سوف يرضي بالسعر الذي دفعه الأول إذا لم يدفع له غيره وتتم المعاملة بالآخرة للأول، لوضوح أن ذلك لا يجعل السوم الثاني سوماً علي السوم بعد فرض انصرافهما عن المعاملة.

(3) كما في المبسوط، وتقدم من السرائر عند الكلام في الزيادة وقت النداء، بل الظاهر عدم الإشكال فيه بينهم. لما هو المعلوم من شيوع البيع بالمزايدة وعدم احتمال كراهته، فضلاً عن حرمته. فإن السوم فيه عرفاً لا يختص بواحد، بل هو سوم مشترك بين كل من يدخل في المزايدة.

مضافاً إلي انصراف الإطلاق للسوم الذي يراد به إنهاء المعاملة، لا مجرد بيان

ص: 21

(22)

وأن يتوكل بعض أهل البلد لمن هو غريب عنها (1).

---------------

السعر الذي يرضي به أحد الطرفين. ولذا يقصر عرفاً عما إذا قال الشخص لصاحب البضاعة: أنا مستعد لأخذها بالثمن الفلاني، من دون أن يبتني علي محاولة إنهاء المعاملة بذلك، فلا يكره حينئذ لغيره دفع ثمن آخر حتي لو لم يوضع المبيع في المزايدة.

هذا وقد سبق من السرائر كراهة الزيادة بعد انقطاع المزايدة وتهيؤ الطرفين لإيقاع المعاملة، لصدق الدخول في السوم حينئذ. لكنه غير ظاهر بعد ما سبق في وجه الحكم.

وأما ما قد يظهر منه من أن الدخول في السوم إنما يصدق بعد قطع الثمن والرضا به. فهو ممنوع، لظهور كراهة الدخول في سوم المؤمن في غير المزايدة حتي لو لم يظهر من الطرف الآخر الرضا بالثمن المدفوع. والعمدة في وجه قصوره عن البيع بالمزايدة ما سبق، الذي لو تم يقتضي قصوره عنها حتي بعد انقطاع المزايدة وتهيؤ الطرفين لإيقاع المعاملة.

اللهم إلا أن يستفاد عموم الكراهة له حينئذ بتنقيح المناط، لدعوي أن المنشأ لها مراعاة الطرف الأول وتجنب الاستهوان به وجرح عواطفه، فإنه جار في المقام. فلاحظ.

(1) الأصحاب في المقام بين من عبّر بتوكل الحاضر للباد، ومن عبّر ببيع الحاضر للباد. والظاهر رجوع الأول للثاني، لأنه المذكور في النصوص. ففي خبر عروة بن عبد الله عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)

:لا يتلقي أحدكم تجارة خارجاً من المصر، ولا يبيع حاضر لباد. والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) (1) ، وفي خبر جابر: (قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من

********

(1) الكافي ج: 5 ص: 168 كتاب المعيشة باب التلقي حديث: 1، وروي صدره في الوسائل ج: 12 باب: 36 من أبواب آداب التجارة حديث: 5، وذيله في باب: 37 منها حديث: 1.

ص: 22

بعض) (1) . وهناك مراسيل لا يبعد رجوعها لما سبق(2).

وكيف كان فقد صرح جماعة بكراهة ذلك، بل هو المشهور، كما في الجواهر وعن غاية المرام. وصرح في المبسوط والخلاف والسرائر وجامع المقاصد بعدم الجواز، وهو المحكي عن ابن البراج والعلامة في المنتهي وقد يظهر ممن أطلق النهي عن ذلك. كما حكي عن بعضهم التوقف.

وكأنه لظاهر النهي في النصوص المتقدمة، بعد عدم القرينة علي حملها علي الاستحباب. لكن النصوص المذكورة حيث كانت ضعيفة السند لم تنهض بإثبات الحرمة.

ودعوي: أن تعددها يوجب تعاضدها بنحو يوثق بصدور بعضها. لا تخلو عن إشكال، لقرب رجوع المراسيل للمسندين المتقدمين اللذين لا يتضح تعاضدها. علي أن ذيلهما المتضمن الأمر بترك الناس أو المسلمين يرزق الله بعضهم من بعض يناسب الحمل علي الاستحباب ارتكازاً، لما هو المعلوم من عدم حرمة تنبيه الناس ورفع غفلتهم في كسبهم.

مضافاً إلي أن شيوع الابتلاء بالحكم المذكور لا يناسب خفاءه علي المشهور، ولا عدم ورود النصوص في فروعه، نظير ما تقدم في السوم. بل لا يبعد كون الحكم بعدم الجواز في كلام بعض القدماء يراد به ما يعم الكراهة - نظير ما سبق هناك أيضاً

خصوصاً الشيخ (قدس سره) الذي صرح في النهاية بعدم الحرمة.

هذا وموضوع النصوص - كما تري - بيع الحاضر للبادي، وهو البدوي. وألحق بعضهم بالبدوي القروي، دون أهل المدن، بل يظهر مما يأتي عن يونس تفسير البادي بأهل القري، وإن لم يظهر وجهه. وعممه في جامع المقاصد لكل غريب بنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، ومستدرك الوسائل ج: 13 باب: 31 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2، 3.

ص: 23

يعم أهل المدن، كما هو مقتضي إطلاق سيدنا المصنف (قدس سره). وكأنه لإلغاء خصوصية البادي بلحاظ ذيل الحديثين المتقدمين، أو عموم النهي في مرسل عوالي اللآلي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:

(ذروا الناس في غفلاتهم يعيش بعضهم من بعض) (1) .

لكنه يقتضي التعميم حتي لأهل البلد ممن لا يحسن معرفة السعر، بل يتقضي التعميم من جهات أخر. قال في الجواهر:

(ولإطلاق النهي عمم بعض الناس الحكم لمطلق الإرشاد في بيع أو شراء أو غيرهما، لا خصوص التوكيل، ولمطلق من كان عالماً بالسعر أو ذكياً حيث كان من أي محل كان، لا خصوص الحاضر، ولمطلق من كان جاهلاً أو غبياً، بلديين أو قرويين أو بدويين أو مختلفين، مع العلم بالحكم وجهله، وظهور السعر وخفائه، وعموم الحاجة إلي المتاع وعدمه، ورابطة الرحم أو الجوار أو غيرهما بين الوكيل والموكل وعدمها، وإسلام المبتاعين وعدمه، وكون المبيع من الفواكه وغيرها) . نعم التعميم من حيثية ظهور السعر وخفائه لا يناسب العموم المدعي، إلا أن يكون الظهور بحد لا يطلع عليه الموكل.

كما أن ما في ذيله من التعميم للفواكه وغيرها قد يكون تعريضاً بما روي عن يونس أنه قال: (تفسير قول النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

لا يبيعن حاضر لباد: إن الفواكه وجميع أصناف الغلات إذا حملت من القري إلي السوق فلا يجوز أن يبيع أهل السوق لهم من الناس، ينبغي أن يبيعه حاملوه من القري والسواد. فأما من يحمل من مدينة إلي مدينة فإنه يجوز ويجري مجري التجارة) (2) . لكن من القريب إلغاء خصوصية الفواكه والغلات في كلام يونس.

هذا والبناء علي عموم الكراهة في جميع ذلك صعب جداً، فضلاً عن الحرمة لو بني علي حمل النصوص عليها. والأولي الاقتصار علي مورد النصوص وعدم التعدي لغيره.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 30 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

ص: 24

ثم إنه قد خص الحكم في المبسوط والسرائر بما إذا كان المتاع الذي عند البدو يحتاجه أهل الحضر، وفي فقده إضرار لهم. وهو غير ظاهر مع إطلاق النصوص، كما في الخلاف. بل ذيل الحديثين المتقدمين لا يناسب التخصيص المذكور.

ومثله ما عن بعضهم من اعتبار أن يظهر من ذلك المتاع سعة في البلد، فلو لم يظهر - إما لكبر البلد، أو لعموم وجود المتاع ورخص السعر - فلا تحريم ولا كراهة. إذ هو تقييد لإطلاق النصوص من دون شاهد.

وكذا ما عن المنتهي من اعتبار أن يكون البادي قد جلب السلعة للبيع، حيث لا وجه له مع إطلاق النصوص. إلا أن يريد ما إذا كان البادي بحال لا يبيع بنفسه إذا لم يتولاه الحاضر عنه، فإنه يتجه حينئذ، حيث لا يكون تولي الحاضر للبيع حينئذ مانعاً من رزق الناس بعضهم من بعض، إذ لو لم يتول البيع عنه لا يرزقون من جهته.

هذا وقد ذكر غير واحد اختصاص الحكم بما إذا عرض الحاضر علي البادي أن يتولي البيع عنه، أما لو انعكس الأمر وكان البادي هو الذي طلب من الحاضر أن يتولي البيع عنه فلا حرمة ولا كراهة. وربما يستدل عليه بعموم استحباب قضاء حاجة المؤمن وإجابة التماسه. ويشكل بأن ذلك لا يصلح لرفع الكراهة، فضلاً عن الحرمة لو قيل بها في المقام، غاية الأمر أن يصلح لمزاحمة الكراهة، فيقدم عليها لو كان أهم.

ولعل الأولي في وجهه ظهور النصوص في ابتناء الحكم علي رجحان إبقاء البادي علي غفلته، فيقصر عما إذا كان ملتفتاً لعدم إحسانه البيع، ومتحرياً الأنفع له بطلب تولي الحاضر للبيع. وبما ذكرنا وذكره الأصحاب في المقام يظهر كثرة فروع المسألة بنحو لا يناسب قلة النصوص فيها لو كان الحكم الحرمة، كما ذكرناه آنفاً.

بقي شيء وهو أنه قال في الوسيلة:

(وللسمسار أن يبيع متاع البدوي في الحضر، وليس له أن يبيع لباد في البدو) . وهو غريب حتي لو كان مراده من السمسار خصوص الحاضر، فإن إطلاق النصوص إما أن ينصرف إلي بيعه له في الحضر - كما هو الظاهر - أو يعمه مع البيع له في البدو، ولا مجال لدعوي اختصاصه بالثاني.

ص: 25

(26)

بل الأحوط استحباباً تركه. وتلقي الركبان الذين يجلبون السلعة (1).

---------------

(1) في المشهور بين الأصحاب، بل عن بعضهم ما يظهر منه الإجماع عليه، كذا في الجواهر. لكن في السرائر والدروس وعن غيرهما التحريم، وهو ظاهر التعبير بعدم الجواز في المبسوط والخلاف والاقتصار علي بيان النهي في الغنية.

والأصل في ذلك النصوص، كخبر عروة بن عبد الله المتقدم في المسألة السابقة، والصحيح عن منهال القصاب: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تلق، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن التلقي. قال: وما حدّ التلقي ؟ قال: ما دون غدوة أو روحة. قلت: وكم الغدوة والروحة ؟ قال:

أربعة فراسخ. قال ابن أبي عمير: وما فوق ذلك فليس بتلق) (1) . وفي الصحيح عن منهال أيضاً عنه (عليه السلام): (أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن تلقي الغنم فقال:

لا تلق، ولا تشتر ما تلقي، ولا تأكل من لحم ما تلقي)(2) ، ونحوها غيرها مما رواه منهال وغيره (3) .

وربما يوجه البناء علي الكراهة بقصور النصوص عن إثبات الحرمة، لضعف أسانيدها، أما خبر عروة فظاهر، وأما أخبار منهال فلعدم النص علي توثيقه. لكن الإنصاف حصول الوثوق من مجموع هذه الأخبار، فإن منهال وإن لم ينص علي توثيقه، إلا أنه قد روي عنه جماعة من الأعيان، كالحسن بن محبوب وعبد الله الكاهلي وجعفر بن بشير وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس - الذي حكي عن الشيخ ذكره في من لا يروي إلا عن ثقة، وإن لم أعثر علي موضع ذلك من كلامه - وبظهور حال الصدوق في التعويل علي رواياته، لأن له طريقاً إليه في الفقيه الذي صرح بأنه لا يثبت فيه إلا ما هو حجة بينه وبين الله، بل حتي الكليني، لتصريحه في ديباجة الكافي بأنه قد أودع فيه الروايات الصحيحة، وكل واحد من هذه الأمور إن لم ينهض بإثبات وثاقته فمجموعها شيء معتد به في ذلك، ولاسيما مع تأييد أحاديثه هنا برواية

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 36 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 36 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 3.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 29 من أبواب آداب التجارة.

ص: 26

جماعة لها عنه، وبتعقيب ابن أبي عمير علي الأول المناسب لاعتداده به، وبخبر عروة المتقدم وبعض الأخبار الأخر. فالتوقف في نصوص المقام من حيثية السند في غاية الإشكال.

نعم، قد يتجه البناء علي الكراهة، لنظير ما سبق في السوم وبيع الحاضر للبادي، من أن شيوع الابتلاء بالحكم لا يناسب خفاءه علي المشهور، وقرب حمل عدم الجواز في كلام الشيخ علي الكراهة، ولاسيما مع تصريحه بها في النهاية.

مضافاً إلي النهي عن الشراء والأكل من لحم ما تلقي في الحديث السابق في سياق النهي عن التلقي، مع عدم الإشكال ظاهراً في حمله علي الكراهة، لصحة البيع، كما يأتي، وإلي أن المناسبات الإرتكازية قاضية بأن مبني الحكم عدم استغلال غفلة الغافل، أو الاهتمام باجتماع البضاعة في السوق من أجل طمأنينة الناس حين يشعرون بكثرتها، وكلاهما من الجهات المستحسنة غير اللازمة. فالبناء علي الكراهة قريب جداً.

بقي في المقام أمور:

الأول: المعروف بينهم صحة البيع حتي بناء علي حرمة التلقي، وبه صرح في المبسوط والسرائر، وعن ظاهر المنتهي الإجماع عليه. وعن الإسكافي البطلان، وعن كاشف الغطاء أنه المتعين علي تقرير الحرمة، لأن النهي في أخبار المسألة تعلق بنفس المعاملة، لا بأمر خارج عنها، ولاسيما مع النهي عن الشراء والأكل مما يتلقي في الحديث المتقدم.

واستشكل فيه في الجواهر بأن النهي إنما تعلق بالتلقي، لا بنفس المعاملة، كما في مثل النهي عن بيع الخمر والميتة، وسبقه إلي ذلك في السرائر.

وفيه: أنه إن رجع إلي أن المنهي عنه هو التلقي دون البيع المترتب عليه، فهو بعيد جداً، بل هو لا يناسب ما في الحديث الثاني من النهي عن الشراء والأكل مما تلقي، لظهوره من مرجوحية الشراء، بحيث يوجب حزازة في الأمر المشتري. ولاسيم

ص: 27

(28)

وأن المنهي عنه هو التلقي الذي هو عبارة عن استقبال الركب من أجل الشراء منهم، لا استقبالهم الذي يترتب عليه الشراء منهم، ولذا فرقوا - كما يأتي - بين الخروج لأجل الشراء والخروج لا لأجله.

وحينئذ لو كان النهي مقصوراً علي التلقي دون الشراء لزم تحقق المعصية واقعاً بالخروج من أجل الشراء إذا لم يترتب الشراء، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك، وإن رجع إلي أن المنهي عنه هو الشراء لكن لا بعنوانه كما في شراء الخمر والميتة، بل بعنوان كونه شراء بعد التلقي، فهو وإن كان مسلماً، إلا أنه لا أثر له في الفرق من حيثية اقتضاء النهي الفساد، لأن المنهي عنه نفس المعاملة لا أمر خارج عنها.

فالعمدة في المقام أن النهي التكليفي عن المعاملة لا يقتضي الفساد. غاية الأمر ظهور النهي عن المعاملة ونحوها مما يطلب لأثره نوعاً في الإرشاد لفسادها، لا في تحريمها تكليفاً. لكن هذا الظهور قد يخرج عنه بقرينة، فيحمل علي النهي التكليفي الذي هو مقتضي الظهور الأولي للنهي، وهي في المقام أمور:

أحدها: ظهور المفروغية عن عدم حرمة البيع علي الركبان، حيث لا مجال لذلك لو كان المراد بالنهي الإرشاد للبطلان.

ثانيها: ما ذكره في المبسوط والسرائر من حكم النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بثبوت الخيار للركب إذا دخلوا السوق، لأن الخيار فرع صحة المعاملة. نعم الحكم المذكور لم يرد إلا مرسلاً في كلماتهم، ويأتي في مرسل عوالي اللآلي، وهو لا ينهض حجة علي تفسير بقية نصوص المقام فليكن مؤيداً.

ثالثها: ظهور مفروغيتهم عن صحة المعاملة، وشذوذ الإسكافي في البناء علي البطلان، حيث يمتنع عادة خطؤهم في مثل ذلك مع شيوع الابتلاء بالمسألة.

هذا ولا يبعد أن تكون القرائن المذكورة مؤيدة لحمل النهي علي الكراهة، وعاضدة لما سبق من القرائن عليها.

الثاني: ذكر غير واحد أن حدّ التلقي الذي موضوع الحكم في المقام أربعة

ص: 28

فراسخ. وقد يوجه - كما عن المنتهي - بأنه إذا بلغ أربعة فراسخ صار سفراً شرعياً، والسفر للتجارة مستحب. ويشكل بأن ما دل علي استحباب السفر للتجارة(1) ، وجلب البضاعة للبلد(2) ، لا يختص بما يبلغ المسافة، وهو مخصص بما دل علي النهي عن التلقي.

والفرق بين التلقي وغيره ليس ببلوغ المسافة وعدمه، بل بحال البايع، فإذا كان قد حمل بضاعته متجهاً بها لبلد المتلقي صدق التلقي وإن تجاوز السفر المسافة، وإذا لم يحمل بضاعته، بل كان يبيعها في موضعه لم يصدق التلقي وإن كان السفر دون المسافة. ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم كراهة السفر لما دون المسافة من أجل جلب البضاعة وشرائها ممن يبيعها في موضعه.

بل لا يبعد عدم صدق التلقي إذا خرج صاحب البضاعة ببضاعته لبلد خاص فخرج بعض أهل بلد آخر واشتري منه وهو طريقه للبلد الذي قصده.

فالعمدة في التفصيل المذكور اشتمال بعض نصوص المسألة علي ذلك، كالحديث الأول وغيره، حيث يدل علي عدم النهي عن الخروج أكثر من أربعة فراسخ لتلقي القاصد للبلد ببضاعته وشرائها منه.

الثالث: صرح غير واحد بأنه إذا خرج لا بقصد التلقي للتجارة، فصادفهم في الطريق فالشراء منهم خارج عن موضوع النصوص، لعدم صدق التلقي بذلك. وهو ظاهر بناء علي أن المنهي عنه هو التلقي، دون الشراء المترتب عليه، أما بناء علي أن المنهي عنه هو الشراء بعد التلقي - كما هو الظاهر، علي ما سبق في الأمر الأول - فقد يدعي عموم النهي للشراء حينئذ، لألغاء خصوصية قصد التلقي، خصوصاً بلحاظ قوله (عليه السلام) في ذيل حديث عروة المتقدم:

(والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) .

لكن لا وجه لإلغاء خصوصية قصد التلقي بعد كون الحكم المذكور تعبدياً،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 29 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 29

ولذا فرق فيه بين ما دخل في الحدّ وما جاوزه. وأما ما في ذيل حديث عروة فالظاهر رجوعه للحكم الثاني، وهو بيع الحاضر للبادي، لأنه المناسب لإبقاء غفلة الغافل، أما الحكم الأول الذي هو محل الكلام فهو أجنبي عن ذلك، بل قد يرجع للردع عن استغلال غفلة الغفول. ويؤيده ورود المضمون المذكور في خبر جابر المتقدم المختص ببيع الحاضر للباد، وعدم ورده في نصوص المقام المختصة بالتلقي. ولا أقل من كون رجوعه للأخير هو المتيقن، لأنه الأقرب إليه.

الرابع: قد يدعي اختصاص الحكم بجهل الركبان بسعر البلد، فلو علموا أخرج عنه. وقد يستدل عليه بما في ذيل رواية عروة بن عبد الله من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) حيث يظهر منه فرض جهلهم ليرزق الناس منهم. ويظهر ضعفه مما سبق من عدم تعلق ذلك بهذا الحكم، بل بالحكم السابق. وكما يمكن أن يكون ملاك الحكم المذكور هو تجنب إغفالهم بالسعر، ليقصر عن صورة معرفتهم به، يمكن أن يكون ملاكه رجحان نزول البضاعة لسوق البلد ليراها الناس فتطمئن نفوسهم، فيعم صورة معرفة الباعة بالثمن.

نعم، في مرسل عوالي اللآلي عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أنه نهي عن تلقي الركبان، وقال: من تلقاها فصاحبها بالخيار إذا دخل السوق) (1) . فإن كان الذيل من تتمة الصدر لا حديثاً آخر فهو يصلح قرينة علي أن ملاك النهي عن التلقي الإغفال، فيتجه قصوره عن صورة علمهم بالثمن، ولو لخروجها عن المتيقن منه.

الخامس: عمم غير واحد تلقي الركبان المكروه تلقيهم للبيع لهم، بل عممه في الجواهر للاستئجار عليهم وسائر أنواع التعامل، لما في ذيل خبر عروة بن عبد الله من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض) ووافقه بعض مشايخنا (قدس سره) في ذلك، وزاد في الاستدلال عليه عدم انحصار التجارة بالبيع.

لكن تقدم في أول كتاب التجارة اختصاص التجارة بالبيع والشراء، كما تقدم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 29 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 30

(31)

(مسألة 45): يحرم الاحتكار (1) علي الأحوط وجوباً.

---------------

قريباً أن ذيل خبر عروة لا يرجع للتلقي. بل لا يبعد اختصاص النهي بالشراء منهم دون البيع عليهم وإن كان تجارة، لأنه المتيقن من إطلاق التلقي في حديث منهال الأول وغيره، بعد العلم بعدم إرادة إطلاقه الشامل لتلقيهم من أجل تكريمهم أو الإطلاع عليهم، ولاختصاص الثاني وغيره بالشراء بقرينة النهي عن الأكل مما يتلقي، وما تضمنه مرسل العوالي من أن صاحب البضاعة بالخيار إذا دخل السوق.

نعم، أطلق النهي عن تلقي التجارة في خبر عروة بن عبد الله. لكن من القريب حمله علي الشراء، بأن لا يراد بالتجارة المصدر، بل الأمر الذي يتجر به، لأنه الذي يتلقي، فإن التلقي إنما يكون لأمر موجود، كما يناسبه رواية الصدوق له مرسلاً بلفظ (طعاماً) بدل (تجارة). ولاسيما مع أن ذلك هو المعهود من التلقي، كما لعله ظاهر.

نعم، لا يبعد العموم لمثل الصلح إذا تضمن أخذ البضاعة من الركبان، لظهور النصوص في أن المحذور أخذ البضاعة منهم بالمعاملة من دون خصوصية للشراء. فلاحظ.

السادس: لا إشكال في ثبوت الخيار للمتلقي البايع مع الغبن، كما صرح به في المبسوط وغيره، لعموم دليل خيار الغبن، مؤيداً بالمرسل المتقدم المحمول علي صورة الغبن لانصرافه له. ولاسيما بلحاظ تعليقه علي دخول السوق، الذي من شأنه الإطلاع بسببه علي السعر الحقيقي.

وربما ينسب للسرائر إطلاق ثبوت الخيار ولو بدون الغبن، لكن الظاهر انصراف إطلاقه عن ذلك. ولاسيما مع استدلاله بالمرسل المتقدم الذي سبق ظهوره في الاختصاص بالغبن.

(1) كما في السرائر وجامع المقاصد والمسالك وعن الصدوق وابن البراج وغيرها، وفي الشرايع واللمعة أنه مكروه، ونسب للمقنعة والنهاية والمبسوط وغيرها، ولا تخلو كلماتهم عن اضطراب والتباس.

ص: 31

والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في حرمة الاحتكار المؤدي لتلف النفوس المحترمة، ولو من أجل أدائه لخلل النظام. من دون فرق في ذلك بين الطعام وغيره، كاللباس والوقود والدواء وغيرها، بل حتي الأعمال والمنافع، كالنقل بوسائطه، والتمريض علي اختلاف أنحائه وغيرهما. ومن دون تحديد بزمان طويل أو قصير، لوجوب حفظ النفوس المحترمة.

بل يحرم ظاهراً مع احتمال أدائه لذلك احتمالاً معتداً به، لوجوب الاحتياط في حفظها ارتكازاً. ولا خلاف في جميع ذلك ظاهراً.

وإنما الإشكال فيما إذا لم يبلغ ذلك. والنصوص في ذلك علي طوائف:

الأولي: ما أطلق فيه النهي عنه، كمعتبر ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون) (1) ، وموثق إسماعيل بن زياد السكوني عنه (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): (قال:

لا يحتكر الطعام إلا خاطئ) (2) ، وفي عهد أمير المؤمنين (عليه

السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه): (فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البايع والمبتاع، فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف) (3) ، وغيرها.

الثانية: ما يدل علي حرمته في الجملة، كموثق غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): (أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلي بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لو قومت عليهم. فغضب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) حتي عرف الغضب في وجهه، فقال

:أنا أقوم عليهم ؟! إنما السعر إلي الله يرفعه إذا شاء، ويخفضه إذا شاء) (4) ، فإنه وارد في قصة في واقعة لا إطلاق لها، ونحوه غيره.

الثالثة: ما تضمن تحديده بزمن، كموثق السكوني عنه (عليه السلام):

(قال: الحكرة

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 12، 13.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 12، 13.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 3، 12، 13.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 30 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

ص: 32

في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد علي الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد علي ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون) (1) ، وحديث أبي مريم عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أيما رجل اشتري طعاماً فكبسه أربعين صباحاً يريد به غلاء المسلمين ثم باعه فتصدق بثمنه لم يكن كفارة لما صنع)(2) ، وغيرهما.

الرابعة: ما تضمن التفصيل بين حاجة الناس للطعام وعدمها، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سئل عن الحكرة، فقال: إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع [يباع] غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل). وزاد في الكافي: (وسألته عن الزيت [الزبيب] فقال

:إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه) (3) .

وصحيح أبي الفضل سالم الحناط: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما عملك ؟ قلت: حناط، وربما قدمت علي نفاق، وربما قدمت علي كساد، فحبست ؟ قال: فما يقول من قبلك فيه ؟ قلت: يقولون: محتكر، فقال: يبيعه أحد غيرك ؟ قلت: ما أبيع أنا من ألف جزء جزءاً. قال: لا بأس. إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له: حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمرّ عليه النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال:

يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر) (4) .

ومعتبر حذيفة - بناء علي وثاقة محمد بن سنان، كما تعرضنا لذلك عند الكلام في مساحة الكر من المسألة السابعة عشرة من مباحث المياه - عنه (عليه السلام):

(قال: نفد الطعام علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله قد نفد الطعام، ولم يبق منه شيء إلا عند فلان، فمره ببيعه، قال: فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: يا

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 6.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 28 من أبواب آداب التجارة حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 28 من أبواب آداب التجارة حديث: 3.

ص: 33

فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت، ولا تحبسه) (1) .

ولا ينبغي التأمل في ظهور هذه النصوص في الحرمة، بل هو كالصريح من موثق غياث بن إبراهيم المتضمن أمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بإخراج طعام المحتكرين للأسواق، إذ لا معني للإجبار مع الكراهة.

وحمله علي أنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) فعل ذلك بمقتضي ولايته العامة، لا من أجل حرمة الاحتكار شرعاً. مخالف لظاهر نقل الإمام (عليه السلام) للحادثة. ولاسيما بلحاظ ما تضمنه من الامتناع عن تسعير الطعام عليهم، معللاً بأن السعر إلي الله تعالي، لظهور أن له (صلي الله عليه وآله وسلّم) ذلك بمقتضي ولايته المذكورة.

ومثله ما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر، فإن أمره بالمنع من الاحتكار لا يناسب الكراهة، كما أن استدلاله (عليه السلام) بأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) منع منه لا يناسب ابتناءه علي ولايته (عليه السلام)، بل يشهد بتحريمه شرعاً.

وأضعف من ذلك ما قد يدعي من أن إجبار المحتكر علي البيع لا يستلزم حرمة الاحتكار ووجوب البيع عليه، نظير ما ورد من إجبار الإمام للناس علي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) إذا تعطل مشهده(2) مع استحباب زيارته (صلي الله عليه وآله وسلّم) وعدم وجوبها. ولذا اختلفوا في المقام في حرمة الاحتكار وأجمعوا علي جواز الإجبار علي البيع.

إذ فيه: أنه وإن لم يكن مستلزماً له عقلاً إلا أنه مستلزم له عرفاً بنحو يصلح أن يكون دليلاً عليه. ولاسيما مع مفروغيتهم ظاهراً علي وجوب استجابته للإجبار، وعدم جواز الامتناع، حيث يناسب ذلك حرمة الاحتكار شرعاً عليه بعد أن لم يكن الإجبار حكماً ولايتياً، كما سبق. بل توجيه الإمام (عليه السلام) في عهده للأشتر المنع من الاحتكار بأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) منع منه، ظاهر في كون منعه (عليه السلام) منه تنفيذاً لمنع النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) منه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 29 من أبواب آداب التجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 5 من أبواب وجوب الحج حديث: 2.

ص: 34

وفي تأخره رتبة عنه.

وأما التنظير للإجبار مع عدم الحرمة بما ورد من إجبار الإمام الناس علي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) عند تقاعسهم عنها، بحيث يلزم تعطيل مشهده (صلي الله عليه وآله وسلّم)، مع أن زيارته (صلي الله عليه وآله وسلّم) ليست واجبة عليهم بل مستحبة. فهو في غير محله، لعدم تمامية النظير، فإن استحباب زيارته (صلي الله عليه وآله وسلّم) عيناً لا ينافي وجوبها كفائياً، بحيث لا يلزم تعطيل مشهده الشريف، كما هو الحال في كثير من الواجبات الكفائية التي هي مستحبات عينية.

وأما الخلاف في حرمة الاحتكار مع الإجماع علي إجبار المحتكر. فهو لا يشهد بعدم ملازمة جواز الإجبار لحرمة الاحتكار، بل يكون الخلاف في حرمته في غير محله، ومن ثم يقرب تأويل الكراهة في كلام بعض القدماء بالحرمة. نعم لا مجال لذلك في كلام غيرهم، إلا أنهم محجوجون بالنصوص المذكورة. وبأن التزامهم بالكراهة لا يناسب إجماعهم علي جواز الإجبار لو تم.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في ظهور دليل الإجبار في الحرمة، لملازمته لها عرفاً، ولما يظهر من بعضها من كون الإجبار متأخراً رتبة عنها، وتنفيذاً لها، كما سبق.

وبالجملة: لا مجال للبناء علي الكراهة بعد ظهور النصوص المتقدمة وغيرها في الحرمة وبعد اعتبار أسانيد كثير منها، بل الظاهر من مجموع النصوص المفروغية عن الحرمة، كما هو المناسب في الجملة للمرتكزات المتشرعية، فإن الاحتكار عندهم من أعظم المستنكرات، وإنما الكلام في تحديد الاحتكار المحرم.

ولا ينبغي التأمل في أن مقتضي الجمع بين الطائفتين الأوليين والطائفة الرابعة هو التفصيل بين حاجة الناس وعدمها. لكن لا بمعني الضرورة التي يخشي منها علي النفوس - كما ذكرناه أولاً - فإن ذلك لا يلزم عادة ولا عرفاً من نفاد الطعام المفروض في هذه النصوص، إذ لا يراد به نفاده رأساً حتي في البيوت، بل نفاده في السوق، بحيث لا يوجد باذل له، ذلك هو الظاهر من مجموع النصوص، وهو الذي يمكن الإطلاع عليه عادة. كما أنه المناسب للتفصيل الآتي بين أجناس البيع. ومن الظاهر

ص: 35

وهو حبس السلعة والامتناع من بيعها لانتظار زيادة القيمة (1)، مع حاجة

---------------

أن فقد الطعام في السوق لا يستلزم المحذور المذكور، وهو تلف النفوس بل يستلزم حاجة عامة الناس عرفاً لتيسر الطعام وبذله وقلقهم من فقده، بحيث يقعون في ضيق وهلع من ذلك، فيكون هو المراد من النصوص.

نعم، ينصرف عما لو لم يستلزم ذلك ضيق نفوسهم وحاجتهم للشراء، لاكتفائهم بما يدخرونه في بيوتهم وتوقعهم ورود غيره عند نفاده، وطمأنينتهم بسبب ذلك، كما لعله ظاهر.

وأما الطائفة الثالثة فلا مجال لحملها علي التفصيل في أحد شقي التفصيل السابق، بأن يلتزم بأنه مع حاجة الناس يفرق في جواز الاحتكار وعدمه بتحديد الزمن المتقدم، ففي القحط يجوز التأخير ثلاثة أيام، وفي الخصب يجوز التأخير أربعين يوماً، كما هو ظاهر الوسيلة. لقوة ظهور الطائفة الثالثة في وجوب تعجيل البذل مع حاجة الناس. ولاسيما النصوص المتضمنة لأمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بإخراج طعام المحتكرين، كموثق غياث وصحيح حذيفة بن منصور.

وكذا لا مجال للبناء علي أنه مع عدم حاجة الناس ووجود الباذل للطعام يحرم الحبس بعد الثلاثة أيام في القحط وبعد الأربعين يوماً في الخصب. لإباء نصوص الطائفة الثانية عنه، لقوة ظهورها في انحصار الاحتكار المحرم بصورة عدم الباذل. ولاسيما صحيحي الحلبي وأبي الفضل سالم الحناط. وما في النهاية من ذكر الحدين معاً لا يخلو عن تدافع.

فلابد من حملها علي كراهة حبس الطعام بعد المدة المذكورة مع وجود الباذل. وبذلك يتم الجمع بين نصوص المقام، ويكون المحصل منه: حرمة الحبس مع حاجة الناس مطلقاً، وجوازه مع عدمها مطلقاً، وإن كره بعد المدة المذكورة، وهي أربعون يوماً في الخصب، وثلاثة أيام في القحط.

(1) كما ذكره غير واحد من الفقهاء واللغويين. لكن في لسان العرب:

ص: 36

المسلمين إليها وعدم وجود الباذل لها (1). والظاهر اختصاص الحكم بالحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت لا غير (2).

---------------

(وأصل الحكرة الجمع والإمساك). والظاهر عدم الخروج به هنا عن المعني الذي ذكره، وما ذكر من القيود في كلامهم إما غالبي، أو قيد للحكم الشرعي. ومن ثم لا يبعد عدم خصوصية انتظار الغلاء في مفهوم الاحتكار، ولا في حكمه الشرعي، فلو كان الامتناع من البيع لغرض آخر غير انتظار غلاء السعر صدق الاحتكار. ولا أقل من عموم حكمه له لإلغاء خصوصية القيد المذكور بلحاظ المناسبات الإرتكازية في وجه الحكم.

نعم، إذا كان الغرض من حبس الإنسان للشيء الانتفاع به وسد حاجته فالظاهر قصور الحكم عنه، لعدم صدق الاحتكار عليه، أو لانصراف أدلته عنه، بلحاظ أن بيعه لسدّ حاجة الناس ليس بأولي من إبقائه لنفسه وسد حاجته به عرفاً. مضافاً إلي ما هو المعلوم من السيرة علي شراء مؤنة السنة وعدم بيعها عند حاجة الناس.

نعم، ورد أمر الصادق (عليه السلام) ببيع ما في بيته من الطعام عندما شح الطعام في المدينة وارتفع سعره، قال معتب: (فلما بعته قال:

اشتر مع الناس يوماً بيوم) (1) . وذلك منه (عليه السلام) لا يدل علي الوجوب. بل لا يظن بأحد البناء علي وجوب ذلك.

(1) يظهر الوجه فيه مما تقدم.

(2) قد اختلفت كلماتهم في تحديد موضوع الاحتكار، فقد اقتصر في المقنعة والمراسم علي الأطعمة. ويقتضيه إطلاق ما تضمن الطعام من النصوص السابقة. بل ربما كان هو المنصرف من نصوص الاحتكار. وعن أبي الصلاح الاقتصار علي الغلات. والظاهر أنها الغلات الأربع الزكوية: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. ولم يتضح الوجه فيه، حيث لا يناسب نصوص الإطلاق المتقدمة، ولا نصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 32 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

ص: 37

وإن كان الأحوط استحباباً إلحاق الملح بها (1)، بل كل ما يحتاج إليه عامة

---------------

التقييد الآتية.

وزاد عليها في النهاية والسرائر والشرايع وغيرها السمن. ونسبه في السرائر لأصحابنا، وفي الجواهر أنه المشهور وعن جماعة الإجماع عليه. ويقتضيه موثق غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(قال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن) (1) ، وزاد في الفقيه: (والزيت)، وخبر أبي البختري عنه (عليه السلام):

(إن علياً كان ينهي عن الحكرة في الأمصار. فقال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن) (2) .

وفي الدروس والمسالك وعن المقنع وغيره زيادة الزيت. ويشهد له موثق غياث المتقدم علي رواية الصدوق له، وصحيح الحلبي - المتقدم في أول المسألة - علي رواية الكليني، وهو وإن كان في الوسائل مردداً بين الزيت والزبيب، إلا أنه في طبعة الكافي الحديثة بالزيت لا غير، وموثق السكوني عنه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة والشعير والتمر والزيت والسمن والزبيب) (3) .

ومن الظاهر لزوم تحكيم نصوص التحديد علي نصوص الاحتكار السابقة، لأنها بلسان تحديد الموضوع. كما أن اللازم العمل في التحديد علي ما اشتمل علي الزيت، لأن ما لم يشتمل عليه إما ضعيف كخبر أبي البختري، أو مردد بين الواجد له والفاقد له كموثق إبراهيم، بخلاف ما اشتمل عليه فإنه فيه موثق السكوني المعتبر سنداً والمعلوم اشتماله عليه. مضافاً إلي قرب الجمع بين الطائفتين بحمل ماخلا عنه علي الاكتفاء عنه بالسمن، لأنهما من سنخ واحد عرفاً، فإنه أقرب من حمل ما اشتمل عليه علي الكراهة.

(1) كما في المبسوط والوسيلة والتذكرة والقواعد والدروس والمسالك واللمعة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 4، 7، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 4، 7، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 27 من أبواب آداب التجارة حديث: 4، 7، 10.

ص: 38

المسلمين من الملابس والمساكن والمراكب وغيرها (1). ويجبر المحتكر علي البيع (2) في الاحتكار المحرم من دون أن يعين السعر (3). نعم إذا كان السعر مجحفاً بالعامة أجبر علي الأقل منه (4).

---------------

وعن غيرها. ولم نعثر علي نص به، كما اعترف به في الجواهر. بل مقتضي الحصر في النصوص السابقة عدمه. وربما علل بالحاجة إليه، وهو كما تري. نعم لا بأس بالبناء علي الكراهة فيه وفي ما بعده لأجل ذلك.

(1) إذا لم تبلغ الحاجة حدّ اختلال النظام، وإلا حرم، كما تقدم في أول المسألة.

(2) كما صرح به غير واحد، بل عن جماعة الإجماع عليه، كما في الجواهر. ويقتضيه صحيح حذيفة وموثق غياث بن إبراهيم وما في عهد الأشتر، وقد تقدمت. وقد سبق نسبة القول به حتي للقائل بكراهة الاحتكار، كما سبق الإشكال عليهم بذلك.

(3) في المشهور، كما في التذكرة والجواهر، بل نفي في المبسوط الخلاف في أنه لا يجوز التسعير للإمام. لكن في المقنعة: (وله أن يسعرها علي ما يراه من المصلحة)، وقريب منه في المراسم. وقد رده في السرائر بالإجماع والنصوص المتواترة. وهو كما تري، إذ لا مجال لدعوي الإجماع مع الخلاف من مثل المفيد. كما أن النصوص غير متواترة، بل ولا مستفيضة.

نعم، تقدم استنكاره في موثق غياث بن إبراهيم، المؤيد بمرسل الصدوق: (قيل للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):

لو سعرت لنا سعراً، فإن الأسعار تزيد وتنقص، فقال (صلي الله عليه وآله وسلّم): ما كنت لألقي الله ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئاً، فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض... ) (1) ، والمعتضد بقاعدة السلطنة. وكفي بذلك دليلاً في المقام.

(4) كما في اللمعة. وإليه يرجع ما في الوسيلة والمختلف والدروس من جواز

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 30 من أبواب آداب التجارة حديث: 2.

ص: 39

التسعير مع التشدد، وحكي ذلك عن الإيضاح والمقتصر والتنقيح. ويقتضيه ما تقدم في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، معتضداً بانتفاء فائدة الإجبار علي البيع بدونه. وبذلك يخرج عن عموم قاعدة السلطنة.

وأما موثق غياث فهو لا ينهض بالمنع منه في الفرض، لظهور قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(إنما السعر لله يرفعه إذا شاء... ) في إيكال السعر لله تعالي حسبما يحصل في السوق، فلا ينافي منع البايع من التحكم في السعر، بحيث يطلب أكثر من سعر السوق. نعم قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في صحيح حذيفة: (وبعه كيف شئت) مساوق لقاعد السلطنة، فيكون مثلها مقيداً بغير صورة الإجحاف.

ثم إن دليل المسألة إن كان هو ما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر كفي مطلق الإجحاف عرفاً، وإن كان هو انتفاء فائدة الإجبار لزم الاقتصار علي ما إذا بلغ حداً لا يتأدي به الغرض من الإجبار، من سدّ حاجة الناس ورفع اضطرابهم وبلبلتهم.

ومن القريب جداً التعويل علي العهد المذكور، لأنه وإن ذكر في نهج البلاغة مرسلاً، إلا أنه معروف مشهور قد رواه الأصحاب بطرقهم، وفيها المعتبر، ومن البعيد جداً رواية الرضي (قدس سره) له بطوله علي خلاف ما هو المعروف بينهم المروي عندهم. فلاحظ.

هذا وفي المسالك والروضة وعن الميسية أنه لا يسعر عليه، بل يؤمر بالنزول عن السعر الذي يريده إذا كان مجحفاً. وكأنه للجمع بين العمل بالنهي عن التسعير وتحقق الغرض في منع الإجحاف.

لكن نصوص النهي عن التسعير ظاهرة في النهي عن التدخل في السعر أيضاً، وإيكال الأمر فيه لله تعالي أو للبايع. كما أن عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر ظاهر في جواز التسعير بالسعر العدل غير المجحف بالبايع والمبتاع. نعم قد يكون ذلك هو المناسب للاقتصار في الخروج عن قاعدة السلطنة علي المتيقن. فتأمل.

ص: 40

(41) (41)

الفصل الأول: في شروط العقد

وفيه: مسائل..

(مسألة 1): معني البيع قريب من معني المبادلة (1).

---------------

(1) لكن يفترق عنها بأن المبادلة قد لا تبتني علي لحاظ أحد الطرفين بالأصل والآخر عوضاً، بل تكون مع التكافؤ بينهما والتعادل، أما البيع فهو يبتني علي المعاوضة ولحاظ أحد الطرفين أصلاً والآخر عوضاً، كما هو مفاد الباء، دون العكس.

وتوضيح ذلك: أنه لما كان فقد الشيء موجباً لنحو من النقص، فتدارك ذلك النقص وسده بشيء آخر هو المقوم للمعاوضة، فالمعوض هو المنقود الملحوظ بالأصل، والعوض هو الساد مسده الذي به تداركه، والمعوض في البيع هو المبيع، وهو الملحوظ بالأصل، والعوض هو الثمن الذي هو مدخول الباء، وهو الملحوظ بالتبع، لكونه تداركاً للنقص الحاصل بفقد المبيع.

وبذلك يظهر تميز العوض عن المعوض والمبيع عن الثمن مفهوماً وخارجاً، وأن الطرف الذي يتعدي البيع له بنفسه هو المبيع والمعوض، والطرف الذي يتعدي له بالباء هو الثمن والعوض من دون فرق بين إيقاع المعاوضة والبيع بالعقد اللفظي وإيقاعهما بغيره، لأن المدار علي قصد المعاوضة والبيع بما لها من المعني العرفي الذي تؤديه باء العوض.

ص: 41

هذا ويظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) أن فرق العوض والمعوض والمبيع والثمن محض اصطلاح، فالعروض هو المبيع والمثمن والمعوض، والنقد هو الثمن والعوض. ولازمه عدم التمايز بينهما لو كان العوضان معاً من النقود الورقية - كالدينار والدولار أو فئات العملة الواحدة - أو الدراهم والدنانير القديمة، كما في بيع الصرف، أو كانا معاً من العروض، كما في المقايضة. لكنه خروج عن المفهوم العرفي للبيع، ولباء العوض التي يتضمنها عقده.

ومثله في الإشكال ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من صدق البيع مطلقاً في تبديل العرض بالنقد، فباذل العروض هو البايع، وباذل النقد هو المشتري. أما في تبديل النقد بالنقد أو العروض بالعروض فلابد في صدق البيع من كون نظر أحد المبتاعين حفظ مالية ماله في أي متاع كان من الربح، ونظر الآخر إلي رفع حاجته للمتاع وقضائها به، وأن الأول هو البايع والثاني هو المشتري. وفي غير ذلك لا يصدق البيع، وإن صدقت المبادلة بين المالين.

إذ فيه: أن دخل الغرض في صدق البيع غير ظاهر المنشأ. ولاسيما مع عدم تحديد الغرض من قبل أحد طرفي المعاملة في كثير من الحالات، بأن يكون متردداً بين الوجهين حين المعاملة، ومع اختلافه باختلاف أجزاء موضوع المبادلة في بعضها، فيأخذ المتاع مثلاً من أجل الانتفاع ببعضه وحفظ المالية ببعضه الآخر. بل كثيراً ما لا يظهر الغرض لغير صاحبه في بعض الحالات، فيلزم توقف الغير في صدق البيع أو عدم صدقه. بل دخل الغرض في صدق البيع بالإضافة إلي بعض أطراف المبادلة دون بعض لا يخلو عن غرابة.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من امتياز البيع بابتنائه علي المعاوضة المبنية علي كون أحد الطرفين تداركاً لنقص فقد الآخر ساداً مسده، وأن الطريق في تمييز أحدهما عن الآخر ما سبق.

ويترتب علي ذلك أمران:

ص: 42

الأول: أنه لابد في المعاوضة مطلقاً من دخول العوض في ملك من خرج عنه المعوض، وفي خصوص البيع من دخول الثمن في ملك البايع عوضاً عن المبيع، كما هو المشهور، حفاظاً علي المعاوضة المبنية - كما سبق - علي تدارك العوض للنقص الحاصل لمن خرج منه المعوض والمثمن بفقدهما، حيث لا يتحقق ذلك بدخول العوض والثمن في ملك غيره.

خلافاً لما ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي مبحث المعاطاة من مكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره)، فإنه بعد أن أشار للوجه المذكور قال:

(ويمكن الخدشة في الوجه العقلي بأن مقتضي إطلاق المعاوضة والمبادلة وإن كان دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، إلا أنه قابل للتقييد بالخلاف، ولا يخرج بذلك عن حقيقة المعاوضة، لكفاية لحاظ كونه عوضاً عرفاً في صدقها، كما في المهر في النكاح، فإنه عوض البضع، ويمكن أن يكون علي غير الزوج، وكما في أداء دين الغير [و. ظ] يقال: خط ثوب زيد وأنا أعطيك درهماً، أو احمل زيداً وعلي عوضه، أو خذ هذا الدرهم عوض ركوب زيد، ونحو ذلك. فالمعتبر في حقيقة المعاوضة جعل الشيء في مقابل الشيء من حيث هما مع قطع النظر عن كون المالك هذا أو ذاك، وحينئذ فإذا أذن في بيع ماله لنفسه صح، كأن يقول: بع مالي لك، وكذا في الشراء، كأن يقول: اشتر بمالي لك، فتأمل) .

وفيه: أن المدار في المعاوضة وإن كان علي الصدق العرفي، إلا أنها لما كانت مبنية علي تدارك النقص الحاصل بفقد المعوض لزم فيها صيرورة العوض في محل المعوض، ودخوله في ملك من خرج منه.

وأما الأمثلة التي ذكرها فهي أجنبية عما نحن فيه، فإن المهر ليس عوضاً عن البضع، بل هو بالهدية أشبه. ولو فرض كونه عوضاً عنه فهو إنما يصلح شاهداً لإمكان دخول المعوض في ملك غير من خرج منه العوض، بمعني أنه لا يجب خروج العوض ممن يصير له المعوض، بل يمكن خروجه من غيره، وهو أمر آخر يأتي الكلام

ص: 43

فيه إن شاء الله تعالي. وعليه يبتني قوله: اشتر بمالي لك، كما لا يخفي. كما أن وفاء دين الغير ليس من سنخ المعاوضة. غاية الأمر أنه يتضمن دفع البدل من غير من صار له المبدل، وهو يشبه دفع العوض من غير من صار له المعوض الذي يأتي الكلام فيه، وليس منه.

وأما بقية الأمثلة فإن رجعت إلي الإجارة فمن الظاهر أن مالك المنفعة فيها هو المؤجر الباذل للثمن، دون المنتفع، وهو زيد في الأمثلة المذكورة. وإن رجعت إلي الجعالة - كما هو الظاهر منها بدواً - فهي عقد معاوضي يبتني علي تملك المنفعة في مقابل العوض، ليكون مما نحن فيه، بل مجرد ضمان الأجر للعامل، من دون أن تكون المنفعة مملوكة عليه. غاية الأمر أن يكون المنتفع بالمنفعة غير الباذل للأجر، وأين هو مما نحن فيه ؟!.

ومن ثم لا مجال للبناء علي ما ذكره (قدس سره) وعلي ذلك لا يصح مثل: بع مالي لك. إلا أن يرجع إلي الإذن في تملكه قبل البيع، أو تملك ثمنه بعده. ولعل الثاني هو الأظهر.

الثاني: أن إطلاق المعاوضة وإن اقتضي خروج العوض من ملك من يصير له المعوض بالمعاملة، بحيث يصير كل من العوض والمعوض في ملك مالك الآخر، إلا أن ذلك ليس مأخوذاً في حقيقتها، بل يمكن خروج العوض من ملك غير من يصير له المعوض، لأن كون العوض تداركاً للمعوض إنما يقتضي تملك صاحب المعوض له، وإن كان القائم بالتعويض شخصاً ثالثاً غير آخذ المعوض.

وعلي ذلك يمكن شراء الإنسان لنفسه بمال غيره، لا بأن يشتري في ذمته ثم يفي من مال غيره، فإن الوفاء خارج عن المعاوضة حينئذ مترتب عليها، بل بأن يشتري لنفسه في ذمة غيره أو بعين مال غيره. غاية الأمر أنه لابد من إذن ذلك الشخص أو إذن من يقوم مقامه، وهو أمر آخر.

لكن المنسوب للمشهور امتناع ذلك، نظير ما تقدم في الأمر السابق. وربم

ص: 44

يوجه - بعد الاعتراف بما ذكرنا في حقيقة المعاوضة - بأن عوضية المعوض للعوض ملحوظة أيضاً تبعاً لعوضية العوض للمعوض، فالمنشأ حقيقة معاوضتان متقابلتان إحداهما بالأصالة، وهي المعيار في دخول الباء، والثانية بالتبع.

وفيه: أن المعاوضة التبعية المدعاة إن كانت مستفادة من الباء، فهي في غاية المنع، إذ ليس مفاد الباء إلا كون مدخولها عوضاً، دون كونه معوضاً، وإن كانت مستفادة من دال آخر، كما قد توهمه بعض الكلمات، فليس هناك ما يدل علي المعاوضة غير الباء.

إلا أن يدعي ذلك في خصوص بعض العقود المعاوضية - كالبيع - بدعوي ابتنائها علي التعاوض من الطرفين وإن كانت الباء مسوقة لبيان العوضية لمدخولها فقط، وهي الملحوظة بالأصل. لكنه خال عن الشاهد، بل لا يستنكر العرف شراء الإنسان بمال غيره بالنحو الذي سبق في الأمر الأول، حيث يصلح ذلك شاهداً علي عدم ابتناء مفهوم البيع علي التعاوض من الطرفين.

نعم، لا إشكال في أن إطلاق المعاوضة من دون تعيين من عليه العوض ظاهر في أنه هو الذي يصير له المعوض، لأن من له الغنم فعليه الغرم أو لنحو ذلك. إلا أن ذلك ليس لازماً للمعاوضة، بل يمكن الخروج عنه بالتصريح بخلافه، كما هو الحال في سائر موارد الإطلاق.

وعليه لا مخرج عما ذكرنا من إمكان تحمل العوض من قبل شخص ثالث وخروجه من ملكه مباشرة، من دون أن يتوسط في البين دخوله في ملك من صار إليه المعوض. كما أنه يلزم العمل علي ذلك لو صرح به.

وحينئذ تكون أطراف العقد الذي يتوقف نفوذه علي إعمال سلطنتهم فيه ثلاثة: من خرج المعوض عن ملكه، ومن دخل في ملكه، والذي يتحمل العوض. وفي البيع مثلاً هو البايع والمشتري ودافع الثمن. ولا مانع من البناء علي ذلك، كما ربما يأتي منّا ما يناسبه. وإنما يقتصر فيه علي الطرفين: البايع والمشتري، إذا كان الثمن علي المشتري،

ص: 45

(46)

ولا يحصل إلا بالإيجاب والقبول (1).

---------------

الذي هو مقتضي الإطلاق.

(1) لأنه من العقود وليس إيقاعاً، والفرق بينهما ظاهر، فإن العقد هو التزام بين شخصين أو أكثر بمضمون واحد كل منهم للآخر علي نفسه، لمنافاته لسلطنته عليها. ومن هنا لابد فيه من أمور:

الأول: كون موضوع التزام كل منهم عين موضوع التزام الآخر، فلو اختلف الموضوع لم يكن المضمون عقداً، وإن كانا مترابطين، كما في الخلع الذي يتحقق ببذل الزوجة أولاً، ثم طلاق الزوج لها مترتباً علي البذل، فإنه يرجع إلي إيقاعين مترتبين، ولا يكون عقداً، لاختلاف موضوع التزام كل منهما عن موضوع التزام الآخر.

الثاني: أن يلتزم كل طرف لصاحبه علي نفسه بالمضمون المذكور، لابتناء المضمون المذكور علي كلفة كل منهما لصاحبه. فلو لم يكن كذلك لم يكن المضمون عقداً، كما في إمضاء الزوج نذر زوجته لو كان منافياً لحقه أو مطلقاً، علي الخلاف، فإن نفوذ النذر وإن كان موقوفاً علي إعمال سلطنتهما معاً لمنافاته لها، إلا أن كلا منهما لا يلتزم للآخر بشيء، بحيث يكون مسؤولاً به له، بل كل منهما يلتزم أو يرضي بالمضمون لوحده. ومن ثم لو خالف لا يكون للآخر مطالبته بالتنفيذ بما أنه صاحب حق يطالب بحقه، وإن كان له عذله من باب إنكار المنكر، بخلاف أطراف العقد، فإن لكل منهم مطالبة الآخر بالتنفيذ بما أنه صاحب حق يطالب بحقه.

وبذلك يظهر أن توقف نفوذ العقد علي رضا شخص ثالث لا دخل له بمضمونه في بعض الموارد لا يجعله طرفاً في العقد، كتوقف صحة عقد بنتي الأخ والأخت علي إذن العمة والخالة، لأن علقة النكاح بين الزوجين ترجع لالتزام كل منهما لصاحبه بثبوتها، من دون دخل للعمة والخالة في ذلك، ولا التزام منهما ولا لهما بشيء.

الثالث: ارتباط التزام كل طرف بالتزام الآخر، بحيث يكون مبتنياً عليه، فلو

ص: 46

التزم كل طرف بالمضمون لوحده لم يتحقق العقد. وإلي هذا يرجع ما ذكروه من أن ركني العقد الإيجاب والقبول، بلحاظ ارتباط القبول بالإيجاب وتفرعه عليه، وإلا فالمعتبر ما ذكرنا. ولذا يكفي في ترتب العقد توقيع الأطراف علي الورقة المتضمنة للمضمون العقدي، من دون أن يكون أحدهم موجباً والآخر قابلاً، كما يكفي الإيجاب من وكيل الطرفين أو وليهما إذا ابتني علي إعمال وكالته أو ولايته عنهما معاً.

أما الإيقاع فهو يبتني علي التزام شخص واحد بالمضمون، إما لتعلقه به وحده، كما في النذر والوصية بالثلث، أو لتعلقه به وبغيره مع استقلاله هو بالسلطنة عليه دون ذلك الغير، كما في الطلاق الذي جعله الشارع بيد الزوج وإن كان متعلقاً بالزوجين معاً، أو لتعلقه بالغير فقط من دون اعتبار رضا ذلك الغير، كما في نصب الأب القيم علي أطفاله من بعده. ومجرد توقفه علي إذن الغير في بعض الموارد لا يجعله عقداً إذا لم تتم شروط العقد المتقدمة، كما يظهر مما سبق.

وبذلك يظهر الوجه في كون البيع من العقود، لأنه حيث كان نحو نسبة قائمة بمالين لمالكين أو أكثر فهو ينافي سلطنة كل طرف علي ماله إن كان طرف المعاملة المتعلق به مالاً خارجياً، أو نفسه إن كان طرفها ذمياً، فلابد في نفوذه من إعمال كل طرف لسلطنته بالالتزام بمضمون البيع علي نفسه لصاحبه. وبذلك يتم العقد، كما سبق.

كما ظهر بذلك عدم خصوصية الإيجاب والقبول في المقام، وأن المعيار علي ارتباط التزام بعضهم ببعض، وإن كان الإيجاب من كل طرف، أو بالقبول من الكل، كما تقدم في مثل التوقيع من الكل علي الورقة المتضمنة للمضمون العقدي، أو بإيجاب واحد عن الكل كما في إيجاب وكيل الطرفين أو وليهما، كل ذلك لصدق العقد والبيع بذلك، وليس ذكر الإيجاب والقبول إلا لتعارف إنشاء البيع بهما.

هذا وقد تقدم في أول كتاب التجارة ذكر ما يستدل به علي نفوذها بخصوصها، وما يستدل به علي نفوذ عموم العقود ونحوه مما يعمها غيرها. فراجع.

ص: 47

(48)

ويقع كل لفظ دال علي المقصود، وإن لم يكن صريحاً فيه (1)،

---------------

(1) كما هو مقتضي إطلاق غير واحد، قال في الشرايع

:(العقد هو اللفظ الدال علي نقل الملك من مالك إلي آخر بعوض معلوم) ، وقال في القواعد:

(ولابد من الصيغة الدالة علي الرضا الباطني، وهي الإيجاب والقبول) ، وقال في الدروس:

(وهو الإيجاب والقبول من الكاملين، الدالان عل نقل المعين بعوض مقدر مع التراضي) .

بل هو مقتضي الإطلاق المقامي لكل من أهمل الحديث عن تحديد الصيغة التي يقع بها البيع، كما في المقنعة والنهاية وغيرهما. بل عن غير واحد التصريح بعدم اعتبار لفظ مخصوص في البيع، وعن آخرين التصريح بوقوع بعض العقود بالمجاز، كما أطال شيخنا الأعظم (قدس سره) في نقل ذلك عنهم، ولا يسعنا استقصاء كلماتهم.

ويقتضيه عموم وإطلاق أدلة النفوذ بعد تحقق البيع والتجارة والعقد وغيرها - من العناوين المأخوذة في أدلة النفوذ - عرفاً ولو مع عدم صراحة اللفظ المنشأ به العقد.

لكن جعل في التذكرة من شروط الصيغة التصريح، قال:

(فلا يقع بالكناية مع النية) ، واعتبر في جامع المقاصد دلالة اللفظ علي البيع بالوضع، وفي مفتاح الكرامة:

(وهو الذي طفحت به عباراتهم، حيث قالوا في أبواب متفرقة - كالسلم والنكاح وغيرها - إن العقود اللازمة لا تثبت بالمجازات، فيأخذون هذه القضية مسلمة في مطاوي الاحتجاج) ، ونحوه كلام غيره.

وربما استدل علي ذلك بالإجماع المستفاد من هذه الكلمات. لكن لا مجال للبناء عليه بعد ما سبق من إطلاقاتهم اللفظية والمقامية وتصريحاتهم. ولاسيما مع الإشكال في تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم في مثل هذه المسائل التي لم ترد بها النصوص، ولم يتضح في موردها سيرة متصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، وإنما حررت متأخراً عند اهتمام أصحابنا (رضوان الله عليهم) بتبويب الفقه

ص: 48

وتنظيم مسائله، لقرب استناد المجمعين فيها لاجتهادات اتضحت لأوائلهم، وجري عليها من تأخر عنهم، لتخيل تحقق الإجماع باتفاق الأوائل المذكورين، حتي تحقق التسالم منهم نتيجة لذلك.

نعم، قد يمنع من الإنشاء بالمجاز، بل بكل ما يحتاج دلالته إلي القرينة - حتي المشترك - بلحاظ أن بساطة المضمون العقدي تقتضي وجوده دفعة واحدة في مقام الإنشاء، لا تدريجاً بتعدد الدال والمدلول، كما هو الحال فيما إذا استند لذي القرينة والقرينة معاً.

ويندفع: أولاً: بأن الذي يتحقق به إنشاء المضمون العقدي هو ذو القرينة، وليست القرينة إلا كاشفة عن بيان مدلول ذيها وما أريد به، من دون أن يكون لها دخل في الإنشاء، ليلزم تعدد ما به الإنشاء، المدعي منافاته لبساطة الأمر المنشأ.

وثانياً: بأن ذلك لا يتم مع كون القرينة حالية مقارنة لذي القرينة، أو مقالية سابقة عليه، بحيث يفهم المراد من ذي القرينة رأساً، كما يفهم منه لو كان حقيقة فيه، من دون حاجة لانتظار القرينة.

وثالثاً: بأن بساطة المعني العقدي لا تمنع من تعدد الإنشاء الذي يكون سبباً له وتركبه، لأن سببية الإنشاء للمضمون العقدي اعتبارية لا حقيقية، فلا مانع من أن يكون إنشاء المضامين المتعددة بالقرينة وذي القرينة سبباً لاعتبار العرف تحقق المضمون العقدي البسيط. كيف ولا إشكال في تركب الإيجاب العقدي من مجموعة ألفاظ تدل علي الخصوصيات الدخيلة في العقد كالثمن والمثمن وغيرها.

وربما يستدل بوجوه أخر أظهر وهناً من أن يحتاج إلي إطالة الكلام في ذكرها وردها.

هذا ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) التفصيل في المجاز بين أن تكون دلالته بضميمة قرينة دالة علي المضمون العقدي المراد بالوضع، وأن تكون بضميمة حال أو مقال خارج العقد، فيقع بالأول، لعدم الفرق بينه وبين الدلالة بالوضع من حيثية

ص: 49

الوضوح والصراحة، دون الثاني، لأن وقوع العقد به ينافي اتفاقهم علي عدم العبرة في العقود بغير الأقوال، حتي ذهبوا إلي عدم كفاية المعاطاة.

وهو كما تري، للإشكال في الأول بأن المعيار في الصراحة إن كان هو الوضع فهو غير متحقق فيه، لأن القرينة وإن كانت دالة وضعاً، إلا أن الإنشاء لا يكون بها، بل بذي القرينة المفروض كونه مجازاً، وإن كان هو الجلاء والبيان فهو لا ينحصر بما إذا كانت القرينة دالة بالوضع، بل قد يتحقق مع دلالتها بغير الوضع، بل مع عدم كون القرينة لفظية، كما هو ظاهر.

وفي الثاني بأن اتفاقهم علي اعتبار اللفظ لو تم، فالمتيقن منه اعتباره فيما يتحقق به إنشاء المضمون العقدي، وهو حاصل مع المجاز، حتي لو كانت القرينة حالية أو مقالية خارجة عن العقد، إذ لا دخل للقرينة في إنشاء المضمون العقدي، بل في الكشف عن المراد باللفظ الذي تحقق به إنشاؤه، كما سبق.

ومن هنا لا مخرج عما يقتضيه عموم وإطلاق أدلة النفوذ من الاكتفاء بكل لفظ يتضمن إنشاء المضمون العقدي، من دون فرق في نحو دلالته.

نعم، ظاهر سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه عدم صحة إنشاء العقد بالمجازات العرفية المستبشعة، لقصور العمومات عنه، قال:

(نعم المجازات البعيدة المستبشعة يشكل الرجوع في صحة الإنشاء بها إلي العمومات، لعدم كون إنشائها بها منشأ انتزاع العناوين في نظر العرف، ولا تعد عندهم آلة لإنشائها، ومثل ذلك مانع من الرجوع إلي العمومات بعد تنزيلها علي العناوين العرفية) .

لكن المدار في الصدق العرفي علي إبراز الالتزام بالمضمون العقدي، حيث يصدق معه عرفاً أن من يقوم بذلك قد باع أو آجر أو نحو ذلك من العقود، ومجرد استبشاع الإبراز بالوجه المذكور لا يمنع من صدق العناوين العقدية المذكورة، ومع صدقها يتجه عموم النفوذ لها، فيتعين البناء عليه.

اللهم إلا أن يدعي أن الإجماع علي اعتبار الإنشاء باللفظ - لو تم - يراد به اللفظ

ص: 50

(51)

مثل: بعت، وملكت، وبادلت (1)، في الإيجاب، و: قبلت، ورضيت، وتملكت، واشتريت (2)، في القبول. ولا يشترط فيه العربية (3).

---------------

المستعمل بالوجه المقبول عند أهل اللسان، دون المستعمل بالوجه المستبشع عندهم الخارج عن طريقتهم. فإن تم ذلك كان عدم النفوذ من جهة الإجماع المخرج عن عموم النفوذ، لا لقصور العموم عن المورد، كما يظهر منه (قدس سره).

لكن الشأن في تمامية أصل الإجماع المذكور، فضلاً عن حمله علي ذلك، كما يتضح مما يأتي في المسألة السادسة عند الكلام في المعاطاة إن شاء الله تعالي.

(1) يعني: إذا قصد بهما البيع أما لو قصد معناهما أشكل تحقق البيع بهما، لعدم وضوح مطابقته لهما.

(2) لتضمنها المطاوعة المناسبة لمعني القبول، بل سبق أن اعتبار القبول إنما هو من أجل ارتباط التزام أحد طرفي العقد بالتزام الآخر، فإذا تحقق ذلك بغير القبول كفي، كما لو أنشأ كل منهما البيع بمثل: تبادلنا كذا بكذا مع قصد البيع به، ومع ابتناء التزام كل منهما بالتزام الآخر. بل هو من الثاني قبول في واقعه وإن كان بصيغة الإيجاب. فلاحظ.

(3) كما قواه شيخنا الأعظم (قدس سره)، وهو صريح ما عن ابن حمزة من استحباب العقد بالعربية مع الجواز بغيرها، كما أنه مقتضي إطلاقاتهم اللفظية والمقامية التي تقدمت الإشارة إليها عند الكلام في اعتبار الصراحة. ويقتضيه عموم وإطلاق أدلة النفوذ التي تقدمت في أول كتاب التجارة.

لكن صرح باعتبار العربية في جامع المقاصد والروضة والجواهر، وحكي عن المقداد - في التنقيح وكنز العرفان - والسيد عميد الدين. ويناسبه ما في المبسوط من نفي الخلاف في عدم الاجتزاء في النكاح بغير العربية مع القدرة، ونسبه في التذكرة إلي علمائنا، إلا أن يكون ذكرهما له في النكاح وإهمالهما له في غيره ظاهراً في خصوصية

ص: 51

النكاح في ذلك.

وكيف كان فلا شاهد لاعتبار العربية إلا الأصل، المحكوم لعموم وإطلاق أدلة النفوذ. لكن قد يدعي اعتبار العربية في حق القادر، لقصور العموم والإطلاق المذكورين. ويقرب ذلك بوجوه:

الأول: عدم صدق العقد بغير العربية مع القدرة علي العربية. وهو كما تري مصادرة مخالفة للوجدان. ودخل التعذر في صدق العقد غريب.

ومثله ما قد يدعي من أن اختيار أهل اللغة لغة أخري عبث لا ينتزع معه عنوان العقد عرفاً. إذ هو - مع عدم مطابقته للمدعي - موهون جداً.

الثاني: قصور عمومات النفوذ عن غير العربي وانصرافها للعربي. قال في الجواهر:

(كغير المقام مما علق الشارع الحكم فيه علي الألفاظ المنصرفة إلي العربية، خصوصاً بعد أن كان المخاطِب والمخاطَب عربياً، وقد أرسل بلسان قومه. ولذا كان القرآن وغيره من الأدعية والأذكار الموظفة عربية، ولم يرد منهم (عليهم السلام) شيء منها بالفارسية في جميع الموظفات) .

ويشكل بأن التوظيف إن كان بلفظ مخصوص - كما في القرآن المجيد، والأذكار الواردة عن الشارع الأقدس - تعين الاقتصار عليه بأي لغة كان، عملاً بالتوظيف. وإن كان بعنوان مخصوص - كالذكر والدعاء - تعين العمل بإطلاقه، ولذا كان الظاهر أداء وظيفة القنوت بالذكر والدعاء غير العربي، لعدم التوقيت فيه بشيء معين.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن موضوع التوظيف اللفظ، بل أمراً مسبباً ويكون اللفظ آلته وسببه، كما في المقام، حيث يتعين الرجوع في تشخيص سببه وآلته للعرف، وهو في المقام لا يعين العربية. ومجرد عدم ورود شيء من الأذكار المخصوصة بغير العربية - لو تم - لا يقتضي تعيين العربية في مورد الإطلاق.

وما ذكره من كون المخاطِب والمخاطَب عربياً غير ظاهر، بل المخاطَب له (صلي الله عليه وآله وسلّم) جميع البشر، تبعاً لعموم رسالته (صلي الله عليه وآله وسلّم). علي أن ذلك وحده لا يكفي في التقييد،

ص: 52

خصوصاً في مثل عمومات النفوذ الارتكازية. بل لو فرض قصور العمومات اللفظية للانصراف المدعي، كفي عموم دليل النفوذ الارتكازي، الذي سبق التعرض له في أول كتاب التجارة.

ومثله ما قد يدعي من انصراف عموم النفوذ للعربي، بسبب تعارفه في عصر صدور دليله. إذ فيه: أن الانصراف بسبب التعارف بدوي لا يعتد به، مع أنه ممنوع، لشيوع العقد بغير العربي عند غير العرب. والانصراف لخصوص المتعارف عندهم في غاية المنع. إلا أن يراد به انصرافهم أنفسهم له بسبب تعارفه عندهم. لكن لا ريب في عدم الأثر لمثل هذا الانصراف.

الثالث: أن عدم صحته بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحته بغير العربي بالأولوية، وفيه: أولاً: أنه لا أصل لاعتبار الماضوية في الصيغة، وإن صرح به جماعة، بل عن جماعة أنه المشهور، وفي التذكرة: (ويشترط... الإتيان بهما بلفظ الماضي. فلو قال: أبيعك، أو قال: أشتري، لم يقع إجماعاً، لانصرافه إلي الوعد).

إذ لم يتضح الدليل علي ذلك، خصوصاً بناء علي ما هو الظاهر من وضع هيآت الجمل للإخبار، وأن استعمالها في الإنشاء يبتني علي التوسع بالقرينة، لعدم الفرق بين الفعل الماضي وغيره في ذلك. وما في جامع المقاصد من أن الماضي صريح في إرادة نقل الملك، وأما المستقبل فهو شبيه بالوعد والأمر بعيد عن المراد جداً. غريب، إذ كما يكون المستقبل شبيهاً بالوعد كذلك يكون الماضي شبيهاً بالخبر، ولا ملزم بحمله علي الإنشاء إلا القرينة، التي يمكن قيامها علي حمل المستقبل علي الإنشاء أيضاً.

ومن ثم لا مخرج عن عموم النفوذ. ولاسيما مع ورود النصوص بإيقاع جملة من العقود والإيقاعات بالفعل المضارع والأمر والجملة الاسمية(1).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11، 12 من أبواب عقد البيع وشروطه، وج: 13 باب: 13، 14 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات، وباب: 6 من أبواب كتاب السكني والحبيس، وج: 14 باب: 18 من أبواب المتعة، وج: 14 باب: 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، وباب: 1، 2، 4، 9، 13، 16 من أبواب كتاب الظهار، وج: 16 باب: 10، 11، 28، 30 من أبواب كتاب العتق.

ص: 53

كما لا يقدح في اللحن (1)

---------------

وثانياً: أن الأولوية إنما تتم إذا كان ملاك المنع في المقيس أقوي منه في المقيس عليه، ولا مجال لذلك في المقام، لأن ملاك المنع في غير الماضي لو تم إما عدم الصراحة، أو التعبد المستفاد من الإجماع المدعي، ولا أولوية في المقام من حيثيتهما، كما لعله ظاهر. وربما استدل بوجوه أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور وهنها.

ومن هنا لا مخرج عن عموم أو إطلاق أدلة النفوذ. ولاسيما مع قرب قيام السيرة علي عدم الالتزام بالعربية لمن يحسن غيرها في غير العبادات المفروض فيها أذكار عربية خاصة، لما في ذلك من العناية التي لو كانت لبانت عادة. خصوصاً وأنه قد يحسنها أحد المتعاقدين دون الآخر، فإن ذلك قد يناسب السؤال عن الحكم حينئذٍ، مع أنه لم يرد ما يشير إلي ذلك.

هذا والمعروف بينهم اجتزاء العاجز بغير العربي. قال في الجواهر:

(لفحوي الاكتفاء بإشارة الأخرس، مؤيداً ذلك بعدم العثور فيه علي خلاف بين الأصحاب. بل في كشف اللثام: الذي قطع به الأصحاب أنه يجوز بغير العربية للعاجز عنها ولو بالتعلم بلا مشقة، ولا فوت غرض مقصود. بل الظاهر الاجتزاء به وإن تمكن من التوكيل، كما صرح به بعضهم، للفحوي المزبورة. فما عن بعضهم من اعتبار ذلك في الاجتزاء بها لا يخلو من نظر) .

وما يظهر من كلام كشف اللثام المذكور من لزوم التعلم إذا لم يكن فيه مشقة ولا فوت غرض مقصود، لا يناسب السيرة علي الظاهر، لما فيه من العناية، نظير ما تقدم.

(1) كما هو مقتضي إطلاق من سبق، المناسب لإطلاق وعموم أدلة النفوذ. لكن صرح في جامع المقاصد بقادحية اللحن، وهو ظاهر الجواهر. وهو متجه بناء علي الوجه الثاني من الوجوه التي تقدم الاستدلال بها لاعتبار العربية.

كما أنه بناء علي اعتبار الدلالة بالوضع يتجه عدم صحة العقد الملحون. إلا إذ

ص: 54

(55)

في المادة أو الهيئة (1). ولا يجوز فيه تقديم القبول علي الإيجاب (2).

---------------

اشتهر اللحن بنحو يستوجب وضع الملحون للمعني المقصود تعيناً في اللغة الدارجة بين العامة، فيصح حينئذ بناء علي عدم اعتبار العربية في العقد.

وعلي الأول يبتني اعتبار عدم اللحن علي القول باعتبار العربية، أما علي الثاني فيجري حتي بناءً علي عدم اعتبار العربية، لتحقق اللحن في غيرها من اللغات. وكيف كان فمما سبق يتضح ضعف الوجهين معاً.

(1) لعدم الفرق بينهما بالنظر لعموم أو إطلاق أدلة النفوذ. كما لا فرق أيضاً بالنظر له بين كون الملحون مهملاً وكونه موضوعاً لمعني غير المقصود مادام قد أريد به إنشاء العقد المقصود ولو بضميمة القرينة.

(2) وهو الأشهر، كما في المختلف. وكلماتهم في المقام في غاية الاضطراب، حيث يظهر بمراجعتها عدم تحديد الإيجاب والقبول فيها، والذي ينبغي أن يقال:

الكلام: تارة: يكون في إيقاع العقد بإنشاء مضمونه من كلا الطرفين، كما لو قال البايع: (بعت) وقال المشتري: (ابتعت).

وأخري: يكون في إيقاع العقد بإنشاء مضمونه من أحد الطرفين، مع إمضاء ذلك الإنشاء وتنفيذه من الطرف الآخر بمثل: (قبلت) و (رضيت).

وثالثة: بإيقاعه باستدعاء المضمون من أحد الطرفين بمثل: (بعني) أو (اشتر مني) مع إنشائه من الطرف الآخر بمثل: (بعت) أو (اشتريت).

أما الصورة الأولي: فالعقد فيها مركب من إيجابين. وربما سمي الثاني - أياً منهما كان - قبولاً بلحاظ كونه إقراراً للأول بعد ما سبق من ابتناء العقد علي الارتباط بين الطرفين في الالتزام. كما ربما يسمي ما يصدر من المشتري قبولاً وإن كان متقدماً، لتعارف كون المشتري هو القابل، فيبتني علي محض الاصطلاح، كما ذكره في المسالك في كتاب النكاح.

ص: 55

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في إمكان إيقاع العقد بالإنشاءين المذكورين، وقد يظهر منهم الاتفاق عليه. كما لا يعتبر الترتيب بينهما، علي ما صرح به غير واحد. لصدق العقد بذلك، فيكون مشمولاً لأدلة النفوذ.

إن قلت: ليس مفاد الصيغة فيهما واحداً، بل مفاد إنشاء البايع الفعل، ومفاد إنشاء المشتري الانفعال، والثاني متأخر رتبة عن الأول وإن تقارنا زماناً، فيتعين كون الثاني قبولاً، ولابد من تأخيره، لترتبه علي الأول طبعاً.

قلت: الترتب المذكور بين المضمونين ليس ناشئاً من ترتبهما طبعاً، بل من اختلاف نحو نسبة المضمون العقدي إلي كل من الطرفين مع وحدة المضمون المذكور، فهذا المضمون الواحد إن نسب إلي مالك المثمن الملحوظ بالأصل كان بيعاً، وإن نسب إلي مالك الثمن الملحوظ تبعاً كان شراءً وابتياعاً. وحينئذ فإنشاء كل منهما للمضمون المنتسب له نحواً من النسبة إنشاء لذلك المضمون الواحد المنافي لسلطنتهما معاً، فلا ينفذ إلا بإعمال كل منهما لسلطنته فيه المتحقق في المقام بصدور الإنشاءين معاً منهما.

وبعبارة أخري: ليس المنشأ في المقام وما هو موضوع الآثار إلا المعاوضة الخاصة، ولا يراد بإنشاء كل منهما إلا تحقيقها والالتزام بها من دون اختلاف في الواقع المنشأ. فالمقام كما لو قال كل منهما في مقام الإنشاء: التزمت ببيع المتاع الخاص بالثمن الخاص، أو قال: التزمت بشراء المتاع الخاص بالثمن الخاص، وكما لو كتب البيع بحدوده في ورقة، ووقع كل منهما عليها من أجل بيان التزامه بما فيها.

ويشهد بذلك أن ما يتحقق بالإيجابين المذكورين ارتكازاً هو عين ما يتحقق بالإيجاب من أحد الطرفين والقبول بمثل: (قبلت) من الآخر، مع أن القبول المذكور لا يتضمن إلا إقرار المضمون الواحد الذي اختص بإنشائه أحدهما، من دون أن يتضمن إنشاء الصورة الأخري المفروضة في المقام.

وأما ما اشتهر من توقف العقد علي الإيجاب والقبول فلابد من رجوعه إلي ما ذكرناه آنفاً من اعتبار ارتباط التزام كل منهما بالتزام الآخر المستلزم لكون صدور

ص: 56

الثاني مبنياً علي الأول وإمضاء لمضمونه، أو يحمل علي بيان الوجه الغالب في إعمال السلطنتين، مع كون المعتبر حقيقة هو إعمالهما معاً في مقابل الإيقاع الذي يكفي فيه إعمال سلطنة واحدة.

وأما الصورة الثانية: وهي مورد كلام سيدنا المصنف (قدس سره) فالعقد فيها مركب من إيجاب المضمون العقدي من أحد الطرفين وقبوله من الطرف الآخر، سواء كان الموجب هو المشتري أم البايع. وتسمية ما يصدر من البايع إيجاباً وإن كان بلفظ القبول، وما يصدر من المشتري قبولاً وإن تضمن إنشاء المضمون العقدي، يبتني علي الاصطلاح المشار إليه آنفاً، من دون أن يخرج الأمر في حقيقته عما ذكرنا.

ولا ينبغي التأمل في نفوذ العقد وتحقق البيع، سواءً كان الإيجاب من البايع بلفظ (بعت) ونحوه، أم من المشتري بلفظ (اشتريت) و (ابتعت) ونحوهما.

ودعوي: أنه في الثاني يلزم تحقق الشراء بدون البيع، وصدق عنوان المشتري بدون البايع، لعدم إنشاء الطرف الآخر للبيع، بل الرضا بالشراء لا غير. مدفوعة: بما ذكرناه آنفاً من أن المنشأ مضمون عقد البيع القائم بالبايع والمشتري معاً، والتعبير بالشراء والابتياع بلحاظ نسبته للمشتري، وقبول الطرف الآخر بجعله بايعاً قهراً وإن لم ينشئ البيع، كما يكون قبول المشتري لإنشاء البايع العقد بلفظ (بعت) موجباً لصيرورته مشترياً قهراً وإن لم ينشئ الشراء.

ويؤيد ذلك ما ورد من صحة إنشاء الزوج لعقد النكاح بلفظ (أتزوجك) لانصرافه إلي القبول من الزوجة بمثل: (رضيت)، بل هو المصرح به في رواية أبان بن تغلب: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول:

أتزوجك متعة علي كتاب الله وسنة نبيه... فإذا قالت: نعم قد رضيت، وهي امرأتك... ) (1) .

هذا والظاهر عدم جواز تقديم القبول في المقام، كما صرح به جماعة، وظاهر المسالك وعن الميسية ومجمع الفوائد نفي الخلاف فيه، لأن مفاد القبول المذكور تنفيذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب المتعة حديث: 1.

ص: 57

الإيجاب والالتزام به، وهو متفرع علي تحقق الإيجاب، ولا موضوع له قبله.

ودعوي: أن مفاد القبول في المقام لما كان هو الرضا بمضمون الإيجاب أمكن تقدمه عليه، لإمكان الرضا بالشيء قبل وقوعه.

مدفوعة: بأن مجرد الرضا بمضمون العقد لا يكفي في القبول الذي هو ركن العقد، لعدم إعمال سلطنة القابل بذلك، بعد كون المضمون منافياً لها، بل لا يتم إعمال سلطنته إلا بالالتزام بمضمون العقد وجعله في عهدته، إما بإنشائه استقلالاً، أو بإمضاء الإيجاب وتنفيذه المستفاد من مثل: (قبلت) و (رضيت) ونحوهما، إذا وقعت بعد الإيجاب. أما إذا وقعت قبل الإيجاب فهي تتمحض في بيان الرضا به الذي عرفت الاكتفاء به، ولا تتضمن إمضاءه وتنفيذه، إذ لا معني لإمضائه قبل وقوعه.

نعم، لو أريد بها إنشاء الالتزام بالمضمون ابتداء كان كالصورة الأولي. لكنه يحتاج إلي كلفة وعناية خارجة عن محل الكلام. كما إنه لو أريد بها الإذن للطرف الآخر في الاستقلال بالمعاملة نيابة عن القابل وأصالة عن نفسه، بحيث يقوم مقام الطرفين - كوليهما والوكيل عنهما - تعين كفاية الإيجاب في تحقيق العقد. لكن القبول المذكور لا يكون حينئذ ركناً للعقد، بل توكيلاً فيه. وهو أيضاً يحتاج إلي كلفة وعناية خارجة عن محل الكلام. وبالجملة: لا مخرج عما ذكرنا من عدم جواز تقديم القبول المتضمن إمضاء الإيجاب والالتزام بمضمونه - الذي هو محل الكلام - علي الإيجاب.

وأما الصورة الثالثة: فقد صرح غير واحد بوقوع العقد بها، وظاهر نكاح المبسوط الإجماع منا عليه في البيع، والإجماع عليه من المسلمين في النكاح. لكنه قوي في بيع المبسوط وفي الخلاف عدم وقوع البيع به. وهو الذي صرح به غير واحد، بل في جامع المقاصد:

(ظاهرهم أن هذا الحكم اتفاقي، وما قيل بجواز مثله في النكاح مستند إلي رواية ضعيفة) .

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في عدم تحقق الإيجاب ولا القبول بالاستدعاء، لعدم صلوحه بطبعه لبيان الالتزام بالمضمون وجعله، إلا بعناية وتكلف خارج عن

ص: 58

محل الكلام. ولو حصلا لم يكن قبولاً مقدماً، بل كان كالصورة الأولي، كما تقدم نظيره في الصورة الثانية.

ومنه يظهر الإشكال فيما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه - بناء علي التحقيق من أن الأصل في البيع النفوذ واللزوم إلا في مورد الإجماع علي الخلاف - يتعين البناء في المقام علي صحة البيع ولزومه، لعدم الإجماع علي بطلانه بعد ما سبق من بعضهم صحته.

وجه الإشكال: أن الأصل إنما يقتضي نفوذ البيع وصحته، إذا تم العقد المتضمن له بإعمال كل من الطرفين سلطنته فيه، وهو غير حاصل في المقام بعد ما ذكرنا من عدم تحقق الإيجاب ولا القبول بالاستدعاء، وإنما الحاصل في المقام الإيجاب فقط بإعمال البايع سلطنته، ولا مجال للبناء علي عموم نفوذه بعد منافاته لسلطنة الآخر، وعدم صدق العقد.

هذا وقد استدل علي صحة النكاح بهذا الوجه بما تضمن تزويج النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) رجلاً بالوجه المذكور، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): (قال: جاءت امرأة إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقالت: زوجني. فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من لهذه ؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، زوجنيها. فقال: ما تعطيها؟ فقالك ما لي شيء... فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: قد زوجتكها علي ما تحسن من القرآن، فعلمها إياه)(1) ونحوه في ذلك ما رواه في عوالي اللآلي عن سهل الساعدي(2) ، وراه العامة بطريقهم عنه(3).

قال في الجواهر:

(وليس في الخبر في شيء من طرقه أنه أعاد القبول) ونحوه ما في المسالك. وربما عمم ذلك للبيع وبقية العقود، إما لفهم عدم الخصوصية بلحاظ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 2 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 15 باب: 2 من أبواب المهور حديث: 2.

(3) سنن البيهقي ج: 7 ص: 242 باب النكاح علي تعليم القرآن.

ص: 59

ما هو المعلوم من أن المعيار في الجميع علي تحقق العقد بالاتفاق بين الطرفين، وإما للأولوية، لأهمية النكاح المناسب للتحفظ في سببه أكثر من غيره، فوقوعه مع ذلك بالوجه المذكور يناسب وقوع غيره به.

لكن لا مجال لتوهم كون قول الرجل: (زوجنيها) قبولاً حتي لو أمكن القبول بالاستدعاء، لعدم تحديد المهر بعد. مع أن الحديث إنما تضمن قضية في واقعة لا إطلاق لها ولا شرح لحدودها الشرعية.

وقد يحمل: تارة: علي أن يكون الرجل قد قَبِل النكاح بعد إيجاب النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ولم يذكر في الحديث، لعدم الاهتمام فيه باستقصاء كل ما حصل، بل اقتصر فيه علي المراوضة في النكاح المذكور والإيجاب، لوفائهما ببيان خصوصياته.

وأخري: علي خصوصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في ذلك بلحاظ ولايته العامة، فيكون إيجابه قائماً مقام الإيجاب والقبول من الزوجين، كما عن الشهيد الأول في شرح الإرشاد. ولو قيل بتوقف ذلك علي كونه (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مقام إعمال ولايته المذكورة كفي احتمال ذلك في منع الاستدلال بالحديث علي المدعي.

وثالثة: علي كون طلب الرجل من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) تزويجه بالمرأة راجعاً إلي توكيله له (صلي الله عليه وآله وسلّم) في ذلك كتوكيل المرأة له في ذلك، فيكون (صلي الله عليه وآله وسلّم) وكيلاً عن الطرفين، فيجزي إيجابه في تحقق العقد منهما.

بل ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الاكتفاء بالإيجاب بعد طلب التزويج هو مقتضي القاعدة مع قطع النظر عن النصوص المذكورة، لا لأن طلب التزويج قبول متقدم، بل لأنه يرجع إلي توكيل المطلوب منه أو الإذن له في تزويجه، بحيث يقوم مقامه في إجراء العقد، فيكون المطلوب منه قائماً مقام الطرفين، ويجتزأ بإيجابه. وهو لو تم لا يختص بالنكاح، بل يجري في جميع العقود.

لكن الظاهر عدم تماميته، لأن طلب الرجل التزويج أو البيع أو غيرهما، كما يصح ممن يريد التوكيل في الأمر المطلوب له، كذلك يصح من الخاطب أو صاحب

ص: 60

نعم، يجوز إنشاء الإيجاب بمثل: (اشتريت) و (ابتعت) و (تملكت) وإنشاء القبول بمثل: (شريت) و (بعت) و (ملكت و 1).

---------------

السوم أو نحوهما ممن يريد إجراء العقد معه بتولي أحد طرفيه علي أن يكون هو الطرف الآخر الذي يتولي العقد ويباشره بنفسه.

وبعبارة أخري: طلب الشخص الأمور المذكورة من غيره كما يمكن أن يرجع إلي طلب قيامه بها عنه الذي هو مفاد التوكيل، كذلك يمكن أن يرجع إلي طلب قيامه بها معه، بحيث يجريان العقد معاً. وليس هو كطلب المرأة من شخص تزويجها من رجل، كما تضمنه الحديث، فإنه يتعين في إرادتها توكيله، إذ لو أرادت بذلك طلب أن يكون زوجاً لها لطلبت أن يتزوجها، لا أن يزوجها. ونظيره في البيع ما لو قال: اشتر لي، وفي الإجارة ما لو قال: استأجر لي، ونحو ذلك.

وبالجملة: طلب التزويج أو البيع أو غيرهما لا يتعين للتوكيل، ليكتفي معه بإيجاب المطلوب منه إذا كان هو الطرف الآخر أو وكيلاً عنه أو ولياً عليه، بل لابد فيه من القرينة، وبدونها لابد من ضم القبول للإيجاب بعد ما سبق من عدم كون الاستدعاء قبولاً.

نعم، بناءً علي الاكتفاء في إنشاء العقد بالفعل - كما في المعاطاة، وكما في التوقيع علي الورقة المتضمنة للعقد - يتعين إمكان الاجتزاء بالقبول الفعلي في المقام بالجري علي مقتضي العقد، كما لو أخذ المشتري المبيع بعد الإيجاب من البايع. لكن لا مجال له في النكاح الذي هو موضوع النصوص السابقة، إما لظهور مثل قوله (عليه السلام) في خبر أبان المتقدم: (فإذا قالت:

نعم، فقد رضيت) في اعتبار القبول اللفظي، أو للمفروغية عن اعتبار اللفظ في ركني العقد معاً في النكاح، والإجماع علي ذلك. ودعوي: أن المتيقن من ذلك اعتبار اللفظ في الجملة ولو في الإيجاب وحده. لا تناسب كلماتهم في المقام. فلاحظ.

(1) لما سبق. وسبق أن هذا ليس من تقديم القبول، إلا أن يراد من القبول

ص: 61

(62)

(مسألة 2): إذا قال: (بعني فرسك بهذا الدينار) فقال المخاطب: (بعتك فرسي بهذا الدينار) ففي صحته بلا أن ينضم إليه إنشاء القبول من الآمر إشكال (1). وإن كان الأظهر ذلك (2). وكذلك الحكم في الولي علي الطرفين والوكيل عنهما، فإنه لا يكتفي بالإيجاب (3).

(مسألة 3): يعتبر في تحقق العقد الموالاة بين الإيجاب والقبول (4).

---------------

ما يصدر من المشتري، فيرجع إلي محض الاصطلاح.

(1) لما سبق من عدم كون الاستدعاء إيجاباً، ولا قبولاً.

(2) كأنه لما سبق منه (قدس سره) من رجوع الاستدعاء للتوكيل أو الإذن في تولي العقد، ويجتزأ بإيجاب وكيل الزوج أو مأذونه عن قبول الزوج. لكن سبق من أن حمله علي ذلك يحتاج إلي قرينة.

(3) الظاهر زيادة (لا)، لعدم مناسبتها لسياق كلامه، ولا لما سبق منه (قدس سره) وتكرر في كلامه من أن مالك الطرفين ووليهما والوكيل عنهما يجتزئ بالإيجاب. فراجع ما ذكره (قدس سره) في مستمسكه في شروط عقد النكاح، وفي تزويج المولي عبده من أمته.

وهو الذي تقتضيه القاعدة، لأن القبول إنما يحتاج إليه من أجل إعمال سلطنة القابل في المضمون المنافي لها. فإذا كانت السلطنة علي تمام المضمون لشخص الموجب بالأصالة - كما في الولي والمالك - أو بالتبع - كما في الوكيل - تعين الاجتزاء بإيجابه في تحقق المضمون، عملاً بمقتضي سلطنته. ولا وجه لإتيانه بالقبول، جموداً علي ما قيل من توقف المضمون علي الإيجاب والقبول، كما أصرّ عليه غير واحد.

نعم، لو قصد بالإيجاب إعمال سلطنته علي أحد الطرفين دون الآخر اتجهت الحاجة للقبول من أجل إعمال السلطنة في حق الآخر.

(4) لا يخفي أن ما يأتي منه (قدس سره) في بيان الموالاة خارج عن محل كلامهم.

ص: 62

بل ليس هو من الموالاة عرفاً، فإن الموالاة بين الشيئين عرفاً عبارة عن التتابع وعدم الفصل الزمني المعتد به بينهما.

واعتبارها بالمعني المذكور هو الذي يظهر من الدروس، حيث قال:

(ولا يقدح تخلل آن أو تنفس أو سعال) . وبه صرح في كتاب الوقف منه، وفي محكي القواعد، كما صرح به في جامع المقاصد وغيره. وحكي عن العلامة في القواعد، وذكره في خلع المبسوط.

لكن الخلع ليس من العقود. وكلام العلامة في القواعد لا يخلو عن إجمال، حيث قال في كتاب النكاح:

(ويشترط التنجيز، فلو علقه لم يصح. واتحاد المجلس، فلو قالت: زوجت نفسي من فلان، وهو غائب، فبلغه فقبل، لم ينعقد. وكذا لو أخر القبول مع الحضور، بحيث لا يعد مطابقاً للإيجاب) . فإن عدم المطابقة للإيجاب في المقام لا يخلو عن إجمال، وقد يراد به ما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) الذي هو خارج عن محل الكلام.

وكيف كان فقد يستدل علي اعتبار الموالاة بالمعني العرفي الذي سبق بوجوه:

الأول: ما يظهر من الجواهر من حمل إطلاق آية الوفاء بالعقود علي العقد المتعارف سابقاً. ويظهر ضعفه - لو تم التعارف - مما تكرر منا من عدم نهوض التعارف بتقييد الإطلاق، أو انصرافه بنحو معتد به.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم تعقيباً علي كلام الشهيد (قدس سره) قال (قدس سره): (حاصله: أن الأمر المتدرج شيئاً فشيئاً إذا كان له صورة اتصالية في العرف فلابد في ترتب الحكم المعلق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتصالية. فالعقد المركب من الإيجاب والقبول القائم بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض، فيقدح الفصل المخل بهيئته الاتصالية. ولذا لا يصدق التعاقد إذا كان الفصل مفرطاً في الطول، كسنة أو أكثر...).

وقد يرد ذلك: تارة: بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) نفسه من أن دليل النفوذ

ص: 63

في المقام لا ينحصر بعموم نفوذ العقد، بل يكفي فيه عموم حلّ البيع والتجارة عن تراض، ولا دليل علي اعتبار الموالاة في صدقهما.

وأخري: بما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن العقد ليس اسماً للفظ المركب من الإيجاب والقبول، بل للالتزام النفسي من الطرفين المظهر باللفظ أو غيره.

ويندفع الأول بأن البيع عرفاً من أفراد العقد - كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - وكذا التجارة، فلابد من أن يعتبر فيهما جميع ما يعتبر في العقد.

كما يندفع الثاني: تارة: بأنه لم يتضح صدق العقد عرفاً علي نفس الالتزام من الطرفين، بل لا يبعد صدقه علي نفس إبراز الالتزامين المرتبطين. ولا أقل من الإجمال الملزم بالرجوع لأصالة عدم ترتب الأثر في الفاقد للموالاة.

وأخري: بأن الوجه المتقدم لاعتبار الموالاة كما يجري في إبراز الالتزامين يجري في نفس الالتزامين لو تم صدق العقد عليهما.

فالعمدة في رد الوجه المذكور: أن المراد بالصورة الاتصالية إن كانت هي المنتزعة من التتابع والتوالي بين الأجزاء، فثبوتها للعقد عين المدعي. وإن كانت هي المنتزعة من لحاظ الوحدة بين الأمور المتكثرة، فهي وإن كانت ثابتة في العقد وفي كل ما كان له عنوان واحد، كالوضوء والصلاة، إلا أن توقف ذلك علي وحدة العمل عرفاً، لتتابع أجزائه، ممنوع جداً، لأن لحاظ الوحدة بين الأمور المتكثرة اعتبار محض، وكما يمكن تحققه بين ما تعتبر فيه الموالاة يمكن تحققه فيما لا تعتبر فيه، كالغسل والحج والكفارة.

ولابد في اعتبار الموالاة فيه من دليل خاص، يكون هو المتبع في تعيين معيار الموالاة، فالموالاة المعتبرة في الوضوء غير الموالاة المعتبرة في الصلاة، وهما غير الموالاة المعتبرة بين أجزاء الكلمة الواحدة. وحينئذ لابد في إثبات الموالاة في العقد أو البيع أو التجارة من دليل خاص يتكفل به، وببيان معيارها.

وأما ما في جامع المقاصد من أن العقود اللازمة لابد فيها من وقوع القبول علي

ص: 64

الفور عادة، بحيث يعد جواباً للإيجاب. فكأنه أراد به تنظيره بالجواب المتعارف من العالم القادر علي الجواب، لما هو المعلوم من أن المسؤول إذا جهل الجواب فقد يتأخر فيه حتي يستوضحه. لكن التنظير المذكور عين المدعي، بل هو ممنوع، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

ومثله ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن العقد بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض. حيث لا شاهد علي ذلك، بل هو ممنوع، نظير ما سبق.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن اعتبار كون هذه الأمور عقداً يقتضي أن يرتبط إنشاء أحدهما بإنشاء الآخر، بأن يصير بمنزلة كلام واحد، ففيه: الارتباط بين الإيجاب والقبول الذي يتوقف عليه صدق العقد إنما هو الارتباط بينهما قصداً، بحيث يكون إنشاء كل منهما مبنياً علي إنشاء الآخر، لا التوالي بينهما خارجاً، بحيث يكونان كالكلام الواحد.

الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه لما كان في العقود خلع ولبس أو إيجاد علقة فلابد أن يقارن الخلع واللبس، وأن يقارن إيجاد العلقة قبول، وإلا لزم وقوع العلقة والإضافة بلا محل ومضاف إليه. وكأنه يريد بالخلع واللبس اللذين تتضمنها العقود تبدل الحال المتعلق بالطرفين إلي حال آخر متعلق بهما، ففي البيع مثلاً لا يخرج البيع عن ملك البايع إلا علي أن يدخل في ملك المشتري، فإذا تأخر القبول من المشتري لزم خروجه من ملك البايع من دون أن يدخل في ملك غيره.

لكنه كما تري، فإن كلاً من الإيجاب والقبول وإن تضمن إنشاء المضمون العقدي والالتزام به، إلا أن المضمون المذكور لا يترتب شرعاً ولا عرفاً، إلا بكمال العقد من الطرفين، فإذا أنشأ البايع البيع مثلاً لم يترتب البيع ولم يخرج المبيع عن ملكه، ولا يدخل الثمن في ملكه شرعاً ولا عرفاً، إلا بعد القبول وتمامية العقد، لأن المبيع يخرج عن ملكه والثمن يدخل في ملكه بمجرد الإيجاب، ويتوقف دخول المبيع في ملك المشتري وخروج الثمن عن ملكه علي تحقق القبول منه، ليلزم من الفصل بينهم

ص: 65

فلو قال البايع: بعت. فلم يبادر المشتري حتي انصرف البايع عن البيع، لم يتحقق العقد، ولم يترتب عليه الأثر (1). أما إذا لم ينصرف، وكان ينتظر

---------------

مدة من الزمن حصول أحد المضمونين دون الآخر في تلك المدة، الذي جعله محذوراً في المقام، وإلا لزم امتناع الفصل بين الإيجاب والقبول حتي مدة قليلة، كما هو ظاهر.

ومن ثم لا دليل علي اعتبار الموالاة بين طرفي العقد. بل لا ينبغي التأمل في عدم اعتبارها بعد ملاحظة السيرة في مثل الهبة علي إرسال الموهوب للموهوب له من مسافة بعيدة أو قريبة، حيث يتخلل بين إيجاب الواهب للهبة وقبول الموهوب له بها مدة معتد بها قصيرة أو طويلة. وقد تحقق ذلك حتي في عهد النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) بل ربما تحقق في حقهم، ومن المعلوم من حال السيرة المذكورة أن وظيفة الرسول تتمحض في إيصال العين الموهوبة من الواهب للموهوب له، من دون أن يكون الرسول وكيلاً عن الواهب في إيجاب عقد الهبة بدلاً عنه، ولا وكيلاً عن الموهوب له في القبول بدلاً عنه، فراراً عن محذور الفصل المعتد به بين الإيجاب والقبول.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الذي يتولي الإعطاء هو الواهب، وأن الرسول كالآلة، فهو بمنزلة من كان في المشرق، ويده طويلة تصل إلي المغرب. فهو غريب جداً، ضرورة أن الرسول قد يوصل الموهوب للموهوب له حال غفلة الواهب، لنوم أو غيره، فكيف يمكن تحقق الإنشاء منه حين الإعطاء للموهوب ؟!.

ولا فرق بين الهبة وغيرها بعد كونها من العقود، حيث يدل ذلك علي عدم توقف صدق العقد علي الموالاة، بل يكفي في وضوح ذلك الرجوع للمرتكزات العرفية في تحديد معني العقد. ومن ثم يتعين عدم اعتبار الموالاة في العقد إلا بدليل مخرج عن إطلاق النفوذ أو عمومه.

(1) بلا إشكال ظاهر، لتوقف صدق العقد علي ارتباط الالتزام القابل بالتزام الموجب، فمع عدول الموجب عن التزامه لا يتحقق الارتباط بينهما. بل الأمر أوضح

ص: 66

القبول حتي قبل، صح (1). كما أنه لا يعتبر وحدة المجلس (2)، فلو تراجعا بالتلفون، فأوقع الإيجاب أحدهما وقبل الآخر صح، أما المراجعة بالكتابة ففيها إشكال (3).

---------------

من ذلك.

(1) لتحقق الارتباط بين الإيجاب والقبول، وصدق العقد بذلك بعد ما سبق من عدم اعتبار الموالاة بين أجزاء العقد.

(2) كما سبق من العلامة (قدس سره). لكن من القريب كون مراده ما إذا استلزم الإخلال بالموالاة، فيجري فيه ما سبق، لأن ذلك هو المتعارف في عصره، وبه استدل في جامع المقاصد. ولعله لذا لم يذكره مثل شيخنا الأعظم (قدس سره) استغناءً بما سبق في الموالاة. ولا ينبغي التأمل في عدم اعتبار وحدة المجلس، خصوصاً إذا لم يخل تعدده بالموالاة، كما يمكن في مفروض كلام سيدنا المصنف (قدس سره)، حيث لا ريب في صدق العقد بدونها.

(3) لم يتضح وجه الإشكال بعد صدق العقد عرفاً. بل لعله عندهم أقوي من الكلام. ولاسيما مع شيوع وقوع المعاهدات بين الجماعات والدول بالكتابة، ومنه صلح الحديبية، وهدنة التحكيم، حيث لم يعرف ضمّ الإنشاء اللفظي لها في الوقائع المذكورة. ولو حدث ذلك لنقل وظهر، كما ظهرت ونقلت كثير من الخصوصيات التي صاحبت الكتب في تلك الوقائع.

نعم، بناءً علي اعتبار اللفظ في العقد مع القدرة يتجه البناء علي عدم وقوعه بالكتابة كما صرح به غير واحد. لكن يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) وقوع العقد بالمعاطاة، غاية الأمر أنه لا يلزم عنده، وهو أمر آخر. ولعله لذا استظهر بعض مشايخنا (قدس سره) وقوع العقد بالكتابة. كما أنه يتعين البناء علي لزومه، خصوصاً بناء علي ما يأتي في المعاطاة.

ص: 67

(68)

(مسألة 4): الظاهر اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول (1) في الثمن والمثمن وسائر التوابع (2) فلو قال: بعتك هذا الفرس بدرهم بشرط أن تخيط قميصي، فقال المشتري: اشتريت هذا الحمار بدرهم، أو هذا الفرس بدينار، أو بشرط أن أخيط عباءتك، أو بلا شرط شيء، أو بشرط أن تخيط ثوبي، أو اشتريت نصفه بنصف دينار (3)، أو نحو ذلك من أنحاء الاختلاف، لم يصح العقد. نعم لو قال: بعتك هذا الفرس بدينار، فقال: اشتريت كل نصف منه

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر، لتوقف صدق العقد علي ذلك، كما تقدم في أوائل المسألة الأولي، وتقدم في أوائل المسألة الثالثة من العلامة (قدس سره) ما يناسبه، وإن لم يخل عن إجمال كما سبق. ولعل عدم شيوع ذكره في كلماتهم في المقام لوضوحه، ويظهر من بعض كلماتهم في بعض الفروع المفروغية عنه. ومن ثم كان الظاهر عدم الخلاف فيه، وما قد يظهر من تعبير سيدنا المصنف (قدس سره) من وجود الخلاف فيه أو الإشكال غريب.

(2) كالشروط وصفات المبيع ونحوها. ودعوي: عدم الحاجة للتطابق فيها، ولذا لا يبطل البيع بتخلفها، وإنما يبطل بتخلف الأركان لا غير. مدفوعة: بأن العقد لا يصدق إلا بتطابق الإيجاب والقبول فيها، كالأركان، للارتباطية بين جميع ما يتضمنه العقد في القصد والإنشاء. وأما عدم بطلان العقد بتخلفها حكم عقلائي متفرع علي تمامية العقد، ولا ينافي توقف تمامية العقد علي التطابق فيها.

(3) وكذا لو قال: اشتريت نصفه بنصف درهم، للاختلاف بينهما في الأمر الملتزم به، لالتزام الأول ببيع المجموع بما هو مجموع، والتزام الثاني ببيع النصف وحده. ومجرد دخول النصف في المجموع لا يقتضي التطابق فيه بعد قصد الأول ضمه للنصف الثاني، وقصد الثاني الاقتصار عليه. ولعل ذلك هو مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، وذكر الدينار من سبق القلم.

ص: 68

(69)

بنصف دينار. صح، وكذا نحوه مما كان الاختلاف فيه بالإجمال والتفصيل (1).

(مسألة 5): إذا تعذر اللفظ لخرس ونحوه قامت الإشارة مقامه (2)

---------------

(1) لأن الاختلاف بالإجمال والتفصيل لا يرجع إلي الاختلاف في المضمون، بل للاختلاف في بيانه. لكن رجوع الاختلاف في المثال المذكور للاختلاف في الإجمال والتفصيل لا يخلو عن إشكال، لابتناء الإيجاب فيه علي مقابلة المجموع بالمجموع، وابتناء القبول علي جعل كل نصف من الثمن مقابل كل نصف من المبيع، وهما مختلفان قصداً.

ولا ينافي ذلك بناء العرف علي توزيع الثمن علي أجزاء المبيع في موارد تبعض الصفقة. فإن ذلك حكم عقلائي. ولذا يثبت معه الخيار، بلحاظ تخلف الارتباطية.

كما أن الحكم بالتوزيع بتخلف بعض الصفقة يثبت في غير مورد الإشاعة، كما لو باعه ناقة وجمل بألف وخمسمائة دينار، فظهرت الناقة مغصوبة، وكانت قيمتها ضعف قيمة الجمل، فإن الجمل يقابل بثلث الثمن وهو خمسمائة، مع أنه لو قال: بعتك الناقة والجمل بألف وخمسمائة، فقال: اشتريت الناقة بألف، والجمل بخمسمائة، بطل البيع بلا إشكال ظاهر، لعدم التطابق. ومن ثم يشكل الحال في المثال المذكور.

نعم، ينحصر الفرق بالإجمال والتفصيل فيما إذا تضمن أحداهما الجملة والآخر التفصيل من دون توزيع لأجزاء الثمن علي أجزاء المثمن، كما لو قال في المثال المذكور: اشتريت نصفي الفرس بدينار، وكما لو باعه بناية مكونة من دار ودكاكين بعشرة آلاف. فقال: بعتك هذه البناية بعشرة آلاف، فقال: اشتريت الدار والدكاكين بعشرة آلاف، أو باعه ثوباً بخمسة دراهم ونصف دينار في صرة، فقال: بعتك الثوب بما في هذه الصرة، فقال: اشتريته بهذه الخمسة دراهم والنصف الدينار، ونحو ذلك.

(2) وفي الجواهر أنه مما قطع به الأصحاب. وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فمع

ص: 69

وإن تمكن من التوكيل (1)

---------------

عدم القدرة علي التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ وقيام الإشارة مقامه) ويقتضيه ما يأتي.

(1) كما يظهر من إطلاق الأصحاب، فإن عدم تنبيههم للتوكيل مع شيوع القدرة عليه موجب لقوة ظهور إطلاقهم في عدم وجوبه. ويقتضيه إطلاق أدلة نفوذ العقود والتجارة وغيرهما، مما سبق. وأما ما دل علي اعتبار اللفظ فهو - لو تم - لا عموم له لصورة تعذره من موقع العقد.

هذا وقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بفحوي ما دلّ علي عدم اعتبار اللفظ في إطلاق الأخرس(1) قال (قدس سره):

(فإن حمله علي صورة عجزه عن التوكيل حمل علي الفرد النادر) . والوجه في الأولوية ما هو المعلوم من شدة الأمر في الطلاق، حتي صرح في النصوص باعتبار لفظ خاص فيه(2).

بل قد يستفاد ذلك صريحاً من صحيح البزنطي: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل تكون عنده المرأة ثم يصمت فلا يتكلم. قال: يكون أخرس ؟. قلت: نعم. فيعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها، أيجوز أن يطلق عنه وليه ؟. قال: لا، ولكن يكتب ويشهد علي ذلك. قلت: لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها؟ قال: بالذي يعرف منه من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها)(3). فإن فرض وجود الولي له مع إهمال التنبيه لتوكيله كالصريح في عدم وجوبه.

نعم، المتيقن من الصحيح صورة تعذر الكتابة. لكن مقتضي إطلاق بقية النصوص الاكتفاء بالإشارة ولو مع إمكان الكتابة، كمعتبر أبي بصير: عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(قال: طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها ويضعها علي رأسها، ثم يعتزلها ) (4)

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 19 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 15، 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 15 باب: 19 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 1، 5.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 15 باب: 19 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 1، 5.

ص: 70

وكذا الكتابة (1) مع العجز عن الإشارة. أما مع القدرة عليها، ففي تقديم الإشارة أو الكتابة وجهان (2)،

---------------

وغيره. ولا ينهض الصحيح بتقييد الإطلاق المذكور، لأنه لا يتضمن تقييد الاكتفاء بالإشارة بتعذر الكتابة. غاية الأمر تقديمها في الذكر، وهو قد يكون لمجرد كونها إحدي أدوات الإنشاء أو أظهرها من دون تعيين لها. ومن ثم كان مقتضي الجمع بين الحديثين عرفاً حمل كل منهما علي كفاية ما تضمنه، الراجع للتخيير بينهما.

هذا ويظهر منهم المفروغية عن عدم خصوصية الخرس، وأن المعيار تعذر النطق. ولم يتضح الوجه فيه، خصوصاً بعد صحيح البزنطي المتقدم، حيث قد يظهر منه خصوصية الخرس.

اللهم إلا أن يقال: إن كان تعذر النطق لقصور ثابت في الإنسان ولادي أو طارئ، فالظاهر صدق الخرس به عرفاً. وإن كان لطارئ موقت فيشكل بناؤهم علي عموم الحكم له.

وأظهر من ذلك ما إذا كان التعذر لأمر خارجي، كالخوف ونحوه. قال في الجواهر:

(ولم نجد من الأصحاب نصاً فيمن عجز لإكراه) .

وكيف كان فالتوقف إنما يتجه بناء علي أن مقتضي القاعدة اعتبار اللفظ في العقد. أما بناءً علي ما هو الظاهر من الاكتفاء في بكل ما يصلح لإبراز الالتزام العقدي، فالمتعين الاكتفاء بالإشارة مطلقاً فيمن لا يتعذر عليه اللفظ، فضلاً عمن يتعذر عليه مهما كان منشأ التعذر.

(1) بلا إشكال ظاهر لصحيح البزنطي المتقدم. ولأنه مقتضي القاعدة، كما سبق.

(2) من إطلاق صحيح الحلبي المقتضي لتعين الكتابة ولو مع القدرة علي الإشارة، وإطلاق بقية نصوص طلاق الأخرس، المقتضي تعين الإشارة مع القدرة عليها.

ص: 71

(72)

بل قولان (1). والأظهر الجواز بكل منهما (2)، بل يحتمل ذلك حتي مع التمكن من اللفظ (3).

(مسألة 6): الظاهر وقوع البيع بالمعاطاة (4)،

---------------

(1) فعن كاشف الغطاء تقديم الإشارة. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ولعله لأنها أصرح في الإنشاء من الكتابة). وهو غير ظاهر. ولاسيما بملاحظة صحيح البزنطي المتقدم ترجيح الكتابة. بل ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه ظاهر في ترجيح الكتابة، وظاهر الحلي في السرائر الجري علي ذلك في الطلاق.

(2) عملاً بمقتضي القاعدة. وهو الذي يقتضيه الجمع بين نصوص الطلاق، كما يظهر مما تقدم.

(3) بل هو المتعين، خصوصاً في الكتابة، لما تقدم في ذيل المسألة الثالثة.

(4) قد اضطربت كلمات الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) في المعاطاة واشتد خلافهم. ونسب للمفيد أنها بيع لازم. قال في المقنعة:

(والبيع ينعقد عن تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً، وتراضيا بالبيع، وتقاضيا وافترقا بالأبدان) . فإن مقتضي إطلاق هذا الكلام عدم اعتبار اللفظ في حصول البيع، والاكتفاء فيه بكل ما يدل علي الرضا به، وفي لزومه بالافتراق بالأبدان.

لكن المعروف بين الأصحاب خلافه. حتي وصف بالشذوذ في ذلك. وحمل بعضهم كلامه هذا علي كونه بصدد بيان شروط البيع، من دون نظر لما يقع به البيع من اللفظ أو غيره، دفعاً له عن الشذوذ والخروج عما هو المعروف بينهم، من أنه لابد في البيع اللازم من العقد اللفظي.

فقد قال في الخلاف:

(إذا دفع قطعة إلي البقلي أو إلي الشارب، قال: اعطني بقلاً أو ماء، فأعطاه، فإنه لا يكون بيعاً، وكذا سائر المحقرات، وإنما يكون إباحة له يتصرف كل واحد منهما فيما أخذه تصرفاً مباحاً، من دون أن يكون ملكه. وفائدة

ص: 72

ذلك أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل، أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته، كان لهما ذلك، لأن الملك لم يحصل لهما. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يكون بيعاً صحيحاً، وإن لم يوجد الإيجاب والقبول. قال ذلك في المحقرات، دون غيرها. دليلنا: أن العقد حكم شرعي، ولا دلالة في الشرع علي وجوده ههنا، فيجب أن لا يثبت. فأما الاستباحة بذلك فهو مجمع عليه، لا يختلف العلماء فيها) . وبذلك صرح في المبسوط أيضاً. وجري عليه جماعة ممن تأخر عنه، بل هو المعروف بينهم. وظاهرهم بل صريحهم أن المقصود بالمعاطاة وإن كان هو البيع، إلا أنه لا يقع، لعدم حصول العقد اللفظي، بل ينحصر الأمر بإباحة التصرف.

وحينئذٍ قد يستشكل أو يستغرب حصول الإباحة، مع عدم القصد إليها، وإنما المقصود هو البيع المفروض عدم وقوعه، بل المناسب حينئذٍ جريان حكم البيع الفاسد، كما حكي عن العلامة في نهاية الأحكام، فلا يترتب عليه شيء حتي الإباحة.

لكن المحقق الثاني (قدس سره) ذهب إلي وقوع البيع بالمعاطاة متزلزلاً غير لازم، فيجوز فسخه مادام العوضان قائمين، ونزل في جامع المقاصد ومحكي حاشية الإرشاد كلام الأصحاب عليه. قال في جامع المقاصد: (فإن المعروف بين الأصحاب أنها بيع، وإن لم تكن كالعقد في اللزوم، خلافاً لظاهر عبارة المفيد. ولا يقول أحد من الأصحاب إنها بيع فاسد سوي المصنف في النهاية... وما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنها تفيد إباحة، وتلزم بذهاب أحدي العينين، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر، وبالذهاب يتحقق اللزوم. لامتناع إرادة الإباحة المجردة عن أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطين إنما هو الملك، فإذا لم يحصل كانت فاسدة، ولم يجز التصرف في العين، وكافة الأصحاب علي خلافه. وأيضاً فإن الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلاً ورأساً، فكيف يتحقق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده. وإنما الأفعال لما لم تكن دلالتها علي المراد في الصراحة كالأقوال، وإنما بالقرائن، منعوا من لزوم العقد بها، فيجوز التراد ما دام ممكناً، فمع تلف إحدي العينين يمتنع التراد، فيتحقق اللزوم،

ص: 73

لأن إحداهما في مقابل الأخري...).

هذا والإنصاف أن ما ذكره من المحذور لا يصلح لحمل كلمات الأصحاب علي إرادة حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة بعد قوة ظهور كلماتهم، بل صراحة جملة منها - مثل ما تقدم من الخلاف - في عدم حصول الملك بها.

ومثله ما في الجواهر من محاولة توجيه ما عليه الأصحاب (رضي الله عنهم) بأن موضوع كلامهم ليس هو المعاطاة التي يراد بها البيع، ليؤخذ عليهم أنه مع عدم ترتب البيع لا وجه لترتب الإباحة من دون ملك، بل هو المعاطاة التي يراد بها إباحة كل من العوضين في مقابل الآخر من دون تمليك.

قال (قدس سره) في مقام دفع احتمال حمل مراد الأصحاب علي صورة قصد البيع بالمعاطاة: (لا ريب في أن حمل كلام قدماء الأصحاب علي ما ذكرناه من أن مرادهم بيان قابلية الأفعال للإباحة لو قصداها، وأن ذلك مشروع، دون التمليك البيعي مثلاً خير من ذلك... لأن الواقع خلافه. وغرابة نفس الدعوي، وهي إثبات أمر غير ما قصده المتبايعان بلا داع ودليل، بل مقتضي الأدلة جميعها خلافه. فلابد من حمل مرادهم علي ما ذكرناه. لا أن مرادهم الإباحة فيما قصد به المتعاملان إنشاء البيع مثلاً، بل ليس هو إلا الفساد حينئذٍ... فما عساه يظهر من المتأخرين ومتأخريهم من أن محل النزاع فيما قصد به البيع مثلاً... كما تري، بل يمكن دعوي القطع بفساده بأدني تأمل. وأنه لا ينبغي أن ينسب إلي أصاغر الطلبة، فضلاً عن أعاظم الأصحاب وكبرائهم. بل لابد من القول بالفساد فيه لمن اشترط الصيغة في الصحة...).

إذ فيه: أنه - كسابقه - لا يناسب كلماتهم في المقام، ومنها ما سبق من الخلاف، كما لا يخفي. وغرابة الحكم المذكور لا تمنع من نسبته لهم بعد ظهور كلماتهم أو صراحتها فيه. ولاسيما بعد ظهور ما سبق من الخلاف في أن عدم حصول البيع لقصور أدلة أحكامه شرعاً، لا لعدم القصد له، وأن الحكم بالإباحة ليس جرياً علي القاعدة، بل للإجماع الذي هو - لو تم - دليل تعبدي، لا يخضع للحساب. فالإباحة في المقام ليست

ص: 74

مالكية، كي يستشكل بعدم ظهور حال المتعاطين فيها، بل هي شرعية مستفادة من الإجماع المدعي في المقام. وأشكل من ذلك ما ذكره من أن الواقع من المعاطاة علي خلاف ما ذكروه. فإنه غريب جداً.

إذا عرفت هذا فلا ينبغي التأمل في حكم العرف بحصول البيع والتجارة وسائر العقود بالمعاطاة، لصلوحها لإبراز الالتزام العقدي من الطرفين، فيكون مقتضي أدلة النفوذ واللزم حصول البيع ولزومه معها.

وبه يندفع ما سبق من الخلاف من أن العقد حكم شرعي، ولا دلالة في الشرع علي وجوده مع المعاطاة. فإن مراده بالعقد إن كان هو تعاقد الطرفين، فهو أمر عرفي لا شرعي، وهو حاصل، كما ذكرنا. وإن كان هو انعقاد المعاملة ونفوذها ولزومها شرعاً، فيكفي في الدليل عليه عمومات النفوذ واللزوم، بعد تحقق موضوعاتها بالمعاطاة، كما سبق.

ومن هنا لابد في البناء علي عدم حصول البيع شرعاً بالمعاطاة - كما هو المشهور

أو حصوله مع عدم لزمه - كما سبق من جامع المقاصد - من دليل مخرج عن عمومات النفوذ واللزوم. ولم يتضح لنا بعد ملاحظة كلماتهم - علي كثرتها واضطرابها - ما يصح دليلاً علي ذلك عدا دعوي الإجماع، إما علي عدم حصول البيع والملك وغيرهما من مضامين العقود بالمعاطاة، أو علي عدم لزوم ما يقع بها من بيع أو غيره.

لكن لا مجال لدعوي الإجماع علي عدم حصول الملك بالمعاطاة بنحو يوجب العلم برأي الأئمة (عليهم السلام) بذلك، ليكون حجة ينهض بالخروج عن أدلة النفوذ، بعد عدم كون ذلك منصوصاً ولو برواية ضعيفة، ليمكن استكشاف رأي الأصحاب منه متصلاً بعصور الأئمة (عليهم السلام)، بسبب روايتهم للنص المذكور، بنحو يظهر منهم الفتوي بمضمونه. كما أنه لا شاهد له من سيرة المتشرعة، ليمكن دعوي اتصالها بعصور المعصومين (عليهم السلام)، بنحو تكشف عن حكمهم (عليهم السلام).

بل كيف يمكن دعوي الإجماع علي ذلك بعد عدم معروفية القول به قبل

ص: 75

الشيخ، ولاسيما بعد عدم عثورنا عليه في نهايته، وبعد ما سبق من كلام المفيد، فإن عدم تعرضهم لذلك ولتحديد ما يتحقق به العقد ظاهر في اكتفائهم بما عليه العرف، ولاسيما مع أن الخروج عما عليه العرف في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء يحتاج إلي تنبيه وتأكيد يناسب شيوعها، فكيف يهمله مثل المفيد ومن سبقه ؟!.

بل حتي الشيخ في الخلاف - الذي أكثر فيه من الاستدلال بإجماع الطائفة في موارد الخلاف مع العامة - لم يستدل في المقام بالإجماع، وإنما استدل بالأصل، كما سبق، وهو الذي يظهر ممن بعده. ولعله لقناعتهم بما ذكره، كما وقع نظيره في بعض الموارد، حتي نسبهم البعض لتقليده، ثم اشتبه ذلك بالإجماع، وجري عليه من تأخر.

وبالجملة: لا مجال لتحصيل الإجماع في المقام بالنحو الذي ينهض بالحجية، والخروج عن مقتضي القاعدة الذي تقدم.

وأشكل من ذلك ما قد يدعي من أن المتيقن من الإجماع عدم اللزوم، دون نفي البيع، لأن خلاف مثل المحقق الثاني، وحكمه بتحقق البيع من دون لزوم، مانع من القطع بقيام الإجماع علي عدم ترتب البيع، فاللازم البناء علي تحقق البيع بالمعاطاة، عملاً بمقتضي القاعدة، والاقتصار في الخروج عنها علي نفي اللزوم الذي اتفق عليه الكل. وربما يبتني عليه ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام، كما يظهر منه في نهج الفقاهة.

إذ فيه: أن الإجماع الكاشف عن رأي الإمام (عليه السلام) هو إجماع قدماء الأصحاب المتصلين بعصور الأئمة (عليهم السلام)، ولا أهمية لمن بعدهم. فإن تم في المقام فمعقده عدم حصول البيع والملك، وإن لم يتم فلا طريق للبناء علي قيامه علي نفي لزوم البيع والملك مع حصولهما، لعدم مناسبته لكلماتهم المتقدم بعضها. وحمل المحقق الثاني (قدس سره) لكلماتهم علي ذلك، اجتهاد منه قد ثبت خطؤه فيه، ولا أقل من عدم ثبوت صحته، فلا يترتب عليه أثر، ولا يختلف بسببه المتيقن من الإجماع.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه من أن بناء الأصحاب علي جواز

ص: 76

التراد يكشف عن ثبوته عند الشارع الأقدس، وإن كان هو يجتمع مع فساد المعاطاة وصحتها علي نحو توجب الإباحة، أو علي نحو توجب الملك، فهو من قبيل الإجماع علي القدر المشترك بين الأقوال، إذ يمتنع هذا البناء مع كون الحكم الواقعي اللزوم.

فهو مندفع: بأن الإجماع إن تم فهو علي جواز التراد بسبب عدم الملك، كما يظهر مما سبق، فلا مجال للاستدلال به علي جواز التراد مع البناء علي صحة البيع وحصول الملك.

نعم، لو كان الدليل في المقام هو سيرة المتشرعة علي التراد أمكن الاستدلال بها علي جميع المباني المذكورة، لعدم تحديد مبني السيرة المذكورة عند القائمين بها، لأنها عمل مجمل، ولأن القائمين بها ليسوا من أهل المعرفة، فقد يلتبس عليهم مبناها ومنشؤها، وإن كانوا قد جروا عليها خلفاً عن سلف متصلاً بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، بنحو يكشف عن مطابقتها للواقع.

إلا أنه لا مجال لدعواها في المقام. بل لا ينبغي التأمل في بناء المتشرعة - كالعرف

علي عدم جواز التراد، لتحقق البيع وسائر العقود بها، وارتكازية اللزوم في المعاملات المذكورة.

ومثله ما نسبه في المسالك إلي بعض مشايخه المعاصرين - وفي مفتاح الكرامة أنه السيد حسن بن السيد جعفر - من القول بانعقاد البيع بالمعاطاة إذا كانت القرينة الدالة علي الرضا بالبيع لفظاً. ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) انه فهم منه وقوعه لازماً حينئذٍ، ونسبه لجماعة من متأخري المحدثين. حيث قد يدعي بسببه أن المتيقن من الإجماع علي عدم وقوع البيع ما إذا لم يكن في البين لفظ أصلاً، لا متضمن لعقد البيع، ولا دال علي الرضا به.

إذ فيه: أنه يجري فيه نظير ما سبق في دفع ما ذكره المحقق الثاني، من أن إجماع القدماء لو تم فمعقده توقف البيع علي العقد اللفظي، وعدم حصوله بالمعاطاة مطلقاً. ولا أثر للأقوال الصادرة ممن تأخر عنهم في انعقاد الإجماع ولا تحديد مفاده.

ص: 77

ومن هنا لا مخرج عن مقتضي القاعدة من تحقق البيع بالمعاطاة، تبعاً لقصد المتبايعين منها، ولزومه، كسائر البيوع والعقود، عملاً بعموم النفوذ واللزوم. ويؤيد ذلك أو يعضده أمور:

الأول: جملة من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة المشعرة أو الظاهرة في تحقق البيع أو لزومه من دون حاجة إلي العقد اللفظي.

منها: ما تضمن جواز تبديل النقد في الذمة بنقد آخر، كصحيح إسحاق بن عمار: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون للرجل عندي الدراهم الوضح، فيلقاني، فيقول لي: كيف سعر الوضح اليوم ؟ فأقول له: كذا. فيقول: أليس لي عندك كذا وكذا ألف درهم وضحاً؟ فأقول: بلي. فيقول لي: حولها دنانير بهذا السعر وأثبتها لي عندك، فما تري في هذا؟ فقال لي: إذا كنت استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك...)(1). ونحوه غيره. لظهوره في الاكتفاء في التبديل - الذي هو بيع أو نحوه - بالتزام تحويلها وإثباتها بالنحو الذي أراده صاحبها.

ومنها: ما تضمن عدم جواز وطء الأب جارية ولده الصغار حتي يقومها علي نفسه. كصحيح أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الرجل يكون لبعض ولده جارية، وولده صغار، هل يصلح أن يطأها؟ فقال: يقومها قيمة عدل، ثم يأخذها، ويكون لولده عليه ثمنها) (2) ، لقوة ظهوره في صيرورتها له وحلها بمجرد التقويم والأخذ بالقيمة - الذي كالشراء بالمعاطاة - من دون حاجة إلي إيقاع العقد لفظاً.

ومنها: ما ورد في الإقالة، كخبر هذيل بن صدقة الطحان: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري المتاع أو الثوب، فينطلق به إلي منزله، ولم ينقد شيئاً، فيبدو له فيرده، هل ينبغي له ذلك. قال: لا، إلا أن تطيب نفس صاحبه)(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب الصرف حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 40 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الخيار حديث: 5.

ص: 78

فإن السؤال حيث كان عن قضية خارجية فتعارف الشراء المعاطاتي لا يناسب إطلاق الحكم باللزوم لو لم يكن الشراء المعاطاتي ملزماً، ومن البعيد جداً الاتكال في الإطلاق علي المفروغية عن عدم تحقق الشراء بها شرعاً بعد تعارف مخالفة ذلك. وربما يظهر بالفحص نصوص أخر ظاهرة أو مشعرة بذلك.

الثاني: سيرة المتشرعة - تبعاً للمرتكزات العقلائية العامة - علي الاكتفاء بالمعاطاة في إيقاع البيع وغيره من العقود، وترتيب آثارها، ومنها اللزوم. بل من القريب أن يكون ما سبق من الشيخ (قدس سره) في الخلاف من دعوي الإجماع علي الإباحة ناشئاً من النظر للسيرة المذكورة، مع محاولة تحويرها، بما يناسب مختاره. وإلا فالإباحة مع عدم تحقق البيع حكم غريب مخالف للقاعدة يصعب جداً تحصيل الإجماع عليه بعد عدم النص في المسألة وعدم شيوع تحريره.

وحتي لو كان مراده بالإجماع المدعي إجماع مذهب المسلمين، فمن القريب جداً أن يكون منشأ إجماعهم علي هذا الحكم الغريب المخالف للقاعدة هو النظر للسيرة القائمة، التي لا يمكن خروج الفتوي عنها، لأنها حقيقة قائمة يصعب البناء علي خطئها. غاية الأمر أن تحوّر بما يناسب الأدلة والاجتهادات فيها.

ومن المعلوم أن هذه السيرة لما كانت تابعة للمرتكزات العقلائية فهي حاصلة من عصور المعصومين (صلوات الله عليهم) تبعاً لتلك المرتكزات، بل يكاد يقطع بجري المعصومين أنفسهم عليها، إذ لو كان بناؤهم وبناء أتباعهم - من غلمانهم ووكلائهم - علي الالتزام بالعقد اللفظي لظهر وبان.

ولاسيما وأن من الشايع وقوع الهبة والهدية بإرسال الشيء، الموهوب بيد رسول تنحصر وظيفته بإيصاله، من دون أن يكون وكيلاً عن الواهب في إيجاب عقد الهبة مع الموهوب له حين إيصاله له، ولا عن الموهوب له في قبول إيجاب الواهب لعقدها حين أخذه منه. ومن الظاهر حصول ذلك حتي للمعصومين (صلوات الله عليهم) في عصورهم الطويلة، مع بنائهم - كغيرهم - علي ترتيب آثار الملك علي المال حينئذٍ.

ص: 79

ومن الغريب جداً ما في المبسوط من عدم ترتب الملك حينئذٍ، بل لو مات الواهب مع بقاء الشيء الموهوب رجع ميراثاً لورثته، ولو مات الموهوب له حينئذٍ كان للواهب الرجوع به. كيف! ولازمه عدم جواز تصرف ورثة الموهوب له به، بل لابد لهم من مراجعة الواهب أو ورثته مع معرفتهم وإجراء حكم مجهول المالك عليه مع الجهل بهم.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الطعن في الاستدلال بالسيرة في ذلك بأنها كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة في الدين مما لا يحصي في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم. لاندفاعه بظهور أن السيرة في المقام لا تختص بالمتسامحين في الدين، بل تعم المتدينين الملتزمين.

نعم، قد يقال: إن ذلك لو أمكن في بعض العصور التي لم يعلم بالفتوي السائدة فيها، فلا مجال له في العصور الطويلة التي شاعت فيها الفتوي بعدم حصول البيع والملك بالمعاطاة، حيث لم تردع هذه الفتوي - مع شيوعها - المتشرعة عن ترتيب أثر البيع والملك علي المعاطاة. فإن ذلك يشهد بتسامحهم في سيرتهم علي ذلك. وإذا علم بتسامحهم في سيرتهم في تلك العصور، وعدم جريها علي الميزان الشرعي، أمكن تسامحهم فيها في العصور الأخري التي لا يعلم بالفتوي السائدة فيها، فلا مجال للاستدلال بها واستكشاف الحكم الشرعي علي طبقها.

لكن الإنصاف أن ذلك ناشئ من ضعف الفتوي المذكورة عن مقام العمل، وعدم جري المفتين أنفسهم وخواصهم وأتباعهم من المتدينين عليها بنحو يوجب تبدل العمل، وذلك بالالتزام بالعقد اللفظي، أو بالتراد مع عدمه، وعدم التزامهم بآثار عدم ترتب الملك علي المعاطاة من حيثية الضمان والتصرف وعموم التراد وغير ذلك، مما أوجب أن لا يكون للفتوي المذكورة من الظهور ما يوجب تبدل عمل عموم الناس من المتدينين وغيرهم.

مضافاً إلي أن عدم تبدل سيرة المتدينين - تبعاً لشيوع الفتوي بعدم وقوع البيع

ص: 80

وغيره من العقود بالمعاطاة - شاهد بقوة السيرة وارتكازيتها، بنحو لو كان الحكم الشرعي مخالفاً لها لاحتيج لشدة النكير عليها من المتدينين بنحو ملفت للنظر حفظاً للحقيقة، ولو حصل ذلك لظهر وبان، وحيث لم يحصل ذلك كشف عن مطابقة السيرة لرأي المعصومين (عليهم السلام)، وأن الفتوي المذكورة ناشئة عن شبهة واهية، لا تناسب الواقع العملي.

الثالث: أن حصول البيع بالمعاطاة ولزومه لما كان ارتكازياً، وقد جرت عليه سيرة العقلاء والمتشرعة، وكان الابتلاء به شايعاً جداً، فلو كان الشارع مخالفاً له، وقد حكم بعدم حصول البيع، أو بعدم لزومه، لاحتيج لبيانه في النصوص بوجه مؤكد، ولكثر السؤال عن فروع ذلك، مثل سعة الإباحة وخصوصياتها، وحكم الضمان مع التلف، وتحديد الألفاظ التي يقع بها البيع وسائر العقود، وتحديد ملزمات المعاطاة ونحو ذلك مما هو كثيراً جداً. وحيث لا أثر لذلك في النصوص، كشف عن إمضاء الشارع للارتكاز المذكور، وعدم ردعه عنه، واكتفائه في تحقق البيع وغيره من العقود بالطرق العرفية بما في ذلك المعاطاة.

بقي في المقام الكلام في حديث خالد:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا. قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟. قلت: بلي. قال: لا بأس به، إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (1) .

قال الحر العاملي في هامش الوسائل:

(فيه دلالة علي عدم انعقاد البيع بغير صيغة، فلا يكون بيع المعاطاة معتبراً. فتدبر) . ونحوه ما في الرياض، وربما يوجد في كلام غير واحد.

وفيه: أنه وارد لبيان اختلاف صحة المعاملة باختلاف كيفية إيقاعها، وأن بيع السائل للثوب علي الرجل إن كان قبل شرائه من صاحبه، بحيث يكون الرجل ملزماً به لو اشتراه السائل، حرم البيع وبطل، لأنه من بيع الإنسان ما ليس له، وإن لم يكن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود حديث: 4.

ص: 81

كذلك، بل لم يكن بينهما في أول الأمر إلا وعد غير لازم الوفاء، ثم لا يبيع السائل الثوب للرجل إلا بعد أن يشتريه من صاحبه، حل البيع وصح، لأنه من بيع الإنسان ما يملكه، ولا يمنع منه الوعد السابق بعد أن لم يكن شراء ملزماً.

فهو نظير صحيح سليمان بن خالد: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزارع، فيزرع أرض آخر، فيشترط للبذر ثلثاً، وللبقر ثلثاً. قال:

لا ينبغي أن يسمي بذراً ولا بقراً، فإنما يحرم الكلام)(1).

وحديث أبي الربيع عنه (عليه السلام): (أنه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر، فيشترط عليه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر. فقال: لا ينبغي أن يسمي بذراً ولا بقراً، ولكن يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك ولك منها كذا وكذا: نصف، أو ثلث، أو ما كان من شرط، ولا يسمي بذراً، ولا بقراً، فإنما يحرم الكلام)(2) وغيرهما.

وليس الحديث المذكور وارداً لبيان شرطية الكلام في حلّ المعاملة ونفوذها، لعدم مناسبته للمورد، ولا لقوله: (ويحرم الكلام)، لظهور أنه إذا كان هناك من يقول بأن الكلام شرط في نفوذ المعاملة، فليس هناك مورد ولا قائل بكون الكلام مانعاً من نفوذها.

نعم، قد يدعي: أن المراد بالحديث وإن كان هو بيان اختلاف حال المعاملة باختلاف كيفية إيقاعها، إلا أن التعبير عن إيقاع المعاملة بالكلام ظاهر في المفروغية عن انحصار إيقاع المعاملة به.

لكنه يندفع: بأن التعبير بذلك، كما يمكن أن يكون للمفروغية المذكورة يمكن أن يكون للكناية بالكلام عن مضمونه، وهو الأنسب بالسؤال، فلا مجال لدعوي ظهوره تبعاً في شرطية الكلام بعد عدم وروده لبيان ذلك.

ومن هنا لا مخرج عما سبق من القاعدة المقتضية لوقوع البيع وغيره من العقود بالمعاطاة ولزومه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب المزارعة والمساقاة حديث: 6، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 8 من أبواب المزارعة والمساقاة حديث: 6، 10.

ص: 82

بأن ينشئ البايع البيع بإعطائه المبيع إلي المشتري. وينشئ المشتري القبول بإعطاء الثمن إلي البايع (1). ولا فرق في صحتها بين المال الحقير والخطير (2). وقد تحصل بإعطاء البايع المبيع وأخذ المشتري بلا إعطاء له (3). كما لو كان الثمن كلياً في الذمة، أو بإعطاء المشتري الثمن وأخذ البايع له بلا إعطاء منه، كما لو كان المثمن كلياً في الذمة.

---------------

(1) لا يبعد اختصاص الإنشاء بالكلام وعدم تحققه بغيره، كالتعاطي والتوقيع علي الورقة المتضمنة للعقد وغيرها، وإنما يتحقق بهذه الأمور إبراز الالتزام بالمضمون العقدي والتعهد به وهو يكفي في صدق العقد عرفاً، الذي هو المهم في المقام.

وبعبارة أخري: وقوع العقد بالمعاطاة ونحوها، ليس لتحقق إنشاء المضمون العقدي بها، بل لتحقق إبراز الالتزام والتعهد به، الذي هو المعيار في صدق العقد، دون الإنشاء، وإنما يكتفي بالإنشاء لأنه من مظاهر إبراز الالتزام بالمضمون، لا لخصوصية فيه.

وقد أشار سيدنا المصنف (قدس سره) لما ذكرنا في مباحث الوضع من حقائقه، عند الكلام في حصول الوضع بالفعل واستعمال اللفظ في المعني استعمال اللفظ فيما وضع له. فراجع.

(2) أشار بذلك للتفصيل المتقدم من الخلاف عن أبي حنيفة. والوجه في عدم الفرق عموم صدق العقد والبيع في القسمين. نعم قد يكون الاهتمام بالمعاملة في الخطير يدعو لضبطها باللفظ خوف الخلاف. بل قد يهتم فيه بما زاد علي اللفظ، كالكتابة والأشهاد، لأنه آكد في الضبط الرافع للخلاف. لكن ذلك كله للتحفظ من الخلاف والشقاق، لا لتوقف صدق العقد والبيع وغيره من المعاملات علي اللفظ، كما لعله ظاهر.

(3) لا إشكال في صدق المعاطاة مع التعاطي من الطرفين. أما مع الإعطاء

ص: 83

من أحد الطرفين فقط - لكون العوض الذي يكون من الطرف الآخر كلياً في الذمة، أو جزئياً لا يراد تسليمه فعلاً، أو كان الطرف الآخر قد استلمه قبل إيقاع المعاملة - فقد يستشكل في صدق المعاطاة، بل نفي شيخنا الأعظم (قدس سره) الريب في عدم صدقها. وكأنه لدعوي ابتناء هيئة المفاعلة علي إشراك الطرفين في المادة، كما في المسالك.

لكن لا أصل لذلك، فإن هيئة المفاعلة لا تقتضي الإشراك، بعد كون الفاعل فيها واحداً وتعديها لمفعول، كما في طالعت الكتاب، وناولت زيداً الثوب، وجاريته في كلامه، وغير ذلك مما لا يحصي، وإنما يكون ذلك كثيراً في هيئة التفاعل، حيث كثيراً ما يكون الفاعل فيها متعدداً، كما في تقاتل وتشارك وتباهل وغيرها. بل صرح في لسان العرب ومختار الصحاح والقاموس وغيرها بأن المعاطاة بمعني المناولة، وهي تتحقق من طرف واحد.

وأما ما في مجمع البحرين: (وبيع المعاطاة هو إعطاء كل من المتبايعين ما يريده من المال عوضاً عما يأخذه من الآخر). فهو لا يناسب الاعتبار. ومن القريب أن يكون مراده بيان المعاطاة التي هي مورد كلام الفقهاء، فلا مخرج عما سبق.

نعم، لا أثر لذلك في محل الكلام، لعدم ورود عنوان المعاطاة في الأدلة الشرعية، كما نبّه له في الجواهر. بل ولا في كلام قدماء الأصحاب، مثل ما سبق من الخلاف. وحينئذٍ يتعين الرجوع في ذلك للقواعد.

فإن قيل بوقوع البيع وسائر العقود بها، عملاً بالعمومات، تعين العموم للإعطاء من طرف واحد، حيث يتحقق به الإيجاب من المعطي والقبول من الآخذ، لكفايتهما في إبراز الالتزام بمضمون المعاملة من الطرفين الذي هو المعيار في صدق العقد. وعلي ذلك لا يكون الإعطاء من الطرف الآخر دخيلاً في تحقق المعاملة، بل يقع جرياً علي مقتضاها، كالتسليم بعد العقد اللفظي للثمن والمثمن.

وإن قيل بعدم وقوع البيع ولا غيره من العقود بها، وإنما هي تقتضي الإباحة، فحيث لم تكن الإباحة مالكية، بل شرعية - كما سبق - وهي مخالفة للقاعدة، تعين

ص: 84

الاقتصار فيها علي المتيقن. وحينئذٍ قد يدعي أن المتيقن صورة التعاطي من الطرفين، لأنها مورد كلام غير واحد، كالشيخ - في كلامه المتقدم - وغيره.

لكن الشهيد في الدروس عمم المعاطاة للإعطاء من طرف واحد، وحكي عن جماعة من متأخري المتأخرين. وهو غير بعيد، إذ الظاهر إلغاء خصوصية التعاطي من الطرفين في كلام القدماء، لظهور كلماتهم في الإشارة لما عليه الناس في واقعهم العملي، ومن الظاهر عدم اختصاصه بالإعطاء من الطرفين. ولاسيما بملاحظة ظهور عموم كلامهم في المعاطاة للهبة التي لا إعطاء فيها إلا من طرف الواهب. ومن ثم قطع في الجواهر بالعموم، لعموم السيرة، التي هي الأصل في المسألة.

هذا وقد قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (وربما يدعي انعقاد المعاطاة بمجرد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير صدق إعطاء أصلاً، فضلاً عن التعاطي، كما تعارف أخذ الماء مع غيبة السقاء، ووضع فلس في المكان المعدّ له، إذا علم من حال السقاء الرضا بذلك).

لكن الظاهر عدم كفاية مجرد إحراز الرضا من السقاء ونحوه. بل لابد من إحراز إذن الطرف الآخر للغير في أن يتولي إيقاع المعاملة بنفسه، ويقوم مقام كلا الطرفين في ذلك، فيملك الماء في مقابل الثمن.

أما إحراز الرضا وحده من دون الإذن المذكور، فهو لا يكفي في إيقاع المعاملة، بل تكون فضولية، لعدم إعمال الطرف المذكور لسلطنته فيها. ولو أحرز الرضا بالتصرف في العين فهو رضا مالكي لا يقتضي إلا جواز التصرف الخارجي تكليفاً، دون جواز التصرف الاعتباري وضعاً بالبيع والشراء ونحوهما ونفوذه.

هذا وقد يرجع الرضا المذكور إلي الرضا بالاستيفاء بالضمان بقيمة المثل أو بالثمن الخاص، ويكون أثره جواز التصرف واستيفاء العين تكليفاً، لكن مع ضمان ما عين في مقابلها، لا مجاناً، لأن ذلك من أسباب الضمان العرفية. كما أنه لا يكون عقداً مملكاً للعين، فيجوز الرجوع فيه من الطرفين قبل استيفاء العين المبذولة وإتلافها. فلاحظ.

ص: 85

(مسألة 7): الظاهر أنه يعتبر في صحة البيع المعاطاتي جميع ما يعتبر في البيع العقدي (1)

---------------

(1) كما حكي عن المسالك. ولعله منصرف كلماتهم. وهو ظاهر بناءً علي المختار من كونها بيعاً لازماً، حيث يشملها حينئذٍ جميع ما دل علي اعتبار تلك الشروط في البيع.

وكذا بناءً علي كونها بيعاً غير لازم - كما اختاره سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره - فإن عدم لزومها لا يمنع من دخولها حينئذٍ في عموم أدلة اعتبار الشروط في البيع.

ودعوي: أن منصرف أدلة تلك الشروط البيع اللازم. ممنوعة، فإن اللزوم من أحكام البيع، وقصور عموم دليله عن بعض أفراد البيع لا يستلزم قصور أدلة بقية تلك الأحكام عنه، فهي في ذلك نظير البيع المشروط فيه الخيار. ومجرد كون الخيار فيه شرطياً، وفي المعاطاة حكمياً، غير فارق.

أما بناءً علي عدم وقوع البيع بها، وأنها إنما تقتضي الإباحة لا غير - كما هو المشهور - فربما يدعي قصور أدلة شروط البيع عنها، لخروجها عنه موضوعاً علي ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره).

ودعوي: أن موضوع أدلة تلك الشروط هو البيع العرفي، فيشمل المعاطاة. مدفوعة: بأن أدلة تلك الشروط مسوقة لبيان توقف نفوذه شرعاً عليها، فمع فرض عدم نفوذه شرعاً لا معني لاشتراطها فيه.

بل حتي أدلة أحكام البيع وغيره من العقود غير أدلة شروط النفوذ تنصرف إلي البيع والعقد الصحيحين اللذين يترتب عليهما الأثر، وحيث كانت صحة البيع وغيره من العقود مورداً للاختلاف بين الشارع الأقدس والعرف تعين حمل ما يرد في لسان الشارع والمتشرعة من تلك الأحكام علي الصحيح الشرعي، دون العرفي.

غاية الأمر أن الصحيح الشرعي يحمل بمقتضي الإطلاق المقامي لأدلة

ص: 86

تلك الأحكام علي الصحيح العرفي. إلا أن يثبت الردع عنه - كما هو المفروض في المقام - فيتعين قصور الأدلة عن موارد الردع. ولذا يحمل مثل ما تضمن أن من اشتري أباه عتق عليه، ومن تزوج امرأة حرمت عليه أمها، علي الشراء والزواج الصحيحين شرعاً، دون الصحيحين عرفاً. كما هو ظاهر.

فالعمدة في المقام أن قصور أدلة شروط البيع عن المعاطاة بناء علي أنها لا تفيد الملك بل الإباحة لا تنفع في حصول الإباحة بالمعاطاة مع فقدها لشروط البيع، بعد أن كان ترتب الإباحة علي المعاطاة مخالفاً للقاعدة، لفرض عدم قصدها بها، بل المقصود بها البيع، فمع عدم ترتبه، لاعتبار اللفظ في العقد، يتعين البناء علي فساد المعاطاة وعدم ترتب الأثر عليها، ويجري علي المال المقبوض بها حكم المقبوض بالعقد الفاسد. وينحصر دليل ترتب الإباحة معها بالإجماع المدعي، والظاهر من معقده - لو تم - صورة تحقق جميع شروط البيع، لأن مورد الخلاف بين العامة والخاصة في المقام هو توقف تحقق البيع علي اللفظ وعدمه، وذلك يناسب كون محل الكلام البيع الواجد لجميع الشروط لولا اللفظ. ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن من معقد الإجماع المذكور.

ومنه يظهر الإشكال فيما عن الشهيد في حواشيه علي القواعد من جواز الجهالة في الثمن والمثمن والأجل، وعدم وجوب التقابض في المجلس في معاطاة النقدين.

إذ فيه: أنه حيث كان محل كلامهم ما إذا قصد بها البيع، كما سبق، فإن وقع البيع بها لحقها أحكامه، وإن لم يقع بها لحقها أحكام البيع الفاسد، ومنها حرمة التصرف، ولا مخرج عن ذلك إلا الإجماع المدعي علي ثبوت الإباحة معها، والمتيقن منه صورة تحقق جميع شروط البيع، كما ذكرنا. نعم لو قصد بها الإباحة فلا إشكال. لكن سبق خروجه عن محل كلامهم.

ص: 87

(88)

من شرائط العقد (1) والعوضين (2) والمتعاقدين (3). كما أن الظاهر ثبوت الخيارات الآتية - إن شاء الله تعالي - (4) فيها (5)، ولو بعد ثبوت أحد الملزمات (6).

---------------

(1) كالتنجيز والموالاة - علي القول بها - والتقابض في المجلس في مثل بيع الصرف.

(2) كمعلومية العوضين، والتساوي في المقدار إذا كان من جنس واحد مكيل أو موزون.

(3) كالعقل والبلوغ والحرية. ويقتضيها - مضافاً علي ما سبق - أنها من شروط السلطنة علي المال، ومع فقدها لا سلطنة علي المال، لينفذ فيه التصرف ولو بالإباحة، ولذا لا يترتب الأثر علي الإذن المجرد عن المعاطاة مع فقد هذه الأمور.

اللهم إلا أن يقال: السلطنة إنما تعتبر في الإباحة المالكية، والإباحة في المعاطاة شرعية كما سبق، والإباحة الشرعية تابعة ثبوتاً لدليلها سعة وضيقاً، وقد تثبت من دون إعمال سلطنة المالك، كما في إباحة الأكل من ثمر البساتين لمن يمر بها. فالعمدة في المقام ما ذكرناه أولاً.

(4) كخيار المجلس والحيوان والعيب وغيرها.

(5) لإطلاق أدلة ثبوت تلك الخيارات في البيع بناء علي كونها بيعاً. وأما بناءً علي عدم كونها بيعاً، فلأن مقتضي القاعدة جواز التراد فيها، لعدم خروج كل من المالين بها عن ملك صاحبه، فله الرجوع فيه بمقتضي سلطنته عليه.

(6) أما بناءً علي مختاره (قدس سره) من وقوع البيع بها من دون أن يكون لازماً فلأن الملزمات المذكورة إنما تقتضي اللزوم من حيثية الخيار الثابت لخصوصية المعاطاة، ولا تقتضي اللزوم مطلقاً حتي من حيثية الخيار الخاص المفروض. وأما بناء علي حصول الإباحة بها من دون أن تكون بيعاً فلأن إطلاقات ثبوت الخيار في البيع وإن لم تنهض

ص: 88

إلا إذا كان الملزم مسقطاً للخيار (1)، كما إذا كان المبيع معيباً ولم يبق بيد المشتري بعينه، فإنه يسقط خيار البيع، ويثبت الأرش لا غير (2).

---------------

بإثباته فيها، إلا أن أدلة الملزمات المذكورة تقصر عن مورد الخيار، إذ لا دليل عليها إلا الإجماع، والمتيقن منه غير ذلك.

(1) يعني: الخيار الخاص، حيث يتعين إسقاطه له بمقتضي إطلاق دليله.

(2) أما بناءً علي كونها بيعاً فظاهر. لإطلاق ما دل علي ثبوت الأرش في العيب مع عدم بقاء المبيع بعينه، مع دون أن يكون لصاحبه الرد. وأما بناء علي عدم كونها بيعاً - كما سبق أنه المشهور - فلأن الإطلاق المذكور وإن لم ينهض بذلك، إلا أنه بعد فرض اللزوم بذلك - علي ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في الملزمات - فقد يدعي أن ثبوت الأرش هو مقتضي الجمع بين الحقين بعد فرض عدم استحقاق الرجوع بالعين، لأن استحقاق البايع تمام الثمن، ضرر علي المشتري بعد كون المبيع معيباً، واستحقاق المشتري للفرق الحقيقي بين قيمتي الصحيح والمعيب قد يكون ضرراً علي البايع، لأنه قد يستوفي الثمن، فالمتعين استحقاق الأرش الذي هو الفرق بين الصحيح والمعيب بالنسبة للثمن.

لكن ذلك لا ينهض بالاستدلال: أولاً: لأن الجمع بين الحقين بذلك لما كان لتجنب الضرر فهو راجع للاستدلال بقاعدة نفي الضرر، ومن الظاهر أنها لا تنهض بتشريع أحكام يتدارك بها الضرر، مثل استحقاق الأرش في المقام.

وثانياً: لأن استحقاق البايع لتمام الثمن قد لا يكون ضرراً علي المشتري، كما لو لم يزد الثمن علي قيمة المعيب. كما أن استحقاق المشتري الفرق الحقيقي بين قيمتي الصحيح والمعيب قد لا يكون ضرراً علي البايع، لأنه قد لا يستوفي الثمن، بل قد يزيد الباقي من الثمن علي قيمة المعيب ومن ثم لا ينهض بهذا الوجه بالاستدلال.

وربما نستدل في المقام بالإجماع. لكن في تماميته بنحو ينهض بالاستدلال

ص: 89

(90)

(مسألة 8): البيع العقدي لازم من قبل الطرفين (1)، إلا مع وجود أحد أسباب الخيار الآتية. أما البيع المعاطاتي فهو وإن كان مفيداً للملك، إلا أنه جائز من الطرفين (2)،

---------------

إشكال، لعدم تعرض كثير منهم لذلك. وبناء المتشرعة عليه ارتكازاً - لو تم - قد يكون متفرعاً علي بناء العرف علي تحقق البيع بالمعاطاة، وغفلتهم عن خروج الفقهاء في فتاواهم عن ذلك. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه أمور:

الأول: عموم الأمر بالوفاء بالعقد لظهور أنه لا يراد به الوفاء به آناماً، بل دائماً، ومن الظاهر أن الرجوع فيه ينافي الوفاء به.

الثاني: ابتناء العقد ارتكازاً علي اللزوم، حيث يكون الرجوع عنه خروجاً عن مقتضي العقد عرفاً، فيتعين العمل علي مقتضي الارتكاز المذكور ما لم يثبت الردع عنه، وهو غير ثابت، بل ثبت إمضاؤه. وقد تقدم في أوائل كتاب التجارة ما ينفع في ذلك.

الثالث: ما ورد في خصوص البيع، مثل نصوص خيار المجلس والحيوان، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): البيعان بالخيار حتي يتفرقا. وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام) (1) ومثل نصوص الإقالة(2) لظهورها في المفروغية عن لزوم البيع لولاها. بل هو صريح خبر هذيل بن صدقة المتقدم في مؤيدات وقوع البيع ولزومه بالمعاطاة.

الرابع: أنه مقتضي الأصل، لاستصحاب بقاء العوضين علي حالهما الذي حصل بالبيع، وعدم رجوعهما بالفسخ إلي ما كانا عليه سابقاً قبل البيع.

(2) كما سبق من جامع المقاصد، وقد يظهر من محكي التحرير. وكأنه للإجماع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب الخيار حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب آداب التجارة.

ص: 90

حتي مع شرط سقوط الخيار (1) أو إسقاطه بعد سقوطه (2). نعم يلزم بأحد أمور (3):

---------------

المدعي في المقام، والذي تقدم الكلام فيه في المسألة السادسة، وأنه غير ثابت، بل مقتضي القواعد لزوم البيع المعاطاتي، نظير ما تقدم في البيع الحاصل بالعقد اللفظي.

(1) لأن الشرط المذكور إنما يقتضي سقوط الخيار إذا كان الخيار حقاً للمشترط، لأن مقتضي كونه حقاً له سلطنته علي إسقاطه، أو اشتراط سقوطه. أما إذا كان حكماً شرعياً، لخصوصية في المعاملة، فلا سلطنة له عليه، ليسقطه أو يشترط سقوطه. بل يكون شرط سقوطه شرطاً مخالفاً للكتاب، فلا ينفذ. ومن الظاهر أن المدعي في المقام أن عدم لزوم البيع المعاطاتي حكم شرعي ثابت بالإجماع، لقصور فيه، وليس حقاً شرعياً مملوكاً للطرفين، كخيار المجلس.

اللهم إلا أن يقال: لما كان عدم اللزوم في المعاطاة بناء علي كونها بيعاً مخالفاً للقاعدة، فاللازم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو صورة عدم اشتراط سقوط الخيار، أما في صورة اشتراط ذلك فالمتعين الرجوع للقاعدة المقتضية للزوم. فسقوط الخيار مع الشرط ليس من أجل نفوذ سلطنة المشترط، بل من أجل قصور دليل الخيار. وبذلك يظهر أن الشرط المذكور لا يخالف حكم الكتاب، بل يرفع موضوعه.

لكن الإنصاف أن المعاطاة لما كانت عقداً فهي مبنية علي اللزوم، والقصد إليها قصد للزوم ضمناً، فلو كان الشرط مسقطاً للخيار فيها لكان القصد لذلك ضمناً كافياً في سقوطه، ففرض عدم اللزوم فيها مناسب لعدم تأثير الشرط. فتأمل.

(2) يظهر الحال فيه مما تقدم.

(3) لا يخفي أن مقتضي القاعدة في لزوم المعاطاة يختلف باختلاف المباني. فأما بناءً علي وقوع البيع بها، وحصول الملك، فمقتضي القاعدة لزومها في مورد الشك - عملاً بما تقدم من الدليل والأصل - والاقتصار في الخروج عنه علي مورد اليقين

ص: 91

بعدم اللزوم.

ولا مجال لاستصحاب عدم اللزوم المفروض ثبوته بدواً للمعاطاة: أولاً: لأن عدم اللزوم في بيع المعاطاة ليس حكماً فعلياً، بل هو حكم تعليقي راجع إلي انفساخ البيع بالرجوع، والتحقيق عدم جريان الاستصحاب التعليقي.

نعم، لو كان الخيار حقاً للطرفين أو لأحدهما كان حكماً فعلياً يجري فيه الاستصحاب. إلا أنه لا مجال له في المقام، لعدم الدليل علي ثبوت الحق المذكور هنا. غاية الأمر دعوي ثبوت جواز الرجوع في المعاطاة حكماً كجواز الرجوع في الهبة.

الثاني: لأن الاستصحاب المذكور لو كان يجري في نفسه فهو محكوم لإطلاق أدلة النفوذ واللزوم، بناء علي عدم جريان استصحاب حكم المخصص في مثل ذلك علي ما أوضحناه في مبحث الاستصحاب من الأصول.

وأما بناء علي عدم حصول البيع ولا الملك بالمعاطاة وبقاء كل من العوضين علي ملك صاحبه الأول فمقتضي القاعدة جواز الرجوع فيها، إذ احتمال اللزوم إن رجع لاحتمال اللزوم في الإباحة مع بقاء كل من المالين علي ملك صاحبه الأول، فهو مدفوع بعموم سلطنة المالك علي ملكه المقتضي لجواز استرجاعه، وحرمة وضع الغير يده عليه وحبسه عنه بغير إذنه.

وإن رجع لاحتمال انتقال كل من العوضين للطرف الآخر، وحصول التبادل بينهما في الملك. فمقتضي استصحاب بقاء كل من المالين علي ملك مالكه الأول عدم تحقق الانتقال المذكور. بل لا يبعد منافاته لقاعدة سلطنة المالك علي ملكه، لأن مقتضاها عدم خروجه عنه إلا برضاه وبإعمال سلطنته.

نعم، لو كان المدعي حصول البيع ونفوذه بحصول أحد الملزمات، بحيث يترتب البيع علي المعاطاة بشرط الملزم، اتجه البناء علي لزوم المعاطاة في مورد الشك، عملاً بعموم نفوذ البيع القاضي بنفوذ المعاطاة المقصود بها البيع، والمقتصر في الخروج عنه علي مورد اليقين، وهو صورة عدم حصول ما يحتمل لزوم المعاطاة به. وعليه

ص: 92

(93)

الأول: تلف العوضين (1)

---------------

جري سيدنا المصنف - في نهجه - وبعض مشايخنا (قدس سرهما).

لكنه بعيد عن مساق كلماتهم، في وجه عدم حصول البيع والملك بالمعاطاة، لظهورها أو صراحتها في أن عدم تحقق العقد والبيع بالمعاطاة إنما هو لتوقفهما علي الإنشاء اللفظي، وأن لزوم المعاطاة بالملزمات المذكورة لامتناع التراد، لا لكونها شرطاً في نفوذ العقد الحاصل بالمعاطاة. وإلا فلو صلحت المعاطاة لإيقاع العقد فلا منشأ لتوقف نفوذه علي حصول الملزمات.

وأما ما احتمله في المسالك من صيرورة المعاطاة بيعاً بعد التلف. فهو لا يتجه إلا إذا أريد به أنها تصير بحكم البيع في ترتب أحكامه، لا أن البيع الواقع بها ينفذ، فإن هذا لا يناسب كلماتهم واستدلالاتهم.

وبالجملة: ترتب الملك بحصول الملزمات - لو تم - لا بد أن يبتني علي كونها هي السبب المملك، دون المعاطاة، وحيث لا ريب في عدم صدق العقد علي الملزمات المذكورة في كلماتهم، تعين الاقتصار في حصول الملك بها علي المتيقن.

وأظهر من ذلك ما لو قلنا بكونها سبباً في لزوم الإباحة من دون ملك. إذ لا ريب في منافاة ذلك لقاعدة السلطنة في حق المالك. ومن هنا لا مخرج عما سبق من أن اللزوم مخالف للقاعدة، وأنه يتعين الاقتصار فيه علي المتيقن.

(1) كما صرح به غير واحد. وعن كاشف الغطاء نفي الريب والخلاف فيه. وهو المتيقن من الملزمات في كلامهم. والوجه فيه: أنه بعد تعذر التراد خارجاً بالتلف فلا أثر للجواز إلا استحقاق التراد مع ضمان كل من العوضين ببدله من المثل أو القيمة، ومن الظاهر أن ذلك مخالف للقاعدة.

أما بناءً علي حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة فلأن كلا منهما قد تلف عند صاحبه، وفي ملكه، فلا يكون مضموناً عليه، وضمانه عليه بالرجوع بالعقد بعد ذلك

ص: 93

أو أحدهما (1).

---------------

يحتاج إلي دليل بعد عدم اشتراط ذلك صريحاً ولا ضمناً في العقد، لما هو المعلوم من ابتناء العقد علي اللزوم وعدم الضمان. هذا مضافاً إلي ما سبق من أن مقتضي القاعدة بناء علي حصول البيع هو اللزوم بكل ما يحتمل لزوم البيع به.

وأما بناءً علي حصول الإباحة بالمعاطاة من دون ملك فلعدم الدليل علي الضمان مع فرض جواز وضع اليد علي العين وإباحة التصرف فيها حتي بالإتلاف، لأن المتيقن من دليل الضمان اليد العدوانية والإتلاف غير المأذون به شرعاً، وكلاهما غير حاصل في المقام.

(1) فقد تقدم من جامع المقاصد دعوي عدم جواز الرجوع، لامتناع التراد. وهو المذكور في كلام غير واحد. ويقتضيه بناء حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة ما سبق من أن مقتضي القاعدة حينئذٍ لزوم البيع بكل ما يحتمل كونه ملزماً له.

وأما بناءً علي حصول الإباحة بالمعاطاة من دون ملك فمقتضي القاعدة بقاء العين الأخري علي ملك مالكها الذي كان التلف عنده، وجواز رجوعه بها، عملاً بمقتضي سلطنته علي ملكه، وعدم ضمانه لما تلف عنده بعد كون يده عليه غير عدوانية، وجواز تصرفه فيه حتي بالإتلاف.

نعم، لا ريب في منافاة ذلك للسيرة، وإباء المرتكزات له جداً. لكن يقرب كون منشأ ذلك بناء العرف علي حصول البيع بالمعاطاة، ومع فرض الخروج عن ذلك لا يتضح قضاء المرتكزات باللزوم. كما لا مجال لعدوي الإجماع عليه بعد قلة من تعرض له، نظير ما تقدم في ذيل المسألة السابعة عند الكلام في استحقاق الأرش مع العيب.

ولو فرض العلم بالخروج عنه فليس البناء علي لزوم المعاطاة حينئذٍ بأولي من البناء علي جواز الرجوع بها مع ضمان التالف بالمثل أو القيمة بعد خلو كل منهما عن الدليل.

ص: 94

أو بعض أحدهما (1). الثاني: نقل العوضين (2)،

---------------

اللهم إلا أن يدعي الإجماع علي لزوم المعاطاة حينئذ. لكن يصعب إحرازه بعد عدم تعرض غير واحد ممن ذهب إلي عدم تحقق البيع بالمعاطاة للزوم بذلك، منهم الشيخ في كلامه المتقدم من الخلاف. وقد تقدم في ذيل المسألة السابعة عند الكلام في ثبوت الأرش بالعيب ما ينفع في المقام.

(1) الوجه فيه بناء علي حصول البيع والملك المتزلزل بالمعاطاة ما سبق من عمومات اللزوم. أما بناء علي الإباحة من دون ملك فقد يوجه بأن رجوع كل منهما بعينه من دون ضمان ضرر علي من نقصت عينه، ولا وجه للضمان بعد كون من نقصت العين عنده قد أخذ العين من دون عدوان، وجاز له التصرف فيها ولو بالإتلاف.

لكن قاعدة نفي الضرر لا تنهض بتشريع تبدل الملكيتين ولزوم ذلك. بل مقتضي القاعدة البناء علي جواز الرجوع من دون ضمان للنقص. ولو فرض العلم ببطلان ذلك فليس البناء علي اللزوم بأولي من البناء علي جواز الرجوع مع الضمان بعد خلو كل منهما عن الدليل. نظير ما تقدم من سابقه. ودعوي الإجماع هنا أبعد من دعواه فيما سبق.

(2) لا إشكال ظاهر في صحة نقل كل من العوضين ببيع وغيره من دون فرق بين القول بالملك والقول بالإباحة وأن المراد بالإباحة ما يعم ذلك. وعلي ذلك فمقتضي القاعدة عدم انفساخ النقل المذكور برجوع كل منهما في المعاطاة. وحينئذٍ يجري ما سبق في تلف كلا العوضين.

نعم، لو كان النقل الثاني بالمعاطاة أيضاً، فإن قلنا بالملك جري ما سبق أيضاً. أما لو قلنا بالإباحة، فقد يدعي جواز التراد في المعاطاة الأولي، وحينئذٍ يتعين التراد في المعاطاة الثانية، لا بمعني وجوبه علي موقعها، لعدم الدليل علي تكليفه بذلك، بل بمعني حصوله قهراً بالتراد في المعاطاة الأولي. لاستصحاب بقاء العين علي ملك مالكها الأول الذي هو طرف المعاطاة الأولي. بل هو مقتضي قاعدة سلطنته علي

ص: 95

أو أحدهما (1) أو بعض أحدهما (2) بناقل شرعي من بيع أو هبة أو نحوهما، لازماً كان أو جائزاً (3). ولو رجعت العين إلي المالك بفسخ أو غيره بقي

---------------

ماله، لأن خروجها عن ملكه من دون إذنه مناف لسطنته المذكورة. وحينئذٍ يكون رجوع العين له وارتفاع إباحتها الحاصلة بالمعاطاة الثانية مقتضي سلطنته عليها بعد بقائها علي ملكه.

وبعبارة أخري: خروج العين عن ملك صاحب المعاطاة الأولي أو عن سلطنته بإيقاع المعاطاة الثانية يحتاج إلي دليل. ولا يتضح قيام إجماع تعبدي علي لزوم المعاطاة الأولي، ليكون هو الدليل في المقام.

(1) أما علي الإباحة فيظهر الكلام فيه مما سبق. وأما علي الملك فاللزوم بذلك بالإضافة إلي العين المنقولة مقتضي القاعدة، نظير ما تقدم. وأما بالإضافة إلي العين الباقية فالكلام فيه نظير ما تقدم عند الكلام في تلف إحدي العينين.

هذا ولو كان الثمن كلياً، وقد دفع المشتري فرداً منه، ونقل البايع ذلك الفرد عن ملكه فقد يقصر عنه كلام سيدنا المصنف (قدس سره)، لأن النقل لم يقع علي عين الثمن، بل علي بدله. كما قد يشكل البناء علي اللزوم معه حتي بناء علي تحقق البيع والملك الجائز بالمعاطاة، لشيوع ذلك في المعاملات المعاطاتية بين الناس، فيبعد جداً حمل الإجماع المدعي في كلماتهم علي جواز التراد علي غير هذه الصورة. فلاحظ.

(2) لما تقدم من أن مقتضي القاعدة لزوم المعاطاة بكل ما يحتمل لزومه بها بناء علي وقوع البيع بها وإفادتها الملك. وأما بناءً علي الإباحة، فيجري ما سبق.

(3) لما عرفت من عمومات اللزوم بناء علي إفادة المعاطاة البيع. مضافاً إلي أن جواز الفسخ لأحد الطرفين في الجائز لا يقتضي تحققه بفسخ المعاطاة قهراً عليه، ولا وجوبه عليه تكليفاً، فهو كاللازم من هذه الجهة. ومن ذلك يظهر عدم الأثر للجواز حتي بناء علي إفادة المعاطاة الإباحة من دون ملك.

ص: 96

اللزوم بحاله (1).

---------------

(1) عملاً بدليل اللزوم. ولأصالة عدم ترتب الأثر علي فسخ عقد المعاطاة. هذا بناء علي وقوع البيع وحصول الملك بالمعاطاة.

أما بناءً علي حصول الإباحة بها من دون ملك، فقد يدعي أن العقد الناقل حيث كان موجباً لتبديل الملكية وخروج العين عن ملك مالكها الأول، فالمتعين عدم انقلاب الحال برجوع العين بعده عملاً بالأصل.

لكن ذلك إنما يتجه إذا كان رجوعها بعقد جديد، أما إذا كان بفسخ العقد الناقل فمقتضي فسخه رجوعها إلي ما كانت عليه قبل إيقاع العقد في ملك مالكها الأول، ومقتضي قاعدة السلطنة جواز مطالبته بها ورجوعه في المعاطاة السابقة علي إيقاع العقد الناقل.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من أن العقد الناقل الحاصل بعد المعاطاة يستلزم خروج العين من ملك مالكها الأول ودخولها في الناقل آناماً قبل انتقالها بالعقد، لئلا يلزم دخول العوض في ملك غير من خرج عنه المعوض، الذي هو علي خلاف مقتضي المعاوضة، ومقتضي ذلك رجوعها بالفسخ إلي ملكه لا إلي المالك الأول.

ففيه: أولاً: أن ذلك يختص بالعقد المعاوضي دون غيره، كالهبة. بل يختص بما إذا كان المنقول معوضاً في العقد الناقل، دون ما إذا كان عوضاً، بناءً علي ما سبق منا في أول الكلام في البيع من إمكان خروج العوض من ملك غير من دخل في ملكه المعوض.

وثانياً: أن ذلك ليس بأولي من البناء علي بقائه علي ملكه وخروجه منه بالعقد المعاوضي ودخول العوض في ملكه، تحقيقاً لمقتضي المعاوضة. غاية الأمر أن يكون العوض مباحاً لطرف المعاطاة الآخر، كما كان المعوض مباحاً له بالمعاطاة. وأم

ص: 97

(98)

(الثالث): امتزاج العوضين أو أحدهما أو بعضه بعين أخري (1). (الرابع): تغير العين تغيراً مذهباً للصورة (2)، كطحن الحنطة، وتقطيع الثوب.

(مسألة 9): لو مات أحد المالكين لم يجز لوراثه الرجوع في البيع المعاطاتي (3).

---------------

بناء العرف والمتشرعة علي ملكيته له فهو متفرع علي بنائهم علي ملكيته للمعوض بالمعاطاة، لتحقق البيع بها، فمع فرض خطئهم في ذلك لا مجال لإحراز صوابهم في بنائهم علي ملكيته للعوض.

والإنصاف أن ذلك تكلف وتمحل من أجل الجمع بين ذهاب المشهور لعدم وقوع العقد بالمعاطاة وعدم ترتب الملك عليها، وبين عمل العرف والمتشرعة - تبعاً للمرتكزات - علي ترتيب آثار العقد والملك عليها. ولهم تكلفات وتمحلات أخر من أجل ذلك. لكن البناء علي خطأ المشهور فيما ذهبوا إليه أهون بكثير من ارتكاب ذلك. والله سبحانه وتعالي العالم. ومنه نستمد العون والتسديد.

(1) لما سبق من أن مقتضي القاعدة لزوم المعاطاة بكل ما يحتمل لزومه بها بناء علي ترتب البيع والملك علي المعاطاة. أما بناء علي ترتب الإباحة عليها من دون ملك فلزومها، وتبدل الملكية بالامتزاج مخالف لقاعدة السلطنة والاستصحاب، بل يتعين البناء علي كون الشريك هو المالك الأول.

(2) الكلام فيه كما في سابقه. نعم لو كان الرجوع مع تبدل الصورة موجباً للضرر علي أحدهما جري ما تقدم في صورة تلف بعض أحد العوضين.

(3) كما صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره) لكون الجواز وعدم اللزوم فيها حكمياً كجواز عقد الهبة، وليس حقاً لكل منهما ليتورث. علي أنه لو كان حقاً فلا إطلاق لدليله يقتضي ثبوته له إلي حين موته، ليورث، بل المتيقن ثبوته إلي قبل موته بآن. كما لا إطلاق له من حيثية من له إعماله، بل المتيقن منه إعماله بنفسه، فلا موضوع له بعد

ص: 98

أما لو جنّ قام وليه مقامه في الرجوع (1).

---------------

موته ليورث. هذا كله بناء علي إفادة المعاطاة الملك.

أما بناءً علي إفادتها الإباحة من دون ملك فمقتضي الأصل بقاء كل من العينين علي ملك مالكه إلي حين موته، فينتقل إلي وراثه، وبقاء الآخر علي ملك الآخر، ومقتضي قاعدة السلطنة في حق الوارث والآخر جواز رجوع كل منهما بالعين مع بقائها. وهو الذي صرح به في المبسوط في الهبة، علي تقدم عند الاستدلال بالسيرة علي نفوذ العقد بالمعاطاة.

نعم، صرح سيدنا المصنف وبعض مشايخنا (قدس سرهما) بلزوم المعاطاة وعدم جواز الرجوع بها مع موت أحدهما، عملاً منهما بأصالة اللزوم بالوجه الذي تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في مقتضي القاعدة. وزاد بعض مشايخنا الاستدلال بالسيرة في المقام، لعدم معهودية رجوع الوارث بالمعاطاة أو الرجوع عليه بها، بل لو أقدم أحد علي ذلك عد خارجاً عن سلك العقلاء.

لكن سبق المنع من تقرير أصالة اللزوم علي الإباحة. وأما السيرة فهي من فروع السيرة علي إيقاع العقود بالمعاطاة، والمفروض الخروج عنها، ولا خصوصية لحالة الموت في السيرة، لينظر فيها.

(1) كأنه لثبوت السلطنة علي الرجوع للمجنون بالذات، فيقوم وليه مقامه في ذلك. لكنه موقوف علي القطع بثبوت ذلك للمتعاطين حتي بعد الجنون، أما مع الشك فالمتعين عدم رجوع الولي، بناء علي إفادة المعاطاة البيع والملك، لأصالة اللزوم. بل حتي لو قيل بإفادتها الإباحة من دون ملك، بناء علي ما سبق منه (قدس سره) في تقرير أصالة اللزوم. ومن ثم صرح (قدس سره) بعدم جواز الرجوع في نهجه، كما صرح بذلك بعض مشايخنا (قدس سره) أيضاً. نعم يتعين البناء علي جواز الرجوع للولي علي القول بإفادة المعاطاة الإباحة من دون ملك بناء علي ما سبق منا من أن مقتضي القاعدة حينئذٍ عدم اللزوم.

ص: 99

(100)

(مسألة 10): الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من سائر المعاملات (1). بل الإيقاعات (2)، إلا في موارد خاصة، كالنكاح (3)،

---------------

(1) لاشتراكها مع البيع في حكم المعاطاة بلحاظ السيرة والعمومات وغيرها، وما يجري في البيع يجري فيها. وحيث سبق أن مقتضي عموم نفوذ العقد وقوعه ولزومه بالمعاطاة تعين البناء علي ذلك في غير البيع أيضاً. وهو مقتضي إطلاق أدلة تلك المعاملات اللفظية والمقامية، لقضائها بتحققها بكل ما تتحقق به عرفاً، ومنه المعاطاة.

نعم، لو تم الإجماع علي جواز الفسخ في المعاطاة البيعية، تعين البناء علي جوازه في تلك المعاملات مع وقوعها بالمعاطاة لظهور كلامهم في عموم ملاكه لها.

كما أنه لو تم الإجماع علي توقف العقود اللازمة أو مطلق العقود علي إنشائها لفظاً تعين البناء علي عدم وقوع المعاملات الأخري بالمعاطاة. غاية الأمر البناء علي حصول الإباحة بها. للسيرة أو الإجماع علي نحو ما سبق في البيع، لاشتراكها معه من هذه الجهة.

(2) لإطلاق أدلتها المقامية، لأنها وإن وردت لبيان أحكامها، إلا أن السكوت فيها عن كيفية تحققها ظاهر في إيكال ذلك للعرف، وهو يحكم بتحققها بالمعاطاة.

(3) لظهور كلماتهم في المفروغية عن لزوم العقد اللفظي، وعن الحدائق: (أجمع العلماء من الخاصة والعامة علي توقف النكاح علي الإيجاب والقبول اللفظيين)، وعن شيخنا الأعظم (قدس سره): (أجمع علماء المسلمين - كما صرح به غير واحد - علي اعتبار الصيغة في عقد النكاح، لا يباح بالإباحة ولا المعاطاة).

وهو مقتضي سيرة المتشرعة علي الالتزام به، المعتضدة بجملة من النصوص:

منها: النصوص المتضمنة أنها تستحل بكلمات الله تعالي، كصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إذا دخلت بأهلك فخذ بناصيتها، واستقبل القبلة. وقل:

اللهم

ص: 100

بأمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللتها) (1) ونحوه غيره.

ومنها: صحيح بريد: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالي عز وجل: (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) فقال: الميثاق هو الكلمة التي عقد بها النكاح. وأما قوله: (غليظاً) فهو ماء الرجل يفضيه إليها)(2). ونحوه مرسل العياشي عن يوسف العجلي(3).

ومنها: ما دلّ علي عدم نفوذ الشرط الذي يكون قبل النكاح، بل لابد من ذكره في النكاح. كصحيح زرارة قال:

(كان الناس بالبصرة يتزوجون سرّاً، فيشترط عليها أن لا آتيك إلا نهاراً، ولا آتيك إلا بالليل، ولا أقسم لك. قال زرارة: وكنت أخاف أن يكون هذا تزويجاً فاسداً، فسألت أبا جعفر عن ذلك. فقال: لا بأس به - يعني: التزويج - إلا أنه ينبغي أن يكون هذا الشرط بعد النكاح. ولو أنها قالت له بعد هذه الشروط قبل التزويج نعم. ثم قالت بعد ما تزوجها: إني لا أرضي إلا أن تقسم لي وتبيت عندي ولم يفعل كان آثماً) (4) . وموثق عبد الله بن بكير: (قال أبو عبد الله (عليه السلام):

ما كان من شرط قبل النكاح هدمه النكاح، وما كان بعد النكاح فهو جائز) (5) وغيرها.

لظهورها في المفروغية عن إيقاع النكاح بالعقد اللفظي، إذ لا يتميز في المعاطاة موقع الشرط من العقد، بل يقصد إليهما معاً بالفعل الدال علي الالتزام بالعقد مع الشرط جملة واحدة. مضافاً إلي أن الشرط السابق علي العقد مقصود ضمنا في العقد، فعدم نفوذه بذلك وتوقف نفوذه علي ذكره صريحاً فيه يناسب عدم نفوذ أصل النكاح بالقصد إليه في المعاطاة، وأنه لابد من إنشائه صريحاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 55 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 1 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 4.

(3) مستدرك الوسائل ج: 14 باب: 1 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 39 من أبواب المهور حديث: 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 14 باب 19 من أبواب المتعة حديث: 2.

ص: 101

(102)

والطلاق (1)،

---------------

ومثلها في ذلك رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال له:

(فإني أستحي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضر عليك. قلت: وكيف ؟ قال: لأنك إن لم تشترط كان تزويج مقام) (1) . لظهور أن عدم ذكر الأجل حياء لا ينافي القصد إليه ضمناً، فعدم ترتب الأثر علي القصد المذكور ظاهر في أن خصوصيات النكاح تابعة للفظ، وهو يناسب تبعية أصل النكاح له.

ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية أبان المذكورة بعد بيان إيجاب عقد المعتة

:(فإذا قالت: نعم، فقد رضيت، وهي امرأتك وأنت أولي الناس بها) (2) . حيث قد يستفاد منه توقف الزوجية علي القبول اللفظي، وعدم الاكتفاء بغيره مما يدل علي الرضا. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في اعتبار اللفظ في عقد النكاح خروجاً عما سبق في عموم العقود.

(1) بلا إشكال ظاهر، وظاهر الأصحاب المفروغية عنه، لتحريرهم الخلاف في صيغ الطلاق اللفظية لا غير ويقتضيه النصوص. كصحيح زرارة: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام):

رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه، ثم بداله فمحاه. قال: ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتي يتكلم به) (3) ، وصحيح محمد بن مسلم: (أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن رجل قال لامرأته: أنت علي حرام، أو بائنة، أو تبة، أو برية، أو خلية. قال هذا كله ليس بشيء. إنما الطلاق أن يقول لها في قبل العدة بعد ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها: أنت طالق، أو اعتدي، يريد بذلك الطلاق. ويشهد علي ذلك رجلين عدلين)(4) وغيرهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 20 من أبواب المتعة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب عقد المتعة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 14 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 3.

ص: 102

(103) (103) (103)

والعتق (1)، والتحليل (2)، والنذر (3)،

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. وظاهر الأصحاب المفروغية عنه لتحريرهم الخلاف في صيغه اللفظية لا غير. ويقتضيه صحيح زرارة المتقدم وغيره.

(2) ففي الجواهر: (أما الصيغة فلا خلاف في اعتبارها فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. فلا يكفي التراضي). وهو لو تم الدليل في المقام. وإلا فلا شاهد له من النصوص، بل إطلاق بعضها شاهد بعدمه، كصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الرجل يحلّ جاريته لأخيه فقال: لا بأس) (1) .

نعم، لا يكفي الرضا التقديري، لأنه وإن كان محللاً للتصرف من حيثية حرمة مال الغير، إلا أن ذلك لا يكفي في حلية الفروج بعد الحصر في حليتها بالزواج وملك اليمين. ومن ثم كان حلّ الفرج بالتحليل محتاجاً للدليل الخاص، وهو يقتضي اعتبار التحليل، لا مجرد طيب النفس الفعلي، فضلاً عن التقديري.

(3) بلا إشكال ظاهر. والظاهر مفروغيتهم عنه كما يشهد به تحريرهم الخلاف في صيغه. ويقتضيه - بعد عدم وضوح صدق النذر من غير لفظ والأصل عدم ترتب الأثر بدونه - صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إذا قال الرجل: علي المشي إلي بيت الله الحرام وهو محرم بحجة، أو علي هدي كذا وكذا، فليس بشيء، حتي يقول: لله علي المشي إلي بيته، أو يقول: لله علي أن أحرم بحجة، أو يقول: لله علي هدي كذا وكذا)(2) وغيره. فإنها وإن كانت واردة لبيان توقف النذر علي إضافة المنذور لله تعالي، لا لبيان توقف النذر علي اللفظ، إلا أن المنذور إذا كان طاعة في نفسه - كالحج والهدي - فكثيراً ما يكون الالتزام به ابتدائياً لله تعالي خالصاً لا من أجل توثق الآخرين، فالحكم بعدم الاعتداد به حتي يذكر الله تعالي فيه ظاهر في المفروغية عن اعتبار اللفظ في النذر. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 31 ما أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 1 من أبواب كتاب النذر حديث: 1.

ص: 103

(104) (104)

واليمين (1). والظاهر جريانها في الرهن (2)،

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. والظاهر مفروغيتهم عنه، كما يشهد به تحريرهم الخلاف في فروعه. ويقتضيه عدم وضوح صدق اليمين عرفاً من غير لفظ، حيث لا يبعد كون اليمين فعلاً كلامياً مشروطاً بالقصد، لا أمراً قصدياً يمكن أن يبرز بالكلام وغيره، كما قد يناسبه قوله تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم) فإن اللغو هو الخطأ والكلام من غير روية.

وأما مثل موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):

(قال: إذا قال الرجل: أقسمت أو حلفت فليس بشيء، حتي يقول: أقسمت بالله أو حلفت بالله) (1) . فهو وراد لبيان عدم انعقاد الحلف إلا بالله تعالي، لا لبيان اعتبار اللفظ في اليمين. ولا يجري فيه ما تقدم في نصوص النذر. نعم قد يدل عليه حديث عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(أنه قال: اليمين التي تكفر أن يقول الرجل: لا والله ونحو ذلك) (2) .

(2) الظاهر أن الكلام في ذلك هو الكلام في البيع، لتحقق العقد والرهن بالمعاطاة عرفاً، كالبيع، فيدخل في عموم أدلة نفوذ العقود، والإطلاقات المقامية لأدلة الرهن. وحينئذٍ إن تم الإجماع المخرج عن ذلك في أصل حصول العقد - كما هو المشهور - أو في لزومه - كما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) - فهو، وإلا تعين البناء علي حصول الرهن ولزومه، كما سبق منا في البيع. ولعله لذا قال في التذكرة:

(والخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب عليه، المذكور في البيع، آت ههنا) .

لكن قال في جامع المقاصد: (ويشكل بأن باب البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع، بخلاف ما هنا). وهو كما تري، فإن ما سبق منه في البيع إنما يقضي بعدم لزومه، لا بعدم وقوعه، ويظهر منه أن وقوعه مقتضي القاعدة، لا من أجل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 15 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب كتاب اليمين حديث: 13.

ص: 104

(105) (105)

والوقف (1). لكنها تكون لازمة لا جائزة (2).

---------------

الإجماع. فراجع.

(1) فإنه وإن كان الظاهر عدم كونه عقداً، بل إيقاعاً، فلا يكون مشمولاً لأدلة نفوذ العقود، إلا أن بناء العرف علي وقوعه بالفعل - كالتوقيع علي ورقة الوقفية بداعي إبراز الالتزام بمضمونها، وبذل العين للجهة الموقوفة ونحوهما - موجب لدخوله في الاطلاقات المقامية لأدلة أحكام الوقف، بنحو يقتضي نفوذه وترتب الأثر عليه، فيجري فيه ما سبق.

(2) أما بناءً علي ما سبق منا من عدم نهوض الإجماع بالخروج عن أصالة اللزوم فظاهر. وأما بناء علي ما سبق منه (قدس سره) من نهوض الإجماع في البيع وكثير من العقود بذلك، فقد يوجه لزوم الرهن المعاطاتي بتقوم الرهن باللزوم، لأن فائدته التوثق للدين، وهو لا يحصل مع جواز رجوع المرتهن، فوقوعه بالمعاطاة مساوق للزومه.

لكنه يندفع بأنه إذا تم تقوم الرهن باللزوم فالإجماع المدعي علي عدم لزوم المعاطاة يكون دليلاً علي عدم وقوع الرهن بها وردعه عن حكم العرف بوقوعه بها.

اللهم إلا أن يمنع عموم الإجماع لمثل الرهن مما يتقوم باللزوم، لأن عمدة كلماتهم في البيع، والمتيقن في التعدي عنه ما يماثله مما يقبل الجواز. ولاسيما وأنه لا مجال فيه للإباحة التي ذهب إليها المعظم في المعاطاة، لعدم جواز التصرف في العين المرهونة حتي مع إيقاع عقد الرهن باللفظ. كما أن محل كلامهم العقود اللازمة، والمتيقن منها العقود اللازمة من الطرفين، والرهن لازم من طرف واحد.

وأما الوقف فقصور الإجماع عنه أظهر، لأن معقده في كلماتهم العقود اللازمة، وقد عرفت أن الوقف ليس من العقود، فمع قيام الدليل علي وقوعه يتعين البناء علي لزومه، تبعاً لما دل علي لزم الوقف. ولا أقل من استصحاب بقائه، وعدم ترتب الأثر علي الرجوع فيه. ولعله لذا اكتفي الشيخ في المبسوط في وقف المسجد بالنية حين بنائه.

ص: 105

(106)

وربما يظهر من غيره.

هذا وربما يمنع من سببية المعاطاة لبعض العقود والإيقاعات الأخر.

منها: الوصية والتدبير والضمان، فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) عدم وقوعها بالمعاطاة، لعدم وجود فعل يكون مصداقاً لها. وهو كما تري، فإن إبراز المضمون العقدي أو الإيقاعي بالفعل ليس لكونه مصداقاً حقيقياً لذلك المضمون، في نفسه، بل إنما يكون بضميمة القرينة علي حصول الفعل به بداعي إبراز الالتزام به، نظير قيام القرينة علي صدور اللفظ بداعي الإنشاء لا الإخبار، ومن الظاهر أنه لا مانع من قيام القرينة علي إرادة إبراز هذه الأمور ببعض الأفعال.

كما لو اتفق الموصي مع شخص علي أنه إن دفع له شيئاً أراد بدفعه الوصية له به، بحيث يكون أمانة عنده، ليكون له بعد موته، أو جعله وصياً عليه، لينفقه في وجوه البر عنه بعد موته.

وكما لو اتفق الضامن مع الدائن علي أنه إذا أرسل إليه المدين ليأخذ رهنه منه فإنما يريد بذلك ضمان دينه، ثم أرسل المدين من أجل ذلك، فدفع الدائن له الرهن من أجل قبوله بالضمان.

وكما لو اتفق مالك العبد مع ورثته علي أنه إن مكّن عبده من بيته فهو مدبر بعد وفاته. ونحو ذلك. نعم قد يلحق التدبير بالعتق، لأنه من أفراده، فيلحقه ما سبق. فتأمل.

ومثله في الضعف ما رتبه علي ذلك من عدم وقوع الإيقاعات بالفعل إلا باب الإجازة والفسخ وما يلحق بهما، كالرجوع في العدة. لعدم وجود فعل يكون مصداقاً لمثل الطلاق والعتق ونحوها، فإن إلقاء القناع علي الزوجة وإخراج العبد من الدار وأمثال ذلك من الأفعال ليست مصداقاً للطلاق والعتق، بل هي من آثارهما. حيث يظهر وهنه مما سبق.

ولاسيما مع ظهور اتفاقهم علي الاكتفاء بالإشارة مع تعذر اللفظ. لوضوح أن

ص: 106

(107)

(مسألة 11): في قبول البيع المعاطاتي للشرط - سواء أكان شرط خيار في مدة معينة، أم شرط فعل (1) أم غيرهما (2) - إشكال (3). وإن كان

---------------

ذلك فرع صلوح الإشارة لإبراز المضمون العقدي والإيقاعي.

بل لو تعذر وقوع العقد والإيقاع بترتيب آثارهما لما حصلت المعاطاة في كثير مما يتعارف وقوعها به، لوضوح أن تسليم المبيع من آثار البيع، وآثار إجازته لو كان فضولياً. كما أن الامتناع من تسليمه من آثار الفسخ، لو كان جائزاً، وتقبيل الزوجة من آثار الرجوع بها... إلي غير ذلك.

ومنها: القرض. حيث قد يستشكل في حصوله بالمعاطاة بأن القبض شرط في القرض، فلو تحقق به عقده لزم اتحاد المقتضي والشرط، وهو محال، لفرض تعددهما، واختلاف نحو تأثيرهما.

وفيه: أولاً: أن مرجع اتحاد المقتضي والشرط إلي كون المقتضي من القوة بنحو لا يحتاج تأثيره في المعلول للشرط، وهو ليس محذوراً. مثلاً إرادة الضعيف للدخول لا يترتب عليها الدخول إلا بشرط فتح الباب له، أما إرادة القوي، فهي لا تحتاج إلي ذلك، بل هي تقتضي فتحه الباب ودخوله.

وثانياً: أن المقتضي في المقام ليس هو القبض، بل الالتزام العقدي المبرز به، والشرط هو القبض بنفسه.

وثالثاً: أنه لو تم امتناع اتحاد الشرط مع المقتضي في الأمور الحقيقية فلا مجال لذلك في الأمور الاعتبارية، لأنها تابعة لاعتبارها ممن له الاعتبار، وليست أسبابها إلا موضوعات لاعتباره، وله أن يعتبر كيف شاء.

(1) كما لو باعه الثوب بدينار بشرط أن يصوم عن أبيه عشرة أيام.

(2) كما لو اشترط تأجيل الثمن شهراً، أو أن للبايع منفعة المبيع إلي سنة.

(3) كأنه لعدم السنخية بين العقد والشرط.

ص: 107

(108)

القبول لا يخلو من وجه. فلو أعطي كل منهما مالاً إلي الآخر قاصدين البيع، وقال أحدهما في حال التعاطي: جعلت لي الخيار إلي سنة مثلاً، صحّ شرط الخيار، وكان البيع خيارياً.

(مسألة 12): لا يجوز تعليق البيع (1) علي أمر غير حاصل حين العقد، سواءً أعلم حصوله بعد ذلك، كما إذا قال: بعتك إذا هلّ الهلال، أم جهل حصوله، كما إذا قال: بعتك إذا ولد لي ولد ذكر، ولا علي أمر مجهول الحصول حال العقد، كما إذا قال: بعتك إن كان اليوم يوم الجمعة، مع جهله بذلك.

---------------

وفيه: أولاً: أنه لا دليل علي اعتبار وحدة السنخ بينهما بعد شمول إطلاقات العقود والشروط لهما.

ثانياً: أن الشرط والعقد من سنخ واحد، لأنهما متقومات معاً بالالتزام، واختلافهما في المبرز للالتزام المذكور لا يوجب اختلافهما سنخاً.

وثالثاً: أن الشرط قد لا يكون لفظياً، بل معاطاتياً كالعقد، كما لو اتفقا قبل إيقاع المعاملة علي إيقاع المعاملة ذات الشرط الخاص، ثم قصد بالتعاطي إيقاع المعاملة المتفق عليها بشرطها.

وربما يكون منشأ الإشكال هو أن لزوم الشرط لا يناسب جواز المعاملة المعاطاتية التي وقع فيها، كما سبق منه (قدس سره). لكنه يندفع بأن المراد بلزوم الشرط لزومه مادامت المعاملة نافذة، لا لزومه مطلقاً، كي لا يناسب جواز المعاملة. ولذا لا إشكال في نفوذ البيع اللفظي وشروطه اللفظية من حين وقوعه، وإن كان جائزاً قبل افتراق المتبايعين.

(1) فقد صرح غير واحد باشتراط التنجيز في البيع، بل في جميع العقود، بل الظاهر الإجماع عليه، كما ادعاه غير واحد. فإنهم وإن لم يذكروه هنا، إلا أن ظاهرهم في

ص: 108

الوكالة المفروغية عنه في البيع وغيره من العقود اللازمة، وأن تعرضهم له في الوكالة للتنبيه علي الفرق بين تعليق نفس الوكالة وتعليق الأمر الموكل فيه، وأن الممنوع هو الأول دون الثاني، لعدم كونه عقداً، لا لخصوصية في الوكالة تقتضي اعتبار التنجيز فيها. بل اعتبارهم له فيها يقتضي اعتبارهم له في العقود اللازمة بالأولوية، لما هو المعلوم من تساهلهم في العقود الجائزة بما لا يتساهلون به في العقود اللازمة.

ومن ثم كان الظاهر الإجماع علي بطلان التعليق في العقود، بل حتي الإيقاعات، إلا ما استثني كالوصية التمليكية والتدبير. والتشكيك في ذلك من مثل الأردبيلي والسبزواري، والمنع منه في الوكالة من مثل المحقق القمي - فيما حكي عن جامع الشتات - لا يقدح في الإجماع، لأن المعيار فيه قدماء الأصحاب، دون من ظهر في العصور المتأخرة، وبني أمره علي التدقيق في الأدلة.

هذا والتعليق: تارة: يكون علي ما يتوقف عليه صحة العقد أو الإيقاع، كبلوغ الموقع للعقد والإيقاع، وملكية البايع للمبيع، وزوجية المطلق للمطلقة. وأخري: يكون علي أمر لا يتوقف عليه الصحة. ومحل كلامهم هو الثاني. أما الأول: فقد صرح غير واحد في غير مورد بعدم مبطلية التعليق عليه للعقد والإيقاع لو فرض تحققه.

كما أن الثاني: تارة: يكون علي أمر حالي. وأخري: يكون علي أمر استقبالي. وكل منهما: تارة: يعلم حين العقد حصوله. وأخري: لا يعلم حين العقد حصوله. فالصور أربعة. والمصرح به في كلام غير واحد جواز التعليق علي الحالي المعلوم الحصول، وأن المنع إنما يكون في الصور الثلاث الباقية.

إذا عرفت هذا فقد يستدل علي اعتبار التنجيز في العقد والإيقاع بوجوه:

الأول: ما يستفاد من محكي كلام الشهيد (قدس سره) في القواعد من أن ترتب الأثر علي الإنشاء إنما هو من أجل تحقق الرضا به، ولا رضا إلا مع الجزم، والجزم ينافي التعليق.

وفيه: أولاً: أن التعليق إنما يكشف عن عدم إطلاق الرضا وعن تقييده بحال

ص: 109

وجود الأمر المعلق عليه، لا عن عدم الرضا بالمضمون المنشأ رأساً. ولولا ذلك لامتنع التعليق علي ما يتوقف عليه صحة المضمون المنشأ، مع أنه (قدس سره) قد اعترف - كغيره - بعدم قادحيته. بل ثبت التعليق في بعض الأمور - كالوصية التمليكية والتدبير - مع وضوح توقفها علي الرضا.

وثانياً: أن ذلك لا يجري في التعلق علي الأمر المستقبل المعلوم الحصول، لوضوح أن العلم بحصول المعلق عليه يستلزم الجزم بجعله - تبعاً للرضا به - في وقته. وأما ما ذكره من أن الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه. فهو كما تري، ضرورة أنه لا معني لعموم المنع مع قصور دليله عن بعض الصور. مع أنه لو بني علي ذلك لزوم المنع من التعليق مطلقاً، وقد عرفت عدم بنائهم علي ذلك.

ومنه يظهر الإشكال في دعوي: أن المعتبر الجزم بلحاظ مضمون الكلام، والكلام المعلق لا يتضمن الجزم، لأن الشرطية لا تقتضي فعلية مضمونها، وإن أمكن الجزم بفعليته من الخارج.

وجه الإشكال أن الدعوي المذكورة لا تناسب البناء علي الصحة مع التعليق في بعض الموارد كما سبق. علي أنه لا شاهد عليها، فإن دليل السلطنة إنما يقتضي إعمالها في المضمون العقدي أو الإيقاعي بأي وجه فرض، بحيث يكون ترتبه مستنداً لها، وهو حاصل مع التعليق.

الثاني: ما في الجواهر في مبحثي الوقف والوكالة من أن المستفاد مما دل علي تسبيب العقود مقارنة ترتب مسبباتها لها.

وفيه: أن أدلة تسبيب العقود ليست إلا أدلة نفوذها، وهي تقتضي نفوذها علي النحو الذي أنشئت به منجزة أو معلقة. وعدم ترتب المسبب علي المعلق قبل حصول ما علق عليه لعدم تمامية موضوعه، لا لانفصال المسبب عن السبب. فهي نظير أدلة الوفاء بالنذر التي لا مجال فيها لتوهم أن مقتضي تسبيب النذر لمضمونه اتصاله به، بحيث يقصر عن النذر المعلق.

ص: 110

علي أن الوجه المذكور - لو تم - يقصر عما إذا كان الشرط مقارناً مشكوك الحصول. وأما ما قد يظهر منه (قدس سره) من أن الوجه في منعه حينئذٍ الشك في تناول الإطلاقات له. فإن أراد به انصراف الإطلاقات عنه. فهو - لو تم - بدوي لا يعتد به. وإن أراد به احتمال تقييدها فيه فهو لا يكفي في رفع اليد عنها.

الثالث: ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) واستوضح بطلانه من عدم قابلية الإنشاء للتعليق.

والوجه في بطلانه: أن المراد بالإنشاء إن كان هو المعني المصدري، فهو وإن لم يقبل التعليق، لأنه فعل خارجي متقوم بصدور الكلام بالنحو الخاص، كسائر الأمور الخارجية، التابعة لأسبابها التكوينية، والتي لا معني للتعليق فيها.

إلا أن الكلام ليس فيه، بل في المضمون المنشأ، كالبيع والتمليك والنكاح وغيرها من مضامين العقود والإيقاعات، ولا ريب في قابليتها للتعليق علي أمور خارجة عنها، بحيث تكون منوطة بها، بل وقع ذلك في جملة منها، كما سبق.

ومن هنا كان الظاهر انحصار الدليل عليه بالإجماع الذي لا إشكال في كشفه عن رأي المعصومين (عليهم السلام) في بعض الأمور، كالعتق والوقف والصدقة والطلاق، لأن ظهور جواز التعليق فيها عند العامة في عصور المعصومين (عليهم السلام) - حتي كانت من الأيمان الشايعة عندهم - لا يناسب خفاء حكمهم (صلوات الله عليهم) في ذلك علي شيعتهم حتي أطبقوا علي المنع فيها. ولاسيما مع اعتضاد الإجماع فيها بالنصوص الحاكمة بعدم نفوذه فيها(1).

وحتي مثل البيع والإجارة، فإنه لو أمكن التعليق فيها لأمكن التوثق بذلك لتنفيذ الوعود والعهود. بل ربما أمكن إيقاع العقود والإيقاعات عند فقد شروطها معلقاً علي تحقق تلك الشروط، كبيع ما ليس مملوكاً معلقاً علي ملكه بشراء أو إرث أو غيرهما، وبيع المجهول معلقاً علي معرفته، وزواج المرأة المزوجة أو ذات العدة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور، وج: 16 باب: 11، 18، 45، من أبواب كتاب الإيمان.

ص: 111

(112)

أما مع علمه فالوجه الجواز (1).

(مسألة 13): إذا قبض المشتري ما اشتراه بالعقد الفاسد وجب عليه رده إلي البايع (2).

---------------

معلقاً علي خروجها عن عصمة زوجها، وطلاق الحائض معلقاً علي طهرها، وغير ذلك. حيث قد يستظهر من أدلة الشروط كونها شروطاً حين فعلية المشروط، لا حين إنشائه بنحو معلق. ولا أقل من احتمال ذلك، بنحو لو كان التعليق مشروعاً لكثر السؤال عنه تبعاً للحاجة له، فإهمال السؤال عن ذلك يناسب سدّ هذا الباب، كسدّ باب التوثق لتنفيذ الوعود والعهود. وهو مناسب لكون إطباق الأصحاب (رضي الله عنهم) علي امتناع التعليق مطابقاً للواقع. ومن ثم لا ينبغي التأمل في الاستدلال علي مانعية التعليق في الجملة بالإجماع.

إلا أن الإشكال في استفادة عموم المنع عنه من الإجماع وغيره، خصوصاً في العقود المستحدثة التي لم تكن معروفة ببين الأصحاب، بل يتعين الاقتصار علي المتيقن منه، وتحديده في غاية الإشكال. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) قال في القواعد في تقريب جواز تعليق البيع علي ملك المبيع: (لأنه أمر واقع يعلمان وجوده، فلا يضر جعله شرطاً. وكذا كل شرط علما وجوده، فإنه لا يوجب شكاً في البيع ولا وقوفه). ووافقه عليه في جامع المقاصد ومحكي المسالك وغيره. ومن ثم لا ينبغي الإشكال فيه بعد قصور الإجماع علي المنع من التعليق عنه.

(2) لأنه باق علي ملكه بعد فرض بطلان البيع، فوضع اليد عليه من دون إذنه مناف لسلطنته ولحرمة ماله. ودعوي: أن الإذن الضمني المستفاد من العقد الفاسد كاف في جواز حبس المال والتصرف فيه. مدفوعة بأن العقد إنما يتضمن البيع والتمليك، دون الإذن بالتصرف في المبيع وحبسه، وترتب جواز تصرف المشتري وحبسه عليهما شرعي بمقتضي سلطنة الإنسان علي ماله، من دون أن يكون مأذون

ص: 112

وإذا تلف - ولو من دون تفريط - وجب عليه ردّ (1)

---------------

فيه من قبل البايع، فمع بطلان العقد وعدم حصول البيع والتمليك لا وجه لجواز التصرف والحبس.

(1) لأنه قد وضع يده عليه بلا حق بسبب فساد العقد، فتكون يده عليه مضمنة له. بخلاف ما لو كان وضع يده عليه بحق، فإنها لا تكون مضمنة، وتوقف الضمان علي الإتلاف أو التفريط، كما في اليد الأمانية.

قال في المبسوط في فرض شراء المبيع بالبيع الفاسد: (وإذا ثبت أن البيع فاسد نظر، فإن كان المبيع قائماً أخذه مالكه، وهو البايع الأول، سواء وجده في يد المشتري الأول أو المشتري الثاني، لأنه ملكه لا حق لغيره فيه. وإن كان تالفاً كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما، لأن الأول لم يبرأ بتسليمه إلي الثاني، لأنه سلمه بغير إذن صاحبه، والمشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع)(1) ، وقال في موضع آخر منه:

(فهو مضمون عليه، لأنه في يده ببيع فاسد، والبيع الصحيح والفاسد مضمون عليه إجماعاً) (2) .

هذا وثبوت الضمان في المقام وفي جميع موارد وضع اليد من دون حق هو المصرح به في كلماتهم بنحو يظهر منهم الاتفاق عليه، بل عن غير واحد دعوي الإجماع عليه في البيع وغيره، مثل ما سبق من المبسوط. وفي كتاب الغصب من المسالك: أنه موضع وفاق، وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده فيه بل هو المعروف من مذهب الأصحاب)، وعن غصب الكفاية أنه مقطوع به في كلام الأصحاب.

وقد استدل عليه - بعد الإجماع المذكور - بأمور:

الأول: النبوي المشهور - كما في مفتاح الكرامة ومكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره) -:

(علي اليد ما أخذت حتي تؤدي)، أو: (حتي تؤديه).

********

(1) المبسوط ج: 2 ص: 150، 204.

(2) المبسوط ج: 2 ص: 150، 204.

ص: 113

(114)

والكلام: تارة: في سنده. وأخري: في دلالته.

أما السند فلا ريب في ضعفه، لعدم روايته من طرقنا، وإنما ذكر مرسلاً في كتب الفقه، ولم ينقل عن كتب الحديث لأصحابنا إلا عن عوالي اللآلي المعلوم عدم تقيد صاحبه بنقل الأحاديث المعتبرة، بل ولا خصوص أحاديث أصحابنا (رضوان الله تعالي عليهم).

والظاهر أنه عبارة عما روي في أصول العامة بطرقهم عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:

(علي اليد ما أخذت حتي تؤديه) (1) . ومن المعلوم عدم التعويل علي الطرق المذكورة عندنا. ولاسيما مع ما هو المعلوم من حال سمرة بن جندب من ردّه علي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في حديث لا ضرر، وعدائه لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت، وموالاته لأعدائهم، وقيامه بالموبقات العظام.

نعم، قد يدعي انجباره بعمل الأصحاب، وقبولهم له خلفاً عن سلف، بلا نكير منهم، حتي ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أنه معمول به عند الفريقين.

لكن الإنجبار بعمل الأصحاب إنما هو من أجل كشف عملهم عن اطلاعهم علي قرائن تشهد بصدور الحديث أو حجيته. وذلك إنما يتجه في الحديث الذي يرويه أصحابنا في أصولهم، لإمكان اطلاعهم علي قرائن تشهد بصدوره، كأخذه من كتب معتمدة متسالم علي الرجوع إليها في عصور الأئمة (عليهم السلام)، أو اطلاعهم علي وثاقة روايته - ولو حين روايته له - وإن لم يوثقه علماء الرجال، أو نحو ذلك. ولا مجال لذلك في مثل الحديث المتقدم مما لم يروه إلا العامة، وبطريق مظلم في منتهي الضعف.

علي أنه ربما يكون استدلال بعضهم به غفلة عن أصله، وبتخيل كونه من رواياتنا، أو مجاراة للعامة واستدلالاً عليهم برواياتهم، مع كون الدليل عنده أمراً آخر، كما يظهر من الشيخ (قدس سره) في الخلاف، حيث ذكره في المسألة العشرين والثانية والعشرين من كتاب الغصب، مؤكداً للأصل الذي استدل به لردّ بعض أقوال العامة،

********

(1) سنن البيهقي ج: 6 ص: 90 من كتاب العارية. كنز العمال ج: 5 ص: 257.

ص: 114

مع أنه لو كان بنظره حجة كافية لكان المناسب له ذكره قبل الأصل.

كما ربما تكون مطابقته للمرتكزات العقلائية هي التي أوجبت غض النظر عن سنده، إما لثبوت مضمونه علي كل حال، أو لكون المرتكزات المذكورة قرينة علي صحته عند بعضهم، حيث ذكروا أن من جملة قرائن صحة الخبر مطابقته لمقتضي العقول. وإن كان التحقيق أن ذلك قرينة علي صحة مضمونه، لا صحته في نفسه.

نعم، ربما يظن بصحته في مثل المقام بضميمة رفعة أسلوب بيانه، واستبعاد الداعي لاختلاقه. وإن كان في بلوغ ذلك حداً ينهض بالحجية إشكال أو منع. وعلي كل حال لا مجال لدعوي انجبار ضعفه بعمل الأصحاب في المقام.

وأما الدلالة فمن الظاهر أن جعل المأخوذ علي اليد لا يراد به إلا جعله علي صاحبها، لأنه هو القابل لأن يكون طرفاً للإضافة الاعتبارية الخاصة التي هي مفاد (علي).

ويظهر من استدلال الأصحاب بالحديث بناؤهم علي أن مرجع جعل المأخوذ علي الآخذ كونه في عهدته وذمته، وأن مقتضي ذلك ضمانه له، وتحمله لدركه.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(والخدشة في دلالته بأن كلمة (علي) ظاهرة في الحكم التكليفي، فلا يدل علي الضمان. ضعيفة جداً، فإن هذا الظهور إنما هو إذا أسند الظرف إلي فعل من أفعال المكلفين، لا إلي مال من الأموال، كما يقال: عليه دين. فإن لفظة (علي) حينئذٍ لمجرد الاستقرار في العهدة، عيناً كان أو ديناً) .

لكن جعل الشيء في العهدة لا يقتضي ضمان دركه أو نقصه، وإنما يقتضي لزوم أدائه وحفظه مقدمة لذلك.

وبعبارة أخري: لا فرق بين العمل والعين في كون جعلهما علي الشخص يقتضي كونهما في عهدته وضمانه، بحيث يكون مسؤولاً عنهما، وليس مقتضي المسؤولية بالشيء إلا أداؤه، لا ضمان دركه ولذا استدل به الشيخ (قدس سره) في المسألتين السابقتين من الخلاف وابن إدريس في السرائر علي وجوب أداء المغصوب، لا علي ضمانه ببدله.

ص: 115

نعم، لو كان المضمون هو النقص أو التلف، فحيث لا معني لأدائه يتعين كون مقتضي ضمانه تداركه ببدله من مثله أو قيمته، كما في قوله في صحيح أبي ولاد: (أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم...)(1).

وبالجملة: لا مجال للاستدلال بالحديث علي ضمان درك المأخوذ، بحيث يجب دفع بدله من المثل أو القيمة.

نعم، بعد المفروغية - من الخارج وبدليل آخر - عن كون المسؤولية بالمال تقتضي ضمان دركه، فما تضمنه الحديث من كون مسؤولية المأخوذ علي آخذه يستلزم كون دركه عليه. ولعل ذلك هو الذي جعل الأصحاب يستدلون بالحديث علي ضمان الدرك. لكن ذلك يرجع للاستدلال بالحديث علي تعيين من عليه مسؤولية المال، بحيث يكون عهدته، لا علي تحديد مفاد المسؤولية وسعتها، بحيث تشمل ضمان الدرك.

إن قلت: جعل الأداء غاية للضمان يناسب كون المراد بالضمان ما يعم تحمل الدرك، إذ لو أريد بضمان المأخوذ كونه بنفسه مورداً للمسؤولية، بحيث لا يجب إلا أداؤه كان الأداء غاية له عقلا، لارتفاع الموضوع به، نظير ما ذكروه من إجزاء امتثال الأمر الواقعي، بخلاف ما لو كان المراد به ما يعم تحمل الدرك، فإن الأداء يكون غاية له شرعاً، حيث يمكن عقلاً بقاء المأخوذ مضموناً ببدله حتي بعد أدائه بعينه. وحمل الغاية علي كونها شرعية هو الأنسب بالبيان الشرعي.

قلت: لما كان ظاهر جعل الشيء في الذمة هو لزوم أدائه بنفسه فالغاية لا تصلح قرينة علي حمله عن ضمان دركه، بل يتعين حملها علي كونها غاية عقلية.

نعم، لو كان جعله في الذمة مردداً بين الأمرين، وصالحاً لكل منهما، لم يبعد صلوح الغاية للقرينة علي ترجيح ضمان الدرك، لما ذكر من أن حملها علي الغاية الشرعية أنسب بالبيان الشرعي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1.

ص: 116

(117)

الثاني: عموم قاعدة السلطنة. فإنا وإن لم نعثر علي ما يدل عليه من النصوص غير المرسل عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:

(الناس مسلطون علي أموالهم) (1) ، وهو لإرساله لا ينهض بالاستدلال، إلا أنه يكفي في الدليل عليه المرتكزات العقلائية القطعية.

وكيف كان فقد استدل به في الجواهر. ويظهر منه أن وجه الاستدلال به عمومه للأموال التالفة، ومقتضي السلطنة عليها جواز المطالبة بها، وحيث يتعذر إرجاعها يتعين الانتقال لبدلها وتحمل دركها.

وفيه: أنه لا موضوع للسلطنة مع التلف. مع أن تعين صاحب اليد ليكون هو المطلوب بها يحتاج إلي دليل. نعم لو ثبت بدليل آخر سببية اليد للضمان، كان مقتضي الدليل المذكور ملكية صاحب المال التالف ببدله في ذمة صاحب اليد، فيكون مقتضي سلطنته علي ماله جواز مطالبته به. فعموم قاعدة السلطنة للمورد متفرع علي ضمان اليد، لا أنه مثبت له.

الثالث: ما دل علي عدم حلّ مال المسلم إلا بطيبة نفسه، مثل ما رواه زيد الشحام في الصحيح وسماعة في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) من خطبة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بمني في حجة الوداع، وفيها قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من أتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه) (2) .

بدعوي: أن المراد من عدم حلّ المال حرمته وضعاً بضمانه، لا حرمته تكليفاً الراجعة لحرمة التصرف فيه، لأن الحرمة التكليفية لا تناسب عطف المال علي الدم، الذي لا مجال لحمل عدم الحلّ فيه علي التكليف، لوضوح عدم حلّه حتي بطيب النفس، بل يتعين حمل عدم الحلّ فيه علي الضمان، لأنه يرتفع بطيب النفس والإبراء، لجواز العفو عن القاتل.

وفيه: أولاً: أن حمل عدم حل المال والدم علي ضمانهما غير مألوف ولا مقبول

********

(1) الخلاف ج: 1 ص: 223، وبحار لأنوار ج: 2 ص: 272.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

ص: 117

عرفاً خصوصاً بعد سوقه تعليلاً للأمر بأداء الأمانة، الظاهر في كونه تكليفياً. وحمله علي الإرشاد للتخلص من الضمان بعيد جداً. كما أنه لو حمل عدم حلّ الدم علي ضمانه فهو لا يرتفع بطيب نفس صاحب الدم - كما هو ظاهر لحديث بدواً - بل ولا بطيب نفس وارثه. غايته أن لوارثه العفو، وهو من سنخ إسقاط الضمان، لا من سنخ المانع منه، بنحو يجعل الدم غير مضمون وحلالاً وضعاً بالمعني المذكور.

ومن هنا لا مخرج عن ظهور عدم الحلّ في المال والدم معاً في كونه تكليفياً، ولابد لأجل ذلك من إرجاع الاستثناء بطيب النفس، إلي خصوص المال الذي هو الأقرب، أو إلي الدم أيضاً، لكن مع القصور عن التصرف المتلف، والاقتصار علي غيره، كالحجامة والفصد، وسائر التصرفات البدنية غير القاتلة، حيث لا منع من البناء علي حلّها بطيب نفس من توقع به.

وثانياً: أن الحديث لو نهض بإثبات كون المال مضموناً فهو لا ينهض ببيان أن الموجب لضمانه اليد، بل لعل الموجب له خيانة الأمانة بحبسها، لا مطلق اليد، كما هو محل الكلام.

الرابع: ما دل علي حرمة مال المسلم، كموثق أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه) (1) . إما لأن مقتضي الحرمة الضمان، لأن ذهابه هدراً ينافي حرمته، أو لأنه مقتضي تشبيه حرمة المال بحرمة الدم الذي لا إشكال في ضمانه.

وفيه: أولاً: أن الحرمة كما تكون بالضمان تكون بتحريم الاعتداء تكليفاً. بل لعل الثاني أقرب. ولاسيما بلحاظ سياق الفقرات السابقة. وليسا هما فردين للحرمة، كي يكون مقتضي إطلاقها الحمل عليهما معاً، بل كل منهما مصحح لنسبة الحرمة للأعيان. ويكفي فيها أحدهما، من دون حاجة لإرادة الجامع بينهما. بل لعل الجامع بينهما غير عرفي ليمكن الحمل عليه. ولا أقل من كون المتيقن في المقام الحرمة التكليفية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 158 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3.

ص: 118

وثانياً: أنه لا ينهض بتعين منشأ الضمان، وأنه اليد أو الإتلاف أو غيرهما. ولعل الأنسب الحمل علي الإتلاف، لأنه الأقوي ارتكازاً. ولاسيما بقرينة الدم، حيث لا يضمن باليد، بل بالإتلاف أو التفريط الملحق به.

الخامس: قاعدة نفي الضرر، لدعوي أن عدم ضمان المال التالف مستلزم للضرر في حق صاحبه.

وفيه: أن القاعدة المذكورة إنما تنهض برفع الأحكام الضررية، ولا تنهض بتشريع الحكم الذي يتدارك به الضرر، كالضمان في المقام. ولاسيما وأن تضمين صاحب اليد ضرر عليه أيضاً، فيكون منافياً للامتنان في حقه. إلا أن يثبت سقوط حرمته بمجرد وضع يده علي المال من دون أن يكون متلفاً له، وهو عين المدعي.

السادس: النصوص المتضمنة أنه لا يصلح ذهاب حق أحد، كصحيح الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(سألته هل تجوز شهادة أهل ملة من غير ملتهم ؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملتهم جازت شهادة غيرهم. إنه لا يصلح ذهاب حق أحد) (1) ، ونحوه غيره.

وفيه: أن النصوص المذكورة - مع قصورها عن بيان من عليه الضمان - واردة لبيان عدم ذهاب الحق إثباتاً بعد الفراغ عن استحقاقه ثبوتاً، وهو أجنبي عما نحن فيه من الكلام في ثبوت سببية اليد للضمان ثبوتاً. نعم لا ريب في أن المال كالدم لا يذهب هدراً من دون ضمان. إلا أن ذلك إنما يكون بعد الفراغ عن تحقق سبب الضمان، كالإتلاف، لا مع الشك في سببية شيء للضمان، كاليد في المقام.

السابع: دعوي بناء العقلاء علي الضمان باليد، وأن وضع اليد علي ملك الغير بلا حقّ مقتض لضمانه بمقتضي المرتكزات العقلائية. وهو إن كان قد يخفي بسبب صعوبة الحكم وثقل الالتزام به، خصوصاً في موارد الجهل بعدم الاستحقاق، لتخيل مانعية العذر الرافع للعقاب من الضمان، إلا أن التأمل في المرتكزات العقلائية مجرد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 20 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 3.

ص: 119

(120)

عن الاستبعاد والعاطفيات قاض به، لأن حرمة المال تناسب مسؤولية من يضع يده عليه به لصاحبه.

ويظهر من جملة من النصوص الجري علي ذلك، مثل ما تضمن أن من أستعار عارية بغير إذن صاحبها ضمن(1) ، وما تضمن أن من تجاوز بالعين المستأجرة العمل المستأجر عليه ضمن(2). بل قد يظهر المفروغية عن ذلك من قوله في صحيح أبي ولاد المتقدم: (أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم...)(3). لظهور أن تجاوز الشرط لا يزيد عن كونه تصرفاً في المال وأخذاً له بلا حق.

وأظهر من ذلك ما تضمن تعليل عدم ضمان من بيده المال إذا أخذه بإذن المالك بأنه أمين، كموثق غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(إن أمير المؤمنين أتي بصاحب حمام وضعت عنده الثياب، فضاعت فلم يضمنه، وقال: إنما هو أمين) (4) . فإن تعليل عدم ضمانه بأنه أمين ظاهر في أن من شأن صاحب اليد الضمان لولا الاستئمان، وأن الاستئمان هو الرافع للضمان، ولو لم تكن اليد مقتضية للضمان لم يكن للاستئمان أثر في رفع الضمان، ولم يحسن التعليل به.

ويؤيد ذلك كله ظهور اتفاق الأصحاب علي ضمان اليد، حيث يقرب كون منشئه الارتكاز المذكور، وإن لم يتوجهوا له تفصيلاً ليذكروه في مقام الاستدلال، وأن الاستدلالات والتعليلات التي تضمنتها كلماتهم أشبه بالتعليل بعد الورود والمفروغية عن ثبوت المدعي. ومن ثم كان هذا الوجه لا يخلو عن قوة، وكان البناء علي الضمان من أجله قريباً جداً.

هذا وقد يستدل علي الضمان في خصوص المقبوض بالمعاوضة الفاسدة - كالبيع والإجارة وغيرهما - بوجهين:

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب كتاب العارية.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الإجارة.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 28 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1

ص: 120

الأول: بعض نصوص الجارية المسروقة، كموثق جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يشتري الجارية من السوق، فيولدها، ثم يجيء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد. ويرجع علي من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه)(1).

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فإن ضمان الولد بالقيمة - مع كونه نماء لم يستوفه المشتري - يستلزم ضمان الأصل بطريق أولي. وليس استيلادها من قبيل إتلاف النماء، بل من قبيل إحداث نمائها غير قابل للملك، فهو كالتالف، لا المتلف. فافهم) . وفيه: أنه لا طريق لإحراز أن ضمان قيمة الولد بملاك ضمان اليد للجارية، ليدل علي ضمانها بالأولوية.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من انحصار سبب الضمان في اليد والإتلاف والتسبيب، وأن الأخيرين منتفيان، لتوقفهما علي سبق ملكية الولد، ولا يكفي وجوده بنحو لا يكون معه مملوكاً.

ففيه: أنه لا دليل علي انحصار الضمان بالأسباب الثلاثة، فليكن الضمان في المقام بسبب تعبدي رابع. ولو سلم الانحصار المذكور فضمان اليد يختص أيضاً بما إذا كان المضمون مملوكاً للمضمون له. ومن هنا لم يكن إلحاق ضمان الولد بضمان اليد مع عدم سبق ملك صاحب الجارية له بأولي من إلحاقه بضمان الإتلاف. بل لعل الثاني أقرب عرفاً، لاستناد عدم تملك صاحب الجارية للولد لفعل المشتري، فهو يشبه الإتلاف.

وعلي كل حال لا طريق لإحراز أن ضمان قيمة الولد بملاك ضمان اليد للجارية، كما ذكرنا. ولاسيما وأن الظاهر ثبوته حتي في مورد عدم اليد، كما يناسبه إطلاق ما تضمن أنه إذا وقع علي الجارية أكثر من واحد، فجاءت بولد أقرع بينهم، فمن خرج سهمه ألحق الولد به، ولزمه قيمته لصاحب الجارية، فإن كان شريكاً فيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبوب نكاح العبيد والإماء حديث: 5

ص: 121

دفع لشركائه من قيمة الولد بنسبة حقهم فيها(1). فإن إطلاقه يعمّ ما إذا لم يكن الواطئ صاحب يد علي الجارية.

وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، ويرد قيمة الولد علي صاحب الجارية. قال: فإن اشتري رجل جارية، وجاء رجل فاستحقها، وقد ولدت من المشتري ردّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته) (2) . والمنساق منه أن الحكم في الذيل وإن كان وارداً في المقبوض بالعقد الفاسد، إلا أنه بنفس ملاك الحكم الوارد في الصدر، الذي لم يفرض فيه ذلك.

أما لو تم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) فاللازم البناء علي ضمان صاحب اليد لقيمة الولد وإن لم يكن هو المستولد، كما لو وطأ الجارية المسروقة أو المقبوضة بالعقد الفاسد غير صاحب اليد شبهة، فيكون ضمان الولد علي صاحب اليد، لا علي أبيه الواطئ، وهو مما تأباه النصوص جداً. بل مقتضي ما ذكره ضمان صاحب اليد لنماءات العين إذا لم تكن بنفسها تحت يده، تبعاً لضمان العين باليد، ولا يظن منه ولا من غيره البناء علي ذلك.

الثاني: أن المتعاقدين قد أقدما علي الضمان بالعوض المسمي، فإذا لم يسلم المسمي يتعين الرجوع للمثل والقيمة. وقد تكرر الاستدلال بذلك من الشيخ (قدس سره) في المبسوط، وتبعه غير واحد، منهم الشهيد في المسالك.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(وهذا الوجه لا يخلو عن تأمل، لأنهما إنما أقدما وتراضيا وتواطئا بالعقد الفاسد علي ضمان خاص، لا الضمان بالمثل أوالقيمة، والمفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاص، ومطلق الضمان لا يبقي بعد انتفاء الخصوصية، حتي يتقوم بخصوصية أخري) .

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 122

وزاد سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه، فقال:

(لو فرض إقدامهما علي الضمان بالمثل أو القيمة - كما لو باعه بمثله أو بقيمته - لم يجد ذلك في ضمانه بعد كون المفروض فساد العقد وعدم ترتب أثر عليه، فالإقدام علي الضمان إذا لم يمضه الشارع الأقدس ليس من أسباب الضمان مطلقاً، فلا تتم دعوي كونه من أسباب الضمان) .

بل لا أثر للإقدام المذكور حتي لو فرض انحلاله إلي أمرين الإقدام علي الضمان مطلقاً، والإقدام علي الضمان بالعوض المسمي، إذ بعد فرض فساد العقد وعدم ترتب الأثر عليه لا أثر لكلا الإقدامين اللذين يتضمنهما.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) حاول توجيه ما ذكره الشيخ (قدس سره) بأن الإقدام بنفسه ليس علة تامة للضمان، بل هو متمم لسبب الضمان، الذي هو الاستيلاء علي مال الغير من دون تسليط مجاني من المالك، لقيام سيرة العقلاء القطعية علي سببية ذلك الضمان.

أقول: إن كان مراده أن سبب الضمان مركب من أمور ثلاثة: الاستيلاء، وعدم التسليط المجاني من المالك، وإقدام المستولي علي الضمان، فلو وجد الأولان دون الأخير فلا ضمان، كما لو دفعه المالك علي أنه مبيع وأخذه الآخذ علي أنه هبة، أو أخذه هبة من الغاصب بتخيل أنه المالك.

فالظاهر أنه لا يمكن البناء علي ذلك كيف ؟! والمنساق من كلماتهم بيان شرط ضمان المأخوذ حتي مع التلف مع وضوح أن ضمان التلف لا يتوقف علي إقدام المتلف علي الضمان. علي أن مقتضاه عدم البناء علي الضمان إلا بعد إحراز الإقدام عليه، وهو لا يناسب النصوص المتضمنة أنه إذا اختلف المالك ومن عنده المال في أن المال دين أو وديعة، فالقول قول المالك المدعي للدين، ما لم تثبت الوديعة(1).

وإن كان مراده أن سبب الضمان هو الاستيلاء وعدم التسليط المجاني، وأن ذكر الإقدام علي الضمان لملازمته لعدم كون التسليط مجانياً. رجع ذلك إلي أن منشأ الضمان

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 18 من أبواب الرهن، وباب: 7 من كتاب الوديعة.

ص: 123

مثله إن كان مثلياً (1)

---------------

هو اليد، وابتني علي ما سبق الكلام فيه من عموم ضمانها. غاية الأمر أن إقدامهما علي التسليط والتسلط المجاني مانع من مضمنية اليد. وقد حمل شيخنا الأعظم (قدس سره) بالآخرة كلام الشيخ (قدس سره) علي ذلك. ولا يبعد كونه مراد بعض مشايخنا (قدس سره). وعليه لا أثر للإقدام علي الضمان في ترتبه، بل يتسبب عن اليد المصاحبة له، كما لا يخفي.

وبذلك يظهر أن مفروغية الأصحاب علي الضمان في مورد الإقدام مبنية علي الارتكاز الذي أشرنا إليه في وجه ضمان اليد، ويكون من جملة مؤيداته.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، وفي الرياض أنه لا خلاف فيه، وفي جامع المقاصد وعن ظاهر كشف الرموز الإجماع عليه، وعن الشهيد في غاية المراد: (أطبق الأصحاب علي ضمان المثلي بمثله. إلا ما يظهر من ابن الجنيد، فإنه قال: إن تلف المضمون ضمن قيمته، أو مثله إن رضي صاحبه). قال:

(ولعله يريد القيمي) .

وقد يستدل علي ذلك بوجوه:

الأول: الإجماع المدعي ممن عرفت، المؤيد بكثرة من تعرض لذلك من الأصحاب، من دون ظهور خلاف في ذلك، إلا ما حكي عن الإسكافي، الذي لو تم الخلاف منه لم يقدح في الإجماع، لكثرة انفراده عما عليه الأصحاب.

ويشكل: بأن المسألة إنما حررت في عصر تدوين الفتاوي، ومن ثم لم ينقل الحكم بذلك عمن قبل الشيخ في المبسوط والخلاف، وحيث لم تكن منصوصة لا طريق لمعرفة رأي قدماء الأصحاب فيها بنحو يكشف عن رأي الأئمة (عليهم السلام). ولاسيما مع قرب كون منشأ ذهاب الأصحاب لذلك بعض وجوه الآتية للاستدلال بها في كلماتهم، حيث يصعب مع ذلك إحراز الإجماع التعبدي مع قطع النظر عن تمامية تلك الوجوه. فاللازم النظر فيها.

ص: 124

(125)

الثاني: قوله تعالي: (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم)(1) وقد استدل به الشيخ (قدس سره) في المبسوط وابن إدريس في السرائر. وجماعة ممن تأخر عنهما.

وقد أورد عليه في الرياض باحتمال كون المراد بالمثل فيه مثل أصل الاعتداء، لا مثل الأمر المعتدي فيه. وكأن مراده بذلك الاكتفاء في المماثلة بالمماثلة بين الفعل والردّ في كونهما اعتداء، من دون اعتبار المماثلة في سنخ الأمر المعتدي به. فكأنه قيل: فاعتدوا عليه كما اعتدي عليكم لكنه كما تري مخالف لظاهر أخذ المماثلة قيداً في الاعتداء.

ومثله ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) وتنظر فيه، من حمل المماثلة علي المماثلة في مقدار الاعتداء لا في المعتدي به، حيث لا يبعد كون المراد به المماثلة في مقدار مالية المال المعتدي به، دون سنخه. إذ فيه: أنه لا يناسب إطلاق المماثلة في الآية الشريفة.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بالآية الشريفة في المقام: أولاً: أنها ظاهرة في جواز ردّ الاعتداء بمثله قصاصاً، كالردّ علي إتلاف النفس والطرف أو المال بإتلاف المعتدي عليه لمثلها من المعتدي. وليست في مقام بيان كيفية الضمان، كضمان النفوس والأطراف بدفع الدية، وضمان الأموال بدفع البدل. فهي نظير قوله تعالي: (وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(2). ولذا كانت مختصة بصورة التعمد والعدوان، كما هو المنساق من التعبير بالاعتداء، بخلاف الضمان.

وثانياً: أنه لو تم نظر الآية الشريفة للضمان أو عمومها له، فمن الصعب جداً عمومها لضمان اليد الذي لا يكون الاعتداء فيه إلا بوضع اليد علي المال من دون إتلاف له.

وثالثاً: أنه لابد من حمل المماثلة في الآية الشريفة علي المماثلة العرفية التي تشمل

********

(1) سورة البقرة آية: 194.

(2) سورة النحل آية: 126.

ص: 125

(126)

وقيمته إن كان قيمياً (1).

---------------

كثيراً من القيميات بلحاظ تشابهها في الصورة والصفة والفائدة، كما تقضي ما زاد علي المثل في المثليات من خصوصيات المضمون غير الدخيلة في قيمته. ولا مجال لحمل المماثلة فيها علي المثلي الذي يريده الفقهاء (رضوان الله تعالي عليهم)، فإنه معني غير عرفي للمماثلة، وإنما هو محض اصطلاح لهم.

الثالث: ما في المبسوط، حيث قال بعد أن استدل بالآية الشريفة: (ولأن مثله يعرف مشاهدة، وقيمته تعرف بالاجتهاد، وما يعلم يقدم علي ما يجتهد فيه)، ونحوه في السرائر.

وفيه - مع قصوره عما إذا كانت القيمة قطعية لا اجتهاد فيها - أن ترجيح الحس علي الحدس والاجتهاد راجع إلي الترجيح بينهما في مقام الإثبات بعد الفراغ عن كون موضوع الأثر ثبوتاً هو الموضوع القابل لهما معاً، كالوقت. ولا ينهض دليلا علي ترجيح الموضوع الذي يدرك من طريق الحس علي الموضوع الذي يدرك من طريق الحدس عند التردد بين الموضوعين ثبوتاً، في المقام.

ومثله ما فيه أيضاً، حيث قال:

(ولأنه إذا أخذ المثل أخذ وفق حقه، وإذا أخذ القيمة ربما زاد أو نقص، فكان المثل أولي) . بل لعله عينه. هذا ويأتي إن شاء الله تعالي تمام الكلام في ذلك.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، ولم يعرف الخلاف فيه إلا من الإسكافي في كلامه المتقدم في المثلي، ومن الخلاف والشرايع، قال في الخلاف: (إذا لم يجد مال القرض بعينه وجب عليه مثله. وهو مذهب أكثر أصحاب الشافعي. وفيهم قال: يجب عليه قيمته، كالمتلف)، حيث أطلق وجوب المثل في القرض، بل تشبيهه في بالمتلف في ذيل كلامه يدل علي عمومه أو اختصاصه بالقيمي، لأنه الذي يضمن بالقيمة في التلف. وقال في الشرايع في مبحث القرض: (وكل ما يتساوي أجزاؤه

ص: 126

يثبت في الذمة مثله، كالحنطة والشعير والذهب والفضة، وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم. ولو قيل يثبت مثله أيضاً كان حسناً).

لكن كلام الإسكافي إنما يقتضي الاكتفاء بالمثل إذا رضي صاحبه، والمنصرف منه صورة رضا الطرفين، إذ لو كفي رضا صاحبه وحده لكان المناسب أن يقول: إذا أراد صاحبه، فيكون خارجاً عن محل الكلام من تحديد ما يلزم شرعاً.

وكلام الخلاف والشرايع مختص بالقرض. ولعله يبتني علي دعوي ابتناء عقده علي ذلك، فلا يكون خلافاً فيما نحن فيه من الضمان الشرعي بالتلف ونحوه، بل مقتضي ما سبق من الخلاف أن الواجب فيه القيمة. ومن ثم لا يتضح الخلاف في المقام.

إلا أنه غير مهمّ بعد عدم وضوح انعقاد الإجماع، وعدم وضوح حجيته، لنظير ما سبق في المثلي. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

هذا وقد يدعي أن الضمان بالقيمة هو مقتضي الأصل في المقام، لأن ما عداها خصوصيات زائدة، وانشغال الذمة بها، أو وجوب أدائها في مقام تفريغ الذمة عن الضمان الثابت، مخالف للأصل.

لكنه إنما يتم لو كان المراد بالقيمة مطلق ما تحفظ به المالية مخيراً بين الأمور المتمولة، حتي لو كان المدفوع مبايناً للتالف سنخاً، كدفع الحنطة مثلاً بدل الثوب المضمون ولا يظن بأحد البناء علي ذلك، كما لا يناسبه بناء العقلاء في كيفية الضمان.

بل ليس مرادهم بالقيمة إلا ما يتمحض في المالية، ويكون من سنخ الأثمان، كالدراهم والدنانير وما ألحق بها من النقود الورقية التي شاع التعامل بها في عصورنا. ومن الظاهر أن الاقتصار عليها مخالف للأصل، كالاقتصار علي غيرها من الأنواع، كالمثل في المثلي، والمشابه للمضمون في القيمي. ومن هنا لا مجال للاستدلال بالأصل إثباتاً أو نفياً في كلا شقي التفصيل.

كما لا مجال للاستدلال بالنصوص فيهما، لعدم التعرض فيها لشرح كيفية

ص: 127

الضمان، إلا ما ورد في قليل منها من الحكم بالقيمة في بعض القيميات كالحيوان، بنحو لا مجال لاستيفاء القضية الكلية منها.

والعمدة في دليل التفصيل المذكور السيرة الارتكازية العرفية علي ضمان المثل بمثله والقيمي بقيمته. وكأنه لأن اختلاف الأغراض النوعية والشخصية المتعلقة بأنواع المضمونات وأفرادها يمنع من سعة الضمان، بحيث يكتفي فيه بكل ما تحفظ به المالية. وبعد تعذر إرجاع نفس المضمون يتعين الاقتصار علي ما هو الأقرب إليه من حيثية المالية. فالمثلي حيث كانت ماليته قائمة بالنوع يضمن بمثله، حفاظاً علي المالية، وعلي موضوعها، والقيمي، حيث كانت ماليته قائمة بشخصه المفروض التعذر يتعين ضمانه بما يتمحض في المالية، إذ لا أقرب منه. وأما بقية المتمولات فقد تكون أبعد عن غرض المضمون له من الأمر المضمون، لما سبق من اختلاف أغراض المتمولات نوعاً. وقرب بعضها لغرضه في بعض الحالات لا أثر له، فإن المدار علي الأقربية النوعية، لانضباطها، دون الشخصية غير المنضبطة.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في بناء العرف علي الضمان بالوجه المذكور، وفي لزوم الرجوع إليه بعد ما سبق من عدم بيان كيفية الضمان في النصوص، فإن عدم شرح كيفية الضمان، وعدم السؤال عنه، مع شدة الحاجة لذلك، شاهد بالاتكال فيه علي ما عند العرف حيث يشيع ابتلاؤهم بالمسألة، بنحو لا بد أن يكون لهم حكم فيها يجرون عليه بطبعهم.

ويؤكد بناء العرف علي التفصيل المذكور ظهور حال الأصحاب في الاتفاق عليه، إذ يمتنع عادة خروج الأصحاب عما عليه العرف من دون أن تكون هناك نصوص مخرجة عنه. ولاسيما في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء في جميع العصور حتي عصور المعصومين (عليهم السلام)، حيث يمتنع عادة خفاء حكمهم (عليهم السلام) فيها. وبذلك يظهر أن الإجماع في المقام صالح للكشف عن رأي المعصوم، لاحتفافه بقرائن تتمم كشفه عنه. فلاحظ.

ص: 128

(129)

هذا وقد يدعي وجوب الحفاظ في المثلي علي الخصوصيات التي تختلف فيها الرغبات غير الدخيلة في المالية، لأنها أقرب للمضمون. لكن لم يتضح بناء العرف علي ضمان الخصوصيات المذكورة بعد عدم دخلها فيما هو المهم في الضمان، وهو المالية. ولاسيما مع عدم انضباطها، لاختلاف الناس في اهتماماتهم ورغباتهم اختلافاً فاحشاً. فلا مخرج عن مقتضي الأصل من عدم ضمانها، والاكتفاء بمطلق المثل. فتأمل.

بقي الكلام في تحديد كل من المثلي والقيمي.

والمشهور أن المثلي ما تساوي أجزاؤه في القيمة، والقيمي بخلافه. وعرّفا بتعاريف أخر. وقد أطالوا الكلام في شرح هذه التعاريف، وفي تماميتها طرداً وعكساً. والأمر غير مهم بعد عدم أخذ العنوانين المذكورين في الأدلة الشرعية، ليترتب الأثر علي تحديدها. فاللازم الرجوع إلي ما يقتضيه الدليل المتقدم للتفصيل، وهو بناء العرف.

والظاهر أن المعيار في التفصيل عندهم علي كون القيمة منسوبة لشخص المضمون وكونها منسوبة للكلي الشامل له، كما سبق. من دون فرق بين كون الكلي نوعاً، كالحنطة والشعير، وكونه صنفاً منه، كأصناف الحنطة والشعير والتمور وغيرها مما تختلف في المالية، وكالمصنوعات الحديثة ذات الماركات المختلفة والكتب المطبوعة بطبعاتها المختلفة وغير ذلك، فإن ذلك كله من المثلي، ويضمن بدفع فرد من الكلي الذي تنسب القيمة له. بخلاف ما كانت قيمته منسوبة لشخصه، ككثير من الأحجار الكريمة، والمصنوعات اليدوية، والكتب المخطوطة، والحيوانات وغيرها. فإنها قيميات تضمن بدفع قيمتها من الأثمان الرائجة. ومجرد تماثل بعضها أو تقاربها في القيمة لا يجعلها مثلية بعد نسبة القيمة لكل منها بنفسه، وعدم نسبتها للكلي الجامع مع بينها، لعدم انضباطه وعدم شيوع أفراده.

هذا ولو فرض تردد الأمر في بعض المتمولات بين كونها قيمية وكونها مثلية فالظاهر أنه لا أصل يقتضي تعيين أحد الأمرين، فيلزم الاحتياط بالصلح بين الضامن

ص: 129

وكذا الحال في الثمن إذا قبضه البايع (1). ولا فرق في ذلك بين العلم بالحكم والجهل به (2).

---------------

والمضمون له.

ودعوي: أن الأصل هو الضمان بالمثل، بمعني: أن اللازم بعد تعذر دفع العين الحفاظ في مقام الأداء علي جميع صفاتها الدخيلة في المالية، وذلك لا يكون إلا بأداء المثل ما لم يثبت كون التالف قيمياً.

مدفوعة: بأن تفسير المثل بذلك ممنوع، إذ هو يقتضي وجوب المثل في كثير من القيميات. ولاسيما مع ما سبق مع عدم ورود عنوان المثل في أدلة الضمان، ليدعي تفسيره بما يشترك مع غيره في الصفات الدخيلة في المالية، ولزوم الخروج عنه في القيمي بأدلته، بل سبق تفسيره بما تكون فيه القيمة منسوبة للكلي، والمفروض في المقام الشك في ذلك.

ومثلها دعوي: أن مقتضي الأصل الاقتصار علي القيمة، لأصالة البراءة من خصوصية المثلية إلا في مورد اليقين بثبوتها. حيث يظهر اندفاعها مما سبق من منع الاستدلال علي القيمة في القيمي بالأصل. ومن هنا لا مخرج مما ذكرنا من لزوم الصلح في محل الكلام من فرض الشك والتردد بين كون المضمون مثلياً وكونه قيمياً.

(1) لعدم الفرق بينه وبين المبيع بعد فرض فساد البيع. نعم إذا كان الثمن في البيع الفاسد كلياً فالمدفوع ليس ثمناً، بل مدفوعاَ وفاء عن دين متخيل لا واقع له. غاية الأمر أنه مضمون كالثمن في البيع الفاسد، لعين ما سبق.

(2) لعموم دليل ضمان اليد، وهو الارتكاز المستفاد إمضاؤه من النصوص، ومنها ما دل علي مسقطية الاستئمان للضمان بالتقريب المقدم. ودعوي: رافعية الجهل لسببية اليد للضمان، مدفوعة: بأن الضمان ليس من سنخ المؤاخذة، ليسقط بالجهل. ولاسيما مع أن سقوطه مناف للامتنان في حق المضمون له.

ص: 130

ولو باع أحدهما ما قبضه كان البيع فضولياً (1) تتوقف صحته علي إجازة المالك. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

---------------

ومثلها دعوي: سقوط الضمان مع العلم بالفساد، لأن تسليط البايع للمشتري علي المبيع مع علمه بعدم استحقاقه له وعدم استحقاقه هو للثمن في مقابله بسبب فساد البيع راجع إلي هدره لحرمة ماله، كما لو سلطه عليه مجاناً، لاندفاعها: بأن تسليطه عليه لما كان مبنياً علي البيع وجرياً علي مقتضاه تسامحاً أو تشريعاً، فهو لا يرجع إلي هدره لحرمة ماله، بحيث يكون مدفوعاً مجاناً، بل لا يخرج عن كونه مبنياً علي الضمان بالثمن، غاية الأمر عدم إمضاء الشارع الأقدس للبناء المذكور، كما هو الحال مع الجهل بالفساد.

هذا والظاهر أن مراد سيدنا المصنف (قدس سره) من الحكم هو الفساد في المعاملة الخاصة، الذي يتوقف العلم به علي العلم بالحكم الشرعي الكلي وبالموضوع الخارجي، ويكفي في الجهل به الجهل بأحدهما، وليس مراده خصوص الحكم الشرعي الكلي، إذ لا وجه لإهمال العلم والجهل بالموضوع مع الابتلاء بهما، وجريان ما سبق فيهما.

(1) لعدم سلطنته عليه بعد عدم كونه مملوكاً له، ولا مأذوناً في بيعه من قبل المالك. نظير ما تقدم في وجوب ردّ المبيع علي مالكه، وعدم جواز التصرف فيه وحبسه عنه.

ص: 131

ص: 132

(133) (133)

الفصل الثاني: في شروط المتعاقدين

اشارة

وفيه مسائل.

(مسألة 1): يشترط في كل من المتعاقدين أمور:

(الأول): البلوغ. فلا يصح عقد الصبي (1)

---------------

(1) بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر. وفي التذكرة: (الأول: الصغير. وهو محجور عليه بالنص والإجماع، سواءً كان مميزاً أو لا، في جميع التصرفات، إلا ما يستثني، كعبادته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ووصيته وإيصاله الهدية، وإذنه في دخول الدار، علي خلاف في ذلك).

واستدل علي ذلك - بعد الإجماع المذكور، بل ظهور المفروغية عنه في الجملة - بأمور:

الأول: قوله تعالي: (وابتلوا اليتامي حتي إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا)(1). لظهوره في توقف وجوب دفع المال الذي هو مقتضي قاعدة السلطنة علي البلوغ والرشد معاً، فيدل علي عدم وجوب دفع مال اليتيم له، وعدم سلطنته عليه، كالسفيه، وهو راجع إلي عدم نفوذ تصرفه فيه ويتعدي عن اليتيم لغيره من الصبيان للمفروغية عن عدم

********

(1) سورة النساء آية: 6.

ص: 133

الفرق، أو لفهم عدم الخصوصية، وأن المعيار هو الصبي وعدم البلوغ.

وأما ما ذكره المحقق الإيرواني (قدس سره) من أن الأمر بدفع المال له بعد إيناس الرشد منه قرينة علي أن المعيار في صحة تصرفه علي رشده ولو قبل البلوغ، وأن ذكر البلوغ لطريقتيه إلي الرشد، من دون أن يكون دخيلاً في رفع الحجر في قباله. فهو مخالف للظاهر جداً.

وأضعف من ذلك ما حكي عنه من الاستدلال بصدر الآية الشريفة علي نفوذ تصرف الصبي قبل البلوغ، لأن ابتلاءه إنما يكون بدفع شيء من المال له، ليري كيف يتصرف فيه. إذ فيه: أنه لو سلم توقف الابتلاء علي ذلك، فهو إنما يكون بنظر الولي، لأنه هو الذي يدفع له المال، ويحمله علي التصرف فيه، لاستكشاف حاله، نظير دفعه الطعام له ليأكله، واللباس ليلبسه، والمال ليتصدق به لو رأي ذلك صلاحاً له، فلا يدل علي استقلاله بالسلطنة علي ماله، بحيث ينفذ تصرفه فيه من دون إذن الولي. ولذا جاز الابتلاء قبل إحراز الرشد، مع عدم الإشكال في توقف نفوذ تصرفه واقعاً علي رشده، وظاهراً علي إحراز الرشد.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الآية الشريفة في عدم استقلال الصبي بالسلطنة علي ماله وعدم نفوذ تصرفه فيه، ونهوضها باستدلال علي ذلك. ويأتي تمام الكلام فيها عند الكلام في أدلة نفوذ عقد الصبي بإذن الولي إن شاء الله تعالي.

الثاني: قوله تعالي: (فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل)(1). قال في وجه الاستدلال به في التذكرة: (قيل: السفيه البذر، والضعيف الصبي، لأن العرب يسمي كل قليل العقل ضعيفاً، والذي لا يستطيع أن يملي المغلوب علي عقله). وهو كما تري تفسير خال عن الشاهد، ومقتضي ما حكي عن العرب - لو تم - قصور الآية الشريفة عن الصبي الكامل العاقل، الذي هو محل الكلام. علي أن الآية ليست واردة في التصرف بالمال، بل في الإقرار به. وإن

********

(1) سورة البقرة آية: 282.

ص: 134

كان الظاهر وحدة الحكم فيهما.

الثالث: النصوص المتضمنة عدم جواز أمر الصبي، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): (سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متي يجوز أمره ؟ قال: حتي يبلغ أشدّه ؟ قال: وما أشدّه ؟ قال: احتلامه... قال:

إذا بلغ وكتب عليه الشيء جازه أمره، إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً) (1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام):

(قال: إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة وجب عليه ما يجب علي المسلمين، احتلم أم لم يحتلم، وكتبت عليه السيئات، كما له الحسنات، وجاز له كل شيء [من ماله. خصال] إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً) (2) . وخبر حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال:

(إن الجارية ليست مثل الغلام. إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع... والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم حتي يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك) (3) ، وغيرها.

وهي - كما تري - واردة لتحديد البلوغ مع ظهورها أو ظهور بعضها في المفروغية عن عدم نفوذ تصرف غير البالغ في ماله، لأن ذلك هو الظاهر من عدم جواز أمره.

الرابع: ما تضمن رفع القلم عن الصبي، كخبر ابن ظبيان قال:

(أتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها. فقال علي (عليه السلام): أما عملت أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتي يحتلم، وعن المجنون حتي يفيق، وعن النائم حتي يستيقظ) (4) .

وخبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام)

:(أنه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة. وقد رفع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الحجر حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الحجر حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 11.

ص: 135

عنهما القلم) (1) .

وموثق عمار عنه (عليه السلام)

:(سألته عن الغلام متي تجب عليه الصلاة ؟ قال: إذا أتي عليه ثلاث عشرة سنة. فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجري عليه القلم. والجارية مثل ذلك إن أتي لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجري عليها القلم) (2) . لصراحته في توقف جريان القلم علي البلوغ، وإن خالف المعروف في تحديد البلوغ.

وموثقه الآخر عنه (عليه السلام): (سئل عن المولود ما لم يجر عليه القلم هل يصلي عليه ؟ قال: لا إنما الصلاة علي الرجل والمرأة إذا جري عليهما القلم)(3).

وخبر سليمان المروزي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:

(كان رسول الله يكثر الصيام في شعبان... وكان يقول شعبان شهري... وإن الصائم لا يجري عليه القلم حتي يفطر ما لم يأت بشيء فينتقض. وإن الحاج لا يجري عليه القلم حتي يرجع ما لم يأت بشيء يبطل حجه... وإن الصبي لا يجري عليه القلم حتي يبلغ، وإن المجاهد في سبيل الله لا يجري عليه القلم حتي يعود إلي منزله... ) (4) .

ونحوه خبره الآخر عن الإمام الرضا (عليه السلام):

(أنه قال: من صام شهر رمضان إيماناً واحتساباً غفرت له ذنوبه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وإن الصائم لا يجري عليه القلم حتي يفطر... وإن الصبي لا يجري عليه القلم حتي يبلغ... ) (5) .

فقد استدل به علي عدم نفوذ معاملات الصبي جماعة من أصحابنا، أولهم فيما نعلم الشيخ (قدس سره) في كتاب البيوع من الخلاف، وفي أوائل كتاب الإقرار من المبسوط قال فيه:

(ورفع القلم عنهم يقتضي أن لا يكون لكلامهم حكم) ، ويناسبه ما عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 36 من أبواب القصاص في النفس حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5.

(4) كتاب فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق باب فضل شهر شعبان ص: 55.

(5) كتاب فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق باب فضل شهر رمضان ص: 116.

ص: 136

بعض الأعاظم (قدس سره) من ظهوره في كونه مسلوب العبارة، وأن فعله كالعدم، وأن ما صدر عنه لا ينسب إليه. ولاسيما مع جعله في سياق المجنون والنائم ويأتي من الجواهر في المجنون ما يناسب ذلك.

لكنه في غاية المنع، فإن رفع القلم عن الشخص ظاهر في التخفيف عنه، لا في إلغاء قصده. وجعل ذلك كناية عن إلغاء القصد لا شاهد له. وجعل الصبي في سياق المجنون والنائم في رفع القلم لا يشهد بحمل رفع القلم علي ذلك، فإن لغوية وعمل المجنون والنائم لا تمنع من كون الحكم برفع القلم عنهما لمجرد بيان التخفيف عنهما.

ومن ثم أشكل شيخنا الأعظم (قدس سره) علي الشيخ (قدس سره) ومن تبعه بأن الظاهر من رفع القلم قلم المؤاخذة. وإليه يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في مستمسكه من أن الظاهر منه رفع قلم السيئات.

وقد يدفع بأن المؤاخذة من الآثار العقلية التي لا تنالها يد الجعل الشرعية. ومن ثم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) في كتاب البيع أن المرفوع هو الأحكام الإلزامية، التي هي منشأ المؤاخذة.

ولكن قال سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه: (وفيه: أن القلم جرياً ورفعاً لا يختص بالمجعولات الشرعية، وقد اشتهر في النصوص التعبير بكتابة الحسنات والسيئات. بل رواية أبن سنان الواردة في المقام قد تضمنت أنه إذا بلغ كتبت عليه السيئات، وكتبت عليه الحسنات. وهذا هو الظاهر في المقام).

ودعوي: أن لازم ذلك العفو مع الاستحقاق، وهو خلاف المقطوع به. مدفوعة بأن المراد بالاستحقاق إن كان ما يلازم عدم قبح العقاب، فلا مجال له بعد الوعد الجازم بعدم العقاب قبل الإقدام علي العمل، حيث يقبح العقاب حينئذٍ من المولي الحكيم بعد تأمينه منه. وإن كان المراد بالاستحقاق أن المكلف قد فعل ما من شأنه أن يعاقب عليه فلا مانع من الالتزام به. ولو فرض لغوية جعل الحكم مع الوعد المذكور، كشفت النصوص المذكورة عن رفع التكليف من دون أن تكون مسوقة لذلك، بحيث

ص: 137

تكون ظاهرة فيه، بل هي ظاهرة في عدم المؤاخذة والتبعة لا غير. ويناسبه سياقه في خبري سليمان المروزي المتقدمين مساق رفع القلم عن الصائم والحاج وغيرهما.

وبالجملة: النصوص المذكورة إنما تقتضي رفع المؤاخذة والتبعة، وغاية ما يمكن دعواه هو رفع الأحكام الإلزامية التي هي منشأ المؤاخذة والتبعة. ولا مجال للبناء علي عمومها لرفع جميع الأحكام في حقّ الصبي وأخويه، لينفع في البناء علي عدم نفوذ معاملتهم.

هذا ولكن بعض مشايخنا (قدس سره) أصرّ في كتاب الخمس علي عموم رفع القلم لجميع الأحكام، وأن مفاد النصوص المذكورة استثناء الطفل وأخويه عن قلم التشريع، وقصوره عنهم كالبهائم. إلا أن يكون الرفع منافياً للامتنان في حق الآخرين، كما في مورد الضمانات، أو ورد فيه نص خاص، كموارد التعزيزات.

وفيه: أولاً: أن التعبير برفع القلم عنهم ظاهر في إرادة التخفيف عنهم، برفع ما يكون فيه ثقل عليهم، كالمؤاخذة، والأحكام الإلزامية التي تكون منشأ لها، ولا يقتضي قصور التشريع عنهم رأساً في جميع الأحكام كالبهائم. كيف ؟! ولا إشكال في مشاركتهم للمكلفين في الأحكام التكليفية غير الإلزامية والأحكام الوضعية، كالحدث والخبث والطهارة منهما، ونفوذ العقود والإيقاعات في حقهم إذا أوقعها الولي أو الوكيل، والملكية بالحيازة والميراث وغير ذلك، وكيف يمكن قياسهم بالبهائم ؟! بل حتي البهائم والجمادات تكون موضوعاً للتشريع، ومورداً لبعض الأحكام، فتكون طاهرة ونجسة ومملوكة وموقوفة.

وثانياً: أن منافاة الرفع للامتنان في حق الآخرين إنما تنهض بتقييد إطلاقه إذا كان امتنانياً، ورفع القلم إنما يكون امتنانياً إذا اختص برفع التكليف ونحوه مما فيه ثقل علي المرفوع عنه. أما إذا أريد استثناؤه من قلم التشريع رأساً - كالبهائم - فليس هو امتنانياً، لتنهض قرينة الامتنان بتقييده وقصوره عن صورة منافاة الامتنان في حق الآخرين.

ص: 138

وثالثاً: أن قرينة الامتنان إنما تنهض بتقييد الرفع الامتناني بما إذا لم يناف الامتنان في حق الآخرين فيما إذا كان الرفع والامتنان في حق الأمة بمجموعها، كما في رفع الإكراه والحرج والضرر ونحوها، فإذا لزم الحرج علي شخص من حرمة إضراره بالغير لم ترتفع الحرمة في حقه، إذ لا امتنان علي الأمة بمجموعها بالتخفيف عن بعضها إذا كان منافياً للامتنان في حق الآخرين.

أما إذا كان الرفع الامتناني في حق قسم خاص من الأمة - كما في المقام - فقرينة الامتنان لا تقتضي قصوره عما إذا نافي الامتنان في حق الآخرين. ولذا لا ريب في أنه لا جناح علي الطفل وأخويه في الإضرار بالآخرين وإيذائهم ونحوهما مما ينافي الامتنان عليهم، وعدم قصور رفع القلم في حقهم عن ذلك.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر أن قصور حديث رفع القلم عن مثل الضمان ليس لقرينة الامتنان، كما ذكره (قدس سره)، بل لاختصاصه برفع المؤاخذة والتبعة أو رفع منشئهما، وهو الحكم الإلزامي، كما ذكرنا، دون مثل الضمان الذي هو حكم وضعي ثابت بملاك تدارك خسارة المضمون له.

هذا وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) استفادة عموم رفع القلم لكل غرامة وعقوبة أخروية أو دنيوية مما سبق في خبر أبي البختري من تعقيب الحكم بأن عمد الصبي والمجنون خطأ بقوله (عليه السلام)

:(وقد رفع عنهما القلم) ، بدعوي: أنه لا مناسبة لذكر رفع القلم إلا أحد أمرين:

الأول: أن يكون علة للحكم بثبوت الدية علي العاقلة، دون القصاص، ودون الدية في مالهما.

الثاني: أن يكون معلولاً للحكم بأن عمدها خطأ، بمعني أنه لما كان عمدها بنظر الشارع بحكم الخطأ رفع القلم عنهما. وكلا الأمرين ملزم بحمل رفع القلم علي ما يعم العقوبة الأخروية والدنيوية، كالقصاص وغرامة الدية، ومنه نفوذ إقرارهما والتزامهما المالي عليهما، فيدل علي عدم صحة معاملتهما، وعدم ترتب الأثر

ص: 139

علي إقرارهما.

وقد أجاب عن ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) بأنه يكفي في مناسبة ذكر رفع القلم أنه يتضمن حكماً أخروياً، وما قبله يتضمن حكماً دنيوياً، فيكون المقصود في الحديث استيعاب حكم الصبي والمجنون من الجهتين معاً، من دون ملزم بأن يكون بينهما علية ومعلولية. بل ينفي العلية عدم ذكر ما يدل عليها - كالفاء واللام - وينفي المعلولية دخول (قد) المفيدة للثبوت والتحقيق علي الحكم برفع القلم وعدم دخولها علي الحكم بثبوت الدية علي العاقلة، ولا معني للتحقق في المعلول دون العلة.

وما ذكره (قدس سره) وإن كان متيناً. بل يبعد كون المناسبة هي العلية أو المعلولية - مضافاً إلي ما ذكره (قدس سره) - أن كلاهما حكم شرعي متقوم بالاعتبار ليس له ما بإزاء في الخارج، ليكون ملاكاً للحكم الشرعي وعلة له. لكن مع ذلك لا يبعد سوق رفع القلم لتأكيد أن عمد الصبي والمجنون خطأ بكبري عامة تعم التبعة الأخروية والدنيوية من باب تأكيد الخاص بالعام الذي هو شايع في الاستعمالات.

وبعبارة أخري: حيث كان الحكم بأن عمد الصبي والمجنون خطأ يتضمن عدم ثبوت حكم العمد عليهما، وهو القصاص الذي هو من سنخ التبعة الدنيوية، أكد (عليه السلام) ذلك بعموم رفع القلم عنهما، لبيان نفي كل تبعة عليهما دنيوية كانت أو أخروية. وهو مناسب لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من عموم رفع القلم لكل عقوبة وتبعة دنيوية وأخروية.

نعم، ذلك لا يختص بخبر أبي البختري، بل خبر أبن ظبيان أظهر فيه لوروده لبيان عدم ثبوت الحد للمجنونة الذي هو من سنخ العقوبة الدنيوية. بل هو مقتضي إطلاق رفع القلم من دون حاجة للتشبث بهذين الخبرين مع ما هما عليه من الضعف، فإن تخصيص رفع القلم بخصوص العقوبة الأخروية يحتاج إلي دليل. أما لو قيل بأن المراد برفع القلم رفع الحكم الإلزامي الموجب للعقاب فالأمر أظهر، لعدم الفرق بين العقوبتين في توقفهما علي المعصية، التي هي فرع ثبوت الحكم الإلزامي.

ص: 140

لكن من الظاهر أن ثبوت الدية ليس من سنخ العقوبة، بل هي نظير ضمان الأموال باليد والإتلاف من باب عدم بطلان دم المسلم وماله، ولذا تثبت مع عدم العدوان، كما في الخطأ، وقد تثبت في حق غير المتلف، كالعاقلة و الإمام. ومن ثم كان الحكم بثبوتها علي العاقلة دون الصبي والمجنون حكماً تعبدياً غير مترتب علي رفع القلم.

كما أنه لا يترتب أيضاً علي تنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ، لأن العاقلة لا تحمل كل خطأ، بل خصوص قسم منه وهو الخطأ المحض، دون الخطأ الشبيه بالعمد، ولذا ورد تنزيل عمد الأعمي منزلة الخطأ، مع الحكم بثبوت الدية عليه في ماله، ففي موثق أبي عبيدة:

(سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمي فقأ عين صحيح، فقال: إن عمد الأعمي مثل الخطأ. هذا فيه الدية من ماله) (1) .

وأظهر من ذلك نفوذ المعاملات واقعاً والإقرار ظاهراً، حيث لا منشأ لتوهم كونها من سنخ العقوبة، ليشملها حديث رفع القلم بناء علي ما تقدم منه ومنا من عمومه للعقوبة الدنيوية والأخروية. كيف ؟! ولا ريب في لزوم معاملة الولي في حقّ الصبي، مع أنه لو كان لزومها من سنخ العقوبة لنهض حديث رفع القلم برفعه.

نعم، لا يبعد البناء علي ما عدم اختصاص رفع القلم بالعقوبة، بل يعم كل تبعة تثبت علي الإنسان بمقتضي كونه مورداً للمسؤولية والمحاسبة، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن رفع القلم في الصبي وأخويه، يبتني علي قصورهم عن مقام المسؤولية والمحاسبة، وذلك يقتضي العموم لما ذكرنا، وهو لو تم يقتضي عدم نفوذ معاملة الصبي ولا إقراره ولا نذره ويمينه وعهده ونحو ذلك، لأن نفوذها في حق موقعها وإن لم يكن عقوبة عليه، إلا أنه يبتني علي تحميله مسؤوليتها وإلزامه بتبعتها، ومحاسبته عليها، فإذا قصر الصبي وأخويه عن مقام المسؤولية والحساب تعين عدم نفوذها عليهم، وعدم تحملهم تبعتها، بخلاف ما يوقعه الولي من المعاملات، فإن نفوذها عليهم لا يبتني علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 35 من أبواب القصاص في النفس حديث: 1.

ص: 141

كونهم في عملهم بمستوي المسؤولية، بل علي كون وليهم كذلك.

وبذلك ظهر أن الاستدلال بعموم رفع القلم لعدم نفوذ معاملة الصبي لا يخلو عن وجه، لا لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في وجه ظهور خبر أبي البختري فيه، بل لفهمه من إطلاق رفع القلم بعد تحكيم المناسبات الارتكازية. فلاحظ.

الخامس: النصوص المتضمنة أن عمد الصبي خطأ، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: عمد الصبي وخطؤه واحد) (1) ، وموثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه

:(إن علياً كان يقول: عمد الصبي خطأ يحمل علي العاقلة) (2) ، ومعتبر الجعفريات: (قال علي (عليه السلام):

ليس بين الصبيان قصاص، عمدهم خطأ يكون فيه العقل) (3) ، وخبر أبي البختري المتقدم في نصوص رفع القلم، وغيرها.

فقد استأنس بها شيخنا الأعظم (قدس سره) للمقام بدعوي: أن الأصحاب وإن ذكروها في باب الجنايات، إلا أنه لا إشعار في النصوص بالاختصاص بها. ولذا استدل في المبسوط والسرائر بالتنزيل المذكور علي عدم ترتب الكفارة بقيام الصبي بمحظورات الإحرام. وذلك لأن إطلاق التنزيل فيها يقتضي عدم ترتب الأثر علي قصد الصبي قال (قدس سره):

(فكل حكم شرعي تعلق بالأفعال التي يعتبر في ترتب الحكم الشرعي عليها القصد، بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد، فما يصدر منها عن الصبي قصداً بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد، فعقد الصبي وإيقاعه مع القصد كعقد الهازل والغالط والخاطئ وإيقاعاتهم) .

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره): تارة: بأن ذلك إنما يتم لو كان التعبير هكذا: عمد الصبي كلا عمد، أما التعبير الذي تضمنته النصوص فهو ظاهر في تنزيل العمد منزلة الخطأ فيما ثبت له من الأحكام، كما في باب الجنايات، من دون أن يدل علي إلغائه رأساً. بل ذكر الحمل علي العاقلة في أكثر هذه النصوص كالصريح في اختصاصه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 11 من أبواب كتاب العاقلة حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 11 من أبواب كتاب العاقلة حديث: 2، 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 18 باب: 33 من أبواب القصاص في النفس حديث: 2.

ص: 142

بالجنايات. ولاسيما وأن استعمال العمد والخطأ في الجناية العمدية والخطئية شايع جداً في نصوص الخاصة والعامة، علي نحو صار كاصطلاح خاص، فمع تردد المراد يكون الكلام من قبيل المجمل.

وأخري: بأن حمله علي عموم عدم ترتب الأثر علي قصده مستلزم لتخصصه في كثير من الموارد، كصلاته وصومه وإفطاره وسفره وإقامته وإحرامه، ونحوها من الأفعال التي تتقوم بالقصد. ومن ذلك عدم بطلان صلاته مثلاً بالإخلال عمداً بغير الأركان، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره)، بعد أن ذكر أكثر ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في جواب شيخنا الأعظم (قدس سره).

هذا مضافاً إلي أمرين:

الأول: أن من القريب انصراف تنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ إلي ما يناسب الإرفاق به، وهو رفع خصوص آثار العمد التي يكون في رفعها تخفيف علي الصبي وتوسعة عليه، دون بقية الآثار، بحيث يسقط عن الاعتبار رأساً.

الثاني: أن إلغاء الشارع الأقدس عمد الصبي - لو تم - إنما يقتضي عدم ترتب الآثار الشرعية للعمد علي فعله كترتب الكفارة في الإحرام وغيره، دون الآثار واللوازم الخارجية، كما هو الحال في سائر موارد التنزيلالشرعي. ومن الظاهر أن اعتبار القصد والعمد في العقد والإيقاع ليس شرعياً, بل لتوقف تحققهما خارجاً عليه، لتقوم مفهومهما عرفاً بالقصد والعمد، فمع عدمه لا معاملة ولا عقد، لا أنه يتحقق العقد والمعاملة، ولا ينفذان شرعاً، لتوقف نفوذهما علي العمد والقصد.

وإرادة عدم الاعتداد بالعقد والمعاملة المبتنيين علي العمد والقصد من إلغاء القصد والعمد في كلام الشارع الأقدس وإن أمكن، إلا أنه يحتاج إلي عناية، كما لورود لبيان ذلك، ولا مجال لاستفادتها من إطلاق التنزيل، كما في المقام.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في قصور النصوص المذكورة عن إثبات المدعي. ولاسيما وأنه قد ورد نظير ذلك في الأعمي - كما تقدم في موثق أبي عبيدة - ولا يظن

ص: 143

وإن كان مميزاً (1) إذا لم يكن بإذن الولي (2). أما إذا كان بإذنه فالصحة لا تخلو من وجه (3)، وإن كانت لا تخلو من إشكال (4).

---------------

بأحد البناء من أجله علي إلغاء، قصد الأعمي رأساً.

والذي تحصل من جميع ما تقدم: أن عمدة الدليل علي عدم نفوذ معاملة الصبي وعقده - بعد الإجماع، بل الضرورة في الجملة - هو الآية الأولي الكريمة، ونصوص عدم جواز أمر الصبي في ماله أو مطلقاً. مضافاً إلي قرب استفادته من عموم رفع القلم بالتقريب الذي ذكرناه له أخيراً.

(1) بأن يدرك مفاد العقد والإيقاع بحيث يتحقق منه القصد لمفادهما. والظاهر عدم الإشكال والخلاف في أنه لا أثر لذلك في صحة العقد. لإطلاق الأدلة المتقدمة. وما تقدم من المحقق الإيرواني عند الكلام في مفاد الآية الأولي التي تقدم الاستدلال بها إنما هو في الرشد الذي هو أخصّ من التمييز.

(2) وهو المتيقن من الإجماع والأدلة المتقدمة.

(3) لما يأتي من قصور الأدلة السابقة عن ذلك.

(4) بل صرح في الخلاف بعدم نفوذ معاملته حينئذٍ، كما لو لم يأذن، وهو الذي جري عليه غير واحد، بل ادعي في الغنية الإجماع علي العموم، وألحقه في الجواهر بالبديهيات التي لا تحسن المناقشة فيها من المتفقه فضلاً عن الفقيه.

لكنه غير ظاهر بعد التأمل في بعض كلماتهم. ولاسيما ما يظهر منها أن المسألة تبتني علي شرعية أفعال الصبي علي أنه لا مجال للتعويل علي الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تحرر إلا في عصر تدوين الفتاوي، ولم يرد فيها نصّ خاص، ليعلم رأي قدماء الأصحاب فيها من ظهور عملهم به. ومن ثم لابد من النظر في أدلة المسألة غير الإجماع مما تقدم التعرض له.

أما الآية الكريمة المتضمنة لابتلاء اليتامي، فهي ظاهرة في عدم دفع أموالهم

ص: 144

إلا بعد البلوغ، والظاهر أن دفع المال إليهم مساوق لاستقلالهم في السلطنة عليها وعلي التصرف فيها، وانقطاع علقة الولي وارتفاع ولايته عليهم وعليها، فإناطته بالبلوغ ظاهر في عدم ثبوت ذلك قبله وبقاء ولاية الولي حينئذ، ولا ينهض بالمنع من تصرف الصبي بإذن الولي وتبعاً لولايته، بل مقتضي إطلاق أدلة المعاملات نفوذه، كما هو الحال في السفيه، حيث لا إشكال في نفوذ تصرفه بإذن الولي إذا رأي في إيكال الأمر إليه في مورد خاص صلاحاً، مع أن البلوغ والرشد قد سيقا في الآية الشريفة في مساق واحد.

وكذا نصوص عدم جواز أمر الصبي مطلقاً أو في ماله. لظهور عدم جواز أمره في عدم استقلاله في التصرف، أما مع إذن الولي فجواز تصرفه راجع لجواز أمر الولي وهو مقتضي ولايته.

وأما حديث رفع القلم بالتقريب المتقدم، فهو إنما يقتضي عدم نفوذ عقده ومعاملته من حيثية التزامه بهما، ولا ينافي نفوذ تصرفه من حيثية كونه في طول التزام الولي به.

أما شيخنا الأعظم (قدس سره) فحيث بني عدم نفوذ معاملته علي عدم تحمله الغرامة والعقوبة الدنيوية والأخروية، وكان عدم تحمله للعقوبة يعمّ حال إذن الولي له، تعين عدم نفوذ معاملته مع إذن الولي، وذلك يناسب عدم ترتب الأثر علي إنشائه، لسلب قصده.

قال بعد أن قرب عموم رفع القلم في خبر أبي البختري للعقوبة والغرامة الدنيوية والأخروية:

(وعلي هذا فإذا التزم علي نفسه مالاً بإقرار أو معاوضة ولو بإذن الولي فلا أثر له في إلزامه بالمال ومؤاخذته به ولو بعد البلوغ، فإذا لم يلزمه شيء بالتزاماته ولو بإذن الولي فليس ذلك إلا لسلب قصده وعدم العبرة بإنشائه، إذا لو كان ذلك لأجل عدم استقلاله وحجره عن الالتزامات علي نفسه لم يكن عدم المؤاخذة شاملاً لصورة إذن الولي، وقد فرضنا الحكم مطلقاً، فيدل بالالتزام علي كون

ص: 145

قصده في إنشاءاته وإخباراته مسلوب الأثر) .

ويظهر ضعفه مما سبق من أن نفوذ الالتزام العقدي والإقرار عليه ليس من سنخ العقوبة، ليكون عموم رفع القلم عن الصبي لصورة إذن الولي مقتضياً لعموم عدم النفوذ لصورة إذنه، ليستلزم ذلك إلغاء قصده شرعاً.

مضافاً إلي أن العقد إذا صدر بإذن الولي فهو وإن كان منسوباً للصبي لمباشرته له، إلا أنه منسوب للولي لتوكيله، وعدم نفوذه من الحيثية الأولي لا ينافي نفوذه من الحيثية الثانية، كسائر تصرفات الولي في حقّ الصبي.

وأما ما سبق منّا في وجه عدم نفوذ عقد الصبي وإقراره من أن رفع القلم يبتني ارتكازاً علي قصوره عن مقام المسؤولية في عمله. فهو إنما يقتضي عدم نفوذ عقده بنفسه، ولا ينافي نفوذه إذا كان منسوباً للولي، لصدوره بإذنه، فإنه يبتني علي مسؤولية الولي بعمله.

نعم، لو تم ما سبق منه (قدس سره) من ظهور ما دل علي أن عمد الصبي خطأ في إلغاء قصده، وعدم الاعتداد بإنشائه، اتجه عدم نفوذ عقده حتي بإذن الولي، إذ هو فرع تحقق العقد منه، ولا عقد شرعاً مع إلغاء القصد. وكذا الحال لو تمّ ما سبق عن بعض الأعاظم (قدس سره) من ظهور رفع القلم بنفسه في ذلك. لكن سبق المنع من الظهورين معاً.

هذا وأما الإقرار فحيث لا يكون إذن الولي موجباً لنسبته له تعين عدم نفوذه من الصبي مطلقاً. بل حتي لو كان منسوباً للولي لا دليل علي إلزام المولي عليه به. غاية الأمر أن يكون حجة في نفسه، لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به، ولحجية إخبار الإنسان عما تحت يده. إلا أن ذلك غير حجيته بملاك الإقرار، بحيث لو ادعي الصبي العلم بخطئه لم تسمع دعواه. وتمام الكلام في ذلك في بحث الإقرار.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن الأدلة وإن لم تنهض بإلغاء إنشاء الصبي إلا أنه لا يجوز له التصرف في ماله مستقلاً حتي بإذن الولي. وكأن مراده بذلك أن يفوض له الولي القيام بالمعاملة من دون إشراف منه عليها، واحاطة بخصوصيتها،

ص: 146

كالوكيل المفوض، بخلاف ما إذا قام الولي بالمعاملة، ووكله في إجراء العقد فقط، فإن المعاملة تصح حينئذٍ - كما صرّح به في فتواه - لعدم الدليل علي إلغاء إنشائه، كما سبق.

ويظهر منه أن الوجه في المنع من استقلاله حينئذٍ ما تضمنته الآية الشريفة من النهي عن دفع المال للصبي، وما تضمنته النصوص السابقة من عدم جواز أمر الصبي في ماله، بحملها علي عدم سلطنته علي ماله، بحيث يتصرف فيه كما يشاء.

لكنه يشكل بأن الآية الشريفة لا تنهض بإثبات ما ذكره: أولاً: لأن دفع المال كناية عن استقلال الصبي بالتصرف في ماله وسلطنته عليه، وانقطاع ولاية الولي عنه، فلا يجوز حبس ماله عنه، فتعليق ذلك علي البلوغ إنما يقتضي بقاء ولاية الولي وعدم استقلال الصبي بالتصرف في المال والسلطنة عليه قبله، وذلك لا يمنع من دفع الولي المال إليه إذا كان بنظره صالحاً لإدارته ورعايته، بحيث يكون تصرف الصبي فيه لولايته عليه، نظير تصرف الوكيل الأجنبي المفوض إذا رآه الولي أهلاً للوكالة التفويضية، فضلاً عما إذا عين له تصرفاً خاصاً، وأوكل إليه اختيار الفرد المناسب له، كما إذا دفع إليه ثمن ثوب وأوكل إليه اختيار البايع الذي يشتريه منه أو اختيار لون الثوب أو جنسه المناسب له أو نحو ذلك.

وإلا فالجمود علي دفع المال في الآية الشريفة، من دون أن يجعل كناية عن انتهاء ولاية الولي، مستلزم لحرمة دفع المال إليه ولو لحفظه أو نقله من مكان إلي أخر، ولقصور الآية عن إثبات عدم نفوذ تصرف الصبي في ماله لو بقي عند الولي، كما إذا باعه وهو عنده، أو تضمن تصرفه جعل مال في ذمته، كما لو أشتري شيئاً نسيئه.

كما أن حمل المنع من دفع المال قبل البلوغ علي المنع من تصرف الصبي في المال حتي لو كان بإذن الولي مستلزم لقصور الآية عن إثبات انتهاء ولاية الولي بالبلوغ، وغاية ما تدل عليه حينئذٍ أن الصبي إذا بلغ جاز دفع المال إليه، ليتصرف فيه، من دون أن ينافي لزوم استئذان الولي لو أراد التصرف فيه، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

وثانياً: لأن الذي أنيط بالبلوغ في الآية الشريفة هو وجوب دفع مال الصبي

ص: 147

له، بملاك حرمة حبس ماله عنه بعد كماله، ومقتضي المفهوم حينئذٍ عدم وجوب دفع المال له، لا حرمة دفعه له. نعم لو كان المنوط بالبلوغ هو جواز دفع المال كان مقتضي المفهوم حرمة الدفع. لكنه ليس كذلك قطعاً.

وثالثاً: أن دفع المال كما أنيط في الآية الشريفة بالبلوغ أنيط بالرشد، مع عدم الإشكال ظاهراً في جواز دفع المال للسفيه بعد البلوغ، ليتصرف فيه إذا رأي الولي الصلاح في ذلك ولم يكن فيه تفريط بالمال.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من أن الأمر بدفع المال له كناية عن انتهاء ولاية الولي عليه، واستقلاله بالتصرف بعد البلوغ، فتدل بمقتضي المفهوم علي عدم استقلاله فيه، وإن جاز تصرفه فيه بإذن الولي إذا رأي الصلاح في ذلك.

وأما النصوص المذكورة فهي كما ذكره تدل علي عدم سلطنة الصبي علي ماله، بحيث له التصرف فيه كما يشاء، إلا أن نفوذ تصرفه فيه بإذن الولي لا يرجع إلي سلطنته عليه، بل إلي سلطنة الولي، حيث تكون سلطنة الصبي حينئذٍ في طول سلطنته، ومستمدة منه، كسلطنة الوكيل الأجنبي، والنصوص لا تمنع من السلطنة بالوجه المذكور، بل من السلطنة الاستقلالية، لأنها هي الظاهرة من جواز الأمر الذي منعت منه النصوص المذكورة. فهي نظير ما دل عدم جواز بيع الإنسان مالا يملكه(1) ، حيث لا ينافي جواز بيعه له بإذن مالكه وكالة عنه.

وبالجملة: حجر الصبي عن التصرف في أمواله إنما يقتضي عدم استقلاله بالتصرف فيها من دون أن ينافي نفوذ تصرفه بإذن الولي، الذي هو في الحقيقة من تصرف الولي ومن شؤون سلطنته.

نعم، لو لم يبتن إذن الولي علي إعمال سلطنته وولايته بمراعاة صلاح الصبي، بل علي التخلي عنها، نظير إذن الوكيل للموكل في أخذ ماله منه والتصرف فيه بنفسه، أو طلبه منه ذلك، تعين عدم جواز الإذن المذكور، وعدم نفوذ تصرف الصبي تبعاً له،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 148

(149)

لكونه قاصراً محجوراً عليه، من دون أن يستمد سلطنته من الولي. لكنه خارج عن محل الكلام. كما هو ظاهر.

بقي شيء. وهو أن قد يستدل لنفوذ معاملة الصبي بإذن الولي، وعدم إلغاء قصده وعمله - مضافاً إلي العمومات والإطلاقات - بأمور:

الأول: الآية الشريفة المتقدمة حيث تضمنت ابتلاء اليتامي قبل بلوغ من أجل إحراز رشدهم. قال سيدنا المصنف (قدس سره) في نهجه: (والظاهر من الابتلاء الابتلاء بالمعاملات علي الأموال، واختبار رشدهم فيها. وحملها علي الابتلاء بمقدمات العقد خلاف الظاهر).

لكن من الظاهر أن المعاملة ليست بنفسها من أفراد الاختبار ليتمسك بإطلاقه لجوازها، بل هي سبب له، وكما يمكن حصوله بها يمكن حصوله بغيرها، كاستصحاب الطفل عند المعاملة من أجل الإطلاع علي مدي تمييزه المعاملة السفهية من غيرها، وأمره بإجراء المعاملات الصورية بعد الاتفاق مع أطرافها علي إيقاعها قبله أو بعده أو عدم إيقاعها، وإيكال مقدمات المعاملة له، وغير ذلك.

نعم، لو تم تعارف اختبار الطفل بإيكال المعاملة له، كان مقتضي الإطلاق المقامي في الآية جواز ذلك. لكنه يرجع في الحقيقة للاستدلال بالسيرة العقلائية، غاية الأمر أن يدعي استفادة إمضاء السيرة من الآية الشريفة حينئذٍ.

هذا كله إذا كان المراد بالابتلاء اختبار رشدهم المالي. أما إذا أريد به اختبار بلوغهم، كما نسبه كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد إلي ظاهر الأخبار، فيكون أجنبياً عما نحن فيه. نعم لم يتيسر لنا عاجلاً العثور علي الأخبار المذكورة. لكن يكفي في التوقف عن الاستدلال بالآية الشريفة لما نحن فيه الاحتمال المذكور بعد عدم وضوح الدافع له من نفس الآية الشريفة أو من قرينة خارجية.

الثاني: موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن كسب الإماء، فإنها إن لم تجد زنت، إلا أمة عرفت بصنعة يد، ونهي عن كسب الغلام

ص: 149

الذي لا يحسن صناعة بيده، فإنه إن لم يجد سرق) (1) . فإن تعليل النهي باحتمال السرقة ظاهر في صحة معاملة الصبي ذاتاً، وإلا كان الأولي التعليل ببطلان معاملته. بل مقتضي التقييد بعدم إحسانه صناعة بيده جواز تكسبه بالإجارة علي العمل الذي يقوم به. قال سيدنا المصنف (قدس سره):

(ولو حمل النهي علي الكراهة فالدلالة أظهر) .

لكن ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه محمول علي عوض كسبه من التقاط، أو أجرة عن إجارة أوقعها الولي، أو الصبي بغير إذن الولي، أو عن عمل أمر به من دون إجارة، فأعطاه المستأجر أو الآمر أجرة المثل، فإن هذه كلها مما يملكه الصبي.

وهو كما تري بعيد جداً، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره). ولاسيما مع سياقه في مساق كسب الإماء، الذي لا إشكال في جوازه ولو بمثل البيع والشراء.

علي أن المراد بعوض كسبه من الالتقاط، إن كان هو الأجرة علي الالتقاط - بأن يستأجره شخص علي أن يلتقط له الحصي أو النوي أو نحوهما - فهو داخل فيما ذكره بعد ذلك من فروض الأجرة. وإن كان هو ثمن ما يلتقطه ويملكه من المباحات الأصلية أو غيرها، فهو يرجع إلي صحة بيعه لما يلتقطه، ومساق كلامه يأباه. وإن كان هو نفس ما يلتقطه ويحوزه من الحصي والنوي والحطب وغيرها، فهو لا يناسب احتمال السرقة الذي تضمنه الموثق. فلاحظ.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حمله علي ما إذا كان الصبي بمنزلة الآلة للولي في إيقاع المعاملة مع الطرف الآخر. إذ هو إنما يتصور مع ضبط الولي للمعاملة بخصوصياتها وإحاطته بها، ولا مجال لحمل الموثق عليه، لأن احتمال سرقة الصبي إنما يكون مع عدم إحاطة الولي بمعاملاته وتصرفاته. علي أنه لا يناسب سياقه في مساق الأمة التي لا ريب في عموم تكسبها لما إذا لم تكن آلة.

ومن هنا كان الظاهر تمامية الاستدلال بالموثق. وهو لو تم لا يفرق فيه بين المحقرات وغيرها، للإطلاق. ولاسيما مع عدم انضباط المحقرات، حيث يبعد حينئذٍ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 33 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 150

إرادتها من الإطلاق.

الثالث: خبر إبراهيم بن أبي يحيي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: تزوج رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أم سلمة. زوجها إياه عمر بن أبي سلمة، وهو صغير لم يبلغ الحلم) (1) . فإنه يدل علي الاعتداد بعقد الصبي وإنشائه، وعدم إلغاء قصده.

لكنه - مع الإشكال في سنده، لاشتماله علي سلمة بن الخطاب، الذي ضعفه النجاشي، فلا ينفع في إحراز توثيقه كونه من رجال كامل الزيارات - مختص بالعقد الذي يجريه لغيره وكالة عنه، ولا ينفع في تصحيح عقده لنفسه، فضلاً عما يتعلق منه بماله، ولم يثبت عدم الفصل في المقام، خصوصاً بعد ما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره). نعم لو كان الوجه في عدم صحة عقده إلغاء قصده كان منافياً للخبر المذكور.

الرابع: السيرة التي ادعاها غير واحد. قال سيدنا المصنف (قدس سره): (والظاهر أنها ليست مورداً للتشكيك. إذ لا يحتمل عدم مداخلة الصبيان المميزين في أمر المعاملات في عصر المعصومين (عليهم السلام). كيف ؟! وقد استقرت علي ذلك سيرة العقلاء، إذ لا يفرقون في جواز المعاملة مع المميزين بين من بلغ الخمس عشرة سنة ومن لم يبلغها إلا بعد أيام أو ساعات. غاية ما ثبت الردع عن بنائهم علي استقلالهم في التصرف، فيبقي جواز التصرف بإذن الولي بحاله بلا رادع).

وقد استشكل شيخنا الأعظم (قدس سره) في التعويل علي السيرة المذكورة بقوة احتمال كونها ناشئة من التسامح في الدين، علي نحو ما سبق منه من الإشكال في التعويل علي السيرة في العقد بالمعاطاة. وقد سبقه إلي ذلك في الجواهر. والظاهر اندفاعه علي نحو ما سبق هناك بتفاصيله. فراجع.

نعم، أيّد (قدس سره) ابتناء السيرة علي التسامح في الدين بعمومها للمميزين وغيرهم، بل للمجانين، بل تعم ما إذا استقلوا بالتصرف بحيث لا يعلَم الولي.

لكن عمومها لغير المميزين والمجانين إن ابتني علي كونهم آلة لأوليائهم في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 16 من أبواب عقد النكاح حديث: 1.

ص: 151

إيصال العوض للطرف الآخر، مع توليه بنفسه طرفي العقد، فلا محذور فيه. وإن ابتني علي إيقاع المعاملة معهم، فهو مما تأباه مرتكزات العقلاء ويتجنبه المتدينون، ولا يقدم عليه غير المتسامحين، ممن لا عبرة بسيرتهم وليس هو كالتعامل مع المميزين المأذونين مورداً لسيرة المتدينين.

وأما عمومها لما إذا استقلوا بالتصرف من دون علم الولي، فإن أريد به استقلالهم في إجراء المعاملات مع إذن الولي لهم بذلك فلا محذور فيه، ولا ينكشف عن ابتناء السيرة علي التسامح في الدين. وإن أريد به استقلالهم من دون إذن الولي، فهو أمر يختص بالمتسامحين أيضاً، ولا يقدم عليه المتدينون الملتزمون، وليس كالتعامل مع المأذون مورداً لسيرة المتدينين.

وإذا أمكن التشكيك في تدين المتعامل مع الصبي، للالتباس ببعض الصور المتقدمة، فلا مجال للتشكيك في تدين الأولياء الذين يأذنون للصبيان في تولي المعاملات، ويرتبون الأثر علي المعاملة التي قد أذنوا لهم في القيام بها. فإن فيهم من هو في الدرجة العليا من الدين والمعرفة، ولو لم يستعينوا بالصبيان لاضطربت أمورهم.

والحاصل: أن قيام سيرة المتشرعة المتدينين علي التعامل مع الصبي بإذن الولي من الوضوح بحيث لا يمكن التشكيك فيه، فضلاً عن إنكاره. كما أن السيرة المذكورة من أقوي الأدلة علي صحة التعامل معهم بإذنه.

بل الإنصاف أن إسقاط قصد الصبي وإنشائه بعيد عن الاعتبار وعن سليقة الشارع الأقدس، لما فيه من توهين الصبي، وتحطيم معنوياته، وسدّ طريق النمو والتكامل عليه، بنحو لا يناسب تهيئته للاستقلال بالتصرف بعد البلوغ وتحمل المسؤولية الكاملة. وهذا بخلاف إيكال أمره للولي، فإنه أمر مقبول ارتكازاً، كسائر شؤون التربية، المبنية علي التلقي من الكبار والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم. فلاحظ.

هذا وبعد وضوح السيرة المذكورة فقد حاول غير واحد منع الاستدلال به

ص: 152

علي عموم صحة عقد الصبي لوجوه:

الأول: ما في الرياض من قصرها علي ما إذا كان الصبي بمنزلة الآلة لمن له أهلية التصرف، وكأن المراد به كونه آلة للولي في إيصال المال للطرف الآخر للمعاملة، مع إيقاع الولي بنفسه لإيجاب العقد - بناء علي ما سبق من جواز الفصل بين الإيجاب القبول - أو مع الإذن للطرف الآخر في تولي طرفي العقد، فيكون موجباً عن نفسه قابلاً عن الولي أو بالعكس، كما يظهر من كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد.

لكن الأول موقوف علي قصد الولي إنشاء إيجاب العقد بتسليم المال للصبي، وعلي إحاطته بخصوصيات العقد من الثمن والمثمن وغيرهما. وكلاهما فرض محض، أو نادر الوقوع، فلا مجال لقصر السيرة عليه.

والثاني - مع توقفه علي قصد الولي التوكيل بالنحو المذكور، الذي هو كسابقه - إنما يتجه فيما إذا لم يكن الصبي مميزاً للمعاملة، أما مع تمييزه لها فالظاهر حصول التعامل معه، خصوصاً إذا أعمل نظره في اختيار البايع أو في خصوصيات المبيع أو ماكس في الثمن، حيث لا ريب حينئذٍ في كونه بنفسه طرفاً في المعاملة، وابتناء حال الولي معه علي الإذن له بذلك، لا علي خصوص الإذن له بإيصال المال للطرف الآخر.

الثاني: تخصيص ذلك بالمحقرات، لدعوي أنها مورد السيرة، التي هي الدليل في المقام. لكنه في غاية المنع، لأن غلبة اقتصارهم علي المحقرات ليس لبنائهم علي المنع من قيام الصبي بالتعامل في غيرها ارتكازاً، بل لغلبة قصوره عن الإحاطة بغيرها، ولذا يختلف الأطفال تبعاً لاختلاف أعمارهم وإدراكهم في مقدار أهمية المعاملات التي يقومون بها. ولو فرض نضوج الصبي وحسن استيعابه للمعاملات المهمة لم يتوقفوا عن إيكالها له. كما هو ظاهر.

وأضعف من ذلك ما قد يظهر مما عن الكاشاني (قدس سره) من أن الدليل في المحقرات ليس هو السيرة، بل لزوم الحرج من تجنب المعاملات معهم فيها، إما لشدة الحاجة لهم فيها لكثرة الابتلاء بها، فلو اقتصر فيها علي البالغين لضاقت أوقاتهم عنها، أو لأنه بعد

ص: 153

(154)

وكذا إذا كان تصرفه في غير ماله بإذن المالك (1).

(الثاني): العقل، فلا يصح عقد المجنون (2)

---------------

تعارف قيام الصبيان بها يصعب تجنب التعامل معهم.

إذ فيه: أن دليل الحرج لا ينهض بإثبات مشروعية المعاملة وصحتها إذا لم تنهض الأدلة الأخر بذلك. مع أنه لم يتضح الوجه في إهمال الاستدلال بالسيرة مع ظهور ما سبق عنه في المفروغية عنها.

الثالث: أن ذلك يختص بالمعاطاة المبنية علي الإباحة من دون ملك، والتي يكفي فيها الإذن في التصرف المحرز من تولي الطفل، دون العقد المملك.

ويظهر ضعفه مما سبق من أن المعاملة المعاطاتية عقد مملك، بل لازم، كسائر العقود. وغلبة وقوعها من الطفل تبتني علي غلبة إيقاع العقود بالمعاطاة، من دون خصوصية الصبي في ذلك، لا لاختصاص الجواز في حق الصبي بها ارتكازاً.

ومن هنا كان الظاهر نهوض السيرة بإثبات صحة معاملة الصبي بإذن الولي مطلقاً، وكونها عاضدة للعمومات القاضية بها. بل هي أقوي منها، لكونها قطعية المفاد.

(1) لعموم السيرة المتقدمة لذلك. بل هو داخل في المتيقن منها. مضافاً إلي إطلاق الأدلة القاضية بنفوذ العقد من المأذون والوكيل، بعد ما سبق من عدم الدليل علي إلغاء قصد الصبي وعقده. ومنه يظهر صحة عقده وإيقاعه - لنفسه بإذن الولي، ولغيره بإذنه - في غير الماليات، كالنكاح والطلاق.

(2) قال في الجواهر:

(لا أجد فيه خلافاً، بل الإجماع بقسميه عليه، بل الضرورة من المذهب، بل الدين. لا لعدم القصد، فإنه قد يفرض في بعض أفراد الجنون، بل لعدم اعتبار قصده، وكون لفظه كلفظ النائم، بل أصوات البهائم. وهو المراد من رفع القلم عنه وعن الصبي في الخبر، مع أن العمومات التي اغتر بها من عرفت في الصبي

ص: 154

(155)

إذا كان قاصداً إنشاء البيع (1).

(الثالث): الاختيار فلا يصح بيع المكره (2).

---------------

شاملة لبعض أفراده إن لم يكن جميعها) .

لكن المتيقن من الإجماع غير القاصد، الذي لا عقد له في الحقيقة. أما مع القصد فلا مانع من البناء علي صحة عقده مع إذن الولي عملاً بالعمومات التي أشار إليها. وإلغاء قصده خال عن الدليل. وقد سبق المنع من حمل رفع القلم عليه.

نعم، لا مجال للاستدلال علي صحة عقده حينئذٍ بالسيرة، لعدم شيوع الابتلاء بذلك وعدم ظهوره، بحيث يكون دليلاً في المقام. فينحصر الدليل علي صحة عقده حينئذٍ بالعمومات. وكأن مراد سيدنا المصنف (قدس سره) عدم صحة عقده في نفسه من دون إذن الولي، كما يناسبه ما ذكره في كتاب الإجارة من مستمسكه من قصور أدلة المنع عن صورة إذن الولي.

(1) أما إذا لم يكن قاصداً فلا عقد منه، ليقع الكلام في صحته.

(2) بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، بل الضرورة من المذهب. كذا في الجواهر. ولا إشكال ظاهراً في عدم اختصاص ذلك بالبيع، بل يجري في غيره من العقود والإيقاعات ونحوها. وقد استدل علي عموم ذلك أو يستدل عليه - بعد الإجماع المذكور - بأمور:

الأول: عموم رفع الإكراه المستفاد من أحاديث الرفع المتقاربة الألسنة. كصحيح حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما كرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه... ) (1) ، لظهوره في رفع تبعة الفعل والتكليف، وما يكون من شؤون المسؤولية المترتبة عليهما، نظير ما تقدم في حديث رفع القلم، فيعمّ العقوبة الأخروية، والدنيوية - بمثل الحد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 56 من أبواب جهاد النفس حديث: 1.

ص: 155

والتعزير - وغيرها مما هو من سنخ التبعة وشؤون المسؤولية كالكفارة، والنفوذ في العقد والإيقاع والإقرار واليمين ونحوها، دون مثل النجاسة والحدث اللذين هما من سنخ الآثار الوضعية المحضة، وتحريم الحيوان مع الخطأ في التذكية المسبب عن صيرورته ميتة، والضمان الثابت بملاك تدارك خسارة المضمون له، ووجوب الإعادة والقضاء عند الخطأ في الامتثال الثابت بملاك امتثال التكليف الواقعي، وغير ذلك مما لا يبتني علي تحميل الإنسان تبعة عمله ومسؤوليته به ومحاسبته عليه.

ويشهد لما ذكرنا من عموم الحديث لغير العقوبة الأخروية وشموله لمثل نفوذ العقد والإيقاع صحيح صفوان والبزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):

(في الرجل يستكره علي اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك ؟. فقال: لا. قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا) (1) .

قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في بحث أصل البراءة من فرائده:

(فإن الحلف بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضاً، إلا أن استشهاد الامام (عليه السلام) علي عدم لزومها مع الإكراه علي الحلف بها بحديث الرفع شاهد علي عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة) .

الثاني: ما دل علي عدم حلّ مال المسلم إلا بطيب نفسه، مثل ما رواه زيد الشحام في الصحيح وسماعة في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) من خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مني، وفيها:

(ألا من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه) (2) ، بتقريب عدم طيب النفس بالشيء مع الإكراه عليه.

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن قصد المكره لمضمون المعاملة لا يكون إلا عن إرادته له ورضاه به، وهو عين طيب النفس به. ودعوي: أن الرضا به ليس لنفسه، بل لتجنب ضرر المكره والتخلص من شره. مدفوعة بأن الرضا الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

ص: 156

يتوقف عليه حلّ المال ليس خصوص الرضا ببذله لنفسه، بل الأعم من ذلك ومما إذا كان من أجل دفع مفسدة أهم من حفظ المال والتمسك به، كما لو باع الشخص ماله ليداوي به مريضه، أو يتخلص به من شر نزل به.

لكن الإنصاف هو انصراف الرضا وطيب النفس في الأدلة عن الرضا الناشئ من الإكراه. ولعله لورود الأدلة المذكورة لبيان حرمة من يعتبر رضاه بنظر الشارع الأقدس المناسب لعدم الاكتفاء برضاه الناشئ من التعدي عليه بالإكراه وإلزامه بما لا يريد. وليس هو كالرضا الحاصل له من أجل دفع مفسدة أهم غير ضرر المكره، فإن الاكتفاء بالرضا المذكور لا ينافي حرمته، بل مقتضي حرمته إيكال أمر ماله إليه، فله اختيار ما يره الأنسب بحاله، والترجيح فيه بين الدواعي المختلفة.

هذا وقد جري (قدس سره) علي ما ذكرنا في آية التجارة عن تراض، لدعوي: أن التجارة لما كانت من العقود المبنية علي القصد، ولا يقدم موقعها عليها إلا وهو قاصد لها راض بها، فتقييدها بالرضا لا بد أن يكون بلحاظ أمر زائد علي ذلك، وهو الرضا المقابل للإكراه. ومن ثم جعل (قدس سره) الآية الشريفة من أدلة المسألة، بل عمدة أدلتها.

ومقتضي ما ذكره أن الرضا قد يستعمل بمعني يقابل الإكراه. وحينئذٍ كما يحمل عليه في الآية الشريفة من أجل أصالة كون القيد احترازياً لا تأكيدياً، فليحمل عليه في الحديث المتقدم بقرينة وروده مورد الاحترام للمسلم، كما هو المستفاد منه عرفاً.

نعم، قد يدعي اختصاص الحديث الشريف بالحرمة التكليفية المتعلقة بالتصرفات الخارجية، كحبس مال الأمانة وأكله، التي هي المتيقن من مورد الحديث، دون الحرمة الوضعية الراجعة للفساد وعدم ترتب الأثر، والتي تتعلق بالتصرفات الاعتبارية التي هي محل الكلام، كالبيع وغيره من العقود والإيقاعات، إذ لا أقل من عدم وضوح الجامع بين الحرمتين.

لكن من القريب جداً استفادة العموم، فإنه لو لم يكن مقتضي إطلاق الحديث المتقدم فلا أقل من فهمه منه بضميمة إلغاء الخصوصية عرفاً، ولو من أجل وروده في

ص: 157

مقام بيان احترام المسلم شرعاً. فلاحظ.

بقي شيء. وهو أن ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) يبتني علي المفروغية عن كون المكره قاصداً لمعني اللفظ، وهو إنشاء المضمون الذي يكره عليه، كما صرح به هو (قدس سره) بعد ذلك، وسبقه إليه شيخنا الأعظم (قدس سره). وهو الذي أصرّ عليه في كتاب الطلاق من الجواهر.

لكن منع من ذلك في كتاب البيع من الجواهر، تبعاً لما يبدو من كلام الشهيدين في الدروس والمسالك، بل محكي كلام العلامة في مبحث الطلاق من التحرير. وإن أصر شيخنا الأعظم (قدس سره) علي توجيه كلمات العلامة و الشهيدين بحمل القصد المنفي فيها علي ما يساوق الرضا، لا علي قصد الإنشاء الذي هو محل الكلام.

ولا يهم تحقيق مرادهم، وإنما المهم في المقام أنه لا ينبغي التأمل في عدم منافاة الإكراه للقصد إلي إنشاء العقد. ومن ثم يصدق عنوان العقد والإيقاع المكره عليه. ولذا سئل عن حكمه في النصوص، وينفذ إذا كان الإكراه بحق أو تعقبته الإجازة بالنحو الذي يصح به عقد الفضولي... إلي غير ذلك مما يتوقف علي قصد إنشاء المضمون من المكره. وأما كراهته له فهي لا تنافي الإقدام علي إنشائه حذراً من الضرر المتوعد به، كما في سائر موارد الدوران بين محذورين.

الثالث: ما ورد في خصوص بعض المعاملات، كقوله تعالي

:(ولا تكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) (1) ، حيث تقدم قريباً أن التقييد بالتراضي ظاهر في مانعية الإكراه. والاستثناء في المقام وإن كان منقطعاً، لخروج التجارة عن الباطل، إلا أن الاستثناء المنقطع دال علي الحصر أيضاً، لرجوعه إلي كون المستثني منه هو الأعم من المستثني والمستثني منه الملفوظ، فإذا قيل: ما في الدار رجل إلا حمار كان ظاهراً في نفي مثل البقرة أيضاً.

نعم، لابد من البناء علي كون الحصر في الآية الشريفة إضافياً - كما سبق في

********

(1) سورة النساء آية: 29.

ص: 158

المسألة الثالثة من مقدمة كتاب التجارة - للعلم بحلية أكل المال بوجوه أخر غير التجارة كالإجارة والمضاربة والصلح والهبة والصدقة وغيرها. لكنه لا يمنع من ظهور الآية في الحصر بالإضافة للتجارة لا عن تراض، لأنها المتيقن عرفاً من الحصر الإضافي في المقام.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الآية الشريفة في اشتراط التراضي في صحة التجارة، لا من جهة مفهوم الوصف، بل لخصوصية الاستثناء الظاهر في الحصر.

وكذا ما في غير واحد من النصوص من عدم صحة طلاق المكره وعتقه، كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (سألته عن طلاق المكره وعتقه. قال:

ليس طلاقه بطلاق، ولا عتقه بعتق) (1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام):

(سألته عن عتق المكره. قال: ليس عتقه بعتق) (2) ، وموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: كل طلاق جائز، إلا طلاق المعتوه، أو الصبي، أو مبرسم، أو مجنون، أو مكره) (3) وغيرها.

ومثلها ما تضمن عدم انعقاد اليمين مع الإكراه. كمعتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلي المأمون، قال:

(والتقية في دار التقية واجبة، ولا حنث علي من حلف تقية يدفع بها ظلماً عن نفسه) (4) ، وغيره.

وهذه الأدلة وإن وردت في موارد متفرقة، إلا أنه قد يستدل بها علي العموم المدعي بضميمة عدم الفصل. لكنه يشكل بأن عدم الفصل لم يثبت بنحو يكون في مقابل الإجماع المشار إليه آنفاً، ليكون دليلاً آخر في قباله، كما أشار لذلك في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره).

وبعبارة أخري: لم يتضح أن في المقام إجماعان: الإجماع علي عموم عدم نفوذ تصرف المكره، والإجماع علي الملازمة بين الموارد، وعدم الفصل بينهما، بحيث لو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 37 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 19 من أبواب كتاب العتق حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 34 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب الأيمان حديث: 10.

ص: 159

(160)

وهو من يأمره غيره (1)

---------------

نفذ في بعضها نفذ في الجميع، ليكون الإجماع الثاني متمماً لدليلية الأدلة المتقدمة علي العموم، بل المتيقن هو الإجماع الأول لا غير.

نعم، لا يبعد استفادة العموم منها بإلغاء خصوصية مواردها، لفهم عدم دخلها، وأن الحكم فيها يبتني علي عموم القضية الارتكازية بعدم تحمل الإنسان تبعة التزامه الثابتة عليه بمقتضي مسؤوليته إلا إذا كان مختاراً في الالتزام المذكور، وأقدم عليه بنفسه، دون ما إذا كان قد أكره عليه عدواناً، بنحو ينافي حرمته وسلطنته علي نفسه وماله.

بل لا يبعد كون وضوح القضية الارتكازية المذكورة موجباً لانصراف أدلة النفوذ الشرعية في جميع المعاملات، بحيث تقصر عن صورة الإكراه، لما هو المرتكز من جري الأدلة المذكورة علي المرتكزات العرفية من إلزام الإنسان بالتزاماته ونفوذها عليه بلحاظ سلطنته علي نفسه وماله، فتقتصر عن الموارد التي لا يري العرف إلزامه بها، ومنها مورد الإكراه حيث لا يستقل الموقع للمعاملة بإعمال سلطنته فيه، ويتعدي عليه بإكراهه وإلزامه. وحينئذٍ لا يحتاج في عدم نفوذ معاملة المكره إلي دليل يتضمن مانعية الإكراه، لينظر في عمومه أو خصوصه، بل يكفي فيه عدم المقتضي بسبب قصور أدلة النفوذ. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي تفسير الإكراه بحمل الغير علي ما يكره في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره. وهو المفهوم منه عرفاً، والظاهر من كلام غير واحد من اللغويين. فإن الحمل من الغير لا يتم إلا بطلبه وحثه علي العمل ويترتب علي ذلك عدم تحقق الإكراه في موارد:

الأول: ما لو أقدم علي العمل خوفاً من الغير من دون يأمره به، كما لو باع داره خوفاً من مصادرة السلطان لها، لحاجته لها، أو حسداً منه لصاحبها، أو لغير ذلك. وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن الضرر المخوف من شخص خاص، كما لو باع

ص: 160

(161)

بالبيع المكروه له (1)،

---------------

الدابة خوفاً عليها من الموت أو المرض، أو خوفاً من إيذائها له أو شؤمها عليه، أو من تنكيل الله تعالي به لتميزه عن أقرانه المؤمنين أو غير ذلك له، فإن الإكراه لا يصدق في جميع ذلك، حتي لو كان الفعل الذي يقدم عليه مكروهاً له في نفسه، ولا يقدم عليه لولا خوف الضرر المذكور. ومن هنا يتعين نفوذ المعاملة بعد الرضا بها وعدم صدق الإكراه.

الثاني: ما إذا تحقق الأمر من الغير مع الوعيد، إلا أنه لم يكن هو الحامل للمأمور علي القيام بالعمل، إما للجهل بصدور الأمر المذكور، أو مع العلم به لكن كان الداعي للإقدام علي العمل أمراً آخر، بحيث يصلح للاستقلال بالداعوية. لظهور أن حمل الغير لا يصدق بمجرد أمره ووعيده، بل لابد من كونه هو الداعي الحامل للإقدام علي العمل. ومن ثم يتعين صحة المعاملة هنا أيضاً.

الثالث: ما إذا أقدم علي العمل لتخيل صدور الأمر والوعيد من شخص يخاف منه من دون أن يحصل ذلك واقعاً، لظهور أن الإكراه لا يصدق بمجرد تخيله. نعم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المتعين حينئذٍ بطلان المعاملة، لعدم طيب النفس بها. وهو المناسب لما سبق منا من أن المراد بطيب النفس ليس مطلق الرضا الملازم للإقدام علي الإنشاء، بل رضا خاص لا يتحقق إلا مع الرضا بالمعاملة من دون إكراه. ومثل هذا الرضا كما لا يحصل مع الإقدام عن الإكراه الواقعي لا يحصل مع الإقدام عن تخيل الإكراه.

ومنه يظهر انه لو فرض المنع من الاستدلال في المقام لاعتبار الرضا بالوجه المذكور في صحة المعاملة بما دل علي عدم حلّ مال المسلم إلا بطيبة نفسه، لدعوي أن المتيقن منه حلّ التصرفات الخارجية تكليفاً، كما سبق الكلام فيه، كفي في الاستدلال عليه آية التجارة عن تراض، لما سبق من لزوم حملها علي خصوص الرضا المذكور.

(1) مقتضي ما سبق في تعريف الإكراه اعتبار كون موضوعه مكروهاً، كم

ص: 161

ذكره (قدس سره) وتكرر في كلماتهم. لكنه لا يناسب ما هو المعلوم من صدق الإكراه في مورد الحرمة التكليفية وارتفاعها به، مع أن المكره عليه قد يكون محبوباً في نفسه للمكره، كما لو أكره علي عمل محرم يحبه ويود القيام به لولا حرمته.

وقد ادعي سيدنا المصنف (قدس سره) صدق الكراهة في جميع موارد الإكراه وإن اختلف معيار صدقها باختلاف الأفعال المكره عليها. فإن كان المكره عليه مما لا اقتضاء فيه شرعي فالكراهة إنما تكون بلحاظ الجهات النفسانية والدواعي الجبلية، كما في المعاملات، ويكون الرفع فيها للحكم الوضعي، كالنفوذ والصحة. وإن كان الفعل المكره عليه مما فيه اقتضاء شرعي، كما لو كان محرماً شرعاً فالكراهة إنما تكون بلحاظ الاقتضاء الشرعي، لابتناء الاقتضاء الشرعي علي إلغاء نظر المكلف ودواعيه النفسانية.

قال (قدس سره):

(بل هناك قسم ثالث لا تكون فيه الكراهة المأخوذة في موضوع الإكراه بلحاظ الاقتضاء الشرعي ولا بلحاظ الدواعي النفسانية، وذلك كما في إكراه الولي علي بيع مال الصبي، فإن الإكراه الرافع للصحة فيه إنما هو بلحاظ مصلحة الصبي، فإذا كانت مصلحة الصبي في ترك البيع فأكره عليه كان باطلا وإن لم يكن مكروهاً بلحاظ دواعي الولي النفسانية، ولا بلحاظ مناط الحكم الشرعي الاقتضائي. وإن كان البيع مصلحة للطفل كان صحيحاً، وإن كان مكروهاً للولي بلحاظ دواعيه النفسانية، فإذاً الكراهة التي هي شرط صدق الإكراه يختلف النظر في تطبيقها باختلاف المقامات الثلاث) .

ويشكل - بعد الفراغ عن أن المراد بالاقتضاء الشرعي، خصوص الإلزامي وهو التحريم - بأن جعل الشارع الأقدس للتحريم ولولاية الولي من أجل مصلحة المولي عليه، وإن اقتضي عدم العمل علي الرغبات النفسية والدواعي الجبلية علي خلافهما، إلا أنه لا يرجع إلي التصرف في تطبيق الكراهة، وحملها علي ما يساوق الحكم الشرعي ومصلحة المولي عليه، دون الرغبات والدواعي المذكورة.

ص: 162

ولاسيما وأن تفسير الإكراه بأنه حمل الغير علي ما يكره ليس شرعياً، ليدعي أن مراد الشارع من الكراهة فيه هو المعني العرفي في غير مورد الجعل الشرعي، وما يساوق التحريم الشرعي في مورده، وما يساوق مصلحة المولي عليه في باب الولايات، وإنما هو تفسير عرفي، ومن الظاهر أن مراد العرف من الكراهة معناها العرفي، وهو الكراهة بلحاظ الجهات النفسية والدواعي الجبلية للمكره، ولا معني لتصرف الشارع في ذلك.

وأشكل من ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن إقدام المكرَه علي الفعل المكره عليه مع كراهته له حيث يكون فراراً عن المحذور الأهم الذي يوقعه به المكرِه، ففي موارد التحريم الشرعي لابد أن يكون المحذور الأهم الذي يسوّغ الإقدام علي الحرام هو الوقوع في محرم آخر أهم.

إذ فيه: أنه لا ريب في جواز إقدام المكلف علي الحرام مع الإكراه في الجملة دفعاً للضرر الذي يوقعه به المكرِه وإن كان الضرر المذكور مما يجوز تحمله، كالضرب الشديد والسجن. وحرمة إيقاعه علي المكرِه لكونه تعدياً منه علي المكرَه نفسه، ليكون إقدامه علي المحرم المكره عليه دفعاً للمحذور الأهم. ومن ثم لا يتضح ما ذكره قده سره في توجيه تطبيق الكراهة في موارد الجعل الشرعي، بالتحريم التكليفي، أو بجعل الولاية علي الغير.

نعم، قد يكون التحريم الشرعي موجباً لكراهة المحبوب حقيقة بجهة ثانوية. لكنه لا يطرد، مع أنه لا ريب في عموم رفع الإكراه لجميع موارد القهر والحمل من الغير الذي يخشي من مخالفته الضرر وإن لم يكن الأمر الذي يحمل عليه مكروهاً فعلاً.

ومن ثم كان من القريب جداً عدم توقف صدق الإكراه علي كون الأمر المكره عليه مكروهاً للمكره ومبغوضاً له، بل المعيار في صدقه الحمل علي الفعل والقسر عليه، بحيث لا يستقل المكره باختياره وإعمال سلطنته فيه، فيكون صدق

ص: 163

الإكراه بلحاظ القسر المذكور، لا بلحاظ كراهة نفس الفعل، كما يناسبه مقابلة الكره بالطوع في مثل قوله تعالي: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون)(1) ، وقوله سبحانه:

(ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) (2) وغيرهما. وإن كان تحديد المفهوم اللغوي مع اختلاف وجوه استعمال مادة الكره في غاية الإشكال.

والعمدة في المقام كون ذلك هو المفهوم عرفاً، ولو بضميمة ارتكاز أن رفع الإكراه إنما هو من أجل مراعاة حرمة المكرَه واحترام سلطنته وعدم تحميله مسؤولية عمله إذا لم يستقل بإعمال سلطنته فيه وباختياره له، فإن ذلك يناسب كون المعيار الحمل من الغير والإلجاء منه من دون خصوصية لنحو علاقته بالفعل وحبه إياه أو كراهته له.

نعم، لو كان له حين الإكراه داع لإيقاع المعاملة غير الإكراه، صالح للاستقلال بالداعوية لإيقاعها، فأوقعها بذلك الداعي صحت، لاستقلاله في إعمال سلطنته، كما سبق.

وبما ذكرنا يتجه عموم الرفع للمحرمات المكره عليها وإن لم تكن مبغوضة للمكرَه، بلا حاجة إلي ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الوجه، وكذا للمعاملات المكره عليها وإن لم تكن مبغوضة للمكره، لعدم توجهه إليها حين الإكراه، ليتحدد موقفه النفسي منها، أو لتوجهه إليها وعدم رجحان أحد الأمرين من وجودها وعدمها في نفسه، وكذا لمعاملة الولي عن المولي عليه وإن كانت محبوبة للولي إذا لم يكن من وظيفته إيقاعها، لعدم كونها صلاحاً للمولي عليه، أو لعدم وضوح حالها في حقه. كل ذلك لخلوها عن الاستقلال في إعمال السلطنة بسب الإكراه.

وبذلك يظهر أنه لو أكره الولي علي إيقاع المعاملة عن المولي عليه، وهو لا يحرز

********

(1) سورة آل عمران آية: 83.

(2) سورة فصلت آية: 11.

ص: 164

(165)

علي نحو يخاف من الإضرار به لو خالفه (1)،

---------------

صلاحها في حق المولي عليه لم تصح واقعاً، وإن كانت في الواقع صلاحاً للمولي عليه لعدم استقلاله في إعمال سلطنته عليها بمقتضي ولايته.

غاية الأمر أنه إذا ظهر له بعد ذلك كونها صلاحاً للمولي عليه أمكن له إجازتها، بناء علي ما يأتي إن شاء الله تعالي من صحة معاملة المكره بالإجازة، ولا تصح بدون ذلك.

(1) فإن حمل الغير علي العمل الذي تقدم أخذه في تفسير الإكراه، وإن كان يصدق بمجرد طلب الغير له منه وحثه إياه عليه، إلا أن الإكراه لا يصدق عرفاً بذلك إلا مع خوف الضرر من التخلف عنه وعدم الاستجابة له، بحيث يبتني الطلب علي القسر والالجاء. فلو أمن المأمور من الضرر، وإنما حمله علي الموافقة للآمر حبه له أو تحببه إليه أو حسن مخالطته ومعاشرته أو نحو ذلك مما لا يرجع إلي خوف إيقاعه الضرر به لم يصدق الإكراه عرفاً. وأظهر من ذلك ما إذا كانت الاستجابة طمعاً في الجزاء وترتب النفع مع الوعد به مسبقاً أو بدونه، كما لعله ظاهر.

هذا وفي خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: لا يمين في غضب ولا في قطيعة رحم، ولا في جبر ولا في إكراه. قلت: أصلحك الله، وما الفرق بين الجبَر والإكراه ؟ قال: الجبَر من السلطان، ويكون الإكراه من الزوجة والأم والأب. وليس ذلك بشيء) (1) .

ومن الظاهر أن الإكراه من الزوجة والأبوين، قد لا يبتني علي الإضرار، بل علي سوء المعاشرة والإلحاح، والانفعال النفسي الذي لا ينبغي للولد إلحاقه بأبويه، من دون أن يصدق الإضرار عرفاً. بل مقابلة الإكراه بالجبر وتفسير الجبر بما يكون من السلطان، المنصرف إلي ما يستتبع الإضرار، يناسب كون المراد بالإكراه ما ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 16 من أبواب الأيمان حديث: 1.

ص: 165

يستتبع الإضرار.

لكن الخبر - مع ضعفه في نفسه، لأن في طريقه عبد الله بن القاسم المشترك بين الموثق والضعيف والمجهول - لابد من الاقتصار فيه علي مورده، وهو اليمين، لظهور أن الإكراه يعمّ ما يقع من السلطان ويستتبع الضرر الفادح، وليس مقابلاً للجبر الحاصل من السلطان، كما تضمنه الخبر.

ولاسيما بملاحظة مثل قوله تعالي: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...)(1). وقوله سبحانه: (أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين)(2) ، وقوله عز وجل: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(3) ، وقوله جل شأنه حكاية عن السحرة مع فرعون: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر)(4) ، وقوله عز اسمه: (ولا تكرهوا فتياتكم علي البغاء إن أردن تحصنا)(5) ، لظهور أن حمل المولي للأمة يبتني علي التخويف، نظير حمل السلطان للرعية.

بل مادة الكره بالفتح تناسب القسر، ولذا تقابل بالطوع كما في كثير من الآيات الشريفة، وهو مناسب لحمل الإكراه علي الدفع نحو المطلوب من طريق التخويف بالضرر الفادح، بحيث يشبه القسر الرافع للاختيار. ومن ثم لا مجال للخروج بالخبر المتقدم عن جميع ذلك.

هذا ولو خاف المأمور ترتب الضرر من شخص آخر غير الآمر فعن السيد الطباطبائي وبعض الأعاظم (قدس سرهما) عدم صدق الإكراه بذلك. لكن بعض مشايخنا قرب بطلان المعاملة حينئذٍ، لعدم طيب النفس، ولصدق الإكراه، لأن الإكراه هو حمل الغير علي الفعل مع الوعيد بفعله ولو من غير الآمر.

********

(1) سورة البقرة آية: 256.

(2) سورة يونس آية: 99.

(3) سورة النحل آية: 106.

(4) سورة طه آية: 73.

(5) سورة النور آية: 33.

ص: 166

بحيث يكون وقوع البيع منه من باب ارتكاب أقل المكروهين (1). ولو لم يكن

---------------

وما ذكره (قدس سره) قد يتجه فيما إذا ابتني الأمر من الآمر علي الاعتماد في تنفيذه علي الإضرار المترتب من غيره، كما لو طلب أحد خواصّ السلطان من شخص أمراً متكلاً في تنفيذ أمره علي الخوف من السلطان، لأن الأمر بنفسه حين صدوره يبتني علي الإلزام والتخويف ولو بفعل الغير، فيصدق عليه الحمل الذي يتحقق به الإكراه.

وأظهر من ذلك ما إذا كان الأمر من الشخص الأول محققاً لموضوع الأمر من الآخر الذي يترتب منه الضرر. كما إذا نهي السلطان الناس عن احتكار بضاعهم والامتناع من بيعها ممن يريد شراءها منهم، فإن طلب شخص من صاحب البضاعة البيع مستلزم لطلب السلطان البيع أيضاً، وإذا لم يصدق الإكراه في حق الأول لعجزه وغفلته عن تنفيذ أمره بالضرر المتوعد به يصدق في حق السلطان نفسه، لتحقق الأمر منه مع الوعيد بمخالفته.

أما في غير ذلك فلا يتحقق الإكراه، كما لو كان الآمر بالمعاملة غافلاً عن ترتب الضرر من غيره بالتخلف عن الأمر، ولم يكن هناك شخص يخشي ضرره قد أمره بالاستجابة للأمر، لكن المأمور يخشي من عدم الاستجابة للأمر أن يبلغ ذلك السلطان مثلاً، فيحقد عليه ويوقع به من دون سابق إنذار، حيث لا يصدق حينئذٍ الإكراه، لا من الآمر، لأنه بسبب غفلته ليس في مقام حمل المأمور وإلجائه، ولا من الشخص الآخر - كالسلطان في المثال - لعدم صدور الأمر منه، بل ترتب الضرر منه نظير ترتبه من دون أمر أصلاً فيما سبق مثاله، وحينئذٍ يتعين صحة المعاملة، لأن موقعها يعمل سلطنته فيها استقلالاً، وبطيب نفس منه، وأن كان الداعي لإيقاعها دفع الضرر.

(1) لما هو المعلوم من حال العاقل من عدم الإقدام علي ما يكرهه إلا لمحذور أهم بنظره حين الإقدام ولو بلحاظ الجهات العاطفية.

نعم، إنما يتم ذلك إذا توقع المكره تنفيذ المعاملة ولو عملاً فقط، بنحو لا يقدر علي الرجوع فيها، فإنه لا يقدم عليها حينئذٍ إلا إذا كان الضرر المتوقع أشدّ من

ص: 167

البيع مكروهاً وقد أمره الظالم بالبيع، فباع صح (1). وكذا لو أمره بشيء غير البيع، وكان ذلك الشيء موقوفاً علي البيع المكروه، فإنه يصح، كما إذا أمره بدفع مقدار من المال، ولم يمكنه إلا ببيع داره، فباعها، فإنه يصح بيعها (2).

---------------

ضررها. أما إذا توقع قدرته علي الرجوع فيها ولو بعد مدة، فإنه قد يقدم عليها مع الإكراه عليها تجنباً للضرر المتوقع ولو كان دونها في الأهمية، لأنه بإقدامه عليها حينئذٍ يتجنب كلا الضررين، وهو أولي من حصول الضرر الأقل وحده، كما هو الظاهر.

ومن ذلك يظهر أنه لو التفت إلي بطلان معاملة المكره فقد يقدم عليها بأدني ضرر متوقع من عدم الاستجابة للمكرِه.

(1) مما سبق يتضح أن المدار في الصحة علي صدور البيع بدع آخر غير الأمر صالح للاستقلال بالداعوية، ولا يكفي عدم كراهة البيع إذا لم يقدم عليه إلا من أجل الأمر وخوف ترتب الضرر علي مخالفته، بل الظاهر صدق الإكراه حينئذٍ، وبطلان المعاملة تبعاً له.

(2) لما سبق من عدم صدق الإكراه حينئذٍ بعد عدم الأمر بنفس البيع وعدم الحمل عليه، ومجرد ترتب الضرر من ترك المعاملة من دون أمر بها وحمل عليها لا يكفي في صدق الإكراه، ولا يمنع من الرضا وطيب النفس.

لكنه (قدس سره) ادعي في نهجه صدق الإكراه في المقام، بتقريب: أن الإكراه علي ذي المقدمة إكراه علي المقدمة غيرياً. غايته أن عموم رفع الإكراه يقصر عن ذلك، لوروده مورد الامتنان، ولا امتنان في بطلان المعاملة هنا، في حق المكره، لأنه تعسير لا تيسير، وتضييق لا توسعه.

وفيه: أن قصور عموم حديث رفع الإكراه بقرينة وروده مورد الامتنان لا ينفع مع عموم الحصر المستفاد من قوله تعالي: (إلا أن تكون تجارة عن تراض)(1) ، الذي

********

(1) سورة النساء آية: 29.

ص: 168

(169)

(مسألة 3): إذا أكره أحد الشخصين علي بيع داره - كما لو قال الظالم: فليبع زيد أو عمرو داره - فباع أحدهما داره، بطل البيع (1).

---------------

تقدم منه (قدس سره) حمله علي التراضي في مقابل الإكراه، حيث لا قرينة علي وروده مورد الامتنان، ليقصر عن المقام.

فالعمدة عدم صدق الإكراه في المقام وصدق طيب النفس، لأن إيقاع المعاملة ليس مقدمة للأمر المكره عليه، إذ يكفي في تحقق الأمر المكره عليه دفع المال ولو لم يكن مملوكاً، بل كان مسروقاً أو ثمن معاملة باطلة، وإنما يقدم المكره علي المعاملة في المقام تجنباً لحرمة استيلائه علي المال بلا حق، من دون أن يكون مكرهاً عليها لا نفسياً ولا غيرياً، ومن هنا يتحقق منه طيب النفس الذي هو شرط صحة المعاملة.

ولو فرض صدق الإكراه علي المعاملة غيرياً فقد سبق أنه إنما يمنع من صحة المعاملة إذا كان الإقدام عليها من أجله، أما إذا كان بداع آخر مقارن له فالمعاملة صحيحة، لطيب النفس المعتبر في صحة المعاملة. كما إذا التفت المكرَه علي المعاملة نفسها إلي أن بطلان المعاملة المكره عليها مستلزم لعدم تملكه الثمن، وما يترتب علي ذلك من مشاكل، فرضي بالمعاملة وأقدم عليها بداعي تجنب المشاكل، فإنها تصح وإن كان مكرهاً عليها. وحينئذٍ يمكن تصحيح المعاملة في المقام، لأن الغرض من الإقدام علي المعاملة هو تملك المال مقدمة لدفعه، لا مجرد تحصيله ولو بوجه محرم، فيتعين صحة المعاملة وإن كانت مكرهاً عليها غيرياً. فلاحظ.

(1) لأن أمر أكثر من واحد كفائياً أمر لكل طرف، وهو باق في حقه ما دام غيره لم يفعل. لكنه لا يكون ملزماً عملاً بحيث يترتب عليه الضرر المتوعد به الذي هو المعيار في صدق الإكراه، إلا مع عدم ترتب الفعل من الغير أصلاً. ومقتضي ذلك عدم صدق الإكراه واقعاً وعدم ترتب أثره - وهو بطلان المعاملة - في حق كل طرف إلا بعدم ترتب الفعل من الغير أصلاً.

بل لو فرض أن امتناع أحد الأطراف عن الفعل موجب لحمل بقية الأطراف

ص: 169

عليه فراراً من ضرر المكرِه، كان من موارد إمكان التخلص من ضرر المكرِه بارتفاع موضوع إكراهه، المانع من صدق الإكراه. نظير ما إذا كان قادراً علي أن يقنعه بالعدول عن أمره، أو أن يفعل ما يوجب ارتفاع موضوع أمره من دون أن يترتب عليه محذور في ذلك.

هذا كله في مقام الثبوت، أما في مقام الإثبات فمقتضي القواعد الأولية اعتبار العلم بذلك، إلا أن العلم المذكور حيث لا يتيسر حصوله في كثير من الموارد، فلو أنيط الأمر به فقد يتعرض المكرَه للضرر، فالظاهر الاكتفاء عرفاً بالاحتمال الموجب للخوف، لأن ذلك كافٍ في الحمل الذي هو المعيار في صدق الإكراه، نظير الاكتفاء بالخوف من ترتب الضرر بمخالفة أمر المكرِه، وعدم اعتبار العلم بذلك.

هذا وعن بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره أن إكراه الوليين أو الوكيلين أو الوكيل والأصيل علي إيقاع معاملة خاصة تابعة لهما وتحت سلطانهما معاً يصدق ويترتب أثره - وهو بطلان المعاملة - في حق كل منهما ولو مع العلم بإقدام الآخر عليها.

ويظهر منه (قدس سره) توجيه ذلك بأن الإقدام علي المعاملة لما كان من أجل دفع الضرر عن نفسه أو عن الطرف الآخر صدق الإكراه في المقام، لعدم وقوع المعاملة عن طيب نفس ورغبة في الاستجابة للمكره، بل لدفع شره.

ولو تم ذلك جري فيما لو كان المكره عليه كل منهما كفائياً معاملة تخصه، كما في المثال الذي ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وهو ما إذا طلب من أحدهما بيع داره، ولا يختص بما إذا كان المكره عليه معاملة واحدة تحت سلطانهما معاً، لن كلاً منهما حينئذٍ لا يقدم علي المعاملة إلا لدفع ضرار المكرِه عن نفسه وعن صاحبه.

لكن ما ذكره في غاية الإشكال، بل المنع، لأن مجرد وقوع المعاملة لدفع ضرر الآمر لا يكفي في صدق الإكراه ما لم يكن الضرر المذكور لاحقاً بالمكرَه نتيجة مخالفته هو للأمر بحيث لا يمكن تخلصه منه إلا بالاستجابة له، وهو غير حاصل في المقام بعد فرض علم الموقع للمعاملة، لأن الطرف الآخر في مقام الاستجابة للآمر المكرِه

ص: 170

والإتيان بالمعاملة.

ولا يفرق في ذلك بين كون الطرف الآخر ممن يهمّ الشخص المذكور، بحيث يكون الإضرار به إضراراً به عرفاً، كأبيه وأخيه، وكونه أجنبياً عنه لا يكون الإضرار به إضراراً عرفاً. إذ في الصورة الأولي إنما يصدق الإكراه في حق المكرَه إذا كانت مخالفته هو سبباً للإضرار بمن له علاقة به، كما إذا أمره المكِره بشيء، وخشي من مخالفته أن ينتقم منه بالإضرار بمن يهمه أمره، كأبيه وولده.

بخلاف ما إذا كان الضرر مترتباً علي مخالفة ذي العلاقة نفسه، لأنه هو المأمور بالمعاملة والمحمول عليها والمهدد علي مخالفة الأمر، كما إذا أكره الظالم الوكيل وحده علي إيقاع المعاملة، فامتنع، فخاف الموكل عليه من إضرار الظالم به، وكان أمره يهمه، فأوقع الموكل نفسه المعاملة، ليرتفع موضوع الإكراه عن الوكيل ويسلم من الضرر، حيث لا يكون الموكل مكرَهاً بعد عدم ترتب الضرر علي مخالفته هو، بل علي مخالفة الوكيل، ويتعين صحة المعاملة منه، نظير ما إذا أوقعها دفعاً لضرر لم يهدد به.

والأمر في المقام أظهر، لأن المفروض فيه عدم ترتب الضرر علي ذي العلاقة، لأنه في مقام الاستجابة للمكرِه والإتيان بما طلبه منه، فقيام الشخص الآخر مع ذلك بالمعاملة ليس لدفع الضرر لا عن نفسه ولا عن ذي العلاقة به، فكيف يكون مكرهاً؟!.

وأشكل من ذلك ما جنح له (قدس سره) من جريان ذلك حتي في المحرمات سواء كان المحرم في حق الطرفين فعلاً واحداً، كتنجيس المسجد أم فعلين، كما لو أمر بأن يأكل أحد الطرفين طعاماً محرماً.

قال في منية الطالب: (بل يمكن أن يقال: إن حكم المحرمات أيضاً حكم المعاملات في هذه الصورة. وهو ما إذا علم أحدهما بأن الآخر يفعله لدفع الإكراه لا للشهوة، فيجوز للعالم أن يقدم علي شرب المحرم لدفع الإكراه عن نفسه وأخيه، لأن مجرد علمه بأن الآخر يفعله لا يدخله في عنوان الاختيار إذا فعل العالم لدفع ضرر

ص: 171

الحامل. وهكذا لو أكره أحد الشخصين علي أحد الفعلين، فإن كل واحد منهما لو أقدم علي أحد الفعلين لدفع الضرر عن نفسه وأخيه فهو مكره وإن علم بأن الآخر يفعله لدفع الضرر. فتدبر جيداً).

إذ فيه: أن ذلك وإن كان هو المناسب لما سبق منه من توجيه صدق الإكراه في المعاملات مع العلم المذكور. إلا أن الالتزام به في المحرمات مما تأباه المرتكزات جداً بعد ابتناء التكليف فيها علي الانحلال، بحيث يكون كل شخص مكلفاً بنفسه مع قطع النظر عن غيره، فكيف يسوغ له الإقدام علي المحرم، لمجرد دفع اضطرار غيره لارتكابه ؟!.

هذا وقد جري بعض مشايخنا (قدس سره) علي ما ذكرنا من عدم صدق الإكراه في المحرمات في حق أحد الطرفين إذا علم باستجابة الآخر، ولا في المعاملات إذا كان المطلوب من أحدهما معاملة تخصه، كما في المثال المذكور في المتن.

إلا أنه التزم بصدق الإكراه في حق كل منهما وإن علم باستجابة الآخر للمكره فيما إذا كان الأمر المكرِه عليه معاملة واحدة تحت سلطان كل منهما، كالموكل والوكيل، لدعوي: أن تعدد المكرَه لا أثر له بعد كون المكره عليه أمراً واحداً، بل هو المكره عليه علي كل حال، كما لو أكره شخص واحد علي أمر واحد.

وفيه: أن مجرد وجود الإكراه لا ينفع في بطلان المعاملة ما لم يكن إيقاعها من أجل الإكراه خوفاً من ضرر المكره، ومع فرض علم أحد الطرفين في المقام بأن الآخر سوف يستجيب للطلب يأمن هو من ضرر المكرِه، فلا يكون إيقاعه للمعاملة خوفاً من ضرره، بل بطيب نفسه، ولا مجال لترتب أثر الإكراه علي فعله حينئذٍ.

هذا ولو فرض أن الذي يقدم علي إيقاع المعاملة استجابة للمكرِه هو الوكيل، فحيث كان إيقاعه للمعاملة خارجاً عن مقتضي وكالته، فيكون المورد كما لو اكره علي المعاملة كل من المالك والأجنبي، حيث لا ينبغي الإشكال حينئذٍ في أن إقدام المالك علي المعاملة مع التفاته لذلك بطيب نفسه، نظير ما لو أكره المالك علي البيع الصحيح

ص: 172

والفاسد، فاختار الصحيح ملتفتاً للفرق بينهما، حيث يتعين صحة بيعه حينئذٍ، لعدم إكراهه علي الخصوصية الموجبة للصحة. نعم لو علم بعدم إقدام الأجنبي عليها أو خاف من ذلك فأقدم هو دفعاً للضرر عن نفسه كان مكرهاً.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد جري علي ما ذكرنا ولم يستثن منه إلا صورة إكراه الوليين علي إيقاع المعاملة في حق الصبي. قال (قدس سره):

(نعم لو أكره كل من الوليين علي بيع مال الصبي بعينه علي نحو الكفاية، فإنه لو باع أحدهما كان مكرهاً، وإن علم بإقدام غيره عليه لو لم يبع، لأن الطيب المعتبر في المقام ما كان بلحاظ مصلحة الصبي، لا بلحاظ مصلحة نفسه، فإذا لم يكن مصلحة للصبي كان مكرهاً، وإقدام الغير عليه ليس تخلصاً عن المكروه، بل وقوع فيه، ففعل الولي الثاني لا يكون سبباً للتخلص، فلا يكون العلم به مجدياً في رفع الإكراه) .

وهو يبتني علي ما تقدم منه (قدس سره) من توجيه كون الشيء المكره عليه مكروها في باب الولايات بعدم كونه صلاحاً للمولي عليه. وقد عرفت الإشكال فيه.

مضافاً إلي أمرين:

الأول: أنه يبتني علي الخلط بين الكراهة التي قيل باعتبارها في موضوع الأمر المكره عليه، والتي سبق منه (قدس سره) تفسيرها بوجه خاص، وما يتوقف عليه صدق الإكراه، وهو الضرر المخوف بالتخلف عن أمر المكرِه، والمهم في المقام الثاني الذي لا مجال له بعد فرض العلم بقيام الطرف الآخر بالفعل المكره عليه.

الثاني: أن الذي لا يمنع من صدق الإكراه هو القدرة علي دفع الضرر المتوقع من المكرِه بضرر مثله، كما لو قدر في الفرض علي دفع ضرر المكرِه ببيع مال ليتيم آخر يضرّ به أيضاً. وليس منه المقام، لأن الضرر في المقام مندفع ببيع الولي الآخر من دون أن يدفعه هو يفرّ به عن الضرر التي يخشي من المكرِه، فكيف يكون مكرهاً مع ذلك ؟!.

ومن هنا لا يتم ما ذكره (قدس سره) أيضاً. ولا مخرج عما ذكرنا أولاً من توقف الإكراه

ص: 173

(174)

إلا إذا علم إقدام الآخر علي البيع (1).

(مسألة 3): لو أكره علي بيع داره أو فرسه (2)،

---------------

علي الخوف من عدم إقدام الطرف الآخر، ولا يتم مع العلم بإقدامه مطلقاً.

نعم، لما كانت ولاية الوليين تقصر عن التصرف المضرّ بمصلحة المولي عليه، فالمتعين عدم نفوذ تصرفهما حينئذٍ في المقام حتي لو لم يكونا مكرهين، فعدم نفوذ تصرف الولي الذي يعلم باستجابة الولي الآخر للمكرِه ليس لكونه مكرهاً، بل لقصور ولايته.

وإنما يظهر الأثر للإكراه وعدمه في محل الكلام فيما إذا كان العالم باستجابة الطرف الآخر للمكرِه تام السلطنة علي التصرف كالمالك، وكذا في مورد الإكراه علي المحرم تكليفاً، حيث يكون كل منهما مكلفاً مسؤولاً بتصرفه لا يسقط حرمته عليه إلا صدق الإكراه في حقه.

(1) مما سبق يظهر أن المعيار في صدق الإكراه احتمال عدم إقدام الآخر علي البيع احتمالاً يصدق معه الخوف. وعليه لو احتمل عدم إقدامه احتمالاً ضعيفاً لا يصدق به الخوف كفي في عدم صدق الإكراه، ولا يتوقف علي العلم بعدم إقدامه.

(2) لا ينبغي التأمل في أن الإكراه علي الجامع في المحرمات والمعاملات لا يقتضي الإكراه علي الخصوصية، بل الخصوصية تابعة لاختيار المكره وبمحض رضاه.

وأما ما عن المحقق الايرواني (قدس سره) من أن خصوصيات الأفراد تعد مكرهاً عليها بالإكراه علي الجامع. فهو مما لا مجال للبناء علي ظاهره، حيث لا ريب في عدم كون كل خصوصية مورداً للإكراه بعد عدم توقف الجامع الذي هو مورد غرض المكره وأمره عليها وإمكان تحققه بغيرها، كما أن اختيار المكرَه لها لدواع خاصة بها غير موافقة أمر المكرِه.

ص: 174

كيف ؟! ولازم ذلك أن الإكراه علي الجامع بين موضوع الأثر وغيره يقتضي الإكراه علي موضوع الأثر، فلو أكره علي شرب الماء الأعم من النجس والطاهر، أو البيع الأعم من الواجد للشرائط والفاقد لها، كان مكرهاً علي شرب النجس فلا يحرم، وعلي البيع الواجد للشرائط فلا يصح ؟!.

ومن الغريب ما عن المحقق الخرساني (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب من أن ذا الأثر في الفرض وإن وقع مكرهاً عليه، إلا أنه يمكن دعوي أن دليل الأثر فيه أظهر من دليل رفع الإكراه، فيقدم عليه، ويكون مستثني من عموم رفع الإكراه. إذ فيه: أن تقديم دليل رفع الإكراه علي أدلة الأحكام الأولية لما كان بملاك الحكومة فلا يفرق فيه بين الموارد بعد تشابه ألسنة أدلة الأحكام الأولية ووحدة دليل رفع الإكراه في جميعها.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الإكراه علي الجامع إنما يسري إلي جميع الأفراد إذا كانت متساوية لا يمتاز بعضها عن بعض في أثر يخصه. أما إذا كانت مختلفة في ذلك فيتوجه الإكراه ثبوتاً علي ما لا أثر له أو علي ما كان أثره أقل وأخف، فلو أكره علي شرب احد إنائين أحدهما نجس، والآخر مغصوب ونجس، فالإكراه إنما يتعلق بالنجس وحده.

إذ فيه: أنه بعد فرض توجه المكره للجامع وأمره به دون الخصوصيات، وفرض سريان الإكراه من الجامع للخصوصيات، كيف يختص الإكراه ببعض الخصوصيات دون بعض. نعم لو كان الإكراه حكماً شرعياً، أمكن القطع باختصاصه ببعض الأفراد تبعاً لاختصاص غرض الشارع بها، ولا مجال لذلك في الأمور الواقعية.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن الإكراه علي الجامع لا يقتضي الإكراه علي الخصوصية، وغاية ما يدعي أن أثر الإكراه علي الجامع - وهو رفع الحكم التكليفي أو الوضعي - يسري إليها فلابد من النظر في وجه ذلك.

وقد يوجه بأن الجامع المكره عليه إذا كان موضوعاً للأثر، فمقتضي عموم رفع

ص: 175

الإكراه رفع أثره المذكور، وإذا ارتفع أثره كانت أفراده خالية عن ذلك الأثر. فإذا أكره علي شرب النجس مثلاً ارتفعت حرمته بسبب الإكراه عليه، فإذا ارتفعت حرمة شرب النجس في حق المكرَه فأي فرد اختاره منه لا يكون حراماً، وإذا أكره علي طلاق زوجته قصر دليل النفوذ عن طلاقها بسبب الإكراه، فأي فرد اختاره من طلاقها لم ينفذ، وهكذا.

وبذلك يتجه عدم ارتفاع أثر الخصوصية إذا كان المكره عليه هو الجامع بين ذي الأثر وغيره، كما إذا أكره علي شرب الماء الأعم من الطاهر والنجس، فإنه لا يجوز له شرب النجس منه، لأن مطلق شرب الماء ليس محرماً لترتفع حرمته بالإكراه عليه، وشرب الماء النجس بخصوصيته وإن كان محرماً إلا أنه ليس مكرهاً عليه، لترتفع حرمته، لما سبق من أن الإكراه علي الجامع ليس إكراهاً علي خصوصيات أفراده.

وكذا إذا أكره علي البيع الأعم من الواجد للشرائط وفاقدها، فإنه حيث لا يكون موضوعاً للنفوذ، لم يكن الإكراه رافعاً لنفوذه بالإضافة إلي إفراده. وما هو الموضوع للنفوذ - وهو الواجد للشرائط - ليس مكرهاً عليه ليرتفع نفوذه، فيتعين نفوذه وترتب الأثر عليه لو اختاره المكره.

ومثل ذلك ما إذا أكره علي الجامع ذي الأثر، وكان أحد أفراده يمتاز بأثر زائد، فإنه لا يجوز ارتكابه، لعدم سقوط أثره بعد عدم الإكراه عليه، كما إذا أكره علي أكل شيء من الأطعمة المغصوبة وكان بعضها نجساً، فإن الإكراه رافع لحرمة الغصب، لانحصار المكره عليه بالمغصوب دون حرمة النجس، لعدم انحصار المكره عليه به.

وبعبارة أخري: حيث كانت نسبة دليل رفع الإكراه لأدلة الأحكام الأولية نسبة الحاكم للمحكوم، فإن كان المكره عليه موضوعاً للحكم التكليفي أو الوضعي، كان مقتضي دليل رفع الإكراه ارتفاع حكمه عن تمام أفراده، فلا يترتب الحكم علي أي فرد اختاره المكرَه منها وإن لم يكن مكرهاً عليه بخصوصه. وإن لم يكن المكره عليه موضوعاً للحكم التكليفي ولا الوضعي لم يكن للإكراه عليه أثر، وإذا كان لبعض

ص: 176

أفراده حكم لم يكن مرتفعاً بعد عدم كونه مكرهاً عليه بخصوصه، وبعد ما سبق من عدم سريان الإكراه من الجامع لأفراده. وكأنه إلي هذا يرجع كلام شيخنا الأعظم وسيدنا المصنف (قدس سرهما) بل حتي كلام غيرهما. وإن كانت كلماتهم لا تخلو عن غموض.

لكن مقتضي ذلك عدم ترتب الأثر علي الإكراه علي الجامع بين ما هو موضوع الأثر الشرعي وما هو موضوع الضرر، كما لو أكره علي شرب الماء، وكان الماء منحصراً بين النجس والطاهر الذي يضرّ شربه ضرراً لا يحرم الوقوع فيه، أو يكون شربه حرجياً. فإن المكره عليه - وهو الجامع المذكور - ليس محرماً، وشرب النجس المحرم ليس مكروهاً عليه، ليرتفع تحريمه. ومقتضي ذلك أن دليل الإكراه لا ينهض في المقام بالترخيص في الحرام، وهو شرب النجس. غاية الأمر أن يدعي الترخيص في الحرام بدليل رفع الضرر أو الحرج، لتحقق موضوعهما بالإضافة إليه بعد انحصار تجنب محذوري مخالفة أمر المكرِه والطرف المباح به. وهو بعيد جداً.

وأشكل من ذلك ما إذا أكرهه علي أحد أمرين كل منهما موضوع للأثر الشرعي من التحريم أو النفوذ - بخصوصيته من دون أن يكون الجامع بينهما موضوعاً للأثر، كما لو اكرهه علي شرب الخمر أو أكل الميتة، أو علي شرب الخمر أو بيع داره، أو علي بيع داره أو طلاق زوجته، فإن كلاً من الطرفين في الفروض المذكورة ليس مكرهاً عليه، ليرتفع أثره بالإكراه، والجامع بينهما ليس موضوعاً للأثر، ليرتفع بالإكراه عليه.

وإعمال دليل رفع الضرر أو الحرج موقوف علي تحقق موضوعهما، وهو لا يطرد في المعاملات، إذ قد لا يكون نفوذها ضررياً ولا حرجياً، وإن لم يكن حصولها مرغوباً فيه.

وأما ما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من: أن كلاً من الأطراف مكره عليه في ظرف عدم الآخر، لأن ذلك هو مرجع الواجب التخييري في الشرعيات، فيكون كذلك حال أمر المكره بأحدها.

ص: 177

فهو ممنوع: أولاً: لعدم رجوع الواجب التخييري إلي ذلك، بل إلي التكليف بأحد الأطراف بخصوصيته علي البدل المستلزم لعدم الإلزام بكل منها، وإنما يلزم اختيار أحدها عقلاً في مقام الامتثال، نظير لزوم اختيار أحد أفراد الواجب التعييني من دون أن يكون كل فرد واجباً بنفسه، وإنما الواجب هو القدر المشترك لا غير.

وثانياً: لأن ثبوت الأثر شرعاً لأحد الأمرين أو الأمور بخصوصيتها من دون أن يثبت للجامع بينها لا يستلزم كون الإكراه الصادر متعلقاً بخصوصيتها بنحو البدل، نظير الواجب التخييري، بل قد يتعلق الإكراه بالجامع بينها، فإن الإكراه ليس تابعاً للشارع، بل للمكرِه، وهو قد لا يلحظ الخصوصيات بل يلحظ الجامع بينها لا غير. كما لو أكرهه علي شرب شيء من العصير العنبي الموجود في البيت، وكان العصير المذكور منحصراً بما غلا بالنار من دون أن يذهب ثلثاه، وما غلا بنفسه حتي صار مسكراً. ومن هنا لا يكون هذا الوجه وافياً بتوجيه تطبيق دليل رفع الإكراه باطراد.

ولعل الأولي أن يقال: الإكراه: تارة: ينسب للشيء بلحاظ صدور الأمر الملزم به من المكره بنحو يخاف من التخلف عنه إيقاع الضرر من قبله. وأخري: ينسب لفعل المكره بلحاظ عدم صدوره منه باختياره وبإعمال سلطنته فيه استقلالاً، بل قهراً عليه بسبب إكراه المكرِه وحذراً من الضرر المتوعد به.

أما الأول فهو مختص بالعنوان المأخوذ في كلام المكرِه علي سعته ولا يسري لأفراده، لعدم تعلق غرض المكرِه ولا أمره بخصوصيتها، وإنما يختارها المكرَه لدواع زائدة علي الإكراه. وأما الثاني فهو يختص بالفعل الصادر من المكرَه استجابة للمكرِه، وتخلصاً من تبعة إكراهه.

وبالتطبيق الأول يكون المرفوع هو الحكم الثابت للعنوان المأخوذ في كلام المكرِه، دون أحكام خصوصيات أفراده، لعدم إكراهه عليها. أما بالتطبيق الثاني فيكون المرفوع هو الحكم الثابت للفرد الذي يختاره المكلف.

ص: 178

ومن الظاهر أن كون الرفع بلحاظ التطبيق الثاني للإكراه هو الأنسب ارتكازاً بلحاظ صدور الرفع إرفاقاً بالمكرَه وتأكيداً علي حرمته وسلطنته، حيث يناسب ذلك التخفيف عنه وعدم مؤاخذته بفعله الذي لم يصدر عنه بمحض اختياره، بل استجابة للإكراه الواقع عليه عدواناً، بحيث لولا الإكراه لما أقدم عليه.

وعلي ذلك فالتخفيف المذكور إنما يكون برفع الحكم الإلزامي التكليفي أو الوضعي الثابت لذلك الفعل، سواء ثبت له بتوسط الجامع الذي صدر الأمر به من المكره، كما لو أكره علي شرب النجس فشربه، أو علي بيع داره فباعها، أم ثبت له بخصوصيته من دون أن يثبت للجامع المكره عليه. كما لو أكره علي تكريم زيد، وكان للتكريم فردان استقباله من مسافة بعيدة، وتقديم هدية له، فاختار تقديم هدية له، لأنها أيسر عليه، أو كان الإكراه وارداً علي عدة أمور بنحو البدلية، وكان أحدها أو كلّ منها بخصوصيته موضوعاً لحكم إلزامي تكليفي أو وضعي، فاختار أحدها لأنه أخف عليه وأيسر.

نعم، حيث كان ارتفاع الحكم بالإكراه من سنخ الحكم الاضطراري، مع تحقق موضوع الحكم المرفوع وتمامية ملاكه، كان ذلك قرينة عرفية علي اختصاص الرفع المذكور بصورة عدم إمكان التخلص من الإكراه بفرد آخر لا محذور فيه، أو أخف محذوراً، وإلا لزم التخلص من الإكراه بذلك الفرد الذي الآخر، إذ لا ضرورة تسوغ اختيار ما فيه المحذور أو الأشد محذوراً حينئذٍ.

وبعبارة أخري: المحذور الثابت في بعض الأطراف يمنع من الإقدام عليه إلا لضرورة مسوغة، والفرار من ضرر المكره وإن كان من سنخ الضرورة المسوغة، إلا أن القدرة علي الفرار منه بالطرف الذي لا محذور فيه أو الأخف محذوراً، يمنع من كون رفع الإكراه ضرورة مسوغة للإقدام علي ما فيه المحذور أو كان محذوره أشدّ.

ولعل هذا هو مراد بعضهم، خصوصاً المحقق الخراساني وبعض الأعاظم (قدس سرهما)، وإن لم توضحه كلماتهما بالوجه الكافي.

ص: 179

(180)

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور:

الأول: إذا أكره علي إيقاع الشيء في وقت موسع فهل تكون المبادرة إليه مانعة من صدق الإكراه عليه، بحيث لا يرتفع أثره الإلزامي بذلك، أو لا؟ صرح بعض مشايخنا (قدس سره) بالثاني من دون فرق بين المحرمات والمعاملات، لعدم الاضطرار لفعل المكره عليه إلا في آخر الوقت، لتعذر التخلص منه حينئذٍ بسبب الإكراه، أما قبل ذلك فيمكن التخلص منه بالتأخير.

لكنه يشكل بأنه مضطر لكل من الفرد المتقدم والمتأخر في ظرف عدم الآخر، وكما يمكنه ترك المتقدم بفعل المتأخر يمكنه ترك المتأخر بفعل المتقدم، ولا مرجح لأحدهما.

وبعبارة أخري: الإكراه يقتضي فعل الجامع بين الفرد المتقدم والمتأخر بفعل أحدهما، فكل منها جيء به بداعي التخلص من محذور الإكراه صدق أنه مستكره عليه. وأما العجز عن التخلص المعتبر في الإكراه فهو العجز عن التخلص من فعل المكره عليه الجامع، وهو حاصل في المقام، دون العجز عن التخلص عن فعل الفرد، إذ هو - مع عدم اعتباره في صدق الإكراه - حاصل بالإضافة إلي الفردين معاً، لإمكان التخلص عن كل منهما بفعل الآخر، ولا أثر في ذلك للتقدم والتأخر.

هذا ومقتضي ذلك عدم الفرق بين الإكراه علي المحرم والإكراه علي المعاملة. لكن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من المبادرة في الإكراه علي المحرم، بدعوي: أنه لابد في ارتكاب المحرم من حصول المسوغ له حين الارتكاب، فإذا لم يكن حين الشرب ملزماً لإمكان التأخير، لا مسوغ للارتكاب. وفيه: أن المسوغ في المقام لما كان هو الإكراه، فهو حاصل في المقام بالتقريب المتقدم.

إن قلت: يقبح الإقدام علي الحرام إلا عند الاضطرار إليه، ولا اضطرار مع إمكان التأخير.

قلت: المكره مضطر لفعل الحرام في ضمن الوقت، ولا خصوصية لآخر

ص: 180

الوقت في ذلك، بل كما يمكن سد الضرورة بالفعل في آخر الوقت يمكن سدها بالفعل في أوله.

وتوضيح ذلك أن التكليف في المقام كما يقتضي امتثاله في أول الوقت يقتضي حفظ القدرة علي الامتثال في آخر الوقت، ولا يجوز تعجيز النفس عن الامتثال في آخره، والجمع بينهما في المقام بسبب الإكراه متعذر، حيث يدور أمر المكرَه بين اجتناب المحرم المكره عليه في أول الوقت، فيعجز عن اجتنابه في آخر الوقت، والمبادرة لارتكابه في أول الوقت فيحافظ علي القدرة علي اجتنابه في آخر الوقت، ولا مرجح لأحد الأمرين بعد كون الفردين متساويين في الأهمية، فيتعين التخيير بينهما ثبوتاً.

ولذا لا إشكال ظاهراً في وجوب المبادرة لو كان الفرد المتأخر أهم، كما لو أكرهه إما علي شرب الفقاع يوم الخميس أو شرب الخمر يوم الجمعة، فإن أهمية حرمة الخمر تقضي بوجوب المبادرة لشرب الفقاع يوم الخميس من أجل حفظ القدرة علي اجتناب الخمر يوم الجمعة.

نعم، لا ريب في وجوب الاحتياط ظاهراً في مقام الإثبات بترك المبادرة لفعل الحرام لو احتمل القدرة علي ترك الحرام في آخر الوقت، إما لعدول المكرِه عن إكراهه، أو للأمن من الضرر بمخالفته. إذ لا يعلم حينئذٍ بتحقق الإكرَاه علي الجامع، ولا بكون المبادرة سبباً لحفظ القدرة علي اجتناب الحرام في آخر الوقت، بل يحتمل القدرة علي الامتثال في الوقتين معاً، ومع احتمال القدرة يجب الاحتياط.

بل الظاهر وجوب الاحتياط بترك المبادرة لفعل الحرام في المقام ونحوه من موارد الدوران بين مخالفة التكليف المتقدم والمتأخر، لاحتمال مرجحية السبق الزماني شرعاً. وقد استوفينا الكلام في ذلك في مرجحات باب التزاحم من خاتمة مبحث التعارض من الأصول. فراجع.

لكن الترجيح في ذلك ظاهري، لاحتمال الأهمية، لا لعدم المسوغ واقعاً، كما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره)، فضلاً عن أن يكون لعدم الإكراه، كما ذكره

ص: 181

(182) (182) (182)

بعض مشايخنا (قدس سره). ومن ثم يختص بالتكاليف، ولا يجري في المعاملات بعد صدق الإكراه عرفاً.

الثاني: إذا أكره علي الجامع بين ذي الأثر الوضعي أو التكليفي وما يكون ارتكابه ضررياً أو حرجياً، أو خير بينهما، كما إذا أكره علي شرب الماء وانحصر بالنجس الذي لا يضر شربه والطاهر الذي يكون شربه ضررياً أو حرجياً.

فالظاهر صدق الإكراه بالإضافة إلي ذي الأثر لو اختاره استجابة لأمر المكره، فيرتفع أثره الوضعي أو التكليفي، لأن رفع الإكراه وإن لم ينحصر به، إلا أن الإقدام علي الفرد الآخر لما كان حرجياً أو ضررياً، فالقدرة علي التخلص به لا تنافي الاضطرار، الذي تبتني عليه رافعية الإكراه، كالقدرة علي التخلص من فعل الأمر المكره عليه بتحمل الضرر المتوقع من مخالفة أمر المكرِه.

الثالث: إذا أكره علي فعل الحرام أو إيقاع معاملة - من عقد أو إيقاع - فقد صرح بعض مشايخنا (قدس سره) بحرمة الإقدام علي فعل الحرام وترك المعاملة، لأن فعل المعاملة مباح ولا مجال لاختيار الحرام عند الدوران بينه وبين المباح.

وفيه: أن ذلك إنما يتجه إذا لم يكن الإقدام علي المعاملة ضررياً ولا حرجياً. أما إذا كان كذلك، فيدخل في الفرع السابق الذي سبق جواز الإقدام فيه علي الحرام. نعم لو التفت إلي بطلان المعاملة المكره عليها، وكان في وسعه عدم الجري عليها خارجاً، فلا يلزم منها الحرج ولا الضرر، ويتعين الإقدام عليها فراراً من الحرام وتخلصاً منه، لعدم الاضطرار له حينئذٍ.

الرابع: إذا أكره علي الجامع بين الصحيح والفاسد، كما إذا أكره علي الطلاق الأعم من واجد الشرائط وفاقدها، فقد صرح غير واحد بأنه لو اختار الصحيح لم يرتفع أثره بالإكراه، لعدم الاضطرار إليه بعد إمكان التخلص من الإكراه بالفاسد، بل يقع بطيب نفسه.

لكنه يشكل بأن الفاسد قد كون أشد محذوراً من الصحيح. مثلاً طلاق الرجل

ص: 182

(183)

لزوجته بوجه صحيح وإن كان قد يصعب عليه كثيراً، لكونها أم ولده العزيزة عليه، وبها نظم بيته، إلا أن طلاقه لها بوجه غير شرعي قد يكون أشدّ كثيراً عليه، لما فيه من تعريضها للتزوج من شخص آخر، واستمتاعه بها، وهي بعد في حبالته، فقد يضطر حينئذٍ للتخلص من الإكراه بالطلاق الواجد للشرائط، لأنه أخفّ المحذورين، لا لطيب نفسه به، ويتعين حينئذٍ عدم صحته بسبب الإكراه. نظير ما يأتي منّا في المسألة الخامسة.

نعم، لو علم بعدم نفوذ معاملة المكرَه، فاختياره للمعاملة الواجدة للشرائط يكون: تارة: لأنها المتيسرة له مع صعوبة غيرها بحدّ يلزم من اختياره محذور أهم من محذور صحة المعاملة. وأخري: لأنها الأيسر له، من دون أن يلزم محذور معتد به من اختيار الأخري. وثالثة: لطيب نفسه بها، ولو بسبب الإكراه، دفعاً للمحذور الأهم. والمتعين البطلان في الصورة الأولي، والصحة في الصورتين الأخيرتين.

ومن ذلك يظهر الحال في مثل ما إذا أكره علي إيقاع المعاملة عنه أو عن غيره فضولاً، حيث صرح بعض مشايخنا (قدس سره) بأنه لو أوقع المعاملة عن نفسه صحت المعاملة، لعدم المحذور في إنشاء المعاملة فضولاً، فلا يكون مضطراً لإيقاع المعاملة عن نفسه، ولا يكون إيقاعها إلا بطيب نفسه.

لكن إيقاع المكرَه المعاملة الفضولية قد يترتب عليه محذور أهم من محذور إيقاع المعاملة عن نفسه، فيكون التخلص من أمر المكرِه بإيقاع المعاملة عن نفسه لأنها أخف محذوراً، لا لطيب النفس بها، ويتعين حينئذٍ بطلانها من جهة الإكراه.

الخامس: إذا أكره علي الجامع بين ما يستحق عليه وما لا يستحق، فقد صرح غير واحد بأنه لو أوقع ما لا يستحق عليه نفذ، فلو أكره علي وفاء دينه الذي حلّ وقته أو بيع داره، فَباع داره صح البيع. ويظهر منهم ابتناؤه علي ما سبق من أن الإكراه علي الجامع لا أثر له بسبب استحقاق أحد فرديه، والفرد الذي اختاره غير مكره عليه.

لكن لا يتضح الوجه في ذلك بعد عدم كون الإتيان بكل من الأمرين عن

ص: 183

فباع أحدهما بطل (1). ولو باع الآخر بعد ذلك صحّ (2). ولو باعهما جميعاً جميعاً دفعة بطل فيهما جميعاً (3).

---------------

طيب نفس، بل تخلصاً من أمر المكرِه. نعم يتجه ذلك إذا كان الإكراه بحق، كما لو طالب الدائن بالدين ولم يرض بتأجيله إلا إذا باع المدين داره، فإن إكراهه للمدين حينئذٍ علي أحد الأمرين تخييراً يكون بحق، والإكراه بحق مستثني من عموم دليل رافعية الإكراه، لمنافاة استحقاق الإكراه للرافعية، كما هو ظاهر.

(1) كما صرح به غير واحد. لصدوره استجابة للمكره، فينطبق عليه دليل رافعية الإكراه بالتقريب المتقدم فيما لو أكره علي الجامع فأتي بأحد أفراده.

(2) كما صرح به غير واحد أيضاً. لاندفاع الإكراه بالأول، فيقع الثاني غير مكره عليه. لكن شيخنا الأعظم (قدس سره) بعد أن استظهر ذلك قال:

(مع احتمال الرجوع إليه في التعيين، سواء ادعي العكس أم لا) . وهو غريب إذ الرجوع إليه في التعيين فرع التعين الواقعي مع اشتباه المعين، كما لو أقر بطلاق إحدي زوجتيه ولم يعين. ولا مجال لذلك في المقام بعد اندفاع الإكراه بالأول، دون الثاني قطعاً.

(3) لدعوي: أن الإكراه المشروط بترتب الضرر من مخالفة أمر المكرِه وإن لم ينطبق علي كل منهما في عرض انطباقه علي الآخر، بل ينطبق علي كل منهما علي البدل، فيكون أحدهما مكرهاً عليه دون الآخر، إلا أنه حيث كان انطباقه علي كل منهما بلا مرجح تعين بطلانهما معاً.

وفيه: أن ترتب الضرر بمخالفة أمر المكره، وإن كان شرطاً في صدق الإكراه، إلا أنه لا يكفي ما لم يكن الداعي للعمل هو الخوف من المكره، ولا مجال لذلك في المقام. أما بالإضافة إلي بيع مجموعهما فلفرض عدم أمر المكره به، وعدم ترتب الضرر بتركه. وأما بالإضافة إلي كل واحد منهما بعينه فلأنه إنما يترتب الضرر علي تركه في ظرف عدم فعل الآخر، لا مطلقاً ولو أتي به معه، كما في المقام، حيث لا مجال حينئذٍ

ص: 184

لكون الدافع لبيع كل منهما مع الآخر تجنب الضرر، بل لابد من كون الدافع أمراً آخر، ككراهة التفريق بينهما، المستلزم للرضا ببيعها معاً بسبب الإكراه علي بيع أحدهما.

فالمقام نظير ما لو أكرهه زيد علي بيع أحد عبديه، فباع أكبرهما، وهو يعلم أن عمراً سيكرهه علي بيع أصغرهما، وأنه لو لم يبع الأكبر حتي باع الأصغر لا من الضرر من زيد وعمرو، لاكتفائهما ببيعه، حيث لا مجال للبناء علي صدق الإكراه علي بيع الأكبر حينئذٍ بعد العلم بعدم ترتب الضرر علي ترك بيعه في ظرف بيع الأصغر المفروض حصوله بعد. ونظير ما إذا أكره أحد شخصين علي البيع فباع كل منهما مع علمه بتحقق البيع من الآخر أيضاً، حيث يصح البيع من كل منهما، كما يظهر مما سبق في المسألة الثالثة.

ومن هنا كان الظاهر في المقام صحة البيع فيهما معاً، كما قواه شيخنا الأعظم وبعض الأعاظم (قدس سرهما). نعم يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم (قدس سره) وصريح بعض الأعاظم (قدس سره) أن الوجه فيه خروجه عن الأمر المكره عليه. وهو في غير محله، لأن المكره عليه هو بيع أحدها مطلقاً ولو مع الآخر، فالواقع من أفراد المكره عليه، وإنما صحّ لأنه لم يقع عن إكراه، كما ذكرنا، وهو الظاهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم (قدس سره).

ومن ذلك يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) - كما في تقرير درسه - من فساد البيع في أحدهما لا بعينه، ولزوم الرجوع في تعيينه للقرعة، وإن وافق سيدنا المصنف (قدس سره) في الفتوي ببطلانهما معاً. حيث ظهر مما سبق أن كلاً منهما لم يقع عن إكراه، وأن المتعين صحتهما معاً.

وأما تنظيره له بما إذا أكره علي أحد محرمين ففعلهما معاً، فإنه يعاقب عقاباً واحداً علي أحدهما. فهو لا يصلح شاهداً علي عدم حرمتهما معاً، بل يبتني علي ما هو الظاهر من تبعية العقاب للطاقة، وحيث لا يطيق امتثالهما في المقام معاً لم يؤاخذ إلا علي واحد منهما. خلافاً لما ذكره هو (قدس سره) وغيره في بحث الترتب من مسألة الضد

ص: 185

(186)

(مسألة 4): لو أكرهه علي بيع دابته، فباعها مع ولدها بطل بيع الدابة، وصح بيع الولد (1).

(مسألة 5): الظاهر أنه يعتبر في صدق الإكراه عدم إمكان التفصي بالتورية (2). فلو أكرهه علي بيع داره، فباعها مع قدرته علي التورية صح المبيع.

---------------

في الأصول من ثبوت العقاب علي كلا التكليفين المتزاحمين الأهم والمهم وإن كان لا يطيق الجمع بينهما في الامتثال.

هذا مضافاً إلي ما سبق في المسألة التاسعة والثلاثين من مقدمة كتاب التجارة عند الكلام في حكم مجهول المالك من عدم ثبوت عموم الرجوع للقرعة.

نعم، لو فرض تعذر بيع أحدهما منفرداً وانحصر الأمر ببيعها مجتمعين - بحيث لا يمكن التخلص من أمر المكرِه وإضراره إلا بذلك - كان بيعهما معاً عن إكراه وتعين بطلانه فيهما معاً. وما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من عدم الفرق بين ذلك وسائر الدواعي لجمعهما في البيع، في غير محله. فلاحظ.

(1) للإكراه علي بيع الدابة، دون بيع الولد، وإنما أقدم علي بيعه معها لداع آخر، ولو بسبب الإكراه علي بيعها، كصعوبة التفريق بينهما. ودعوي: أن وحدة المعاملة تمنع من التفريق بين مضامينها في الصحة والفساد. ممنوعة، بل يتعين تبعض الصفقة، كما التزموا به في موارد كثيرة. نعم إذا تعذر بيعها دون ولدها كان بيعه معها مكرهاً عليه أيضاً، نظير ما تقدم.

(2) كما ذكره غير واحد خلافاً لشيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث لم يعتبر العجز عن التخلص بالتورية. وهو الذي أفتي به بعض مشايخنا (قدس سره)، وإن كان ما في تقرير درسه لا يناسب ذلك.

وكيف كان فالوجه في اعتبار العجز عن التخلص بالتورية أنه مع القدرة علي التخلص بها لا يخشي من ترتب الضرر بمخالفة أمر المكرِه، وقد سبق أن ذلك شرط

ص: 186

في صدق الإكراه.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن القدرة علي التورية لا يخرج الكلام عن حيز الإكراه عرفاً، لأن المعتبر في الإكراه هو ترتب الضرر مع علم المكرِه بالمخالفة، لا بمطلق المخالفة وإن لم يعلم بها، وذلك حاصل مع القدرة علي التورية، ضرورة أن المكرِه لو علم أن المكرَه قد ورّي لم يقبل منه، وأوقع الضرر به، وإنما لا يصدق الإكراه مع القدرة علي التخلص بغيرها، كما لو قدر المكرَه علي إقناع المكرِه أو إرغامه أو نحوها.

فهو في غاية المنع، بل المعتبر في الإكراه الرافع للأثر هو ترتب الضرر بمطلق المخالفة، ولو مع جهل المكرِه بها، فلو قدر عليها لم يتحقق الإكراه الرافع، كما لو أمره بشرب الخمر، وهو يقدر علي شرب الماء موهماً أنه خمر، أو بالمكث في المسجد وهو جنب، وهو يقدر علي المكث في مكان متصل بالمسجد خارج عنه، أو بالأكل وهو صائم، وهو يقدر علي لفظ الطعام قبل بلعه، أو بوقف داره، فأوقفها من دون إقباض لها، ليبطل الوقف ولا يترتب أثره... إلي غير ذلك.

ولا أقل من كون ذلك هو المفهوم من دليل رفع الإكراه، بقرينة وروده مورد الاضطرار، حيث يتعين اعتبار العجز عن التخلص ولو بإيهام المكرِه بفعل الأمر المكرَه عليه.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من ظهور النصوص والفتاوي في عدم اعتبار العجز عن التورية. قال: (لأن حمل عموم رفع الإكراه، وخصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه، ومعاقد الإجماعات والشهرات المدعاة في حكم المكره، علي صورة العجز عن التورية، لجهل أو دهشة بعيد جداً، بل غير صحيح في بعضها من جهة المورد).

إذ فيه: أنه بناء علي ما سبق لا يصدق الإكراه مع القدرة علي التورية، ليحتاج للاستثناء. ودعوي: أن إغفال النصوص والفتاوي التنبيه علي التورية شاهد بعدم

ص: 187

نعم، لو كان غافلاً عن التورية، أو عن إمكان التفصي بها (1). فباع، بطل البيع (2).

---------------

اعتبار العجز عنها. مدفوعة بأن الملتفت للتورية القادر عليها يقدم عليها بطبعه بعد ما سبق من عدم صدق الإكراه مع القدرة عليها. والغافل عنها لا موجب لتنبيهه إليها، لصدق الإكراه في حقه، لأن الرافع للإكراه هو الالتفات لوجه التخلص المقدور عليه، لا مجرد القدرة عليه ولو مع الغفلة عنه، ومع صدق الإكراه وترتب أثره - وهو الرفع

لا يلزم من عدم التنبيه تفويت الواقع في حقه، ليقبح.

بل قد لا يحسن التنبيه لها، لأنه كثيراً ما يوجب ارتباك المكرَه وظهور حاله بسبب عدم سيطرته علي التورية، فيقع في الضرر. ومن هنا لا مجال لما ذكره (قدس سره) من عدم اعتبار العجز عن التورية، وصدق الإكراه مع القدرة عليها.

نعم، القدرة علي التورية إنما تمنع من صدق الإكراه إذا لم يلزم من التورية محذور أهمّ من تحقق المعاملة وصحتها، كما إذا كان المكرِه في مقام الاقتصار علي إيقاع المعاملة من دون ترتيب أثرها. كما هو الحال في مثل العشارين حينما كانوا يستحلفون بالطلاق والعتاق. بخلاف ما إذا كان في مقام ترتيب أثرها، كما لو أكرهه علي طلاق زوجته ليتزوجها، حيث إن طلاق الزوج لزوجته حقيقة أهون علي كثير من الناس من تعرضها لتزويج الغير واستمتاعه بها مع بقائها في عصمته، فلا يكون إيقاع الطلاق حقيقة من دون تورية لطيب النفس به، بل لأنه أهون المحذورين.

نعم، لو التفت إلي بطلان طلاق المكرَه فإقدامه علي الطلاق الحقيقي مع قدرته علي التورية لابد أن يكون عن طيب نفس، ولو بسبب الإكراه، نظير ما تقدم في الفرع الرابع من الإكراه علي الجامع بين الصحيح والفاسد. فراجع.

(1) لتخيل ترتب الأثر معها كما لو لم يورّ.

(2) لما سبق من أن الرافع للإكراه هو الالتفات لوجه التخلص المقدور، ل

ص: 188

(189)

(مسألة 6): المراد من الضرر الذي يخافه علي تقدير عدم الإتيان بما أكره عليه ما يعم الضرر الواقع علي نفسه وماله وشأنه، وعلي بعض ممن يتعلق به ممن يهمه أمره (1). فلو لم يكن كذلك، بل كان علي بعض المؤمنين، فلا إكراه (2).

---------------

مجرد القدرة عليه مع الغفلة عنه.

(1) بحيث يكون الإضرار به إضراراً بالمكرَه عرفاً، ومحذوراً في حقه وتعدياً عليه، فيتخلص من ذلك التعدي بالإقدام علي العمل المكره عليه، ولا يكون إقدامه عليه بطيب نفسه عرفاً.

(2) كأنه لعدم خوف الضرر بعد كون الإضرار بذلك الشخص إضراراً به عرفاً، لعدم اهتمامه به. لكن الإضرار لم يؤخذ بعنوانه في معني الإكراه، ليتعين الجمود علي عنوانه ويهتم بتحديد مصاديقه، وإنما ذكر في كلماتهم لابتناء الإكراه علي الحمل والقسر الذي لا يحصل بمجرد الأمر من الغير من دون لزوم محذور من مخالفته. وذلك لا يقتضي الاقتصار علي الضرر، بل يعم كل محذور يوقعه ويستعين بالتخويف به علي تنفيذ أمره وتحقيق مطلوبه. فإذا لم يكن الإضرار بالغير إضراراً بالشخص المأمور عرفاً، لعدم اهتمامه به في نفسه، إلا أنه كان مما يجب عليه دفعه عن ذلك الغير شرعاً، كما لو هدد بقتل مؤمن، فإنه يصدق الحمل والقسر به. ومثله لو نهب مال المؤمن إذا كان أميناً عليه، إذ بضميمة وجوب حفظه شرعاً يصدق الحمل والقسر المعتبر في مفهوم الإكراه.

ويؤيد ذلك أو يدل عليه ما سبق في صحيح صفوان والبزنطي عن أبي الحسن (عليه السلام):

(في الرجل يستكره علي اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك ؟ فقال: لا. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا) (1) . فإن الشايع من الإكراه علي اليمين م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 12.

ص: 189

فلو باع حينئذٍ صح البيع (1).

---------------

يتعارف من العشارين ونحوهم ممن يطلبون اليمين دفعاً لأخذ العشور ونحوها.

ومن الظاهر أن ذلك لا يختص بأخذه من مال الإنسان نفسه، بل حتي من مال أخيه إذا كان أميناً عليه، كالمضارب ونحوه. وفي صحيح إسماعيل الجعفي: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمر بالعشار، ومعي مال، فيستحلفني، فأن حلفت له تركني، وإن لم أحلف له فتشني وظلمني. قال: أحلف له. قلت: فإنه يستحلفني بالطلاق. قال: أحلف له. فقلت: فإن المال لا يكون لي. قال:

فعن مال أخيك... ) (1) بل لا يبعد الاكتفاء برجحان دفعه شرعاً إذا كان مهماً جداً، بحيث يصعب تحمله.

وبذلك يظهر أن المحذور لا يختص بالإضرار، بل يجري في غيره من المحاذير التي يحب دفعها أو يهتم به، لشدة رجحانه شرعاً، كهدم المساجد وإشاعة الفساد ونحوهما. فلاحظ.

(1) مما سبق يظهر الإشكال في الصحة حينئذٍ، بل المنع منها.

بقي في المقام أمور:

الأول: إذا أكره علي خصوصيات المعاملة، كالثمن والمكان وغيرهما من دون إكراه علي أصل إيقاعها، فاستجاب المكرَه وحافظ علي الخصوصيات المكرَه عليها، صحت المعاملة، إذ بعد عدم الإكراه علي إيقاعها فإيقاعها واجدة للخصوصيات المكره عليها عن رضا وطيب نفس، وإلا لم يقدم علي إيقاعها، كما لعله ظاهر.

الثاني: الإكراه المبطل للمعاملة هو إكراه من تكون المعاملة له، ويكون هو ملزماً بمضمونها، كالمالك والزوج والزوجة والمضارب وغيرهم، دون مثل الوكيل والولي ونحوهما ممن يوقع المعاملة، ويكون الملزم بها غيره، حيث لا أثر لإكراهه مع رضا الأصيل بالنحو المعتبر في المعاملة المكره عليها، لظهور أن مفاد حديث رفع الإكراه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 18 من أبواب مقدمات الطلاق وشروطه حديث: 5.

ص: 190

(191)

عدم إلزام المكرَه بما أكره عليه. كما أن الآية الكريمة إنما تدل علي أن المعتبر في صحة التجارة هو رضا صاحبها. فلو أكره المالك أو المرأة أو الزوج شخصاً علي أن يوقع عقد البيع أو النكاح أو الطلاق عنه صح، لوقوعه برضا الأصيل من دون إكراه، ولا أثر لإكراه موقع المعاملة. وكذا لو أكره الأجنبي الوكيل علي إيقاع معاملة هو موكل فيها.

نعم، لو قصرت الوكالة أو الولاية عن التصرف المكره عليه، لمخالفته لمقتضي الوكالة أو الولاية تعين عدم صحة التصرف، كما لو كان التصرف المذكور مخالفاً لما عينه الموكل أو لمصلحة المولي عليه، وكذا لو ابتنت الوكالة أو الولاية علي إعمال نظر الولي أو الوكيل، بحيث يراه صلاحاً في حق الموكل أو المولي عليه، فأعجله المكرِه عن إعمال نظره في ذلك. لكن بطلان المعاملة حينئذِ ليس للإكراه، بل لعدم سلطنة موقعها، كما لو أوقعها الأجنبي فضولاً.

الثالث: صرح في الشرايع والقواعد وغيرهما بنفوذ عقد المكره إذا تعقبه الرضا من صاحبه، ونسبه في المستند للأكثر، وفي الجواهر: (علي المشهور نقلاً إن لم يكن تحصيلاً)، وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه المشهور بين المتأخرين. وفي الرياض وعن الحدائق أن ظاهرهم الاتفاق عليه.

والعمدة فيه عموم الوفاء بالعقود الذي سبق الاستدلال عليه في أول كتاب التجارة بالآية الشريفة والسيرة العقلائية، مؤيداً أو معتضداً بصحة عقد الفضولي بذلك. وقد تنظر في ذلك المحقق الثاني (قدس سره) في جامع المقاصد وجماعة ممن تأخر عنه. وما ذكر أو يذكر في وجه ذلك أمور:

الأول: ما في جامع المقاصد والجواهر من انتفاء القصد مع الإكراه، ومع عدم القصد لا عقد، ليصح بالرضا المتأخر، كما في عقد الهازل. ويظهر الجواب عنه مما تقدم في ذيل الكلام في الوجه الثاني للاستدلال علي بطلان عقد المكرَه.

الثاني: ما تضمن رفع ما استكرهوا عليه. وفيه: أن لا نظر له إلي حال الرضا به، فلا ينافي في ثبوته في حقه وإلزامه به بسببه. ومثله ما تضمن عدم حلّ مال المسلم إل

ص: 191

بطيبة نفسه بناء علي أنه من أدلة المسألة وعمومه للحل الوضعي. بل هو ظاهر حينئذٍ - بمقتضي الحصر - بحله بالرضا المتأخر.

الثالث: آية التجارة عن تراض. لظهورها بمقتضي الحصر في اعتبار مقارنة الرضا للعقد، بحيث يصدر عنه. وإنكار شيخنا الأعظم (قدس سره) دلالتها علي الحصر في غير محله، كما يظهر مما تقدم في وجه الاستدلال بها. بل هو لا يناسب استدلاله بها لبطلان عقد المكرَه.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من المنع من خلوّ عقد المكرَه من الرضا بعد وقوعه باختياره. إذ يظهر الإشكال فيه مما سبق منا من انصراف الرضا في المقام عن الرضا الصادر عن إكراه. بل سبق منه (قدس سره) أنه لابد من البناء علي ذلك في الآية الشريفة. ومن ثم استدل هو (قدس سره) بها علي بطلان عقد المكره. فراجع.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في مبحث عقد الفضولي - وسبقه إليه في المقابيس - من احتمال كون قوله تعالي: (عن تراض) خبراً ثانياً، لا قيداً للتجارة، حيث يرجع ذلك إلي أنه يعتبر في حلّ أكل المال أن يكون سبب الأكل تجارة وأن يكون عن تراض، والمفروض في المقام أنه لا يحل المال إلا بعد الرضا. ولعله إليه يرجع ما في الجواهر، من أن أقصي آية التراضي اعتباره نفسه في الحلية والخروج عن أكل المال بالباطل.

إذ فيه: - مع أن غلبة توصيف النكرة تؤيد تقييد التجارة بالتراض، كما اعترف به (قدس سره) -: أن ذلك يقتضي بطلان العقد في المقام، لأن سبب حلّ الأكل فيه نفس العقد، وبه تكون التجارة، والمفروض عدم صدوره عن تراض.

نعم، لو كان اسم (تكون) ضمير يعود إلي الأكل المستفاد من مساق الكلام، وكانت (تجارة) منصوبة بنزع الخافض، لتمّ ما ذكره، حيث يكون المعني حينئذٍ: إلا أن يكون أكل المال بتجارة وعن تراض. لكنه لا يتناسب مع كون الثابت في المصحف الشريف (تكون) بالتاء، لا بالياء، كما أن نصب التجارة بنزع الخافض مخالف

ص: 192

للظاهر جداً.

وكذا الحال فيما ذكراه (قدس سرهما) من أن الخطاب لملاّك الأموال، والتجارة في الفضولي إنما تصير تجارة المالك بعد الإجازة. لرجوعه إلي أن (عن تراض) متعلق بالمعني الحرفي المقدر، وهو إضافة التجارة لملاك الأموال. وكون المتعلق هو نسبة الإضافة بما هي معني حرفي غير مألوف في استعمالات أهل اللغة والعرف، خصوصاً مع كونها مقدرة غير مصرح بها، كما في المقام.

علي أن اختصاص الخطاب بملاّك الأموال غير ظاهر، فإن النهي عن أكل المال بالباطل يعمّ المالك وغيره. وغاية ما يدعي أنه لابد من تقييد التجارة بما يصدر عن المالك، بل عن كل من هو مسلط شرعاً، فالتجارة الصادرة عن غيره خارجة عن العموم موضوعاً، ولا تدخل في العموم حتي تنسب له بالإجازة، وهي حينئذٍ عن رضاً منه، لا من دون رضا. وكأنه إلي هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في مبحث عقد الفضولي. وهو يبتني علي ما سبق من كون (عن تراض) متعلق بنسبة الإضافة المقدرة. الذي سبق الإشكال فيه. علي أنه لا ينفع في الإكراه، لأن التجارة صدرت ممن هو مسلط عليها وانتسبت له من دون رضاً منه بها.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن التجارة بالمعني المصدري وإن كانت أمراً آنياً لا بقاء له، إلا أنها بالمعني الاسم المصدري أمر قارّ له بقاء، فإذا تعقبها الرضا صدق أنها عن رضا.

لكنه يشكل: أولاً: بأن حمل التجارة في الآية الشريفة علي المعني الاسم المصدري مخالف للظاهر، فإنها من المصادر، لا أسماء المصادر. وثانياً: بأن اسم المصدر وإن كان له وجود استمراري، إلا أن حدوثه تابع للمصدر ومقارن له غير منفصل عنه، فإذا لم يقع المصدر عن تراض لم يقع اسم المصدر عنه، وإذا تعقبه الرضا، لم يصدق عليه أنه عن تراض، بل ملحوق بالرضا.

نعم، ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن المراد بالتجارة ليس هو العقد، بل الاكتساب،

ص: 193

وهو لا يحصل شرعاً إلا بعد الرضا، وإن كان العقد سابقاً عليه. لكن تفسير التجارة بالاكتساب الشرعي غريب جداً، لا يناسب معناها لغة وعرفاً. كما أنه لا يناسب ورود الآية الشريفة في بيان أسباب الاكتساب الصحيحة شرعاً، حيث يتعين حينئذٍ حمل التجارة علي التجارة العرفية، وأن المراد بالآية بيان أنه يشترط في صحتها شرعاً صدورها عن تراض، وذلك لا يتم مع صدورها عن إكراه وتعقبها بالرضا. ومن هنا كانت الآية الشريفة ظاهرة في اعتبار مقارنة التجارة للرضا، بحيث تصدر عنه، ولا يكفي لحوقها به.

فالعمدة في المقام أنه لابد من رفع اليد عن الظهور المذكور بعد أن كان المرتكز أن اعتبار الرضا إنما هو لاعتبار استقلال صاحب السلطنة في إعمال سلطنته، بحيث لو لم يستقل في إعمال سلطنته وكان مكرهاً كان رضاه بالمعاملة لاغياً، وكانت التجارة كما لو وقعت من دون إعمال سلطنته. وحيث ثبت - كما يأتي عند الكلام في عقد الفضولي - أنه يكفي في إعمال السلطنة المعتبر في التجارة إعمالها بعد وقوعها، تعين الاجتزاء بالرضا اللاحق، ونفوذ التجارة به.

ومرجع ذلك إلي الجمع بين الآية الشريفة وأدلة نفوذ العقد الفضولي بإلغاء خصوصية تعقب التجارة للتراضي، والاكتفاء بمطلق الرضا بالتجارة، ولو بعد حصولها، إعمالاً للسلطنة المعتبر في العقد.

فإن ذلك أولي عرفاً من الجمود علي ظاهره، وتخصيصه بعقد الفضولي، ليدعي أن الخروج عنه في عقد الفضولي لا يستلزم الخروج عنه في عقد المكره، لما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من استناد عقد الفضولي للأصيل حين إجازته له ورضاه به، واستناد عقد المكره له حين صدوره منه قبل رضاه به.

وإن كان الظاهر أن ذلك ليس فارقاً بعد ظهور الآية نفسها في اعتبار صدور التجارة عن الرضا، لأن انتساب التجارة في العقد الفضولي للأصيل وإن كان مقارناً للإجازة والرضا، إلا أن وقوعها سابق عليه، فلا يصدق أنها تجارة عن رضا من

ص: 194

صاحبها، بل هي ملحوقة به. نعم لو كان قوله تعالي: (عن تراض) متعلقاً بنسبة الإضافة بما هي معني حرفي اتجه الفرق المذكور، كما أشرنا إليه آنفاً. لكن سبق المنع من ذلك. فراجع.

بل ربما يكون صدور عقد المكره عن صاحبه يجعله أولي بالصحة مع تعقبه بالرضا منه من عقد الفضولي. ومن ثم استدل بعضهم علي الصحة في المقام بفحوي ما دل علي صحة عقد الفضولي بالإجازة والرضا اللاحق. وإن كنا في غني عن ذلك بما سبق. فلاحظ.

هذا وفي كون الرضا اللاحق موجباً لترتب أثر صحة العقد من حين صدوره الذي يعبر عنه بالنقل، أو من حين صدور العقد الذي يعبر عنه بالكشف، كلام موكول للكلام في حكم إجازة عقد الفضولي، لأنهما من باب واحد، خصوصاً بعد ما سبق في وجه صحة عقد المكره بالرضا اللاحق.

ثم إن هذا كله في عقد المكره أما إيقاعه فلا مجال لتصحيحه بالرضا اللاحق، لعدم ثبوت عموم كفاية إعمال السلطنة في الإنشاء بعد وقوعه، وإنما يختص ذلك بالعقد، فلا مخرج عن ظهور الأدلة في اعتبار مقارنة صدوره للرضا. ومن ثم لو وقع فضولاً لم يصح بالإجازة اللاحقة إلا بدليل خاص لو حصل.

ص: 195

ص: 196

(197)

البيع الفضولي (1)

(الرابع): القدرة علي التصرف (2). لكونه مالكاً (3). ووكيلاً عنه، أو مأذوناً منه (4).

---------------

(1) قال في القاموس:

(الفضولي بالضم المشتغل بما لا يعنيه) . وعلي ذلك يكون المراد به في المقام موقع البيع، كما جري عليه سيدنا المصنف (قدس سره) في غير موضع مما يأتي. ومقتضي ذلك أن يضاف البيع له فيقال: بيع فضولي. ولا يكون وصفاً للبيع، كما في المتن.

هذا والظاهر أن الكلام الآتي لا يختص ببيع الفضولي، بل يجري في جميع عقوده، كما يظهر من أدلة المسألة إن شاء الله تعالي.

(2) من الظاهر أن العقود والإيقاعات تقتضي نحواً من التصرف في المال أو النفس، إما بإثبات حق عليها مالي أو غيره، أو بجعل عنوان اعتباري لها، كالزوجية والبينونة والحرية وغيرها. ومجرد تشريع المضمون العقدي أو الإيقاعي لا يقتضي ثبوت السلطنة لكل أحد علي إيقاعه، بل لابد في إثباتها لبعض الأشخاص من دليل آخر.

(3) فإن مقتضي قاعدة السلطنة علي المال نفوذ تصرف المالك فيه. وكذا الحال لو كان العقد متعلقاً بالنفس كالتزويج، فإن مقتضي قاعدة السلطنة علي النفس نفوذ تصرف من يتعلق العقد به. نعم لو قصرت قاعدة السلطنة في حق الشخص - كما في الصبي والسفيه - تعين عدم نفوذ عقده ولا إيقاعه.

(4) لأن الوكيل والمأذون يقوم مقام الموكل والآذن في السلطنة علي الأمر

ص: 197

(198)

أو ولياً عليه (1). فلو لم يكن العاقد قادراً علي التصرف لم يصح البيع (2)، بل توقفت صحته علي إجازة القادر علي ذلك التصرف، مالكاً كان، أو وكيلاً عنه، أو مأذوناً منه، أو ولياً عليه. فإن أجاز صح (3)،

---------------

الموكل أو المأذون فيه.

(1) لأن مقتضي الولاية السلطنة علي شؤون المولي عليه، سواءً كان إنساناً كالصبي، أم غيره كالوقف ومال الزكاة. ومن هنا لا يختص الأمر بولي المالك، كما قد توهمه عبارة المتن.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، بل هو من الضرورات الفقهية والدينية. وسيتضح إن شاء الله تعالي الوجه في قصور عمومات النفوذ والصحة عنه. مضافاً إلي الأدلة الخاصة التي يأتي التعرض لبعضها. ووضوح الحكم يغني عن استيعابها.

(3) كما في المقنعة والنهاية والوسيلة والشرايع والتذكرة، وعن الإسكافي والحلبي والقاضي وغيرهم، وفي الجواهر أنه الأشهر بالمشهور، بل قيل إنه كاد يكون إجماعاً. بل صرح في الناصريات بالإجماع علي صحة عقد الفضولي بالنكاح، وحكي عن ظاهر التذكرة في موضع وصريحه في آخر الإجماع عليه في البيع، وإن كان الموجود فيه ذكر ذلك في بعض فروع المسألة مع تصريحه بالخلاف في أصل المسألة. وهو لا يخلو عن تدافع.

وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(واستقر عليه رأي المتأخرين عدا فخر الدين وبعض متأخري المتأخرين كالأردبيلي والسيد الداماد وبعض متأخري المحدثين) .

خلافاً للخلاف والغنية والسرائر، ومن تقدم ذكره في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره). بل في الغنية الإجماع عليه. وكذا في الخلاف، مع اعترافه بوجود المخالف فيه. ونفي في السرائر في كتاب باب المضاربة الخلاف في بطلان شراء الغاصب بعين المال بنحو يظهر منه عدم صحته بالإجازة مع اعترافه بوجود القائل بأن ربح المال

ص: 198

المغصوب لمالكه المغصوب منه.

وكيف كان فقد يستدل علي صحة بيع الفضولي، بل مطلق عقده بأمور:

الأول: عموم نفوذ العقد المستفاد من قوله تعالي: (أوفوا بالعقود)(1) ، فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن خلّوه عن إذن المالك لا يوجب سلب العقد عنه. غاية الأمر أنه لابد في نفوذه من رضا المالك. أما اعتبار سبق الرضا، فلا دليل عليه، بل مقتضي إطلاق دليل النفوذ الاكتفاء بالرضا المتأخر، اقتصاراً في تقييده علي المتيقن.

ويشكل: أولاً: بما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه بعد فرض صدق العقد عليه - الذي هو موضوع عموم النفوذ - وإن خلا عن رضا المالك، وأن عدم نفوذه من باب التخصيص الذي يقتصر فيه علي المتيقن، وهو صورة عدم رضا المالك به أصلاً، فالاكتفاء في نفوذه برضا المالك المتأخر إن ابتني علي كون الرضا المتأخر مانعاً من خروج العقد عن حكم العام - وهو النفوذ - من أول الأمر، بأن يكون المعتبر في نفوذ العقد حين صدوره مطلق الرضا به ولو كان متأخراً، لزم كون الإجازة كاشفة عن نفوذ العقد كشفاً حقيقياً، وهو خلاف مختاره قدس سره في المقام.

وإن ابتني علي كون الرضا المتأخر موجباً لنفوذ العقد بعد أن لم يكن نافذاً حين صدوره، لما ذكره (قدس سره) عند الكلام في النقل والكشف من أن مقتضي دليل اعتبار الرضا في النفوذ عدم فعلية النفوذ قبله، فمرجعه إلي قصور عموم نفوذ العقد عن العقد الخالي عن الرضا حين وقوعه، وخروجه عنه تخصيصاً، وغاية ما يدعي حينئذٍ تحكيم العموم فيه بعد حصول الرضا به.

لكنه قدس سره ذكر في مبحث خيار الغبن أنه مع قصور عموم حكم العقد عن بعض أفراده في بعض الأزمنة لا مجال للتمسك بالعموم في ذلك الفرد في الزمن اللاحق، لما ذكره في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب من أن الزمان إذا لم يكن موجباً لتكثر أفراد العام - كما هو الحال في عموم العقود - فمع خروج الفرد عن حكم

********

(1) سورة المائدة آية: 1.

ص: 199

العام تخصيصاً في بعض الأزمنة لا مجال للتمسك بعموم العام فيه بعد ذلك.

وثانياً: بأنه لا مجال لدعوي عموم الأمر بالوفاء بالعقود للعقد الفضولي حين وقوعه، بحيث يكون عدم نفوذه مطلقاً أو مع عدم الإجازة من باب التخصيص للعموم المذكور. لظهور أن القضية المذكورة ارتكازية، ولا ريب في عدم نفوذ عقد الفضولي بنفسه ارتكازاً. فلابد من البناء علي قصور العموم المذكور عن عقد الفضولي حين وقوعه، ويبقي الكلام في وجه نفوذه بالإجازة، وأنه هل يكون مشمولاً للعموم بسببها، أو ملحقاً به لدليل خارج ؟.

والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في أن المخاطب بالوفاء بالعقد خصوص من يتعلق العقد به، بحيث يكون تنفيذه من وظيفته، لكون مضمونه مقتضياً للتصرف في نفسه أو ماله، غايته أن خطابه بالوفاء بالعقد حيث كان متفرعاً علي نفوذ العقد ودالاً عليه، فالعقد كما ينفذ في حقه ينفذ في حق غيره، لعدم قابلية النفوذ للتبعيض عقلاً أو عرفاً.

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن مقابلة الجمع بالجمع في الآية الشريفة تقتضي التوزيع، وأن المراد خطاب كل أحد بالوفاء بعقده، وكما يستند العقد للشخص بمباشرته له يستند له بإجازته له. وجري علي غير ذلك غير واحد ممن تأخر عنه.

قال سيدنا المصنف (قدس سره):

(وإضافة العقد إلي الشخص: تارة: بلحاظ صدوره منه. وأخري: بلحاظ التزامه به، وإن كان صادراً من غيره. ولا يمكن الحمل علي الأول. إذ مقتضاه في عقد الوكيل والمأذون أن لا يجب علي الموكل والآذن الوفاء، لعدم صدور العقد منهما، لا مباشرة ولا تسبيباً، إذ مجرد الإذن والوكالة لا يقتضي ذلك، فيتعين الأخير. والالتزام المصحح للإضافة لا فرق فيه بين الإذن السابقة والإجازة اللاحقة... ) .

لكنه قد يشكل بعدم وضوح كفاية إمضاء عقد الفضولي ممن له العقد في نسبته له بعد كون الموقع له غيره، فضلاً عن استناده له بذلك، كما هو مقتضي الجمود علي ما

ص: 200

عن بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره.

وأما ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الاقتصار في مصحح إضافة العقد للشخص علي صدوره منه مستلزم لعدم وجوب الوفاء عليه بعقد وكيله ومأذونه فلابد من كون مصحح إضافة العقد للشخص هو التزامه به. فيدفعه أن التوكيل والإذن لا يرجع إلي الالتزام بفعل الوكيل والمأذون، بل مجرد تسليط الموكل والمأذون من قبل الموكل والآذن.

ودعوي: أن تسليطه لهما راجع إلي التزامه بما يقع منهما. ممنوعة. علي أن المراد بتحقق الالتزام منه بمجرد التسليط إن كان هو الالتزام الفعلي، فمن الظاهر عدم الموضوع له، لعدم قيامهما بإيقاع الأمر الموكل أو المأذون فيه بعد. وإن كان المراد هو الالتزام بالعقد معلقاً علي وقوعه، فلا ريب في عدم كفايته في نفوذ العقد من الغير، فلو التزم الشخص علي نفسه بأن ينفذ ما يجريه ابنه من عقود من دون أن يوكله أو يأذن له، ثم غفل عن ذلك، لم تنفذ عقود أبنه عليه إلا بتنفيذه والتزامه وإجازته لها فعلاً.

وإن كان هو الالتزام الشأني، بمعني أن الموكل والآذن لو التفتا للعقد حين إيقاع الوكيل والمأذون لالتزما به. ففي كفاية مثل هذا الالتزام في نفوذ العقد كلام يأتي في المسألة الثامنة. علي أنه قد لا يتحقق، كما لو عدل الموكل عما وكل فيه وعزل الوكيل وأوقع الوكيل العقد قبل أن يبلغه ذلك، فإنه ينفذ علي الموكل، لعدم انعزال الوكيل قبل أن يبلغه العزل، فتبقي سلطنته تبعاً لبقاء وكالته.

وبذلك يظهر أن نفوذ عقد الوكيل والمأذون ليس لالتزام الموكل والآذن، بل لسلطانهما عليه تبعاً لتسليطهما لهما. نظير سلطان الولي علي شؤون المولي عليه شرعاً، المقتضي لنفوذ عقده عليه، مع وضوح عدم التزامه به أصلاً.

وبعبارة أخري: مقتضي تشريع الوكالة والإذن هو قيام فعل الوكيل والمأذون مقام فعل الموكل والآذن - وترتب أحكامه عليه - كقيام فعل الولي مقام فعل المولي

ص: 201

عليه، وليس هو متفرعاً علي نسبته له بسبب التزامه به، ليكون شاهداً علي كفاية التزام الأصيل وإمضائه لعقد الفضولي في نسبته له، ودخوله في عموم وجوب الوفاء بالعقد.

ولذا لو فرض عدم مشروعية التوكيل والإذن - ولو لقصور الوكيل والمأذون عما وكل فيه، كما لو قيل بعدم جواز توكيل الكافر علي بيع المسلم - لم يكف التوكيل والإذن في عموم وجوب الوفاء في حق الموكل لعقد الوكيل والآذن، من أجل دعوي التزامه به تبعاً لتوكيله فيه.

نعم، قد يصح نسبة عقد الوكيل للموكل عرفاً، ولو توسعاً ومجازاً، بلحاظ تسليطه له عليه، أو بلحاظ قيامه مقامه، لا بلحاظ التزامه به، ليصلح شاهداً علي عموم كفاية الالتزام في النسبة، وينفع فيما نحن فيه.

نعم، لا شاهد علي اعتبار نسبة العقد إلي المخاطب بلزوم الوفاء به. وما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) من أن مقابله الجمع بالجمع تقتضي التوزيع وإن كان مسلماً، بل لا ريب في عدم كون المراد في المقام وجوب وفاء كل أحد بكل عقد وإن لم يتعلق به ولم يلتزم به. إلا أن جعل المعيار في التوزيع علي النسبة إنما يتم في إضافة الجمع للجمع، كما في قوله تعالي: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم...)(1) وقوله سبحانه: (وليوفوا نذورهم)(2) وقوله عز وجل: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)(3) وغير ذلك، لظهور الإضافة في انتساب المضاف للمضاف إليه، أما في مثل الآية الشريفة مما لا يتضمن إضافة الجمع للجمع، بل مجرد خطاب الجمع بحكم الجمع، فربما يكون معيار التوزيع أمراً آخر، حسب اختلاف المقامات واختلاف القرائن والمناسبات الارتكازية المحيطة بها.

وعلي ذلك فحيث لم تتضمن الآية الشريفة التعبير بنفوذ العقود، بل الأمر

********

(1) سورة النساء آية: 3.

(2) سورة الحج آية: 29.

(3) سورة المؤمنين آية: 5، 6، وسورة المعارج آية: 29-30.

ص: 202

بالوفاء بها، فالظاهر أن التعبير المذكور إشارة إلي قضية ارتكازية، وهي لزوم قيام الإنسان بما جعله علي نفسه بالعقد، وأدائه له علي الوجه الذي التزم به، نظير وفائه بعهده ونذره ويمينه ووعده. ومن ثم لا تشمل العقد الذي يوقعه غيره من دون أن يلتزم هو به. إلا أن يدل دليل من الخارج علي قيام التزام ذلك الغير مقام التزامه هو علي نفسه، كما في الوكيل والمأذون والولي.

وعلي ذلك لا يكون عقد الفضولي قبل الإجازة مشمولاً للآية الشريفة، لا في حق الفضولي نفسه، لعدم تعلق العقد به، وعدم كون تنفيذه من وظيفته، ولا في حق الأصيل، لعدم التزامه به، ليكون موضوعاً للوفاء بما التزم به علي نفسه. أما بعد الإجازة فيدخل في عموم الآية الشريفة، لرجوع إجازته له إلي التزامه به، كما لو أوقعه بنفسه، وإن لم نقل بكفاية ذلك في النسبة إليه.

وبعبارة أخري: ليس موضوع الآية الشريفة العقد الذي ينسب للإنسان، أو يستند إليه، كما سبق منهم، ليقع الكلام في صدق ذلك علي عقد الفضولي بالإجازة وعدمه. بل العقد الذي يلتزم به، وهو كما يصدق علي العقد الذي يوقعه هو ويلتزم به رأساً، يصدق علي العقد الذي يوقعه غيره إذا التزم هو به بعد ذلك وأجازه. وبذلك يتجه الاستدلال بعموم الأمر بالوفاء بالعقود علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة.

الثاني: عموم نفوذ الشرط المستفاد من مثل قولهم (صلوات الله عليهم):

(المسلمون عند شروطهم) (1) فقد سبق منّا في أول كتاب التجارة عموم الشروط للعقود المبنية علي التزام كل من المتعاقدين للآخر بشيء في مقابل التزام الآخر له، كالبيع والإجارة والمضاربة وغيرها، وإنما الإشكال في عمومها لمثل الهبة مما يتضمن التزام أحد الطرفين للآخر من دون أن يلتزم الآخر له بشيء.

إذا عرفت هذا فقد يدعي أن العموم المذكور يشمل عقد الفضولي بعد الإجازة، فيكون دليلاً علي نفوذه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار وغيرها.

ص: 203

لكن العموم المذكور مختص بالشرط المنتسب لمن يخاطب بلزوم الوفاء به، كما هو مقتضي الإضافة في الحديث السابق، لما سبق من ظهور إضافة الجمع للجمع في التوزيع. ويقتضيه أيضاً التعبير في النصوص بمثل: شرط، ويشترط، ونحوهما مما يقتضي صدور الشرط ممن يخاطب بالوفاء به. وقد سبق الإشكال في كفاية إجازة عقد الفضولي في نسبته للمجيز، فضلاً عن صدوره منه، الذي هو مفاد مثل شرط، ويشترط، ونحوهما.

اللهم إلا أن يدعي إلغاء خصوصية الانتساب والصدور عرفاً، والتعدي لجميع موارد الالتزام بالشرط، لظهور أن لزوم الوفاء بالشرط - كلزوم الوفاء بالعقد - ليس تعبدياً محضاً، بل هو ارتكازي أيضاً، والمعيار في لزومه ارتكازاً علي الشخص هو التزامه به وإن لم يصدر منه ولم ينتسب له.

الثالث: إطلاقات الصلح، كقوله تعالي: (والصلح خير) و(1) وصحيح حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: الصلح جائز بين الناس [المسلمين] ) (2) فقد سبق في أول كتاب التجارة نهوضها بإثبات نفوذ العقود التي يدفع بها الفساد وتحل بها المشاكل. وبضميمة القطع بعدم خصوصية دفع الفساد في تشريع المعاملة تنهض بعموم نفوذ العقود وإن لم تحلّ بها المشاكل ويدفع بها الفساد. وحينئذٍ فقد يدعي أن مقتضي إطلاقها العموم لعقد الفضولي بعد إجازة الأصيل له.

لكن الأدلة المذكورة ظاهرة في نفوذ الصلح علي المصطلحين، ولم يتضح كون إمضاء الصلح وإجازته صلحاً، ليكون المجيز أحد المصطلحين. وتنهض هذه الأدلة بالمدعي، وهو نفوذ عقد الفضولي بالإجازة. فتأمل.

الرابع: صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)

:(سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده. فقال: ذاك إلي سيده، إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما. قلت: أصلحك الله،

********

(1) سورة النساء آية: 128.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 204

إن الحكم بين عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز) (1) .

والاستدلال به ليس بلحاظ صراحته في جواز عقد الفضولي في مورده، وهو النكاح، بل بلحاظ ما تضمنه ذيله من أنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه له فهو له جائز. لقرب سوقه مساق التعليل رداً علي من حكم بفساد النكاح من العامة.

ووجه الاستدلال حينئذٍ أنه ليس المراد من معصية السيد المعصية التكليفية، لعدم فرض نهي السيد عن النكاح في الحديث، بل منافاة العقد لسلطنته علي ماله، فيدل علي أن يكفي في إعمال السلطنة المعتبر في عقد النكاح إعمالها بإمضاء العقد الواقع، ولا ينحصر بإعمالها في إيقاع العقد مباشرة أو توكيلاً أو نحوهما. ومقتضي ارتكازية التعليل إلغاء خصوصية عقد نكاح العبد في ذلك، والتعميم لكل عقد مناف لسلطنة من يعتبر إعمال سلطنته فيه.

بل لا يبعد أن يكون نفوذ عقد الفضولي بالإجازة أمراً ارتكازياً، وأن توقف من توقف في ذلك في النكاح، لشبهة أهمية النكاح، فنبه الامام (عليه السلام) بالتعليل لتلك القضية الارتكازية، لبيان أنها تعمّ النكاح. وكيف كان فالصحيح بسبب التعليل من الأدلة العامة علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن موقع العقد في المقام ليس فضولياً، بل هو صاحب العقد، لأن الزوج هو العبد نفسه، فلا مجال لأن يستفاد منه حكم عقد الفضولي الذي يكون الموقع فيه للعقد أجنبياً عنه. غاية الأمر أنه يعتبر في المقام رضا المولي، وهو غير حاصل حين العقد وإنما حصل بعد ذلك.

نعم، يمكن التعدي من مورد الصحيح إلي ما يماثله، كالعقد علي بنت أخ الزوجة من دون إذن عمتها المعتبر في صحة العقد إذا حصل بعد ذلك. وربما كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 205

ذلك هو الوجه في عدم استدلال شيخنا الأعظم (قدس سره) بالتعليل المذكور في الصحيح، وإنما احتمل كونه مؤيداً.

وفيه: أن العبد لما كان ملكاً للمولي، فالتصرف فيه بالبيع والتزويج وغيرهما من شؤون المولي، لا من شؤون العبد نفسه، والعقد عليه من قبل غير المولي من عقد الفضولي، سواءً كان بيعاً أم تزويجاً أم غيرهما، وسواءً كان موقع العقد هو العبد نفسه أم شخصاً آخر غير المولي، كما أشار لذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

بل حتي مثل بيع الراهن العين المرهونة من دون إذن المرتهن وبيع المفلس ماله من دون إذن الغرماء لا يخرج عن العقد الفضولي، لأن موقع العقد وإن كان هو المالك، إلا أن البيع لما كان موضوعاً لحق الراهن والغرماء لم يكن التصرف فيه من شؤون المالك وحده، لعدم إطلاق سلطنته علي ماله، بل تشترك السلطنة بين المالك وصاحب الحق، فيكون بيع المالك من دون إذنه من أفراد بيع الفضولي، كبيع أحد الشريكين العين المشتركة من دون إذن شريكة. ومجرد اختلاف موضوع السلطنة، حيث يكون في الشريك هو المال نفسه، وفي المرتهن الحق الثابت بالرهن لا يصلح فارقاً.

ومنه يظهر الحال في اعتبار إذن العمة والخالة في زواج بنت الأخ والأخت عليهما. فإنه إن ابتني علي اعتبار إذنهما تعبداً لم يكف الرضا بالعقد بعد وقوعه، لفقده الشرط الشرعي. وإن رجع إلي منافاة الزواج المذكور لحقهما الأدبي الثابت لهما شرعاً - فيكون اعتبار رضاهما من أجل سلطنتهما علي الحق المذكور، كما هو المرتكز عرفاً - كان مقتضي التعليل الذي تضمنه الصحيح المتقدم الاجتزاء بالرضا المتأخر، اكتفاء في إعمال سلطنة صاحب الحق بإمضاء العقد - المنافي لها - بعد وقوعه. فلاحظ.

الخامس: ما ذكرناه في أول كتاب التجارة من أن نفوذ العقد مقتضي الارتكازات التي فطر الله تعالي الناس عليها، وعليها سيرة العقلاء المبنية علي الارتكازات المذكورة. ومثل هذه السيرة حجة ما لم يثبت الردع عنها. ومن الظاهر عدم الفرق في النفوذ

ص: 206

بمقتضي السيرة الارتكازية المذكورة بين عقد الأصيل الواقع منه، وعقد الفضولي بعد الإجازة من الأصيل. فكما يكون للإنسان إعمال سلطنته بإيقاع العقد علي ما يكون تحت سلطانه، يكون له إعمالها بإجازة العقد الذي يوقعه الأجنبي علي ذلك، وكما ينفذ عليه العقد في الأول ويلزم به، ينفذ عليه في الثاني ويلزم منه. وبذلك تكون السيرة المذكورة من عمومات نفوذ عقد الفضولي.

هذا كله في عموم عقد الفضولي من دون خصوصيته للبيع. وربما يستدل علي عموم نفوذ خصوص بيع الفضولي بالإجازة بعمومات صحة البيع. وقد تقدم منا في أول كتاب التجارة ذكر أمور:

الأول: قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)(1). ويبتني الاستدلال به في المقام علي عموم التراضي للرضا المتأخر عن إنشاء العقد، كما سبق من غير واحد عند الكلام في صحة عقد المكره إذا تعقبه الرضا. وسبق الإشكال فيه. ويأتي تمام الكلام فيه عند الكلام في حجة القول ببطلان عقد الفضولي وعدم صحته بالإجازة اللاحقة إن شاء الله تعالي.

الثاني: قوله تعالي: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا...)(2). وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المراد به البيع المستند لمن له البيع، وذلك يصدق بإجازة بيع الفضولي ممن له البيع.

لكن تقدم هناك الإشكال في ثبوت إطلاق للآية الشريفة يقتضي صحة البيع ونفوذه، لعدم وردها لبيان ذلك، بل لاستنكار تشبيه البيع بالربا، استهواناً بتحريم الربا ورداً له، بعد الفراغ عن حرمة الربا وحلية البيع. فلا يدل إلا علي حلية البيع وتحريم الربا في الجملة.

********

(1) سورة النساء آية: 29.

(2) سورة البقرة آية: 275.

ص: 207

مضافاً إلي ما سبق هنا من الإشكال في استناد عقد الفضولي للأصيل بإجازته له. نعم لا إشعار في الآية الشريفة باعتبار انتساب البيع لمن له البيع في نفوذه. غاية الأمر أن نفوذ بيع الفضولي في حق الأصيل مناف لسلطنته علي ماله، فلابد من تقييده بما إذا أعمل سلطنته فيه، فإذا تم الإطلاق في الآية الشريفة كان مقتضاه الاكتفاء في إعمال سلطنته بإجازته اللاحقة، والاقتصار علي خصوص إيقاع عقد البيع زيادة في التقييد ينفيها الإطلاق.

اللهم إلا أن يقال: وضوح عدم نفوذ بيع غير من له السلطان مانع من انعقاد الإطلاق في الآية الشريفة من هذه الجهة، وموجب لاختصاص إطلاقها - لو تم - بغير حيثية السلطنة، مع إجمالها من هذه الحيثية، فلا تنهض بنفي اعتبار خصوص إعمالها في إيقاع العقد، والاكتفاء بإعمالها في إجازته، بل لابد من الرجوع في ذلك لدليل آخر.

الثالث: الإطلاقات المقامية لما تضمن الحث علي التجارة والنهي عن تركها(1) فإنها وإن لم تكن واردة لبيان صحة التجارة ونفوذها، إلا أنه حيث كان الغرض من التجارة ترتب أثرها والاسترزاق منها، فعدم بيان الشارع الأقدس للنافذ منها ظاهر في إمضائها، وترتب أثرها.

ومن الظاهر أن أدلة الحثّ علي التجارة تقصر عن عقد الفضولي، لأن موضوع الحثّ هو من له التجارة، ويكون ربحها له. كما تقصر عن إجازته، لعدم كونها تجارة حتي لو تم كونها موجبة لنفوذه. ومن ثم لا تنهض إطلاقاتها المقامية ببيان نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، ولا تنفع في المقام.

ثم إنه قد استدل علي صحة بيع الفضولي ونفوذه بالإجازة بأمور أخر غير العمومات:

الأول: صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: قضي في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب، فاشتراها رجل، فولدت منه غلاماً، ثم قدم سيدها الأول،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1، 2 من أبواب مقدمات التجارة.

ص: 208

فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال: خذ وليدتك وابنها. فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه - يعني: الذي باع الوليدة - حتي ينفذ لك ما باعك. فلما أخذ البيّع الابن قال أبوه: أرسل ابني، فقال: لا أرسل ابنك حتي ترسل ابني. فلما رأي ذلك سيد الوليدة الأول أجاز بيع ابنه) (1) لصراحته في نفوذ بيع الابن للوليدة بإجازة أبيه بعد ذلك.

لكن قد يستشكل في الاستدلال بالصحيح من وجوه:

أحدها: اشتماله علي أخذ مالك الجارية ولدها من المشتري، مع ظهور كونها موطوءة شبهة، فيكون ولدها حرّاً، ولا يملك ولد الحرّ، وغاية ما يستحقه المالك الجارية هو قيمة الولد.

وأما ما في الاستبصار وغيره من احتمال كون الحاكم أخذ الولد من أجل استحصال قيمته من أبيه، كما تضمنته بعض النصوص. ففيه: أنه مخالف لظاهره جداً، لقوة ظهوره في استحقاق نفس الولد وفي انحصار استرجاعه بإمضاء البيع. ومثله ما فيه أيضاً من احتمال أن المراد اخذ قيمة الولد، وقد حذف المضاف وأقام المضاف مقامه، كما هو شايع في الاستعمالات. إذ هو مناف لصريح الصحيح من مطالبة الأب بولده.

وكذا ما في الجواهر من احتمال كون أخذ الولد حتي تثبت الشبهة للمشتري، إذ لو كان عالماً كان زانياً فيملك صاحب الجارية الولد. إذ فيه: أن الشبهة هي مقتضي الأصل، ويناسبها ظاهر الحال بعد كون ولد المالك البايع صاحب يد من حقه البيع ظاهراً. مضافاً إلي أن الاحتمال المذكور لا يناسب ما سبق من قوة ظهور الصحيح في انحصار استرجاع الولد بإمضاء البيع.

وبالجملة: الوقوف عن العمل بالصحيح وإرجاع عمله لأهله أولي من هذه التأويلات التي يأباها لسانه جداً.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

ص: 209

فالعمدة في دفع الإشكال المذكور: أن عدم العمل بهذه الفقرة لا يمنع من الاستدلال بالصحيح للمطلوب من نفوذ عقد الفضولي بالإمضاء. لما هو المعلوم من أن عدم العمل ببعض فقرات الحديث لا يسقطه عن الحجية في تمام مضمونه.

ثانيها: ما تضمنه من تنبيه المشتري إلي أخذ ولد المالك - وهو الذي باشر البيع

من أجل أن يمضي المالك البيع، مع أنه لا يستحق أخذه، غاية الأمر أن له مطالبته بالثمن الذي أخذه منه بعد انكشاف بطلان البيع، بل بجميع ما يخسره بسبب المعاملة المذكورة، لأنه قد غره وخدعه. بل قد يشكل من أجل ذلك ترتب الأثر علي إجازة المالك، لكونها عن إكراه من أجل تخليص ولده الذي أخذ بلا حق.

ويندفع: بأن صريح الصحيح أن أخذ المشتري لولد المالك الذي باشر البيع ليس من أجل استرقاقه، بل من أجل إحراج المالك، لينفذ البيع. وهو يستحق أخذه من أجل تصفية حسابه معه، أو من أجل طلب تعزيره، لأنه قد تصرف بلا حق تصرفاً أضر به، أو أنه (عليه السلام) نبه لذلك بمقتضي ولايته، تنكيلاً بابن المالك، لأنه معتد في تصرفه. ومع استحقاق أخذه يكون الإكراه بحق، فلا يرتفع أثر الإجازة.

علي أن عدم ظهور الوجه في استحقاق أخذه لا يمنع من العمل بالصحيح في محل الكلام، ولا يلزم سقوط أثر الإجازة بالإكراه، إذا لا ريب في كون أخذه بحق بعد تنبيه الامام (عليه السلام) له وإن جهل وجهه، وذلك يسقط أثر الإكراه.

ثالثها: أن ظاهر الصحيح تحقق الرد من المالك، مع الإجماع علي عدم نفوذ الإجازة بعد الرد، فما تضمنه من نفوذ العقد بإجازة المالك بعد رده مخالف للإجماع، وما عليه الأصحاب من نفوذه بالإجازة غير المسبوقة بالرد لا يدل عليه الصحيح. ولعله لذا حكي عن السيد الطباطبائي (قدس سره) أن الصحيح يكون دليلاً علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة حتي بعد الرد.

لكن منع بعض مشايخنا (قدس سره) من ظهور الصحيح في تحقق الرد، لأن ترتيب آثار عدم نفوذ العقد هو مقتضي الحكم الأولي، والذي يجوز العمل عليه ما دامت

ص: 210

الإجازة لم تحصل، وهو يجتمع مع التردد في الإجازة. ويظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) أنه لابد من تنزيل الصحيح علي ذلك، جمعاً بين ما دل عليه من نفوذ العقد بالإجازة وما ثبت من مانعية الرد من تنفيذ الإجازة للعقد.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد بالردّ البناء علي عدم إجازة العقد، فلا إشكال في قوة ظهور الصحيح في تحققه في مورده. وحمله علي كون ما صدر من المالك لمجرد العمل بالحكم الأولي بانتظار ظهور المصلحة له في إجازته للعقد بعيد جداً، لا يناسب لسان الصحيح.

وإن كان المراد بالردّ فسخ العقد وحلّه - كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره)، وظاهر الجواهر المفروغية عنه - فلا ظهور للصحيح فيه، لقرب غفلة المالك عن ذلك، وأن ما صدر منه لمجرد عدم بنائه علي الإجازة وتشبثه بملكيته للجارية.

وأظهر من ذلك ما إذا اعتبر فيه لفظ خاص قال في الجواهر: (كما عن الشهيد في حواشيه، حيث قال: والرد أن يقول: فسخت). حيث لا إشكال في عدم تضمن الصحيح ذلك.

وكيف كان فالظاهر عدم مانعية الردّ من الإجازة بأي معني فرض، كما يأتي في التعقيب علي كلام سيدنا المصنف (قدس سره). ومن ثم لا مانع من الاستدلال بالصحيح لما نحن فيه.

بل ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن ظهور الصحيح في تحقق الإجازة بعد الرد إنما يمنع من الاستدلال به في المقام لو كان مرجع الاستدلال به للاستدلال بالقضية الشخصية التي تضمنتها بضميمة إلغاء خصوصية موردها. أما لو كان مرجعه للاستدلال بكبري تنفيذ الإجازة لعقد الفضولي المستفادة من مساق الكلام في الصحيح، فلا يمنع منه ظهوره في كون الإجازة في مورده بعد الردّ.

لكن استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره بأن الصحيح إنما تضمن نفوذ العقد الخاص بإجازته، من دون أن يتضمن كبري عامة يمكن الرجوع إليها حتي مع

ص: 211

عدم العمل بالقضية الشخصية الخاصة.

وما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحاً، إلا أن الصحيح لم يتضمن القضية الشخصية تأسيساً، بل ظاهره المفروغية عنها بسبب ارتكازيتها، فإن ذلك هو الظاهر من قوله (عليه السلام):

(خذ ابنه حتي ينفذ لك ما باعك) وكذا قوله (عليه السلام):

(فلما رأي ذلك سيد الوليدة أجاز البيع) ، ومن الظاهر عموم القضية الارتكازية، وعدم اختصاصها بالمورد.

نعم، عموم القضية المستفادة من الصحيح - لو تم - لا ينفع مع عدم العمل به في مورده، لوضوح أن تخصيص المورد مانع من حجية العموم في غيره. فالعمدة ما سبق.

الثاني: ما تضمن من النصوص أن عامل المضاربة إن خالف شرط المالك ضمن الخسارة مع كون الربح بينهما(1).

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فإنها إن أبقيت علي ظاهرها من عدم توقف ملك الربح علي الإجازة... كان فيها استئناس لحكم المسألة، من حيث عدم اعتبار إذن المالك سابقاً في نقل مال المالك إلي غيره. وإن حملناها علي صورة رضا المالك بالمعاملة بعد ظهور الربح... اندرجت المعاملة في الفضولي. وصحتها في خصوص المورد وإن احتمل كونها للنص الخاص، إلا أنها لا تخلو عن تأييد للمطلب) .

لكن لا مجال للاستئناس بها علي الأول، ضرورة أن المهم في مسألة عقد الفضولي هو الاجتزاء بالإجازة اللاحقة في مورد اعتبار رضا المالك في صحة المعاملة، ومع فرض عدم اعتبار رضا المالك في مورد النصوص المذكورة يكون موردها أجنبياً عن مسألة عقد الفضولي بالكلية، نظير ما يدل علي عدم اعتبار إذن القاصر في صحة المعاملة المتعلقة به أو بما له.

وأما علي الثاني فلا مجال للاستدلال بما تضمن شرطاً خارجاً عن موضوع المضاربة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):

(سألته عن الرجل يعطي المال

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب المضاربة.

ص: 212

مضاربة، وينهي أن يخرج به، فخرج. قال: يضمن المال، والربح بينهما) (1) . لوضوح أن مخالفة الشرط بالسفر لا توجب خروج المعاملة عن موضوع عقد المضاربة الذي وقع بينهما، بحيث تكون فضولية غير مأذون فيها.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه مع شمول عقد المضاربة للعقد المذكور لا وجه للضمان. ففيه أن أدلة عدم ضمان العامل في المضاربة تختص بصورة عدم مخالفته للشرط، أما مع مخالفته له فصريح هذه النصوص ضمانه، ولا ملزم بحملها علي قصور المضاربة عنه.

نعم، قد يتجه الاستدلال بما ورد في الشرط المقوم لموضوع المضاربة، كصحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في رجل دفع إلي رجل مالاً ليشتري به ضرباً من المتاع مضاربة، فذهب فاشتري به غير الذي أمره. قال: هو ضامن، والربح بينهما علي ما شرط) (2) . لظهور أن شراء المتاع الآخر لا يقتضيه عقد المضاربة الذي حصل بينهما، فيكون من عقد الفضولي غير المأذون فيه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من دخوله في عقد المضاربة بنحو الترتب، لأن غرض المالك الاسترباح، ففي فرض حصول الربح في المعاملة المنهي عنها تكون داخلة في عقد المضاربة الذي أوقعه.

فهو في غاية المنع: أولاً: لأن غرض المالك قد لا يكون مطلق الاسترباح، بل استرباح خاص، لخصوصية في البضاعة، أو في غيرها.

وثانياً: لأن مجرد واجدية المعاملة لغرض المالك واقعاً لا يكفي في عموم عقده لها بعد قصور موضوع العقد الذي أوقعه عنها، فضلاً عما إذا كان قد نهي عنها. والأمر الترتبي الذي التزمنا به في باب التزاحم بين التكليفين إنما استفيد من إطلاق دليل كل منهما حيث يلزم الاقتصار في الخروج عنه علي ما يقتضيه التزاحم، ولا مجال للبناء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب المضاربة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من أبواب كتاب المضاربة حديث: 9.

ص: 213

عليه في فرض عدم الإطلاق، فضلاً عن صورة النهي.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره من أن حمله علي عقد الفضولي، بحيث تتوقف صحته علي الإجازة، يقتضي كون الربح بتمامه للمالك. لأن ذلك هو مقتضي الأصل بعد عدم المخرج عنه، لفرض قصور عقد المضاربة عنه.

لاندفاعه بأنه لا مجال لذلك مع ما هو المعلوم من قصد العامل المضاربة بالمال، حيث لا يكون مفاد العقد المجاز حينئذٍ مجرد التعامل بالمال بيعاً وشراء، بل التعامل بنحو خاص يبتني علي شركة العامل في الربح، فلابد إما من إجازته بتمام مضمونه أو ردّه. ولا أقل من كون ذلك هو مقتضي نصوص المقام لو تم حملها علي كون العقد فضولياً يحتاج للإجازة.

فالعمدة أن إجازة المالك للمعاملة المذكورة وإن كانت قريبة جداً بعد غلبة تعذر تحصيل رأس المال وفرض حصول الربح، إلا أن حمل النصوص المذكورة علي دخل الإجازة في استحقاق الربح لا يناسب إطلاقها، لظهوره في تبعية استحقاقه للمعاملة بنفسها، كما لو لم يخالف الشرط أو لم يكن الشرط مقوماً لموضوع المضاربة.

ولاسيما بعد ظهور حال الأصحاب في العمل عليه، لعدم تنبيههم إلي لزوم الإجازة من المالك، حيث يناسب ذلك صحة المعاملة تعبداً ولو لأنها الأنسب بغرض المالك وتجنباً عن المشاكل المترتبة علي بطلان المعاملة بعد غلبة عدم تيسر تحصيل رأس المال وإرجاعه لصاحبه. ومن ثم يشكل الاستدلال والاستئناس بها في المقام.

وأشكل منه الاستدلال بما ورد في الاتجار بمال اليتيم(1). فإن المتحصل من مجموع نصوص المسألة أن المال إن كان بيد الولي وكان من مصلحة اليتيم ومقتضي النظر له الاتجار به جري حكم المضاربة من عدم ضمان العامل للمال مع مشاركته لليتيم في الربح. وفي غير ذلك إن كان من عنده المال ملياً قادراً علي ضمانه جاز له

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب من تجب عليه الزكاة حديث: 1، وباب: 2 منها حديث: 2، 5، 6، 7، 8، وج: 12 باب: 75 من أبواب ما يتكسب به حديث: 1، 2، 3، 4.

ص: 214

اقتراضه، ويكون الربح له، كما يجوز له العمل مع بقائه علي ملك اليتيم، فيكون الربح لليتيم مع ضمان المال علي العامل. وإن لم يكن ملياً لم يحلّ له التصرف فيه، فإن عمل به كان الربح لليتيم، وعلي العامل الضمان أيضاً، سواء قصد العامل العمل لنفسه أم لليتيم أم لهما معاً مضاربة. ومن دون فرق في ذلك بين الولي وغيره.

وعلي ذلك فالحكم بثبوت الربح لليتيم والضمان علي العامل - إذا لم يكن ولياً أو لم يكن ملياً - لا يبتني علي نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، بل هو حكم تعبدي، مخالف للقاعدة، كما لا يخفي. وقد تكون حكمته الاحتياط لمال اليتيم، والردع عن التلاعب به.

الثالث: صحيح الحلبي: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشتري ثوباً ولم يشترط علي صاحبه شيئاً، فكرهه، ثم رده علي صاحبه، فأبي أن يقيله [يقبله] إلا بوضيعة، قال

:لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل، فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ علي صاحبه الأول ما زاد) (1) . وإنما اقتصر في الرد علي الزائد - مع أن الثمن بتمامه للمشتري الأول المالك للثوب حقيقة - لأن المشتري مدين له بما استرجعه من ثمن الثوب عند الإقالة بالوضيعة المفروض بطلانها، فله أن يأخذ من الثمن الذي باع به الثوب بقدر ذلك، ويردّ الزائد عليه لا غير.

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(فإن الحكم بردّ ما زاد لا ينطبق بظاهره إلا علي صحة بيع الفضولي لنفسه) . والوجه فيه: أن بيع الثوب إذا لم يصح بالإجازة فالثمن بتمامه ملك للمشتري الثاني، ولا يستحق المشتري الأول منه شيئاً، ليردّ عليه.

هذا وقد استشكل فيه بعض الأعاظم (قدس سره) بأن جهل المشتري الأول ببطلان الإقالة بالوضيعة واعتقاده ملكية البايع للثوب بسببها راجع إلي إذنه للبايع في أن يبيع الثوب لنفسه، ومع الإذن المذكور يخرج البيع عن كونه فضولياً.

لكنه كما تري، إذ بعد فرض اعتقاد المشتري بملكية البايع للثوب بسبب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

ص: 215

الإقالة، فهو يري نفسه أجنبياً عنه، ولا دخل له به ليأذن له في بيعه. ولو فرض الإذن منه صريحاً في بيعه فالإذن المذكور لا يرجع إلي تسليطه له علي ملكه، ليكون تصرفه إعمالاً لسلطنته عليه، ويخرج بذلك عن كونه فضولياً، بل هو إذن فيما هو أجنبي عنه لا يترتب عليه الأثر شرعاً، وإلا جري ذلك في جميع العقود التمليكية الفاسدة ونحوها من موارد خطأ المالك واعتقاده ملكية الغير لما يملكه هو، ولا يظن بأحد البناء عليه فيها.

ومثله في الإشكال ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن إذن المشتري للبايع بأخذ الثوب بالوضيعة يقتضي بالأولوية إذنه له في أن يبيعه من غيره بأكثر من ثمنه. لاندفاعه بأن المشتري لم يأذن للبايع بأخذ الثوب بالوضيعة مع بقاء الثوب علي ملكه واستمرار علقته به، وإنما اعتقد أنه قطع علقته به وأخرجه عن ملكه بالإقالة المذكورة، لاعتقاده صحتها، وأن الثوب عاد بسببها ملكاً للبايع، فيكون التصرف به من شؤونه، لا من شؤون المشتري، ليأذن له فيه. ولعله لو التفت إلي بقائه في ملكه لم يأذن ببيعه بالثمن الأكثر، لارتفاع قيمته السوقية عند البيع المذكور، أو لاحتياجه له حينئذٍ، أو لغير ذلك.

فالمقام نظير ما لو باع شخص آخر متاعاً بثمن وكان البيع فاسداً، فهل يمكن دعوي أنه يستفاد من بيعه المذكور الإذن له في أن يبيعه بأكثر من ذلك الثمن، بحيث لو باعه به ينفذ عليه ولا يكون فضولياً؟!.

ومن ثم لا ينبغي التأمل في كون البيع المذكور فضولياً بعد فرض بطلان الإقالة وبقاء الثوب علي ملك المشتري، وعدم إذنه ببيعه ثانياً عن نفسه، لجهله ببطلان الإقالة وبقائه علي ملكه.

نعم، حمل النصوص علي صورة إجازة المشتري الأول للبيع لا يناسب إطلاقها الظاهر في صحة البيع، واستحقاق المشتري الزيادة بمجرد وقوعه، من دون حاجة للإجازة. ولاسيما وأن عدم الإجازة قد يكون أنفع للمشتري لو بقي الأمر علي مقتضي

ص: 216

القاعدة، كما إذا ارتفعت قيمة الثوب إلي أكثر من ثمن البيع الثاني، حيث يكون مقتضي القاعدة ضمان البايع له لو فرض عدم الإجازة وتعذر استرجاع الثوب بسبب أخذ المشتري الثاني له.

فعدم التنبيه لذلك في الصحيح، والاقتصار فيه علي استحقاق الزيادة من دون تنبيه لاشتراط الإجازة، يناسب صحة البيع الثاني من دون حاجة للإجازة تعبداً، ولو لأنه الأنسب بغرض المالك غالباً، وتجنباً للمشاكل المترتبة علي بطلان البيع، نظير مما سبق في نصوص المضاربة. ومن ثم يشكل الاستدلال والاستئناس بالصحيح في المقام.

الرابع: موثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله بل صحيحه: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السمسار أيشتري [يشتري] بالأجر، فيدفع إليه الورق، ويشترط عليه أنك تأتي بما نشتري [تشتري]، فما شئت أخذته، وما شئت تركته، فيذهب فيشتري، ثم يأتي بالمتاع، فيقول: خذ ما رضيت، ودع ما كرهت. قال: لا بأس)(1) حيث استدل به شيخنا الأعظم (قدس سره)، بناء منه علي أن اشتراء السمسار للمتاع من صاحبه كما يمكن أن يكون لنفسه ثم يبيع من دافع الورق ما يعجبه منه، وأن يكون لدافع الورق بإذنه، لكن مع جعل الخيار له، يمكن أن يكون لدافع الورق من دون إذنه فضولاً، فينفذ دافع الورق فيما يعجبه ويرد فيما يكرهه، ومع احتمال الوجوه الثلاثة يكون جواب الامام (عليه السلام) بالصحة مع ترك الاستفصال دليلاً علي صحة شراء الفضولي ونفوذه بإجازة الأصيل.

وفيه: أولاً: أن الظاهر تعارف التعامل بوجه خاص أريد من الحديث، فلو فرض عدم وضوحه من متن الحديث وتردده بين الوجوه الثلاثة يكون الحديث مجملاً، لا عاماً بسبب ترك الاستفصال، كما أشار لذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

وثانياً: أن حديث دافع الورق مع السمسار صريح في الإذن له بإيقاع الشراء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 20 من أبواب أحكام العقود حديث: 2.

ص: 217

بنحو لا يكون ملزماً له فيما لم يره، وذلك يكون إما بشرائه المتاع من صاحبه مع جعل الخيار في الفسخ فيما لا يعجب صاحب الورق، وإما بأخذه منه من دون شراء من أجل عرضه علي صاحب الورق، ليختار منه ما يعجبه، ويشتريه له منه بعد ذلك، وأي منهما حصل لا يكون فيه فضولياً بعد حديث صاحب الورق معه.

الخامس: رواية ابن أشيم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في عبد لقوم مأذون له في التجارة دفع إليه رجل ألف درهم، فقال: اشتر بها نسمة واعتقها عني، وحج عني بالباقي، ثم مات صاحب الألف، فانطلق العبد فاشتري أباه، فأعتقه عن الميت، ودفع إليه الباقي يحج عن الميت، فحج عنه، وبلغ لك موالي أبيه ومواليه وورثة الميت جميعاً، فاختصموا جميعاً في الألف، فقال موالي العبد [موالي عتق العبد] المعتق: إنما اشتريت أباك بمالنا. وقال الورثة: إنما اشتريت أباك بمالنا، وقال موالي العبد: إنما اشتريت أباك بمالنا. فقال أبو جعفر (عليه السلام): أما الحجة فقد مضت بما فيها لا ترد. وأما المعتق فهو ردّ في الرق لموالي أبيه. وأي الفريقين بعد أقاموا البينة علي أنه اشتري أباه من أموالهم كان له رقاً) (1) .

قال شيخنا الأعظم في توجيه الاستدلال بالرواية:

(لولا كفاية الاشتراء بعين المال في تملك المبيع بعد مطالبته - المتضمنة لإجازة البيع - لم يكن مجرد دعوي الشراء بالمال ولا إقامة البينة كافية في تملك البيع) .

لكن من القريب تحقق الإذن في الشراء من موالي العبد وموالي أبيه، لظهور دعواهم الشراء بماله في أنه قد دفع للعبد مالاً وأذن له في الاتجار به له، فيخرج بذلك عن الفضولي، وينفذ شراؤه عليهم.

نعم، قد يتجه ذلك في ورثه الميت بناء علي أن ما صدر من دافع المال - الذي قد مات - هو التوكيل في الشراء والحج عنه في حياته، لا الوصية بأن يفعل ذلك عنه بعد وفاته، كما يناسب ذلك قولهم:

(إنما اشتريت أباك بمالنا) وحكمه (عليه السلام) برقية الأب لهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 25 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1.

ص: 218

إذا أقاموا البينة أن ابنه اشتراه بمالهم.

نعم، مقتضي القاعدة تصديق الابن في تعيين من له الشراء، لأنه صاحب اليد علي أموال الجميع، ولأنه الموقع لعقد الشراء، فيرجع إليه في تشخيص خصوصيات العقد التي قصدها، وبذلك تكون الرواية مخالفة للقاعدة. كما ربما تكون مخالفة للقاعدة من جهات أخر لا يسعنا إطالة الكلام فيها. ولاسيما مع ضعف الرواية. والمهم منها هنا ما يتعلق بعقد الفضولي لا غير.

السادس: ما ورد في أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، كحديث عروة البارقي قال:

(قدم جلب فأعطاني النبي صلي الله عليه وآله ديناراً، فقال: اشتر بها شاة، فاشتريت شاتين بدينار، فلحقني رجل، فبعت أحدهما منه بدينار، ثم أتيت النبي صلي الله عليه وآله بشاة ودينار، فردّه عليّ، وقال: بارك الله لك في صفقة يمينك. ولقد كنت أقوم بالكناسة - أو قال: بالكوفة - فأربح في اليوم أربعين ألفاً) (1) ، ونحوه حديثه الآخر(2).

وفي حديث حكيم بن حزام:

(أن النبي صلي الله عليه وآله، بعث معه بدينار يشتري له أضحية فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشتري أضحية بدينار، وجاء بدينار إلي النبي صلي الله عليه وآله، فتصدق به النبي صلي الله عليه وآله، ودعا أن يبارك له في تجارته) (3) .

فإن بيع عروة لإحدي الشاتين بدينار وبيع حكيم الشاة بدينارين لم يكونا بإذن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم). بل حتي شراء عروة الشاتين لم يكن بإذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم). وحمل الشاة في كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) علي الجنس الصادق علي القليل والكثير. بعيد جداً، لظهور المفرد النكرة في مثل ذلك في الواحد. ولاسيما مع ظهور حال الرجلين في فهم ذلك منه (صلي الله عليه وآله وسلّم)، ولذا أتياه

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 18 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1 ص: 245. وروي أيضاً مسند احمد ج: 4 ص: 376، والسنن الكبري للبيهقي ج: 6 ص: 112.

(2) مسند أحمد ج: 4 ص: 375.

(3) بحار الأنوار ج: 103 ص: 136 باب متفرقات أحكام وأنواعها من البيع الفضولي وغيره من أبواب التجارات والبيوع من كتاب العقود والإيقاعات. واللفظ له. المعجم الكبير للطبراني ج: 3 ص: 205.

ص: 219

بشاة واحدة.

ودعوي: أنه يستفاد من إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) له بشراء شاة بدينار إذنه بشراء شاتين به بالأولية. ممنوعة، لأنه قد يضيق (صلي الله عليه وآله وسلّم) من أخذ الشاة الأخري لذبحها أو الاحتفاظ بها. نعم إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بشراء شاة بالدينار يقتضي إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بشراء شاة بنصف دينار بالأولية العرفية، وهو أمر آخر.

هذا وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) إخراجه عن بيع الفضولي، بناء منه علي أن علم البايع برضا المالك يكفي في نفوذ البيع من دون حاجة إلي إذن المالك، والظاهر حصوله في المقام.

لكن الظاهر ضعف المبني المذكور، وأن رضا المالك الباطني بالبيع من دون إذن منه به للبايع لا يخرجه عن كونه فضولياً، كما يأتي في المسألة الثامنة إن شاء الله تعالي. وإنما يكفي الرضا الباطني في جواز التصرف الخارجي تكليفاً. ولعله عليه يبتني إقدام الرجلين علي تسليم الثمن وقبض المثمن مع كون المعاملة فضولية لا يستحق بها ذلك، ومع ذلك لم يظهر من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) إنكار ذلك عليهما، بل كان ظاهر حاله إقرارهما عليه. مضافاً إلي أنه لم يتضح رضا النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بشراء عروة لشاتين. غاية الأمر أن يرضي بشراء شاة واحدة بنصف دينار، كما يظهر مما سبق.

ومثله ما ذكره غير واحد في رواية عروة من أنها قضية في واقعة لا إطلاق لها، ولا إطلاع لنا علي خصوصياتها، ولعل عروة كان وكيلاً مفوضاً. فإن ذلك بعيد جداً في عروة وفي حكيم بن حزام أيضاً، لأن الوكالة التفويضية تناسب مزيد اختصاص للوكيل بالموكل، وهو أمر لا يعهد في الرجلين مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم).

ومن ثم كان الظاهر نهوض الأحاديث المذكورة بالتأييد في المقام، وإن لم تنهض بالاستدلال لضعفها سنداً. وما في شرح القواعد لكاشف الغطاء والجواهر من أن شهرة حديث عروة بين الفريقين أغنت عن النظر في سنده. كما تري، لأن شهرته ليست بسبب استفاضة روايته وكثرة طرقه، بل بسبب تعرض الفقهاء له وتناقلهم

ص: 220

له في كتب الاستدلال، ومثل ذلك لا يكفي في اعتباره مع ضعف سنده. ولاسيما مع قرب ابتناء ذكر كثير منهم له علي مجاراة العامة في الاستدلال به، والاحتجاج عليهم بأدلتهم.

السابع: معتبر مسمع أبي سيار قال:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت استودعت رجلاً مالاً، فجحدنيه، وحلف لي عليه، ثم جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك، فهي لك مع مالك، واجعلني في حلّ. فأخذت المال منه، وأبيت أن آخذ الربح، وأوقفت المال الذي كنت استودعته، وأتيت حتي أستطلع رأيك، فما تري ؟ قال: فقال: خذ الربح، وأعطه النصف، وأحله. إن هذا رجل تائب، والله يحب التوابين) (1) .

فإن ربح الودعي الخائن في المال المستودع كما يمكن أن يكون بالشراء له بالكلي في الذمة ثم تسليم عين المال وفاء، فلا يكون الشراء فضولياً، كذلك يمكن أن يكون بعين المال، فيكون كل من الشراء وبيع المتاع المشتري الذي يحصل به الربح فضولياً، فإقرار الامام (عليه السلام) أخذ المال المستودع وأخذ ربحه من دون تفصيل دليل علي صحة معاملة الفضولي بالإجازة المستفادة من تحليل المودع للودعي وأخذه الربح منه.

بل قد يدعي لزوم حمله علي الثاني، إذ علي الأول يكون الربح بتمامه للودعي، ولا يستحق منه مسمع شيئاًن مع ظهور الحديث في استحقاق مسمع له بتمامه، وأن إرجاعه لنصفه تفضل منه من أجل كون الودعي تائباً.

لكنه يندفع بأن استحقاق مسمع للربح بتمامه قد يكون بسبب بذل الودعي له في مقابل تحليل مسمع له، من دون أن يكون مسمع مستحقاً له بالأصل. فلا مخرج عما ذكرناه أولاً من دلالة الحديث علي المطلوب بالعموم المستفاد من ترك الاستفصال.

ودعوي: أن ذلك قد يكون لصحة معاملة الغاصب تعبداً من دون حاجة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 10 من أبواب كتاب الوديعة حديث: 1.

ص: 221

للإجازة، نظير ما تقدم في نصوص مخالفة عامل المضاربة للشرط والإقالة بوضيعة. مدفوعة بعدم الشاهد علي ذلك في مورد الموثق، لعدم الإطلاق فيه، بخلاف النصوص السابقة، فاللازم الاقتصار في مورده علي المتيقن، وهو صورة حصول الإجازة.

الثامن: صحيح إبراهيم بن هاشم: (كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، وكان يتولي له الوقف بقم، فقال: يا سيدي أجعلني من عشرة آلاف درهم في حلّ، فإني قد أنفقتها. فقال له: أنت في حلّ. فلما خرج صالح فقال أبو جعفر (عليه السلام): أحدهم يثب علي أموال [حق] آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فيأخذه، ثم يجيء فيقول: اجعلني في حلّ، أتراه ظن أني أقول: لا أفعل ؟!

والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً) (1) . لظهوره في المفروغية عن حلّ المال المأخوذ بتحليل المالك له، وإن لم ينفع تحليله (عليه السلام) في المورد، لكونه (عليه السلام) محرَجاً فيه. كما أنه لا يراد بالتحليل خصوص الحل التكليفي، بل ما يعم التحليل الوضعي الراجع لتنفيذ المعاملات الواقعة علي المال والمترتبة علي أخذه، فينفع في محل الكلام.

التاسع: ما في بعض نصوص إباحة الخمس من طلب الإجازة من الامام (عليه السلام) بعد التصرف في المال، كخبر عبد العزيز بن نافع عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيه: (فقال له

:جعلت فداك إن أبي كان ممن سباه بنو أمية، وقد علمت أن بني أمية لم يكن لهم أن يحرموا ولا يحللوا، ولم يكن لهم مما في أيديهم قليل ولا كثير، وإنما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد علي عقلي ما أنا فيه. فقال له: أنت في حلّ مما كان من ذلك، وكل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حلّ من ذلك... ) (2) . فقد استدل بذلك في الجواهر لما نحن فيه.

لكنه يشكل بأن الجمود علي الخبر المذكور ونحوه وإن كان يقتضي صدور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 18.

ص: 222

التحليل والإجازة بعد التصرف، إلا أنه لابد من حمله علي سبق التحليل والإذن قبله، للنصوص الكثيرة، كصحيح أبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم كلهم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: هلك الناس في بطونهم وفروجهم، لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا. ألا وإن شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ) (1) وصحيح القاسم بن بريد عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله علي أول النعم. قلت: جعلت فداك ما أول النعم ؟ قال طيب الولادة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام): أحلي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إنا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا) (2) وغيرهما.

نعم، في الجواهر: (وقد عرفت أنه لا ينافي الفضولية تقدم الإذن لخصوص المشتري وإن كان البايع باقياً علي غصبيته، نحو ما سمعته في الخراج).

لكن المراد بذلك إن كان عدم نفوذ المعاملة حين وقوعها في حق الطرف المأذون إذا لم يكن الطرف الآخر مأذوناً، إلا بإجازة لاحقة، فهو لا يناسب نصوص التحليل المذكورة جداً.

وإن كان المراد عدم نفوذ المعاملة في حق غير المأذون وإن نفذت في حق المأذون. أشكل: أولاً: بعدم الأثر له، حيث لا شاهد علي تنفيذه في حقه بالإجازة اللاحقة، لينفع فيما نحن فيه.

وثانياً: بامتناع التفكيك في صحة المعاملة بين الطرفين، لقيام مضمونها بهما معاً، قيام المضامين الإضافية بأطرافها. غاية الأمر أن الغاصب يبقي مسؤولاً وضعاً وتكليفاً بالعوض، ضامناً له، ومعاقباً علي التصرف فيه. بل يعاقب حتي علي تسليم المعوض، لعدم اعتقاده بنفوذ المعاملة بتنفيذ الأئمة (صلوات الله عليهم)، فيكون متجرياً بذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 1، 10.

ص: 223

نعم، لو حمل التحليل الصادر منهم (عليهم السلام) علي مجرد الإذن في التصرف من دون إمضاء للمعاملة، تعين بقاء حقهم (عليهم السلام) في العين وضمان الغاصب له بتسليمها حتي للشيعي من دون أن ينتقل الضمان للبدل. وعلي ذلك لو اشتراها غير الشيعي من الشيعي حرم عليه التصرف فيها، لعدم ملكية الشيعي لها بتمامها وعدم تحليلها من قبلهم (عليهم السلام) للمشتري. لكنه لو تم خرج عن محل الكلام من إجازة عقد الفضولي، ولم تنفع النصوص المذكورة في الاستدلال.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن العقد لا يخرج عن الفضولية بمجرد الإذن السابق عليه ما لم يصل إلي العاقد، لأنه لا يستند للآذن إلا مع وصول الإذن. وحينئذٍ تدل النصوص المذكورة وغيرها من نصوص تحليل الخمس والأنفال علي المطلوب، لعدم وصول الإذن المذكور لكثير من الشيعة حين العقد.

إذ فيه: أن الظاهر كفاية صدور الإذن وإن لم يصل في خروج العقد عن الفضولية، إذ هو كاف في إعمال سلطنة المالك في العقد. وكذا الحال لو بلغه ثم نسيه. ولذا لا يظن بأحد الالتزام بتكرار التحليل والإمضاء منهم (عليهم السلام) بعد وقوع التصرف في حق كل من لم يبلغه التحليل من عامة الشيعة وآبائهم.

بل يظهر من بعض النصوص الاكتفاء بالتحليل السابق، كمعتبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت له:

إن لنا أموالاً من غلات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أن لك فيها حقاً. قال فلمَ أحللنا إذاً لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم. وكل من والي آبائي فهو في حلّ مما في أيديهم من حقنا. فليبلغ الشاهد الغائب) (1) . ومثله في ذلك صحيح القاسم المتقدم وقد يستفاد من غيرهما. والحاصل: أنه لا مجال للاستدلال بالنصوص المذكورة في محل الكلام.

نعم، قد يستدل بصحيح علي بن مهزيار:

(قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله ومشربه من الخمس. فكتب بخطه: من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 9.

ص: 224

أعوزه شيء من حقي فهو في حلّ) (1) . فإن اختصاص التحليل بمن أعوزه لا يناسب إرادة الخمس الثابت فيما يؤخذ ممن لا يؤدي الخمس، بل يناسب إرادة الخمس الثابت في أموال الشيعة أنفسهم الذي يجب عليهم أداؤه، ولا تشمله التحليلات العامة المتقدمة.

لكنه يشكل: أولاً: بعدم وضوح ورود طلب السائل التحليل بعد حصول التصرف، ليناسب ما نحن فيه، بل ربما كان قبل التصرف تحرجاً من الإقدام علي التصرف من دون تحليل.

وثانياً: بأن موضوع التحليل الذي طلبه السائل هو المأكل والملبس، والتحليل في ذلك تحليل تكليفي لتصرف خارجي، وليس تحليلاًُ وضعياً لتصرف اعتباري راجع إلي إمضائه وتنفيذه، لينفع فيما نحن فيه.

اللهم إلا أن يكون ظاهر الجواب إرادة ما يعمّ التحليل الوضعي بسدّ الحاجة في مورد الإعواز، وذلك بأخذ المال الذي يحتاج إليه علي أن يمتلكه ويسد عوزه به. فالعمدة الأول.

العاشر: ما ورد في التصدق بمجهول المالك، حيث جعله في الجواهر مؤيداً للعموم في المقام.

لكن ذلك إن كان بلحاظ الأمر بالتصدق به مع اليأس من الوصول للمالك فهو راجع إلي ولاية من بيده المال علي التصدق به بنحو يخرج عن كونه فضولياً.

وإن كان بلحاظ ما تقدم من بعضهم وقد يستفاد من بعض النصوص من أنه مع العثور علي المالك إن رضي بالتصدق كان له ثواب الصدقة، وإن لم يرض به كان ثواب الصدقة للمتصدق وعليه ضمان المال للمالك، حيث يظهر منه كون التصدق موقوفاً علي إجازة المالك، ولذا يضمن له المال لو ردّ. أشكل بأن ذلك - لو سلم، وغض النظر عما تقدم عند الكلام في حكم مجهول المالك من الإشكال فيه - إنما يدل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 2.

ص: 225

علي تبعية استقرار ثواب الصدقة للإجازة، لا علي كون التصدق فضولياً محتاجاً للإجازة. ولذا لا ريب في صحة التصدق بمجرد وقوعه، وعدم ضمان المتصدق عليه لو ردّ المالك، بل قيل بعدم رجوع المالك عليه حتي مع بقاء العين عنده. ومن هنا لا مجال للاستدلال ولا للتأييد بالنصوص المذكورة.

الحادي عشر: ما تضمن صحة نكاح الفضولي بالإجازة في الحر(1) والعبد(2) من النصوص الكثيرة، فإنها نص في نفوذ عقد الفضولي في النكاح، ومؤيدة لعموم نفوذه بالإجازة. بل استدل بها غير واحد علي نفوذه في البيع بضميمة الأولوية، لما هو المرتكز عند المتشرعة من أن النكاح أهمّ من العقود المتعلقة بالأموال، تبعاً لأهمية الفروج من الأموال. بل في الرياض: (ولعمري إنها من أقوي الأدلة هنا. ولولاه لأشكل المصير إلي هذا القول، لحكاية الإجماعين الآتيين).

لكن ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه يستفاد عكس الأولوية المذكورة من صحيح العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد فيمن وكلت رجلاً أن يزوجها، ثم عزلته، ولم يبلغه العزل حتي زوجها، حيث تعرض فيه لرأي العامة المتضمن لانعزال الوكيل في النكاح خاصة، بخلاف غيره حيث لا ينعزل الوكيل إلا أن يبلغه العزل معللين بأن المال منه عوض لصاحبه، والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه الولد. وفيه:

(فقال (عليه السلام): سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده. إن النكاح أحري وأحري أن يحتاط فيه، وهو فرج، ومنه يكون الولد... ) إلي آخر الحديث المتضمن عدم انعزال الوكيل في مورد السؤال حتي يبلغه العزل(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 4، وباب: 7 من الأبواب المذكورة حديث: 3، وباب: 13 منها حديث: 3، وج: 15 باب: 58 من أبواب المهور حديث: 2، 14. وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 2. وباب: 25 من الأبواب المذكورة حديث: 1. وباب: 26 منها حديث: 1، 2، 3. وباب: 27 منها حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب الوكالة حديث: 2.

ص: 226

بتقريب أن المستفاد من ذلك أن الاحتياط المتأكد في النكاح يقتضي أولويته بالصحة من البيع، رداً علي العامة حين ذهبوا إلي العكس، الذي يبتني عليه الاستدلال في المقام.

ويشكل بأن الذي تضمنه الصحيح في وجه حكم العامة بصحة البيع دون النكاح ليس هو أهمية النكاح من البيع، بحيث يقتضي التساهل في أسباب صحة البيع دون أسباب صحة النكاح، الراجع لأولوية البيع بالصحة من النكاح، ليكون مرجع استنكار الامام (عليه السلام) منع الأولوية المذكورة، بل أن المال في البيع منه عوض لصاحبه، والفرج في النكاح لا عوض منه لصاحبه، فيكون مقتضي الإرفاق بالموكل عدم نفوذ تصرف الوكيل المعزول فيه وإن لم يبلغه العزل، والامام (عليه السلام) لم يتعرض للردّ علي هذه النكتة، وإنما اقتصر علي بيان أهمية النكاح ولزوم الاحتياط فيه.

ومن ثم لا يبعد أن يكون مرجع ذلك إلي أن أهمية النكاح تقتضي مزيد الاحتياط فيه في مقام الفتوي، فلا يعتمد فيه علي مثل هذا الوجوه الاستحسانية التي ما انزل الله تعالي بها من سلطان، من دون نظر للأولوية المشار إليها وعدمها، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره. وبذلك ظهر انه لا مجال للاستدلال بالصحيح علي بطلان الأولوية المذكورة.

فالعمدة أن في بلوغ الأولوية المذكورة حدّ القطع، لتنهض بالاستلال إشكال، بل منع. والأولي الاستدلال بعموم التعليل في صحيح زرارة بأنه لم يعص الله وإنما عصي سيده، فإذا أجاز جاز، كما تقدم. فراجع.

هذا ما تيسر لنا الكلام فيه من النصوص المؤيدة للعمومات القاضية بنفوذ عقد الفضولي بالإجازة. وقد ظهر أن ما ينهض بذلك صحيحا محمد بن قيس وإبراهيم بن هاشم، وموثق مسمع أبي سيار، ونصوص أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، وخبر ابن أشيم، ونصوص نكاح الفضولي.

هذا مضافاً إلي أنه لا ريب في شيوع الابتلاء بعقد الفضولي فلو لم تكن صحته

ص: 227

(228)

بالإجازة مفروغاً عنها لكثر السؤال عنها، مع أنه لم يرد ما يتضمن ذلك، والنصوص المتقدمة ظاهرة في المفروغية عنه من دون أن تكون مسوقة له.

نعم، نصوص نكاح الفضولي مسوقة لذلك. إلا أن الظاهر أن منشأه أهمية النكاح في نظر المتشرعة أو خلاف بعض العامة في نفوذه بالإجازة، من دون أن ينافي المفروغية عن ذلك في بقية العقود. وكفي بذلك مؤيداً للعمومات المتقدمة. فلاحظ.

وحيث انتهي الكلام من أدلة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة يقع الكلام فيما استدل به لبطلانه، وعدم نفوذه بالإجازة. وهو أمور.

الأول: قوله تعالي: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض)(1). بناءً علي ما تقدم منا في ذيل الكلام في عقد المكره من ظهوره في اعتبار مقارنة التجارة للتراضي، بحيث تصدر عنه، ولا يكفي تعقبها به، وحيث كان المراد التراضي ممن له السلطنة علي العقد، فهو غير حاصل في المقام. إذ الإجازة ليست عقداً، ولا تجارة، بل هي رضاً بالعقد والتجارة السابقة.

ودعوي: أن المراد رضا المتعاقدين، غاية الأمر أنه خرج عن العموم المذكور المتعاقدان اللذان لم يأذن لهما المالك، ولا أجاز عقدهما، وبقي الباقي. مدفوعة بأن الآية الشريفة لم تتضمن تعيين من يعتبر رضاه، والمناسبات الارتكازية قاضية بحمله علي من له السلطنة علي العقد. ولا أقل من كونه مقتضي الجمع بينها وبين دليل السلطنة. كيف ؟! ولو تم ما ذكر كان مقتضاها سلطنة المتعاقدين بنحو يغني عن رضا غيرهما بإذنه أو إجازته. ولا يظن بأحد الالتزام بذلك. ومن هنا لا ينبغي الشك في أن مقتضي الجمود علي مفاد الآية الشريفة عدم نفوذ عقد الفضولي، ولا عقد المكره بالإجازة.

فالعمدة في الجواب عن الآية الشريفة: أن ذلك منافٍ لعموم نفوذ العقود المستفاد من الآية الشريفة وغيرها، لما سبق من أن مقتضاه نفوذ العقد بالتزام من له السلطنة عليه وإن كان متأخراً. فلابد من الجمع بينهما إما بتحكيم آية التجارة عن

********

(1) سورة النساء آية: 29.

ص: 228

تراض، وذلك بالبناء علي استثناء التجارة مع عموم وجوب الوفاء بالعقود، فلابد فيها من سبق الرضا ولا يكفي فيها الرضا المتأخر، أو تعميم ذلك لجميع العقود لإلغاء خصوصية التجارة، وإما بتحكيم عموم الوفاء بالعقود، وحمل آية التجارة علي اعتبار مطلق الرضا ولو كان متأخراً بحمل التقييد بسبق الرضا علي الغالب، أو علي أنه الأمر الذي ينبغي حصوله، وإن كفي الرضا المتأخر في نفوذ العقد.

والظاهر أن الثاني اقرب عرفاً، لأن اعتبار الرضا ليس تعبدياً محضاً، بل هو عرفي ارتكازي، وهو عند العرف لا يختص بالرضا السابق علي العقد، بل يعم الرضا اللاحق. ولاسيما بملاحظة التعليل في صحيح زرارة - المتقدم في أدلة عموم صحة عقد الفضولي - بأنه لم يعص الله وإنما عصي سيده، فإذا أجاز جاز، فإن لسانه حاكم علي أدلة اعتبار الرضا.

ويؤكد ذلك النصوص الخاصة المتقدمة، فإن الجمع بينها وبين الآية الشريفة بحمل التقييد بسبق الرضا علي ما تقدم أقرب عرفاً من البناء علي كون التقييد احترازياً مع الاقتصار في الخروج عنه علي موارد النصوص المذكورة.

ولاسيما وأن ذلك كما ورد في التجارة ورد نظيره في النكاح. قال الله تعالي: (فانكحوهن بإذن أهلهن)(1) ، وفي معتبر أبي العباس البقباق: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يتزوج الرجل الأمة بغير علم أهلها. قال: هو زني. إن الله يقول:

(فانكحوهن بإذن أهلهن) )(2) ، وفي صحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام):

(قال: لا يجوز للعبد تحرير، ولا تزويج، ولا إعطاء من ماله، إلا بإذن مولاه) (3) ، وفي صحيح منصور بن حازم عنه (عليه السلام):

(قال: تستأمر البكر وغيرها، ولا تنكح إلا بأمرها) (4) ونحوها غيرها، ومع ذلك قد استفاضت النصوص بصحة نكاح الفضولي بالإجازة، وذلك لا يكون إل

********

(1) سورة النساء آية: 25.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 29 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 23 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 9 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1.

ص: 229

بحمل هذه الأدلة علي ما سبق، وهو يناسب حمل آية التجارة عليه.

ولعل هذا هو منشأ المفروغية التي سبقت الإشارة إليها في ذيل الكلام في أدلة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، حيث لا وجه لها مع ظهور آية التجارة في اعتبار سبق الرضا لولا كون الجمع المذكور ارتكازياً لا يحتاج إلي مزيد كلفة.

الثاني: النصوص الكثيرة المتضمنة توقف البيع علي الملك مما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، حيث تدل علي عدم صحة بيع الشيء من قبل غير مالكه.

وفيه: أنها مسوقة لبيان عدم نفوذ البيع من غير المالك، ولا تنافي سلطنة المالك علي تنفيذه ونفوذه بإجازته. ولا أقل من حملها علي ذلك جمعاً مع ما تقدم من أدلة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة، نظير ما سبق في آية التجارة.

الثالث: الإجماع المتقدم دعواه من الخلاف والغنية والسرائر. وقد تقدم - عند الاستدلال لصحة بيع الفضولي بفحوي ما دل علي صحته في النكاح - من الرياض ما يظهر منه أهميته في المقام.

لكن لا مجال للتعويل علي مثل هذه الإجماعات التي عرف من مدعيها كثرة دعاوي الإجماع في موارد الخلاف، كما سبق من الخلاف والسرائر الاعتراف به في المقام، وخصوصاً في مثل هذه المسألة التي خلت عما يمكن فيه معرفة رأي الأئمة (عليهم السلام) من نصوص أو سيرة متصلة بعصورهم، نظير ما سبق في المعاطاة. بل سبق أن ظاهر غير واحد من النصوص المفروغية عن صحة عقد الفضولي بالإجازة، وأن ملاحظة واقع المسألة يشهد بمفروغية المتشرعة عن ذلك.

ولاسيما مع حكاية القول بالصحة عن جماعة كثيرة قبل مدعي الإجماع وبعدهم، بل سبق من الشيخ نفسه في النهاية القول بالصحة، وحكي في المقابيس عنه (عليه السلام) في نكاح الخلاف نفسه التصريح بأن بيع الفضولي موقوف علي الإجازة، وأن الباطل هو شراؤه. ومن ثم لم يكن للإجماعات المذكورة أهمية استدلالية، فضلاً عن أن تقتضي الخروج عن مقتضي أدلة الصحة المتقدمة.

ص: 230

الرابع: حكم العقل بقبح التصرف في ملك الغير بغير إذنه، معتضداً بما دلّ علي حرمته شرعاً، كالتوقيع الشريف:

(فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه... ) (1) . قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب الاستدلال به:

(ولا ريب في أن بيع مال الغير تصرف فيه عرفاً) .

وفيه: أولاً: أن التصرف في الشيء تقليبه وتحويله عن مكانه وتغيير هيئته ومخالطته ونحو ذلك. وهو يختص بالتصرفات الخارجية، كلبس الثوب وتقطيعه ونقله عن موضعه وسكني الدار وركوب الفرس وغير ذلك. وإطلاقه علي التصرفات الاعتبارية توسع مبني علي تشبيه الأحوال الاعتبارية بالأحوال الخارجية، ولا مجال للبناء علي عموم حكم العقل المذكور له، لأن ملاكه قبح التعدي علي مال الغير، ولا تعدي في التصرف الاعتباري، لا بلحاظ السبب، لأنه لا يتعلق بالمال، ولا يخالطه، ولا بلحاظ المسبب، لأنه يستند في الحقيقة أن بيده الاعتبار من شرع أو سلطان أو عرف، وليس من المتصرف إلا تحقيق موضوع الحكم به من المشرع. ولاسيما مع فرض عدم ترتبه في المقام إلا بإجازة المالك.

كما لا مجال للبناء علي عموم الدليل النقلي المذكور للتصرف الاعتباري، بعد عدم كونه تصرفاً حقيقياً، ولاسيما بعد ارتكاز أن ملاك الحكم في الدليل النقلي هو حكم العقل المذكور، إقراراً له وجرياً علي مقتضاه.

وثانياً: أن الدليل المذكور إنما يقتضي الحرمة التكليفية تبعاً للقبح العقلي، ولا يقتضي الفساد، بناء علي التحقيق من عدم اقتضاء حرمة المعاملة الفساد. وإنما يستفاد الفساد من النهي الوارد للإرشاد إلي حدود المعاملة، دون الوارد لبيان الحرمة التكليفية.

وثالثاً: أن الفساد وعدم ترتب الأثر بتصرف الفضولي لا ينافي الصحة وترتب الأثر بإجازة المالك للتصرف المذكور ورضاه به بعد وقوعه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 6.

ص: 231

ورابعاً: أن الدليل المذكور لا مجال له مع إحراز رضا المالك، بأن يكون بحيث لو التفت لرضي حيث ثبت في محله جواز التصرف في ملك الغير بذلك، وإن لم ينفذ التصرف الاعتباري معه، ولا يخرج به الفضولية.

الخامس: أن القدرة علي التسليم شرط في البيع، والفضولي غير قادر علي ذلك، ولو لحرمته عليه شرعاً.

وفيه: أن القدرة علي التسليم إنما تعتبر في حق من ينفذ في حقه البيع، ويجب عليه الوفاء به، كالمالك بعد الإجازة، والوكيل المفوض، لا في حق كل من يجري عقد البيع ولو كان فضولياً.

وبذلك يظهر أنه لا مخرج عن مقتضي الأدلة المتقدمة القاضية بصحة عقد الفضولي بإجازته ممن له السلطنة عليه. والحمد لله رب العالمين.

بقي شيء. وهو أنه حكي عن غاية المراد الاتفاق علي بطلان إيقاع الفضولي، فلا تصححه الإجازة، وقد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) التعويل علي الاتفاق المذكور.

لكن لا مجال للتعويل عليه في مثل هذه المسألة التي خلت عما يمكن به معرفة رأي الأئمة (عليهم السلام) من نصوص أو سيرة متصلة بعصورهم، كما سبق نظيره قريباً. ولاسيما مع تأخر عصر مدعي الإجماع، وظهور خروج الأصحاب عليه أو عدم اتفاقهم علي مقتضاه في بعض الموارد، كالوصية بما زاد علي الثلث التي هي - علي الظاهر - من الإيقاع، مع اتفاق النص وللفتوي علي صحتها بإجازة الورثة، وكعتق الراهن أو المرتهن للعين المرهونة من دون إذن الآخر.

نعم، تفترق العقود عن الإيقاعات بوجود عموم قاض بنفوذ العقود، وقد سبق أن موضوع النفوذ في العموم المذكور هو الالتزام بالعقد ممن له السلطنة عليه، لتفرع الوفاء عليه، وحيث كانت إجازة عقد الفضولي التزاماً به، كان مقتضي العموم المذكور نفوذه بها. أما الإيقاعات فليس فيها مثل هذا العموم، بل مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر عدم حصولها، فيحتاج حصولها بإنشاء الفضولي وإجازة الأصيل للدليل.

ص: 232

(233)

وإن ردّ بطل، ولم تنفع الإجازة بعد ذلك (1). وهذا هو المسمي بعقد الفضولي.

---------------

هذا في شرح القواعد لكاشف الغطاء أنه يقوي جريان حكم عقد الفضولي في كل ما جرت فيه الوكالة. وهو غير ظاهر المأخذ بعد كون دليل الوكالة قاضياً بقيام الوكيل مقام الموكل، ولا عموم يقضي بأن الإجازة اللاحقة بحكم الوكالة السابقة.

نعم، لو تم ما سبق من بعضهم من أن الإجازة تقضي نسبة العقد المجاز للمجيز، فيكون عقداً له، كان مقتضاه جريان ذلك في الإيقاع، لعدم الفرق بينهما في مصحح النسبة، إلا أن يثبت توقف ترتب الأثر علي مباشرة من له الإيقاع له، وعدم ترتب الأثر علي فعل الغير - كالنائب - له. لكن سبق منا المنع من اقتضاء الإجازة نسبة العقد للمجير. ومن ثم لا مخرج عما سبق من أصالة عدم ترتب الأثر علي إيقاع الفضولي ما لم يدل دليل علي نفوذه بالإجازة.

(1) كما صرح بذلك غير واحد، وظاهر الجواهر ومحكي قواعد الشهيد الإجماع عليه. وقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بوجوه:

الأول: الإجماع المذكور. لكنه لا ينهض بالاستدلال، كما يظهر مما تقدم في نظائر المقام.

الثاني: أن المجيز بمنزلة أحد طرفي العقد، وقد تقرر في محله أن من شروط العقد أن لا يصدر من قبل تماميته من أحد طرفيه ما ينافي التزامه به.

وفيه: أولاً: أنه تقدم منّا عند الكلام في تحديد مفهوم العقد أنه لابد فيه من ابتناء التزام أحد المتعاقدين علي التزام الآخر، وهو إنما يقتضي عدم الاكتفاء بالتزام الثاني حال إعراض الأول عن التزامه. أما لو فرض إعراض الأول عن التزامه ثم رجوعه إليه قبل التزام الثاني به، بحيث يكون التزام الثاني مبتنياً علي التزام الأول ووارداً عليه، فلا يبعد صدق العقد.

وأظهر من ذلك ما إذا بقي الأول علي التزامه، ولم يعرض عنه، لكن الثاني أبي

ص: 233

الالتزام به أول الأمر، ثم عدل والتزم به بنحو يبتني علي التزام الأول، حيث لا ينبغي التأمل في عدم مانعية امتناعه في أول الأمر من صدق العقد، بل هو أمر شايع في عقود الناس في الأمور المعقدة. ومن الظاهر أن ما نحن فيه من قبيل ذلك، فإن الرد لم يصدر قبل الإجازة من طرفي العقد الفضولي اللذين التزما به، بل من الأصيل الذي لم يلتزم به، والذي يجيز بعد ذلك.

وثانياً: أن مقتضي ذلك مانعية التردد، لا خصوص الردّ، لظهور أن الموجب إذا تردد قبل قبول القابل، وبقي علي تردده، لم يبق مجال لقبول القابل، ولم يصدق به العقد.

وثالثاً: أنه لا مجال لقياس المقام بعدول أحد المتعاقدين قبل حصول القبول، لعدم تمامية العقد هناك، بخلاف المقام حيث تمّ العقد بالتزام الفضولي والطرف الآخر. غاية الأمر أنه يحتاج نفوذه في حق الأصيل لالتزامه به، من دون أن يكون مقوماً للعقد وبه تمامه.

الثالث: أن مقتضي سلطنة الناس علي أموالهم تأثير الردّ من المالك في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه، فإذا أعمل سلطنته لم يبق موضوع للإجازة.

وفيه: أن عقد الفضولي لم يحدث علاقة للطرف الآخر بالمال، لمنافاة ذلك لسلطنة الأصيل علي ماله. ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه وإن لم تحصل به علقة شرعاً، إلا أنه قد حصلت به علقة عرفاً، ومقتضي سلطنته علي ماله قدرته علي قطعها. ففيه: أن العلقة المذكورة ليست أمراً حقيقياً، بل هي منتزعة من سلطنة المالك علي إجازة العقد، وهي حكم شرعي من شؤون السلطنة علي المال، وليس منافياً لها ولا موضوعاً لها. ولو فرض أن العلقة المذكورة أمر حقيقي، فلا يكون رفعها موضوعاً لسلطنة المالك، وإلا لما حدثت قهراً عليه، لظهور عدم الفرق في السلطنة علي الشيء بين دفعه ورفعه.

ومثل ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن إبطال أثر عقد الفضولي لا يتوقف علي تحقق

ص: 234

(235)

(مسألة 7): لو منع المالك من بيع ماله، فباعه الفضولي، فإن أجاز المالك صح، ولا أثر للمنع السابق في البطلان (1).

---------------

العلقة فعلاً، بل يكفي شأنية تحققها، ولا شبهة في ثبوت هذه الشأنية للعقد المذكور.

إذ فيه: أن هذه الشأنية ليس أمراً متعلقاً بالمال منافياً للسلطنة عليه، وإلا لما حصلت بدون رضا المالك، بل هي منتزعة من سلطنة المالك علي إجازة العقد، وليست هي موضوعاً للسلطنة، كما سبق.

هذا وقد يستدل علي مانعية الردّ من تأثير الإجازة بأن سلطنة المالك علي إمضاء العقد وتنفيذه تقتضي سلطنته علي ردّه، لأن السلطنة علي الشيء إنما تكون بالسلطنة علي كل من وجوده وعدمه.

لكنه يندفع: بأن السلطنة علي إمضاء العقد إنما تقتضي السلطنة علي عدم إمضائه، لا علي حلّه وردّه، بحيث لا يصلح للإمضاء، كما لعله ظاهر.

ثم أنه قد يستدل علي عدم مانعية الردّ من تأثير الإجازة بصحيح محمد بن قيس المتقدم في أدلة صحة عقد الفضولي بالإجازة الوارد في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب. وقد تقدم أن دلالته علي عدم مانعية الردّ موقوف علي أن يكون المراد من الردّ ما يعم البناء علي عدم الإجازة.

أما لو أريد به فسخ العقد فلا ظهور للصحيح فيه، ولا ينهض ببيان مانعيته. وحيث كان تحقيق معيار الرد فرع ثبوت الدليل علي مانعيته من تأثير الإجازة، لينظر في مفاده، فلا مجال له بعد ما سبق من عدم الدليل علي ذلك.

(1) كما صرح به غير واحد، وذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه المشهور.

وعن فخر الدين في الإيضاح أن بعض القائلين بصحة عقد الفضولي بالإجازة اعتبر عدم سبق منع المالك. ويناسبه ما في نكاح التذكرة بعد البناء علي صحة نكاح العبد بغير إذن مولاه إذا أجازه المولي، حيث أجاب عن النبوي:

(أيما عبد تزوج بغير إذن

ص: 235

مواليه فهو عاهر) بأنه محمول علي أنه نكح بعد منع مولاه وكراهته له، فإنه يقع باطلاً. وكذا في جامع المقاصد، حيث قال في بيع الغاصب:

(حكم الغاصب كالفضولي. وإن احتمل الفساد، نظراً إلي القرينة الدالة علي عدم الرضا، وهي الغصب) .

وكيف كان فالصحة مقتضي العمومات المتقدمة التي سبق الاستدلال بها لنفوذ عقد الفضولي بالإجازة، حيث لا يفرق في وجه الاستدلال بها بين سبق المنع من المالك وعدمه. ولا يضر - مع ذلك - قصور بعض الأدلة والمؤيدات الخاصة، لورودها في واقعة خارجية لا إطلاق لها، كأحاديث أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وغيرها.

هذا وربما يستدل لاشتراط عدم منع المالك بأن منع المالك يستلزم عادة كراهته لعقد الفضولي بعد وقوعه وهي بمنزلة ردّه له - الذي سبق منهم مانعيته من تأثير الإجازة - لأن منشأ مانعية رده له كشفه عن كراهته له، كما يقتضيه ما عن بعضهم من أنه إذا حلف الموكل علي نفي الإذن في اشتراء الوكيل انفسخ العقد لأن الحلف عليه أمارة عدم الرضا به. حيث يظهر منه عدم تأثير الإجازة حينئذ.

وفيه: أولاً: أنه سبق عدم مانعية الرد من تصحيح عقد الفضولي بالإجازة.

وثانياً: أنه لو تم مانعية الرد من الإجازة فاللازم الرجوع لدليل المانعية المذكورة لتحديد الرد المانع، فإن كان الدليل هو الوجه الأول من الوجوه المتقدمة هناك - وهو الإجماع - فاللازم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو خصوص فسخ العقد وحلّه، كما سبق من غير واحد، بل عن حواشي الشهيد التقييد بلفظ خاص، حيث قال

:(والرد أن يقول: فسخت... ) . وعلي ذلك لا يكفي مجرد الكراهة الفعلية، فضلاً عن الشأنية اللازمة من سبق النهي. وما سبق من بعضهم في حلف الموكل علي نفي الوكالة ليس متفقاً عليه، ففي المسالك فيما لو أنكر الموكل الوكالة أن الشراء إذا كان بعين المال كان فضولياً قابلاً للإجازة.

وكذا لو كان الدليل هو الوجهين الآخرين، فإن عدول العاقد عن التزامه لا يكون

ص: 236

(237)

(مسألة 8): إذا علم من حال المالك أنه يرضي بالبيع، فباعه، لم يصح، وتوقف علي الإجازة (1).

---------------

بمجرد كراهته له، بل بإعراضه عنه ورفضه له. كما أن إعمال السلطنة لا يكون بمجرد الكراهة، بل بالتزامه بما يريد إعمال سلطنته فيه.

بل لا يمكن البناء علي مانعية الكراهة الشأنية - الملازمة عادة لسبق النهي - بالنظر لما ورد في نكاح العبد بدون إذن مولاه، فإن من شأن المولي أن يكره من عبده ذلك، لما فيه من تجاهل لرسم العبودية وانتهاك لحرمة المولي، فحمل نصوص تلك المسألة علي صورة عدم الكراهة كالحمل علي الفرد النادر. كما أنه لا يناسب ما هو المرتكز عرفاً من صحة عقد المكره إذا رضي به بعد ذلك وأجازه.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب، وصريح كثير من كلماتهم. خلافاً لما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من خروجه بذلك عن الفضولية، فإنه وإن قوي الاكتفاء بالرضا الباطني من دون إذن، إلا أن مقتضي بعض كلماته وبعض الوجوه التي استدل بها عموم الرضا الباطني للرضا الشأني، الذي هو عبارة عن كون من له العقد بحيث لو التفت لرضي به، وهو مورد كلام سيدنا المصنف (قدس سره).

وكيف كان فما يمكن أن يستدل به لذلك أمور، أشار لأكثرها شيخنا الأعظم (قدس سره):

الأول: عموم وجوب الوفاء بالعقود. بناء منه علي أن خلّوه عن إذن المالك لا يوجب سلب اسم العقد عنه، والمتيقن في الخروج عنه ما إذا خلا عن الرضا الباطني، أما معه فمقتضي العموم نفوذ العقد.

وقد أجاب عنه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره بأن المراد به وفاء كل شخص بعقده، ولا ينتسب العقد للشخص إلا بالتزامه به، ولا يكفي في ذلك مجرد الرضا الباطني من دون إذن.

ويظهر اندفاعه، واندفاع الاستدلال المتقدم من شيخنا الأعظم (قدس سره) بالآية

ص: 237

الشريفة، مما تقدم عند الاستدلال لصحة عقد الفضولي بالإجازة من أن الآية لم تتضمن اعتبار انتساب العقد للشخص في وجوب وفائه به، بل ليس مفادها إلا نفوذ العقد في حق من التزم به، ومن الظاهر عدم تحقق الالتزام بمجرد الرضا الشأني.

ومما سبق هناك أيضاً يظهر انه لا مجال للاستدلال بقوله تعالي: (وأحل الله البيع)(1) ، حيث تقدم عدم الإطلاق له، ليتوهم لزوم الاقتصار في الخروج عنه علي ما خلا عن الرضا الباطني.

الثاني: قوله تعالي: (إلا أن تكون تجارة عن تراض)(2) بدعوي: أن مقتضاه الاكتفاء بالرضا وإن تجرد عن الإذن.

وقد أجاب عنه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره بأنه مختص بتجارة صاحب المال، ولا يكفي في إضافة التجارة للشخص - بحيث تنسب إليه - رضاه بها، بل لابد فيها من التزامه بها، نظير ما سبق.

لكن اعتبار إضافة التجارة لصاحب المال وانتسابها له خال عن الدليل. والمتيقن اعتبار رضاه بها، ولا يكفي رضا غيره.

نعم، لا يظهر من الآية الشريفة الاكتفاء بمقارنة التجارة للتراض، بل اعتبار صدورها عنه، المناسب لإعمال سلطنته فيها، وهو لا يتحقق بمجرد الرضا الفعلي بها فضلاً عن الرضا الشأني.

غاية الأمر أنه لابد من رفع اليد عن ظهورها في اعتبار مقارنة إعمال السلطنة لصدور التجارة، والاكتفاء بإعمالها فيها بعد صدورها، جمعاً مع عموم الوفاء بالعقود وبقية أدلة صحة عقد الفضولي، علي ما تقدم عند الاستدلال بالآية لبطلان عقد الفضولي، وهو أمر آخر غير الاكتفاء بمجرد الرضا الفعلي، فضلاً عن الشأني، الذي هو ليس برضاً حقيقي.

********

(1) سورة البقرة آية: 275.

(2) سورة النساء آية: 29.

ص: 238

الثالث: ما تضمن عدم حلّ مال المسلم إلا بطيبة نفسه(1) ، بناءً علي أن طيب النفس يشمل الرضا الشأني، كما تقدم تقريبه في المسألة الثالثة من مبحث أحكام الخلوة.

وقد استشكل فيه بعض الأعاظم وبعض مشايخنا (قدس سرهما) بأنه ظاهر في اعتبار الطيب والرضا في الحلّ، لا في الاكتفاء بهما فيه، نظير قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (2) ، حيث لا يدل علي الاكتفاء بالفاتحة، بل علي مجرد اعتبارها.

ويندفع: بأن لسان الأدلة المذكورة وإن لم يتضمن الاكتفاء في التحليل بطيب النفس، إلا أنه لما كان الجمع بين اعتبار الإذن واعتبار طيب اعتبار النفس لاغياً، لأن الإذن لازم لطيب النفس وكاشف عنه عرفاً، كان دليل اعتبار طيب النفس ظاهراً في عدم اعتبار الإذن ونحوه، والاكتفاء بطيب النفس، حتي أنه لو ورد ما ظاهره اعتبار الإذن ونحوه كان اللازم حمله علي طريقتيه لطيب النفس، من دون أن يكون معتبراً ثبوتاً. وهو راجع إلي الاكتفاء بطيب النفس إذا أحرز بطريق العلم من دون إذن أو نحوه.

وعلي ذلك جري بعض مشايخنا (قدس سره) في شرح المسألة الخامسة من فصل شرائط الوضوء من العروة الوثقي. ويؤكد ذلك أن الاكتفاء بطيب النفس في حلّ المال مقتضي سيرة المتشرعة، تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية.

فالعمدة ما ذكره هو (قدس سره) وغيره وتقدم منّا في بيع المكره من ظهور الأدلة المذكورة في الحلّية التكليفية، بلحاظ التصرفات الخارجية، ولا نظر فيها للحلّية الوضعية، بلحاظ التصرفات الاعتبارية، التي هي من سنخ المسببات التابعة لأسبابها، ولا مانع من أن يعتبر فيها ما زاد علي طيب النفس، وهو إبرازه بالإذن أو نحوه، ويكون هو السبب الناقل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1، وج: 19 باب: 1 من أبواب قصاص النفس حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 4 باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 5.

ص: 239

الرابع: صحيح مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، وأهل الأرض يقولون هي أرضهم، وأهل الأسنان يقولون هي من أرضنا. قال: لا تشترها إلا برضا أهلها) (1) . ونحوه ما رواه في الاحتجاج من توقيع الحجة عجل الله فرجه للحميري، وفيه

:(لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها أو بأمره أو رضاً منه) (2) وإن لم يخل سنده من أشكال.

وقد استشكل في الاستدلال بهما بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره: تارة: بأن ذلك إنما يدل علي اعتبار الرضا، لا علي الاكتفاء به، نظير ما سبق. وأخري: بإمكان حملهما علي الاختيار المقابل للكراهة، لبيان عدم صحة بيع المكره.

ويظهر اندفاع الأول مما سبق في الأمر الثالث. ولاسيما مع ورود الحديثين في بيان الوظيفة في قضية ابتلائية، حيث لا يناسب ذلك إهمال بعض ما يعتبر في التحليل مما يتعلق بأهل الأرض. ومع ما تضمنه الثاني من التخيير بين الشراء من المالك والشراء بأمره - الذي هو عبارة عن التوكيل - والشراء برضاه، فإنه كالصريح في أن الأخير عِدل للأولين في الاكتفاء به في الجواز.

كما يندفع الثاني بأن الرضا المقابل للإكراه هو عين الرضا المعتبر في المقام. علي أن مساق الحديثين لا يناسب ذلك، لوردها في مقام بيان من يجوز الشراء منه، لا في مقام بيان شرطية الاختيار زائداً علي ذلك، كما يظهر بملاحظة السؤال فيهما.

فالعمدة في الجواب عن الحديثين: أنهما لا ينهضان بالاكتفاء بالرضا التقديري، الذي هو محل الكلام، فإنه ليس رضاً حقيقياً، كما سبق بل يشكل نهوضهما بالاكتفاء بمقارنة الرضا الفعلي، من دون أن يستتبع إعمال السلطنة بالإذن ونحوه، لأن الباء في الحديثين كما يمكن أن تكون للمعية يمكن أن تكون سببية. بل الثاني هو الأظهر. ولاسيما مع قرب جري الحديثين علي ما تضمنته آية التجارة عن تراض، التي سبق ظهورها في اعتبار سببية التراضي للتجارة، وابتنائه علي إعمال السلطنة فيها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 3، 8.

ص: 240

الخامس: ما دلّ علي أن علم المولي بنكاح العبد وسكوته إقرار منه له(1). فإن السكوت بعد العلم لا يتضمن إنشاء الشيء، وإنما يكشف عن الرضا الباطني، وإذا كان الرضا الباطني اللاحق لعقد الفضولي كافياً في نفوذه فهو مع سبقه كاف في خروج العقد عن الفضولية، لما هو المعلوم من أن الرضا المعتبر في نفوذ العقد بمعني واحد.

وفيه: أن ذلك إنما يدل علي عدم اعتبار إبراز إقراره العقد وإجازته له بالقول، وأنه يكفي الإقرار من طريق السكوت وعدم التغيير، ولا ينهض بكفاية الرضا الشأني المتأخر عن العقد في نفوذه، فضلاً عن كفايته في خروج العقد عن الفضولية.

كما أنه لا ينهض بكفاية الرضا الباطني الفعلي بنفسه، بل ما يستتبعه من الإقرار للعقد، الذي هو نحو من إعمال السلطنة فيه، ولا مانع من البناء علي كفاية ذلك لو حصل قبل العقد في نفوذه وخروجه عن الفضولية، كما لو أخذ الشخص مال غيره ليبيعه بعلم منه، بحيث يظهر منه إقراره علي ذلك وإن لم ينطبق به. فتأمل.

السادس: روايات أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) التي تقدم الاستدلال بها لصحة عقد الفضولي بالإجازة، إذ لو كان العقد فضولياً لم يحلّ لموقع العقد التصرف في العوض والمعوض بالقبض والإقباض، مع أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد أقرّه علي ذلك، ولم ينكر عليه.

ويظهر الجواب عنه مما سبق هناك من أن القبض والإقباض من التصرفات الخارجية التي يكفي فيها طيب النفس، ومن القريب إحراز وكيل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) رضاه (صلي الله عليه وآله وسلّم) ورضا الطرف الآخر بالقبض والإقباض، تبعاً لرضاهما الشأني والفعلي بالبيع والشراء، ولا ينافي ذلك عدم نفوذ البيع والشراء إلا بالإجازة.

السابع: ما دلّ علي أن إذن البكر في النكاح سكوتها(2). لظهور أن الإذن لا يتحقق بالسكوت، وغاية الأمر أن يكشف عن الرضا.

وفيه: أولاً: أنه قد يبتني علي كون سكوتها إقراراً منها بالنحو المتقدم في الأمر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 5 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

ص: 241

الخامس، ولا قرينة فيه علي كفاية الرضا الباطني المجرد عن ذلك، فضلاً عن الرضا الشأني الذي هو محل الكلام.

وثانياً: أنه وارد في مورد خاص، وقد يبتني علي الإرفاق بالبكر وعدم إحراجها بطلب الإذن الصريح، فلا مجال للتعدي عن مورده. ولاسيما مع ما تضمنته النصوص المذكورة من عدم كفاية ذلك في الثيب.

هذا ما تيسر لنا العثور عليه من وجوه الاستدلال علي كفاية الرضا التقديري في الخروج عن الفضولية بعد النظر في كلماتهم، وقد ظهر عدم نهوض شيء منه بإثبات ذلك والخروج عن أصالة عدم ترتب الأثر، بل عن قاعدة السلطنة القاضية بتبعية التصرفات الاعتبارية المتعلقة بنفس الإنسان وماله - والتي يكون ملزماً بها - له، وأنه لابد من إعمال سلطنته فيها.

كما أن ما تضمنته بعض الأدلة المتقدمة من اعتبار الرضا في البيع وغيره قاض بعدم كفاية الرضا التقديري، لعدم كونه رضاً حقيقياً، كما سبق.

ولا مجال لقياسها بالتصرفات الخارجية حيث تحلّ تكليفاً بالرضا التقديري، كما تقدم، لعدم وضوح اتحاد المناط فيهما، بل ظهور الفرق بينهما ارتكازاً. ومن ثم لا ينبغي التأمل في عدم خروج العقد عن الفضولية بالرضا التقديري، تبعاً لظاهر الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم)، بل صريحهم.

هذا وقد قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(ثم إنه لو أشكل في عقود غير المالك فلا ينبغي الإشكال في عقد العبد نكاحاً أو بيعاً مع العلم رضا السيد ولو لم يأذن له، لعدم تحقق المعصية التي هي مناط المنع في الأخبار، وعدم منافاته لعدم استقلال العبد في التصرف) .

وفيه: أن معصية السيد عرفاً لا تكون بمجرد فعل ما لا يحرز رضا المولي به، وإنما تكون بمخالفة أمر المولي ونهيه، ومن المعلوم عدم إرادتها في المقام، لأن موضوع النصوص هو الزواج بغير إذنه.

ص: 242

ومن هنا فالظاهر إن طلاق المعصية في النص بلحاظ خروج العبد عن مقتضي سلطنة المولي عليه، تبعاً لملكيته له، لقضائها بأن أمر زواجه بيده، وهو غير حاصل مع إحراز رضاه، لما سبق من أن الرضا بنفسه لا يكفي في إعمال السلطنة.

مضافاً إلي أن ما تضمن التعليل بذلك قد ورد في خصوص نكاح العبد، فإن بني علي الاقتصار علي مورده فلا وجه لإلحاق بيع العبد به، وإن بني علي تعميمه تبعاً لارتكازية التعليل فاللازم التعميم لغير العبد ممن يكون تصرفه منافياً لسلطنة الغير، كما في جميع العقود الفضولية. ولذا سبق منا الاستدلال بالتعليل لعموم صحة عقد الفضولي بالإجازة.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الفرق بين من يكون طرفاً للعقد - كالزوج والزوجة في النكاح، ومالك الثمن والمثمن في البيع، والراهن والمرتهن في الرهن وغيرهم - ومن يعتبر إذنه في العقد من دون أن يكون طرفاً فيه - كالمالك في نكاح المملوك، والعمة والخالة في تزوج بنت الأخ أو الأخت، والمرتهن في بيع العين المرهونة، وغيرهم - فالأول يكون العقد من دون إذنه فضولياً، ولا يخرج العقد عن الفضولية بمجرد رضاه باطناً، بل لابد من إذنه، لعدم انتساب العقد له بدون ذلك، ومع عدم انتساب العقد له لا يدخل في عمومات الصحة والنفوذ. أما الثاني فلا يكون العقد من دون إذنه فضولياً. غاية الأمر أنه يعتبر رضاه في نفوذ العقد، فإذا تحقق منه الرضا - ولو من دون إذن - قبل العقد أو بعده نفذ.

إذ تقدم منّا - عند الاستدلال بعموم التعليل في بعض نصوص نكاح العبد من دون إذن مولاه علي عموم صحة عقد الفضولي بالإجازة - الإشكال فيما ذكره من التفصيل في فضولية العقد، وذكرنا أن معيار الفضولية في العقد منافاته لسلطنة الغير، وهو حاصل في الجميع، ولا يخرج عن الفضولية إلا بإعمال سلطنته. كما سبق عند الاستدلال بعمومات النفوذ لصحة عقد الفضولي بالإجازة المنع من أخذ انتساب العقد للأصيل فيها، ومن تحقق الانتساب المذكور بالإجازة.

ص: 243

وقد سبق أيضاً أن إعمال سلطنة الأصيل في العقد لا يكون بمجرد الرضا الباطني، وأن الرضا الباطني إنما يكفي في حلّ التصرفات الخارجة تكليفاً، دون نفوذ التصرفات الاعتبارية المنافية للسلطنة، بحيث يلزم بها صاحب السلطنة.

وقد تحصل من جميع ما سبق أن الرضا الشأني لا يكفي في خروج العقد عن الفضولية في جميع موارد منافاة العقد للسلطنة.

كما لا مجال للبناء علي نفوذ عقد الفضولي بالرضا المذكور. لو استمر أو تجدد بعد حصوله، إذ لا يصدق به الالتزام، أو الإجازة أو الإقرار أو نحوها مما تضمنته أدلة نفوذ عقد الفضولي عليه. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه لولا رفعة مقام شيخنا الأعظم (قدس سره)، الملزمة بتعقيب كلماته، ودفع الشبهة التي أثارها.

وأما الرضا الفعلي بالعقد ممن له السلطنة عليه في فرض التفاته له فالظاهر أنه بنفسه لا يخرج العقد عن الفضولية أيضاً، لأنه لا يتضمن تسليط الأصيل للعاقد، بحيث يقوم مقامه، ويكون مسلطاً من قبله - في طول سلطنته علي نفسه وماله ومن هو تحت سلطنته - وأهلاً لإيقاع العقد، وإنما يكون ذلك بالتوكيل أو الإذن الخاص أو العام، المستفاد من اللفظ أو من شاهد الحال.

كما أنه لا يستلزم التزام الأصيل بالعقد الذي يحصل بعد ذلك، ليكون مشمولاً لعموم الوفاء بالعقود. وكذا لا يكون مشمولاً لما تضمن اعتبار الرضا في البيع أو مطلق العقد، لما سبق من أن ظاهره إرادة الرضا المبني علي إعمال السلطنة، دون الرضا المجرد عن ذلك.

نعم، من القريب الاكتفاء في نفوذ عقد الفضولي بالرضا الفعلي به بعد العلم بوقوعه، لملازمته عادة لإقراره، والالتزام به، فيدخل في موضوع وجوب الوفاء بالعقد بالتقريب المتقدم في الاستدلال بالآية الشريفة. قال في الجواهر:

(بل إن لم يقم الإجماع أمكن الاكتفاء هنا بتحقق الرضا بينه وبين الله وإن لم يصدر منه ما يصدر منه ما يدل عليه) .

ص: 244

ويؤكد ذلك نصوص نكاح العبد من غير إذن مولاه، المشار إليها آنفاً، لظهورها في أن نفوذ العقد بالإقرار المستكشف بالسكوت، لا بإظهارهم الإقرار من طريق السكوت الذي هو نظير إظهارهم له من طريق الإذن الصريح.

وبعبارة أخري: لو كان المعتبر في نفوذ عقد الفضولي وإجازته أمراً زائداً علي الإقرار النفسي للعقد، وهو إبراز الإقرار المذكور بمبرز من إقرار قولي أو عملي، لزم القصد إلي الإبراز المذكور، كالقصد للإجازة القولية، ليتحقق بذلك إعمال السلطنة، ومن الظاهر أن مجرد سكوت المولي بعد علمه بنكاح العبد لا يكشف عن قصد إبراز الإقرار المذكور بسكوته، ليكون السكوت بمنزلة الإجازة القولية، وإنما يكشف عن الإقرار النفسي للعقد، وظاهر النصوص المذكورة أنه كاف في نفوذ العقد وصحة النكاح.

ومن هنا كانت هذه النصوص تامة الدلالة علي كفاية الإقرار النفسي ثبوتاً ولو من دون مبرز، وإن كان العمل عليه موقوفاً علي وجود الدليل عليه من قول أو فعل أو شاهد حال، وهو في المقام سكوتهم عنه وعدم تغييرهم عليه.

وأظهر من ذلك ما في بعض نصوص نكاح الفضولي من أن المزوج فضولاً يرث من الآخر بعد أن يحلف أنه ما دعاه إلي أخذ الميراث إلا الرضا بالنكاح(1). لقوة ظهوره في أن الموجب لنفوذ النكاح الذي به يحلّ أخذ الميراث هو الرضا بالنكاح وإقراره، لا إبراز الرضا بمبرز.

نعم، إذا لم يكن الرضا الفعلي ملازماً لإقرار العقد لم ينفع في صحته ونفوذه، كما لو تخيل عدم تعلق العقد به، فإن رضاه به وأنسه بوقوعه حينئذٍ لا يستلزم إقراره له، والتزامه به وإعمال سلطنته فيه، ليدخل في عمومات الصحة والنفوذ. كما لعله ظاهر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 58 من أبواب المهور حديث: 2، 14، وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 4.

ص: 245

(246)

(مسألة 9): إذا باع الفضولي مال غيره عن نفسه لاعتقاده أنه مالك (1)، أو لبنائه علي ذلك - كما في الغاصب (2) - فأجاز المالك، صح (3)،

---------------

(1) إما للخطأ في الحكم الشرعي، كما في المقبوض بالعقد الفاسد، أو في الموضوع الخارجي، كما لو اشتبهت عليه الوديعة بملكه.

(2) بناء الغاصب علي كونه مالكاً يرجع إلي التشريع أو الخطأ في الحكم الشرعي، نظير ما يحصل في المقبوض بالعقد الفاسد. وكثيراُ ما لا يبتني حال الغاصب علي ذلك، بل علي ترتيب آثار الملك علي المغصوب، تعدياً علي مالكه الشرعي، وتمرداً علي الله تعالي.

(3) كما صرح به غير واحد، وقيل إنه المشهور. للعمومات المتقدمة، وموثق مسمع أبي سيار فيمن جحد الوديعة واتجر بها - الذي هو من أفراد الغاصب - بناء علي ما سبق في وجه الاستدلال به لصحة عقد الفضولي بالإجازة.

وزاد شيخنا الأعظم (قدس سره) فاستدل بظهور صحيحة محمد بن قيس. وكأنه لدعوي: أن إقدام الولد علي بيع جارية أبيه من دون إذنه إنما يكون من أجل انتفاعه بثمنها، لا من أجل حفظ الثمن لأبيه أو إنفاقه في شؤونه وحوائجه.

لكنها غير ظاهرة، لإمكان أن يكون قد باعها من أجل إنفاق ثمنها في شؤون أبيه وحوائجه، إلا أن الأب لما لم يعجبه ذلك استغل حقه في عدم إنفاذ البيع. علي أنه لو فرض تمامية الدعوي المذكورة، فهي لا تستلزم قصده البيع لنفسه تبعاً لاغتصابه الجارية، بل من القريب أن يقصد بيع الجارية لأبيه من أجل أن ينتفع هو بثمنها، كما ينتفع ببقية أموال أبيه التي تحت يده.

ودعوي: أن ترك الاستفصال في الصحيح شاهد بعموم الحكم بالصحة فيه لما إذا كان قد قصد البيع لنفسه. مدفوعة بأن قصد البيع لنفسه تبعاً لغصب الجارية محتاج لعناية لا إشارة في الصحيح إليها، والاقتصار فيه علي بيع الولد جارية أبيه بغير إذنه

ص: 246

ظاهر في إرادة بيع مال الأب بالنحو المتعارف الذي لا يعوزه إلا الإذن. فتأمل.

وأشكل من ذلك استدلاله بفحوي ما ورد في نكاح الفضولي إذ فيه: أولاً: أنه سبق منه (قدس سره) ومنّا - عند الاستدلال بالفحوي المذكورة لصحة بيع الفضولي بالإجازة

الإشكال في أولوية البيع من النكاح بالصحة. فراجع.

وثانياً: أن أولوية البيع بالصحة - لو تمت - مختصة ببيع الفضولي للمالك، ولا مجال لها مع بيعه لنفسه، لأن المحاذير المسوقة فيه وإن كانت مدفوعة - كما يأتي - إلا أن خصوصية البيع لنفسه تمنع من القطع بالأولوية.

كما أن نكاح العبد من غير إذن مولاه وإن كان لنفسه، إلا أنه لا يخرج عن الوضع الطبيعي في النكاح، فهو نظير بيع الراهن العين المرهونة لنفسه من دون إذن المرتهن، لا نظير بيع الفضولي مال غيره لنفسه الذي هو محل الكلام. فالعمدة في الدليل علي الصحة ما سبق.

هذا وربما يستشكل في صحة البيع في المقام لوجوه كثيرة ذكرها أكثرها شيخنا الأعظم (قدس سره) يظهر الجواب عن بعضها مما سبق، وما لم يظهر الجواب عنه وجوه:

الأول: أن غير مالك المبيع إذا قصد بيعه لنفسه خرج عن مقتضي المعاوضة التي عليها يبتني البيع، حيث ذكرنا أن مقتضي باء العوض الداخلة علي الثمن دخوله في ملك من خرج منه المثمن، وأن قصد دخوله في ملك غيره مناف لقصد المعاوضة المقومة للبيع.

وفيه: أن قصد الفضولي بيع الشيء لنفسه بحيث يكون ثمنه له لما كان متفرعاً علي بنائه علي ملكيته له فهو لا ينافي قصد البيع والمعاوضة، بل يستلزمه. ومجرد خطئه في الاعتقاد بالملزوم - وهو ملكية المبيع - وباللازم - وهو وقوع البيع له ودخول الثمن في ملكه - لا ينافي قصد المعاوضة. وإنما ينافيه إنما لم يبتن علي ذلك، بأن كان يري نفسه غير مالك للمبيع، ومع ذلك يقصد البيع لنفسه ودخول الثمن في ملكه، وهو خارج عن مفروض الكلام.

ص: 247

وبعبارة أخري: ابتناء المعاوضة علي دخول العوض في ملك من خرج منه المعوض يقتضي توقف قصد المعاوضة والبيع علي قصد دخول العوض في ملك من يبني البايع علي ملكيته للمبيع، لا في ملك من هو مالك له واقعاً. كما هو ظاهر.

الثاني: أن اقتران قصد البيع والمعاوضة من الفضولي بقصد وقوع البيع لنفسه ودخول الثمن في ملكه موجب للتنافي بين القصدين، فالمعاوضة الحقيقية لا تكون إلا بوقوع البيع لمالك المبيع الحقيقي وملكيته للثمن، ووقوع البيع للفضولي وملكيته للثمن لا يكونان إلا بخروج المعاملة عن حقيقة المعاوضة، ومع التنافي بين القصدين في الإنشاء الواحد يتعين لغوية الإنشاء رأساً وعدم ترتب الأثر عليه، لتعذر نفوذه بتمام مضمونه، وعدم المرجح لأحد المضمونين المتنافيين علي الآخر.

وفيه: أن التنافي بين الأمرين المقصودين في الإنشاء الواحد إنما يوجب لغويته وعدم ترتب الأثر عليه إذا كان كل منها مقصوداً بالأصل. أما إذا كان المقصود بالأصل واحداً منها وكان الباقي مقصوداً تبعاً، فإنه يترتب الأمر المقصود بالأصل، ويلغو المقصود التبعي. فإذا زوج الأب كبري بناته زينب، وكانت زينب هي الصغري، فإن كان المقصود بالأصل زواج زينب، وكان وصفها بالكبري لاعتقاد أنها الكبري خطأ، كان الزواج لزينب، ولغا قصد كونها الكبري، وإن كان المقصود بالأصل زواج الكبري، وكانت تسميتها بزينب لاعتقاد أنه اسمها وقع زواج الكبري، ولغا قصد أنها زينب.

نعم، إذا كان كل منهما مقصوداً بالأصل - بأن كان الزوج قد رأي الاثنتين معتقداً أنهما واحدة - فلا يقع زواج إحديهما ويبطل العقد رأساً.

وفي المقام حيث كان المقصود بالأصل هو البيع والمعاوضة بين المالين، وكان قصد الفضولي البيع لنفسه وتملكه للثمن تابعاً لذلك، بسبب بنائه علي ملكيته للمبيع - كما سبق - كان المعول علي قصد البيع والمعاوضة، ونتيجة لذلك يكون البيع لمالك المبيع الحقيقي، ويدخل الثمن في ملكه، ويلغو قصد الفضولي البيع لنفسه ودخول

ص: 248

الثمن في ملكه.

ويجري ذلك في نظائر المقام، كما لو باع الوكيل ماله باعتقاد أنه للموكل، أو مال الموكل باعتقاد أنه له، حيث لا مجال للبناء علي لغوية العقد. غاية الأمر أنه قد يقال بتوقف نفوذه علي الإجازة. وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه في المسألة الثانية عشرة إن شاء الله تعالي.

الثالث: أن الفضولي إذا قصد البيع لنفسه، فإن تعلقت الإجازة بذلك ونفذ، لزم الخروج عن مقتضي عقد البيع والمعاوضة من وقوع البيع لمالك المبيع ودخول الثمن في ملكه، وإن تعلقت الإجازة بالبيع للمالك الحقيقي ودخول الثمن في ملكه، فقد تعلقت بمضمون لم ينشأ، وبقي المضمون المنشأ من دون إجازة.

ويظهر الجواب عنه مما سبق في الجواب عن الوجه الثاني من أن المقصود بالأصل هو البيع والمعاوضة بين المالين، وأن قصد الفضولي البيع لنفسه لاغ لا يترتب عليه الأثر. إذ الإجازة حينئذ تتعلق بالمقصود الأصلي للمتعاقدين، فينفذ العقد فيه، دون المقصود اللاغي منهما، وحيث كان مقتضي المعاوضة دخول الثمن في ملك المالك الحقيقي للمثمن تعين حصول ذلك بالإجازة المقتضية لنفوذ العقد. والظاهر رجوع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) لذلك. وإن أطال (قدس سره) في النقض والإبرام بما لا حاجة له بعد ما سبق، ولا يسعنا متابعته فيه.

ثم إن هذا يجري في شراء الفضولي لنفسه، كما لو اعتقد ملكيته للثمن فاشتري به لنفسه شيئاً. وتوضيح ذلك أنه تقدم منا عند الكلام في حقيقة البيع أن قوام المعاوضة دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض. أما دخول المعوض في ملك من خرج عنه العوض فهو مقتضي إطلاق المعاوضة من دون أن يكون مقوماً لها، ولا مانع من الخروج عن مقتضي الإطلاق المذكور بعناية خاصة يبتني عليها العقد، فيكون أطراف العقد ثلاثة: مالكا العوضين ومن يراد دخول المعوض في ملكه بالعقد.

وفي المقام حيث كان قصد المتعاقدين الجري علي مقتضي الإطلاق - كما لعله

ص: 249

مورد كلامهم - وكان قصد الفضولي البيع لنفسه ودخول المثمن في ملكه تابعاً لبنائه علي ملكية الثمن، تعين عدم الخروج بالإجازة عن مقتضي الإطلاق المذكور، فيدخل المعوض في ملك المجيز الذي هو المالك الحقيقي للعوض، ويلغو قصد الفضولي الشراء لنفسه، ودخول المثمن في ملكه، لما سبق من لغوية المقصود التبعي.

نعم، لو قصدا الخروج عن مقتضي الإطلاق، وتملك المشتري المثمن ابتداء من دون بناء علي تملك الثمن، بل مع البناء علي ملكية صاحبه الحقيقي له، يتعين نفوذ ذلك برضا صاحبه المذكور، لما سبق من إمكان ذلك في نفسه، وعدم منافاته لحقيقة البيع والمعاوضة. لكنه خارج عن محل الكلام.

كما أنه لو كان الشراء بالكلي في الذمة، ودفع المشتري الثمن المملوك لغيره وفاء عما في الذمة، تعين خروج العقد عن الفضولية ونفوذه رأساً، لسلطنة المشتري علي ذمته. غاية الأمر أن يكون الوفاء بملك الغير فضولياً موقوفاً علي إجازة مالك المال المذكور. والظاهر خروجه عن محل الكلام أيضاً.

الرابع: أنه لو فرض علم المشتري بعدم ملكية الفضولي للمبيع، فحيث حكي عن الأصحاب عدم رجوع المشتري علي الفضولي بالثمن حينئذٍ لو ردّ المالك، فهو يكشف عن عدم تحقق المعاوضة الحقيقية بينهما، وإلا كان الردّ موجباً لرجوع كل عوض إلي مالكه، وحينئذٍ إذا أجاز المالك لم يملك الثمن، لأنه فرع وقوع المعاوضة بين ماله والثمن. ذكر ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) علي اضطراب في كلامه يظهر بمراجعته والتأمل فيه.

ويندفع بأن ما حكي عن الأصحاب - لو تم - فالظاهر اختصاصه بما إذا تلف الثمن عند الفضولي، حيث قد يدعي أن تسليطه للفضولي علي الثمن مع علمه بعدم استحقاقه للمبيع راجع إلي تسليطه له عليه مجاناً، بنحو يوجب هدر حرمة ماله المانع من ضمانه عليه. وذلك - لو تم - لا يرجع إلي عدم قصدهما البيع والمعاوضة، بحيث لا موضوع للإجازة، بل كل ما حصل هو التفريط بالثمن بتسليمه لغير المستحق.

ص: 250

وحينئذٍ إذا أجاز المالك فإن كان الثمن كلياً فالإجازة إن تعلقت بالبيع فقط، دون قبض الثمن وتعيينه في المقبوض الشخصي، كان له الرجوع بالثمن علي المشتري، ليسلمه فرداً آخر غير ما سلمه للفضولي. وإن تعلقت بقبض الثمن أيضاً، كان له الرجوع علي الفضولي بالثمن الذي قبضه إن كان موجوداً، وببذله إن كان تالفاً.

وإن كان الثمن شخصياً، فإن كان موجوداً كان له أخذه من الفضولي. وإن كان تالفاً، فإن قلنا بأن الإجازة ناقلة فالظاهر بطلان البيع وعدم تصحيح الإجازة له، لامتناع تحقق البيع والمعاوضة مع تلف الثمن. وإن قلنا بأن الإجازة كاشفة كان له الرجوع ببدله علي الفضولي، لأنه ينكشف أنه قد استولي علي ماله من دون إذنه. وله أيضاً الرجوع علي المشتري أيضاً، لأنه ينكشف أنه قد تعدي وسلم الثمن لغير مالكه، فيكون ضامناً له.

إلا أن يقال ببطلان البيع أيضاً، لما تضمن أن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، بناء علي جريانه في الثمن أيضاً، واقتضائه بطلان البيع. وتمام الكلام في محله.

وكيف كان فبناء الأصحاب علي عدم رجوع المشتري علي الفضولي بالثمن - لو تم - لا يستلزم عدم قصد المعاوضة في عقد الفضولي.

هذا ولو كان مرجع بنائهم المذكور إلي دعوي أن المشتري لم يدفع المال للفضولي علي أنه ثمن للمبيع، وإنما دفعه له مجاناً بداعي تسليطه خارجاً علي العين، فإن رجع ذلك إلي مجرد عدم قصد المشتري بالمال الذي دفعه للفضولي الثمنية، لكن مع قصدهما البيع والمعاوضة، فالأمر كما سبق، إلا أن الأصيل لو أجاز لا يرجع علي الفضولي بالثمن، بل علي المشتري فقط.

وإن كان ذلك منهما متفرعاً علي عدم قصدهما البيع والمعاوضة بين المالين، تعين عدم الموضوع للإجازة. لكن لا يظن من أحد دعوي ذلك، بل هو خلاف المقطوع به من حال الفضولي والمشتري، وخلاف مفروض الكلام من بيع الفضولي لنفسه، كم

ص: 251

ويرجع الثمن إلي المالك (1).

---------------

لا يخفي.

(1) كما صرح به غير واحد، ولعله مفروغ عنه عندهم ويظهر وجهه مما سبق. لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): (ربما يلتزم صحة أن يكون الإجازة لعقد الفضولي موجبة لصيرورة العوض ملكاً للفضولي. ذكره شيخ مشايخنا في شرحه علي القواعد، وتبعه غير واحد من أجلاء تلاميذه).

وقد يوجه ذلك بوجهين ذكرهما في الجملة شيخنا الأعظم (قدس سره)، ونسبهما لبعضهم:

الأول: أن قضية بيع مال الغير عن نفسه جعل ذلك المال له ضمناً عند البيع، بحيث لو صح البيع لكان قد ملكه آناماً قبل انتقاله للمشتري، كما لو كان ماذوناً في بيعه لنفسه. فإذا أجاز المالك البيع المذكور بعد وقوعه من الفضولي، فقد أجازه بما تضمنه من اللازم، وهو تملك الفضولي للمبيع قبل البيع آناماً، المقتضي لوقوع البيع له، ودخول الثمن في ملكه.

وفيه: أولاً: أن الفضولي في المقام لما كان بانياً علي ملكيته للمبيع قبل البيع، فقصده البيع لنفسه لا يحتاج إلي قصده تملك المبيع عند البيع، ليدعي أن إجازة المالك للبيع تقتضي إجازة التملك المذكور. وهذا بخلاف المأذون في البيع لنفسه، فإنه حيث لا يري ملكيته للمبيع فقصده البيع لنفسه يتوقف علي قصده تملك المبيع قبل البيع آناماً.

وثانياً: أنه لا مجال لقياس إجازة المالك بيع الفضولي لنفسه بإذن المالك لغيره ببيع ماله لنفسه، لأن الآذن لما كان يري عدم ملكية المأذون للمبيع، ويري عدم صحة بيعه لنفسه إلا بتملكه له، فإذنه له في بيعه لنفسه قد يحمل بدلالة الاقتضاء علي الإذن له في تملكه أولاً ثم بيعه لنفسه، بخلاف المجيز، فإنه حيث يمكنه إجازة البيع من دون إجازة التملك - لو فرض حصوله - قبله فلا ملزم له بإجازة التملك.

ص: 252

(253)

(مسألة 10): لا يكفي في تحقق الإجازة الرضا الباطني (1)، بل لابد من الدلالة عليه بالقول، مثل: رضيت، وأجزت، ونحوهما، أو بالفعل، مثل: أخذ

---------------

بل لو أجاز التملك لم يحتج إلي إجازة البيع، إذ بعد خروج المبيع عن ملكه إلي مالك الفضولي بإجازة التملك، يكون بيع الفضولي للمبيع من شؤون الفضولي، لا من شؤون المالك. وعلي ذلك إذا قصد المالك إجازة البيع رجع ذلك إلي عدم إجازة التملك.

الثاني: أنه لا دليل علي اشتراط كون أحد العوضين ملكاً للعاقد في انتقال بدله إليه، بل يكفي كونه مأذوناً من قِبل المالك في بيعه لنفسه أو الشراء به، والإجازة اللاحقة للبيع المذكور كالإذن السابق.

وفيه: أن ذلك وإن تمّ في شراء غير مالك الثمن لنفسه، إلا أنه لا يتم في بيع غير مالك المبيع لنفسه، كما تقدم توضيحه عند الكلام في حقيقة البيع. علي أنه لو تمّ فما يترتب علي الإجازة هو نفوذ العقد الواقع في مضمونه، والمفروض أن العقد لم يتضمن بيع الشيء لغير مالكه، بل بيعه لمالكه علي الوجه المتعارف في البيوع، وإنما قصد الفضولي البيع لنفسه لبنائه علي كونه هو المالك، فمع عدم كونه هو المالك واقعاً يلغو قصد البيع لنفسه، لكونه مقصوداً تبعاً لقصد المبيع للمالك، ويتعين وقوع البيع للمالك، لأنه المقصود بالأصل، كما تقدم في الجواب عن الوجه الثاني من وجوه الاستدلال علي بطلان بيع الفضولي لنفسه، وفي تتمة الجواب عن الوجه الثالث. فراجع. ومن هنا لا مخرج عما هو المعروف من رجوع الثمن للمجيز الذي هو مالك المبيع.

(1) تقدم في المسألة الثامنة أن الرضا الباطني بمعني الرضا الشأني لا يكفي في تحقق الإجازة، وبمعني الرضا الفعلي - الذي هو الرضا الحقيقي - يكفي فيها وإن لم يظهر بمبرز من قول أو غيره، لملازمته عادة لإقرار عقد الفضولي والالتزام به. فيترتب الأثر عليه في حق كل من قامت عنده الحجة عليه.

ص: 253

الثمن أو بيعه أو الإذن في بيعه، أو إجازة العقد الواقع عليه (1)، ونحو ذلك.

(مسألة 11): الظاهر أن الإجازة كاشفة عن صحة العقد من حين وقوعه (2).

---------------

(1) فإن إعمال سلطنته في الثمن ظاهر في بنائه علي تملكه تبعاً لإجازته البيع الأول.

(2) بعد أن ثبت صحة عقد الفضولي، ونفوذه بالإجازة، وقع الكلام بين القائلين، بذلك في أن الإجازة هل تقتضي صحة العقد وترتب آثاره من حينها، أو صحته من حين وقوعه، بحيث يحكم بترتب الآثار في الزمان المتخلل بين العقد والإجازة ؟ والأول هو المراد بالنقل، وإليه ذهب في المستند، وحكاه عن الأردبيلي. والثاني هو المراد بالكشف، وهو المصرح به في كلام غير واحد، كما يأتي ذكر بعضهم، وفي المستند وعن الأردبيلي أنه مذهب الأكثر.

والظاهر أن مقتضي عموم نفوذ العقود هو النقل، لعدم دخول عقد الفضولي في العموم المذكور إلا بالإجازة، إما لما سبق منا من أن الخطاب بالوفاء فرع الالتزام به، وهو لا يتحقق إلا بالإجازة، أو لما ذكره غير واحد من أن العقد الذي يحب الوفاء به هو العقد المنتسب للمالك ولا ينتسب العقد للمالك إلا بالإجازة، أو لأن مقتضي الجمع بين العموم المذكور وما دل علي اعتبار الرضا هو حمل العموم علي خصوص العقد الذي يتحقق الرضا به، والرضا لا يتحقق إلا بالإجازة.

وهكذا الحال في بقية العمومات المدعي دلالتها علي نفوذ عقد الفضولي، كما يظهر بملاحظة تقريب الاستدلال بها في كلماتهم وأن سبق منّا الإشكال في الاستدلال بها، عدا التعليل في قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة الوارد في نكاح العبد بغير إذن سيده

:(إنه لم يعص الله، وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز) (1) . فإن تفريع جواز العقد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 254

(255)

ونفوذه علي الإجازة ظاهر في ترتبه عليها وتأخره عنها رتبة ومقارنته لها زماناً.

لكن ظاهر أو صريح غير واحد البناء علي أن مقتضي العمومات الكشف علي خلاف منهم في وجوهه، تبعاً لكيفية الاستدلال عليه، كما سيتضح إن شاء الله تعالي. والمذكور في كلماتهم وجوه:

الأول: ما عن المحقق الرشتي (قدس سره) في إجارته من أن الشرط في نفوذ العقد هو الرضا التقديري المقارن للعقد، والإجازة كاشفة عنه من دون أن يستند إليها نفوذ العقد.

ويظهر الجواب عنه مما سبق في المسألة الثامنة من أن الرضا الفعلي فضلاً عن التقديري، لا يكفي في نفوذ العقد وخروجه عن الفضولية. بل هو لا يناسب النصوص المتضمنة لتوقف نفوذ عقد الفضولي علي إجازة من له السلطنة علي العقد وإقراره له لظهورها في استناد نفوذه لهما ثبوتاً، لا في كشفهما عما هو الموجب لنفوذه. كما لا يناسب كلماتهم في المقام، فإنهم ذكروا أن الإجازة تقتضي نفوذ عقد الفضولي ومضيه، لا أنها تكشف عن عدم كون العقد فضولياً.

مضافاً إلي أن الإجازة لا تستلزم مقارنة العقد للرضا التقديري، لإمكان رضا المالك بالعقد بعد إبائه له، لتبدل الظروف والدواعي، كما تضمنه صحيح محمد بن قيس في الوليدة التي باعها ابن سيدها.

الثاني: ما في جامع المقاصد قال:

(العقد سبب تام في حصول الملك، لعموم: (أوفوا بالعقود)، وتمامه في الفضولي إنما يعلم بالإجازة، فإذا أجاز تبين كونه تاماً، فوجب ترتب الملك عليه، وإلا لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصة، بل به مع شيء آخر، ولا دليل يدل عليه) . وقريب منه في الروضة.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن عقد الفضولي لا يكون مشمولاً للعموم إلا بالإجازة، فلا ينفذ إلا بعدها، فالنفوذ وإن كان للعقد وحده، إلا أنه منوط بها متأخر عنها، لا منكشف بها. وهو المناسب لما تضمنته نصوص نفوذ عقد الفضولي

ص: 255

من التعبير بإقرار العقد وإجازته ونحو ذلك.

الثالث: ما عن فخر الدين في الإيضاح من أنها لو لم تكن كاشفة لزم تأثير المعدوم في الموجود، لأن العقد حالها عدم. وتوضيحه: أن المؤثر للنقل والانتقال بمقتضي العمومات لما كان هو العقد، فلو كان تأثيره مقارناً للإجازة المتأخرة لزم تأثيره حال كونه معدماً، فلابد من الخروج عن ظواهر الأدلة، والبناء علي مقارنة الأثر للعقد في ظرف تحقق الإجازة في وقتها، إما لكون الشرط في تأثير العقد هو الوصف المنتزع من ترتب الإجازة لاحقاً، وهو مقارن للعقد ككون العقد بحيث تتعقبه الإجازة، وإما لكون الشرط هو الإجازة بنفسها، لكن بنحو الشرط المتأخر - كما يظهر من الجواهر - بناء علي ما هو الظاهر من إمكان الشرط المتأخر في الأحكام الشرعية وسائر المجعولات الاعتبارية، لأن عللها الشرعية ليست عللاً حقيقية، بل هي موضوعات وضوابط لما هو العلة الحقيقية، وهي اعتبار من بيده الاعتبار الذي هو خفيف المؤونة، ولا مانع من إناطته بأمر متأخر أو سابق غير موجود حين وجود المعلول.

وفيه: أولاً: النقض بمثل الهبة والصدقة المشروطتين بالقبض، حيث يظهر منهم البناء علي ترتب أثرهما بعد القبض، لا من حين العقد لو تعقبه القبض. بل لا ريب في عدم ترتب أثر العقد إلا بعد تماميته بالقبول، مع كون الإيجاب معدوماً حينه، وهو أحد جزئي المؤثر. وكذا الحال في الوصية والتدبير اللذين لا يترب أثرهما إلا بعد الموت... إلي غير ذلك. وما يقال في توجيه جميع ذلك يجري هو أو نظيره في المقام.

وثانياً: أن مقتضي عموم الوفاء بالعقود بالتقريب المتقدم عدم تأثير الإجازة في تنفيذ العقد إلا بوجودها الخارجي وبنحو الشرط المقارن، حيث به يتم الالتزام المستتبع للخطاب بالوفاء أو الانتساب للمالك، فلو تم امتناع ذلك - لامتناع تأثير المعدوم في الموجود - يتعين البناء علي قصور العموم المذكور عن عقد الفضولي، ولا ملزم بالبناء علي عمومه له مع الخروج عن ظهوره في دخل الإجازة بوجوده

ص: 256

الخارجي وبنحو الشرط المقارن. وإنما يتجه ذلك إذا كان نفوذ عقد الفضولي بالإجازة مستفاداً من أدلة خاصة.

وثالثاً: أن تأثير المعدوم في الموجود - بالوجه المتقدم - إنما يمتنع في الأمور التكوينية الحقيقية، فالمعلول منها لا يوجد ما لم تجتمع أجزاء علته التامة في الوجود. ولا مجال لذلك في الأمور الاعتبارية، لما تقدم من أن عللها الشرعية ليست عللاً حقيقية، بل هي موضوعات وضوابط لما هو العلة الحقيقية، وهو اعتبار من بيده الاعتبار، الذي لا مانع من إناطته بأمر سابق أو لاحق معدوم حين وجود المعلول. ولولا ذلك لامتنع دخل الإجازة في نفوذ العقد، بل يدور الأمر بين نفوذ العقد حين وقوعه مطلقاً وعدمه كذلك وهو خلاف المفروض.

وأما الفرار عن ذلك بأن الدخيل في نفوذ العقد هو الأمر المنتزع من ترتب الإجازة. ففيه: أنه ليس للأمر المذكور وجود حقيقي صالح للتأثير إلا بالتفريق بين الأمور الحقيقية والاعتبارية بما سبق، الذي لو تم أمكن تأثير المعدوم في الموجود الاعتباري، كما ذكرنا. ومثله في ذلك الالتزام بدخل الإجازة بنحو الشرط المتأخر، كما هو ظاهر.

الرابع: أن نفوذ العقد وإن كان مترتباً علي تحقق الإجازة في الخارج - كما هو مقتضي العمومات وظواهر الأدلة الخاصة - فلا يحكم شرعاً بحصول مضمونه وترتب أثره إلا بعد حصولها، إلا أن الإجازة حيث تتضمن تنفيذ العقد بتمام مضمونه، فمن الظاهر أن مفاد العقد هو حصول المضمون حين صدوره، لا متأخراً عنه، فيكون مقتضي أدلة النفوذ بالإجازة الحكم شرعاً بعد الإجازة بحصول مضمون العقد وترتب أثره من حين صدوره، لا من حين الإجازة، كما ذكره السيد في الرياض، وحكي عن المحقق القمي (قدس سره).

وقد استشكل في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بأنه بعد فرض عدم نفوذ العقد واقعاً قبل الإجازة - وأن كلاً من العوضين في الزمان المتخلل بينها وبين العقد علي حاله

ص: 257

الأول - يمتنع انقلاب الحال بحيث يكون العقد نافذاً من حين وقوعه، والتبادل بين العوضين حاصلاً حينئذٍ، فإن تبدل الشيء عن حاله إنما يكون مع اختلاف الزمان، لا في نفس الزمان الواحد، بل ما حصل فيه يمتنع أن ينفك عنه. وقد يرجع إلي ذلك ما في الجواهر من أنه يلزم اجتماع المالكين علي مال واحد في زمان واحد. بل لا يعقل التأثير في الملك في الزمان الماضي.

لكنه يندفع بما ذكره غير واحد من مشايخنا من أن ذلك إنما يتم في الأمور الحقيقية، أما الأمور الاعتبارية فيمكن تبدل الحال فيها، تبعاً لاعتبار من بيده الاعتبار إذا تبدل الموضوع الذي يناط به اعتباره. مثلاً إذا شك في طهارة الأرض يوم الخميس فمقتضي أصالة الطهارة الحكم بطهارتها في اليوم المذكور، فإذا علم يوم السبت بملاقاتها للنجاسة يوم الأربعاء واحتمل وقوع المطر عليها ليلة الخميس فمقتضي الاستصحاب الحكم بنجاستها يوم الخميس، فانقلب حكم الأرض ظاهراً يوم الخميس عما كان عليه بسبب العلم بنجاستها يوم الأربعاء.

نعم، لا مجال لذلك في الأحكام التكليفية، لا من جهة امتناع انقلاب الشيء عما وقع عليه، بل لأن تقومها بالعمل مستلزم للغوية جعلها مع مضي زمان العمل.

ومثله ما ذكر (قدس سره) أيضاً من أن ترتب الملك علي العقد إنما استفيد من وجوب الوفاء بالعقد المقتضي لنفوذه، وحيث كان وجوب الوفاء في حق المالك متأخراً عن إجازته للعقد تعين تبعية الملك لها، فلا ملك قبلها، لعدم وجوب الوفاء حينئذٍ.

لاندفاعه بأن وجوب الوفاء والأمر به، وإن كان دليلاً علي نفوذ العقد وحصول الملك وكاشف عنه إثباتاً، إلا أن التابع لوجوب الوفاء إثباتاً هو الحكم بالملك، أما الملك المحكوم به فلا مانع من تقدمه عليه ومقارنته للعقد بسبب تضمن العقد جعل مضمونه من حين صدوره - كما هو المدعي - واقتضاء الإجازة تنفيذه بتمام مضمونه.

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) أيضاً - في الجملة - من أن العقد إنما يتضمن جعل مضمونه من دون اخذ خصوصية الزمان

ص: 258

فيه، وإنما يترتب المضمون مقارناً للعقد بضميمة دليل نفوذه، فإذا اقتضي الدليل عدم نفوذه رأساً، بل موقوفاً علي مثل القبض أو الإجازة أو غيرها، تعين تأخر مضمونه.

ودعوي: أنه بعد امتناع الإهمال في جعل الجاعل فمع فرض عدم التقييد يتعين الإطلاق وحصول مضمون العقد من حينه. مدفوعة بأن حصول مضمون العقد من حينه مع الإطلاق ليس لأخذ زمان العقد قيداً في المضمون المنشأ، ليكون مقتضي إجازة العقد في تمام مضمونه ترتب المضمون من حين العقد، بل لأن مقتضي الإنشاء العقدي تحقق المنشأ ادعاءً، فمع نفوذ العقد وإمضائه شرعاً يتعين تحقق المضمون المنشأ شرعاً مقارناً للعقد، ومع توقف نفوذه شرعاً علي أمراً آخر - من إجازة أو قبض أو غيرهما - يتعين تحقق المضمون شرعاً حين حصول ذلك الأمر.

ويتضح ذلك بملاحظة حال القبول مع الإيجاب، فإنه عبارة عن إمضاء الإيجاب وإقراره، كما هو حال الإجازة مع العقد، مع أنه لا يقتضي ثبوت المضمون شرعاً من حين الإيجاب، بل من حينه، لعدم تمامية العقد الذي هو موضوع أدلة النفوذ إلا به.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن مضمون العقد ما لم يتحقق القبول لا يحصل بالإيجاب وحده. فإن أراد به عدم حصول المضمون شرعاً، فهو مسلم، كعدم حصول مضمون عقد الفضولي إلا بالإجازة. لكنه لا يمنع من التنظير، كما لا يخفي. وإن أراد به عدم حصوله ادعاء بمقتضي إنشاء الموجب، فهو ممنوع قطعاً، إذ لا ريب في إنشاء كل من المتعاقدين للمضمون الواحد.

وما ذكره (قدس سره) من أن الإيجاب معلق علي القبول ضمناً وإن لم يعلق عليه صريحاً. ممنوع جداً، بل غاية ما يدعي أن الغرض الداعي للإيجاب هو حصول القبول من القابل، ليتم به العقد الذي هو موضوع النفوذ شرعاً وعرفاً. علي أنه لو سلم فهو لا يقتضي أخد زمان القبول قيداً في المضمون المنشأ في الإيجاب، ولا ينافي إطلاق المضمون المنشأ به.

ص: 259

إلا أن يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره)، حيث قال بعد أن نظّر لما نحن فيه بالقبول:

(اللهم إلا أن يقال: لما كان القبول مقوماً للعقد في نظر العرف يتعين أن يكون مقصود الموجب الإيقاع بعد القبول. فتأمل) .

لكنه غريب جداً، فإن تقوم العقد بالقبول لا يستلزم أخذ زمان القبول قيداً في المضمون المنشأ بالإيجاب. وهل يمكن دعوي أن المضمون المنشأ بإيجاب أحد المتعاقدين يختلف عن المضمون المنشأ ممن يتولي طرفي العقد بالإطلاق والتقييد؟! ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في عدم أخذ خصوصية الزمان قيداً في مضمون العقد، ليكون مقتضي دليل تنفيذ الإجازة لعقد الفضولي نفوذه وترتب مضمونه من حينه.

الخامس: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) حيث قال بعد الإشكال في الوجه السابق: (اللهم إلا أن يقال: زمان العقد وإن لم يؤخذ قيداً للمضمون. لكن من المرتكزات العرفية كون المضمون من آثار العقد ومسبباً عنه علي نحو المسببات الحقيقية الناشئة عن أسبابها من كونها مقارنة لها غير منفكة عنها. وهذا الارتكاز العرفي موجب لحمل العمومات علي تنفيذه علي النحو المذكور. فإذا كانت الإجازة مصححة لتطبيق العمومات علي العقد كان مقتضاها النفوذ من حينه، لا من حين الإجازة. وهذا قريب جداً).

لكنه كما تري فإن مقارنة المسبب للسبب إنما تكون مع تمامية السبب وعدم قصور سببيته، أما مع عدم تماميته وقصور سببيته فمن الظاهر عدم مقارنة المسبب له، بل يتوقف حصول المسبب علي تمامية سببيته بحصول المتمم لها. فارتكاز قياس سببية العقد علي سببية الأسباب الحقيقية يقضي اختصاص مقارنة مضمونه له بما إذا كان تام السببية، كعقد الأصيل، دون مثل عقد الفضولي المفروض قصور سببيته، بل يتعين حينئذٍ عدم مقارنة المسبب للسبب، بل لتمامية سببيته، بحصول المتمم لها، كالإجازة

ص: 260

في المقام. كما لعله ظاهر.

هذا ما تيسر لنا الإطلاع عليه من الوجوه المستدل بها لحمل العمومات علي الكشف، وقد ظهر عدم نهوضها به، وأن النقل هو الأنسب بالعمومات.

وأما الأدلة الخاصة فيشهد جملة منها بالكشف: منها: صحيح محمد بن قيس في الوليدة التي باعها ابن سيدها، حيث تضمن أن الإجازة موجبة لرجوع الولد الحاصل بوطء سابق عليها لأبيه وجريان حكم ولد المملوكة عليه.

ومنها: روايات أضحية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم). لظهور أن صحة المعاملات المترتبة علي عقد الفضولي بإجازته مع وقوع تلك المعاملات قبل الإجازة لا يتم إلا علي الكشف.

ومنها: صحيح إبراهيم بن هاشم، لما سبق من أن المراد من طلب التحليل من مال الوقف فيه ليس هو التحليل التكليفي فقط، بل ما يعم التحليل الوضعي الراجع لتنفيذ المعاملات الواقعة علي المال الذي أنفقه قبل حصول التحليل والإجازة.

ومنها: موثق مسمع في الاتجار بمال الوديعة المجحودة، فإن ظهور الربح الكثير في تلك المدة الطويلة يكون غالباً بمعاملات كثيرة متعاقبة، وقد لا يصح إجازة بعضها علي النقل، لتلف أحد العوضين حين الإجازة، فعدم تنبيه الامام (عليه السلام) لذلك يناسب الكشف والاكتفاء في صحة المعاملة بواجديتها للشروط حين وقوعها وإن فقدتها حين الإجازة.

ومنها: ما في بعض نصوص نكاح الفضولي المشار إليها في أواخر المسألة الثامنة من أن المزوج فضولاً يرث من الآخر بعد أن يحلف أنه ما دعاه إلي أخذ الميراث إلا الرضا بالنكاح(1).

ومنها: صحيح معاوية بن وهب: (جاء رجل إلي أبي عبد الله (عليه السلام) فقال:

إني كنت مملوكاً لقوم، وإني تزوجت امرأة حرّه بغير إذن موالي، ثم اعتقوني بعد ذلك،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 58 من أبواب المهور حديث: 2، 14، وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 4.

ص: 261

(262)

كشفاً حكمياً (1).

---------------

فأجدد نكاحي إياها حين أعتقت ؟ فقال له: أكانوا علموا أنك تزوجت امرأة وأنت مملوك لهم ؟ فقال: نعم، وسكتوا عني ولم يغيروا علي. قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم إقرار منهم. اثبت علي نكاحك الأول) (1) .

فإنه كالصريح في ترتيب السائل آثار النكاح الصحيح من حين العقد إلي حين العتق، وإنما يسأل عن حكم ما بعد العتق، فاكتفاء الامام (عليه السلام) في صحة العقد بإمضاء الموالي المستفاد من سكوتهم بعد علمهم، من دون تنبيه منه (عليه السلام) لعدم ترتيب آثار صحة النكاح قبل علم الموالي به وإقرارهم له، قد يظهر في إقراره له علي ترتيب آثار النكاح من حين وقوعه بسبب إقرار الموالي له بعد ذلك، كما هو مقتضي الكشف. وقريب منه في ذلك صحيح الحسن بن زياد الطائي(2).

هذا ما تيسر لنا العثور عليه من النصوص الظاهرة في الكشف، وهي وإن وردت في موارد خاصة، إلا أن من القريب جداً أن يستفاد منها العموم. ولاسيما مع ظهورها في المفروغية عن مضي العقد بالإجازة، الذي سبق أنه مقتضي العمومات والمرتكزات العرفية، حيث يظهر منها المفروغية عن الكشف تبعاً لذلك. وهو المناسب لعمل العرف، تبعاً لمرتكزاتهم.

وكأن ذلك هو الذي حمل المشهور علي القول بالكشف محاولين تنزيله علي القواعد وتطبيق العمومات عليه، وإن عرفت الإشكال في ذلك.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في الكشف بعد ما سبق. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) بعد أن ذهب المشهور إلي الكشف اختلفوا في حقيقته علي وجوه: الأول: الكشف الحقيقي، بمعني أن الإجازة تكشف عن نفوذ العقد حين وقوعه، بحيث لو علم بحصولها حين العقد حكم بنفوذه، وجاز ترتيب آثاره حينئذٍ. وهو المناسب

********

(1) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 3.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1، 3.

ص: 262

للوجوه الثلاثة الأولي التي تقدم الاستدلال بها للكشف. قال في الجواهر - بعد أن سبق منه ما يناسب الوجه الثالث -: (لو أخبر المعصوم بأنه يحصل الرضا فعلاً من لمالك الذي يؤثر رضاه كفي ذلك في ترتب الآثار الآن عليه، لتحقق الشرط حينئذٍ، كتحققه بنفس وقوعه، إذ الشرط الحصول فعلاً ولو في المستقبل).

الثاني: الكشف الانقلابي، كما هو مفاد الوجه الرابع والخامس.

الثالث: الكشف الحكمي. ومرجعه إلي أن الإجازة تقتضي ترتب ما يمكن من أحكام وآثار نفوذ العقد في الزمان السابق، كتملك المشتري لنماء المبيع الحاصل في الزمان المتخلل بين العقد والإجازة، وحرية الولد الحاصل نتيجة وطء الجارية المشتراة في الزمن المذكور ونحو ذلك. وهو الذي نسبه شيخنا الأعظم إلي أستاذه شريف العلماء قدس سرهما، واختاره هو بعد أن منع من نهوض العمومات بالكشف الحقيقي، وادعي امتناع الكشف الانقلابي، كما سبق.

لكن حيث سبق عدم امتناع الكشف الانقلابي فلا ملزم بالبناء علي الكشف الحكمي. بل حيث كان مقتضي العمومات نفوذ العقد، فإن استفيد منها نفوذه حين الإجازة تعين القول بالنقل، وإن استفيد منها نفوذه من حين العقد تعين القول بالكشف الانقلابي.

ولو فرض امتناعه تعين البناء علي خروج عقد الفضولي عن عموم النفوذ والبناء علي بطلانه بالنظر للعموم المذكور، ولا مجال للبناء علي عمومه له، وحمله فيه - دون بقية الأفراد - علي النفوذ الحكمي، فإنه تصرف غير عرفي، ولا قرينة عليه، كما ذكر سيدنا المصنف (قدس سره). ولاسيما مع عدم الإشكال ظاهراً في بناء القائل به علي النفوذ الحقيقي في عقد الفضولي بالإضافة إلي الزمان المتأخر عن الإجازة، حيث يلزم منه اختلاف المراد من العام باختلاف أفراده، بل باختلاف أزمنة الفرد الواحد. ولا نظير لذلك في الاستعمالات العرفية.

هذا وحيث سبق عدم نهوض العمومات بالكشف، وأن الدليل عليه النصوص

ص: 263

السابقة، فمن الظاهر أن النصوص المذكورة - كغيرها من النصوص المتضمنة توقف صحة عقد الفضولي علي الإجازة - ظاهرة في دخل الإجازة بوجودها الخارجي في نفوذ العقد، بحيث يكون نفوذه مقارناً لها، ولا تناسب نفوذه قبل حصولها كما هو مفاد الكشف الحقيقي، فهي في ذلك كالعمومات، بل بعضها كالصريح في ذلك، كقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة: (إنه لم يعص الله وإنما عصي سيده، فإذا أجازه فهو له جائز)(1) وغيره.

وكذا الحال في الكشف الحكمي، لظهور النصوص المتضمنة نفوذ عقد الفضولي بالإجازة في النفوذ الحقيقي الذي هو عبارة عن ترتب مضمون العقد نفسه، فتتبعه الآثار، لا عن ترتب الآثار رأساً، دون المضمون المستتبع لها. ولاسيما مع ما سبق من عدم الإشكال ظاهراً في نفوذ العقد حقيقة في الزمن اللاحق للإجازة، حيث يلزم من البناء علي الكشف الحكمي التفكيك في مفاد الدليل بين الأزمنة، كما ذكرناه آنفاً. ومن هنا يتعين حملها علي الكشف الانقلابي بعد ما سبق من إمكانه في نفسه.

نعم، لو فرض امتناعه تعين حمل النصوص المذكورة علي نفوذ العقد من حين الإجازة، الذي هو عبارة عن النقل، لكن مع ترتب آثار مضمون العقد في الزمن المتخلل بين العقد والإجازة تبعاً، وهو مطابق عملاً للكشف الحكمي. فإنه وإن كان لا يناسب قوة ظهورها في أن ترتب تلك الآثار من شؤون نفوذ العقد، لا أمر آخر قد حكم الشارع به تبعاً له، إلا أنه لابد من المصير إليه جمعاً.

هذا ومن الغريب ما في المتن وأقره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الكشف في المقام حكمي، مع أنه - كسيدنا المصنف (قدس سره) - صرح في مقام الاستدلال بأن الكشف في المقام انقلابي. بل قال سيدنا المصنف (قدس سره): (ومن هنا تعرف أن الكشف الحكمي ضعيف جداً... ومن ذلك تعرف أن الكشف الحقيقي الانقلابي أقوي من النقل ومن سائر وجوه الكشف، فهو المتعين). إلا أن يكون مرادهما من الكشف الحكمي الحكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

ص: 264

(265)

فنماء الثمن من حين العقد إلي حين الإجازة ملك مالك المبيع، ونماء المبيع ملك المشتري (1).

---------------

بما يناسب الكشف في مقابل الكشف الحقيقي.

(1) وكذا الحال في سائر آثار سبق نفوذ العقد، كنفوذ العقود المترتبة علي عقد الفضولي من البايع علي الثمن، ومن المشتري علي المبيع وغير ذلك مما فصل في محله.

وبقي في المقام بعض الثمرات ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) يحسن بنا التعرض لها أو لما يناسبها.

منها: أنه بناء علي النقل فللطرف الأصيل رفع اليد عن العقد قبل الإجازة. فإذا اشتري زيد ملك عمرو فضولاً، كان لزيد رفع اليد عن البيع قبل إجازة عمرو له، فلا تنفع في نفوذه، وإذا تزوج زيد هند فضولاً، كان له رفع اليد عن عقد النكاح قبل إجازة هند له، فلا تنفع إجازتها في نفوذه إذ بناء علي النقل فالإجازة بمنزلة القبول، ولا إشكال في أن للموجب رفع اليد عن الإيجاب قبل تحقق القبول. أما بناء علي الكشف فلا مجال لذلك، لكشف الإجازة عن تمامية العقد وترتب أثره من حين وقوعه من دون أن تكون دخيلة في ذلك، فرجوع الأصيل عنه كرجوع الموجب عن الإيجاب بعد تمامية العقد لا يترتب الأثر عليه.

ولا يخفي أن ذلك إنما يتم بناء علي الكشف الحقيقي، المبتني علي تأثير العقد حين وقوعه، من دون دخل للإجازة فيه، وإنما هي كاشفة عن حاله، وأنه مؤثر في بنفسه، كما هو مفاد الوجهين الأولين للاستدلال علي الكشف، وقد سبق ضعفهما. أما بناء علي بقية وجوه الكشف وأدلته فالإجازة دخيلة في نفوذ العقد، كما هو الحال علي النقل، ولا مجال للفرق بينهما في ذلك.

نعم، قد يقال: لا مجال لقياس الإجازة بالقبول في إمكان رفع اليد عن العقد قبلها حتي بناء علي النقل، لعدم صدق العقد إلا ببقاء الموجب علي التزامه إلي حين

ص: 265

القبول، بحيث يبتني القبول علي ارتباط أحد الالتزامين بالآخر وابتنائه عليه، كأنه قد عُقِد به، علي ما أشرنا إلي ذلك عند الكلام في مانعية الردّ من الإجازة.

أما الإجازة في المقام فهي إنما ترد بعد تمامية العقد، وعدول الأصيل قبلها لا يمنع من صدق العقد، بل هو عدول عن العقد بعد تماميته. غايته أنه قبل تحقق شرط نفوذه، وحينئذٍ لا وجه لمانعيته من تأثير الإجازة في نفوذ العقد، منه بل هي خلاف عموم الخطاب بالوفاء بالعقود، وإطلاق مثل قوله (عليه السلام)

:(فإذا أجازه فهو له جائز) (1) .

لكن الإنصاف أن المفهوم عرفاً من الأدلة - تبعاً للمناسبات الارتكازية - أن الإجازة بحكم القبول في المقام، لاشتراكهما في كون الحاجة لهما من أجل التزام أحد طرفي العقد بمضمونه القائم بهما. وذلك لأن ملاك نفوذ العقد عند العقلاء هو إلزام كل من الطرفين أو الأطراف بما التزم به بناء علي التزام الآخر ومرتبطاً بالتزامه، وذلك كما يقتضي لزوم ارتباط القبول بالإيجاب في عقد الأصيلين، فلا يتم العقد إذا ورد القبول بعد عدول الموجب عن الإيجاب، كذلك يقتضي لزوم ارتباط الإجازة في عقد الفضولي بالتزام الأصيل به، فلا يتم التعاقد بينهما إذا وردت الإجازة بعد عدول الأصيل عن التزامه، فإن عدوله وإن لم يمنع من صدق العقد والتعاقد بينه وبين الفضولي، إلا أنه يمنع من صدق التعاقد بينه وبين الأصيل الآخر الذي تصدر منه الإجازة، والذي هو موضوع النفوذ دون الأول.

وما ذكرناه من الارتكاز صالح للقرينة علي حمل الإطلاقات علي ما يناسبه لو فرض قصورها لفظاً. نظير ما ورد في القبول، ففي حديث أبان بن تغلب في زواج المتعة:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول: أتزوجك متعة علي كتاب الله... فإذا قالت: نعم، فقد رضيت، وهي امرأتك وأنت أولي الناس بها... ) (2) ولا يظن بأحد دعوي أن مقتضي إطلاقه تمامية الزواج بقولها: نعم، حتي لو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 18 من أبواب المتعة حديث: 1.

ص: 266

عدل الزوج عن الإيجاب قبل ذلك. وما ذلك إلا لأن ارتكاز عدم تمامية العقد صالح لصرف الإطلاق إلي ما يناسبه. وكذلك في المقام.

علي أنه يشيع الابتلاء بذلك في جميع المعاملات، إذ كثيراً ما يتضح للعاقد أن طرف العقد معه فضولي غاصب أو غيره، ولا ريب في أن بناءهم حينئذٍ علي أن له أن يعرض عن العقد، وأنه إذا أعرض عنه ليس للأصيل أن يجيز العقد، ويلزمه به، وليس بناؤهم علي أنه يبقي معلقاً بانتظار موقف الأصيل، وأنه يجيز أو لا يجيز، الذي قد لا يتضح مدة طويلة. خصوصاً بناء علي ما سبق من عدم مانعية الرد من تنفيذ العقد بالإجازة. وما ذلك منهم إلا لاستحكام الارتكاز المتقدم، وكفي به دليلاً في المقام صالحاً للقرينة علي تنزيل الإطلاقات علي ما يناسبه. ومن هنا يتعين البناء علي مانعية عدول الأصيل من تأثير الإجازة حتي بناء علي الكشف الحقيقي.

ودعوي: أن مقتضي ذلك اعتبار بقاء الطرف الأصيل في العقد علي التزامه، فلو سقط عن ذلك بجنون أو موت لم تنفع الإجازة في تنفيذ العقد، مع إباء المرتكزات عن ذلك، كما لا تناسبه السيرة، لعدم الاهتمام حين إجازة عقد الفضولي بالفحص عن حال الطرف الآخر. بل تقدمت الإشارة للنصوص المتضمنة أن المزوج فضولاً يرث من صاحبه بعد أن يحلف أنه ما دعاه إلي أخذ الميراث إلا الرضا بالنكاح(1). فإنها صريحة في نفوذ النكاح بالإجازة مع موت الطرف الآخر.

مدفوعة بالفرق بين عدول الإنسان عما التزم به، وبقائه علي التزامه حتي مات أو جنّ أو نحوهما، في نسبة الالتزام له عرفاً في الثاني دون الأول. وعدم الاكتفاء بذلك في الموجب لو مات قبل القبول لا يستلزم عدم الاكتفاء به في المقام، إذ ليس المدعي أن الإجازة كالقبول في كل شيء، بل المدعي أنها مثله في مانعية العدول عن الالتزام من تأثيرها ونفوذ العقد بها. وكفي بالمرتكزات معياراً في الفرق بين الموارد، وشاهداً علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 57 من أبواب المهور حديث: 2، 14 وج: 17 باب: 11 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 1، 4.

ص: 267

تنزيل الإطلاقات علي ما يناسبها. فلاحظ.

ومنها: تصرف الأصيل في موضوع العقد تصرفاً منافياً لصحة العقد. فإذا اشتري الفضولي لغيره عيناً من شخص فهل لذلك الشخص قبل حصول الإجازة التصرف في العين تصرفاً خارجياً، كلبس الثوب، أو اعتبارياً، كبيعه ووقفه ؟ وإذا زوج الفضولي من جانب المرأة تلك المرأة لرجل فهل لذلك الرجل الأصيل قبل إجازتها أن يتزوج أمها أو بنتها أو أختها أو الخامسة إن كانت هي الرابعة أو نحو ذلك ؟ وإذا زوج الفضولي من جانب الرجل امرأة من ذلك الرجل، فهي لتلك المرأة الأصيلة أن تزوج نفسها قبل إجازته من رجل آخر؟ إلي غير ذلك.

والكلام في ذلك مع قطع النظر عما سبق في الثمرة السابقة من أن للأصيل أن يرفع اليد عن عقد الفضولي قبل الإجازة، إما للبناء هناك علي أنه ليس له رفع اليد عن العقد المذكور، أو لعدم ابتناء تصرفه المفروض هنا علي رفع اليد عن ذلك العقد، إما لغفلته عن منافاة التصرف له، أو غفلته عن العقد نفسه، أو نحو ذلك.

إذا عرفت ذلك فيظهر من بعض كلماتهم عدم جواز التصرف المذكور له مطلقاً، سواء قيل بالنقل أم بالكشف. قال في القواعد في مبحث أولياء العقد في النكاح

:(ولو تولي الفضولي أحد طرفي العقد ثبت في حق المباشر تحريم المصاهرة، فإن كان زواجاً حرم عليه الخامسة والأخت والبنت والأم. إلا إذا فسخت، علي إشكال في الأم) . وحكي نحوه عن جماعة. وقال في جامع المقاصد في كتاب الغصب فيما إذا اشتري الفضولي بعين المال:

(وليس لكل من البايع والغاصب التصرف في العين، لإمكان إجازة المالك، خصوصاً علي القول بأن الإجازة كاشفة) .

وربما يوجه ذلك بأن العقد لازم من طرف الأصيل لأنه قد التزم به علي نفسه، فيترتب أثره في حقه، وحيث كان نفوذه منافياً للتصرف المذكور، تعين تحريمه وعدم سلطنته عليه.

وفيه: أن مضمون العقد قائم بالطرفين، فلما لم يثبت في حقهما معاً - لعدم

ص: 268

إجازة الآخر بعد - لا يثبت في حق المباشر وحده، كما أشار إلي ذلك في الجملة في جامع المقاصد في تعقيب كلام العلامة المتقدم. ومجرد التزامه به لا يقتضي إلزامه واقعاً بترتيب آثاره في حقه بعد أن كانت الآثار تابعة للمضمون المفروض عدم ثبوته بعد. وإلا لكان ملزماً به حتي لو لم يجز الآخر. كما لا يقتضي إلزامه به ظاهراً احتياطاً للعقد، لاحتمال صحته بالإجازة اللاحقة. لعدم الدليل علي ذلك بعد أن كان مفاد دليل نفوذ العقود نفوذها واقعاً، والمفروض قصورها عن العقد المذكور، لعدم تمامية شروطه، وغاية ما يدعي أنه بناء علي الكشف يكون تعقب الإجازة مقتضياً لصحة العقد من حينه بنحو يقتضي حرمة التصرف السابق عليها.

لكن حيث لا يعلم بتحقق الإجازة يتعين البناء علي جواز التصرف، لاستصحاب عدمها. نعم ورد وجوب الاحتياط في بعض الموارد، مثل عزل الميراث في زواج الصغيرين فضولاً، كما أشرنا إليه آنفاً. إلا أنه مختص بمورده لمخالفته للقاعدة.

لكن قال في جامع المقاصد:

(والحكم بثبوت حرمة المصاهرة إنما كان لأن العقد الواقع نقل عن حكم الحل الذي كان قبله، وإن كانت سببيته وعدم سببيته الآن غير معلومة، فلم يبق حكم للأصل كما كان) .

وهو كما تري فإن مجرد تبدل الحال بحصول العقد المذكور لا يستلزم تبدل الحكم بعد فرض الشك في سببيته، لاحتمال عدم حصول الإجازة، بل هو مقتضي الأصل.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في جواز التصرف ونفوذه ظاهراً مع الشك في الإجازة من دون فرق بين البناء علي النقل والبناء علي الكشف.

وإنما الكلام في حكم التصرف واقعاً علي تقدير حصول الإجازة، وأنها هل تكشف عن حرمة التصرف الخارجي وبطلان التصرف الاعتباري السابق عليها، أو لا، بل يحلّ التصرف المذكور وينفذ واقعاً وإن تعقبته الإجازة. ويترتب علي الأول حرمة الإقدام عليه وترتيب آثاره لو علم بتعقب الإجازة، وعلي الثاني جواز الإقدام

ص: 269

عليه ونفوذه.

لا ينبغي التأمل في حلّ التصرف واقعاً ونفوذه بناء علي النقل، لعدم ترتب مضمون العقد حين التصرف، ليمنع منه، ومقتضي عموم سلطنة الأصيل علي ماله ونفسه جواز التصرف المذكور ونفوذه.

وحينئذٍ إن ابتني التصرف المذكور من الأصيل علي رفع اليد عن عقد الفضولي، فبناء علي ما سبق منا من سلطنته علي ذلك، يتعين بطلان عقد الفضولي وعدم ترتب الأثر علي إجازة الطرف الآخر، من جهة الأعراض المذكور، لا من جهة التصرف.

أما إذا لم يتبين تصرف الأصيل علي الإعراض عن العقد - ولو للغفلة عنه حين التصرف - أو قلنا بعدم سلطنته علي الإعراض عنه، فإن كان التصرف المذكور مانعاً من ترتب مضمون العقد، تعين عدم ترتب الأثر علي الإجازة، كما لو زوجه الفضولي امرأة، فتزوج قبل إجازتها بنتها أو أختها، فإن مقتضي صحة زواج الثاني - تبعاً لسلطنة الزوج علي إيقاعه - عدم تحقق الزواج الأول بالإجازة.

وأما بناءً علي الكشف فقد يدعي أن اللازم البناء علي كشف الإجازة عن حرمة التصرف المذكور وعدم نفوذه، لكشفها عن صحة عقد الفضولي من حين وقوعه، ومع صحته يحرم التصرف واقعاً، ولا ينفذ.

لكنه لا مجال لذلك بناءً علي الكشف الانقلابي أو الحكمي لابتنائهما علي عدم ترتب مضمون العقد وآثاره قبل تحقق الإجازة. فلا تكشف الإجازة عن وقوع التصرف في غير محله، بل هو واقع في محله بعد فرض عدم ترتب مضمون العقد حينه، وبعد وقوعه في محله لا مجال للبناء علي بطلانه بالإجازة، بل يتعين البناء علي مانعيته من مضمون العقد، وعدم ترتب الأثر علي الإجازة، كما هو الحال بناء علي النقل، لاشتراكهما في صحة التصرف الواقع من الأصيل.

نعم، قد يقال: وقوع التصرف المذكور في محله قبل الإجازة إنما يمنع من ترتب مضمون العقد بعدها - كما هو مقتضي النقل - لمانعيته منه. ولا يمنع من الحكم بترتبه

ص: 270

من حين العقد قبل حصول التصرف المنافي - كما هو مقتضي الكشف الانقلابي - لعدم المانع حينئذٍ. غايته أن الحكم بترتبه من حين العقد يستلزم الحكم ببطلان التصرف المذكور بعد الحكم بصحته، ولا محذور في ذلك، بناءً علي الكشف الانقلابي، لأنهما من باب واحد.

كما يجري ذلك بناء علي الكشف الحكمي أيضاً، حيث لا مانع بعد فرض صحة التصرف حين وقوعه من الحكم بترتب أحكام حصول مضمون العقد قبل ذلك ومنها بطلان التصرف المذكور.

لكن الإنصاف إباء المرتكزات العرفية والمتشرعية لذلك جداً، إذ لازمه إمكان أن يتزوج الرجل البنت فضولاً عنها، ثم يتزوج أمها زواجاً تاماً، حتي إذا قضي وطره منها أقنع البنت بإجازة نكاحها الفضولي، فيبطل زواج أمها ويصح زواجها. ويبيع زيد داره علي عمر فضولاً، ثم يؤجرها علي بكر، حتي إذا أراد أن يضر بكراً أقنع عمراً بإجازة بيع الدار من أجل أن يحكم بملكيته لها قبل الإجارة، وببطلان الإجارة. وكما لو باع زيد عبده علي عمر فضولاً، وقبل إجازة عمرو نكل زيد بعبده المذكور، فعتق عليه، فيقنع عمراً بإجازة البيع من أجل أن يحكم بملكيته للعبد قبل التنكيل به، كي لا يكون التنكيل موجباً للعتق، لأنه من غير المالك... إلي غير ذلك مما لا يمكن البناء عليه بالنظر للمرتكزات المذكورة.

وربما يكون الوجه في ذلك أن الكشف الانقلابي والحكمي لما كانا علي خلاف القاعدة - كما يظهر مما سبق - فلابد من الاقتصار في مقتضاهما علي ما تقتضيه الأدلة، والمتيقن منه البناء علي ثبوت مضمون العقد وأحكامه من حين وقوعه بالإضافة إلي الآثار الملحوظة تبعاً، كالنماء، وصحة العقود المترتبة، واستيلاد الجارية تبعاً لملكيتها، وأمثال ذلك مما يجري عليه العرف بطبعه، دون أن يتعدي ذلك إلي نقض الأسباب التامة المؤثرة، ورفع آثارها، سواء كانت عقوداً أو إيقاعات يقوم بها من له السلطنة عليها أم غيرها من الأمور التكوينية كالتنكيل بالعبد الموجب لعتقه.

ص: 271

هذا وأما بناء علي الكشف الحقيقي فقد يتجه كشف الإجازة عن وقوع التصرف في غير محله، وأنه وقع باطلاً غير مؤثر. لكن سبق أنه لا مجال للبناء علي الكشف بالوجه المذكور، لمخالفته لظواهر الأدلة. ويزيده إشكالاً ما سبق من إباء المرتكزات بطلان التصرفات المنافية لمضمون العقد المتخللة بين العقد والإجازة. فلاحظ.

ومنها: تصرف الطرف الآخر الذي قام الفضولي مقامه قبل أن يجيز العقد تصرفاً منافياً لمضمون العقد، كما لو باع الفضولي دار زيد علي عمرو، وقبل إجازة زيد للبيع المذكور باع زيد الدار أو وآجرها علي بكر. وكما لو زوج الفضولي زيداً من هند برضاها، وقبل إجازة زيد للزواج المذكور تزوج أختها أو بنتها، ونحو ذلك.

ولا ريب في بطلان عقد الفضولي بالتصرف المذكور لو ابتني علي ردّ المتصرف للعقد، بناء علي مانعية الرد من الإجازة، كما هو المعروف بينهم. أما لو لم يبتن علي ذلك - ولو لغفلته عن العقد حين التصرف - أو لم نقل بمانعية الرد من الإجازة - كما سبق منّا - فربما يبني الكلام في ذلك علي النقل والكشف، فعلي النقل يتعين صحة التصرف الحادث، وعدم بطلانه بالإجازة، بل قد يكون مانعاً من تأثيرها، كما إذا كان التصرف المذكور مانعاً من مضمون عقد الفضولي، كتزوج بنت المزوجة فضولاً، وبيع العين المبيعة فضولاً.

نعم، إذا لم يكن مانعاً من مضمون العقد يتعين الجمع بينهما، كما إذا آجر العين المبيعة فضولاً، حيث يتعين بالإجازة نفوذ بيع العين مسلوبة المنفعة، غاية الأمر أن للمشتري بعد الإجازة الفسخ لو كان جاهلاً بسلب المنفعة وكان ذلك نقصاً فيها.

أما علي الكشف فالمتعين البناء علي نفوذ العقد بالإجازة مطلقاً، فينكشف وقوع التصرف في غير محله، ويبطل حتي إذا لم يكن مانعاً من مضمون العقد، كإجارة العين المبيعة فضولاً. لأنه ينكشف بالإجازة عدم سلطنة المجيز علي المنفعة حين إجارة العين، لخروج العين عن ملكه، فتبطل إجارته لها.

ص: 272

لكن الظاهر عدم ترتب الثمرة المذكورة. أما علي الكشف الانقلابي والحكمي فظاهر، لما تقدم في الثمرة السابقة من أن الإجازة حينئذٍ لا تكشف عن عدم وقوع التصرف في غير محله، لأن مضمون العقد لا يترتب حين وقوعه للعقد قبل حصول الإجازة، بل يترتب بالإجازة، ولا وجود له قبلها، ليكون التصرف واقعاً في غير محله، بل التصرف في محله علي كل حال حصلت الإجازة أو لم تحصل، وعليه يتعين بقاؤه بعد الإجازة، لما سبق من عدم انقلاب التصرف المذكور عن حاله، بحيث يحكم ببطلانه بعد الحكم بصحته، ولازم ذلك مانعيته من مضمون العقد، فلا يترتب الأثر علي الإجازة.

وأما علي الكشف الحقيقي - الذي سبق مخالفته لظواهر الأدلة - فلأن الإجازة الكاشفة عندهم هي الإجازة التي تصدر ممن له السلطنة علي العقد حينها، ولذا يعتبر كماله حينها، كما صرحوا به. كما لا إشكال عندهم ظاهراً في عدم ترتب الأثر علي إجازة من تجدد له السفه بعد العقد، وأنه لا مجال للبناء علي ترتب الأثر عليها بلحاظ كشفها عن تحقق مضمون العقد قبل سفهه.

وعلي ذلك فحيث كان المجيز مسلطاً علي إيقاع التصرف المذكور قبل إجازته للعقد، حتي بناء علي الكشف الحقيقي، ولو لقدرته علي عدم الإجازة، فمقتضي سلطنته صحة التصرف الذي أوقعه، ومقتضي صحته رفع سلطنته علي إجازة العقد إذا كان مضمونه منافياً له، وإذا ارتفعت سلطنته علي مضمون العقد لم تصلح إجازته للكشف عن ثبوت مضمونه حين وقوعه، لينكشف ثبوت المانع من صحة التصرف السابق عليها وبطلانه.

وبعبارة أخري: سلطنة الشخص علي التصرفات المتنافية، كزواج الأم وبنتها، تستلزم كون سبقه إلي إعمال سلطنته في أحدهما مانعاً من سلطنته علي الآخر. وفي المقام حيث فرض سبق الشخص للتصرف المنافي لمضمون عقد الفضولي تعين قصور سلطنته عن إجازته، ومع قصور سلطنته عن إجازته لا تصلح إجازته للكشف عن

ص: 273

وقوع التصرف المذكور في غير محله، ليحكم ببطلانه.

وأظهر من ذلك ما إذا كان التصرف المنافي رافعاً لموضوع السلطنة، كما لو باع ملكه الذي سبق من الفضولي بيعه عنه، إذ ببيعه له يخرج عن ملكه، فلا يكون مسلطاً عليه، ليجيز عقد بيع الفضولي السابق علي بيعه هو له. ومثله ما إذا نكل بعبده المبيع فضولاً، فعتق عليه وخرج عن سلطنته، فلا يكون له إجازة بيعه فضولاً الواقع قبل التنكيل.

نعم، لو قيل بكاشفية الإجازة مطلقاً وإن صدرت من غير السلطان اتجه عدم مانعية التصرف المذكور من الإجازة، فينكشف بها بطلانه. لكن لا يظن بأحد البناء علي ذلك. كيف ؟! ولازمه عدم اعتبار ذلك حتي بناء علي الكشف الانقلابي أو الحكمي، وعلي النقل، لوضوح أن اختلافهم في كيفية تأثير الإجازة لا يرجع إلي الاختلاف في شروطها، مع وضوح أنه علي المباني المذكورة إنما يحتاج للإجازة من أجل إعمال السلطنة في العقد، ولا معني لإعمالها ممن لا سلطنة له.

وهذا الوجه يجري علي الكشف الانقلابي والحكمي وعلي النقل أيضاً، مضافاً إلي ما سبق فيها في وجه مانعية التصرف المذكور من الإجازة.

ومنها: ما إذا لم يكن التصرف منافياً لمضمون العقد، إلا أن مضمون العقد يقتضي رفع السلطنة عليه، كتصرف الأصيل أو الطرف الذي قام مقامه الفضولي قبل الإجازة في منفعة العين التي انتقلت عنه أو نمائها، كما إذا بيعت دار زيد أو بقرته من عمرو أصالة من أحدهما وفضولاً عن الآخر، وقبل إجازة البيع ممن تعتبر إجازته منهما أجر زيد الدار أو باع لبن البقرة المتجدد من بكر.

ومحل الكلام ما إذا لم تبتن إجارة الدار أو بيع اللبن علي رفع اليد عن بيع الفضولي من قبل الأصيل أو وردّه من قبل الآخر، أو ابتني عليه وقلنا بعدم الأثر لهما وعدم مانعيتها من تنفيذ العقد بالإجازة، علي ما سبق الكلام فيه.

إذا عرفت هذا فمن الظاهر أن نقل المنفعة أو النماء المتجدد لا ينافي البيع، ول

ص: 274

يمنع منه، لاختلاف الموضوع، غاية الأمر أن ذلك لو حصل ممن انتقلت منه العين بعد انتقالها يكون فضولياً لعدم ملكيته له، بل هو ملك لمن انتقلت له العين تبعاً لها.

وحينئذٍ لا ينبغي التأمل في أنه بناء علي النقل فإجازة عقد الفضولي لا تقتضي بطلان التصرف المذكور لرجوع القول بالنقل إلي انتقال العين عن المتصرف بعد صدور التصرف عنه، فهو حين التصرف مالك لمنفعتها ونمائها، فينفذ تصرفه فيهما. وعلي ذلك يتعين اجتماع التصرف مع مضمون العقد المجاز، والبناء في المثال علي انتقال العين مسلوبة المنفعة والنماء. غاية الأمر أن يثبت الخيار لمن انتقلت له العين بالعقد إذا كان جاهلاً بالحال وكان فوتهما نقصاً في العين، نظير ما تقدم في الثمرة السابقة.

وأما بناءً علي الكشف فربما يتوهم بطلان التصرف أو توقفه علي إجازة من انتقلت له العين، لأن مقتضاه الحكم بانتقال العين له من حين العقد، فيكون هو المالك لمنفعتها ونمائها المتجدد حين التصرف، ويكون التصرف فضولياً.

لكن سبق عند الكلام في الثمرة الثانية أن ذلك إنما يتم علي الكشف الحقيقي الذي سبق ضعفه، وأما علي الكشف الانقلابي أو الحكمي فلا مجال للبناء علي ذلك، لعدم الإطلاق في دليلهما.

نعم، ربما يحكم بانتقال ثمن المنفعة والنماء في ذلك لمن انتقلت له العين، تبعاً للحكم بانتقال المثمن له. لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن انتقاله إليه من دون إجازته للمعاملة المذكورة مناف لسلطنته، وانتقاله إليه بشرط الإجازة راجع إلي الحكم بعد إجازة البيع بعدم نفوذ المعاملة علي النماء أو المنفعة بعد الحكم بنفوذها حين وقوعها، لفرض وقوعها من أهلها في محلها، وقد سبق أن دليل الكشف الانقلابي والحكمي لا ينهض بذلك. بل ذلك بنفسه كما يقتضي عدم تبدل حال المعاملة من الصحة والنفوذ إلي عدم النفوذ والحاجة إلي الإجازة، يقتضي عدم تبدل حال الثمن فيها، بحيث يحكم بكونه ملكاً للمشتري في عقد الفضولي بعد الحكم بكونه للبايع، بل لابد من البناء علي بقائه علي الحالة التي اقتضتها المعاملة.

ص: 275

(276)

(مسألة 12): لو باع باعتقاد كونه ولياً أو وكيلاً، فتبين خلافه، فإن أجاز المالك (1). صح، وإن ردّ بطل (2). ولو باع باعتقاد كونه أجنبياً، فتبين كونه ولياً أو وكيلاً صح،

---------------

هذا وربما يجعل نظير ذلك ما لو بيعت العين فضولاً عن البايع أو عن المشتري، وقبل الإجازة باعها مالكها الأول من شخص آخر. فلا يحكم بمانعية البيع الثاني من إجازة البيع الأول، بل يترتب الأثر علي إجازة البيع الأول، ويحكم بصحة البيعين معاً، ويضمن مالك العين الأول قيمتها للمجيز.

لكنه في غير محله: أولاً: للتنافي بين المعاملتين بعد اتحاد موضوعها، وهو العين الواحدة، ولذا لا يجمع بينهما لو وقعا من المالك بعقد غير فضولي، أو وقع أحدهما منه والآخر من وكيله.

وثانياً: لأن البيع الثاني موجب لخروج المبيع عن ملك مالكه، فلا يكون مسلطاً علي إجازة البيع الأول الصادر من الفضولي.

وثالثاً: لعدم الموجب لضمان القيمة. ومجرد التفويت بسبب البيع الثاني لا يقتضيه بعد كونه بحق بسبب سلطنته علي المعاملة، تبعاً لملكيته للعين حينها. ومن هنا كان المتعين البناء علي مانعية البيع الثاني من نفوذ بيع الفضولي بالإجازة.

هذا ما تيسر لنا من الكلام في الثمرة بين الكشف والنقل، ولم نحاول تعقيب كلماتهم في المقام، لاضطرابها جداً، كما يظهر مراجعتها. ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) أو من يقوم مقامه من ولي أو وكيل.

(2) بناءً علي أن ردّ عقد الفضولي من قبل الأصيل مبطل له ومانع من نفوذه بالإجازة، إذ العقد في المقام فضولي. ومجرد اعتقاد المباشر خطأ كونه ولياً أو وكيلاً لا يخرجه عن الفضولية. نعم سبق منّا المنع من مبطلية الردّ.

ص: 276

ولم يحتج للإجازة (1). ولو تبين كونه مالكاً توقفت صحة البيع علي إجازته (2).

---------------

(1) كما صرح به غير واحد، ونفي عنه الإشكال شيخنا الأعظم (قدس سره)، حتي بناء علي بطلان عقد الفضولي. والوجه فيه: أن سلطنته واقعاً بسبب ولايته أو وكالته تخرجه عن الفضولية، وتوجب دخوله في عمومات النفوذ من حين وقوعه، بلا حاجة للإجازة.

ودعوي: أنه لابد في نفوذ تصرف السلطان من قصده إعمال سلطنته، وهو غير حاصل في المقام بعد فرض غفلته عن الولاية أو الوكالة التي هي منشأ سلطنته. ممنوعة بل مقتضي إطلاق أدلة السلطنة نفوذ تصرف صاحبها، وبه يتحقق إعمال السلطنة وإن لم يعلم صاحب السلطنة بمنشئها.

ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من القاضي، حيث ذكر أن العبد المأذون في التجارة إذا جهل الإذن لم يكن مأذوناً، ولا ينفذ شيء مما يفعله. وقد يناسبه ما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) عند الاستدلال علي صحة عقد الفضولي بالإجازة بنصوص تحليل المناكح والمساكن للشيعة من أن إذن المالك في إيقاع المعاملة لا يخرجها عن الفضولية إلا مع وصولها لموقع المعاملة، لعدم انتساب المعاملة للآذن إلا بوصول الإذن، لكنه هنا أصر علي صحة المعاملة، لصدورها من أهلها. وهو في محله، كما ذكرنا، وإن لم يتضح لنا فعلاً الفرق بينه وبين ما سبق منه.

نعم، لابد من قيامه بوظيفة الولي والموكل بمراعاة مصلحة المولي عليه والوكيل علي النحو المعتبر شرعاً أو في عقد الوكالة. فلو لم يكن كذلك تعين عدم النفوذ، لا للجهل بالولاية والوكالة، بل لقصورهما.

(2) أما أصل صحته في الجملة وعدم بطلانه رأساً فهو المشهور، كما قيل. وقد يظهر من جامع المقاصد المفروغية عنه، حيث تعرض الكلام في الحاجة للإجازة وعدمها من دون أن يشير لاحتمال البطلان. والوجه فيه: عدم النقص في إنشاء العقد

ص: 277

ولا في مضمونه، فتشمله عمومات النفوذ والصحة.

لكن عن العلامة في نهاية الأحكام والشهيد في قواعده احتمال البطلان، وعن فخر الدين في الإيضاح تعليله له: تارة: بأنه لم يقصد نقل المال عن نفسه، بل عمن يعتقد ملكه له. وأخري: بأنه وإن كان منجزاً في الصورة، إلا أنه معلق لبّاً علي تحقق سبب ملكه له. وثالثة: بأنه كالعابث عند مباشرة العقد، لأنه يعتقد أن المبيع لغيره.

والكل كما تري!. لاندفاع الأول بأن المقصود بالأصل البيع المبتني علي المعاوضة بين المالين وقصد خصوصية من له المعاملة أمر خارج عن ذلك تابع له بسبب الخطأ في تشخيص المالك، فيكون لاغياً، نظير ما سبق في بيع الفضولي مال غيره له.

والثاني بأن فرض قصد البيع للغير - كما هو مورد كلامهم، ويقتضيه الوجه الأول - لا يناسب التعليق المدعي. بل لا تعليق حتي لو فرض قصد البيع لنفسه، لأنه إن ابتني علي الخروج عن مقتضي المعاوضة فالتعليق مناف له. وإن ابتني علي قصد المعاوضة فهو موقوف علي كونه في مقام ترتيب آثار ملك نفسه علي ملك الغير تشريعاً أو تعدياً - كما سبق عند الكلام في بيع الفضولي لنفسه - وهو يغني عن التعليق علي تحقق سبب الملك. غاية الأمر أنه قد يلتفت إلي أن ما قصده من ملك المبيع أو ترتيب آثاره معلق شرعاً علي تحقق سبب ملكيته للمبيع، وهو أمر آخر غير قصده التعليق لباً في البيع الذي ينشئه.

والثالث بأنه جار في جميع موارد عقد الفضولي، وليس هو محذوراً، بل المحذور كونه عابثاً حقيقة غير قاصد للمعاملة، ولا مجال للبناء علي ذلك هنا وفي جميع مواد عقد الفضولي. ومن هنا لا ينبغي التأمل في أصل صحة العقد وعدم بطلانه رأساً.

وهل يتوقف نفوذه علي الإجازة من المالك - الذي أوقع العقد - أولاً؟ ظاهر القواعد وعن الشهيد وغيره نفوذه رأساً وعدم توقفه علي الإجازة، لوقوع العقد من أهله، وهو المالك. قال سيدنا المصنف:

(لأن الاحتياج إلي الإجازة إما لتحقيق

ص: 278

إضافة العقد إلي المالك، أو الرضا بمضمون العقد. وكلاهما حاصل بصدور العقد من المالك) .

وذهب غير واحد لتوقفه علي الإجازة. قال في جامع المقاصد

:(لأنه لم يقصد البيع الناقل للملك الآن، بل مع إجازة المالك. إلا أن يقال: قصده إلي أصل البيع كاف) . وكأن مراده بما ذكره أولاً أنه لم يقصد البيع النافذ بنفسه، بل البيع الذي ينفذ بالإجازة فنفوذه بنفسه لا يتناسب مع قصده.

لكنه يندفع بأن توقف نفوذ البيع علي الإجازة وعدمه لا يرجع إلي اختلاف حقيقة البيع المقصود، نظير اختلاف البيع والهبة، ليمتنع حصول إحدي الخصوصيتين إلا بقصدها، بل إلي اختلاف الحكم الشرعي - تبعاً للخصوصيات المقارنة - مع وحدة حقيقية البيع، فالخطأ في الحكم الشرعي لا دخل له في تحقق القصد إلي البيع النافذ. نظير ما إذا باع المكيل كيلاً مع الخطأ في اعتقاد أنه موزون، حيث لا إشكال في صحة البيع حينئذٍ. وكأن هذا مراده مما ذكره أخيراً.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من أن مقتضي قاعدة السلطنة توقف النفوذ علي الإجازة، لعدم قصده حين العقد بيع مال نفسه، فنفوذ البيع عليه مناف لسلطنته.

إذ فيه: أنه يكفي في إعمال السلطنة الإقدام علي ما هو مسلط عليه، وهو حاصل في المقام. ومجرد الجهل بتحقق موضوع السلطنة لا ينافي إعمالها، كما لو باع ملكه بظن عدم البلوغ فبان بالغاً، أو باع ملك غيره بظن عدم ولايته عليه فبان ولياً.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الجهل بكون المال له مانع من وقوع الفعل علي ماله باختياره، وذلك خلاف قاعدة السلطنة علي المال. ففيه: أن مفاد قاعدة السلطنة تحديد من له السلطنة والقدرة علي التصرف، وهو حاصل بتحقق الملكية واقعاً. وإعمال السلطنة إنما يكون بالإقدام علي العمل من قبل السلطان، وهو حاصل في المقام - كما ذكرنا - ولا أثر للعلم بكون المال له والجهل به في ذلك.

ص: 279

وكذا الحال فيما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) من قصور عموم وجوب الوفاء بالعقد عن العقد في المقام من دون إجازة، لأن الخطاب بالوفاء موجه إلي من ينتسب العقد له بما أنه مالك، وهو غير حاصل في المقام.

إذ فيه - مع الغض عما سبق في أدلة صحة عقد الفضولي بالإجازة من الإشكال في أخذ انتساب العقد للشخص قيداً في الخطاب بالوفاء به -: أن انتساب العقد للمالك في المقام قهري بسبب صدوره منه، ولا دخل لعلمه بكونه مالكاً عدمه في انتسابه له. ولاسيما وأن عموم الوفاء بالعقود لا يختص بالمالك. غاية الأمر أن يدعي أخذ العلم بأنه مالك قيداً في دليل النفوذ، وهو مدفوع بالإطلاق.

نعم، قد يقال: لا يكفي في خطاب الإنسان بالوفاء بالعقد التزامه به، بل لابد من كون التزامه به علي نفسه، بحيث يتضمن كلفة عليه، ويكون مورداً للمسؤولية بالإضافة إليه، كما هو الحال في سائر موارد الخطاب بالوفاء، كالوفاء بالوعد واليمين والنذر. ومن الظاهر أن بيع الإنسان المال باعتقاد أنه لغيره، وأنه فضولي في بيعه، لا يتضمن الالتزام ببيعه علي نفسه، بل الالتزام بأمر يتعلق بالغير. ومن ثم يشكل عموم الخطاب بالوفاء له وإن كان مالكاً له في الواقع. وإنما يشمله بعد العلم بأنه ملكه ثم إجازته، لتضمن الإجازة الالتزام به علي نفسه.

هذا مضافاً إلي ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) - وتبعه عليه غير واحد - من انصراف أدلة اعتبار الرضا والإذن وطيب النفس في تصرف الإنسان في ماله - تبعاً للمناسبات الارتكازية - إلي الرضا وطيب النفس بالتصرف بماله بما أنه ماله وبعد الالتفات لذلك، دون الرضا بالتصرف به بذاته ولو مع الغفلة عن كونه مالاً له، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن منشأ اعتبار الرضا وطيب النفس هو مراعاة حرمة المالك والرفق به، وذلك يقتضي عدم نفوذ المعاملة علي ماله إلا بإقدامه علي ذلك ورضاه به، ولا يكفي رضاه بالتصرف بالمال من دون علم بأنه ماله.

ولذا كان المرتكز عدم حلّ التصرف الخارجي بالمال تكليفاً برضا صاحبه إذا لم

ص: 280

يكن عالماً بأنه ماله، كما لو كان زيداً وكيلاً علي مال عمرو، فأذن في التصرف في ماله بتخيل أنه مال عمرو.

والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل تبعاً للمرتكزات في عدم نفوذ البيع ونحوه من التصرفات في المال الصادرة من المالك باعتقاد أنه غير مالك، وأنه يلتزم بها في حق غيره الذي يعتقد أنه هو المالك. بل لابد في نفوذها من إجازته لها بعد التفاته إلي كونه مالكاً، بحيث يكون التزامه بها التزاماً علي نفسه، ورضاه بها رضاً بالتصرف في ماله.

هذا وفي الجواهر بعد أن أشار لبعض ما ذكرنا قال:

(والمتجه فيه الوقوف علي الإجازة - كما سمعته من الكركي - أو إثبات الخيار. إلا أني لم أجد من احتمله) . لكن قوي المحقق التستري في المقابس صحة البيع حين وقوعه مع ثبوت الخيار للبايع، لقاعدة نفي الضرر. وكأنه لدعوي: أن انتقال ماله عن ملكه من دون أن يقصد ذلك ويرضي به ضرر عليه.

وفيه: أولاً: أن ثبوت الخيار فرع صحة البيع، ولا مجال لصحته بعد ما سبق من قصور أدلة اعتبار الرضا في نفوذ المعاملة عن الرضا الحاصل في المقام. بل لا يبعد قصور عموم الخطاب بالوفاء بالعقد عن العقد المذكور قبل الإجازة، كما سبق.

وثانياً: أن انتقال مال الشخص عن ملكه إنما يكون ضرراً عليه إذا كان مجانياً بلا عوض، أو بعوض دونه في المالية، أما إذا كان بعوض مساو له في المالية، أو زائد عليه، فلا ضرر. ومجرد كونه بدون رضاً منه لا يجعله ضررياً، فإن الرضا وعدمه لا دخل له في تحقق الضرر وعدمه. غاية الأمر أن قد يكون غير مرغوب فيه، وليس هو بنفسه معياراً في الضرر.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن هذا الضرر هو المثبت لتوقف نفوذ عقد الفضولي علي الإجازة، فلا وجه لأن يقتضي هنا ثبوت الخيار مع نفوذ العقد في نفسه. ففيه: أنه لو تم كون هذا ضرراً فهو وإن كان مشتركاً بين جميع موارد عقد الفضولي ومنها المقام، إلا أن التوقف علي الإجازة في غير المقام من موارد عقد الفضولي ليس

ص: 281

لأجل هذا الضرر بل لعدم تحقق الرضا من المالك أصلاً. أما هنا فحيث تحقق الرضا من المالك بالبيع وإن لم يعلم بأن المبيع ملك له، فالرضا عند هذا القائل كاف في نفوذ البيع، ويكون هذا الضرر مانعاً من لزومه وفي ثبوت هذا الخيار لا غير، كما يثبت في موارد الغبن مع صحة البيع في نفسه، لتحقق الرضا به. فالعمدة في الجواب عن الاستدلال المذكور ما ذكرنا. والمتعين البناء علي عدم نفوذ البيع رأساً، لما سبق.

ثم إنه لا يفرق في ذلك بين أن يعتقد كونه أجنبياً فضولياً لا سلطنة له علي المال، وأن يعتمد كونه مسلطاً عليه بولاية أو وكالة أو غيرهما، لعدم الفرق بينهما في الجهة المانعة من النفوذ، والقاضية بتوقفه علي الإجازة.

نعم، يختص ذلك بما إذا أوقع التصرف عن الغير، بانتظار إجازته، أو بدون ذلك تسامحاً في البناء علي نفوذ تصرفه عليه. أما إذا أوقعه عن نفسه، لبنائه علي كونه مالكاً تشريعاً، أو علي ترتيب آثار الملك عليه عصياناً وتعدياً علي المالك - كما في الغاصب

فالظاهر نفوذ التصرف من دون حاجة للإجازة، كما ذكره في الجواهر وذهب إليه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره، وحكي عن المحقق التستري (قدس سره) في مقابس الأنوار.

وذلك لتحقق الالتزام به علي نفسه، فيشمله عموم الخطاب بالوفاء بالعقود بلا إشكال، ولتحقق الرضا به بما أنه مالك، لأنه في مقام ترتيب آثار الملك علي المال.

خلافاً لشيخنا الأعظم (قدس سره)، فاعتبر الإجازة، وعليه جري سيدنا المصنف (قدس سره). قال:

(وقد يقال بعدم الحاجة إلي الإجازة، لأن قصد نفسه مستلزم لبنائه علي كون المال لنفسه، فرضاه بالبيع رضا ببيع مال نفسه. وحينئذٍ لا مقتضي للإجازة. وفيه - مع منع الاستلزام المذكور - أن المعتبر رضاه ببيع مال نفسه حقيقة، لا بناء وادعاءً. فلاحظ) .

وهو كما تري! لأن عدم استلزام قصد البيع لنفسه البناء علي كونه مالكاً إنما يكون إذا قصد الخروج عن حقيقة المعاوضة، وهو خارج عن محل الكلام، كما أشرنا إليه في أول الكلام في بيع الغاصب لنفسه، وهو موجب لبطلان المعاملة، كما سبق في

ص: 282

(283)

(مسألة 13): لو باع مال غيره فضولاً، ثم ملكه قبل إجازة المالك، ففي صحته بلا حاجة إلي الإجازة (1)،

---------------

أوائل الكلام في حقيقة البيع.

وأما أن المعتبر رضاه ببيع مال نفسه حقيقة لا أدعاء، فهو إنما يتم في الادعاء المساوق للتطبيق التخيلي المجازي، نظير ادعاء الإنسان أن مال صديقه مال له، دون الادعاء فيما نحن فيه الراجع للبناء علي ترتيب الآثار الحقيقية لما له علي مال غيره، تجاهلاً للحكم الشرعي، فيبذله بملاك بذله لماله، فإنه حيث لم يكن اعتبار العلم بكون المال له في الرضا ببيعه مستنداً لدليل خاص، لينظر في شموله للرضا في محل الكلام، بل لانصراف دليل اعتبار الرضا عن الرضا مع الجهل بكون المال له، بضميمة المناسبات الارتكازية المشار إليها آنفاً، فالمناسبات الارتكازية لا تقتضي الانصراف عن الرضا في محل الكلام.

ولذا لا يظن بأحد التوقف في حلّ المال المسروق لو أذن السارق في التصرف فيه، وعلم المأذون أن المال ملك للسارق شرعاً، وأنه قد استرجعه ممن غصبه منه، وإن تخيل الآذن أنه ملك شرعاً لمن سرقه منه. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا.

(1) كما قد ينسب للشيخ (قدس سره)، حيث ذكر في المبسوط أنه إذا باع النصاب الزكوي قبل إخراج الزكاة منه صح البيع فيما عدا مقدار الزكاة، فإن أدّي بعد ذلك الزكاة من مال آخر صح البيع في الكل من دون أن يعتبر الإجازة، مع أنه لم يملك مقدار الزكاة من النصاب حين البيع، بل بعد أداء الزكاة، نظير ما نحن فيه.

اللهم إلا أن يكون ذلك لخصوصية في الزكاة، إما لأن تعلقها بالعين ليس بنحو الشركة، بل هي حق ثابت في العين مانع من نفوذ التصرف، فإذا أخرج نفذ التصرف، كما لو باع الراهن العين المرهونة، حيث قيل بنفوذ البيع بمجرد فكّ الرهن. أو للنص الخاص، وهو صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: (قلت لأبي عبد الله: رجل لم يزك

ص: 283

إبله أو شاته عامين، فباعها، علي من اشتراها أن يزكيها لما مضي. قال: نعم تؤخذ منه زكاتها، ويتبع بها البايع. أو يؤدي زكاتها البايع) (1) .

نعم، قد يلوح من كلام الشهيد الثاني في كتاب الهبة من المسالك الميل لنفوذ البيع بمجرد ملك العاقد للمبيع من دون حاجة للإجازة، وعن الفخر في الإيضاح ترجيحه بناء علي صحة عقد الفضولي.

وقد يستدل له بالعمومات. قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب ذلك: (إن مقتضي عموم وجوب الوفاء بالعقود والشروط علي كل عاقد وشارط هو اللزوم علي البايع بمجرد انتقال المال إليه، وإن كان قبل ذلك أجنبياً لا حكم لوفائه ونقضه).

وفيه: أن قاعدة السلطنة بضميمة المناسبات الارتكازية قاضية بأن الخطاب بالوفاء بالعقد وسائر أدلة نفوذ التصرفات الاعتبارية إنما هو فرع سلطنة المتصرف علي ذلك التصرف، وأن مرجعها إلي نفوذ تصرف من له السلطنة في موضوع سلطنته، لكونه مالكاً أو ولياً علي المالك أو نحو ذلك. وذلك إما بإيقاع العقد ممن له السلطنة عليه، أو بتنفيذه له لو أوقعه من لا سلطنة له عليه. ولذا لا إشكال في عدم نفوذ مثل عقد الصبي لو بلغ وصار قابلاً لأن يخاطب بالوفاء إلا أن يعمل سلطنته بتنفيذ العقد بعد بلوغه. وفي المقام حيث صدر العقد ممن لا سلطنة له، لعدم كونه مالكاً ولا ولياً فلا مجال لخطابه بالوفاء به بمجرد تجدد السلطنة له من دون إعمال لها.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لقياس ما نحن فيه بصحة عقد الفضولي بالإجازة، فإنهما وإن اشتركا في أن كلاً منهما قد وقع فاقداً لشرط قد حصل بعد ذلك، إلا أن إجازة عقد الفضولي من قبل المالك ترجع إلي إعمال سلطنة من له السلطنة في العقد. أما ملكية العاقد في المقام فهي لا ترجع إلي إعمال سلطنة من له السلطنة في العقد، بل لم يحصل إلا موضوع السلطنة - وهو الملكية - من دون إعمال لها.

هذا كله إذا أوقع العقد عن نفسه، لبنائه علي كونه مالكاً جهلاً أو تشريعاً، أو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب زكاة الأنعام حديث: 1.

ص: 284

أو توقفه علي الإجازة (1). أو بطلانه رأساً (2). وجوه أقواها الأخير (3). نعم

---------------

علي ترتيبه آثار مالكيته تمرداً وعصياناً، بحيث يكون قد التزم بالعقد علي نفسه، أما إذا أوقع العقد عن المالك فضولاً أو لتخيل وكالته عنه أو ولايته عليه، فالنفوذ أشكل، لما ذكرناه في المسألة السابقة من قوة احتمال اختصاص الخطاب بالوفاء بالعقد بمن يلتزم به علي نفسه، بحيث يكون مضمونه كلفة عليه، ومورداً لمسؤوليته. فراجع. وكأن ما في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) راجع إلي ما ذكرنا في الجملة. فلاحظه.

ثم إن الكلام في شمول عمومات النفوذ للعقد بمجرد ملكية البايع للمبيع من دون حاجة للإجازة فرع إمكان نفوذ العقد في نفسه، أما لو قيل بامتناع نفوذه حتي بالإجازة - علي ما يأتي الكلام فيه - فالأمر أظهر.

(1) كما في المعتبر والدروس وحكي عن الصيمري، وقواه شيخنا الأعظم (قدس سره) وبعض من تأخر عنه. مستدلاً عليه بالأصل والعمومات. لكن المراد بالأصل إن كان هو الأصل العملي، فمن المعلوم أنه يقتضي في المعاملات البطلان لاستصحاب عدم ترتب الأثر. وإن كان هو أصالة عدم المانع المخرج عن مقتضي العمومات رجع للاستدلال بالعمومات، الذي ذكره ثانياً، ويظهر الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالي.

(2) كما ذكره المحقق التستري، وأطال في الاستدلال عليه. وهو الذي يظهر من الجواهر وعن حاشية الإرشاد للمحقق الثاني. وجري عليه جماعة ممن تأخر عن شيخنا الأعظم (قدس سره).

(3) لا كلام في البطلان إذا كان ملكه للمال بتصرف من المالك الأول بنحو يبتني علي ردّ عقد الفضولي، وقلنا بأن الرد مانع من صحة العقد بالإجازة. وإنما الكلام في غير ذلك، إما للبناء علي أن ردّ عقد الفضولي لا يمنع من نفوذه بالإجازة - كما سبق منّا - أو لعدم كون الانتقال للبايع بتصرف من المالك الأول، كما لو أخذ الفضولي المبيع مقاصة، أو كان بتصرف منه، لكن لا بنية الرد لعقد الفضولي، كما لو

ص: 285

باعه منه أو وهبة له غفلة عن وقوع العقد منه فضولاً، أو عن التفات منه له من دون قصد لردّه، ولو من أجل أن يجعل له السلطنة علي إجازته، أو غير ذلك. وقد يستدل علي البطلان حينئذٍ بوجوه:

الأول: أنه لا يراد إجازة البيع علي الوجه الأول الذي وقع عليه، وهو البيع لمالك العين حين إيقاع العقد، كما هو مقتضي المعاوضة، بل علي أن يكون البيع للمالك الثاني، وذلك خلاف مقتضي الإجازة، لأن إجازة العقد تنفيذه علي وجهه، لا علي وجه آخر.

ودعوي: أن خصوصية من له البيع غير مأخوذة فيه بنحو تكون مقومة له، ولذا سبق إمكان إجازة ببيع الغاصب لنفسه، علي أن يقع البيع للمالك الحقيقي.

مدفوعة بأن الذي لا يؤخذ في البيع ولا يكون مقوماً له هو من له البيع بعنوانه، فلا يضر الخطأ في تشخيصه، كما سبق في بيع الغاصب لنفسه، أما من له البيع بواقعه، وهو طرف المعاوضة الحقيقي فهو مقوم للبيع، لأن مفاد البيع لما كان هو المعاوضة، فقوام المعاوضة انتقال العوض إلي ملك من خرج عنه المعوض، وحيث كان مالك المعوض حين العقد في المقام هو المالك الأول، فمقتضي العقد هو البيع له بنحو ينتقل العوض له، والمفروض أنه لا يجاز كذلك، بل بنحو يكون للمالك الثاني، وينتقل العوض له، وهو خروج عن مقتضي العقد، كما ذكرنا.

الثاني: أن الإجازة حيث كانت - علي التحقيق - سبباً للحكم بصحة العقد وترتب مضمونه من حين وقوعه - كما هو المراد من الكشف الانقلابي - فلا مجال لذلك في المقام إذ الحكم بصحة البيع المذكور من حين وقوعه مستلزم للحكم بعدم تملك الفضولي المجيز للمبيع، المستلزم لعدم ترتب الأثر علي إجازته للبيع، وما يلزم من وجوده عدمه محال. كما أنه مستلزم للحكم بملكية المشتري لنماء المبيع المتخلل بين وقوع العقد وانتقال المبيع له قهراً علي مالكه الأول، وهو - مع منافاته لقاعدة السلطنة في حقه - لا يظن بأحد البناء عليه.

ص: 286

وقد دفع ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بأنه إنما يتوجه لو التزم في المقام بكشف الإجازة عن صحة بيع الفضولي من حين وقوعه، ولكن حيث لا مجال لذلك لما سبق، فالمتعين الالتزام يكشفها بالمقدار الممكن مع صحة البيع، وهو الصحة من حين ملك المجيز.

وبعبارة أخري: بعد أن كان مقتضي العمومات في المقام صحة البيع بالإجازة، لعدم الدليل علي اعتبار كون المجيز هو المالك حين العقد، فالمتعين الاقتصار في الكشف علي ما يجتمع مع صحة البيع.

وفيه: أن ذلك إنما يتجه لو كان الكشف حكماً زائداً علي الحكم بنفوذ العقد بالإجازة، حيث يتعين حينئذٍ البناء في المقام علي نفوذ العقد بالإجازة عملاً بعموم دليله، والاقتصار في الكشف علي المقدار الممكن، لتعذر العمل بعموم دليله. ومن المعلوم أنه ليس كذلك، فإن الكشف من شؤون نفوذ العقد بالإجازة. أما بناء علي أن مفاد الإجازة تنفيذ العقد من حينه - كما سبق من بعضهم - فظاهر، إذ مع امتناع الإجازة بالنحو المذكور لا دليل علي تشريع الإجازة بوجه آخر. وأما بناء علي أن مفادها تنفيذ العقد لا غير - كما سبق - فلأن الحكم بالكشف ليس حكماً تعبدياً في مقابل الحكم بنفوذ العقد، نظير الحكم بنجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه، بل هو مبتن علي فهم الكشف من دليل النفوذ ارتكازاً بضميمة بناء العقلاء وظهور بعض الأدلة في المفروغية عنه، فإذا امتنع الكشف بالنحو المذكور في المقام لم يبق مجال للبناء علي النفوذ بوجه آخر.

الثالث: ما ورد في نكاح العبد بغير إذن مولاه، كصحيح معاوية بن وهب: (جاء رجل إلي أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: أني كنت مملوكاً لقوم، وأني تزوجت امرأة حرة بغير إذن موالي، ثم أعتقوني بعد ذلك، فأجدد نكاحي إياها حين أعتقت ؟ فقال له: أكانوا علموا انك تزوجت امرأة وأنت مملوك لهم ؟ فقال: نعم، وسكتوا عني، ولم يغيروا علي. قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم إقرار منهم. اثبت علي نكاحك

ص: 287

الأول) (1) . ونحوه غيره. فإنه كالصريح في أنه لو لم يظهر من مواليه إقرار نكاحه وإمضائه لاحتاج إلي تجديد النكاح، ولو يكفِ رضاه هو بعد تحرره وسلطنته علي نفسه بالنكاح الأول في نفوذه والاكتفاء به، مع أن العتق لم يوجب إلا تبدل السلطنة، وليس هو كتبدل مالك المبيع في المقام موجباً أيضاً لتبدل موضوع مضمون العقد، وهو من له البيع. ومن ثم يكون المقام أولي بعدم النفوذ بإجازة المالك الثاني من مورد هذه النصوص.

الرابع: النصوص المتضمنة عدم جواز بيع ما لم يملك، وأنه لابد من إيجاب بيعه بعد ملكه، كصحيح يحيي بن الحجاج: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب وهذه الدابة وبعنيها أربحك فيها كذا وكذا. قال: لا بأس بذلك. اشترها، ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها)(2) وغيره، فإن المنهي عنه قبل أن يشتري الشيء وإن كان هو بيعه بنحو ملزم، بحيث يملك البايع الثمن، يملك المشتري عليه المبيع، فيلزمه أن يشتريه ويسلمه له، وهو غير ما نحن فيه من بيعه فضولاً، بحيث لا يلزم ولا يترتب عليه الأثر إلا بعد أن يملك البايع المبيع ويجيز البيع، إلا أنه لا يبعد أن يستفاد من مجموع النصوص الكثيرة الواردة في المقام انحصار الوجه في بيع ما لم يملك ببيعه بعد ملكه.

لظهور أنه لا فرق في ترتب الغرض للطرفين بين البيع الملزم ابتداء، والبيع فضولاً بنحو يترتب عليه الإجازة، بعد أن كان البايع مهتماً بشراء المبيع وتسليمه جرياً علي مقتضي البيع، فالاقتصار في بيان الوجه الصحيح علي إيقاع البيع بعد الملك ظاهر أو مشعر بعدم صحة البيع قبل الملك ولو فضولاً بانتظار تحقق الإجازة بعد المالك. فهي إن لم تكن دليلاً علي المنع في المقام تصلح لتأييد الوجوه السابقة الكافية في الدليل علي المنع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود حديث: 13.

ص: 288

وهناك بعض الوجوه الأخري ربما تساق دليلاً للمنع. لكنها لا تخلو عن إشكال أو ترجع لما سبق. فلا موجب لإطالة الكلام فيها، وفيما سبق كفاية. ومن هنا يتعين البناء علي بطلان البيع، وعدم صحته حتي بإجازة المالك الجديد.

بقي في المقام أمور:

الأول: أنه لا فرق فيما ذكرنا بين أن يبيع الفضولي لنفسه، لتخيل أنه المالك، أو عدواناً منه كالغاصب، وأن يبيع للمالك فضولاً أو لتخيل ولايته علي المالك أو وكالته عنه. لجريان جميع ما تقدم فيه، عدا الوجه الرابع، فإن النصوص المتقدمة ظاهرة في بيع غير المالك لنفسه. لكن في بقية الوجوه كفاية.

الثاني: إذا انتقل المبيع في المقام لغير البايع، كما لو باعه المالك من شخص ثالث، فالظاهر هو جريان جميع ما سبق فيه عدا القول بصحة البيع غير حاجة للإجازة من المالك الجديد، فإنه لا مجال لاحتماله بعد عدم وقوع البيع ممن تجدد له الملك، ليتوهم أن تجدد الملك له موجب لإلزامه بالعقد الواقع منه.

الثالث: أنه قد يتبدل من له السلطنة علي الإجازة من دون أن يتبدل من له البيع، كما إذا كان المالك قاصراً حين العقد، فكمل وصار هو المسلط علي الإجازة، أو كان كاملاً فقصر بجنون أو نحوه، فاحتيج لإجازة وليه بدلاً من إجازته، أو تبدل ولي المالك القاصر قبل إجازة العقد.

والظاهر صحة العقد بإجازة اللاحق، عملاً بعمومات النفوذ من دون مانع، لعدم جريان شيء من الوجوه السابقة حتي الوجه الثالث، لأن السلطنتين المتبادلتين في مورد نصوصه أصليتان تابعتان لموضوعين مستقلين، فإن السلطان حين العقد هو مالك الزوج، بملاك ملكيته، و السلطان بعد عتق الزوج نفسه، بملاك سلطنته علي نفسه، فيكون نفوذ العقد من حين وقوعه منافياً لسلطنة الأول وتعدياً عليه، بخلاف ما نحن فيه، فإن إحدي السلطنتين فيه أو كليتهما فرعية طولية، مع وحدة السلطنة الأصلية، فلا يكون نفوذ العقد من حين وقوعه منافياً لسلطنة من له السلطنة بالأصل،

ص: 289

ولا تعدياً عليه ولا علي غيره. فلا مخرج فيه عن عمومات النفوذ.

الرابع: إذا كان البيع منافياً لحق الغير - كالمرتهن - فلا إشكال في عدم نفوذه إلا بإجازته، فلو سقط الحق - كما لو فك الرهن - قبل الإجازة فهل ينفذ البيع رأساً، أو يبطل كذلك، أو يحتاج إلي الإجازة من صاحب الحق السابق - كالمرتهن - أو من البايع ؟ وجوه. قد يرجح الأول عملا بعموم أدلة النفوذ، بدعوي: أنها المرجع بعد ارتفاع المانع.

لكنه يشكل بما أشرنا إليه في أول المسألة من أن مقتضي الجمع بين عمومات النفوذ ودليل السلطنة اعتبار سلطنة المتصرف في موضوع النفوذ، وحيث لم يكن البايع تام السلطنة تعين قصور عمومات النفوذ عن بيعه. واستقلاله بالسلطنة بعد سقوط الحق لا ينفع بعد وقوع البيع حال قصور سلطنته، وعدم إعمال سلطنته حال استقلاله بها.

وأما توقف نفوذه علي إجازة صاحب الحق السابق - كالمرتهن - فلا مجال لاحتماله بعد ارتفاع حقه وصيرورته أجنبياً عن موضوع المعاملة.

ومن ثم قد يدعي توقف صحة البيع علي إجازة البايع نفسه بعد استقلاله بالسلطنة بسبب سقوط الحق.

لكن إجازته إن كانت كاشفة عن صحة العقد من حين سقوط الحق، فقد سبق في الوجه الثاني عدم الدليل علي مشروعية الإجازة بالنحو المذكور. وإن كانت كاشفة عن صحة العقد من حين وقوعه فهو قد ينافي الحق السابق. ولاسيما بلحاظ النصوص المشار إليها في الوجه الثالث، حيث يستفاد منها - كما سبق - لزوم تجديد العقد إذا لم يجزه صاحب السلطنة السابق قبل سقوط سلطنته، وعدم الاكتفاء في نفوذ العقد السابق باستقلال موقعه بالسلطنة، ولا بإجازته له بعد ذلك.

وهو المناسب لإطلاق الأدلة في نظيره، وهو زواج بنت الأخ أو الأخت بغير إذن عمتها أو خالتها، بناء علي ما هو الظاهر من كفاية رضا العمة أو الخالة لاحقاً،

ص: 290

(291)

لو ملكه البايع بالإرث ففي الصحة مع الإجازة إشكال (1). والأحوط البطلان.

---------------

فإن مقتضاه بطلان العقد لو ماتت العمة أو الخالة قبل الرضا بالعقد، وعدم الاكتفاء في صحته باستقلال الزوجين حينئذٍ بالسلطنة علي مضمون العقد، ولا بإجازتهما له بعد ذلك. ومن ثم يقوي بطلان العقد في المقام.

وأما ما في كتاب الرهن من الجواهر من استنكار ذلك، لأن تصرف الراهن قبل فك الرهن غير محكوم بالبطلان بل هو قابل للنفوذ بالإجازة، فكيف محكوماً بالبطلان بعد فك الرهن. مع أن مقتضي إطلاق الأدلة صحته.

ففيه: أن بطلانه ليس بمعني خروجه عن قابلية النفوذ بالإجازة - كالبيع الربوي مثلاً - ليكون أسوأ حالاً مما كان عليه، بل بمعني أنه لا مجال لصحته، لتعذر الإجازة التي ينحصر تصحيحه بها، مع بقائه علي ما هو عليه. وأما إطلاق أدلة الصحة فلا مجال له بعد ما سبق.

الخامس: لو رجع المبيع إلي مالكه الأول الذي كان حين العقد - بفسخ العقد الناقل أو بعقد جديد أو غيرهما - فربما يقال بإمكان إجازته للعقد الفضولي، عملاً بعمومات النفوذ وعدم جريان أكثر الوجوه السابقة للمنع. لكن قد يشكل الأمر بلحاظ الوجه الثاني، فإن الكشف التام لا مجال له، لاستلزامه عدم صحة التصرف المتخلل بين عقد الفضولي وإجازته، والكشف الناقص لا دليل علي مشروعية الإجازة معه، نظير ما سبق. فلاحظ.

(1) فقد وجه بعض الأعاظم (قدس سره) تصحيح العقد بإجازة الوارث بأن الوارث يقوم مقام المورث في ملكيته للعين، فملكيته بقاء لملكيته وإن تبدل شخص المالك. فكما يمكن للمورث لو كان باقياً أن يجيز العقد من حين وقوعه، بحيث يحكم بخروج المبيع عن ملكه حين حصول العقد مع أنه قبل الإجازة محكوم ببقائه في ملكه. كذلك يمكن للوارث أن يجيز العقد من حينه، فيحكم بخروج المبيع عن ملك المورث من حين حصول العقد ودخول الثمن بدله في ملكه وانتقاله منه للوارث، مع أن المبيع

ص: 291

(مسألة 14): لو باع مال غيره فضولاً، فباعه المالك (1) من شخص آخر، صح بيع المالك (2)، وبطل بيع الفضولي (3)، ولا ينفع في صحته إجازة المالك (4)،

---------------

كان قبل الإجازة محكوماً بأنه في ملك الوارث قد انتقل إليه من المورث. ولذا يكون النماء المتخلل بين العقد والإجازة والحاصل في حياة المورث للمشتري، بخلاف ما إذا كان الفضولي قد ملك المبيع بغير الإرث، فإنه لا يقوم مقام الأصيل في ملكيته بحيث تكون ملكيته بقاء لملكيته، بل يملكه بملكية أخري مترتبة علي ملكيته، ولذا لا يمكنه أن يجيز العقد من حين وقوعه، لمنافاته لملكيته له، كما سبق، بل غاية ما يمكنه أن يجيز العقد بحيث ينفذ من حين ملكيته له. ولا طريق لإثبات مشروعية الإجازة بالنحو المذكور، كما سبق.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد جري في نهجه علي ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) مدعياً أن بناء العقلاء عليه، إلا أنه يبدو أنه تردد فيه بعد ذلك، ولذا توقف في الفتوي هنا واستشكل في الصحة.

والإنصاف أن ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من إمكان إجازة الوارث للعقد قريب للمرتكزات العرفية جداً. غاية الأمر أن توجيهه بالوجه المذكور ربما يكون ناشئاً من ضيق التعبير.

(1) يعني: قبل أن يجيز عقد الفضولي.

(2) إذ بعد فرض عدم الإجازة فالعين لا زالت ملكاً له، ومقتضي قاعدة السلطنة علي المال صحة بيعه لها. وقد تقدم عند الكلام في الثمرة الثانية التي ذكرناها للخلاف في الكشف والنقل تمام الكلام في ذلك.

(3) بمعني تعذر الإجازة التي تنحصر صحته بها، لا بمعني خروجه عن قابلية التصحيح بالإجازة، كالبيع الربوي، نظير ما تقدم في أواخر المسألة السابقة.

ص: 292

(293)

ولا المشتري (1).

(مسألة 15): إذا باع الفضولي مال غيره، ولم تتحقق الإجازة من المالك، فإن كانت العين في يد المالك فلا إشكال. وإن كانت في يد البايع جاز للمالك الرجوع بها عليه (2). وإن كان البايع قد دفعها إلي المشتري جاز له (3) الرجوع علي البايع (4)

---------------

(4) يعني المالك الأول، لأنه صار أجنبياً عن بيع الفضولي، فلا سلطنة له علي إجازة البيع المتعلق به، من دون فرق بين القول بالنقل والقول بالكشف بوجوهه المختلفة، كما يظهر مما تقدم في الثمرة الثالثة والرابعة من الثمرات التي ذكرناها في تعقيب الكلام في الكشف والنقل في ذيل المسألة الحادية عشرة.

(1) كما يظهر وجهه مما تقدم في المسألة السابقة. وذكرناه نصاً في التنبيه الثاني من التنبيهات التي ذكرناها في ذيلها.

(2) كما يجب عليه دفعها له إن طلبها، بل بمجرد عدم إذنه له بإبقائها عنده، بلا إشكال في شيء من ذلك، لعدم حل مال المسلم إلا بإذنه وطيبة نفسه، كما تضمنه الصحيح(1) وغيره.

(3) يعني: للمالك.

(4) لكونها مضمونه عليه بضمان اليد الذي تقدم الاستدلال عليه في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول. وحينئذٍ إن أمكنه استرجاعها من المشتري وجب عليه مقدمة لإرجاعها للمالك. وإن تعذر عليه مع فرض عدم تلف العين - كما يظهر من المتن - فالظاهر أن اللازم دفع بدلها، وهو المعبر عنه ببدل الحيلولة. لعموم ضمان اليد، فإن مقتضي كون العين في العهدة لزوم إرجاعها بنفسها مع القدرة علي ذلك، وببدلها مع تعذره، من دون فرق بين التلف وغيره، لأن ملاكها ارتكازاً هو مراعاة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

ص: 293

حال المضمون له والرفق به، وسدّ النقص الوارد عليه بذهاب ملكه عليه، ومجرد ملكيته للعين مع بقائها من دون أن تصل إليه لا يمنع من صدق النقص المذكور.

ويؤيده أو يعضده ما ورد في ضمان الأمانات، كالرهن(1) ، والوديعة(2) ، والعارية(3) ، وفي الإجارة(4) ، بنحو يظهر منه ثبوت الضمان مع التفريط بمجرد تعذر تسليم العين وإن لم تتلف، كما لو ضاعت أو سرقت. فإن الظاهر أن الضمان فيها مع التفريط هو ضمان اليد، وأن الاستئمان يمنع من الضمان كما أشرنا إلي ذلك عند الكلام في سببية اليد للضمان، فإذا سقط حكمه بالتفريط ارتفع المانع وأثرت اليد الضمان.

نعم، الظاهر أن تعذر إرجاع العين مع بقائها لا يوجب بنفسه انقلاب حق المضمون له من العين للبدل، ليكون للضامن إلزامه بقبول البدل من أجل تفريغ ذمته بمجرد إحرازه تعذر تسليم العين، بل يبقي المضمون له مالكاً للعين ومستحقاً لتسليمها، لعدم الدليل علي الانقلاب المذكور، بل هو خلاف الأصل.

غايته أن للمضمون له حينئذٍ المطالبة بتسليم البدل، فلا يملك البدل إلا بقبضه بدلاً عن العين. كما أن له الانتظار برجاء القدرة علي العين نفسها ولو من غير طريق الضامن - كما صرح بذلك في المبسوط فيما لو كان المغصوب عبداً، فأبق - إذ لا دليل علي إلزامه بأخذ البدل بعد عدم استحقاقه له.

هذا والظاهر أن الضامن لو دفع البدل ورضي به المضمون له ملك العين بدلاً عما دفع، ولا تبقي العين في ملك المضمون له، لأن دفع البدل إنما هو من أجل ضمان العين بدلاً عنها بعد تعذر تسليمها، كما لو تلفت، وذلك لا يناسب بقاءها في ملك مالكها، لمنافاته لمقتضي البدلية، بل المناسب له هو انتقال الدافع البدل وهو الضامن، بل لا ينبغي التأمل في ذلك بالنظر إلي المرتكزات العرفية. ومرجع ذلك إلي أن رض

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 7، 9 من كتاب الرهن.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من كتاب الوديعة.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 1 من كتاب العارية.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 29، 30 من كتاب الإجارة.

ص: 294

المالك بالبدل راجع إلي رضاه بكون البدل عوضاً عن العين، فيملك الدافع العين بمقتضي المعاوضة المذكورة.

ويؤيده ما في معتبر سدير عن أبي جعفر (عليه السلام)

:(في الرجل يأتي البهيمة. قال: يجلد دون الحدّ، ويغرم قيمة البهيمة لصاحبها، لأنه أفسدها عليه، وتذبح وتحرق إن كانت مما يؤكل لحمه، وإن كانت مما يركب ظهره غرم قيمتها، وجلد دون الحد، وأخرجها من المدينة التي فعل بها فيها، كيلا يعيّر بها صاحبها) (1) . فإنه كالصريح في أن ما يركب يملكه الفاعل بعد دفع القيمة لمالكه. ومورده وإن كان هو ضمان الإفساد الذي هو من سنخ ضمان الإتلاف، إلا أن المرتكز كون الضمان بجميع أنواعه علي نهج واحد. ومن ثم لا يبعد عدم استحقاق مالك البهيمة الموطوءة لقيمتها لو رضي ببقائها في ملكه وإخراجها عن البلد.

نعم، لو لم يكن دفع البدل فيما نحن فيه من أجل ضمان العين، بل من أجل تدارك ضرر عدم وصولها المالك - كما قد يوهمه ما سبق من تعبيرهم عنه ببدل الحيلولة - اتجه

بقاء العين في ملك المالك. وأظهر من ذلك ما لو قيل بعدم ملكية مالك العين للبدل، بل يكون مباحاً له إباحة مطلقة وأنه لا يملكه إلا بتلف العين.

لكن المرتكزات تأبي ذلك جداً ولاسيما مع عدم الدليل علي وجوب تدارك مثل ذلك بدفع بدل العين تمليكاً أو إباحة. بل لا ينبغي التأمل في أن دفع البدل من أجل ضمان العين نفسها، وبدلاً عنها، كما لو تلفت، لوحدة الدليل لاشتراكهما في دليل واحد. ولاسيما مع سوق الضياع والسرقة في مساق التلف في نصوص الأمانات المشار إليها آنفاً وغيرها.

ومن الغريب مع ذلك إصرار شيخنا الأعظم (قدس سره) علي عدم ملكية الضامن للعين. بدعوي: أن البدل المدفوع غرامة بسبب ضمان العين، لا عوض عنها. إذ لا دليل علي هذه الغرامة، وإنما المستفاد من دليل الضمان ولو بضميمة المرتكزات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب نكاح البهائم ووطء الأموات والاستمناء حديث: 1.

ص: 295

وعلي المشتري (1). وإن كانت تالفة رجع علي البايع (2) إن لم يدفعها إلي

---------------

هو البدلية.

وعلي ذلك يكون للبايع الفضولي بعد دفعه البدل للمالك و رضا المالك به مطالبة المشتري بالعين إن كانت عنده، كما يجب علي المشتري دفعها له، فإن تعذر دفعها بنفسها دفع بدلها، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة التاسعة عشرة إن شاء الله تعالي.

(1) بلا إشكال، إذ بعد بقائها علي ملكه - لفرض عدم إجازته البيع - يكون له المطالبة بها، كما يحرم حبسها عنه. وإن كانت قد خرجت من يده كان ضامناً لها بضمان اليد، ووجب عليه استرجاعها مقدمة لدفعها للمالك، فإن تعذر عليه استرجاعها كان للمالك المطالبة ببدلها، علي نحو ما تقدم في حكم البايع مع المالك. وهكذا الحال في كل من تصير تحت يده غيرهما.

نعم، في حديث السراج عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الذي توجد عنده السرقة. قال: هو غارم إذا لم يأت علي بايعها بشهود [شهوداً] ) (1) . وقد يظهر في عدم جواز أخذها منه إذا أقام البينة علي أنه قد اشتراها من غيره، بل يتبع ذلك الغير.

لكن لا يمكن البناء علي ذلك. إذ لا ريب في عدم خروج المسروق عن ملك مالكه ولا عن سلطنته ببيع السارق له. ولاسيما مع التصريح في جملة من النصوص برجوع المبيع المسروق ونحوه مما يباع بغير إذن مالكه إلي المالك إذا انكشف الحال(2).

ومن هنا يتعين حمل الحديث - مع غض النظر عن سنده، لعدم ثبوت وثاقة السراج راويه - علي أن عدم غرمه مع إقامة البينة علي البايع، إنما هو بلحاظ إلزام البايع حينئذٍ بردّ الثمن له، فلا يخسر شيئاً، بخلاف ما إذا لم يقم البينة، فإن السرقة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 10.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب عقد البيع وشروطه، وج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، وغيرهما.

ص: 296

المشتري، أو علي أحدهما إن دفعها إليه (1)

---------------

تؤخذ منه من دون تدارك. كما أشار إلي ذلك في محكي مرآة العقول.

(2) لكونه ضامناً لها بضمان اليد. هذا إذا لم تكن يده عليها أمانية، وإلا فلا يرجع عليه بشيء، كما هو ظاهر. والظاهر خروجه عن مفروض المتن.

(1) لأن مقتضي عموم ضمان اليد المستفاد من بناء العقلاء وغيره مما تقدم ضمان كل منهما لها، فيجوز الرجوع علي كل منهما.

وربما يستشكل في ذلك بأن ضمان كل منهما لها عند التلف إن رجع إلي انشغال كل منهما ببدل العين غير ما تنشغل به ذمة الآخر، لزم ثبوت بدلين وعوضين للعين الواحدة، وهو محال، إذ لا يكون للعين الواحدة إلا بدل وعوض واحد. مع أن لازمه استحقاق المالك لكلا العوضين والبدلين، فيجوز للمالك الرجوع عليهما معاً، لا علي أحدهما علي البدل. وليس بناؤهم علي ذلك.

وإن رجع ضمان كل منهما للعين عند التلف إلي انشغال ذمتهما معاً ببدل واحد يستحقه المالك وله الرجوع به علي أي منهما شاء، أشكل بأنه لا مجال لانشغال ذمم متعددة بشيء واحد، لامتناع وجود الشيء الواحد في أكثر من ذمة واحدة، الذي هو نظير وجود الشيء الواحد في أكثر من مكان واحد.

ولذا ذهب أصحابنا إلي أن مرجع عقد الضمان إلي انشغال ذمة الضامن بالدين بدلاً عن المضمون عنه، بحيث تفرغ ذمة المضمون عنه، خلافاً للجمهور، حيث ذهبوا إلي انشغال ذمة الضامن والمضمون عنه معاً بالدين.

لكنه يندفع بأن مرجع ضمان كل منهما للعين عند تلفها إلي انشغال ذمتهما معاً ببدل واحد للعين، ولا محذور فيه، لأن انشغال الذمم المتعددة بالمال لا يرجع إلي وجوده فيها، بحيث تكون ظرفاً له نظير ظرفية المكان لما فيه، بل هو محض اعتبار راجع إلي مسؤولية صاحب الذمة بالمال، ولا مانع من مسؤولية أكثر من شخص

ص: 297

(298)

بمثلها إن كانت مثلية وبعينها إن كانت قيمية (1).

(مسألة 16): المنافع المستوفاة مضمونة (2)

---------------

بالشيء الواحد. ولذا أمكن ضمان أكثر من واحد للعين مع عدم تلفها فيما لو تعاقبت عليها أيديهم، كما سبق.

وما عليه أصحابنا من رجوع عقد الضمان إلي انشغال ذمة الضامن بدلاً عن المضمون عنه ليس لامتناع انشغال ذمتهما معاً بالمال، بل للنصوص الخاصة الظاهرة في رجوع عقد الضمان لذلك. ومن ثم لا مخرج عن مقتضي عموم دليل ضمان اليد القاضي بضمان كل من يقع المال تحت يده له مهما بلغ عددهم.

(1) كما تقدم يظهر مما في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول فإنهما من باب واحد.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، المصرح به في كلام غير واحد. ويقتضيه المرتكزات العرفية القطعية، فإن المنفعة وإن لم تكن مالاً مملوكاً قبل وجودها، بل ليس المال المملوك إلا العين نفسها، إلا أنها بوجودها تكون مالاً فتكون مملوكة لصاحب العين تبعاً للعين. وبلحاظ ذلك أمكن للمالك المعاوضة عنها بمثل الإجارة، وبذلها بالعوض. ومن هنا يكون المستوفي لها قد اتلف علي المالك ماله، فيضمنه له.

مضافاً إلي ما ورد في الجارية المسروقة، كمعتبر زرارة: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل اشتري جارية من سوق المسلمين، فخرج بها إلي أرضه، فولدت منه أولاداً، ثم أتاها من يزعم أنها له، وأقام علي ذلك البينة. قال: يقبض ولده، ويدفع إليه الجارية، ويعوضه من قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها)(1) ، ومعتبره الآخر: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل يشتري الجارية من السوق، فيولدها، ثم يجيء الرجل فيقيم البينة علي أنها جاريته لم تُبَع ولم تُهَب. فقال: يرد إليه جاريته، ويعوضه بما انتفع. قال: كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 4، 2.

ص: 298

[كأنه. في] معناه قيمة الولد)(1). وحيث كان الظاهر أن ما في ذيله تفسير من الراوي، فلا يخرج به عن إطلاق الجواب. ولاسيما مع الإشكال في التفسير بعدم وضوح كون الاستيلاد من سنخ الانتفاع، وأن اللازم فيه قيمة الولد، لا أجرة الاستيلاد.

ومثلهما في ذلك ما ورد في الدابة المستأجرة إذا تجاوز بها المستأجر المكان المتفق عليه، كصحيح أبي ولاد، قال: (اكتريت بغلاً إلي قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه إلي النيل، فلما أتيت النيل خبرت أن صاحبي توجه إلي بغداد، فاتبعته وظفرت به، وفرغت مما بيني وبينه، ورجعنا إلي الكوفة. وكان ذهابي ومجيئي خمسة عسر يوماً، فأخبرت صاحب البغل... فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصة، وأخبره الرجل. فقال لي: ما صنعت بالبغل ؟ ف قلت: قد دفعته إليه سالماً. قال: نعم، بعد خمسة عشر يوماً... فقال: ما أري لك حقاً، لأنه اكتراه إلي قصر ابن هبيرة، فخالف وركبه إلي النيل والي بغداد، فضمن قيمة البغل، وسقط الكراء، فلما ردّ البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكراء... وحججت تلك السنة، فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام)... فقال: أري له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلي النيل، ومثل كراء بغل من بغداد إلي الكوفة توفيه إياه... فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم...)(2). ونحوه في ضمان الأجرة مع التجاوز بالدابة عن الموضع المتفق عليه غيره.

وهي وإن لم ترد في بيع الفضولي، إلا أن من المعلوم عدم الفرق، وأن المنشأ للضمان هو استيفاء المنفعة من دون حق ولا إذن من المالك.

هذا وفي معتبر زيد عن آبائه (عليهم السلام) قال:

(أتاه رجل تكاري دابة، فهلكت، وأقرّ أنه جاز بها الوقت، فضمنه الثمن، ولم يجعل عليه كراء) (3) . لكنه وارد لبيان قضية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 4، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام الإجارة حديث: 1، 5.

ص: 299

خاصة منقولة بالمعني من غير المعصوم. ولعل عدم تضمينه الكراء لعدم الاهتمام بالسؤال عنه وبيان حكمه، لا للحكم بعدم تضمينه. ولا أقل من لزوم حمله - كغيره مما اقتصر فيه علي ضمان الدابة من دون تعرض للكراء - علي ذلك جمعاًُ مع النصوص السابقة. ولو فرض تعذر حمله علي ذلك فالمتعين حمله علي التقية، كما ذكره الشيخ (قدس سره)، لموافقته لما عن أبي حنيفة، كما تضمنه صحيح أبي ولاد.

نعم، في حديث زريق عن أبي عبد الله (عليه السلام) الوارد فيمن اشتري ضيعة مغصوبة والمتضمن الأمر بإرجاعها لصاحبها: (قال: فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم، له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار، وكل ما كان مرسوماً في المعيشة يوم اشتريتها يجب أن ترد ذلك، إلا ما كان من زرع زرعته أنت، فإن للزارع إما قيمة الزرع، وإما أن يصبر عليك إلي وقت حصاد الزرع، فإن لم يفعل كان ذلك له، ورد عليك القيمة، وكان الزرع له...)(1). فإن عدم التعرض فيه لوجوب إرجاع أجرة زرع الأرض في مدة استيلائه عليها ظاهر في عدمه، لظهوره في بيان جميع ما يجب عليه بسبب استيلائه علي الأرض.

لكنه - مع ضعف سنده - أضعف ظهوراً في عدم الضمان من النصوص السابقة في الضمان. فلابد من تقديمها عليه. ولو فرض عدم الترجيح تعين تساقط النصوص، والرجوع لما عرفت من المرتكزات القاضية بالضمان.

نعم، قال في الوسيلة في فصل بيان أحكام البيع الفاسد: (فإذا باع أحد بيعاً فاسداً، وانتفع به المبتاع، ولم يعلما بفساده، ثم عرفا واسترد البايع المبيع، لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به واسترداد الولد إن حملت الأم عنده، وولدت، لأنه لو تلف لكان من ماله، والخراج بالضمان). وكلامه وإن كان في المبيع بالبيع الفاسد، إلا أن تعليله واستدلاله يشمل منافع كل مضمون. كما أنه لا ينافي ما ذكرنا من قضاء المرتكزات بالضمان، حيث لا يبعد كون مراده بالتعليل لزوم الخروج عنها تعبداً بم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 300

تضمنه النبوي من أن الخراج بالضمان، لا أنها غير ثابتة، أو أنها تقصر رأساً عن منافع الأعيان المضمونة.

لكن النبوي المذكور غير مروي من طرقنا، وإنما روي مرسلاً عن عوالي اللآلي: (عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قضي بأن الخراج بالضمان)(1). وروي بما يقرب من هذا اللفظ مسنداً في كتب العامة(2). مع أن في حديث آخر مسند عن عائشة: (أن رجلاً ابتاع غلاماً، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيباً، فخاصمه إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فرده عليه. فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي. فقال رسول الله: الخراج بالضمان)(3). وهو مختص بما إذا كان الانتفاع بالعين حال ملكية المنتفع لها. قبل فسخ الشراء بظهور العيب. ومن ثم كان شارحاً للمراد من الأول، ومانعاً من التمسك بإطلاقه.

وتوضيح ذلك: أن الضمان في كلمات الفقهاء والمتشرعة في العصور المتأخرة يراد به المسؤولية للغير بما يخصه علي نحو يتحمل دركه وخسارته له، ومنه ضمان اليد الذي يثبت في المقام. وهذا المعني لا يتجه في مورد الحديث السابق، ضرورة أن الغلام قبل الفسخ حين استغله المشتري كان ملكاً له، فلابد أن يراد بضمانه له إما الضمان العقدي، حيث يبتني شراؤه علي تملكه مضموناً بالثمن، وإما كونه ملكاً له، فكأنه في ضمن حوزته، وإما كون خسارته عليه، لا بمعني تحمله لدركه، بل بمعني أن تلفه وخسارته في ملكه ومن ماله.

ومن الظاهر أن الضمان بأحد هذه المعاني غير الضمان بالمعني الأول الذي هو محل الكلام، ومنه ضمان اليد. ولا يتضح لنا قدر جامع عرفي بين المعنيين، ليمكن حمل مثل قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): (الخراج بالضمان) عليه، بل يتردد بدواً بينهما، ويكون مجملاً.

********

(1) مستدرك الوسائل باب: 7 من أبواب الخيار حديث: 3.

(2) صحيح الترمذي ج: 5 ص: 285، 286، وسنن أبي داود ج: 3 ص: 284 رقم: 3508، والسنن الكبري للبيهقي ج: 5 ص: 321، وغيرها.

(3) سنن أبي داود ج: 2 ص: 255. واللفظ له. وسنن ابن ماجة ج: 2 ص: 31 المطبعة التازية، ومسند أحمد الطبعة الأولي ج: 6 ص: 208، 80، وتاريخ بغداد ج: 8 ص: 298، وغيرها.

ص: 301

وللمالك الرجوع بها علي من استوفاها (1). وكذا الزيادات العينية، مثل اللبن والصوف والشعر والسرجين ونحوها مما كان له مالية،

---------------

غير أن الحديث المتضمن وروده في استغلال العبد المبيع قبل فسخ البيع صالح لتفسير الضمان فيه بالمعني الثاني، ويكون أجنبياً عن الضمان بالمعني الأول الذي هو محل الكلام.

ولو فرض إمكان تحصيل الجامع بين المعنيين، فلا دليل علي إرادته بعد عدم شيوع الاستعمال فيه، بحيث يكون هو المتبادر من الإطلاق، بل غاية الأمر التردد في الحديث بين إرادته وإرادة المعني الثاني بخصوصه، فيكون المعني الثاني هو المتيقن.

ولعله لذا لم يعرف القول من العامة - الذين كان الحديث من روايتهم - بعدم ضمان منافع المغصوب إلا من الحنفية. وربما يظهر مما حكي عنهم أن ذلك ليس عملاً بالحديث للبناء علي عمومه، بل لوجه آخر كالقياس، أو غيره.

وكيف كان فلا مجال للاستدلال بالحديث علي عدم ضمان منافع العين المضمونة لمالكها، بعد ما عرفت من حال سنده ودلالته.

علي أنه لو غض عن جميع ذلك، وبني علي عموم الحديث لما نحن فيه، فلابد من الخروج عنه بالنصوص السابقة الصريحة في الضمان. ولاسيما صحيح أبي ولاد المتضمن للإنكار علي حكم أبي حنيفة بعدم الضمان بناء منه علي القاعدة المذكورة. حيث تكشف هذه النصوص عن عدم صحة الاستدلال بالحديث، لعدم صدوره، أو قصور دلالته، أو تخصيصه. ومن ثم كان ما تقدم من الوسيلة في غاية الغرابة. ويأتي عند الكلام في حكم المنافع غير المستوفاة ما ينفع في المقام، فإنه لو تم الدليل علي ضمانها كان دليلاً علي الضمان في المنافع المستوفاة بعمومه أو بالأولوية.

(1) لأنه هو المتلف لها والمنتفع بها. والظاهر عدم الإشكال في ذلك، وإنما الإشكال في جواز الرجوع علي من كانت عنده العين لو لم يستوف المنفعة وإنم

ص: 302

فإنها مضمونة (1)

---------------

استوفاها من أخذها، كالبايع الفضولي في المقام لو كان المستوفي للمنفعة هو المشتري، حيث قد يظهر منهم جواز الرجوع عليه.

قال في الشرايع في مسألة بدل الحيلولة: (وإذا تعذر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل... وعلي الغاصب الأجرة إن كان مما له أجرة في العادة من حين الغصب إلي حين دفع البدل. وقيل: إلي حين إعادة المغصوب. والأول أشبه). وظاهره المفروغية عن وجوب دفع الأجرة إلي ما قبل دفع البدل. وفي الجواهر أنه لا خلاف ولا إشكال فيه، بل الإجماع بقسميه عليه.

ومقتضي إطلاق كلاهما العموم لما إذا كان تعذر دفع العين لانتقالها من الغاصب لغيره ممن يستوفي منافعها، حيث يكون مقتضي ذلك حينئذٍ جواز الرجوع بقيمة المنفعة علي غير من يستوفيها ممن سبق وضع اليد علي العين، فمع تعاقب الأيدي كما يجوز الرجوع بالعين علي الكل يجوز الرجوع بالمنفعة عليهم.

لكنه في غاية الإشكال، بل المنع، ضرورة أن منشأ ضمان العين هو اليد المشتركة بين الكل. أما منشأ ضمان المنفعة فهو الاسيفاء المختص بمن يستوفيها. بل حتي لو قلنا بأنها مضمونة بضمان اليد، لتحقق الاستيلاء عليها بالاستيلاء علي العين - علي ما يأتي الكلام فيه قريباً - فمن الظاهر أن المنفعة التي يتم الاستيلاء عليها تبعاً للاستيلاء علي العين هي منفعة زمان استيلاء الشخص علي العين وصيرورتها في يده، دون ما يتجدد من منافعها بعد خروجها عن يده. ومن هنا لا موجب لضمانه لها.

(1) لعموم ضمان اليد الذي تقدم الكلام فيه في المسألة الثالثة عشرة من الفصل الأول، فإنها من الأعيان القابلة للدخول تحت اليد، كالأصل. ولخصوص ما تقدم في الجارية المسروقة من ضمان ما أصاب المشتري من لبنها، وما انتفع منها. فراجع.

نعم، لو تم الاستدلال بحديث: (الخراج بالضمان) في المنافع اتجه للاستدلال

ص: 303

(304)

علي من استولي عليها (1) كالعين. أما المنافع غير المستوفاة ففي ضمانها إشكال (2).

---------------

به في المقام، لعموم الخراج للنماء، ولاسيما وأن في بعض طرقه: (الغلة بالضمان)(1). لكن سبق المنع من ذلك.

(1) فإن كان هو البايع وحده رجع عليه وحده. وإن كان هو البايع والمشتري معاً رجع علي من شاء منهما، نظير ما سبق في نفس العين ذات النماء. وإن كان هو المشتري وحده رجع عليه وحده. ولا مجال للرجوع علي البايع بعد عدم صيرورتها تحت يده. ومجرد ضمانه للعين بسبب اليد لا يكفي في الرجوع عليه بالنماء تبعاً لها بعد عدم دخولها تحت يده، نظير ما تقدم في المنافع.

(2) لا يبعد كون الضمان هو المشهور، خصوصاً في الغصب، كما يناسبه ما تقدم - عند الكلام في الرجوع بقيمة المنافع المستوفاة - من الشرايع والجواهر.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع. قال في آخر كتاب الإجارة من السرائر: (المنافع عندنا تضمن بالغصب). وقال في كتاب الغصب من التذكرة: (منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبداً أو جارية أو ثوباً أو عقاراً أو حيواناً مملوكاً ضمن منافعه، سواء أتلفها بأن استعملها، أو فاتت تحت يده، بأن بقيت في يده مدة ولا يستعملها عند علمائنا أجمع).

لكن لا مجال للتعويل عليه في هذه المسألة التي لم تتضمنها النصوص، وإنما ذكرت في عصر تدوين الفتاوي، حيث لا يبعد ابتناء الفتوي بها علي بعض الوجوه الاجتهادية كما يكثر منهم في المعاملات، وقد تقدم نظائره. خصوصاً مع ابتناء أحكام الغصب في نظر كثير منهم علي التثقيل علي الغاصب لتعديه.

********

(1) مسند أحمد ج: 6 ص: 80.

ص: 304

الثاني: عموم ضمان اليد - الذي تقدم الاستدلال به في المسألة الثالثة عشرة من الفصل السابق - لدعوي: أن المنافع تابعة للعين في كونها تحت اليد، ولذا يكتفي في تسليم العين المستأجرة تسليم العين نفسها.

وفيه: أنه لا ينبغي التأمل في قصور النبوي: (علي اليد ما أخذت حتي تؤدي) عن شمول المنافع غير المستوفاة، حيث لا وجود لها، ليصدق عليها الأخذ والأداء. والاكتفاء بتسليم العين المستأجرة ليس من أجل تسليم المنفعة بذلك، بل من أجل التمكين من استيفاء المنفعة، لكفاية ذلك في الإجارة، كما يكتفي بحضور الأجير للعمل وإن لم يتحقق تسليمه ولا تسليم منفعة بذلك.

علي أن دليل ضمان اليد ليس هو النبوي المذكور، بل المرتكزات العقلائية المؤيدة أو المعتضدة ببعض النصوص، والمتيقن من جميع ذلك هو الأعيان التي تكون بنفسها أموالاً ومورداً للاستيلاء والعدوان.

الثالث: ما دل علي حرمة مال المسلم. ويظهر الإشكال فيه مما سبق عند الاستدلال به علي ضمان اليد من عدم ظهوره في الضمان، بل في الحرمة التكليفية، وأنه لو كان ظاهراً فيه فلا ينهض ببيان سبب الضمان وأنه اليد أو الإتلاف أو غيرهما.

مضافاً إلي أن المنافع غير المستوفاة ليست مالاً مملوكاً، كما أشرنا إليه في أول الكلام في ضمان المنافع المستوفاة. وهناك بعض الوجوه الأخر قد تقدم التعرض لها عند الاستدلال علي ضمان اليد، حيث قد يستدل بها هنا أيضاً. ولا يسعنا التعرض لها، لظهور ضعفها، كما يظهر بالرجوع إليها هناك.

ومن ثم كان الظاهر عدم الدليل علي ضمان المنافع غير المستوفاة، فيتعين البناء علي عدمه، عملاً بالأصل. مضافاً إلي أن الاقتصار في معتبري زرارة المتقدمين في حكم الجارية المسروقة وفي نصوص التعدي بالعين المستأجرة عن مورد الإجارة علي خصوص المنافع المستوفاة ظاهر في عدم ضمان غيرها.

بل هو الصريح من صحيح أبي ولاّد المتقدم، حيث تضمن حبس البغل خمسة

ص: 305

عشر يوماً، وتأكيد صاحب البغل علي ذلك مع أبي حنيفة، ومع ذلك اقتصر الامام (عليه السلام) علي ضمان ما استوفاه أبو ولاّد من منافعه، التي لا إشكال ظاهراً في كونها أقل من منفعة خمسة عشر يوماً. وأما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من سقوطه عن الحجية، لعدم العثور علي العامل به في مورده، وهو المغصوب. فهو في غاية الإشكال، بل المنع، لعدم وضوح إعراض القدماء عنه قبل عهد تحرير الفتاوي، وقرب غفلتهم عنه بعد تحرير الفتاوي بسبب أنس أذهانهم ببعض الوجوه الاجتهادية، كما يكثر منهم في أحكام المعاملات.

مع أن شيوع الابتلاء بالمسألة في موارد الغصب ونحوه يناسب ورود الأسئلة في كثير من فروعها، كالسؤال عن أن المضمون هو كل منفعة تصلح العين لها، أو خصوص المنفعة التي يتعارف تحصيلها من العين، أو خصوص ما يعدّ المالك العين لها، وعن حكم المنافع المتضادة، وأن المضمون أعلاها قيمة أو أقلها قيمة أو المتوسط... إلي غير ذلك، فعدم ورود الأسئلة في ذلك يناسب المفروغية عن عدم ضمان المنافع غير المستوفاة. ولعله لذا تردد في الدروس والمسالك ومحكي التنقيح في الضمان، وحكم بعدمه في محكي الإيضاح.

هذا ويظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) التفصيل بين ما إذا لم يكن المالك في مقام الانتفاع بالعين فلا ضمان، وما إذا كان في مقام الانتفاع بها فيتعين الضمان، لأن الغاصب قد أتلفها علي المالك وإن لم يستوفها.

وفيه: أولاً: أن الإتلاف في ذلك راجع إلي تفويت المنفعة بالمنع من تحصيلها في ظرف كون المالك في مقام تحصيلها، وليس بناؤهم علي كونه سبباً في الضمان، ولذا لا يضمن منافع الحرّ لو حبسه عن العمل. كما لا يضمن منافع أعيانه لو منعه من استيفائها من دون أن يستولي علي الأعيان نفسها، وكذا منافع المباحات الأصلية، كما لو منعه من رعي أغنامه في الأرض المباحة. ومثلها الأعيان لو منعه من تملكها وكسبها، كما لو منعه من صيد الحيوان العابر، أو من حيازة المباحات الأصلية وأخذها، أو من

ص: 306

أخذ الأعيان المملوكة لو أذن مالكها في أخذها وتملكها، أو من استنماء ماله... إلي غير ذلك.

وبعبارة أخري: قاعدة الضمان بالإتلاف ليست مستفادة من كبري شرعية لفظية، كي ينظر في عمومها لتفويت المال علي الغير ومنعه من تحصيله، وإنما هي قاعدة متصيدة من حكم الشارع الأقدس بالضمان في الموارد المتفرقة بضميمة القدر الجامع الارتكازي بينها. ومن الظاهر أن الموارد المذكورة مختصة بإتلاف الأعيان المملوكة واستيفاء منافعها، دون المنع من تحصيل الأعيان والمنافع.

وثانياً: أن التفويت قد لا يستند للغاصب، كما لو منع السلطان المالك من أخذ العين، فتركها مكرهاً وفارقها، وبعد ذلك استولي عليها غيره من دون حق، فكان هو الغاصب لها، من دون أن يمنع المالك من أخذها، لانصرافه عنها بسبب سبق منع السلطان، فإن تفويت المنفعة علي المالك حينئذٍ إنما يكون بسبب منعه من أخذه لها، المستند للسلطان، لا للغاصب الذي استولي عليها بعد ذلك.

وثالثاً: أن ظاهر نصوص الجارية المسروقة ونصوص التعدي بالعين المستأجرة كما سبق هو ضمان خصوص المنافع المستوفاة كما سبق. وحملها علي خصوص ما إذا لم يكن المالك في مقام استيفاء المنفعة بعيد في نفسه ومناف لإطلاقها، بل يكاد يكون متعذراً عرفاً في صحيح أبي ولاد، لأن من شأن المكاري استيفاء منفعة البغل، ولذا تظلم أمام أبي حنيفة من حبسه خمسة عشر يوماً. ومن ثم لا مجال لما ذكره (قدس سره).

ومثله في الإشكال ما ذكره من أن الضمان مختص بالغصب، دون المقبوض بالعقد الفاسد، فلا ضمان للمنافع غير المستوفاة فيه، مع ظهور أن المقبوض بالعقد الفاسد من أفراد المغصوب. ومجرد الإذن في قبضه لتخيل صحة العقد لا يخرجه عن كونه مغصوباً، بعد عدم ترتب الأثر علي الإذن المذكور، لخطأ مبناه، ولذا يحرم حبسه عنه.

ودعوي: أن منشأ الضمان في المغصوب عنده لما كان هو تفويت المنفعة علي المالك مع كونه بصدد تحصيلها، فهو لا يجري في المقبوض بالعقد الفاسد، لعدم كون

ص: 307

(308)

(مسألة 17): المثلي ما يكثر وجود مثله في الصفات التي تختلف باختلافها الرغبات، والقيمي ما لا يكون كذلك (1). فالآلات والظروف والأقمشة المعمولة في المعامل في هذا الزمان من المثلي، والجواهر الأصلية من الياقوت والزمرد والألماس والفيروزج ونحوها من القيمي.

(مسألة 18): الظاهر أن المدار في القيمة المضمون بها القيمي قيمة زمان التلف (2)، لا زمان الأداء.

---------------

المالك بصدد تحصيل منفعته فعلاً بعد تخيله عدم كونه ملكاً له.

مدفوعة بأن المعيار في عدم الضمان إذا كان هو عدم تصدي المالك للانتفاع بالعين فعلاً ولو للخطأ في تشخيص حالها، فهو قد يتم في المغصوب أيضاً، كما لو ادعي الغاصب كذباً ملكية عين أعدها مالكها للانتفاع بها، فصدقه المالك، وسلمها له. كما قد لا يتم حتي في المقبوض بالعقد الفاسد، كما لو كان المالك مع تخيله صحة العقد، بصدد الانتفاع بالعين عصياناً، فمنعه المشتري بالعقد الفاسد، وأخذها منه لتخيل صحة العقد.

وكيف كان فحيث سبق عدم ضمان المنافع غير المستوفاة في المغصوب، فلا إشكال في عدم ضمانها في المقبوض بالعقد الفاسد، حتي ما كان فساده بسبب عدم إذن المالك، كعقد الفضولي، الذي هو محل الكلام.

(1) تقدم منا في المسألة الثالثة عشرة - في ذيل الكلام في ضمان المثلي بمثله والقيمي بقيمته - أن المثلي هو ما تنسب قيمته عرفاً للكلي الشامل له، والقيمي هو ما تنسب قيمته له بشخصه من دون أن تنسب لكلي شامل له. فراجع.

(2) كما قد يظهر من الدروس وعن جملة من كتب العلامة وغيرها، ونسبه في الدروس للأكثر. وكأنه لما ذكره غير واحد من أنه وقت الانتقال للقيمة. ودعوي:

ص: 308

أن الانتقال للقيمة حينئذٍ لا يستلزم كون القيمة هي قيمة يوم التلف. مدفوعة بأن الانتقال للقيمة لما كان بملاك كونها بدلاً عن العين، وتداركاً للنقص المالي الحاصل للمالك بتلفها، تعين كون القيمة المنتقل إليها هي قيمة العين حينئذٍ، لأنها هي التي يتدارك النقص المالي بها.

هذا كله بناءً علي أن مرجع الانتقال للقيمة مع التلف إلي تبدل ما تنشغل به الذمة، وأنه قبل التلف نفس العين، وبعده القيمة بدلاً عنها. لكنه غير ظاهر، بل من القريب رجوعه إلي جواز مطالبة المالك بالقيمة بدل العين، لتعذر تسليمها، كما يجوز له المطالبة بها مع بقائها لو تعذر تسليمها لسرقة أو غرق أو ضياع أو نحوها، حيث لا دليل علي الانتقال المذكور، بل المنسبق من أدلة الضمان باليد والإتلاف وغيرهما - ولو بضميمة المرتكزات - كون المضمون هو العين - التي هي موضوع الضمان - نفسها. كما هو الحال عند وجودها وإمكان تسليمها، وأن الانتقال للقيمة عند تعذر تسليم العين لتلف أو غيره إنما هو من شؤون الأداء.

بل هو المناسب لمفاد النبوي: (علي اليد ما أخذت حتي تؤدي) لولا ما سبق من ضعفه بنحو لا ينهض بالاستدلال. ومن ثم تكرر في كلام السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب دعوي انشغال الذمة بالتالف بعينه، لا بالقيمة.

ودعوي: أنه يمتنع انشغال الذمة بالعين حال وجودها فضلاً عن حال تلفها، لأنها أمر حقيقي موجود في الخارج، وليست أمراً اعتبارياً كالكليات الذمية، ليمكن انشغال الذمة بها. فلابد من تنزيل أدلة الضمان علي انشغال الذمة ببدلها رأساً كما في ضمان التلف، أو التكليف بإرجاعها بنفسها مع وجودها من دون أن تنشغل الذمة بها، وانشغال الذمة ببدلها مع تلفها، كما في ضمان اليد ونحوه.

مدفوعة: بأنه لا يراد بانشغال الذمة بالعين وجودها في الذمة، ليمتنع ذلك في الأعيان الخارجية، بل نحو من الاعتبار المبتني علي نحو من المسؤولية، وكما يمكن ذلك في الكليات يمكن في الأعيان الخارجية، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) في

ص: 309

أواخر كتاب الضمان من مستمسكه. بل التفكيك في مثل ضمان اليد بتنزيله حال وجود العين علي التكليف المحض بالإرجاع، وحال تلفها علي انشغال الذمة بالبدل الذي هو نحو من الوضع، تكلف تأباه المرتكزات.

ومثلها دعوي: امتناع انشغال الذمة بالتالف، بعد تعذر أدائه، ولذا يسقط التكليف بتعذر المكلف، فلابد من الالتزام بانشغال الذمة بما يمكن أداؤه، وهو القيمة.

لاندفاعها بأنه لا مجال لقياس انشغال الذمة بالماليات الذي هو من سنخ الوضع بالتكليف، لتقوم التكليف بالعمل، فيلغو مع تعذره ويسقط عن الفعلية، أما انشغال الذمة بالماليات فهو اعتبار محض يكفي في تصحيحه ترتب الأثر عليه في الجملة، كجواز المطالبة بأدائه عند القدرة ولو بتسليم بدله، وإمكان تبرع الغير بأدائه ونحو ذلك، ولذا لا إشكال في عدم سقوط الدين بإعسار المدين، وكذا بقاء انشغال الذمة بالمثل مع تعذره مطلقاً أو في حق الضامن، وبالعين المضمونة في موارد بدل الحيلولة، ولا ينتقل فيها للقيمة إلا إذا رضي المضمون له بأدائها بدلاً عن المضمون، ولذا لو تجددت القدرة علي المثل أو العين وجب أداؤهما، ولا يكتفي بالقيمة بتوهم سبق الانتقال إليها عند التعذر.

ومن هنا كان مقتضي القاعدة دفع قيمة زمان الأداء، للزوم تعويض العين ببدلها حينئذٍ. وبذلك يظهر أن العين مع التلف هي المضمونة حتي في المثلي، وأن دفع المثلي ليس لانشغال الذمة به، بل لوجوب تعويضها به.

كما ظهر أن القول المذكور لا يبتني علي ضمان القيمي بمثله، وأن دفع القيمة إنما هو لكونها بدلاً عن المثل المتعذر، لا عن العين التالفة، لدعوي أنه حينئذٍ يتعين ملاحظة القيمة حين الدفع، لأنها هي التي تصلح للبدلية عن المضمون حينه. إذ بعد أن ظهر إمكان انشغال الذمة بالعين التالفة فالمتعين ملاحظة قيمتها حين الأداء من دون حاجة إلي انشغال الذمة بالمثل. علي أنه إذا أمكن انشغال الذمة بمثل العين

ص: 310

القيمية مع كونه فرضياً لا وجود له أمكن بقاء انشغالها بنفس العين مع تلفها بلا حاجة إلي الانتقال للمثل، لعدم الفرق بين التالف وغير الموجود في ذلك.

هذا وعن جماعة الضمان بقيمة يوم الغصب، وفي الشرايع وعن التحرير أنه اختيار الأكثر. وقد يستدل عليه بوجهين:

الأول: أنه وقت دخول العين في ضمان الغاصب، ولا يكون ضمانها إلا بضمان قيمتها حينئذٍ.

لكنه كما تري، فإن الضمان بالقيمة إنما يكون بعد التلف، إذ لا ريب في كفاية ردّ العين قبله، وإذا كان الضمان بالقيمة بعد التلف فكون القيمة المضمون بها قيمة يوم الغصب، يحتاج لدليل.

ودعوي: أن مقتضي سببية اليد للضمان انشغال الذمة بوضع اليد علي العين، وحيث لا تنشغل بالموجود الخارجي الشخصي تعين انشغال الذمة بالقيمة حينئذٍ بدلاً عن العين، غايته أنه بتسليم العين تفرغ الذمة عن القيمة.

مدفوعة: بما سبق من إمكان انشغال الذمة بالعين حال وجودها، وبقائها في الذمة بعد تلفها. بل لو فرض امتناع ذلك فالبناء علي ضمان العين بنفسها، وأنه راجع إلي وجوب تسليمها، أهون عرفاً من البناء علي انشغال الذمة بالقيمة من حين أخذ العين مع وجوب تسليم العين دون القيمة، وفراغ الذمة عن القيمة بذلك، فإنه تكلف، بل تعسف تأباه المرتكزات. وإن كان هو الظاهر بدواً من كلام أبي حنيفة الذي تضمنه صحيح أبي ولاد المتقدم ذكره عند الكلام في ضمان المنافع المستوفاة.

الثاني: صحيح أبي ولاد المتقدم وفيه بعد حكم الإمام بضمان ما استوفاه من منفعة البغل: (فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته. قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز. قال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه. فقلت: من يعرف ذلك ؟ قال: أنت وهو، إما أن يحلف هو علي القيمة، فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت علي القيمة، لزمه

ص: 311

ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا، فليزمك...) (1) .

فقد استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) كون (يوم خالفته) في جواب السؤال الأول قيداً للقيمة بأحد وجهين:

أولهما: أن يكون مجروراً بإضافة القيمة إليه، بأن تكون القيمة المضافة إلي البغل مضافة إلي اليوم ثانياً.

لكن الإضافة بعد الإضافة إن رجعت إلي كون المضاف إليه مضافاً إلي ما بعده، وهو المعروف بتتابع الإضافات، كما في قولنا: زوجة ابن زيد. فهي صحيحة شايعة، لكنها لا تناسب ما ذكره (قدس سره)، حيث يكون اليوم قيداً للبغل، لا للقيمة.

مع أن في صحتها في المقام إشكالاً بلحاظ ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره من أن البغل من الذوات غير القابلة للتقييد بالزمان - لوحدة وجودها بتعاقب الأزمنة والأيام - إلا بتكلف مخالف للظاهر. ولاسيما مع عدم وضوح المناسبة المصححة لإضافة البغل لليوم.

وإن رجعت إلي كون المضاف نفسه مضافاً مرة أخري، كما لو قيل دار زيد عمرو، لبيان أن الدار لزيد بلحاظ سكناه لها، ولعمرو بلحاظ ملكيته لها مثلاً. فهي غير معهودة في استعمالات أهل اللغة والعرف، بل هي مستنكرة بنحو تعد من الأغلاط، بل قيل باستحالتها. فلا مجال للبناء عليها في المقام، ولاسيما وأنه لا مناسبة مصححة لإضافة القيمة بنفسها لليوم. كما أنها لا تنفع في إثبات المطلوب.

وإن رجعت إلي أن المعني المتحصل من المضاف والمضاف إليه هو المضاف ثانياً فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه غلط في اللغة العربية، بل يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) امتناعه.

إلا أن بعض مشايخنا (قدس سره) ذكر أنه كثير في الاستعمالات العرفية، فيقال: ماء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

ص: 312

رمان زيد وبيض دجاجه، مع عدم ملكيته للرمان الذي أخذ منه الماء، ولا للدجاج الذي أنتج البيض.

ويشكل بعدم وضوح صحة الاستعمالات المذكورة لغة. نعم لا يبعد جري العرف عليها تسامحاً. لكنه مختص بالمركب الإضافي كماء الرمان، وماء الورد، حيث يكون بمجموعه اسماً يغفل فيه جانب الإضافة، دون غيره مما كانت فيه الإضافة مقصودة بالأصل، فلا يقال: ملبوس ملوك زيد، ولا ثياب شتاء عمرو. ومنه المقام.

علي أنه حكي عن الوافي وبعض نسخ الكافي والتهذيبين اقتران كلمة (بغل) بأداة التعريف وهو لا يناسب الوجه الأول والثالث من وجوه الإضافة. فلم يبق إلا الوجه الثاني الذي لا إشكال في بطلانه. والحاصل: أنه لا مجال لاحتمال كون (يوم خالفته) مضافاً إليه.

ثانيهما: أن يكون (يوم خالفته) منصوباً علي الظرفية قيداً لنسبة الاختصاص التي تفيدها إضافة قيمة البغل.

وقد أورد عليه في كلام غير واحد بأن الاختصاص المستفاد من الإضافة معني حرفي فلا يتعلق به الظرف، بل لابد في متعلقه من أن يكون معني اسمياً ملحوظاً استقلالاً، لأنه هو الذي يمكن أن يكون طرفاً للنسب، ومنها نسبة الظرفية.

ويندفع بأن النسب التي يشتمل عليها الكلام بعضها يقتضي تقييد بعض، ولا ملزم بكون طرفي كل نسبة معنيين اسميين ملحوظين استقلالاً، وإنما يلزم ذلك في خصوص بعض النسب، كالنسبة الاسنادية والوصفية، فلابد من كون المبتدأ والخبر والفاعل والموصوف والوصف ونحوها معاني اسمية، ولا يطرد ذلك في جميع النسب، فالنسبة الحالية والشرطية إنما تكونان قيداً للنسب التي هي معاني حرفية، لا للمفردات التي هي معاني اسمية. وكذا الحال في نسبة الظرف الناقص في مثل: نام زيد في بيته، وسافر أمس.

وعلي ذلك لا مانع من تعلق الظرف بنسبة الاختصاص المستفادة من الإضافة،

ص: 313

كما في قولنا: هند زوجة زيد قبل سنة، وعمرو غريمه قبل شهر، ومنه المقام. كما جري عليه في ظاهر قوله (عليه السلام) في تتمة الحديث السابق: (أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا).

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب دلالة الصحيح علي ضمان البغل - الذي هو من القيميات - بقيمة يوم مخالفة الأجير الذي هو يوم الغصب، ويكون دليلاً علي المدعي.

هذا ولو سلم امتناع تعلق الظرف بالاختصاص الذي تفيده نسبة الإضافة أمكن كون (يوم خالفته) ظرفاً تاماً متعلقاً بكون عام محذوف صفة للقيمة علي تقدير تنكير بغل كما تضمنته النسخ المطبوعة، وحالاً منها علي تقدير تعريفه كما تقدمت حكايته عن بعض النسخ، لما هو المعروف من أن الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، والتقدير: قيمة بغل كائنة أو ثابتة يوم المخالفه. فيكون قيداً للقيمة، كما لو كان متعلقاً بالاختصاص المستفاد من نسبة الإضافة.

ثم إنه ربما يحتمل كون (يوم مخالفته) متعلقاً بقوله (عليه السلام): (نعم) الذي هو في قوة قوله: يلزمك. بل هو الذي أصرّ عليه بعضهم فيكون المعني: يلزمك يوم مخالفته قيمة بغل، فلا يكون قيداً للقيمة، وتبقي القيمة غير محددة.

لكنه يشكل: أولاً: بأن مقتضي قوله (عليه السلام): (نعم) إقرار السائل علي ما ذكره من أن اللزوم عند التلف، وهو ينافي كون اللزوم يوم المخالفة. وحمله علي إقرار أصل اللزوم، مع التنبيه علي أنه ثابت من يوم المخالفة - خلافاً لما ذكره السائل - لا يناسب التعبير المذكور، وإنما يتجه لو كان التعبير هكذا: نعم قيمة بغل، لكن من يوم المخالفة. ولا يقاس ذلك ببيان الامام (عليه السلام) بكون اللازم هو القيمة، مع أنه أمر غير مسؤول عنه. للفرق بظهور أن السائل وإن أطلق اللزوم لكن من المعلوم أنه لا ريب في عدم لزوم دفع البغل بنفسه بعد فرض عطبه وموته، بل لزوم ما يناسب ضمان البغل، فيكون بيان الامام (عليه السلام) للزوم القيمة شرحاً وتفسيراً للمسؤول عنه، لا مخالفاً له،

ص: 314

ليحتاج إلي الاستدراك.

وثانياً: بأن اللازم يوم المخالفة هو البغل بنفسه دون قيمته، فيجب عليه إرجاعه مع القدرة ولو احتاج إلي مؤنة، كما لو شرد أو سرق، وتوقف إرجاعه علي بذل جهد أو مال، وإنما يجب دفع قيمته علي تقدير تلفه.

نعم، يمكن الحكم يوم المخافة بلزوم القيمة معلقاً علي التلف، لا فعلاً. لكن السؤال إنما تضمن اللزوم الفعلي، وظاهر الجواب إقرار ذلك، وبيان لزوم القيمة فعلاً، وهو لا يكون من يوم المخالفة. وإنما يتجه ذلك لو كان التعبير هكذا: نعم، لأنه لزمك من يوم المخالفة قيمة البغل إذا تلف.

وثالثاً: بأن لزوم القيمة يوم المخالفة إذا كان فعلياً، فمقتضي إطلاقه كون القيمة اللازمة هي قيمة ذلك اليوم، كما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره)، لأنها هي القيمة التي يصح نسبتها للبغل حينئذٍ، وتكون بدلاً عنه، ولا يحمل علي غيرها إلا بقرينة مخرجة عن مقتضي الإطلاق.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في ظهور الفقرة المذكورة في عدم كون يوم المخالفة قيداً للزوم، بل للقيمة اللازمة، إما لكونه ظرفاً ناقصاً متعلقاً بالاختصاص الذي تضمنه نسبة الإضافة، أو لكونه ظرفاً تاماً وصفاً للقيمة أو حالاً منها.

نعم، قد يدعي أنه ينافي في ذلك أمران:

الأول: قوله:

(قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز. قال: عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه) ، حيث يظهر منه أن المعيار في القيمة يوم الرد.

لكنه يشكل: أولاً: بأنه وارد في تحديد أرش النقص، لا قيمة العين، واتحاد المعيار فيهما وإن كان قريباً جداً بالنظر للمرتكزات، إلا أنه ليس بحيث يلزم برفع اليد عن الدليل في أحدهما من أجل الدليل في الآخر، بل لا مانع من اختلاف المعيار فيهما، تبعاً لاختلاف الدليل في كل منهما.

وثانياً: أن من القريب كون الظرف، وهو (يوم تردّه عليه) لبيان أن المعيار في

ص: 315

الأرش هو مقدار العيب الموجود يوم ردّ البغل، كما أفتي بذلك بعضهم، لا أعلي مراتب العيب من حين حدوثه إلي حين الردّ، كما يحكي عن ظاهر آخرين.

كما يحتمل كونه بياناً للوقت المتعارف لتسليم الأرش، لأن وقت رد البغل هو الوقت المتعارف لتصفية الحساب بين الطرفين. ولعله إليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من كونه متعلقاً بقوله: (عليك). وإلا فلا إشكال ظاهراً في أن الأرش يثبت علي الغاصب بحدوث العيب، لا برد العين المعيبة.

وثالثاً: أن كلمة (يوم) غير موجودة في بعض النسخ. قال في الجواهر

:(الموجود فيما حضرني من نسخة التهذيب الصحيحة المحشاة: ترده عليه، من دون لفظ يوم) . نعم لا يخلو التعبير حينئذٍ عن تكلف، إذ الردّ لا يكون إلا للمأخوذ سابقاً، وهو في المقام البغل، دون الأرش. لكنه لا يكفي في تكذيب النسخة المذكورة. فالأولي في وجه عدم التعويل عليها أن ذلك موجب لسقوط نسخ التهذيب بالمعارضة، وتبقي رواية الكافي والاستبصار المشتملة علي لفظ (يوم) حجة، لعدم المعارض. فالعمدة في الإشكال هما الوجهان الأولان.

الثاني: قوله:

(أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا، فليزمك) . لظهوره في أن العبرة بقيمة يوم الاكتراء، لا بقيمة يوم المخالفة.

ويشكل بأنه حيث لا قائل بذلك، ولا منشأ له بعد كون المستأجر أميناً غير ضامن، فمن القريب حمله علي كون منشأ ذكر يوم الاكتراء سهولة إتيان صاحب البغل بمن يشهد له بقيمة البغل حينئذٍ، لإطلاعهم عليه، مع قرب المدة بين الاكتراء والمخالفة في مورد الصحيح، بحيث لا يختلف القيمة فيهما عادة. ولو تعذر الحمل المذكور كانت الفقرة من المشكل، فلا تصلح لمعارضة الفقرة المستدل بها، بحيث تلزم برفع اليد عنها.

وربما يستشكل في العمل بالفقرة المذكورة لوجوه أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعفها. ومن ثم لابد من العمل عليها، والبناء علي ضمان المغصوب

ص: 316

بقيمة يوم الغصب.

وقد يؤيده ما في صحيح إسحاق بن عمار:

(سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يكون لي عليه المال، فيقبضني بعضاً دنانير وبعضاً دراهم، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدينار، أي السعرين أحسب له، الذي كان يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي [يوم أحاسبه] الذي أحاسبه ؟ فقال: سعر يوم أعطاك الدنانير، لأنك حبست منفعتها عنه) (1) .

فإن الحكم وإن لم يتوقف علي العلة المذكورة، لأن الدفع بنية الوفاء يستلزم تحقق الوفاء بقيمة المدفوع حين الوفاء به، إلا أن التعليل يتضمن أمراً ارتكازياً يناسب ما تضمنه الصحيح من ضمان الغاصب للعين المغصوبة بقيمتها يوم الغصب، لأنه حبس منفعتها عن مالكها حينئذٍ.

اللهم إلا أن يقال: حبس المنفعة في مورد الصحيح لا يستند لخصوص الآخذ، بل للطرفين معاً، لأنه بالاتفاق بينهما، فجعله سبباً لضمان الآخذ لا يخلو عن غموض. ولاسيما وأنه لا يمكن التعدي عن مورده لمثل الوديعة والعارية وغيرهما من الأمانات. فلابد من كونه تعليلاً تعبدياً يقتصر فيه علي مورده. أو يحمل حبس المنفعة فيه علي حبسها شرعاً، الراجع لسلطنته علي منفعتها بسبب ملكيته لها وفاء عن الدين. فلا يشمل الحبس العدواني من الغاصب الذي هو محل الكلام. ومن ثم لا مجال لتأييد المدعي به، فضلاً عن الاستدلال، وينحصر الدليل عليه بالصحيح.

بقي الكلام في القول بضمان أعلي القيم من حين القبض إلي حين التلف، وهو الذي صرح به الشيخ في الخلاف وغير موضع من المبسوط وعن موضع من النهاية، وتبعه جماعة. وقد يستدل له بوجوه:

الأول: ما في الخلاف وعن السرائر وغيرهما من عدم إحراز براءة الذمة إلا بدفع أعلي القيم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب الصرف حديث: 2.

ص: 317

وفيه: أنه بناء علي امتناع انشغال الذمة بالعين مطلقاً أو بعد تلفها، وأن الذمة إنما تنشغل بالقيمة، فمرجع الشك للشك في مقدار ما تنشغل به الذمة، ولا ريب في أن المرجع فيه البراءة من الزائد، كما لو شك في مقدار المغصوب.

وأما بناءً علي انشغال الذمة بالعين ولو مع التلف فلا إشكال في عدم التكليف بأداء ما انشغلت به الذمة مع تلفه، بل ليس المكلف به إلا أداء بدله، ومع تردده بين الأقل والأكثر فالمرجع فيه البراءة أيضاً، ولاسيما مع عدم كونه ارتباطياً، بل انحلالياً.

الثاني: ما عن الوحيد (قدس سره) من أنه مقتضي قاعدة نفي الضرر، حيث فوت الغاصب علي المالك أعلي القيم بحبسه للعين، فلو لم يضمنه لزم الضرر في حقه.

ويظهر ضعفه مما سبق في المسألة الثالثة عشرة عند الكلام في ضمان اليد من عدم نهوض قاعدة نفي الضرر بأصل الضمان، فضلاً عن خصوصياته. علي أن المالك قد لا يكون في مقام بيع العين حين ارتفاع قيمتها، أو مطلقاً، أو لم يكن يتيسر له بيعها بقيمتها حينئذٍ ولو لعدم تهيؤ المشتري منه، فلا يكون الغاصب قد فوت عليه ذلك.

الثالث: أن العين مضمونه في تمام أزمنة وجودها تحت يد الغاصب، ومنها زمان ارتفاع قيمتها، فتكون مضمونة بأعلي القيم، كما تكون مضمونة ببقية القيم، ويدخل الأقل في الأكثر، إذ لا ريب في عدم لزوم الجمع بين القيم المتعاقبة في الذمة.

بل لو قيل بانشغال الذمة بالعين حتي بعد تلفها، أو بمثلها بعد تلفها حتي في القيميات، لزم ضمان أعلي القيم إلي حين الأداء، كما عن المحقق في أحد قوليه، وصرح بالشرايع بالتردد في ذلك.

وفيه: أولاً: أنه حيث لا ريب في وجوب أداء العين مع وجودها، فليس وجوب أداء القيمة إلا تقديرياً معلقاً علي تعذر أداء العين، من دون تحديد للقيمة التي يجب دفعها فعلاً، بل اللازم الرجوع فيه للدليل الخاص - كالصحيح الذي عرفت الكلام في مفاده - أو للقاعدة التي سبق الكلام في أن مقتضاها قيمة زمان التلف أو

ص: 318

زمان الأداء.

وثانياً: أنه لو تم فرض انشغال الذمة بالقيمة حين وجود العين فلا وجه للبناء علي الانشغال بتمام القيم مع التداخل. بل المناسب هو انشغال الذمة بها علي نحو التعاقب، بمعني أن العين مضمونة في كل زمان بقيمتها في ذلك الزمان، لأنها هي البدل عنها حينئذٍ، وعلي ذلك تستقر القيمة الثابتة للعين في آخر زمان ضمانها، وهو زمان التلف أو زمان الأداء علي الكلام السابق. ولو غضّ النظر عن ذلك فالمتيقن هو انشغال الذمة بقيمة يوم الغصب مع الشك في تبدلها بقيمة أخري، فتستصحب.

الرابع: صحيح أبي ولاد فقد ادعي في المسالك والروضة أن فيه دلالة علي القول المذكور. ولم يتضح وجه دلالته عليه. وربما يبتني علي ما سبق من كون (يوم خالفته) ظرفاً متعلقاً باللزوم المستفاد من قوله (عليه السلام): (نعم)، مع تنزيله علي بيان مبدأ الضمان، ويكون مفاده أنه مضمون بالقيمة من يوم المخالفة إلي يوم التلف، فيدل علي ضمان أعلي القيم بالتقريب المتقدم في الوجه السابق.

لكن مما سبق يظهر ضعفه: تارة: بأن الظرف المذكور قيد للقيمة، لا للزوم المستفاد من قوله (عليه السلام): (نعم). وأخري: بأنه لو تمّ كون الظرف قيداً للزوم فهو ظاهر في بيان زمان الضمان، لا مبدئه، ويكون مقتضاه حينئذٍ مراعاة قيمة يوم المخالفة، كما سبق. وثالثة: بأنه لو تمّ وروده لبيان مبدأ الضمان واستمراره فهو يقتضي ضمان القيم بنحو التعاقب، المستلزم لاستقرار قيمة آخر أزمنة ضمان العين، لا بنحو التداخل، ليستلزم استقرار أعلي القيم. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن المتيقن مما سبق هو ضمان المغصوب في حق الغاصب أما في حق من يأخذه من الغاصب قهراً عليه، أو بأذنه، أو بعقد الفضولي - كما في محل الكلام - فالظاهر العموم له.

أما بناءً علي الضمان بقيمة يوم التلف أو يوم الأداء، فظاهر، لابتنائهما علي أن

ص: 319

(مسألة 19): إذ رجع المالك علي المشتري ببدل العين - من المثل أو القيمة - أو بدل نمائها - من الصوف واللبن ونحوهما - أو بدل

---------------

ذلك مقتضي القاعدة، فلا يفرق فيها بين موارد ضمان اليد.

وأما بناءً علي الضمان بقيمة يوم الغصب، للنص المتقدم، فلقرب إلغاء خصوصية الغاصب الأول، وأن المدار علي كل آخذ بلاحق. نعم يتجه ضمان الغاصب الثاني ومن بعده بقيمة يوم غصبه هو، ووضع يده علي العين بلا حق، لا بقيمة يوم غصب الأول، كما هو ظاهر.

هذا وأما المقبوض من المالك بالعقد الفاسد لو كان مضموناً فالظاهر أنه بحكم المغصوب - كما عن السرائر دعوي الإجماع عليه - لأنه من أفراده بعد فرض عدم سقوط ضمانه بالإذن اللازم من إجراء العقد، فهو مقبوض بلاحق، فيكون مغصوباً. ومجرد الجهل بالغصب - لو فرض - لا يمنع من جريان حكمه، كما لو أخذ الشخص ملك غيره لتخيل أنه ملك له بنفسه.

الثاني: إذا تعذر تسليم المغصوب من دون تلف - لسرقة أو غرق أو ضياع أو نحوها من موارد بدل الحيلولة - فلا إشكال في أن المعيار في ضمانه علي قيمة يوم الأداء، بناء علي أن المرجع في الضمان هو القاعدة، حيث سبق أنها تقتضي ذلك. بل لا يبعد ذلك حتي بناء علي أنها تقتضي الضمان بقيمة يوم التلف، لفرض عدم التلف. ومجرد تعذر رد العين لا يقتضي استحقاق المالك للقيمة. ولذا سبق أن له الانتظار برجاء تحصيل العين، وأنه لو تجددت القدرة عليها وجب أداؤها.

وأما بناءً علي ما سبق من ظهور صحيح أبي ولاد في ضمان قيمة يوم الغصب، فهو وإن اختص بالتلف إلا أنه لا يبعد إلغاء خصوصيته عرفاً، وفهم أن من شؤون الغصب ضمان المغصوب بعينه، ومع تعذر تسليمه فالغاصب ملزم بقيمة يوم الغصب. فالتفريق بين التلف وبين مثل الضياع والسرقة وغيرها يحتاج إلي عناية مغفول عنها جداً. وإن كان الاحتياط بالصلح حسناً أو لازماً. فلاحظ.

ص: 320

(321)

المنافع المستوفاة أو غير ذلك. فإن كان المشتري مغروراً من قبل البايع - بأن كان جاهلاً بأنه فضولي، فأخبره البايع بأنه مالك، أو ظهر له منه أنه مالك (1) رجع المشتري علي البايع بجميع الخسارات التي خسرها للمالك (2)،

---------------

(1) وكذا لو أخبره أو ظهر له منه أنه مأذون من المالك أو وكيل عنه أو ولي عليه أو نحو ذلك، مما يخرج البيع عن الفضولية.

(2) أما إذا كان المدفوع في مقابل أمر لم يحصل له نفع منه - كالمنافع غير المستوفاة - بناء علي كونها مضمونة، وما أنفقه علي العين إذا استرجعها المالك، وغير ذلك فهو المعروف بينهم. وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع، حيث صرحوا بذلك من دون خلاف يعرف منهم، وظاهر غير واحد الإجماع عليه، بل عن المحقق الثاني في شرح الإرشاد دعواه صريحاً، وفي الجواهر دعوي الإجماع بقسميه عليه.

لكن تقدم منّا الإشكال في الاستدلال به في نظائر المقام من المسائل التي لم يعرف الكلام فيها إلا في عصر تحرير الفتاوي، من دون أن تكون مورداً للنصوص، ليعرف مذهب قدماء الأصحاب فيها متصلاً بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم) من تدوينهم لتلك النصوص، وظهور حالهم في العمل بها، ولا مورداً لسيرة ظاهرة متصلة بعصورهم (عليهم السلام) يعلم بها حكمهم (عليهم السلام)، ويعرف بها رأي فقهاء شيعتهم.

الثاني: قاعدة نفي الضرر. ويظهر اندفاعه مما تقدم غير مرّة من أن القاعدة المذكورة إنما تنهض برفع الأحكام الضررية، لا بتشريع أحكام يتدارك بها الضرر.

مضافاً إلي ما ذكره غير واحد من أن رجوع المشتري علي البايع الفضولي ضرر علي البايع، فلا تنهض به القاعدة.

اللهم إلا أن يقال: منصرف أدلة قاعدة نفي الضرر الإرفاق بغير الضار - الذي هو في المقام عرفاً البايع - فلا تمنع من تحميله الضرر، ولذا لا يكون مثل ضمان الإتلاف

ص: 321

منافياً لقاعدة نفي الضرر عرفاً ومخصصاً لها. ومن هنا لا تمنع القاعدة من تضمين الضار لو نهضت بتشريع الحكم الذي يتدارك به الضرر.

نعم، كما يكون تدارك الضرر في المقام بتضمين البايع يكون بوجه آخر، كتضمين الوسيط في البيع، وتضمين بيت المال، وغيرهما، ولا تنهض قاعدة نفي الضرر بتعين الوجه الذي يتدارك به الضرر في المقام.

الثالث: قاعدة الغرور، التي قيل باستفادتها من النبوي المذكور في كلام غير واحد، بل تكرر في كلام سيدنا المصنف (قدس سره) أنه المشهور: (المغرور يرجع إلي من غره)، بلحاظ أن المشتري مع جهله بالفضولية مغرور من قبل البايع الفضولي، فيرجع عليه بما خسره نتيجة غروره.

لكن لم نعثر علي النبوي المذكور في كتب الحديث للخاصة والعامة. كما لم نعثر في كتب الحديث للخاصة علي رواية ذلك عن أحد الأئمة (عليهم السلام). نعم في جامع المقاصد: (وظاهر قوله (عليه السلام): المغرور يرجع علي من غره) و(1) ونحوه في الجواهر(2) وحكي عن حاشية الإرشاد للمحقق الثاني ولا يبعد ظهور ذلك منهما في أنه من كلام أحد الأئمة (عليهم السلام).

إلا أنه لا مجال للوثوق بكونه رواية عن أحد المعصومين (صلوات الله عليهم) بعد ما سبق منّا - وذكره غير واحد - من عدم وجوده في كتب الحديث. ولاسيما وأنا لم نعثر حتي الآن علي من نسبه للرواية قبل المحقق الثاني. والمظنون أنه قاعدة ارتكازية في الجملة تناسب بعض النصوص الآتية والفتاوي التي نقلها العامة عن بعض الصحابة التبست عليه بالرواية.

ومثل ذلك في الإشكال ما ذكره النراقي في المستند، وبعض الأعاظم (قدس سره) - ويظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة السادسة من خاتمة كتاب المضاربة من مستمسكه - من انجباره بالشهرة. حيث تكرر منا أن الشهرة إنما تجبر الحديث المتداول

********

(1) جامع المقاصد ج: 13 ص: 295.

(2) جواهر الكلام ج: 37 ص: 145.

ص: 322

بين الأصحاب، المروي بطرقهم الذي يظهر منهم التعويل عليه، دون ما روي بهذا الوجه. ولاسيما مع ما سبق من احتمال كونه قاعدة ارتكازية في الجملة من دون أن تكون حديثاً عن المعصوم.

هذا مضافاً إلي أن المضمون المذكور مما لا يمكن البناء عليه علي إطلاقه، لشموله لما إذا كان الغار أجنبياً عن المعاملة، كما لو أقدم زيد علي الشراء من بضاعة معينة اغتراراً بشراء عمرو منها فبانت معيبة، ولما إذا كان الغرور في غير المعاملات، كما لو سلك زيد طريقاً معيناً اغتراراً بمدح عمرو له، أو بسلوكه إياه، فلحقه فيه ضرر مالي أو بدني، ولما إذا كان الغار جاهلاً بالحال، أو غافلاً عن اغترار الغير به، مع عدم الإشكال بينهم ظاهراً في عدم العمل عليه في غير المعاملات التي يكون الغارّ طرفاً فيها. وذلك مستلزم لكثرة التخصيص في العموم بالنحو المسقط له عن الحجية، لكشفه عن خلل فيه، موجب لجريان حكم المجمل عليه لو كان حجة في نفسه.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - في المسألة الثلاثين من كتاب المساقاة من مستمسكه - بعد الإشارة لاحتمال عدم وجود النبوي المذكور من الاستدلال علي القاعدة المذكورة بالارتكازيات القاضية بأن سبب الضمان مجرد التغرير والإيقاع في خلاف الواقع، سواءً كان عن علم أم عن جهل.

إذ فيه: أن الارتكازيات علي العموم المذكور ممنوعة جداً، بل لا يظهر منهم الالتزام به. واختصاصه بالمعاملات في حق من هو طرف المعاملة، بلا وجه ظاهر.

نعم، لا ريب في وجود مناسبة ارتكازية بين الخديعة - بتعمد الإيهام والتغرير - والضمان. إلا أن في بلوغ المناسبة المذكورة حداً يقتضي الحكم بالضمان - بأن يكون الضمان مقتضي الارتكازيات العرفية التي يجب العمل عليها ما لم يثبت الردع الشرعي - إشكال، بل منع. غاية الأمر أنه لو ورد الحكم بضمان الخادع شرعاً فالحكم المذكور ليس تعبدياً صرفاً، بل هو ارتكازي، وذلك وحده لا يكفي في حجية الارتكاز ونهوضه بنفسه بالاستدلال.

ص: 323

الرابع: أن البايع الفضولي في المقام وإن لم يتلف المال علي المشتري بالمباشرة، إلا أنه السبب في إتلافه عليه، والسبب أقوي من المباشر.

وفيه: أنه لا مجال للبناء علي عموم تضمين السبب، كما يظهر مما سبق في قاعدة الغرور، فإنه أعم من قاعدة الغرور، وإنما يلتزم بذلك فيما إذا كان الفعل يستند عرفاً للسبب دون المباشر، ويكون المباشر كالآلة كما لعله في مثل ما إذا أغري كلبه بقتل حيوان الغير، ولا يكفي في ذلك مجرد الإيهام والتغرير. وحينئذٍ يكون السبب هو الضامن ابتداء، لا أن الضامن يرجع إليه، كما هو المدعي في المقام.

نعم، تضمنت النصوص تضمين شاهد الزور(1). لكنها مختصة بموردها، ولا قرينة علي التعدي بها عنه. مع أنها دلت علي تضمينه بالمباشرة، لا علي رجوع الضامن عليه، نظير ما سبق. ومن هنا يشكل إثبات العموم المذكور.

نعم، في صحيح جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها، ثم يجيء مستحق الجارية. قال: يأخذ الجارية المستحق، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع علي من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه) (2) ومقتضي إطلاقه ضمان البايع قيمة الولد وإن لم يعلم بالحال ولم يكن مدلساً للجارية وخادعاً للرجل. ولا ينافيه سكوت بعض النصوص عن ذلك، حيث قد لا تكون في مقام البيان من هذه الجهة. بل لو فرض ظهورها في عدم رجوع المشتري علي البايع تعين الخروج عنها بالصحيح، لأنه نص في الرجوع.

لكنه مختص بقيمة الولد. وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن في توصيف قيمة الولد بأنها أخذت منه نوع إشعار بعلية الحكم، فيطرد في سائر ما أخذ منه. فهو غير ظاهر، بل المتيقن منه مجرد التوصيف لبيان توقف رجوعه بها علي فعلية خسارته لها وأخذها منه. ولا يكفي مجرد استحقاق المالك لها من دون أن يأخذها منه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10، 11، 12، 13، 14 من أبواب الشهادات.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 5.

ص: 324

علي أن من القريب اختصاص الرجوع بقيمة الولد بصورة علم البايع، لمعتبر إسماعيل بن جابر عنه (عليه السلام):

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نظر إلي امرأة فأعجبته، فسأل عنها، فقيل: هي ابنة فلان، فأتي أباها، فقال: زوجني ابنتك، فزوجه غيرها، فولدت منه، فعلم بها بعد أنها غير ابنته، وأنها أمة. قال: ترد الوليدة علي مواليها، والولد للرجل. وعلي الذي زوجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة، كما غرّ الرجل وخدعه) (1) . فإن تعليل غرامته لقيمة الولد بأنه غرّ الرجل وخدعه كالصريح في أن علة الرجوع عليه ليس هو إيقاعه للعقد فضولاً، بل هو التغرير والخدع المختص بصورة علم الفضولي بالحال.

نعم، في معتبره الآخر عنه (عليه السلام): (قلت له: رجل كان يري امرأة تدخل إلي قوم وتخرج، فسأل عنها، فقيل له: إنها أمتهم، واسمها فلانة، فقال لهم: زوجوني فلانة، فلما زوجوه عرفوا [علي. يب. صا] أنها أمة غيرهم. قال: هي وولدها لمولاها. قلت: فجاء فخطب إليهم أن يزوجوه من أنفسهم، فزوجوه [من غيرهم. صا] وهو يري أنها من أنفسهم، فعرفوا بعد ما أولدها أنها أمة. فقال: الولد له، وهم ضامنون لقيمة الولد لمولي الجارية)(2) لصراحته في أن معرفتهم بأنها أمة بعد زواجه بها واستيلاده لها، ومع هذا حكم فيه بضمانهم لقيمة الولد.

لكن من القريب جداً أن يكون الحديث مصحفاً، وأن الصحيح: (فعرف بعد ما أولدها أنها أمة) أو: (فعرّفوه...). لظهور أن اشتباه جارية غيرهم ببنتهم عليهم بعيد جداً. ولاسيما مع سبق عدم تضمينهم قيمة الولد مع سبق جهلهم بأن الأمة التي زوجوها ليست لهم، ومع قوله

:(فزوجوه [من غيرهم] وهو يري أنها من أنفسهم) ، حيث يشعر بأن الاشتباه مختص به. وهو المناسب لما في الاستبصار من تعليل الحكم فيه بضمانهم قيمة الولد بأنهم دلسوها عليه.

ومن ثم يصعب الخروج به عن المعتبر الأول مع وضوح دلالته. ومن هنا يتجه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 7 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث: 7.

ص: 325

ما ذكرنا من تقييد صحيح جميل بالمعتبر المذكور، وحمله علي خصوص صورة علم البايع بالحال وتغريره بالمشتري وخديعته له.

اللهم إلا أن يقال: صحيح جميل وارد في بايع الجارية فضولاً، ومعتبر إسماعيل وارد في مزوجها فضولاً، ومع اختلاف موردهما لا مجال لتقييد الصحيح بالمعتبر، بل يعمل بإطلاق كل منهما في مورده.

لكن الإنصاف أن إلغاء خصوصية مورد كل منهما عرفاً قريب جداً. فإن تمّ ذلك، وإلا فالظاهر إلغاء خصوصية قيمة الولد في صحيح جميل أصعب من إلغاء خصوصية المزوج في المعتبر، بل يتعين إلغاء خصوصية المزوج في المعتبر بلحاظ عموم التعليل فيه بالخديعة. ولازم ذلك الاقتصار في عموم الضمان لحال الجهل وعدم الخديعة علي خصوص قيمة الولد في البايع الفضولي، والرجوع في غير قيمة الولد مما يغرمه المشتري إلي عموم التعليل المذكور في المعتبر، فيبني علي ضمانه مع علم البايع وخديعته للمشتري، دون ما إذا لم يكن خادعاً له لجهله بالحال.

ولاسيما مع ورود التفصيل المذكور في ضمان المهر مع تدليس المرأة أو وليها في النكاح، حيث يصلح ذلك لتأييد الحكم في المقام. بل يصلح لأن يكون دليلاً بلحاظ عموم التعليل في بعض نصوصه.

كصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): (سألته عن المرأة تلد من الزني، ولا يعلم بذلك أحد إلا وليها، أيصلح أن يزوجها ويسكت علي ذلك إذا كان قد رأي منها توبة أو معروفاً؟ قال: إن لم يذكر ذلك لزوجها، ثم علم بعد ذلك، فشاء أن يأخذ صداقها من وليها بما دلس عليه كان ذلك علي وليها، وكان الصداق الذي أخذت لها، لا سبيل عليها فيه، بما استحل من فرجها. وإن شاء زوجها أن يمسكها فلا بأس)(1) ، وفي معتبر رفاعة بن موسي عنه (عليه السلام):

(وسألته عن البرصاء، فقال: قضي أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة زوجها وليها وهي برصاء أن لها المهر بما استحل من فرجها، وأن المهر علي الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 1.

ص: 326

زوجها. وإنما صار عليه المهر لأنه دلسها. ولو أن رجلاً تزوج امرأة وزوجه إياها رجل لا يعرف دخيلة أمرها لم يكن عليه شيء، وكان المهر يأخذه منها) (1) ، ونحوه معتبر الحلبي المروي في مستطرفات السرائر(2).

فإن المتحصل من مجموع هذه النصوص عموم الرجوع علي الغار الخادع والمدلس بجميع الخسارات التي تقع بسبب خديعته له وتدليسه عليه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن عموم التعليل في هذه النصوص إنما يقتضي الرجوع إلي غير المزوج في المهر إذا دلس، ولا يقتضي الرجوع في غير المهر من الخسارات علي المزوج المدلس، فضلاً عن غيره ممن يدلس.

ففيه: أن عموم التعليل لغير مورده تابع لعمومه ارتكازاً، لظهور أن بيان الحكم لعلة الحكم لما لم يكن لازماً علي الامام (عليه السلام)، لوجوب التعبد بحكمه وإن لم تعرف علته، فظاهر ذكره للعلة اهتمامه بتقريب وجه حكمه للمخاطب وإقناعه له به، وذلك يقتضي حمل التعليل علي كونه ارتكازياً، فيكون تابعاً لعمومه ارتكازاً، ومن الظاهر أن ارتكازية تضمين الغارّ الخادع كما لا تختص بالمزوج لا تختص بالمهر ولا بقيمة الولد، بل تعمّ كل ما يخسره المغرور بسبب التغرير والخديعة التي قام بها الغار، فيتعين البناء علي عموم التعليل لذلك.

نعم، قد يستشكل في العموم المذكور بأنه ليس بناء الأصحاب علي الضمان مع الخديعة والتغرير في غير ما إذا كان الغار الخادع طرفاً في المعاملة، كما لو خدعه فأقدم علي معاملة ليس الخادع طرفاً فيها، فخسر فيها، فضلاً عما إذا كان التغرير والخديعة في غير المعاملات، كما لو خدعه فسلك طريقاً تعرض فيه للضرر المالي أو البدني، أو قام بعمل فأضر به أو غير ذلك.

لكن ذلك لا يقتضي رفع اليد عن عموم التعليل، بل إن أمكن الالتزام بالعموم علي سعته وتجاهل موقف الأصحاب فهو، وإن لم يكن - كما هو غير بعيد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب العيوب والتدليس ذيل حديث: 2.

ص: 327

- فليحمل العموم بقرينة موقفهم علي خصوص ما إذا كان الغار طرفاً في المعاملة، بأن يراد بالتغرير والخدع هو التغرير العملي الذي يكون هو السبب في الخسارة، لأن المعاملة حيث كانت هي السبب في الخسارة، فالذي يقوم بها يكون هو المسبب عملاً للخسارة، فيكون التغرير والخديعة شرطاً في مضمنية التسبيب المذكور، لا تمام العلة في الضمان. ولا ريب في أن مناسبة الخديعة للضمان أقوي ارتكازاً مع التسبيب المذكور، وحمل عموم التعليل علي خصوص ذلك ليس عزيزا بلحاظ مورده وبضميمة بناء الأصحاب وفهمهم.

وبعبارة أخري: ظاهر التعليل بدواً كون الخديعة تمام السبب للضمان، تبعاً للمناسبة الارتكازية بينهما. فإن لم يمكن البناء علي ذلك تعين حمله علي كونها شرطاً في مؤثرية التسبيب المذكور للضمان، تبعاً للمناسبة الارتكازية بينهما التي هي أقوي من المناسبة السابقة وآكد، ولا وجه لرفع اليد عن عموم التعليل والاقتصار به علي مورده، ليكون تعليلاً تعبدياً غير ارتكازي.

ولاسيما مع تعدد مورده، حيث ورد في المهر في حق الولي، وفي قيمة الولد في حق المزوج فضولاً، وليس بينهما قدر جامع عرفي ارتكازي غير ما ذكرنا. ومن ثم كان هو المتعين. ومرجع ذلك إلي اختصاص قاعدة الغرور بصورة التغرير الملازم لعلم الغار بالحال، وعدم عمومها لمطلق الاغترار بسببه وإن كان جاهلاً بالحال، كما قد يظهر من الأصحاب. كما أنها تختص بما إذا كان الغار طرفاً في المعاملة، كما يظهر من الأصحاب.

ومن ذلك يظهر الحال فيمن قدم لغيره طعاماً فأكله، حيث ينسب للأصحاب أنه إن قدمه علي أنه للدافع آذنا له بأكله فانكشف أنه للآكل فالذي قدمه ضامن للطعام، وإن قدمه علي أنه للآكل فانكشف أنه للدافع فالآكل لا يضمن الطعام، وفي الصورتين لو انكشف أنه لثالث لا يأذن بأكله فالآكل يضمن الطعام لمالكه، ويرجع بما خسره علي من قدم له الطعام. من دون فرق في جميع ذلك بين جهل من قدم الطعام

ص: 328

بالواقع، وعلمه به مع تدليسه الحال علي من قدم له الطعام وخدعه له.

فإن الظاهر انحصار الدليل عليه عندهم بقاعدة الغرور، بناء منهم علي عمومها للجاهل غير الخادع. وحيث عرفت منا قصورها عنه واختصاصها بصورة الخديعة فاللازم التفصيل.

نعم، لا يبعد عدم الضمان لمن قدم طعام نفسه بتخيل أنه طعام من قدمه له، أو طعام شخص ثالث أذن له في أكله، حيث لا يبعد بناء العقلاء علي عدم الضمان له لو انكشف الحال، لهدر حرمة ماله بسبب تقديمه له بل حتي لو لم يقدمه، وإنما أخبر بحاله خطأ، من أجل أن يعمل الطرف الآخر علي خبره.

ولا أقل من قصور دليل سببية الإتلاف للضمان عن ذلك، لأنه إنما ورد في موارد متفرقة خالية عن الخصوصية المذكورة، وهي التغرير من صاحب المال ولو كان جاهلاً بالحال.

لكن هذا أجنبي عما نحن فيه من كون التغرير مطلقاً - ولو جهلاً بالحال - سبباً للضمان، بل هو راجع إلي كونه مسقطاً لحرمة المال ورافعاً لضمان ما من شأنه أن يضمن.

بقي الكلام فيما يغرمه المشتري للمالك مما فيه نفع عائد له، كالمنافع التي استوفاها والنماءات التي استهلكها من اللبن والصوف وغيرهما. والمشهور - كما في الجواهر - رجوعه علي البايع، وعن التنقيح أن عليه الفتوي. وهو المتجه مع علم البايع وخديعته للمشتري، لعموم ما سبق من نصوص ضمان الغار الخادع. ومجرد انتفاعه بما ضمنه للمالك لا يقتضي قصوره بعد إقدامه علي الانتفاع به مجاناً بسبب تغرير البايع، وربما لا يقدم علي الانتفاع المذكور لو لم يكن مغروراً.

ولاسيما مع ورود النصوص المذكورة في قيمة الولد الذي هو من سنخ المنفعة عرفاً، ولو لم يكن منه حقيقة. بل في المهر الذي هو في مقابل الاستمتاع، وهو انتفاع حقيقي. ومجرد عدم كونه أجراً - ولذا لا يتكرر بتكرر الاستمتاع - لا ينافي كونه في مقابل الانتفاع. ولا أقل من صعوبة التفريق عرفاً بين قيمة الولد والمهر وغيرهما من

ص: 329

سائر موارد الانتفاع بوجه مضمن.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الرياض، ونسبه للشيخ - في الخلاف والمبسوط - والحلي من عدم الضمان مطلقاً. لقصور قاعدة الغرور عن صورة عدم ترتب الضرر، كما في المقام، لفرض كون الخسارة في مقابل ما استوفاه من المنفعة.

إذ فيه: أن قاعدة الغرور - بعد اختصاصها بصورة التغرير والخديعة - لما كانت مستفادة من النصوص السابقة فإطلاقها في تلك النصوص يشمل صورة عدم ترتب الضرر، بل يكفي فيها ترتب الخسارة غير المتوقعة، ولاسيما بلحاظ مورديها، كما سبق.

مع أن ترتب النفع قد يمنع من صدق الضرر عرفاً إذا كان من شأن المغرور استيفاء المنفعة بوجه مضمون لو لم يتيسر له استيفاؤها بوجه غير مضمون، أما إذا لم يكن من شأنه ذلك فالظاهر عدم مانعيته من صدق الضرر.

أما مع عدم خديعة البايع للمشتري، لجهله بالحال، فلا مجال للبناء علي الضمان، لما سبق من قصور دليل الضمان عنه. بل لو كان الدليل هناك هو الإجماع فالمفروض فقده في المقام.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من تحقق الإجماع ظاهراً في نظير المسألة، وهو رجوع آكل طعام الغير إلي من غرّه بدعوي أنه ملكه وقد بذله وأباحه له. فهو كما تري، فإن حصول الإجماع هناك لا يناسب الخلاف هنا. فلو فرض تحققه كشف ذلك عن اضطراب الأصحاب في المسألة، بنحو لا يناسب التعويل علي إجماعهم في المورد المذكور، فضلاً عن التعدي منه لما نحن فيه، بحيث يكون دليلاً مخرجاً عن الأصل القاضي بعدم الضمان.

بقي شيء، وهو أن ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من رجوع المشتري علي البايع ببدل العين من المثل أو القيمة لو رجع به المالك عليه لا يتم علي إطلاقه، لأن المشتري لم يقدم بسبب الغرور علي أخذ العين مجاناً، بل في مقابل الثمن، وحيث أن الثمن

ص: 330

(331)

سواءً كان البايع عامداً في تغريره أم غير عامد (1). وإن لم يكن مغروراً من البايع - كما إذا كان عالماً بالحال - لم يرجع عليه بشيء من الخسارات المذكورة (2).

---------------

يرجع له - كما يأتي - لفرض عدم نفوذ البيع، فالبدل الذي يأخذه المالك منه إن كان دون الثمن أو مساوياً له تعين عدم الرجوع به عليه، لأن خسارة هذا المقدار لم تكن بسبب التغرير، بل بسبب إقدامه علي أخذ العين في مقابل الثمن. وإن كان أكثر من الثمن تعين رجوعه عليه بالزائد لا غير، لأنه هو الذي يخسره بسبب التغرير والخديعة، دون ما يقابل الثمن. ولذا جعل شيخنا الأعظم (قدس سره) ومن تبعه موضوع الكلام هو الزيادة لا غير. وكأن هذا هو مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، لأنه قد صرح بذلك في نهجه، واستدل عليه بما ذكرنا. وإن كان إطلاق كلامه هنا لا يناسبه.

بل لا يبعد عدم الرجوع بالخسارات إلا بعد استيفاء الثمن لو زاد علي البدل من المثل والقيمة. فمثلاً إذا اشتري ناقة بألف وتلفت، وكانت قيمتها السوقية خمسمائة، فضمنها المشتري، ورجع عليه المالك أيضاً بما استوفاه من نمائها ومنفعتها فلا يرجع هو علي البايع الفضولي بما يدفعه للمالك من ثمن النماء والمنفعة إلا بما زاد علي الخمسمائة الباقية من الثمن، لأنه هو الذي خسره نتيجة التغرير والخدمة. أما الخمسمائة فهو قد أقدم علي خسارتها وخسارة الخمسمائة التي دفعها بدلاً عن الناقة بشرائه للناقة بألف.

نعم، إذا لم تتلف العين وأرجعها بعينها للمالك واسترجع الثمن فلا تستثني زيادة الثمن من قيمتها السوقية مما يخسره للمالك من قيمة النماء والمنفعة التي استوفاها، لأنه لم يقدم علي خسارة الألف إلا علي تقدير بقاء الناقة له أو تلفها عنده، لا مطلقاً. وهو المناسب لإطلاق صحيح جميل الحاكم بالرجوع بقيمة الولد مع رجوع الجارية بعينها.

(1) مما سبق يظهر اختصاص الرجوع بما إذا كان عامداً، بحيث يكون غارّاً خادعاً.

(2) بلا خلاف ولا إشكال، كما في الجواهر، لعدم الموجب للضمان بعد قصور

ص: 331

دليله عن صورة عدم التغرير.

نعم، له الرجوع عليه بالثمن المسمي بالبيع، لفرض عدم نفوذ البيع، وبقاء الثمن المذكور في ملكه. وتفصيل الكلام في ذلك: أن البايع الفضولي إن لم يكن قد أخذ الثمن بعد فلا إشكال في عدم وجوب تسليمه له، وجواز احتفاظ المشتري به، لعدم خروجه عن ملكه، وعدم استحقاق أحد له عليه بعد فرض عدم نفوذ البيع.

وإن كان البايع قد قبض الثمن، فإن كان المشتري جاهلاً بالحال رجع به، كما ذكره غير واحد، وصرح في مفتاح الكرامة بالإجماع عليه، وفي الجواهر بالإجماع بقسميه. لما سبق من عدم خروجه عن ملكه، فله المطالبة به مع بقاء عينه، وببدله مع تلفه، لكونه مضموناً بضمان اليد بعد كونها عادية. ومجرد تسليط المشتري عليه بدفعه له لا يخرجها عن العدوان بعد ابتناء التسليط المذكور علي الخطأ في كونه مستحقاً لأخذه، لا علي تمليكه له، كي لا يضمنه بالإتلاف ونحوه، ولا علي استئمانه عليه، كي لا يضمنه بضمان اليد. مضافاً إلي ما سبق في صحيح جميل من التصريح برجوع المشتري علي البايع بثمن الجارية.

وإن كان المشتري عالماً بالحال فإن كان الثمن باقياً بعينه فمقتضي إطلاق جماعة عدم رجوعه به، بل نسب في التذكرة عدم الرجوع به مطلقاً إلي علمائنا، بنحو يظهر منه دعوي الإجماع عليه، كما يأتي نقل كلامه، وقال في الجواهر

:(وفي تلخيص التلخيص: أطلق الأصحاب كافة ذلك، بل عن الإيضاح أنه نسب عدم الرجوع مع بقاء العين فضلاً عن تلفها تارة إلي قول الأصحاب, وأخري إلي نصهم) ، وفي جامع المقاصد: (وظاهر كلام الأصحاب عدم الرجوع مطلقاً)، ونحوه في الروضة.

وقد يوجه بأنه قد سلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له، وهو راجع إلي إعراضه عنه وإباحته له. لكنه - مع عدم تماميته كما سيأتي - لا يمنع من رجوعه به مع بقاء عينه، لظهور عدم لزوم الإباحة المذكورة. بل لا يمنع من رجوعه به حتي لو فرض تملك البايع له - بناء علي الإعراض والإباحة المذكورين - وعدم اكتفائه

ص: 332

بقبضه علي أنه مباح له. لوضوح أنه حينئذٍ كالهبة التي يجوز الرجوع بها إلا في الرحم أو مع التصرف مع عدم بنائهم علي قصر الحكم بعد الرجوع عليهما. ومن ثم صرح في التذكرة وفي القواعد وجامع المقاصد والمسالك والروضة وغيرها بجواز الرجوع حينئذٍ. ويأتي في صورة التلف ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالي.

وأما مع التلف فعدم الرجوع كالمتيقن من معقد الإجماع المدعي فيما سبق. وقد يوجه - مع ذلك - بما أشرنا إليه آنفاً - تبعاً لغير واحد - وفصل الكلام فيه شيخنا الأعظم (قدس سره). وحاصله: أن المشتري قد سلط البايع علي الثمن مع علمه بعدم استحقاقه له، ولم يسلطه في مقابل ماله، ليكون قد دفعه له مضموناً عليه، بل مجاناً بعد علمه بعدم استحقاقه للمبيع، فيتعين عدم ضمانه له، كما في سائر موارد التسليط المجاني. ولا يقاس ذلك بالمقبوض بالعقد الفاسد، لأن التسليط هناك في مقابل العوض المملوك له فيكون مضموناً عليه مع عدم سلامة العوض له شرعاً، أما هنا فالتسليط في مقابل العوض المملوك لغيره مع كونه مجانياً في حقه.

لكنه كما تري، فإن المشتري إنما دفع الثمن للبايع علي أنه ثمن المبيع وفي مقابله، لا مجاناً، فهو لم يهدر حرمة المال، فإذا لم يسلم له المبيع تعين ضمان الثمن. وبعبارة أخري: إنما يسقط ضمان اليد برفع المالك اليد عن حرمة ماله، وإقدامه علي التسليط عليه مجاناً بلا عوض، وهو غير حاصل في المقام، كما في المضمون بالعقد الفاسد.

وأما الفرق بينهما بأن تسليط البايع علي الثمن ليس في مقابل ماله، بل في مقابل مال غيره، بخلافه في المقبوض بالعقد الفاسد، فإنه في مقابل الطرف الآخر. فهو - لو تم - ليس فارقاً بعد عدم إقدام المشتري هنا علي المجانية، بحيث يرجع إلي هدر حرمة ماله. مع أنه غير تام، لأنه إنما دفع الثمن إليه للبناء علي معاملته معاملة المالك تشريعاً أو عصياناً، تجاهلاً لحكم الشارع. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه، كما صنع سيدنا المصنف (قدس سره).

كيف ؟! وقد صرحوا بحرمة تصرف الفضولي في الثمن. لظهوره أنه لا يناسب عدم ضمانه له مع تلفه، كما نبّه لذلك في المسالك والروضة، وغيرهما. ويظهر من

ص: 333

المسالك أنه الوجه فيما يأتي من المحقق. لأن التسليط المذكور إن ترتب عليه الأثر شرعاً في حق البايع تعين جواز التصرف له، وإن لم يترتب الأثر عليه، لابتنائه علي المعاوضة الباطلة تعين الضمان. ويأتي من المسالك تمام الكلام في ذلك.

ولعله لذا يظهر من المحقق التردد في عدم رجوع المشتري بالثمن مع علمه بالغصب، حيث اقتصر في الشرايع علي نسبته للقيل. بل حكي عنه في بعض تحقيقاته - وقيل: في نكت النهاية - ضمان البايع للثمن وجواز رجوع المشتري عليه به. قال في جامع المقاصد:

(وهو متجه لكن نقل في التذكرة الإجماع علي عدم الرجوع) . وقريب منه في المسالك.

وهو كما تري: أولاً: لما تكرر منا من الإشكال في الاعتماد علي دعاوي الإجماع في مثل هذه المسألة مما حرر في كلمات الفقهاء في عهد تدوين الفتاوي من دون أن يكون مورداً للنصوص ولا لسيرة ظاهرة.

وثانياً: لأن العلامة - مع تأخره عن المحقق - إنما ادعي الإجماع علي الرجوع بالثمن مطلقاً - كما سبق - لا في خصوص صورة التلف، كما يظهر من المحقق والشهيد الثانيين قال في التذكرة: (ولو كان عالماً لم يرجع بما اغترم ولا بالثمن مع علم الغصب مطلقاً عند علمائنا. والأقوي أن له الرجوع مع بقاء الثمن، لعدم الانتقال، بخلاف التالف، لأنه أباحه فيه من غير عوض).

وحينئذٍ إن بني علي حجية الإجماع المذكور فلا وجه للتفصيل بينهما، كما جري عليه في جامع المقاصد وغيره. وإن فرض وهن دعوي الإجماع المذكور مع بقاء الثمن بذهاب العلامة نفسه للرجوع معه، تعين وهنه مع تلفه أيضاً بذهاب المحقق للرجوع معه.

بل يظهر من كلام العلامة المتقدم أن الإجماع ليس بنحو ينهض بالاستدلال، ولذا اختار التفصيل لما سبق من الوجه في كلا شقيه، من دون أن يعول علي الإجماع في أحدهما أو يجعله مانعاً من الخروج عنه في الآخر.

ص: 334

وإذا رجع المالك علي البايع (1) بالعين (2)، فإن كان المشتري مغروراً من

---------------

وأشكل من ذلك ما في المسالك، فإنه بعد أن ذكر أن القول بالرجوع في غاية القوة لولا الإجماع المدعي، قال:

(فإن قيل: كيف يجامع تحريم تصرف البايع في الثمن عدم رجوع المشتري به في حال، فإنه حينئذٍ لا محالة غاصب آكل للمال بالباطل، فاللازم إما جواز تصرفه أو جواز الرجوع إليه مطلقاً. قلنا: هذا الالتزام في محله. ومن ثم قلنا: إن القول بالرجوع مطلقاً متجه. لكن لما أجمعوا علي عدمه مع التلف كان هو الحجة. وحينئذٍ نقول: إن تحقق الإجماع فالأمر واضح. وإلا فمن الجائز أن يكون عدم جواز رجوع المشتري العالم عقوبة له، حيث دفع ماله معاوضاً به علي محرم. وعلي هذا يكون البايع مخاطباً بردّه أو ردّ عوضه مع التلف، فإن بذله أخذه المشتري، وإن امتنع منه بقي للمشتري في ذمته، وإن لم يجز له مطالبته به... ) .

إذ فيه: أن الوجه الذي ذكره في العقوبة - مع مخالفته لما يظهر من الأصحاب، وعدم مناسبته لما اختاره من التفصيل بين بقاء الثمن وتلفه - يحتاج إلي دليل. لظهور أن مجرد تسليط المالك علي الثمن لا يقتضيه، والمفروض في كلامه عدم تمامية الإجماع. فكيف يدفع به الإشكال ؟! ولاسيما وأن البايع الغاصب يشارك المشتري العالم في استحقاق العقوبة، فلماذا يعاقب المشتري بحبس الثمن عليه، ويخفف عن البايع فلا يطالبه المشتري بردّ الثمن الذي له عنده ؟!.

علي أن الجمع بين استحقاق المشتري للثمن وعدم جواز مطالبته به في غاية الغرابة، ولا نعهد نظيراً له في الاستحقاقات. ومن هنا يظهر اضطراب الأصحاب في المقام. ولا مخرج عما تقتضيه القاعدة من رجوع المشتري بالثمن مطلقاً وإن تلف.

(1) بناءً علي ما سبق في المسألة الخامسة عشرة من جواز رجوعه عليه وإن خرجت العين من يده، لأنها مضمونة عليه بضمان اليد.

(2) يعني ببدلها، لتعذر إرجاع العين عليه. أما لو أمكنه أخذ العين من المشتري وإرجاعها للمالك وجب عليه ذلك ولم يبق موضوع لهذا الفرض.

ص: 335

(336)

قبل البايع لم يرجع البايع علي المشتري (1) وإن لم يكن مغروراً من قبل البايع رجع البايع عليه (2)

---------------

(1) لأن الغرور حيث كان موجباً لاستحقاق المغرور علي الغار ما يخسره فلا فائدة في رجوع البايع علي المشتري، لأن المشتري حينئذٍ يستحق الرجوع عليه بما يخسره له. ويأتي الكلام في تحديد الغرور المانع من الرجوع في آخر الكلام في هذا الحكم إن شاء الله تعالي. نعم سبق أن الغرور إنما يمنع من الرجوع بالزيادة علي الثمن، مع جواز الرجوع بما يقابل الثمن.

كما أن ذلك إنما يتم مع تلف العين في يد المشتري أو خروجها من يده، بحيث لا يقدر علي إرجاعها، وإنما يقدر علي دفع بدلها وخسارته، حيث لا يجب عليه خسارته له بعد استحقاقه الرجوع عليه بما يخسره بسبب الغرور.

أما مع بقاء العين في يد المشتري فالظاهر جواز رجوع البايع عليه، لأنه بدفع البدل للمالك يملكها، كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة عند الكلام في بدل الحيلولة، وإذا ملكها جاز له المطالبة بها ووجب علي المشتري دفعها له، لقاعدة السلطنة. ومجرد غرور المشتري لا يمنع من ذلك، لعدم خسارة المشتري بإرجاع العين للبايع، وليس هو كدفع بدلها لو تلفت عنده، فإنه خسارة لم يقدم عليها، وإنما أقدم علي أن يكون تلفها مجانياً عليه.

ومن ذلك يظهر أن المشتري لو دفع العين لغيره جاز للبايع الرجوع علي ذلك الغير وأخذ العين منه مع بقائها. ولو كان المشتري قد دفعها له بمعاوضة متأخرة عن دفع البايع البدل كان له إمضائها وأخذ العوض. أما إذا كانت المعاوضة سابقة علي ذلك فلا يكون له إمضاؤها، كما يظهر مما سبق في المسألة الثالثة عشرة فيما لو باع الفضولي ثم ملك المبيع قبل الإجازة.

(2) فقد ذكروا في تعاقب الأيدي أن المالك إذا رجع علي السابق يرجع السابق

ص: 336

علي اللاحق، وإذا رجع علي اللاحق لم يرجع اللاحق علي السابق، وأن قرار الضمان علي من تلفت العين عنده. وهو في بدو النظر يحتاج إلي دليل، لأن اللاحق قد كان ضامناً للمالك بضمان اليد، وبعد براءة ذمته من الضمان للمالك بسبب أخذ المالك البدل من السابق - لأن المالك لا يستحق إلا بدلاً واحداً عن العين - يحتاج انشغال ذمة اللاحق للسابق إلي دليل.

وقد اختلفوا في توجيه ذلك والاستدلال عليه، وما ذكر أو يذكر في الاستدلال عليه وجوه:

الأول: ما في كتاب الغصب من الجواهر من عدم الدليل علي انشغال الذمم المتعددة بمال واحد، وأن الذي تنشغل ذمته للمالك بالبدل هو الأخير الذي تتلف العين في يده، دون من قبله ممن تثبت يده علي المال. غاية الأمر للمالك إلزامه - بسبب غصبه - بأداء ما اشتغلت به ذمة من تلفت العين في يده، ويجب عليه حينئذٍ تكليفاً دفعه من دون أن تنشغل ذمته به. فإذا دفعه للمالك ملك البدل الذي انشغلت به ذمة الأخير الذي تلفت العين في يده بالمعاوضة الشرعية القهرية، وإذا ملكه عليه جاز له مطالبته به.

وفيه: أولاً: أنه بعد أن سبق في المسألة الخامسة عشرة إمكان انشغال الذمم المتعددة بمال واحد فاللازم البناء عليه بعد اقتضاء عموم دليل ضمان اليد له، لاشتراك الجميع في كونهم أصحاب يد علي العين، ولذا كان للمالك الرجوع علي كل منهم، ولا مجال بعد ذلك للتفريق بينهم بالبناء علي انشغال ذمة واحد بالمال، وتكليف الباقين بأدائه من دون أن تنشغل ذممهم به. وعلي ذلك فإذا أدي بعضهم سقط عن الباقين، إذ لا يستحق المالك إلا العين أو بدل واحد عنها، ولا يبقي شيء مع أداء أحدهما.

وثانياً: أنه لو بني علي التفريق بين أصحاب الأيدي المتعاقبة في كيفية الضمان لامتناع انشغال الذمم المتعددة بمال واحد. فلا وجه لكون من تنشغل ذمته هو الأخير الذي تتلف العين تحت يده، دون غيره، حيث لا مرجح له. بل لا يبعد ترجيح الأول

ص: 337

حينئذٍ، لأنه حيث كان منفرداً في أول الأمر بوضع اليد لم يكن مانع من انشغال ذمته بالعين، وبعد انشغال ذمته بالعين لا دليل علي انتقال ما في ذمته لذمة من بعده، بل مقتضي الاستصحاب بقاء العين في ذمته، وعدم انشغال ذمة من بعده بها، غاية الأمر وجوب أدائها عليه تكليفاً فقط. فإذا تلفت العين بعد ذلك، وبني علي لزوم انتقال ما في الذمة لبدلها، يكون البدل في ذمة الأول، وليس علي من بعده إلا وجوب أدائه تكليفاً من دون أن تنشغل ذممهم به.

وعلي ذلك فإذا أدي الأول البدل فلا يملك صاحب العين شيئاً في ذمم الآخرين لينتقل لمؤدي البدل بالمعاوضة القهرية، ويحق له مطالبته به، بل يتعين سقوط تكليفهم بأداء البدل للمالك، لأنه لا يستحق أكثر من بدل واحد، ويحتاج وجه رجوع الأول عليهم إلي الدليل. وإذا أدي اللاحق البدل - تعين بناء علي ما ذكره (قدس سره) - عدم رجوعه علي من بعده، بل علي الأول، لأنه هو الذي انشغلت ذمته للمالك، فيملك ما انشغلت به ذمته بالمعاوضة القهرية الشرعية.

وثالثاً: أن الغاصب السابق لو كان مكلفاً بدفع البدل من دون أن تنشغل ذمته به، فالبدل المكلف بدفعه ليس بدلاً عما انشغلت به ذمة من تلفت العين في يده، ليتوهم ملكه لما انشغلت ذمته به، بل هو بدل عن العين، لأن اليد إنما تقتضي ضمان العين، لا ضمان البدل المذكور.

ورابعاً: أنه لا دليل علي المعاوضة القهرية الشرعية في المقام. وإنما التزمنا في بدل الحيلولة بملكية العين بأداء بدلها، لرجوع رضا المالك بالبدل ارتكازاً إلي الرضا بكون البدل عوضاً عن العين وبدلاً عنها، ولولا ذلك لم يكن له إلا العين والانتظار برجاء تحصيلها. فالمعاوضة هناك مالكية لا شرعية قهرية، كما يدعيه (قدس سره) في المقام.

نعم، لو كان المدعي في المقام أن يرجع أداء السابق للمالك البدل هو المعاوضة بينه وبين المالك علي أن يكون البدل المدفوع عوضاً عما يستحقه المالك علي من تلفت العين في يده كانت المعاوضة مالكية. لكن لا يظن بأحد دعوي ذلك. كما لا وجه له.

ص: 338

وخامساً: أن ذلك لا ينهض بتوجيه تمام المدعي، بل يختص بتوجيه رجوع من لم تتلف العين في يده إذا دفع للمالك البدل علي من تلفت العين في يده، ولا ينهض بتوجيه عموم رجوع السابق للاحق في غير ذلك، كما لو خرجت العين من يد اللاحق وتلفت في يد غيره، أو لم تتلف لكن تعذر عليه إرجاعها، إما لضياعها من دون تلف، أو لوقوعها في يد من يتعذر الوصول إليه أو استرجاع العين منه، مع أن الظاهر بنائهم علي رجوع السابق للاحق في الجميع.

وكذا لو أتلف العين متلف وهي في يد غيره، فإن الظاهر بناؤهم علي جواز رجوع المالك أو من يرجع عليه المالك لمن تلفت العين في يده ورجوع من تلفت العين في يده للمتلف، لأن قرار الضمان عليه، من دون أن ينهض ما ذكره (قدس سره) بتوجيه ذلك.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وحاصله: أن السابق قد أخذ العين مضمونة بنفسها للمالك، فيثبت في ذمته بدلها له لا غير، أما اللاحق فقد أخذها مضمونة ببدلها علي السابق وقد انشغلت ذمته ببدلها، فضمنها وهي ذات بدل. ومرجع ذلك إلي ضمانه لها هي وبدلها علي نحو البدل، إذ لا يعقل ضمان المبدل معيناً من دون بدله، وإلا خرج بدله عن كونه بدلاً له. فإذا دفع السابق بدل العين للمالك فقد برئت ذمته من ضمانها، كما تبرأ ذمة اللاحق من ضمانها للمالك أيضاً، إذ لا يستحق المالك إلا بدلاً واحداً للعين يكون به تداركها، ويتعين ضمان اللاحق للسابق بدلها، لأنه بعد أن كان ضامناً لها ولبدلها علي البدل يتعين ضمانه لبدلها تعيناً بعد أن سقط ضمانها عنه.

ولو تم هذا أمكن توجيه رجوع السابق علي اللاحق وإن كانوا جماعة كثيرة، بأن يكون المتأخر يضمن لمن سبقه مهما تعدد بدلاً يخصه، فالثاني يضمن مع العين للمالك بدلاً واحداً للأول، والثالث يضمن بدلين للأول والثاني، والرابع يضمن ثلاثة أبدال للثلاثة الذين هم قبله... وهكذا.

لكن فيه: أولاً: أن العين حينما أخذها اللاحق من السابق لم تكن مضمونة

ص: 339

بالبدل، فإن العين مادامت موجودة فهي مضمونة بنفسها وصاحب اليد مسؤول بها لا ببدلها، ولا يكون مسؤولاً ببدلها إلا بعد تلفها، إما لانقلاب ما في ذمته من العين للبدل، أو لبقاء ذمته مشغولة بالعين مع استحقاق المالك عليه أداء بدلها. والحاصل: أن العين لا بدل لها حين وضع اللاحق يده عليها، فهو يضمنها بنفسها لا غير.

وثانياً: أن وضع يد اللاحق إنما هو علي العين، وكونها مضمونة بالبدل ليس صفة كمالية فيها تقتضي زيادة قيمتها، ليتوهم ضمانها، وإنما هو أمر مقارن لها لا يكون مورداً للضمان. وما ذكره (قدس سره) من امتناع ضمان المبدل معيناً من دون البدل، وإلا خرج البدل عن كونه بدلاً، غريب جداً. فإن بدلية البدل ترجع إلي أن دفعه لتدارك خسارة المالك لو لم ترجع له العين، في مقابل كونه غرامة مالية ابتدائية. وهذا المعني لا يقتضي ضمان اللاحق البدل المذكور للسابق تبعاً لضمان العين للمالك. بل لا ريب في إمكان تصريح الشارع بعدم ضمانه له، من دون أن يخل ذلك ببدلية البدل.

وثالثاً: أن دليل ضمان اليد يقتضي ضمان اللاحق - كالسابق - للمالك، لا للسابق، فلو سلم أنه يقتضي ضمان العين والبدل معاً علي نحو البدل، فهو إنما يقتضي ضمان البدل بالنحو المذكور للمالك، لا لصاحب اليد السابق، فإذا سقط ضمان اللاحق للمالك بأداء السابق للبدل، فلا دليل علي ضمانه البدل للسابق وانقلاب المضمون له. وربما كان هناك وجوه أخر في الإيراد علي هذا الوجه لا يسعنا إطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعف الوجه المذكور، بل غرابته.

هذا وقد ادعي بعض الأعاظم (قدس سره) أن مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) من الوجه المتقدم هو أن ضمان اللاحق في طول ضمان السابق، بمعني أن السابق يضمن للمالك العين فقط، حيث تكون في عهدته وعليه إرجاعها، فإن تعذر ذلك عليه أرجع بدلها. أما اللاحق فهو مع كونه ضامناً للمالك ضامن للسابق، ومسؤول له بتدارك خسارته لو دفع للمالك البدل بمقتضي ضمانه وخروجاً عما ثبت في عهدته، فضمانه للسابق نظير الضمان العقدي عند الإمامية إذا كان بإذن المدين.

ص: 340

وما ذكره (قدس سره) وإن لم يناسب صدر كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في بيان هذا الوجه، إلا أنه يناسب ما ذكره من عدم جواز دفع اللاحق البدل قبل خروج السابق عن الضمان للمالك بدفع بدل العين، مع أن مقتضي ضمان العين للمالك والبدل للاحق علي نحو البدل جواز ذلك له كما يجوز الدفع للمالك بلا إشكال.

قال (قدس سره): (ولا يجوز دفعه إلي الأول قبل دفع الأول إلي المالك، لأنه من باب الغرامة والتدارك، فلا اشتغال للذمة قبل حصول التدارك، وليس من قبيل العوض لما في ذمة الأول، فحال الأول مع الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنه لا يستحق الدفع إليه إلا بعد الأداء. والحاصل: أن من تلف المال في يده ضامن لأحد الشخصين علي البدل من المالك ومن سبقه في اليد، فيشتغل ذمته إما بتدارك العين، وإما بتدارك ما تداركها. وهذا اشتغال شخص واحد بشيئين لشخصين علي البدل...). وعلي ذلك يكون المراد من ضمان الثاني العين والبدل علي البدل هو ضمانهما علي التعاقب، لا في عرض واحد.

وكيف كان فهذا الوجه وإن أمكن ثبوتاً، إلا أنه يحتاج إلي إثبات، لظهور أنه راجع إلي أن صاحب اليد الثاني ضامن ضمانين مختلفين في الرتبة وفي الأمر المضمون وفي الشخص المضمون له. كما أنه لو كان هنالك ثالث لكان ضامناً ثلاث ضمانات كذلك، لأن نسبته مع الثاني كنسبة الثاني مع الأول، مع كونه ضامناً للمالك وللأول مثله، وكلما زاد أصحاب الأيدي المتعاقبة زادت الضمانات علي النهج المذكور. ومن الظاهر أن قاعدة اليد إنما تنهض بإثبات ضمان الجميع العين للأول، وتبقي بقية الضمانات محتاجة للدليل.

وأما ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن أخذ العين من الضامن يستلزم الضمان له زائداً علي الضمان للمالك، وإلا خرج البدل عن كونه بدلاً. فقد سبق المنع منه، ويزيد منعاً بلحاظ ما يقتضيه هذا الوجه من اختلاف الضمانين رتبة، كما لعله ظاهر.

ص: 341

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) فإنه بعد أن منع من اشتغال الذمم المتعددة بمال واحد، إلا أن يكون ضمان كل منها في طول ضمان الآخر، التزم بأن إطلاق دليل ضمان اليد لما كان يقتضي ضمان جميع الأيدي المتعاقبة للمال الواحد، فلابد من تنزيله علي الضمان الطولي.

إذ فيه أولاً: ما عرفت من إمكان اشتغال الذمم المتعددة بمال واحد في عرض واحد من دون أن يكون أحدها في طول الآخر، ولذا لا ريب في إمكان حكم الشارع الأقدس بضمان الجميع للمالك من دون أن يرجع أحدهم للآخر. بل ما ذكره راجع إلي اجتماع ضمانين عرضين مع ضمان طولي، ضرورة أن أصحاب الأيدي كلهم ضامنون للمالك في عرض واحد. فالالتزام بالضمان الطولي في الحقيقة ليس للتخلص من اجتماع أكثر من ضمان واحد في عرض واحد، بل هو راجع لضمّ الضمان الطولي إلي الضمانيين العرضيين، ومع الالتزام بإمكان اجتماع أكثر من ضمان في عرض واحد ما هو الملزم بانضمام الضمان الطولي لهما؟.

وثانياً: أن مفاد دليل ضمان اليد هو ضمان نفس العين للمالك. وأما ضمان اللاحق للسابق في طول ذلك فهو ضمان آخر يحتاج إلي دليل، ولا ينهض عموم ضمان اليد بإثباته، لأنه خارج عن مفاده. ومجرد توقف شمول عموم ضمان اليد للأيدي اللاحقة عليه - لو سلم - لا يكفي في استفادته منه، لعدم نهوض أصالة العموم بإثبات مثل هذه العناية التي هي خارجة عن مفاد العام.

علي أن ذلك لا يتجه علي مبني شيخنا الأعظم (قدس سره) من إمكان ضمان الكل علي البدل من دون حاجة للطولية، فإن استفادة الطولية علي مبناه (قدس سره) تحتاج إلي دليل آخر قطعاً، وهو مفقود. ومن ثم لا يتم الوجه الذي ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) علي كلا تفسيريه.

الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته علي المكاسب من أنه لا فرق بين تلف المال تحت يد اللاحق وإتلافه في حق السابق إذ كما يكون إتلافه له سبب

ص: 342

في ضمان السابق وخسارته للبدل كذلك أخذه له وعدم إرجاعه للمالك حتي يتلف سبب لذلك. فكما يجوز الرجوع عليه في الإتلاف يجوز الرجوع عليه في التلف.

وهذا الوجه لو تمّ لم يفرق فيه بين اللاحق الذي تلف المال تحت يده، والذي تلف المال بعد خروجه من يده، لعدم الفرق بينهما في كون أخذ المال وعدم إرجاعه حتي يتلف سبباً في خسارة السابق وضمانه للبدل، بل يعمّ من أخذ المال ولم يرجعه للمالك حتي تعذر إرجاعه إليه من دون أن يتلف.

لكنه يشكل: أولاً: بالفرق بين إتلاف اللاحق للمال وأخذه له من دون أن يرجعه حتي يتلف بأن إتلافه له سبب لتعذر خروجه عن ضمان العين إلا بخسارة البدل، بخلاف أخذه له فإنه بنفسه لا يوجب ذلك، خصوصاً إذا كان استرجاعه منه ميسوراً للسابق.

وثانياً: بأن الرجوع علي اللاحق مع إتلافه للمال ليس بملاك مضمنية الإتلاف الذي استفيد من أدلة لفظية يكفي في العمل عليها ظهورها عرفاً، لأن مفاد الأدلة المذكورة ضمان المتلف للمالك، لا لصاحب اليد السابق، بل لابد من كون الوجه في رجوع السابق علي اللاحق مع الإتلاف هو التسبيب، بلحاظ أن المتلف سبب خسارة السابق للبدل، ومن الظاهر أن سببية التسبيب للضمان ليست مفاد أدلة لفظية لينظر في عمومها لما نحن فيه، بل لا إشكال في عدم ثبوت عموم مضمنية التسبيب، غاية الأمر البناء علي مضمنيته في الجملة، من أجل بعض من الأدلة اللبية من سيرة أو مرتكزات عقلائية أو غيرها.

وحينئذٍ إن وجدت تلك الأدلة اللبية فيما نحن فيه كان المتعين الاستدلال بها من دون حاجة لقياس من تلفت العين عنده علي من أتلفها، وإن لم توجد لم ينفع القياس المذكور في إثبات الضمان فيما نحن فيه.

الرابع: ما اعتمده بعض مشايخنا (قدس سره) - وأشار إليه في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره) في بيان وجوه الاستدلال - من أنه إذا أدي أحد أصحاب الأيدي البدل للمالك يملك

ص: 343

التالف بقاء بالمعاوضة القهرية، حيث لا إشكال بمقتضي السيرة العقلائية الارتكازية أن مخلفات التالف وأجزاءه التي لا مالية لها تكون ملكاً لدافع البدل. وكذا الحال في العين نفسها إذا صارت بحكم التالفة، كما لو غرق المتاع في البحر وفرّ الطائر الوحشي بنحو يتعذر الوصول إليهما ونحو ذلك، ولا مانع من البناء علي ملكية التالف إذا ترتب عليه الأثر ولم يكن لغواً. وحينئذٍ إذا ملك دافع البدل التالف كان بمنزلة المالك له الرجوع علي كل من وضع يده عليه بعده، بمقتضي عموم ضمان اليد.

وفيه: أولاً: أن الملكية من الاعتبارات العقلائية التي لا تتعلق بالتالف ارتكازاً. ومجرد ترتب الأثر المدعي في المقام لا يصححها. ولذا لا تصح المعاوضة الاختيارية من أجل الأثر المذكور، فلا يصح بيع العين التالفة تحت يد الغير لشخص ثالث من أجل أن يكون ضمانها له، لا للمالك الأول.

وأما ما سبق منا من إمكان انشغال ذمة صاحب اليد بالعين بعد تلفها، فهو لا يستلزم ملكية العين الخارجية بعد تلفها، وإنما يراد به ثبوت نحو من المسؤولية بالعين التالفة يقتضي نسبة البدل لها عند دفعه، بحيث لا يكون دفع البدل وفاء له، بل وفاء عن العين.

نعم، يتجه في انتقال مخلفات العين مع تلفها ونفس العين مع تعذر الوصول إليها - لغرق ونحوه - لدافع البدل، لما سبق من رجوع الرضا بالبدل إلي المعاوضة بينه أو بين بعضه وبين الموجود من العين، مع كون ما قابل التالف تعويضاً وتداركاً من دون ملك لشيء، وحينئذٍ تكون المعاوضة مالكية اختيارية، لا شرعية قهرية كما سبق.

ولو سلم أن المعاوضة فيها شرعية قهرية فهو لا يشهد بتحقق المعاوضة بالنحو المذكور بالإضافة إلي العين التالفة. ولاسيما مع ما سبق من عدم قابلية التالف للملكية عرفاً.

وثانياً: أن انتقال العين التالفة لدافع البدل لا يستلزم كونه كالمالك في أن له

ص: 344

مطالبة ذوي الأيدي الباقين بالعين، وإن صرح بذلك سيدنا المصنف (قدس سره) أيضاً. ضرورة أن دليل ضمان اليد إنما يقتضي ضمان العين لمن يملكها حين وضع اليد، لا لمن يملكها بعد خروجها عن اليد. فلو تعاقبت الأيدي علي العين، وباع المالك العين علي شخص آخر لم يستحق المشتري الرجوع إلا علي من كانت العين عنده حين شرائها ومن انتقلت إليه بعد ذلك، دون من خرجت العين عنه قبل شرائها. وعلي ذلك فملكية دافع البدل للعين المغصوبة التالفة لا تقتضي رجوعه علي من بعده إذا كانت قد خرجت من يده، بل حتي إذا كانت قد تلفت عنده.

اللهم إلا أن يريد بذلك أن المعاوضة القهرية ليست بين البدل المدفوع والعين الخارجية التالفة، بل بينه وبين العين التالفة بما لها من وجودات ذمية في ذمم ذوي الأيدي المتعاقبة، والتي كانت هي المنشأ في استحقاق المالك المطالبة بأداء بدلها من كل منهم، فدافع البدل لا يملك العين التالفة بنفسها، بل بما لها من تلك الوجودات الذمية، فله المطالبة بها كالمالك. نظير حال وارث المالك، حيث يستحق ما يستحقه المورث من الرجوع علي الجميع.

لكن ذلك: أولاً: عين المدعي في الحقيقة، إذ المعاوضة القهرية تحتاج إلي إثبات، وليست هي كالميراث ثابت بمقتضي إطلاق ما تضمن أن ما ترك الميت من حقّ فهو لوراثه. ولا مجال للاستدلال عليها بملكية مخلفات العين التالفة وملكية العين بنفسها إذا كانت بحيث يتعذر تحصلها لغرق ونحوه، لاختلاف سنخ المملوك فيهما عنه في مورد الكلام.

وثانياً: أن لازمه استحقاقه الرجوع علي من قبله من ذوي الأيدي. ومجرد أخذه العين منهم لا يقتضي براءة ذممهم معه، لأنه أخذها قبل استحقاقه لها، ولذا لا تبرأ ذممهم للمالك، والمفروض أن المعاوضة قد وقعت مع المالك الذي يستحق العين عليهم بأجمعهم.

ودعوي: أنه لما كان هو السبب في استقرار الضمان علي من قبله لم يجز رجوعه

ص: 345

عليه. مدفوعة بعدم الدليل علي مانعية التسبيب المذكور من الرجوع بعد فرض تحقق موجب الرجوع، وهو المعاوضة القهرية المفروضة. ولو تمت مانعية التسبيب من الرجوع علي من قبله أمكن دعوي كون التسبيب المذكور هو سبب الرجوع علي من بعده - كما تقدم في الوجه السابق - بلا حاجة إلي تكلف دعوي المعاوضة الشرعية القهرية، لأنهما من سنخ واحد.

الخامس: ما قد يدعي من أن ذلك مقتضي الارتكازات العقلائية التي يكفي في العمل عليها عدم ثبوت الردع عنها. كما سبق في أول الكلام في المكاسب المحرمة. وإلي ذلك يرجع ما يذكره سيدنا المصنف (قدس سره) وحكي عن المحقق الخراساني (قدس سره).

لكن قال سيدنا المصنف (قدس سره): (وفيه: أن ثبوت ذلك كلية غير ظاهر. نعم لا يبعد فيما لو كان اللاحق قد أخذه قهراً علي السابق. فالالتزام بالرجوع في غير ذلك غير ظاهر المأخذ. اللهم إلا أن يكون إجماعاً. لكن ثبوته بنحو يصح الاعتماد عليه في الخروج عن القواعد الأولية غير ظاهر).

والإنصاف أن ما ذكره من بناء العرف بمرتكزاتهم علي الرجوع مع أخذ اللاحق العين قهراً علي السابق قريب جداً. بل لا يبعد ذلك في مطلق ما لو أخذه من دون إذنه ولو مع غفلة السابق. ولعل مراده (قدس سره) ما يعم ذلك.

بل لا يبعد ذلك أيضاً فيما لو كان اللاحق عالماً بالحال دون السابق. كما لو بذل الودعي الأمانة لغيره بتخيل إنها ماله أو مال المبذول له، وعلم المبذول له بالحال، فلم ينبهه وأخذها وخرجت من يده أو تلفت، فإن مثل هذا الإذن لا أثر له، ولذا لا يرفع الضمان بالإضافة إلي مال المالك لو بذله بتخيل أنه للمبذول له. ومن ثم كان من القريب عموم المرتكزات القاضية برجوع السابق علي اللاحق لذلك.

وكذا لو أخذه اللاحق منه مضموناً بمال خاص - كما في البيع - أو بالمثل، كما في القرض. غاية الأمر أن المتيقن حينئذٍ الرجوع عليه بمقدار ما أقدم عليه من ضمانه، دون ما زاد علي ذلك، فلو اشتراه من السابق بخمسة وضمنه السابق للمالك بعشرة،

ص: 346

لم يرجع علي اللاحق إلا بخمسة.

أما فيما عدا ذلك فلا مجال للرجوع، سواء كان اللاحق مغرراً من قبل السابق ومخدوعاً، أم كان مغتراً بظاهر حاله من دون أن يكون السابق خادعاً له، لجهله بالحال، أم كان عالماً بالحال، كما لو أعلن السابق أنه سرق المال، لكنه بذله لغيره مجاناً، كما يبذل المالك ملكه، فإن اللاحق وإن حرم عليه أخذ المال، ولو أخذه كان ضامناً للمالك، بحيث له الرجوع عليه، لكن لو لم يرجع المالك عليه، ورجع علي السابق، لم يكن للسابق الرجوع عليه، لخروجه عن المتيقن من بناء العرف ومرتكزاتهم المذكورة لو تمت، لاستناد خسارة السابق له عرفاً، لا للاحق، ليرجع عليه. هذا ما يظهر لنا فعلاً. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور:

الأول: كما لا يرجع السابق علي اللاحق إذا كان أخذه للمال برضاه، كذلك لا يرجع علي من بعده إذا كان أخذه للمال برضا منه أيضاً، كما لو وهب الغاصب العين لزيد، فوهبها زيد لعمرو، فأتلفها أو خرجت من يده، فإن الغاصب الأول لو دفع البدل للمالك ليس له الرجوع علي زيد ولا علي عمرو. بل لا يبعد عدم رجوعه علي عمرو حتي لو كان قد غصبها من زيد. لخروجه عن المتيقن من المرتكزات لو تمت.

نعم، لا يبعد رجوعه عليه في عكس الفرض، بأن أخذها زيد من الغاصب قهراً عليه، فوهبها لعمرو، فإن الغاصب لو دفع البدل للمالك فكما يجوز له الرجوع علي زيد يجوز له الرجوع علي عمرو، لعدم الأثر لإذن زيد له بعد كونه متعدياً علي الغاصب بأخذه العين منه. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

الثاني: أشرنا آنفاً إلي أنه يظهر منهم أن قرار الضمان علي المتلف وإن لم تدخل العين تحت يده. بل الظاهر أنه أولي بأن يرجع عليه من صاحب اليد المتأخر، لأنه السبب المباشر لثبوت الخسارة المالية علي أصحاب الأيدي المتعاقبة. لكن لم يتضح الدليل علي كفاية التسبيب المذكور في قرار الضمان لغير المالك. ومن ثم لا مناص عن

ص: 347

التفصيل المتقدم في الأيدي المتعاقبة لو تم قضاء الارتكازيات العرفية بالضمان فيها علي النحو السابق، فإذا أتلفها برضا ممن هي تحت يده لم يرجع عليه من هي تحت يده إذا رجع عليه المالك... إلي غير ذلك مما تقدم.

الثالث: لو دفع بعض ذوي الأيدي البدل للمالك لتعذر إرجاع العين عليه من دون أن تتلف، فقد سبق أنه يملكها. وحينئذٍ إن لم تكن العين في يد أحد - كالحيوان الوحشي الشارد، والمال الغارق ونحوهما - جري في رجوعه علي من بعده ما سبق. وإن كانت في يد بعضهم حين دفعه للبدل جاز له الرجوع عليه من أجل استرجاعها مطلقاً وإن كان قد دفعها هو إليه مجاناً، لعدم ملكية الآخذ لها بالدفع المذكور. ولو علم بصيرورتها في ملكه ولم يعتن بذلك ولا راجعه حتي أخرجها من يده أو أتلفها تعين ضمانها، وجاز لصاحبها مطالبته بالبدل، لأنه بتصرفه المذكور متعد علي المالك، فيكون ضامناً له بضمان اليد أو الإتلاف بلا إشكال.

بل قد يدعي جواز رجوعه عليه إذا أتلفها أو أخرجها من يده مطلقاً وإن كان جاهلاً بالحال. لعموم ضمان اليد والإتلاف بعد عدم ترتب الأثر علي سبق تسليطه عليها، لعدم ملكيته لها حينه، فيكون تصرفه فيها - بإخراجها عن يده أو إتلافه لها - بلا حق، فيضمنها لمالكها.

لكنه إنما يتجه لو كان لضمان اليد والإتلاف عموم يشمل المقام. وهو غير ثابت، لما سبق من عدم حجية حديث:

(علي اليد... ) ، وأن الدليل علي ضمان اليد بناء العقلاء الذي يظهر الجري عليه من بعض النصوص. والمتيقن منه غير ما نحن فيه مما كان منشأ تصرف صاحب اليد أو استيلائه علي المال تسليط المالك علي المال ولو قبل ملكه له، نظير ما لو بذل وكيل المالك العين لشخص، ثم ملكها الوكيل ولم يعلمه حتي أخرجها من يده أو أتلفها، فإنه يشكل البناء علي ضمان المأذون.

كما أن قاعدة الضمان بالإتلاف إنما استفيدت من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة بعد إلغاء خصوصية مواردها، والمتيقن منها غير الصورة المذكورة. نعم لو

ص: 348

كان قد أخذها قهراً عليه أو من دون إذنه اتجه رجوعه عليه، نظير ما سبق من رجوع السابق علي اللاحق مع تلف العين بل هو مع بقاء العين وتملكه لها اظهر، كما لا يخفي.

الرابع: لو توقف إرجاع العين - ولو مع وحدة اليد - علي مؤنة من عمل أو مال وجب علي الضامن تحملها مقدمة للإرجاع الواجب. إلا أن تبلغ مرتبة الضرر عرفاً، فقد يدعي أن مقتضي قاعدة نفي الضرر عدم وجوب تحملها.

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن وجوب الردّ والإرجاع في نفسه ضرري، فيؤخذ بإطلاقه.

وفيه: أن وجوب الرد لا يستلزم الضرر دائماً، إذ كثيراً ما لا يكون ردّ نفس العين ضررياً، بل يتيسر من دون مؤنة معتد بها. كما أن ردّ البدل إنما يكون ضررياً إذا لم يمكن انتفاع الضامن بالعين بدلاً عنها، إما لتلفها أو لعدم إمكان الانتفاع بها في مكانها، كما لو سرقت أو ضاعت أو غرقت أو نحو ذلك.

أما لو أمكن الانتفاع بالعين في مكانها - كما لو كان قد نقلها عن بلد المالك إلي بلد بعيد له فيه وكيل يقوم مقامه في أمرها - فلا ضرر في ردّ بدلها، لأن دافع البدل يملكها بدلاً عنه. وعلي ذلك لا يكون وجوب الرد ضررياً دائماً، ليكون دليله أخص من عموم دليل نفي الضرر، ويقدم عليه علي إطلاقه، بل يكون بينهما عموم من وجه وحينئذٍ يتعين تقديم عموم نفي الضرر لحكومته علي عمومات الأحكام الأولية إلا في مورد التلف وتعذر الانتفاع بالعين، حيث لا إشكال في الضمان حينئذٍ، فلابد من تخصيص قاعدة نفي الضرر فيه، بل لا يبعد انصرافها عنه، لأن رفع الضمان ضرر في حق المالك المضمون له، فتقصر القاعدة عنه بمقتضي ورودها مورد الامتنان، ولا موجب لرفع اليد عن عموم قاعدة نفي الضرر في غير ذلك كما في محل الكلام.

ودعوي: أن عدم وصول عين المال لمالكه ضرر عليه، فيعارض الضرر اللازم علي الضامن من إيصالها إليه.

مدفوعة: بأنه لا ضرر علي المالك غالباً من عدم وصول عين المال مع وصول

ص: 349

بدله له، والتشبث بعين المال حينئذٍ لرغبة شخصية لا يكفي في صدق الضرر عرفاً.

نعم، قد يصدق الضرر حينئذٍ عرفاً في خصوص بعض الأعيان كالأشياء الأثرية ونحوها، حيث قد يهتم العقلاء بأعيانها مع قطع النظر عن ماليتها. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال خصوصاً إذا كان ضرر الضامن أهم من ذلك عرفاً. فتأمل.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في غير ذلك في عدم وجوب تحمل الضامن لمؤنة رد العين إذا كانت بمرتبة يصدق عليها الضرر عرفاً، بل ينتقل للبدل حينئذٍ.

نعم، ذلك مختص بما إذا لم يكن الضامن معتدياً في أخذه للمال، بأن كان جاهلاً بالحال أما مع علمه وعدوانه في الاستيلاء علي العين فالظاهر قصور قاعدة نفي الضرر عنه، لأنه أقدم علي تحمل الضرر ولاسيما مع ورود قاعدة نفي الضرر مورد الامتنان، حيث يوجب ذلك انصراف دليلها عن مثله، فيتعين وجوب ردّ العين عليه مطلقاً وإن كانت مؤنة الردّ بنحو يصدق عليها الضرر. بل حتي لو كانت مجحفة به، لعدم وضوح الفرق في تحمل الضرر بين المجحف وغيره، فإن جرت قاعدة نفي الضرر شملتهما معاً فلا يجب تحملهما، وإن لم تجر فيهما معاً، فيجب تحملهما. وما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من التفصيل بينهما غير ظاهر المأخذ.

هذا وفي مورد وجوب دفع المال علي الضامن من اجل استرجاع العين لو طلب المالك أن يكون هو المباشر لذلك علي أن يأخذ هو المال فهل يجب علي الضامن الرضا بذلك ؟ قد يدعي وجوب الرضا بذلك علي الضامن جمعاً بين أداء العين الواجب وحرمة التصرف فيها علي غير المأذون.

لكن ذلك إنما يتجه إذا وجب عليه نقل العين من موضعها التي هي فيه إلي المكان الذي فيه المالك، بحيث يكون النقل بنفسه محقوقاً عليه وإن وصلت للمالك قبله، كما لو قلنا بوجوب إرجاع الضامن للعين إلي موضعها الذي أخذها منه.

أما إذا لم يجب النقل إلا من أجل الإيصال للمالك، فتولي المالك بنفسه أو وكيله للنقل موجب لوصول العين بنفسها له قبل نقلها، فلا يكون النقل واجباً علي

ص: 350

الضامن، ليستحق المالك أجرته عليه. وأما غير مؤنة النقل - كرسوم الدولة - فلا يجب عليه ترجيح المالك إذا لم يستلزم تصرفاً في العين، وإنما يترجح المالك إذا استلزم تصرفاً فيها. فلاحظ.

الخامس: إذا ابرأ المالك واحداً من ذوي الأيدي المتعاقبة فالظاهر براءة ذمته دون غيره من ذوي الأيدي، إذ لا منشأ للارتباطية بينهم مع تعدد الحقوق تبعاً لتعدد من عليه الحق وإن كان الأمر المحقوق واحداً.

ودعوي: أن مرجع الإبراء إلي إسقاط الحق، ومع إسقاطه لا يبقي شيء لتنشغل به ذمة الآخرين.

مدفوعة: بأن مرجع إبراء الشخص إلي إسقاط الحق عنه، لا إلي إسقاط الحق رأساً، فإن لم يكن هناك من تنشغل به ذمته غيره، تعين سقوط الحق، وإلا فلا وجه لسقوطه عن غيره.

ودعوي: أنه لا دليل علي التفكيك، بل مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر بقاء الحق في ذمم الجميع إلا برفع اليد عن الحق رأساً المستلزم لسقوطه عن الكل.

مدفوعة: بأن دليل ترتب الأثر علي الإبراء وسقوط الحق به هو المرتكزات العقلائية، وهي لا تأبي التفكيك، ولا تري التناقض في قول المالك: أبرأت ذمة فلان دون غيره. فاللازم العمل بالمرتكزات المذكورة علي سعتها. خصوصاً والمسألة عملية شايعة الابتلاء، إذ ما أكثر ما يسرق المتاع مثلاً من الأمين بتفريط منه أو يتلفه متلف، فهل يخطر ببال أحد أن المالك لو رفق بالأمين، فغضّ النظر عن حقه عليه وأبرأه أن تبرأ ذمة السارق والمتلف ؟!.

هذا ولا يبعد أن يكون مورد كلامهم من لا تكون العين تحت يده حين إبراء المالك للبعض، إذ من كانت العين تحت يده لو فرض براءة ذمته بلحاظ الحق الثابت عليه بسبب وضع يده علي العين، فذلك لا ينافي تجدد الحق عليه باستمرار وضع يده علي العين بلا حق، حيث لا إشكال في عدم رجوع الإبراء إلي الإذن في وضع اليد علي

ص: 351

في الخسارة التي خسرها للمالك (1). وكذا الحال في جميع الموارد التي تعاقبت فيها الأيدي العادية (2) علي مال المالك، إن رجع المالك علي السابق رجع

---------------

العين، لتكون أمانة غير مضمونة.

ثم إن إبراء المالك للشخص، وإن أوجب براءة ذمته من حقه عليه كما ذكرنا، فلا يجوز له الرجوع عليه بعد ذلك، إلا أنه لا يمنع من سبقه من أصحاب الأيدي من الرجوع عليه لو رجع عليه المالك، كما لو كان قد أخذ العين من السابق قهراً عليه، بناء علي أن ذلك مصحح للرجوع عليه، كما لعله ظاهر. فلاحظ.

(1) فلا يرجع عليه قبل أن يخسر للمالك، إذ لا منشأ لذلك بعد اشتراكهما معاً في كونهما معاً محقوقين للمالك بنحو البدل، وللمالك الرجوع علي كل منهما وتخسيره دون الآخر، والوجوه المتقدمة إنما تقتضي الرجوع بعد أن يخسر هو للمالك وتبرأ ذمة الآخر.

كما أن مقتضي الوجه الذي ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، بناء علي ما حمله عليه بعض الأعاظم (قدس سره) واختاره هو ضمان مقدار ما يخسره للمالك وإن كان أقل من قيمة التالف، دون تمام قيمة التالف، كما يظهر بملاحظة الوجه المذكور. وهو المتيقن من الوجه الثالث والخامس.

أما علي الاحتمال الأول في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) الأول في كلامه فاللازم الرجوع عليه بقيمة التالف مطلقاً، لأنه البدل الذي فرض ثبوته في ذمة الأول وضمان الثاني له بأخذه للعين منه.

وأظهر من ذلك الوجه الأول والرابع، لأن موضوع المعاوضة القهرية المفروضة هو العين أو بدلها الذي انشغلت به ذمة من تلف المال عنده لكن لا يبعد عدم بناء أحد علي ذلك. ومن ثم كان ذلك من جملة المؤاخذات علي الوجوه المذكورة.

(2) يعني: التي حصلت بلا حق وإن لم يكن أصحابها في مقام العدوان، لجهلهم بالحال.

ص: 352

(353)

السابق علي اللاحق إن لم يكن مغروراً منه، وإلا لم يرجع علي اللاحق(1). وإن رجع المالك علي اللاحق لم يرجع إلي السابق(2) ، إلا مع كونه مغروراً منه(3). وكذا الحكم في المال غير المملوك(4) كالزكاة المعزولة ومال الوقف المجعول مصرفاً في جهة معينة أو غير معينة أو في مصلحة شخص أو أشخاص، فإن الولي يرجع علي ذي اليد عليه مع وجوده علي النهج المذكور(5).

(مسألة 20): لو باع إنسان ملكه وملك غيره صفقة واحده صح البيع فيما يملك(6). وتوقفت صحة بيع غيره علي إجازة المالك، فإن أجاز

********

(1) مما سبق يتضح أن المدار في الرجوع وعدمه ليس علي الغرور وعدمه، بل علي كون أخذ اللاحق للعين بإذن السابق وعدمه.

(2) لعدم المنشأ لرجوعه إليه. إلا أن يتم الوجه الرابع بناء علي الاحتمال الثاني فيه، فيتجه الرجوع عليه، كما سبق. لكن سبق أنه غير تام.

(3) مما سبق يظهر أن معيار الغرور المصحح للرجوع هنا هو التغرير والخديعة الموقوفة علي علم الغار بالحال، لا مطلق كونه سبباً في التباس الأمر عليه وإن كان جاهلاً بالحال.

(4) لعدم الفرق في دليل ضمان اليد والإتلاف بين المملوك وغيره من المال المحترم، الذي يكون المرجع في أمره شخص خاص.

(5) غاية الأمر أن الولي قد يري أن المصلحة في الرضا بالبدل، فيلزمه قبوله، وليس له التعنت كالمالك.

(6) بلا خلاف، كما في الجواهر، بل فيه وفي الرياض أن ظاهرهم الإجماع عليه، كما هو الظاهر من نسبته إلي علمائنا في التذكرة، بل ادعاه صريحاً في الخلاف وشرح القواعد لكاشف الغطاء. كما ادعاه في الغنية في بيع ما يملك إذا بيع مع ما لا يقبل

ص: 353

الملك وما نحن فيه أولي منه بالصحة.

وقد استدل عليه في الجواهر وغيره بالعمومات. وكأن المراد بها عموم نفوذ العقود والتجارة عن تراض ونحوها. لكن التمسك فيه بعموم نفوذ العقود إنما يتجه مع إجازة المالك الآخر، بناء علي ما سبق من أن مقتضي عموم نفوذ العقود صحة عقد الفضولي بالإجازة. أما مع عدم إجازته فحيث لا ينفذ العقد في تمام مضمونه ويقصر عنه عموم النفوذ، لعدم التزام بعض من له العقد به، فلا ينهض عموم نفوذ العقود بصحته ونفوذه في بعض مضمونه، لظهوره في نفوذ العقد بتمامه في تمام مضمونه من دون تبعيض.

ومن ذلك يظهر ضعف ما في الخلاف من التمسك لصحة البيع في المملوك بإطلاق قوله تعالي: (وأحل الله البيع)(1) إذ لو تم إطلاقه، إلا أنه لا ينهض بإثبات صحة البيع في بعض مضمونه بعد فرض عدم صحته في تمامه. علي أن الظاهر عدم تمامية الإطلاق فيه، كما ذكرناه في أول كتاب التجارة، وعند الاستدلال لصحة عقد الفضولي.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في مسألة بيع ما يقبل الملك وما لا يقبله من أن العقد ينحل بالنسبة إلي جزئي المبيع إلي عقدين أحدهما صحيح والآخر فاسد، نظير انحلال التكليف المتعلق بالمركب المشتمل علي أجزاء. فهو ممنوع جداً، فإن العقد أمر واحد متقوم بالتزام واحد قائم بالمجموع، ولا يقبل الانحلال، إلي أكثر من عقد واحد، ليمكن التفكيك بينها بالصحة والفساد. كيف ولازم ما ذكره انحلال العقد الواحد إلي ما لا يحصي من العقود نتيجة انقسام المبيع بلحاظ الأجزاء الخارجية والأشقاص المفروضة، من النصف والربع ونحوهما. ولاسيما مع عدم التفات المتعاقدين إلي أكثر خصوصيات الأجزاء ومميزاتها الخارجية والفرضية، ليمكن صيرورتها موضوعاً للعقود الانحلالية المدعاة.

********

(1) سورة البقرة آية: 75.

ص: 354

وكذا الحال في النظير، فإن التكليف بالمركب لا ينحل إلي تكاليف حقيقية متعددة، لكل منها طاعته ومعصيته، بل إلي تكاليف ضمنية ارتباطية انتزاعية لا يتم لكل منها طاعة ولا معصية إلا بطاعة المجموع ومعصيته، والتكليف الحقيقي الذي له طاعة ومعصية هو التكليف الوارد علي المركب بمجموعه لا غير.

وبعبارة أخري: التحليل في جميع ذلك ادعائي انتزاعي قياساً علي الأعراض الحقيقية الواردة علي المركبات حيث تنحل علي أجزائها، وليس حقيقياً عرفياً، بحيث يكون هناك عقود متعددة أو تكاليف متعددة عرفاً، ليلحق كلا حكمه. ولذا لا يمكن بلحاظ الانحلال المذكور التفكيك بين العقود المفروضة في الإجازة لو كانت فضولية وفي الفسخ والتقايل ونحو ذلك من شؤون العقد والبيع الواحد.

وأشكل من ذلك ما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) من أن البيع وإن كان واحداً إثباتاً - أي من حيثية المبرز - إلا أنه ينحل ثبوتاً إلي بيوع عديدة بحسب أجزاء الثمن والمثمن، كما ينحل الحكم التكليفي إلي أحكام عديدة بحسب أفراد موضوعه في العام الاستغراقي. غايته يكون هناك شرط ضمني، وهو وصف الانضمام، وتخلفه لا يوجب البطلان، بل يوجب الخيار.

إذ فيه: أن المبرز مقوم للعقد وليس كاشفاً عنه، والالتزام العقدي المبرز واحد لا يقبل الانحلال، كما سبق. ولا مجال لقياسه بالعموم الاستغراقي الانحلالي، لكون أفراد العموم المذكور أحكاماً مستقلة لكل منها موضوعه - المحدود بحدوده المعينة تبعاً للملاكات المتعددة التابعة لتلك الموضوعات - وطاعته ومعصيته. غاية الأمر أنها بينت ببيان واحد، وأين هذا من أجزاء المبيع الفرضية التي لا حد لها ولا حصر، وغالباً ما لا يلتفت المتعاقدان إلي حدودها، وإنما ينشئان العقد علي المجموع.

والحاصل: أن الالتزام العقدي واحد قائم بالمجموع، وظاهر أدلة النفوذ نفوده بتمامه في تمام مضمونه، ومع عدم نفوذه بتمامه، لعدم التزام بعض من له العقد به يقصر دليل نفوذ العقد عنه ويحتاج نفوذه في بعض مضمونه إلي دليل آخر.

ص: 355

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فقد فصل في الانحلال المدعي فقال:

(العقد الوارد علي الجملة: تارة: ينشأ عن غرض واحد قائم بالجملة، فيكون المنشأ علي نحو وحدة المطلوب. وأخري: ينشأ عن غرضين أحدهما قائم بالجملة، والآخر قائم بالأجزاء، فيكون المنشأ علي نحو تعدد المطلوب، وحينئذٍ لا مانع من التفكيك بين أبعاض العقد بلحاظ أبعاض موضوعه، كما لا مانع من الرضا بكل واحد من هذه الأبعاض ولو في حال الانفراد) .

وما ذكره (قدس سره) لا يخلو عن غموض، لما هو المعلوم من أن الغرض لا أثر له في تحديد موضوع العقد، وأن تخلفه لا يوجب بطلان العقد، وإنما المعيار في صحة العقد وبطلانه سلامة ما هو الموضوع له عرفاً. فإذا اشتري قميصاً، وكان غرضه أن يقيه من البرد، فبان أنه قميص لا يقي منه صح البيع، وإن بان أنه عباءة تقي من البرد لم يصح البيع.

كما أن تعدد المطلوب إنما يتعقل في الطلب والتكليف، حيث ينشأ: تارة: عن ملاك واحد قائم بالذات الواحدة. وأخري: عن ملاكين أحدهما قائم بالذات والآخر قائم بخصوصية فيها زائدة عليها، ويتعين تبعاً للملاك في الأول وحدة الطلب، وتعلقه بالذات المقيدة بالخصوصية كالصلاة عن طهارة وإطعام العدد الخاص في الكفارة، وفي الثاني تعدده، فيكون أحد الطلبين متعلقاً بالذات، والثاني متعلقاً بواجدية الذات للخصوصية، كالصلاة في المسجد، أو مع تثليث الذكر في الركوع والسجود، أو غير ذلك.

أما في العقود ونحوها فلا مجال لشيء من ذلك، لأن خصوصية الاجتماع إن كانت مأخوذة في موضوع العقدتعين وحدة العقد، ومقتضي ذلك بطلانه مع تخلفها، كما لو باعه الضيعة بحدودها بألف دينار والباب بمصراعيها بعشرة دنانير، والناقة وفصيلها بمائة دينار ونحو ذلك، وإن كانت خارجة عنه مقارنة له تعين تعدد العقد من دون ارتباطية، كما لو قال وكيل المرأتين للرجل: زوجتك فلانة وفلانة كل منهم

ص: 356

علي مهر قدره كذا، فقبل الرجل زواجهما معاً، أو قال: بعتك الثور بمائة دينار والبقرة بمائة وخمسين ديناراً، فقبل. ولازم ذلك أنه لو بطل العقد في أحد الموضوعين فلا يمنع من صحة العقد في الآخر، ولا يقتضي الخيار فيه.

والظاهر خروجه عن محل كلامهم في المقام المفروض فيه وحدة الصفقة. ولذا التزموا بثبوت الخيار مع عدم إجازة المالك الآخر، ولا وجه لثبوته مع تعدد العقد عرفاً، ومحل الكلام إنما هو الأول الذي عرفت عدم الانحلال فيه. ومن هنا لا مجال للتفصيل المذكور.

وقد اعترف (قدس سره) في الجملة بما ذكرنا في شرح المسألة الخامسة من كتاب الإجارة وفي شرح المسألة السادسة والعشرين من فصل أولياء العقد من كتاب النكاح، وفي شرح المسألة الخامسة من كتاب الوصية. فراجع. وأوضحه بتفصيل في مجلس درسه الشريف. وكيف كان فلا تنهض العمومات بإثبات صحة العقد في بعض مضمونه.

مضافاً إلي أن التزامهم بالخيار لتبعض الصفقة لا يناسب التمسك بعموم نفوذ العقد ووجوب الوفاء به المستفاد من الآية الكريمة، لوضوح أن مقتضي العموم المذكور هو اللزوم، فمع فرض ثبوت الخيار في العقد وعدم لزومه ينكشف قصور العموم عنه.

ودعوي: أن العموم كما تضمن اللزوم تضمن النفوذ والصحة، فالخروج عما تضمنه من اللزوم لا يستلزم الخروج عما تضمنه من النفوذ والصحة.

مدفوعة: بأن اللزوم والنفوذ لم يستفادا من الآية الكريمة بدالين بنحو الانحلال، ليمكن التفكيك بينهما في الحجية، وإنما استفيدا معاً من الأمر بالوفاء، لظهور أن الأمر بالوفاء يقتضي اللزوم المستلزم للنفوذ، فمع فرض عدم اللزوم يلزم عدم الأمر بالوفاء، فلا يبقي مجال لاستفادة النفوذ.

نعم، هذا لا يجري في مثل آية التجارة عن تراض وآية حلّ البيع بناء علي ثبوت الإطلاق فيها، لأن مفادهما النفوذ والصحة دون اللزوم، فينحصر وجه

ص: 357

المنع من التمسك بها، بالوجه الأول، وهو ظهورها في صحة البيع والتجارة في تمام مضمونهما، ولا مجال لاستفادة الصحة في خصوص بعض المضمون منها. وبالجملة لا مجال للتمسك بالعمومات في المقام ونحوه من أجل إثبات صحة العقد في بعض مضمونه.

نعم، الظاهر أن صحة العقد في بعض مضمونه من الأحكام العرفية الارتكازية، كما يظهر بملاحظة سيرتهم فيما بينهم، وقد تكرر منا أنه يكفي في العمل علي الارتكازيات العرفية عدم ثبوت الردع عنها. بل يستفاد إمضاؤها في المقام من أمرين:

الأول: ظهور بعض النصوص في جري الشارع الأقدس عليهما في جملة من الموارد. ففي مكاتبة الصفار للإمام العسكري (عليه السلام) فيمن باع قرية بحدودها، وليس له منها إلا قطاع أرضين، فوقع (عليه السلام):

(لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجب الشراء من البايع علي ما يملك) (1) .

وفي معتبر عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(في رجل باع أرضاً علي أنها عشرة أجربة، فاشتري المشتري من ذلك بحدوده، ونقد الثمن، ووقع صفقة البيع، وافترقا، فلما مسح الأرض فإذا هي خمسة أجربة. قال: إن شاء استرجع فضل ماله [وأخذ الأرض] وإن شاء رد البيع وأخذ ماله كله. إلا أن يكون له إلي جنب تلك الأرض أيضاً أرضون، فليؤخذ، ويكون البيع لازماً له... ) (2) فإنه يلزم تنزيله علي كون المبيع متقوماً بالمساحة، لا بالأرض الشخصية مع كون المساحة شرطاً فيها، وحينئذٍ يدل علي نفوذ البيع في بعض المبيع. فتأمل.

وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) فيمن اكتري دابة إلي موضع معين، فأعيت الدابة:

(قال: فدعوتهما إلي، فقلت للذي اكتري: ليس لك يا عبد الله أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب الخيار حديث: 1.

ص: 358

تذهب بكراء دابة الرجل كله. وقلت للآخر: يا عبد الله ليس لك أن تأخذ كراء دابتك كله. ولكن انظر قدر ما بقي من الموضع وقدر ما أركبته فاصطلحا عليه، ففعلا) (1) . فإن ظاهر أمره (عليه السلام) بملاحظة نسبة ما قطعه من الطريق إلي ما لم يقطعه هو لزوم دفع ما يناسب ذلك من الأجرة المسماة، ولو كانت الإجارة لا تتبعض بل تبطل لكان اللازم دفع أجرة المثل لما قطعه من الطريق مهما بلغت، من دون حاجة إلي ملاحظة نسبة ما قطعه إلي ما لم يقطعه.

وفي خبر أبي شعيب المحاملي الرفاعي:

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قبّل رجلاً أن يحفر له عشرة قامات بعشرة دراهم، فحفر له قامة ثم عجز. فقال: تقسم عشرة علي خمسة وخمسين جزءاً، فما أصاب واحداً فهو للقامة الأولي والاثنان للثانية والثلاثة للثالثة، وعلي هذا الحساب إلي العشرة) (2) . فإن استحقاق أجرة ما عمل بنسبته من الثمن لا بأجرة المثل يبتني علي تبعيض مضمون العقد عند عدم صحته بتمامه بسبب التعذر.

ومثل ذلك ما دل علي عدم نفوذ الشرط المخالف للكتاب مع صحة العقد، كما في قصة بريرة، حيث بيعت وشرط مواليها أن ولاءها لهم، فردّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عليهم شرطهم لأن الولاء لمن اعتق ولم يبطل بيعها(3). وما دل علي أن من تزوج امرأة علي أنها بكر فبانت ثيباً صح نكاحها ونقص مهرها(4) ، وأن من تزوجت رجلاً علي أنه حرّ، فبان عبداً، صح نكاحه، وكان لها الخيار(5) ، مع ظهور أن الشرط بعض مضمون العقد.

الثاني: ظهور مفروغية الأصحاب عن ذلك وإجماعهم عليه، في مسألتنا هذه ونظائرها، فإن شيوع الابتلاء بذلك في الفروع المختلفة من العصور الأولي يمنع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب 35 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 52 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 10 من أبواب العيوب والتدليس.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب العيوب والتدليس.

ص: 359

عادة من خطئهم فيه. وذلك بمجموعه كاف في الدليل علي الصحة من دون حاجة للعمومات. ومن ثم لا ينبغي التوقف في الصحة في مسألتنا هذه وفي نظائرها.

ومنه يظهر ضعف ما عن الاردبيلي من احتمال بطلان العقد رأساً، لأن التراضي إنما حصل ببيع المجموع. فإن ذلك وإن كان متجهاً بناء علي ما سبق من عدم انحلال العقد عرفاً، إلا أنه لابد من البناء علي الصحة في بعض مضمون العقد، لما سبق. ولعله لذا لم يعرف موافق له من أصحابنا كما في الجواهر. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ثم إن هذا مبني علي جواز بيع ملك شخصين صفقة واحدة أما لو قيل بعدم صحة ذلك، لاستلزامه جهالة الثمن في حق كل منهما. فالبيع باطل ذاتاً، لا من حيثية الفضولية. وقد ذكر في أواخر كتاب الشركة من الخلاف أنه إذا كان لرجلين عبدانِ يختص كل منهما بواحد منهما، لم يصح بيعهما صفقة بثمن واحد، لأنهما بمنزلة بيعين، فيلزم جهالة الثمن في كل منهما. كما ذكر ذلك في المبسوط أيضاً لكن خصه بما إذا اختلفت قيمة العبدين معللاً له بذلك أيضاً.

والمناسب للتعليل المذكور توقف البطلان علي جهالتهما بنسبة قيمة كل من العبدين لقيمة الآخر، سواء كانتا متساويتين أم مختلفتين. إذ مع العلم بها يتيسر معرفة ما يلحق كلا منهما من الثمن المعلوم.

وكيف كان فلا مجال لما ذكر (قدس سره) من تنزيل البيع المذكور بمنزلة البيعين، إذ مجرد تعدد المالكين لا يقتضي ذلك بعد وحدة الصفقة، والمتيقن من دليل اعتبار العلم بالثمن اعتباره في مجموع الصفقة. بل لا ينبغي التأمل في الاجتزاء بذلك بملاحظة مكاتبة الصفار ومعتبر عمر بن حنظلة السابقين. وبملاحظة السيرة علي بيع وكيل الشركاء وولي الأيتام ونحوهما المال المشترك فيه مع الجهل حين البيع بمقدار سهام كل منهم وما يلحقه من الثمن. ومن هنا لا ينبغي التوقف في عدم بطلان البيع من هذه الجهة.

بل هو لا يناسب ما صرح به في الخلاف والمبسوط من صحة البيع في تبعض

ص: 360

الصفقة فيما ينفذ فيه البيع بحصته من الثمن، مع غلبة جهالة مقدار الحصة. اللهم إلا أن يكون مورد كلامه في تبعض الصفقة ما إذا قصد البايع بيع المجموع لنفسه، وترتيب أثر ذلك - تشريعاً، أو للخطأ في الموضوع الخارجي، لتخيل كونه مالكاً للكل

ومورد كلامه في كتاب الشركة ما إذا قصد كل من البايعين بيع حصته لنفسه بما يقابلها من الثمن، وأن ذلك هو الذي يكون بمنزلة البيعين دون الأول.

لكن ذلك حينئذٍ لا يجري في كثير من فروض مسألتنا، لأن كثيراً منها مبني علي قصد البايع بيع المجموع لنفسه، كما هو الظاهر من مكاتبة الصفار ومعتبر ابن حنظلة. مع أن ما ذكره في كتاب الشركة لا يتم في نفسه بملاحظة المرتكزات المعتضدة بالسيرة المشار إليها آنفاً.

بقي شيء. وهو أن التبعيض في صحة العقد مع عدم إجازة الآخر إنما هو حيثية عدم مانعية تبعيض مضمون العقد. فلا ينافي في بطلانه إذا لزم منه محذور آخر، كما نبه له في الجواهر، قال:

(وعلي كل حال فلا خلاف في صحة بيعه ونفوذه فيما يملك إذا لم يتولد من عدم الإجازة مانع شرعي، كلزوم رباء وبيع آبق من دون ضميمة ونحو ذلك) . وأقره علي ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحد ممن تأخر عنه.

وما ذكره تام كبروياً. وإنما الإشكال في المثالين اللذين ذكرهما. لأن الظاهر بطلان البيع فيهما حتي مع الإجازة، بل حتي مع عدم كون البيع فضولياً، لصدوره عن وكيل المالكين معاً، وأنه يعتبر في الضميمة المصححة لبيع العبد الآبق أن تكون ملكاً لصاحب العبد، كما تضمنته النصوص، ففي صحيح رفاعة

:(سألت أبا الحسن موسي) قلت له: أيصلح لي أن اشتري من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن وأطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شراؤها إلا أن تشتري منهم معها ثوباً أو متاعاً، فتقول لهم: اشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهماً، فإن ذلك جائز)(1) ونحوه غيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 11 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

ص: 361

صح، وإلا فلا. وحينئذٍ يكون للمشتري خيار تبعض الصفقة (1) فله فسخ البيع بالإضافة إلي ما يملكه البايع.

---------------

كما أن التفاضل المنهي عنه في الربا لا يختص بالمشتري، بل يعم البايع أيضاً، فإذا كان المختلفان في الجنس ملكاً لشخصين، وبيعا بأحد الجنسين مع التفاضل من شخص واحد، فالربا وإن لم يلزم في حق المشتري، إلا أنه يلزم في حق أحد البايعين، فمثلاً إذا كان لزيد رطل من العدس، ولعمرو رطل من الماش، وكانت قيمتهما السوقية واحدة فباعاهما صفقة من بكر بثلاثة أرطال من العدس. فالربا وإن لم يلزم في حق بكر، إلا أنه يلزم في حق زيد، لأنه باع رطلاً من العدس برطل ونصف منه.

ومن هنا لو كان البيع بغير إذن زيد يكون عدم إجازته له في ماله مصححاً له، لصحة البيع في حق عمرو وبكر فقط، ولا ربا بينهما، لعدم التجانس بين العوضين. وإن لم يخل عن إشكال بعد وحدة الصفقة.

ولو غض النظر عنه وأمكن التفكيك بين أبعاض الصفقة من حيثية الربا تعين البناء علي عدم الأثر للإجازة في بطلان البيع، بل يصح البيع في حق عمرو وبكر مطلقاً، لعدم الربا، ويبطل في حق بكر وزيد مطلقاً للزوم الربا.

وكيف كان فالمحذور في المقام ليس لازماً من عدم الإجازة بل من تعدد من له البيع، سواء لم يكن فضولياً أصلاً أم كان فضولياً في حق أحدهما فقط أو في حقهما معاً.

فالأولي التمثيل لما ذكره (قدس سره) بما إذا كان المشتري ولياً علي اليتيم ولم يكن من مصلحة اليتيم شراء ما يختص بالمالك منفرداً من دون أن ينضم للآخر، حيث يكون عدم إجازة مالك الآخر مستلزماً لقصور سلطنة الولي عن شراء ما يختص بالمالك، ويبطل شراؤه له من أجل ذلك. فلاحظ.

(1) بل خلاف ظاهر، بل نسبه في التذكرة إلي علمائنا. لأن المشتري إنما أقدم

ص: 362

علي تمامية الصفقة، فهي من سنخ الشرط الضمني الذي يثبت الخيار بتخلفه ويناسبه ما سبق في معتبر عمر بن حنظلة.

هذا وقد خصوا ذلك بما إذا كان جاهلاً بالحال، لأنه مع علمه به أقدم علي إلغاء الشرط. لكنه لا يطرد، بل قد يكون إقدامه مبنياً علي سلامة تمام المبيع، لتوقع الإجازة أو برجائها، أو للبناء تشريعاً أو عصياناً علي ترتيب آثار الملك للجميع في حق البايع للمجموع. نعم إذا كان إقدامه غير مبني علي ذلك اتجه عدم ثبوت الخيار له، كما ذكره.

هذا وفي المبسوط في أوائل فصل تفريق الصفقة قال:

(والمشتري بالخيار بين أن يمسكه أو يرده، فإن اختار الردّ فلا كلام، وإن اختار الإمساك فبِكَم يمسك ؟ بكل الثمن أو بحصته ؟ فالأحوط أن نقول: يأخذه بحصته من الثمن، أو يردّ، لأن الثمن يتقسط عليهما. ومتي اختار أن يمسك بكل الثمن فلا خيار للبايع، وإن اختار إمساكه بما يخصه من الثمن فالأولي أن نقول: لا خيار له أيضاً. وإن قلنا: له الخيار، كان قريباً) .

ولا يخفي أنه لا مجال لاحتمال الإمساك بتمام الثمن، لأن تمام الثمن إنما جعل في مقابل المجموع، فإن بني علي عدم تبعيض العقد تعين بطلانه، لفرض عدم صحة البيع في البعض، وإن بني علي تبعيضه تعين تقسيط الثمن، لأن جعل مجموع الثمن في مقابل مجموع المبيع يرجع بمقتضي التحليل الضمني إلي جعل أجزاء الثمن في مقابل أجزاء المبيع بالنسبة. ومن هنا يتعين البناء علي التقسيط، كما جزم به في الخلاف و الغنية، وعليه جري الأصحاب، بنحو يظهر منهم المفروغية عنه.

وحينئذٍ فكأن الوجه فيما قربه من ثبوت الخيار للبايع مع التقسيط: أن البايع إنما أقدم علي البيع بتمام الثمن، فإذا لم يسلم له ثبت له الخيار، كخيار المشتري مع عدم سلامة تمام المبيع له. لكنه يندفع بأنه إنما أقدم علي بيع المجموع بتمام الثمن، الراجع ضمناً إلي مقابلة ما يملكه ببعض الثمن، لا إلي مقابلته بتمام الثمن، فإذا سلم له بعض

ص: 363

(364)

(مسألة 21): طريق معرفة حصة كل واحد منهما من الثمن أن يقوّم كل من المالين بقيمته السوقية، فيرجع المشتري بحصة من الثمن نسبتها إلي الثمن نسبة قيمة مال غير البايع إلي مجموع القيمتين (1)، فإذا كان قيمة ما له عشرة،

---------------

الثمن في مقابل ما يملكه لم يكن ذلك مخالفاً لما أقدم عليه. ومن ثم لا ينهض ذلك بإثبات الخيار للبايع. ولعله لذا جزم في الخلاف والغنية بعدم ثبوت الخيار للبايع، وهو ظاهر المشهور. كما قد يستدل عليه بقوله (عليه السلام) في مكاتبة الصفار المتقدمة:

(وقد وجب الشراء من البايع علي ما يملك) . وإن كان الظاهر أن مفاده نفوذ الشراء لا لزومه، وإنما يتجه دلالته علي اللزوم لو كان التعبير هكذا: وقد وجب الشراء علي البايع.

نعم، قد يتجه الخيار لو كان للاجتماع دخل في ضعف الرغبة فيما يملكه، وفي نقص قيمته، بحيث لا يرغب في بيعه لو انفرد، أو بحيث تكون قيمته لو انفرد أكثر مما يتقسط عليه من قيمتهما مجتمعين، حيث قد يدعي أنه إنما أقدم علي الرضا بالبيع وبالقليل من ثمنهما من أجل انضمام أحدهما للآخر، لأنه لا يسهل عليه جمعهما في ملكه ولا بيع ما يملكه منفرداً، فإذا انكشف عدم الاجتماع كان له الخيار من أجل استرجاع ما يملك، أو من أجل تحصيل ما يلحقه من القيمة منفرداً، سواءً كان يري نفسه مالكاً لما يملكه للخطأ في الحكم أو الموضوع، أم كان في مقام ترتيب أثر ملكيته تشريعاً أو تمرداً.

نعم، لا يتجه ذلك لو لم يكن بيعه لما لا يملكه لنفسه، بل لمالكه الحقيقي بتخيل وكالته عنه أو برجاء إجازته، حيث يكون قد أقدم حينئذٍ علي النقص الحاصل ببيعهما مجتمعين من دون أن يجتمعا في ملكه. وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل.

(1) عبارات الأصحاب (رضوان الله عليهم) وإن اختلفت في كيفية التقويم، إلا أنها تتفق في النتيجة مع الوجه المذكور فيما إذا لم يكن للإجماع دخل في قيمة المبيعين.

ص: 364

وقيمة مال غيره خمسة، والثمن ثلاثة، يرجع المشتري بواحد، الذي هو ثلث الثمن، ويبقي للبايع اثنان، وهما ثلثا الثمن. هذا إذا لم يكن للاجتماع دخل في زيادة القيمة ونقصها، أما لو كان الأمر كذلك وجب تقويم كل منهما في حال الانضمام إلي الآخر ثم تنسب قيمة كل واحد منهما إلي مجموع القيمتين (1)،

---------------

وهو الناسب لمرتكزات المتبايعين في تعيين الثمن في مقابل المبيعين معاً، إذ لما كان جعل الثمن لتدارك النقص المالي بفقدها تعين انحلاله ارتكازاً علي نسبة ماليتهما.

ودعوي: أن مقتضي ذلك دوران التقسيط مدار ما يعتقدانه من النسبة بين المالين، لا مدار النسبة الواقعية بينهما التابعة للسوق. فإذا كانت النسبة الواقعية التماثل، وكانا يعتقدان التفاضل فالتقسيط علي التفاضل، لأنه المقصود لهما حين المعاملة في توزيع الثمن.

مدفوعة: بأن المقصود لهما في التوزيع ارتكازاً هو النسبة الواقعية، ولا عبرة بالخطأ في تشخيصها. ولذا لو اختلفا فيما بينهما في النسبة بين المالين، أو اختلفا مع المشتري فيها لا يبطل البيع، بلحاظ عدم الاتفاق بين الأطراف علي المضمون المنشأ، بل يصح البيع ويتعين الرجوع لأهل الخبرة في تعيينها. فلاحظ.

(1) كما ذكره غير واحد ممن علق علي كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) والوجه فيه: أنه حيث كان الوجه في انحلال الثمن علي المبيعين بلحاظ نسبة ماليتهما - كما سبق - هو مرتكزات المتبايعين، فمن الظاهر أن مرتكزاتهما إنما تقتضي ملاحظة ماليتهما حال بيعهما، وهو حال اجتماعهما، فلابد من ملاحظة قيمة كل منهما وقيمة مجموعهما في ذلك الحال، ولا معني للحاظ قيمتهما حال الانفراد طرفاً في النسبة.

وبذلك يظهر ضعف ما عن المشهور من أنهما يقوما مجتمعين ويقوم أحدهما منفرداً، وتنسب قيمته إلي قيمة المجموع، سواءً كان الذي يقوّم منفرداً هو غير المملوك الذي لا يصح البيع فيه، فيسترجع المشتري من الثمن بنسبة قيمته ويبقي الباقي للبايع،

ص: 365

فيؤخذ من الثمن بتلك النسبة. مثلاً: إذا باع الجارية وابنتها بخمسة، وكانت قيمة الجارية في حال الانفراد ستة وفي حال الانضمام أربعة، وقيمة ابنتها بالعكس، فمجموع القيمتين عشرة، فإن كانت الجارية لغير البايع رجع

---------------

كما هو مقتضي إطلاق الشرايع، أم كان الذي يقوّم منفرداً هو المملوك الذي يصح البيع فيه، فيأخذ البايع من الثمن بنسبة قيمته ويبقي الباقي للمشتري، كما هو مقتضي إطلاق ما سبق من المبسوط.

ويظهر الفرق بينهما في بعض صور ما إذا كان للاجتماع دخل في زيادة القيمة أو نقصها. فلو كان قيمة كل منهما منفرداً ثلاثة، وقيمتهما مجتمعين عشرة، يسترجع المشتري علي الأول ثلاثة، وعلي الثاني سبعة. ولو كان قيمة كل منهما منفرداً ثلاثة وقيمتهما مجتمعين أربعة يسترجع المشتري علي الأول ثلاثة، وعلي الثاني واحداً.

ومن ثم قد يستدل علي الثاني بأن البيع حيث وقع علي المجموع ولم يسلم منه إلا الواحد تعين كون الثمن المستحق هو ما يقابل ذلك الواحد بقيمته حال وحدته، نقصت عما كان عليه حال اجتماعه أو زادت.

ويشكل بأن الاجتماع والانفراد لم يجعل بإزائهما شيء من الثمن، ليسقط منه شيء في مقابل الاجتماع أو يلحق منه شيء من أجل الانفراد، وإنما جعل الثمن بإزائهما معاً حال اجتماعهما، فلابد من تقسيطه علي كل منهما بلحاظ قيمته حال اجتماعهما، كما سبق.

ومثله ما اختاره شيخنا الأعظم (قدس سره) - وحكاه عن ظاهر الإرشاد وصريح المحقق الثاني في شرحه للإرشاد وهو ظاهر السرائر وعليه جري في الروضة والمسالك والرياض - من تقوميهما منفردين، وملاحظة نسبة قيمة أحدهما إلي مجموع قيمتيهما. إذ لا مجال لتقوميهما منفردين بعد جعل الثمن بإزائهما حال اجتماعهما المستلزم لتقسيطه عليهما بلحاظ قيمتيهما في الحال المذكور. ويأتي في ذيل الكلام في المسألة ما يوضح

ص: 366

المشتري بخمسين (1)، وهما اثنان من الثمن، وبقي للبايع ثلاثة أخماس. وإن كانت البنت لغير البايع رجع المشتري بثلاثة أخماس الثمن (2)، وهو ثلاثة، وبقي للبايع اثنان.

---------------

ذلك ويؤكده. فلاحظ.

(1) لأن ذلك هو نسبة قيمتها لقيمة بنتها حال اجتماعهما. أما بناء علي ما عليه المشهور فاللازم أن يرجع بثلاثة أخماس، لأن نسبة قيمة ما صح فيه البيع منفرداً لقيمة المجموع خمسان، ونسبة قيمة ما لم يصح فيه البيع منفرداً لها ثلاثة أخماس. وكذا بناء علي ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، لأن قيمة البنت - التي صح فيها البيع - منفردة خمسا مجموع قيمتهما منفردين.

(2) لأن ذلك هو نسبة قيمتها القيمة أمها حال اجتماعهما، نظير ما سبق في أمها.

أما بناء علي ما عليه المشهور فاللازم أن يرجع بخمسين، وهما قيمة البنت التي لم يصح فيها البيع، ويدفع له ثلاثة أخماس، وهما قيمة الجارية التي صح فيها البيع. وكذا بناء علي ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، لأن قيمة الجارية التي صح فيها البيع منفردة ثلاثة أخماس مجموع قيمتهما منفردين.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن ما سبق في كيفية التقسيط يجري في صورة الإجازة، وفي صورة توكيل أحد المالكين للآخر، أو توكيلهما لشخص ثالث، فكل من المالكين يأخذ من الثمن بنسبة قيمة ماله لقيمة مال الآخر في حال انضمامهما. لعين ما سبق من الوجه. كما أنه بناه علي ما ذهب إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) تبعاً لظاهر الإرشاد وغيره فاللازم البناء علي أن كلا من المالكين يأخذ من الثمن بنسبة قيمة ماله لقيمة مال الآخر منفرداً. ولا يبعد بناؤهم علي ذلك.

ص: 367

أما بناءً علي المشهور. فاللازم البناء علي أن كلا من المالكين يأخذ من الثمن بنسبة قيمة ماله منفرداً لقيمتها مجتمعين. لكن يلزمه أنه لو كان لاجتمعهما أثر في زيادة القيمة أو نقصها أن يزيد الثمن علي ما يأخذه كل منهما أو ينقص، فيقع الكلام في توزيع الزيادة أو النقيصة، وأنها هل تكون بالسوية، أو بنسبة قيمة كل من المالين لقيمة الآخر منفرداً، فمن كانت قيمة ماله ضعف قيمة مال الآخر يأخذ ثلثي الزيادة ويتحمل ثلثي النقيصة، أو يختص بالزيادة والنقيصة من يختص ماله بها، أو بنسبة ما يحصل منها في ما له ؟ وجوه، قد ينسبق الأخير للذهن، لأنه الأقرب للإنصاف ارتكازاً.

لكنه في الحقيقة يبتني علي الوجه المختار - من كون الملحوظ في توزيع الثمن عند البيع هو قيمة كل منهما في حال الانضمام للأخير - بحيث لو تم كان شاهداً له، ولبطلان مبني المشهور، كما قد يظهر بقليل من التأمل.

الثاني: لو كان كل من المالين حصة مشاعة في عين واحدة، كما لو باع مالك حصة في الدار تمامها جري الوجه السابق، ولازمه أن يأخذ من الثمن بنسبة ملكه من الدار قلت أو كثرت، لعدم اختلاف قيمة الأسهم في حال الاجتماع، سواء قلت أم كثرت.

أما بناء علي ما اختاره شيخنا الأعظم (قدس سره) فيختلف الحال، كما ذكره (قدس سره)، لأن الأسهم كلما قَلَّت، قَلَّت قيمتها منفردة غالباً، فقيمة الثلث منفرداً أقل من نصف قيمة الثلثين منفردين.

لكن لازم ذلك الاختلاف مع الإجازة أو بيع الشريكين أو الشركاء، مع أنه لا ريب في بناء العرف وسيرتهم علي توزيع الثمن بنسبة السهام. وهو شاهد ببطلان هذا الوجه وتمامية الوجه المختار.

ويكثر الفرق بناء علي قول المشهور، لظهور أن نسبة قيمة سهام العين منفردة إلي قيمة العين بتمامها أقل بكثير من نسبة نفس السهام للعين. وحينئذٍ لا يتم ما عليه العرف - من توزيع الثمن بنسبة السهام - إلا بالبناء في توزيع الزيادة علي الوجه الثالث

ص: 368

(369)

(مسألة 22): إذا كانت الدار مشتركة بين شخصين علي السوية، فباع أحدهما نصف الدار (1)، فإن قامت القرينة علي المراد نصف نفسه أو نصف

غيره أو نصف في النصفين (2) عمل علي القرينة (3)، وإن لم تقم القرينة علي الشيء حمل علي نصف نفسه لا غير (4).

---------------

الذي تقدم في الأمر الأول، وتقدم منّا التنبيه إلي أنه لو تم يبتني علي الوجه المختار، ويكون شاهداً له ولبطلان مبني المشهور. فلاحظ.

(1) الكلام الآتي يجري في جميع فروض بيع مالك السهم من العين لما يساوي سهمه، كما لو باع مالك ثلث العين ثلثها، أو باع مالك ربع العين ربعها، وهكذا.

(2) أو بنسبة مختلفة فيهما، كربع أحد النصفين وثلاثة أرباع الآخر، وغير ذلك.

(3) بلا إشكال لتبعية العقد للقصد. ويترتب علي ذلك أن يكون العقد نافذاً في الصورة الأولي، وفضولياً في تمام موضوعه في الثانية، وفي بعض موضوعه بالنسبة في الثالثة، فيجري فيه ما تقدم في المسألة السابقة. إلا أن يكون وكيلاً أو مأذوناً عن شريكه في البيع أو ولياً عليه، فينفذ في الجميع، ولا يكون فضولياً.

(4) كما في جامع المقاصد والمسالك وغيرهما، وهو الذي ذكره في القواعد، لكن عقبه باحتمال الإشاعة. وفي الجواهر: (صرح به جميع من تعرض لذلك... ولا ينافي ذلك احتمال الإشاعة في النصيبين في جملة من الكتب، ضرورة عدم منافاة ذلك للظاهر). وكأنه حمل احتمال الإشاعة في كلامهم علي احتمال إرادتها واقعاً من دون أن يعتد به عملاً. لكنه خلاف ظاهر مثل العلامة في القواعد.

وكيف كان فالكلام في مقامين:

المقام الأول: فيما إذا علم أن البايع لم يقصد إلا بيع النصف بما له من مفهوم عرفي من دون تقييد بنصف خاص مما سبق ذكره. والظاهر أن البيع يقع علي المشاع في

ص: 369

المشاع، لا لأنه المقصود بعنوانه، كي يتجه الإشكال عليه بأنه ترجيح بلا مرجح بعد ما سبق من إمكان إرادة الإشاعة بوجوه أخر، بل لأن طبيعة الإشاعة تقتضي الإشاعة في الأجزاء المفروضة في رتبة سابقة عليها، سواء كانت تلك الأجزاء خارجية منتزعة من جهة حقيقية، أم اعتبارية منتزعة من جهة اعتبارية. فالأولي هي الأجزاء الخارجية المتميزة عن بعضها من حيثية الطول أو العرض أو العمق أو الوزن أو غيرها، والثانية هي الأجزاء الاعتبارية القائمة بالمالية المتميزة عن بعضها بلحاظ إشاعة سابقة، كما لو كان نصف المال المشاع لزيد ونصفه الآخر لعمرو، أو كان موزعاً بينهما وبين اثنين آخرين أرباعاً، أو كان نصفه مال وقف ونصفه مملوكاً أو كان نصفه للوقف ونصفه زكاة أو غير ذلك.

كل ذلك للوجه الملزم بحمل إطلاق الحصة علي الحصة المشاعة، حيث لا إشكال في أن المفهوم من الاقتصار علي عنوان النصف أو الربع أو غيرها من دون تعيين لجهة خاصة يكون التقسيم بلحاظها هو إرادة الجزء المشاع، دون المعين. وأن إرادة الجزء المعين تحتاج إلي مؤنة وبيان.

وكأنه لأن انتزاع الجزء المعين يتوقف علي ملاحظة جهة زائدة علي موضوعه تكون التجزئة بلحاظها من طول أو عرض أو عمق أو وزن أو مساحة أو غيرها، أما الجزء المشاع فانتزاعه لا يتوقف إلا علي ملاحظة موضوعه بنفسه، كالدار مثلاً. كما أن الجزء المعين لابد من انتزاعه وتعيينه في مرتبة سابقة علي ما يجعل عليه من بيع أو وقف أو هبة أو إبراء أو غيرها، بخلاف الجزء المشاع، فإنه ينتزع بجعل ما يتعلق به من الأمور المذكورة، من دون أن يكون متعيناً، بل ولا منتزعاً في مرتبة سابقة عليها.

وكيف كان فلهذين الأمرين أو غيرهما لا إشكال عند العرف في حمل الجزء ثبوتاً في فرض الإطلاق والاقتصار علي عنوانه علي المشاع، دون المعين، بحيث تحتاج إرادة المعين إلي مؤنة زائدة.

وذلك كما يقتضي عدم الحمل علي الجزء المعين بلحاظ الجهات الخارجية من

ص: 370

الطول والعرض وغيرهما، كذلك يقتضي عدم الحمل علي الجزء المعين بلحاظ إشاعة سابقة علي مفاد القضية المجعولة من بيع أو وقف أو غيرهما، فإن الجزء المذكور وإن كان مشاعاً، إلا أن له نحواً من التعين الاعتباري في مرتبة سابقة، وإرادته تتوقف علي مؤنة زائدة علي ملاحظة موضوع الانقسام - كالدار - وهو ملاحظة الانقسام الإشاعي السابق، كما تتوقف إرادة الجزء الخارجي علي ملاحظة الجهة المميزة له.

وبعبارة أخري: الحمل علي الجزء المشاع بلحاظ تجزئة سابقة ليس حملاً علي الإشاعة، بل هو حمل علي التعيين الذي هو خلاف الظاهر في نفسه، لاحتياجه إلي مؤنة زائدة، غاية الأمر أن المعين مشاع في نفسه، وذلك وحده لا يكفي في الحمل عليه.

ولذا لا إشكال ظاهراً في حمل المبيع في المقام علي المشاع في المشاع لو لم يكن البايع مالكاً لأحد النصفين، كالوكيل عن المالكين، والفضولي. سواءً كان البايع عالماً بالتنصيف الإشاعي السابق أم جاهلاً به.

وأما ما يظهر من غير واحد من أن الحمل علي النصف المشاع في المشاع يتوقف علي قصد بيع نصف النصفين، ولا مرجح لحمل عليه من بين المحتملات الأخر. فيظهر اندفاعه مما سبق من أن المشاع في المشاع هو مقتضي طبيعة الإشاعة، المفروض ثبوتها بمقتضي الإطلاق، بلا حاجة إلي قصد بيع نصف النصفين. بل قصد بيع نصف النصفين المشاعين كقصد نصف النصفين الطوليين أو العرضيين أو نحوهما خارج عما يقتضيه الإطلاق من الإشاعة، وإن اتفق معها نتيجة.

هذا وربما يدعي أن المقام من موارد بيع الكلي في المعين، وأن المبيع هو نصف صالح للانطباق علي النصفين، وحيث قد ملك البايع فرداً منه تعين المبيع فيه.

وفيه: أولاً: أن بيع الكلي في المعين يختلف سنخاً عن بيع الجزء المشاع. ويظهر الفرق بينهما في الأجزاء الخارجية حيث تبقي علي ملك البايع في الأول، فيستقل هو بالتصرف فيها، ولا يملكها المشتري إلا بتسليم الفرد الذي يختاره، أما في الثاني فيتعين

ص: 371

الشركة فيها، المستلزمة لعدم استقلال كل منهما بالتصرف فيها، بل لابد من صدوره بنظرهما معاً، والمفروض في المقام هو بيع الجزء المشاع الموجب للشركة، ولذا قد لا يكون للجزء المبيع فرد آخر، كما لو كان المبيع ثلثا العين. كما أنه لا إشكال في احتياج بيع الكلي في المعين إلي عناية خاصة خارجة عن مفروض الكلام.

وثانياً: أن ذلك لا يقتضي تعين المبيع في النصف الذي للبايع، بل يتوقف تعينه فيه علي تسليمه وفاء عن الكلي المبيع، فلو لم يسلمه البايع إياه، وإنما سلمه النصف الآخر بإذن مالكه وفاء عن الكلي المذكور ملك ذلك النصف وبقي للبايع نصفه.

ومثله ما قد يدعي من منافاة ذلك لما ذكره في الشرايع وغيره من أن المرأة إذا وهبت نصف مهرها مشاعاً ثم طلقت قبل الدخول فللزوج الباقي. بدعوي أن الطلاق يقتضي ملك الزوج لنصف المهر، فلو تم ما سبق من تنزيل النصف علي المشاع في المشاع لا النصف المملوك لزم استحقاقه نصفاً مشاعاً في الباقي ونصف قيمة الموهوب، لا تمام النصف الباقي.

لكن القياس في غير محله، لأن رجوع نصف المهر بالطلاق لا يبتني علي الإشاعة، بحيث يكون الزوج شريكاً لها فيه ولا يجوز لها الاستقلال بالتصرف فيه، بل علي مجرد استحقاقه عليها نصف المهر، بحيث يجب عليها إرجاعه له، مع جواز استقلالها بقسمته، وضمانها له لو تلف بعد الطلاق من دون تفريط، وغير ذلك. فإن لازم ذلك إرجاع الباقي بعد قدرتها عليه، لبقائه عندها.

ويناسب ذلك ضمانها له ما تلف قبل الطلاق، وما في صحيح محمد بن مسلم أو موثقه: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل تزوج امرأة فأمهرها ألف درهم، ودفعها إليها، فوهبت له خمسمائة درهم وردتها عليه، ثم طلقها قبل أن يدخل بها. قال: ترد عليه الخمسمائة درهم الباقية، لأنها إنما كانت لها خمسمائة درهم فوهبتها له، فهبتها له ولغيره سواء)(1). لظهور أنه لو ابتني الأمر علي الإشاعة لزم استحقاقه نصف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 35 من أبواب المهور حديث: 1.

ص: 372

الخمسمائة الباقية وضمانها له نصف الخمسمائة التي وهبتها بمثلها، لا بخصوص نصف الخمسمائة الآخر.

وهناك بعض الوجوه الأخر ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) ومن تابعه ممن عقب علي كلامه لا يسعنا إطالة الكلام فيها، لأنها ليست أدلة، بل فتاوي قد تتم وقد لا تتم، فلا مجال للخروج بها عما ذكرنا.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أنه مع فرض عدم قصد البايع إلا بيع النصف بعنوانه لابد من البناء علي الإشاعة المقتضية في المقام لكون المبيع هو المشاع في المشاع، كما يكون هو المشاع في سائر الأقسام المفروضة بلحاظ الطول أو العرض أو غيرهما.

وبذلك يظهر أنه لابد حمل البيع علي النصف المشاع في المشاع لو لم يكن البايع عالماً باستحقاقه للنصف فقط، كما لو كان يري ملكيته للعين بتمامها، أو عدم ملكيته لشيء منها، وإنما باع النصف فضولاً، أو لسلطنته عليه بوكالة أو ولاية. وذلك لعدم المنشأ لاحتمال قصده لخصوص النصف الذي له، بل يعلم بعدم قصده إلا لبيع النصف بما له من مفهوم عرفي.

المقام الثاني: فيما إذا احتمل قصد البايع بيع خصوص النصف الذي له، ولا ينبغي التأمل في حمله عليه لو علم المشتري بأن البايع يختص بنصف له، لأن ذلك يصلح قرينة عرفاً علي حمل إضافة النصف للدار علي العهد زائداً علي الاختصاص - كما هو مقتضي الأصل في الإضافة - لو غض النظر عما يأتي الكلام فيه من القرائن.

بل لو لم يقصد البايع ذلك، وإنما قصد إطلاق النصف تعين بطلان العقد، لعدم التطابق بين قصد البايع وقصد المشتري. إلا أن يكون المشتري غير قاصد للنصف المذكور أيضاً. فيتعين البناء علي كون المبيع هو المشاع في المشاع، لعين ما سبق.

أما لو لم يكن هناك نصف معهود بينهما، كما لو لم يعلم المشتري بالحال، فقصد ما قصده البايع، لم يبعد البناء علي كون المبيع هو النصف المملوك للبايع، لأمرين:

الأول: ظهور حال البايع في كون البيع لنفسه، نظير ظهور حال المشتري في

ص: 373

الشراء لنفسه، ولذا لو كان الثمن ذمياً يبني علي كون الشراء له في ذمته، لا لغيره وإن كان مسلطاً علي الشراء لذلك الغير بوكالة أو ولاية.

ويترتب علي ذلك أن يحمل المبيع علي نصفه المختص به حتي لو كان مسلطاً علي بيع نصف شريكه بولاية أو وكالة. غاية الأمر أنه يسمع منه دعوي وقوع البيع علي النصف الآخر، لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به، وإنما يظهر أثر ذلك فيما لو لم يدع ذلك، ولم يبين.

الثاني: ظهور حال المتصرف في كونه مسلطاً علي ذلك التصرف، بحيث يكون التصرف نافذاً، لا موقوفاً علي إجازة الغير. ولذا لو اشتري في الذمة لغيره، ودار أمر الغير بين موكله والأجنبي، يبني علي نفوذ البيع ووقوعه لموكله.

ويترتب علي ذلك أنه لو كان نصف الدار لموكله ونصفه الآخر لأجنبي أن يحمل المبيع علي أنه نصف موكله.

اللهم إلا أن يستشكل في الظهور الثاني بأن المتيقن هو البناء علي سلطنته علي البيع ونفوذه - عملاً بقاعدة الصحة - بنحو يقتضي إلزامه بالثمن، لظهور حال المستقل بإيقاع المعاملة بتعهده بالثمن، أصيلاً كان أو وكيلاً، أو لبناء العقلاء علي ذلك. أما البناء علي وقوع البيع لموكله أو من له الولاية عليه، بحيث يملك المبيع ويلزم بثمنه فلا يتضح بناء العقلاء عليه إلا مع دعوي موقع البيع ذلك، لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به.

ومثل ذلك ما لو رتب آثاره، كما لو سلم المبيع لموكله أو طالبه بثمنه. بل لا يبعد ذلك أيضاً فيما لو ظهر منه ذلك حين البيع، كما لو طلب منه الموكل شراء المتاع الخاص له، فذهب فاشتراه، حيث لا يعتد عرفاً باحتمال إيقاعه الشراء لنفسه، إلا أن يدعي هو ذلك.

أما فيما عدا ذلك فلا يتضح بناؤهم علي وقوع المعاملة لموكله أو من له الولاية عليه، فضلاً عن أن يبني من أجل ذلك علي تعيين المبيع وأنه هو ما يملكه الموكل.

ص: 374

(375)

(مسألة 23): يجوز للأب (1)

---------------

وأما الظهور الأول فهو وإن كان مسلماً، إلا أنه إنما يقتضي وقوع البيع له وما يترتب علي ذلك من ثبوت الثمن في ذمته، لأصالة خروج الثمن ممن دخل المثمن في ملكه. من دون أن يتضح نهوضه بإثبات لازم ذلك، وهو كون المبيع هو الأمر المملوك له.

وبعبارة أخري: الظهور المذكور إنما ينهض بتعيين من له البيع، وترتيب آثار ذلك، مثل كون الثمن الذمي في ذمته، من دون أن ينهض بتعيين موضوع البيع، وهو المبيع، وأنه خصوص ما يملكه.

ومن ثم يشكل الخروج عن مقتضي الإطلاق - من بيع المشاع في المشاع - من أجل الظهورين المذكورين. إلا أن ينضم لهما ظهور حال من البايع بلحاظ ما يقارن البيع ويحيط به بنحو يوجب الوثوق عرفاً ببيعه لخصوص النصف الذي يملكه.

وأشكل من ذلك ما إذا قصد المشتري بسبب جهله باختصاص البايع بنصف الدار مقتضي الإطلاق، فإنه لو فرض قصد البايع النصف المختص به - ولو لظهور حاله في ذلك بنحو يعتد به - يلزم عدم التطابق بين القصدين، فيبطل العقد.

اللهم إلا أن يكون قصد المشتري راجعاً للخطأ في التطبيق، لعدم الغرض المعتد به له في ذلك، لأن المهم له شراء النصف، وقصده الإطلاق إنما هو لتخيل عدم انقسام الدار بإشاعة سابقة، لا للاهتمام بمقتضي الإطلاق. فلاحظ.

(1) بلا إشكال ظاهر، وقد نفي الخلاف فيه وادعي الإجماع عليه غير واحد. بل هو من الضروريات الفقهية.

ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - سيرة المتشرعة القطعية، تبعاً لسيرة العقلاء بمقتضي ارتكازياتهم البدوية. ولعل ذلك هو الوجه في عدم ورود النصوص ببيان ذلك تأسيساً مع شيوع الابتلاء به وشدة الحاجة لمعرفته. وإنما يظهر من جملة منها المفروغية عنه، حيث تعرضت في موارد متفرقة لبعض الفروع المترتبة عليه.

ص: 375

منها: ما تضمن أخذ الأب جارية ابنه بعد تقويمها علي نفسه(1).

ومنها: ما تضمن أن الأب إذا زوج ابنه الصغير فالمهر علي الولد إن كان له مال(2).

ومنها: ما يأتي في الوصي عن الأب، لظهور أن ولاية الوصي فرع ولاية الموصي.

ومنها: حديث محمد بن الفضيل:

(سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم هل يجب علي مالهم الزكاة ؟ فقال: لا يجب في مالهم زكاة حتي يعمل به، فإذا عمل به وجبت الزكاة... ) (3) . ولا يقدح فيه اشتماله علي ذكر الأخ، كما يأتي عند الكلام في ولاية الجد، ويظهر مما يأتي في الولاية علي اليتيم.

هذا وقد يستدل عليه بفحوي ما تضمن ولايته عليه في النكاح(4). ولكنه لا يخلو عن إشكال، لابتناء النكاح علي بعض الخصوصيات التي لا تجري في غيره، كالولاية في الجملة علي البكر البالغة الرشيدة، وكعدم الولاية علي الصغير في الطلاق.

نعم، قد يستفاد عموم ولاية الأب علي الصغير في جميع شؤونه من النصوص المتقدمة، ومن النصوص الواردة في النكاح المشار إليها، ومن نصوص أخر.

منها: ما ورد في إجارة الأب ولده الصغير، كصحيح محمد بن عيسي اليقطيني: (أنه كتب إلي أبي الحسن علي بن محمد العسكري في رجل دفع ابنه إلي رجل وسلمه سنة بأجرة معلومة ليخيط له، ثم جاء رجل آخر فقال: سلم ابنك سنة بزيادة، هل له الخيار في ذلك ؟ وهل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأول، أم لا؟ فكتب (عليه السلام): يجب عليه الوفاء للأول ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف)(5).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 40 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 28 من أبواب المهور.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ولا تجب حديث: 4.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

(5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 15 من أبواب كتاب الإجارة حديث: 1.

ص: 376

ومنها: ما تضمن بيان المكاسب التي ينبغي للصغير أن يحسنها أو يتجنبها، كصحيح إسحاق بن عماد أو موثقه: (دخلت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فخبرته أنه ولد لي غلام... قلت: جعلت فداك في أي الأعمال أضعه ؟ قال: إذا عدلته [عزلته] عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت. لا تسلمه صيرفياً...)(1) ، لظهوره في المفروغية عن أن من شأن الأب تعليم ولده مكسباً يتعيش به.

ومنها: ما ورد في تأديب الصبي(2) ، وحضانته(3) ، وتمريضه(4).

ومنها: ما تضمن كفاية قبض الأب عن ولده الصغير في الهبة والصدقة(5). وغير ذلك.

فإن إلغاء خصوصية موارد هذه النصوص وفهم عموم ولاية الأب من مجموعها قريب جداً. ولاسيما مع ظهور جملة منها في المفروغية عن ثبوت الولاية في مواردها، حيث لا منشأ له ظاهراً إلا السيرة، تبعاً لارتكاز عموم الولاية المدعي.

علي أن ذلك هو الظاهر من بعضها. كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في الرجل يتصدق علي ولده وقد أدركوا: إذا لم يقبضوا حتي يموت فهو ميراث، فإن تصدق علي من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأن والده هو الذي يلي أمره... ) (6) ونحوه معتبر عبيد بن زرارة(7). فإن مقتضي إطلاق التعليل فيهما عموم ولاية الأب علي ولده لا خصوص ولايته عليه في قبض الصدقة له. كل ذلك مع اعتضاده بظهور الإجماع والسيرة القطعية علي العموم المذكور. بل يكاد يلحق بالضروريات، نظير ما تقدم في الولاية بالمال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 22، 82، 83، 85، 86، من أبواب أحكام الأولاد.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 81 من أبواب أحكام الأولاد.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 97، 98 من أبواب أحكام الأولاد.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4، 5 من أبواب أحكام الهبات، وباب: 4 من أبواب الوقوف والصدقات.

(6) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب الوقوف والصدقات حديث: 1، 5.

(7) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 4 من أبواب الوقوف والصدقات حديث: 1، 5.

ص: 377

وبذلك يظهر أنه لا حاجة للاستدلال علي ولاية الأب علي مال ولده بما تضمن جواز أخذ الأب من مال ولده(1). علي أنه لا مجال للاستدلال به: أولاً: لاختصاص بعضه بالكبير، وإطلاق بعضه بنحو يشمله، ولا إشكال في عدم ولايته عليه. وثانياً: لأن جواز الأخذ من المال لا يستلزم الولاية عليه بحيث ينفذ التصرف فيه، كما هو ظاهر.

ومثله الاستدلال علي عموم ولايته عليه بقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أنت ومالك لأبيك) (2) بدعوي: أن ملكيته له كناية عن سلطنته عليه.

إذ فيه: أولاً: أنه لم يتضح كونه كناية عن السلطنة، الراجعة للولاية، التي هي نحو من الاستئمان مع القدرة علي التصرف، بل السلطنة الراجعة للإباحة، كما يناسبه سياقه مع المال الذي يراد به ذلك، كما يظهر من بعض النصوص المشار إليها، وهي التي تتضمن الاستشهاد بالحديث لجواز أخذ الأب من مال ولده.

وثانياً: أنه مختص بالكبير كما هو المنصرف من الخطاب، والظاهر من بعض النصوص. وحيث لا إشكال في عدم ولايته عليه فلا مجال لأن يستفاد منه ولايته علي الصغير بفهم عدم الخصوصية أو بالأولوية. بل لابد من حمله علي كونه وارداً لبيان قضية تأديبية.

بل هو كالصريح من معتبر الحسين بن أبي العلاء: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يحلّ للرجل من مال ولده ؟ قال: قوته [قوت] بغير سرف إذا اضطر إليه. قال: فقلت له: فقول رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) للرجل الذي أتاه، فقدم أباه: أنت ومالك لأبيك ؟ فقال: إنما جاء بأبيه إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي عن أمي، فأخبره الأب أنه قد أنفقه عليه وعلي نفسه، وقال: أنت ومالك لأبيك، ولم يكن عند الرجل شيء. أوَ كان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يحبس الأب للابن ؟!)(3).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 8، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8.

ص: 378

والجد (1)

---------------

نعم، يأتي عند الكلام في ولاية الجد ما يناسب استفادة الولاية منه. فيكون عاضداً لما سبق، وإن كان في نفسه وافياً بالاستدلال.

(1) كما هو مقتضي الجمع منهم بينهما في الولاية بنحو يظهر منهم المفروغية عنه وانعقاد إجماعهم عليه كالأب. وكفي به حجة في المقام، لشيوع الابتلاء بالمسألة بنحو يمتنع عادة خفاء حكمها علي الأصحاب، مع مناسبة الحكم للسيرة.

وقد يستدل عليه - مضافاً إلي ذلك - بأمرين:

الأول: إطلاق النصوص الواردة في الأب، لأن الجد أب أيضاً. ويشكل بأنه وإن كان أباً بمعني، ولذا يجري عليه حكم الأب في تحريم النكاح مثلاً، إلا أن إطلاق الأب في نصوص المقام ينصرف عنه كما يتصرف عنه في كثير من موارد إطلاقه في الاستعمالات العرفية. ولذا تضمنت النصوص الواردة في الولاية علي النكاح مقابلة الأب بالجد. كما لا إشكال عندهم في قصوره عن الجد للأم في المقام، مع أنه أب بالمعني الأول. ولا أقل من خروج الجد للأب عن المتيقن من إطلاق الأب في المقام.

الثاني: فحوي ما تضمن ولايته في النكاح. لكن عرفت عند الكلام في ولاية الأب الإشكال في الفحوي المذكورة.

نعم، قد يستفاد ذلك من بعض نصوصه، وهو معتبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: إني لذات يوم عند زياد بن عبد الله [ابن عبيد الله الحارثي] إذ جاء رجل يستعدي علي أبيه. فقال: أصلح الله الأمير إن أبي زوج ابنتي بغير إذني. فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول هذا الرجل ؟ فقالوا: نكاحه باطل. قال: ثم أقبل علي، فقال: ما تقول يا أبا عبد الله ؟ فلما سألني أقبلت علي الذين أجابوه، فقلت لهم: أليس فيما تروون أنتم عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أن رجلاً جاء يستعديه علي أبيه في مثل هذا، فقال له رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أنت ومالك لأبيك ؟ قالوا: بلي. فقلت لهم: فكيف

ص: 379

يكون هذا وهو وماله لأبيه ولا يجوز نكاحه ؟! فأخذ بقولهم وترك قولي)(1).

لظهوره في أن ما تضمنه النبوي الشريف من حق الأبوة - علي أي معني حمل - يستتبع الولاية ونفوذ التصرف، ولو بتنقيح المناط أو الأولوية. ومن الظاهر أن الملاك المذكور إذا كان يقتضي ولايته علي بنت ابنه فهو يقتضي ولايته علي ابن ابنه، وإذا كان يقتضي ولايته عليها في النكاح فهو يقتضي ولايته عليها في سائر الأمور، لعدم تفريق العرف بنحو يفهم العموم من فحوي الكلام.

ومثله في ذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام):

(سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان ابنته، فهوي أن يزوج أحدهما، وهوي أبوه الآخر، أيهما أحقّ أن ينكح ؟ قال: الذي هوي الجد أحقّ، لأنها وأباها للجد) (2) فإن التعليل يقتضي العموم المذكور ارتكازاً، وهو يشير لمفاد النبوي المتقدم. كما أن الحديثين ينفعان في إثبات عموم ولاية الأب ويعضدان ما سبق فيه، كما أشرنا إليه آنفاً.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في ولاية الجد بعد ما عرفت من ظهور الإجماع والمفروغية المعتضدين بالحديثين الشريفين. ومنه يظهر ضعف ما قد يظهر مما عن ابن أبي عقيل من عدم ولايته، لاقتصاره في الولاية علي ذكر الأب.

بقي في المقام شيء، وهو أنه ربما يدعي اختصاص ولاية الجد علي الصغير بما إذا كان الأب حياً، كما صرح بذلك في الولاية علي النكاح في الهداية والنهاية والمبسوط والغنية والمراسم والوسيلة وعن ابني الجنيد والبراج وغيرهما. بل في الخلاف الإجماع عليه.

وقد يستدل عليه بوجهين:

الأول: الأصل بعد اختصاص الدليل علي ولايته بصورة وجود الأب. أما الإجماع فظاهر. وأما النصوص فلأنها واردة لبيان أولوية الجد من الأب ونفوذ تزويجه لها بغير إذنه ونحو ذلك مما يختص بحال وجوده.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 5، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 5، 8.

ص: 380

وفيه: أن المستفاد من النصوص المذكورة عرفاً أن أولوية الجد بلحاظ أقوائية ملاك ولايته، لأبوته للأب، وذلك يقتضي إلغاء خصوصية وجود الأب في ولايته. بل ظاهر التعليل في صحيح علي بن جعفر المتقدم بأنها وأباها للجد ثبوت الولاية للجد عليها لأنها له، وأولويته بها من الأب لأن الأب له. ومقتضي ذلك عموم ولايته عليها لحال فقد الأب.

كما لا يبعد استفادة ذلك أيضاً من موثق عبيد بن زرارة:

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر. قال: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضاراً، إن لم يكن الأب زوجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجد) (1) . لظهور ذيله في ثبوت الولاية لهما بنحو الانحلال. ولا مجال لحمله علي خصوص صورة اجتماعهما، لنهوض الصدر ببيان ذلك، فلا فائدة في بيانه.

علي أنه لو فرض قصور النصوص عن إثبات عموم ولاية الجد لحال موت الأب. فالظاهر نهوض الاستصحاب به، للشك في ارتفاع ولايته بموت الأب فتستصحب، بناء علي جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، علي ما حقق في محله، فيكون الاستصحاب المذكور حاكماً الأصل المدعي في المقام. نعم لا يجري الاستصحاب فيما لو مات الأب قبل ولادة الطفل، للشك في حدوث ولايته عليه بعد ولادته، لا في ارتفاعها بعد العلم بثبوتها.

الثاني: موثق الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: إن الجد إذا زوج ابنة ابنه، وكان أبوها حياً، وكان الجدّ مرضياً جاز. قلت: فإن هوي أبو الجارية هوي، وهوي الجدّ هوي، وهما سواء في العدل والرضا. قال: أحب إلي أن ترضي بقول الجدّ) (2) . حيث تضمن اعتبار حياة الأب في جواز عقد الجد.

ودعوي: أنه وإن عبر عنه بالموثق في كلام بعضهم، إلا أنه قد رمي بالضعف في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 4.

ص: 381

الشرايع والمسالك ومحكي مرآة العقول. إما لضعف الموثق عندهم، أو لأن في سنده جعفر بن سماعة، وهو لم يوثق.

مدفوعة بأن الموثق حجة. كما أن من القريب أن يكون جعفر بن سماعة هذا هو جعفر بن محمد بن سماعة الثقة، وأن نسبته إلي سماعة من باب النسبة للجد، لأنه هو صاحب كتاب النوادر الذي يرويه أخوه الحسن بن محمد بن سماعة الراوي عنه هنا، مع أن الموجود في أكثر رواياته أو جميعها هو جعفر بن سماعة. وقد أطال بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب ذلك بما لا يخلو عن قوة.

نعم، قد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) باحتمال سوق التقييد بذلك تمهيداً للحكم المذكور في ذيل الموثق في فرض التشاح بين الأب والجد، حيث لا موضوع له إلا في فرض وجود الأب، فهو نظير الشرط المسوق لتحقيق الموضوع لا مفهوم له.

لكنه يندفع بأن فرض التشاح لم يؤخذ في جزاء الشرطية، وإنما اقتصر في جزائها علي جواز النكاح لا غير. وأما التشاح فقد فرض في كلام السائل بعد تمامية الشرطية. ولعله لذا أمر (قدس سره) بالتأمل.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن المراد بالجواز في الجزاء ليس هو جواز التزويج في نفسه، بل جواز التزويج علي الأب، كما يظهر من النصوص المعتبرة، ومن الظاهر أن الجواز علي الأب فرع حياته، فالشرط مسوق لتحقيق الموضوع.

لاندفاعه بأن ذلك وإن ورد في بعض النصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام

): (قال: إذا زوج الرجل ابنة ابنه فهو جائز علي ابنه... ) (1) ، ونحوه معتبر عبيد بن زرارة(2) ، إلا أن ذلك لا ينهض قرينة علي حمل موثق الفضل علي ذلك، ولاسيما مع التعبير بجواز التزويج عليها في موثق عبيد بن زرارة المتقدم، بل يتعين حمله علي ظاهره وهو جواز التزويج ونفوذه في نفسه، كما هو الحال في غيره مما أطلق فيه جواز التزويج. ومن ثم لا يتم ما ذكره من كون الشرط مسوقاً لتحقيق الموضوع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1، 7.

ص: 382

فالعمدة في منع الاستدلال بالموثق علي التقييد المذكور أمران:

الأول: أن كون الأب حياً وكون الجد مرضياً ليسا شرطين في قبال التزويج، بل هما حال منه وقيد فيه، وليس الشرط إلا التزويج وحده، ولا مفهوم له، لأنه مسوق لتحقيق موضوع الجواز والنفوذ.

نعم، في الجواهر أن دلالة الموثق علي اعتبار حياة الأب بمفهوم الشرط. وقد وجهه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن الشرط في الشرطية إذا كان مركباً من أمور - كما في المقام

انحلت إلي شروط متعددة، ولحق كل منها حكمه، فما كان مقوماً لموضوع الجزاء لم يكن له مفهوم، كالتزويج في المقام، وما لم يكن مقوماً لموضوع الجزاء - كحياة الأب في المقام - كان له مفهوم، كسائر موارد مفهوم الشرط.

لكن الانحلال المذكور غير ظاهر الوجه بعد وحدة الشرطية. ولاسيما وأنه لا يمكن البناء علي رجوع الشرطية في المقام إلي شرطيات ثلاث في عرض واحد. إذاً إشكال في أن الجزاء مترتب علي مجموع الأمور المذكورة لا علي كل منها لوحده. فمرجع الانحلال المدعي إلي انحلال الشرطية إلي شرطية في ضمن شرطية تكون جزاء لها. فكأنه قيل: إذا زوج الجدّ ابنة ابنه، فإن كان الأب حياً وكان الجدّ مرضياً جاز التزويج. ولا إشكال في ابتناء ذلك علي عناية وكلفة لا يناسبها لسان الحديث.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من أن حياة الأب وكون الجدّ مرضياً قيدان كسائر القيود التي لا مفهوم لها وضعاً. وإن كانت القرائن والمناسبات الارتكازية قد تقضي بسوقها للاحتراز، فيكون لها مفهوم، كما هو غير بعيد في التقييد بكون الجد مرضياً. أما التقييد بكون الأب حياً فمن البعيد جداً كونه احترازياً، خصوصاً بملاحظة ملاك ولاية الجد الذي أشير إليه في التعليل. بل لا يبعد كون ذكره لدفع توهم توقف ولاية الجدّ علي موت الأب، رداً لما عن العامة من اشتراط ولايته بفقد الأب، كما هو المناسب لما تقدم في معتبر عبيد بن زرارة من حكم الحاضرين في مجلس زياد بن عبد الله ببطلان نكاح الجد.

ص: 383

الثاني: أن ظاهر ذيل الموثق فرض بلوغ البنت، ولذا أحب لها الامام (عليه السلام) الرضا بما يختاره الجد، واعتبار حياة الأب في نفوذ تزويج الجد لها مع بلوغها لا يستلزم اعتبار حياته في نفوذ تزويج الجد لها قبل بلوغها، فضلاً عن اعتبارها في ولايته عليها في غير التزويج من شؤونها.

ومن هنا لا مخرج عما يستفاد من النصوص المتقدمة من عموم ولاية الجد علي الصغير، سواء كان الأب حياً أم لا. ولو فرض قصورها عن إثبات العموم كفي الاستصحاب الذي تقدم التعرض له آنفاً. ولعله لذا صرح غير واحد بالعموم، كما في السرائر والشرايع والتذكرة والمسالك وغيرهما، وهو مقتضي إطلاق جماعة آخرين.

ثم إن ظاهر المسالك الإجماع علي عموم ولاية الجد علي مال الصغير لحال موت الأب، وأن الخلاف في ولايته مع موت الأب إنما هو في النكاح لا غير، كما هو الظاهر من المحقق في الشرايع، حيث لم يشر للخلاف المذكور في كتابي البيع والحجر، وأشار إليه في النكاح. ومن العلامة في القواعد، حيث لم يشر له في كتاب البيع وأشار إليه في كتاب النكاح.

ومن ثم استدل في المسالك لعموم ولايته حتي في النكاح بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها) (1) . قال في المسالك:

(ولا خلاف في أن الجد ولي أمر الصغيرة في الجملة) .

ومثله في ذلك صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم:

(سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذي بيده عقدة النكاح. فقال: هو الأب والأخ والموصي إليه والذي يجوز أمره في مال المرأة من قرابتها، فيبيع لها ويشتري. قال: فأي هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه) (2) ، ونحوه أو عينه خبر أبي بصير(3) ، وصحيح أبي بصير وسماعة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2.

(2) التهذيب ج: 7 ص: 484 واللفظ له، ووسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 4.

ص: 384

عنه (1)(عليه السلام)، وصحيح الحلبي عنه (2)(عليه السلام).

نعم، استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن ظاهر الآية الشريفة الاختصاص بالبالغات، بقرينة نفوذ عفوهن، فالروايات الواردة في تفسيرها قاصرة عن شمول غيرهن، ولذا ذكر الأخ في الصحيح المتقدم، حيث لابد من حمله وحمل غيره ممن ذكر علي ما إذا كان وكيلاً عنها، فيخرج عن محل الكلام.

لكنه يندفع بأن ما تضمنته الآية الشريفة من نفوذ عفوهن وعفو من بيده عقدة النكاح ظاهر في أن موردها أعم من البالغات والصغيرات، وأن البالغات يكون العفو منهن، والصغيرات يكون العفو ممن بيده عقدة النكاح بدلاً عنهن، وهو الولي.

ولاسيما مع ذكر الموصي إليه الذي ينفصل عن المولي عليه ببلوغه، ولا خصوصية له إلا قبل البلوغ، وليس هو كالأب تبقي علاقته ببنته حتي بعد بلوغها. مع ما في صحيح رفاعة:

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي بيده عقدة النكاح. قال: الولي الذي يأخذ بعضاً ويترك بعضاً. وليس له أن يدع كله) (3) ، ونحوه غيره. لقوة ظهوره في الولي القهري، دون الذي يتولي أمرها بتوكيل منها. ولذا لم يكن له أن يدع الكل، مع أنه لو كان وكيلاً عنها لجاز له ذلك مع عموم وكالته، كما يجوز لها.

مع أن مراده (قدس سره) من الوكيل إن كان هو الوكيل في الأمور المالية فعقدة النكاح ليست بيده. وإن كان هو الوكيل في النكاح فلا وجه لنفوذ عفوه في المهر. ومن هنا يتعين حمله علي الولي الذي له التصرف في جميع شؤونها.

وأما ذكر الأخ في الصحيح وغيره فهو لا يدل علي كونه وكيلاً، بل لعله لكونه ولياً، كما قد يظهر من بعض النصوص(4). وإن لزم حمله علي ما إذا كان وصياً كما في مرسل العياشي(5) ، أو علي ما إذا كان مهتماً بأمرها قائماً عليها، ففي مرسل العياشي

********

(1) الكافي ج: 6 ص: 106، ووسائل الشيعة ج: 15 باب: 52 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) الكافي ج: 6 ص: 106.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3، 6.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3، 6.

(5) مستدرك الوسائل ج: 15 باب: 37 من أبواب المهور حديث: 1.

ص: 385

للأب (1) وإن علا (2)

---------------

الآخر أنه بمنزلة الأب يجوز له العفو(1) ، أو علي التقية أو طرحه.

نعم، في مرسل العياشي في ذيل حديث أبي بصير المتقدم:

(قلت له: أرأيت إن قالت لا أجيز ما يصنع ؟ قال: ليس لها ذلك، أتجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا؟!) ونحوه عن سماعة(2) ، ومقتضاهما أن المراد بالذي يجوز أمره في مال المرأة هو الوكيل في الأمور المالية، وحينئذٍ يناسب اختصاص الآية الشريفة بالكبيرة.

لكنه - مع ضعفه - قد تضمن إرغامها علي ما يفعله الوكيل المذكور، وهو غريب جداً، مع ما سبق منا من أنه ليس بيده عقدة النكاح، وأن صدر الحديث قد تضمن عدّ الموصي إليه ممن بيده عقدة النكاح. ومن هنا لا يبعد تنزيله علي الولي القهقري قبل بلوغها، ويكون المراد بإجازتها بيعه في مالها ليس هو توكيلها له في البيع بعد بلوغها، بل نفوذ بيعه السابق علي بلوغها. والمتحصل من الحديث حينئذٍ أنه كما ينفذ عليها بيع الولي في مالها ينفذ عليها عفوه في المهر، فليس لها ردّهما بعد بلوغها.

(1) دون الجد للأم. ويظهر من كلماتهم المفروغية عنه. ويظهر وجهه بملاحظة نصوص ولاية الجد ولاسيما ما تضمن تعليل أولويته من الأب بأبوته له. وبذلك يظهر لزوم رفع اليد عن إطلاق الجد في بعض النصوص(3) ، لو لم ينصرف لخصوص الجد للأب.

(2) كما هو المصرح به في بعض كلماتهم ويظهر من بعضها المفروغية عنه. ويقتضيه عموم التعليل المتقدم الوارد في ولاية الجد وأولويته. ومنه يظهر أن المراد به من يتصل بالأب بتسلسل الآباء كأبي الجد وجده لأبيه وهكذا، دون من يتصل به بتوسط الأمهات كجد الأب لأمه، وجد أم الأب ونحوهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 52 من أبواب المهور حديث: 5.

(2) تفسير العياشي ج: 1 ص: 125، 126. ووسائل الشيعة ج: 15 باب: 52 من أبواب المهور حديث: 3 وذيله.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح حديث: 2، 3.

ص: 386

(387)

التصرف في مال الصغير (1) كالبيع والشراء والإجارة وغيرها. وكل منهما مستقل في الولاية (2).

---------------

لكن في التذكرة: (الوجه أن جد أم الأب لا ولاية له مع جد أب الأب. ومع انفراده نظر). وهو غريب، إذ ليس في النصوص إطلاق ولاية الجد للأب أو جده، ليتوهم شموله لجد أم الأب أو لأبيها. ولو كان لم يكن وجه الترتيب بينه وبين جد أبيه في الولاية. وليس الموجود في النصوص إلا عنوان الجد، وأبي الأب. والثاني لا ينهض بولاية الجد الأعلي مطلقاً. وفي نهوض الأول بها إشكال. مع أنه يقتضي العموم للجد للأم وعدم الترتيب بين الطرفين. فلم يبق إلا التعليل المتقدم. وهو يقتضي العموم لخصوص من يتصل بالأب بتسلسل الآباء، كما ذكرنا، ولا يبقي منشأ للاحتمال الذي ذكره (قدس سره).

(1) مما سبق يتضح عموم ولايتهما عليه في جميع شؤونه حتي ما لا يتعلق بالمال.

(2) كما هو ظاهر نسبة الولاية لكل منهما في كلمات الأصحاب والمصرح به في كلام بعضهم، بل في الجواهر نفي وجدان الخلاف فيه. ويقتضيه في الأب النصوص المتقدمة في ولايته، فإن مقتضاها عدم اعتبار استئذان الجد في تصرفه، كما هو المصرح به في بعض نصوص النكاح أيضاً. وفي الجد النصوص الواردة في النكاح بضميمة التعليل المتقدم القاضي بعدم الفرق بينه وبين غيره من التصرفات كما تقدم.

وعن بعضهم أولوية الأب لشدة اتصاله وكون ولاية الجد بواسطته، ونحو ذلك مما هو كالاجتهاد في مقابل النص. ومثله الاستدلال بقوله تعالي: (وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله)(1) ، بناء علي أن المراد به أولوية الأقرب من الأبعد، لا مجرد أولوية الأرحام من غيرهم، وأن الأولوية لا تختص بالميراث،

********

(1) سورة الأنفال آية: 75.

ص: 387

بل تجري في الولايات، كما تفصل الكلام فيه في المسألة الثانية من الفصل الثاني من مباحث أحكام الأموات من كتاب الطهارة.

إذ فيه: أن ذلك وإن كان قريباً، إلا أن الظاهر عدم ابتناء الولاية الخاصة علي الصغير علي ذلك، لاختصاصها بالأب والجد دون بقية الأرحام. علي أنه لا يزيد علي العموم الذي يتعين تخصيصه ورفع اليد عنه بالتعليل المتقدم.

وعلي ذلك فأي منهما سبق نفذ تصرفه، كما هو مقتضي القاعدة بعد فرض إطلاق ولايته. وبه صرح في غير واحد من النصوص الواردة في النكاح، وقد تقدم بعضها.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم يسبق التشاح والاختلاف بينهما. وأما معه فمقتضي نصوص أولوية الجدّ عدم نفوذ تصرف الأب لو سبق، كما يظهر من قوله (عليه السلام) في صحيح علي بن جعفر المتقدم:

(الذي هوي الجدّ أحقّ بالجارية، لأنها وأباها للجدّ) ونحوه غيره. وحمل الأولوية فيه علي استحباب عدم تسرع الأب لما يخالف الجدّ وإن نفذ تصرفه لو سبق. خلاف الظاهر. ولاسيما مع التعليل الذي يظهر من الصحيح وغيره أنه هو الملاك في أصل الولاية.

نعم، يتجه ذلك في الكبيرة التي لا يجب عليها الرضا بما يختاره لها كل منهما، حيث يتعين كون الأولوية في حقها علي الاستحباب، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في موثق الفضل بن عبد الملك المتقدم:

(أحب إلي أن ترضي بقول الجد) .

كما أن مقتضي اشتراكهما في الولاية وإن كان هو بطلان تصرفهما معاً لو اقترنا - كما عن بعضهم - إلا أن مقتضي الأولوية المذكورة هو نفوذ تصرف الجد. وهو المصرح به في صحيح هشام بن سالم ومحمد بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: إذا زوج الأب والجد كان التزويج للأول، فإن كانا جميعاً في حال واحدة فالجد أولي) (1) .

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 11 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 3.

ص: 388

(389)

كما لا تعتبر العدالة في ولايتهما (1)،

---------------

(1) كما هو مقتضي إطلاق المشهور وصريح غير واحد. وهو المناسب لإطلاق النصوص المتقدمة المعتضدة بالسيرة القطعية، لشيوع الابتلاء بالمسألة، لكثرة عدم تمامية العدالة في الآباء والأجداد - فضلاً عن إحرازها - من دون أن يظهر من المتشرعة البناء علي عدم ولايتهم، ولولا ذلك لكثرت الأسئلة عن فروع ذلك وعن المشاكل المترتبة عليه، كما لعله ظاهر.

لكن في وصايا القواعد بعد أن قرب اعتبار العدالة في الوصي قال:

(ويشكل الأمر في الأب الفاسق) . وفي الإيضاح: (والأصح عندي أن لا ولاية له مادام فاسقاً، لأنها ولاية من لا يدفع عن نفسه، ولا يعرف عن حاله، ويستحيل من حكمة الصانع أن يجعل الفاسق أميناً تقبل إقراراته وإخباراته علي غيره مع نص القرآن علي خلافه. فإن عادت عادت ولايته).

ويندفع بمنع الاستحالة، لإمكان إدراك الشارع الأقدس أن إيكال أمر الطفل إلي العادل الأجنبي عنه أضر عليه نوعاً من إيكال أمره إلي أبيه وجده الفاسقين اللذين يعيش في كنفهما، ويريان أنهما مسؤولان عنه بمقتضي ما يستحكم من عاطفتهما نحوه، وروابطهما الاجتماعية معه. أو يري أن تشريع الولاية علي الطفل مع وجود أبيه وجده غير مقبول اجتماعياً ولا صالح للتنفيذ خارجاً، بنحو يمنع من فعلية جعله.

وأما النص القرآني علي خلافه فكأن المراد به آية النبأ المتضمنة عدم حجية خبر الفاسق. لكنها - مع اختصاصها بإخباره من حال الطفل وإقراره عليه، دون بقية شؤون ولايته - إنما تدل عليه بالإطلاق القابل للتقييد، كما قيد بالإقرار علي نفسه، وبإخباره عما تحت يده، ونحو ذلك.

وربما يراد بالنص القرآني قوله تعالي: (ولا تركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار)(1). لكنه أجنبي عما نحن فيه، فإن الركون للشيء هو الميل إليه والطمأنينة له، في

********

(1) سورة هود آية: 113.

ص: 389

مقابل النفور عنه، ولذا فسره في تفسير القمي بالمودة والنصيحة والطاعة، وفي مجمع البيان أنه المروي عنهم (عليه السلام). والنهي عنه لا ينافي ولاية الظالم شرعاً علي الطفل، بل هي حكم شرعي يبتني علي ملاحظة أن مقتضي مصلحة الطفل إيكال أمره إلي أبيه. علي أنه عموم قابل للتخصيص، وما سبق كاف في تخصيصه.

نعم، قد يستدل لاعتبار عدالة الأب بما سبق في موثق الفضل بن عبد الملك من قوله (عليه السلام):

(إن الجد إذا زوج ابنة ابنه، وكان أبوها حياً، وكان الجدّ مرضياً، جاز) ، بناء علي ما سبق عند الكلام في ولاية الجد من أن كون الجد مرضياً وإن لم يكن شرطاً، بل هو حال من الشرط الذي لا مفهوم له. إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بكونه قيداً احترازياً، فيكون مقتضاه عدم جواز تزويج الجد إذا لم يكن مرضياً.

ومن هنا قد يساق الموثق دليلاً علي اعتبار العدالة في ولاية الجد. بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يقتضي حينئذ اعتبارها في ولاية الأب بالأولوية. ولعله لذا حكي عن بعضهم البناء علي اعتبار العدالة في ولايتهما معاً، اعتماداً علي الحديث المذكور.

لكن الأولوية غير ظاهرة، فإن النصوص وإن تضمنت أولوية الجدّ من الأب بالولاية بلحاظ أن ملاك الولاية حق الأبوة، لكن لا مانع من اعتبار العدالة في الجدّ رعاية لحق المولي عليه واحتياطاً له، دون الأب، لأن عاطفته نحو ولده وارتباطه به آكدّ بنحو يعوض عن ذلك، أو يمنع من تنفيذ هذا الشرط في حقه، علي ما تقدم في رد استدلال الفخر علي اعتبار العدالة.

نعم، قد يستفاد من ذيل الحديث المتقدم المفروغية عن اعتبار هذا الشرط في ولاية الأب كالجد، حيث فرض فيه تساويهما في العدل والرضا.

هذا ولكن لا مجال مع كل ذلك للاستدلال بالحديث المذكور علي اعتبار العدالة في ولاية الجد - فضلاً عن الأب - علي الصغير: أولاً: لما تقدم من أن الظاهر من ذيله فرض بلوغ البنت واعتبار رضاها، وأن أولوية الجد إنما تكون في حقها بنحو يكون الأولي بها الرضا بما رضيه لها، لا بنحو تكون ملزمة لها، فضلاً عن أن تكون

ص: 390

لازمة عليها، لقصورها في نفسها بسبب صغرها، ليكون من محل الكلام من الولاية علي الصغير.

وثانياً: لأن اعتبار العدالة في الولاية علي النكاح لا يستلزم اعتبارها في الولاية علي غيره من شؤون المولي عليه، لإمكان خصوصية النكاح في ذلك بلحاظ أهميته. وعدم ظهور التفصيل في كلماتهم بين النكاح وغيره لا يكفي في التعميم. ولاسيما مع قرب ابتنائه علي عدم العمل بالحديث في مورده.

وثالثاً: لأنه لا يمكن البناء علي اعتبار العدالة في ولاية الأب والجدّ بالنظر لإطلاق النصوص الكثيرة وعموم السيرة القطعية في مثل هذا الأمر الشايع الابتلاء. بل لا يبعد لزوم اختلال النظام في أمر الأطفال لو بني علي اعتبار العدالة في ولايتهما عليهم.

بل حتي بناء علي ما ذكرناه من اختصاص الحديث بالبالغة يصعب اعتبار العدالة في ولاية أبيها وجدها في أمر نكاحها بالنظر لإطلاق النصوص والفتوي والسيرة.

ومن ثم لا يبعد حمل الرضا والعدالة فيه علي خصوص الرضا والعدالة في أمرها، بأن يظهر من الأب والجدّ الاهتمام بصلاحها، وعدم التحكم في أمرها إشباعاً لرغباتها الشخصية، فإن ذلك أهون من رفع اليد عن إطلاق النصوص والفتاوي وعموم السيرة علي ولايتهما في أمر نكاحها.

بل قد يتعين بلحاظ موثق عبيد بن زرارة: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر. فقال: الجدّ أولي بذلك ما لم يكن مضاراً إن لم يكن الأب زوجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجدّ)(1) ، حيث لا يبعد نهوضه بتفسير الرضا في موثق الفضل المتقدم، لما هو المعلوم من أن عدم كونه مضاراً أعم من العدالة كثيراً فالاقتصار عليه لا يناسب اعتبار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 391

(392)

ولا أن تكون المصلحة في تصرفهما (1).

---------------

العدالة، فضلاً عن تفسير الرضا في موثق الفضل بها، بل يصلح لأن يكون قرينة علي حمل الرضا فيه علي ذلك. فلاحظ.

والحاصل: أنه لا مجال للبناء علي اعتبار العدالة في ولاية الأب والجد.

نعم، لو ظهر منهما الخروج عن مقتضي الولاية في رعاية الطفل وحفظ ماله تعين سقوط ولايتهما وعدم نفوذ تصرفهما سواء كان منشأ ذلك فسقهما أم قصورهما وقلة رشدهما. وهو أمر آخر غير اعتبار العدالة في ولايتهما.

(1) قال شيخنا الأعظم (قدس سره):

(الأقوي كفاية عدم المفسدة، وفاقاً لغير واحد من الأساطين الذين عاصرناهم) . وكأن مراده مثل كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد وصاحب الجواهر، حيث صرحا بكفاية ذلك في الأبوين، وقد استظهر (قدس سره) الإجماع علي عدم المفسدة. خلافاً لجماعة من الأصحاب فاعتبروا في تصرف الولي مطلقاً المصلحة. بل في شرح القواعد المذكور أن ظاهر الأصحاب الإجماع علي ذلك، وفي مفتاح الكرامة: (هذا الحكم إجماعي علي الظاهر، وقد نسبه المصنف إلي الأصحاب فيما حكي عنه).

ولا ينبغي التأمل في اعتبار عدم المفسدة، لأن ذلك مقتضي الولاية التي هي نحو من الاستئمان المبني علي الحفظ والرعاية للمولي عليه، وعدم التفريط في أمره.

وربما يستدل لعدم اعتبار ذلك بالنبوي المروي بطرق متعددة فيها الصحيح أنه صلي الله عليه وآله قال لرجل:

(أنت ومالك لأبيك) (1) ، وموثق سعيد بن يسار أو صحيحه: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيحج الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال: نعم. قلت: حجة الإسلام، وينفق منه ؟ قال: نعم بالمعروف. ثم قال: نعم يحج منه وينفق منه. إن مال الولد للوالد. وليس للولد أن يأخذ من مال والده شيئاً)(2). فإن الحكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 8، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 392

بأن الولد وماله للأب، في الأول، وبأن مال الولد للأب في الثاني، بعد تعذر حمله علي الحقيقة يتعين حمله علي إطلاق سلطنته عليه، كسلطنته علي ماله.

وهو المناسب لما تضمنته جملة من النصوص من أن له أن يأخذ من مال ولده(1) ، بل في بعضها أن له أن يأخذ منه ما شاء، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(سألته عن الرجل يحتاج إلي مال ابنه. قال: يأكل منه ما شاء من غير سرف. وقال: في كتاب علي (عليه السلام): إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئاً إلا بإذنه، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء. وله أن يقع علي جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها, وذكر أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لرجل: أنت ومالك لأبيك) (2) .

ويظهر اندفاعه مما سبق عند الاستدلال بالنصوص المذكورة لولاية الأب. فإنه لا قرينة علي حمل النبوي وحديث سعيد بن يسار علي السلطنة علي التصرف، بنحو يرجع للولاية، بل الظاهر منها إباحة الأخذ من المال. ولاسيما مع اختصاص النبوي الشريف بالكبير، الذي لا ولاية للأب علي ماله قطعاً، فضلاً عن أن يكون له التصرف فيه بما فيه المفسدة. وحديث سعيد وإن ورد في الصغير، إلا أن قوله (عليه السلام):

(إن مال الولد للوالد) يعمّ الكبير، وخصوصاً بملاحظة تعقيبه بمنع الولد من أن يأخذ من مال والده شيئاً.

ومنه يظهر حال بقية النصوص المتضمنة أن الأب يأخذ من مال ولده، لما ذكرناه من أن الأخذ من المال لا يقتضي الولاية. ولاسيما مع أن النصوص المذكورة بين ما هو ظاهر في الكبير - كصحيح محمد بن مسلم السابق وغيره - وما هو شامل له. ومع تقييد الأخذ في بعضها بأن يكون بغير سرف، كالصحيح المذكور، وأن يكون بالمعروف، كحديث سعيد بن يسار المتقدم. وفي معتبر الحسين بن أبي العلاء المتقدم عند الاستدلال علي ولاية الأب: (قوته [قوت] بغير سرف إذا اضطر إليه)(3) ، وفي

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 8.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 8.

ص: 393

معتبر علي بن جعفر: (لا، إلا أن يضطر إليه، فيأكل منه بالمعروف)(1) ، وفي صحيح أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): (إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لرجل: أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): وما أحب [لا تحب] أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لابد منه. إن الله لا يحب الفساد)(2). وتعليل عدم حبّ أن يأخذ ما لا يحتاج إليه بأن الله لا يحب الفساد قد يشهد بأن المراد من عدم الحب الحرمة. وفي صحيح ابن سنان: (سألته - يعني: أبا عبد الله (عليه السلام) - ماذا يحل للوالد من مال ولده ؟ قال: أما إذا أنفق عليه بأحسن النفقة فليس له أن يأخذ من ماله شيئاً. وإن كان لوالده جارية للولد فيها نصيب فليس له أن يطأها إلا أن يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه. قال: ويعلن ذلك...)(3).

فإن القيود المذكورة تناسب استحقاق الأخذ عند الحاجة، ولا تناسب الولاية، فضلاً عن إطلاق السلطنة بنحو يسوغ التصرف مع المفسدة. ومن ثم لا مخرج عما سبق من أنه لا مجال للبناء علي جواز التصرف بما فيد المفسدة بعد منافاته لمقتضي الولاية.

وأما اعتبار المصلحة فقد يستدل عليه بقوله تعالي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتي يبلغ أشده)(4) فإن التفضيل يقتضي اعتبار المصلحة في التصرف عند الدوران بين بينه وبين عدمه، واعتبار الأشدّ أو الأكثر صلاحاً عند الدوران بين تصرفين أو أكثر. وهو وإن ورد في اليتيم، إلا أن إطلاقه يشمل الجدّ عند فقد الأب، فيلحق به الجدّ مع وجود الأب بعدم الفصل، والأب بذلك أيضاً، أو بالأولوية، لأن ذلك مقتضي ما تقدم من أولوية الجدّ في الولاية. فتأمل.

لكن لم يتضح من الآية الشريفة إرادة التفضيل في التصرفات الخاصة التي يقوم بها الولي في مال اليتيم، ليكون مما نحن فيه، بل لعل المراد التفضيل في وجه الاستيلاء علي مال اليتيم ووضع اليد عليه، وأن وضع اليد عليه لابد أن يكون علي وجه الأمانة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 78 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 2، 3.

(4) سورة الأنعام آية: 152، وسورة الإسراء آية: 34.

ص: 394

بما يناسب الحفظ والرعاية وصلاح المال، في مقابل الاستيلاء عليه من أجل الانتفاع به واستغلاله وأكله وإفساده، كما قد يناسبه جعل موضوع الترخيص هو القرب من المال بالوجه الأحسن في مقابل البعد عنه وتجنبه، لا التصرف الأحسن في مقابل التصرف غير الأحسن بعد فرض استيلاء الشخص علي المال وجعله في حوزته.

وإلي ما ذكرنا يرجع ما في مجمع البيان قال:

( (إلا بالتي هي أحسن) أي بالخصلة والطريقة الحسني ولذلك أنث. وقد قيل في معناه أقوال: أحدها: أن معناه إلا بتثميره بالتجارة... وثانيها: بأن يأخذ القيم عليه بالأكل بالمعروف، دون الكسوة... وثالثها: بأن يحفظ عليه حتي يكبر) .

فتجري الآية الشريفة مجري قوله تعالي: (ولا تأكلوها إسرافاً وبدراً أن يكبروا)(1). وتكون أجنبية عما نحن فيه. ولا تنهض بالاستدلال علي المنع من التصرف غير المضرّ بالمال والطفل إذا لم يترتب عليه فائدة ولم تكن فيه مصلحة لهما.

كما قد يناسب ذلك قوله تعالي: (ويسألونك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح)(2) حيث تضمن الحث علي الإصلاح من دون إلزام به، مع مقابلته بالإفساد، والتنبيه مع مخالطتهم علي الأخوة، لبيان لزوم كون مخالطتهم كمخالطة الإخوان عرفاً لا تبتني علي التزام نفعهم في كل تصرف معهم، بل علي رجحان نفعهم والتزام عدم الإضرار بهم والإفساد في أمرهم.

وهو المستفاد من جملة من النصوص. كمعتبر الكاهلي: (قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا ندخل علي أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد علي بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم. وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما تري في ذلك ؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه

********

(1) سورة النساء آية: 6.

(2) سورة البقرة آية: 220.

ص: 395

ضرر فلا. وقال (عليه السلام):

(بل الإنسان علي نفسه بصيرة) فأنتم لا يخفي عليكم، وقد قال الله عز وجل: (والله يعلم المفسد من المصلح)(1). فإنه (عليه السلام) لم يشترط إلا المنفعة لهم لتدارك النقص الحاصل عليهم، من دون أن يشترط كونها أكثر من مقدار النقص، ليكون في دخولهم منفعة وصلاح لهم.

وموثق سماعة: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وإن تخالطوهم فإخوانكم) فقال: يعني: اليتامي. إذا كان الرجل يلي لأيتام في حجره فليخرج من ماله علي قدر ما يحتاج إليه، علي قدر ما يخرجه لكل إنسان منهم، فيخالطهم ويأكلون جميعاً. ولا يرزأن من أموالهم شيئاً، إنما هي النار)(2). فإنه كالصريح في كفاية عدم الإضرار بهم. ونحوهما غيرهما.

وأظهر من ذلك ما تضمن جواز الاقتراض من مال اليتيم، كصحيح منصور بن حازم عنه (عليه السلام): (في رجل ولي مال يتيم أيستقرض منه. فقال:

إن علي بن الحسين (عليه السلام) قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره، فلا بأس بذلك) (3) ، ونحوه حديث أبي الربيع(4) ، وحديث منصور الصيقل(5).

مضافاً إلي أن ذلك هو مقتضي سيرة المتشرعة، إذ ليس بناء المتدينين منهم علي التقيد بما إذا كان التصرف في مال اليتيم خيراً من عدمه، بل يكتفون بعدم ترتب المفسدة علي التصرف فيه بمثل تقليبه ونقله عن موضعه وإيداعه وتبديله بمثله ونحو ذلك مما قد تحدث لهم الدواعي له لجهات تخصهم ولا تنفع اليتيم. كما هو الحال في تصرفهم في نفس اليتيم بتكليفه ببعض الأعمال الخفيفة التي لا إجهاد فيها ولا أجرة لها، أو نقله عن مكانه الذي هو فيه إلي مكان آخر أو غير ذلك، مع أن الفرق في ذلك بين النفس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 71 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 73 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 76 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 76 من أبواب ما يكتسب به ذيل حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب حديث: 7.

ص: 396

إلا أن يكون التصرف تفريطاً منهما في مصلحة الصغير (1)، كما إذا اضطر الولي إلي بيع مال الصغير، وأمكن بيعه بأكثر من قيمة المثل، فلا يجوز بيعه بقيمة المثل. وكذا لو دار الأمر بين بيعه بزيادة درهم عن قيمة المثل وزيادة درهمين،

---------------

والمال بعيد جداً، بل قد يكون التصرف في النفس أولي عرفاً بالتقيد والتحرج.

ولاسيما وأنه لا ريب في التخيير بين التصرفين إذا تساويا في المصلحة، ومن البعيد جداً الفرق بين إحداث التصرف وإبقائه، ففي الأول يتخير بين إيقاع أحد المتصرفين وتركه الآخر، وفي الثاني يتعين إبقاء التصرف الذي حصل ما لم يكن رفعه وإبداله بالتصرف الآخر أصلح. مثلاً إذا احتاج حفظ مال الطفل لوضعه في أحد صندوقين لا تفاضل بينهما جاز وضعه في كل منهما، فإذا وضعه في أحدهما لم يجز نقله للآخر إلا إذا كان أصلح.

ومثل هذا الاستبعاد يوجب غفلة العرف عن الفرق بنحو يفهم من الأدلة عموم التخيير بعد ما هو المعلوم من أن ملاك التقييد هو صلاح اليتيم. ومن هنا لا ينبغي الإشكال في كفاية عدم المفسدة في جواز تصرف الولي في شؤون اليتيم المالية وغيرها.

وأظهر من ذلك تصرف الأب والجد في شؤون الصغير، فإن الآية الشريفة إذا لم تنهض بالتقييد بالأصلح في اليتيم - ولو بقرينة النصوص السابقة والسيرة - فهي أولي بأن لا تنهض بالتقييد في غيره. بل السيرة والارتكازات علي التعميم في غيره أظهر، خصوصاً بملاحظة ما تضمن ولايتهما علي تزويج الصغيرين، حيث يصعب جداً تقييده بما إذا كان صلاحاً لهما، بل يكاد يقطع بعدمه.

ومنه يظهر الحال في الوصي، لتفرع ولايته علي ولايتهما. ولا أقل من كونه كغيره من أولياء اليتيم. ويأتي عند الكلام في ولايته تمام الكلام في ذلك.

(1) لخروجه عن مقتضي الولاية المبنية علي رعاية المولي عليه والنظر في صلاحه.

ص: 397

لاختلاف الأماكن أو الدلالين أو نحو ذلك لم يجز البيع بالأقل وإن كان فيه مصلحة إذا عدّ ذلك مساهلة في مال الصغير. والمدار في كون التصرف مشتملاً علي المصلحة أو عدم المفسدة علي كونه كذلك في نظر

---------------

بل هو مقتضي قوله تعالي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)(1) بأي معني فسر من المعنيين المتقدمين. ولا أقل من الشك في عموم ولايتهما علي التصرف حينئذ، المستلزم للشك في نفوذه ومقتضي الأصل عدمه. وقد سبق أن ما تضمن جواز الأخذ من مال الولد وأن الولد وماله لأبيه أجنبي عن مقام الولاية، فلا ينهض بولايتهما علي التصرف في محل الكلام. والأمر في غيرهما من الأولياء أظهر.

نعم، الظاهر اختصاص ذلك بما إذا لم يحتج التصرف الأنفع إلي مؤنة معتد بها، فلا يجب علي الولي تحمل المؤنة المذكورة، لأن وظيفته حفظ مال المولي عليه ونفسه وبقية شؤونه والرعاية لها، لا تنمية ما عنده وتجديد المنفعة له، غاية الأمر أن لا يكون مفرطاً في أمره، وذلك لا يكون بترك ألصلح إذا كان فيه مؤنة معتد بها عليه. والنظر في سيرة المتشرعة يشهد بذلك.

وأظهر من ذلك ترك التصرف الذي يترتب عليه النفع إذا احتاج إلي مؤنة معتد بها، كتنمية المال بالتجارة والزراعة ونحوهما. نعم إذا لم يكن محتاجاً لمؤنة معتد بها فقد يقال بوجوب إيقاعه رعاية لمصلحة المولي عليه. وإن لم يخل عن إشكال، بل لعل السيرة تشهد بعدم وجوب ذلك. ولا أقل من أصالة البراءة من وجوبه.

بل لا ينبغي الإشكال في عدم وجوبه لو احتمل تعرض المال أو الصغير نفسه للضرر وإن كان الإقدام علي التصرف عليه مقبولاً عند العقلاء، بحيث لا يعتبر تفريطاً في حق المولي عليه. غاية الأمر أنه يجوز الإقدام عليه للولي، خصوصاً الأب والجد. نعم ورد النهي عن الاتجار بمال اليتيم علي تفصيل يوكل إلي محله.

********

(1) سورة الإسراء آية: 34.

ص: 398

العقلاء (1) لا بالنظر إلي علم الغيب، فلو تصرف الولي باعتقاد المصلحة، فتبين أنه ليس كذلك في نظر العقلاء بطل التصرف (2). ولو تبين أنه ليس

---------------

(1) لأن ذلك هو المعيار في القيام بمقتضي الأمانة، فتنزل عليه الولاية بمقتضي الإطلاقات المقامية. ويناسب ذلك صحيح محمد بن عيسي اليقطيني المتقدم في أول المسألة المتضمن نفوذ إجارة الأب لولده ولزوم الوفاء بها وإن حصل بعد ذلك من يبذل أكثر من الأجر الذي وقع عليه العقد، مع أنه بحصول الباذل المذكور ينكشف عدم كون الإجارة الأولي من مصلحة الولد في الواقع وعلم الغيب.

(2) لخروجه عن مقتضي الولاية. ولا يصححه اعتقاده للمصلحة بعد فرض شذوذه وخروجه عما عليه العقلاء، الذي هو المعيار في الولاية. كما لا يصححه انكشاف مصادفته للمصلحة في علم الغيب لو فرض ذلك، إذ بعد خروجه عن مقتضي الولاية يكون فضولياً، وترتب المصلحة لا يكفي في نفوذ عقد الفضولي.

ولذا لو فرض التفات الولي إلي خروجه في تصرفه عما عليه العقلاء، فأعرض عنه وأوقع تصرفاً منافياً له مطابقاً لما عليه العقلاء، صحّ التصرف الثاني، ولا يكون انكشاف وجود المصلحة في التصرف الأول في علم الغيب مستلزماً لانكشاف صحته حين وقوعه وبطلان التصرف الثاني المنافي له. وأظهر من ذلك ما إذا كان تصرفه ليس لاعتقاد المصلحة شذوذاً بل لتسامحه في أمر الصغير وتفريطه في حقه خروجاً عن مقتضي الولاية.

نعم، لو لم يوقع التصرف المنافي يبقي التصرف الأول فضولياً قابلاً للتصحيح بالإجازة بشروطها لو انكشف مطابقته للمصلحة في علم الغيب. بل قد تجب علي الولي إجازته، لأن تركها قد يكون تفريطاً عرفاً.

كما أن التصرف المذكور إنما يبطل إذا كان اعتقاد الولي للمصلحة فيه لشذوذه. أما إذا كان لاطلاعه علي ما لم يطلع عليه عامة الناس، بحيث لو اطلع العقلاء علي م

ص: 399

(400)

كذلك بالنظر إلي علم الغيب صح إذا كان فيه مصلحة بنظر العقلاء (1).

(مسألة 24): يجوز للأب والجد التصرف في نفس الصغير (2) بإجارته عاملاً في المعامل (3)، وفي سائر شؤونه، مثل تزويجه (4). نعم ليس لهما طلاق زوجته (5). وهل لهما فسخ نكاحه عند حصول المسوغ للفسخ،

---------------

اطلع عليه لوافقوه في كون التصرف صلاحاً، فالمتعين صحة التصرف، لعدم خروجه عن مقتضي الولاية، وجريه علي مقتضي نظر العقلاء في الحقيقة. فلاحظ.

(1) لجريه علي مقتضي الأمانة والولاية حينئذ، فينفذ، ولا يكون فضولياً.

(2) لعموم ولايتهما المستفاد مما تقدم.

(3) كما يستفاد في الجملة من صحيح محمد بن عيسي اليقطيني المتقدم في أول المسألة السابقة.

(4) الذي هو مقتضي النصوص الكثيرة المعتبرة والمعول عليها عند الأصحاب (رضي الله تعالي عنهم). وقد تقدم كثير منها. وتمام الكلام في ذلك في محله من كتاب النكاح.

(5) بلا خلاف فيه منّا، بل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر. ويقتضيه في الأب جملة من النصوص، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):

(في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان ؟ فقال: إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم. قلت: فهل يجوز طلاق الأب ؟ قال: لا) (1) ، وغيره(2). ويتعدي من الأب للجد بفهم عدم الخصوصية، أو تنقيح المناط، لوحدة ملاك ولايتهما وأولوية الجدّ ليس لأقوائية ملاك ولايته علي الصغير، بل لأبوّته للأب المقتضية لتقديمه عليه. ولو غض النظر عن ذلك كفي الإجماع علي عدم الفرق بينهما في المنع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 12 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 33 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه حديث: 1، 2.

ص: 400

(401)

وهبة المدة في عقد المتعة ؟ وجهان (1).

(مسألة 25): إذا أوصي الأب أو الجد إلي شخص بالولاية بعد موته علي القاصرين نفذت الوصية وصار الموصي إليه ولياً عليهم (2) بمنزلة الموصي تنفذ تصرفاته.

---------------

(1) الأول: عدم ولايتهما علي الأمرين، إلحاقاً لهما بالطلاق. الثاني: ثبوت ولايتهما عليهما لإطلاق أدلة ولايتهما بعد اختصاص المنع بالطلاق. وإلحاقهما به خال عن الوجه، بل هو بالقياس أشبه. ومن ثم كان ذلك هو الأقوي، كما جري عليه بعض مشايخنا (قدس سره). نعم حيث كانت هبة المدة من سنخ إسقاط الحق، وفيه نحو من النقص علي صاحبه، ففي ولايتهما علي هبتها من دون منفعة للطفل في مقابلها إشكال.

(2) نصاً وفتوي، بل إجماعاً بقسميه. كذا في الجواهر. والنصوص به مستفيضة في الجملة، كالنصوص المتقدمة في عموم ولاية الجدّ لحال موت الأب، المتضمنة عدّ الموصي له ممن بيده عقدة النكاح، وصحيح العيص بن قاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(سألته عن اليتيمة متي يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع. فسألته إن كانت قد تزوجت. فقال: إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها) )(1) ، ومعتبر محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(أنه سئل عن رجل أوصي إلي رجل بولده وبمال لهم، وأذن له عند الوصية أن يعمل بالمال، وأن يكون الربح بينه وبينهم. فقال: لا بأس به، من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي) (2) ، وغيرها(3).

ويظهر من بعضها المفروغية عنه، كصحيح إسماعيل بن سعد الأشعري:

(سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات بغير وصية، وترك أولاداً ذكراناً غلماناً صغار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 45 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 92 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 46 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1، وباب: 47 من أبواب الوصايا حديث: 1، وباب: 92 منها حديث: 2.

ص: 401

وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري... ) (1) ، وغيره(2). لظهورها في جواز البيع والشراء لو كانت هناك وصية وقام الوصي ببيع التركة.

وبعض هذه النصوص وإن اختص بالأب، إلا أن جملة منها لا يختص به، وبعضها وإن لم يكن له إطلاق، لعدم وروده لبيان ولاية الوصي، بل لبيان حكم آخر، كخبر إسماعيل: (عن وصي أيتام يدرك أيتامه، فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه، كيف يصنع ؟ قال: يردّ عليهم بكرههم)(3) ، إلا أنه لا يبعد تمامية الإطلاق في بعضها بنحو يشمل وصي الجد، كالنصوص المتقدمة المتضمنة عدّه فيمن بيده عقدة النكاح.

ودعوي: أن مقتضي إطلاقها ولاية وصي كل أحد حتي غير الأب والجد، وحيث لا مجال للبناء علي ذلك تعين إجماله، والاقتصار فيه علي المتيقن، وهو وصي الأب. مدفوعة بأن ولاية الوصي حيث كانت متفرعة عن ولاية الموصي فالمناسبات الارتكازية تقتضي حمل إطلاق الوصي في هذه النصوص علي الوصي عن الولي، وهو الأب والجد، دون غيرهما ممن لا ولاية له.

بل من القريب لأجل ذلك فهم العموم لوصي الجد من النصوص الواردة في وصي الأب، بإلغاء خصوصيته عرفاً.

ولو غض النظر عن جميع ذلك كفي في البناء علي العموم له التعليل في معتبر محمد بن مسلم، فإن ارتكازيته تقضي بأن منشأ جواز الاتجار للوصي بمال الطفل مع إذن الأب هو ولايته علي ولده بنحو له الاتجار بماله في حياته، وذلك يجري في الجدّ. مضافاً إلي ظهور الإجماع علي عدم الفصل بينهما في ذلك. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2، وج: 13 باب: 88 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 47 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 1.

ص: 402

(403)

نعم، يشكل صحة تزويجه لهم (1)، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

---------------

(1) بل في المبسوط والشرايع وعن غيرهما عدم تزويجه لهم. وقيل: إنه المشهور، وفي المسالك أنه الأشهر. وفي الخلاف وعن موضع من المبسوط أن له تزويجهم.

والكلام: تارة: مع إطلاق الوصية بالقيمومة علي الصغير.

وأخري: مع التنصيص علي تزويجه.

أما الأول فقد يستدل لعدم جواز تزويجه بمفهوم قوله (عليه السلام) في صحيح محمد ابن مسلم المتقدم في مسألة عدم ولاية الأب علي الطلاق: (إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم)، وبصحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (سأله رجل عن رجل مات، وترك أخوين وابنة، والبنت صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة من ابنه، ثم مات أبو الابن المزوج. فلما أن مات قال الآخر: أخي لم يزوج ابنه، فزوج الجارية من ابنه. فقيل للجارية: أي الزوجين أحب إليك الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر. ثم إن الأخ الثاني مات، وللأخ الأكبر ابن أكبر من الابن المزوج. فقال للجارية: اختاري أيهما أحب إليك الزوج الأول أو الآخر؟. فقال: الرواية فيها أنها للزوج الأخير. وذلك أنها قد كانت أدركت حين زوجها، وليس لها أن تنقض ما عقدته بعد إدراكها)(1).

لكن من القريب حمل صحيح محمد بن مسلم علي كون ذكر الأب فيه بلحاظ ولايته، فيكون مسوقاً لبيان عدم نفوذ تزويج غير الولي، لا لبيان عدم ولاية غير الأب علي التزويج، أو علي عدم سوقه لبيان المفهوم، بل لمجرد نفوذ تزويج الأب. ولذا لا إشكال في نفوذ تزويج الجدّ وثبوت التوارث به، فلا ينافي نفوذ تزويج الوصي بعد فرض ولايته علي الصغير بسبب وصية الأب أو الجد.

وأما صحيح محمد بن إسماعيل فإضماره مانع من التعويل عليه لعدم وضوح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 1.

ص: 403

كون المسؤول هو الإمام. ودعوي: أن إضمار مثل محمد بن إسماعيل لا يقدح في الحجية، ولاسيما مع إيداعه في الكافي والتهذيب المعدين لجمع أحاديث المعصومين (صلوات الله عليهم).

مدفوعة بأن اشتمال الحديث علي نسبة الحكم للرواية موجب للريب في صدوره عن الإمام، لعدم مناسبته لمقامه وعدم تعارف ذلك منهم (عليهم السلام) إلا في زمن الغيبة الصغري، بسبب التقيّة الشديدة علي شخص الإمام عجل الله فرجه، ومحمد بن إسماعيل لم يدرك ذلك، وآخر من عاصر من الأئمة هو الإمام الجواد (عليه السلام)، واحتمال صدور ذلك من أحد الأئمة الذين عاصرهم لظروف خاصة - من تقيّة أو نحوها - ليس بأولي من احتمال صدوره عن بعض علماء الشيعة، ويكون ذكر محمد بن إسماعيل والكليني والشيخ له بلحاظ اشتماله علي الرواية المرسلة.

مضافاً إلي عدم خلوه عن الاضطراب، لعدم الإشارة في السؤال إلي ما فرض في الجواب من إدراكها حين الزواج الثاني. واحتمال فهمه بقرينة خارجية ليس بأولي من احتمال قيام القرينة الخارجية علي كون الوصي وصياً للميت في أموره الخاصة به من دون أن يكون قيماً علي البنت الصغيرة، أو كان قيماً عليها في غير الزواج، ويكون تزويجه لها خارجاً عن مقتضي وصايته، فيكون فضولياً قطعاً. ومن هنا لا مجال للاستدلال المذكور.

ومثله الاستدلال لجواز تزويجه بما تقدم عند الكلام في عموم ولاية الجد لحال موت الأب من النصوص المتضمنة أن الموصي إليه ممن بيده عقدة النكاح. للإشكال فيه بعدم وضوح كون المراد به هو مطلق الموصي إليه بالقيمومة علي الصغير، بل لعل المراد به خصوص الموصي إليه الذين ينص علي عموم قيمومته عليه لتزويجه بالتزويج نصاً.

وبعبارة أخري: بعد العلم بعدم إرادة مطلق الموصي إليه ولو كانت وصيته مختصة بشؤون الميت، فليس تقييده بمن يوصي إليه بالقيمومة بأمر الصغير بأولي من

ص: 404

تقييده بمن يوصي إليه بتزويجه أيضاً، بحيث يوكل أمر زواجه بنظره. بل المتيقن الأخير، فيجب الاقتصار عليه في الخروج عن مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر. فتأمل.

نعم، قد يقال: بعد ظهور المفروغية في النصوص - ولاسيما معتبر محمد بن مسلم المتقدم - عن صحة الوصية من الأب بأولاده الصغار فالمستفاد عرفاً ابتناء الوصية المذكورة علي قيام الوصي مقام الأب في رعاية مصلحة الصغير وسدّ حاجته في جميع شؤون حياته، وإن لم ينص عليها، ومقتضي ذلك ولايته علي تزويجه إذا كان صلاحاً له أو كان الصغير محتاجاً له، كما يكون ولياً عليه في غير التزويج إذا كان كذلك. نعم لا يكفي مجرد عدم ظهور الضرر عليه بالتزويج، لقصور الوصية أو انصرافها عنه، لأن أهمية التزويج وما يترتب عليه من اللوازم في المزوج لا يناسب سلطنة الوصي فيه لذلك.

وأما الثاني فربما يستدل علي نفوذ الوصية فيه بقوله تعالي: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاًَ علي المتقين فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه علي الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)(1) بدعوي: أن صدورها وإن كان مختصاً بالوصية المالية للوالدين والأقربين، إلا أن الاستدلال بقوله:

(فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه علي الذين يبدلونه) في النصوص الكثيرة(2) علي نفوذ الوصية في غير ذلك شاهد بإلغاء خصوصيته وعموم نفوذ الوصية.

لكنه يشكل بأن المستفاد من النصوص المذكورة إلغاء خصوصية الوالدين والأقربين والعموم لغيرهم، ولا تنهض بإلغاء خصوصية الوصية بالمال الذي تركه والعموم للوصية بغير المال من الأمور المتعلقة بالموصي نفسه - كشؤون تجهيزه - فضلاً عما يتعلق بغيره، كما في المقام، بل لابد في إثبات نفوذ الوصية فيه من دليل آخر غير

********

(1) سورة البقرة آية: 181-183.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 32، 35، 37 من أبواب كتاب الوصايا.

ص: 405

ويشترط فيه الرشد والأمانة (1)، ولا يشترط فيه العدالة (2) علي الأقوي. كم

---------------

الآية الشريفة.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من استفادة عموم نفوذ الوصية في كل شيء من الآية الكريمة بقرينة قوله تعالي: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً...). إذ فيه: أن ذلك لا ينهض بالتعميم للوصية بالمال لغير الوالدين والأقربين، فضلاً عن التعميم للوصية بغير المال، لظهور أن الوصية للوالدين والأقربين قد تكون حيفاً وتعدياً علي الورثة، كما قد تكون بأمر محرم، كما لو أوصي بدفع خمر أو آلة لهو لرحمه، فالتنبيه لعدم نفوذ الوصية حينئذ لا يشهد بعموم نفوذ الوصية بكل شيء غير محرم.

بل لا إشكال في عدم نفوذ الوصية في حق البالغ وإن لم تكن بحرام، ولا تعدياً علي الآخرين، كالوصية بأن يتزوج فلانة أو يشتري الدار الفلانية أو نحو ذلك. بل حتي من له ولاية عليه في حياته ليس له أن يعمل ولايته عليه بالوصية بعد وفاته ما لم يثبت سلطنته علي الوصية المذكورة، ولذا ليس له الوصية فيما يتعلق بزواج بنته البكر البالغة الرشيدة وإن كان له الولاية في الجملة علي ذلك في حياته. ومن هنا لابد في إثبات سلطنته علي الوصية بزواج الصغير من دليل آخر غير الآية الشريفة.

فالعمدة ما سبق من أنه المتيقن مما تضمن عدّ الموصي له ممن بيده عقدة النكاح. مضافاً إلي ما تقدم في معتبر محمد بن مسلم من تعليل جواز مضاربة الوصي بمال الصبي بقوله (عليه السلام):

(من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي) فإن ارتكازية التعليل تقضي بالتعميم لكل ما يأذن به الولي مما له القيام به في حياته. فلاحظ.

(1) لأنه نحو من الاستئمان علي المولي عليه، ومن لا يتحلي بهما ليس أهلاً لها قطعاً. بل في الوصية له جنفاً وحيفاً في حق الصغير الموصي به.

(2) كما لا يشترط في الوصي في سائر الأمور. والعمدة فيه إطلاق الأدلة. وتمام

ص: 406

(407)

يشترط في صحة الوصية فقدهما معاً (1)، فلا تصح وصية الأب بالولاية علي الطفل مع وجود الجد، ولا وصية الجد بالولاية علي حفيده مع وجود الأب.

---------------

الكلام في محله من كتاب الوصية. وتقدم عند الكلام في اعتبار العدالة في ولاية الأب والجد بعض ما ينفع في المقام.

(1) قال في الشرايع:

(ولو أوصي بالنظر في مال ولده إلي أجنبي وله أب لم يصح، وكانت الولاية إلي جدّ اليتيم دون الوصي) وفي الجواهر:

(بلا خلاف أجده فيه في الجملة، بل الظاهر الإجماع عليه) . وكأن مراده بنفي الخلاف فيه في الجملة الإشارة إلي ما ذكر في الشرايع بقوله:

(وقيل: يصح في قدر الثلث وفي أداء الحقوق) . وهو يبتني علي ما هو خارج عن محل الكلام من اختصاص الثلث بالميت.

وكيف كان فقد استدل أو يستدل عليه بوجوه:

الأول: ما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) من عدم الإطلاق في ولاية الأب في حال حياته، فضلاً عن المقام. ويظهر اندفاعه مما سبق من ثبوت الإطلاق المذكور.

الثاني: ما ذكره هو (قدس سره) أيضاً من عدم الإطلاق في نصوص الوصية بنحو يشمل صورة وجود الولي الآخر. وفيه: أنه يمكن استفادة العموم من ترك الاستفصال في معتبر محمد بن مسلم المتقدم. بل لا يبعد استفادته من إطلاق ما تضمن عدّ الموصي إليه ممن بيده عقدة النكاح.

الثالث: ما في الجواهر من ترتب ولاية الوصي علي ولاية الأب الصادق علي الجد. وفيه - مع الإشكال في صدق الأب علي الجد، كما يظهر مما تقدم عند الاستدلال علي ولاية الجد -: أن ولاية الوصي مترتبة علي ولاية الموصي له، فمع ثبوت الولاية لشخصين في عرض واحد - كالأب والجد - تكون ولاية وصي كل منهما مترتبة علي ولاية من أوصي إليه، دون ولاية الآخر. نظير وكيل كل منهما.

الرابع: ما فيه أيضاً من الاستدلال بما دل علي ولاية الجد والأب مما هو ظاهر

ص: 407

في انحصار أمر الطفل فيهما مع وجودهما أو وجود أحدهما علي وجه ينافيه ولاية أحدهما مع وصي آخر.

ويشكل بعدم وضوح الدليل المذكور، فإن ثبوت الولاية لأحدهما مع انفراده لا ينافي ولاية غيره معه وصياً كان عن الآخر أم لم يكن. غاية الأمر أن مفهوم قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في مسألة عدم ولاية الأب علي الطلاق:

(إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم) انحصار الولاية علي التزويج بالأب. لكن حيث لا إشكال في ولاية الجدّ علي التزويج، بل في ولاية الوصي عليه في الجملة - كما سبق - فلابد إما من حمله علي كون ذكر الأب بما أنه ولي علي الطفل، وأنه وارد لبيان عدم نفوذ تزويج غير الولي، لا عدم نفوذ تزويج غير الأب من الأولياء، وإما من البناء علي عدم سوقه للمفهوم، كما سبق عند الكلام في الاستدلال بالحديث المذكور لعدم جواز تزويج الوصي. وهو أجنبي عما نحن فيه.

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن في الوصية المذكورة تعدياً علي الولي الآخر وجنفاً عليه، فتبطل، لقوله تعالي: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه)(1). وتوضيح ذلك أن دليل نفوذ الوصية إنما يقتضي نفوذها في حق المولي عليه، ولا دليل علي نفوذها في حق الولي الآخر، بل تقييد ولايته بما إذا لم يسبقه الوصي تعدّ عليه وجنف في حقه، فلا تنفذ.

وهذا الوجه لو تم يجري حتي مع تمامية إطلاق ولاية الموصي في نفسه، وإطلاق سلطنته علي الوصية، لوضوح أن استثناء الجنف والإثم من سنخ التخصيص القطعي المقدم علي الإطلاق والعموم.

لكنه يشكل: أولاً: بأن الولاية ليست من حقوق الولي لتكون مزاحمته فيها تعدياً عليه، ولذا لا تقبل الإسقاط، بل هي حكم شرعي تابع لموضوعه ثبوتاً ولدليله إثباتاً، فإذا كان مقتضي إطلاق الأدلة نفوذ الوصية فاللازم العمل عليه.

********

(1) سورة البقرة آية: 183.

ص: 408

وثانياً: بأن الولاية كانت من الحقوق فحيث كانت من أول الأمر للأب والجد معاً، فكل منهما لم يكن منفرداً بها، لتكون في ولاية الوصي من قبل أحدهما تضييق لولاية الآخر، بل الولاية الثابتة لكل منهما ضيقة من أول الأمر بولاية الآخر. فإذا كان مقتضي إطلاق دليل الوصية سعة ولاية كل منهما بحيث له أن يجعل وصيه يقوم مقامه، فقد بقيت ولاية كل منهما بعد وفاة الآخر كما كانت في حياته ضيقة من دون أن يطرأ عليها تضييق جديد ليحصل الجنف والتعدي في حقه. فالمقام نظير توكيل أحد الوليين لشخص ثالث في حياة الآخر. وأما كون وصية كل منهما بالولاية مانعة من توسع ولاية الآخر، إذ لولاها لانفرد بالولاية. فهو لا يكفي في كونها تعدياً وجنفاً في حقه. نظير وصية الميت بالثلث، حيث لا تكون تعدياً وجنفاً في حق الوارث بلحاظ مانعيتها من ميراثه للثلث.

وثالثاً: بأن نفوذ تصرف السابق من الوليين ليس تقييداً لولاية الآخر، ليكون تعدياً عليه لو كانت الولاية من الحقوق، بل هو رافع لموضوع ولايته، إذ لا موضوع للولاية علي التزويج أو البيع أو غيرهما مع حصولها بتصرف السابق، وعدم حصول الأثر مع عدم إيقاع الولي لسببه ليس مقتضي ولايته، ليكون حصوله بتصرف أحد الوليين منافياً لولاية الآخر، بل هو لعدم حصول السبب. وبذلك لا يكون نفوذ تصرف الوصي لو سبق منافياً لولاية الولي الآخر، ولا مقيداً لها.

نعم، غاية ما يقتضيه هذا الوجه - لو تمّ - عدم مزاحمة الوصي للولي الآخر لو تقارن تصرف كل منهما مع تصرف الآخر. وكذا مع التشاح بينهما في الجملة علي ما يتضح مما تقدم عند الكلام في استقلال كل من الأب والجد بالولاية.

ورابعاً: أنه لو غض النظر عن جميع ما سبق فما ذكره (قدس سره) إنما يتم إذا لم يمكن عرفاً تحكيم دليل نفوذ الوصية علي دليل الحكم الأولي المقتضي لكون الأمر الموصي به جنفاً وإثماً، كما في الوصية بحرمان بعض الورثة من الميراث، أو بما زاد علي الثلث، أو بسقي الخمر، أو بإقراض مال الثلث قرضاً ربوياً. أما إذا أمكن عرفاً تحكيم دليل

ص: 409

نفوذ الوصية علي دليل الحكم الأولي المذكور بحيث يقصر عن موردها، فاللازم نفوذ الوصية، لكشف دليل نفوذها عن عدم كون موردها جنفاً وإثماً. والظاهر ذلك في المقام، حيث يقرب عرفاً تحكيم دليل نفوذ الوصية بالقيمومة علي الصغير من قبل الأب والجد علي إطلاق ولاية كل منهما عليه، بحمله علي غير حال الوصية بالقيمومة، أما معها فولاية كل منهما مقيدة بولاية الوصي ومزاحمة بها، لأنها امتداد لولاية الموصي المزاحمة لها، فلا تكون الوصية جنفاً وتعدياً عليه، لقصور ولايته معها. فلاحظ.

السادس: ما يظهر من المبسوط من أن ولاية الأب والجد لما كانت بأصل الشرع، فلا يكون معهما من يتولي بتولية. قال:

(ألا تري أن الحاكم لا يلي من اليتيم مع وجود الأب والجد، ويلي عليهم مع عدمهما) لكنه كما تري لا يخرج عن الاستحسان حيث لا مانع من تولي من تولي بتولية مع إطلاق دليل توليته، كما لا مجال لتولي من لا إطلاق لدليل توليته وإن كان منصوباً بالأصل من الشرع كما ذكروه في الحاكم.

السابع: ظهور اتفاق الأصحاب علي ذلك، كما سبق. ولذا لم ينقل الخلاف إلا في الوصية بمقدار الثلث الذي يبتني علي ولاية الموصي علي الثلث، وهو خارج عن محل الكلام.

لكن في نهوضه بالاستدلال إشكال، لعدم نهوضه بالكشف عن رأي المعصوم بعد عدم ورود نصوص بذلك، وإنما ذكر في عصور تدوين الفتاوي، وعدم وضوح سيرة عليه متصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، لعدم شيوع الابتلاء بالمسألة، واحتمال استنادهم في الحكم المذكور لبعض وجوه الاستدلال المتقدمة أو غيرها من الوجوه الاعتبارية.

نعم، قد يؤيد ذلك باحتمال انصراف إطلاق دليل الوصية الذي تقدمت الإشارة إليه في ردّ الوجه الثاني إلي صورة انقطاع الطفل وعدم وجود من يرعاه. وإن لم يخل عن إشكال.

هذا وأما القول بنفوذ الوصية في الثلث الذي تقدمت الإشارة إليه في الشرايع

ص: 410

ولو أوصي أحدهما (1) بالولاية علي الطفل بعد فقد الآخر، لا في حال وجوده (2) ففي صحتها إشكال (3).

---------------

فهو الذي ذهب إليه الشيخ في المبسوط. وهو لا يخلو عن قرب حتي بناء علي عدم صحة وصية أحدهما بالقيمومة مع وجود الآخر، لأن ولايته علي الثلث تقتضي نفوذ شرطه في تمليكه للموصي له وصرفه عليه بأن يكون بنظر الوصي، كغيره من الشروط، سواء كان الموصي له صغيراً أم كبيراً قريباً أم بعيداً. ومجرد ولاية الجد علي الصغير بالأصل لا ينافي نفوذ الشرط المذكور في حق الصغير، كنفوذه في حق الكبير المستقل بالتصرف.

نعم، الشرط المذكور لما كان متعلقاً بالموصي له فلابد من قبوله به إن كان كبيراً وقبول وليه به إن كان صغيراً. ولازم ذلك تنفيذه في المقام بنظر كل من الولي الأصلي الموجود ووصي الولي الميت الموصي. فلاحظ.

(1) يعني: في حال وجود الآخر.

(2) فتكون الوصية حال وجود الآخر والولاية الموصي بها بعد فقده.

(3) كأنه لما سبق منه (قدس سره) من عدم ثبوت إطلاق لولاية الأب والجد، ولا إطلاق لدليل الوصية منهما بالقيمومة علي الصغير. لكن حيث سبق منا ثبوت الإطلاق في المقامين فلا ينبغي الإشكال في صحة الوصية في الفرض، كما يتضح مما تقدم. ومثله ما إذا كان الآخر عاجزاً عن تولي أمر الصغير، لغيبة أو مرض أو نحوهما. بل الظاهر صحة الوصية مع قدرته علي ذلك إذا كانت مشروطة بعدم توليه أمر الصغير، ولو اتكالاً علي الوصي. كل ذلك للإطلاق، والاقتصار في الخروج عنه علي ما إذا كانت ولايته في عرضه لو تم الانصراف عنه. فلاحظ.

تتميم: ألحق الأصحاب (رضي الله عنهم) المجنون بالطفل في ولاية الأب والجد، ونفي الخلاف فيه في المسالك، وفي الجواهر:

(ولا ريب فيه في الجملة، بل عن مجمع البرهان:

ص: 411

كأن عليه إجماع الأمة) . وهو المتيقن فيمن اتصل جنونه بصغره، لاستصحاب ولايته عليه الثابتة حال الصغر، بناء علي ما هو الظاهر من جريان الاستصحاب في مثل الولاية من الأحكام الوضعية القائمة بالجزئي الموجود خارجاً، وهو في المقام شخص المولي عليه والولي.

بل الظاهر عدم الإشكال في ذلك حتي بناء علي عدم جريان الاستصحاب. نظراً إلي السيرة، إذ لا ريب في عدم اعتزال الأب والجد المجنون ببلوغه، بل يبقي تحت رعايتهما وولايتهما.

كما يدل عليه في الجد قوله تعالي: (وابتلوا اليتامي حتي إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم)(1). لظهوره في أن من بيده مال اليتيم لا يدفع له ماله إذا بلغ غير رشيد، لجنون أو سفه، فيدل علي بقاء ولاية الجدّ علي اليتيم إذا بلغ مجنوناً، ويلحق به الأب، لعدم الفصل.

وأما مع عروض الجنون عليه بعد البلوغ فمقتضي إطلاق جماعة وصريح آخرين ولايتهما عليه. خلافاً لما في كتاب الحجر من جامع المقاصد وكتاب النكاح من المسالك ومحكي مجمع البرهان وغيرها من ولاية الحاكم عليه، لزوال ولايتهما ببلوغه ولا دليل علي عودها بطروء الجنون عليه، فتكون الولاية للحاكم، بناء علي ما هو المعروف من أنه ولي من لا ولي له.

لكن قال في كشف اللثام:

(وأما إن تجدد الجنون بعد البلوغ ففي عود ولايتهما نظر، ففي التذكرة والتحرير أنها تعود وهو الأقرب. بل لا عود حقيقة، لأن ولايتهما ذاتية منوطة بإشفاقهما وتضررهما بما تضرر به الولد) . وهو كما تري، فإن كون ملاك الولاية ذاتي فيهما لا ينافي صدق العود بعد فرض استغناء المولي عليه عن الولاية برشده بعد البلوغ، وتجدد الحاجة لها بجنونه. علي أن تبعية الولاية للملاك المذكور دائماً تحتاج إلي دليل، ولو كان هو الإطلاق. وهو غير ثابت. بل لا يمكن البناء عليه،

********

(1) سورة النساء آية: 6.

ص: 412

لعدم اطراده، فإنه قد يكون في الأم آكد، مع عدم القول بولايتها.

وعن شيخنا الأعظم (قدس سره) الاستدلال بخبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

(قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعطي من مالها ما شاءت فإن أمرها جايز تزوج إن شاءت بغير إذن وليها، وإن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها) (1) بدعوي: أن المجنونة من أظهر مصاديق من لا تملك أمرها. كما أن من البعيد أن يراد من الولي الحاكم، بل الظاهر أنه من يتصدي لإدارة شؤونها، وهو الأب والجد. بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن إضافة الولي لها ظاهر في اختصاصه بها، وذلك لا يكون إلا الجد والأب، دون الحاكم.

وفيه - مع ضعف سند الخبر، لجهالة طريق الشيخ إلي علي بن إسماعيل -: أن المراد بالولي إن كان هو من يتولي إدارة أمورها فعلاً فهو لا يختص بالأب والجد، بل كل من تعيش في كنفه وتحت رعايته من الأرحام، بل حتي الأجنبي لو صادف ذلك فيه. ولابد حينئذ إما من البناء علي ولايته علي إطلاقه من دون أن يختص بالأب والجد، وإما من فرض كونه ولياً شرعاً، ولو لاستئذانه من الولي الشرعي ونصبه من قبله، فلا ينافي ولاية الحاكم.

مضافاً إلي أن من البعيد جداً عموم الخبر للمجنونة ونحوها ممن لا تصلح لإجراء العقد معها عرفاً، بل الظاهر منه التفصيل في المرأة الكاملة بين ما إذا كانت مستقلة في إدارة شؤونها وما إذا كانت في رعاية شخص يتولي أمرها، وأن الأولي تستقل بالتزويج، والثانية لا تستقل به، بل لابد فيه من إذن وليها. وهو راجع إلي التفصيل فيما عن العامة من عدم صحة النكاح إلا بولي. ولابد حينئذ من عدم التعويل عليه ورد علمه إلي قائله (عليه السلام).

وهي قريبة جداً. ولاسيما بلحاظ ما سبق من جريانها فيما لو بلغ مجنوناً، لعدم الفرق بحسب مرتكزات المتشرعة بينه وبين من جنّ بعد البلوغ في نحو علاقته بالأب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 9 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 6.

ص: 413

والجد. ومنه يظهر إمكان استفادته من الآية الشريفة بالتقريب المتقدم بضميمة إلغاء خصوصية استمرار الجنون من قبل البلوغ. ولو فرض عدم بلوغ ذلك حدّ الجزم بالحكم جري عليه حكم اليتيم المتقدم في المسألة الرابعة والعشرين من مباحث الاجتهاد والتقليد من هذا الشرح، لمشاركته له في الأدلة. فراجع.

هذا وأما الوصي فلا إشكال في ولايته علي المجنون إذا مات الموصي وهو صغير ثم بلغ مجنوناً، لعين ما سبق من الآية الشريفة والسيرة والاستصحاب. مضافاً إلي صحيح العيص المتقدم في الاستدلال لولاية الوصي، لدلالته علي بقاء ولاية الوصي مع إفساد المولي عليه وتضييعه، فضلاً عن جنونه. كما لا إشكال في عدم ولايته عليه لو بلغ رشيداً ثم جن، لأنه بعد خروجه عن ولايته يكون كسائر الأجانب. وسبق وصيته عليه لا أثر لها ارتكازاً. ولا أقل من عدم الدليل علي عود ولايته عليه.

وأما ولايته عليه لو مات الموصي وهو كبير مجنون - إما لاستمرار جنونه من صغره، أو لطروء الجنون عليه بعدما بلغ إذ قلنا بولاية الأب والجدّ عليه حينئذ - فهو يبتني علي مشروعية الوصية به، كما هو غير بعيد. ويناسبه إطلاق معتبر محمد بن مسلم المتقدم في أدلة ولاية الوصي علي الصغير. وقضاء المناسبات الارتكازية بإلغاء خصوصية الصغير، وأن المدار في مشروعية الوصية هو ولاية الموصي وحاجة الموصي به للكفالة والرعاية بعد موت وليه.

هذا وقد صرح في الشرايع بولاية الوصي علي تزويج فاسد العقل إذا كان به ضرورة إلي النكاح. وفي الجواهر: (بل نفي بعضهم الخلاف عن ثبوتها في ذلك، بل عن ظاهر الكفاية الإجماع عليه، بل عن القطيفي دعواه صريحاً). ويظهر الوجه فيه مما سبق من كونه مقتضي الوصية، مع قصور ما ورد في الصغير من النصوص عنه. بل مقتضاه الاكتفاء بالحاجة العرفية، بحيث يكون صلاحاً له وإن لم يبلغ حد الضرورة.

هذا ولو نصّ الموصي علي التزويج بالخصوص كان المدار علي ما يستفاد من نصه عموماً وخصوصاً، كما يظهر مما سبق.

ص: 414

(مسألة 26): ليس لغير الأب والجد والوصي لأحدهما ولاية علي الصغير (1) ولو كان عماً (2)، أو أمّاً (3)،

---------------

(1) هذا إنما يتم في الولاية الإلزامية المبنية علي إلزام الولي بتولي أمر المولي عليه. أما الولاية الاختيارية الراجعة إلي جواز أمره فالظاهر ثبوتها لمن يتولي أمره ويكفله عند فقد الأولياء القهريين المتقدمين، علي ما سبق منا في المسألة الرابعة والعشرين من مباحث الاجتهاد والتقليد من هذا الشرح. فراجع.

(2) بلا إشكال ظاهر، ويظهر من الأصحاب المفروغية عنه. وقال في التذكرة:

(ليس للعصبة - كالأخ وابنه والعم وابنه. وبالجملة: كل عصبة هي علي حاشية النسب

ولاية النكاح عند علمائنا أجمع، سواء كانت المرأة صغيرة أو كبيرة عاقلة أو مجنونة بكراً كانت أو ثيباً) . وكفي بهذا الإجماع دليلاً في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء.

ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - الأصل، وصحيح علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الأشعري:

(كتب بعض بني عمي إلي أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في صبية زوجها عمها، فلما كبرت أبت التزويج. فكتب لي: لا تكره علي ذلك، والأمر أمرها) (1) .

اللهم إلا أن يقال: ثبوت الخيار لها بعد البلوغ لا ينافي ولاية العاقد وصحة عقده. ولذا ورد ذلك في تزويج الأبوين(2) وإن وقع الكلام في العمل به. علي أن عدم صحة تزويج العمّ للصغير لا ينافي ولايته عليه، نظير ما تقدم من الخلاف في الوصي. فالعمدة ما سبق.

(3) كما هو المعروف بين أصحابنا وظاهر التذكرة الإجماع عليه. لكن في الجواهر:

(لا ولاية للأم ولا لأحد من آبائها علي الولد الصغير. بلا خلاف أجده فيه إلا من الإسكافي الذي يمكن تحصيل الإجماع علي خلافه) . وكفي في الدليل عليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 2، 8.

ص: 415

(416)

أو جدّاً لها (1)، أو أخاً كبيراً (2)، ولو تصرف أحد هؤلاء في مال الصغير أو في نفسه أو في سائر شؤونه لم يصح، وتوقف علي إجازة الولي.

(مسألة 27): تكون الولاية علي الطفل للحاكم الشرعي مع فقد الأب والجد والوصي لأحدهما (3).

---------------

الأصل. بل لا ينبغي الإشكال فيه بعد شيوع الابتلاء بالمسألة بنحو يمتنع عادة خفاء حكمها علي جمهور الأصحاب.

(1) كما هو معقد نفي الخلاف المتقدم من الجواهر عند الكلام في الأم. ويجري فيه ما سبق فيها.

(2) كما هو مقتضي عموم معقد الإجماع المتقدم من التذكرة في العم. ويجري فيه ما سبق فيه. ولابد لأجله من رفع اليد عما قد يظهر من عدّ الأخ ممن بيده عقدة النكاح من النصوص المتقدمة عند الاستدلال لعموم ولاية الجد لحال موت الأب، كما سبق هناك. ومثله مرسل الحسن بن علي عن الرضا (عليه السلام):

(قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب)(1). حيث لابد من حمله علي المبالغة لبيان استحباب تكريم الأخ الأكبر، لعدم الإشكال في عدم إرادة ظاهره بالإضافة إلي الولاية وغيرها من أحكام الأب. وتقدم هناك ما ينفع في المقام. فراجع.

(3) هذا بناءً علي ما هو المعروف بينهم من عدم جواز تولي أمر اليتيم والنظر في صلاحه لكل أحد حسبة. لكن تقدم منّا في المسألة الرابعة والعشرين من مباحث الاجتهاد والتقليد من هذا الشرح تقريب جواز ذلك. وحينئذٍ يكون الحاكم الشرعي كغيره بالإضافة إلي الصغير.

إلا أن نقول بولايته المطلقة الراجعة لكونه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فيكون الصغير والكبير معاً مشمولين بها من دون أن يمتاز الصغير بشيء. وهي حينئذٍ تكون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث: 6.

ص: 416

مانعة لولي اليتيم الاختياري من التصرف في أمره، وللكبير من إعمال السلطنة في نفسه، في خصوص حال إعمال الحاكم الشرعي لولايته، لا مطلقاً، كما هو ظاهر.

وكيف كان فالمناسب الكلام هنا تبعاً لغير واحد من الأكابر في ولاية الحاكم الشرعي، فإنه وإن سبق منّا الكلام فيها في المسألة المذكورة، إلا أنا رأينا إعادة تحريرها بوجه أشمل وأوضح، فنقول بعد الاتكال علي الله وطلب العون والتسديد منه:

ولاية الحاكم يراد بها: تارة: الولاية المطلقة المساوقة لولاية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والإمام، الثابتة لهما بالضرورة والمستفادة من مثل قوله تعالي: (النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم)(1) ، وقوله تعالي:

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في خطبة الغدير:

(إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه) (3) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(علي وليكم بعدي) (4) ، والنصوص المتضمنة لتفسير أولي الأمر بالأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)(5) وغيرها. ومن لوازم الولاية المذكورة وجوب الطاعة علي الناس.

وأخري: الولاية الخاصة، وهي الولاية فيما يحتاج للولي مع عدم الولي، ولعله المراد بالنبوي:

(السلطان ولي من لا ولي له) (6) .

وكأنه إليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الولاية الإذنية التي هي عبارة عن إناطة تصرف غيره بإذنه، بلحاظ أن ذلك إنما يجري في التصرف الذي لا دليل علي جواز الاستقلال فيه، بل لابد فيه من إذن الولي مع عدم وجود الولي وانحصار ولايته

********

(1) سورة الأحزاب آية: 6.

(2) سورة المائدة آية: 55.

(3) الغدير في الكتاب والسنة ج: 1 ص: 11.

(4) في رحاب العقيدة ج: 2 ص: 345.

(5) في رحاب العقيدة ج: 3 ص: 215، 219.

(6) صحيح الترمذي كتاب النكاح باب: 15. وسنن أبي داود كتاب النكاح باب: 16. وسنن البيهقي ج: 7 ص: 105. وكنز العمال ج: 16 ص: 309 حديث: 44643 و 44644.

ص: 417

(418)

بالإمام بلحاظ ولايته العامة. وعليه يكون وجود الولي مغنياً عن إذنه ورافعاً لموضوع ولايته.

ولولا ذلك فلا يتضح الفرق بين الولاية الإذنية والولاية العامة، ضرورة أن من يعتبر إذنه ليس إلا الولي، الذي له إعمال ولايته بالمباشرة أو بالإذن للغير. إلا أن يراد بها الولاية علي منع الغير من التصرف وإن كان لذلك الغير بالأصل السلطنة عليه لكنها حينئذٍ ترجع إلي الولاية العامة، الراجعة لكونه أولي من صاحب السلطنة بنفسه، بحيث له منعه من إعمال ولايته.

وكيف كان فالكلام في مقامين:

المقام الأول: في الولاية المطلقة. ومن الظاهر أنه لا يراد بها ما يعمّ الولاية علي خلاف مصلحة المولي عليه، فإن ذلك غير ثابت للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ولا للإمام، فضلاً عن غيرهما كالحاكم، لما هو المعلوم بالضرورة وتضمنته بعض النصوص(1) من أن ملاك جعل الإمامة - المستتبعة للولاية - لهما هو صلاح الإسلام والمسلمين، فكيف تعمّ ولايتهما علي التصرف المخالف للمصلحة ؟!.

غاية الأمر أن عموم الولاية يقتضي رعاية المصالح الشخصية والنوعية وترجيح الأهم منها وإن كان مخالفاً للمهم ومضراً به، فالخروج عن مقتضي المصلحة في بعض الموارد إنما هو رعاية للمصلحة الأهم، لا اعتباطاً، فهو لا يخرج عن مقتضي المصلحة اللازمة الملاحظة.

هذا ولم يعرف القول بثبوت الولاية المذكورة للحاكم إلا في العصور المتأخرة. نعم ربما عللوا الرجوع للحاكم في بعض موارد القسم الثاني للولاية بنيابته عن الإمام. ولعل هذا هو منشأ ما ذكره النراقي في الاستدلال علي عموم ولاية الحاكم، حيث قال في محكي العوائد:

(فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع، حيث نصّ عليه كثير من الأصحاب، بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات... ) .

********

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج: 2 ص: 99.

ص: 418

(419)

لكن من القريب أن يكون مرادهم من نيابته قيامه مقامه عند الحاجة لإيقاع التصرف في الموارد المذكورة، ولو لأنه مقتضي الأصل، علي ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي، لا لكونه منصوباً من قبله نائباً عنه، بنحو يرجع إلي عموم نيابته عنه، وتثبت له الولاية المطلقة، لعدم اهتمامهم بتحرير هذه المسألة والنظر في أدلتها. وإنما ظهر الحديث عنها متأخراً. ولعله لذا حكي عن المحقق الكركي في رسالته قاطعة اللجاج الشك في عموم نيابة الحاكم الشرعي عن الإمام.

ومن هنا لا مجال للاستدلال علي الولاية العامة بالإجماع. ولاسيما مع ما يأتي من الإشكال في الاستدلال بالإجماع علي الولاية الخاصة.

وكيف كان فقد يستدل عليها بجملة من النصوص:

الأول: مقبولة عمر بن حنظلة: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلي السلطان و [أو] إلي القضاة أيحلّ ذلك ؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فقد تحاكم إلي الطاغوت... قلت: فكيف يصنعان ؟ قال:

ينظران إلي من كان منكم ممن قد روي حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ... )

(1) .

ولا مجال لما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الإشكال في الاستدلال بها بضعف السند، حيث لم ينصوا علي توثيق عمر بن حنظلة. لاندفاعه بأنه يكفي في ثبوت وثاقته رواية صفوان بن يحيي عنه، لنص الشيخ (قدس سره) في العدة إلي أنه لا يروي إلا عن ثقة. وبحديث يزيد بن خليفة:

(قلت لأبي عبد الله: إن عمر بن حنظلة جاءنا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا لا يكذب علينا... ) (2) والظاهر اعتبار سنده إذ ليس فيه من لم ينص علي توثيقه إلا يزيد بن خليفة، والظاهر اعتبار حديثه، لرواية صفوان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 5 من أبواب المواقيت حديث: 6.

ص: 419

عنه أيضاً. ويؤيد ذلك نصوص أخر، ورواية جماعة من الأجلاء عنه فيهم من هو من أصحاب الإجماع. مضافاً إلي ظهور عمل الأصحاب بهذه الرواية وتعويلهم عليها حتي وصفوها بالمقبولة، وهو كاف في انجبارها لو كانت ضعيفة في نفسها.

وحينئذٍ فوجه الاستدلال بها ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من أنه يستفاد من جعله حاكماً هو لزوم الرجوع إليه في الأمور العامة، كسائر الحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه بحق أو باطل. ومن الظاهر أنه كثيراً ما يحتاج في ذلك لإعمال الولاية العامة حفظاً للنظام ورعاية لمصالح العباد والبلاد.

لكنه يشكل بأن الحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه الذين يرجع إليهم في الأمور العامة ليس إلا ولاة الأقطار والأمصار، ولا قرينة علي حمل الحاكم في المقبولة عليهم بعد أن كان من موارد استعماله الشايعة هو القاضي في الخصومة التي هي مورد الحديث، حتي أنه قد يظهر من بعض اللغويين اختصاصه به، ولو لأنه المنصرف منه.

ولاسيما بعد عدم شيوع التعبير في تلك العصور عن الولاة في الأقطار والبلدان بالحكام، بل بالولاة والعمال. وعدم تعارف توليهم للقضاء بين الناس وفصل خصوماتهم، لأن المهم فيهم الكفاءة الإدارية، دون الفقه والقضاء، بل الشايع نصبهم أو نصب السلطان والخليفة قضاة يختصون بهذه المهمة.

مضافاً إلي معتبر أبي خديجة: (بعثني أبو عبد الله (عليه السلام)

إلي أصحابنا، وقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلي أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً. وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلي السلطان الجائر) (1) ، ونحوه معتبره الآخر(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب صفات القاضي حديث: 5.

ص: 420

فإن جعل القاضي وإن لم ينافِ جعل الحاكم بمعني الوالي، إلا أن التعليل بهما معاً لوجوب الترافع لا يخلو عن حزازة، لأن العلة أحدهما. بل من القريب جداً تأخر حديث أبي خديجة عن حديث عمر بن حنظلة، ومن البعيد جداً مع سبق سعة الجعل الاقتصار علي بيان الجعل الضيق.

ومن هنا يقرب كون معتبري أبي خديجة قرينة علي أن المراد بالحاكم في حديث ابن حنظلة هو القاضي دون الوالي لو فرض تردد الحاكم فيه بين المعنيين.

وبذلك يظهر أنه لا مجال لحمل الحاكم في الحديث علي الوالي بقرينة العدول عن التعبير بالحكَم للتعبير بالحاكم. إذ هو فرع ثبوت المعني المذكور للحاكم، وحسن إرادته في المقام، وعدم القرينة الصارفة عنه، والجميع لا يخلو عن إشكال أو منع، كما يظهر مما سبق.

علي أن العدول قد يكون لنكتة بيانية، وتجنباً للتكرار. أو لأجل التعدية ب - (علي) الظاهرة في نحو من القهر والسيطرة للحاكم في مقام القضاء وفصل الخصومة وبنحو يستتبع وجوب القبول والطاعة.

بل من القريب الاختلاف بينهما بنحو من الاعتبار، فإطلاق الحكم علي القاضي بلحاظ الرجوع إليه للنظر في الخصومة والحكم فيها. وإطلاق الحاكم عليه بلحاظ أن له الحكم والفصل فيها، وإن لم يتيسر لنا العثور في اللغة علي أصل للفرق المذكور.

ومثله دعوي: أن حمل الحاكم علي القاضي في المقبولة لا يناسب سوق الجملة لتعليل الأمر بتحكيمه، لظهوره في التعليل بالكبري التي هي الأعم من الحكم المعلل، المناسب لكون الحاكم أوسع سلطنة من الحكم.

لاندفاعها بأنه يكفي في كبروية التعليل كونه مشيراً إلي كبري نفوذ جعلهم (عليهم السلام)، فكأنه قال: فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، وكل ما جعلته يجب العمل عليه، نظير قول القائل: إذا أردت التصرف في أموالي فراجع ولدي الأكبر، لأني قد وكلته.

ص: 421

وفائدة ذلك إما التنبيه علي أن منصب القضاء مختص بهم (عليهم السلام) بالأصل وتابع لهم، وأن ثبوته للفقيه بتوسط جعله من قبلهم له، وليس ثابتاً له بالأصل، كالإفتاء، أو للتنبيه علي أن إرجاعه (عليهم السلام) في القضاء للفقيه لا ينافي ما تضمنته النصوص(1) من اختصاص المنصب بهم (عليهم السلام)، لأن المنصوب من قبلهم (عليهم السلام) بمنزلتهم.

هذا ويظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) أن المراد بالحاكم في المقبولة ليس هو القاضي، ولا الولاة المنصوبين من قبل السلطان، ليجري ما سبق، بل السلطان نفسه، لأن الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسوط، وليس ذلك شأن القاضي، ولأن السائل قد جعل القاضي مقابلاً للسلطان، فقال:

(فتحاكما إلي السلطان أو إلي القضاة) . وعلي ذلك يكون المجعول هو السلطنة العامة الثابتة للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) والإمام، وما يناسبها من الولاية العامة علي القضاء وغيره من شؤون السلطنة والحكم.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن هذا المعني يأباه قوله (عليه السلام)

:(فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه... ) لظهوره في الحكم المتعلق بفعل المكلف. ففيه: أن السلطان بالمعني المذكور حيث كان له القضاء ففرض أدائه لوظيفته فيه لا ينافي جعل السلطنة بنحو العموم له.

فالعمدة في دفع ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) أنه بعد إطلاق الحاكم علي القاضي لغة - كما سبق - فاللازم الاقتصار عليه، ولو لأنه المتيقن من المجعول ليناسب المورد. ولاسيما بلحاظ معتبري أبي خديجة المتقدمين، وعدم شيوع إطلاق الحاكم بالمعني المذكور، بل يعبر عنه بالخليفة والوالي والسلطان، كما عبر عنه في السؤال.

بل لم يتضح صحة إطلاقه عرفاً علي من له حق السلطنة والحكم، وإنما يطلق علي من له الحكم فعلاً، لأنه يملك السيف والسوط، ومن الظاهر عدم إرادة ذلك، لأنه أمر تكويني تابع لعلته الخارجية، وليس أمراً اعتبارياً قابلاً للجعل.

ومثله ما قد يدعي من أن المراد بالحاكم مطلق من له الحكم، مع عدم اختصاص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب صفات القاضي حديث: 2، 3.

ص: 422

الحكم بالقضاء في فصل الخصومات، بل يطلق عليه وعلي الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية وغيرها مما يكون مورداً للحكم، ومنه الحاكمية علي الناس المبتنية علي السلطة والسلطنة عليهم، والحكم المراد بقول الله تعالي: (إن الله يحكم ما يريد)(1) ، وقوله سبحانه: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)(2) ، وقوله عزّ من قائل: (ما كان لبشر أن يؤتيه الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباد لي من دون الله)(3)... إلي غير ذلك.

وكأنه إلي هذا يرجع ما ذكره النراقي في محكي عوائد الأيام. قال:

(ليس المراد بالحكم خصوص ما يكون بعد الترافع، لأعميته لغة وعرفاً. وعدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه) .

لكنه يشكل بأن المعني المذكور بهذه السعة لو فرض رجوعه لقدر جامع واحد ليس من شأنه أن يجعل لأحد اعتباراً، بل بعض أفراده ثابت للإنسان بلا حاجة للجعل، كالحكم في القضايا التكوينية والتشريعية بحق، كقيام زيد وجلوس عمرو وحرمة الميتة ووجوب الصلاة، وبعضها ثابت له شرعاً بالأصل، كالحكم والإدارة لشؤون عائلته ومماليكه وأمواله ونحوها، وبعضها ثابت له شرعاً بتوسط جعل غير الامام (عليه السلام)، كالحكم في أمر الأوقاف التي يجعله الواقف ولياً عليها، والأيتام الذين يوصي بهم إليه أبوهم، وبعضه مما يمتنع جعله له، كالحكم بالأحكام الشرعية التكليفية والوضعية تشريعاً، وسائر موارد الإدارة والحكم بغير الحق، وبعضها قابل للجعل من قبل الامام (عليه السلام)، كمناصب القضاء، والولاية الخاصة، والعامة التي تبتني عليها السلطنة العامة.

ومن الظاهر أن المراد في المقام هو خصوص ما يقبل الجعل من الامام (عليه السلام)، وهو مردد بدواً بين المناصب الثلاثة المذكورة، وحيث لا جامع عرفي بينها تعين

********

(1) سورة المائدة آية: 1.

(2) سورة الأنعام آية: 57.

(3) سورة آل عمران آية: 79.

ص: 423

الاقتصار علي أحدها، والمتعين الأول، لأنه المتيقن أو الظاهر من أجل ما سبق.

هذا مضافاً إلي أن المقبولة لو كانت بصدد بيان الولاية العامة للفقيه، لزم ثبوتها للفقهاء في عهد ظهور الأئمة (عليهم السلام) وما ألحق به وهو عهد الغيبة الصغري، ولو كان البناء علي ذلك لظهر العمل عليه في هذه المدة الطويلة التي تقارب مائتي عام ولو بصورة محددة لا تنافي التقية، أو تنافيها تسامحاً، كما تسامح كثير من الشيعة في أمر التقية غفلة أو بمقتضي اندفاعاتهم العاطفية، ولكثر السؤال عن فروع ذلك، لوضوح أنه بطبعه يقتضي التسابق والتشاح وظهور المشاكل بنحو أكثر بكثير من الاقتصار ثبوت ولاية القضاء لهم، لأن التصدي للقضاء إنما يكون بعد الترافع من قبل الخصمين ورضاهما بشخص القاضي، بخلاف إعمال الولاية، فإنه لا يتوقف علي شيء، بل للولي المبادرة لذلك. وذلك وحده كاف في الكشف عن عدم إرادة جعل الولاية في المقبولة.

الثاني: التوقيع الشريف الوارد في جواب إسحاق بن يعقوب عن مسائل أشكلت عليه، وفيه: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله [عليهم])(1).

وقد يستشكل في الاستدلال به من وجهين: الأول: السند، لعدم ثبوت وثاقة إسحاق بن يعقوب.

لكن قد يهون ذلك، لأن الراوي له عن إسحاق هو الكليني (قدس سره) الذي عاش في زمن الغيبة الصغري حيث التحفظ والتكتم علي أشدهما، المناسب لكون الاتصال فيها بالناحية الشريفة مقصوراً علي الخاصة، فمن البعيد جداً إغفال الكليني ذلك وروايته له عن غير ثقة. ولاسيما وأن لسان التوقيع ومضامينه تناسب ما ورد عنهم (عليهم السلام).

الثاني: الدلالة، لأن الراوي اقتصر علي بيان جواب الامام (عليه السلام) من دون ذكر للسؤال، ليعرف منه الجهة المسؤول عنها، والتي أريد بالجواب الإرجاع فيها للرواة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.

ص: 424

وهل هي معرفة الحكم الشرعي للحادثة عند الجهل به، أو حلّ مشكلتها بإعمال الولاية فيها إذا كانت مما يحتاج فيها للولي.

ومع ذلك فقد استدل بها غير واحد علي ولاية الحاكم بعد الفراغ منهم عن أن الإرجاع للرواة ليس لمحض تحملهم للرواية، ثم الحديث بها، بل من أجل معرفتهم للحكم الشرعي بسببها واستفادته منها، فالمراد بالرواة في الحقيقة الفقهاء، كما هو غير بعيد، ويناسبه ما سبق في مقبولة عمر بن حنظلة وغيره. ولاسيما وأن المتعارف في ذلك الوقت عدم صيرورة الشخص فقهياً إلا بعد تحمله للروايات، لعدم تداول كتب الروايات، بحيث لا يحتاج لروايتها، كما في هذه العصور.

وعلي ذلك فقد ذكر الفقيه الهمداني (قدس سره) عند الكلام في مصرف الخمس أن مقتضي التوقيع الشريف قيام الفقيه مقام الإمام فيما يحتاج إليه فيه. قال (قدس سره):

(ومن تدبر في هذا التوقيع الشريف يري أنه) أراد بهذا التوقيع إتمام الحجة علي شيعته في زمان غيبته، بجعل الرواة حجة عليهم علي وجه لا يسع لأحد أن يتخطي عما فرضه الله معتذراً بغيبة الإمام... فلو رأي أن صلاح اليتيم أن يأخذ ماله من هذا الشخص الذي لا ولاية عليه شرعاً وينصب شخصاً آخر قيماً عليه... فليس لمن عنده مال اليتيم أن يمتنع من ذلك، ويستعمل رأيه في التصرف فيه علي حسب ما يراه صلاحاً لحال اليتيم. وكذا في الأوقاف ونظائرها، وإن أفتي له الفقيه عموماً بجواز التصرف فيها بالتي هي أحسن... والحاصل: أنه يفهم من تفريع ارجاع العوام إلي الرواة علي جعلهم حجة عليهم أنه أريد بجعلهم حجة إقامتهم مقامه فيما يرجع إليه فيه، لا مجرد حجية قولهم في نقل الرواية والفتوي... ) .

ومن الظاهر أن مقتضي ذلك قيام الفقيه مقام الإمام حتي في الولاية العامة، إذ قد يحتاج إلي ذلك في عصر الغيبة الطويل، وما يحصل فيه من مستجدات، بل هو صريح ما ذكره في مال اليتيم والأوقاف، إذا بعد فرض فتوي الفقيه للعامي بجواز الاحتفاظ بها والتصرف فيها بالتي هي أحسن لا وجه لاستجابته للفقيه إل

ص: 425

ولايته العامة.

لكن لم يتضح منشأ فهم ذلك من التوقيع الشريف بعد عدم تيسر تحديد الوقائع المسؤول عنها لنا، لعدم ذكر السؤال، وبعد الاقتصار في التوقيع علي الإرجاع للرواة والفقهاء ابتداءً، لا بلسان تنزيلهم منزلة الامام (عليه السلام)، ليدعي أن مقتضي إطلاقه عموم التنزيل لجميع وظائفه (عليه السلام).

ولاسيما وأن التوقيع قد صدر علي يد الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ثاني النواب الأربعة في الغيبة الصغري، حيث كان النواب المذكورون هم القائمين مقام الامام (عليه السلام) للشيعة بالنص الخاص، وبهم يستغني الشيعة عن طلب من يقوم مقامه (عليه السلام) في الوقائع.

بل ربما لم تكن الغيبة الكبري وانقطاع السفارة متوقعين عندهم حتي ذلك الوقت، ليحتاج للسؤال عمن يقوم مقام الامام (عليه السلام) فيها، أو كانا متوقعين في الجملة، لكن ليس بهذا الطول، ليحتاج لجعل من يقوم مقام الإمام (صلوات الله عليه) فيها. خصوصاً مع السؤال فيه عن الفرج، حيث يناسب احتمال تعجيله. ولا أقل من عدم وضوح اهتمام إسحاق بن يعقوب بالسؤال عمن يقوم مقام الامام (عليه السلام) في مناصبه.

ومثله في الإشكال ما قد يدعي من عموم الحوادث بنحو تشمل الحوادث التي يراد معرفة حكمها الكبروي - وهي التي يحتاج فيها للمفتي - والحوادث التي يحتاج فيها لتشخيص الموضوع في مقام التنازع - وهي التي يحتاج فيها للقاضي - والحوادث التي يحتاج فيها لإعمال الولاية في الجملة ولو كانت خاصة - كإدارة الأوقاف العامة والأيتام ونحوهما - والحوادث المتجددة المتعلقة بالأمور الاجتماعية والسياسية والإدارية، وهي التي يحتاج فيها للولاية العامة. كل ذلك لأن الحوادث جمع محلي باللام ظاهر في العموم الاستغراقي من دون دليل علي التخصيص.

لاندفاعه: أولاً: بأن اختلاف سنخ الوظيفة المطلوبة في أقسام الوقائع مانع من إرادة عمومها، فإن الوظيفة المطلوبة مع الجهل بالحكم الشرعي هي بيانه، ومع

ص: 426

التنازع في الموضوع الخارجي هي الفصل فيه علي الوجه المطلوب شرعاً، ومع الحاجة فيه للولي هي إعمال الولاية فيه، وحيث لا جامع عرفي بينها يمتنع عرفاً إرادة الإرجاع فيها كلها، بحيث يرجع إلي بيان جعل تلك الوظائف للرواة والفقهاء، بل لابد من كون الإرجاع في خصوص سنخ منها، ليرجع إلي جعل خصوص الوظيفة المناسبة له.

نعم، لو كان الإرجاع في الحوادث وجعل الوظيفة فيها للرواة والفقهاء بلسان تنزيلهم منزلة الامام (عليه السلام) في وظائفه أمكن العموم، بالنظر للجامع الانتزاعي بين الوظائف، الحاصل من تقمص الامام (عليه السلام) بها وثبوتها له.

كما أنه لو فرض المفروغية عن ثبوت هذه الوظائف للفقهاء أمكن إرادتها بإطلاق واحد، بأن يقول مثلاً: عندنا في مدينتنا من نرجع إليه في الحوادث والمستجدات، فيراد بذلك الحوادث التي من شأنها أن يرجع إليه فيها، لأن هذا جامع انتزاعي بينها أيضاً.

وأما الإرجاع من أجل بيان جعل الوظيفة له - كما هو المدعي في التوقيع الشريف - فلابد أن يكون من أجل بيان خصوص إحدي الوظائف المتقدمة بعد عدم الجامع العرفي بينها، ومرجع ذلك إلي تقييد الحوادث بخصوص ما يناسب تلك الوظيفة.

وثانياً: بأن الجمع المحلي باللام إنما يقتضي العموم الاستغراقي عند عدم العهد، ولا طريق لإحراز ذلك في المقام بعد عدم ذكر السؤال، لإمكان اشتماله علي خصوص سنخ خاص من الحوادث يكون هو المعهود في الجواب، بنحو يمنع من استفادة العموم.

نعم، استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) ظهور الحوادث - في التوقيع الشريف - في الأمور التي لابد عرفاً أو عقلاً أو شرعاً من الرجوع فيها للرئيس، مثل النظر في أموال القاصرين لغيبة أو موت أو صغر أو سفه. وذكر أنه لا مجال لحملها علي خصوص الرجوع للرواة والفقهاء في خصوص الأحكام الشرعية لأمور:

ص: 427

الأول: ظهور التوقيع في إيكال نفس الحادثة للرواة والفقهاء لينهوا أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع إليهم في حكمها.

وفيه: أن التوقيع لم يتضمن إيكال نفس الحوادث لهم، بل تضمن الإرجاع إليهم فيها، وهو ظاهر في كون الحادثة مما تهمّ المكلف، بحيث يحتاج لحل مشكلتها. وحينئذٍ فالرجوع إليهم فيها إما أن يكون من أجل معرفة حكمها للجهل به، أو من أجل التصرف فيها بإعمال مقتضي الولاية، ولا معين للثاني.

بل لا معني لإيكال نفس الحوادث الواقعة لهم، لأن الإيكال للغير إنما يكون فيما لم يقع بعد، أما ما وقع فلابد من كون المراد من إيكاله له إيكال أمر متعلق به، وهو إما بيان حكمه أو إيقاع التصرف المناسب له. ولا معين للثاني.

الثاني: تعليل الإرجاع للرواة بأنهم حجة من قبله (عليه السلام)، لظهوره في كون الرجوع إليهم فيما هو من شؤونه (عليه السلام) بتوسط جعله ونصبه، كما في الولاية، بخلاف تبليغ الأحكام، فإن ملاك القبول من الرواة فيها حجية قولهم شرعاً ابتداءً من دون توسط الجعل منه (عليه السلام)، كالقبول من البينة، فلو أراد (عليه السلام) ذلك لكان المناسب أن يقول: فإنهم حجة الله.

وفيه: أن وجوب الرجوع للرواة والفقهاء وإن كان متفرعاً علي حجية قولهم شرعاً من دون توسط جعله (عليه السلام)، إلا أنه لما كان من أهمّ وظائف الامام (عليه السلام) هو حفظ الأحكام الشرعية وبيانها للمؤمنين، كان الإرجاع فيها للفقهاء، وبيان الاكتفاء بالرجوع إليهم في التعرف عليها والخروج عن عهدتها، قياماً منه (صلوات الله عليه) بواجبه في حفظها، بحيث لا مجال معه لاعتذار الناس بجهلهم، واتجه بلحاظ ذلك إطلاق أنهم حجة له (عليه السلام) علي الناس، لأن في إرجاعهم للفقهاء أداء لوظيفته إزاء الأحكام الشرعية، ومنعاً لاحتجاجهم عليه بأنه لم يعرفهم بدينهم. بل الإنصاف أن التعليل بالحجية أنسب بمقام التبليغ والبيان منه بمقام جعل الولاية.

الثالث: أن وضوح الرجوع للرواة والفقهاء في الأحكام الشرعية لا يناسب

ص: 428

خفاء الحال علي مثل إسحاق بن يعقوب حتي يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف الرجوع في المصالح العامة إلي رأي أحد ونظره وإيكال الامام (عليه السلام) الأمر فيه له، فإنه ليس بذلك الوضوح.

وفيه أولاً: أن إسحاق بن يعقوب لم يرد ذكره إلا في هذا التوقيع، ولا طريق لمعرفة مقامه العلمي وغيره إلا منه. علي أن التهريج والشبهات قد تحمل الإنسان علي السؤال عن الأمور الواضحة. ولاسيما وأن السؤال لم يذكر ليعرف السبب الدافع له، وقد جاء في التوقيع نفسه أمور لا تقصر عن ذلك وضوحاً قال (عليه السلام) فيه: (وأما قول من زعم أن الحسين (عليه السلام) لم يقتل فكفر وتكذيب وضلال... وأما محمد بن عثمان العمري - رضي الله عنه وعن أبيه من قبل - فإنه ثقتي وكتابه كتابي... وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع ملعون وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، وإني بريء وآبائي عليهم السلام منهم براء، وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران...)(1).

وثانياً: أن الرجوع للرواة والفقهاء في الأحكام الشرعية وإن كان واضحاً في الجملة، إلا أن صدمة الشيعة بالغيبة بعد أن قام كيانهم ونشؤوا في مدة حضور الأئمة (عليهم السلام) الطويلة علي الاطمئنان بوجود الإمام ليزيح علتهم فيما يشكل عليهم، ثم انكماش النواب الخاصين بسبب الضغط الشديد من السلطة والعامة، وكثرة العلماء من دون مرجح قاطع بينهم مع وضوح تعرضهم للخطأ والخلاف، كل ذلك قد يحمل بعض الناس علي طلب المرجع الذي يركن إليه ويطمأن به، والذي يتعهد الإمام بالرجوع إليه، للاستظهار، وللغفلة عن كفاية الرجوع للفقهاء عموماً، لحجية قولهم ظاهراً. ولاسيما وأنه كثر من الأئمة (صلوات الله عليهم) الإرجاع لبعض الرواة الذين كانوا مورد ثقتهم.

ومثل ذلك في الإشكال ما قد يدعي من أن ظاهر قوله (عليه السلام):

(وأما الحوادث

********

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص: 177.

ص: 429

الواقعة) إرادة الحوادث الشخصية الاتفاقية، لا القضايا الكلية، وظاهر الإرجاع فيها إرادة الرجوع فيها بخصوصياتها للرواة والفقهاء، وذلك يناسب الرجوع لهم لإعمال ولايتهم فيها، لا لمعرفة حكمها الشرعي، لأن إعمال الولاية إنما يكون في كل حادثة بخصوصيتها، بخلاف الفتوي، لوضوح أن فتوي الفقيه في الحادثة راجع إلي فتواه فيها وفي مشابهاتها، لأن الأحكام الشرعية كلية، لا دخل لخصوصية الحادثة فيها.

لاندفاعه بأنه يكفي في حسن الإرجاع للفقيه في الحادثة الشخصية لمعرفة فتواه اختصاصها بالابتلاء والعمل الموجب لاختصاصها بالحاجة لمعرفة الحكم، وإن كان حكمها يعمّ مشابهاتها من الحوادث الفرضية. نظير ما إذا مرض اليتيم فطلب من الامام (عليه السلام) نصب القيم عليه، مع أنه ينفع في جميع شؤونه بناءً علي توقفها علي نظر القيم.

علي أن هذه الوجوه لو تمت لا تقتضي ظهور التوقيع الشريف في المطلوب، بحيث يكون حجة يترتب عليه العمل بعد عدم ذكر السؤال، بل غايته الإشعار غير الصالح للاستدلال. ولاسيما مع ما أشرنا إليه آنفاً من أن التعليل بالحجية أنسب بمقام البيان والتبليغ، وبعد مناسبة ذلك لعنوان الراوي والفقيه ارتكازاً، بنحو يوجب انصراف الإرجاع إليه إلي الإرجاع من أجل الاستفادة بعلمه.

هذا مضافاً إلي أمرين:

الأول: أن ذلك هو المعهود الشايع بين الشيعة في الرجوع للأئمة (عليهم السلام)، إذ لم يظهر منهم (عليهم السلام) التصدي لإدارة الأمور وإعمال الولاية فيها، بنحو يشيع ذلك منهم، ويلتفت إليه، ويسأل عمن يقوم مقام الامام (عليه السلام) فيه. وإذا حصل ذلك منهم (عليهم السلام) فهو في حدود ضيقة لا تلفت انتباه عموم شيعتهم، بل ربما لا تلفت حتي انتباه الخاصة منهم.

ولذا لا إشكال في انتشار الشيعة في عهد حضور الأئمة (عليهم السلام) في الأقطار الشاسعة وفي أماكن بعيدة عن مقرهم (عليهم السلام)، مع صعوبة التنقل والاتصال عموماً،

ص: 430

وبهم (عليهم السلام) خصوصاً، في ذلك العهد، ومع ذلك لم يظهر من أحد من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وخواصهم المنتشرين في البلاد في تلك المدة الطويلة علاج أمر الولاية في القضايا الحسبية وغيرها.

الثاني: أن لازم ورود التوقيع الشريف لبيان ولاية الفقيه ثبوتها للفقهاء في عرض ثلاثة من النواب الخاصين، وهو في غاية البعد، بل قد يقطع بعدمه. ولاسيما وأنه لم يتضح عموم نيابة النواب الخاصين للولاية العامة مع جلالتهم وبلوغهم المرتبة العالية في العلم والدين والورع والحكمة والرشد، ومع انحصار الأمر بكل واحد منهم في عصره. وذلك بمجموعه إن لم يوجب ظهور التوقيع الشريف في الرجوع في خصوص الفتوي فلا أقل من إجماله، لما سبق من عدم ذكر السؤال، ليتضح منه الغرض الداعي له، وسنخ الحوادث المسؤول عنها.

هذا وكلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام لا يخلو عن اضطراب، لأن الوجوه الثلاثة التي ذكرها تقتضي عدم إرادة الإرجاع في الفتوي وقصور التوقيع الشريف عنه، مع أنه ساقها البيان عدم اختصاصه به، بنحو قد يظهر في المفروغية عن عمومه له مع تقريب عمومه للولاية أيضاً. وهو - مع عدم مناسبته للوجوه المذكورة - راجع إلي ما سبق من دعوي عموم الحوادث لكل ما من شأنه الرجوع فيه للإمام، الذي سبق منّا الإشكال فيه، بل المنع منه.

الثالث: ما تضمن من النصوص الكثيرة أن العلماء ورثة الأنبياء، كصحيح عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلي الجنة... وإن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) (1) وغيره. بدعوي: أن إطلاق الوراثة يقتضي وراثة جميع شؤون الأنبياء ومناصبهم، ومنها الولاية، ولا يخرج عن ذلك إلا فيما قام الدليل علي عدم انتقاله، كالنبوة.

********

(1) الكافي ج: 1 ص: 34 باب ثواب العالم والمتعلم حديث: 1.

ص: 431

ودعوي: أن المراد بالعلماء هم الأئمة (عليهم السلام)، لأنهم العلماء الحقيقيون الذين أخذوا من الأنبياء ما عندهم، وللنصوص الكثيرة المتضمنة تفسير أهل الذكر بهم (1)(عليهم السلام)، ومثل صحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: يغدوا الناس علي ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء) (2) ، وغيره.

وهو المناسب لخبر أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (3) .

مدفوعة بأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وإن كانوا هم الفرد الأكمل، إلا أنه لا مجال لتخصيص الوراثة في هذه الأحاديث بهم بعد ورودها في بعض النصوص - ومنها ما تقدم - في مقام الحثّ علي طلب العلم.

وأما خبر أبي البختري فلا ظهور له في تخصيص الوراثة التي تضمنتها النصوص بهم (عليهم السلام)، بل لما كان موضوع الوراثة هو علم النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، دون غيره مما افتري عليه (صلي الله عليه وآله وسلّم) نبّه (عليه السلام) إلي أنه لابد من التوثق من كون العلم المأخوذ هو علم النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وذلك إنما يكون بأخذ العلم منهم (عليهم السلام)، لأنهم يعلمون الصحيح من الغش والصدق من الافتراء، ولا يرجع لغيرهم لئلا يختلط الأمر.

فالأولي في الجواب عن الاستدلال المذكور أن هذا المضمون لم يرد مجرداً عن بيان ما يورثه الأنبياء إلا في مرسلة عوالي اللآلي:

(قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده محمد: تفقه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء) (4) والظاهر أنها فقرة من وصية طويلة لأمير

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 18 باب: 7 من أبواب صفات القاضي، الكافي ج: 1 ص: 210-212.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 7 من أبواب صفات القاضي حديث: 18.

(3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.

(4) عوالي اللآلي ج: 4 ص: 60.

ص: 432

المؤمنين (عليه السلام) لولده محمد رواها الصدوق في باب النوادر من كتاب الفقيه، وفيها:

(وتفقه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر... ) (1) . وهو - كبقية النصوص المتضمنة لذلك، ومنها ما تقدم - صريح في أن الموروث منهم هو العلم دون غيره من مناصبهم وشؤونهم.

ولو فرض كونها رواية مستقلة أمكن الجواب عنها: أولاً: بأن النصوص المذكورة صالحة لبيان المراد من الموروث فيها.

وثانياً: بأن ظاهر الفقيه في المرسلة هو مطلق من له علم بأمور الدين، من دون خصوصية للعلم بالأحكام الشرعية الفرعية، كالعلم بالأمور العقائدية وبالأخلاق وآداب السلوك، وبالذكر والدعاء ونحوهما، وبتفسير القران المجيد... إلي غير ذلك، لظهور أن إطلاق الفقيه علي خصوص العالم بالأحكام الفرعية اصطلاح متأخر، فلا مجال لحمل النصوص عليه.

وحينئذٍ حيث لا إشكال ظاهراً في عدم ثبوت الولاية لغير المجتهد في الأحكام الفرعية العادل، يدور الأمر بين البناء علي حمل الميراث علي خصوص العلم مع عموم المراد من الفقيه لكل عالم، ويكون المراد أن كل عالم يرث من الأنبياء بمقدار ما يعلم من علمهم، أو تعميم الميراث لغير العلم، ومنه الولاية، مع حمل الفقيه علي خصوص المجتهد المذكور. ولا معين للثاني، لو لم يكن الأول أقرب. فلاحظ.

الرابع: موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم) (2) .

بدعوي: أن متعلق الاستئمان إما الأمة، فيدل علي وجوب رعايتهم لها في كل

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 4 ص: 277 باب: 176 من أبواب النوادر حديث: 10.

(2) الكافي ج: 1 ص: 46 باب المستأكل بعلمه حديث: 5.

ص: 433

ما تحتاج إليه، وذلك لا يكون إلا بالولاية عليها والسلطنة علي التصرف في كل ما تقضيه مصالحها، وإما جميع وظائف الأنبياء إزاء الأمة من تبليغها بالأحكام الشرعية ورعايتها في جميع شؤونها المالية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك، وذلك لا يكون إلا بثبوت الولاية لهم عليها.

وفيه أولاً: أن المنصرف من استئمان الرسل للفقهاء هو استئمانهم علي ما أرسلوا به، وهو الدين المتقوم بالعقائد والأحكام الفرعية. بل يكاد يكون ذلك صريحاً من الموثق بلحاظ ذيله، فإن التحذير علي الدين منهم عند اتباعهم للسلطان يناسب كون استئمانهم في الدين دون غيره.

وثانياً: أنه لو فرض كون متعلق الاستئمان هو الأمة نفسها فالمنصرف منه الاستئمان من حيثية حفظ دينها وإرشادها فيه، لأن ذلك هو المناسب لأخذ عنوان الفقهاء في الاستئمان، نظير ما لو قيل: الأطباء أمناء علي الناس، أو: العقلاء أمناء عليهم، حيث يفهم من الأول الاستئمان علي صحتهم في استعمال طبهم، ومن الثاني الاستئمان علي بيان صلاحهم في استعمال عقلهم.

ولو غض النظر عن ذلك فهو يقتضي لزوم رعاية مصالح الأمة في حدود قدرتهم الخارجية وصلاحيتهم الشرعية من دون أن ينهض بتحديد تلك الصلاحيات، فضلاً عن أن ينهض ببيان خصوص ولايتهم عليها.

نعم، إذا ورد الاستئمان في مقام الاستخلاف، بحيث يجعل الأمين بدلاً عن المستأمن يكون ظاهر الاستئمان قيام الأمين مقام المستأمن في جميع صلاحياته، ولا شاهد عليه في المقام، إذ مجرد الحكم بكونهم أمناء لا يستلزم ذلك.

وأما احتمال كون متعلق الاستئمان هو وظائف الأنبياء إزاء الأمة. فهو غريب جداً، فإن مبني الاستئمان علي الشيء هو حفظه، ولا معني لحفظ تلك الوظائف. وليس مبني الاستئمان علي الشيء هو انتقاله للأمين، ليمكن تعلقه بالوظائف المذكورة.

نعم، بعد فرض انتقال الوظائف المذكورة للشخص يصح وصفه عرفاً بالأمانة

ص: 434

والخيانة، بلحاظ قيامه بمقتضي وظيفته وعدمه، وهو أمر آخر غير كون مبني استئمانه علي الوظائف هو انتقالها له.

الخامس: قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) (1) . بدعوي: أن حذف وجه الشبه موجب لظهوره في عمومه لجميع شؤون الأنبياء ومناصبهم إلا ما استثني.

وفيه - مع ضعفه بالإرسال -: أنه لا مجال لظهور الإطلاق في عموم التشبيه بلحاظ جميع شؤون الأنبياء وخصائصهم التكوينية والتشريعية، للعلم بامتناع ذلك، كما يمتنع إرادة التشبيه من جميع الجهات في سائر موارد التشبيه، بل لابد من انصرافه إلي خصوص بعض الجهات، كحفظ الدين، أو التبليغ به، أو ما يترتب علي ذلك من الثواب، أو بعض المناصب القابلة للنقل كالولاية.

ولا مجال لإرادة التشبيه بلحاظ جميع ذلك، لأن التشبيه بلحاظ حفظ الدين والتبليغ به وترتب الثواب علي ذلك منتزع من أمر خارجي تكويني، فهو متمحض في الأخبار، والتشبيه بلحاظ المناصب المجعولة للأنبياء - كالولاية - منتزع من أمر تشريعي جعلي، فهو مسوق بداعي التشريع والجعل، ولا جامع بينهما عرفاً ومن ثم يتعين إرادة خصوص أحدهما، ولابد في تعيينه من قرينة. ومع عدمها يتعين إجمال وجه الشبه أو انصرافه لخصوص الأول، كما هو غير بعيد، لأنه المدرك لعامة الناس من خصائص العلماء، والمناسب لعنوان العلم عندهم.

هذا مع أن الاستدلال بالنصوص الثلاثة الأخيرة مبني علي ثبوت الولاية بالمعني المذكور لجميع الأنبياء والرسل (صلوات الله علي نبينا وآله وعليهم)، وهو غير ظاهر، والمتيقن منه ثبوتها لنبينا (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو ما يعمّ بعض الأنبياء الخاصين، لا لكل نبي.

السادس: ما رواه الصدوق في كتاب العيون بأسانيد ثلاثة عن الإمام الرضا (عليه السلام):

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 ص: 320 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 30.

ص: 435

(قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): اللهم ارحم خلفائي. ثلاث مرات. قيل:

يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال: الذين يأتون من بعدي، ويروون أحاديثي وسنتي، فيعلمونها الناس من بعدي) (1) . وعن المجالس ومعاني الأخبار روايته بسند آخر بألفاظ مقاربة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه (2)(صلي الله عليه وآله وسلّم)، وكذا روي عن صحيفة الإمام الرضا (3)(عليه السلام). وعن لب الألباب للقطب الراوندي عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(قال: رحمة الله علي خلفائي. قالوا: ومن خلفاؤك ؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله. ومن يحضره الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء درجة) (4) . وعن المجموع الرائق عنه (صلي الله عليه وآله وسلّم):

(أدلكم علي الخلفاء من أمتي ومن أصحابي ومن الأنبياء قبلي، هم حملة القرآن والأحاديث عني وعنهم... ) (5) . ومن ثم يقرب الركون لهذا المضمون.

وقد يستدل به لإثبات المدعي بتقريب: أن إطلاق الخلافة يقتضي ثبوت جميع مناصب النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بما فيها الولاية المطلقة. ولا أقل من خصوص الزعامة والرئاسة علي المسلمين، لأن المنصرف المعهود في أذهان المسلمين من مقام الخليفة ذلك، فيدل علي الولاية بالمقدار الذي تحتاج إليه الزعامة والرئاسة المذكورة.

لكنه كما تري، للإشكال فيه أولاً: بأن ظاهر أكثر هذه النصوص تفسير الخلفاء بالرواة وحملة القرآن المجيد والأحاديث الشريفة، دون الفقهاء الذين هم في محل الكلام المجتهدون، فيساوق قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في خطبته في مسجد الخيف: (نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه)(6).

نعم، ما تقدم عن القطب الراوندي في لبّ الألباب قد يظهر في إرادة الفقهاء الذين يصلون إلي الحكم الشرعي من طريق النص، لأن ذلك أنسب بإحياء السنة

********

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج: 2 ص: 36.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 50، 53.

(3) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 10، 48، 52.

(4) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 10، 48، 52.

(5) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 10، 48، 52.

(6) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 43. وقريب منه حديث: 44.

ص: 436

والإسلام. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يوجب الظهور في المجتهدين إشكال، لأن الراوي أيضاً يحيي الإسلام والسنة بحفظها وروايتها ونشرها بين الناس.

وأشكل من ذلك أن ينهض المرسل المذكور بالخروج عن ظهور بقية النصوص المتقدمة في إرادة نفس الراوي بما هو راوٍ. ولاسيما مع إرساله. بل عدم حجية كل واحد من هذه النصوص في نفسه، وغاية الأمر حجيتها بمجموعها بلحاظ تعاضدها الملزم بالاقتصار علي المضمون المتيقن من مجموعها، كما هو ظاهر.

ودعوي: أن ذلك لا يناسب التعليم الذي تضمنته النصوص الأول. مدفوعة بأن التعليم قد أضيف إلي السنة الشريفة، لا إلي الدين، والتعليم بالسنة إنما هو ببيانها لمن لم يعرفها. بل الفتوي ليست تعليماً بالسنة، بل برأي المفتي الذي قد يخالفها، وإن كان معذوراً في مخالفتها، ومعذّراً لمن يجوز له تقليده.

ومثلها دعوي: أن المراد بالسنة في هذه النصوص هي السنة الواقعية، دون الظاهرية والصورية. لاندفاعها بأن رواية الأحاديث تتضمن السنة الواقعية دون الصورية. غاية الأمر أن ظاهرها قد لا يطابق الواقع. نعم قد تكون السنة صورية لو تضمنت الرواية نقل كلام النبي من دون تنبيه لقرينة المجاز ونحوها مما يوجب تبدل ظهور الكلام، وهو خارج عن محل الكلام. أما الفتوي فهي لا تتضمن حكاية السنة، بل حكاية رأي المجتهد المتحصل من السنة المنقولة وغيرها من القرائن.

وأشكل من ذلك دعوي: أن مجرد نقل الحديث من دون فهمه ودرايته لا يوجب صلاحية الشخص لخلافة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم). لاندفاعها بأن المراد من الخلافة إن كانت هي الخلافة بلحاظ التبليغ فهي تثبت لراوي الحديث وإن لم يفهمه، فضلاً عما إذا فهمه ولم يستطع استنباط الحكم منه، لعدم استكماله الفحص عن الأدلة. وأما الخلافة بلحاظ الولاية ونحوها من مناصبه (صلي الله عليه وآله وسلّم) فلم يعلم بعد إرادتها من هذه الأحاديث، ليتعين حمل الرواة علي الفقهاء. بل قد يتعين من أجل أن موضوعها الرواة البناء علي عدم إرادتها، كما ذهب إليه غير واحد.

ص: 437

وثانياً: بأنه لو سلم كون المراد بالرواة للسنة من يصل للمراد منها بعد النظر في القرائن الخارجية والجمع بين النصوص، إلا أن ذلك لا يختص بالمجتهد في الأحكام الفرعية الذي هو محل الكلام، بل يعمّ كل من له معرفة بالسنة الواردة في سائر المعارف الدينية، نظير ما سبق في ذيل الحديث الثالث، فيدور الأمر بين تخصيص الخلافة بخصوص التبليغ حفاظاً علي عموم الرواة، وتخصيص الرواة بخصوص المجتهدين حفاظاً علي إطلاق الخلافة بنحو تشمل الولاية لو تم، ولا إشكال في ترجيح الأول، إذ لا يظن بأحد البناء علي قصور هذه النصوص عن مثل الرواة في العقائد وفي تفسير الكتاب المجيد وغيرهم.

وثالثاً: بأنه لا مجال للبناء علي إطلاق الخلافة بنحو تشمل الولاية مطلقاً أو في الجملة، لعدم ورود هذه الأحاديث لبيان خلافة هؤلاء له (صلي الله عليه وآله وسلّم)، ليدعي أن حذف المتعلق يقتضي إطلاق الخلافة وعمومها، بل كل ما تضمنته هو الدعاء لهم بعد فرض خلافتهم من دون تحديد لجهة خلافتهم، فالإطلاق ليس وارداً في مقام البيان من هذه الجهة.

السابع: ما عن الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) - وربما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) - قال:

(وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون. ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام علي أيدي العلماء بالله الأمناء علي حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة... ) (1) .

فإنه صريح في أن الحكم وجريان الأمور إنما يكون بيد العلماء وإذا كان جريان الأمور بأيديهم فلابد من ولايتهم بنحو تقدم علي ولاية كل فرد علي نفسه، لعدم جريان الأمور إلا بذلك، وهو عبارة أخري عن كون العالم أولي بالمسلمين من أنفسهم، الذي إليه ترجع الولاية العامة التي هي محل الكلام.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 16.

ص: 438

وفيه أولاً: أنه ضعيف بالإرسال. ومجرد كون المرسِل له صاحب تحف العقول الذي هو من أجلاء علمائنا، لا يكفي في جبره. ولا أقل من أنه لا دافع لاحتمال التصحيف المخل بالمعني فيه من الوسائط المجهولة. ولاسيما وأن الناظر فيه يكاد يقطع بذلك فيه في الجملة.

وثانياً: أنه لا ظهور له في إرادة الفقهاء المجتهدين في الأحكام الفرعية، بل العلماء بالله الأمناء علي حلاله وحرامه، ومن القريب جداً كون المراد بهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ولاسيما مع التبكيت فيه للمخاطبين، لحرمانهم من ذلك بسبب تفرقهم واختلافهم بعد البينة، بل يكاد يقطع بذلك بعد النظر في تمام الخطبة الموجودة في باب ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) من تحف العقول. ومن هنا فهو خارج عن محل الكلام.

الثامن: معتبر علي بن أبي حمزة: (سمعت أبا الحسن موسي بن جعفر (عليه السلام) يقول:

(إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها) (1) .

بتقريب أن الإسلام مركب من الأحكام الشرعية والكيان الإسلامي، وإذا كان الفقهاء حفظة الإسلام، فهم حفظة الأحكام بتصديهم للفتوي، وحفظة الكيان الإسلامي بتصديهم لرئاسته، المستلزمة للولاية علي أفراده.

وفيه: أولاً: أن الحديث لا يخلو عن اضطراب، لأن موضوعه مطلق المؤمن، والتعليل فيه يختص بالفقيه. ولعل ذلك يناسب حمل الفقيه فيه علي الذي يفهم ما يعرض له، نظير ما تقدم في خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مسجد الخيف، ليقرب من الإطلاق. وكيف كان فلا مجال لحمل الفقيه فيه علي خصوص المجتهد بالأحكام الفرعية، لما سبق من أنه معني مستحدث، ولعدم مناسبته للإطلاق جداً.

وثانياً: أن كون الفقهاء حصون الإسلام وحفظته لا يتوقف علي ثبوت الولاية

-

********

(1) الكافي ج: 1 ص: 38 باب فقد العلماء حديث: 3.

ص: 439

لهم، بل قد يكون المراد أنهم حافظون له بمعرفتهم بدينهم وثباتهم عليه وتسليمه لمن بعدهم جيلاً بعد جيل.

التاسع: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن أولي الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به (إن أولي الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا). إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصي الله وإن قربت قرابته)(1).

وفيه أولاً: أنه لو كان وارداً لبيان الولاية التي هي محل الكلام فهو ظاهر في ولاية الأعلم، وهو ظاهر في الأعلم بنحو الإطلاق، وهم الأئمة (صلوات الله عليهم) دون الأعلم من المجتهدين.

وثانياً: أن محل الكلام هو ولاية الحاكم الشرعي الذي هو المجتهد العادل، وإن لم يكن أعلم، بل لا يظهر منهم القول باختصاص الولاية بالأعلم.

وثالثاً: أن من القريب حصول التصحيف فيه، وأن الصحيح: أعملهم بما جاؤوا به، لمناسبته للاستشهاد بالآية الكريمة ولآخر كلامه (عليه السلام)، كما نبّه لذلك ابن أبي الحديد، وهو المنقول عن بعض نسخ مجمع البيان في حكايته لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عند تفسير الآية الكريمة. أما المتن المثبت في نهج البلاغة فلا ينسجم مع ذلك إلا بتكلف ذكره كمال الدين البحراني في شرحه الوسيط للنهج.

هذا مضافاً إلي أن مقتضي هذه الأحاديث السبعة الأخيرة - لو تمت دلالتها علي الولاية العامة - أن ولاية الفقيه في عرض ولاية الأئمة (صلوات الله عليهم)، لا في طول ولايتهم ومتفرعة عليها بجعل منهم (عليهم السلام)، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك. بل هو مخالف لظاهر ما ورد في ولاية الأئمة (عليهم السلام)، كحديث الغدير، لظهوره في اختصاصهم بهذه المناصب بأشخاصهم، وأنها تنتقل من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لهم ومن بعضهم لبعض بالنص الخاص. بل يعلم بعدم تصدي أحد لذلك غيرهم وعدم دعواه إلا لهم.

ومن الغريب ما قد يدعي من أنه لا مانع من البناء علي ولاية الفقيه في عرض

********

(1) نهج البلاغة ج: 4 ص: 21.

ص: 440

ولاية الأئمة (عليهم السلام). غاية الأمر أن خلافة الإمام أوسع من ولاية الفقيه، فهو ولي حتي علي الفقيه، أما الفقيه فلا يكون ولياً علي الإمام، كما أن للإمام عزل الفقيه ونصبه، وليس للفقيه ولاية علي الفقهاء الآخرين. وولاية الإمام باقية بعد وفاته، ولذا تبقي الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) حجة بعد وفاتهم كروايات النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، بخلاف فتوي الفقيه، حيث تسقط عن الحجية، إلا بناءً علي جواز البقاء علي تقليد الميت الذي هو محل الكلام.

إذ فيه أولاً: أنه لا أثر لذلك في الواقع الإسلامي، ولذا لم يدّعِ الولاية المذكورة أحد ولم تدّع لأحد غير الأئمة (عليهم السلام)، وحتي خلفاء الجور لم يدّعوها ولم تدّع لهم في الجملة إلا بالبيعة، مع أن دعواهم الفقه في الدين من أجل ثبوت ولايتهم شرعاً أولي بهم وأيسر عليهم. وحينما أنكر عليهم أهل الحق لم يكن إنكارهم من طريق إنكار فقههم، أو دعوي عزل إمام الحق لهم.

بل هو لا يناسب مثل مقبولة ابن حنظلة ومعتبري أبي خديجة المتضمنة لجعل الفقيه حاكماً وقاضياً، فإنها كالصريحة في عدم ثبوت منصب القضاء - الذي هو شؤون رئاسة المسلمين - له لولا جعلهم (عليهم السلام)، مع أنه لو كانت الولاية ثابتة له بالأصل لكفي عدم عزلهم (عليهم السلام) له.

وثانياً: أن الفرق بين الولايتين يحتاج إلي دليل بعد مشابهة لسان دليل ولاية الفقيه لو تم لولاية الأئمة (عليهم السلام). وحجية أخبار الأئمة (عليهم السلام) بعد وفاتهم ليس لولايتهم، بل لعصمتهم، بخلاف فتوي المجتهد بعد موته فإن حجيتها قابلة للتقييد بالحياة.

والحاصل: أن عدم ثبوت الولاية العامة لغير الأئمة (صلوات الله عليهم) في عرضهم أظهر من أن يحتاج إلي إطالة الكلام فيه.

العاشر: ما تضمن من النصوص كفالة العلماء لأيتام الشيعة عند انقطاعهم عن إمامهم، بدعوي: أن الكفالة تبتني علي الولاية علي المكفول.

وفيه: أن النصوص المذكورة - مع ضعفها في نفسها، وأن الفقيه فيها أعمّ

ص: 441

من المجتهد بالأحكام الفرعية كما سبق - صريحة في أن كفالة العلماء لهؤلاء الأيتام بتعليمهم إياهم، فعن الإمام الحسن (عليه السلام):

(فضل كافل يتيم آل محمد) المنقطع عن مواليه الناشب [التائه] في رتبة الجهل، يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه، علي فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس علي السهي)(1) ونحوه غيره.

هذا ما تيسّر لنا الكلام فيه من النصوص التي قد يستدل بها علي الولاية العامة. ووضوح ضعف الاستدلال بكثير منها يغني عن التعرض له لولا اهتمام غير واحد من الأعيان بها واستدلالهم به عليها أو علي الولاية الخاصة. وكأن مفروغيتهم عن الحاجة لجعل الولي، بحيث لا يمكن إغفال الأئمة (صلوات الله عليهم) له كان له الأثر في استيضاح دلالتها.

قال النراقي في محكي العوائد بعد أن سرد مضامين أكثر النصوص المتقدمة في مقام الاستدلال بها علي الولاية العامة: (فإن من البديهيات التي يفهمها كل عامي وعالم، ويحكم بها، بأنه إذا قال نبي لأحد عند سفره أو وفاته: فلان وارثي، ومثلي، وبمنزلتي، وخليفتي، وأميني، وحجتي، والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري أموركم وأحكامكم، وهو الكافي لرعيتي، له كل ما كان لذلك في أمور الرعية وما يتعلق بأمته، بحيث لا يشك فيه أحد، ويتبادر منه ذلك...).

وهو كما تري، فإن مقام الكلام الذي فرضه - وهو السفر أو الموت اللذين من شأنهما الحاجة للاستخلاف - معين علي فهم الاستخلاف الملازم للولاية العامة من هذه المضامين. بل قد يفهم مما دونها وضوحاً.

علي أنه قد غفل أو أغفل القرائن والشواهد الصارفة للنصوص عما فهمه منها، والمانعة من الاستدلال بها، كما يظهر مما سبق.

ولعله لذا سبق عن المحقق الكركي في رسالته قاطعة اللجاج الشك في عموم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 23.

ص: 442

نيابة الحاكم الشرعي عن الامام (عليه السلام)، وقال في تعقيب احتمال ثبوت عموم ولاية الحاكم: (لم أقف بعد التتبع للأخبار علي شيء من هذه العمومات والإطلاقات، لا في النكاح، ولا في المال، وإن كان مشهوراً في كلامهم ومسلماً بينهم... وليس هنا مما ربما يتوهم منه ذلك إلا الروايات الدالة علي الترافع إلي الحاكم الشرعي... وغاية ما تدلّ عليه الترافع إليه في الحكم والفتوي، وأنه منصوب من قبلهم (عليهم السلام) لذلك، لا بالنسبة إلي الولاية... وبالجملة: فإن عدّ الحاكم الشرعي في جملة الأولياء كما ذكروا وإن كان مسلماً بينهم ومتفقاً عليه عندهم، إلا أنه خالٍ عن الدليل من الأخبار...).

هذا مضافاً إلي أمرين:

الأول: أن مثل هذا الأمر الخطير لابد أن يشرع بنحو لا يكون مثاراً للخلاف والشقاق والتشاح، خصوصاً مع طول المدة والانقطاع المطلق عن الامام (عليه السلام)، وذلك بوضوح الأدلة وجلائها، بحيث لا تقبل الإنكار: أولاً: في أصل جعل الولاية. وثانياً: في تحديد موضوعها - وهو الفقيه - كبروياً بحدود دقيقة مضبوطة. وثالثاً: في طرق إحراز الموضوع المذكور صغروياً. ورابعاً: في تحديد الوظيفة كبروياً عند تعدد الفقهاء وحصول الخلاف أو التشاح بينهم. بل وكذا صغروياً، بأن لا يكون التشخيص قابلاً للاجتهاد والخلاف.

ومع الإخلال بشيء من ذلك لا يتأدي الغرض من جعل الولاية، وهي طاعة الولي وتنفيذ تصرفه، بل تترتب مضاعفات خطيرة وإفرازات مأساوية لا تناسب كمال التشريع الإسلامي القويم. بل قد تجر بالآخرة إلي الخدش بقدسية الدين الحق، وزعزعة العقيدة به والولاء لرموزه.

الثاني: أن هذا الأمر لا يناسب غير المعصومين (عليهم السلام)، حيث يؤمن الخطأ في حقهم، فلا يكون تسليطهم سبباً لتلف النفوس والأموال بغير الحق وانتهاك الأعراض والحرمات. ولاسيما باستمرار الزمان، وتعاقب الأحداث، وتعوّد الخروج تدريجاً عن حرفية النص.

ص: 443

بل أدني تأمل في أدلة الولاية الثابتة للأئمة (صلوات الله عليهم) يشهد بمساوقتها للإمامة، فأدلة اعتبار العصمة في الإمامة تكفي في منع الولاية المطلقة لغير المعصوم.

هذا وقد يدعي أن طول عهد الغيبة الكبري في علم الله تعالي، وتبدل الأوضاع العامة والخاصة فيها، وما نتج وينتج عن ذلك من تفاعلات ومشاكل يتعذر حلّها والخروج منها بالاقتصار علي ما تقتضيه القاعدة من بقاء الأحكام الأولية، وفعلية سلطنة كل شخص علي نفسه وماله، كل ذلك بمجموعه كاشف عقلاً عن جعل الشارع الأقدس الولاية لبعض الناس من أجل حلّ تلك المشاكل والخروج عنها، مع بذل الجهد في مراعاة الاولويات والمرجحات بما يتناسب مع صلاح الدين والمؤمنين، وحيث لا يحتمل ولاية غير الحاكم الشرعي، تعين كونه هو الولي المجعول شرعاً.

لكن من الظاهر أن ذلك لا يخفي علي الشارع الأقدس، وكان باستطاعته جعل ذلك علي إطلاقه أو تقييده ببعض القيود التي يراها أدفع للمحاذير، ثم بيانه بوجه ظاهر لا لبس فيه، وحيث لم يظهر منه ذلك فلعله يعلم أن المفاسد المترتبة علي جعل ذلك، وتعهد الشارع به وتحمله مسؤوليته، أهم من محذور ترك الناس وما يختارونه لأنفسهم من حلّ يتحملون مسؤوليته بأنفسهم، بعد أن أدي هو وظيفته في حقهم علي أفضل وجه بجعل الولاية للمعصوم، وكان حرمانهم من خيره من قبلهم، لتقصيرهم في أداء وظيفتهم في حقه.

وأشكل من ذلك ما قد يدعي من أنه من المعلوم اهتمام الشارع الأقدس بالكيان الإسلامي العام، وبإعلان كلمة الحق في الأرض، وبتطبيق الإسلام بنظمه ومفرداته. فإن ذلك كاشف عن جعل الولاية في غيبة الإمام (عجّل الله تعالي فرجه) المتمادية من أجل القيام بذلك بعد أن تعذر قيام الامام (عليه السلام) به، لما ابتلي به من موانع ظهوره وتوليه ذلك بنفسه. وحيث لا يحتمل ولاية غير الحاكم الشرعي تعين كونه هو الولي المجعول شرعاً.

ص: 444

(445)

لاندفاعه أولاً: بأن ذلك إنما يقتضي ولاية الحاكم عند تهيؤ الظرف المناسب للقيام بذلك من دون أن ينهض بإثبات ولايته مطلقاً حتي مع عدم تهيؤ ذلك، كما هو المدعي للقائلين بالولاية.

وثانياً: بأنه بعد العلم بعدم تطبيق الإسلام التام، ولو لعدم كون المباشر لذلك هو المنصوص عليه المعصوم، فلا طريق لنا للعلم باهتمام الشارع الأقدس بتطبيق ما يمكن تطبيقه حسب اختلاف الظروف والأشخاص، بحيث يتعهد الشارع بذلك ويتحمل مسؤوليته، إذ لعلّ السلبيات المترتبة علي ذلك أهم بنظره الشريف من إيجابياته.

بل لعلّ بقاء دعوة الدين في موقع المعارضة والتصدي لسلبيات الأنظمة القائمة وفضحها، ومحاسبة القائمين بها، خير من تحملها المسؤولية المباشرة بعد الانحراف الذي حصل في مسيرة الدعوة الحقة.

هذا كله بغضّ النظر عن النصوص الواردة في هذا المقام، حيث لا يسعنا استطرادها والنظر في مفادها. وإن كان يحسن بكل أحد يهتم بالحقيقة أن يكون قريباً منها.

نعم، قد يكون هذان الوجهان، مع حصول المشاكل فعلاً، واحتكاك بعض الناس بها، سبباً لحصول القطع للحاكم الشرعي، أو لخصوص من يقلده من الناس ويرجعون إليه في أمورهم بجعل الولاية بوجه عام أو جزئي، حسب اختلاف الأشخاص والموارد. وقد يكون معذوراً في ذلك، بل قد يمضي الشارع الأقدس حينئذٍ تصرفه لو صادف الواقع.

لكن الشخص المذكور هو الذي يتحمل وحده تبعة قطعه والسلبيات الحاصلة من خطئه لو كان، من دون أن يتحمل الشارع الأقدس شيئاً من ذلك، لتنعكس آثاره ومضاعفاته علي دينه العظيم وتشريعه القويم وعقائده الحقة. والله سبحانه العالم العاصم.

المقام الثاني: في الولاية الخاصة الراجعة إلي كون الحاكم الشرعي ولي من لا ولي له وما لا ولي له في مورد الحاجة للولي. وظاهر كثير من الأصحاب البناء علي

ص: 445

ذلك، حيث صرّحوا بولاية الحاكم في كثير من موارده وصغرياته، كاليتيم والمجنون والأوقاف التي لا ولي لها ومجهول المالك وغيرها، ويظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن ذلك. بل ادعي الإجماع عليه صريحاً في بعض الموارد. وقد سبق من الحدائق ما يناسب ذلك. وقد يفهم من مساق كلماتهم عدم الخصوصية لتلك الموارد في ذلك، وأن الحكم فيها بالرجوع للحاكم لعدم وجود الولي الخاص.

وكيف كان فقد يستدل علي ذلك بأمرين:

الأول: الإجماع المستفاد من كلماتهم، كما سبق.

وفيه أولاً: أنه لم يتضح حصول الإجماع في المقام، لعدم تعرض بعض القدماء للمسألة، ومن تعرض لها وإن عبّر بالحاكم، إلا أنه لم يتضح كون المراد به في كلمات القدماء هو المجتهد العادل، لأن إطلاق الحاكم عليه اصطلاح متأخر، بل من القريب أن يكون مرادهم به هو حاكم المسلمين، وهو الإمام.

ففي المبسوط في فصل تصرف الولي في مال اليتيم قال:

(من ولي مال اليتيم جاز له أن يتجر فيه للصبي نظراً له، سواءً كان أباً أو جدّاً أو وصياً أو حاكماً أو أميناً لحاكم) ، وفي كتاب الرهن قال:

(من يلي أمر الصغير والمجنون خمسة: الأب والجد ووصي الأب والجد والإمام أو من يأمره الإمام) .

وفي النهاية في باب الوكالات قال

:(وللناظر في أمور المسلمين وحاكمهم أن يوكل علي سفهائهم ونواقصي عقولهم من يطالب بحقوقهم ويحتج عنهم ولهم) . وفي باب أقسام الطلاق وشرائطه قال:

(فإن طلق الرجل امرأته وهو زائل العقل بالسكر أو الجنون أو المرة أو ما أشبهها كان طلاقه غير واقع. فإن احتاج من هذه صورته - إلا السكران - إلي الطلاق طلق عنه وليه، فإن لم يكن له ولي طلق عنه الإمام أو من نصبه الإمام) . وربما يوجد ما يناسب ذلك في كلمات أخر لهم تظهر للمتتبع لا يسعنا استقصاؤها.

وثانياً: أنه تكرر منّا أنه لا مجال للتعويل علي الإجماع في المسائل الخالية من

ص: 446

النصوص، ولم تحرز فيها سيرة تطابقها، حيث لا مجال حينئذٍ لمعرفة رأي علماء الطائفة في العهود السابقة علي تدوين المسائل - ممن كان يقتصر في بيان الفتوي علي ذكر الرواية - متصلاً بعصور الأئمة، ليعرف بذلك حكمهم (عليهم السلام). ومجرد ظهور القول بذلك بعد الغيبة، عندما بدؤوا بتحرير المسائل مجردة عن النصوص وتبويبها، لا يكفي في الكشف عن رأي الأئمة (صلوات الله عليهم).

ولاسيما مع احتمال استنادهم في ذلك إلي ما يأتي من الوجه، أو إلي بعض النصوص المتقدمة ولو بعد تتميم دلالتها ببعض الوجوه الاعتبارية، أو بلحاظ أولوية الحاكم من غيره بعد فرض الحاجة للولي... إلي غير ذلك مما يجب النظر فيه والبحث عن نهوضه بالاستدلال.

الثاني: النبوي: (السلطان ولي من لا ولي له)، بضميمة المفروغية عن قيام الحاكم مقامه.

وفيه أولاً: أن النبوي المذكور لم يذكره أصحابنا إلا مرسلاً في بعض كتبهم(1) ، والظاهر أن أصله من العامة، حيث رووه مسنداً في أصولهم(2). فلا مجال للتعويل عليه. نعم لا ريب في ثبوت هذه الولاية للإمام، لكن في ضمن الولاية العامة، فلو ثبتت نيابة الحاكم عنه لم تقتصر ولايته علي ذلك.

وثانياً: أن قيام الحاكم مقام السلطان في ذلك يحتاج إلي دليل. وقيامه مقام الإمام إن رجع إلي عموم نيابته عنه فقد عرفت المنع من ذلك، وإن رجع إلي نيابته في خصوص هذه الولاية فهي تحتاج إلي دليل.

ومن ثم قد يستدل عليها: تارة: بالتوقيع الشريف بناءً علي كون الإرجاع فيه بلحاظ الولاية، لكن بعد تخصيصها بخصوص ما يحتاج فيه للولي مع فقده، لأنه

********

(1) المسالك ج: 7 ص: 147، وعوائد الأيام ص: 563 ذيل العائدة 54، والجواهر ج: 29 ص: 188.

(2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 463 باب: 20 حديث: 2083. سنن الترمذي ج: 2 ص: 281 باب: 14 حديث: 1108. سنن البيهقي ج: 7 ص: 105 باب: لا نكاح إلا بولي.

ص: 447

مورد الحاجة والتحير الموجب للسؤال، دون ما له ولي فعلاً أو لا يحتاج فيه للولي أصلاً، لعدم كونه مورداً للتحير، بعد وضوح الوظيفة فيه. ومجرد كونه مورداً لولاية الامام (عليه السلام) العامة لا قرينة علي كونه مورداً للسؤال. ولا أقل من خروجه عن القدر المتيقن من مورده.

ويظهر اندفاع الاستدلال المذكور مما سبق من عدم القرينة علي النظر في التوقيع الشريف للولاية لو لم يكن ظاهراً في خصوص الإرجاع في الفتوي.

مضافاً إلي أنه لا مجال لحمله علي الولاية الخاصة، لأن الالتفات لتقسيم الولاية بهذا التقسيم حصل متأخراً، والتوجه للولاية إنما يكون باعتبارها منصباً للإمام (عليه السلام) يحتاج لمن يقوم مقامه فيه عند تعذر الوصول إليه، وذلك يقتضي إرادة المنصب بسعته. ولاسيما وأن الحاجة للولي كما تكون عند فقد الولي حيث يحتاج لمن يقوم مقامه، كذلك تكون عند وجود الولي إذا كان الرجوع إليه لا يفي بحلّ المشكلة القائمة، لامتناعه من حلّها تمسكاً بسلطنته، حيث يحتاج في حلّها للولي العام الذي يكون مقدماً عليه، لأنه أولي به من نفسه.

نعم، لو ثبت شيوع ابتلاء الشيعة بالحاجة لخصوص بعض أقسام الولاية، بحيث يحتمل انصراف السؤال إليه، اتجه الاقتصار عليها، لأنها المتيقن بعد عدم التعرض للسؤال في التوقيع الشريف، ليتيسر فهم الإطلاق منه. لكن لا طريق لإثبات ذلك.

وأخري: بالحديث السابع المتقدم المتضمن أن مجاري الأمور بيد العلماء، بناءً علي حمل العلماء فيه علي الفقهاء والمجتهدين، بتقريب ظهوره في حصر مجاري الأمور بهم، وذلك لا يتم فيما له ولي يمكن الوصول له فعلاً، أو لا يحتاج فيه للولي، وإن دخل تحت ولاية الإمام العامة، وإنما ينحصر فيما يحتاج للولي ولا ولي له، أو له ولي يتعذر الوصول إليه.

ويظهر اندفاعه مما سبق من ظهور الحديث المذكور في أن المراد بالعلماء هم

ص: 448

الأئمة (صلوات الله عليهم). مضافاً إلي أن ظهوره في الحصر وإن كان مسلماً، إلا أن الظاهر من الأمور فيه ما هو من شؤون الرئاسة المبنية علي الولاية العامة. ولذا كان ظهوره في إرادة الأئمة (عليهم السلام) راجعاً لظهوره في بيان رئاستهم وولايتهم المساوقة لإمامتهم (عليهم السلام)، والرجوع إليهم فيما يحتاج للولي مع فقده أو تعذر الوصول إليه إنما هو لأنه من موارد الرجوع للولي العام، لا لأنه وحده المراد بالحديث المذكور.

ومثل ذلك في الإشكال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من منع ثبوت الولاية العامة للحاكم، ثم الاستدلال علي ثبوت الولاية الإذنية - التي تقدم احتمال رجوعها للولاية الخاصة التي هي محل الكلام - له بالحديث السابع المذكور، وبالتوقيع الشريف بعد حمل الحوادث فيه علي الحوادث التي يرجع فيها للرئيس وبالمقبولة بعد حمل الحاكم فيها علي الحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه، كما تقدم منه (قدس سره) عند الاستدلال بها علي ثبوت الولاية العامة للحاكم الشرعي.

للإشكال فيه بأن الرئيس والحكام المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه لا يستطيعون أداء مهماتهم التي تناط بهم كاملاً إلا بإعمال الولاية العامة في موارد الحاجة إليها لحفظ النظام ورعاية مصالح العباد والبلاد، كفتح الطرق، وحشر الناس للأعمال الجَماعية، وتحديد تحرك أهل الريبة وغير ذلك مما تفرضه الأحداث المستجدة، فلو تم تقريب دلالة التوقيع والمقبولة علي ما ذكره تعين دلالتهما علي الولاية العامة، كما هو الظاهر من الحديث السابع، علي ما تقدم.

وكذا ما ذكره (قدس سره) من أنه لابد من تخصيص ولاية الحاكم بالتصرف الذي يكون مفروغاً عن مشروعيته في الخارج، بحيث لو فرض عدم وجود الحاكم كان علي الناس القيام به كفاية. قال (قدس سره): (وأما ما يشك في مشروعيته - كالحدود لغير الإمام، وتزويج الصغيرة لغير الأب والجد، وولاية العاملة علي مال الغائب بالعقد عليه، وفسخ العقد عنه، وغير ذلك - فلا يثبت من تلك الأدلة مشروعيتها للفقيه، بل لابد للفقيه من استنباط مشروعيتها من دليل آخر. نعم الولاية علي هذه الأمور

ص: 449

وغيرها ثابتة للإمام (عليه السلام) بالأدلة المتقدمة المختصة به، مثل آية: (أولي بالمؤمنين من أنفسهم).

إذ فيه: أنه بعد تمامية موضوع هذه الأمور، ولذا يكون للإمام الولاية عليها، وإنما يشك في مشروعية قيام الحاكم بها للشك في ولايته، فمقتضي النصوص المذكورة بناءً علي تمامية وجه استدلاله بها للولاية جواز قيام الحاكم بها، لدخولها في عموم مجاري الأمور في الحديث السابع، وعموم الحوادث في التوقيع الشريف، ووضوح أن وظيفة الحكام والولاة المنصوبين من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) ومن قام مقامه من بعده تعم إقامة الحدود فتنهض المقبولة بإثباتها للحاكم بناءً علي ما ذكره (قدس سره) في وجه الاستدلال بها.

نعم، قد تقصر وظيفتهم عن الأمور الخاصة، كتزويج الصغيرة والتصرف في مال الغائب. وإن لم يبعد الرجوع إليهم فيها عند الضرورة العرفية الملزمة بإيقاع التصرف. علي أنه يكفي فيها عموم الأولين.

الثالث: ما تضمن الحث علي المعروف(1) وعلي البر بالمؤمنين(2) ونفع الناس(3) ونحو ذلك، بدعوي: أن تولي الحاكم أمر من لا ولي له وقيامه بإدارة شؤونه من أظهر مصاديق المعروف والبر بالمؤمنين ونفع الناس ونحوها من العناوين الراجحة شرعاً.

وفيه - مع أن ذلك لا يختص بالحاكم -: أن صدق الأمور المذكورة فرع السلطنة عليها بثبوت الولاية شرعاً، فلا ينهض بإثبات الولاية، لوضوح أنه مع عدم الولاية يكون التصرف الخارجي في النفس والمال المحترمين محرماً شرعاً، فلا يكون معروفاً، كما يخرج عن عموم حسن البر والنفع ونحوهما، لوضوح أن ما هو المطلوب للشارع البر النفع ونحوهما بالوجه الحلال. كما أن التصرف الاعتباري مع عدم الولاية لا ينفذ ولا يتحقق به المعروف والبر والنفع ونحوها.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 41 من أبواب الصدقة، وج: 11 باب: 1 من أبواب فعل المعروف وغيرهما.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 50 من أبواب الصدقة، وج: 11 باب: 32 من أبواب فعل المعروف.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 22 من أبواب فعل المعروف.

ص: 450

ولذا لا ريب في قصور الأدلة المذكورة عن التصرف في نفس الكبير الرشيد وماله من دون إذنه مع إمكان الوصول إليه حتي لو كان التصرف صلاحاً بنظر المتصرف، مع أنه يشترك مع القاصر في دليل المنع، وهو عموم عدم حلّ التصرف الخارجي تكليفاً والاعتباري وضعاً في مال الغير ونفسه بغير إذنه.

نعم، لو لم يلزم التصرف الخارجي ولا الاعتباري فلا إشكال في حسن ما يصدق عليه المعروف والبر والنفع ونحوها، كحراسة المال، ودفع كيد الباغي والحاسد ونحوهما.

ومن هنا يصعب إثبات عموم الولاية الخاصة التي هي محل الكلام للحاكم الشرعي.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن ما تضمنه معتبرا أبي خديجة المتقدمان من جعل الفقيه قاضياً يقتضي توليه لجميع ما يتولاه القضاة في عصر صدورهما، مثل أخذ الحق من المماطل وحبسه وبيع ماله، والتصرف في مال القصير، ونصب القيم عليه ونحو ذلك، فتكون ولاية الحاكم تابعة سعة وضيقاً لوظائف القضاة. ويجري ذلك في المقبولة بناءً علي ما سبق من حمل الحاكم فيها علي القاضي.

ولكن ما ذكره إنما يتجه إذا ثبت أن تولي الأمور المذكورة من الوظائف الشرعية للقاضي، وهو غير ثابت، لعدم تعرض الأدلة لشرح مناصب القاضي، والمناسب لمعناه اختصاصه بفصل الخصومة. وتولي القضاة المنصوبين من قبل سلاطين العدل أو الجور لتلك الأمور - لو تم - ربما يبتني علي إيكال ذلك إليهم زائداً علي منصب القضاء، لا لكونه من شؤون منصب القضاء. كما قد يكون الرجوع إليهم في مثل أخذ الحق من المماطل وحبسه لمجرد تشخيص موضوع الاستحقاق الذي هو من شؤون فصل الخصومة، مع كون المتولي لذلك والمنصوب له هو الهيئة التنفيذية في الدولة.

وأما ما ذكره (قدس سره) من استفادة العموم لهذه الأمور من النصوص المتقدمة، بلحاظ أن نصبه لو كان مختصاً بفصل الخصومة لكفي مثل قوله (عليه السلام):

(اجعلوا بينكم

ص: 451

رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا... ) ، ولم يحتج لمثل قوله (عليه السلام):

(فإني قد جعلته عليكم قاضياً) الظاهر في سوقه تعليلاً بالكبري التي هي أعم من الحكم المعلل.

فيندفع بأنه يكفي في كبروية التعليل كونه مشيراً إلي كبري نفوذ جعلهم أو نصبهم (عليهم السلام)، نظير ما تقدم عند الاستدلال بالمقبولة علي الولاية العامة. فراجع.

ومثله دعوي: أن الغرض من نصب القاضي لما كان هو استغناء الشيعة عن قضاة الجور فهو يقتضي جعل جميع مناصبهم التي يحتاج فيها إليهم للفقيه، دون خصوص فصل الخصومة.

لاندفاعها بأن المتيقن من الغرض المذكور هو استغناؤهم عن قضاة الجور في فصل الخصومة، لأن ذلك هو الذي تضمنته النصوص المذكورة. ولا قرينة علي عموم الغرض لجميع المهام التي كانوا يقوم بها القضاء المذكورون. ولاسيما مع احتمال احتياج بعض تلك المناصب بنظرهم (عليهم السلام) إلي كفاءة زائدة علي العلم والعدالة المعتبرين في القاضي. ومع أن ترتب فائدة بعض تلك المناصب - كحبس الممتنع من أداء الحق - موقوف علي تمتع صاحبه بقوة تجعله قادراً علي تنفيذ مقتضي النصب، وهو أمر غير متحقق نوعاً في عصر صدور الأحاديث المذكورة. ولو تحقق نادراً فقد يكون ظهور القيام به من الشيعة مضراً بهم، بل خطراً عليهم وعلي الأئمة (صلوات الله عليهم). ولعله لذا أكد في المقبولة علي أهمية تنفيذ الحكم وشدة جريمة ردّه دينياً، بنحو يناسب الاتكال في التنفيذ علي الحافز الديني وحده، ومع ذلك كيف يحرز عموم الغرض من نصب القضاة لاستغناء الشيعة عن قضاة الجور في جميع مناصب وظائفهم التي كانوا يقومون بها؟!. وقد تقدم عند الكلام في نفوذ حكم الحاكم بالهلال من كتاب الصوم من هذا الشرح ما ينفع في المقام. فراجع.

والحاصل: أنه لا مجال لاستفادة ولاية الحاكم علي غير فصل الخصومة من هذه النصوص. كما لا مجال لاستفادة ولايته من بقية النصوص المستدل بها في المقام، ولا من غيرها من الأدلة التعبدية كالإجماع المدعي.

ص: 452

ومن هنا يتعين الرجوع لما تقتضيه القاعدة. فإن كان هناك دليل أو أصل يقتضي جواز التصرف أو نفوذه من كل أحد لم يجب مراجعة الحاكم، كما قربناه فيما سبق بالإضافة إلي اليتيم في الجملة. وقد ذكرنا هناك أنه لا مجال للخروج عن الدليل المذكور بنصوص جعل الفقيه قاضياً حتي لو فرض نهوضها بإثبات جميع مناصب القضاة له وثبت توليهم للتصرف المذكور.

وإن لم يكن هناك دليل ولا أصل يقتضي جواز التصرف المذكور لكل أحد، فإن احتمل عدم رضا الشارع بإيقاع التصرف أصلاً تعين امتناع الحاكم منه - كغيره - بعد ما سبق من عدم الدليل علي ولايته. وإن علم برضا الشارع الأقدس بالتصرف أو لزومه في الجملة بلحاظ ما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة، فحيث لا دليل ولا أصل يقتضي جواز التصرف لكل أحد، يتعين الاقتصار فيه علي الحاكم، فيباشره بنفسه أو يأذن فيه لغيره، لأن ولايته وإن لم تثبت، إلا أنه لا دافع لاحتمالها، ولو في خصوص هذا الحال. ولاسيما بعد ظهور معروفية القول بها في الجملة بين الأصحاب، وبعد كون الحاكم هو الأولي بنظر المتشرعة بالولاية لأنه الأبصر بضوابط التصرف الشرعية والآمن علي مراعاتها بسبب عدالته المفروضة ونحو ذلك، فيدخل تصرفه أو التصرف الواقع بإذنه في المتيقن مما فرض من جواز التصرف أو وجوبه. ولعل هذا هو المنشأ لحكم الأصحاب بولايته أو لزوم الرجوع إليه، وإن لم يحدد في كلمات كثير منهم بهذا النحو.

نعم، لو فرض احتمال ولاية غيره أيضاً لم يجز لكل منهما الانفراد بالتصرف وتعين الاشتراك بينهما في السلطنة، بمعني لزم الجمع بين نظريهما، لعدم تحقق المتيقن من جواز التصرف أو وجوبه إلا بذلك، فاللازم الاقتصار عليه بعد فرض عدم الدليل علي جواز التصرف لكل أحد. هذا ما تيسر لنا من الكلام في ولاية الحاكم الشرعي. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم والحمد لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 453

(454)

ومع تعذر الرجوع إليه فالولاية لعدول المؤمنين (1)

---------------

(1) وفاقاً لصريح بعض الأصحاب، بل نسب إلي مشهورهم، بل ربما نسب ذلك إليهم. كذا في الجواهر.

وقد يستدل عليه بصحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن الرضا (عليه السلام) وفيه: (عن الرجل يموت بغير وصية، وله ولد صغار وكبار، أيحل شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولي القاضي بيع ذلك، فإن تولاه قاضٍ قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك)(1). بناءً علي ما هو الظاهر من أن المراد بالقاضي فيه من يتراضون به ليشرف علي تصفية التركة، دون الحاكم الشرعي، لعدم تعارف التعبير عنه بالقاضي في تلك العصور، بل حتي في عصورنا، ولعدم مناسبته لاعتبار قيام العادل في ذلك. بل لو كان هو المراد لكان التنبيه علي جعله من قبلهم (عليهم السلام) أولي من التنبيه علي تراضيهم به. ولاسيما مع التعرض في السؤال للمنصوب من قبل الخليفة. بل يبعد جداً توقف السائل حينئذٍ في الاجتزاء به بناءً علي ولايته بعد ظهور حال السائل في المفروغية عن الاجتزاء بالقاضي المنصوب من الخليفة.

وبذلك يخرج عن إطلاق الثقة في موثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)

:(سألته عن رجل مات، وله بنون وبنات صغار وكبار، من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث ؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس) (2) .

هذا وفي صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع: (مات رجل من أصحابنا ولم يوصِ، فرفع أمره إلي قاضي الكوفة، فصير عبد الحميد القيم بماله، وكان الرجل خلف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 88 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 2.

ص: 454

قلبه عن بيعهن، إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي، لأنهن فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام)، وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولا يوصي إلي أحد، ويخلف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا، فيبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجلاً منّا، فيضعف قلبه، لأنهن فروج، فما تري في ذلك ؟ قال: فقال: إذا كان القيم مثلك و [أو] مثل عبد الحميد فلا بأس)(1). وحيث لم تذكر فيه جهة المماثلة فهو مجمل، وينهض الحديثان السابقان ببيان المراد به.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه لا مجال لحمله علي العدالة، لأنه لا يناسب حال عبد الحميد، حيث باع المتاع بمجرد نصب القاضي مع التفاته لعدم شرعية نصبه، ولذا توقف عن بيع الجواري.

ففيه: أنه لم يتضح من حال الشيعة في تلك العصور بناؤهم علي توقف تصفية التركة علي الولاية الشرعية. غاية الأمر أن يتورع بعضهم عن بيع الجواري لأنهن فروج، وعن بيع العقار لأنه مال ثابت يصلح لأن يكون ذخراً لصاحبه ونحو ذلك من الأمور المهمة التي يحتمل عدم جواز بيعها شرعاً إلا بوصية خاصة من الأب، نظير الاتجار بمال اليتيم. ولذا لم يظهر من ابن بزيع علي جلالته التوقف في بيع المتاع، وهو الظاهر من بعض النصوص الواردة في المقام أيضاً. وإلا فمن البعيد جداً أن يكون جعل الامام (عليه السلام) عبد الحميد عديلاً لابن بزيع لمجرد الثقة من دون عدالة.

بل الظاهر أنه من أجلاء الشيعة بحيث يحسن عرفاً قرنه بابن بزيع، وحيث لا يمكن عرفاً تنزيل موثق سماعة علي خصوص هذه المرتبة من الجلالة يتعين البناء علي عدم سوق الشرطية في صحيح ابن بزيع للمفهوم.

نعم، قد يقال: العدالة وإن كانت أخص من الوثاقة، إلا أن الوثاقة حيث كانت كافية عرفاً مراعاة لمصلحة الأيتام فالاقتصار عليها في موثق سماعة يوجب قوة ظهوره في كفايتها جرياً علي ما عند العرف، بحيث يكون تنزيله علي خصوص ما إذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 455

كان الثقة عدلاً أصعب من تنزيل صحيح إسماعيل بن سعد عليه، إما بالبناء علي عدم سوق الشرطية فيه للمفهوم وأن ذكر العدالة فيه لأنها تستلزم الوثاقة، أو علي تنزيل العدالة فيه علي العدالة في أمر الأيتام في مقابل الحيف عليهم ويمكن أن يكون ذلك هو الملحوظ في صحيح ابن بزيع، بلحاظ أن هذه المرتبة من الجلالة تمنع من الحيف علي اليتيم. غايته أن الشرطية فيه غير مسوقة للمفهوم، وهو أمر لازم علي كل حال.

ويزيد ما ذكرنا وضوحاً ما في صحيح ابن رئاب: (سألت أبا الحسن موسي (عليه السلام) عن رجل بيني وبينه قرابة مات وترك أولاداً صغاراً، وترك مماليك له غلماناً وجواري ولم يوصِ فما تري فيمن يشتري منهم الجارية، فيتخذها أم ولد؟ وما تري في بيعهم ؟ فقال: إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم كان مأجوراً فيهم. قلت: ماذا تري فيمن يشتري الجارية فيتخذها أم ولد؟ قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم. وليس لهم أن يرجعوا عما صنع القيم لهم الناظر فيما يصلحهم)(1).

لقوة ظهوره في أن المعيار في نفوذ التصرف نظر المتصرف فيما يصلحهم من دون توقف علي أمر آخر، فيكفي إحراز ذلك، وهو المنصرف من الثقة في موثق سماعة، بأن يراد به الثقة في أمر اليتيم ورعاية مصلحته.

بل المناسبات الارتكازية قاضية بأن مقتضي الجمع بين موثق سماعة وصحيح ابن رئاب هو البناء علي أن معيار نفوذ التصرف واقعاً هو نظر القيم في صلاح اليتيم، عملاً بصحيح ابن رئاب، ومعيار نفوذه ظاهراً من أجل ترتيب غير القيم - كبقية الورثة والأجانب، ومنهم المشتري - الأثر علي التصرف هو وثوقه بالقيم في ذلك، عملاً بموثق سماعة بعد تنزيل صحيح إسماعيل بن سعد عليه، أو علي العدل في أمر اليتيم، فيناسب ما في صحيح ابن رئاب.

نعم، استدلالهم بهذه النصوص علي ولاية الثقة أو العدل عند فقد الحاكم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 88 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 1.

ص: 456

الشرعي مبني علي تنزيلهم لها علي صورة تعذر الرجوع للحاكم، لبنائهم علي تعينه للولاية. وهو بعيد جداً، لكثرة فقهاء الشيعة في عصر صدور هذه النصوص، خصوصاً في العراق، ولاسيما في الكوفة.

ومن ثم فهي تصلح لأن تكون دليلاً علي عدم تعين الحاكم للولاية علي اليتيم. فتؤكد ما سبق الإشارة إليه في أول الكلام في هذه المسألة من أنه يجوز لكل أحد تولي أمر اليتيم ورعايته ومخالطته بالمعروف حسبة. وبذلك لا يحتاج للولي، ليقع الكلام في ولاية الحاكم له مع تيسر الوصول إليه، وولاية عدول المؤمنين مع تعذر ذلك.

ومقتضي ذلك حمل المتولي له علي الصحة، وجواز التعامل معه في شؤون اليتيم من دون حاجة إلي إحراز عدالته أو وثاقته.

غاية الأمر أنه لابد من الاقتصار في ذلك علي ما تقتضيه الكفالة والمخالطة من التصرفات، كحفظ ماله والإنفاق عليه منه ومداواته ونحو ذلك، دون التصرفات الاستثنائية النادرة، كتصفية التركة من أجل تعيين حصته منها، ومثل تبديل العقار بالنقد أو العكس أو نحو ذلك، لخروجه عن المتيقن من دليل جواز التصرف حسبة. بل مقتضي هذه النصوص اعتبار عدالة القائم بها أو وثاقته واقعاً أو ظاهراً في حق غيره من أجل التعامل معه وترتيب آثار صحة المعاملة، علي الكلام السابق.

وبذلك يظهر أنه لا مجال للاستدلال بهذه النصوص علي ولاية عدول المؤمنين عند تعذر الوصول للحاكم في غير اليتيم مما يحتاج فيه للولي.

فالأولي الاستدلال عليها، بأنه حيث تقدم اختصاص ولاية الحاكم أو وجوب مراجعته بما إذا علم برضا الشارع الأقدس بإيقاع التصرف من دون أن يكون هناك دليل أو أصل يقتضي جواز إيقاعه لكل أحد، فكما يكون الحاكم عند تيسر الوصول له هو المتيقن من جواز التصرف، كذلك يكون المؤمن العادل هو المتيقن من جواز التصرف عند تعذر الوصول للحاكم، لاحتمال ولايته في هذا الحال، ولا يجوز التصرف لغيره، لخروجه عن المتيقن بعد فرض عدم المسوغ له من دليل أو أصل.

ص: 457

لكن الأحوط الاقتصار علي صورة لزوم الضرر في ترك التصرف (1)، كما لو خيف علي ماله التلف مثلاً، فيبيعه العادل لئلا يتلف. ولا يعتبر حينئذٍ أن يكون التصرف فيه غبطة وفائدة (2). بل لو تعذر وجود العادل حينئذٍ لم يبعد جواز ذلك لسائر المؤمنين (3). ولو اتفق احتياج المكلف إلي دخول دار أيتام والجلوس علي فراشهم والأكل من طعامهم وتعذر الاستئذان من وليهم لم يبعد جواز ذلك إذا عوضهم عن ذلك بالقيمة (4)، ولم يكن فيه ضرر عليهم (5)، وإن كان الأحوط تركه. وإذا كان التصرف مصلحة لهم جاز من دون حاجة إلي عوض (6). والله سبحانه العالم.

---------------

(1) لم يتضح المنشأ لذلك بعد عموم النصوص المتقدمة المستفاد من ترك الاستفصال فيها، بناءً علي كونها مما نحن فيه من ولاية العدول. كما أن معيار ولاية العدول في غير موردها هو مجرد العلم بجواز التصرف ورضا الشارع الأقدس به وإن لم يلزم الضرر من تركه، كما يظهر مما تقدم.

(2) يكفي في الغبطة والفائدة حينئذٍ تجنب الضرر.

(3) لعين الوجه المتقدم في العدول. فإن اعتبر لزوم الضرر من عدم التصرف هناك اعتبر هنا أيضاً، وإلا فلا.

(4) يأتي الكلام في ذلك بعد الكلام في حكم ما إذا كان في دخوله منفعة لهم.

(5) إذ لا إشكال في حرمة الإضرار بهم. وهو صريح صحيح الكاهلي الآتي.

(6) كأنه لصحيح الكاهلي: (قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا ندخل علي أخ لنا في بيت أيتام، ومعه خادم لهم، فنقعد علي بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم. وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما تري في ذلك. فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا. وقال (عليه السلام):

(بل

ص: 458

الإنسان علي نفسه بصيرة). فأنتم لا يخفي عليكم. وقد قال الله عز وجل: (والله يعلم المصلح من المفسد)(1).

لكنه.. أولاً: لا يختص بصورة الحاجة للدخول. بل حيث كان فرض الحاجة أنسب بالجواز فعدم التنبيه لها في السؤال ظاهر أو مشعر بعدمها أو بعدم التقيد بها. نعم الجواز مع عدم الحاجة يقتضي الجواز معها بالأولوية العرفية. كما أنه مقتضي عموم الصحيح المستفاد من ترك الاستفصال.

وثانياً: ظاهر أو محتمل لكون الأيتام في كفالة الأخ الذي يدخلون عليه ورعايته، وهو الذي يتولي أمرهم، وجواز الدخول بإذنه لا يقتضي جواز الدخول مطلقاً، من دون مراجعة الولي.

نعم يتجه ذلك علي مبني الأصحاب من عدم الأثر لرعايته أمر الأيتام إذا لم يكن منصوباً من قبل الحاكم الذي هو الولي الشرعي لهم عنده. لكن عرفت المنع من ذلك.

اللهم إلا أن يقال: مجرد احتمال ذلك لا يكفي في تقييد الصحيح به، بل مقتضي ترك الاستفصال فيه العموم لما إذا لم يكن متوالياً أمرهم، بل كان ساكناً معهم تعدياً أو بأجرة.

ومنه يظهر الوجه في الصورة الأولي، وهي ما إذا لم يكن في الدخول لدار الأيتام منفعة لهم، حيث لا يبعد أن يستفاد من الصحيح أن اللازم حصول العوض لهم عما يخسرون بسبب الدخول عليهم، إما بأن يكون في الدخول نفسه مصلحة لهم، أو بتعويضهم بقيمته. فلاحظ.

والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 71 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 459

انتهي الكلام في فصل شروط المتعاقدين من كتاب البيع شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأستاذ الجد آية الله العظمي المرجع الأعلي (السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره). وكان ذلك في أواخر شهر ذي القعدة الحرام سنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة النبوية علي صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية في النجف الأشرف ببركة الحرم المقدس علي مشرفه الصلاة السلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) الطباطبائي الحكيم. والحمد لله رب العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 460

فهرست تفصيلي

(5)استحباب التفقة في التجارة5

(6)لا يجوز ترتيب آثار الصحة عند الشك6

(7)استحباب التساوي بين المتبايعين7

(8)استحباب إقالة النادم8

(9)استحباب التكبير والشهادتين9

(10)كراهة مدح البائع سلعته10

(11)كراهة الحلف علي البيع والبيع في مكان مظلم11

(12)كراهة الربح علي المؤمن زائداً عن مقدار الحاجة12

(13)كراهة الربح علي الموعود بالإحسان13

(14)كراهة السوم ما بين الطلوعين14

(15)كراهة مبايعة الأدنين15

(16)كراهة مبايعة ذوي العاهات16

(17)كراهة طلب تنقيص الثمن بعد العقد17

(18)كراهة الزيادة وقت النداء18

(19)الكلام فيمن لا يحسن الكيل أو الوزن19

(19)كراهة الدخول في سوم المؤمن19

(22)توكل بعض أهل البلد لمن هو غريب عنها22

(26)كراهة تلقي الركبان26

(28)الكلام في حد التلقي المنهي عنه28

(31)حرمة الاحتكار مع الكلام في تحديده31

(41)الفصل الأول في شروط العقد41

(41)الكلام في مفهوم البيع41

(46)الإيجاب والقبول وما يعتبر فيهما46

ص: 461

(48)كفاية كل لفظ دال علي الإيجاب والقبول في البيع48

(51)العربية ليس شرطاً في العقد51

(55)الكلام في تقديم القبول علي الإيجاب55

(62)الموالاة بين الإيجاب القبول ليست شرطاً في صحة العقد62

(68)اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول68

(69)إذا تعذر النطق تكفي الإشارة إلي العقد69

(72)بيع المعاطاة72

(88)البيع المعاطاتي لا يختلف عن البيع العقدي في شروطه88

(90)البيع لازم من الطرفين90

(93)الكلام فيما ذكر من شروط لزوم البيع المعاطاتي93

(98)موت أحد المالكين في البيع المعاطاتي98

(100)عقد النكاح لا يقع بالمعاطاة100

(102)عدم صحة الطلاق بالمعاطاة102

(103)عدم صحة العتق بالمعاطاة103

(103)الكلام في صحة التحليل بالمعاطاة103

(103)عدم صحة النذر بالمعاطاة103

(104)لا ينعقد اليمين بغير اللفظ104

(104)جريان المعاطاة في الرهن104

(105)جريان المعاطاة في الوقف105

(105)لزوم الرهن والوقف المعاطاتي105

(106)الكلام في المنع من سببية المعاطاة لبعض العقود106

(107)قبول البيع المعاطاتي للشرط107

(108)تعليق البيع علي أمر غير حاصل108

(112)المقبوض بالعقد الفاسد112

(114)الكلام في حديث (علي اليد...) 114

(117)أدلة ضمان اليد117

(120)الكلام فيما دل علي ضمان المقبوض بالعقد الفاسد120

(125)ضمان المثلي بالمثل125

(126)ضمان القيمي بالقيمة126

ص: 462

(129)الكلام في تحديد المثلي والقيمي129

(133)الفصل الثاني: شروط المتعاقدين133

(133)الكلام في صحة عقد الصبي133

(149)الكلام في نفوذ معاملة الصبي بإذن وليه149

(154)شرطية العقل في نفوذ العقد154

(155)بيع المكره155

(160)موارد لا يتحقق بها الإكراه160

(161)تحديد الإكراه161

(165)الإكراه لا يصدق من دون خوف الضرر165

(169)إذا أكره أحد الشخصين169

(174)إذا أكره علي بيع أحد الفردين174

(180)الكلام فيما لو أكره علي إيقاع الشيء في الوقت الموسع180

(182)إذا أكره علي الجامع بين ذي الأثر الوضعي أو التكليفي182

(182)إذا تردد الأمر المكره عليه بين العقد وفعل الحرام182

(182)إذا أكره علي الجامع بين الصحيح والفاسد182

(183)إذا أكره علي الجامع بين ما يستحق وما لا يستحق183

(186)يعتبر في الإكراه عدم إمكان التغضي بالتورية186

(189)المراد من الضرر الموجب لصدق الإكراه189

(191)نفوذ عقد المكره إذا تعقبه الرضا191

(197)البيع الفضولي197

(198)صحة بيع الفضولي بعد الإجازة198

(228)ما استدل به علي بطلان بيع الفضولي حتي مع الإجازة228

(233)لو رد المالك البيع الفضولي ثم أجازه صح البيع233

(235)المنع السابق علي البيع لا أثر له235

(237)عدم كفاية الرضا الباطني في توقف البيع الفضولي علي الإجازة237

(246)إذا باع الفضولي مال غيره بتخيل أنه المالك246

(253)لا يكفي في الإجازة الرضا الشأني بل لا بد من الرضا العقلي253

(255)الكلام في كون الإجازة ناقلة أو كاشفة ؟255

(262)الإجازة كاشفة عن صحة العقد مع الكلام في كونه من الكشف الحكمي أو الانقلابي262

ص: 463

(265)الثمرات المترتبة علي الكشف والانقلاب265

(276)فروع في عقد الفضولي276

(283)إذا باع مال غيره فضولاً ثم ملكه قبل الإجازة283

(291)إذا باع الفضولي ثم ملكه بالإرث291

(293)إذا باع الفضولي ولم تتحقق الإجازة293

(298)المنافع المستوفاة في العقد الفضولي مضمونة298

(304)الكلام في المنافع غير المستوفاة304

(308)المدار في القيمة المضمون بها زمان الأداء لا زمان التلف308

(321)رجوع المشتري علي البائع بجميع الخسارات321

(331)إذا لم لكن المشتري مغروراً فلا يرجع علي البائع بشيء331

(336)تعاقب الأيدي336

(353)إذا باع ملكه وملك غيره فضولاً صفقة واحدة353

(364)طريق معرفة حصة كل واحد من الثمن364

(369)بيع نصف العين المشتركة بينه وبين غيره369

(375)ولاية الأب والجد375

(387)استقلال كل من الأب والجد بالولاية387

(389)عدم اعتبار العدالة في ولايتهما389

(392)يعتبر في نفوذ تصرفات الولي عدم المفسدة392

(400)يجوز للولي التصرف في نفس الصغير400

(401)الوصي عن الولي بمنزلة الولي401

(403)الكلام في صحة تزويج الوصي للصغير403

(407)الكلام في صحة وصية الأب مع وجود الجد وبالعكس407

(416)ولاية الحاكم الشرعي416

(418)الكلام في ثبوت الولاية المطلقة للحاكم الشرعي418

(419)استعراض الأدلة علي الولاية المطلقة ومناقشتها419

(445)الكلام في ولاية الحاكم الخاصة وأنه ولي من لا ولي له445

(454)الكلام في ولاية عدول المؤمنين454

ص: 464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.