مصباح المنهاج - كتاب التجارة المجلد 1

اشارة

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 1

اشارة

مصباح المنهاج

ص: 2

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

ص: 3

مصباح المنهاج - كتاب التجارة

سيد محمد سعيد طباطبايي حكيم

دارالهلال

الطبعة الاولي

1427ه - 2006م

ص: 4

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

وفيه مقدمة وفصول

مقدمة:

التجارة (1) في الجملة

---------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين إلي يوم الدين.

(1) الذي يظهر من كلمات جملة من اللغويين أن التجارة عبارة عن البيع والشراء بقصد الاسترباح. وبذلك صارت من وجوه التكسب عرفاً، وشاع استعمالها وإرادة الحرفة منها. لظهور أن التكسب يبتني علي محاولة الكسب، وهو لا يكون في البيع والشراء إلا بلحاظ الربح. كما أن الحرفة تبتني علي التكسب أيضاً.

لكن المراد منها هنا مطلق البيع والشراء، كما يظهر من الأحكام المذكورة لها في كلمات الفقهاء. وهو المفهوم من إطلاقات الأدلة، إما لأن ذلك هو معني التجارة لغة، وما سبق من اللغويين ناشئ من الانصراف لقصد الاسترباح بسبب شيوع استعمالها وإرادة الحرفة منها، أو لقضاء المناسبات الارتكازية بإلغاء خصوصية قصد الاسترباح في موضوع الإطلاقات المذكورة. وهو المناسب لكون موضوع أكثر الأدلة عنوان البيع والشراء اللذين لا إشكال في عمومهما لغير صورة قصد الاسترباح.

ص: 5

بل قد استظهر في الجواهر أن مرادهم بها هنا مطلق المعاملات المعاوضية بنحو تشمل الإجارة والجعالة ونحوهما، لمعروفية ذلك منها، كما يناسبه ما في مجمع البحرين من قوله: "التجارة بالكسر هي انتقال شيء مملوك من شخص إلي آخر بعوض مقدّر علي جهة التراضي" .ولأنهم تعرضوا في مقدمة التجارة لحكم التكسب بالواجبات والمحرمات، مع وضوح أنها من سنخ الأعمال التي تكون موضوعاً للإجارة والجعالة ونحوهما.

لكنه في غاية المنع، لوضوح اختصاص التجارة لغة وعرفاً بالبيع والشراء. ولذا كان التاجر مقابلاً عرفاً للصانع والعامل الأجيرين. والمادة في التاجر وإن أريد منها الحرفة، دون مطلق الحدث الذي هو المراد في المقام، إلا أن سعة الحرفة وضيقها تابعان لسعة مفهوم الأمر الذي يحترف وضيقه. والظاهر جري الفقهاء علي المعني اللغوي، لاحتياج خروجهم عنه إلي عناية وكلفة لا قرينة عليهما. بل هو لا يناسب تعرضهم لبقية المعاملات في كتب مستقلة عن كتاب التجارة، لا في ضمنه.

وأما ما سبق من مجمع البحرين فلا يبعد انصرافه للمعاوضة علي الأعيان الخارجية، لأنها هي المملوكة قبل المعاوضة، دون المنافع والأعمال وسائر الذميات، لأنها لا تملك إلا بالمعاوضة علي أن التسامح في تعاريف اللغويين غير عزيز.

ومن هنا كان الظاهر أن تعرضهم لحكم التكسب بالواجبات والمحرمات ليس لدخوله في التجارة، بل هو مبني علي الاستطراد، لاهتمامهم بضبط المكاسب المحرمة.

وكيف كان فحيث كان مبني التجارة علي تبديل حال المال في الملكية ونحوها فالمرجع بدواً مع الشك في نفوذها استصحاب الحال السابق، كما هو الحال في جميع المعاملات. وهو المراد بأصالة عدم ترتب الأثر التي شاع ذكرها في كلماتهم.

ومن هنا كان المناسب التعرض في المقام لما يخرج به عن الأصل المذكور من الأدلة والعمومات المقتضية للنفوذ، ليكون هو المرجع مع الشك. وهو علي قسمين:

ص: 6

القسم الأول: ما يعم التجارة وغيرها. وهو أمور:

الأول: قوله تعالي: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)(1). حيث لا يراد بالوفاء بالعقد إلا الجري علي مضمونه، فالأمر به لازم عرفاً لنفوذ العقد وترتب أثره شرعاً.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوي: أن الأمر بالوفاء بالعقد إنما يكون بعد الفراغ عن نفوذه، فلا يدل علي نفوذه، بل لابد من الرجوع فيه لأدلة أخر.

لاندفاعها بأن ذلك وإن كان مسلماً، إلا أن الأمر بالوفاء بالعقد لما كان لازماً عرفاً لنفوذه كان الدليل علي أحدهما دليلاً علي الآخر.

ومثلها دعوي إجمال المراد بالعقود، لاحتمال إرادة العهود التي أخذها الله تعالي علي العباد بالإيمان والطاعة، أو عقود الجاهلية التي كانوا يعقدونها علي النصرة والمؤازرة، أو ميثاق أهل الكتاب بالعمل بما في كتبهم من تصديق النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)، كما ذكر ذلك كله في التبيان ومجمع البيان.

لاندفاعها بظهوره في العموم لجميع العقود بنحو يشمل ما نحن فيه وبعض ما سبق أو جميعه. ولا موجب لاحتمال التخصيص بالبعض إلا احتمال كون اللام للعهد الذهني، لقيام القرينة الحالية علي تعيين المراد. وهو مدفوع بالأصل، الراجع لأصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان. ولذا كان الأصل في اللام الجنس، وكان البناء علي العموم لتمام أفراد مدخولها.

علي أن بعض هذه المعاني أو جميعها بعيد في نفسه، لاحتياج صدق العقد علي الأول إلي تكلف وعناية، وخطاب المؤمنين في الآية لا يناسب الأخريين. إلا أن يراد بالثاني ما أوقعه النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) مع أهل الجاهلية من العقود المذكورة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الآية الشريفة في العموم لما نحن فيه. ومن ثم اشتهر الرجوع لها والاستدلال بها بينهم.

********

(1) سورة المائدة آية: 1.

ص: 7

ومنه يظهر وهن ما في كلام بعضهم من حملها علي خصوص العقود المتعارفة - كالبيع والإجارة - دون العقود المستحدثة. إذ فيه - مع عدم الضابط لذلك -: أن التعارف لا يخصص العموم. ولاسيما إذا كان ارتكازياً، كما في المقام.

نعم في صحيح عبدالله بن سنان المروي في تفسير القمي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قوله: أوفوا بالعقود، يعني بالعهود"(1). ورواه العياشي مرسلاً(2). وعموم العهد للمعاملات المالية لا يخلو عن إشكال، حيث قد ينصرف العهد للتعهد بالعمل، كالنصرة ونحوها، دون مثل المعاوضة المالية.

لكن يظهر من مجمع البيان أن العهد أعم مطلقاً من العقد، لاختصاص العقد بما يكون بين طرفين، وعموم العهد ما يكون من طرف وحد، مع اتحادهما موضوعاً ومتعلقاً. ومن ثم لا مجال للخروج بالصحيح عن ظهور الآية الكريمة في العموم. ولاسيما مع قرب احتمال وروده لمجرد التطبيق، لا للحصر. أو كون المراد بالعهود هي العهود المبنية علي التعهد من الطرفين، فتطابق العقود.

الثاني: عموم الشروط الذي تضمنته النصوص المستفيضة، كصحيح عبدالله ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: المسلمون عند شروطهم، إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل، فلا يجوز"(3) ، وغيره، بناءً علي ما أصّر عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من عموم الشرط للإلزام والالتزام الابتدائيين، وعدم اختصاصه بالالتزام في ضمن الالتزام. وهو المناسب لإطلاق بعض اللغويين، وللاستعمال في جملة من النصوص.

كقوله (عليه السلام) فيمن اشترط علي المكاتب أن له ميراثه: "شرط الله قبل شرطك" (4) وقوله (عليه السلام) فيمن اشترط لامرأته إن هو تزوج عليها أو هجرها أو تسرّي عليها فهي

********

(1) تفسير القمي ج: 1 ص: 160.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 25 من أبواب كتاب النذر والعهد حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب الخيار حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 22 من أبواب موانع الإرث حديث: 1، 2.

ص: 8

طالق: "فقضي في ذلك أن شرط الله قبل شرطكم"(1) ، مع وضوح أن المراد بشرط الله تعالي حكمه، وكذا إطلاقه علي نذر عدم التزويج علي المرأة وعدم طلاقها(2) وعلي خيار الحيوان(3).

ويناسب ذلك أنه يعدّي للمشروط له وعليه باللام و (علي)، فيقال: شرط له وشرط عليه، ولو كان قوام الشرطية الإناطة بالتزام آخر لكان المناسب أن يقال: شرطه أو شرط فيه، ولم يكن من شؤون الطرفين، ليعدّي لهما. وعلي ذلك يشمل كل عقد، لما في العقد من الإلزام والالتزام.

لكنه يشكل بأنه خلاف المتبادر من الشرط، بل الظاهر عدم صحة إطلاقه إلا بلحاظ نحو إناطة ونسبة بين المشروط والمشروط فيه، وأنه مأخوذ من الشرط التكويني، الذي يناط به وجود الشيء، ويكون من أجزاء علته. وهو وإن كان بذلك المعني جامداً، إلا أنه قد يشتق من الجامد علي خلاف القياس في مثل: (بال) من البول، (وأمني) من المني، كل ذلك لبعد الاشتراك اللفظي جداً ولاسيما بعد فهم الإناطة من الشرط فيما نحن وابتنائه عليها ارتكازاً.

ولعل إطلاق بعض اللغويين مبني علي طريقتهم في بيان المعني من الاكتفاء بالإشارة الإجمالية إليه والتسامح في بيانه. ومن ثم لا مجال للتعويل عليه، ولاسيما مع تقيده في كلام غير واحد، حيث ذكروا أنه الالتزام في ضمن الالتزام.

وأما الاستعمالات المشار إليها فقد تبتني علي المشاكلة في التعبير، أو علي ملاحظة نحو من الإناطة، كإناطة كمال الإيمان بتنفيذ أحكام الله تعالي والوقوف عندها، أو علي التوسع والمجاز بمناسبة أخري. كما أن كونه من شؤون المشروط له وعليه بنحو يعدّي لهما لا ينافي كونه من شؤون ما يناط به أيضاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 38 من أبواب المهور حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 4.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 3، 4، 5 من أبواب الخيار.

ص: 9

نعم إذا ابتني العقد علي التزام كل من المتعاقدين للآخر بشيء - كما في البيع والإجارة والمزارعة ونحوها - صدق الشرط علي كل منهما بلحاظ ابتنائه علي التزام الآخر. فالتزام البايع والمستأجر والمزارع مثلاً بتمليك المثمن والأجر وبذل الأرض، يبتني علي التزام المشتري والأجير والعامل بتمليك الثمن وبالعمل الذي تقتضيه الإجارة أو المزارعة. فلا يكون العقد بتمامه شرطاً واحداً، بل كل طرف من أطراف متعلقه شرط، ولا يختص الشرط بما يلتزم به زائداً علي المضمون العقدي، كاشتراط الخياطة في ضمن عقد البيع.

أما لو لم يتضمن العقد إلا التزاماً واحداً من أحد الطرفين للآخر - كما في الهبة - فلا يصدق الشرط عليه. وكذا لا يصدق الشرط علي الإيقاع والوعد الابتدائي غير المشروطين، لعدم تحقق الإناطة فيها.

ومن ثم يشكل استفادة عموم نفوذ العقود من عموم نفوذ الشروط، فإن ما ذكرنا إن لم يكن هو الظاهر من إطلاق الشرط فلا أقل من كونه المتيقن منه. نعم لا بأس بالاستدلال به لنفوذ خصوص العقود المشار إليها آنفاً.

هذا ولا إشكال ظاهراً في قصور عموم نفوذ الشروط عن الشرط الابتدائي، وهو الذي لا يلتزم به في ضمن العقد، لخروجه عن عموم نفوذ الشرط تخصصاً أو تخصيصاً. وهو غير مهم في محل الكلام، إذ الكلام في نفوذ العقد، لا في عدم نفوذ غيره.

الثالث: إطلاقات الصلح، كقوله تعالي: (وَالصُّلحُ خَيرٌ)(1) ، وصحيح حفص عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: الصلح جائز بين الناس [المسلمين]"(2). بدعوي: أن الصلح كل ما يقع عن تراض واتفاق بين أكثر من واحد، فيصدق علي العقد الذي يبتني علي الاتفاق بين المتعاقدين.

********

(1) سورة النساء آية: 128.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 10

توضيح ذلك: أنه ذكر غير واحد أن الصلح يتضمن إنشاء التسالم علي أمرٍ، فإن كل عقد من العقود المعهودة - كالبيع والإجارة ونحوهما - وإن كان مبنياً علي التسالم والتراضي بين الأطراف وناشئاً عنهما، إلا أنه لا يتضمن إنشاء التسالم علي المضمون الاعتباري من بيع أو إجارة أو غيرهما، بل إنشاء المضمون الاعتباري رأساً، فلا تكون صلحاً، بل ليس الصلح إلا ما تضمن إنشاء التسالم علي متعلقه. ومن ثم كان الصلح مبايناً لسائر العقود وإن كان قد يفيد فائدتها. فلا تنهض عموماته دليلاً علي نفوذها.

لكن ما ذكروه خال عن الدليل، إذ لم يتضح الوجه في أخذ إنشاء التسالم في قوام مفهوم الصلح، بعد أن كان الصلح بمفهومه العرفي أمراً حقيقياً خارجياً، كالاتفاق والرضا ونحوهما، حيث يتعين حمله في أدلة النفوذ علي المعني المذكور، وليس هو كالبيع والزواج من المفاهيم الاعتبارية الإنشائية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج وراء الاعتبار والإنشاء ومن ثم يتعين حمل أدلتها علي إنشاء مضامينها واعتبارها.

وإذا تعين حمل أدلة الصلح علي المعني الحقيقي العرفي يكون المراد بنفوذه وجوازه في الأدلة ترتب متعلقه، وهو الأمر الذي يكون موضوعاً للمصالحة ويتم التصالح والتسالم عليه. وحيث لا يختص عندهم بما يرفع به التخاصم والتشاجر، أو يدفع به الفساد، فالمتعين حمله في أدلة النفوذ علي مطلق التراضي والاتفاق.

وبذلك تكون أدلة نفوذه شاملة لجميع العقود، لابتنائها بأجمعها علي الاتفاق والتراضي، من دون فرق بين العقود ذات المضامين الإنشائية المعروفة - كالبيع والإجارة - والعقود المتضمنة لإنشاء التسالم والتصالح، وغيرها. وقد مال إلي هذا شيخنا الأستاذ (قدس سره). وإن لم يبسط الكلام في وجهه.

هذا ولكن الشأن في تمامية عموم مفهوم الصلح بهذه السعة، فإنه وإن لم يختص بإنشاء التسالم، لما سبق، إلا أنه لا مجال لحمله علي مطلق التراضي والاتفاق بعد اختصاصه لغة وعرفاً بما يرفع به الفساد للتقابل بينهما، ومنه سمّي السلم صلحاً. بل هو مردد بين وجهين.

ص: 11

الأول: أن يختص بما إذا أوجب رفع النزاع والخصومة عند اشتباه الحقوق، كما هو مقتضي تعريفه في كلام بعضهم بأنه عقد شرع لقطع التجاذب والتنازع. وقد يناسبه مرسل الفقيه: "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): البينة علي من المدعي، واليمين علي المدعي عليه. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً"(1). لقرب سوقه لبيان فصل الخصومة بالصلح كما تفصل بالحكم نتيجة البينة واليمين.

الثاني: أن يعم جميع موارد دفع الفساد وحلّ المشاكل ولو مع عدم الخصومة، كما في مورد اشتباه الحقوق، أو استلزام بقاء الحق بحاله بعض المحاذير، كتوقع خراب ذات البين، أو التقصير في أداء الحق، أو نحو ذلك، فيكون الصلح سبباً لدفع ذلك. وهو الأنسب بإطلاق معناه اللغوي والعرفي.

كما يناسبه أيضاً ما في جملة من النصوص تشريع الصلح بين الزوجين إذا أراد الزوج الطلاق بأن تصالحه الزوجة علي أن تتنازل عن حقوقها في مقابل عدم طلاقها(2). وظاهرها بل صريح بعضها أن ذلك هو المراد بقوله تعالي: (وَإِن امرَأَةٌ خَافَت مِن بَعلِهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَن يُصلِحَا بَينَهُمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ)(3) ، مع وضوح حق كل من الزوجين وعدم التنازع بينهما، ولا يكون في الصلح المذكور إلا إصلاح أمر الزوجين في قبال فساد الحال.

وأما التعميم لما زاد علي ذلك بحيث يعم كل اتفاق علي شيء ولو لم يكن به دفع لفساد وحلّ لمشكلة، فلا مجال له بعد عدم مناسبته لمفهوم الصلح لغة ولا عرفاً.

نعم قد يناسبه ما تضمن جواز الصلح عن الحق ببعضه، كمعتبر علي بن أبي حمزة:" قلت لأبي الحسن (عليه السلام): رجل يهودي أو نصراني كانت له عندي أربع آلاف درهم مات [فمات]. ألي أن أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان ؟ قال: لا يجوز حتي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب الصلح حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 15 باب: 11 من أبواب القسم والنشوز والشقاق.

(3) سورة النساء آية: 128.

ص: 12

تعلمهم "(1) وغيره، حيث لم يؤخذ فيه دفع الفساد.

لكن مجرد إطلاق الصلح علي ذلك ونفوذه لا يستلزم دخوله في إطلاقات الصلح، ليكشف عن عمومها، فإن الاستعمال أعمّ من الحقيقة، والنفوذ قد يكون لعموم نفوذ العقود، لا لعموم نفوذ الصلح. ومن ثم يتعين الاقتصار علي المتيقن من العمومات المذكورة، وهو ما سبق.

اللهم إلا أن يقال: قصور عمومات الصلح لفظاً عن صورة عدم دفع الفساد بالعقد لا يمنع من الاستدلال بها في الصورة المذكورة بلحاظ العلم بعدم خصوصية دفع الفساد في تشريع المعاملة، حيث لا يحتمل تشريع الشارع الأقدس العقود الباطلة من أجل الإصلاح ودفع الفساد، فما هو الجائز من العقود في الصلح جائز في غيره، وما هو الممنوع في غيره ممنوع فيه، كما يناسبه الاستثناء في النبوي المتقدم، وما هو المعلوم من طريقة الأصحاب من تحكيم عموم أدلة المنع من بعض المعاملات - كالربا

علي عمومات الصلح، وعدم احتمالهم خصوصية الصلح في تسويغها.

وبالجملة: خصوصية الصلح لا ترجع إلي تنويع المعاملة، ليحتمل دخلها في صحة المعاملة، بل هي من سنخ الحالة والداعي لإيقاع المعاملة، المعلوم عدم دخلهما في الصحة، وذلك كاف في استفادة العموم من الأدلة.

الرابع: أن نفوذ العقد مقتضي الارتكازيات التي فطر الله الناس عليها، وهو مقتضي سيرة العقلاء المبنية علي الارتكازيات المذكورة، ومثل هذه السيرة حجة ما لم يثبت الردع عنها، من دون حاجة إلي ثبوت الإمضاء لها، علي ما أوضحناه في الأصول. ومن هنا يتعين البناء علي ذلك حتي لو فرض قصور الأدلة المتقدمة عن إثبات العموم المذكور.

بل الإنصاف أن الارتكاز المذكور يصلح أن يكون قرينة علي ورود الأدلة النقلية المتقدمة والآتية وغيرها مورد الإمضاء له والجري علي مقتضاه، بحيث ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 5 من أبواب كتاب الصلح حديث: 2.

ص: 13

تنهض عموماتها وإطلاقاتها بالنفوذ في مورد لا ينفذ فيه العقد ارتكازاً. فلاحظ.

القسم الثاني: ما يختص بالبيع والتجارة وهو أيضاً أمور:

الأول: قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم)(1). لظهور أن الترخيص في أكل المال بسبب التجارة راجع عرفاً إلي نفوذها وترتب الأثر عليها وتملك المال بسببها، نظير ما تقدم في آية الوفاء بالعقد.

نعم لابد فيها من الرضا. والكلام في تحديده موكول للكلام في فروع نفوذ العقد، كحكم عقد المكره والفضولي وغيرهما.

الثاني: قوله تعالي: (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِن المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...)(2). فإن حلية البيع إن كانت وضعية كانت نصاً في المطلوب، وإن كانت تكليفية كانت ظاهرة في نفوذ البيع تبعاً بمقتضي إطلاقها المقامي. لظهور أن الإقدام علي البيع إنما يكون من أجل نفوذه وترتب أثره، فلو لم ينفذ لزم التنبيه علي ذلك واستدراكه. ولاسيما بعد ورودها في سياق النهي عن أكل الربا المبتني علي ترتيب الأثر علي نفوذه. وكيف كان فإطلاق الآية ينهض دليلاً علي عموم نفوذ البيع.

اللهم إلا أن يقال: سياق الآية الشريفة لا يناسب ورودها لبيان حلية البيع وحرمة الربا وتشريعهما، ليكون مقتضي إطلاقهما عموم الحلية والحرمة المذكورتين، بل ورودها لاستنكار تشبيه البيع بالربا استهواناً بتحريم الربا ورداً له، بعد الفراغ عن حرمة الربا وحلية البيع، فلا يكون لها إطلاق في ذلك، بل لا تدل إلا علي حلية البيع وحرمة الربا في الجملة، ولو بلحاظ الأفراد الشايعة منهما.

********

(1) سورة النساء آية: 29.

(2) سورة البقرة آية: 275.

ص: 14

من المستحبات الأكيدة (1) في نفسها. وقد تستحب لغيرها (2)، وقد تجب كذلك (3) إذا كانت مقدمة لواجب أو مستحب.

---------------

الثالث: النصوص الكثيرة المتضمنة للحث علي التجارة والنهي عن تركها(1). فإنها وإن لم تكن واردة لبيان صحة التجارة ونفوذها، إلا أن ذلك يستفاد عرفاً من إطلاقاتها المقامية، لما هو المعلوم من أن الغرض من التجارة هو ترتب أثرها والاسترزاق منها، فعدم بيان الشارع الأقدس للنافذ منها ظاهر في إمضائها وترتب أثرها.

وربما يستفاد النفوذ من أدلة أخر قد تظهر بالسبر والتأمل لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما سبق بالمطلوب. ولعله لذا كان ظاهر الأصحاب (رضي الله عنهم) المفروغية عن نفوذ البيع والتجارة واحتياج المنع من بعض أقسامهما للدليل. ومنه سبحانه وتعالي نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) للنصوص المستفيضة المتضمنة للحث عليها. بل يظهر من بعضها كراهة تركها، كصحيح حماد عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: ترك التجارة ينقص العقل"(2) ، وغيره. فراجع الباب الأول والثاني من أبواب مقدمة التجارة من الوسائل.

نعم لا يبعد كون موضوع الكراهة تركها بالتعطل عن الكسب والعمل، دون تركها مع الاشتغال بكسب آخر، كما قد يناسبه التعليل المتقدم، ومثل صحيح الفضيل: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أني قد كففت عن التجارة وأمسكت عنها. قال: ولم ذلك ؟ أعجز بك ؟ كذلك تذهب أموالكم، لا تكفوا عن التجارة، والتمسوا من فضل الله عز وجل"(3). فلاحظ النصوص في البابين المذكورين.

(2) كالتجارة للإنفاق في وجوه البر والخير.

(3) كالتجارة للنفقات الواجبة. إذا لم يكن واجداً للمال، ولم يكن وجدانه قيداً، في موضوع وجوب الإنفاق.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1، 2 من أبواب كتاب الصلح وغيرهما.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 1، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 1، 8.

ص: 15

وقد تكره لنفسها (1) أو لغيرهما (2). وقد تحرم كذلك (3) والمحرم منها أصناف. وهنا مسائل.

(مسألة 1): تحرم ولا تصح (4)

---------------

(1) كما يأتي في المسألة الأربعين إن شاء الله تعالي التعرض لجملة من موارده.

(2) كالتجارة للإنفاق المكروه.

(3) يعني: لنفسها ولغيرها. أما حرمتها لغيرها فهي إذا كانت مقدمة للإنفاق المحرم، أو ترتب عليها محذور محرم، كالخطر علي النفس. وهي لا توجب بطلان المعاملة، لعدم الملازمة بينهما.

أما الحرمة لنفسها فهي التي يأتي التعرض لها في المسائل الآتية، وهي راجعة لبطلان المعاملة، لظهور أدلتها في ذلك. علي ما يتضح إن شاء الله تعالي. نعم لا يبعد البناء علي الحرمة التكليفية والوضعية معاً في مثل المعاملة الربوية.

(4) النهي عن الشيء وتحريمه ظاهران بدواً في الحرمة التكليفية المستتبعة لاستحقاق العقاب علي المخالفة، إلا أنهما بالإضافة إلي ما يتصف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب أثره المرغوب فيه كالعبادات والمعاملات ينصرفان للحرمة الوضعية الراجعة إلي بطلان العمل وعدم ترتب الأثر المطلوب منه.

نعم الحرمة المذكورة تستتبع الحرمة التكليفية إذا ابتني الإتيان بالعمل علي البناء علي ترتيب أثره رداً لحكم الشارع الأقدس بالفساد. كما أنه لو جري المكلف في عمله علي ما يناسب ترتب أثر المعاملة خارجاً فقد يلزم الحرام، كأكل مال الغير والاستمتاع بالأجنبية وترك الحج وغير ذلك مما يترتب علي نفوذ المعاملة.

بل قد يظهر من بعض أدلة المعاملات المحرمة تأكد حرمة أكل المال بسببها، بحيث يزيد عقابه علي عقاب أكل مال الغير. ولعل منه أكل مال الربا وجميع السحت، كالرشا في الأحكام وأجر الزانية وغيرهما.

ص: 16

التجارة بالأعيان النجسة (1)، كالخمر وباقي المسكرات والميتة والدم وغيرهما.

---------------

هذا وأما حمل النهي فيما يتصف بالصحة والفساد علي الحرمة التكليفية المحضة فهو يحتاج إلي عناية خاصة، لو تمت دخل المنهي عنه في مسألة ملازمة النهي للفساد التي كان التحقيق فيها ثبوت الملازمة في الجملة في العبادات دون المعاملات علي ما ذكرناه في الأصول.

(1) بلا خلاف معتد به كما في الجواهر. بل ادعي عليه جماعة الإجماع عموماً، أو في خصوص بعض النجاسات كالكلب - في الجملة - والخنزير والميتة والدم والخمر والفقاع والسرجين النجس.

وقد استدل عليه بوجوه كثيرة يضيق الصدر عن عرضها واستقصاء الكلام فيها وتضييع الوقت بذلك بعد ظهور ضعفها واستيفاء الكلام في ذلك من غير واحد.

نعم قد يحسن التعرض لوجهين، ربما كانا هما أو أحدهما المنشأ لفتوي سيدنا المصنف (قدس سره) بالحرمة في المقام.

الأول: النصوص الواردة في العذرة والميتة والدم والخمر والخنزير والكلب الذي لا يصيد مما يأتي التعرض له، بضميمة عدم القول بالفصل - كما في الجواهر - أو إلغاء خصوصية مواردها عرفاً وفهم عدم الخصوصية لها، وأن موضوع المنع هو النجاسة العينية التي هي مشتركة بين الكل.

لكن عدم القول بالفصل لا ينهض حجة ما لم يرجع إلي الإجماع علي الملازمة وعدم الفصل بين النجاسات، الذي هو عبارة عن الإجماع المركب. ولا طريق لإحرازه بعد عدم تنبيههم له، بل غاية ما يدعي هو الإجماع البسيط علي المنع الذي يأتي الكلام فيه. كما لا مجال لفهم عدم الخصوصية، لعدم كون القدر المشترك - وهو النجاسة - عرفياً، بحيث ينسبق له الذهن من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة المذكورة.

ص: 17

ولاسيما بعد الإطباق علي حرمة بيع الخمر حتي بناءً علي طهارته، وعلي جواز بيع العبد الكافر مع أن المشهور نجاسته، وعلي جواز بيع بعض أقسام الكلب، وكذا الميتة عند اشتباهها بالمذكي، حيث يأتي جواز بيعها علي المستحل لها. مضافاً إلي معارضة النهي عن بيع العذرة بالترخيص فيه بنحو قد يقتضي تقديم الثاني إلي غير ذلك مما يمنع من استفادة العموم المذكور من تلك النصوص.

الثاني: الإجماع المشار إليه ففي التذكرة في فصل العوضين من كتاب البيع:" يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية... ولو باع نجس العين - كالخمر والميتة والخنزير - لم يصح إجماعاً ".معتضداً ذلك بدعوي الإجماع من غير واحد علي الحرمة في جملة من النجاسات، كالكلب - في الجملة - والخنزير والميتة والدم والخمر والفقاع والسرجين النجس، وبتصريح جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين بالحكم، بنحو يظهر منهم أو من كثير منهم المفروغية عن ذلك.

وفيه: أنه لا مجال للتعويل علي دعوي الإجماع المذكورة بعد كون المسألة ذات نصوص وردت في خصوص بعض النجاسات، حيث يحتمل ابتناء الفتوي بالعموم أو دعوي الإجماع عليه من بعضهم علي فهمهم منها أن موضوع الحكم هو نجس العين بالوجه الذي عرفت الإشكال فيه، من دون أن يكون إجماعاً تعبدياً.

ولاسيما وأنه يظهر من بعض كلماتهم ابتناء حرمة البيع علي حرمة جميع وجوه الانتفاع بالنجس، أو خصوص الانتفاع الظاهر منه. ففي الغنية بعد أن اشترط في المعقود عليه في البيع أن يكون منتفعاً به منفعة مباحة قال:" وقيدنا بكونها مباحة تحفظاً من المنافع المحرمة. ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلم... وهو إجماع الطائفة".

وعن شرح الإرشاد للفخر والتنقيح في بيان حرمة بيع الأعيان النجسة:" إنما يحرم بيعها، لأنها محرمة الانتفاع، وكل محرم الانتفاع لا يصح بيعه. أما الصغري فإجماعية ".وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):" وكيف فالمتتبع يقطع بأن اشتراط قابلية

ص: 18

الطهارة إنما هو فيما يتوقف الانتفاع المعتد به علي طهارته "...إلي غير ذلك من كلماتهم. حيث لا مجال مع ذلك لاستفادة قيام الإجماع علي حرمة بيع النجس تعبداً مع قطع النظر عن حرمة الانتفاع به.

مضافاً إلي أن قدماء الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) لا تعرف فتاواهم إلا من طريق إثبات النصوص ورواياتها، فإذا لم يكن العموم ظاهراً من النصوص كيف يمكن نسبته لهم ؟! خصوصاً بعد عدم وضوح شيوع المنافع المحللة للأعيان النجسة في العصور السابقة، بنحو يقتضي الاهتمام بها وتعمد جمعها وحفظها من أجل بيعها، ليمكن الإطلاع علي تحريم بيعها من سيرة متوارثة متصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام) أو مفروغية كذلك.

فإن مثل التسميد بالعذرة وإن كان أمراً شايعاً، إلا أنه لم يعلم كونه بنحو يقتضي الاهتمام بجمعها ثم بيعها، بل من القريب جداً ضيق عامة الناس بها، واهتمامهم بالتخلص منها، وإن كانت مورداً لانتفاع الزرّاع ونحوهم. حتي قد يبذلون المال للعاملين في الكنف أو لمن يخرجها من المدن من أجل أن يلقوها في مزارعهم.

وبالجملة: لا طريق لإحراز الإجماع التعبدي علي عدم جواز بيع الأعيان النجسة بعد قصور النصوص - التي اقتصر قدماء الأصحاب علي روايتها - عنه، وعدم وضوح سيرة عليه أو مفروغية عنه متصلتين بعصور المعصومين عليهم الصلاة والسلام.

ومن هنا يتعين التعرض للموارد الخاصة التي هي مورد النصوص، أو قيل بحرمة بيعها والنظر في أدلتها. وهي أمور:

الأول: الخنزير، فإن المعروف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) عدم جواز بيعه، كما يظهر مما تقدم عن التذكرة، وفي المبسوط الإجماع علي تحريم بيعه وإجارته واقتنائه والانتفاع به. وعن المنتهي إجماع المسلمين علي ذلك.

ويشهد به النصوص. ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" في

ص: 19

2 رجل كانت له علي رجل دراهم، فباع خمراً أو خنازير وهو ينظر فقضاه. فقال: لا بأس به. أما للمقتضي فحلال، وأما للبايع فحرام"(1) ، ونحوه صحيح داود بن سرحان(2). وفي خبر معاوية بن سعيد عن الرضا (عليه السلام): "سألته عن نصراني أسلم وعنده خمر وخنازير وعليه دين، هل يبيع خمره وخنازيره ويقضي دينه ؟ قال: لا"(3) ، ونحوها غيرها.

ومن هنا كان الحكم من الوضوح بحيث لا ينبغي أطالة الكلام فيه، وإنما ينبغي الكلام في أمرين.

أحدهما: أنه قد تضمن الصحيحان المتقدمان جواز أخذ الغير للثمن من البايع وإن حرم علي البايع. ومثلهما في ذلك صحيح زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في الرجل يكون لي عليه الدراهم، فيبيع بها خمراً وخنزيراً ثم يقضي منها؟ قال: لا بأس، أو قال: خذها"(4) ، وغيره.

وصرح غير واحد باختصاص ذلك بما إذا كان البايع كافراً أو ذمياً، وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به أجده في شيء من ذلك" .وعليه حملوا النصوص المتقدمة، تنزيلاً لها علي ما هو المعلوم من إقرار الذمي علي ما عنده بمقتضي الذمة، كما جرت عليه السيرة القطعية، وتضمنته النصوص أيضاً، كموثق منصور: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): لي علي رجل ذمي دراهم، فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر، فيحل لي أخذها؟ فقال: إنما لك عليه دراهم، فقضاك دراهمك"(5) ، وغيره. أما إذا كان مسلماً فمن المعلوم بطلان المعاملة منه، وأن أثمانها سحت، فكيف تحل لاخذها منه ؟!.

لكنه يشكل بأن المراد بإقرار الذمي علي ما عنده إن كان هو صحة المعاملة في حقه وحلية الثمن له شرعاً. فهو في غاية المنع، لوضوح أن الذمة لا تقتضي تبدل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 28 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 57 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 60 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 1.

ص: 20

أحكام الذمي في نفسه. بل هو لا يناسب قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم:" أما للمقتضي فحلال، وأما للذمي فحرام".

وإن كان المراد به مجرد عدم منعه مما يستحله من المحرمات، فهو لا ينافي بطلان المعاملة في حقه وحرمة الثمن له، وبقاءه علي ملك المشتري، كما هو الحال لو كان البايع للخمر والخنزير مسلماً.

وبذلك يظهر أن ما تضمنته النصوص المتقدمة من حلية الثمن لمن يأخذه من البايع واقعاً حتي مع علمه بالحال لا يبتني علي قضية إقرار الذمي علي ما عنده. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بلحاظ ما هو المعلوم من عموم ذلك لما إذا كان البايع حربياً أو معاهداً، من دون أن تكون له ذمة تقتضي إقراره علي ما عنده وحينئذٍ لا بد أن يبتني التحليل المذكور علي محض التعبد من أجل التسهيل في حق الآخذ للثمن من البايع. وبذلك يمكن عمومه لما إذ كان البايع مسلماً، ويتعين البناء عليه بعد عموم نصوص المقام له، المستفاد من ترك الاستفصال فيها.

ودعوي: أن المعهود من بيع ذلك في بلاد الإسلام بيع الكافر له دون المسلم، فينصرف إطلاق النصوص عن المسلم.

مدفوعة بأن الانصراف المذكور بدوي لا يعتد به، لما تكرر منّا من أن التعارف لا ينهض بتقييد الإطلاق. ولاسيما مع قرب شيوع بيع المسلمين الخمر، لشيوع شربه بينهم، خصوصاً أهل النفوذ والسلطان الذين لا يبالون بالتجاهر به، وبما يستتبعه من صنع وبيع وشراء وغيرها.

بل ربما كانوا يزاولون بيع الخنزير أيضاً، فإن عدم أكل المسلمين له لا يمنع من صيدهم له واتجارهم به علي الكفار، بعد ضعف الوازع الديني عند كثير من الناس، وتسامح السلطة في تطبيق الأحكام الشرعية. وإلا فيصعب جداً حمل إطلاق هذه النصوص الكثيرة علي خصوص الذمي أو الكافر من دون إشعار فيها بذلك.

ومثلها دعوي: سقوط هذه النصوص عن الحجية لهجر الأصحاب لها، لم

ص: 21

سبق من الجواهر. مدفوعة بعدم كفاية ذلك في سقوطها عن الحجية بعد ظهور حال الكليني والشيخ في التهذيب في إقرار مضمونها، وهو المحتمل في غير واحد من قدماء الأصحاب ممن تعرف فتاواهم من النصوص التي يروونها، وبعد إطلاق الشيخ في النهاية الفتوي بذلك، حيث قال في كتاب الديون:" ومن شاهد مديناً له قد باع ما لا يحل تملكه للمسلمين من خمر أو خنزير أو غير ذلك، وأخذ ثمنه، جاز له أن يأخذ منه، فيكون حلالاً له، ويكون ذنب ذلك علي من باع".

وبعد قرب عدم ابتناء تقييد من قيد بالكافر علي الإعراض عن هذه النصوص وهجرها، بل علي الاجتهاد منهم في مفادها وتنزيلها علي الكافر، لما تقدم مما عرفت ضعفه. بل كيف يمكن البناء علي هجرها مع ظهور عملهم بها في الجملة ولو في حق الكافر. ولا مجال للتفكيك في الهجر والعمل - اللذين يكونان معياراً في حجية الخبر وعدمها - بالإضافة إلي أبعاض مضمون الخبر الواحد.

غاية الأمر أن يدعي تخصيص عمومها - مع حجيته في نفسه - بالإجماع. لكن الظاهر أنه لا مجال لذلك في المقام، لعدم وضوح حصول إجماع تعبدي ينهض بالحجية، وبتخصيص العموم السابق. ولاسيما بملاحظة ما سبق في تقريب عدم هجر النصوص بنحو تسقط عن الحجية. ولعله لذا استشكل في تقييدها بالكافر في محكي الكفاية، ومال إلي العموم في محكي الحدائق.

ثم إنه بعد أن كان الحكم علي خلاف القاعدة فاللازم الاقتصار فيه علي مورد النصوص، وهو بيع الخمر والخنزير، وعدم التعدي لجميع موارد البيع الباطل والمكاسب المحرمة، كما هو مقتضي إطلاق ما سبق من النهاية، لعدم الشاهد علي العموم من النصوص وعدم الإشارة إليه فيها.

وأما دعوي فهم عدم الخصوصية منها عرفاً، وأن المعيار التسهيل بإمضاء المعاملة المحرمة في حق غير موقعها. فهي وإن كانت قريبة، إلا أنها ليست من الوضوح بحد يسهل معه الخروج عن مقتضي القاعدة.

ص: 22

نعم قوله (عليه السلام) في موثق منصور المتقدم:" إنما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك ".وارد مورد التعليل لجواز أخذ الدراهم، ولا ينهض بالتعليل إلا بعد المفروغية عن عدم مانعية حرمة المال في حقه من حلّ المال لغيره، وارتكازية التعليل تقضي بعدم خصوصية مورده، وهو بيع الخمر والخنزير. ومن ثم كان التعميم قريباً جداً.

غاية الأمر أن يقتصر في التعدي عن مورد النصوص علي ما إذا كان التحريم للمعاملة بنفسها مع قطع النظر عن حق الغير، دون ما إذا كان تحريم المعاملة لمنافاتها لحق الغير، كبيع السرقة والخيانة ونحوهما، لعدم وضوح إلغاء خصوصية ذلك ارتكازاً. فلاحظ.

ثانيهما: قال في النهاية في باب بيع الغرر:" والمجوسي إذا باع ما لا يجوز للمسلم بيعه - من الخمر والخنزير وغير ذلك - ثم أسلم كان له المطالبة بالثمن، وكان حلالاً له. وإذا أسلم وفي ملكه شيء من ذلك لم يجز له بيعه علي حال. فإن كان عليه دين جاز أن يتولي بيع ذلك غيره ممن ليس بمسلم ويقضي بذلك دينه...".

أما الأول - وهو جواز قبضه بعد أن أسلم ثمن البيع الذي أوقعه قبل إسلامه

فالظاهر عدم الإشكال فيه، لبنائهم عملاً علي أن الإسلام لا يمنع من ترتيب آثار صحة المعاملات الحاصلة قبله مما هو صحيح عند الكفار.

مضافاً إلي صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خنزيراً أو خمراً إلي أجل مسمي، فأسلما قبل أن يقبض الثمن، هل يحل له ثمنه بعد الإسلام ؟ قال: إنما له الثمن، فلا بأس أن يأخذه"(1) ، وما يأتي في حديث يونس.

وأما الثاني - وهو وفاء دينه من ثمن الخمر والخنزير اللذين كانا عنده قبل الإسلام - فكأنه اعتمد فيه علي حديث إسماعيل بن مرار - الذي تقدم عند الكلام في تحديد أقل الحيض قبول حديثه - عن يونس: "في مجوسي باع خمراً أو خنازير إلي أجل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 61 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 23

مسمي، ثم أسلم قبل أن يحل المال. قال: له دراهمه. وقال: إن أسلم رجل وله خمر وخنازير، ثم مات وهي في ملكه، وعليه دين. قال: يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره وخنازيره، ويقضي دينه. وليس له أن يبعه وهو حي، ولا يمسكه"(1).

لكنه يشكل: أولاً: بأن يونس لم يسند الحديث للإمام، بل ظاهر إسماعيل أنه فتوي من يونس نفسه، فاللازم البناء علي ظاهره. ولاسيما مع قرب كون يونس ممن يرجع إليه في الأحكام. ودعوي: أن ذلك خلاف ظاهر حال الكليني والشيخ، لإثباتها الحديث في الكافي والتهذيب المعدين لروايات الأئمة (عليهم السلام). ولاسيما بعد ظهور اعتماد الشيخ عليه في الفتوي المذكورة. مدفوعة بإمكان غفلتهما عن ذلك. بل ربما يثبت الكليني كلاماً يصرح به بأنه ليونس، فلا مجال للخروج عن ظاهر كلام إسماعيل.

نعم يتجه ذلك في المضمرات، حيث يصرح الراوي بأنه قد سأل غيره من دون أن يصرح بأنه الإمام، فإن ظهور الحال حينئذٍ صالح لحمله علي الإمام، لعدم ظهور كلامي معارض له. ولاسيما إذا كان السائل من ذوي المقام الرفيع، بحيث ليس من شأنه أن يستفتي غير الإمام.

وثانياً: بأن الحديث إنما تضمن بيع الخمر والخنزير من قبل الكافر، وهو في ذلك غير وكيل عن المسلم المدين، لفرض وفاته، فلا ينتسب البيع للمسلم ليكون محرماً عليه. غايته أنه يبتني علي قيامه مقامه. لكونه دائناً له أو ولياً عنه، وهو أمر يراه حلالاً في دينه وإن كان محرماً في ديننا. وحينئذٍ إذا حصل البيع منه كان وفاء دين الميت بالثمن من فروع المسألة السابقة التي سبق عدم الإشكال فيها إذا كان المتولي للبيع كافراً.

ومنه يظهر الحال في الفرع المتقدم من النهاية الذي يظهر منه فرض حياة المدين المسلم. فإنه إن كان المراد به صورة ما إذا كان الكافر المتولي للبيع وكيلاً عن المدين المسلم، بحيث ينسب البيع له. فمقتضي القاعدة حرمة البيع وعدم تملك المدين الثمن،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 57 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 24

ليحل له وفاء دينه به. والحديث المتقدم لا ينهض بتحليل المال وتحقق الوفاء، لما سبق من الإشكال فيه. بل مقتضي قوله فيه:" وليس له أن يبيعه وهو حي "هو التحريم، لأن مقتضي إطلاقه العموم لما إذا باعه بتوسط وكيله.

وإن كان المراد به صورة ما إذا لم يكن وكيلاً عن المدين، بل كان متبرعاً بالبيع بدلاً عنه، لأنه يري جوازه، فالحديث المتقدم يقتضي جواز ذلك، كما أنه مقتضي ما تقدم في المسألة السابقة.

اللهم إلا أن يقال: المتبرع بالبيع وإن كان يري صحة المعاملة ذاتاً، إلا أنه لا يري صحتها ونفوذها فعلاً إلا بإجازة المالك، والمفروض أن المالك مسلم لا يصح منه الإجازة. وبذلك لا يدخل في المسألة السابقة. كما لا ينهض به الحديث المتقدم، لأنه وارد في فرض موت المالك المسلم، حيث يري الولي والدائن أن من حقهما البيع من أجل وفاء الدين من دون حاجة إلي إجازة أحد.

نعم لو استقل المتبرع ببيع الخمر والخنزير، بعد تملكه لهما لإعراض المسلم عنهما، دخل في المسألة السابقة. لكن لا يبعد خروجه عن مفروض كلام الشيخ المتقدم.

الثاني: الكلب. ولا إشكال في عدم جواز بيعه في الجملة، وفي الجواهر:" بلا خلاف، بل الإجماع بقسميه عليه ".وفي الخلاف وظاهر التذكرة وعن المنتهي والتحرير الإجماع عليه. والنصوص به مستفيضة، كمعتبر أبي بصير:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ثمن كلب الصيد. قال: لا بأس بثمنه، والآخر لا يحل ثمنه"(1). وفي كثير منها أنه من السحت، كموثق محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي عبدالله أو صحيحهما عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت"(2) ، وموثق السكوني عنه (عليه السلام):" قال السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر..."(3) ، وغيرهما مما يأتي بعضه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 25

هذا والمعروف جواز بيع بعض أنواع الكلب. خلافاً لما عن العماني من إطلاق المنع منه. وهو محجوج باستفاضة نقل الإجماع والنصوص علي الجواز في الجملة.

إذا عرفت هذا فالظاهر جواز بيع كلب الصيد، كما صرح به الأصحاب، وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر" .ويشهد به النصوص المستفيضة، كحديث أبي بصير ومحمد بن مسلم وعبد الرحمن المتقدمين ومعتبر أبي بصير الآخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث: "أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت"(1) ، وغيرها.

ومقتضي إطلاق النص والفتوي العموم لغير السلوقي من الكلاب المعلمة، خلافاً لما في المقنعة وموضع من النهاية، فاقتصر علي الكلب السلوقي للصيد. وكأنه لانصراف الإطلاق له، لغلبة الصيد به.

لكنها لا تنهض بتقييد الإطلاق، كما ذكرناه غير مرة، خصوصاً في مثل المقام مما كان العنوان المأخوذ فيه مناسباً للحكم - لوضوح أن الصيد لما كان من المنافع المهمة كان مناسباً لتحليل البيع - حيث يناسب ذلك تبعية الحكم للعنوان من دون فرق بين خصوصيات الذات الأخري. ولاسيما ما تضمن من النصوص قصر الحكم بعدم حلّ البيع علي الذي لا يصيد أو الذي لا يصطاد، لقوة ظهوره في دخل الفعل في الحكم، وليس هو ككلب الصيد قد يراد الإشارة به للنوع المعهود، وإن كان مخالفاً للظاهر أيضاً.

وأشكل من ذلك ما في المراسم من الاقتصار علي الكلب السلوقي بنحو يظهر منه إرادة النوع الخاص وإن لم يكن معلماً. إذ فيه: أنه لا يناسب النصوص المتقدمة الظاهرة في إرادة خصوص المعلم الذي يصيد.

ومثله ما عن الإسكافي من تحريم بيع الأسود البهيم، فإن مقتضي إطلاقه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

ص: 26

العموم لما إذا كان كلب صيد معلم. إلا أن يبتني علي ما حكي عنه من تحريم صيده، لموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الكلب الأسود البهيم لا تأكل صيده، لأن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أمر بقتله"(1) ، بدعوي: انصراف كلب الصيد للكلب الذي يشرع صيده، لأن المناسبات الارتكازية قاضية بابتناء حلّ البيع علي مراعاة فائدة الصيد والاهتمام بها، فمع إلغائها في بعض الكلاب، لعدم ترتب فائدتها شرعاً يتعين قصور حل البيع عنه. ولاسيما مع التعليل في دليل إلغائها بما يناسب إهمال المالية، وهو أمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) بقتل الكلب المذكور. ومن ثم كان ما ذكره متيناً.

إلا أن يقال بجواز الصيد بالكلب المذكور، مع حمل الموثق علي الكراهة، كما هو المعروف. حيث يتجه حينئذٍ العمل بإطلاق حل بيع كلب الصيد، لعدم منافاة الكراهة له. والكلام في ذلك موكول إلي محله من مبحث الصيد.

هذا وقد ألحق ابن الجنيد والشيخ في بعض كلماته وجماعة ممن تأخر عنه بكلب الصيد في حلّ البيع كلب الماشية والزرع، أو كلب الماشية والحائط، أو الكلاب الثلاثة. بل ربما يعمم الجواز لكل كلب حارس وإن كان حارساً للدور والخيام ونحوها.

وقد يستدل علي ذلك: تارة: بما أرسله في المبسوط، فإنه بعد أن ذكر جواز بيع الكلب المعلم للصيد قال: "وروي أن كلب الماشية والحائط كذلك"(2). وأخري: بأن تقدير الدية له شرعاً يدل علي مقابلته بالمال. وثالثة: بأن المقتضي لحلّ بيع كلب الصيد - وهو المنفعة المحللة - موجود في هذه الكلاب، فتكون مثله في الحلّ. ورابعة: بأنه يجوز أجارتها، فيجوز بيعها، لعدم الفارق.

والكل كما تري. لاندفاع الأول بأن ضعف الحديث - بلحاظ إرساله - مانع من التعويل عليه. ودعوي: انجباره بعمل الأصحاب، لشهرة القول بجواز بيع هذه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 10 من أبواب الصيد حديث: 2.

(2) المبسوط فصل ما يصح بيعه وما لا يصح ج: 2 ص: 166 الطبعة الثانية، ووسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

ص: 27

الكلاب، خصوصاً بين المتأخرين. ممنوعة، لعدم وضوح اعتمادهم عليه، بل لعلهم اعتمدوا علي بعض الوجوه الأخري المتقدمة أو غيرها. ولاسيما مع ظهور اضطرابهم في حكم هذه الكلاب. ومن هنا لا مجال للبناء علي حجية المرسل المذكور.

خصوصاً مع مخالفته للنصوص الكثيرة الحاصرة لحلّ البيع بكلب الصيد، فإن الاقتصار فيها علي الصيد مع شيوع الانتفاع بالكلب في الحراسة - حتي كان الصيد والحراسة المنفعتين الظاهرتين للكلب - كالصريح في عدم الاعتداد بالانتفاع المذكور في حلّ البيع. بل لعلّ قوله (عليه السلام) في معتبر أبي بصير المتقدم:" والآخر لا يحل ثمنه "مسوق لبيان ذلك.

ومنه يظهر وهن ما قد يدعي من أن ذكر كلب الصيد في النصوص لمجرد التمثيل، وأن المراد الإشارة إلي ما ينتفع به منفعة محللة. إذ فيه: أن إلغاء خصوصية الصيد مع تأكيد النصوص علي ذكره وإهمال غيره بعيد جداً.

كما يندفع الثاني بأن ثبوت الدية لا يستلزم جواز البيع، بل لا يستلزم ثبوت المالية شرعاً، وإنما يدل علي احترام الكلاب المذكورة، وهو أعم من جواز البيع.

وأما الثالث فهو راجع للقياس المعلوم عدم حجيته، خصوصاً في مقابل النص. علي أن مقتضاه عموم الحلّ لكل ذي منفعة محللة من الكلاب، سواءً كانت معروفة سابقاً أم مستحدثة كالاستخدام، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك، بل هو مما تأباه كلماتهم.

ومثله ما قد يدعي من أن ثبوت المنفعة المحللة لهذه الكلاب يقتضي جواز بيعها بلا حاجة للقياس. لاندفاعه بأن اقتضاءه لذلك إنما هو بلحاظ عموم نفوذ البيع، الذي يلزم رفع اليد عنه بالنصوص المتقدمة المانعة.

ويندفع الرابع بأن جواز إجارتها - لملكية منفعتها تبعاً لملكيتها - لا ينافي المنع من بيعها للنصوص المتقدمة.

وبعبارة أخري: لا ريب في أن مقتضي القاعدة الأولية جواز بيع هذه الكلاب،

ص: 28

لوجود المنفعة المحللة لها، إلا أن النصوص المتقدمة وافية بالخروج عن القاعدة المذكورة. ولا مجال للخروج عن هذه النصوص بالوجوه المتقدمة أو غيرها، وإن أتعب صاحب الجواهر نفسه في محاولة لذلك بما لا يرجع إلي محصل ظاهر يمكن الركون إليه في مقام الاستدلال علي الحكم الشرعي.

بل يصعب جداً حمل إطلاقات المنع عن بيع الكلب علي ما عدا الكلاب الأربعة التي هي ذات المنافع الظاهرة في عصر صدور النصوص، إذ هو حمل الفرد النادر الذي لا تناسبه طبيعة البيع، لأن البيع طبعاً إنما يكون من أجل منفعة معتد بها. ومن ثم كان اللازم الاقتصار في الجواز علي كلب الصيد الذي هو مورد النصوص المستفيضة، والذي هو غير شايع في الكلاب، فيسهل استثناؤه من عموم المنع. فلاحظ.

الثالث: الميتة. ولا يجوز بيعها بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر، وعن غير واحد دعوي الإجماع عليه. بل في رهن الخلاف ما يظهر منه الإجماع علي عدم ملكيتها. وإن كان هو غير ظاهر، كما يأتي في تتمة هذه المسألة.

وكيف كان فيدل عدم جواز بيعها - مضافاً إلي الإجماع المذكور - النصوص الكثيرة. منها: ما تضمن أن ثمنها سحت، كموثق السكوني المتقدم في الكلب، وما ورد في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام) -(1) ، ومرسل الفقيه(2).

ومنها: ما تضمن النهي عن بيعها. مثل ما عن مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام):" قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم تقطع من إلياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما يقطع ؟ قال: نعم يذيبها، ويسرج بها، ولا يأكلها ولا يبيعها"(3) ، ونحوه خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) -(4) ، وصحيحه عنه (عليه السلام): "سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، أيصلح له بيع جلودها ودباغه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

(4) راجع قرب الإسناد ص: 115 وقد أشار إليه في الوسائل في ذيل حديث البزنطي.

ص: 29

ويلبسها؟ قال: لا. ولو لبسها فلا يصلي فيها"(1) ، وغيرها.

مضافاً إلي النصوص الآتية في الميتة المختلطة بالمذكي المشعرة أو الظاهرة بعدم جواز بيع الميتة ممن لا يستحلها.

بل بناءً علي عدم جواز الانتفاع بالميتة أو بمطلق النجس يتعين عدم جواز بيعها، لما يأتي في المسألة الثالثة إن شاء الله تعالي. لكن الظاهر ضعف المبني المذكور، كما يأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالي.

هذا وقد يشكل عدم نهوض الإجماع المتقدم بالاستدلال. لاحتمال ابتنائه علي الإجماع المتقدم علي عموم حرمة بيع النجس، أو علي البناء علي حرمة الانتفاع به، أو بخصوص الميتة، أو علي عدم تملك نجس العين أو الميتة، كما يناسبه ما تقدم من الخلاف. وقد عرفت المنع من الأول، ويأتي في المسألة الخامسة المنع من الثاني، وأشرنا قريباً إلي ضعف الثالث. ويأتي التعرض لوجهه في تتمة هذه المسألة إن شاء الله تعالي. فالعمدة النصوص المتقدمة الوافية بإثبات الحكم دلالة وسنداً.

نعم في خبر أبي القاسم الصيقل وولده:" كتبوا إلي الرجل: جعلنا الله فداك، إنا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرون إليها، وإنما علاجنا جلود الميتة والبغال والحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدنا وثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا؟... فكتب: اجعل ثوباً للصلاة "(2) فإن الاقتصار في الجواب علي تخصيص الصلاة بثوب ظاهر في إقرار ما تضمنه السؤال من البيع والشراء وغيرها.

لكنه - مع الإشكال في سنده، لعدم النص علي وثاقة أبي القاسم الصيقل ولا ولده - قد يستشكل في الاستدلال به بأنه يدل علي جواز كون الميتة من شؤون المبيع - لكونها غلافاً لغمده أو لمقبضه - فهي جزء من المبيع غير معتد به، أو تابع له بنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 30

الشرط، ولا يدل علي جواز بيعها مستقلاً.

وقد دفع بعض مشايخنا (قدس سره) ذلك بأنه مبني علي رجوع الضمائر في قوله:" عملها وشراؤها... "إلي السيوف، وهو خلاف الظاهر، بل الظاهر رجوعها إلي الجلود، إذ لا وجه لأن يشتري السياف سيوفاً من غيره، ولا للسؤال عن حكم مسها وعملها. كما أن من البعيد جداً، بل المستحيل عادة الحصول علي الكميات التي تكفيهم من الجلود من دون شراء. مع أنه لا مجال للبناء علي أن الغلاف هو التابع دائماً، إذ ربما تكون قيمته أكثر من قيمة السيف، فيكون السيف هو التابع.

وفيه: أن التمهيد للسؤال بقوله:" إنا قوم نعمل السيوف "موجب لقوة ظهور كون مرجع الضمائر المذكورة هو السيوف، لا الجلود المذكورة بعد ذلك تبعاً. وقوله:" إنا قوم نعمل السيوف... "لا يراد به أنهم سيافون يصنعون السيوف بتصيير الحديد سيوفاً، بل يعملون في السيوف حتي يجعلوها صالحة للاستعمال ومهيأة له بشحذها وجعل المقبض والغمد لها، كما يناسبه بقية فقرات السؤال، وأنهم صياقلة، والصيقل هو الذي يشحذ السيوف ويجلوها ويصقلها، لا الذي يصنعها من الحديد.

وحينئذٍ لا مانع من كونهم يشترون السيوف من أجل أن يعملوا فيها حتي يجعلوها مهيأة للاستعمال وصالحة له، كما يتجه منهم حينئذٍ السؤال عن شراؤها. وكذا السؤال عن مسها، حيث يراد به حينئذٍ مسها مع مصاحبتها للميتة أو ملاقاتها لها، كما تقتضيه طبيعة العمل المذكور.

ودعوي: أنه لا منشأ للإشكال في شراء السيوف ليسأل عنه. مدفوعة بأن المستفاد من مساق السؤال أن السؤال في الحقيقة إنما هو عن الصلاة في ثياب العمل، والتفصيل المذكور في السؤال ليس لكون الخصوصيات المذكورة فيه مورداً للإشكال، بل لمجرد التمهيد لما هو مورد الغرض الحقيقي، كما يصدر كثيراً من العوام في عرض مشاكلهم، أو لكون السؤال منقولاً بالمعني. ويناسب أحد الأمرين الاقتصار في الجواب علي حكم الصلاة، وما في رواية القاسم الصيقل:" كتبت إلي الرضا (عليه السلام) إني

ص: 31

أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي، فأصلي فيها. فكتب: اتخذ ثوباً لصلاتك..."(1) ، حيث يقرب جداً اتحاد المكاتبة في الروايتين.

وأما ما ذكره من أن من المستحيل عادة الحصول علي الكميات التي تكفيهم من الجلود من دون شراء. ففيه: أن ذلك لا يكفي في صرف السؤال إلي شرائها ورفع اليد عن ظهوره في شراء نفس السيوف. وحينئذٍ ربما كانوا يحلون المشكلة لو توجهوا لها بالمصالحة عن حق الاختصاص الذي يأتي الكلام فيه في المسألة الثانية. علي أن السؤال لم يتضمن أن جميع الجلود التي يعملون بها من جلود الميتة.

كما أن ما ذكره من أن الغلاف قد لا يكون هو التابع، لأن قيمته قد تكون أكثر من قيمة السيف، لا يتم إلا إذا كان المراد بالغلاف فيه هو الغمد. وحينئذٍ يندفع بأن الغمد - مع غلبة تبعيته للسيف - ليس بتمامه من جلد الميتة، بل جلد الميتة غلافه لا غير، وهو ملحوظ دائماً بنحو التبعية.

وبالجملة: لا موجب للخروج عما يقتضيه مساق الكلام من رجوع الضمائر للسيوف، بحيث يوجب ظهوره في رجوعها للجلود، ولا أقل من إجمال السؤال من هذه الجهة. ومن ثم لا مجال للخروج به - لو كان حجة في نفسه - عن النصوص المانعة الكثيرة الظاهرة الدلالة المعول عليها عند الأصحاب. ولاسيما مع اعتبار أسانيد بعضها.

بقي في المقام أمران:

أحدهما: إذا اختلط المذكي بالميتة فمقتضي القاعدة جواز بيع المذكي دون الميتة. وحينئذ إن بيع المذكي وحده ودفعت الميتة معه تبعاً، صح البيع. وإن بيعا معاً صح البيع في المذكي دون الميتة، وتبعض الثمن تبعاً لتبعض الصفقة. غاية الأمر أن يثبت خيار تبعض الصفقة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 32

ومجرد وجوب الاجتناب عن المذكي، لمنجزية العلم الإجمالي، أو لأصالة عدم التذكية في كل منهما. لا يمنع من صحة بيعه بعد عدم المانع من بيعه واقعاً، لأن وجوب الاجتناب المذكور ظاهري عقلي لا يخرجه عن المالية، ولا عن كونه ذا منفعة محللة واقعاً.

ودعوي: أن جهالة المبيع تمنع من البيع في المقام. ممنوعة، لعدم مانعية مثل هذه الجهالة علي ما يتضح في محله إن شاء الله تعالي.

هذا ولكن قد تضمن بعض النصوص جواز بيعهما معاً ممن يستحل الميتة، كصحيح الحلبي: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إذا اختلط المذكي والميتة باعه ممن يستحل الميتة، وأكل ثمنه"(1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام):" أنه سئل عن رجل كان له غنم وبقر، وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به ؟ قال يبيعه ممن يستحل الميتة، ويأكل ثمنه، فإنه لا بأس به"(2). وقريب منه صحيح علي بن جعفر(3). وبذلك أفتي في النهاية والوسيلة ومحكي الجامع والمختلف والكفاية. وعن مجمع البرهان شهرة العمل بالأخبار المذكورة.

لكن في السرائر: "والأولي اطراح هذه الرواية وترك العمل بها، لأنها مخالفة لأصول مذهبنا..." .وعن المختلف الجواب عن ذلك بأنه ليس بيعاً حقيقة، بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه.

ويشكل بأن الكافر قد يكون محترم المال. بل المستحل قد لا يكون كافراً كالمخالف الذي يري ذكاة جلد الميتة بالدبغ أو يخالفنا في بعض شروط التذكية. فالأولي توجيه أخذ المال منه بقاعدة الإلزام. وكيف كان فليس ذلك عملاً بالنصوص، بل هو خروج عن ظهورها في البيع الحقيقي.

ومثله ما في الشرايع والقواعد وعن التحرير من جواز البيع إذا قصد بيع المذكي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(3) البحار ج: 1 ص: 252، وأشار إليه في الوسائل في ذيل الحديث المتقدم.

ص: 33

خاصة، وما ذكره شيخنا الأعظم من جوازه إذا قصد بيع ما لا تحله الحياة، كالشعر والصوف. والي ذلك يرجع قوله في مفتاح الكرامة: "فالخبران لمكان اعتبارهما وعمل جماعة بهما لابد من تأويلهما".

علي أن ذلك قد يشكل باستلزام الوجوه المذكورة تسليط المستحل علي الميتة مع قصده أكلها، وهو مشكل جداً لو لم يعمل بظاهر النصوص، نظير تقديم الميتة هدية له وهو في مقام أكلها الذي يصعب البناء علي جوازه. فتأمل.

والتحقيق أنه لا مجال لطرح النصوص المذكورة ولا تأويلها بعد عدم كون القاعدة المانعة من بيع الميتة عقلية، بل هي قاعدة سمعية تقبل التخصيص، فيتعين تخصيصها بالأخبار المذكورة بعد وضوح مضمونها، واعتبار أسانيدها، وظهور عمل الأصحاب بها، ولا موجب لتأويلها بالوجوه المتقدمة أو غيرها.

نعم قد ينافي ذلك حديثان:

الأول: معتبر الجعفريات عن علي (عليه السلام): "أنه سئل عن شاة مسلوخة وأخري مذبوحة عمَي علي الراعي أو علي صاحبها، فلا يدري الذكية من الميتة. قال: ترم بهما جميعاً إلي الكلاب"(1). وهو ظاهر في سقوطهما عن الانتفاع رأساً بحيث لا مجال للحفاظ علي ماليتهما.

لكن يمكن الجمع بينه وبين النصوص السابقة بحمله علي صورة عدم تيسر البيع ممن يستحل الميتة، لما هو المعلوم من أن وجود المشتري بالنحو المذكور يحتاج إلي كلفة وعناية، فيرجع إلي تعذر أكل المسلم له، الذي تقدم أنه مقتضي العلم الإجمالي. ولو تعذر الجمع المذكور عرفاً، لعدم كفاية ذلك في القرينة عليه، تعين حمله علي استحباب تجنبه وعدم الانتفاع به حتي بالبيع علي المستحل.

الثاني: معتبر شعيب عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل دخل قرية فأصاب بها لحماً لم يدر أذكي هو أم ميت ؟ فقال: فاطرحه علي النار، فكلّ ما انقبض فهو ذكي، وكلّ م

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 34

انبسط فهو ميت"(1). وقد عمل به في الغنية والوسيلة، وهو ظاهر الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب.

وهو صريح في إمكان التمييز، فيعارض نصوص البيع ممن يستحل الميتة الظاهرة في كون ذلك هو الطريق الوحيد للاستفادة من اللحم بعد تعذر استعماله بسب اختلاطه وتعذر تمييزه.

وقد ذكر بعضهم أنهما مختلفان مورداً، فمورد نصوص البيع من المستحل الميت المختلط بالمذكي، الذي هو مورد العلم الإجمالي، ومورد معتبر شعيب اللحم المشتبه الحال من دون أن يكون طرفاً للعلم الإجمالي، فيعمل بكل منهما في مورده.

ويشكل بإلغاء خصوصية مورد شعيب عرفاً، لأن الانقباض إذا كان أمارة علي التذكية يخرج بها عن أصالة عدم التذكية فهو أمارة عليها مطلقاً ولو في مورد العلم الإجمالي، كما هو الحال في سائر الأمارات في مورد الشبهة البدوية، كالبينة. ولاسيما في هذه الأمارة التي ينسبق من دليلها أنها من اللوازم الواقعية. علي أن مورد معتبر شعيب وإن كان هو الشبهة البدوية، إلا أن لسان الجواب فيه يناسب العموم، كما يظهر بأدني تأمل فيه.

ومنه يظهر معارضته أيضاً لمعتبر الجعفريات المتقدم. كما لا إشكال في معارضته لجميع ما تضمن عدم ترتيب أثر التذكية علي اللحم في جميع موارد الشك في التذكية من دون أمارة عليها(2).

مضافاً إلي أن مضمونه لا يخلو عن غرابة، لوضوح أن أكثر شروط التذكية تعبدية، كالتسمية والاستقبال وإسلام المذكي وقطع الأوداج الأربعة مع عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 37 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1. إلا أن الموجود فيه إسماعيل بن شعيب، والموجود في الكافي والتهذيب: إسماعيل بن عمر عن شعيب.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5، 14، 18، 19، 20، 22 من أبواب الصيد، وباب: 13 من أبواب الذبح.

ص: 35

استعصاء الحيوان، ومن البعيد دخلها في انقباض اللحم، بل يكاد يقطع بعدمه.

ومن ثم كان من المشكل الذي يرد عمله إلي أهله، أو يقتصر فيه علي مورده، وهو اللحم المطروح في القرية الذي لا يعلم حاله، أو يحمل الميت فيه علي الميت حتف أنفه لا مطلق غير المذكي.

وكيف كان فلا مجال للخروج به عما يظهر من نصوص البيع من المستحل والنصوص الكثيرة الأخري المشار إليها آنفاً من تعذر تمييز المذكي من غيره بوجه شرعي.

ثانيهما: ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه يجوز المعاوضة علي الميتة من غير ذي النفس السائلة - كميتة السمك - إذا كان لها منفعة محللة معتد بها. قال: "وصرح بما ذكرنا جماعة. والظاهر أنه لا خلاف فيه" .وكأنه لأن حرمة بيع الميتة عندهم من صغريات حرمة بيع نجس العين، فلا يشمل ميتة ما لا نفس له، لطهارتها.

لكن سبق المنع من ذلك، فيتعين ابتناء ما ذكره (قدس سره) علي قصور أدلة حرمة بيع الميتة عن ميتة غير ذي النفس، كما هو المعلوم في أكثر تلك الأدلة، علي ما يظهر بملاحظتها.

نعم قد يشكل فيما تضمن أن ثمن الميتة سحت، ومنه موثق السكوني المتقدم، حيث يخفي وجه الانصراف فيه بعد فرض كونه تعبدياً غير مبني علي حرمة بيع النجس، ولذا يقتصر فيه علي مورده ولا يتعدي منه لسائر النجاسات. وكذا صحيح الحلبي الأول المتقدم في الميت المختلط بالمذكي، الذي سبق ظهوره أو إشعاره بعدم جواز بيع الميتة. فلاحظ.

الرابع: الخمر بل كل مسكر، فإنه لا يجوز التكسب به بالإجماع المدعي في كلام غير واحد، بل لعله من ضروريات الدين. والنصوص به مستفيضة.

منها: ما تضمن أن ثمنه سحت، كموثق السكوني المتقدم عند الكلام في حرمة بيع الكلب، وصحيح عمار بن مروان عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه:" والسحت أنواع

ص: 36

كثيرة، منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر..."(1) ، وغيرهما كثير.

ومنها: ما تقدم عند الكلام في تحريم بيع الخنزير.

ومنها: ما تضمن تحريم بيعها أو ثمنها أو لعن بايعها أو نحو ذلك، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) وفيه:" إن الذي حرم شربها حرم ثمنها..."(2) ، وموثق زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام): "قال: لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها..."(3)... إلي غير ذلك مما يوجب وضوح الحكم، ويغني عن إطالة الكلام فيه.

وتقدم في بعض النصوص التعميم لغير الخمر من المسكر ومقتضي إطلاقه العموم لما لا يعد للشرب، كالكحول المستعمل للتعقيم وغيره في عصورنا.

ودعوي: انصرافه لما يعد للشرب، نظير النهي عن غرسها وعصرها وسقيها. غير ظاهرة. والقياس علي الأمور المذكورة في غير محله.

أولاً: لاختصاص هذه الأمور بالخمر.

وثانياً: لأن المنصرف من تحريم هذه الأمور كونه مقدمياً بلحاظ ترتب الحرام عليها، ولا مجال لذلك في البيع، خصوصاً بعد كون تحريمه وضعياً.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن مقتضي حرمة البيع والثمن بطلان البيع وبقاء الثمن علي ملك المشتري، فيجب إرجاعه له مع معرفته، ويجري عليه حكم مجهول المالك بدون ذلك.

لكن في صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل ترك غلاماً له في كرم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه. قال: لا يصلح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

ص: 37

ثمنه... ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام):

إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها" (1) وفي موثق أبي أيوب أو صحيحه عنه (عليه السلام): إن أحب الأشياء إلي أن يتصدق بثمنه "(2) ومقتضاهما جواز التصدق بالثمن مطلقاً ولو مع معرفة البايع وعدم وجوب إرجاعه إليه حينئذٍ.

إلا أنه لا يظهر من الأصحاب (رضي الله عنهم) البناء علي ذلك، لعدم تنبيههم له، بل عن مرآة العقول أن المقطوع به من كلامهم وجوب الردّ مع معرفة المالك. وكأنه لاستحكام القاعدة التي أشرنا إليها.

إلا أن الخروج عنها بالحديثين غير عزيز بعد اعتبار سندهما، واحتمال ابتنائهما علي نحو من العقوبة للمشتري وإلزامه بما فعل، فإنه قد أخذ الخمر وانتفع بها، فإذا رجع إليه ثمنها كان الرابح محضاً. فإن ذلك وإن لم ينهض دليلاً علي الحكم، إلا أن ابتناء الحديثين عليه قريب جداً.

ودعوي: سقوطهما عن الحجية بهجر الأصحاب. غير ظاهرة، لعدم توجه الأصحاب لهذا الحكم ولا للفروع المترتبة علي بطلان المعاملة، ليتضح منهم رفضه و الإعراض عن الحديثين. غاية الأمر أنهم لم ينبهوا إلي مخالفته لمقتضي القاعدة، وهو أعم من الإعراض المسقط للحديثين عن الحجية. ولاسيما بعد ظهور الكليني في الاعتماد علي الحديثين. كما يحتمل ذلك في جميع القدماء الذين تعرف فتاواهم من طريق روايتهم للنصوص.

ومثلها دعوي: حملهما علي صورة الجهل بالمشتري وتعذر الرجوع إليه. فإنها خالية عن الشاهد، ولا تناسب إطلاق الحديثين. فلاحظ.

الثاني: تقدم في مسألة بيع الخنزير أن في بعض النصوص ما يقتضي جواز أخذ الثمن من البايع وإن كان حراماً عليه. وهو جار في بيع الخمر، لاشتراكه مع بيع الخنزير في النصوص المذكورة. فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 38

الخامس: الدم. ولا يجوز بيعه بلا خلاف، وعن نهاية الأحكام الإجماع عليه، وفي الجواهر:" بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه ".ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك، وإلي التنصيص عليه في حديث تحف العقول(1) والرضوي (2)- مرفوع الواسطي قال:" مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقصابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع الدم والغدد وآذان الفؤاد..."(3).

لكن الإجماع لم يثبت بنحو ينهض بالحجية، ومن القريب ابتناؤه علي الإجماع المتقدم في نجس العين، أو نحو ذلك مما تقدم عند الكلام في الإجماع علي حرمة بيع الميتة. وحديث تحف العقول ضعيف بالإرسال.

نعم في الوسائل: "ورواه المرتضي في رسالة المحكم والمتشابه كما مر في الخمس غيره" .ولعله منشأ ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حكايته عن غير واحد عن الرسالة المذكورة.

لكن الموجود في الوسائل عن الرسالة المذكورة في أبواب الخمس والأنفال بإسناد أشار إليه أحاديث أخر ليس منها الحديث المذكور، بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه ليس في هذه الرسالة من حديث تحف العقول عين ولا أثر، ولم يذكر حتي بمضمونه فيها.

علي أن الحديث المذكور مضطرب المتن مشتمل علي ما لا يقول به الأصحاب. وربما يستفاد منه - علي اضطرابه - أن المعيار في حرمة البيع للدم وغيره حرمة المنفعة الظاهرة منه، فيكون أجنبياً عما نحن فيه من حرمة بيعه تعبداً مطلقاً.

ومثله في ذلك الرضوي. مضافاً إلي الإشكال فيه بضعف السند، بل لم يتضح كونه رواية عن المعصوم، علي ما ذكره غير واحد، وأشرنا إليه في غير موضع من هذا الشرح.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

ص: 39

وأما مرفوع الواسطي فهو ضعيف لا ينهض بالاستدلال. مضافاً إلي ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من انصرافه للبيع للأكل، لأنها المنفعة الظاهرة من الدم المعروفة في الجاهلية، حتي حرم الدم من أجل ذلك في القرآن المجيد، كما يناسبه سياقها في المرفوع في عداد مستثنيات الذبيحة المعلوم عدم حرمة بيعها إلا إذا كانت المنفعة الظاهرة لها الأكل.

اللهم إلا أن يقال: من البعيد جداً تعارف أكله في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد تأكيد تحريمه في الكتاب المجيد، وبعد تحسن الوضع الاقتصادي في عصور الإسلام الأولي، بل من القريب جداً النهي عن بيعه تعبداً ولو لغير الأكل، كإطعام الكلاب والتسميد.

نعم يقصر عن بيعه للتزريق الذي تعارف في عصورنا، لعدم معهوديته في تلك العصور، وعدم كون الصالح منه لذلك مورد ابتلاء القصابين.

فالعمدة في وهن الحديث ما ذكرناه أولاً من ضعفه. ودعوي: انجباره بعمل الأصحاب. غير ظاهرة، إذ لم يورده من أهل الحديث إلا الكليني (قدس سره) في جملة نصوص محرمات الذبيحة، ولا يظهر منه تعويله عليه في حرمة البيع. وأما أهل الفتوي فالمعروف بينهم عموم حرمة بيع الأعيان النجسة ودخول الدم في ذلك، ولا طريق لإحراز تعويلهم علي الحديث المذكور.

هذا وقد قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) قصور الحرمة عن بيع الدم الطاهر إذا كانت له منفعة محللة مقصودة كالصبغ. وهو متجه بناءً علي ابتناء أدلة حرمة بيع الدم علي عموم حرمة بيع النجس، وأنه من صغرياته. لكن سبق المنع من العموم المذكور، وأنه يتعين الاقتصار علي موارد النصوص لو نهضت بالحجية، وحيث كانت مطلقة فلابد في الاقتصار علي النجس من دليل، وهو مفقود. فيتعين البناء علي عدم الفرق بين الطاهر والنجس في حرمة البيع أو جوازه.

السادس: العذرة. ولا يجوز بيعها علي المشهور، بل عن غير واحد نقل الإجماع

ص: 40

عليه، أو علي حرمة بيع مطلق السرجين النجس، وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه" .ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - خبر يعقوب ابن شعيب عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: ثمن العذرة من السحت"(1) ، ومرسل دعائم الإسلام عنه (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام):" إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن بيع الأحرار... وعن بيع العذرة. وقال: هي ميتة"(2).

لكن الإجماع يجري فيه ما سبق في الإجماع علي بيع حرمة بيع الميتة. والخبران - مع ضعفهما - معارضان بمعتبر محمد بن مضارب عنه (عليه السلام): "لا بأس ببيع العذرة"(3).

هذا وقد جمع الشيخ (قدس سره) بين خبر يعقوب ومعتبر محمد بن مضارب بحمل الأول علي عذرة الإنسان والثاني علي عذرة غيره، كما في الاستبصار، أو علي خصوص فضلة البهائم التي يحل أكلها، كما في التهذيب، وربما رجع الأول للثاني، كما يناسبه ما في المبسوط والخلاف من المنع من بيع السرجين النجس.

وكيف كان فالجمع المذكور تبرعي لا شاهد عليه. بل لو أريد حمل معتبر محمد بن مضارب علي خصوص فضلة البهائم التي يحل أكلها، فهو مخالف للظاهر جداً، لعدم معهودية إطلاق العذرة علي ذلك بل يطلق عليه السرجين أو الروث أو نحوهما.

وقد استشهد الشيخ علي الجمع المذكور بموثق سماعة:" سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر. فقال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول ؟ قال: حرام بيعها وثمنها. وقال:

لا بأس ببيع العذرة" (4) قال في التهذيب: "فلولا أن المراد بقوله: حرام بيعها وثمنها ما ذكرناه لكان قوله بعد ذلك: ولا بأس ببيع العذرة مناقضاً له، وذلك منفي عن أقوالهم (عليهم السلام)، ونحوه في الاستبصار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 40 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 2.

ص: 41

لكنه كما تري، فإن الموثق المذكور إن كان حديثاً واحداً فكما لا يمكن التناقض فيه لا يمكن التناقض بين خبر يعقوب ومعتبر محمد، لاستحالة تناقض أحكامهم (عليهم السلام)، إلا أن ذلك لا يقتضي الجمع بالوجه المذكور، بل غاية ما يلزم وجود مبرر لهذا التدافع من دون أن ينهض بتعيينه وشرحه.

علي أن من القريب أنه حديثان في مناسبتين، كما يناسبه توسط قوله:" وقال "علي ما أشرنا إليه غير مرة من هذا الشرح، تبعاً لما نبّه له شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن طريقة أصحاب الكتب إثبات أحاديث الأئمة (عليهم السلام) التي يسمعونها تدريجاً، ويفصلون بينها بمثل: (قال).

ويؤكد ذلك في المقام أمران:

أحدهما: إضافة البيع للاسم الظاهر، ولو كان في سياق جواب السؤال الأول لكان المناسب إضافته للضمير.

ثانيهما: أن من البعيد جداً اكتفاء السائل بجواب متضارب متدافع من دون طلب استيضاح الحال.

وحينئذٍ يجري علي التنافي بين هذين الحديثين ما يجري علي التنافي بين خبر شعيب ومعتبر محمد، من دون أن يصلحا لبيان مبرر التدافع، ووجه الجمع بينهما.

بل الإنصاف أن الموثق لا يناسب الجمع المتقدم من الشيخ (قدس سره)، لظهور حال سماعة في وحدة المراد بالعذرة في الكلامين، وإلا كان المناسب منه جداً التنبيه لاختلاف المراد ورفع الإشكال من هذه الجهة. بل كأن قوله:" وأنا حاضر "لتأكيد التدافع بين الكلامين، ودفع توهم أن صدر الحديث لم يسمعه بنفسه، بل نقله غيره له، وأخطأ في نقله وصحفه.

ومثل ذلك في الضعف ما عن المجلسي من حمل خبر المنع علي بلاد لا ينتفع فيها بالعذرة وخبر الجواز علي بلاد ينتفع بها فيها. إذ فيه - مع أنه جمع تبرعي - أن البلاد التي لا ينتفع فيها بالعذرة ليس من شأنها أن تباع فيها، ليسأل عن ذلك ويمنع منه.

ص: 42

وكذا ما عن المامقاني (قدس سره) من حمل رواية الجواز علي الاستفهام الاستنكاري. فإنه تحكم لا شاهد له، بل مخالف للظاهر جداً. كما أن ما سبق من ظهور موثق سماعة في التدافع بين الكلامين لا يناسب هذين الوجهين أيضاً.

هذا وربما جمع بين الطائفتين بحمل نصوص المنع علي الكراهة، كما عن السبزواري احتماله. وقد استبعده شيخنا الأعظم (قدس سره). ولعله لما في الجواهر من أن لفظ السحت والحرام كالصريح في خلاف الكراهة.

لكنه ليس بحدّ يمنع من الجمع العرفي بذلك بقرينة ما هو نص في الجواز، كما جري عليه الأصحاب في موارد كثيرة، في أمثال التعابير المذكورة، حملاً لها علي المبالغة الشايعة في استعمالات البلغاء.

نعم ظهور موثق سماعة في استحكام التعارض قد لا يناسب ذلك، لظهوره في عدم ظهور الحمل المذكور له ولا للسائل في مقام الحاجة للبيان، بحيث أوجب تحيره وتأكيده علي التعارض. ولو كان الجمع المذكور عرفياً ولو في خصوص المقام لم يحسن منه ذلك، بل كان المناسب منه التنبيه له. فتأمل جيداً.

هذا ولو فرض استحكام التعارض في المقام فقد يدعي تقديم دليل الجواز لمخالفته للعامة.

لكن عن المامقاني أن مجرد كون المنع مذهب أكثر العامة لا ينفع مع كون فتوي أبي حنيفة المعاصر للإمام الصادق (عليه السلام) الذي صدرت عنه الروايات هو الجواز. ولعله اعتمد في ذلك علي ما في التذكرة من نسبة جواز بيع السرجين النجس لأبي حنيفة، خلافاً لبقية فقهاء العامة.

إلا أنه يشكل بأن ذلك لا يناسب ما في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة من نسبة حرمة بيع العذرة لأبي حنيفة وجميع رؤساء المذاهب الأربعة. علي أن حصر المذاهب في هذه الأربعة أمر متأخر. ومجرد معاصرة رؤساء بعضها لعصر صدور الروايات لا يستلزم شيوعه بين العامة في ذلك العصر، ليتعين كونه، معياراً في الترجيح.

ص: 43

وحينئذٍ إن تم إجماع العامة علي تحريم بيع العذرة أو شهرة القول بينهم بذلك - كما هو غير بعيد - كان الترجيح لرواية الجواز، وإلا تعين سقوط المرجح المذكور، والعمل علي عموم نفوذ العقود والتجارة عن تراض، لكونه مرجحاً أو مرجعاً بعد تساقط النصوص بالمعارضة. بل قد يدعي أن الترجيح به مقدم علي الترجيح بمخالفة العامة، لما هو الظاهر من تأخر الترجيح بمخالفتهم عن الترجيح بموافقة الكتاب.

نعم ذلك كله إنما يتجه مع بلوغ جميع النصوص المتعارضة مرتبة الحجية. ويظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) المنع منه، وسقوط ما دل علي الجواز عن الحجية. وكأنه لمخالفة المشهور له، بل الإجماع المدعي من غير واحد، بناءً علي ما هو الظاهر من وهن الخبر بهجر الأصحاب.

لكنه يشكل بعدم وضوح الهجر المسقط عن الحجية في المقام بعد ظهور حال الشيخ وغيره من أهل الفتوي في الاهتمام بالجمع الدلالي بين روايتي الجواز والمنع. ولعل اهتمامهم بتأويل رواية الجواز والخروج عن ظاهرها دون رواية المنع لتركز عموم حرمة بيع النجس في نفوسهم، لا لاطلاعهم علي خلل فيها مسقط لها عن الحجية. بل كيف يمكن دعوي ذلك أو التعويل عليها بعد ظهور حال الكليني في الاعتماد علي رواية ابن مضارب، لاقتصاره عليها في الباب المناسب ؟!.

وما عن المجلسي في مرآة العقول من ضعف سندها، في غير محله بعد كون محمد بن مضارب من رجال كامل الزيارات، وممن قد روي عنه صفوان بن يحيي ويونس اللذين قيل عنهما أنهما لا يرويان إلا عن ثقة. علي أنه يكفي موثق سماعة بناءً علي ما سبق من كونه روايتين.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يتعين سقوط خبر يعقوب المتضمن للمنع بضعف السند، لأن في طريقه محمد بن سكن أو مسكين المجهول. وإن كان الظاهر أنه في غير محله بعد ظهور عمل المشهور به، بناءً علي التحقيق من انجبار ضعف السند بذلك. فتأمل.

ص: 44

وبالجملة: لا يبعد اعتبار كلتا الطائفتين في نفسها، إلا أنه مع ذلك يتعين البناء علي جواز البيع، إما عملاً بنصوصه، لأنها نصّ في الجواز وحمل خبر المنع علي الكراهة، أو لترجحها بمخالفة العامة أو بموافقة عمومات النفوذ، وإما لكون العمومات المذكورة هي المرجع بعد سقوط كلتا الطائفتين بالمعارضة.

ثم إنه بناءً علي جواز بيع العذرة فلا إشكال في جواز بيع غيرها من فضلة غير مأكول اللحم، لعدم المخرج عن مقتضي عموم النفوذ فيها، بل قد يستفاد من أدلة جواز بيع العذرة بإلغاء خصوصيتها عرفاً.

وأما بناءً علي المنع من بيع العذرة فالمنع من بيع فضلة غير مأكول اللحم يبتني علي عموم العذرة لها، أو استفادته من أدلة المنع من بيعها بفهم عدم الخصوصية، أو بعدم الفصل، لما قيل من عدم الفرق بين الأرواث النجسة في التحريم، أو من الإجماع المدعي علي عدم جواز بيع السرجين النجس، أو مطلق نجس العين. ولعل أقربها الثاني، وإن لم يخل عن إشكال.

السابع: المني. والكلام تارة: في بيعه بعد إراقته خارج الرحم، حيث يتعارف في عصورنا حفظه للتلقيح به صناعياً. وأخري: في بيعه بعد إراقته في الرحم. وثالثة: في بيعه بنحو بيع الكلي قبل إراقته في الرحم. ورابعة: في إجارة الفحل لتلقيح الأنثي بمائه.

أما الأول فالظاهر ابتناؤه علي الكلام في عموم حرمة بيع الأعيان النجسة. وحيث سبق عدم ثبوت العموم المذكور فلا مانع من بيعه.

نعم قبل ظهور الانتفاع به في عصورنا قد يمنع من بيعه، لعدم الانتفاع به منفعة معتداً بها عرفاً، كما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره). ويظهر الكلام في ذلك مما يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي من الكلام في اعتبار وجود المنفعة المعتد بها في صحة البيع.

وأما الثاني فالكلام فيه مبني علي أن الولد نماء الذكر، حيث يرجع ذلك إلي أن الولد يتبع مني الذكر، كالزرع التابع للبذر، فإذا بقي علي ملك صاحب الحيوان كان

ص: 45

الولد له، إذ حينئذٍ يتجه الكلام في صحة بيعه ليصير الولد للمشتري.

ومقتضي العمومات المتقدمة صحة البيع. ودعوي: أن نجاسته تمنع من صحة بيعه. ممنوعة، كما تكرر غير مرة. مضافاً إلي الإشكال في نجاسته إذا خرج من الباطن إلي الباطن.

ومثلها دعوي عدم القدرة علي تسليمه. لاندفاعها بأنه يتحقق تسليمه باستلام الأنثي التي أريق المني فيها. واعتبار القدرة علي تسليمه منفصلاً عنها يحتاج إلي دليل.

نعم قد يستشكل فيه بأن المني بعد دفقه وإراقته في الأنثي يعتبر تالفاً عرفاً، ولا وجود له يعتد به، ليكون طرفاً في البيع، وليس هو كالبذر يبقي مدة من الزمن له وجود عرفي معتد به صالح للمعاوضة. وأما ما يتحقق به اللقاح فهو جزء منه صغير جداً لا يعتد به عرفاً، وإنما يعتد بأثره الذي يتحول إليه، وهو الولد.

وبالجملة: ليس للمني بعد إراقته قبل التحول للولد وجود عرفي صالح لأن يكون موضوعاً للبيع.

وأما بعد التحول للولد فلا إشكال في أن للولد وجود عرفي صالح للبيع والمعاوضة. إلا أنه يخرج عن محل الكلام من بيع المني، ويكون بيعاً للجنين الذي لا مانع منه، إلا ما ورد من النهي عن بيع الملاقيح(1) ، بناءً علي تفسيرها بذلك، كما قد يظهر من بعض كلمات اللغويين. وهو غير صالح للمنع لو تم التفسير المذكور، لعدم روايته من طرقنا.

هذا كله مع أن المبني المذكور في غير محله، لما هو المعلوم من سيرة العقلاء والمتشرعة الارتكازية من أن الولد تابع للأنثي ونمائها، وليس المني إلا كالشرط في الاستنماء، كالماء للزرع. وحينئذٍ لا أثر لبيعه وملكيته بعد إراقته في رحم الأنثي، حيث يكون الولد لمالك الأنثي علي كل حال، ملك المني أو لم يملكه. وغاية ما يمكن حينئذٍ ضمان قيمة المني أو قيمة الانتفاع بالفحل علي من استغله بغير إذن صاحبه، أو بإذنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 2.

ص: 46

بشرط العوض.

وأما الثالث - الذي لا يبعد كونه المراد ببيع عسيب الفحل - فمقتضي العمومات المتقدمة جوازه. ومجرد كون الولد نماء للأنثي لا ينافي مالية المني والاهتمام بتحصيله بلحاظ الانتفاع به لكونه شرطاً في الاستنماء، نظير الماء للزرع، فكما يصح شراء الماء لسقي الزرع قبل سقيه يصح شراء المني لتلقيح الأنثي به.

لكن في التذكرة: "مسألة: يحرم بيع عسيب الفحل، وهو نطفته، لأنه غير متقوم، ولا معلوم، ولا مقدور عليه. ولا نعلم فيه خلافاً. لأن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عنه".

ويندفع بالمنع من عدم تقومه، فإن أهمية منفعته تستلزم تنافس الناس فيه الذي هو المعيار في ماليته وتقومه. علي أن اعتبار التقوم والمالية في المبيع محل كلام يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

وأما عدم العلم به، فأن أريد به عدم العلم بوجوده فهو ممنوع، لأمكان العلم به من حال الحيوان. بل لا إشكال فيه لو أريد به ما لا ينتسب لحيوان خاص، بل للكلي. وإن أريد به عدم العلم بمقداره بكيل ولا وزن. فهو لا يقدح في صحة البيع في مثل ذلك مما ليس من شأنه التقدير بالكيل والوزن، لاختلاف الأشياء في كيفية التقدير، ويكفي التقدير في المقام بإراقة المني الحاصل باتصال الحيوانيين مرة أو مرتين أو أكثر.

وأما عدم القدرة عليه فهو ممنوع، لعين ما تقدم عند الكلام في عدم العلم بوجوده. كما أن عدم الخلاف لا يبلغ حدّ الإجماع الحجة.

فلم يبق في المقام إلا النهي عنه فقد ورد النهي عن ثمن - اللقاح بماء الفحل - وعن عسيب الفحل أو الدابة - المفسر بذلك أيضاً - في غير واحد من النصوص من طرقنا(1) ، ومنها معتبر الجعفريات عن علي (عليه السلام): "قال: من السحت ثمن الميتة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 13، 14، وباب: 12 منها حديث: 3. ومستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1. وباب: 10 منها حديث: 1، 2.

ص: 47

وثمن اللقاح... وعسيب الفحل، ولا بأس أن يهدي له العلف"(1). وكذا من طرق العامة(2).

لكن لم يتضح كون موضوع النهي هو بيع المني قبل إراقته الذي هو محل الكلام، أو إجارة الفحل للتلقيح الذي ذكرناه في الوجه الرابع، بل لعل الإطلاق ينصرف للثاني، الذي لا يبعد تعارفه، وبه فسر في بعض كلماتهم.

نعم لا يبعد فهم حكم أحدهما من الآخر تبعاً، لغفلة العرف عن التفريق بينهما، فلو اختلفا حكماً كان المناسب عند النهي عن أحدهما التنبيه لِحلّ الآخر، ليعمل الناس به لسدّ حاجتهم. بل مقتضي الاقتصار في معتبر الجعفريات علي التنبيه للترخيص في إهداء العلف عموم النهي لكل معاوضة ملزمة في ذلك.

وكيف كان ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قلت له: أجر التيوس. قال:

إن كانت العرب لتعاير به. ولا بأس"(3) ، وفي معتبر حنان بن سدير: "دخلنا علي أبي عبدالله (عليه السلام) ومعنا فرقد الحجام... قال:

جعلني الله فداك إن لي تيساً أكريه فما تقول في كسبه ؟ فقال: كل كسبه، فإنه لك حلال، والناس يكرهونه. قال حنان: قلت: لأي شيء يكرهونه وهو حلال ؟ قال: لتعيير الناس بعضهم بعضاً" (4) .

ولأجلهما يتعين تنزيل النصوص السابقة علي التقية أو الكراهة بالعنوان الأولي، أو للعنوان الثانوي، تنزيهاً للمؤمنين عما يترفع عنه أهل المروءات، ويكون منشأ لتعييرهم والتهريج عليهم، الذي هو يختلف باختلاف الأعراف والأزمنة.

ومورد هذين الحديثين وإن كان هو الكراء - الذي هو الوجه الرابع - دون بيع المني، إلا أنه سبق عدم الفرق بينهما. ولا أقل من إجمال نصوص النهي المانع من

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) مسند أحمد ج: 2 ص: 415، سنن الدارقطني ج: 3 ص: 42.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1.

ص: 48

ولا فرق بين أن يكون لها منفعة محللة مقصودة - كالتسميد بالعذرة - أو لا (1). كما لا فرق في الحرمة بين بيعها وشرائها، وجعلها أجرة في الإجارة، وعوضاً عن العمل في الجعالة، ومهراً في النكاح، وعوضاً في الطلاق الخلعي، وغير ذلك من الموارد التي يعتبر فيها المال (2)، لأنها ليست أموالاً شرعاً،

---------------

الاستدلال بها علي حرمة البيع.

ومن ذلك يظهر الحال في الوجه الرابع، حيث صرح بجوازه في الحديثين المتقدمين.

هذا تمام الكلام في الأعيان النجسة التي يحرم بيعها. وقد ظهر مما سبق أنه لا مخرج في غير ما تقدم عن العمومات المقتضية لصحة البيع.

(1) لإطلاق دليل المنع أو عمومه لو تم. بل سبق أنه لا مجال لحمل النهي في بعض الموارد علي خصوص صورة عدم وجود المنفعة المحللة. فراجع ما سبق في حرمة بيع الدم، وحرمة بيع العذرة لو تم.

نعم قد يجعل الفرق المذكور في الجملة معياراً فيما لم يثبت حرمة بيعه تعبداً، علي ما يأتي الكلام فيه في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

(2) الظاهر مفروغيتهم عن ذلك، كما يظهر بملاحظة كلماتهم في بعض الفروع كالمهر والرهن وغيرها. والوجه فيه: أن النهي المتقدم وإن كان مختصاً أو منصرفاً للبيع أو للثمن الذي هو من شؤون البيع، إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بابتنائه علي عدم احترام هذه الأمور شرعاً، والردع عن ترتيب أحكام المال عليها.

ويؤيد ذلك أو يدل عليه موثق طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن رجلين من أهل الذمة أو من أهل الحرب تزوج كل واحد منهم امرأة، ومهرها خمراً وخنازير، ثم أسلما. قال: ذلك النكاح جائز حلال لا يحرم من قبل الخمر والخنازير. وقال: إذا أسلما حرم عليهما أن يدفعا إليه [إليهما] شيئاً من ذلك، يعطياهم

ص: 49

وإن كانت أموالاً عرفاً (1).

---------------

صداقهما"(1) ، وفي صحيح عبيد بن زرارة عنه (عليه السلام) الوارد في نظير ذلك: "قال: ينظر كم قيمة الخنازير وكم قيمة الخمر ويرسل به إليها، ثم يدخل عليها..."(2). وربما يستفاد من نصوص أخر. وإن كان الأمر أظهر من أن يحتاج لذلك.

(1) ظاهره أن المالية من الأمور الاعتبارية التابعة للجعل والاعتبار ممن بيده ذلك، فتختلف باختلاف من بيده الاعتبار من عرف أو شرع، وأن الشيء قد يكون مالاً عرفاً فيردع الشارع عن ماليته، فلا يكون مالاً شرعاً.

لكنه لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر تبعية المالية خارجاً لتنافس عموم الناس - ولو في بعض الأصقاع - في الشيء واهتمامهم بتحصيله، فمعه يكون الشيء مالاً، ولا يمكن سلخ المالية عنه شرعاً، بل ولا عرفاً. وبدونه لا يكون الشيء مالاً، ولا يمكن جعل المالية له شرعاً.

وقد يناسب ذلك ما سبق في حديثي طلحة وعبيد من فرض القيمة للخمر والخنزير، وما ورد من ضمان قاتل الكلب والخنزير(3) ، لأن القيمة والضمان من شؤون المالية.

ودعوي: أن المنظور في قيمة الخمر والخنزير هو الجري علي ما عند غير المتدينين. مدفوعة بأن المالية وإن كانت مسببة عن تنافس غير المتدينين، إلا أنها ليست تابعة لاعتبارهم، بل هي ثابتة بوجه مطلق. ولذا كان ظاهر النصوص إقرار المالية بفرض القيمة والضمان، لا الردع عنها، بحيث يكون ثبوت البدل تعبدياً، لا بعنوان القيمة والضمان.

كما أن الحكم الشرعي قد يكون سبباً في تنافس عموم الناس في الشيء، فيكون مالاً حتي في حق من لا يعترف بالدين منهم، كاستحباب السجود علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 3 من أبواب المهور حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 3 من أبواب المهور حديث: 1، 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 19 باب: 19 من أبواب ديات النفس، وباب: 26 من أبواب موجبات الضمان.

ص: 50

نعم، يستثني من ذلك العصير العنبي إذا غلا قبل ذهاب ثلثيه (1)

---------------

تربة الحسين (عليه السلام)، واتخاذ السبحة منها. وقد يكون سبباً لعدم تنافسهم فيه، فيسقط عن المالية، كتحريم ما يذبح بوجه غير شرعي، حيث قد يوجب عدم تنافس عامة الناس فيه في المجتمع المتدين، بنحو يسقطه عن المالية حتي في حق من لا يعترف بالدين منهم.

ومن هنا لا مجال لدعوي إسقاط مالية هذه الأمور شرعاً، بل غاية الأمر هو الردع عن احترامها وترتيب أحكام المال عليها، فلا يجتزأ بها في مورد يحتاج فيه له.

(1) لما كان الكلام في ذلك مبنياً علي نجاسته وعلي عموم بيع الأعيان النجسة فلابد من فرض الفرق بينه وبين بقية النجاسات. وربما يذكر في وجهه أن المتيقن من دليل حرمة البيع الأعيان النجسة، والعصير المذكور من سنخ المتنجس بسبب الغليان، ويمكن تطهيره بذهاب الثلثين.

وفيه: أن المراد بالأعيان النجسة في عرف الفقهاء والمتشرعة ما تنجس بنفسها، في مقابل المتنجس، وهو الذي تكون نجاسته بملاقاة النجس أو المتنجس ومكتسبة منه. وإلا فلو كان المراد بالأعيان المتنجسة ما تنجس بالذات لا بالعرض لزم خروج الميتة، لظهور استناد نجاستها للموت، الذي هو طارئ علي الجسد. وكذا الخمر، لأن التخمير حالة طارئة علي المايع لا يوجب تبدل ذاته عرفاً، ولذا ذكرنا في محله أن طهارة الخمر بالتخليل تستند للأدلة الخاصة، ولولاها كان مقتضي الاستصحاب النجاسة، لأن التخليل لا يوجب تبدل الذات بالنحو المانع من جريان الاستصحاب.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوهم أن المنع من بيع الأعيان النجسة إنما هو لسقوطها عن المالية بسبب النجاسة، وذلك لا يشمل مثل العصير الذي يطهر بذهاب الثلثين. لاندفاعه بأن ذلك يجري في الخمر، بلحاظ طهارتها بانقلابها خلاً، الذي ذكرنا عدم تبدل الموضوع به.

ص: 51

وبالجملة: لا يتضح الفرق بين العصير والخمر في الحكم المذكور بعد عروض النجاسة لكل منهما وإمكان زوالها عنهما من دون تبدل في الموضوع. ولاسيما بناءً علي أن نجاسة العصير بالغليان لصيرورته مسكراً، أو لتطبيق عنوان الخمر عليه في النص. فراجع ما سبق منّا عند الكلام في حكم العصير العنبي من فروع نجاسة الخمر.

نعم لو كان المنع من بيع النجس مستنداً للإجماع، أمكن دعوي خروج العصير عن المتيقن من معقده، ولاسيما بلحاظ عدم ظهور تصريح منهم بحرمة بيعه إلا من بعض المتأخرين، كصاحب مفتاح الكرامة.

هذا وقد يستدل علي حرمة بيعه بالخصوص مع قطع النظر عن عموم حرمة بيع النجس ببعض النصوص.

الأول: صحيح محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن العصير يطبخ بالنار حتي يغلي من ساعته أيشربه صاحبه. فقال: إذا تغير عن حاله وغلا فلا خير فيه حتي يذهب ثلثاه ويبقي ثلثه"(1) ، بناءً علي ما هو الظاهر من إرادة تغير حاله بغليانه حين الطبخ بالنار، ليكون مما نحن فيه، لا تغير حاله وغليانه من قبل نفسه بعد طبخه علي النار وتنحيته عنها. ووجه الاستدلال به حينئذٍ أن قوله (عليه السلام): "فلا خير فيه" ظاهر في حرمة بيعه، لأن البيع نحو من الخير. وفيه - مع ضعفه بالإرسال -:

أن نفي الخير فيه ظاهر في حرمة شربه الذي هو مورد السؤال، ولا يعم البيع.

الثاني: حديث أبي بصير: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً. قال: إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس"(2).

بدعوي: أنه ظاهر بمقتضي المفهوم في حرمة بيعه بعد حرمته ولو بالغليان. وفيه: أن موضوعه العصير قبل طبخه بالنار، لأن المفروض في السؤال أن الذي يشتريه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 52

إما أن يطبخه أو يجعله خمراً. وحينئذٍ فمقتضي المفهوم فيه التفصيل بين صيرورته خمراً وعدمها، فيحلّ بيعه في الثاني ويحرم في الأول. أما المطبوخ بالنار فهو خارج عن موضوع الشرطية، ويقصر عنه المفهوم والمنطوق معاً. وأما ذكر الغليان في السؤال فمن القريب جداً أن يراد به الغليان من قبل نفسه الملازم للخمرية. ولو احتمل بعيداً عمومه للغليان بالنار، ليشعر باعتقاد السائل حرمة البيع بعده، كفي الجواب في الردع عن ذلك، لجعله المعيار في الحرمة صيرورته خمراً لا غير.

هذا وقد استشكل فيه بعض مشايخنا (قدس سره): تارة: بضعف السند. وأخري: بأنه يتعين حمله علي العصير التمري، إما لأن أبا بصير كوفي، ولم يكن العنب في الكوفة من الكثرة بحيث يباع عصيراً، وإما لظهور الجواب في حله حتي بعد الغليان ما لم يصير خمراً، وذلك لا يتم في العنبي.

لكن يندفع الأول بأنه لا منشأ لاحتمال ضعف سنده إلا بلحاظ اشتماله علي القاسم بن محمد الذي لا نص علي توثيقه، وعلي علي بن أبي حمزة، الظاهر أنه البطائني الكذاب من رؤوس الواقفة. إلا أن الظاهر أن القاسم بن محمد هو الجوهري، وهو من رجال كامل الزيارات، وممن روي عنه ابن أبي عمير وصفوان، وذلك كافٍ في وثاقته، كما ذكرناه في غير مرة.

كما أن علي بن حمزة كان ثقة في أول أمره، كما صرح بذلك الشيخ في العدة، ويناسبه وكالته عن الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، ووقوعه في أسانيد كتاب كامل الزيارات ورواية ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي - الذين لا يروون إلا عن ثقة - عنه، وإنما انقلب بعد ذلك في فتنة الوقف، وقد صرح الشيخ في العدة بأن الأصحاب قد عملوا بما رواه قبل انقلابه، والظاهر أن رواياته المودعة في كتب الأصحاب كلها قبل انقلابه، لما هو المعلوم من مباينة الأصحاب لرؤساء الواقفة ممن ورد فيهم أعظم الطعون من الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم.

اللهم إلا أن يقال: إنما يتجه ذلك فيما إذا كان الراوي عنه من أصحابنا الإمامية

ص: 53

الاثني عشرية، أما حيث كان الراوي عنه محمد بن القاسم الجوهري الواقفي أيضاً، فلا بُعد في أن يروي عنه حال وقفه وبعد انحرافه.

لكن لا يبعد ظهور ما ذكره الشيخ من تجنب الأصحاب لروايات علي بن أبي حمزة بعد انحرافه فيما يعم روايات الواقفة عنه. وذلك يناسب أن يكون تداولهم لمثل هذه الرواية لاطلاعهم علي عدم صدورها عنه إلا حال استقامته. فتأمل جيداً.

كما يندفع الثاني - بعد تسليم أن السؤال عن البيع في الكوفة - بأن الكوفة كانت من أعظم البلاد الزراعية وكثرة العنب فيها قريبة جداً. ولاسيما مع قرب انصراف العصير لعصير العنب، كما ذكرناه في مباحث النجاسات. ولا أقل من جهة تعارف بيعه كما يظهر من النصوص، ولا يعهد بيع عصير التمر، لما في عصره من الكلفة.

وأما ظهور الحديث في حلّ العصير بعد الغليان قبل أن يصير خمراً، ليكون ذلك قرينة علي حمله علي عصير التمر. فهو ممنوع، لما سبق منّا من كون المراد من الغليان هو الغليان من قبل نفسه، الملازم للخمرية.

الثالث: خبر أبي كهمس: "سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن العصير، فقال: لي كرم وأنا أعصره كل سنة وأجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي. قال: لا بأس به، وإن غلا فلا يحل بيعه، ثم قال:

هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمراً"(1).

وفيه - مضافاً إلي الإشكال في سنده، لعدم ثبوت وثاقة أبي كهمس -: أنه ظاهر في غليان العصير من قبل نفسه كما هو المنصرف من نسبة الغليان له، وهو الذي يكون من ترك العصير في الدنان، فإن الدن - كما قيل - هو الراقود العظيم الذي لا يثبت حتي يحفر له، ومثل ذلك لا يوضع في النار. وقد عرفت قرب كون غليان العصير من قبل نفسه ملازماً لإسكاره، كما يناسبه الاستشهاد منه (عليه السلام) بأنهم يبيعون تمرهم ممن يصنعه خمراً.

هذا وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حمل النصوص الثلاثة علي البيع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 54

بناء علي نجاسته (1)، وكلب الصيد (2) والعبد الكافر (3) وإن كان مرتداً عن فطرة (4)، فإن هذه الأمور تجوز التجارة بها، فضلاً عن غيرها من أنواع

---------------

من دون إعلام بالحال، نظير بيع الدهن النجس من دون إعلام بالحال، وأنها ليست في مقام تحريم البيع ذاتاً نظير بيع الخمر. فهو مخالف لظاهر النصوص جداً، كما يظهر بالتأمل فيها وفيما ذكرنا. والمتعين ما سبق.

(1) أما بناءً علي طهارته فهو خارج عن محل الكلام، ولا منشأ لتوهم حرمة بيعه. إلا أن يتم الاستدلال بالنصوص السابقة، وقد عرفت المنع منه.

(2) سبق منّا بيان وجهه.

(3) بإجماع المسلمين، كما في الجواهر. والظاهر المفروغية من ذلك. ولا ينافيه إطلاقهم عدم جواز التكسب بالأعيان النجسة، لانصرافه لغير الإنسان بسبب المفروغية المذكورة. بل صرح في المبسوط بخروج الإنسان عن ذلك، ويناسبه كثير من عباراتهم، ومن الفروع التي ذكروها مما أشار إليه في الجواهر.

ويظهر من الجواهر خروجه موضوعاً عن العموم المذكور، لأن المراد بالنجس ما لا يقبل التطهير، والكافر يقبل التطهير بالإسلام. لكن عرفت الإشكال في ذلك مما تقدم في العصير العنبي.

فالعمدة في وجهه - بعد عدم ثبوت عموم لفظي مانع من بيع النجس، ومعلومية قصور الإجماع المدعي بسبب المفروغية المذكورة - النصوص الكثيرة الواردة في شراء العبيد والإماء من أهل الذمة ومن أهل الحرب ومن أهل الشرك، ذكرها في الوسائل في الأبواب الثلاث الأولي من أبواب بيع الحيوان، وفي الباب التاسع والستين من أبواب نكاح العبيد والإماء وغيرها. هذا كله بناءً علي ثبوت حرمة بيع النجس، أما بناءً علي عدم ثبوته فالأمر أظهر.

(4) خلافاً لما في الدروس وظاهر محكي التحرير. واستشكل فيه في القواعد

ص: 55

المعاوضة. وفي إلحاق كلب الماشية والزرع بكلب الصيد إشكال، المنع أظهر (1).

(مسألة 2): الأعيان النجسة التي لا يجوز بيعها ولا المعاوضة عليها لا يبعد ثبوت حق الاختصاص لصاحبها فيها (2).

---------------

والتذكرة ومحكي الإيضاح. ولعله لعدم قابليته للتطهير، للبناء علي عدم قبول توبته وعدم ترتب الأثر عليها. أو لسقوطه عن المالية بسبب وجوب قتله.

لكن لم يتضح دخل قابلية التطهير في حلّ البيع، لما سبق من أن جواز بيع الكافر ليس لقابليته للتظهير. علي أن التحقيق قابليته للتطهير بالإسلام وأنه يقبل منه وإن لم يسقط القتل عنه، كما سبق عند الكلام في مطهرية الإسلام من مباحث النجاسات.

كما أن وجوب قتله لا يسقطه عن المالية لو بقي مورداً للانتفاع الذي هو منشأ التنافس فيه، كما لو فرض عدم تيسر تنفيذه، لعدم ثبوته عند الحاكم، أو لفقد القدرة علي التنفيذ، كما في زماننا. مضافاً إلي الإشكال في اعتبار المالية في البيع، كما يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

(1) تقدم وجهه عند الكلام في حرمة بيع الكلب.

(2) كما في التذكرة واستظهره شيخنا الأعظم (قدس سره). بل لعله في الجملة من المسلمات تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية.

هذا وقد سبق منّا قريباً أن ما دل علي حرمة بيع الأعيان النجسة مطلقاً أو في الجملة لا يقتضي خروجها عن المالية، بل غاية ما يستفاد منه عدم احترام هذه الأموال، بحيث تقابل بالمال، ويجتزأ بها في الموارد التي يحتاج فيها للمال.

وذلك لا ينافي قابليتها للملك، إذ لا منشأ لتوهم فقدها لذلك. بل لا إشكال في قابليتها للملك عرفاً، ولا دليل علي خروج الشارع الأقدس عما عليه العرف في المقام.

ص: 56

وحينئذٍ لا ينبغي الإشكال في بقائها علي ملك مالكها لو كانت مملوكة له بالأصل، كميتة الحيوان المملوك، والعصير الذي يتخمر في ملك صاحبه. إذ لا أقل من استصحاب ملكيته له، بناءً علي ما هو التحقيق من جريانه في أمثال المقام. وكذا الحال في حدوث الملكية لها بحيازة ونحوها، كالخنزير الذي يصاد، والكلب الذي يؤخذ ويؤهل، وما يكون نماء لهما. لعموم ما دلّ علي سببية السبب المملك لها.

وكذا انتقال ملكيتها من صاحبها لغيره بأحد أسباب الانتقال القهرية - كالميراث - والاختيارية كالهبة - التي إليها ترجع الحيازة بعد الإعراض - لعموم سببية السبب المفروض. من دون أن ينافيه ما دل علي حرمة بيعه ومقابلته بالمال والاعتداد به في مورد الحاجة للمال، لقصوره عن مثل ذلك.

وحينئذٍ يتعين احترام ملكية المالك المستفاد من دليل السلطنة علي المال، وعدم جواز التصرف فيه بغير إذن صاحبه، عملاً بعموم دليله، بعد قصور دليل المنع من بيعه عن الردع عن ذلك، لأن المتيقن منه عدم مقابلتها بالمال وعدم الاجتزاء بها في مورد يحتاج للمال، لا عدم احترام ملكية مالكها.

أما بناءً علي ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره) من رجوع عدم جواز بيع هذه الأمور إلي خروجها عن المالية شرعاً فقد يظهر منهم عدم ملكيتها تبعاً لذلك، أو عدم احترام هذه الملكية، ومن ثم يحتاج للكلام في ثبوت حق الاختصاص فيها.

لكن لا مجال للبناء علي عدم ملكيتها بعد عدم التلازم بين المالية والمالكية، حيث لا إشكال في بقاء ملكية المال لو خرج عن المالية، وفي حدوثها فيما ليس مالاً تبعاً للأسباب المعهودة. فمن كان له ماء له مالية بسبب عزة وجود الماء لا يخرج عن ملكه لو صار علي النهر مثلاً، وكذا الحال إذا فسدت الثمار وأخلقت الثياب المملوكة ونحو ذلك.

وكذا لا إشكال في حصول الملكية بعد العدم بأسبابها المعهودة من حيازة أو ميراث أو غيرها لما ليس له مالية، كالماء علي النهر والحشرات والأحجار غير المرغوب

ص: 57

فيها وغيرها.

كما أنه بعد تسليم تحقق الملكية لها يتعين احترام هذه الملكية، لعموم أدلتها المشار إليها آنفاً، والآتي بعضها.

ودعوي: اختصاصها بما له مالية، لأخذ عنوان المال فيها، كقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

"الناس مسلطون علي أموالهم" (1) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):" فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه"(2) ، وقوله (عليه السلام): "فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه..."(3).

ممنوعة، إما لكون المراد بالمال فيها كل ما يملك، كما فسر بذلك في بعض كلمات اللغويين، أو لإلغاء خصوصية المال عرفاً في موضوع الأحكام المذكورة في تلك الأدلة، لأنها بصدد بيان احترام الملكية والمالك، كما هو المناسب للمرتكزات العقلائية والمتشرعية علي عموم احترام الملكية لما لا مالية له. ولذا لا ريب عندهم في عدم جواز منازعة المالك فيه ومغالبته عليه وسلبه منه.

ولذا لا يظن بأحد البناء علي أن من غصب خمراً من شخص فصيره خلاً يملكه. ويناسب ما ذكرنا من ضمان كلب الغنم والحائط(4). فإن الضمان مناسب لاحترام المال بحيث لا يجوز التعدي عليه ولا إتلافه علي صاحبه، وإلا فمن البعيد جداً جواز إتلافه مع ضمانه.

ومن هنا لا موضوع للكلام في حق الاختصاص. بل هو إنما يتجه فيما لا يملك، كحق التحجير الثابت في الأرض عند الشروع في مقدمات الإحياء قبل أن يتم الإحياء، وحق السبق في الأماكن المشتركة كالمسجد والسوق ونحوهما.

نعم لو فرض ملازمة عدم المالية لعدم الملكية اتجه البناء علي ثبوت حق

********

(1) بحار الأنوار ج: 2 ص: 272.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب قصاص النفس حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 2 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث: 6.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 19 باب: 19 من أبواب ديات النفس.

ص: 58

فلو صار خله خمراً، أو دابته ميتة، أو اصطاد كلباً غير كلب الصيد، فلا يجوز أخذ شيء من ذلك قهراً عليه. وكذا الحكم في بقية الموارد. وتجوز المعاوضة علي الحق المذكور (1)، فيبذل له مال في مقابله، ويحل ذلك المال له.

---------------

الاختصاص، تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية المشار إليها آنفاً، حيث لا مجال لغض النظر عنها بعد وضوحها. إلا أن الأمر لا يصل لذلك.

(1) إذ بعد فرض ثبوت الحق تكون صحة المعاوضة عليه مقتضي عمومات نفوذ العقود المتقدمة. لكن استشكل في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره). وكأنه لأن المستفاد من أدلة تحريم البيع ونحوه إسقاط حرمة هذه الأموال بحيث تكون سبباً في تحصيل المال ولو من غير طريق المعاوضة، وإلا كان المناسب التنبيه لجواز ذلك، لوفائه بسدّ الحاجة للمعاوضة، مع غفلة العرف عنه.

إلا أن ذلك يندفع بعدم وضوح غفلة العرف عنه، فإن ارتكاز حرمة الحق المذكور - كما سبق - يناسب التشبث به عند ظهور ترتب النفع علي الأمور المذكورة وعدم التنازل عنه إلا في مقابل شيء مرغوب فيه. واستفادة حرمة ذلك من دليل حرمة البيع أو المعاوضة تحتاج إلي تكلف لا شاهد عليه.

ولعله إلي هذا يرجع ما حكاه شيخنا الأعظم (قدس سره) عن بعض الأساطين - والظاهر أنه كاشف الغطاء - بعد إثبات حق الاختصاص المذكور من أن دفع الشيء من المال لافتكاكه يشك في دخوله تحت الاكتساب المحظور، فيبقي علي أصالة الجواز.

هذا وأما بناءً علي ما سبق منّا من عدم ثبوت حق الاختصاص في الأمور المذكورة، وأنها مملوكة لمن يتم له سبب ملكيتها، فلابد من دفع المال بإزاء رفع اليد عنها، ليحوزها دافع المال ويتملكها، فليس المال عوضاً عن العين، ولا هبة عوضاً عن هبتها أو معوضة بهبتها، بل هو في مقابل رفع اليد عنها والترخيص في تملكها أو

ص: 59

6 (مسألة 3): الميتة الطاهرة - كميتة السمك والجراد - يجوز بيعها والمعاوضة عليها (1) إذا كانت لها منفعة محللة معتد بها عند العرف، بحيث يصح عندهم بذل المال بأزائها (2).

(مسألة 4): يجوز بيع مالا تحله الحياة من أجزاء الميتة (3) إذا كانت له منفعة محللة معتد بها (4) كما تقدم.

---------------

الانتفاع بها.

نعم يصعب البناء علي جواز ذلك فيما إذا ابتني دفع المال علي الانتفاع بهذه الأعيان بالوجه المحرم، كالخمر للشرب والميتة للأكل، حيث يبعد جداً فتح الشارع الباب لذلك، بحيث يحل المال به. بل يصعب البناء علي جواز التسليط عليها مجاناً للانتفاع بالوجه المذكور. فلاحظ.

(1) تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في حرمة بيع الميتة، وتقدم الإشكال في ذلك بعموم بعض النصوص المانعة لها. فراجع.

(2) إما إذا انحصرت منفعتها الظاهرة بالحرام فلا يجوز بيعها لذلك، لا من جهة كونها ميتة. ويأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالي.

(3) لاستثنائها من الميتة بالنصوص وتسالم الأصحاب. وفي جملة من النصوص الحكم عليها بأنها ذكية أو ليست بميتة. وذلك حاكم علي عموم ما تضمن حرمة بيع الميتة. بل قد يقال بقصوره عنها تخصصاً، لانصرافه لما تحله الحياة، لأنه هو الذي يموت، كما ذكرنا ذلك عند الكلام في وجه البناء علي طهارته من هذا الشرح. فراجع.

(4) كأنه لتوقف صيرورتها مالاً علي ذلك، لما أشرنا إليه آنفاً من تبعية مالية الشيء لتنافس عموم الناس فيه واهتمامهم بتحصيله، وذلك لا يكون غالباً إلا لاشتماله علي منفعة معتد بها عندهم، تقتضي اهتمامهم بتحصيله لأجلها. وأما إذا لم

ص: 60

6 يكن له منفعة، أو كان له منفعة لا يعتد بها عموم الناس، فهم لا يتنافسون فيه ولا يبذلون بأزائه المال، ليكون له مالية ويصدق عليه أنه مال.

نعم قد يكون الشيء مالاً ومورداً لتنافس العقلاء من دون أن يكون مورداً للانتفاع كالأشياء الأثرية والطوابع البريدية المستعملة ونحوها مما تعارف في عصورنا الاهتمام باقتنائها. وربما لا يكون نظر سيدنا المصنف (قدس سره) لمثل ذلك. لعدم تعارفه في مستثنيات الميتة، أو يكون مراده من المنفعة ما يعمّ ذلك.

وكيف كان فالمهم بنظره (قدس سره) أن يكون المبيع مالاً، لما يأتي منه (قدس سره) في أول الكلام في شروط العوضين، من التصريح باعتبار المالية فيهما، كما جري علي ذلك غير واحد، بنحو يظهر من بعضهم المفروغية عنه. وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): "إن ما تحقق أنه ليس بمال عرفاً فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز وقوعه أحد العوضين".

فلا يصح عندهم بيع ما ليس مالاً ولا جعله ثمناً، سواء كان عدم ماليته لقلته كحبة الحنطة والزبيبة، أم لعدم واجديته لجهة تقتضي التنافس فيه والاهتمام نوعاً بتحصيله، كالحشرات والقشور وغيرهما.

وقد يظهر من بعض كلماتهم أن الوجه في ذلك عدم ملكية ما لا مالية له، ومن الظاهر أن المعاوضة فرع الملكية. لكنه في غاية المنع، كما نبه له غير واحد. كيف ولا إشكال في حرمة غصبه والتصرف فيه بغير إذن من يحصل له سبب ملكه. بل وضوح ذلك قرينة علي أن مرادهم من عدم ملكيته عدم ماليته. وحينئذٍ يتعين النظر في وجه اعتبار المالية في البيع.

إذا عرفت هذا فقد يستدل علي ذلك: تارة: بأن البيع مبادلة مال بمال، كما عرف بذلك في كلام بعض اللغويين. وأخري: بأنه من المعاوضات التي لا تكون إلا في الأموال، لأن المال هو الذي يكون بنظر العرف مورداً للنفع والنقص والتدارك التي تتقوم بها نسبة المعاوضة.

لكن الأول في غاية المنع، فلا يتوقف صدق البيع عرفاً علي المال بالمعني

ص: 61

المذكور، بل يكفي فيه كل ما يكون مورداً للمعاوضة من أجل الاهتمام بتحصيله ولو بلحاظ الأغراض الشخصية والقناعات الفردية، وإن لم يكن مورداً للاهتمام والتنافس النوعي الذي عليه تتوقف المالية.

ولا مجال للخروج عن ذلك بالتعريف المتقدم عن بعض اللغويين مع ما هو المعلوم من عدم ابتناء تعاريف اللغويين علي تحديد المفاهيم أو المصاديق بدقة بنحو تكون جامعة مانعة. ولاسيما مع ما أشرنا إليه في أواخر المسألة الثانية من عدم وضوح كون مرادهم بالمال ما له مالية بالمعني المتقدم.

وكذا الحال في الثاني. إذ لا دليل علي أخذ المالية بالمعني المذكور في المعاوضة، إذ النفع والنقص والتدارك كما تكون بلحاظ المالية تكون بلحاظ الأغراض الشخصية. ولاسيما وأن المعاوضة لم تؤخذ بمعناها الاسمي في البيع ولا في غيره من المعاملات المعاوضية، وإنما استفيدت من الباء الداخلة علي العوض، ولا إشكال في عدم أخذ المال بالمعني المذكور في مدلولها لتكون قيداً في مدخولها.

وبالجملة: لا مجال للبناء علي أخذ المالية في العوضين في مفهوم البيع أو مطلق المعاوضة، بحيث تخرج المعاملة علي ما ليس مالاً عنهما موضوعاً.

علي أنه لو فرض عدم صدق البيع ولا المعاوضة علي المعاملة المذكورة أمكن تصحيحها علي أنها معاملة خاصة تتضمن المبادلة بين أمرين لا مالية لهما أو أحدهما له مالية دون الأخر. ويكفي في صحتها حينئذٍ عمومات النفوذ المتقدمة.

لكن ظاهر جماعة، بل صريح بعضهم المنع من المعاملة المذكورة، بيعاً كانت أو غيره، وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه" .وكيف كان فقد يظهر منهم الاستدلال عليه بوجهين:

الأول: أنها معاملة سفهية، لأن بذل المال بإزاء ما ليس مالاً تضييع له، فيكون سفهياً بنظر العقلاء.

الثاني: أنه أكل للمال بالباطل، الذي صرح الكتاب المجيد بالمنع عنه.

ص: 62

6 وهما - كما تري - لا ينهضان بالمنع من بيع أو مبادلة ما لا مالية له بما لا مالية له، وإنما يختصان بما إذا كان أحد الطرفين مالاً دون الآخر.

علي أن الأول يندفع: تارة: بأنه يكفي في عدم السفه وجود الغرض الشخصي بتحصيل الشيء، وكما لا يكون بذل المال مجاناً بلحاظ بعض الأغراض الشخصية غير الراجعة للمال سفهياً، كذلك لا يكون دفعه في مقابل ما ليس مالاً من أجل تعلق الغرض الشخصي بتحصيله سفهياً.

وأخري: بأن مجرد كون المعاملة سفهية لا يبطلها ما لم يرجع إلي كون الشخص الموقع لها سفيهاً، بأن يكون قاصراً عن أن يدرك ما يحفظ ماله من التلف والفساد والنقص، أما إذا كان تام الإدراك، إلا أنه أقدم علي معاملة سفهية لا مصحح لها بنظر العقلاء، فإنها لا تبطل.

وأما الثاني فهو مبني علي أن المراد من أكل المال بالباطل المنهي عنه شرعاً هو أكله في مقابل ما ليس مالاً، وهو غير ظاهر. إذ النهي عن ذلك قد ورد في آيتين: الأولي: قوله تعالي: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَي الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ)(1). الثانية: قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم)(2).

والأولي ظاهرة بقرينة الذيل في أن المراد بالباطل هو الأمر المستنكر المستخبث المذموم عليه المقابل للحق. والباء فيها إما للعوض، فتدل علي حرمة أكل المال بإزاء الأمور المستنكرة كالحكم بالجور وإيذاء الناس وإفساد المجتمع. وإما سببية فتدل علي حرمة أكل المال بالأسباب الممقوتة التي يستنكر القيام بها لتحصيل المال، وهو أعم من الأول، لشموله لمثل القمار والسرقة وغيرهما من المستنكرات الشرعية أو العرفية وإن لم تبتن علي المعاوضة.

********

(1) سورة البقرة آية: 188.

(2) سورة النساء آية: 29.

ص: 63

ولعل الثاني هو الأظهر، لأن المنصرف من الباء هي السببية، وتحتاج العوضية إلي قرينة وعناية. ويناسبه ما في غير واحد من النصوص من تفسير الآية الشريفة بالقمار(1) ، وتطبيق الباطل علي الشطرنج(2).

وأما حمل الباطل علي ما لا مالية له. فهو غير ظاهر المأخذ، وإنما هو عرفاً وفي كلمات اللغويين مقابل الحق، كما يشهد به المقابلة بينهما في كثير من الآيات والنصوص(3). ويناسبه النصوص المشار إليها آنفاً، وما تضمن تطبيقه علي سماع الغناء(4) وتطبيقه في الآية الشريفة علي الرشوة وسوقها في مساق الذم والتبكيت بما هو مستنكر ارتكازاً، مع أن المعني المذكور لا منشأ لاستنكاره ارتكازاً، ولو فرض تحريمه كان تعبدياً محضاً.

ومثله في ذلك قوله تعالي: (فَبِظُلمٍ مِن الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخذِهِم الرِّبَا وَقَد نُهُوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَأَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا)(5) ، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِن الأَحبَارِ وَالرُّهبَانِ لَيَأكُلُونَ أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ...)(6).

نعم فسر الباطل في كلمات بعض اللغويين بما ذهب خسراً وضياعاً، وهو حينئذٍ من صفات المال، لا أمر آخر سبب لأكله أو عوض عنه، كما هو مقتضي الباء في الآية الشريفة. ومثله ما عن الإمام الرضا (عليه السلام)، حيث قال في بيان علة تحريم الربا: "لأن الإنسان إذا أشتري الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً، وثمن الآخر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99، 102 من أبواب ما يكتسب به.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

(5) سورة النساء آية: 160، 161.

(6) سورة التوبة آية: 34.

ص: 64

باطلاً..." (1) فإن الباطل فيه بمعني العدم، لا معني الأمر الذي لا مالية له.

ودعوي: أن الآية الشريفة وإن لم تختص بما نحن فيه، إلا أنها بالمعني المتقدم شاملة له بعمومها، لأن دفع المال في مقابل ما ليس مالاً من الأسباب المستنكرة عند العقلاء. مدفوعة بأنه إن أريد باستنكارهم له استخباثهم له وذمهم عليه ومقتهم لمن يمارسه فهو ممنوع، ولذا سبق أن تحريمه لو فرض تعبدي. وإن أريد باستنكارهم له تجنبهم له بما أنهم مهتمون بالحفاظ علي المال، فهو خارج عن مفاد الآية.

وقد ظهر مما سبق الحال في الآية الثانية، فإنها وإن لم ترد في مقام الذم والتبكيت، إلا أنها تشارك الأولي في بقية الجهات التي تقتضي حملها علي المعني المتقدم، خصوصاً مع بُعد اختلاف المراد من الآيتين الشريفتين بَعد وحدة لسانهما وعدم التنبيه في النصوص المفسرة لها بالقمار علي اختلاف معناهما.

ودعوي: أن استثناء التجارة منها موجب لعموم المنع للمعاوضة علي ما لا مالية له، لخروجه عن التجارة، لابتنائها علي الاسترباح. ممنوعة: أولاً: لما تقدم من عدم وضوح أخذ قصد الاسترباح في التجارة. بل لا إشكال في عموم الجواز لمطلق البيع ولو لإلغاء خصوصية قصد الاسترباح، فيعم ما نحن فيه.

وثانياً: لعدم كون الحصر حقيقياً، بل هو إضافي، إذ لا إشكال في حلّ أكل المال بوجوه آخر غير التجارة، كالهدية والصدقة والإجارة وغيرها مما لا يصدق عليه التجارة قطعاً، وإن أوهمته بعض كلماتهم، ولو دخلت دخل ما نحن فيه أيضاً.

نعم في مجمع البيان عن الحسن أنهم كانوا بعد نزول الآية يتحرجون عن الأكل في بيوت الآخرين حتي نسخت الآية بقوله تعالي: (لَيسَ عَلَي الأَعمَي حَرَجٌ وَلاَ عَلَي الأَعرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَي المَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَي أَنفُسِكُم أَن تَأكُلُوا مِن بُيُوتِكُم أَو بُيُوتِ آبَائِكُم...)(2). ومقتضاه فهمهم الحصر الحقيقي من الآية الشريفة. لكنه من الغرابة بمكان. علي أن ما تضمنه من نسخ الآية كاف في منع الاستدلال بها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب بيع الربا حديث: 11.

(2) سورة النور آية: 61.

ص: 65

وبالجملة: لا مجال للبناء علي استفادة اعتبار المالية في العوضين من النهي عن أكل المال بالباطل في الآيتين الشريفتين، كما لم يتضح وجه اعتبارها من غيرهما وبذلك يتعين البناء علي عدم اعتبارها وجواز المعاوضة علي ما لا مالية له بمثله أو بما له مالية. بل لا مانع من كونها بيعاً.

وأما الإجماع الذي تقدمت دعواه من الجواهر فلم يتضح بنحو معتد به، لقرب ابتناء دعواه علي أحد الوجهين المتقدمين، بلحاظ التسالم في الجملة علي كبراهما مع تخيل تحقق الصغري. وإلا فمن البعيد قيام الإجماع علي الحرمة تعبداً في مثل هذه المسألة التي لم ترد بها نصوص، وليست شايعة الابتلاء، كي يبعد خفاء الحكم فيها بحيث يخطئ من صرح بالحرمة فيها.

هذا كله إذا أريد من اعتبار كون الشيء ذا منفعة معتد بها في مقابل ما لا منفعة له، كما هو المناسب لحال مستثنيات الميتة. أما إذا كان في مقابل كون منفعته المعتد بها محرمة فقد يوجه بأنه إذا كانت منفعة الشيء المعتد بها محرمة فهو وإن كان ذا مالية عرفاً بلحاظ المنفعة المذكورة، إلا أن الشارع قد أسقط ماليته بتحريمه المنفعة المذكورة، فيكون كما لو لم يكن له مالية، لعدم المنفعة المصححة لبذل المال بأزائه.

ويظهر الإشكال في ذلك مما سبق في أواخر المسألة الأولي من أن مالية الشيء تابعة لتنافس عموم الناس فيه، وليست هي أمراً تابعاً للشارع، ومما سبق في هذه المسألة من أن عدم كون الشيء مالاً لا يمنع من بيعه. ومثله الاستدلال بعموم حرمة التسبيب للحرام، وبعموم حرمة الإعانة علي الإثم. لما يأتي في أواخر المسألة السابعة من عدم ثبوت الأول، وفي أوائل المسألة الثامنة من عدم ثبوت الثاني.

ولعل الأولي أن يقال: إن تحريم المنفعة المعتد بها للشيء يصلح عرفاً للردع عن احترامه ومقابلته بالمال، لأن المنفعة المذكورة لما كانت هي المنشأ لمالية الشيء، بنحو يرجع لاحترامه ومقابلته بالمال عرفاً، فتحريمها شرعاً ملازم عرفاً لردع الشارع عن احترامه وعن مقابلته للمال.

ص: 66

وبعبارة أخري: تحريم المنفعة المعتد بها للشيء وإن لم يكن رافعاً لماليته مع بقاء تنافس عموم الناس فيه، إلا أن المستفاد منه عرفاً الردع عن ترتيب آثار المالية عليه، ومنها احترامه وبذل المال بأزائه.

ويعتضد ذلك بالتعليل في نصوص جواز بيع العنب والعصير ممن يتخذهما خمراً بأنه إنما باعه حلالاً في الإبّان الذي يحل شربه وأكله فلا بأس ببيعه(1). لظهوره في أنه لو باعه في حال حرمة شربه وأكله لحرم بيعه، ومقتضي ارتكازية التعليل إلغاء خصوصية الأكل والشرب والتعدي لجميع موارد تحريم المنفعة المعتد بها، بحيث يصح عرفاً نسبة التحريم للعين.

ولو غض النظر عن ذلك كفي في المنع عن بيعه وبذل المال بأزائه عموم النهي عن أكل المال بالباطل بالمعني الذي تقدم حمل الآيتين الشريفتين عليه، لأن المعاوضة علي الحرام أو علي ما يطلب منه الحرام لانحصار منفعته الظاهرة به من المستنكرات ارتكازاً وأكل المال بسببها أكل له بالباطل عرفاً.

بخلاف ما لو كان له مع المنفعة المحرمة منفعة معتد بها محللة أو جهة أخري لا حرمة فيها تقتضي التنافس فيه والاهتمام باقتنائه نظير اقتناء الأشياء الأثرية، فإن الردع عن منفعته المحرمة لا يقتضي الردع عن احترامه بلحاظ المنفعة المحللة أو الجهة الأخري المفروضتين، فتصح المعاوضة عليه وبذل المال بأزائه من أجل ذلك.

وبذلك يظهر أن وجود المنفعة المحللة أو نحوها إنما يعتبر في بيع ما له منفعة محرمة معتد بها، لئلا يتمحض التنافس عليه عرفاً في الحرام، بخلاف ما لم يكن له منفعة محرمة، فإنه لا يعتبر حينئذٍ في بيعه وجود المنفعة المحللة له، بناءً علي ما سبق من عدم اعتبار المالية في المبيع. ويأتي ما يتعلق بالمقام في المسألة الثامنة إن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 67

(مسألة 5): يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير الجهة المحرمة (1).

---------------

شاء الله تعالي.

(1) كما هو ظاهر أو صريح جملة من عبارات الأصحاب، كالشيخ والعلامة والشهيدين وغيرهم، وعن كاشف الغطاء الجزم به. لكن قيل إن المشهور هو حرمة الانتفاع إلا ما استثني، بل ربما ادعي الإجماع علي ذلك، كما يظهر مما عن فخر الدين في شرح الإرشاد والفاضل المقداد، حيث استدلا علي عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنها محرمة الانتفاع، وكل ما كان كذلك لا يجوز بيعه. قالا: "أما الصغري فإجماعية".

واستدل عليه - مضافاً إلي ذلك - بوجوه:

الأول: إطلاق النهي في قوله تعالي: (وَالرُّجزَ فَاهجُر)(1) ، كما يستفاد أيضاً من قوله سبحانه: (إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(2) ، لأن تفريع الأمر بالاجتناب علي كونه رجساً ظاهر في سوقه مساق التعليل، وفي عموم الأمر باجتناب الرجس. وحينئذٍ فمقتضي إطلاق النهي عن الشيء تحريم جميع الانتفاعات به.

ويندفع بأن الرجس والرجز ليس بمعني النجس بالمعني الذي هو محل الكلام، بل بمعني الخبيث، ولذا أطلق في الآية المتقدمة وغيرها علي الميسر والأنصاب والأزلام والأوثان والخبث الباطني والمنافقين وغيرها، وإطلاق النهي عنه ينصرف لما يناسب خبثه مما يتعلق به كالشرب للخمر، واللعب بالميسر والعبادة للأوثان والمولاة للمنافقين وغيرها.

كما قد يناسبه قوله تعالي في الآية السابقة: (مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ) حيث لا يبعد عدم كونه قيداً للرجس وارداً مورد التقسيم، بل وصفاً له لبيان حاله، وأنه مما يدعو

********

(1) سورة المدثر آية: 5.

(2) سورة المائدة آية: 90.

ص: 68

له الشيطان، أو خبراً ثانياً لبيان حال هذه الأمور، وأنها مما يدعو لها الشيطان. وعلي كلا الوجهين فالشيطان يدعو لكل رجس بالوجه المناسب لرجسيته، لا بكل ما يتعلق به.

ومثله الاستدلال بإطلاق تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير في مثل قوله تعالي: (حُرِّمَت عَلَيكُم المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزِيرِ...)(1) ، بدعوي: أن مقتضي حذف المتعلق حرمة كل شيء يتعلق بها. فإنه يندفع بأنه محمول علي خصوص الجهة المناسبة، كالأكل والشرب، دون جميع الانتفاعات.

الثاني: قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: "وكل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته. وأما وجوه الحرام من البيع والشراء فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحوش والطير أو جلودها، أو الخمر أو شيء من وجوه النجس. فهذا كله حرام ومحرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام"(2).

ويندفع بأن رواية تحف العقول لا تنهض بالاستدلال، كما تقدم في مسألة حرمة بيع الدم. ولاسيما مع ظهور اضطرابها في المقام، للتدافع بين الفقرتين المذكورتين في صدرها لبيان المعيار في حلّ البيع وحرمته، لظهور الأولي في أن المعيار في حلّ البيع حلّ الانتفاع في جهة من الجهات، وظهور الثانية في أن المعيار تحريم البيع حرمة الانتفاع في جهة من الجهات، والتداخل بينهما ظاهر. كما أن ظهور الفقرة الثانية في ذلك لا يناسب تفريع قوله:" لأن ذلك كله منهي... "عليها، لظهوره في أن المحرم

********

(1) سورة المائدة آية: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 69

جميع وجوه الانتفاع، لا بعضها.

إلا أن يجمع بين الفقرتين الأوليين بالحمل علي ما إذا كان المحلل أو المحرم هو الانتفاع الظاهر من الشيء، بحيث يكون هو المقصود منه عرفاً، ويحمل قوله:" لأن ذلك كله منهي... "علي فرض كون تلك الانتفاعات المفروض تحريمها هي الانتفاعات الظاهرة في تلك الأشياء بنحو التوزيع، ليناسب ما قبله، لا علي الحكم بحرمة جميع الانتفاعات مطلقاً. وحينئذٍ يقصر عن الاستدلال لما نحن فيه من حرمة جميع الانتفاعات مطلقاً. فلاحظ.

الثالث: النصوص الواردة في الميتة كقوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي قي قطع إليات الغنم:" إن في كتاب علي (عليه السلام): أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به"(1) ، ومعتبر علي بن المغيرة: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال: لا. قلت: بلغنا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) مرّ بشاة ميتة، فقال: ما كان علي أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها [بجلدها]..."(2) ، وموثق سماعة:" سألته عن جلود السباع. فقال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا"(3) ، وموثقه الآخر: "سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغرا، فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة"(4) ، ورواية الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام):" كتبت إليه أساله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي. فكتب: لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب..."(5) ، بدعوي عدم الفصل بين النجاسات.

وفيه: أولاً: أنه لا يظهر الوجه في الدعوي المذكورة. ولاسيما مع ما يأتي من بعض كلماتهم الظاهرة في خصوصية الميتة بحرمة الانتفاع، ومع ما هو المعلوم من جواز بعض الانتفاعات ببعض النجاسات، كما دلت عليه بعض النصوص، علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الذبائح حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 7.

ص: 70

ما يأتي.

وثانياً: أن الظاهر أو المتيقن من هذه النصوص حرمة الانتفاع بالميتة علي نحو الانتفاع بالمذكي، لا حرمة جميع وجوه الانتفاع بها، كما يناسبه سوق عدم الانتفاع خبراً ثانياً أو وصفاً في صحيح الكاهلي بنحو التأكيد لا التأسيس، والسؤال عن قضية الشاة التي روي الانتفاع بجلدها في معتبر علي بن المغيرة، والسؤال عن جلود الميتة في رواية الجرجاني، فإن الظاهر منهما التعريض بما ذهب إليه العامة من طهارة جلد الميتة بالدبغ، بنحو يعامل معاملة المذكي، لا جواز الانتفاع به مع نجاسته، كما لا يبعد انصراف موثقي سماعة لذلك، بسبب المقابلة فيهما بين الميت والمذكي.

ولا أقل من لزوم حملها علي ذلك بقرينة النصوص الصريحة أو الظاهرة في جواز الانتفاع بالميتة، كروايتي الصقيل ومعتبر البزنطي وخبر علي بن جعفر المتقدمة عند الكلام في حرمة بيع الميتة.

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) المتقدم هناك أيضاً: "سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، أيصلح له بيع جلودها ودبغها ويلبسها؟ قال: لا. وإن لبسها فلا يصلي فيها"(1). فإن الظاهر منه جواز اللبس في غير الصلاة بعد الردع عن اللبس علي أنه مذكي يصلي فيه بسبب الدبغ.

ومعتبر الحسن بن علي:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم إليات الغنم فيقطعونها. قال: هي حرام. قلت: فنصطبح بها؟ قال: أما علمت أنه يصيب اليد والثوب، وهو حرام "(2) فإن التنبيه للمحذور المذكور ظاهر في عدم حرمة الاصطباح ذاتاً. ولابد من حمل قوله:" وهو حرام "علي النجاسة، أو الحرمة بالعرض بلحاظ حرمة المساورة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الذبائح حديث: 2.

ص: 71

كما أنه يستفاد جواز الانتفاع ببقية النجاسات مما تضمن جواز الخرز بشعر الخنزير والعمل به(1) ، والاستقاء بحبل منه(2) ، وبالدلو من جلده(3) ، والتسميد بالعذرة(4) ، وما هو المعلوم من النص والفتوي والسيرة من جواز تخليل الخمر(5) ، والانتفاع بالكلب في الصيد والحراسة وبالعبد الكافر بناءً علي نجاسته.

علي أنه لا إشارة في شيء من ذلك لعموم حرمة الانتفاع بالنجس تعبداً والاستثناء منه، حيث لا يناسب ذلك ثبوت العموم المذكورة جداً، ويناسب كون الجهة الداعية للسؤال هو أداء الاستعمال للمساورة المحرمة أو الاستعمال المحرم، كاللبس حال الصلاة، كما يناسبه التنبيه لذلك في جملة من تلك النصوص.

ودعوي: ضعف النصوص المتقدمة في نفسها، أو سقوطها بالهجر، بلحاظ الشهرة والإجماع المدعي ممن تقدم. موهونة جداً، لاعتبار جملة منها. ومطابقتها للفتوي والسيرة، ولتصريح غير واحد من الأصحاب. كالشيخ في المبسوط وجماعة ممن تأخر عنهم، كما ذكر جملة من كلماتهم شيخنا الأعظم (قدس سره). بل قد يترجح من أجل جميع ما سبق تأويل كلام مدعي الإجماع بما لا ينافيه، مثل تحريم الانتفاعات المعتد بها أو نحو ذلك. وإن كانت بعض كلماتهم تأباه.

هذا وبملاحظة ما سبق يعلم بعدم عموم حرمة استعمال النجس. ولا مجال معه للتعويل علي دعوي الإجماع المتقدمة. وحملها - من أجل ما تقدم - علي أن مقتضي الأصل الحرمة ما لم يثبت المخرج عنه، ليس عملاً بها، بل هو تأويل لها، وليس هو بأولي من تأويلها بوجوه أخر أو طرحها بعد عدم إمكان العمل بظاهرها.

مضافاً إلي أنه كيف يوثق بأن العموم بالنحو المذكور هو مذهب قدماء الأصحاب ممن لا تعلم آراؤهم من طريق فتاواهم بل من طريق رواياتهم وسيرة المتشرعة المتصلة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، 16.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، 16.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة.

ص: 72

مثل التسميد بالعذرات (1) والإشعال والطلي (2) بدهن الميتة النجسة،

---------------

بعصورهم، بعد أن كان مقتضي الروايات والسيرة حرمة بعض الانتفاعات وحلّ بعضها، فإنه كما يمكن مع ذلك ذهابهم إلي أن الأصل هو التحريم ما لم يثبت الحلّ، يمكن ذهابهم إلي أن الأصل هو الحلّ ما لم يثبت التحريم. ونسبة الأول لهم من قِبَل مدعي الإجماع تحتاج إلي دليل بعد كونه مخالفاً للأصل، وهو مفقود. ومن الغريب بعد ذلك كله ما يظهر من الجواهر من الإصرار علي عموم حرمة الانتفاع بالنجس. فراجع.

هذا وقد يدعي حرمة الانتفاع بالميتة بالخصوص، وفي الجواهر:" بلا خلاف معتد به أجده فيه "وقد ذكر في السرائر في التعقيب علي معتبر البزنطي المتقدم أنه لا يلتفت إليه، لأنه من نوادر الأخبار، والأدلة بخلافه، فإن الإجماع منعقد علي تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال، إلا أكلها للمضطر غير الباغي والعادي. وقد صرح جماعة كثيرة بحرمة الاستصباح به حتي تحت السماء، بل ربما ادعي الإجماع عليه.

لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم. ولاسيما مع قرب ابتناء دعوي الإجماع علي عموم حرمة الانتفاع بالنجس الذي عرفت حاله، وعدم الوثوق بإطلاع مدعيه علي مذهب قدماء الأصحاب ممن لا تعرف آراؤهم إلا من طريق رواياتهم بعد ما سبق من الروايات الظاهرة والصريحة في جواز الانتفاع بالميتة. ولعله لذا حكي عن الاردبيلي والخراساني والمجلسي الميل إلي الجواز، أو القول به. فلاحظ.

(1) كما هو المصرح به في خبر وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):" أنه كان لا يري بأساً أن يطرح في المزارع العذرة"(1). نعم ضعف سنده مانع من التعويل عليه في الخروج عن مقتضي القاعدة لو كان هو التحريم. إلا أن يعتضد بالسيرة. والأمر سهل بعد ما سبق من أن مقتضي القاعدة الجواز.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

ص: 73

والصبغ بالدم وغير ذلك.

(مسألة 6): يجوز بيع الأرواث الطاهرة (1).

---------------

(2) لا يبعد أن يراد به مثل طلي السفن والجلود، كما تضمنه خبر جابر المروي مسنداً من طرق العامة عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): "إن الله ورسوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. قيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال: لا هو حرام. ثم قال (صلي الله عليه وآله وسلّم): قاتل الله اليهود إن الله تعالي لما حرم عليهم شحومها، حملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها"(1). ونسبه في التاج للخمسة البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. وقرينة السياق فيه تشهد بحمل التحريم فيه علي تحريم البيع من أجل الانتفاع بالطلي، لا تحريم نفس الطلي. والأمر سهل بعد ضعفه في نفسه وعدم نهوضه بالاستدلال.

(1) قال في الجواهر:" لم يظهر لنا خلاف في جواز بيعها، بل سيرة المسلمين في الأعصار والأمصار من غير نكير علي ذلك ".وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):" وعن الخلاف نفي الخلاف فيه، وحكي أيضاً عن المرتضي (رحمه الله) الإجماع عليه".

لكن في المقنعة:" وبيع العذرة والأبوال كلها حرام، إلا أبوال الإبل خاصة "،ونحوه في المراسم. وقد يستفاد من تعميم الأبوال فيهما للطاهرة - بقرينة استثناء أبوال الإبل - تعميم العذرة للأرواث الطاهرة، فيكون ذلك منهما خلافاً في المقام. وإن كان هو غير خال عن الإشكال بعد قصور العذرة عرفاً عن شمولها.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حلّ بيع الأرواث الطاهرة لعمومات النفوذ. ولا منشأ لاحتمال التحريم عدا ما قد يقال من ملازمته لتحريم الأكل بضميمة ما دل علي أن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه، أو استفادته من إطلاق تحريم الخبائث، لشموله لمثل بيعها.

********

(1) صحيح البخاري ج: 2 ص: 26، وصحيح مسلم ج: 1 ص: 229.

ص: 74

لكن يشكل الأول بأن ما تضمن ملازمة تحريم الأكل لتحريم البيع ليس هو إلا النبوي، المروي مرسلاً في بعض كتبنا، ومسنداً في جملة من كتب العامة: "إن الله إذا حرم علي قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"(1). ولو غض النظر عن ضعفه فلا مجال للبناء علي عمومه، إذ لا ريب في جواز بيع كثير مما يحرم أكله، كالإنسان والكثير من الحيوانات والطين. فلابد من حمله علي ما إذا كان الأكل هو المنفعة الظاهرة للشيء، كما يناسبه مورده، وهو تحريم الشحوم علي اليهود.

ومثله ما روي أيضاً مرسلاً في بعض كتبنا ومسنداً في بعض كتب العامة:" إن الله إذا حرم علي قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه"(2) ، حيث يتعين حمله علي ذلك، أو علي مطلق ما تكون منفعته الظاهرة محرمة، بحيث ليس له معها منفعة محللة معتد بها. علي أن الحديث المذكور وإن عبر عنه شيخنا الأعظم (قدس سره) بالنبوي المشهور، إلا أنه من القريب كونه محرفاً عن الأول، لأنه هو المشهور في روايات العامة، ولم يذكر الثاني إلا أحمد فيما حكي عن بعض المواضع من مسنده.

نعم قد يستفاد مضمونه مما تقدم في روايتهم عن جابر من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "قاتل الله اليهود، إن الله تعالي لما حرم عليهم شحومها حملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها" ،حيث يستفاد منه عموم حرمة أكل ثمن المحرمات. إلا أن المتيقن منه تحريم الأكل فيما تختص منفعته المعتد بها بالأكل.

وأما الثاني فيشكل: أولاً: بعدم ثبوت الإطلاق المذكور، حيث لم يرد تحريم الخبائث إلا في قوله تعالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَن المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِم الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم)(3) ، وليس

********

(1) سنن البيهقي ج: 2 ص: 103، ومسند أحمد ج: 1 ص: 247، 293، والمستدرك ج: 2 ص: 427، وسنن أبي داود ج: 2 ص: 103.

(2) مسند أحمد ج: 1 ص: 322.

(3) سورة الأعراف آية: 157.

ص: 75

إذا كان لها منفعة معتد بها (1). كما هي كذلك اليوم (2). وكذلك الأبوال الطاهرة (3).

---------------

هو وارداً لبيان تحريم الخبائث، بل للحكاية عن حال النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وبيان صفته، فلا إطلاق له يقتضي تحريم كل شيء يتعلق بالخبائث، بل يمكن اختصاص التحريم منه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بالأكل مثلاً.

نعم قد يستفاد العموم المذكور من قوله تعالي: (يَسأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُم الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمتُم مِن الجَوَارِحِ...)(1) ، لوروده مورد الحصر. اللهم إلا أن يقال: سياق الآية الشريفة ظاهر في السؤال عما يحل أكله لا عما يحلّ بنحو الإطلاق، فغاية ما يستفاد منها حلّ أكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث، ولا إطلاق لها يشمل غير الأكل مما يتعلق بالطيبات والخبائث لينفع في ما نحن فيه.

مع أنه لو كان وارداً لبيان حلّ الطيبات بنحو الإطلاق، فمقتضي الحصر فيه كون ماعدا الطيبات لا يحل علي الإطلاق، لا أنه يحرم بنحو الإطلاق، بأن يحرم كل شيء يتعلق به.

وثانياً: بأن الإطلاق المذكور ينصرف إلي تحريم ما يناسب الخبث في كل خبيث، نظير ما تقدم في أوائل المسألة الخامسة عند التعرض لإطلاق الأمر باجتناب الرجس وهجر الرجز، والمناسب في المقام لخبث الأرواث الطاهرة - لو تم - هو أكلها لا بيعها، كما لعله ظاهر. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من حلّ البيع المستفاد من عمومات النفوذ.

(1) هذا مبني علي ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الرابعة، وتقدم الكلام فيه.

(2) لشيوع الحاجة لها في التسميد والوقود.

(3) كما هو ظاهر المبسوط واللمعة وصريح السرائر و الشرايع والمختلف وجامع المقاصد والروضة وعن المنتهي والتحرير وغيرها. خلافاً لما سبق من المقنعة

********

(1) سورة المائدة آية: 4.

ص: 76

والمراسم من منع بيع بول ما عدا الإبل، وبه صرح في التذكرة والقواعد ومحكي الإرشاد، وقد يستظهر من نهاية الشيخ (قدس سره). وربما استدل عليه بالاستخباث، لمانعيته من البيع بنفسه، أو بتوسط اقتضائه حرمة شربها.

لكن سبق أن الاستخباث - لو تم - لا يقتضي حرمة البيع. كما أن حرمة الشرب - لو تمت من جهة الاستخباث أو غيره - لا تمنع من البيع أيضاً بعد عدم كون الشرب هو المنفعة الظاهرة للأبوال المذكورة، ولذا لا يتعارف جمعها لذلك. ومن ثم يتعين جواز البيع إذا كان لها منفعة محللة معتد بها، بناءً علي ما يظهر منهم من اشتراط جواز البيع بذلك. بل مطلقاً بناءً علي ما سبق منّا في المسألة الرابعة من عدم اشتراطه به.

هذا ويظهر مما سبق منهم خصوصية بول الإبل بالجواز، حيث أجاز بيعه كثير ممن منع من بيع غيره من الأبوال الطاهرة. قال في الجواهر في بيان وجه ذلك: "مدعياً الفرق بينهما بعدم كونه من الخبائث، لأن العرب لا تستخبثه، بل تتداوي به وتشربه عند إعواز الماء وقلته، وهم الفصل بين الطيبات والخبائث، دون سائر الناس، لأنهم المخاطبون بالقرآن والسائلون في قوله: (يَسأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُم الطَّيِّبَاتُ). ولأنهم أناس لا تغلب عليهم العيافة من التنعم الحاصل في غيرهم" .وظاهر هذا الكلام حمل الطيبات علي ما تقبله النفس في مقابل الخبائث التي تعافها النفس.

لكنه يشكل: أولاً: بأن التقابل بين الطيب والخبيث ليس من تقابل العدم والملكة، بل من تقابل الضدين، فالطيب ما يشتمل علي جهة تقتضي حسنه والرغبة فيه، والخبيث ما فيه جهة تقتضي فساده والنفرة منه، وعلي ذلك ليس كل ما تقبله النفس طيب. وحينئذٍ يتعين حمل الآية علي عدم الحصر، إذ لا إشكال في عدم اختصاص الحلّ بالطيب بالمعني المتقدم، ولازم ذلك عدم ورود الآية لبيان حرمة الخبيث، ليكون مقتضي إطلاقها المقامي التحويل في تشخيص الطيب من الخبيث علي العرف، فضلاً علي خصوص العرب.

ص: 77

وثانياً: أن جعل المعيار في الطيب والخبث علي قبول النفس للشيء وعيافتها له بعيد عن معناهما العرفي، بل الظاهر أن الطيب والخبث منتزعان من خصوصية في الشيء تقتضي بنظر العقلاء ومرتكزاتهم استحسانه والمدح لمرتكبه، أو التنفير منه والذم لمرتكبه. ولاسيما وأن كثيراً من المحرمات - كلحوم جملة من الحيوانات - لا تعافها النفس، وكثيراً ما تعاف النفس الشيء لطعمه أو تفسخه من دون أن يحرم.

وثالثاً: أن مقتضي الإطلاق المقامي للخطاب إيكال تشخيص الطيب والخبيث للعرف العام، ومع اختلافهم يتعين إيكاله لكل مكلف بشخصه، أما إيكاله لخصوص العرب فيحتاج إلي عناية لا قرينة عليها. ولاسيما وأنهم أيضاً يختلفون باختلاف العادات والأحوال. أما مع العلم بعدم اختلاف المكلفين في الحكم تبعاً لاختلافهم في التشخيص فليس حمل الخطاب علي إيكال التشخيص لخصوص فئة معينة بأولي من حمله علي العهد بقرينة خفيت علينا، المستلزم لإجمال الخطاب في حقنا.

هذا وربما يناسب السياق في الآية الشريفة المتقدمة حمل الطيبات علي الحيوانات المذكاة، لأن التذكية جهة من جهات الطيب عرفاً، ويكون العطف في قوله: (وما علمتم من الجوارح) لبيان أن الحيوان المصيد ملحق بالمذكي، فهو من أفراده الخفية التي تحتاج إلي بيان. فلاحظ.

هذا كله مضافاً إلي أمور:

الأول: ما أشار إليه في الجواهر من عدم خصوصية بول الإبل في ذلك، بل يشاركه فيه بقية أبوال ما يؤكل لحمه، خصوصاً الأنعام الثلاثة، حيث لا فرق بينها في عيافة النفس أو عدمها، كما لا يبعد عدم الفرق بينها في استعمالهم لها عند إعواز الماء.

الثاني: أنه لو فرض كون مقتضي إطلاق الآية حلّ شرب بول الإبل، إلا أنه لابد من الخروج عنه بموثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سئل عن بول البقر يشربه الرجل ؟ قال: إن كان محتاجاً إليه يتداوي به يشربه. كذلك أبوال الإبل والغنم"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 59 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 1.

ص: 78

(مسألة 7): الأعيان المتنجسة (1) - كالدبس والعسل والدهن والسكنجبين وغيرها - إذا لاقت النجاسة يجوز بيعها والمعاوضة عليها (2)

---------------

فإن مقتضي مفهوم الشرط فيه عدم جواز شربه من دون حاجة للتداوي.

وأما ما في خبر الجعفري:" سمعت أبا الحسن موسي (عليه السلام) يقول: أبوال الإبل خير من ألبانها، ويجعل الله الشفاء في ألبانها"(1). فلا ينافي ذلك، إذ يمكن حمل الخيرية فيه علي الخيرية من حيثية التداوي، لا بلحاظ حلية الشرب مطلقاً.

الثالث: ما سبق من جواز الشرب لا يستلزم جواز البيع، لعدم كون شرب الأبوال المذكورة من منافعها المقصودة منها، فلو تم اعتبار المنفعة المحللة المعتد بها في صحة البيع لم يصلح جواز شربها لتحليل بيعها. ولعله لذا حكي عن العلامة في النهاية وابن سعيد في النزهة تحريم بيعها.

نعم بناءً علي ما سبق من جواز البيع فيما إذا لم تختص المنفعة المقصودة من الشيء بالمنفعة المحرمة هو جواز بيع بول الإبل وغيرها حتي بناءً علي حرمة شربها اختياراً، لما ذكرناه أخيراً من عدم كون الشرب هو المنفعة المقصودة منها. فلاحظ.

(1) الظاهر - بقرينة الأمثلة التي ذكرها (قدس سره) - أن مراده بها المائعات غير القابلة للتطهير، وهي مورد الكلام الآتي. أما ما يقبل التطهير من الجوامد التي يتنجس ظاهرها فقط أو المائعات التي تتنجس كلها إلا أنها تقبل التطهير - كما قد يدعي في مثل العجين - فالظاهر خروجها عن موضوع كلامهم، حيث لا إشكال في جواز الانتفاع بها بعد التطهير، ومن أجل ذلك لا إشكال عندهم ظاهراً في جواز بيعها. نعم ربما يعمها بعض أدلة المنع، كما يظهر مما يأتي إن شاء الله تعالي.

(2) أما جواز الانتفاع بها في غير ما ثبت حرمته - كالأكل و الشرب - فهو الذي قواه شيخنا الأعظم (قدس سره)، ونسبه لأكثر المتأخرين. لكن صرح في مفتاح الكرامة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 59 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 3.

ص: 79

والجواهر بحرمة الانتفاع بها إلا ما دلّ الدليل علي جوازه، كالاستصباح بالدهن المتنجس، كما يأتي. وقد نسبا ذلك لجماعة من الأصحاب أو لإجماعهم. وإن كانت النسبة مورداً للإشكال لاضطراب عبارات كثير منهم.

وكيف كان فقد يستدل عليه بأمرين:

الأول: إطلاق ما تضمن الأمر باجتناب الرجس وهجر الرجز وحديث تحف العقول. ويندفع بما سبق من عدم نهوضها بإطلاق حرمة الاستعمال في الأعيان النجسة، فضلاً عن المتنجسات.

الثاني: ما دلّ علي إلقاء المرق الذي توجد فيه فارة(1) ، وإلقاء ما حول الفارة من السمن الجامد(2) ، وإهراق الإنائين اللذين تصيب أحدهما نجاسة(3) ، بل كل ماء قليل تصيبه النجاسة(4) ، ونحو ذلك، بدعوي: أنه لو حلّ الانتفاع به بمثل إطعام الأطفال والحيوانات وسقيها أو سقي المزراع لم يكن وجه للأمر بإلقائها وإتلافها.

وفيه: أن المفهوم من ذلك عرفاً عدم الانتفاع بها بالوجه المعدة له بسبب نجاستها، لعدم الاعتداد بالمنافع الأخري، ولأن مشاكل النجاسة وسريانها بالملاقاة توجب الزهد في تلك المنافع. وإلا فمن البعيد جداً جواز الانتفاع بالدهن الذائب في الاستصباح وغيره - كما تضمنته النصوص الآتية - وعدم جوازه بالدهن الجامد القليل الذي يكون حول الفارة. ولا أقل من لزوم الحمل ذلك بقرينة ما تضمن جواز الانتفاع بالأعيان النجسة مما تقدم التعرض له في المسألة الخامسة. بل هو مقتضي السيرة، المطابقة لمرتكزات المتشرعة، لغفلتهم عن المنع جداً.

وأما بيع المتنجس فقد صرح جماعة بحرمة بيع ما لا يقبل التطهير من المايعات، بل مطلقاً مقتصرين في الاستثناء علي بيع الدهن للاستصباح. وربما زاد بعضهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 8 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 4.

ص: 80

الجوامد التي يمكن تطهير ظاهرها، كالذهب والقير.

والوجه في استثناء الدهن المتنجس النصوص كموثق معاوية بن وهب وغيره عن أبي عبدالله (عليه السلام): "في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك ؟ فقال: بعه. وبينه لمن اشتراه ليستصبح به"(1) ، وموثق أبي بصير:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه. فقال: إن كان جامداً فتطرحها وما حولها، ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فأسرج به، وأعلمهم إذا بعتهم"(2) ، وفي معتبر إسماعيل بن عبد الخالق عنه (عليه السلام): "أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج، وأما الأكل فلا"(3) ، وفي معتبر الجعفريات عن علي (عليه السلام):" أنه سئل عن الزيت يقع فيه شيء له دم فيموت. قال: الزيت خاصة يبيعه لمن يعمل صابوناً"(4). وقريب منه ما رواه الراوندي(5).

نعم في معتبر الجعفريات الآخر عنه (عليه السلام): "وإن كان شيئاً مات في الأدام، وفيه الدم في العَسل أو في الزيت أو في السمن، فكان جامداً، جنبت ما فوقه وما تحته، ثم يؤكل بقيته. وإن كان ذائباً فلا يؤكل ويستسرج به، ولا يباع"(6). وخبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن حب دهن ماتت فيه فارة. قال: لا تدهن به، ولا تبعه من مسلم "(7) لكن لابد من حملهما بقرينة ما قبلهما علي بيعها لتؤكل من دون تنبيه لنجاستها كبيع الأشياء الطاهرة.

وأما استثناء الجوامد التي يمكن تطهير ظاهرها فقد يستدل عليه بإمكان الانتفاع بها بتطهير ظاهرها. لكنه كما تري! لوضوح أن الانتفاع ليس بظاهرها فقط، بل بها بتمامها، كالطلي بالقير والتحلي بالذهب. وحينئذٍ إذا فرض حرمة الانتفاع بالنجس أو حرمة بيعه تعين حرمة بيع هذه الأمور فقط، أو مع حرمة الانتفاع بها،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3، 5.

(4) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 7.

(5) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 7.

(6) مستدرك الوسائل باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(7) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 81

إن كان لها منفعة محللة معتد بها عند العرف (1)، فلو لم يكن لها منفعة كذلك لا يجوز بيعها ولا المعاوضة عليها. والظاهر بقاؤها علي الملكية لمالكها (2). ويجب إعلام المشتري بنجاستها (3).

---------------

لبقاء باطنها علي النجاسة.

هذا وملاحظة كلمات الصحاب هنا تشهد بكونها في غاية الاضطراب. وبما سبق يتضح أن العموم المذكور لا أصل له، وأن المعيار في حرمة البيع كون المنافع الظاهرة المعتد بها محرمة. فلاحظ.

(1) يظهر مما سبق أن ذلك إنما يعتبر فيما له منفعة محرمة معتد بها. أما ما لا منفعة له محرمة ولا محللة معتد بها فلا بأس ببيعه والمعاوضة عليه.

(2) سبق منه (قدس سره) في المسألة الثانية أن الأعيان النجسة يثبت فيها حق الاختصاص دون الملكية. وكأنه يبتني علي ما ذكره في المسألة الأولي من خروجها عن المالية شرعاً. ومن الظاهر أنه لا منشأ لاستفادة خروجها عن المالية إلا حرمة بيعها والمعاوضة عليها وترتيب آثار المال عليها، وذلك كله جار في المتنجس في فرض عدم جواز بيعه. ومن ثم يكون الفرق بينه وبين النجس في الملكية وعدمها محتاجاً للدليل.

اللهم إلا أن يدعي أن المتيقن من الإجماع علي عدم الملكية هو النجس دون المتنجس. لكنه غير ظاهر المنشأ بالنظر إلي كلماتهم وأدلتهم. نعم ذكرنا آنفاً أن حرمة البيع ونحوه للشيء لا يستلزم خروجه عن المالية. كما أن خروج الشيء عن المالية لا تقتضي خروجه عن الملكية. ولا فرق في ذلك بين النجس والمتنجس وغيرهما.

(3) كما صرح به غير واحد، بل لا ينبغي الإشكال فيه بعد اشتمال النصوص المتقدمة عليه. نعم النصوص المتقدمة مختصة بالسمن والزيت. إلا أنه لا ينبغي التأمل في التعدي منهما لكل ما يؤكل ويشرب، لإلغاء خصوصيتهما عرفاً.

وربما يتعدي لكل محرم، كاللبس في الصلاة والمساورة التي قد تنتهي للحرام

ص: 82

ونحوهما. لوجوه:

الأول: أن قوله (عليه السلام): "بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به" ظاهر في أن الغرض من البيان صيرورة الاستصباح غاية للبيع، ومن الظاهر عدم خصوصية الاستصباح في ذلك، بل يعم كل منفعة محللة، فيدل الحديث علي أنه لابد من انتهاء البيع للمنافع المحللة، دون المحرمة.

لكنه يشكل بما هو المعلوم من أنه لا اهتمام للشارع الأقدس بحصول المنافع المحللة، ولذا لا يجب تحقيقها، وليس جعل الاستصباح غاية إلا بالعرض، والمراد حقيقة تجنب الأكل والشرب أو مطلق الحرام، وحيث كان المتيقن الأولين تعين الاقتصار عليهما.

ويناسب ذلك موثق عبدالله بن بكير: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلي فيه وهو لا يصلي فيه. قال: لا يعلمه. قلت: فإن أعلمه ؟ قال: يعيد" (1) بناءً علي أن المراد عدم إعلامه حين إعارته، ليناسب ما دل علي صحة صلاة الجاهل بالنجاسة. أما لو حمل علي عدم إعلامه بعد صلاته فيه، فيخرج عما نحن فيه. نعم لا إشكال في أن الثاني هو الأظهر. غايته حمل الأمر بالإعادة علي الاستحباب جمعاً مع ما دل علي صحة صلاة الجاهل بالنجاسة. فالعمدة ما سبق من كون المتيقن من النصوص خصوص الأكل والشرب.

الثاني: حرمة التسبب للحرام. وفيه: أنه لم يثبت عموم حرمة التسبيب للحرام، خصوصاً مع جهل المباشر به. وإنما ثبت في خصوص بعض الموارد، كالإفتاء بخلاف الواقع، وإعانة الظالمين، وسقي الخمر، وغير ذلك من الموارد الخاصة التي دلت عليها الأدلة. وربما كان التحريم في بعضها بملاك آخر غير التسبيب.

نعم يحرم التشجيع علي المعصية في ظرف تنجز التكليف، لأنه يستفاد بالأولوية العرفية مما دل علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولما فيه من الانتهاك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 83

لحرمة الشارع الأقدس.

الثالث: عموم حرمة الإعانة علي الإثم. وفيه: أن العموم المذكور غير ثابت أيضاً، كما يأتي توضيحه في المسألة الثامنة إن شاء الله تعالي.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن وجوب الإعلام لا يختص بالبيع ونحوه من موارد التسبيب، بل يعم غيرها بدعوي: أن مقتضي ارتكازية التعليل حمله علي أن الغرض من الإعلام تجنب أكل النجس من دون خصوصية للبايع والمشتري. وعلي ذلك يجب تنبيه من يقدم علي أكل النجس أو شربه جهلاً وإعلامه بالحال حتي من الأجنبي.

لكنه غير ظاهر، فإن ارتكازية التعليل قد تقتضي التعدي عن البيع لمثل الهبة والإباحة وتقديم الطعام ونحوهما من موارد التسبيب، من دون أن تنهض بإلغاء خصوصية التسبيب رأساً، بحيث يجب علي كل أحد إعلام من يقدم علي أكل النجس أو شربه جهلاً، فإنه لا شاهد علي ذلك بعد كون خصوصية التسبيب مناسبة لوجوب الإعلام ارتكازاً.

بل لا يمكن البناء علي ما ذكره (قدس سره)، ضرورة أن مورد التعليل هو إعلام المشتري، وليس هو مقدماً بالفعل علي أكل النجس، وإنما هو معرض لذلك، فلو بني علي التعدي عن مورد التعليل وإلغاء خصوصية التسبيب لزم البناء علي وجوب إعلام كل من هو معرض لأكل النجس أو شربه لولا الإعلام، كعائلة المشتري وضيوفه لو احتمل تساهله أو نسيانه تجنيبهم الطعام المذكور. وكذا الحال في غير المشتري، فإذا تنجس طعام الشخص أو شرابه وهو جاهل بذلك وجب إعلامه وإعلام عائلته، وإعلام ضيوفه وكل من يدخل داره، وإذا وجد طعام نجس ملقي في الطريق قابل لأن يأكله المارة يجب إتلافه أو تغييبه عنهم أو التصدي لكل من يمرّ وإعلامه بحاله... إلي غير ذلك مما لا يظن بأحد البناء عليه.

ودعوي: أنه لا تسبيب من البايع لأكل النجس مع عدم الإعلام، حيث

ص: 84

يكفي في جواز الإقدام علي أكل السمن ونحوه قاعدة الطهارة بلا حاجة إلي يد البايع وظهور حاله.

مدفوعة بأن مجرد وجود المبرر للإقدام مع قطع النظر عن ظهور حال البايع لا ينافي كون ظهور حال البايع منشأ لتغرير المشتري، بحيث يصدق في حقه التسبيب في الجملة، بنحو لا تمنع ارتكازية التعليل من دخله في الأمر بالإعلام.

والحاصل: أن المتيقن من مفاد النصوص المتقدمة وجوب الإعلام بالنجاسة من قبل البايع ونحوه ممن يبذل الطعام أو الشراب فيما من شأنه أن يؤكل أو يشرب، ولا مجال لتعميمه لغير ذلك.

نعم لا يبعد البناء علي وجوب الإعلام في كل مورد يكون فيه عدم الإعلام غشاً من البايع، لخفاء العيب والاهتمام نوعاً بعدم حصوله في المبيع، بحيث يوجب نقص قيمة المبيع لو ظهر كنجاسة الملابس والأفرشة الجديدة، حيث يعدّ عدم التنبيه في مثل ذلك ممن يدفع الشيء غشاً عرفاً، فيحرم، لعموم حرمة غش المسلم الذي تضافرت به النصوص(1).

وأظهر من ذلك ما إذا كانت النجاسة موجبة لخروج المبيع عما يطلب منه نوعاً، كالنجاسة في المأكول والمشروب والثياب المخصصة للصلاة أو للإحرام أو للتكفين، وكذا مثل كون الثوب المخصص للصلاة أو الإحرام أو التكفين حريراً، فإن حصول الغش بذلك أظهر. ومجرد صحة العمل من الجاهل أو معذوريته فيه لا يخرجه عن الغش، إذ لا ريب في نقص العمل معه.

بل يكفي في صدق الغش بذل المال بالمقدار المناسب لتخيل عدم نجاسة المبيع، فإنه نحو من الضرر لا يقدم عليه المشتري لولا الجهل المفروض. ولعل الأمر بالإعلام في نصوص المقام مبني علي ذلك. وإن لم يكن مناسباً للتعليل بالاستصباح،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 85

بل المناسب له تجنب الحرام، كما سبق آنفاً.

نعم إذا لم يهتم نوعاً بتجنب الأمر المجهول في المبيع، بحيث لا يوجب نقص قيمته لو علم به، خرج عن كونه عيباً ولم يصدق الغش بعدم بيانه، كنجاسة الملابس والفرش المستعملة ونحو ذلك مما يعدّ عدمه كمالاً في المبيع من دون أن يعدّ وجوده نقصاً فيه.

ثم إن ذلك لا يختص بالبيع، لعموم حرمة الغش لغيره، علي ما يأتي توضيحه في ذيل المسألة السادسة والعشرين إن شاء الله تعالي.

هذا ومقتضي قوله (عليه السلام) في خبر علي بن جعفر: "ولا تبعه من مسلم" بعد حمله علي البيع من غير إعلام هو جواز بيعه من الكافر من دون إعلام. لكن قد يشكل التعويل عليه مع ضعفه في نفسه.

اللهم إلا أن يفهم من النصوص ابتناء وجوب الإعلام علي حرمة الغش، حيث لا يبعد قصوره عن الكافر، إما لقصور العموم عنه، أو لعدم صدق الغش في حقه بعد عدم مانعية النجاسة عنده من الأكل.

نعم قد يتحقق الغش بلحاظ نقص قيمة المبيع بسبب النجاسة، فيحرم بناءً علي عموم حرمة الغش في حق غير المؤمن والمسلم، علي ما يأتي الكلام فيه أيضاً في ذيل المسألة السادسة والعشرين إن شاء الله تعالي.

بقي شيء. وهو أن الظاهر كون وجوب الإعلام بالنجاسة في المقام نفسياً، لا شرطياً راجعاً إلي توقف صحة البيع عليه. لأن المنصرف من الأمر بالشيء في المعاملات وإن كان هو شرطيته فيها، إلا أن المناسبات الارتكازية في المقام تقتضي حمله علي الوجوب النفسي الذي هو مقتضي الأصل الأولي في الأمر، لما هو المرتكز من أن الإعلام إنما يجب رفعاً للغش، أو لتجنب المشتري الوقوع في الحرام، كما يناسبه جعل الاستصباح غاية للإعلام في موثق معاوية بن وهب بالتقريب المتقدم، وكلاهما يناسب الوجوب النفسي لا الشرطي.

ص: 86

ولذا لا يظن بأحد التوقف في التعدي من البيع لكل وجوه دفع الطعام والشراب المتنجس بنحو يوهم طهارتهما كالهبة وتقديمهما للغير عند دعوته للطعام والشراب، ونحو ذلك مما لا يحتمل شرطية الإعلام فيه.

نعم قوله (عليه السلام) في معتبر إسماعيل: "فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج" ظاهر في لزوم الإعلام قبل البيع، لتكون الغاية من الشراء الإسراج. إلا أن ذلك لا يقتضي شرطية الإعلام في البيع، بحيث لا يصح بدونه. بل غايته وجوبه تكليفاً قبله، الذي هو المناسب لكون المورد من صغريات الغش، الذي لا يتجنب إلا بالإعلام قبل إيقاع المعاملة، أما الإعلام بعد ذلك فهو تدارك للغش الحاصل، وتجنب للاستمرار فيه، لا تجنب له من أول الأمر.

علي أنه لا يبعد حمله علي الوجه المتعارف في الإعلام بحال المبيع الذي تختلف به الرغبات، خصوصاً بملاحظة قوله (عليه السلام) في موثق معاوية: "بينه لمن اشتراه" الظاهر في البيان بعد الشراء، إذ لا يبعد الجمع بينهما بإلغاء خصوصية وقت البيان شرعاً، وأن المهم إعلام المشتري، ليكون علي بصيرة من أمره.

ودعوي: أن مقتضي قوله (عليه السلام): "فيبتاع للسراج" اعتبار كون الغاية من البيع السراج أو غير الحرام، فيكون الإعلام شرطاً في صحة البيع بالعرض، بلحاظ توقف شرط البيع عليه.

مدفوعة بقرب كون التعبير المذكور وارداً مورد المتعارف من ترتب القصد المذكور علي الإعلام، أو من أجل رفع الغش، ليكون الإقدام بلحاظ خصوص بعض المنافع، لا لبيان شرطيته في صحة البيع، وإلا فمن البعيد توقف صحة البيع علي القصد المذكور، بحيث لا يصح لو قصد المشتري المعصية. كيف ويأتي في المسألة الخامسة عشرة إن شاء الله تعالي جواز بيع العنب ممن يصنعه خمراً. ولاسيما بملاحظة ما سبق في موثق معاوية. ومن ثم لا مخرج عما تقتضيه المناسبات الارتكازية من كون

ص: 87

(مسألة 8): تحرم ولا تصح التجارة بما يكون آلة للحرام (1)،

---------------

وجوب الإعلام تكليفياً لا غير. فلاحظ.

(1) بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. كذا في الجواهر. والوجه فيه: أنه أكل للمال بالباطل، كما يظهر مما تقدم في المسألة الرابعة في تقريب مفاد الآيتين الشريفتين، مؤيداً بما يستفاد من رواية تحف العقول(1).

هذا وقد يستدل علي ذلك أيضاً بأن في بيع الأمور المذكورة إعانة علي الإثم. لكنه يندفع بأن الحرام بمقتضي قوله تعالي: (وَتَعَاوَنُوا عَلَي البِرِّ وَالتَّقوَي وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَي الإِثمِ وَالعُدوَانِ)(2) هو التعاون علي الحرام الذي هو عبارة عن الاشتراك فيه، لا الإعانة التي عبارة عن فعل ما يسهل فعل الحرام علي من يقوم به من دون اشتراك فيه، كما نبه له بعض مشايخنا (قدس سره) وسبقه إليه المحقق الإيرواني في حاشيته علي المكاسب.

ولذا كان عموم الآية ارتكازاً آبياً عن التخصيص، مع أنه لا إشكال في جواز الإعانة علي الحرام في كثير من الموارد. فقد ورد في جملة من النصوص جواز بيع العنب ممن يصنعه خمراً وبيع الخشب ممن يصنعه برابط، وأطلقوا جواز بيع ما ينتفع به في الحلال والحرام ولم يخصوه بما إذا لم يعلم بترتب الحرام عليه من المشتري أو غيره، إلي غير ذلك.

وبعبارة أخري: مفاد الآية الشريفة عدم جواز الاشتراك في فعل الحرام، فيكون النهي فيها إرشادياً، لا تعبدياً كما هو الحال في حرمة الإعانة علي الإثم لو قيل بها.

وأما الاستدلال علي عموم حرمة الإعانة علي الإثم بالإجماع، لتكرر الاستدلال بالكبري المذكورة في كلماتهم، بنحو قد يظهر في المفروغية عنها عندهم.

فيندفع بعدم وضوح كونه إجماعاً تعبدياً صالحاً للاستدلال بعد قرب ابتنائه علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) سورة المائدة آية: 2.

ص: 88

بحيث يكون المقصود منه غالباً الحرام (1)، كالمزامير (2)

---------------

اختلاط الإعانة عليهم بالتعاون. وبعد ما عرفت من جواز الإعانة في بعض الموارد، حيث لا مجال مع ذلك لدعوي الإجماع علي عموم حرمتها، إذ لا معني للإجماع علي العموم مع ثبوت التخصيص، وإنما يمكن ذلك في العموم اللفظي، نظير ما تقدم في حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة.

والحاصل أنه لا مجال للبناء علي عموم حرمة الإعانة علي الإثم، بحيث يكون هو المرجع ما لم يثبت الجواز. غاية الأمر أنه ثبت حرمتها في خصوص بعض الموارد، كالإعانة علي قتل المسلم، وإعانة الظالمين، وغير ذلك مما يقتصر فيه علي مورده من دون أن يتحصل عموم يرجع إليه في المقام.

ومثله الاستدلال في المقام بحرمة التسبيب للحرام، حيث يظهر ضعفه مما سبق في وجوب الإعلام بنجاسة الدهن. وكذا الاستدلال بأن تحريم المنفعة الظاهرة راجع إلي إلغاء مالية الشيء شرعاً. لظهور ضعفه مما تقدم في أواخر المسألة الرابعة. فالعمدة ما عرفت. مضافاً إلي ما يأتي في الأمثلة الآتية في كلامه (قدس سره). فلاحظها.

(1) المدار في الحرمة عدم الاعتداد بالمنافع المحللة، بحيث لا تنسب للشيء عرفاً. ولعل مراده (قدس سره) ذلك.

(2) فقد نصوا بالخصوص علي حرمة بيع آلات اللهو، وفي المستند دعوي الإجماع المحقق عليه. ويقتضيه ما تقدم. مضافاً إلي جملة من النصوص من النهي عن بيع الجارية المغنية، وأن ثمنها سحت، كصحيح إبراهيم بن أبي البلاد: "قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام):" جعلت فداك إن رجلاً من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار وقد جعل لك ثلثها. فقال: لا حاجة لي فيها، إن ثمن الكلب والمغنية سحت"(1) ، وخبر محمد عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات. فقال: شراؤهن وبيعهن حرام، وتعليمهن كفر واستماعهن

********

(1) ، (2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 7.

ص: 89

والأصنام والصلبان (1)

---------------

نفاق"(2) ، وغيرهما. فإن حرمة بيع الجارية المغنية مع حلية جملة من منافعها المعتد بها - كالافتراش والخدمة - يقتضي حرمة بيع بقية آلات اللهو المتمحضة عرفاً للمنفعة المحرمة بالأولوية العرفية.

نعم في خبر عبدالله بن الحسن الدنيوري:" قلت لأبي الحسن... جعلت فداك فأشتري المغنية أو الجارية تحسن أن تغني أريد بها الرزق لا سوي ذلك. قال: اشتر وبع"(1). لكنه - مع ضعفه - لا ينهض بالخروج عن تلك النصوص الكثيرة. فلابد من طرحه أو حمله علي ما إذا لم يكن الغناء هو الصفة الظاهرة لها، بحيث يكون هو المنظور في البيع. ولعله يأتي ما ينفع في ذلك في المسألة التاسعة إن شاء الله تعالي.

(1) قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "بلا خلاف ظاهر، بل الظاهر الإجماع عليه" .ويقتضيه - مضافاً إلي ما سبق والي مرتكزات المتشرعة - مرسلة أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): "وأما الميسر فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر. وأما الأنصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها [كانت تعبدها] المشركون. وأما الأزلام فالأقداح [فالقداح] التي كانت تستقسم بها مشركوا العرب [المشركون من العرب] في الجاهلية. كل هذا بيعه وشراه [وشراؤه] والانتفاع بشيء من هذا حرام من الله محرم، وهو رجس من عمل الشيطان"(2). وكذا ما تضمن بيع الخشب ممن يصنعه صلباناً أو صنماً(3) ، الذي يأتي في المسألة الخامسة عشرة إن شاء الله تعالي، حيث يدل بالأولوية العرفية علي حرمة بيع الصليب والصنم.

هذا وقد يستدل عليه بإطلاقات الأوامر باجتناب الرجز والرجس والأوثان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) تفسير القمي ج: 1 ص: 181 طبعة النجف الأشرف، ورواه عنه في الوسائل ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 90

والطبول (1) وآلات القمار (2)، كالشطرنج ونحوه.

---------------

كقوله تعالي: (وَالرُّجزَ فَاهجُر)(1) ، وقوله سبحانه: (إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(2) ، فإن تفريع اجتنابها علي كونها رجساً ظاهر في الأمر باجتناب كل رجس. وقوله عز وجل: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِن الأَوثَانِ)(3) ، وتقريب الاستدلال بالإطلاقات المذكورة: أن حذف متعلق الاجتناب يقتضي عمومه لكل أمر متعلق بها حتي البيع.

لكن يظهر ضعفه مما تقدم في المسألة الخامسة من انصراف النهي للجهة المناسبة لرجسيته، وهي في المقام أداء مراسيم العبادة بها.

(1) تحريم بيعها يبتني علي كونها من آلات اللهو من دون أن تكون لها منفعة معتد بها غيره. وهو غير ظاهر، لشيوع الانتفاع بها سابقاً في الإعلام و التنبيه للأوقات والحوادث المهمة، كما يشيع استعمالها في زماننا للتهييج وإلفات الأنظار في بعض المناسبات الدينية الحسينية وغيرها. والأمر سهل بعد كون الخلاف صغروياً.

(2) قال شيخنا الأعظم (قدس سره):" بلا خلاف ظاهر "،وفي المستند نفي الخلاف فيه، بل دعوي الإجماع المحقق عليه. ويقتضيه - مضافاً إلي ما تقدم في أصل المسألة، ومرسل أبي الجارود المتقدم في الاستدلال لحرمة بيع هياكل العبادة المبتدعة - صحيح أبي بصير - المروي عن مستطرفات السرائر - عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال:

بيع الشطرنج حرام، وأكل ثمنه سحت، واتخاذها كفر..."(4) ، وما في حديث المناهي:" ونهي عن بيع النرد"(5).

وفي صحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام): "قال: النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة. وكل ما قومر عليه فهو ميسر"(6). وقد يستفاد من

********

(1) سورة المدثر آية: 5.

(2) سورة المائدة آية: 90.

(3) سورة الحج آية: 30.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6، 1.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6، 1.

ص: 91

والظاهر أن منها صندوق حبس الصوت (1).

---------------

إطلاق التنزيل فيه اشتراكها في حرمة البيع، بل قد يستفاد منه التعدي لجميع أنواع القمار. فتأمل.

نعم لا مجال للاستدلال بإطلاق الأمر باجتناب الرجز والرجس، والميسر، لأنه ظاهر في حرمة اللعب بها لا غير، نظير ما تقدم في الأصنام، والصلبان.

(1) كأنه لاشتهار استعماله في عصره (قدس سره) من أجل استماع الاسطوانات المغذاة بالأغاني التي يحرم استماعها وعدم استعماله في سائر الانتفاعات التي يصلح لها.

لكن في كفاية ذلك في دخوله في العنوان المحرم إشكال، لأنه لا يعد عرفاً لخصوص الحرام، بل الأعم منه ومن الحلال، وإنما يشيع استعماله خارجاً في خصوص ذلك لرغبة عموم الناس عن الانتفاع به في الجهات المحللة، ولو في خصوص بلادنا بسبب عدم تهيؤ الاسطوانات المناسبة لذلك، أو عدم وجود من ينتفع بها، ومثل ذلك لا يوجب سقوط هيئته عن الاحترام، بحيث لا يصح بيعه ولو بلحاظ منفعته المحللة لو تيسر لبعض الأشخاص استغلالها، أو أراد ذلك، لعدم كون أكل المال بإزائه حينئذٍ أكلاً للمال بالباطل. بل يصعب جداً البناء علي عدم احترام هيئته مع ذلك، بحيث يجب إتلافها أو لا تكون مضمونة أو نحو ذلك مما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي في المسألة التاسعة.

نعم لا إشكال في صدق موضوع التحريم علي الاسطوانات المغذاة بالأغاني إذا لم تصلح لأن تمحي منها وتغذي بغيرها، بخلافه ما إذا صلحت لذلك، أو لم تكن مغذاة أصلاً، حيث تكون بحكم الصندوق الذي عرفت الإشكال في دخوله في موضوع التحريم.

كما أنه قد يحرم تكليفاً لبعض العناوين الثانوية، كما إذا كان في التصدي لبيعه ترويج للحرام، أو تشجيع له بأن كان للتصدي لبيعه أو شرائه - خصوصاً من بعض

ص: 92

أما الراديو فليس منها (1)، فيجوز بيعه، كما يجوز أن يستمع منه الأخبار وقراءة القرءان والتعزية ونحوها مما يباح استماعه (2). أما التلفزيون فالمستعمل منه في بلادنا معدود من آلات اللهو المثيرة للشهوات الشيطانية،

---------------

الأشخاص - أثر معتد به في شيوع استعماله في الحرام والجرأة علي ذلك وانتهاك حرمة الشرع الشريف. بل قد يوجب ذلك بطلان البيع، لحرمة تسليم المبيع حينئذٍ المنافية لنفوذ البيع عرفاً. لكن ذلك خارج عن محل الكلام من حرمة بيع الشيء لمجرد انحصار منفعته المعتد بها في الحرام.

(1) لتيسر الانتفاع به في البرامج المحللة وشيوعه وإن فرض كونه أقل من الانتفاع به في البرامج المحرمة، لعدم كون المعيار الغلبة، كما سبق.

نعم سبق في بلادنا أن كان استعماله في الجهات المحللة نادراً، لعدم رغبة المتدينين في اقتنائه واستعماله في الجهات المحللة وإن كان ميسوراً، وإنما يشيع فيمن يقتنيه التسامح والاستعمال في الجهات المحرمة. ولعله لذا سبق منه (قدس سره) المنع من بيعه في الطبعات القديمة من المنهاج.

لكن ذلك لا يكفي في الحرمة، بعد صلوحه للوجهين وإمكان الانتفاع به فيهما، بل فعلية ذلك ممن يقتنيه من المتسامحين. وهو بذلك أظهر من صندوق حبس الصوت الذي قد يكون استعماله في المنافع المحللة غير ميسور. ومع ذلك سبق عدم صدق عنوان الحرام عليه حينئذٍ. نعم قد يشاركه في العنوان الثانوي الذي سبق التعرض له. وهو خارج عن محل الكلام.

(2) لعدم المنشأ لحرمة الانتفاع به الانتفاع المحلل بالذات، بل لا منشأ لذلك في جميع آلات الحرام وفي صندوق حبس الصوت لو كان منها. إلا أن يدخل في العنوان الثانوي الذي سبق التعرض له في حكم الصندوق المذكور، كما قد يكون في بعض الأزمنة

ص: 93

فلا يجوز بيعه، لحرمة منافعه غالباً (1). وأما استعماله والنظر فيه فلا بأس به (2) إذا كان لا يثير شهوة (3)، بل كان فيه فائدة علمية أو ترويح النفس.

---------------

في حق بعض الأشخاص ممن يقتدي بهم، أو يحتج بعض الناس بهم من دون تبصر.

(1) فهو نظير الراديو في العصور السابقة التي كان (قدس سره) قد أفتي بحرمته فيها. لكن سبق أن الغلبة بالنحو المذكور ليست معياراً في الحرمة في المقام. بل لابد من كون الشيء مما تنحصر منفعته بالحرام عرفاً، وهو غير حاصل في التلفزيون في عصره (قدس سره)، فضلاً عن عصورنا، فلا مجال لحرمة بيعه، إلا إذا صادف انطباق العنوان الثانوي المتقدم عليه.

(2) لعين ما تقدم في الراديو. ومجرد حكايته لصورة النساء المتبرجات ليس محذوراً، لأن المحرم هو النظر لهن لا لصورتهن. مع أن حرمة النظر لهن ترتفع بتعمدهن التكشف وكونهن ممن إذا نهين لا ينتهين. ولو فرض حرمة النظر لصورتهن فلا وجه لحرمة بقية منافعه.

(3) لإباء المرتكزات المتشرعية عن جواز النظر المسبب للشهوة، بنحو يصعب البناء علي جوازه جداً. وهذا هو العمدة.

وعن بعض مشايخنا (قدس سره) الاستدلال لحرمة ذلك ونحوه من وجوه التلذذ الجنسي الغريزي بقوله تعالي: (قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أَبصَارِهِم... وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ)(1) بحمل غض النظر في الآيتين الكريمتين علي الإعراض النفسي، نظير قول أهل الاستدلال: ولو غض النظر عن ذلك.

لكنه يندفع بمخالفة المعني المذكور الظاهر في الآيتين الشريفتين جداً، لابتنائه علي نحو من التوسع، وعدم مألوفية مثل هذا الاستعمال في العصور السابقة. ولاسيما وأن المألوف من هذه الاستعمالات في عرف أهل الاستدلال تعدية فعل الغض للنظر

********

(1) سورة النور آية: 29-30.

ص: 94

وإذا اتفق أن صارت فوائده المحللة المذكورة كثيرة الوقوع فلا بأس ببيعه، ويكون كالراديو. وأما آلة تسجيل الصوت فلا بأس ببيعها (1) واستعمالها.

(مسألة 9): كما يحرم بيع الآلات المذكورة يحرم عملها (2)،

---------------

بنفسه، لا للبصر، ولا بتوسط (من) كما في الآيتين الشريفتين وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في حمل الآيتين علي المعني الحقيقي وكونهما أجنبيتين عما نحن فيه.

(1) لشيوع الانتفاع بها في الوجه الحلال. ولا مجال لورود الشبهة السابقة فيها لو تمت في نفسها.

(2) كما عن المقنعة والمنتهي، مدعياً في الثاني الإجماع عليه. وهو ظاهر إذا كان مقدمة لاستعمال العامل لها، بالوجه المحرم، لحرمة مقدمة الحرام غيرياً. ولا أقل من كونها شروعاً في التمرد علي المولي وانتهاك حرمته.

وأما إذا كان مقدمة لاستعمال غيره لها، لكون الغرض بيعها أو هبتها أو إعارتها أو بذلها لمن يريد استعمالها بالوجه المحرم فقد يستدل علي حرمته بكونه إعانة علي الإثم. لكن يظهر مما سبق في المسألة الثامنة ضعفه.

ومثله الاستدلال بأن فيه تشجيعاً علي الحرام وترويجاً له. لعدم أطراده، لتوقف التشجيع علي كون فعل المشجع سبباً في حثّ الفاعل علي الحرام، وتوقف الترويج علي كونه سبباً في زيادة وقوع الحرام والتسامح فيه بوجه معتد به، وذلك غير لازم لصنع الآلات المذكورة، حيث قد تكون شايعة بسبب كثرة المتصدين لصنعها، فلا يكون لصنع بعض الأشخاص لها بعد ذلك أثر في التشجيع علي الحرام، أو زيادته بوجه معتد به.

نعم لا ينبغي التأمل في حرمة صنع الصلبان والأصنام، حيث يستفاد ذلك من دليل حرمة بيع الخشب لصنعها بالأولوية العرفية، نظير ما تقدم في بيعها.

وكذا صنع الشطرنج، لقوله (عليه السلام) في صحيح أبي بصير المتقدم عند الكلام

ص: 95

9 في بيعها: "بيع الشطرنج حرام وأكل ثمنه سحت واتخاذها كفر، واللعب بها شرك، والسلام علي اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة... والناظر إليها كالناظر في فرج أمه واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهي بها والسلام علي اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء..."(1). حيث يفهم عرفاً حرمة صنعها من التنفير بالنحو المذكور. ولا أقل من كونه عرفاً أشد من النظر إليها. كما أنه قد يتعدي منه لجميع آلات القمار، ولو بضميمة صحيح معمر بن خلاد المتقدم. فراجع.

أما بقية آلات الحرام فينحصر الوجه في حرمة صنعها بالمرتكزات المتشرعية، لما في صنعها وتهيئتها ليؤدي بها الحرام من انتهاك لحرمة الشارع الأقدس بفعل ما يقصد منه معصيته ويعدّ لذلك.

وقد يدل عليه أو يشعر به صحيح الحلبي:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراماً. فقال: لا بأس به، تبيعه حلالاً ليجعله حراماً فأبعده الله وأسحقه"(2) ، وفي معتبر يزيد بن خليفة عنه (عليه السلام): "قال: فإنه يشريه مني عصيراً فيجعله خمراً في قربتي. قال: بعته حلالاً فيجعله حراماً فأبعده الله"(3). فإن جعل موضوع الإبعاد تصييره حراماً قد يظهر في حرمة صنع كل حرام، لا خصوص الخمر، والمناسبة الارتكازية قاضية بعدم الفرق بين حرمة الشرب وحرمة غيره مما يطلب من الشيء، بحيث يعدّ له، حتي تنتسب الحرمة للشيء المصنوع بسبب ذلك. فلاحظ.

وأما إذا ابتني صنعها علي عدم تعريضها للاستعمال بالوجه المحرم، بل لدواع أخر - كالتدرب من أجل إتقان الصنعة، كعلم وفن مجرد لا يراد به الوصول للحرام، أو من أجل عرض نمط حياة شخص خاص أو مجتمع خاص أو نحو ذلك - فلا دليل علي حرمته، لقصور الوجه السابق الذي عرفت قضاء المرتكزات به عن هذه الصورة، لأن انتهاك حرمة الشارع الأقدس بصنعها إنما تكون بلحاظ كونها آلة يعصي بها، ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 10.

ص: 96

وأخذ الأجرة عليها (1). بل يجب إعدامها (2)

---------------

بدون ذلك.

كما لا يبعد انصراف النصوص الخاصة التي استفيد منها حرمة صناعة بعضها - كالأصنام والصلبان والشطرنج - إلي تعرض ما يصنع لأن يستعمل فيما وضع له من الوجه المحرم المعهود، فهي محرمة الصنع بما أنها آلة للحرام، لا بذاتها.

نعم إذا لزم من صنعها ترويج الحرام والتشجيع عليه وإعزازه تعين تحريم صنعها، كما لو أريد عرضها في المعارض العامة للدعاية أو لتمجيد من كان يستعملها أو نحو ذلك، حيث لا إشكال - تبعاً للمرتكزات المتشرعية - في حرمة ذلك. بل هو نحو من الاستعمال لها بالوجه المحرم، وإن لم يكن استعمالاً لها فيما وضعت له من وجوه الحرام. فتأمل.

(1) بلا إشكال ظاهر. إذ بناءً علي حرمة عملها - كما تقدم - يكون أكل مقابل الحرام، وهو أكل له بالباطل، كما يظهر مما تقدم في آخر المسألة. بل حتي بناءً علي عدم حرمة عملها، لأن انحصار الفائدة من العمل بالحرام كافٍ في صدق أكل المال بالباطل في مقابله، نظير أكل المال في مقابل الأعيان المحرمة وإن لم يحرم صنعها.

نعم إذا لم يكن عملها مبنياً علي تعرضها لأن يترتب عليها الحرام - كما أشرنا آنفاً - لم يبعد جواز أخذ الأجرة عليها، لعدم صدق أكل المال بالباطل حينئذٍ، بل هو كسائر الأعمال المحللة. فلاحظ.

(2) كما يظهر من غير واحد، قال كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد:" فإنه لا يجوز عمله، ولا استعماله، ولا الانتفاع به، ولا إبقاؤه، ولا الاكتساب به بجميع وجوهه. من غير فرق بين قصد الجهة المحللة وغيرها، ولا بين قصد المادة وقصد الصورة لظاهر الإجماع والأخبار".

لكن الإجماع غير ظاهر، لعدم تحرير المسألة في كلام جماعة، ولقرب ابتناء

ص: 97

9 ذكر بعضهم لذلك علي بعض الوجوه الاجتهادية التي لا تبلغ مرتبة الحجية، لا علي المفروغية عن الحرمة تعبداً، بنحو يعلم منه رأي الإمام (عليه السلام).

وأما النصوص فلم أعثر عاجلاً علي ما يدل علي ذلك صريحاً عدا ما ورد مستفيضاً من تكسير أمير المؤمنين (عليه السلام) للأصنام التي علي ظهر الكعبة الشريفة بأمر النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم). وهو قضية في واقعة قد تبتني علي الإعلان عن إزهاق الباطل - الذي كانت الأصنام شعاراً له - وظهور التوحيد، نظير تكسير النبي إبراهيم (عليه السلام) للأصنام تنبيهاً علي عجزها وعدم أهليتها للعبادة. وكذا محو الصور التي في المسجد الحرام عام الفتح، مع عدم بنائهم علي وجوب إتلاف الصور.

وأما الاستدلال عليه - كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - بأن فيه حسماً لمادة الفساد. فهو موقوف علي عموم وجوب حسم مادة الفساد، وهو غير ظاهر، كيف ؟ ولازمه وجوب إتلاف ما يعلم بل يحتمل ترتب الحرام عليه وإن كان صالحاً لغيره، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك.

ومثله دعوي: أن حرمة صنعها وإيجادها يستلزم عرفاً حرمة إبقائها، لعدم خصوصية الإحداث في الجهة الموجبة للتحريم، وهي انتهاك حرمة الشارع الأقدس. وليست هي كحرمة التصوير قائمة - تبعاً لظاهر أدلتها - بنفس العمل من دون أن تستلزم مبغوضية وجود الصورة.

لاندفاعها بأن انتهاك حرمة الشارع الأقدس بصنعها إنما هو بلحاظ إفضائه إلي ترتب الحرام عليها، وذلك إنما يقتضي حرمة تعريضها لترتب الحرام بعد وجودها، لا مبغوضية وجودها من دون ذلك.

ومن هنا كان الظاهر اختصاص وجوب الإتلاف بما إذا كان الشيء شعاراً للباطل بحيث يكون بقاؤه سبباً لترويجه وتقويته وعزته، حيث لا إشكال بمقتضي المرتكزات المتشرعية في وجوب منع ذلك مع الإمكان، كما سبق.

أما في غير ذلك فلا دليل علي وجوب الإتلاف. غاية الأمر حرمة تعريضه

ص: 98

ولو بتغيير هيئتها (1). ويجوز بيع مادتها - من الخشب والنحاس والحديد - بعد تغيير هيئتها (2)، بل قبله (3)، لكن لا يجوز دفعها إلي المشتري إلا مع

---------------

لتستعمل بالوجه المحرم، كما ذكرنا، لعين ما سبق في وجه حرمة صنعها، لأن موضوعه - كما سبق - صنعها مقدمة لتعريضها للاستعمال المحرم، وحرمته إنما تكون لمقدمية الصنع للتعريض المذكور المستلزم حرمة التعريض نفسه. ولذا لا يظن بأحد البناء علي جواز إعادتها أو بذلها لمن يستعملها في الحرام.

نعم لو توقف المنع من تعريضه لأن يترتب عليه الحرام علي إتلافه، لعدم المقدرة علي المنع المذكور مع وجوده لم يبعد وجوب الإتلاف تجنباً للتعريض المذكور. فتأمل.

وبذلك يظهر عدم وجوب الإتلاف في حق الأجنبي الذي لم يصنعها ولم يكن له دخل في تعريضها لأن يترتب عليها الحرام. إلا أن يترتب عليه حكم ثانوي، كالنهي عن المنكر، والجهاد ضد الكفر والضلال، ونحو ذلك مما لا يطرد في جميع ما يترتب عليه الحرام.

هذا وظاهر كلام سيدنا المصنف (قدس سره) أن وجوب الإتلاف لتجنب التعرض للحرام، لا مطلقاً ولو مع المنع من ترتب الحرام عليها، كما يناسبه ما يأتي منه من جواز بيعها وتسليمها للمشتري قبل تغيير صورتها مع الوثوق بمنع المشتري من ترتب الحرام عليها.

(1) لكفاية ذلك في المطلوب، وهو منع ترتب الحرام عليها.

(2) بلا إشكال. لعدم كونه بيعاً للآلة التي يترتب عليها بل للمادة. ومجرد كونها سابقاً بالهيئة الخاصة لا يوجب سقوطها عن المالية، ولا غير ذلك مما قد يساق مانعاً من البيع.

(3) سبق من كاشف الغطاء (قدس سره) أن ظاهر الإجماع والأخبار عموم المنع

ص: 99

لصورتي قصد المادة وقصد الصورة. وهو الذي أستظهره في مفتاح الكرامة.

لكن لا مجال للاستدلال بالإجماع بعد ما سبق، وبعد ما عن موضع من التذكرة من جواز بيعها إذا كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة لتكسر وكان المشتري ممن يوثق بديانته. ووافق عليه في الرياض ومحكي الكفاية والحدائق.

وكيف كان فبيع آلات الحرام: تارة: يبتني علي النظر لموادها من دون نظر لهيئاتها بحيث لو كانت الهيئة علي خلاف ما كان يتوقع حين البيع، أو غيرت قبل التسليم، لم يخرج عن مقتضي المعاملة، نظير بيع الصنم من الخشب بما أنه خشب يراد حرقه أو نشره، وبيع صليب الذهب بما هو ذهب يراد صياغته خلخالاً ونحو ذلك.

وأخري: يبتني علي النظر للهيئة محضاً من دون نظر للمادة، لعدم المالية لمكسورها كالصنم والصليب والمزمار من الزجاج، أو مع النظر للمادة، لكون المكسور ذا قيمة كالأمور المذكورة المتخذة من الذهب أو الأحجار الكريمة التي لها مالية مع تغيير الهيئة.

والصورة الثانية علي وجهين:

الأول: أن يبتني احترام الهيئة علي تعرض المبيع للانتفاع به بالوجه المحرم الذي يُعدّ له بهيئته الخاصة.

الثاني: أن يبتني احترام الهيئة علي أمر آخر، كشراء هذه الأمور بما أنها من الآثار القديمة التي يهتم هذه الأيام باقتنائها، أو بما أن كسرها يوجب نقصان قيمتها، كما في الأحجار الكريمة التي يكون كبرها موجباً لزيادة قيمتها، فالحجر الواحد الذي يزن قيراطين أغلي من حجرين يزن كل واحد منهما قيراطاً، أو لغرض شخصي غير محرم، ككون هيئة الصليب تناسب حاجته في البناء وغير ذلك. فالصور ثلاث.

والمتيقن من دليل المنع من البيع هو الصورة الثانية التي يكون فيها البيع مبنياً علي احترام الهيئة من أجل تعرض المبيع لترتب الحرام المقصود منه نوعاً عليه، حيث لا ريب في كون أكل الثمن في مقابله أكلاً له بالباطل، وفي صدق بيع الشطرنج ونحوه

ص: 100

عليه.

ودعوي: أنه مع فرض مالية المادة بحيث يكون للمكسور قيمة يتعين صحة البيع فيما يقابل المادة، وبطلانه في خصوص ما يقابل الهيئة من الثمن. مدفوعة بالمنع من انحلال المعاملة المذكورة بل ليس في المقام إلا معاملة واحدة تقوم بالمادة ذات الهيئة بنحو تكون الهيئة مقومة للموضوع ومأخوذة فيه. ومجرد كون المادة ذات قيمة لا يوجب مقابلتها بالمال بنفسها في قبال الهيئة، بحيث تنحل المعاملة إلي معاملتين تصح أحداهما وتبطل الأخري.

وأما الصورتان الأخريان، فالظاهر قصور وجه المنع عنهما، حيث لا إشكال في عدم صدق أكل المال بالباطل بعد عدم النظر للهيئة التي يؤدي بها الحرام في الأولي وكون النظر لها في الثالثة من أجل أمر غير الحرام.

كما أن النصوص الخاصة تنصرف عن هاتين الصورتين. فإن المنصرف من النهي عن بيع الشطرنج بيعه بما هو آلة يؤدي بها الحرام المعهود، حسماً لمادة الفساد، ولا يتناول الصورتين المذكورتين اللتين تشتركان في عدم الاهتمام بحفظ الصورة في طريق أداء الحرام.

وقد يناسب ذلك ما ورد من حرمة بيع الجارية المغنية(1) ، حيث يصعب البناء علي بيعها مطلقاً ولو بلحاظ بقية منافعها المهمة من دون نظر لمنفعة الغناء، إذ لا إشكال في عدم خروجها عن كونها مالاً يمكن الانتفاع به في وجوه الحلال من الاستمتاع والاستخدام ونحوهما، فكيف يمكن البناء علي حرمة بيعها بلحاظ المنافع المذكورة ؟! فلابد من تنزيل النهي عن بيعها علي البيع المنظور فيه صفة الغناء مقدمة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 101

الوثوق بأن المشتري يغيرها أو يمنعها من أن يترتب عليها الفساد (1)، أما مع عدم الوثوق بذلك فالظاهر جواز البيع (2)، وإن أثم بترك التغيير (3) مع انحصار الفائدة في الحرام، أما إذا كانت لها فائدة ولو قليلة لم يجب تغييرها (4).

(مسألة 10): تحرم (5) ولا تصح المعاملة بالدراهم الخارجة عن السكة (6)

---------------

للانتفاع بها فيه بحيث يقتضي حفظ الصفة وزيادة الثمن من أجلها، نظير ما ذكرناه في المقام. فلاحظ.

(1) حيث لا دليل علي حرمة دفعها للمشتري حينئذٍ بعد ما سبق من عدم وجوب إتلافها ولو بتغيير صورتها مع الأمن من ترتب الحرام عليها.

(2) يعني: المبني علي ملاحظة المادة لا غير، والذي سبق انصراف أدلة المنع عنه.

(3) لما سبق عند الكلام في عدم وجوب إعدام صورها من قضاء المناسبات الارتكازية بحرمة تعريضها لتستعمل بالوجه المحرم، ولذا لا يظن بأحد جواز إعارتها أو بذلها لمن يتوقع منه استعمالها في الحرام.

(4) يعني: فيجوز دفعها للمشتري وإن احتمل استعماله لها بالوجه المحرم. لكن هذا إنما يتم فيما إذا كانت الفائدة المذكورة من فوائدها المنسوبة لها عرفاً، بلحاظ كونها مطلوبة منها نوعاً، حيث تخرج حينئذٍ عن كونها من آلات الحرام، وتكون مما يصلح للوجهين، فيصح صنعها حينئذٍ وبيعها بلحاظ هيئاتها.

أما إذا لم تكن الفوائد القليلة كذلك، بل كانت فوائد شخصية، فوجودها لا يكفي في جواز تسليم الآلات المذكورة وبذلها مع كونها من آلات الحرام المعدة له والمختصة به عرفاً، لكونها عنواناً للجريمة حينئذٍ فبذلها كصنعها مع تعرضها للحرام مظهر لانتهاك حرمة المولي. فلاحظ.

(5) يعني تكليفاً، لما يأتي في المسألة السادسة والعشرين من حرمة الغش

ص: 102

المعمولة لأجل غش الناس (1)، فلا يجوز جعلها عوضاً أو معوضاً عنه في المعاملة (2) مع جهل من تدفع إليه. أما مع علمه ففيه إشكال، والأظهر الجواز (3).

---------------

عموماً.

(6) كما صرح به غير واحد، والوجه فيه: أن عنوان الدرهم متقوم بكونه مسكوكاً للمعاملة من قبل من له ذلك، فمع عدم كونه كذلك يخرج عن كونه درهماً وإن كان له مالية، فإذا كان موضوع المعاملة ثمناً أو مثمناً هو الدرهم لزم تخلف الموضوع فتبطل، كما لو باعه الشيء علي أنه بقرة فبان حماراً. وكذا الحال في الدينار. وليس عنوان الدرهم والدينار صفة كمالية في الموضوع - كبياض الثوب وصفاء الزجاج - ليلزم بتخلفه مع الجهل الخيار من دون أن تبطل المعاملة لحفظ موضوعها وسلامة ركنها.

نعم إذا لم يكن عنوان الدرهم أو الدينار ركناً في المعاملة، بل جهة كمالية في الموضوع لم تبطل المعاملة بل يثبت الخيار لا غير، كالليرات الذهبية اليوم حيث لا تباع بما أنها دنانير يتعامل بها، بل بما أنها ذهب مسكوك للزينة أو الادخار أو نحوهما، وكونها ليرات أصلية جهة كمال لا تتقوم بها المعاملة، فمع ظهور عدم كونها أصلية - حيث شاع هذه الأيام سك الذهب بصورتها - لا تبطل المعاملة، لعدم تخلف ركنها. وإنما تبطل المعاملة إذا لم تكن من الذهب، لكون الذهب مقوماً لموضوع المعاملة وركناً فيها حينئذٍ.

(1) لا حاجة للتقييد، فإن المعيار فيما سبق علي الغش في البيع بها وإن لم تكن معمولة للغش لتعارف استعمالها لأمر آخر غير التعامل، كالتزيين.

(2) يعني مع كون موضوع المعاملة شخصياً. أما لو كان كلياً ودفعت بدلاً عنه ووفاء به فلا مجال لبطلان المعاملة ولا لحرمتها. غاية الأمر عدم براءة الذمة بدفعها بدلاً عن الكلي المستحق بالمعاملة، بل يجب تبديلها. والظاهر خروجه عن موضوع

ص: 103

كلامه (قدس سره).

(3) لعدم الغش فلا تحرم تكليفاً، ولأنه بعد العلم بالحال لا تكون الدرهمية والسك للمعاملة مقومة للموضوع، لتبطل المعاملة بتخلفها.

نعم في معتبر المفضل بن عمر: "كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فألقي بين يديه دراهم، فألقي إلي درهماً منها. فقال: ايش هذا؟ فقلت: ستوق. فقال: وما الستوق ؟ فقال: طبقتين فضة وطبقة من نحاس وطبقة من فضة. فقال: اكسرها، فإنه لا يحل بيع هذا ولا إنفاقه" (1) وفي خبر موسي بن بكر: "كنا عند أبي الحسن (عليه السلام) وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلي دينار فأخذه بيده ثم قطعه بنصفين. ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتي لا يباع شيء فيه غش"(2). ويظهر منهما خصوصاً الأول وجوب إتلافه وحرمة التعامل به مطلقاً ولو مع الإعلام.

لكن في معتبر علي بن رئاب: قال: لا أعلمه إلا عن محمد بن مسلم:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس أو غيره، ثم يبعها. قال: إذا بيّن ذلك [الناس] فلا بأس"(3) ، وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): اشتري الشيء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة أو الحبتين. قال: لا حتي تبينه..."(4). وهما صريحان في جواز البيع مع الإعلام المانع من صدق الغش.

وربما تحمل الروايتان الأوليان لاجلهما علي صورة عدم الإعلام التي يتحقق معها الغش. لكنه بعيد، لعدم تضمنها حرمة التعامل بالدراهم المذكورة ابتداء، ليحمل علي صورة عدم الإعلام، وإنما تضمنا إتلاف النقد منعاً للتعامل به، وهو لا يناسب جواز التعامل به مع الإعلام.

ومن ثم فقد يحمل الخبران الأولان علي استحباب الكسر أو الإتلاف منعاً للتعامل بهما، مع كراهة التعامل حذراً من تعامل من يأخذهما بهما بوجه الغش. كم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 2، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 2، 7.

ص: 104

بل الظاهر جواز دفع الظالم بها من دون إعلامه بأنها مغشوشة (1). وفي وجوب كسرها إشكال، وإلا ظهر عدمه (2).

(مسألة 11): يجوز بيع السباع (3)، كالهر والأسد والذئب إذا كانت

---------------

يمكن حمل الثاني منهما علي ما إذا انحصر الانتفاع بالنقد بوجه الغش، لعدم المالية له في نفسه، فلا يقبل به مع العلم بحاله، نظير النقود الورقية المزورة. فإنه هو المناسب لمورد الخبر المذكور، حيث لا وجه لإلقائه في البالوعة لو كان له مالية في نفسه لولا الغش.

ولا يبعد حينئذٍ حرمة بيعه والتعامل به مطلقاً حتي مع الإعلام، حيث لا يطلب إلا للحرام، فيكون أكل المال في مقابله أكلاً بالباطل، نظير آلات الحرام. ومن ثم لا يتوقف البناء علي حرمته علي حجية الحديث، ليشكل بضعف سنده.

نعم مع الوثوق بعدم ترتب الحرام عليه يجوز التعامل به مع الإعلام، نظير ما تقدم في آلات الحرام. وكذا إذا تعارف دفع الظالم به، بحيث كان من جهات الانتفاع به المعتد بها، لخروجه بذلك عن كونه مما يختص الانتفاع به في الحرام، بناءً علي ما يأتي من جواز ذلك.

(1) لأن دفعه بها لا يرجع إلي أكل المال في مقابلها، ليكون من أكل المال بالباطل ويدخل في الأدلة المتقدمة. كما لا دليل علي حرمة غشه تكليفاً في مثل ذلك بعد أن لم يكن مستحقاً لأخذ المال. لابتناء حرمة الغش علي حرمة الطرف المغشوش، بحيث يستحق مالا غش فيه، ولا تشمل الظالم غير المستحق لما يأخذه، كما لعله ظاهر. غاية الأمر أنه إذا أخذ الدراهم المذكورة فقد يدفعها للغير عن جهل بحالها أو عن عمد، ولا دليل علي وجوب منع ذلك، بحيث يحرم دفع المال له احتياطاً له، لما سبق في المسألة التاسعة من عدم عموم وجوب حسم مادة الفساد.

(2) كما يناسبه ما تضمن جواز التعامل بها مما تقدم وبه يخرج عن الأمر بكسرها في معتبر المفضل المتقدم. ولو فرض استحكام التعارض بينهما كفي أصل البراءة من

ص: 105

وجوب الكسر.

(3) اختلفت كلماتهم في المقام، فمنهم من منع بيعها مطلقاً، ومنهم من اقتصر علي استثناء الفهود خاصة، ومنهم من أطلق استثناء الجوارح، ومنهم من جعل المدار في الحل والحرمة علي الانتفاع بها وعدمه. ولعله عليه يبتني كلام الأولين، لدعوي أن المنافع الثابتة لها غير معتد بها مطلقاً، أو مع استثناء الفهود أو جميع الجوارح كالبزاة والصقور، لصلوحها للصيد، الذي هو من المنافع المعتد بها. كما ربما يبتني عليه ما ذكره بعضهم من جواز بيعها مطلقاً، للانتفاع بها ولو بمثل جلدها وريشها. ولعل المتيقن منهم عدم جواز البيع مع عدم المنفعة المعهودة في الحيوان من أكل، أو استغلال بمثل الحمل أو حرث الأرض أو نحوهما.

وكأن ذلك يبتني أولاً: علي توقف المالية علي وجود المنفعة بالنحو المذكور.

وثانياً: علي اعتبار المالية في المبيع أو العوضين. وقد سبق في المسألة الرابعة المنع من الأول، وأن مالية الشيء منوطة بتنافس العقلاء عليه، وهو لا يتوقف علي الانتفاع بالنحو المذكور، فقد يتنافس العقلاء علي الشيء لمحض تعارف اقتنائه، كالطوابع البريدية المستعملة والأشياء الأثرية. ومنه في الحيوانات ما تعارف في عصورنا من جمعها في معارض عامة تعرف بحدائق الحيوانات من أجل عرضها للمشاهدين، أو خاصة في بيوت المترفين للترفيه بالنظر إليها. كما قد يتنافس فيها من أجل اقتنائها للإطلاع علي خواصها والتعرف علي طبائعها، أو إجراء التجارب عليها إلي غير ذلك مما ليس من سنخ الانتفاع المعهود بالحيوان الذي هو مورد كلامهم.

وأما الثاني فقد سبق في المسألة المذكورة الاستدلال عليه بأن المالية في العوضين مقومة لمفهوم البيع، وبأن المعاملة علي ما لا مالية له سفهية، وبأن أكل المال في مقابله أكل للمال بالباطل. كما سبق منع الوجوه المذكورة بما يغني عن الإعادة. فراجع.

علي أنه قد تضمنت جملة من النصوص جواز بيع السباع وجلودها، كقوله (عليه السلام)

-

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 14 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

ص: 106

لها منفعة معتد بها (1). وكذا يجوز بيع الحشرات (2) والمسوخات (3) إذا كانت كذلك، كالعلق الذي يمص الدم ودود القز ونحل العسل والفيل.

---------------

في معتبر محمد بن مسلم وعبد الرحمن:" ولا بأس بثمن الهر"(1) ، وصحيح العيص: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: نعم" (1)، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه: "سألته عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك ؟ قال:

لا بأس ما لم يسجد عليها" (2) . وفي معتبر أبي مخلد السراج عن أبي عبدالله (عليه السلام):" فقال: أحدهما: إني رجل سراج أبيع جلود النمر فقال: مدبوغة هي ؟ قال: نعم. قال: ليس به بأس"(3).

نعم عُدّ في معتبر الجعفريات من السحت ثمن جلود السباع(4) ، ونحوه مرسل دعائم الإسلام(5). مؤيداً بما في خبر تحف العقول قال: "وأما وجوه الحرام من البيع والشراء فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحوش والطير أو جلودها..."(6). لكن لابد من الخروج عنها بما تقدم، ولو بحملها علي الكراهة جمعاً.

(1) مما تقدم يظهر عدم الحاجة لهذا الشرط. نعم لابد من عدم كون المنفعة الظاهرة لها هي المنفعة المحرمة، كما يظهر مما تقدم في المسألة الرابعة.

(2) خلافاً لما صرح به جماعة كثيرة. ويظهر الحال فيها مما سبق في السباع. إل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 107

أما إذا لم تكن لها منفعة كذلك فلا يجوز بيعها ولا يصح (1).

(مسألة 12): المراد بالمنفعة المحللة المجوزة للبيع (2) الفائدة المحللة المحتاج إليها حاجة كثيرة غالباً الباعثة علي تنافس العقلاء علي اقتناء العين، سواءً أكانت الحاجة إليها في حال الاختيار أم في حال الاضطرار، كالأدوية والعقاقير المحتاج إليها للتداوي مع كثرة المرض الموجب لذلك.

---------------

أنه ليس فيها نصوص خاصة.

(3) الكلام فيها وفي جميع ما يحرم أكله هو الكلام في السباع. مضافاً إلي خصوص ما ورد في بيع عظام الفيل والانتفاع بها، كمعتبر عبد الحميد:" سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن عظام الفيل يحل بيعه أو شراؤه، الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: لا بأس. قد كان لي منه مشط أو أمشاط"(1) ، وغيره.

نعم عدّ في معتبر الجعفريات المتقدم(2) من السحت ثمن القرد، وفي خبر مسمع عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن القرد أن يشتري وأن يباع"(3). ولا يبعد البناء علي ما تضمنه، لعدم وضوح ما يخرج عنه ويلزم بحمله علي الكراهة. ومجرد اشتمال معتبر الجعفريات علي مثل ثمن جلود السباع مما يتعين حمله علي الكراهة لا يكفي في ذلك. كما لعله ظاهر.

(1) الظاهر أن العطف تفسيري، وأن المراد بعدم الجواز الحرمة الوضعية لا التكليفية، إذ لا منشأ للحرمة التكليفية. بل مما سبق يظهر عدم الوجه للحرمة الوضعية أيضاً.

(2) لما كان اعتبار المنفعة المحللة عندهم من أجل صيرورة الشيء مالاً، وكانت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 108

(مسألة 13): المشهور المنع عن بيع أواني الذهب والفضة للتزيين أ و لمجرد الاقتناء. والأقوي الجواز (1).

(مسألة 14): يحرم ولا يصح بيع المصحف الشريف علي الكافر (2)

--

المالية بتنافس العقلاء بحيث يبذلون في مقابله المال، فجعل المعيار علي التنافس أولي، لأنه أيسر إدراكاً من تحديد مقدار المنفعة.

بل سبق أن التنافس والمالية لا يتوقفان علي كون الشيء ذا منفعة وفائدة، بل يكفي تحقق الغرض النوعي باقتنائه ولو من أجل تعارف ذلك. نعم لا يكفي في المالية اهتمام شخص أو أشخاص قليلين باقتنائه لأغراض شخصية لا تقتضي تنافس عموم العقلاء فيه.

(1) تقدم الكلام في ذلك منه (قدس سره) ومنّا مفصلاً في خاتمة كتاب الطهارة. وعمدة الوجه في ذلك: أن بيعها إنما يحرم مع انحصار الفائدة فيها في الحرام، وذلك إنما يتم بالبناء علي حرمة التزيين بها واقتنائها، ولا دليل علي ذلك، لظهور النصوص في حرمة استعمالها بالوجه الذي تعد له الآنية، والتزيين ليس من ذلك، فضلاً عن مطلق الاقتناء.

ومن ثم يتعين البناء علي حليتهما، وحلية صنع الآنية وبيعها من أجلهما، لعدم انحصار الفائدة فيها في الحرام إذا تعارف الاهتمام باقتنائها أو التزيين بها. فراجع.

(2) كما في التذكرة والقواعد والدروس وظاهر الشرايع والمسالك وعن غيرها، ويأتي من المبسوط في المشرك. وربما ينسب لكل من أطلق المنع من بيع المصحف الشريف. لكنه يشكل بأن الظاهر ممن أطلق المنع من بيع المصحف الشريف حرمة خصوص البيع بعنوانه، دون أصل تملكه، بل لا ريب في جواز تملك المسلم له بصنعه في ملكه، أو بنقله لملكه من غيره بوجه آخر غير البيع من هدية أو غيرها. أما من منع بيعه علي الكافر فظاهرهم - تبعاً لاستدلالهم - المنع من تملكه له من دون

ص: 109

خصوصية للبيع.

وكيف كان فقد يستدل لهم بوجوه:

الأول: فحوي ما دلّ علي عدم تملك الكافر للمسلم، لأن المصحف أشد حرمة من المسلم.

ويشكل - بعد تسليم عدم تملك الكافر المسلم - بأن تملك الإنسان الذي هو حرّ بطبعه يبتني علي إذلاله وتوهينه، بخلاف تملك الجمادات التي منها المصحف الشريف، فإنها لا تبتني علي ذلك، لأنها من شأنها التبعية للإنسان، بل اهتمام الإنسان بتملكها وتحصيلها موجب لنحوٍ من العزةّ لها والاحترام.

الثاني: النبوي: "الإسلام يعلو ولا يعلي عليه"(1). وفيه - مع ضعف النبوي المذكور، لعدم ثبوت روايته مسنداً من طرقنا -: أن ملك الكافر المصحف لا ينافي علوّ الإسلام، بل قد يناسبه، بلحاظ ابتناء تملكه غالباً علي الاهتمام به واحترامه، وظهور حجة الإسلام عليه به.

الثالث: أن تملكه له مستلزم لتنجسه، للعلم العادي بمسه له برطوبة. وفيه - بعد تسليم نجاسة الكافر -: أنه لا يظن بذلك، فضلاً عن أن يعلم به. نعم لا ريب في أنه كثيراً ما يكون معرضاً لذلك، وهو حاصل في بيعه علي المسلم أيضاً، خصوصاً إذا لم يكن متحرزاً عن النجاسات.

الرابع: أن المصحف الشريف يتعرض عنده للهتك والتوهين، لأنه ليس من شأنه تجنب ذلك معه بعد عدم اعتقاده بحرمته. ويندفع بعدم اطراد ذلك.

مضافاً إلي الإشكال في الوجهين الأخيرين تارة: بأن مجرد ترتب الحرام علي المعاملة لا يستلزم عدم مشروعيتها تكليفاً ولا وضعاً، ولذا يأتي في جواز بيع العنب ممن يصنعه خمراً. وأخري: بأن ذلك إنما يقتضي عدم تمكينه من المصحف الشريف مع احتمال ترتب الحرام عليه، لا عدم تملكه له.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب موانع الإرث من كتاب الميراث حديث: 11.

ص: 110

ودعوي: أن محل كلامهم هو البيع الذي يبتني علي التسليم، لا مطلق البيع من دون تسليم. ممنوعة، كما يظهر مما في المبسوط والشرايع. قال في الأول في أواخر كتاب الجهاد:" والمشرك ممنوع من شراء المصاحف إعزازاً للقرآن، فإن اشتري لم يصح البيع. وفي الناس من قال: يملكه ويلزم الفسخ. والأول أصح ".وقال في الثاني:" إذا اشتري الكافر مصحفاً لم يصح. وقيل: يصح ويرفع يده. والأول أنسب بإعظام الكتاب العزيز" ،لظهورها في المنع من البيع ولو من دون تسليط عليه.

نعم قد يظهر من كلامهما المفروغية عن عدم جواز تسليط الكافر علي المصحف الشريف، وأن الخلاف إنما هو في صحة بيعه وعدمه. وحينئذٍ قد يدعي أن عدم جواز تسليطه عليه مناف عرفاً لصحة البيع، وإن لم ينافه عقلاً، لأن أظهر آثار البيع عرفاً السلطنة.

لكنه غير ظاهر، فإن مجرد تعرضهما (قدس سره) للقولين المذكورين من دون تعيين القائل لا يستلزم المفروغية عن عدم جواز التسليط بين الكل، بحيث ترجع للإجماع الصالح للاستدلال، وتنهض بإثبات عدم جواز تسليط الكافر علي المصحف الشريف، وتكون دليلاً عليه، لينتقل منه للازمه لو تم، وهو بطلان البيع.

بل يصعب جداً البناء علي خروج المصحف الشريف عن ملك الكافر لو كتبه بنفسه أو كتب له في قرطاس يملكه، وإذا أمكن ملكه له في مثل ذلك أمكن تملكه له بمثل الشراء، واحتاج المنع إلي دليل خاص، وهو مفقود.

ومن ثم يتعين جواز بيع المصحف علي الكافر وتملكه له، وتسليطه عليه. لأصالة البراءة، ولنفوذ البيع والتمليك، بمقتضي عمومات النفوذ.

ويناسب ذلك في الجملة ما في المبسوط، حيث عدّ - في فصل حكم ما يغنم وما لا يغنم - من جملة الغنائم المصاحف وكتب علوم الشريعة، مع أنها لو لم تكن مملوكة لهم لم تكن من الغنائم، بل تكون من المباحات الأصلية أو من مجهول المالك. فلاحظ.

ص: 111

وكذا تمكينه منه (1). بل الأحوط وجوباً حرمة بيعه علي المسلم (2).

---------------

ثم إن في المقام فروعاً كثيرة في تعميم الحكم لأبعاض المصحف، وما يشتمل علي القرآن من الصحف والكتب، وإلحاق كتب الحديث والفقه ونحوها - مما يختص بالمسلمين، بل مطلق المقدسات - به. ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد عدم ثبوت حرمة بيع المصحف علي الكافر، وعدم وضوح دليله، وبعد ما هو المعلوم من لزوم الرجوع مع الدليل اللفظي لإطلاقه، ومع عدم الإطلاق فيه أو كون الدليل لبياً يتعين الاقتصار علي المتيقن في الشبهة الحكمية، فضلاً عن الموضوعية.

(1) كما هو مقتضي بعض الوجوه السابقة أو جميعها. وإن عرفت ضعفها. بل يصعب جداً البناء علي عدم جواز تمكينه من المصحف الشريف بمثل العارية مع الوثوق بعدم تعديه وهتكه لحرمته، خصوصاً إذا كان غرضه التدبر فيه والاستفادة منه، ولاسيما إذا كان ذلك أبلغ في قيام الحجة عليه عند التخاصم أو احتمل كونه سبباً في هدايته للإسلام. لإباء المرتكزات للمنع جداً.

(2) قال في النهاية: "ولا بأس بشراء المصاحف وبيعها والتكسب بها، غير أنه لا يجوز بيع المكتوب، بل ينبغي له أن يبيع الجلد والورق" .وقريب منه في التذكرة والقواعد والدروس. ولعله إليه يرجع ما عن غيرهم من إطلاق حرمة بيع المصحف، كما قد يرجع إليه ما في السرائر من تحريم بيع المصاحف إذا كان ذلك في المكتوب. وفي مفتاح الكرامة: "للكتاب والأخبار الكثيرة" ،وسبقه لنظير ذلك في جامع المقاصد.

وكأن مرادهما بالكتاب ما تضمن من الآيات الشريفة الذم لمن يشترون بآيات الله أو بالكتاب ثمناً قليلاً. لكن الظاهر أنه أجنبي عما نحن فيه، بل المراد به كتمان ما تضمنه الكتاب من علامات النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وتصديقه وسائر المعارف الحقة، أو الإعراض عنه، أو تحريفه وتفسيره علي غير وجهه، من أجل الأطماع المادية والمكاسب الدنيوية.

وأما الأخبار فهي علي طوائف:

ص: 112

الأولي: ما تضمن النهي عن بيع الورق الذي فيه القرآن مكتوب، وهو رواية سماعة بن مهران: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: لا تبيعوا المصاحف، فإن بيعها حرام. قلت: فما تقول في شرائها؟ قال: اشتر منه الدفتين والحديد والغلاف. وإياك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراماً وعلي من باعه حراماً"(1).

والتعبير عنها في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) بالموثقة غريب بعد اشتمال سندها علي أبي عبدالله الرازي عن أبي الحسن علي بن أبي حمزة - كما في المطبوع حديثاً من التهذيب - وهما ضعيفان، أو علي أبي عبدالله الزراري عن الحسن بن علي بن أبي حمزة - كما في المطبوع حديثاً من الوسائل - والأول مجهول، بل الظاهر أنه تصحيف، والثاني ضعيف.

الثانية: ما تضمن النهي عن بيع المصحف، أو كتاب الله، والترخيص في بيع الورق والدفتين وغيرها، كموثق سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن بيع المصاحف وشرائها. فقال: لا تشتر كتاب الله، ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين. وقل: اشتري منك هذا بكذا وبكذا"(2) ، وموثق عبدالله بن سليمان: "سألته عن شراء المصاحف فقال: إذا أردت أن تشتري فقل: اشتري منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا"(3) ، ونحوهما غيرهما.

الثالثة: ما أطلق فيه جواز شراء المصحف، كصحيح أبي بصير:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بيع المصاحف وشرائها، فقال: إنما كان يوضع عند القامة والمنبر. قال: كان بين الحائط والمنبر قيد شاة ورجل وهو منحرف فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة، ويجيء آخر فيكتب السورة. كذلك كانوا، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك. فقلت: فما تري في ذلك ؟ فقال: أشتريه أحب إلي من أن أبيعه"(4). ونحوه موثق روح بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 2، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 2، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 2، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8، 4.

ص: 113

عبد الرحيم(1) ، وخبر عنبسة الوراق: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف، فإن نهيتني لم أبعها. فقال: ألست تشتري ورقاً وتكتب فيه ؟ قلت: بلي وأعالجها. قال: لا بأس بها"(2).

أما الطائفة الأولي فهي - مع ضعفها - لا تناسب نصوص الطائفة الثانية الكثيرة العدد المشتملة علي ما هو معتبر السند، وقد أفتي الأصحاب بمضمونها، فقد سبق من الشيخ (قدس سره) وغيره التصريح بجواز بيع الورق. بل لعله لا قائل بعدم جواز بيع الورق، لأنه وإن كان هو الظاهر بدواً من النهي عن بيع المصحف، إلا أن تصريح من عرفت بذلك مع تصريحهم بجواز بيع الورق يمنع من الوثوق بمقتضي الإطلاق المذكور في كلام غيرهم لو حصل. فلابد من طرح الطائفة الأولي أو حملها علي الكراهة.

وأما حمل الطائفة الثانية علي شراء الورق قبل أن يكتب به علي أن يكتب به كي لا تنافي الطائفة الأولي. فهو تكلف تأباه النصوص المذكورة لورودها لبيان ما يؤدي نتيجة بيع المصحف الشخصي ذو الورق والدفتين والحديد المتشخصة، لا لبيان طريق تحصيل المصحف، وإلا فتحصيله بطريق الاستئجار أيسر وأبعد عن التكلف.

ومجرد التنصيص في غير واحد منها علي دخول عمل اليد في المبيع لا يقتضي ذلك. لعدم ظهوره في إرادة العمل غير الحاصل، لينصرف إلي الشرط أو الإجارة، بل العمل الحاصل، فيتعين حمل شرائه علي شرائه بلحاظ أثره.

وأما الطائفة الثانية فهي ظاهرة في لزوم تجنب بيع المصحف بعنوانه تأدباً، بل يكون البيع للورق الذي كتب فيه المصحف بما هو ورق خاص ذو أثر خاص، كما هو المناسب لما تضمنه غير واحد من هذه النصوص من دخول عمل اليد في المبيع، كما سبق. فهو حكم صوري تأدبي لا يفرق عن بيع المصحف عملاً ولا أثراً. بل هو بيع للمصحف لا بعنوان كونه مصحفاً، بل بعنوان كونه ورقاً معمولاً بالوجه الخاص.

ولذا يجب علي البايع المحافظة علي الخط، ولا يحل له محوه أو التلاعب به،

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 31 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 114

وليس هو كبيع الصليب بما هو ذهب أو خشب قد لا يبتني علي حفظ هيئته، علي ما تقدم توضيحه في المسألة التاسعة. كما أنه لو كان الخط معيباً أو ناقصاً كان للمشتري الخيار، لأن المصحف وإن لم يؤخذ عنواناً للمبيع، إلا أنه مورد الغرض الحقيقي الذي تبتني عليه المعاملة لباً، فهو كالشرط الضمني يتعين ثبوت الخيار بتخلفه. وبالجملة: البيع بحقيقته بيع للمصحف إن لم يكن بصورته كذلك تأدباً.

بل لا يبعد البناء علي ذلك حتي بناءً علي عدم جواز بيع الورق، الذي هو مقتضي الطائفة الأولي، لأن الورق بخصوصيته المقصودة بالأصل مشروط في المعاملة ضمناً وتبعاً لبيع الحديد والدفتين، فيكون النقص في تلك الخصوصية موجباً لثبوت خيار تخلف الشرط، ولا فرق بينه وبين بيع المصحف، إلا في كون المصحف بعنوانه مملوكاً فيه تبعاً بمقتضي الشرط الضمني، وفي بيع المصحف مقوماً للمبيع.

وأما الطائفة الثالثة فهي ظاهرة في جواز بيع المصحف بعنوانه من دون حاجة لتكلف ما سبق في الطائفتين الأوليين. وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن ظهورها في ذلك إنما هو بلحاظ السكوت عن كيفية البيع في مقام البيان، فلا تعارض ما تقدم من الأخبار المتضمنة لبيان كيفية البيع.

ففيه: أنه لا مثير للسؤال عن بيع المصحف الشريف إلا شبهة احترامه وكونه أجل من أن يباع التي عليها تبتني النصوص المتقدمة، فعدم التنبيه في هذه الطائفة علي التكلف الذي تضمنته تلك النصوص والذي يبتني علي التهرب من بيع المصحف موجب لقوة ظهورها في جواز البيع بالنحو المتعارف المسؤول عنه، بحيث تكون كالصريحة في ذلك، ولا يمكن حملها علي البيع بالوجه الذي تضمنته النصوص المذكورة جمعاً معها، فإن الجمع بذلك ليس عرفياً، بل هو ردّ لها عرفاً. ولاسيما مع ظهور الصحيح والموثق من الطائفة الثالثة في الفرق بين البيع والشراء، وأن الأول أولي بالترك، مع أنه لا منشأ لذلك إذا ابتنت المعاملة علي التكلف المذكور الذي تضمنته النصوص الأُول، لعدم الفرق معه بين البيع والشراء.

ص: 115

ومن ثم يتعين الجمع بين النصوص بحمل نصوص المنع علي الكراهة، فما لا كراهة فيه هو بيع غير الورق من الجلد والدفتين، بحيث يكون الورق تابعاً للمبيع لا جزءاً منه. مع البناء علي كراهة بيع وشراء الورق المكتوب، ولو لا بعنوان كونه مصحفاً، عملاً بالطائفة الأولي. وأشد منه كراهة بيع وشراء المصحف بعنوان كونه مصحفاً، عملاً بالطائفة الثانية، مع كون البيع أشد كراهة من الشراء، كما هو مقتضي التصريح في بعض نصوص الطائفة الثالثة بأن الشراء أحب من البيع.

إن قلت: لا مجال للتعويل علي خبر عنبسة من الطائفة الثالثة لجواز بيع المصحف بعنوان كونه مصحفاً. وأما الصحيح والموثق فهما إنما يدلان علي جواز الشراء، ولا يدلان علي جواز البيع، لأن كون الشراء أحب منه لا يدل علي جوازه، إذ لا يراد به التفضيل الحقيقي، وإلا كان مقتضاه استحباب البيع وأفضلية الشراء منه، بل المراد منه مجرد كون الشراء أهون، وهو أعم من جواز البيع، فلا مخرج عن ظهور النصوص الأُول في حرمته.

قلت: التعبير المذكور ظاهر في جواز الأمرين. ولاسيما مع كون السؤال عن البيع والشراء معاً المناسب لبيان حكمهما معاً، وحيث لا إشكال في عدم نهوض الجواب المذكور ببيان حرمة البيع تعين كونه مسوقاً لبيان جوازه. خصوصاً وأن شدة الارتباط بين البيع والشراء - حيث لا فرق بينهما إلا في نحو انتساب الفعل الواحد للطرفين - لا يناسب عرفاً حلية أحدهما وحرمة الآخر، بل هو غير معهود في غير المقام. فلا مخرج عما ذكرنا.

هذا وقد أيد في الجواهر الجواز بضرورة الدين علي جواز بيع الكتب المتضمنة للآيات وإن كثرت، مع أن مدرك المنع لو صح لكان عاماً، إذ لا خصوصية له في المصحف. ولاسيما مع ما في غير واحد من نصوصه من النهي عن بيع كلام الله تعالي أو الكتاب أو الورق وفيه القرآن مكتوب.

لكنه يشكل بالفرق في منافاة البيع لاحترام القرآن بين كون المكتوب متمحض

ص: 116

فيه، بحيث يكون القرآن عنواناً له، وكونه في ضمنه تابعاً له، حيث يكون المبيع عرفاً في الثاني كتاباً غير القرآن. ورواية سماعة المتقدمة في الطائفة الأولي منصرفة للأول، ولو بضميمة الضرورة المذكورة. ولا أقل من عدم وضوح شمول إطلاقها للثاني.

وأظهر منها نصوص الطائفة الثانية، لأن موضوع النهي فيها شراء كتاب الله تعالي وبيع المصاحف وشرائها، وبيع الكتب المتضمنة للآيات ليس بيعاً لكتاب الله تعالي وللمصحف بعنوانه، بل هو بيع له ضمناً في كتاب معنون بعنوان آخر.

نعم لا ينبغي التأمل في شمول نصوص المقام لأبعاض المصحف الشريف، لعموم الجهة الارتكازية المشار إليها لذلك، كما يناسبه ما في صحيح أبي بصير وموثق روح من التعرض لكتابة البعض عند السؤال عن حكم بيع المصحف وشرائه. فلاحظ.

ومثله ما قد يدعي من لزوم رفع اليد عن نصوص الطائفة الثالثة أو تأويلها بعد فتوي من سبق بالمنع، عملاً بنصوص الطائفتين الأوليين. إذ فيه: أن عملهم لم يبلغ مرتبة الإجماع أو الشهرة الموجبة للإعراض عن نصوص الطائفة الثالثة - لتسقط عن الحجية - بعد كونهم أفراداً قليلين - وإن عظموا - في كتب قليلة مع عدم تعرض بعضهم في بقية كتبه لذلك وعدم تعرض غيرهم - وفيهم الأعاظم - للحكم مع شيوع الابتلاء به.

قال في مفتاح الكرامة: "بل قد يقال: إن كل من لم يذكر تحريم بيعه فهو مخالف، لأنهم يذكرون شرط البيع والمبيع والمتعاقدين، ويشترطون إسلام المشتري في المصحف والعبد المسلم، وقضية كلامهم في ذلك المقام جواز شراء المصحف وبيعه - علي أي وجه كان - لمسلم. فتأمل" .ومن ثم لا مجال لتوهم سقوط نصوص الطائفة الثالثة عن الحجية. كما لا مخرج عما سبق من مقتضي الجمع العرفي بينها وبين نصوص الطائفتين الأوليين.

بقي في المقام أمران:

الأول: المتيقن من الجهة الارتكازية المشار إليها في نصوص المنع لو تمت هو

ص: 117

الحرمة التكليفية، لوضوح مناسبة انتهاك حرمة القرآن الشريف لها. ومن ثم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) عدم دلالتها علي فساد البيع، بناءً علي ما هو المشهور المنصور من عدم اقتضاء النهي في المعاملة الفساد.

لكن قد يقال: النهي وإن لم يستلزم الفساد حتي فيما إذا كان منشأ النهي قيام المفسدة بالأثر، لإمكان تبدل الحال بعصيان المكلف بالنهي وفعله للمنهي عنه، كما لو نهي المولي عن إعطاء الأمان للعدو بلحاظ ثبوت المفسدة في الإبقاء عليهم، حيث يمكن أن يكون عصيان بعض المكلفين وإعطائه للأمان، موجباً لتبدل الحال وتجدد المصلحة في الإبقاء عليهم مراعاة للأمان المذكور، تجنباً لخديعتهم، إلا أنه لا مجال له في المقام، بلحاظ أن عدم مناسبة البيع لحرمة المصحف الشريف، كما تقتضي تحريم البيع علي المكلف تقتضي عدم إمضائه بعد تحريمه، لأن إمضاءه راجع إلي جعل البيع المذكور شرعاً، ومن المعلوم أن الشارع الأقدس لا يجعل ما لا يناسب حرمة المصحف، ولا يختص ذلك بالمكلفين.

اللهم إلا أن يقال: ذلك إنما يمنع من جعل الشارع لبيع المصحف ابتداء، أما بعد عصيان المكلف وتحقق البيع منه فمصلحة تنفيذ العقد قد تزاحم مفسدة هتك المصحف، وتلزم الشارع بإمضاء البيع وإن لزم منه الهتك، فلا مخرج عن عمومات النفوذ. فتأمل.

نعم قد يقال: الجهة الارتكازية المشار إليها في نصوص المنع. كما تناسب الحرمة التكليفية كذلك تناسب الحرمة الوضعية، فإن حرمة المصحف كما تناسب تحريم توهينه بالبيع تكليفاً تناسب عدم إمضاء البيع شرعاً، لما سبق من اشتراك البيع من المكلف والإمضاء من الشارع في عدم المناسبة لاحترامه، غايته أنه يحتمل مزاحمة مصلحة تنفيذ العقد في الثاني.

وحينئذٍ لا قرينة علي حمل النهي في النصوص علي الحرمة التكليفية، بل هو صالح في نفسه للوجهين. وحيث كان المنصرف من الأوامر والنواهي الواردة في

ص: 118

فإذا أريد المعاوضة عليه فلتجعل المعاوضة علي الغلاف ونحوه (1). والأحوط منه أن تكون المعاوضة بنحو الهبة المشروطة بعوض (2). وأم

---------------

الماهيات ذات الآثار المطلوبة هو الإرشاد لصحتها وفسادها، لأن ذلك هو الغرض منها، وهو المنصرف من مقام السؤال والجواب، تعين حمل النهي في المقام علي ذلك، فتحمل علي الحرمة الوضعية الراجعة للفساد، فالفساد مستفاد منها ابتداء، لا بتوسط دلالتها علي الحرمة التكليفية، ليتشبث بمنع الملازمة. فلاحظ.

الثاني: قال المحقق الإيرواني في حاشيته علي المكاسب: "مورد الأخبار المانعة هو البيع، ويمكن جعلها كناية عن مطلق النواقل الاختيارية. بل إشارة إلي عدم قبوله للنقل ولو بالأسباب غير الاختيارية كالإرث".

لكنه كما تري لا منشأ له بعد اختصاص النصوص بالبيع والشراء، واحتمال خصوصيتها في المنع، بلحاظ ابتنائهما علي تعويض المصحف الشريف بالمال ومقابلته به، بخلاف بقية النواقل، حتي الهبة المعوضة، فإنها أشبه بالشكر علي الصنيعة والإحسان، ولا تبتني علي التقابل بين المالين الموهوبين.

بل الطائفة الثانية من النصوص صريحة في جواز بيع الورق الذي فيه القرآن لا بعنوان كونه قرآناً، مع أنه يؤدي إلي نقل القرآن لباً كما أن من المعلوم من الارتكازيات والسيرة جواز هبة المصحف. ومن النصوص والفتاوي كون المصحف من جملة الحبوة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في بطلان ما ذكره (قدس سره) سواء رجع إلي عدم ملكية المصحف أم بقائه علي ملك مالكه الأول وعدم انتقاله. نعم قد يتجه ذلك في الجملة في الكافر، وإن سبق المنع منه.

(1) ظاهره التوقف في بيع الورق، مع عدم ما يوجب المنع عنه إلا الطائفة الأولي التي تنفرد بخبر سماعة الضعيف السند من دون ظهور عامل به، مع أنه مخالف لبقية النصوص علي كثرتها له.

ص: 119

الكتب المشتملة علي الآيات والأدعية وأسماء الله تعالي فالظاهر جواز بيعها علي الكافر (1)، فضلاً عن المسلم (2). وكذا كتب الأخبار عن المعصومين (عليهم السلام) - (3). كما يجوز تمكينه منها (4).

(مسألة 15): يحرم ولا يصح بيع العنب أو التمر خمراً أو الخشب مثلاً ليعمل صنماً أو آلة لهوٍ أو نحو ذلك (5)،

---------------

(2) لم يتضح وجه الاحتياط بذلك بعد عدم وجود ما يمنع من الأول وعدم ظهور قائل بالمنع منه.

(1) لخروجها عن المتيقن من دليل المنع لو تم، لإمكان خصوصية ما يتمحض في كونه قرآناً في لزوم الاحترام، لأنه أولي بالاحترام ارتكازاً. وقد سبق ما ينفع في المقام.

(2) لإمكان خصوصية ما يتمحض في كونه قرءاناً في الاحترام المانع من البيع، كما تقدم آنفاً.

(3) كما يظهر مما سبق.

(4) لعين ما سبق.

(5) قال في الشرايع في بيان ما يحرم التكسب به: "الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو - مثل العود والزهر - وهياكل العبادة المبتدعة - كالصليب والصنم - وآلات القمار - كالنرد والشطرنج - وما يفضي إلي المساعدة علي محرم، كبيع السلاح لأعداء الدين وإجارة المساكن والسفن للمحرمات، وكبيع العنب ليعمل خمراً وبيع الخشب ليعمل صنماً. ويكره بيع ذلك لمن يعملها" .وقريب من ذلك في القواعد والتذكرة وعن غيرها.

لكن الظاهر الفرق بين مثل بيع آلات اللهو وبيع العنب ليعمل خمراً، فإن القصد للحرام في الأول نوعي بلحاظ مناسبته لخاصية المبيع، وفي الثاني شخصي

ص: 120

يختص بالمتبايعين. والأول يوجب سقوط حرمة المبيع شرعاً، بحيث يكون أكل المال في مقابله أكلاً للمال بالباطل. أما الثاني فهو لا يوجب سقوط حرمة المبيع بعد صلوحه لأن ينتفع به في الجهة المحللة، كالأكل وغيره.

وأما دعوي: أن البيع حينئذِ يكون إعانة علي الإثم فيظهر وهنها مما تقدم في أوائل المسألة الثامنة، فراجع. غاية الأمر عدم مشروعية القصد المذكور، وهو إنما يقتضي عدم نفوذه حتي لو كان بنحو الشرط، لعدم نفوذ الشرط المحلل للحرام، من دون أن يقتضي بطلان البيع، بناءً علي ما هو الظاهر من عدم مبطلية الشرط الباطل للمعاملة.

وأما إجارة الأعيان بقصد المنافع المحرمة فحيث لم يكن موضوع الإجارة المقابل بالمال هو العين الصالحة للأمرين، بل المنفعة التي هي من الأمور الكلية القابلة للتقييد، فالقصد المذكور: تارة: يرجع إلي كون موضوع الإجارة خصوص المنفعة المحرمة. وأخري: يرجع إلي كون موضوعها مطلق منفعة العين، وكون ترتب المنفعة من سنخ الداعي أو الشرط الخارج عن المعاملة.

ولا إشكال في بطلان الإجارة في الأول. لأن أكل المال في مقابل الحرام أكل له بالباطل. ولأن حرمة المنفعة تنافي ملكيتها للأجير ارتكازاً، فلا يمكن معها صحة الإجارة التي هي من المعاوضات المبتنية علي التمليك.

أما الثاني فلا مجال معه لبطلان الإجارة ذاتاً بعد إطلاق المنفعة وعدم اختصاصها بالمحرمة. نعم لا يشرع القصد للحرام، ويبطل اشتراطه من دون أن يبطل الإجارة، نظير ما سبق. هذا كله مقتضي القاعدة.

وأما النصوص فقد ورد في بعضها النهي عن بيع الخشب ممن يتخذه صلباناً، ففي صحيح ابن أذينة: "كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) أساله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط. فقال: لا بأس به. وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلباناً.

-

ص: 121

قال: لا"(1) ، ومعتبر عمرو بن حريث:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن التوت أبيعه يصنع [ليصنع] للصليب والصنم. قال: لا"(2).

كما ورد في نصوص كثيرة جواز بيع التمر والعنب والعصير ممن يصنعها خمراً، كصحيح محمد الحلبي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراماً. فقال: لا بأس به، تبيعه حلالاً ليجعله حراماً، فأبعده الله وأسحقه"(3) ، وصحيح عمر بن أذينة:" كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمراً أو سَكَراً؟ فقال: إنما باعه حلالاً في الابان الذي يحل شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه"(4) ، وصحيح رفاعة: "سئل أبو عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره. قال: حلال. ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شراباً خبيثاً"(5) ، ونحوها غيرها. كما تقدم في صحيح ابن أذينة جواز بيع الخشب ممن يصنعه برابط.

ويظهر منهم العمل بهذه النصوص المرخصة بعد حملها علي صورة عدم القصد لفعل الحرام، كما لعله عليه يبتني ما تقدم في آخر كلام الشرايع ونحوه.

لكنه لا يناسب ما سبق في النصوص الأول المانعة. فإن حملها علي صورة القصد لفعل الحرام - مع بعده في نفسه من الإطلاق، ولاسيما مع عدم الداعي للمسلم في القصد المذكور، كما نبه لذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - لا يناسب التفصيل بين بيع الخشب ليعمل برابط وبيعه ليعمل صلباناً في صحيح ابن أذينة.

ومثله ما حاوله غير واحد من الجمع بين الطائفتين بحمل النصوص المرخصة علي خصوص بعض الصور، كعدم العلم باستعمال المشتري للمبيع في الحرام وإن علم أن عمله ذلك، أو العلم باستعماله له في الحرام من دون أن يعلم أن قصده ذلك حين البيع، أو علي حمل التخمير علي التخمير المحلل، وهو الذي يكون مقدمة للتخليل، أو خصوص البيع لأهل الذمة الذين لهم أن يخمروا... إلي غير ذلك مما يبعد أو يمتنع حمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 8.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 8.

ص: 122

النصوص المذكورة عليه. ولا أقل من كونها جموعاً تبرعية لا مجال للتعويل عليها.

ولعله لذا استشكل في الرياض في التعويل علي نصوص الترخيص. قال:" لكن في مقاومة هذه النصوص - وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها، بل وربما كان في المطلب صريحاً بعضها - لما مر من الأصول والنصوص المعتضدة بالعقول إشكال. والمسألة لذلك محل إعضال ".وكأن مراده بالأصول عموم النهي عن التكسب بما فيه وجه من وجوه الفساد المستفاد من رواية تحف العقول وغيرها وعموم حرمة الإعانة علي الإثم.

لكن يظهر اندفاع ذلك كله مما سبق في المسألة الخامسة والثامنة من عدم الدليل الكافي علي العمومين المذكورين، بل عدم إمكان البناء عليهما، كما لم يتضح الوجه في اعتضادها بالعقول.

بل لو بني علي استحكام التعارض بين الطائفتين تعين ترجيح الطائفة الثانية، لموافقتها لعمومات النفوذ، ولأنها أشهر رواية. مع اعتضادها بعمل المشهور.

نعم قد يظهر من المشهور عدم استحكام التعارض بينهما، وأن المتعين الجمع بينهما بحمل النصوص الناهية علي الكراهة، كما هو المعول عليه في نظائر المقام من موارد اجتماع النهي مع الترخيص. مؤيداً بما في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أنه سئل عن بيع العصير ممن يصنعه خمراً. فقال: بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلاً أحب إلي. ولا أري بالأول بأساً"(1). وعليه يبتني ذهابهم للكراهة مع عدم قصد البايع لترتب الحرام.

اللهم إلا أن يقال البناء علي الكراهة المصححة لإطلاق النهي في النصوص الأول لا يناسب ما تقدم - في صحيح رفاعة وغيره من نصوص الترخيص - من أنهم (عليهم السلام) يبيعون تمرهم ممن يصنعه خمراً، بنحو يناسب تهوين الأمر في ذلك. وما في صحيح الحلبي من البيع من غير من يصنعه خمراً أحب إنما يدل علي أولوية البيع عليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

ص: 123

من البيع علي من يصنعه خمراً، وهو أعم من الكراهة. مع أن البناء علي الكراهة لا يناسب ما في صحيح ابن أذينة من التفصيل بين بيع الخشب ممن يصنعه برابط وبيعه ممن يصنعه صلباناً، لعموم الكراهة عندهم للجميع. فلاحظ.

والذي ينبغي أن يقال: نصوص الترخيص وإن وردت في خصوص بيع العنب ممن يصنعه خمراً وبيع الخشب ممن يتخذه برابط، إلا أن التعليل في النصوص بأنه إنما باعه حلالاً ونحوه ظاهر في عموم الحل لجميع ما يباع حال كونه حلالاً، وعدم منع ترتب الحرام عليه من قبل المشتري من جواز بيعه وصحته. وبذلك يكون ما في صحيح ابن أذينة ومعتبر عمرو بن حريث من منع بيع الخشب ممن يتخذه صلباناً أو صنماً أخص، فيتعين تخصيص العموم به، وبه يتم الجمع بين النصوص.

ولا ملزم بالخروج عن ذلك إلا دعوي عدم الفصل بين الصلبان وغيرها، أو دعوي هجر الحديثين، لعدم ظهور فتوي أحد بمضمونهما. لكنهما غير ظاهرتين بعد ظهور الكليني والشيخ في التهذيب في العمل بمضمون الخبرين من التفصيل، لإيداعهما له في الباب المناسب، من دون أن يظهر منهما ردّ لهما.

نعم صرح الشيخ في النهاية بجواز بيع الخشب ممن يتخذه صنماً أو صليباً أو شيء من الملاهي بنحو يظهر منه البناء علي مقتضي العموم المستفاد من التعليل المتقدم، كما يظهر ممن بعده ذلك. إلا أنه لا يكفي في البناء علي عدم الفصل أو الهجر المسقط للحديثين عن الحجية. ولاسيما بعد ظهور اضطراب المشهور في مبني المسألة، حيث جعلوا المعيار في المنع علي كون الشيء مما يقصد منه الحرام، كما سبق، وسبق الإشكال فيه.

ومن هنا فالبناء علي خصوصية الصلبان والأصنام في حرمة البيع، عملاً بالحديثين المتقدمين، المناسبين لقوة احتمال خصوصيتهما في الحرمة، لأهمية حرمة صنع رموز الأديان الباطلة، قريب جداً. كما أن من القريب التعدي لجميع رموز الأديان الباطلة، التي من شأنها أن تعبد أو تقدّس، لأنها الجهة الارتكازية التي يقرب ابتناء

ص: 124

النهي عن البيع في النصوص عليها.

بقي شيء. وهو أن بعض نصوص الترخيص قد تضمنت عدم بيع العصير ممن يصنعه خمراً إلا نقداً، كصحيح البزنطي: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن بيع العصير فيصير خمراً قبل أن يقبض الثمن. فقال: لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراماً لم يكن بذلك بأس، فأما إذا كان عصيراً فلا يباع إلا بالنقد"(1) ، ومعتبر يزيد بن خليفة:" كره أبو عبدالله (عليه السلام) بيع العصير بتأخير"(2). وفي معتبره الآخر عنه (عليه السلام): "سأله رجل... قال: فإنه يشتريه مني عصيراً فيجعله خمراً في قربتي. قال: بعته حلالاً، فيجعله حراماً فأبعده الله. ثم سكت هنيهة. ثم قال: لا تذرن ثمنه عليه حتي يصير خمراً، فتكون تأخذ ثمن الخمر"(3).

ومن القريب حمل الأولين علي الأخير، وأن المنهي عنه هو تأخير قبض الثمن حتي يصير العصير خمراً، سواءً كان البيع نقداً أو نسيئة. كما لا بأس ببيع النسيئة إذا كان قبض الثمن قبل صيرورة العصير خمراً، لصلوح الحديث الأخير لشرح الأولين وبيان علة الحكم فيهما. كما أن مقتضي عموم التعليل فيه وإطلاق ما قبله العموم للبيع من كل من يتركه حتي يصير خمراً، وإن لم يعلم ذلك منه عند البيع، بل وإن لم يكن عازماً علي ذلك حينه.

هذا ولكن عدم التنبيه لذلك في بقية نصوص بيع العصير ممن يجعله خمراً مع شدة الحاجة لبيانه مناسب جداً لعدم كون النهي تحريمياً. كما قد يناسبه عدم مبادرة الإمام في معتبر يزيد الثاني للتنبيه لذلك، وإنما بينه بعد أن سكت هنيئة، وظهور ابتناء التعليل علي التوسع والتسامح، لما هو المعلوم من أن ثمن الخمر الحرام هو ثمنه وهو خمر، لا ثمن ما يؤول إلي الخمر، فتطبيق ثمن الخمر في المقام مجازي يناسب الكراهة. بل من البعيد جداً الحرمة بعد صحة المعاملة حين وقوعها واستحقاق الثمن بها.

ويؤيد ذلك أو يعضده حديث محمد بن إسماعيل:" سأل الرضا (عليه السلام) رجل وأن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 10.

ص: 125

سواءً كان تواطؤهما علي ذلك في ضمن العقد أم في خارجه (1). وكذا تحرم ولا تصح إجارة المساكن ليباع فيها الخمر أو يحرز فيها أو يعمل فيها شيء من المحرمات. وكذا تحرم ولا تصح إجارة السفن والدواب أو غيرها لحمل الخمر (2).

---------------

أسمع عن العصير يبيعه من المجوس واليهود والنصاري والمسلمين قبل أن يختمر ويقبض ثمنه أو ينسأه. قال: لا بأس إذا بعته حلالاً فهو أعلم"(1). فإنه وإن لم يصرح فيه بالبيع ممن يعلم أنه يصنعه خمراً، إلا أنه أظهر أفراد الإطلاق فيه، فالتعرض فيه لإنساء الثمن من دون تنبيه من الإمام (عليه السلام) إلي لزوم قبض ثمنه قبل أن يصير خلاً، مع كونه محتملاً في ظاهر الجواب، شاهد بعدم كون التعليل المذكور للتحريم. ولعله لذا لم أعثر علي من نبه لتحريم الثمن إذا قبض بعد صيرورة العصير خمراً. بل صرح في الوسائل بالكراهة. فلاحظ.

(1) بل يظهر مما سبق منهم العموم لقصد البايع وحده أو قصدهما معاً من دون تواطؤ. وإن سبق المنع عن أصل الحكم، فضلاً عن عمومه لغير الشرط في ضمن العقد، الذي قد يدعي مبطليّة الباطل منه للعقد. نعم لا ريب في عموم القبح الفاعلي - الذي قد يراد بالحرمة التكليفية في المقام - لجميع الصور، لكن يختص بالقاعدة وحده، دون الغافل.

(2) تقدم من الشرايع وغيرها العموم لجميع المحرمات. والظاهر أن المراد بها ما تنحصر منفعته بالحرام، كالخمر والخنزير والدفوف وغيرها. وكأنه للمفروغية عن حرمة نقلها أو حفظها أو نحو ذلك مما يقع مورداً للإجارة.

لكن لم يتضح الوجه في حرمة ذلك. ومجرد كونه إعانة علي الإثم لا يكفي في تحريمه، كما سبق. نعم قد يتجه ذلك في الخمر لموثق زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام): "قال:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 38 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 126

لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه" (1) ونحوه غيره، حيث تدل علي حرمة حملها، كما قد يستفاد منها العموم لجميع ما يتعلق بها في طريق شربها، كحفظها لصاحبها وتعليبها ونحوهما. وأما غير الخمر فلا يتضح الدليل علي الحرمة فيه.

هذا ولو فرض حرمة العمل المستأجر عليه فقد سبق منهم التفصيل بين القصد للحرام حين الإجارة وعدمه. وعن الخلاف والغنية الإجماع علي عدم صحة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر والدكان ليباع فيه. وفي النهاية إطلاق المنع من إجارة الدور والمساكن إذا عمل فيها شيء من المحظورات والمحرمات، أما إجارة السفن والحمولات فإنما تحرم إذا علم أنه يحمل فيها أو عليها شيء من المحرمات.

كما أنه سبق منّا أن مقتضي القاعدة التفصيل بين ما إذا كان موضوع الإجارة العمل المحرم وما إذا كان موضوعها مطلق المنفعة، فتبطل في الأول، وتصح في الثاني حتي إذا كان العمل المحرم هو المقصود. غايته عدم مشروعية القصد المذكور وعدم نفوذ اشتراطه من دون أن تبطل الإجارة، بناءً علي ما هو الظاهر من عدم مبطلية الشرط الفاسد للمعاملة.

وأما النصوص ففي خبر جابر: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يؤجر بيته فيباع فيه الخمر. قال: حرام أجره"(2). وهو - مع ضعف سنده - ظاهر في عموم المنفعة المستأجر عليها، وعموم مانعية بيع الخمر حتي مع عدم القصد إليه حين الإجارة. وليس بناؤهم علي ذلك. علي أنه معارض بصحيح ابن أذينة:" كتبت إلي أبي عبدالله (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير قال: لا بأس"(3).

هذا وقد يجمع بينهما: تارة: بحمل الأول علي الإجارة بقصد ترتب الحرام،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 34 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 127

والثاني علي صورة عدم القصد له، كما يناسبه ما سبق من الشرايع وغيرها.

وأخري: بحمل الأول علي من يعلم أنه يباع فيه الخمر والثاني علي من لا يعلم، كما ذكره الشيخ في التهذيبين، ويناسبه ما سبق منه في النهاية. لكن كليهما - كما تري - جمع تبرعي لا شاهد له ولا تعويل عليه.

بل الأول بعيد عن ظاهر خبر جابر، لظهور أن تنبيه السائل لبيع الخمر إنما هو من أجل التنبيه للجهة المناسبة لاحتمال التحريم الموجبة للسؤال، ومن الظاهر أن قصد بيع الخمر أشد مناسبة للتحريم وأولي بالتنبيه عليه في السؤال من حصول البيع، فعدم التنبيه له يناسب عدمه جداً. ولاسيما مع عدم الداعي للمسلم في القصد للحرام.

كما يشكل الثاني بأن صحيح ابن أذينة أقرب للحمل علي العلم من خبر جابر، لأن فرض حمل الخمر والخنازير قد أخذ قيداً في المستأجر في صحيح ابن أذينة، أما في خبر جابر فقد أخذ مجرد ترتب بيع الخمر علي الإجارة. فلاحظ.

ومثلهما ما في التهذيبين من احتمال العمل بكل منهما في مورده، فيحرم إجارة البيت لبيع الخمر لحرمة بيعها، ولا تحرم الإجارة لمن يحمل الخمر، لأن حملها ليس بحرام، إذ يجوز حملها لتجعل خلاً.

إذ فيه: أن حملها لتجعل خلاً بعيد عن ظاهر صحيح ابن أذينة، لاحتياج ذلك إلي عناية وتنبيه، والمنصرف منه هو حملها بما هي محرمة مقدمة لبيعها أو شربها. ولا أقل من مخالفته للإطلاق وخلوه عن القرينة. ولاسيما مع اشتماله علي حمل الخنازير التي يبعد حملها لغرض سائغ.

ومن ثم لا مخرج عن مقتضي القاعدة المعتضد بصحيح أذينة من حلية الإجارة إذا كان موضوعها مطلق المنفعة. وعدم بطلانها بالقصد للحرام لو حصل. نعم مع

ص: 128

والثمن والأجرة في ذلك محرمان (1). وأما بيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمراً أو إجارة المسكن ممن يعلم أنه يحرز فيه الخمر أو يعمل شيئاً من المحرمات من دون تواطئهما علي ذلك في عقد البيع أو الإجارة أو قبله فقيل: إنه حرام (2). وهو أحوط، والأظهر الجواز علي كراهية (3).

(مسألة 16): يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان إذا كانت مجسمة (4).

---------------

اختصاص موضوع الإجارة بالمنفعة المحرمة يتعين بطلانها، كما سبق.

(1) كما هو مقتضي بطلان المعاملة الذي سبق منه (قدس سره)، وسبق الكلام فيه.

(2) فقد تقدم من النهاية إطلاق المنع من إجارة الدور والمساكن إذا عمل فيها شيء من المحظورات والمحرمات، والمنع من إجارة السفن والحمولات، إذا علم بحمل الخمر عليها. كما يناسبه ما سبق من التهذبين من احتمال حمل خبر جابر علي صورة العلم بترتب الحرام. وفي المسالك والروضة وعن ظاهر المختلف وحواشي الشهيد المنع مع العلم بترتب الحرام، وفي الأولين إلحاق الظن بالعلم في ذلك، وقد سبق من الرياض التوقف في جواز بيع الخشب والعنب ممن يعملهما في الحرام من دون قصد لذلك. وكأنه لعموم حرمة الإعانة علي الإثم، لعدم توقف صدقها علي القصد. ولإطلاق بعض النصوص المتقدمة. ويظهر ضعفهما مما سبق.

(3) كما سبق أنه قد يظهر من المشهور، للجمع بذلك بين نصوص المنع والترخيص. وقد سبق منّا أن الأظهر الجمع بينها بالتفصيل بين ما يترتب عليه صنع رموز الأديان الباطلة التي من شأنها أن تعبد أو تقدّس، فيحرم بيعه، وما يترتب عليه غيره من المحرمات، فلا يحرم بيعه.

(4) وهو المتيقن من كلامهم، وفي الجواهر: "فلا خلاف في حرمة عملها، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المنقول منه مستفيض" .والنصوص به مستفيضة، كصحيح

ص: 129

ويحرم أخذ الأجرة عليه (1).

---------------

محمد بن مسلم: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر، فقال: لا يأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان"(1) ، ومعتبر محمد بن مروان عنه (عليه السلام):" سمعته يقول: ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان، يعذب حتي ينفخ فيها، وليس بنافخ فيها، والمكذب في منامه، يعذب حتي يعقد بين شعيرتين، وليس بعاقد بينهما، والمستمع إلي حديث قوم وهم له كارهون، يصب في أذنه الآنُك، وهو الأُسرُبّ"(2) ، وحديث أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك ينهي عن التماثيل"(3). ومرسل ابن أبي عمير عنه (عليه السلام):" قال: من مثل تمثالاً كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح"(4) ، وغيرها.

(1) لأن حرمة العمل تقتضي كون أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، كما تقدم نظير ذلك في المسألة التاسعة. مضافاً إلي أن حرمة العمل لا تجتمع مع نفوذ الإجارة المقتضية لتملك العمل علي الأجير، فيتعين بطلان الإجارة، كما أشرنا إليه في أوائل المسألة السابقة.

نعم بطلان الإجارة لا يستلزم هدر حرمة العمل، بحيث لا يقابل بالمال، بل يمكن استحقاق الأجر عليه بنحو الجعالة، أو استحقاق أجرة المثل، كما يلتزم به في كثير من موارد بطلان الإجارة.

فالعمدة في المنع من ذلك الوجه الأول، المؤيد بما دلّ علي حرمة مهر الزانية، وأجر الكاهن(5) وكسب المغنية(6). وإن كان الأمر فيه أظهر من أن يحتاج لذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 11، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 11، 2.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 130

والأحوط ذلك غير المجسمة، وإن كان الأظهر الجواز (1).

---------------

نعم الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان العامل عالماً بحرمة عمله، أما مع جهله بالحرمة - للجهل بالحكم الشرعي، أو بالموضوع - فالظاهر استحقاق الأجر، لاحترام العمل والجهد في نفسه، وتحريمه إنما يُسقط حرمته إذا كان العامل متمرداً في عمله منتهكاً لحرمة الشارع الأقدس أما إذا لم يكن كذلك فلا وجه لسقوط حرمته وهدر جهده.

ويناسب ذلك ما تضمن استحقاق المهر بوطء الشبهة. وما هو المعلوم من أن من غصب عيناً واستغلها في الحرام يضمن أجرة منفعتها، مع أنه لو استأجرها للحرام لم يستحق المؤجر عليه شيئاً. مضافاً إلي المرتكزات العرفية بل المتشرعية.

نعم لا إشكال في بطلان الإجارة، لما سبق من منافاة الحرمة لنفوذها، فلا مجال لاستحقاق الأجرة، بل يتعين استحقاق أجرة المثل للعمل. أما مع جعل الأجرة بنحو الجعالة فيتعين استحقاقها دون أجرة المثل، لعدم الموجب لبطلان الجعالة مع فرض معذورية العامل، ولا وجه للانتقال لأجرة المثل. فلاحظ.

(1) كما هو مقتضي التقييد بالمجسمة في المقنعة والمراسم والشرايع والقواعد والدروس وغيرها. وفي الرياض: "وفاقاً للأكثر، بل كافة من تأخر، كما في التنقيح" .وقد يستدل عليه بأمور وقع الكلام فيها نقضاً وإبراماً من غير واحد:

الأول: أن المتيقن من التماثيل والصور هي المجسمة، بل هو مقتضي إطلاق نسبة التمثال والصورة للشيء، لأنهما لا يتمان إلا بتصويره بتمام أبعاده المستلزم للتجسيم.

وفيه: أن وجود المتيقن لا يكفي في رفع اليد عن الإطلاق ما لم يرجع لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق، لا منشأ لدعواه في المقام. والصورة والتمثال التامين وإن كانا يختصان بالمجسم حقيقة، إلا أن الصورة والتمثال بإطلاقهما لا يختصان به عرفاً. بل لا إشكال في صدقهما علي غيره، كما يشهد به النصوص الكثيرة المتضمنة لإطلاقهما علي ما تزوق به البيوت، ويجعل في الثياب

ص: 131

والستور والبسط والطنافس والوسائد وغير ذلك.

نعم المنصرف في زماننا من التماثيل هو المجسم، ومن الصورة غير المجسم. وقد يظهر ذلك من مثل خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير وتماثيل يصلي فيه ؟ فقال: تكسر رؤوس التماثيل وتلطخ رؤوس التصاوير"(1).

لكن الظاهر أن التفريق المذكور حادث، لعدم مناسبته للنصوص المشار إليها آنفاً. ولعل الجمع بين التمثال والصورة في الخبر هو القرينة علي الفرق بينهما، في التجسيم، نظير ما قيل في الفقير والمسكين، ولا مجال للبناء علي الاختصاص مع أفراد كل منهما بعد ملاحظة ما أشرنا إليه من النصوص.

مضافاً إلي أن ذلك لا ينفع، حيث تكفي النصوص المتضمنة للتصوير في البناء علي حرمة تصوير غير المجسم.

الثاني: مقابلة النقش بالصورة في خبر المناهي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال:" نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن التصاوير، وقال: من صور صورة كلفه الله يوم القيامة أن ينفخ فيها، وليس بنافخ... ونهي أن ينقش شيء من الحيوان علي الخاتم"(2).

وفيه: أن مجرد اختلاف التعبير لا يشهد بالمقابلة والتباين. ولاسيما وأنه لم يتضح نقله (عليه السلام) لكلام واحد، بل لعله قد نقل فقرات متقطعة من كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في مناسبات مختلفة.

الثالث: أن ما تضمنته النصوص السابقة وغيرها من تكليف المصور يوم القيامة نفخ الروح في الصورة يناسب الاختصاص بالمجسمة، لأن غيرها من سنخ العرض غير القابل لأن تقوم به الروح.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 132

وفيه: أن ذلك لا يستلزم الاختصاص، لإمكان كون المراد بنفخ الروح في الصورة هو نفخها في الموضع الذي تقوم به، وذلك ممكن في الصورة غير المجسمة. بل يمكن إرادة النفخ في مادة النقش من الأصباغ ونحوها. ولعله علي ذلك تبتني معجزتا الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) في أكل الصورة لمن آذاهما في مجلس الرشيد ومجلس المأمون(1). علي أن التكليف المذكور تعجيزي قد يراد به بيان أن من له التصوير هو القادر علي نفخ الروح، وذلك لا يقتضي إمكان الأمر المكلف به خارجاً.

الرابع: أن اشتمال النصوص الواردة في مكان المصلي والمساكن علي تغيير الرؤوس وكسرها وقطعها(2) يناسب الاختصاص بالمجسمة.

وفيه أن الذي قد يناسب خصوص المجسمة هو نصوص الكسر لا غير، كخبر علي بن جعفر المتقدم وغيره، وفي مقابله بعض النصوص قد أشتمل علي ما يناسب خصوص غير المجسمة، كذيل خبر علي بن جعفر المذكور، وموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) إلي المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها ولا قبراً إلا سويته ولا كلباً إلا قتلته"(3).

الخامس: أن ما دل علي جواز استعمال ما فيه الصور والتماثيل من الفراش والستور وغيرها يقتضي جواز صنعها، وحيث كانت مختصة بغير المجسمة تعين الخروج بها عن إطلاقات المنع لو تمت.

وفيه: أن ذلك لا ينهض بالتقييد، لأن جواز استعمال ما فيه الصورة لا ينافي حرمة عمل الصورة وصنعها فيه، كما يظهر مما يأتي إن شاء الله تعالي. ومن ثم لا مخرج عن الإطلاقات المتقدمة التي ذكرنا شمولها لغير المجسمة.

ويعضد ذلك صحيح محمد بن مسلم المتقدم، لظهور أن المعهود من تصوير

********

(1) بحار الأنوار ج: 48 ص: 42، وج: 49 ص: 184.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي، وباب: 4 من أبواب المساكن.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8.

ص: 133

أما تصوير غير ذوات الأرواح - كالشجر وغيره - فلا بأس به (1)، ويجوز

---------------

الشمس والقمر - خصوصاً في الصدر الأول - هو تصويرها من غير تجسم، ومعه لا مجال لحمل تصوير الحيوان المنهي عنه فيه علي خصوص غير المجسم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن التماثيل جمع تمثال، وهو الصورة الخارجية، لا التصوير، فهو من الأعيان لا الأعمال، والسؤال عن الأعيان ينصرف إلي السؤال عما يتعلق بها من الأفعال كالبيع والاقتناء والتزيين، لا إلي السؤال عن عملها، فالصحيح أجنبي عن محل الكلام.

فيندفع بأن حمل السؤال عن الأعيان الخارجية علي السؤال عما يتعلق بها من الأعمال دون عملها إنما هو مع تعذر حمله علي السؤال عن عملها - لوضوح حكمه، أو للعجز عنه، أو لقرائن أخر - دون مثل المقام مما يمكن السؤال فيه عن عملها، وإيجادها لكونه مورداً لاحتمال التحليل والتحريم، ولذا كان ذلك هو الظاهر من حديث المناهي ومعتبر أبي بصير المتقدمين وغيرهما. ويناسبه ما في حديث المناهي المتقدم من إطلاق النهي عن التصاوير وتعقيبه ببيان عقوبة التصوير.

كيف! وإلا لزم إجمال النصوص المذكورة لتردد المتعلق فيها بين أمور كثيرة، كالاقتناء، والاستقبال حين الصلاة وغيره، ولبس الثياب المشتملة عليها، وسكني المكان المشتمل عليها، ولا جامع عرفي بينها ليحمل عليه. ومن ثم يتعين حمل الصحيح علي تصويرها وعملها والاستدلال به في المقام، كما ذكرنا.

وكيف كان فالمتعين البناء علي عموم الحرمة لغير المجسمة، كما مال إليه شيخنا الأعظم (قدس سره). ويناسبه عطف الصور علي التماثيل المجسمة في النهاية، وإطلاق حرمة التماثيل فيما عن أبي الصلاح، بل هو صريح السرائر ومحكي كلام ابن البراج.

(1) وقد يظهر من الجواهر المفروغية عنه، حيث حمل عليه إطلاق الصور المجسمة في الشرايع، وقال:" ولعل ترك التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك".

ص: 134

ويناسبه ما عن المطرزي من اختصاص التمثال بصورة أولي الأرواح.

لكنه في غاية الإشكال، لعدم مناسبته للاشتقاق، ولا للتفصيل في صحيح محمد بن مسلم المتقدم. ومثله في ذلك موثق أبي العباس عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في قول الله عز وجل: (يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ). فقال: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء. ولكنها الشجر وشبهه"(1) ، ونحو معتبره الآخر(2). ولعله عينه.

نعم لا يبعد انصراف إطلاق التماثيل والصور في النصوص لذلك، بسبب المفروغية عن اختصاص مورد الأحكام بصور الحيوان، كما يظهر من إطلاق الصور والتماثيل في الأسئلة والجواب بما يناسب الاختصاص بالحيوان، مثل قطع الرأس أو كسره أو تغييره أو تلطيخه أو كونه ذا عين أو عينين(3). وكذا ما تضمن أن عقوبة التصوير والتمثيل هو الأمر بنفخ الروح فيه، حيث يقرب أن يراد به أكمال الصورة بذلك(4).

ومنه يظهر قرب الانصراف للحيوان في كلام من أطلق تحريم عمل الصور أو التماثيل، كما في المقنعة والنهاية والمراسم والشرايع والقواعد والدروس وعن غيرها، لقرب ابتناء كلامهم علي مفاد النصوص.

ومن ذلك يظهر الإشكال في استفادة العموم من إطلاق بعض النصوص لو خلت عن القرائن وبلغت مرتبة الحجية، كحديث أبي بصير المتقدم.

علي أنه يكفي في الخروج عن الإطلاق - لو تم - صحيح محمد بن مسلم المتقدم، بناءً علي ما سبق من نهوضه بالاستدلال. ومثله صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 6.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 45 من أبواب لباس المصلي، وباب: 32 من أبواب مكان المصلي. وباب: 4 من أبواب أحكام المساكن.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن، وج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 135

أخذ الأجرة عليه. كما لا بأس بالتصوير الفتوغرافي (1) المتعارف في عصرنا.

---------------

"لا بأس بتماثيل الشجر"(1) ، ويؤيدهما أو يعضدهما حديثا أبي العباس المتقدمين، لقرب صدورهما لدفع توهم منافاة أمر سليمان (عليه السلام) بصنع التماثيل لتحريمه، فيدل علي عدم تحريم تماثيل الشجر وشبهه. بل هو الظاهر أيضاً من تقييد الصورة بالحيوان في معتبر محمد بن مروان المتقدم وغيره، فإن القيد وإن لم يكن له مفهوم وضعاً، إلا أنه كثيراً ما يكون ظاهراً فيه، والظاهر أن منه المقام. ومن هنا ينبغي التوقف في جواز تصوير غير الحيوان.

(1) كما يظهر من جماعة كثيرة في العصور المتأخرة ممن ظهر في عهدهم التصوير المذكور، لتعرضهم لأخذه، وشيوعه بين المتشرعة المعاصرين لهم من دون نكير منهم. ولا يتيسر لنا عاجلاً الإطلاع علي وجه ذلك عندهم.

نعم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن المستفاد من نصوص النهي عن التصوير والتمثيل هو النهي عن إيجاد الصورة من دون فرق بين أن تكون باليد أو بالطبع أو بالصياغة أو بالنسج، سواءً كان دفعياً، كما إذا كان بالطباعة أم تدريجياً. وذلك لا يتم في الصورة الفتوغرافية، لعدم كونه إيجاداً للصورة، وإنما هو أخذ للظل وإبقاء له بواسطة الدواء، نظير وضع شيء من الأدوية علي الجدران والأجسام الصقيلة ليثبت فيها الظل والصور المرتسمة، حيث لا مجال للبناء علي حرمته، والإحرم الوقوف أمام المرآة، إذ لا يفرق في حرمة التصوير بين طول مدة بقاء الصورة وقصرها.

لكنه يشكل بعدم الريب في صدق الصورة في المقام. ولا مجال لقياسها بالانعكاس في المرآة ونحوها، للفرق بينهما عرفاً، ولو لأجل الانطباع والثبات فيما نحن فيه وعدم الانطباع في المرآة، كما في الظل الذي لا ريب أيضاً في صدق الصورة فيه. وإن كانت ناقصة، لعدم وضوح معالم الأمر المصور.

ولذا لا يظن به ولا بغيره التشكيك في ترتب أحكام الصورة عليها غير حرمة الصنع، ككراهة وضعها في البيوت، واستقبالها حال الصلاة، والصلاة في الثوب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 136

المشتمل عليها، مع أنها لا تترتب علي الظل والانعكاس في المرآة ونحوهما.

ولعل الأولي في توجيه جواز ذلك أن الأدلة لم تتضمن تحريم إيجاد الصورة أو التمثال، وإنما هي بين ما تضمن النهي عن التصوير والتمثيل، كمعتبر محمد بن مروان ومرسل ابن أبي عمير، وما تضمن النهي عن الصورة والتمثال أو ثبوت البأس فيها، كمعتبر أبي بصير وصحيح محمد بن مسلم وغيرها.

والأول قاصر عن محل الكلام، لأن التصوير لا يصدق من الشخص بمجرد إيجاد الصورة، بل هو عملية فنية تبتني علي نقش الصورة وتنظيم أبعادها وهندستها، كما هو الحال في سائر عمليات النقش، فالنقاش ليس هو موجد النقش ولو من طريق تصويره أو طبعه، بل ناقشه. ونظيره في ذلك الكاتب، فإنه لا يصدق بمجرد إيجاده للكتابة، ولو بطريق الطبع والاستنساخ المعهود في زماننا أو غيرهما، بل لابد فيه من رسمه للحروف الكتابية بنحو تستند إليه أبعادها.

وأما الثاني فهو كما يمكن أن يحمل علي النهي عن مجرد إيجاد الصورة والتمثال يمكن أن يحمل علي النهي عن تصوير الصورة وتمثيل التمثال فيرجع للأول، والمتيقن الثاني، بل هو الظاهر، لأن النهي عن الأعيان إنما ينصرف إلي مجرد إيجادها - مع إمكانه

إذا أخذت بأسمائها الجامدة، أما إذا أخذت بعناوينها الاشتقاقية فالنهي ينصرف إلي ما يناسب عناوينها من الأفعال، كالتمثيل في المثال، والتصوير في الصورة، والكتابة في المكتوب.

وهو المناسب لما سبق من حديث المناهي من إطلاق النهي عن التصاوير وتعقيبه ببيان عقوبة التصوير، حيث يظهر أن المراد بالإطلاق المذكور هو النهي عن خصوص التصوير لا عن مطلق إيجاد الصورة.

وبذلك يظهر أن إطلاق التصوير والمصور في المقام مجازي تسامحي يبتني علي التوسع، إما في إطلاق التصوير علي إيجاد الصورة الذي هو أعم من المعني الحقيقي، وإما في إطلاقه علي حفظها بالتعرض لطبعها وتثبيتها، الذي هو مباين للمعني الحقيقي

ص: 137

ومثله تصوير بعض الصورة (1)، كالرأس والرجل ونحوهما مما لا يعد تصويراً للصورة الناقصة. أما إذا كان كذلك، مثل تصوير شخص مقطوع

---------------

وإن تشابها في الأثر.

كما ظهر قصور نصوص المقام عن تكثير الصور بالطبع أو الاستنساخ ونحوهما، وعن عرضها بالأجهزة التلفزيونية ونحوها، وعن صبّ التماثيل في القوالب، وعن جمعها وتركيبها بمثل جمع وتنظيم المكعبات التي تطبع فيها الصورة. بل يشكل حتي صدق إيجاد الصورة علي الأخير.

نعم قد يصدق التصوير علي صنع القالب والصفائح التي تطبع بها الصور. وإن كان التعميم لجميع أفراد ذلك موقوفاً علي الإطلاع علي كيفية صنعها. فلاحظ.

(1) لعدم صدق صورة الحيوان عليه التي هو موضوع النصوص. ويؤيده ما تضمنته بعض النصوص المتقدمة لها الإشارة من ارتفاع كراهة الصلاة في مكان فيه الصورة مع كسر الرأس أو تلطيخه.

ودعوي: أن تحريم التصوير بنحو الانحلال، وأن المحرم هو فعل كل جزء منها، نظير حرمة غصب مال المؤمن. ممنوعة جداً لمخالفتها للظاهر وخلوها عن الشاهد.

وأشكل منها دعوي: أن المحرم هو الأعم من الكل والجزء، بحيث لا يزيد الحرام بفعل الكل، فإنه يحتاج إلي عناية خاصة، بل لعله لا نظير له. ومنه يظهر حال ما عن المحقق الايرواني حيث قال: "إن من المحتمل قريباً حرمة كل جزء جزء، أو حرمة ما يعم الجزء والكل، فنقش كل جزء حرام مستقل إذا لم ينضم إليه نقش بقية الأجزاء، وإلا كان الكل مصداقاً واحداً للحرام".

نعم لا يبعد كون موضوع النهي هو قيام صرف الوجود بالصورة بنحو يعم الواحد والأكثر، فكما لا يجوز انفراد شخص واحد بالصورة لا يجوز اشتراك أكثر من

ص: 138

واحد فيها، سواءً كان اشتراكهم بنحو يمتزج ما يفعله كل منهم مع ما يفعله الآخر، كما لو صوّر أحدهم الهيكل، والآخر تقاطيع الجسد وألوانه، أم يتميز عنه، كما لو استقل كل منهم بعضو من الجسد، لإطلاق النصوص، ولاسيما ما أشتمل منها علي (من) الموصولة الصادقة علي الواحد والأكثر. فهو نظير حرمة قتل النفس.

ولعله إلي هذا يرجع ما عن المحقق الايرواني، حيث قال بعد ما سبق: "ويحتمل أن يكون كل فاعلاً للحرام، كما إذا اجتمع جماعة علي قتل واحد، فإن الهيئة تحصل بفعل الجميع، فلولا نقش السابق للأجزاء السابقة لم تتحصل الهيئة بفعل اللاحق".

ودعوي: أن مع الاشتراك بنحو يستقل كل منهم بجزء من الصورة، يكون التصوير مستنداً للأخير، لحصول الهيئة المحرمة به، ولا يكون من السابق إلا فعل مقدمة الحرام والإعانة عليه، وليس ذلك بمحرم علي عمومه، وإن حرم في خصوص بعض الموارد كالإعانة علي قتل المسلم، كما سبق في المسألة الثامنة.

مدفوعة بأن الذي يستند للأخير هو إكمال الصورة لا تمام الصورة، بل تستند الصورة بتمامها للجميع، ويكون المقام من صغريات التعاون علي الإثم، الذي سبق في المسألة الثامنة عموم حرمته.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنه مع صنع الأجزاء بنحو التفريق إنما يصدق التصوير علي جمع الأجزاء وتركيبها.

إذ فيه: أن جمع أجزاء الصورة ليس تصويراً، بل يشكل كونه إيجاداً للصورة، كما أشرنا إليه عند الكلام في حكم التصوير الفتوغرافي، وإنما يستند إيجاد الصورة للمجموع من فعل الأجزاء وتركيبها. وأما تصويرها فهو يستند لفعل الأجزاء لا غير، لكن بشرط تركيبها. فالتركيب خارج عن التصوير عرفاً شرط في صدق الصورة علي المجموع، مع كون التصوير بفعل الأجزاء لا غير.

ومن ثم قد يقال بحرمة تصوير الأجزاء مع العلم بحصول تركيبها ولو من غير الفاعل. وإن كان الأمر محتاجاً لمزيد من التأمل. لكن لا تأمل في عدم صدق

ص: 139

الرأس أو مقطوع الرجل ففيه إشكال (1). أما لو كان تصويراً له علي هيئة خاصة - مثل تصويره جالساً أو واضعاً يده إلي خلفه أو نحو ذلك مما يعدّ تصويراً تاماً - فالظاهر هو الحرمة (2) إذا كانت مجسمة (3). ويجوز علي كراهية اقتناء الصور (4).

---------------

التصوير بالتركيب.

وبما ذكرنا يظهر أن فعل بعض الأجزاء يحرم إذا استتبع إكمال الصورة ولو من الغير. غاية الأمر أنه مع العلم بذلك لا يعذر الفاعل للبعض، ومع الجهل به يكون معذوراً. كما أنه مع قصد الفاعل لذلك أو اعتقاده من دون أن يتحقق يكون متجرياً.

(1) مقتضي ما ذكره (قدس سره) في مبحث الصحيح والأعم من أن المسمي هو الأعم من التام والناقص البناء علي الحرمة في المقام، للإطلاق. لكن ذكرنا في محله عدم تمامية المبني المذكور.

نعم الظاهر عدم توقف صدق الحيوان بجنسه أو بأنواعه علي تمامية جسده، فكما يصدق علي تام البدن أنه حيوان، أو نوع خاص منه، يصدق علي ناقصة وعلي ما يزيد منه عن الوضع الطبيعي، كالإنسان ذي الست أصابع، ولا ينقص عنه ولا يزيد عليه بذلك. وحينئذٍ يتعين البناء علي الحرمة للإطلاق.

غاية الأمر أنه لا يبعد تقوّم الحيوان بالرأس والجسد معاً، بحيث يتوقف صدقه عليهما معاً، فمع الاقتصار علي الرأس أو الجسد لا يصدق تصوير الحيوان الناقص، بل يقصر الإطلاق وتتعين الحلية، بناءً علي ما سبق من جواز تصوير البعض. ومثله ما إذا كانت الصورة ناقصة عرفاً لا صورة لحيوان ناقص، كما هو محل الكلام. فلاحظ.

(2) لإطلاق الأدلة. ولاسيما وأن المتعارف - خصوصاً في الصور غير المجسمة

خفاء بعض أجزاء البدن.

(3) بل مطلقاً، كما يظهر مما سبق.

ص: 140

(4) فعن مجمع البرهان أن المستفاد من الأخبار الصحيحة وأقوال الأصحاب عدم حرمة بقاء الصور غير المجسمة مع تقريب حرمة بقاء الصور المجسمة. وفي الجواهر عدم العثور علي قائل بالحرمة في بقاء المجسمة غيره.

نعم قد يستفاد حرمة الإبقاء حتي في غير المجسمة مما في النهاية، حيث يقال في بيان المحرمات التي لا يجوز التكسب بها: "وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسمة والصور والشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار حتي لعب الصبيان بالجوز. فالتجارة فيها والتصرف والتكسب بها حرام محظور" .فإن عطف الصور علي التماثيل المجسمة موجب لظهورها في غير المجسمة، كما أن الحكم بحرمة التصرف فيها يناسب حرمة الإبقاء.

وكيف كان فقد يستفاد حرمة الإبقاء حتي في غير المجسمة: تارة: من إطلاقات النهي عن حرمة عمل التصاوير، بدعوي: أن المستفاد من تحريم عمل الشيء مبغوضية وجوده حدوثاً واستدامة.

وأخري: من مثل صحيح محمد بن مسلم المتقدم المتضمن النهي عن التماثيل بدعوي: أن مقتضي إطلاق النهي عن الشيء حرمة وجود المنهي عنه.

وثالثة: مما تضمن النهي عن اللعب بالتماثيل، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي (عليه السلام): "أنه سأل أباه عن التماثيل فقال: لا يصلح أن يلعب بها"(1) ، ونحوه خبره الآخر(2) ، ومرفوع المثني(3) ، ونحوه.

ورابعة: مما تضمن النهي عن تزويق البيوت وتصويرها، وجعل الصور فيها، كموثق أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أتاني جبريل قال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، وينهي عن تزويق البيوت. قال أبو بصير: فقلت: وما تزويق البيوت ؟ فقال تصاوير التماثيل"(4) ، وخبر جراح المدائني: عنه (عليه السلام): "قال:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 94 من أبواب ما يكتسب به حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8، 1، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8، 1، 9.

ص: 141

تبنوا علي القبور ولا تصوروا سقوف البيوت، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) كره ذلك"(1).

ومثله ما تضمن كراهة الصور في البيوت، كموثق يحيي بن أبي العلاء عنه (عليه السلام):" إنه كره الصور في البيوت"(2) ، وخبر حاتم بن إسماعيل عنه (عليه السلام) عن أبيه: "إن علياً كان يكره الصورة في البيوت"(3). ولاسيما بضميمة صحيح أبي بصير عنه (عليه السلام):" إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر، لأن تمر المدينة أدونهما. ولم يكن علي (عليه السلام) يكره الحلال"(4).

ومثله صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: لا بأس بأن تكون التماثيل في البيوت إذا غيرت رؤوسها منها وترك ما سوي ذلك"(5) ، لأن مقتضي مفهومه ثبوت البأس مع عدم التغيير.

وخامسة: من موثق السكوني المتقدم عند الكلام في عموم الصور لغير المجسمة، ونحوه خبر ابن القداح عنه (عليه السلام):" قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في هدم القبور وكسر الصور"(6).

لكن الجميع لا يخلو عن إشكال أو منع. لاندفاع الأول بمنع الاستفادة المذكورة، لإمكان خصوصية الإيجاد في المبغوضية، بلحاظ كونه تشبهاً بالخالق عز وجل، كما يناسبه ما سبق في النصوص من تكليف المصور بنفخ الروح فيما صوره، وما في مرسل القطب الراوندي: "ومن صور التصاوير فقد ضاد الله"(7). ولاسيما مع ما سبق من أن النهي ليس عن مطلق الإيجاد، بل عن خصوص التصوير والتمثيل.

ومثله الثاني، لأن المتيقن منه حرمة الإيجاد الذي يكون بالتصوير، لأنه هو فعل المكلف عرفاً، دون الإبقاء. ولاسيما بلحاظ ما تضمن النهي عن التمثيل والتصوير،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 8، 1، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 13، 14.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 13، 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب الربا حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 7.

(7) مستدرك الوسائل ج: 3 باب: 3 من أبواب أحكام المساكن حديث: 5.

ص: 142

حيث يصلح لبيان الإطلاق وشرح المراد منه.

كما يندفع الثالث بأنه لا ظهور لنفي الصلوح في النهي التحريمي. مع أن النهي عن اللعب بالصورة لا يستلزم حرمة اقتنائها وإبقائها. ولاسيما مع عدم معهودية اللعب بالصور إلا عند المقامرة، فلعله إشارة إلي النهي عن ذلك. كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

إلا أن يراد بها مثل عبث الأطفال بها، كما يأتي في صحيح علي بن جعفر، الظاهر في جواز العبث بها، فيكون شاهداً علي حمل هذه النصوص علي الكراهة.

ويندفع الرابع بأن موضوع النهي لما لم يكن هو إيجاد الصورة والتمثال بوجه مطلق، بل خصوصية زائدة علي ذلك، وهي كونها في البيوت أو نحوه، فهو لا يقتضي النهي عن أصل الوجود بنحو يقتضي عدم الإبقاء والاقتناء، نظير ما لو قيل: لا تبق كلباً أو كافراً في الدار، حيث لا يدل علي وجوب قتل الكلب أو الكافر. بل قد يشعر بعدم النهي عن أصل الوجود، وأن المنهي عنه هو الخصوصية المذكورة لا غير.

علي أن حديثي أبي بصير وجراح المداني المتضمنين للنهي عن التزويق والتصوير واردان في الإحداث لا في الإبقاء. وما تضمن كراهة الصور في البيوت مطلقاً، أو إذا لم تغير، لا ظهور له في التحريم، بل في الأعم منه ومن الكراهة. وما تضمن أن علياً (عليه السلام) لا يكره الحلال لابد إما من تنزيله علي كراهة خاصة مسوقة للتحريم، كما يناسبه مورده، ولا يعلم كون الكراهة هنا مثلها، أو علي الحلال بالمعني الأخص، وهو المقابل للأحكام الأربعة، وإلا فلا إشكال في كراهته (عليه السلام) للمكروه بالمعني الأخص.

وأما الخامس فهو قضيته في واقعة، والمتيقن كون الأمر المذكور خاصاً بأمير المؤمنين (عليه السلام) لا تشريعاً عاماً، فإنه (صلوات الله عليه) كان مبعوثاً من قبل النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وقائماً مقامه في تنفيذ ما يطلب في تلك الواقعة، ففعله (عليه السلام) كفعله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لا إطلاق له ولا ظهور له في الإلزام تشريعاً، كما يناسبه سياقه بهدم القبور وقتل الكلاب في الحديثين المتقدمين. ومجرد إلزامه (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بفعل تلك الأمور لا يدل

ص: 143

علي لزومه شرعاً بعنوانه الأولي، نظير ما لو ألزمه بالإنفاق علي جار له (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو عتق عبد من عبيده.

هذا مضافاً إلي النصوص الظاهرة أو الصريحة في جواز الإبقاء والاقتناء، كصحيح عبدالله بن المغيرة:" سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال قائل لأبي جعفر (عليه السلام): يجلس الرجل علي بساط فيه تماثيل ؟ فقال: الأعاجم تعظمه، وإنا لنمتهنه"(1) ، وموثق أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن الوسادة والبساط يكون فيه التماثيل. فقال: لا بأس به يكون في البيت. قلت التماثيل. فقال: كل شيء يوطأ فلا بأس به"(2).

وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال له رجل: أصلحك الله ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم ؟ فقال: هذا للنساء أو بيوت النساء"(3). فإنه حيث لا يحتمل الفرق في الحكم بين النساء والرجال يتعين حمله علي كراهة وجود التماثيل في البيوت، وأن النساء إنما يقمن بذلك لعدم تنزههن عن المكروه.

وصحيح محمد بن مسلم: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلي والتماثيل قدامي وأنا أنظر إليها؟ قال: لا. اطرح عليها ثوباً، ولا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك. وإن كانت في القبلة فألق عليها ثوباُ وصل"(4) ، ومرسل ابن أبي عمير عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن التماثيل تكون في البساط لها عينان [تقع عينك عليه] وأنت تصلي. فقال: إن كان لها عين واحدة فلا بأس، وإن كان لها عينان فلا"(5).

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهه يعبث به أهل البيت، هل تصح الصلاة فيه ؟ فقال: لا حتي يقطع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 1، 2، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 1، 2، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 4 من أبواب أحكام المساكن حديث: 1، 2، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 45 من أبواب لباس المصلي حديث: 7.

ص: 144

وبيعها (1) وإن كانت مجسمة وذوات أرواح.

(مسألة 17): الغناء حرام (2).

---------------

رأسه منه ويفسد، وإن كان قد صلي فليس عليه إعادة"(1). لظهوره في جواز وجود الصورة المذكورة في البيت وجواز العبث بها، وأن المحذور في الصلاة في البيت حينئذٍ. ومثلها النصوص الكثيرة الواردة في الدراهم التي فيها التماثيل(2)... إلي غير ذلك من النصوص الواردة في لباس المصلي ومكانه الظاهرة في المفروغية عن جواز اقتناء الصور وإن كان ذلك مكروهاً لنفسه أو من أجل الصلاة.

ومقتضي إطلاقها عدم الفرق بين المجسمة وغيرها. بل لعل صحيح علي بن جعفر ظاهر في المجسمة، لأن العبث إنما يكون بها. وكذا خبره المتقدم المتضمن كسر رؤوس التماثيل ونحوه غيره. ولا وجه مع ذلك لما سبق عن الأردبيلي. علي أنه خال عن الشاهد. فلاحظ.

(1) للأصل، وعمومات النفوذ. خلافاً لظاهر ما تقدم من النهاية ونحوه في المقنعة والمراسم وعن السرائر. ولا وجه له بعد ما سبق من جواز اقتنائها. نعم لا يصح البيع إذا ابتني علي الحث علي صنعها بالوجه الحرام، كما لو كان البيع بنحو بيع الكلي ولم يتيسر تحصيل المبيع إلا بالصنع، لأن حرمة الصنع تنافي نفوذ البيع، نظير ما تقدم في الإجارة علي عمل التصوير.

(2) بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، بل يمكن دعوي كونه ضرورياً في المذهب. كذا في الجواهر. ويقتضيه النصوص المستفيضة، بل المتواترة، كصحيح هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في قوله تعالي: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِن الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ) قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء"(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب مكان المصلي حديث: 12.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 45 من أبواب مكان المصلي.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 26.

ص: 145

وصحيح الريان بن الصلت:" قلت للرضا (عليه السلام): أن العباسي أخبرني انك رخصت في سماع الغناء. فقال: كذب الزنديق ما هكذا كان، إنما سألني عن سماع الغناء، فأعلمته أن رجلاً أتي أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، فسأله عن سماع الغناء، فقال: أخبرني إذا جمع الله تعالي بين الحق والباطل مع أيهما يكون الغناء؟ فقال: الرجل مع الباطل. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): حسبك، فقد حكمت علي نفسك. فهكذا كان قولي"(1).

فإن الباطل وإن أمكن أن ينطبق علي المكروه، بل كل ما لا فائدة فيه، إلا أن مقابلته هنا بالحق، وظهور حال السائل في طلب الرخصة ولو مع الكراهة، وشدة إنكار الإمام (عليه السلام) ترخيصه في السماع، يناسب إرادة الحرمة هنا جداً. فتأمل. علي إنه يكفي النصوص الأخر الكثيرة. بل تقدم في المسألة الثامنة والعشرين من مسائل التقليد أنه من الكبائر. فراجع.

وعن الكاشاني عدم حرمة الغناء في نفسه، بل بلحاظ ما يقارنه كثيراً من المحرمات، كضرب الأوتار، والزمر، ودخول الرجال علي النساء، وتكلمهن بالباطل، ونحو ذلك. وقد يظهر ذلك من محكي كلام الخراساني في الكفاية.

وقد يستدل لهما بما تضمن تطبيق قول الزور عليه، وما تضمن تطبيق الباطل عليه كالصحيحين المتقدمين، وغيرهما من النصوص الكثيرة. بدعوي: أن مقتضاهما أن منشأ الحرمة كون المضمون الذي يتغني به زوراً وباطلاً.

مضافاً إلي مرسل الصدوق: "سأل رجل علي بن الحسين (عليه السلام) عن شراء جارية لها صوت. فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة. يعني: بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء. فأما الغناء فمحظور"(2). بناءً علي أن التفسير عن الصدوق.

********

(1) قرب الإسناد ص: 148. وأشار إليه في الوسائل ج: 2 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 14.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 146

وخبر علي بن جعفر:" سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحي والفرح ؟ قال: لا بأس به ما لم يعص به"(1). وصحيح أبي بصير: "قال أبو عبدالله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال"(2) ، ومعتبره الآخر:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن كسب المغنيات. فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعي إلي الأعراس ليس به بأس"(3).

لكن تطبيق قول الزور عليه لا يقتضي تقييد النهي عنه بما إذا كان المضمون المتغني به زوراً، بل هو خلاف إطلاق التطبيق. ويتعين حمله علي كونه تطبيقاً تعبدياً أو تفسيراً بالباطن. علي أن الزور ليس هو الكذب لغة، بل هو الميل، وإنما أطلق علي الكذب لميله عن الحق، وحينئذٍ يمكن إطلاقه علي الغناء حتي لو كان المضمون المتغني به صادقاً بلحاظ كون الهيئة الغنائية اللهوية موجبة للميل بالكلام عن الحق للباطل والحرام.

وكذا الحال في تطبيق الباطل عليه، حيث لا قرينة علي كونها بلحاظ بطلان المضمون وكونه كذباً بنحو يرجع للتقييد بذلك، بل ظاهره صيرورة الكلام بسبب الهيئة الغنائية باطلاً مع قطع النظر عن مضمونه.

ويؤكد ذلك ما في موثق عبد الأعلي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الغناء، وقلت: أنهم يزعمون أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) رخص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيونا نحييكم. فقال: كذبوا. إن الله عز وجل يقول: (وَمَا خَلَقنَا السَّمَاءَ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لاَعِبِينَ * لَو أَرَدنَا أَن نَتَّخِذَ لَهوًا لاَتَّخَذنَاهُ مِن لَدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَي البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُم الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ)..."(4).

وأما مرسل الصدوق فمن القريب حمله علي بيان حسن صوتها، كما هو المفهوم منه عرفاً. وإرادة خصوص الغناء من الصوت إنما يشيع بين أهل الغناء، ولا قرينة علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.

ص: 147

جري المرسل عليه. علي أنه ضعيف في نفسه بالإرسال.

كما أن حديث علي بن جعفر وإن روي كما سبق بطريق لا يخلو عن ضعف، إلا أنه روي صحيحاً في كتاب علي بن جعفر هكذا:" ما لم يزمر به ".وهو حينئذٍ لا يخلو عن إجمال، فإن الزمر هو النفخ بالمزمار بنحو موسيقي يناسب الإيقاع الغنائي. ولو أريد ذلك لكان المناسب أن يقال: ما لم يزمر أو ما لم يزمر معه. أما الزمر به فلا يمكن أن يراد علي حقيقته، لوضوح أن المزمار لا يغني به، بل يزمر به مع الغناء. ومن ثم يكون مجملاً أو يحمل علي ترجيع الصوت بالغناء بوجه موسيقي بالنحو المشابه لترجيع النفخ بالمزمار، وهو أمر مقوم للغناء عرفاً، فلابد من حمل الغناء المسؤول عنه علي مطلق الإنشاد الذي يمكن أن يقع بالوجهين.

علي أن السؤال مشعر بالمفروغية عن حرمة الغناء في نفسه، وأن السؤال عنه لخصوصية كونه في العيدين والفرح. وحينئذٍ لا يبعد حمل الفرح علي خصوص الزفاف، حيث لا يبعد شيوع إطلاقه عليه عرفاً. وإلا فلا منشأ لتوهم خصوصية الفرح في التحليل، ولاسيما مع غلبة كون مورد الغناء عند أهله الفرح، فحمل تحريمه علي غيره بعيد عرفاً، فيبعد السؤال عنه. وغاية ما يدلّ عليه الحديث حينئذٍ استثناء العيدين والزفاف من الحرمة، وهو أمر آخر ليس محلاً للكلام.

وأما صحيح أبي بصير فهو وإن كان ظاهراً في أن منشأ حلّ أجر المغنية التي تزف العرائس عدم دخول الرجال عليها، حيث يظهر من ذلك أن الحرمة منوطة بدخول الرجال الذي هو أمر خارج عن الغناء، إلا أن من الظاهر أن الحرمة لأمر خارج لا تختص بدخول الرجال، بل يوجد غيره كثير من المحرمات الشايعة حال الغناء، كاستعمال الملاهي وكون الغناء بذيئاً أو مثيراً للشهوة بوجه محرم. كما أن المغنية التي تزف العرائس قد يدخل عليها الرجال. ومن ثم لا يخلو مضمونه عن غرابة. ومن القريب جداً اتحاده مع معتبر أبي بصير المتقدم، وليس الاختلاف بينهما إلا من جهة النقل بالمعني.

ص: 148

وحينئذٍ فمن الظاهر أن التفصيل في المعتبر المذكور بين التي تدعي للأعراس والتي يدخل عليها الرجال ليس مستوعباً، والتقابل بينهما ليس تاماً، لما ذكرنا من أن التي تدعي للأعراس قد يدخل عليها الرجال، ولأن المغنية قد تغني في غير الأعراس من دون أن يدخل عليها الرجال. ومن ثم لا مجال لأن يستفاد منه انحصار المحرم بمن يدخل عليها الرجال، إذ هو ليس بأولي منه أن يستفاد منها انحصار المحلل بالتي تدعي للأعراس.

علي أن هذه النصوص مهما بلغت من القوة لا تنهض برفع اليد عن النصوص الكثيرة الظاهرة في حرمة الغناء بعنوانه مع قطع النظر عما يقارنه من المحرمات، فإن حملها بأجمعها علي حرمته عرضاً بلحاظ ما يقارنه مما تأباه جداً. ولاسيما مع شيوع خلوّ الغناء عن المقارنات المذكورة. بل هو كالمقطوع به من موثق عبد الأعلي المتقدم، فإن السؤال فيه عن القول المذكور لا غير.

ومثله دعوي: أن المحرم وإن كان هو الغناء بعنوانه إلا أنه يختص بما إذا كان المضمون المتغني به باطلاً، لا من جهة حرمة إنشاد الشعر ذي المضمون الباطل، لعدم حرمته إذا لم يكن مبنياً علي تبني مضمونه، وإنما يحرم إذا كان بنحو الغناء، لخصوصية في الغناء.

لخلو الدعوي المذكورة عن الشاهد. أما النصوص الخاصة المتقدمة فظاهر، لعدم الإشارة فيها لذلك. وأما ما تضمن تطبيق قول الزور والباطل عليه، فلما سبق. مضافاً إلي موثق عبد الأعلي المتقدم، وخبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" أقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم..."(1). لظهوره - كغيره (2)- في حرمة التغني بالقرآن. فتأمل. بل نسبة اللحون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 24 من أبواب قراءة القرآن حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 27.

ص: 149

إذا وقع علي وجه اللهو والباطل (1)،

---------------

فيه لأهل الفسق والكبائر ظاهر في حرمة اللحن المذكور في نفسه مع قطع النظر عن مضمونه.

وكذا ما تضمن حرمة استماعه، لظهوره بل صراحة بعضه - كما يأتي - في حرمة الاستماع بنفسه وإن لم يقترن بالباطل، مع وضوح أن حرمة الاستماع اللهوي تستلزم حرمة الإنشاد اللهوي عرفاً. فلاحظ.

(1) أما بناءً علي اختصاص الغناء مفهوماً بذلك فظاهر. وأما بناءً علي عمومه لغيره فلقرب انصرافه له، لما هو المرتكز من مناسبة الغناء لذلك، وكونه المقصود منه نوعاً، وبه يكون منشأ للاستنكار عرفاً، حيث يقرب كون النهي جارياً علي مقتضي الارتكاز المذكور، كما تقدم عند الكلام في كون الغناء من الكبائر في المسألة الثامنة والعشرين من مسائل التقليد.

وقد قال سيدنا المصنف (قدس سره) هناك: "علي ما يتعارف عند أهل الفسوق" .وقد أشرنا هناك إلي أنه لا منشأ لاعتبار ذلك في موضوع الحرمة. ومن ثم لا يبعد عدم كون المراد بذلك التقييد، بحيث يكون اللحن الغنائي الذي لا يتعارف عند أهل الفسوق سائغاً، كما قد يتوهم، بل الإشارة للنوع الخاص، وهو ما يقصد به التلهي من الصوت المرجع به، بلحاظ أن ذلك هو الذي يتداوله أهل الفسوق.

وعلي ذلك فموضوع الحرمة مطلق الصوت المرجع به من أجل التلذذ اللهوي، بالخروج به عن مقام الجد والواقع الحاضر إلي نحو من العبث المبني علي التوجه لباطن النفس وتنبيه غرائزها وهزّ مشاعرها بالإيقاع الغنائي، إشباعاً لرغبتها الكامنة في المزيد من الابتهاج أو التفجع أو الفخر أو الغرام أو غير ذلك حسب اختلاف الأغراض. في مقابل ما إذا لم يكن الغرض اللهو والباطل، بل أمر آخر كالاتعاظ، والتحزن علي الحق - كما هو الحال في عزاء سيد الشهداء - أو الابتهاج بالحق - كما في مواليد المعصومين (عليهم السلام) - أو نحو ذلك. فلاحظ.

ص: 150

وكذا استماعه (1).

---------------

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه صريحاً صحيح مسعدة بن زياد فيمن أطال الجلوس لاستماع الغناء، حيث قال (عليه السلام): "قم فأغتسل وصلّ ما بدا لك، فانك كنت مقيماً علي أمر عظيم. ما كان أسوأ حالك لو متّ علي ذلك ؟! احمد الله، وسله التوبة من كل ما يكره"(1). ومعتبر عنبسة عنه (عليه السلام):" قال: استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع"(2). وما في خبري إبراهيم والطاطري(3) من أن الاستماع للجواري المغنيات نفاق. وفي خبر الحسن بن هارون: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: الغناء مجلس لا ينظر الله إلي أهله، وهو مما قال الله عز وجل: (وَمِن النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ)"(4). ومن الظاهر أن المجلس إنما يكون بالمستمعين.

مضافاً إلي قرب استفادته من إطلاق الأمر باجتناب الغناء، لأن الغناء لما كان مطلوباً للتلهي من المغني والسامع، فالأمر باجتنابه ينصرف للنهي عنه في حقهما معاً. ولاسيما ما تضمن منه تفسير قوله تعالي: (وَمِن النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ)(5) بالغناء(6) ، لوضوح أن صدق المشتري علي السامع أظهر من صدقه علي المغني. ومنه يظهر قرب كونه من الكبائر، كما تقدم في محله.

نعم لا يبعد اختصاص حرمة الاستماع بما إذا ابتني علي التلذذ اللهوي ومحاولة الانفعال به والتجاوب معه، دون ما إذا لم يكن كذلك، كالاستماع من أجل التعرف علي مادته والتبصر بها، أو الوقوف علي بعض الأمور المقارنة له من دون انفعال به، لانصراف عن النهي ذلك بسبب ابتناء الغناء المحرم علي ما إذا وقع علي نحو اللهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب الاغسال المسنونة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 101 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16.

(5) سورة لقمان آية: 6.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 151

والمراد منه ترجيع الصوت علي نحو خاص وإن لم يكن مطرباً (1). ولا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة ودعاء ورثاء وغيرها (2). ويستثني منه الحداء (3)،

---------------

والباطل. وقد تقدم هناك ما ينفع في المقام.

وأظهر من ذلك السماع العابر من دون استماع. لقصور الأدلة المتقدمة عنه رأساً.

ومنه يظهر أنه مع الاضطرار للسماع لا يجوز الاستماع بوجه لهوي، بل لابد من الاقتصار علي السماع أو الاستماع بوجه غير لهوي.

(1) تقدم تحديد الغناء عند الكلام في كونه من الكبائر، وقد تقدم آنفاً عند الكلام في اعتبار وقوعه علي وجه اللهو والباطل ما يتعلق بالمقام.

(2) للإطلاق. كما يظهر مما تقدم قريباً أنه لا مجال لتخصيصه بما إذا كان المضمون الذي يتغني به باطلاً.

(3) فقد صرح بجوازه في كتاب الشهادات من الشرايع والدروس ومحكي القواعد والكفاية ولا يظهر من الأولين كونه استثناء من حرمة الغناء، بل لا يبعد ابتناؤه علي التباين بينهما، كما يناسبه عدم استثنائه من إطلاق تحريم الغناء في مبحث المكاسب من الثلاث الأول. وهو غير بعيد في نفسه. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من الغناء، لإجماله من هذه الجهة، ومقتضي الأصل جوازه حينئذٍ.

هذا ولو فرض دخوله في الغناء كفي في جوازه موثق السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

زاد المسافر الحداء والشعر ما كان منه ليس فيه جفاء [خفاء]" (1) ، ونحوه معتبر الاشعثيات(2). وفي صحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):" قال: بينما الحسين (عليه السلام) يسير في جوف الليل وهو متوجه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 37 من أبواب آداب السفر للحج وغيره حديث: 1.

(2) كتاب الاشعثيات ص: 158.

ص: 152

وغناء النساء في الأعراس (1) إذا لم يضم إليه محرم آخر،

---------------

إلي العراق، وإذا برجل يرتجز وهو يقول:

وشمري قبل طلوع الفجر حتي تحلي بكريم القدرأبانه الله لخير أمر

يا ناقتي لا تذعري من زجر بخير ركبان وخير سفربماِجد الجَدّ رحيب الصدر

فقال الحسين (عليه السلام):

إذا ما نوي حقاً وجاهد مسلماً... "(1) سأمضي وما بالموت عار علي الفتي

فإنه وإن تضمن الارتجاز، إلا أن الأبيات تناسب الحداء وهو المصرح به في بعض كتب التاريخ. كما أنه ظاهر في كون الحادي من ركب الحسين (صلوات الله عليه) أو ممن يقصده، وفي تقريره (عليه السلام) له علي ذلك.

(1) كما في النافع والدروس. ويقتضيه ما في النهاية والقواعد وظاهر الكليني في الكافي وعن غيرها من إباحة الأجرة عليه، لما هو الظاهر من استلزام إباحة الأجرة إباحة العمل المستأجر عليه، واختاره في الجواهر، وقال:" بل نسبه بعض مشايخنا للشهرة".

والوجه فيه النصوص كحديثي أبي بصير المتقدمين. ومعتبره الثالث عنه (عليه السلام):" المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها"(2).

وعن السرائر والإيضاح التحريم، وهو ظاهر كل من أطلق حرمة الغناء ولم يستثن، كما في الشرايع وعن المقنعة والمراسم وغيرها. قال في مفتاح الكرامة: "قد نقول إن تحريم الغناء كتحريم الزني، أخباره متواترة، وأدلته متكاثرة عّبر عنه بقول الزور ولهو الحديث في القرآن، ونطقت الروايات بأنه الباعث علي الفجور والفسوق،

********

(1) كامل الزيارات ص: 95 باب: 29.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 15 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 153

فكان تحريمه عقلياً لا يقبل تقييداً ولا تخصيصاً، والأخبار الواردة في ذلك محمولة علي التقية" .وقد جري علي ما ذكره شيخه كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه للقواعد، بل يكاد لا يخرج عن ألفاظه.

لكنه كما تري، فإن العموم قابل للتخصيص. ومجرد كثرة نصوص العموم وقلة نصوص التخصيص لا يمنع منه بعد اعتبار سند المخصص، وظهور عدم إعراض الأصحاب عنه، بل عمل جماعة به. ومع ذلك لا وجه لحمل النصوص المذكورة علي التقية.

وأما التعبير عنه بقول الزور ولهو الحديث فهو لا يجعل تحريمه عقلياً غير قابل للتخصيص. ولاسيما بعد كون تفسير التعبير المذكور بالغناء تعبدياً مبتنياً علي التفسير بالباطن. كما أن ما تضمنته الروايات من أنه الباعث علي الفسوق والفجور لا يراد به ترتب ذلك عليه فعلاً، بل كونه معدّاً له، بحيث من شأنه أن يترتب عليه نوعاً، فلا ينافي تحليله بوجه خاص لا يوجبه في علم الشارع الأقدس دائماً أو نوعاً، أو مشتمل علي مزاحم يقتضي رفع اليد عن فعلية تحريمه.

ومثله الإشكال بأن النصوص إنما تضمنت حلية أجر المغنية حينئذٍ، وهي أعم من أجرها علي الغناء، بل لعله أجر لعمل آخر لها. ولو سلم أن المراد الأجر علي غنائها فحليته لا تستلزم حلية نفس الغناء. لاندفاعه بقوة ظهور النصوص في كون المراد أجر الغناء، بل هي كالصريحة في ذلك. ولاسيما مع اشتمال بعضها علي التفصيل بين دخول الرجال عليها وعدمه. كما أن وضوح التلازم بين حلية الأجر وحلية العمل المستأجر عليه توجب ظهورها، أو صراحته في حلية الغناء. ومن هنا لا مخرج عن القول بالحلية.

نعم لابد من الاقتصار علي غناء النساء للنساء، دون غنائهن للرجال، لاستفادته عرفاً من تحريم أجر المغنية التي يدخل عليها الرجال، كما تضمنته بعض النصوص المتقدمة. ودون غناء الرجال للرجال أو للنساء، للعمومات بعد قصور

ص: 154

من الضرب بالطبل (1)،

---------------

نصوص الترخيص عنه.

كما لابد من الاقتصار علي خصوص مجلس الزفاف وما يتعلق به، دون بقية ما يتعلق بالزواج من المجالس - مما تعارف في عصورنا - أو لم يتعلق به. لخروجه عن نصوص الاستثناء المتقدمة. والتعدي عنه بفهم عدم الخصوصية غير ظاهر الوجه بعد كون الاستثناء تعبدياً.

هذا وقد تقدم في حديثي علي بن جعفر الترخيص في الغناء في الفرح والعيدين. ولا يبعد حمل الفرح علي خصوص العرس، كما تقدم. وأما العيدان فلا يظهر القول باستثنائهما من إطلاق التحريم، ومن ثم يسقط الحديثان عن الحجية بالهجر.

(1) وغيره من الملاهي، كاستعمال المزامير وغيرها. فقد قيد بذلك في كلام غير واحد. نعم لم يذكره في النهاية والمنافع. ولعله لوضوح حرمته.

ثم إن المراد بالملاهي ما يحرم في نفسه منها، وقد أطلق غير واحد حرمتها. وتقتضيها جملة من النصوص، مثل ما في معتبر الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كتبه في بيان شرايع الدين عند التعرض للكبائر من قوله (عليه السلام): "والاشتغال بالملاهي"(1) ، وموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أنهاكم عن الزفن والمزمار وعن الكوبات والكبرات"(2) ، وغيرهما.

لكن استثني جماعة الختان والزفاف، فأجازوا فيهما الدفّ مطلقاً - كما في الشرايع وعن المبسوط والخلاف - أو إذا كان من غير صنج، كما في الدروس.

ومقتضاه جواز استعمال المغنية في الأعراس له. بل في مفتاح الكرامة: "فالدف الذي لا صنج فيه ولا جلاجل يجوز لعبها به عند جماعة".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد النفس حديث: 33.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 100 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 155

ويشهد لهم في الجملة حديث الاشعثيات عن أبي الحسن موسي (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): فرق ما بين السفاح والنكاح ضرب الدف" (1) والظاهر اعتبار سنده. علي ما يأتي في المسألة الأخيرة من المكاسب المحرمة إن شاء الله تعالي.

ودعوي: ظهوره في بيان حال ما عليه الناس في الخارج، لا بيان قضية شرعية، ليستفاد منه حلية ضرب الدف في النكاح. ممنوعة، بل الأصل في بيانات الشارع أنها واردة في مقام التشريع. مع أن ذلك لو تم فظاهره إمضاء السيرة المذكورة. ولاسيما مع نقل ذلك من قبل الأئمة (عليهم السلام) بعد ظهور تسامح المسلمين في استعمال الملاهي، فلو كان ذلك محرماً كان المناسب التنبيه علي ذلك دفعاً لما يوهمه الحديث الشريف.

ويؤيد ذلك ما روي من طرق العامة من قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "فصل ما بين الحرام والحلال بالضرب بالدف عند النكاح"(2) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):" أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال"(3).

ومثلها دعوي: أن كتاب الاشعثيات كما أشتمل علي الحديث المذكور أشتمل علي حديث آخر بنفس السند روي نظيره العامة أيضاً: "إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) مرّ علي قوم من الزنج وهم يضربون بطبول لهم ويغنون، فلما نظروا إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) سكنوا، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): خذوا بني ارفدة ما كنتم فيه، ليعلم اليهود أن ديننا في فسحة" (4) وحيث كان الحديث مخالفاً لما عليه الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) فتوي ورواية يتعين طرحه وطرح الحديث الأول لأنهما من سنخ واحد.

لاندفاعها بأن طرح الحديث المذكور لما ذكر لا يستلزم طرح الحديث المستدل به بعد عدم المعارض له من النصوص، وظهور فتوي جماعة من الأعيان بمضمونه.

********

(1) كتاب الاشعثيات ص: 158.

(2) سنن البيهقي ج: 7 ص: 289، 290.

(3) سنن البيهقي ج: 7 ص: 289، 290.

(4) كتاب الاشعثيات ص: 157.

ص: 156

والتكلم بالباطل (1)، ودخول الرجال علي النساء (2)، وسماع أصواتهن علي نحو يوجب تهيج الشهوة (3)، وإلا حرم ذلك (4).

---------------

نعم هو مختص بالزواج، ولا مجال للتعدي عنه للختان بعد كون مقتضي إطلاقات النهي عن استعمال الملاهي المنع عنه فيه.

كما لا يبعد الاقتصار علي ما خلا عن الصنج، والجلاجل، لأنه زيادة في الملاهي، خارجة عن الدف، ولا شاهد علي الترخيص فيها. غاية الأمر التعدي عن الدف لما يشبهه، كالطبل والصفيحة المعدنية ونحوهما.

(1) إن أريد بالباطل الكذب فالتكلم به إنما يحرم إذا ابتني علي تبني مضمونه، حيث يكون المتكلم به كاذباً حينئذٍ. أما إذا لم يتبن مضمونه - كما هو الحال في منشد الشعر، لحسن أسلوبه أو ابتكار معاينه أو نحوهما - فلا دليل علي حرمة إنشاده بعد أن لم يكن كاذباً به.

وإن أريد به الكلام الذي لا فائدة فيه فلا دليل علي حرمته. ومن هنا يتعين الاقتصار في تحريم الكلام علي ما إذا كانت المغنية كاذبة به، لكذبه في نفسه وتبنيها لمضمونه، أو يترتب عليه محذور شرعي كمدح أو ذم من يحرم مدحه أو ذمه، والتشجيع علي المعصية ونحو ذلك.

(2) دخول الرجال علي النساء ليس محرماً بنفسه، إلا أن يلزم منه الإطلاع علي ما يحرم نظرهم إليه منهن.

(3) إنما يحرم ذلك علي المرأة إذا ابتني الكلام منها علي إسماع الرجال بالنحو المذكور. أما إذا لم يكن كذلك، بل كان الرجل متعمداً للاستماع بالنحو الموجب لتهييج شهوته من دون أن تكون بصدد إسماعه فلا دليل علي حرمة الكلام عليها، بل تنحصر الحرمة بالرجل المستمع.

(4) فقد صرح بحرمته حينئذٍ مع الثلاثة الأول أكثر من تعرض لاستثناء غناء

ص: 157

(مسألة 18): معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كل محرم حرام (1).

---------------

المغنية في الأعراس، واقتصر في النهاية والمنافع علي الثاني والثالث. ومن الظاهر أن اقتران الحرام بالحلال لا يوجب حرمة الحلال، بل لكل حكمه.

اللهم إلا أن يقال: اللعب بالملاهي وإن كان أمراً مبايناً للغناء، إلا أنه لا يتحقق الغرض منه إلا مع التنسيق بينهما بحيث يكونان بإيقاع متجانس، فيكون الغناء بنفسه محققاً للغرض من اللعب بالملاهي، فيحرم لذلك.

كما أن التكلم بالباطل في فرض حرمته، يستلزم حرمة الغناء للاتحاد بينهما، لأن الغناء ليس هو الهيئة الخاصة، بل الكلام ذو الهيئة الخاصة. فالغناء حينئذٍ وإن لم يحرم بما أنه غناء، إلا أنه يحرم بما أنه تكلم بالباطل.

وأما دخول الرجال علي النساء فحديثا أبي بصير الأولان ظاهران في حرمة الغناء علي المغنية معه. بل لا يبعد التعدي منه لما إذا كان الغناء عالياً بحيث يسمعه الرجال خارج المجلس. فلاحظ.

(1) أما حرمة معونة الظالمين في الجملة فالظاهر عدم الإشكال فيها بين الأصحاب. والنصوص بها مستفيضة، كصحيح أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام): "قال: إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين"(1) ، وصحيح أبي بصير:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم فقال لي: يا أبا محمد لا ولا مدة قلم. إن أحدهم [أحدكم] لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله، أو حتي يصيبوا من دينه مثله. الوهم من ابن أبي عمير"(2) ، وصحيح يونس بن يعقوب: "قال: لي أبو عبدالله (عليه السلام): لا تعنهم علي بناء مسجد"(3) ، وموثق السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام):" قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): إذا كان يوم القيامة نادي مناد: أين الظلمة، وأعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدة قلم، فاحشروهم معهم"(4) ، ونحوه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 8، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 8، 11.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 8، 11.

ص: 158

ما عن نوادر الراوندي(1) وغيرها من النصوص الكثيرة. بل تقدم في المسألة الثامنة والعشرين من مباحث التقليد إنها من الكبائر.

هذا وقد يستدل علي ذلك بقوله تعالي: (وَلاَ تَركَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النَّارُ)(2) ، إما لأن الركون إليهم هو الدخول معهم في الظلم، أو لأنه هو الميل لهم، فتدل علي تحريم إعانتهم بالأولوية، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

لكنه يشكل بأن المعني الأول - مع كونه خلاف المتيقن أو الظاهر من الركون

إنما يقتضي حرمة المشاركة في الظلم، لا حرمة الإعانة عليه - بفعل المقدمات أو التمكين منها - التي هي محل الكلام.

وأما الثاني - فهو وإن كان قريباً في نفسه، ويناسبه ما في بعض النصوص من تطبيق الآية الشريفة علي من يحب بقاء الظالم (3)- إلا أن حرمته لا تقتضي حرمة الإعانة بتنقيح المناط، فضلاً عن الأولية، لأن الميل المذكور ينافي الإنكار القلبي الواجب بالإضافة للظلم بل لجميع المحرمات، بخلاف الإعانة، فإنها قد تكون لمجرد المنافع المادية من دون أن تنافي الإنكار القلبي المذكور. ولذا صرح (قدس سره) بعدم الدليل علي عموم حرمة الإعانة علي الحرام، مع أنه لا إشكال في حرمة الميل للعاصي. كما تقدم جواز مثل بيع العنب ممن يصنعه خمراً مع وضوح حرمة الميل لصانعه، بل يجب الإنكار القلبي لعمله.

ومثله الاستدلال لحرمتها بحكم العقل. إذ فيه: أن حكم العقل بقبحه بملاك قبح التعدي والظلم الذي هو علة تامة في القبح ممنوع جداً لاختصاص الظلم والتعدي بالمباشر دون المعين. وبملاك التنزه عن تمكين الظالم من الظلم وإن كان مسلماً في الجملة، إلا أنه ليس علة تامة في القبح، بل هو كالتنزه عن الإعانة علي الإثم

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(2) سورة هود آية: 113.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 44 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 159

قد يزاحم بما يمنع من الإلزام به، فلا طريق لإحراز حكم الشارع بالحرمة معه فالعمدة في حرمتها النصوص. فلاحظ.

هذا ومما سبق منّا في المسألة الثامنة يظهر عدم ثبوت عموم حرمة الإعانة علي الحرام، فضلاً عن حرمة إعانة فاعل الحرام ولو في غير الحرام، وأن الثابت إنما هو عموم حرمة التعاون علي الحرام الذي هو بمعني الاشتراك فيه. وعليه فالحرمة في المقام تبتني علي خصوصية في الظلم تقضي بحرمة الإعانة فيه.

وحينئذٍ يقع الكلام في وجهين:

الأول: في عموم حرمة المعونة لكل ظالم أو اختصاصها بخصوص سلاطين الجور وحكوماته. لا ريب في اختصاص كثير من النصوص بالثاني، كصحيح أبي بصير ويونس المتقدمين، لانصراف الضمير لخصوص الجماعة المعهودة ونحوهما غيرهما. وأظهر منهما ما صرح فيه بالسلطان بعنوانه العام، أو بذكر أشخاص أو جماعة خاصين.

بل لا يبعد انصراف الظلمة له في مثل موثق السكوني المتقدم كما يناسبه ذيله. بل قد يدعي ذلك في عنوان الظالمين في مثل صحيح أبي حمزة المتقدم. ولا أقل من كونه المتيقن منه، لقرب تحقق العهد الذهني لهم.

نعم ظاهر بعض النصوص العموم، كصحيح عبدالله بن سنان: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من أعان ظالماً علي مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتي ينزع من معونته"(1) ، ومعتبر طلحة ابن زيد عنه (عليه السلام):" قال: العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم"(2) ، ومرسل ورام بن أبي فراس: "قال (عليه السلام): من مشي إلي ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج عن الإسلام"(3) ، وغيرها.

بل قد يدعي استفادته مما تضمن حرمة إعانة السلطان بفهم عدم الخصوصية،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 80 من أبواب جهاد النفس حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 16.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 16.

ص: 160

لقضاء المناسبات الارتكازية بكون الحرمة بلحاظ الظلم والتعدي علي الناس، كما قد يشير إليه ذكره بعنوان كونه ظالماً. فتأمل جيداً.

الثاني: في تحديد الإعانة المحرمة. فقد أطلق في النهاية تحريم معونة الظالمين ونحوه في النافع. واقتصر علي الإعانة في الظلم في التذكرة والقواعد والدروس واللمعة ومحكي السرائر والتحرير وغيرها. وفي الجواهر أنه عنوان الأكثر. وربما يرجع إليه كلام من أطلق تحريم معونة الظالمين، لما يأتي من انصرافه للإعانة في ظلمه.

وفي المراسم تحريم الإعانة فيما هو منهي عنه شرعاً. وربما أرجع إليه ما في الشرايع من التعبير بالمعونة بما يحرم وقريب منه في المقنعة. لكن ظاهرهما التحريم فيما إذا كان الفعل الذي تتحقق به الإعانة محرماً، كإعانة الظالم علي المظلوم بضربه أو حبسه، لبيان عدم سقوط حرمة الحرام في حق أعوان الظلمة بأمر الظالم لهم به، دفعاً لتوهم تحمل الظالم التبعة بأمره بذلك وسقوط التبعة عن المباشر، لأنه تابع له غير مستقل في اتخاذ القرار، للتنبيه علي أنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق. ولا نظر فيه لما إذا كانت الإعانة علي الظلم أو الحرام بفعل غير محرم في نفسه، كإعطاء السوط للظالم ليضرب به ظلماً، فضلاً عما إذا كانت الإعانة في غير الظلم والحرام، وكان الفعل الذي تتحقق به الإعانة حلالاً في نفسه.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل فيما ذكره في المقنعة والشرايع من حرمة إعانتهم بالحرام، حيث لا موجب لاحتمال سقوط حرمته بوقوعه علي وجه الإعانة لهم وبتبع طلبه منهم. إلا أن يكون موجباً للاضطرار الرافع للتكليف، وهو خارج عن محل الكلام.

نعم لا مجال لحمل نصوص النهي عن إعانة الظالمين علي خصوص ذلك، لورودها في مقام النهي عن الإعانة والتنفير منها، لا مجرد بيان عدم كونها عذراً مبرراً لفعل ما هو الحرام في نفسه. حيث لابد مع ذلك من حمل النصوص علي حرمة العمل من حيثية كونه إعانة للظالم وإن لم يكن محرماً في نفسه لولا ذلك.

ص: 161

هذا ولا ينبغي التأمل في أن إضافة الإعانة أو الأعوان للظالم والظلمة في النصوص والفتوي تنصرف إلي إعانتهم في ظلمهم، دون غيره، كما هو الحال في سائر موارد أخذ عنوان خاص في المعان، فإن الإعانة معه تنصرف للإعانة في منشأ انتزاع ذلك العنوان، مثل من أعان مصلحاً، أو مفسداً، أو ساعياً بالخير، أو خياطاً، أو بنّاءً، أو قصاراً، أو حافر قبر إلي غير ذلك. إلا أن يكون منشأ انتزاع العنوان غير قابل لأن يكون مورداً للإعانة، كالأب والجار والصديق، حيث يتعين معه العموم.

ومن هنا لا مجال للتعدي لكل محرم، بناءً علي ما سبق من عدم ثبوت عموم حرمة الإعانة علي الحرام. وخصوصية الظالم في تحريم إعانته علي الحرام لا شاهد لها. نعم لو كان الفعل المعان به محرماً في نفسه مع قطع النظر عن كونه إعانة، فلا إشكال في حرمته كما سبق.

ثم إنه يظهر من غير واحد أن مقتضي ذلك جواز إعانة سلطان الجور فيما لا يكون ظالماً علي أحد، كشق الطرق في الأراضي المباحة، وتعبيدها، ونصب الجسور، وشق الأنهر، وإنشاء الأبنية التابعة للدولة، والمعامل وبناء المساجد وغيرها. إلا أن يعدّ الشخص من أعوانهم، علي ما يأتي الكلام فيه.

لكن ذلك إنما يتم إذا كان الأمر المعان فيه من شؤونه الشخصية التي لا دخل لها بدولته، كبناء داره ومداواة مرضاه وجلب الطعام لعياله. أما إذا كان الأمر المعان فيه من شؤون الدولة الجائرة، فالظاهر حرمته وإن لم يعدّ الفاعل من أعوانه المنسوبين لدولته، فإنه إعانة للظالم في ظلمه، لأن أقامة الدولة الحاكمة علي الناس ظلم لهم وللشارع الأقدس الذي هو أحق بالسلطان، ففعل ما يكون من شؤونها إعانة علي ذلك الظلم، وإن لم يكن فيه ظلم لشخص خاص.

ويناسب ذلك خبر علي بن أبي حمزة قال:" كان لي صديق من كتاب بني أمية، فقال لي: استأذن لي علي أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذنت له [عليه] فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من

ص: 162

دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا. ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم..."(1).

بل يشهد له جملة من النصوص:

منها: صحيح أبي بصير المتقدم، فإنه وإن تضمن السؤال عن أعمالهم، حيث قد يحمل علي العمل لهم بالدخول في حوزتهم والانتساب لهم، إلا أن الجواب صريح في العموم، كما يناسبه أيضاً عموم التعليل.

ومنها: موثق السكوني وما عن نوادر الراوندي المتقدمين، فإن عطف: "ومن لاق لهم..." إما لكون ما تضمنه من أفراد الأعوان الخفية، أو لكونه بحكمها.

ومنها: صحيح يونس بن يعقوب المتقدم. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن في بناء المسجد لهم نحواً من تعظيم شوكتهم، فيكون كمسجد الضرار، وتخرج الرواية عما نحن فيه. فيندفع بأن ظاهر مسجد الضرار الذي تضمنه قوله تعالي: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا...)(2) هو المسجد المتخذ للإضرار بالمؤمنين وتفريقهم. ولا يكفي فيه أن يكون موجباً لتعظيم شوكة السلطان الجائر.

علي أنه لو فرض عمومه له، أو مشاركته له حكماً، فمن الظاهر أنه ليس كل مسجد ينشؤونه يكون بناؤه تعظيماً لشوكتهم. غاية الأمر أنه من شؤون دولتهم وحكمهم الجائر، فإذا كان هذا كافياً في صدق الضرار جري في غير المسجد، لما هو المعلوم من أن حرمة الضرار لا تختص ببناء المسجد، بل لعل غيره أولي بها.

ومنها: معتبر بن أبي يعفور - بناءً علي اعتبار بشير في طريقه، لرواية ابن أبي عمير عنه -: "كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ دخل [فدخل] عليه رجل من أصحابنا، فقال له: جعلت فداك [أصلحك الله] إنه ربما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 47 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) سورة التوبة آية: 107.

ص: 163

فيدعي إلي البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك ؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): ما أحب أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً وأن لي ما بين لأبيتها. لا ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتي يحكم الله بين العباد"(1).

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن قوله (عليه السلام):" ما أحب "ظاهر في الكراهة. فيشكل بأن ذلك قد يتم مع الاقتصار علي قول:" ما أحب "،ولا مجال له بلحاظ التتمة التي ذكرها (عليه السلام) وهي قوله (عليه السلام):" وأن لي ما بين لأبيتها "،حيث لا يساق الكلام حينئذٍ لمجرد نفي الحب، بل لبيان أن نفي الحب لا يزول وإن كان في مقابله المغنم المذكور لقوة مرجوحيته، وحينئذٍ فهو يجتمع مع الحرمة، ويتعين حمله عليها بقرينة الإصرار علي المنع مع فرض السائل الضيق والشدة بقوله (عليه السلام):" لا ولا مدة بقلم "وتطبيق كبري:" إن أعوان الظلمة في سرادق من نار... ".وما ذكره (قدس سره) من أن ذكره الكبري المذكورة ليس من أجل التطبيق، بل للتنبيه للمحاذير المتوقعة من القرب من السلطان والتحذير منها، خلاف الظاهر جداً.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من ظهور السؤال في كون الضيق والشدة سبباً في التجاء الشخص للظالمين، بحيث يتدرج حتي يكون من أعوانهم المنسوبين لهم المحسوبين عليهم، ويكون رزقه عليهم، ولذا طبق عليه الإمام كبري الأعوان.

وكأنه لأن الأعوان جمع العون، وليس هو اسم فاعل من الإعانة، بل صفة مشبهة تتضمن الثبوت والاستمرار، وذلك لا يكون إلا بإعداد الشخص نفسه لذلك بانتسابه لهم.

لكنه يندفع بعدم مناسبته لتفريع الدعوة للعمل علي إصابة الضيق والشدة، فإنه كالصريح في كون العمل اتفاقياً من دون أن يبتني علي سبق صيرورة الشخص من أعوانهم المنسوبين لهم. ولاسيما مع قوله (عليه السلام):" ما أحب أني عقدت "إلي قوله:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 47 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 164

" ولا مدة بقلم ".وحينئذٍ يتعين كون تطبيق الكبري المذكورة بلحاظ عموم حكم الأعوان فيها لصورة العمل الاتفاقي ولو لعموم ملاكها له.

ومنها: حديث عذافر عن أبيه:" قال أبو عبدالله (عليه السلام): يا عذافر نبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) لما رأي ما أصابه: أي عذافر إنما خوفتك بما خوفي الله عز وجل به. قال محمد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتي مات"(1).

وليس في سنده إلا سهل بن زياد الذي هو معتبر الحديث علي التحقيق، كما ذكرناه في مبحث عدم مطهرية الماء المضاف من الحدث من مباحث المياه، وعذافر الذي لم ينص أحد علي توثيقه. لكن متن الحديث شاهد بصدقه فيه.

وأما دلالته فقد استشكل فيها شيخنا الأعظم (قدس سره) باحتمال أن يكون معاملة عذافر مع أبي أيوب والربيع علي وجه يكون معدوداً في أعوانهم وعمالهم، بل هو الذي قربه بعض مشايخنا (قدس سره)، لظهور قوله (عليه السلام): "نبئت أنك تعامل" في استمرار تعامله مع الرجلين، بحيث يعدّ من أعوانهم.

لكنه يشكل بأن كون الشخص من أعوانهم بالمعني المتقدم إنما يتم بتعيينه عندهم للعمل معهم، بحيث يكون من موظفيهم، ولا يظهر من الحديث ذلك، بل مجرد تكرر تعامله معهم، وهو لا يكفي في كونه من أعوانهم المنسوبين لهم. فلابد أن يكون تطبيق الأعوان عليه بلحاظ مجرد إعانته لهم وإن لم يكن منسوباً لهم، نظير ما سبق في حديث ابن أبي يعفور. وهناك بعض النصوص الأخر قد تصلح للتأييد وإن لم تنهض بالاستدلال لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما سبق به.

ولعله لذا حكي عن السيد الطباطبائي (قدس سره): أنه إن انعقد الإجماع علي التفصيل، وإلا فالمتجه التحريم مطلقاً، لاستفاضة النصوص في المنع عن إعانتهم في المباح بطريق الخصوص، مع اعتبار سندها موافقتها الاعتبار... إلي آخر ما ذكره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 42 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 165

لكن الإجماع لم يثبت بنحو معتد به في رفع اليد عن مفاد النصوص بعد اختلاف كلماتهم في تحديد الإعانة المحرمة وانصراف بعضها - كما سبق - إلي بيان عدم تسويغ أمر السلطان لارتكاب الحرام. وظهور حال مثل الكليني في عموم التحريم، تبعاً للأخبار التي يظهر منه التعويل عليها.

ومثله ما ذكره غير واحد من دعوي منافاة العموم للسيرة. لعدم وضوح ثبوت السيرة من المتدينين، بل من القريب ابتناؤها علي ضيق الحال، أو حبّ الجاه والمال، والتغافل عن تعاليم الأئمة (عليهم السلام). ولذا لم تنفع تعاليمهم وإنكارهم من دخول الشيعة في أعمال الظالمين. حتي مع القضاء، مع عدم الإشكال في حرمة ذلك، وقد ظهر من الأئمة (عليهم السلام) إنكار ذلك عليهم وأنه خروج عما ينبغي لهم وعما عليه سلفهم الصالح.

ففي صحيح الوليد بن صبيح: "دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) فاستقبلني زرارة خارجاً من عنده، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): يا وليد أما تعجب من زرارة ؟ سألني عن أعمال هؤلاء، أي شيء كان يريد؟ أيريد أن أقول له: لا، فيروي ذاك [ذلك] علي [عني]. ثم قال: يا وليد متي كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم، إنما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم ؟ ويشرب من شرابهم ؟ ويستظل بظلهم ؟، متي كانت الشيعة تسأل عن [مثل] هذا"(1).

وفي خبر يحيي بن إبراهيم بن مهاجر:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): فلان يقرئك السلام وفلان وفلان. قال (عليه السلام): وعليهم السلام. قلت: يسألونك الدعاء. قال: وما لهم ؟ قلت: حبسهم أبو جعفر. فقال: وما لهم وما له ؟ فقلت: استعملهم فحبسهم. فقال: وما لهم وما له ؟ ألم أنههم ؟ ألم أنههم ؟! ألم أنههم ؟! هم النار، هم النار، هم النار... "(2) ونحوهما غيرهما. ومع ذلك كيف يمكن التعويل علي السيرة في محل الكلام، فضلاً عن الخروج بها عن النصوص المتقدمة ؟!.

وأشكل من ذلك ما في بعض كلماتهم من مخالفة عموم التحريم لما ورد من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3.

ص: 166

أما معونتهم في غير المحرمات من المباحات والطاعات فلا بأس بها. إلا أن يعد ذلك من أعوانهم والمنسوبين إليهم، فتحرم (1).

---------------

الحث علي حسن معاشرة المخالفين. قال في مفتاح الكرامة:" وإلا لكان باعثاً علي أذيتنا. وكيف يتم ذلك مع حثّ أئمتنا لنا علي مجاملتهم، بل لم تقم لنا سوق، واشتد الأمر علينا ".وقريب منه في الجواهر.

إذ فيه: - مع أنه يجري في العمل لهم بنحو يكون من أتباعهم - أنه لا يوجب أذيتنا إذا لم يبتن علي الإعلان والمجاهرة والاستنكار. والحثّ علي المجاملة وحسن المعاشرة إنما ورد مع عامة المخالفين دون ولاة الأمور، بل قد ورد مستفيضاً الردع المؤكد عن مواصلتهم والقرب من أبوابهم. ومجرد عدم قيام سوق لنا لا دخل له بذلك. غاية الأمر أن يسوغ البيع لهم وغيره تقية لو اقتضي الأمر ذلك بسبب الاختلاط، وهو أمر آخر غير جواز إعانتهم اختياراً فيما لا يكون ظلماً.

بل لا يبعد جواز البيع لهم والشراء منهم، كما قد يستفاد ذلك مما ورد في جواز بيع السلاح من أعداء الدين(1) ، وشراء ما يأخذه السلطان باسم المقاسمة والخراج والزكاة(2) ، ويكون الكلام في الإعانة بغير ذلك من الأعمال ولو بأجرة، حيث لا موجب للخروج فيه عن مقتضي الإطلاق والنصوص المتقدمة بعد ما سبق.

(1) كما في الجواهر ومكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره)، وذكره غير واحد ممن تأخر عنهما. للنصوص المتضمنة للأعوان، بالتقريب المتقدم في أواخر الكلام في معتبر ابن أبي يعفور.

اللهم إلا أن يقال: حيث تقدم أن إضافة العون والإعانة والأعوان للظالم ينصرف إلي الإعانة له في ظلمه، فإن تم ما سبق منّا من أن الإعانة في شؤون الدولة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52، 53 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 167

الظالمة إعانة للظالم في ظلمه تعين البناء علي عموم حرمة الإعانة في شؤون الدولة للإعانة الاتفاقية من الشخص وإن لم يكن منسوباً لهم ولا محسوباً عليهم. وإن لم يتم لم ينهض دليل تحريم كون الشخص من الأعوان بعموم الحرمة لما إذا كان الأمر المعان فيه مباحاً في نفسه.

فالأولي الاستدلال له بما تضمن حرمة عملهم، كصحيح الوليد بن صبيح المتقدم، لأن المتيقن منه العمل لهم بنحو يكون منسوباً و تابعاً لهم، وكذا صحيح أبي بصير، وإن سبق أن الجواب فيه صريح في العموم للعمل الاتفاقي. وموثق حميد:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني وليت عملاً فهل لي من ذلك مخرج ؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه. قلت: فما تري ؟ قال: أري أن تتقي الله عز وجل ولا تعد [تعود] "(1) وغيرها.

وحمل العمل علي خصوص الولاية المتمحضة في السلطة والإدارة، دون العمل الخارجي، كالكتابة والتعليم والسياقة وغيرها. لا شاهد له، بل لا يبعد عموم الولاية لمطلق العمل. فتأمل.

مضافاً إلي بعض النصوص التي لا تخلو من ضعف، كخبر ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من سود اسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزيراً"(2) ، وغيره.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في الحرمة حينئذٍ وإن لم نقل بحرمة مطلق الإعانة. لكن المحرم حينئذٍ هو انتساب الشخص للسلطان وصيرورته من أعوانه، لا العمل المقارن له إذا لم يكن محرماً في نفسه.

بقي في المقام الكلام فيما يستثني من حرمة العمل. وهو أمور:

الأول: العمل مع السلطان لنفع المؤمنين وإقامة العدل، فعن فقه الراوندي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

ص: 168

الإجماع علي ذلك، ونفي في الجواهر الخلاف فيه إلا من السيد الطباطبائي وكاشف الغطاء (قدس سرهما). وقد يستدل عليه بوجوه:

أولها: ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن الولاية إن كانت محرمة بلحاظ ترتب المظالم عليها، فالمفروض عدم ترتبها في محل الكلام. وإن كان محرمة في نفسها فهي مزاحمة بما يترتب عليها في محل الكلام من القيام بالمصالح ودفع المفاسد، وحيث كان الظاهر أهمية ذلك تعين سقوط حرمة الولاية.

وفيه: أن ظاهر الأدلة المتقدمة حرمة الولاية في نفسها لا بلحاظ ترتب المظالم عليها فقط، وحينئذٍ لا تسقط بالمزاحمة إلا إذا كانت الجهة المزاحمة إلزامية، كحفظ النفوس ودفع المفاسد العظيمة، دون مطلق ترتب المصالح ودفع المفاسد مما قد لا يكون لازماً في نفسه، بل مستحباً، لوضوح أن الاستحباب لا ينهض بمزاحمة الحرمة، بحيث يسقطها.

ثانيها: قوله تعالي حكاية عن النبي يوسف (عليه السلام): (قَالَ اجعَلنِي عَلَي خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(1) ، بناءً علي استصحاب أحكام الشرايع السابقة.

وفيه: أن ذلك قضية في واقعة مجملة الوجه، إذ لعل ليوسف الولاية الشرعية، فهو يطالب بتمكينه من وظيفته وإن كان بصورة نصبه ولياً من قِبَل الجائر. علي أن جريان الاستصحاب المذكور لا يخلو عن إشكال أو منع علي ما ذكرناه في الأصول. ولو فرض جريانه في نفسه لم ينهض بالخروج عن إطلاقات النهي، حيث يتعين البناء معها علي ارتفاع حكم الشرايع السابقة المخالف لها.

ثالثها: النصوص: منها: ما عن مسائل الرجال عن أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) أن محمد بن علي بن عيسي كتب إليه يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكن من أموالهم هل فيه رخصة ؟ فكتب:" ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر، وما خلا ذلك فمكروه. ولا محالة قليله خير من كثيره. وما يكفر به م

********

(1) سورة يوسف آية: 55.

ص: 169

يلزمه فيه من يرزقه يسبب وعلي يديه ما يسرك فينا وفي موالينا. قال: فكتبت إليه في جواب ذلك أعلمه أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلي إدخال المكروه علي عدوه، وانبساط اليد في التشفي منهم بشيء وأتقرب به إليهم. فأجاب: من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً، بل أجراً وثواباً"(1). ودلالته تامة، إلا أن سنده لا يخلو عن غموض وجهالة.

ومنها: صحيح علي بن يقطين: "قال لي أبو الحسن موسي بن جعفر (عليه السلام): إن لله تبارك وتعالي مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه"(2). ودعوي: أنه غير وارد للحث علي الدخول معهم، ليتم له إطلاق في المدعي. وغاية ما فيه مدحهم بعد فرض دخولهم، وحينئذٍ قد يكون وارداً في فرض مشروعية دخولهم بإذن خاص من الإمام الذي هو ولي الأمر.

مدفوعة بأن ذلك قد يتم لو كان مشيراً إلي قضايا خاصة مع سلاطين خاصين، أما حيث كان ظاهراً في عموم الحكم المذكور لجميع السلاطين، وفي جميع الأزمنة، فاحتمال توقف مفاده علي فرض الإذن الخاص بعيد جداً.

ومثلها دعوي: أن كونه مع السلطان لا يتوقف علي كونه معيناً له أو من أتباعه المنسوبين له والداخلين في جهاز الحكم، بل قد يكون من ذوي النفوذ عنده بصداقة أو رشوة أو نحوهما.

إذ فيها: أن ظاهر إضافة المعية للسلطان ثبوتها له من حيثية السلطنة، لا لشخصه مع قطع النظر عنها، وذلك لا يكون إلا بدخوله في جهاز الحكم. نعم لا إطلاق للصحيح في المطلوب، بل هو دال علي الجواز في الجملة.

ومنها: صحيح زيد الشحام:" سمعت الصادق جعفر بن محمد يقول: من تولي أمراً من أمور الناس، فعدل وفتح بابه ورفع ستره، ونظر في أمور الناس، كان حقاً علي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9، 1.

ص: 170

الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة"(1).

ودعوي: أنه حيث لم يرد في مقام الحث علي الولاية، بل علي العدل فيها بعد فرض تحققها، فلا يدل علي جواز الولاية من قبَل الجائر، بل لابد في جواز الولاية له من دليل آخر. مدفوعة بأن ذلك لا يناسب زمن صدور الصحيح، حيث كان الأمر منحصراً بالولاية من قبَل الجائر. وحمله علي بيان قضية فرضية غير متحققة الموضوع لا يناسب وروده في مقام الحث علي العدل في الولاية.

ومنها: ما ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع. قال: "وحكي بعض أصحابنا عن ابن الوليد: قال: وفي رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لله تعالي بأبواب الظالمين مَن نوّر الله له البرهان، ومكن له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح أمور المسلمين. إليهم ملجأ المؤمن من الضر، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور في رغبتهم [رعيتهم] يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم القيامة تضيء منهم القيامة، خلقوا والله للجنة، وخلقت الجنة لهم، فهنيئاً لهم. ما علي أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله ؟ قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك ؟ قال: يكون معهم فيسرّ بإدخال السرور علي المؤمنين من شيعتنا. فكن منهم يا محمد"(2). ودلالته واضحة، إلا أن سنده موهون بالإرسال.

ومنها: نصوص أخر كثيرة تامة الدلالة مروية عن كتاب الروضة للشيخ المفيد والمجموع الرائق للسيد هبة الله(3) لا يبعد أخذهما لها من كتب معروفة معتمدة. ولا أقل من عضدها للنصوص المتقدمة، بنحو يستغني بذلك عن النظر في السند. فلتراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(2) رجال النجاشي ص: 255.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 171

وهناك نصوص أخر قد يستدل بها في المقام: منها: مرسل الصدوق:" وقال الصادق (عليه السلام): كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان"(1). وهو - مع إرساله - قاصر عن إثبات الجواز، لأن فرض الكفارة للعمل فرع حرمته في نفسه.

ومنها: خبر زياد بن أبي سلمة: "دخلت علي أبي الحسن موسي (عليه السلام) فقال لي: يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان ؟ قال: قلت: أجل. قال لي: ولِمَ؟ قلت: أنا رجل لي مروة وعلي عيال، وليس وراء ظهري شيء. فقال لي: يا زياد لئن اسقط من حالق فأنقطع قطعة أحب إلي من أن أتولي لهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه. يا زياد إن أهون ما يصنع الله عز وجل بمن تولي لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلي أن يفرغ الله من حساب الخلائق [الخلق]. يا زياد فإن وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلي إخوانك، فواحدة بواحدة. والله من وراء ذلك..."(2).

ولا خدش في سنده إلا جهالة زياد التي قد تهون، لبعد كذبه فيما حكاه عن الإمام (عليه السلام) من تقريعه. وأما دلالته فلا تخلو عن إشكال، إذ الاستدلال إن كان بلحاظ ذيله أشكل بظهوره في كون الإحسان للإخوان من سنخ الكفارة التي هي فرع حرمة العمل بذاته، كما هو المناسب لقوله:" إن أهون ما يصنع...".

وإن كان بلحاظ الاستثناء في صدره فلم يتضح كون المستثني منه الولاية لهم، بل لعله خصوص وطء بساطهم الذي هو كناية عن القرب منهم بصورة مؤقتة طارئة، كما يناسبه أن الاستثناء ظاهر في إرادة قضاء حوائج شخصية طارئة وذلك بشفاعة أو نحوها، لا التهيؤ والإعداد لقضاء الحوائج بنحو الاستمرار، الذي يكون مع تولي العمل من قبلهم.

نعم روي نظير الحديث المذكور في مستدرك الوسائل عن المجموع الرائق بحذف قوله:" أو أطأ بساط... "فيكون الاستثناء من العمل لا غير، ولا إشكال في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 46 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 46 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 9.

ص: 172

دلالته حينئذٍ علي المطلوب. إلا أنه لا ينهض بالاستدلال بعد اليقين باتحاد الحديثين وتعارضهما بثبوت الزيادة المذكورة، خصوصاً مع مناسبة الاستثناء لها.

ومنها: خبر علي بن يقطين: "أنه كتب إلي أبي الحسن موسي (عليه السلام): إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان - وكان وزيراً لهارون - فإن أذنت جعلني الله فداك هربت منه. فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم، واتق الله، أو كما قال"(1).

لكنه - مع الخدش في سنده - وارد في قصة خاصة، قد تكون مبنية علي إذن خاص من الإمام (عليه السلام) لعلي بن يقطين بالدخول في العمل، ولذا لم يأذن له في الخروج منه، مع أنه لم يقل أحد بوجوب العمل لهم في مورد الكلام وحرمة الخروج منه.

وبعبارة أخري: لا إشكال في جواز العمل لهم بإذن خاص من الأئمة (عليهم السلام) الذين لهم الولاية الحقيقية، كما لا إشكال في تولي بعض أعيان الشيعة لذلك، كسلمان الفارسي وعلي بن يقطين ومحمد بن إسماعيل بن بزيع وغيرهم، وإنما الكلام في جواز الولاية - شرعاً أو بترخيص الأئمة (عليهم السلام) - بنحو العموم لكل من يريد بولايته خدمة المؤمنين وإقامة العدل، والخبر لا ينهض بذلك.

وهناك نصوص أخر مذكورة في الوسائل ومستدركها وفي كتب أهل الاستدلال لا تنهض بالمطلوب، ولا مجال لإطالة الكلام فيها، بعد وفاء ما سبق بالمطلوب.

نعم ربما استشكل في ذلك بما في خبر الحسن بن الحسين الأنباري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام):" كتبت إليه أربع عشرة سنة أستأذنه في عمل السلطان. فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكر أني أخاف علي خيط عنقي... فكتب إليّ أبو الحسن (عليه السلام): فهمت كتابك [كتبك] وما ذكرت من الخوف علي نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليت عملت في عملك بما أمر به رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك، وإذا صار إليك شيء واسيت به فقراء المؤمنين حتي تكون واحداً منهم كان ذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 46 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16.

ص: 173

بذا، وإلا فلا"(1).

بتقريب: أنه لو كان قصد العدل وخدمة المؤمنين مسوغاً للولاية لكان المناسب أن يذكره الإمام (عليه السلام) من أول الأمر ولا يؤخره بعد أربع عشرة سنة من المكاتبة والإصرار، ليجعله شرطاً في جواز الولاية للضرورة والخوف من الخطر. وبالجملة: مقتضي الخبر عدم كون قصد العدل وخدمة المؤمنين مسوغاً مستقلاً للولاية، بل شرطاً منضماً لخوف الضرر والخطر المسوغ له.

لكنه يندفع: - مع ضعف الخبر في نفسه - بأنه لم يظهر من السائل التهيؤ للعدل الذي هو صعب في نفسه، لينبهه الإمام (عليه السلام) إلي مسوغيته من أول الأمر، بل ظاهر حاله إرادة الدخول في العمل علي الوضع المتعارف المشتمل علي الجور تبعاً لوضع الدولة العام، وإنما اشترط العدل بعد الإصرار الطويل، لأنه أمر لابد منه علي صعوبته، وهو لا ينافي الاكتفاء به في أول الأمر لو أقدم عليه طالب العمل. علي أن مضمون الخبر لا يخلو عن إشكال، لأن الخطر الذي تضمنه السؤال لا يناسب القيود المذكورة في الجواب. ولذا لا مجال للخروج به عن النصوص الكثيرة الصريحة في الجواز.

ومثله دعوي: أن الولاية من المحرمات الذاتية نظير الظلم، فلا مجال لتخصيص عموم حرمتها بطروء بعض العناوين الطارئة. فإنها ممنوعة جداً، لعدم كون الولاية بنفسها ظلماً، بل غاية الأمر أن فيها إعانة للظالم، ولا مانع من تسويغ ذلك بطروء بعض العناوين.

مضافاً إلي إن الظلم بمعني التصرف في مال الغير أو نفسه ليس علة تامة للقبح، بل هو مقتض له يمكن مزاحمته بطروء بعض العناوين، وبمعني العدوان يرتفع بترخيص الشارع الأقدس في التصرف، لأنه المالك المطلق.

ثم إن العدل في هذا الزمان قد يتيسر فيما لا يتعلق بالنفوس والأموال، كالتعليم والطب العلاجي. ويصعب تحققه في زماننا فيما يتعلق بالنفوس والأموال،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 48 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 174

لأن القوانين وضعية مضبوطة غير دينية، ولا منفرطة، أما في العصور السابقة، فربما يمكن العدل في حق الشيعة، حيث كانت صلاحيات الولاة والعمال واسعة يمكن لصاحبها الالتفاف علي القوانين العامة الظالمة، خصوصاً مع قلة الشيعة في المجتمع.

وأما العامة فحيث يرون شرعية الدولة ولزوم طاعة السلطان، فيجوز إجراء أحكامها عليهم إلزاماً لهم، كما يشير إلي ذلك ما عن المجموع الرائق عن صفوان بن مهران: "كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من الشيعة، فشكا إليه الحاجة، فقال: ما يمنعك من التعرض للسلطان فتدخل في بعض أعماله ؟ فقال: إنكم حرمتموه علينا. فقال: خبرني عن [حق] السلطان لنا أو لهم ؟ قال: بل لكم. قال: أهم الداخلون علينا أم نحن الداخلون عليهم ؟ قال: بل هم الداخلون عليكم ؟ قال: فإنما هم قوم اضطروكم فدخلتم في بعض حقكم. فقال: إن لهم سيرة وأحكاماً. فقال (عليه السلام): أليس قد أجري لهم الناس علي ذلك ؟ قال: بلي. قال: أجروهم عليهم في ديوانهم، وإياكم وظلم مؤمن"(1).

نعم يشكل الخبر - مضافاً إلي إرساله - بأنه غير ظاهر في جواز الدخول في عمل السلطان لخدمة المؤمنين، بل في جواز الدخول في عمل السلطان مطلقاً، بل الحث عليه، غايته أنه لا يجوز ظلم المؤمن، فينافي ما سبق من النصوص الكثيرة.

ومثله في ذلك خبر إسحاق بن عمار:" سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الدخول في عمل السلطان. فقال: هم الداخلون عليكم أم أنتم الداخلون عليهم ؟ قال: لا بل هم الداخلون علينا. قال: لا بأس بذلك(2). فلو تمّا لم يبعد حملهما علي إذن خاص للسائل. فلاحظ.

الثاني: من مستثنيات حرمة العمل للسلطان خوف الضرر، لإكراه السلطان علي ذلك أو لدفع شره أو نحو ذلك. لعموم دفع الاضطرار والإكراه والتقية ونحوهما.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 39 من أبواب ما يكتسب به حديث: 25.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 41 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 175

وربما استدل له أيضاً بما ورد في قبول الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد من المأمون، فإنه (عليه السلام) وإن كان صاحب المنصب الحق، إلا أن تعليله في غير واحد من النصوص بالإكراه ظاهر في مسوغية الإكراه لعمل السلطان.

ويعتضد ذلك بقوله (عليه السلام) في مكاتبة محمد بن علي بن عيسي المتقدمة: "ما كان الدخول فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر" ،وبموثق مسعدة بن صدقة: "سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم ويجبونهم ويوالوهم. قال: ليس هم من الشيعة، ولكنهم من أولئك، ثم قرأ أبو عبدالله (عليه السلام) هذه الآية: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرَائِيلَ... تَرَي كَثِيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا...). فنهي الله عز وجل أن يوالي المؤمن الكافر إلا عند التقية"(1). مضافاً إلي ما سبق في خبر الحسن بن الحسين الأنباري، وإن سبق الإشكال فيما تضمنه من الشرط. والأمر سهل بعد وفاء العمومات بذلك.

ثم إنه لا ريب في أن الاضطرار والإكراه والتقية كما تسوغ الولاية المحرمة في نفسها تسوغ في الجملة ما لا ينفك عنها من المحرمات، لأنها كالولاية مورد للإكراه والاضطرار والتقية.

كما لا ريب في أنها لا تسوغ إراقة الدماء المحترمة، لصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إنما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية"(2) ، ونحوه ما في موثق أبي حمزة(3). مضافاً إلي ما يأتي من قصور العمومات.

وإنما الإشكال في غير الدم من وجوه ظلم الناس فقد يدعي جوازه لوجهين:

أحدهما: العمومات المتقدمة. ودعوي: أن ورودها مورد الامتنان علي الأمة موجب لقصورها عن الترخيص في الإضرار بالغير. مدفوعة بأن ذلك إنما يمنع من الترخيص في الإضرار بالغير لدفع الضرر المتوجه للنفس، كما لو توجه السيل لدار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 45 من أبواب ما يكتسب به حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 31 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبها حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 31 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبها حديث: 1، 2.

ص: 176

المكلف وأمكنه دفعه بتوجيهه لدار جاره، أو أكرهه السلطان علي دفع مال وأمكنه دفعه ببذل مال غيره.

أما إذا كان الضرر متوجهاً للغير، لتحقق مقتضيه بالإضافة إليه، فلا يجب عليه تحمله دفعاً عن من توجه إليه، فلو توجه السيل علي دار جاره لم يجب عليه دفعه عنه بتوجيهه علي داره، ولو أكرهه السلطان علي دفع مال شخص لم يجب عليه دفعه عنه ببذل مال بدله. لعدم الدليل علي وجوب دفع الضرر عن الغير، فضلاً عن تحمله عنه. هذا حاصل ما يستفاد من شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام.

لكنه إنما يتم فيما إذا لم يتوقف تأثير المقتضي لوقوع الضرر علي الغير علي فعل المكلف، كما في مثال السيل، وكما لو أراد السلطان أخذ مال الغير بنفسه وكان المكلف قادراً علي دفع ذلك عنه ببذل بدله من ماله، حيث لا يستند الإضرار بالغير للمكلف حينئذٍ، فيتجه ما سبق من عدم وجوب دفع الضرر عن الغير.

أما إذا كان المقتضي قاصراً عن تأثير وقوع الضرر علي الغير إلا بضميمة فعل المكلف، كما في إكراه السلطان للمكلف علي جباية مال الغير - الذي هو محل الكلام

فلا مجال للبناء علي جوازه، لاستناد الإضرار بالغير للمكلَّف المكرَه، فيحرم، ولا يسوغه الإكراه، لقصور دليل رفعه عن ذلك، بسبب وروده مورد الامتنان.

وبعبارة أخري: عدم وجوب تحمل الضرر عن الغير وإن كان مسلماً، إلا أن تنفيذ أمر السلطان حينئذِ لا يتمحض في عدم تحمل ضرر الغير، بل يكون بمباشرة الإضرار به، وهو محرم في نفسه، ولا يسوغه الإكراه.

ودعوي: أن المباشر ضعيف لا ينسب إليه الفعل ليحرم عليه، بل ينسب للسبب، وهو السلطان. ممنوعة جداً بعد كون المباشر تام القدرة والاختيار.

نعم قد يقال: إن قرينة الامتنان إنما تقتضي قصور دليل رفع الإكراه والاضطرار عن مورد الإضرار بالغير فيما إذا كان عدم إعمال الدليل المذكور في حق المكره وامتناعه عن تنفيذ أمر السلطان مستلزماً لعدم وقوع الضرر علي الغير، كما إذا انحصر تنفيذ أمر

ص: 177

السلطان بالمكلف المكرَه.

بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كما لو كان السلطان مصرّاً علي إيقاع الضرر بالغير ولو من غير طريق المكرَه من أعوانه وكان ذلك متيسراً له، بحيث لا يجدي امتناع المكرَه في منع وقوع الضرر علي الغير، بل لا أثر لامتناعه إلا وقوع الضرر عليه أيضاً، لعصيانه للسلطان. فإن إعمال عموم دليل رفع الإكراه والاضطرار في حق المكرَه لدفع ضرر المكرِه عن نفسه لا ينافي الامتنان في حق المضرور بعد وقوع الضرر عليه علي كل حال.

غاية الأمر أنه يتعين البناء علي ضمانه للضرر المذكور مع مباشرته للإضرار به، لاستناده إليه وإن كان معذوراً بسبب الإكراه والاضطرار، لأن العذر لا ينافي الضمان، كما لو اضطر لسدّ رمقه بطعام الغير من غير إذنه. نعم لا مجال لذلك إذا بلغ الأمر الدم، لما سبق. فتأمل.

ثانيهما: ما سبق من تحديد التقية، بما إذا لم تبلغ الدم في صحيح محمد بن مسلم وموثق أبي حمزة، فإن إناطة حرمة التقية بما إذا بلغ الدم ظاهر في جوازها مع عدم بلوغه ولو لزم الإضرار بالغير بغير الدم، كالمال والعرض.

ودعوي: منافاة ذلك للامتنان في حق عموم الأمة. مدفوعة بأن تشريع ما ينافي الامتنان في حق عموم الأمة ليس محالاً إذا اقتضاه ظاهر الأدلة. غاية الأمر أن الدليل إذا كان وارداً مورد الامتنان ينصرف عما ينافي الامتنان، وذلك إنما يتجه في إطلاقات تشريع التقية ورفع الإضرار والإكراه ونحوها مما كان امتنانياً، دون دليل تحديد التقية، لعدم ورودها في مقام الامتنان، بل في مقام تحديد الموضوع بعد الفراغ عن تشريع حكمه، فيتعين العمل بظاهره.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من ظهور المضمون المذكور في عدم مشروعية التقية في كل مورد يلزم منها إتلاف ما شرعت لحفظه من دون خصوصية للدم. فهو مخالف للظاهر جداً، لأن للدم خصوصية ارتكازية في الأهمية، فلا مجال لإلغائه

ص: 178

والتعدي لكل ما شرعت التقية من أجله، كالعِرض والمال.

نعم في ظهور الشرطية هنا في المفهوم إشكال، لأنها مسبوقة بالتعليل بأن التقية إنما حصلت ليحقن بها الدم ومفرعة علي ذلك، وهو إنما يصلح تعليلاً للمنطوق وهو عدم مشروعية التقية عند بلوغ الأمر للدم، لا للمفهوم وهو عموم مشروعية التقية فيما عدا ذلك، وذلك مانع من ظهورها في المفهوم.

ولاسيما وأن التعليل لا يخلو عن إجمال، لما هو المعلوم من أن التقية لم تشرع لحفظ الدم فقط، بل لحفظ المال والعرض أيضاً، حيث لا يبعد من أجل ذلك سوقها لمجرد بيان عدم مشروعية التقية في الدم لأن حفظه من جملة أغراض تشريعها من دون نظر لغيره.

علي أن مفهومها لو تم ليس قضية كلية، بل مهملة في قوة الجزئية، لأن المفهوم لما كان نقيض المنطوق فالمنطوق في المقام سالبة كلية ونقيضها موجبة جزئية، فمفاد المفهوم في المقام ثبوت التقية في غير الدم في الجملة، ولو في خصوص ما إذا لم يلزم الإضرار بالغير، أو لزم ذلك لكن كان الملزم بالتقية الخوف علي النفس أو كان الضرر واقعاً علي الغير علي كل حال، بحيث لا يجدي امتناع المكلف في منعه.

ومن ثم لا مجال للتعويل علي هذا الوجه في البناء علي جواز الإضرار بالغير فيما إذا كان الامتناع عنه مستلزماً لعدم وقوعه، لعدم القدرة علي إيقاعه من غير طريق المكرَه. بل المتعين البناء علي حرمة ذلك بعد قصور إطلاقات رفع الإكراه والاضطرار والتقية عنه، كما سبق.

نعم إذا كان الضرر واقعاً علي الغير علي كل حال اتجه جواز القيام به في حق المكره إذا لم يبلغ الدم، لما سبق عند الكلام في الوجه الأول من الاستدلال.

الثالث: الحاجة المادية الملحّة. ففي موثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل. قال: لا، إلا أن لا يقدر علي شيء يأكل ولا يشرب، ولا يقدر علي حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلي

ص: 179

(مسألة 19): اللعب بآلات القمار - كالشطرنج والدوملة والطاولي وغيرها مما أعدّ لذلك - حرام (1)

---------------

أهل البيت"(1).

لكنه لا يناسب ما هو المعلوم من حثّ الشارع الأقدس علي حسن الظن بالله تعالي في أمر الرزق، فمن البعيد جداً تحليل الدخول في عمل السلطان مع عظيم حرمته من أجله.

كما لا يناسب ما تقدم في معتبر ابن أبي يعفور وخبر زياد بن أبي سلمة، وما عن كتاب الروضة للشيخ المفيد عن صفوان، قال: "دخل علي مولاي رجل، فقال (عليه السلام) له: أتتقلد لهم عملهم ؟ فقال: بلي مولاي. قال: ولِمَ ذلك ؟ قال: إني رجل عليّ عيلة وليس لي مال. فالتفت إلي أصحابه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلي رجل يقدر أنه إذا عصي الله رزقه وإذا أعطاه حرمه، فلينظر إلي هذا"(2).

ولعله لذا لا يظهر من الأصحاب التعويل علي الموثق، حيث لم يشيروا في فتاواهم لمضمونه هنا ولا في كتاب الخمس، وإنما احتمل الاستدلال به لوجوب الخمس في المال المختلط بالحرام. وهو تشبث خارج عن مفاده، لتكثير الأدلة في تلك المسألة.

ومن ثم يشكل التعويل علي الموثق في الخروج عن عموم حرمة العمل للسلطان. وربما يحمل علي إذن خاص منه (عليه السلام) لشخص خاص، من دون أن يكون ذلك مسوغاً عاماً مستثني من عموم الحرمة. وإن كان ذلك خلاف ظاهره. فلاحظ.

(1) إجماعاً ادعاه غير واحد، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. والنصوص مستفيضة به أو متواترة فيه".

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 48 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 180

مع الرهن (1). ويحرم أخذ الرهن أيضاً (2)، ولا يملكه الغالب (3)،

---------------

ويقتضيه - مضافاً إلي ذلك - قوله تعالي: (يَسأَلُونَكَ عَن الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا)(1) ، وقوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُم العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ الله وَعَن الصَّلاَةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهُونَ)(2).

والميسر القمار - كما في مجمع البيان وتفسير القرطين، ويستفاد من بعض كلمات اللغويين. ويقتضيه غير واحد من النصوص، ويأتي بعضها - أو قسم منه، كما يستفاد من بعض آخر من كلماتهم. وربما يكون في أصل اللغة خصوص قسم منه، ثم اتسع معناه بعد ذلك، أو استفيد من تحريمه إلغاء خصوصيته وحرمة كل قمار. والأمر سهل.

(1) وهو متيقن من الآية والنصوص والإجماع.

(2) لما يأتي من عدم ملكيته. بل لو أخذ بعنوان مع الالتفات لذلك الاستحقاق كان حراماً تشريعاً أيضاً.

(3) بلا إشكال ظاهر. ويستدل له بوجوه:

الأول: أن المنصرف من النهي عن القمار والميسر عدم ترتب الأثر عليهما، لأن النهي التكليفي عن المعاملة وإن لم يستلزم الفساد - كما حقق في الأصول - إلا أن الاهتمام بأثر المعاملة - ومنه استحقاق الرهن في المقام - يستلزم استفادة عدم ترتبه تبعاً، بحيث يحتاج ترتب الأثر مع النهي إلي الاستدراك والتنبيه. ويأتي في أول الكلام في المسألة السابعة والعشرين ما ينفع في المقام.

********

(1) سورة البقرة آية: 219.

(2) سورة المائدة آية: 90، 91.

ص: 181

ولا يبعد تحريم اللعب بها إذا لم يكن رهن (1)، أما اللعب بغيرها مع الرهن - كالمراهنة علي حمل الحجر الثقيل أو المصارعة أو علي الطفرة أو نحو ذلك

---------------

الثاني: أن أكل المال بسبب القمار من أكل المال بالباطل عرفاً. بل به فسر في بعض النصوص، كالصحيح عن زياد بن عيسي - الذي لا يبعد كونه أبا عبيدة الحذاء الثقة -:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله [قول الله] عز وجل: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ) فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك"(1). وعن نوادر أحمد بن محمد بن عيسي عن أبيه: "قال أبو عبدالله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ) قال: ذلك القمار"(2) ، ونحوهما مراسيل العياشي(3). ومن الظاهر أن مقتضي النهي عن أكل المال بالباطل عدم تملك المال به.

الثالث: ما تضمن عدم شرعية الرهن في غير السبق والرماية(4) فإنه ظاهر أو صريح في عدم تملك الرهن.

الرابع: بعض النصوص الخاصة، كصحيح إسحاق بن عمار:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون. قال: لا تأكل منه، فإنه حرام"(5) ، وموثق السكوني عنه (عليه السلام): قال: كان ينهي عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل. وقال: هو سحت "(6) وغيرها.

(1) بلا ريب، كما في جامع المقاصد ومفتاح الكرامة، وحكاه في الثاني عن كتاب الشهادات من القواعد، وبه صرح في الدروس في الشطرنج والنرد.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 14.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8، 9 وذيله.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.

(5) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 7، 6.

(6) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 7، 6.

ص: 182

ويقتضيه فيهما إطلاق النصوص الكثيرة الناهية عنهما وعن اللعب بهما. كصحيح زيد الشحام:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِن الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ). قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء"(1). وقريب منه مرسل ابن أبي عمير(2).

ومعتبر مسعدة عنه (عليه السلام): "سئل عن الشطرنج فقال: دعوا المجوسية لأهلها، لعنها الله"(3). والحسن عن أبي الربيع الشامي عنه (عليه السلام):" سئل عن الشطرنج والنرد فقال: لا تقربوهما..."(4). وموثق السكوني عنه (عليه السلام): "قال: نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن اللعب بالشطرنج والنرد"(5).

وما في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) قال: بيع الشطرنج حرام، وأكل ثمنه سحت، واتخاذها كفر، واللعب بها شرك، والسلام علي اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة، والخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير، لا صلاة له حتي يغسل يده كما يغسلها من لحم الخنزير، والناظر إليها كالناظر في فرج أمه، واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهي بها والسلام علي الملاهي بها في حالته تلك سواء. ومن جلس علي اللعب بها فقد تبوأ معقده من النار، وكان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة..." (6) وغيرها. فإن مقتضي إطلاق ذلك كله عموم الحرمة للعب بهما من دون رهن.

ودعوي: انصرافه للعب بها مع الرهن، للغلبة. ممنوعة، لمنع الغلبة بالنحو المانع من الإطلاق، خصوصاً بين المترفين، لشيوع كون غرضهم من اللعب بها التلهي والمغالبة، من دون أهمية للاكتساب والرهن، بل هو لو وقع أمر ثانوي، فلو كان هو المانع من جواز اللعب بها كان المناسب التنبيه علي ذلك، وعدم إطلاق النهي عنهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 3، 7، 10.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 9.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 183

وعن قربهما واللعب واللهو بهما. بل هو لا يناسب تعميم النهي لوجوه التقلب في حديث مستطرفات السرائر جداً.

ومن ثم لا ينبغي التأمل فيما سبق من الدروس من عموم النهي عن الشطرنج والنرد لصورة عدم الرهن.

ويجري ذلك في الأربعة عشر. لصحيح معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام): "قال: النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة. وكل ما قومر عليه فهو ميسر"(1). فإن مقتضي عموم التنزيل عموم الحرمة بضميمة ما سبق.

ودعوي: أن الذيل شاهد بأن التنزيل من حيثية حرمة الرهن، بناءً علي ما يأتي من أن القمار ظاهر في الرهن أو أنه المتيقن منه.

مدفوعة بعدم المنافاة بين تعميم الميسر لكل قمار وعموم الحرمة للعب من دون رهن الذي هو مقتضي إطلاق التنزيل، فلا ينهض التعميم المذكور بتقييد الإطلاق المزبور، ويتعين العمل عليه.

بل من القريب التعدي لكل أنواع القمار، لأنه الجهة العرفية الجامعة بين الأمور الثلاثة، المناسبة للحرمة ارتكازاً، والجمود علي خصوصية الأمور الثلاثة بعيد جداً. ويناسب ذلك ما في معتبر عبد المالك القمي قال:" كنت أنا وأخي إدريس عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال إدريس: جعلنا فداك ما الميسر؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): هي الشطرنج. قال: قلت: إنهم يقولون: إنها النرد. قال: والنرد أيضاً "(2) فإن مقتضاه أن الجواب الأول لم يكن للتطابق المفهومي بين الميسر والشطرنج، بل لأن الشطرنج من أفراد الميسر، مع كون حقيقة الميسر ومفهومه معني في الشطرنج والنرد معاً، والظاهر أن ذلك المعني هو اللعب القماري، لأنه هو الجامع العرفي بين الشطرنج والنرد.

بل حيث كان الميسر المعروف عند العرب حين نزول الآية لعبة قمارية خاصة مبانية للشطرنج والنرد معاً فمن المعلوم أن تفسيره في النصوص بهما أو بأحدهما ل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 104 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 104 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 5.

ص: 184

يبتني علي الردع عن المعني العرفي، إذ لا ريب في حرمة المعني العرفي المذكور، بل علي تعميمه لهما مفهوماً أو ملاكاً بلحاظ جهة جامعة تكون هي موضوعاً للنهي أو لملاكه، وليست تلك الجهة عرفاً وارتكازاً إلا القمارية. ومن ثم كانت هي المنسبقة من الأدلة المتضمنة للتفسير المذكور.

وحينئذٍ يستفاد من التفسير المذكور عموم تحريم اللعب بآلات القمار لصورة عدم الرهن بضميمة إطلاق التفسير في نصوصه وإطلاق النهي عن الميسر في الآية الشريفة، حيث لم يؤخذ في أحدهما خصوص صورة الرهن.

وقد يناسب ذلك تعليل النهي عن الميسر في الآية الشريفة بأنه من أدوات الشيطان لإيقاع العداوة والبغضاء وللصدّ عن ذكر الله تعالي وعن الصلاة، لوضوح أن الصدّ عنهما يكون بمجرد اللعب، كما أن العداوة والبغضاء يكونان بمجرد المغالبة. وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من اختصاصهما بصورة الرهن غير ظاهر.

ويؤيد ذلك ما في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالي: (إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)(1). قال (عليه السلام):" ...وأما الميسر فالنرد والشطرنج، وكل قمار ميسر. وأما الأنصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها المشركون. وأما الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركوا العرب في الجاهلية. كل هذا بيعه وشراه [وشراؤه] والانتفاع بشيء من هذا حرام من الله محرم، وهو رجس من عمل الشيطان..."(2).

فإن المراد بالقمار هنا آلاته، لأنها هي التي تقع موضوعاً للبيع والشراء، فإطلاق النهي عن الانتفاع به شامل للعب من غير رهن، كما لعله ظاهر، ولاسيما مع شيوع ذلك. كما أن تحريم بيعه شاهد بحرمة الانتفاع الظاهرة منه، وهو مطلق اللعب ولو من غير رهن.

********

(1) سورة المائدة آية: 90.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 102 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12.

ص: 185

فلا إشكال في حرمة أخذ الرهن (1). وفي حرمة نفس المراهنة والمغالبة

---------------

كما يؤيده أيضاً ما عن مجالس ابن الشيخ الطوسي بسنده عن علي (عليه السلام): "قال: كلما ألهي عن ذكر الله فهو من الميسر" (1) فإنه وإن لم يمكن الالتزام بالعموم المذكور، حيث يلزم لأجله الحمل علي التوسع في تطبيق الميسر لبيان الكراهة، أو علي الإلهاء بنحو خاص لا يكون إلا في المحرمات، إلا أنه ظاهر في أن ملاك النهي عن الميسر اللهو، وهو لا يتوقف علي الرهن.

هذا وقد يستدل بإطلاق النهي عن القمار في بعض النصوص، مثل صحيح معمر ابن خلاد المتقدم ومعتبر الوشا عن أبي الحسن (عليه السلام): "سمعته يقول: الميسر هو القمار"(2) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" قال: لا تصلح المقامرة ولا النهبة"(3) ، وغيرها.

بتقريب أن القمار هو اللعب بالآلات المعهودة ولو بدون رهن، قال في الجواهر: "عن ظاهر الصحاح والمصباح المنير، وكذلك التكملة والذيل: أنه قد يطلق علي اللعب بها مطلقاً مع الرهن ودونه".

لكن لم يتضح كون الإطلاق المذكور حقيقياً، بل المرتكز ابتناء المقامرة علي الرهن، كما تشير إليه جملة من عبارات اللغويين، ولذا يعد القمار من المكاسب المبنية علي المخاطرة، وذلك لا يكون إلا بلحاظ الرهن، كما أنه يعدي للمال بالباء، فيقال: قامر بماله، ولو كان متمحضاً في المغالبة باللعب لم يتجه ذلك، لخروج المال عنه، بل هو تابع للمراهنة التي قد تقارنه، فاللازم أن يقال مثلاُ: قامر مراهناً بماله. ومن ثم لا مجال للاستدلال المذكور. والعمدة ما سبق. فلاحظ.

(1) والظاهر الإجماع علي ذلك، كما يظهر بملاحظة كلماتهم، حيث لم يتعرضوا إلا للكلام في الحرمة التكليفية، مع ظهور المفروغية عن الفساد وعدم تملك الرهن،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 100 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3، 5.

ص: 186

إشكال (1). والأحوط الترك.

---------------

بل عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في مصابيحه التصريح بعدم الخلاف في الأمرين. ويقتضيه ما تضمن عدم شرعية الرهن في غير السبق والرماية من النصوص المعتبرة السند وغيرها(1) المعول عليها عند الأصحاب.

(1) فقد أصر علي الحرمة غير واحد منهم شيخنا الأعظم (قدس سره)، مدعياً ظهور كلمات الأصحاب فيها، بل عدم الخلاف فيها، كما تقدم من السيد الطباطبائي في مصابيحه، وأنكرها صاحب الجواهر (قدس سره).

أقول: لا إشكال في الحرمة التشريعية إذا جيء بالعمل من أجل تنفيذ المراهنة واستحقاق الرهن شرعاً، وفي تحقق التمرد إذا جيء به من أجل تنفيذها واستحقاق الرهن عرفاً لأخذه وإن لم يستحق شرعاً، لما فيه من الاستهوان بالحكم الشرعي. وإنما الإشكال في الحرمة الذاتية نظير حرمة القمار، وقد يستدل عليها ببعض النصوص.

منها: ما تضمن الردع عن الرهان، كخبر العلاء بن سيابة عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سمعته يقول: لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، ولا بأس بشهادة المراهن عليه، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد أجري الخيل وسابق، وكان يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش، وما سوي ذلك فهو قمار حرام"(2) ، ومرسل الصدوق:" قال الصادق (عليه السلام): إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل"(3) ، وخبر زيد النرسي: "سمعته يقول: إياكم ومجالسة اللعان. فأن الملائكة لتنفر عند اللعان، وكذلك تنفر عند الرهان، وإياكم والرهان، إلا رهان الخف والحافر والريش، فإنه تحضره الملائكة"(4).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2، 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2، 3 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 2 من أبواب كتاب السبق والرماية حديث: 6.

(4) بحار الأنوار ج: 103 ص: 192.

ص: 187

ومنها: ما تضمن تطبيق القمار أو الميسر عليه، كقوله (عليه السلام) في صحيح معمر بن خلاد المتقدم:" وكل ما قومر عليه فهو ميسر"(1) ، ومرسل ياسر عن الرضا (عليه السلام): "سألته عن الميسر. قال: التفل من كل شيء. قال: الخبز والتفل [الثقل] ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم وغيره"(2) ، وخبر جابر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال:... قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: كلما تقومر به حتي الكعاب والجوز..."(3). فإنه حيث تقدم أن القمار والميسر، محرمان تكليفاً ولو من دون رهن فمقتضي تطبيقهما في المقام ثبوت الحرمة التكليفية.

لكن حيث عرفت ثبوت الحرمة التشريعية فمن الصعب إحراز أن مراد الأصحاب في المقام هو الحرمة الذاتية، لعدم وضوح اهتمامهم ببيان الفارق بينهما. ولا أقل من عدم بلوغ ذلك حداً ينهض بالاستدلال.

وأما النصوص فالطائفة الأولي قد تضمنت الردع عن الرهان، لا عن العمل المترتب عليه الذي هو محل الكلام، ولعل الردع عن الرهان بلحاظ عدم مشروعيته في نفسه فالالتزام به تشريع محرم.

نعم قد يظهر من مساق بعضها النظر لنفس العمل، إلا أن مبغوضيته قد تكون بلحاظ كونه جرياً علي مقتضي الرهان من أجل استحقاق الرهن وأخذه، الذي عرفت عدم الإشكال في حرمته تشريعاً، أو كونه استهواناً بالحكم الشرعي.

وأما الطائفة الثانية فالصحيح والمرسل قد تضمنا تطبيق الميسر علي المال الذي يراهن عليه، ومرجع حرمته إلي ما هو المعلوم من عدم نفوذ الرهن، وهو خارج عن محل الكلام من حرمة نفس العمل. علي أن الصحيح قد فرض فيه القمار، وهو أخص من الرهن، كما يأتي إن شاء الله تعالي.

وأما خبر جابر فهو - مع ضعفه - قد تضمن تطبيق الميسر علي آلات القمار، ل

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 104 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 35 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 4.

ص: 188

علي كل عمل يراهن عليه الذي هو محل الكلام. غاية الأمر أنه تضمن عموم القمار للكعاب والجوز، وهو أمر آخر يظهر حاله مما يأتي في تحديد القمار.

هذا وقد يدعي أن ما سبق من حرمة اللعبة القمارية تكليفاً يقتضي الحرمة في المقام، لأن القمار هو الرهن، ففي لسان العرب: "قامر الرجلَ مقامرة وقماراً راهنه وهو التقامر" ،وفي القاموس: "قامره مقامرة وقماراً فقمره - كنصره - وتقمره: راهنه فغلبه، وهو التقامر" .وعن أقرب الموارد: "قمر الرجل قمراً راهنه ولعب القمار" .ويناسبه ما سبق في خبر العلاء بن سيابة ومرسل ياسر الخادم. ومن ثم جزم بعض مشايخنا (قدس سره) بذلك.

لكن في كفاية هذا في إثبات أن كل مراهنة قمار إشكال، بل منع، لما هو المعلوم من تسامح اللغويين في التعريف، وشيوع التعاريف اللفظية في كلماتهم. ولاسيما مع ما ذكروه من مناسبة القمار للخداع، أو أخذه منه.

ففي لسان العرب: "تقمر الأسد خرج يطلب الصيد في القمراء... قمروا الطير عشوها في الليل بالنار ليصيدوها... وكأن القمار مأخوذ من الخداع" وفي أساس البلاغة: "تقمره خدعه. ومنه القمار، لأنه خداع. تقول: قامرته فقمرته أقمره... غلبته".

حيث لا يناسب ذلك مطابقته للمراهنة، كيف ؟! والمراهنة من الرهن بمعني الحبس، ومنه رهن الدين. وقوله تعالي: (كُلُّ امرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(1) ، وقوله تعالي: (كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ)(2) وقولهم: المرء مرهون بعمله. حيث يتعين مع ذلك مباينة المراهنة مفهوماً للقمار، وإن كانت من شؤونه في الجملة.

وأما ما سبق في خبر العلاء فلابد من حمله علي المجاز تنزيلاً لمشاركته له في الحكم. والإلزام كون السبق والرماية من أفراد القمار الحقيقية، ولا يظن منهم

********

(1) سورة الطور آية: 21.

(2) سورة المدثر آية: 38.

ص: 189

البناء علي ذلك. وكذا مرسل ياسر الخادم، حيث لم يعهد تفسير الميسر بالمال الذي يراهن عليه.

ولعله لذا قال في مجمع البحرين: "وتقامروا: لعبوا بالقمار. واللعب بالآلات المعدة له علي اختلاف أنواعها، نحو الشطرنج والنرد وغير ذلك. وأصل القمار الرهن علي اللعب بالشيء من هذه الأشياء. وربما أطلق علي اللعب بالخاتم والجوز" .حيث يظهر من ذلك اختصاصه بنوع خاص من الرهن، وهو الرهن علي اللعب بآلات خاصة، وإن إطلاقه علي اللعب بالخاتم والجوز غير شايع، وقريب من ذلك في المسالك.

نعم لا يخلو في نفسه عن إشكال يأتي الكلام فيه عند تعرض سيدنا المصنف (قدس سره) لتحديد القمار. ومن ثم لا مجال للاستدلال علي الحرمة بهذا الوجه. فلاحظ.

هذا وفي صحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: قضي أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أكل وأصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، وإن لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا، فقضي فيه أن ذلك باطل، لا شيء في المؤاكلة من الطعام ما قل منه وما كثر، ومنع غرامته فيه"(1). وقد يستدل به علي الجواز في المقام بدعوي: أن اقتصار الإمام (عليه السلام) علي بيان فساد المعاملة وبطلانها وعدم ردعه عن فعلهم ظاهر في عدم حرمته.

لكن في كفاية ذلك في استفادة الحل إشكال، إذ لعل عدم الردع لتمحض موقف الإمام (عليه السلام) في القضاء وبيان الحقوق من دون نظر لبقية الجهات. وهناك جهات من الكلام في الصحيح يضيق المقام عن إطالة الكلام فيها.

هذا وقد رتب في الجواهر علي إباحة المراهنة تكليفاً جواز أخذ الرهان بعنوان الوفاء بالوعد الذي هو نذر لا كفارة له، ومع طيب النفس من الباذل، لا بعنوان

-

********

(1) الكافي ج: 7 ص: 428 باب النوادر من كتاب القضاء والأحكام حديث: 11. والتهذيب باب من الزيادات في القضايا والأحكام ج: 6 ص: 290 حديث: 10.

ص: 190

وأما إذا لم يكن رهن فالأظهر الجواز (1). والأحوط الترك.

---------------

الاستحقاق بسبب الرهان المفروض فساده. أما لو كانت المراهنة محرمة تكليفاً فقد يشكل أخذ المال حتي بالعنوان المذكور، بناءً علي حرمة كل ما ترتب علي المحرم ولو كان جزاءً أو وعداً أو نحوهما.

لكن لم يتضح الوجه في حرمة أخذ المال مع الحرمة لا بعنوان الاستحقاق، بل وفاء بالوعد غير اللازم أو جزاء عليه.

(1) ففي القواعد بعد أن منع من الرهان في غير ما هو عدة للقتال قال:" وفي تحريم هذه مع الخلو عن العوض نظر ".ومال إلي الجواز في جامع المقاصد والمسالك، وصرح به غير واحد ممن تأخر عنهما. وعن جماعة المنع، وفي الرياض أنه الأشهر، وفي جامع المقاصد أنه ظاهر المذهب، بل ظاهر غير موضع من التذكرة الإجماع عليه.

وقد بناه في المسالك علي أن قولهم (عليهم السلام) في مثل صحيح حفص:" لا سبق إلا في الخف... "(1) إن كان بفتح الباء كان دالاً علي عدم مشروعية الرهان في غير الأمور المذكورة، لأن السَبقَ بالفتح هو ما تراهن عليه المتسابقون، ولا نظر للحديث حينئذٍ للاستباق من دون رهان. وإن كان بسكون الباء كان دالاً علي حرمة المسابقة ولو من دون رهان، لأن نفي المصدر مع تعذر حمله علي الحقيقة ظاهر في تحريمه. وقد ذكر أن الفتح هو الأشهر. ومن ثم مال لإباحة الاستباق من دون رهان، عملاً بالأصل. وعلي ذلك جري بعض من تأخر عنه.

لكن من الظاهر أن السبق بالسكون مصدر (سَبَق) لا مصدر (سابق)، وحيث لا إشكال في إباحة نفس السبق، فلا تتوجه نسخة السكون إلا بأن يراد بها الردع عن جعله موضوعاً للمغالبة، فتنفع في المطلوب. إلا أنه ليس بأولي من أن يراد بها الردع عن جعله موضوعاً للرهن، فتدل علي عدم مشروعية الرهن، كنسخة الفتح، من دون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 191

نظر للاستباق من دون رهان.

مضافاً إلي أن حمل الحديث علي النهي عن المسابقة ولو من غير رهان لا يناسب مفروغية الأصحاب عن ظهوره في مشروعية الرهان في المستثنيات، لظهور أن النهي عن المسابقة ولو من غير رهان إنما يدل علي جواز المسابقة في المستثنيات في الجملة، لا علي مشروعية الرهان فيها، فمفروغيتهم المذكورة تشهد بكون موضوعه الرهان، لا أصل الاستباق، ومن ثم لا ينهض بتحريم الاستباق من دون رهان في غير المستثنيات.

هذا وقد أستدل في الرياض علي حرمة المغالبة من غير عوض بوجوه:

الأول: الإجماع المشار إليه آنفاً. وفيه: أنه لا مجال للتعويل عليه في المقام، بل لا مجال لدعواه بعد عدم تعرض غير واحد للمسألة، وبعد إشعار تقييد الشيخ في الخلاف موضوع النهي بالرهان بجواز المسابقة من غير رهن. ولاسيما مع عدم تعويل مدعيه - وهو العلامة (قدس سره) - عليه، حيث تنظر في التحريم في القواعد، كما سبق. ولاسيما مع احتمال ابتناء كلامهم علي استفادة الحكم من الرواية المتقدمة للبناء علي نسخة السكون التي عرفت حالها.

الثاني: ما دل علي حرمة اللهو واللعب. ويندفع: أولاً: بأنه لا أثر للمغالبة في اللهو واللعب وجوداً ولا عدماً، بل إن كان الأمر الذي يكون موضوعاً لها لهواً أو لعباً، لعدم كونه مورداً بنفسه لغرض عقلائي، صدقا عليه ولو من دون مغالبة، وإن لم يكن لهواً ولا لعباً، لكونه مورداً لغرض عقلائي - كالرياضيات الفكرية والبدنية والنفسية - لم يصدقا عليه ولو مع المغالبة. وعلي كلا الحالين لا أثر للمغالبة والتسابق فيهما.

وثانياً: بأنه لم يثبت عموم حرمة اللهو واللعب، وقد ساق شيخنا الأعظم (قدس سره) في المسألة العشرين مما يحرم التكسب به وجوهاً للاستدلال علي العموم المذكور لا مجال لإطالة الكلام فيها، لوهنها. ولاسيما بلحاظ السيرة والشهرة بما لا يناسب العموم

ص: 192

المذكور، كما أعترف به شيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث يمتنع عادة مخالفتهما للواقع في مثل هذا الأمر الشايع الابتلاء. ومن ثم ذكر (قدس سره) أن القول بعموم الحرمة شاذ.

بل من القريب جداً - بلحاظ المرتكزات المتشرعية القطعية - ابتناء القول بالعموم علي الغفلة عن لوازمه، وأن القائل به لا يلتزم عملاً. فإنه بلحاظ ذلك كله يتعين تأويل ما قد يوهم العموم المذكور.

الثالث: ما تضمن من النصوص المتقدمة تنفر الملائكة عند الرهان في غير الثلاثة ولعنها صاحبه، وأنه قمار محرم، لدعوي: عدم توقف صدق الرهان والقمار علي العوض.

وفيه: منع الدعوي المذكورة، بل هي - في الجملة - في غاية الغرابة، فإن تقوم الرهان بالعوض من الوضوح بحدّ يغني عن الاستدلال.

وأما القمار فالظاهر تقومه في الجملة بالعوض لا بمجرد المغالبة، ولذا يعد عرفاً من المكاسب، وهو المناسب لما تضمن حرمة أكل المال به. فلاحظ ما سبق في أدلة حرمة أكل العوض، وفي تحديد معني القمار لغة. ويأتي تمام الكلام في ذلك عند تعرض سيدنا المصنف (قدس سره) لتحديد القمار إن شاء الله تعالي.

وأما ما سبق من حرمة اللعب بالشطرنج والنرد وجميع آلات القمار ولو مع عدم الرهن واستفادتها من تطبيق القمار والميسر عليهما، فهو لا يبتني علي عموم القمار لصورة عدم الرهن حقيقة، بل علي التوسع في التطبيق، ولو بلحاظ كون أصل الألعاب المذكورة قمارية، أو لعموم ملاك الحرمة لذلك. والمتيقن من ذلك الشطرنج والنرد أو مطلق الألعاب القمارية بالتقريب المتقدم، ولا مجال للتعدي لكل مغالبة، لعدم القرينة علي ذلك، بل قد لا يمكن البناء عليه بلحاظ المرتكزات، والسيرة، حتي استدل في الجواهر علي الجواز بالسيرة القطعية من الأعوام والعلماء.

وإن كان في نهوضها بالاستدلال إشكال، حيث قد لا يحرز اتصالها بعصر المعصومين (عليهم السلام)، ليكشف عدم ردعهم عن رضاهم بها. والعمدة الأصل المؤيد

ص: 193

بالمرتكزات.

وكيف كان فلا يتم شيء مما استدل به في الرياض. وأغرب من ذلك جعله شاهداً علي أن السبق في النص المتقدم بالسكون. لظهور عدم الملازمة بين عموم حرمة المغالبة وتمامية الأدلة المتقدمة عليه - لو سلم بهما - وورود النص المذكور بالسكون.

هذا وفي الجواهر أن المسابقة والمغالبة من دون عوض إن تمحضت في الاستباق خارجاً فهي سائغة لما سبق، وإن ابتنت علي عقد المسابقة فهي محرمة غير صحيحة، لعدم مشروعية العقد المذكور للأصل، والنهي عن السبق في غير المستثنيات.

وكأن مراده بابتنائها علي عقد المسابقة هو التعاقد بين الشخصين علي الاستباق، بحيث يكون كل منهما ملتزماً به لصاحبه. وكأن الفرق بينه وبين التمحض في الاستباق نظير ما ذكروه من الفرق في المسابقة المشروعة بين أن تكون عقداً مفتقراً للإيجاب والقبول وأن تكون جعالة، وأنها علي الأول تكون لازمة كالإجارة، وعلي الثاني تكون جعالة لا تلزم حتي بالشروع فيها.

لكن لم يتضح الوجه في عدم مشروعية العقد المذكور بعد عموم نفوذ العقد الحاكم علي الأصل المقتضي ترتب الأثر عليه. وأما النهي عن السبق في النصوص فقد سبق أنه وارد لبيان عدم مشروعية الرهن والعوض، فلا ينهض ببيان عدم مشروعية عقد المسابقة من دونه.

نعم ذكر (قدس سره) أنه علي السكون يكون المراد بيان عدم مشروعية عقد السبق في غير الأمور المذكورة، لأن السبق اسم للتعاقد علي التسابق ولو من دون رهن. لكن نسخة السكون غير ثابتة. ولو ثبتت فلم نعثر في اللغة علي تفسير السبق - بالسكون - علي التعاقد المذكور. وقد سبق عند الكلام في معني الحديث ما ينفع في المقام.

ص: 194

وكذا إذا كانت المغالبة برهن يرجع إلي جهة مباحة (1)، لا إلي الغالب (2).

---------------

(1) أما إذا كان لجهة محرمة فحرمتها تمنع من شرعية تمليكها أو تخصيص المال لها، لما فيه من ترويجها، وذلك مانع من شرعية العقد بغض النظر عما يأتي.

(2) حيث قد يدعي قصور دليل المنع عنه، لأن السبَق - بالفتح - وإن كان لغة هو ما يتراهن عليه المتسابقون، إلا أن مادة السبق فيه تناسب فرض كونه للسابق، إذ من البعيد كون منشأ أخذ المادة سببية السبق لاستحقاق الرهن ولو لغير السابق، إذ هو ليس بأولي من أخذ مادة اللحوق والتأخر فيه.

نعم إذا ابتني إعطاء الرهن للجهة الثالثة علي صلة الغالب، لأنها منسوبة له محسوبة عليه بحيث يهتم بها، وتكون صلتها صلة وتكريماً له صدق عليه السبق بالمعني المتقدم عرفاً، ودخل في دليل المنع. أما إذا لم يبتن علي ذلك فلا يشمله دليل المنع.

اللهم إلا أن يقال: الجهة الثالثة لما لم تكن طرفاً في المسابقة فلا مجال لأن تستحق السبق. وتوضيح ذلك أن المسابقة تارة: تكون بنحو العقد الملزم بالاستباق. وأخري: تكون بنحو الجعالة للسابق.

أما العقد فهو يبتني علي الإلزام والالتزام بين المتعاقدين، ولا دخل للأجنبي فيه، ليستحق الرهن. وأما الجعالة فلأنها إنما تقتضي استحقاق القائم بالعمل - وهو السبق في المقام - للجعل، دون الجهة الثالثة الأجنبية.

ومن هنا لابد من رجوع جعل الرهن للجهة الثالثة إلي استحقاق السابق دفع الرهن للجهة الثالثة، بحيث لو لم يدفع لها كان له المطالبة بدفعه لها، لاستحقاقه لذلك. ومرجع ذلك إلي كون الرهن للسابق. غايته أنه لا يستحق عين المال، بل يستحق دفعه للجهة الثالثة. ومن هنا لا منشأ لقصور دليل المنع عنه.

علي أنه لو تمّ قصور الدليل المذكور عنه فالمناسبات الارتكازية تقضي بإلغاء خصوصية السبَق في دليل المنع، وأن موضوع المنع هو الرهن وإن لم يكن سبقاً. بل

ص: 195

والمراد بالقمار ما تتوقف الغلبة فيه علي إعمال الفكر وقوته (1).

---------------

المنع من جعل الرهن للسابق قد يناسب المنع من جعله لغيره بالأولوية العرفية. ويؤيد العموم حديث العلاء بن سيابة المتقدم، لأن موضوعه الرهان، لا السبَق، ليجري فيه الكلام السابق.

(1) الظاهر أن ذلك ليس معياراً في صدق القمار، لانتقاضه طرداً بمثل المغالبة علي حلّ المسائل العلمية، حيث لا يصدق عليه القمار ولو مع الرهن، وعكسياً بمثل النرد الذي قيل إنه يبتني علي الحظ والصدفة من دون إعمال فكر، مع أنه قمار قطعاً.

وقد سبق عند الكلام في عدم مطابقة القمار للرهان من المسالك ومجمع البحرين أن القمار هو الرهن علي اللعب بالآلات المعدة للقمار. وهو بظاهره دوري، لأن فرض كون الآلة آلة قمار في رتبة متأخرة عن تحديد القمار، فلا تكون دخيلة في مفهومه.

ومن ثم ذهب شيخنا الأعظم (قدس سره) إلي أنه مطلق المغالبة، وسبقه إلي ذلك في الرياض، وذهب بعض مشايخنا (قدس سره) إلي أنه مطلق المراهنة. لكن سبق منا المنع منهما معاً.

نعم لا يبعد كون مراد صاحبي مجمع البحرين والمسالك الإشارة بالعنوان المذكور إلي نوع خاص من الآلات يجمعها معني يدركه العرف ويطلقون عليه القمار، من دون أن يكون عنوان القمار مأخوذاً فيها ليلزم الدور. فالإشكال إنما هو في تحديد الجامع المذكور.

والظاهر عدم صدقه علي المراهنة علي تعيين ماله واقع محفوظ لا دخل للمتراهنين به كالمراهنة علي طلوع الهلال أو نزول المطر أو سبق أحد المتسابقين في بعض الأعمال، كما يشيع الرهان علي ذلك في عصورنا، لأن القمار من سنخ الأعمال والألعاب المبتنية علي المراهنة والمغالبة، لا محض المراهنة، ليصدق في المقام.

كما لا يصدق علي المغالبة في الأعمال التي من شأنها أن تطلب لنفسها مع قطع النظر عن المغالبة والمراهنة فيها بل لفوائدها المادية أو المعنوية، وإن كان قد يراهن عليه

ص: 196

(مسألة 20): عمل السحر حرام (1).

---------------

للتشجيع، أو للتكسب، كالمغالبة في المسائل العلمية، وفي بعض الأعمال، كالسباحة والفروسية والعدو والكتابة والصمت والصبر ونحو ذلك، لأن القمار عرفاً من سنخ الباطل الذي لا فائدة فيه، فلا يصدق فيما يكون مورداً للأغراض العقلائية.

بل يشكل صدقه حتي علي ما يكون مطلوباً للتسلي والتلهي لا لأجل كسب المال به، ككثير من اللعب المتعارفة في عصورنا والتي لا يقصد نوعاً منها الاكتساب، لما هو المرتكز من أن القمار من سنخ المكاسب.

ومن ثم يقرب انحصار القمار بالعمل الذي من شأنه أن يؤتي به من أجل المغالبة للاكتساب به من طريق الرهان عليه، من دون أن يكون مطلوباً لنفسه من أجل الفوائد المترتبة عليه، أو من أجل التلهي والتسلي من دون نظر للاكتساب به.

ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن من الأدلة، فإنه حيث ظهر مما سبق حرمة الرهان مطلقاً وإن لم يكن العمل قماراً، فالأثر إنما يظهر في المغالبة من دون رهان، وقد سبق أن دليل الحرمة فيها ينحصر بما تضمن النهي عن الشطرنج والنرد والأربعة عشر، وأن التعدي عنها إنما هو لفهم عدم الخصوصية لها، وأن موضوع النهي هو الجامع العرفي بينها، والمتيقن منه ما ذكرنا، ولا دليل علي ما زاد عليه.

ودعوي: عدم ثبوت كون اختراع النرد والشطرنج لاكتساب المال، بل لعله للتسلي أو التمرن علي معالجة المشاكل العسكرية. مدفوعة بأن ذلك لا ينافي كونهما حين صدور النصوص اللعب القمارية التي من شأنها أن يكتسب بها المال، بحيث يستفاد من النهي عنهما التعدي لكل لعبة قمارية. فلاحظ.

(1) بلا خلاف ولا إشكال، وقد تكرر في كلماتهم نقل إجماعنا وإجماع المسلمين عليه، بل كونه من ضرويات الدين. ويقتضيه - مضافاً إلي ما تشعر به أو تدل عليه آية هاروت وماروت وغيرها من كونه من المحرمات الشديدة، بنحو لا يناسب اختصاص حرمته بشريعة خاصة - النصوص الكثيرة المتضمنة للنهي عنه

ص: 197

ولثبوت الحدّ به(1) ، كموثق السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفار لا يقتل. قيل: يا رسول الله: لِمَ لا يقتل ساحر الكفار؟ قال: لأن الشرك أعظم من السحر، لأن السحر والشرك مقرونان"(2) ، وغيره.

هذا وربما قيل بجواز حلّ السحر بالسحر، في شرح القواعد لكاشف الغطاء أن عليه كثيراً من أصحابنا. وقد يستدل علي ذلك بصحيح إبراهيم بن هاشم عن شيخ من أصحابنا الكوفيين قال:" دخل عيسي بن شقفي علي أبي عبدالله (عليه السلام) وكان ساحراً يأتيه الناس ويأخذ علي ذلك الأجر، فقال له: جعلت فداك أنا رجل كانت صنعتي السحر، وكنت آخذ عليه الأجر وكان معاشي، وقد حججت منه، ومنّ الله عليّ بلقائك، وقد تبت إلي الله عز وجل، فهل في شيء من ذلك مخرج ؟ فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): حلّ ولا تعقد"(3).

ولعله إليه يرجع مرسل الصدوق في العلل، قال: "وروي أن توبة الساحر أن يحلّ ولا يعقد"(4). وبما تضمنه بعض النصوص من أن الملكين إنما علما الناس السحر من أجل أن يبطلوا به السحر(5).

لكن جميع النصوص المستدل بها ضعيفة في نفسها. مضافاً إلي ما قد يستشكل به في الأولين من إمكان حملهما علي الحل بغير السحر. وإن كان بعيداً، كما ذكره غير واحد. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالي.

وفي نصوص الملكين بأن التحقيق عدم قضاء الأصل بجريان أحكام الشرايع السابقة في شريعتنا، فضلاً عن الخروج به عن عموم المنع المستفاد من إطلاق أدلة التحريم.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به. وج: 18 باب: 1، 2 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 1، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5.

ص: 198

نعم قد تشعر النصوص المذكورة بتوجيه فعل الملكين لدفع شبهة فعل الحرام عنهما، وذلك يناسب المفروغية عن عدم اختلاف أحكام الشريعتين في المسألة. إلا أن في بلوغ ذلك حدّ الظهور البالغ مرتبة الدليلية إشكال أو منع.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) بالآية المتضمنة لتعليم هاروت وماروت السحر، بتقريب أن السحر لو لم يكن جائز الاستعمال حتي في مقام دفع الضرر لم يجز تعليمه، فجواز تعليمه يدل علي جواز العمل به في الجملة. والقدر المتيقن منه صورة دفع ضرر الساحر.

لكنه يندفع بعدم الملازمة بين حرمة العمل بالسحر وحرمة تعليمه، فلا مانع من جواز تعليمه مع حرمة العمل به، ولو لمصلحة يعلمها الله تعالي في فتنة الناس وامتحانهم بتمكينهم من الحرام. مع أن جواز العمل به في الشرايع السابقة لحلّ السحر لا يستلزم جوازه في شريعتنا. حيث سبق أن الأصل لا يقتضي جريان أحكامها في شريعتنا. ولو اقتضاه لم ينهض برفع اليد عن عموم المنع.

ولعله لذا صرح في التذكرة والقواعد والدروس وعن غيرها بعدم جواز ذلك.

نعم قد يمنع من عموم إطلاقات أدلة حرمة السحر لحلّ السحر به. وقد يقرب بما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من انصرافها إلي غير ما قصد به غرض راجح شرعاً.

لكنه - كما تري - في غاية المنع، ضرورة أنه كثيراً ما تترتب علي السحر آثار راجحة شرعاً، كانسجام الزوجين وائتلافهما، والتحبب للناس، ولا يظن بأحد البناء علي جواز السحر من أجلها.

فالعمدة في وجه قصور الإطلاقات المذكورة: أن حلّ السحر ليس من السحر، بل هما متباينان متقابلان، نظير مقابلة فسخ العقد للعقد، والشفاء للمرض، والإطلاق للحبس. ولا يراد من قولهم حلّ السحر بالسحر حلّه به حقيقة، بل حلّه

ص: 199

بآلات السحر والأعمال المسانخة لأعماله. ومن الظاهر أن إطلاقات النهي عن السحر إنما تقتضي حرمة السحر ذي الآثار المعهودة، لا حرمة استعمال السنخ الخاص من الآلات والأعمال ولو من دون أن تؤثر سحراً، ليشمل استعمالها في إبطاله وحلّه.

وبعبارة أخري: السحر متقوم بالأثر الخارج عن الوضع الطبيعي لا بالآلة، وإنما هي مقدمة له، فلا يكون النهي عنه شاملاً لاستعمال الآلة في غير الأثر المذكور، بل في إبطاله والرجوع للوضع الطبيعي.

فالمقام نظير ما لو ورد النهي عن إمراض الإنسان أو عن إعابة الجهاز، فإنه لا يشمل مداواة الإنسان من المرض بما يسانخ أسباب المرض، أو إصلاح الجهاز المعيب بما يسانخ آلات الإعابة. ومن هنا لا مخرج عن مقتضي الأصل من جواز ذلك.

بل المناسبات الارتكازية تقتضي رجحانه، لأن مبغوضية حدوث الأثر بالطرق السحرية تناسب رجحان إزالته وإبطال تأثيرها جداً. وهو المناسب لما سبق في مرسل الصدوق. كما أنه الظاهر من حديث عيسي المتقدم، لأن مقتضي الجواب كون الحَل هو المخرج مما حصل من إثم السحر والكفارة.

نعم قد ينافيه قوله:" ولا تعقد ".لظهور أن العقد مباين للحلّ، وليس قيداً فيه ولا من شؤونه، ليتجه التنبيه له عند بيان مخرجية الحلّ. كما لا منشأ لتوهم كونه مخرجاً مستقلاً، ليحتاج عنه عند بيان المخرج. ومن ثم قد يحمل قوله (عليه السلام):" حُلّ ولا تعقد "علي بيان ما يسوغ له في المستقبل، لا علي بيان المخرج عن إثم السحر الذي وقع السؤال عنه.

اللهم إلا أن يجمع بين سياق السؤال عن المخرج وعدم العقد به بحمل قوله (عليه السلام):" حل "علي بيان المخرج، وحمل ما بعده علي الاستئناف، بلحاظ أن العالم بالسحر إذا لم يهجر علمه بالمرة وبقي يستعمله في الحلّ كما أمره الإمام (عليه السلام) فقد يتعرض لاستعماله في عقد السحر، فاحتيج للتنبيه والردع عن العقد. أو يحمل المخرج في كلام السائل علي المخرج المصحح للاستمرار في العمل، لا المخرج من إثم العمل

ص: 200

السابق والكفارة له، فيرجع الجواب حينئذٍ إلي أن الاستمرار إنما يسوغ بالتزام الحلّ من دون عقد. فلاحظ.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في جواز حلّ السحر بالأعمال المسانخة لعمل السحر بعد قصور الإطلاقات عن المنع منه مؤيداً بالنصوص المتقدمة.

نعم إذا كانت تلك الأعمال أمراً محرماً في نفسه كتوهين ما كرم الله تعالي وتعظيم ما وهن وغير ذلك من المحرمات تعين حرمة الحل لحرمة سببه.

وكذا إذا لم يكن أثر العمل حلّ السحر وإبطال أثره، بل تدارك أثره وضرره بسحر مثله، كما لو حببت إحدي الزوجتين نفسها للزوج بالسحر، فأعرض عن الأخري لتعلقه بالأولي، فأرادت الأخري أن تحبب نفسها له بسحر آخر، لتتدارك ضرر السحر الأول من دون أن يبطل وينحل، فإنه يتعين الحرمة عملاً بإطلاق الأدلة، لصدق السحر علي الثاني بلا إشكال.

اللهم إلا أن يقال: مقتضي قاعدة نفي الضرر جواز السحر حينئذٍ. لكن مقتضي ذلك جواز السحر لدفع الضرر مطلقاً وإن لم يكن مسبباً عن سحر سابق، وهو أمر آخر غير جواز السحر لتدارك ضرر السحر من دون حلّ له.

علي أنه لا يخلو في نفسه عن إشكال، إذ هو لا يناسب تشديد الشارع الأقدس في أمر السحر حتي كان حده القتل وحرّم تعلمه - كما سيأتي - إذ لو جاز استعماله لدفع الضرر فهو أمر شايع ظاهراً. وحينئذٍ يكون المناسب التنبيه لذلك واستثناؤه من الإطلاقات.

بل في موثق السكوني عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لامرأة سألته إن لي زوجاً وبه عليّ غلظة، وإني صنعت شيئاً لأعطفه عليّ. فقال لها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أف لك كدرت البحار وكدرت الطين ولعنتك الملائكة الأخيار وملائكة السماوات والأرض..."(1) ، ومن الظاهر أن مورده إن لم يبلغ الضرر المعتد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 144 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث: 1.

ص: 201

وكذا تعليمه (1)، وتعلمه (2)،

---------------

به فلا أقل من كونه من موارد احتماله، فإطلاق الإنكار من دون تنبيه إلي استثناء صورة ما إذا بلغ الحال الضرر المعتد به كالصريح في استثنائه من الحرمة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم.

(1) كما في التذكرة والقواعد والمسالك وعن مجمع البرهان أن تحريم السحر وتعلمه وتعليمه وأخذ الأجرة عليه إجماعي بين المسلمين.

ويقتضيه ما يأتي من حرمة تعلمه، للملازمة بينهما في الحرمة عرفاً. وليس هو كالإعانة بالمقدمات البعيدة لا ملزم بمشاركتها للمعان عليه في الحرمة. ولاسيما مع ما هو المرتكز من أن المحرم بالأصل هو عمل السحر، وأن تحريم التعلم من أجل التعجيز عنه منعاً لوقوعه خارجاً، سداً لباب الفساد، فإن ذلك يقتضي تحريم التعليم والتعلم معاً.

(2) كما في الشرايع والتذكرة والقواعد والمسالك وغيرها، وهو داخل في معقد الإجماع المتقدم عن مجمع البرهان. ويقتضيه موثق إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه:" أن علياً (عليه السلام) كان يقول: من تعلم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربه. وحدّه القتل، إلا أن يتوب..."(1). وقريب منه خبر أبي البختري عنه(2).

هذا وفي الجواهر: "أما تعلمه لأنه من العلوم، أو لأنه قد يحتاج إلي عمله ولو عند الاضطرار، فالظاهر جوازه، وفاقاً للأستاذ في شرحه. بل عن تفسير الرازي أنه اتفق المحققون علي ذلك. للأصل. ولأن العلم في حدّ ذاته شريف... ونقل قصة الملكين المعلمَين في القرآن لأهل هذه الملة شاهد علي حلّ التعليم. وعدم قصدهما الإعانة يدفع إشكال حرمتها منهما، أو أنهما لم يَعلَما العمل ممن عَلَّماه، أو أن ذلك لهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 25 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

ص: 202

بالخصوص جائز، لكون نزولهما فتنة وابتلاء. وما في بعض الروايات السابقة من تحريم التعلم محمول علي إرادة التعلم الذي يتبعه العمل، كما يومي إليه ما فيه من كون حدّه القتل".

لكن الأصل محكوم بإطلاق النص المانع من تعلم السحر. ومجرد شرف العلم في نفسه لا يمنع من تحريمه شرعاً لمصلحة تقتضي بذلك، كسدّ باب الفساد. وأما ما نقل من قصة الملكين فهو لا يصلح شاهداً علي حِلّ التعلم لنا بعد اختلاف الشريعتين ولاسيما مع إطلاق النص بحرمة التعلم، نظير ما سبق.

غاية الأمر أن التشديد في أمر السحر والتعبير عنه في الآية الشريفة بالكفر، وقوله تعالي في آية أخري: (إِنَّ اللهَ لاَ يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ)(1) يناسب عموم حرمته لجميع الشرايع، كما ذكرناه آنفاً، ولا يجري ذلك في حلّ تعلمه.

ومن هنا يتعين البناء علي اختصاص جواز التعليم والتعلم بتلك الشريعة، أو بالملكين لأنهما فتنة، مع حرمته في شريعتنا سداً لباب الفساد. وهو أولي من حمل التعليم من الملكين علي خصوص صورة عدم ترتب العمل بالسحر علي تعلمه، أو عدم العلم بذلك، وحمل المنع من التعلم في النص المتقدم علي كون النهي عنه عرضاً من أجل حرمة العمل بالسحر.

ومثل ذلك دعوي: أن النص المتقدم المتضمن حلّ السحر بالسحر يقتضي جواز تعلم السحر من أجل الحلّ. لاندفاعها بأن النص المذكور - بغض النظر عما سبق من عدم نهوضه بالاستدلال - إنما تضمن الترخيص أو الأمر بالحلّ بعد فرض حصول التعلم ولو عصياناً، ولا إطلاق له يقتضي جواز التعلم من أجل الحلّ.

وأما ما سبق في ذيل كلام صاحب الجواهر من حمل المنع من التعلم في النص المتقدم علي إرادة التعلم الذي يتبعه العمل، بقرينة ما تضمنته من أن حدّه القتل. فهو لا يخلو عن غموض.

********

(1) سورة يونس آية: 81.

ص: 203

إذا لو أراد بذلك أن موضوع الحدّ هو التعلم بنفسه إذا كان يترتب عليه العمل بالسحر، فلا يظن بأحد البناء علي ذلك. ولو بني عليه أمكن البناء علي أن موضوعه التعلم مطلقاً ولو لم يترتب عليه العمل، عملاً بإطلاق النص.

ولو أراد بذلك أن موضوع الحدّ هو العمل بالسحر المترتب علي التعلم كان راجعاً إلي حمل النص علي ما يشبه الاستخدام من حمل ضمير (حدّه) علي السحر أو الذي يسحر، لا علي من تعلم السحر. وحينئذٍ لا ملزم بتقييد التعلم المنهي عنه بخصوص ما يترتب عليه العمل بالسحر.

وبعبارة أخري: لما كان الظاهر المفروغية عن عدم ثبوت الحدّ بالتعلم بل بالعمل. فلابد من تنزيل النص علي ذلك من دون أن ينهض للقرينة علي كون التعلم المحرم خصوص ما يترتب عليه العمل.

اللهم إلا أن يقال: موضوع الحدّ في النصوص هو الساحر، وهو عرفاً صفة مشبهة تقتضي الثبوت كالعالم والمجتهد، وليس كسائر أسماء الفاعلين دالاً علي مجرد حدوث المادة، كالضارب والقاتل. ليمكن حمله علي من يصدر منه السحر. وحينئذٍ لا يكون انطباقه علي من يتعلم السحر إلا بلحاظ تهيئه للقيام به ومزاولته وإن لم يصدر منه فعلاً. ومن ثم يصلح بيان استحقاق الحد - وهو القتل - في الموثق علي تعلم السحر قرينة علي كون المراد تعلمه المبتني علي التهيؤ لمزاولته. ولاسيما وأنه هو الذي يمكن التوبة عنه بالإعراض عن ذلك، أما مطلق التعلم فلا يمكن التوبة عنه، لعدم قابليته للارتفاع ولا للاستمرار. ومن ثم يقصر الإطلاق عن تعلمه من دون أن يبتني علي مزاولته. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من الإطلاق، لإجمال الإطلاق من هذه الجهة.

لكن هذا إنما ينفع إذا أمكن البناء علي استحقاق الحدّ بمجرد تعلم السحر المبتني علي مزاولته ولو لم يزاوله. أما إذا اشترطنا في استحقاق الحدّ مزاولته للسحر، فلابد من ابتناء الموثق علي الاستخدام، وحينئذٍ لا مخرج عن إطلاق صدره المتضمن

ص: 204

والتكسب به (1). والمراد منه ما يوجب الوقوع في الوهم (2)

---------------

حرمة التعلم. وأما استثناء التوبة فإن كان من ثبوت الحدّ لم ينفع فيما نحن فيه. وإن كان من قوله (عليه السلام): "كان آخر عهده بربه" تعين حمل التوبة فيه علي الندم. وبالجملة: يصعب الخروج عن الإطلاق القاضي بحرمة التعلم. فلاحظ.

ومن ذلك يظهر حال ما في الدروس من جواز تعلمه ليتوقي به أو لئلا يغتر به. فإنه إنما يتجه علي إطلاقه إذا لم يتم إطلاق النص بحيث يقصر عن التعلم لا للعمل. وإلا فهو خروج عن الإطلاق المذكور، ولا مجال للبناء عليه إلا أن يبلغ أثر السحر حدّ الضرر أو الحرج المعتد به وينحصر دفعه بالتعلم، فيجوز، لقاعدة نفي الحرج والضرر. ولا يأتي ما سبق من الإشكال في جواز السحر لدفع الضرر. للفرق ارتكازاً بين السحر نفسه وتعلمه، فعدم جواز السحر لدفع الضرر لا ينافي جواز تعلمه لذلك.

وكذا الحال في تعلمه للقيام ببعض الواجبات، كرفع الشبه الحاصلة من تضليل أهل البدع أو الكفر بسبب السحر، وذلك بإبطال سحرهم، أو كشف حقيقة أمرهم فيما إذا انحصر الأمر بالتعلم، حيث يكون التعلم حينئذٍ مورداً للمزاحمة بين حرمته في نفسه - لو تمّ إطلاق حرمة التعلم - ووجوبه مقدمياً. أما إذا لم يتم إطلاق حرمة التعلم فالأمر أظهر.

(1) كما صرح به غير واحد، وهو داخل في معقد الإجماع المتقدم عن مجمع البرهان. لأن حرمة العمل تقتضي حرمة الأجر عليه، وأن يكون أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، كما تقدم غير مرة.

(2) مفهوم السحر لا يخلو عن إجمال، ولا يسعنا تحديده، والمرجع فيه أهله. واللازم الاقتصار في مورد الإجمال علي المتيقن.

نعم الظاهر عدم اختصاصه بما يوجب الوقوع في الوهم، وأنه قد يؤثر آثاراً حقيقية، كعجز الزوج عن وطء زوجته، والتباغض بين المتحابين، والعكس، من دون أن يرجع إلي التمويه والوهم.

ص: 205

بالغلبة علي البصر أو السمع أو غيرهما (1). وفي كون تسخير الجن (2) أو الملائكة (3) أو الإنسان (4) من السحر إشكال. والأظهر تحريم ما كان مضراً (5)

---------------

كما لا مجال لما قد يظهر من الشهيدين في الدروس والمسالك من أخذ الإضرار في مفهوم السحر، إذ الظاهر أنه متقوم بنحو خاص من التأثير مستند إلي سنخ خاص من الأسباب، من دون خصوصية لنوع الأثر، فمثل التحاب بين المتباغضين قد يكون سحراً وإن لم يكن مضراً بهما ولا بغيرهما.

(1) يعني من الحواس. والظاهر أن المراد به ما يوجب تغيراً فيها يحصل بسببه الإيهام، أما إذا كان الإيهام ناشئاً من خفة الحركة أو اضطراب الأصوات أو نحوهما من دون أن يؤثر علي قابلية الحواس فليس هو من السحر أو هو خارج عن المتيقن منه. نعم قد يكون من الشعبذة أو نحوها.

(2) فقد عدّ في الدروس من السحر تسخير الجن والملائكة واستنزال الشياطين في كشف الغائب. والظاهر أن مجرد استخدام المسخَّر بحيث يستجيب للمسخِّر بمجرد الطلب بعد السيطرة عليه ليس من السحر. نعم قد يكون السحر سبباً في أصل السيطرة عليه، إما بأن يقهره قبل الاستخدام ويجعله مرتهناً بأمره مستجيباً له برضاه، أو يقهره حين الاستخدام، فيسير مقهوراً بأمره.

(3) من البعيد جداً السيطرة علي الملائكة بالطرق الشيطانية. نعم يحتمل استجابتهم لبعض ذوي المقام الديني الرفيع بأمر من الله تعالي. ولا إشكال في خروجه عن السحر.

(4) وكذا الحيوان، حيث قد يسيطر عليه بعض الناس ببعض الوسائل السحرية أو غيرها.

(5) يكفي في الحرمة القهر علي الاستجابة علي خلاف قاعدة السلطنة. نعم إذا كانت السيطرة بنحو تقتضي استجابة المسخَّر عند الطلب برضاه فلا محذور فيها.

ص: 206

بالغير (1) دون غيره (2).

(مسألة 21): القيافة حرام (3).

---------------

(1) يعني: ممن له حرمة، وهو المسلم، دون الكافر.

(2) إذ بعد عدم وضوح دخوله في السحر وعدم تحقق الإضرار المحرم به لا دليل علي حرمته، فيكون المرجع فيه أصل البراءة.

(3) وعن الحدائق نسبته للأصحاب، وعن الكفاية: "لا أعرف خلافاً" وعن المنتهي الإجماع عليه، وهو ظاهر التذكرة ومحكي التنقيح. قال في الجواهر: "وكأنه لا خلاف في تحريمها، نحو الكهانة. بل لعلها فرد منها، فتندرج تحت ما دلّ علي حرمتها".

لكنه كما تري، لابتناء الكهانة علي إخبار الجن والشياطين، وابتناء القيافة علي مراعاة علامات بدنية تقتضي الإلحاق، وبينهما كمال التباين. كما يناسب ذلك ما في معتبر أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: من تكهن أو تكهن له فقد برئ من دين محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم). قال: قلت: فالقيافة [فالقافة]؟ قال: ما أحب أن تأتيهم. وقيل: ما يقولون شيئاً إلا كان قريباً مما يقولون. فقال: القيافة فضلة من النبوة ذهبت في الناس حين بعث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)"(1).

نعم ظاهر الخبر عدم التعويل علي القافة، بناءً علي أن المراد بقوله (عليه السلام):" ذهبت في الناس... "ضاعت عليهم واضمحلت، كما يناسبه ما هو المعلوم من انفراد النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته بفيوضات النبوة، ومن أنهم قبل بعثته (صلي الله عليه وآله وسلّم) كانوا أظهر منهم بعدها، وما تضمنه الخبر من كراهته (عليه السلام) إتيانهم. فكأنه (عليه السلام) أراد توجيه إصابتهم في كثير من الموارد بأن لحديثهم أصلاً من الصدق، إلا أنه لا ينبغي التعويل عليهم بعد اختلاط الأمر عليهم بسبب بعثته (صلي الله عليه وآله وسلّم).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 207

ويستدل علي ذلك أيضاً بصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: لا تأخذ بقول عراف ولا قائف ولا لص..."(1) ، وما في معتبر الجعفريات من عدّ أجر القائف من السحت(2).

مضافاً إلي ما ذكره في الجواهر من منافاة القيافة لما هو كالضروري من الشرع من عدم الالتفات إلي هذه العلامات وهذه المقادير، وأن المدار في الإلحاق بالنسب الإقرار أو الولادة علي الفراش أو نحوهما مما جاء من الشرع. إذ لو كان من شأن القيافة أن توجب العلم لتعين الرجوع إليها ولو مع التوثق من دين القائف ومعرفته وضبطه لأصولها. فاقتصار الشارع الأقدس علي الضوابط المعهودة مستلزم لعدم إقراره للقائف في دعوي العلم، المستلزم لحرمة دعواه منه وإخباره جازماً اعتماداً عليه.

لكن عن الحدائق التشكيك في ذلك، لما رواه في الكافي بسنده عن علي بن جعفر في مراجعة إخوة الإمام الرضا (عليه السلام) وأعمامه له في أمر الإمام الجواد (عليه السلام)، قال:" قال له إخوته ونحن أيضاً: ما كان فينا إمام قط حائل اللون. فقال لهم الرضا (عليه السلام): هو ابني. قالوا: فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد قضي بالقافة، فبيننا وبينك القافة. قال: ابعثوا أنتم إليهم، فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم، ولتكونوا في بيوتكم. فلما جاؤوا أقعدونا في البستان، واصطف عمومته وإخوته وأخواته، وأخذوا الرضا (عليه السلام) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا علي عنقه مسحاة، وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاؤوا بأبي جعفر (عليه السلام)، فقالوا: الحقوا هذا الغلام بأبيه. قالوا: ليس له ههنا أب، ولكن هذا عمّ أبيه، وهذا عم أبيه، وهذا عمّه، وهذه عمّته. وإن يكن له ههنا أبٌ فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن (عليه السلام) قالوا: هذا أبوه..."(3). وكأنه لإقرار الإمام الرضا (عليه السلام) ما ذكروه من قضاء رسول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 2.

(2) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 23 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(3) الكافي ج: 1 ص: 321 باب الإشارة والنص علي أبي جعفر الثاني (عليه السلام) من كتاب الحجة حديث: 14.

ص: 208

الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بالقافة، ورضاه بالإرسال إليهم للحكم في الواقعة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من مخالفته لضرورة المذهب، لاشتماله علي عرض أخوات الإمام (عليه السلام) علي القافة. فهو لا يخلو عن إشكال، فإن عرضهن ليس محرماً إلا من جهة استتباعه النظر المحرم، ومن القريب عدم تجاوز ما كشف من أبدانهن الوجه والكفين والقدمين. ولاسيما مع عدم وضوح إقرار الإمام الرضا (عليه السلام) لكيفية تعاملهم مع القافة بعد أن كانوا هم المرسلين عليهم في بيوتهم.

وأما الإشكال فيه بضعف السند، بلحاظ جهالة زكريا بن يحيي الذي روي حديث علي بن جعفر. فقد يهون، لأن ثناء الكليني علي روايات كتابه ووصفها بالصحة، وثناء الأصحاب علي الكليني في معرفة الأخبار، وإيداع الكليني للحديث في باب النص علي إمامة الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، كل ذلك يناسب الركون للحديث وإلي رواته، خصوصاً علي مسلك صاحب الحدائق، بل في مفتاح الكرامة: "وضعفه غير ضائر، لأن عليه حقيقة ومسحة" .فتأمل.

فالعمدة في وهن الاستدلال بالحديث أن محنة الإمام الرضا (عليه السلام) مع أهله في مثل هذا الأمر الحساس، وعدم إذعانهم بولادة الجواد (عليه السلام) منه مع إصراره علي ذلك، تمنع من كشف سكوته (عليه السلام) عن تكذيبهم في قضاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بحكم القافة عن إقراره بذلك. إذ لعله (عليه السلام) علم بعدم قبولهم منه، وتوقع منهم حمله علي التهرب من حكم القافة خوفاً من حكمهم ضده، وإلا فلا ريب في عدم قضاء رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) بقول القافة بلا حاجة إلي إنكاره (عليه السلام) عليهم. ولا أقل من دلالة صحيح محمد بن قيس علي ذلك.

كما أن إقراره (عليه السلام) للإرسال عليهم قد لا يكون لمشروعية الرجوع إليهم، بل لتأكيد الحجة علي خصومه وإلزامهم بما التزموا به من ذلك، لعلمه (عليه السلام) بأن حكم القافة سوف يكون مؤيداً لدعواه.

بل جعل شيخنا الأعظم (قدس سره) الحديث شاهداً علي إنكار قضاء النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)

ص: 209

وهي إلحاق الناس بعضهم ببعض (1) استناداً إلي علامات خاصة (2)، علي

---------------

بقولهم. وكأنه لامتناعه من الإرسال إليهم بنفسه، وإيكاله ذلك لإخوته وأعمامه. وإن كان الإنصاف أنه لا يشهد بذلك، لاحتمال كون إيكال ذلك إليهم لتأكيد حجته (عليه السلام)، لأن حكم القافة له مع غفلتهم عن تشخيصه (عليه السلام) أظهر لحجته من حكمهم له مع التفاتهم له وتركيزهم عليه. فالعمدة في عدم التعويل علي القافة وحرمة الرجوع لهم ما سبق.

(1) كما عن إيضاح النافع والميسية، وفي المسالك والروضة أنها إلحاق بعض الناس ببعض ونحوه. وفي مختار الصحاح والقاموس ومحكي الصحاح والمصباح المنير أنها تتبع الآثار، وعممها للأمرين في الدروس وجامع المقاصد ولسان العرب ومجمع البحرين ومحكي النهاية الأثيرية. وربما يبتنيان علي جامع واحد يدركه القافة.

وخبر علي بن جعفر المتقدم يختص بالأول. ولا يبعد العموم للثاني ولو بلحاظ الوجه الأخير المتقدم من الجواهر، لما هو المعلوم من عدم التعويل شرعاً علي قول القافة في الثاني أيضاً لو كان مورداً للأثر. فلاحظ.

(2) الظاهر اختصاصها بالعلامات التي كانوا يعولون عليها في الجاهلية وصدر الإسلام، كتشابه الأطراف ونحوها من أجزاء البدن وهيئاتها التركيبية، دون الخواص المكتشفة حديثاً، كتحليل الدم. فإنها ليست من القيافة عرفاً فتقصر عنها الأدلة المتقدمة.

واللازم الرجوع فيها لمقتضي القاعدة من عدم التعويل عليها مع عدم حصول العلم منها. لعدم الدليل علي حجيتها شرعاً، ليصح ترتيب الأثر عليها علي خلاف الموازين الشرعية المعهودة من الفراش وأصالة عدم تحقق النسب ونحوهما. أما مع حصول العلم منها فالمتعين العمل عليها. لحجية العلم الذاتية غير القابلة للردع.

ودعوي: أن حصول العلم منها علي خلاف الموازين الشرعية لا يناسب جعل تلك الموازين شرعاً. مدفوعة بأن الموازين المذكورة لما كانت ظاهرية فهي تقصر عن

ص: 210

خلاف الموازين الشرعية في الإلحاق (1).

---------------

صورة حصول العلم علي خلافها. ولا مجال لقياس ذلك بالقيافة التي كانت معروفة في عصور التشريع، وكان الرجوع إليها شايعاً، فإن إهمالها شرعاً - مع ذلك - والاقتصار علي نصب الطرق المعهودة ظاهر، بل صريح في الردع عنها وتخطئتها، بنحو يكشف عن عدم صلوحها لإفادة العلم. أما الطرق المغفول عنها فلا يصح نصب الطرق الظاهرية لتخطئتها، بل هي تقصر عن صورة حصول العلم منها.

نعم لا ينبغي التسرع في الجزم بصدقها، بل لابد من مزيد التثبت في ذلك، لتعرض النظريات العلمية الحديثة للخطأ بسبب ابتنائها علي الاستقراء الناقص، كما ثبت الخطأ في كثير منها وهجرت لذلك.

(1) من الظاهر عدم أخذ ذلك في مفهوم القيافة، فهي كما تكون مع مخالفة مقتضي الموازين الشرعية تكون موافقة مقتضاها. ولا يبعد أن يكون مراده (قدس سره) اختصاص المحرم منها بذلك، فيرجع لما في الدروس من اختصاص حرمة القيافة بما إذا ترتب عليها الحرام. وزاد في جامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي الميسية ما إذا جزم بمقتضاها. قال في المسالك: "إنما يحرم إذا جزم به أو رتب عليه محرماً".

ولا ينبغي التأمل في الحرمة فيما إذا ابتنت علي مخالفة الميزان الشرعي، كإلحاق الشخص بمن لا يلحق به شرعاً، ونفيه عمن يلحق به شرعاً، مع ترتيب الأثر علي ذلك، لأنه المتيقن من الأدلة المتقدمة.

وأما مجرد الجزم بمضمونها من دون ترتيب اثر عليها أو مع مطابقة مضمونها للميزان الشرعي فقد استظهر بعض مشايخنا (قدس سره) عدم الشبهة في جوازه، وأن الأدلة ناظرة لحرمة ترتيب الأثر عليها علي خلاف الميزان الشرعي لا غير، بل بنحو قد يظهر منه حمل كلماتهم عليه.

لكنه كما تري لا يناسب حكمهم بحرمة القيافة، لوضوح أن القيافة هي عبارة عن حكم القافي بالإلحاق بمقتضي علمه الحاصل له، وأما ترتيب الأثر فكثيراً م

ص: 211

لا يكون من وظيفته بل من وظيفة الذي يرجع إليه ويعتمد عليه. كما أن الأدلة لا تناسب ذلك.

أما معتبر أبي بصير فلأن الحكم فيه بضياع القيافة علي الناس يقتضي تخطئتهم في دعوي العلم منها وردعهم عن توهم ذلك، فدعواهم حصول العلم منها لصاحبها ولمن يرجع إليه ردّ لذلك وتجاهل له.

وكذا الحال في صحيح محمد بن قيس لأن النهي عن الأخذ بقول الشخص وإن كان أعم من حرمة القول عليه، لإمكان ابتنائه علي عدم حجية قوله وإن كان صادقاً فيه واقعاً، كالفاسق، إلا أن إطلاق النهي عن الأخذ بقول مدعي العلم من دون استثناء صورة إحراز صدقه ظاهر في تكذيبه في دعوي العلم، ولازم ذلك حرمة الإخبار بنحو الجزم عليه، لأن في الإخبار المذكور رداً لدليل النهي وتكذيباً لمفاده.

وأظهر من ذلك ما في معتبر الجعفريات من جعل أجر القافي من السحت، لوضوح أن الأجر إنما يكون في مقابل إخباره بنحو الجزم بما يدعي العلم فيه، فالحكم بحرمة الأجر يقتضي حرمة إخباره بذلك، وهو لا يكون إلا لعدم أهليته لدعوي العلم.

وكذا ما سبق من المفروغية من عدم الالتفات إلي القيافة، وأن المرجع في النسب ونحوه الطرق الشرعية المعهودة دونها. لوضوح أنها لو كانت صالحة لأن توجب العلم لتعين الرجوع إليها في حق من يعلم منها كالقائف نفسه ومن يثق بمعرفته وصدقه. فالتسالم علي عدم الرجوع إليها والخروج بها عن الطرق الشرعية الظاهرية راجع إلي التسالم علي عدم صلوحها لأن تكشف عن الواقع وتوجب العلم، وتصحح لصاحبها الجزم بمؤداها. ومرجع ذلك إلي تحريم الجزم بمفادها والإخبار به نتيجة ذلك.

بل ما ذكره (قدس سره) من جواز تحصيل العلم بها لا يناسب ما ذكره من حرمة التعويل عليها، لوضوح أنه مع حصول العلم منها يتعين التعويل عليه، لحجيته الذاتية، وارتفاع موضوع الطرق الظاهرية معه. كما هو ظاهر.

ص: 212

(مسألة 22): الشعبذة حرام (1)،

---------------

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة كلمات الأصحاب و النصوص وتسالم المتشرعة في حرمة الجزم اعتماداً علي القيافة.

نعم لا بأس بتعليمها وتعلمها وبيان مقتضاها من دون جزم به. لعدم نهوض الأدلة المتقدمة بتحريمه. فإن ما تضمنه معتبر أبي بصير من ضياع القيافة ببعثة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لا يمنع من حصول الظن منها بلحاظ مقتضياتها الأولية، ولاسيما مع ما تضمنه من مقاربة أقوالهم للواقع.

وأما قوله (عليه السلام): "ما أحب أن تأتيهم" ،فهو غير ظاهر في التحريم، والمتيقن مرجوحية إتيانهم ولو من أجل أنه قد يوجب تشجيعهم وترويجهم، أو لأن سماع حديثهم قد يجر لتصديقهم.

وأظهر من ذلك صحيح محمد بن قيس. وأما معتبر الجعفريات فلانصراف ما تضمنته من تحريم أجرهم إلي الأجر المدفوع لهم علي عملهم المبتني بطبعه علي دعوي العلم، كسائر ذوي العلوم، ولا يشمل ما هو يبتني علي مجرد التقريب والظن.

ومن ثم لا يبعد قصور إطلاق الأصحاب حرمة القيافة عن ذلك. فما في مفتاح الكرامة من أن الأحوط تركها مطلقاً، وقوفاً علي إطلاق الفتاوي والإجماع ومعتبر أبي بصير، في غير محله.

(1) كما في السرائر والشرايع والنافع والتذكرة والدروس واللمعة وعن التحرير والإرشاد وسائر من تأخر. وقد يرجع إليه ما في النهاية من حرمة التكسب بها.

قال في مفتاح الكرامة بعد حكاية تحريمها عمن سبق: "وعن المنتهي أنه لا خلاف فيه. فلا وجه للتأمل فيه بعد الإجماع المنقول، بل المعلوم، إذ لم نجد مخالفاً" .وكأنه إلي ذلك يرجع ما في الجواهر من دعوي الإجماع المحكي والمحصل علي

ص: 213

حرمتها.

لكنه كما تري، لعدم كفاية ذلك في نقل الإجماع، ولا في تحصيله، فضلاً عن حجيته، لأن مجرد عدم تصريح الآخرين بالخلاف لا يكشف عن بنائهم علي الحرمة. ولاسيما وأن عدم ذكرهم لها في المكاسب المحرمة قد يناسب بناءهم علي حليتها.

علي أنه ربما ابتني حكم بعض من سبق بتحريمها علي فرض تضليل صاحبها للآخرين وإيهامهم قدرته علي الخوارق من أجل كسب مالهم أو ولائهم أو نحو ذلك مما يجعلها من الغش والتضليل المحرمين. كما قد يناسب ذلك قوله في السرائر: "والشعبذة والحيل المحرمة" ،حيث لا يبعد كون مفروض كلامه ما إذا كانت من الحيل المحرمة التي يتوصل بها للحرام.

وربما يكون ذلك هو مبني التكسب بها الذي سبق من النهاية تحريمه، من دون أن يرجع كلامهم إلي حرمتها تعبداً مع قطع النظر عن ترتب المحرم عليها، كما لو علم أمرها وكان الغرض منها مجرد بيان القدرة علي الإيهام، والتندر بذلك، أو التسلي به، وكسب المال من أجل ذلك، من دون أن يبتني علي التضليل والتحايل المحرمين.

هذا وقد استدل علي الحرمة أيضاً تارة: بأنها من اللهو الباطل. بل في شرح القواعد لكاشف الغطاء أن الانشغال بها من أعظم اللهو، وأن فيها من القبح ما يزيد علي قبح الملاهي. وأخري: بأنها من أقسام السحر، كما تضمنه قوله (عليه السلام) في رواية الاحتجاج في بيان أقسام السحر: "ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفة"(1). وهو المناسب لبعض تعاريف السحر التي اشتملت عليها كلمات اللغويين، كتعريفه بأنه صرف الشيء عن وجهه، أو بما لطف مأخذه ودق، أو بالخدع، أو بإخراج الباطل في صورة الحق.

لكن يندفع الأول تارة: بعدم إطراد كون الشعبذة من اللهو والباطل، بل قد يكون الغرض منها عقلائياً ولو كان هو تنبيه من يستغفل لحقيقتها، وأنها تبتني علي

********

(1) الاحتجاج ج: 2 ص: 81 مطبعة النعمان في النجف الأشرف عام 1386.

ص: 214

وهي إراءة غير الواقع واقعاً بسبب الحركة السريعة الخارجة عن العادة (1).

---------------

التمويه والتحايل. وأخري: بأن عموم حرمة اللهو والباطل غير ثابت، كما يظهر مما سبق عند الكلام في المغالبة من دون رهن من المسألة التاسعة عشرة.

وأما ما سبق من كاشف الغطاء من أنها أشد قبحاً من الملاهي. فهو غير ظاهر. نعم قد يظهر من كلامه أنه ناظر إلي ما إذا كان الغرض منها إضلال الناس والتمويه عليهم، بنحو تدخل في الغش، حيث تحرم حينئذٍ لذلك، لا لنفسها، ولا لكونها من اللهو والباطل.

كما يندفع الثاني تارة: بضعف الرواية بالإرسال. وما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من انجبارها بالإجماع المحكي. ممنوع بعد ما سبق من وهن دعوي الإجماع. مضافاً إلي عدم ظهور اعتمادهم علي الرواية المذكورة، الذي هو المعيار في الانجبار. وأخري: بأن استيعاب الرواية شاهد باشتمالها علي ما يعلم بخروجه عن السحر، كالنميمة، وذلك مما قد يوجب إجمالها.

وربما تحمل الفقرة المذكورة علي بيان الطرق التي يسلكها السحرة والوسائل التي يستخدمونها وإن لم تكن سحراً، أو علي بيان ما يحسبه الناس سحراً وإن لم يكن منه حقيقة. وعلي كل حال لا مجال لإثبات حرمة الشعبذة بذلك.

وكذا الحال في التعاريف المتقدمة للسحر، لما هو المعلوم من أنها تعاريف لفظية لا تنهض ببيان حقيقة السحر الذي هو موضوع التحريم.

ومن ثم لا مجال للبناء علي حرمة الشعبذة بنفسها ما لم يترتب عليها محذور محرم، كإضلال الناس وغشهم بالنحو الذي أشرنا إليه آنفاً.

(1) كما يظهر من كثير من كلمات اللغويين والفقهاء في شرحها. لكن لا يبعد كونها عرفاً أعم من ذلك، وأنها كل ما يوهم القدرة علي الخوارق من طريق التحايل. والأمر غير مهم بعد عدم ثبوت حرمتها شرعاً بعنوانها، ليهتم بتحديده.

ص: 215

(مسألة 23): الكهانة حرام (1)، وهي الأخبار عن المغيبات بزعم أنه

---------------

(1) بالإجماع والأخبار، كما عن شرح القواعد لكاشف الغطاء. وقال في مفتاح الكرامة: "وفي إيضاح النافع: تعليمها وتعلمها واستعمالها حرام في شرع الإسلام. وظاهره أنه إجماعي بين المسلمين، وظاهر مجمع البرهان أنه لا خلاف في تحريم الأجرة وفي الكفاية: لا أعرف خلافاً بينهم في تحريم الكهانة. وفي الرياض: أن الدليل عليه الإجماع المصرح به في كلام جماعة من الأصحاب. والموجود في كتبهم ما ذكرنا".

وكيف كان فيقتضيه النصوص المستفيضة، كمعتبر أبي بصير المتقدم عند الكلام في القيافة، والنصوص المتضمنة أن أجر الكاهن سحت(1) ، كموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغي والرشوة في الحكم وأجر الكاهن" (2) وغيره، ومعتبر الهيثم: "لأبي عبدالله (عليه السلام): إن عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه عن الشيء يسرق أو شبه ذلك، فنسأله. فقال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من مشي إلي ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب"(3) ، وخبر نصر بن قابوس:" سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون..."(4) ، وخبر أبي خالد الكابلي: "سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغي علي الناس... والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة..." (5) وفي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: "إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدي به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلي الكهانة، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار" (6) وغيرها علي اختلاف

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به. ومستدرك الوسائل ج: 13 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 7.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 6، 8.

(6) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 6، 8.

ص: 216

يخبره به بعض الجان (1). أما إذا كان اعتماداً علي بعض الإمارات الخفية فالظاهر إنه لا بأس به (2).

---------------

مضامينها.

وبملاحظتها يظهر أنه كما تحرم الكهانة بمعني الإخبار بالمغيبات يحرم طلب ذلك من الكاهن والتصديق به والتعويل عليه، كما هو ظاهر. وأما تعليمها وتعلمها - مع قطع النظر عن العمل بها بالتعويل عليها - فحرمتهما لا تخلو عن إشكال. إلا أن يثبت أنها من السحر، حيث تقدم الكلام في حرمة تعليمه وتعلمه.

(1) فعن ابن الأثير في النهاية: "الكاهن من يتعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان. وقد كان في العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها علي مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله. وهذا يخصونه باسم العراف" .ويظهر من غير واحد من اللغويين الجري علي ذلك، وفي القواعد: "والكاهن هو الذي له رئي من الجن يأتيه بالأخبار" ،وفي مفتاح الكرامة أن الأكثر ذكروا ذلك وعن التنقيح أنه المشهور. وعلي ذلك فما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) هو المتيقن من معني الكهانة.

لكن في مفردات الراغب: "الكاهن هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية، والعراف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة علي نحو ذلك" .والمهم تحديد موضوع الحرمة. وهو ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

(2) لخروجه عن المتيقن من معني الكهانة. لكن قد يدعي أن ظاهر معتبر الهيثم المتقدم تحريم ذلك. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "وظاهر هذه الصحيحة أن الإخبار عن الغائبات علي سبيل الجزم محرم مطلقاً، سواءً كان بالكهانة أو بغيرها، لأنه (عليه السلام) جعل المخبر بالشيء الغائب بين الساحر والكاهن والكذاب، وجعل الكل حراماً".

ص: 217

وما ذكره لا يخلو عن غموض وإشكال، لأن الحديث لم يتضمن الحصر المذكور، بل مجرد النهي عن إتيان هؤلاء، وهو أعم من الحصر فيهم.

فالأولي في تقريب دلالة الحديث علي الحرمة: أن الجمود علي حاق هذا التركيب مستلزم للغوية ذكر الكذاب، لوضوح أنه مع العلم بكون الشخص كذاباً لا يقصد، ولا يسأل، ولا يصدّق، ومع الجهل بذلك لا يحرز موضوع الحرمة ليعمل عليها.

ومن ثم كان الظاهر أن ذكر الكذاب لبيان أن كل من يتصدي للإخبار عن الأمور الغيبية، ويدعي العلم بها، كذاب لا ينبغي الرجوع إليه، بل الرجوع إليه مناف للإيمان. فهو (صلي الله عليه وآله وسلّم) بعد أن ذكر الساحر والكاهن أراد بيان الضابط العام، وهو أن كل من يتصدي للإخبار عن الأمور الغيبية كاذب يحرم الرجوع إليه وتصديقه.

ولولا ذلك لم ينهض الجواب ببيان حكم مورد السؤال، لأن السؤال لم يتضمن أن الشخص المذكور من أحد الأصناف الثلاثة، وإنما تضمن تصديه للإخبار عن المجهول، فلولا ورود الجواب لبيان الكبري المذكورة لم ينهض ببيان حكمه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من ورود الجواب لبيان الضابط في التحريم، وحصر المحرم بالأقسام الثلاثة، وإيكال التشخيص للسائل، فإن كان مورد السؤال منها كان محرماً، وإلا لم يحرم.

ففيه: أولاً: أنه لا إشعار في الجواب بالحصر لينهض ببيان الضابط، بل ليس فيه إلا حرمة إتيان هؤلاء وتصديقهم. وثانياً: أن السائل إنما سأل عن قصد الشخص المذكور وسؤاله، للشك في حسن الاعتماد عليه وتصديقه، والشك في صدقه وكذبه، وبيان عدم جواز سؤال الكاذب وتصديقه لا يصلح لبيان الضابط الذي يعرف منه حكم مورد السؤال. بل سبق أنه يلغو بيان حرمة سؤال الكاذب وتصديقه، لخلوه عن الفائدة.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من أن الحديث بقرينة السؤال ظاهر في الإخبار عن الأمور الماضية من السرقة والضالة ونحوها، ولا إشكال في جواز الإخبار عن الأمور الماضية

ص: 218

إذا كان المخبر جازماً بوقعها، وإنما الإشكال في الإخبار عن الحوادث المستقبلية.

لاندفاعه بأن الحديث ظاهر في تحريم الإخبار الغيبي مطلقاً من دون فرق بين الأمور الماضية والمستقبلة، وخصوصية السؤال لا تقتضي تقييد الجواب. والأمر الذي لا إشكال في جوازه هو الإخبار المبتني علي الطرق الطبيعية غير الغيبية، سواءً كان عن الأمور الماضية، كما في موارد البينة، أم المستقبلية كالإخبار بطلوع الشمس غداً نتيجة العلم بنظام سيرها.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من ظهور الحديث في أن كل من يتصدي لبيان الأمور الغيبية كاذب لا يجوز قصده ولا تصديقه.

ويؤيد ذلك ما في صحيح محمد بن قيس المتقدم في المسألة الواحدة والعشرين من النهي عن الأخذ بقول العراف، وما في حديث المناهي: "أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) نهي عن إتيان العراف، وقال من أتاه وصدقه فقد برئ مما أنزل محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم)" (1) وما في خبر عبدالله بن عوف من تشديد أمير المؤمنين (عليه السلام) من الإنكار علي معرفة الأمور بالحساب(2)... إلي غير ذلك مما يظهر منه الردع عن الإخبار بالمغيبات وعن دعوي العلم بها.

مضافاً إلي ما هو المرتكز عند المسلمين عموماً من عدم أهلية أحد للإطلاع علي الغيب والإخبار به إلا من أطلعه الله عليه، حتي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره ممن يتصدي لذلك يؤكدون أن إخباراتهم الغيبية تبتني علي تعليم من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) الذي أطلعه الله تعالي علي غيبه أو ممن أخذ منه (صلي الله عليه وآله وسلّم). ومن ثم لا ينبغي التوقف في عموم الحرمة وعدم الاختصاص بالكهانة، ليهتم بتحديد مفهومها. ويأتي إن شاء الله تعالي عند الكلام في حرمة التنجيم ما ينفع في المقام.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن النصوص المتضمنة حرمة التصديق للمخبر بالغيب - كمعتبر الهيثم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 26 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر حديث: 4.

ص: 219

وحديث المناهي المتقدمين - تقتضي بالملازمة العرفية حرمة الإخبار، لأن المنصرف منها عدم أهلية المخبر للعلم بما يخبر به، وذلك كما يقتضي حرمة تصديقه في خبره يقتضي حرمة اعتقاده في نفسه أنه يعلم الواقع، ليسوغ له الإخبار عنه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن حرمة تصديقهم لعدم حجية خبرهم لا يقتضي حرمة إخبارهم مع اعتقادهم بما يخبرون به، كما في خبر الفاسق. ففيه: أن مجرد عدم حجية الخبر إنما يقتضي عدم جواز التعويل عليه عملاً مع الشك في مضمونه من دون أن يمنع من تصديقه بمعني حصول العلم بصدقه - ولو لقضاء التجارب السابقة بذلك - ثم العمل عليه مع حصول العلم منه. فالنهي عن التصديق بالمعني المذكور لابد أن يبتني علي أن ليس أهلاً لأن يصدق، لأنه ليس من شأنه العلم بما يخبر عنه، وهو راجع إلي تكذيبه في دعوي العلم بما يخبر عنه وردعه عن الإخبار به وتحريمه عليه.

الثاني: أن النصوص تختص بالخبر الجازم. أما مجرد بيان تحقق المقتضي للعلم بالشيء من دون جزم بمفاده - لاحتمال الخطأ فيه أو في بعض مقدماته، أو لاحتمال تعرض الواقع للمحو والإثبات - فلا تنهض النصوص بتحريمه. لابتناء الكهانة علي دعوي العلم والإخبار بنحو الجزم. وكذا الحال في حديث الهيثم، لأن ذلك هو المتيقن من التعميم بلحاظ ذكر الساحر والكاهن، لأنه المسانخ لهما.

كما لا تنهض النصوص بتحريم قصده وطلب البيان منه لمجرد معرفة، بل ولو مع حصول الظن منه من دون تصديق له. لخروج ذلك عن طبيعة الرجوع إليه عرفاً، ولاسيما مع اختصاص حديث الهيثم بتصديقه المفروض عدمه في محل الكلام.

نعم قد يشكل الأمر لو ابتني حديثه علي الإخبار الجازم، فإن طلب ذلك منه وإن لم يبتن علي تصديقه، إلا أنه يبتني علي حثه علي الحرام وتشجيعه عليه. وأولي بالإشكال ما إذا لزم من قصده وسؤاله ترويجه وتشجيع الغير علي قصده والتصديق به.

ص: 220

(مسألة 24): النجش حرام (1). وهو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة

---------------

الثالث: الظاهر أن موضوع حديث الهيثم الإخبار بالغيب، لدعوي الإطلاع عليه من طريق الجن أو الإحساس المباشر لتجرد النفس وترويضها، أو التوسم المبتني علي ملاحظة مثل أسارير الوجه وغير ذلك مما يصدّ عرفاً إخباراً بالغيب، كما يتعاطاه الكهنة والعرافون ونحوهم ممن لم يأخذ عن الأنبياء والأوصياء.

ومن ذلك ما شاع في عصورنا مما يسمي بالطشة، وقراءة الكف، والفنجان، والتنويم المغناطيسي، وتحضير الأرواح وغيرها. فإن الجميع من الإخبار بالغيب عرفاً، فيكون مشمولاً للحديث.

فاللازم الحذر من الجزم بمضمونها من المخبر والسامع بسبب صدقها بالتجربة في بعض الموارد. لحرمة ذلك بعد ما عرفت. علي أنه قد ثبت كذبها في كثير من الموارد أيضاً مما يكشف عن تعرضها للخطأ، إما لابتنائها علي التعرض له، أو لعدم ضبط أصولها ممن يدعي المعرفة بها، أو لتعرض الوقائع التي تطرقها للمحو والإثبات.

نعم إذا ابتني المخبر علي ملاحظة الآثار المادية الخفية ونحوها مما يبتني علي التجربة التامة أو الناقصة، أو دقة النظر والملاحظة، فالظاهر خروجه عرفاً عن علم الغيب. ومنه ما شاع في عصورنا من إخبار المحققين في الجرائم والمحللين ونحوهم ممن يبتني خبرهم علي الدراسات والتجارب الحديثة. وحينئذٍ لا مانع من الجزم بها مع حصول العلم للمخبر أو السامع، ولو لحسن ظنه به. وإن كان التثبت والتروي لازماً في ذلك وغيره، حيث قد يتعرض المخبر للخطأ، ولو بسبب إعمال الحدس والاجتهاد.

(1) كما في المبسوط والسرائر والتذكرة والمختلف والقواعد والدروس وظاهر الغنية وعن وغيرها. وعن المهذب البارع: لا أعرف فيه خلافاً بين الأصحاب، وفي جامع المقاصد وعن محكي المنتهي الإجماع عليه. لكن في النافع ومحكي الإرشاد

ص: 221

والتنقيح الكراهة، وقد يستظهر من الشرايع.

وكيف كان فيدل علي الحرمة حديث عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الواشمة والمتوشمة والناجش والمنجوش ملعونون علي لسان محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم)"(1) ، وما عن معاني الأخبار بسنده عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم):" أنه قال: لا تناجشوا ولا تدابروا"(2) ، وبعض المراسيل الأخر(3).

وقد ذكر غير واحد أن ضعف الأولين منجبر بالشهرة والإجماع المنقول. ومنع من ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) جرياً علي مبناه من عدم انجبار ضعف السند بذلك.

لكن الظاهر كفاية ذلك في الانجبار في المقام بعد كون الأول من روايات أصحابنا، حيث روي في الكافي بالطرق المتداولة بين الأصحاب، بنحو يقرب جداً اعتمادهم عليه في الحكم المذكور مع إطلاعهم علي سنده، ومثل ذلك كاف في الانجبار علي التحقيق.

علي أن الظاهر اعتبار سنده، إذ ليس فيه من وقع الكلام فيه إلا محمد بن سنان، والظاهر اعتبار حديثه، كما أطلنا الكلام في ذلك في مسألة تحديد مساحة الكرّ من مباحث المياه من هذا الشرح.

هذا ولو غض النظر عن ذلك فلا ريب في حرمة النجش لو أوجب غش الغير، إما لكون الزيادة بأكثر من ثمن المثل، أو لكونها موجبة لتخيل رغبة الناس في السلعة وأن لها سوقاً رائجاً، أو لنحو ذلك، لما هو المعلوم ويأتي إن شاء الله تعالي من حرمة الغش.

ثم إنه قد استدل علي تحريم النجش في كلام غير واحد بأنه إضرار بالسامع. لكنه - مع عدم اطراده - لا يخلو عن إشكال، لأن المتيقن من حرمة الإضرار فعل ما يوجب الضرر بالغير بالمباشرة، وليس هو حاصلاً في المقام، لأن الإضرار إنما يحصل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 49 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، 4.

(3) راجع مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 37 من أبواب آداب التجارة.

ص: 222

وهو لا يريد شراءها، بل لأن يسمعه غيره فيزيد لزيادته (1).

---------------

بفعل الغير بنفسه بإقدامه علي المعاملة، لا بالنجش، وإنما يكون النجش سبباً في إقدامه عليها باختياره.

(1) كما فسره بذلك في المبسوط والخلاف والغنية والتذكرة والدروس والسرائر ومحكي معاني الأخبار تعقيباً علي الحديث المتقدم، وهو ظاهر الشرايع والنافع والمختلف والقواعد. ويظهر مما في المختلف من نسبة الخلاف في صحة البيع معه لابن الجنيد، ونسبة القول بالخيار معه لابن البراج، جريهما علي المعني المذكور. ولعله المعروف بين فقهائنا، حيث لم يشر لغيره في مفتاح الكرامة. بل يظهر مما في الخلاف والتذكرة من التعرض لأقوال العامة في حكمه جري فقهائهم علي المعني المذكور أيضاً، كما يناسبه الاقتصار عليه في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة.

وأما اللغويون فقد اقتصر منهم علي المعني المذكور في مختار الصحاح ولسان العرب وحكاه عن أبي عبيدة، كما حكي عن الصحاح والمصباح المنير. بل لا يبعد رجوع ما في أساس البلاغة له، حيث قال: "وهو أن تستام السلعة بأكثر من ثمنها".

لكن عن ابن شميل أنه مدح سلعة الغير ليبيعها أو ذمها لئلا تنفق عنه. وعممه لهما في مجمع البحرين، قال: "هو أن يمدح السلعة في البيع لينفقها ويروجها، أو يزيد في قيمتها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها" ،ونحوه عن إبراهيم الحربي. وقد يرجع إليه ما في القاموس حيث قال: "النجش أن تواطئ رجلاً إذا أراد بيعاً أن تمدحه، أو أن يريد الإنسان أن يبيع بياعة فتساومه فيها [بها] بثمن كثير، لينظر إليك ناظر فيقع فيها" .وإن كان ظاهره الترديد بين المعنيين، الذي هو كالصريح مما عن تاج العروس.

وكيف كان فمن البعيد جداً اختصاص النجش الذي هو مورد النصوص بالمعني الثاني مع عدم ذكر الفقهاء منا ومن العامة له، ومعروفية المعني الأول بينهم، لأنهم أخبر بمفاد النصوص، فإن اهتمامهم بمفادها العملي يستلزم تلقيهم مفادها طبقة عن طبقة متصلة بعصور قائليها (صلوات الله عليهم).

ص: 223

سواء أكان ذلك عن مواطأة مع البايع أم لا (1).

---------------

ومن ثم يدور الأمر بين اختصاص النجش الذي هو مورد النصوص بالمعني الأول المعروف بين الفقهاء والأشهر بين اللغويين وعمومه للمعنيين معاً. وبذلك يكون المعني الأول هو القدر المتيقن من مفاد النصوص، ولا مجال للاستدلال بها علي حرمة الثاني. وكأنه إلي هذا نظر شيخنا الأعظم (قدس سره) حين استدل علي حرمته بالمعني الأول بالنصوص، وذكر أن حرمته بالمعني الثاني تحتاج إلي دليل.

بل قيد المعني الأول في المبسوط والسرائر وكتاب الفقه علي المذاهب الأربعة ومحكي المصباح المنير بما إذا كانت الزيادة أكثر من قيمة السلعة، وهو المناسب لما تقدم من أساس البلاغة والقاموس وتاج العروس. ومن ثم يشكل عموم النجش لغيره وإن أطلق الباقون، للزوم الاقتصار في تحديد موضوع النصوص علي المتيقن.

نعم لما كان دليل الحرمة لا يختص بالنصوص المتقدمة، بل تقدم الاستدلال أيضاً بلزوم الغش من النجش، فمن الظاهر أن الغش قد يلزم من المعني الأول علي إطلاقه، ولا يختص بالمتيقن المذكور. بل هو قد يلزم من المعني الثاني أيضاً. وحينئذٍ يتعين البناء علي عموم الحرمة لجميع موارد الغش، وجميع موارد المتيقن من معني النجش الذي تقدم التعرض له. فلاحظ.

(1) أما عموم النجش مفهوماً للوجهين فهو مقتضي إطلاق أكثر كلمات الفقهاء، بل مقتضي تعرضهم للخلاف في ثبوت الخيار مع المواطأة وبدونها المفروغية عن العموم. ومن ثم يشكل استفادة الاختصاص بالمواطأة ممن قيده بها، كالعلامة (قدس سره) في التذكرة والمختلف، لأنه تعرض للخلاف المذكور أيضاً من دون تنبيه علي أن عدم المواطأة يخرجه عن النجش موضوعاً، فإن ذلك قد يكون قرينة علي رجوع القيد للتحريم في حق البايع.

أما اللغويون فلم أعثر عاجلاً علي من أخذ منهم المواطأة مع البايع في مفهوم النجش، إلا ما سبق من القاموس ومحكي تاج العروس من أخذه في المعني الآخر،

ص: 224

حيث قد يكون قرينة علي أخذه في المعني الذي هو محل الكلام أيضاً. لكن لا مجال للتعويل علي ذلك في تقييد المعني بعد إطلاق الآخرين، ولاسيما مع قرب كون التقييد المذكور حتي في المعني الآخر غالبياً.

هذا وقد يستفاد التقييد بالمواطأة من لعن المنجوش في معتبر ابن سنان، والتعبير بالتناجش في الخبر الثاني، بناءً علي ظهور هيئة التفاعل في القيام بطرفين. لكن اسم المفعول لا يتوقف علي المواطأة. غاية الأمر أن اللعن لا يستحقه الجاهل، وهو إنما يقتضي تقييد اللعن بالعلم الذي هو أعم مورداً من المواطأة، لا أخذ العلم، فضلاً عن المواطأة، في مفهوم النجش.

وأما هيئة التفاعل فهي إنما تقتضي القيام بطرفين في الموادّ التي يكون لها فاعلان يعطف الثاني منهما علي الأول بالواو، كما في التعاون والتعادي والتقاتل والتسابق، دون ما يعدي للفاعل والمفعول مثل التناول، ومنه المقام، لما سبق في معتبر ابن سنان من التعبير بالمنجوش الذي هو اسم مفعول.

علي أنه لو تم أخذ المواطأة في مفهوم النجش إلا أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن منشأ الحرمة هو التغرير بالمشتري من دون دخل للمواطأة مع البايع في ذلك. ومرجع ذلك إلي فهم العموم من النصوص حتي لو كانت المواطأة دخيلة في مفهوم النجش.

مضافاً إلي أنه لو فرض قصور النصوص كفي في البناء علي العموم ما سبق من عدم اختصاص الدليل في المقام بها، بل يستدل أيضاً علي الحرمة بلزوم الغش، إذ لا ريب في عدم دخل المواطأة في لزوم الغش، فتحرم الزيادة حينئذٍ مع عدم المواطأة وإن لم تكن نجشاً، بلحاظ لزوم الغش منها.

هذا والظاهر ثبوت الخيار مع الغبن، وعدمه بدونه، كما في التذكرة. ويظهر الوجه فيه مما يأتي في المسألة السادسة والعشرين عند الكلام في حكم الغش إن شاء الله تعالي.

ص: 225

(مسألة 25): التنجيم حرام (1). وهو الإخبار علي الحوادث - مثل

الرخص والغلاء والحرّ والبرد ونحوها - استناداً إلي الحركة الفلكية والطوارئ الطارئة علي الكواكب من الاتصال بينها أو الانفصال أو الاقتران أو نحو ذلك، باعتقاد تأثيرها في الحادث علي وجه ينافي الاعتقاد بالدين (2).

---------------

(1) لا ريب في حرمته في الجملة، وإنما الإشكال في تحديد الحرام منه. ومن ثم يحسن التعرض للأدلة عند الكلام في تحديده.

(2) وذلك بالاعتقاد بتأثيرها في الحوادث استقلالاً، أو علي نحو الشركة مع الله سبحانه وتعالي، كما قد ينسب إلي بعض الفلاسفة. أما مجرد اعتقاد تأثيرها في الحوادث بتقدير منه تعالي باختيار منها أو بدون اختيار فهو لا ينافي الدين. وأظهر من ذلك الاعتقاد بتجردها في كونها علامات علي الحوادث التي قدرها الله تعالي من دون دخل لها فيها أصلاً.

ثم إنه لا ريب في حرمة الوجه الأول، لرجوعه إلي إنكار الله تعالي أو الاعتقاد بوجود الشريك له. بل نفس الاعتقاد بذلك كفر صريح من دون حاجة للنظر في النجوم، والتعرف علي الحوادث منها، والإخبار بذلك.

ومن ثم لا مجال لحمل كثير من النصوص الواردة في النجوم علي ذلك، لظهورها في كون موضوع الحرمة هو النظر في النجوم أو الحكم علي طبقه أو التصديق بذلك أو نحو ذلك من دون نظر للاعتقاد المذكور. ولاسيما مع وضوح حرمة الاعتقاد المذكور بنحو لا يناسب كونه مورداً للسؤال والجواب في تلك النصوص.

هذا ومقتضي ما تقدم عند الكلام في الكهانة من تقريب دلالة معتبر الهيثم علي حرمة الإخبار الجزمي بالغيب هو تحريم الخبر الجزمي عن الغائبات من طريق النجوم، وحرمة تصديقه. ويؤيده خبر عبدالله بن عوف وما عن نهج البلاغة المتقدمان هناك، والنبوي المرسل: "من صدق كاهناً أو منجماً فهو كافر بما أنزل علي

ص: 226

محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم)"(1) ، وقول أبي عبدالله (عليه السلام) في خبر المفضل بن عمر الوارد في بيان الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم (عليه السلام):" ثم أعلمه عز وجل أن الحكم بالنجوم خطأ"(2) ، وغيرها.

كما يمكن الاستدلال عليه بمعتبر عبد الملك بن أعين: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة فإذا نظرت إلي الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة. فقال لي: تقضي ؟ قلت: نعم. قال: أحرق كتبك"(3). فإن الأمر بإحراق الكتب لو كان ابتدائياً لأمكن حمله علي الإرشاد للتخلص من المعاناة التي أشار إليها السائل، إلا أنه حيث كان متفرعاً علي القضاء فالظاهر كونه إرشادياً من أجل التخلص من النظر في الكتب المذكورة، لعدم إناطة السائل المعاناة بالقضاء، بل هي حاصلة له فعلاً بالفرض.

ولا فرق في ذلك بين قراءة (تقضي) بالبناء للفاعل، كما هو الموجود في الفقيه والوسائل، ويراد به حينئذٍ الحكم والجزم بمؤدي العلم، وقراءته بالبناء للمفعول، كما قد يدعي أنه الأنسب بالمعاناة التي أشار إليها السائل، إذ لو كان جازماً بمؤدي الطالع وصدقه لم يكن للمعاناة وجه، بل يلزمه الأنس بذلك، لأن العلم بنتائج العمل قبل الإقدام عليه خير محض. وعلي ذلك يكون المراد قضاء الحاجة عند الخروج إليها بعد ظهور طالع الخير.

والوجه في عدم الفرق بين القراءتين: أنه علي الوجه الأول لا يكون الأمر بإحراق الكتب مع القضاء بمؤدي الطالع والجزم به إلا للفرار عن القضاء المذكور برفع موضوعه، فيدلّ علي حرمة القضاء وكونه محذوراً يجب التخلص منه. كما أن علي الوجه الثاني لا يكون الأمر بإحراق الكتب إلا من أجل أن قضاء الحاجة تبعاً لطالع الخير يوجب استحكام العقيدة بالنجوم، بنحو قد يؤدي للجزم بمفادها، فيدلّ أيضاً علي أن الجزم المذكور محذور يجب التخلص منه. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر إلي الحج وغيره حديث: 1.

ص: 227

مضافاً إلي أمرين:

الأول: النصوص الكثيرة التي يظهر منها ضياع علم النجوم علي الناس وعدم وصولهم له، كخبر عبد الرحمن بن سيابة:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها، وهي تعجبني، فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني. فوالله أني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون، لا تضر بدينك. ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيره لا يدرك، وقليله لا ينتفع به..."(1) ، وقوله (عليه السلام) في خبر هشام الخفاف: "إن أصل الحساب حق، ولكن لا يعلمه إلا من يعلم مواليد الخلق كلهم"(2).

وصحيح جميل بن صالح عمن أخبره عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سئل عن النجوم. فقال: ما يعلمها إلا أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند"(3) ، وقوله (عليه السلام) في الرد علي دعوي أن النجوم أصح من الرؤيا: "كان ذلك صحيحاً قبل أن ترد الشمس علي يوشع بن نون وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما رد الله الشمس عليهما ضل فيها علماء النجوم، فمنهم مصيب ومنهم مخط" (4) وغيرها. فإن ضياع العلم علي الناس يلزمه خطأ مدعي العلم بالغيب من طريقه، وحرمة تصديقه في إخباره.

الثاني: ما هو المعلوم من الدين من تعرض الحوادث للمحو والإثبات بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وقطيعته والتوكل علي الله تعالي وغيرها، بنحو يمنع من القطع بالحوادث المستقبلية نتيجة الأوضاع الفلكية ونحوها إلا لمن أطلعه الله تعالي علي غيبه. فإن مقتضي ذلك عدم القطع علي الحوادث المستقبلة، بل غاية ما يمكن الإطلاع عليه هو المقتضيات الأولية مع التعرض للمحو والإثبات.

ومن هنا لا ينبغي الإشكال في حرمة الإخبار الجازم بالحوادث المستقبلة من طريق علم النجوم، وحرمة تصديق المخبر في ذلك لو تعمده. وقد تقدم في ذيل الكلام في حرمة الكهانة ما ينفع في المقام. فراجع.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 24 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2، 4، 9.

ص: 228

(مسألة 26): الغش حرام (1). قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "من غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه وسَد عليه معيشته ووكله إلي نفسه"(1). ويكون الغش بإخفاء الأدني في الأعلي (2)،

---------------

وبذلك يظهر قرب الجمع بين ما في جملة من النصوص من النهي عن النظر في علم النجوم وجملة أخري من الترخيص في ذلك، بحمل الأولي علي النظر المبتني علي الجزم بالنتائج، أو علي الكراهة حذراً من الوصول لذلك، والثانية علي صورة الأمن من ذلك، وابتناء النظر علي مجرد الإطلاع علي مقتضيات العلم المذكور، أو علي الظن من دون جزم بالنتائج، كما يناسبه ما تقدم في معتبر عبد الملك من ترتب الأمر بإحراق الكتب علي القضاء بما يؤدي إليه النظر أو قضاء الحاجة تبعاً له، وما تقدم في خبر عبد الرحمن بن سيابة من الجمع بين الترخيص في النظر في النجوم والتنبيه لعدم الفائدة فيها، لعدم الإحاطة التامة بها. فلاحظ.

(1) كما نفي الخلاف فيه غير واحد، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. كما أن النصوص مستفيضة أو متواترة فيه ".وسوف يأتي التعرض لكثير من النصوص. ومن ثم لا ينبغي التأمل في الحكم.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره المحقق الايرواني (قدس سره) من إنكار حرمة الغش بنفسه تكليفاً، وأن المحرم هو ما قد يصاحبه من الكذب، وأكل أموال الناس من دون رضاً منهم. فإنه خروج عن ظاهر النصوص والفتاوي من دون وجه.

(2) قال في لسان العرب:" الغش نقيض النصح، وهو مأخوذ من الغَشَش المشرب الكدر ".والذي يظهر من موارد استعمال مادة الغش أن الغش يقابل الصفاء، وهو يكون في الماديات بمجرد المزج والخلط من دون نظر للتلبيس، ومنه ما ورد في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 11، إلا أن فيه:" أفسد عليه معيشته ".

ص: 229

كمزج الجيد بالرديء (1). وبإخفاء غير المراد بالمراد، كمزج الماء باللبن، وبإظهار الصفقة الجيدة مع أنها مفقودة واقعاً، مثل رشّ الماء علي بعض الخضروات، ليتوهم أنها جديدة. وبإظهار الشيء علي خلاف جنسه، مثل طلي الحديد بماء الفضة أو الذهب، ليتوهم أنه فضة أو ذهب. وقد يكون بترك الإعلام مع ظهور العيب وعدم خفائه (2)، كما إذا اعتمد المشتري علي البايع

---------------

الصلاة في الخز يغش بوبر الأرنب(1). وفي بيع الدنانير المغشوشة(2). وأما في مثل النية والنصيحة فهو يكون بخروجها عن الصفاء والخلوص والنصح.

والظاهر أن ذلك هو المنظور في المقام بلحاظ أن الغاش يخدع المغشوش، ويلبّس عليه ويوهمه الأمر علي خلاف واقعه وهو خلاف النصح له وصفاء النية والمودة معه، سواءً كان ذلك بالمزج بما يخفي، كشوب اللبن بالماء، أم بغيره، كإخفاء العيب، ومدح السلعة كذباً أو إظهارها علي خلاف حالها، أو غير ذلك.

وعلي ذلك يلزم أولاً: علم المسبب بالحال. وثانياً: جهل الطرف الثاني به. وثالثاً: استناد خطئه وتورطه للمسبب. فلا يصدق مع جهل المسبب بالحال، ولا مع علم الطرف الثاني به، ولا مع استناد اشتباهه لغفلته عرفاً.

(1) يعني مزجاً يوجب خفاء الرديء والتباس الأمر. أما إذا لم يوجب ذلك فلا يصدق الغش بالمعني الذي هو محل الكلام، كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" أنه سئل عن الطعام الجيد يخلط بعضه ببعض، وبعضه أجود من بعض. قال: إذا رئيا جميعاً فلا بأس، ما لم يغطّ الجيد الرديء"(3).

(2) أما مع خفاء العيب فالأمر أظهر. ولا يحتاج حينئذٍ إلي اعتماد المشتري

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 9 من أبواب لباس المصلي حديث: 2، وباب: 10 منها حديث: 15.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1.

ص: 230

في عدم إعلامه بالعيب (1)، فاعتقد أنه صحيح ولم ينظر في المبيع، ليظهر له عيبه، فإن عدم إعلام البايع بالعيب مع اعتماد المشتري عليه غش المشتري (2).

---------------

علي البايع، لأن أصالة السلامة من العيب ترجع إلي ظهور حال المبيع في السلامة، فتعريض المبيع مع ذلك للبيع من دون تنبيه لعيبه يكون عرفاً غشاً للبايع وسبباً في اشتباهه.

ولذا ورد النهي عن كتمان العيب، ففي موثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

من باع واشتري فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشترين ولا يبيعن: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والحمد [والمدح] إذا باع، والذم إذا اشتري" ونحوه المرسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) .

(1) بأن ظهر منه التعويل عليه والاستغناء به عن النظر للمبيع واستكشاف حاله.

(2) ظاهره توقف الغش مع ظهور العيب وعدم بيان البايع له علي اعتماد المشتري علي البايع، أما مع عدم اعتماده عليه فلا غش لو أقدم المشتري علي الشراء غفلة عن العيب. وبذلك صرح به شيخنا الأعظم (قدس سره). قال تعقيباً علي نصوص الغش: "فلا يدل الروايات علي وجوب الإعلام إذا كان العيب من شأنه التفطن له، فقصر المشتري وسامح في الملاحظة" .وما ذكره (قدس سره) قريب جداً. إذ لا يكون البايع حينئذٍ ملبساً علي المشتري، ولا موهماً له خلاف الواقع، وقد سبق منّا توقف الغش علي استناد اشتباه المغشوش للغاش.

وأما ما تضمن النهي عن كتمان العيب، فهو ظاهر أو منصرف للعيب الخفي الذي يحتاج ظهوره للبيان، ولا يشمل العيب الظاهر في نفسه.

كما أن ما سبق في صحيح محمد بن مسلم من اعتبار رؤية الجيد والرديء جميعاً ظاهر في اعتبار كونهما معاً مكشوفين معرضين للرؤية، لا رؤيتهما فعلاً، ولذا أنيط المنع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث 2، وذيله.

ص: 231

بتغطية الجيد للرديء، التي يتعذر معها رؤية الرديء عادة.

وكذا الحال في صحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد، سعرها بشيء [شيء. كافي. شتي. فقيه، تهذيب] وأحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعر واحد. فقال: لا يصلح أن يغش به المسلمين حتي يبينه"(1). فإن النهي فيه عن الغش ملزم بحمل البيان علي البيان الذي يتوقف عليه منع الغش، لا ما يعم المقام.

علي أنه لو بني علي وجوب الإعلام في مثل ذلك لوجب التنبيه لكل صفة في المبيع يعتقدها المشتري علي خلاف الواقع من دون أن يكون البايع ملبساً عليه فيها، كما لو اعتقد أن السلعة لها سوق نافق أو ذات فوائد خاصة أو غير ذلك، لظهور أن الغش لا يختص بالعيوب، فلو كان يعم - موضوعاً أو حكماً - خطأ المشتري من دون تلبيس وإيهام من البايع، لزم عمومه لذلك.

بل يلزم العموم في مثل ذلك لغير البيع، كالنكاح وغيره، بناءً علي ما يأتي من عموم حرمة الغش، كما لو تخيل الخاطب صفة كمالية أو جمالية في المرأة أو في أهلها فأقدم علي خطبتها من أجلها، أو تخيل مستأجر الدار صفة كمالية فيها أو في جيرانها فأقدم علي استئجارها كذلك، أو اندفع شخص لمخالطة شخص أو صداقته فتحمل متاعب ذلك لتخيل صفة فيه لا واقع لها وغير ذلك، فإن لازم العموم المذكور وجوب التنبيه للخطأ في جميع ذلك، كما يحرم التلبيس والإيهام فيه.

بل ربما يكون مقتضي ذلك وجوب البيان ورفع التوهم حتي علي الأجنبي، لما هو المعلوم من عموم حرمة الغش له، فيحرم مدح السلعة التي يراد بيعها والمرأة المعرضة للزواج والرجل المعرض للعشرة بنحو يوقع الغير في المحذور، فلو كان الغش يتحقق من الشخص بمجرد ترك الغافل علي غفلته وعدم تنبيهه لخطئه وإن لم يعتمد الغافل عليه لزم حرمة ذلك علي الأجنبي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 2.

ص: 232

هذا ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء علي ذلك، بل لا يظن بأحد البناء عليه. فلا معدل عما سبق من المدار علي التلبيس والإيهام، لتوقف الغش المحرم عليه، وعدم الدليل علي حرمة ما عداه.

بقي في المقام أمور:

الأول: ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) في مجلس درسه الشريف في حديث عابر اختصاص حرمة الغش بالبيع والنكاح، وحكاه عن بعض من سبقه من معاصريه. وهو الذي ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في مسألة حرمة تدليس الماشطة، مدعياً اختصاص النصوص المتضمنة للحرمة بهما.

وكأنه (قدس سره) نظر إلي بعض النصوص الواردة في الغش، كموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: نهي النبي [رسول الله] (صلي الله عليه وآله وسلّم) أن يشاب اللبن بالماء للبيع"(1) ، ومعتبر الحسين بن زيد الهاشمي عنه (عليه السلام) في حديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) مع زينب العطارة: "قال: إذا بعتي فأحسني ولا تغشي، فإنه اتقي وأبقي للمال" (2) وغيرهما مما ورد في البيع، وكذا النصوص الواردة في تدليس الخصي نفسه في النكاح، المتضمنة أنه يوجع ظهره، كموثق سماعة عنه (عليه السلام): "إن خصياً دلس نفسه لامرأة. قال: يفرق بينهما وتأخذ منه صداقها، ويوجع ظهره، كما دلس نفسه"(3) ، وغيره.

لكن مقتضي إطلاق جملة منها العموم، كصحيح هشام بن سالم عنه (عليه السلام):" قال: ليس منا من غشنا"(4) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في حديث المناهي(5) ، وحديث عيون الأخبار بأسانيده عن الإمام الرضا (عليه السلام)(6) ، وخبر المجالس(7):" ليس منا من غش مسلماً "وغيرهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 13 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 10، 12.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 10، 12.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 10، 12.

(7) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 137 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1.

ص: 233

وكذا ما في غير واحد من النصوص - علي ضعف في أسانديها - من النهي عن الخديعة وأنها في النار(1) ، فإن الخديعة والغش متطابقان مفهوماً أو مصداقاً أو متقاربان. وربما يستفاد أيضاً مما تضمن أن من حقوق المؤمن علي المؤمن أن لا يغشه ولا يخدعه(2)... إلي غير ذلك. ولا تنهض النصوص الأول بتقييد الإطلاق المذكور، لعدم ظهورها في الحصر.

ولاسيما وأن من القريب أن يكون النهي فيها عن الغش في البيع والنكاح لأنه من مصاديق مطلق الغش الحرام، لأنه الأنسب بالمرتكزات، بل هو مقتضي إطلاق مثل صحيح هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لرجل يبيع التمر: يا فلان أما عملت أنه ليس من المسلمين من غشهم"(3).

بل هو كالصريح من صحيح هشام بن الحكم: "كنت أبيع السابري في الظلال فمرّ بي أبوا الحسن موسي (عليه السلام) راكباً، فقال لي: يا هشام إن البيع في الظلال غش، والغش لا يحل"(4) ، وقوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) في حديث طويل مروي عن عقاب الأعمال:" ومن غش مسلماً في بيع أو شراء فليس منا، ويحشر مع اليهود يوم القيامة، لأن من غش الناس فليس بمسلم"(5).

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في نهوض الإطلاقات بإثبات عموم حرمة الغش وعدم اختصاصه بالبيع والشراء والنكاح، من دون مخرج عنها ينهض بالتقييد.

وقد أعترف بعض مشايخنا (قدس سره) بذلك في مسألة حرمة الغش، قال في مصباح الفقاهة: "إن ظاهر المطلقات المتقدمة هو حرمة الغش علي وجه الإطلاق، سواءً أكان في المعاملة أم في غيرها. إلا أنه لابد من صرفها إلي خصوص المعاملات في الجملة، بداهة أنه لا بأس بتزيين الدور والألبسة والأمتعة لإراءة أنها جديدة، مع

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 8 باب: 137 من أبواب أحكام العشرة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 8 باب: 122 من أبواب أحكام العشرة.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11.

ص: 234

أنها عتيقة، وكذلك لا بأس بإطعام الطعام المغشوش وسقي اللبن الممزوج للضيف وغيره، وبذل الأموال المغشوشة للفقراء. بل يمكن دعوي عدم صدق الغش في هذه الموارد أو بعضها".

وببالي أن سيدنا المصنف (قدس سره) في مجلس درسه الشريف كان يستشهد علي عدم حرمة الغش بنحو ذلك، مثل جواز التجمل في اللباس والتستر بالمعصية ونحوهما، بل استحباب ذلك في الجملة.

لكن الاستشهاد علي منع عموم حرمة الغش بعدم التحريم في الأمثلة المتقدمة ونحوها موقوف علي كونها من الغش، أما مع خروجها عنه موضوعاً - كما أشير إليه في آخر الكلام السابق - فهو لا ينافي العموم لإطلاق النصوص المتقدمة، كما هو ظاهر.

والظاهر الثاني، لعدم وضوح كون الغش المحرم مطلق إظهار خلاف الواقع، بل المتيقن منه خصوص ما يترتب عليه وقوع الغير فيما لا يقدم عليه تجنباً لمحذور ديني أو دنيوي. إما لأخذ ذلك في مفهوم الغش لغة، كما هو غير بعيد، ويناسبه ما في كلام بعض أهل اللغة من أنه ضد النصح. وإما لأنه المنصرف من دليل تحريمه، بلحاظ منافاته للأمانة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، أو لمقتضي الأخوة والمودة المفروضة بين المؤمنين، المقتضية لعدم تغرير بعضهم لبعض وإضراره به. ولذا عدّ عدم الغش من حقوق المؤمن، ومن الظاهر أن مجرد إظهار خلاف الواقع من دون أن يضر بالغير ويوقعه في خلاف ما يريد لا ينافي شيئاً من ذلك.

نعم لو ترتب علي الأمثلة المتقدمة وقوع الغير فيما لا يقدم عليه لو عرف حاله صدق الغش عليها وتعين البناء علي الحرمة فيها، كما لو كان الضيف لا يقدم علي شرب اللبن الممزوج بالماء لو علم به لمحذور مقتنع به، أو كان الفقير لا يقبل النقد المغشوش لمحذور يراه لا لمجرد نقص قيمته. وكذا الحال في بقية الأمثلة. ومن هنا لا مجال للخروج عن إطلاق أو عموم أدلة النهي عن الغش المتقدمة.

ص: 235

الثاني: لا يخفي أن جملة من النصوص المتقدمة مختصة بالمسلم، بل المؤمن، ولا تشمل ما إذا كان المغشوش غير المؤمن. إلا أن بعض النصوص مطلق من هذه الجهة، كموثق السكوني ومعتبر الحسين بن زيد وصحيح هشام بن الحكم المتقدمة وغيرها.

ومن الظاهر أنه لا تنافي بدواً بين الطائفتين، لعدم ظهور الطائفة الأولي في الحصر، ليكون مقتضي الجمع العرفي حمل إطلاق الطائفة الثانية عليها. ولازم ذلك البناء علي عموم حرمة الغش للكافر، فضلاً عن المسلم غير المؤمن.

إلا أن ظهور الطائفة الأولي في ابتناء التحريم علي مراعاة حق المؤمن ومقتضي أخوته يوجب ظهورها في الحصر، لعدم ثبوت الحق لغيره المستلزم لمنافاتها للطائفة الثانية، وتحكيمها عليها بمقتضي الجمع العرفي، فيختص التحريم بالمسلم، بل المؤمن، لأنه هو مورد الحق، دون غير المؤمن. وبذلك يتعين الخروج عن إطلاق المسلم في جملة من النصوص.

ولاسيما مع قرب الجمع بينهما بحمل المسلم علي المسلم التام الإسلام، كما يناسبه ذكر عنوان الإسلام في كثير من النصوص موضوعاً للحقوق المذكورة للمؤمن. واختصاص ما تضمن عنوان المسلم من نصوص المقام بالنصوص الواردة عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) قبل تفرق فرق المسلمين وظهور خروج من خرج منهم عن أصول الإيمان. وقد تقدم منّا في مسألة تغسيل المخالف ما ينفع في المقام.

اللهم إلا أن يقال: النصوص الأول المتضمنة للنهي عن الغش بملاك مراعاة حق المؤمن إنما تنافي النصوص المطلقة الشاملة لغير المؤمن بل لغير المسلم لو كانت ظاهرة في انحصار ملاك النهي عن الغش بمراعاة حق المؤمن، بحيث لا ملاك له سواه، إلا أنه لا ينبغي الإشكال في عدم ظهورها في ذلك، بل مجرد النهي عن غشه رعاية لحقه، والنهي المذكور لا ينافي عموم النهي عن الغش بملاك آخر شامل للمؤمن وغيره، ولو بلحاظ منافاته للخلق الكريم الذي يريده الله تعالي للإنسان.

ولذا تضمنت نصوص حقوق المؤمن أن لا يخونه ولا يظلمه، مع وضوح عدم

ص: 236

انحصار حرمة الأمرين بالمؤمن بل تحرم خيانة كل أحد في عهده وأمانته، كما يحرم ظلمه. ومن هنا لا تنهض النصوص المذكورة بتقييد إطلاق النهي بنحو يشمل غير المؤمن، بل المسلم.

نعم يقرب انصراف النهي عما إذا كان المغشوش معتدياً، ويراد بغشه تجنب عدوانه والتخلص منه، لسقوط حرمته ارتكازاً بعدوانه. ويناسبه أو يدل عليه ما تضمن جواز الكذب بل اليمين لدفع الظلم. بل لعل الأمر أظهر من ذلك.

هذا كله بالنظر للغش بذاته. أما بلحاظ العناوين الثانوية فلا ينبغي التأمل في حرمته لو أوجب توهين المؤمنين وسوء سمعتهم، فضلاً عما إذا أوجب الإضرار بهم بتحرز الناس منهم، أو تجنبهم معاملتهم، أو اعتزالهم لهم، أو تشنيعهم عليهم، أو نحو ذلك. لأهمية المحاذير المذكورة شرعاً بحيث يعلم بحرمة ما يؤدي إليها. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

الثالث: قال شيخنا الأعظم (قدس سره) تعقيباً علي نصوص تحريم الغش: "ويمكن أن يمنع صدق الأخبار المذكورة إلا علي ما إذا قصد التلبيس، وأما ما هو ملتبس في نفسه، فلا يجب عليه الإعلام. نعم يحرم عليه إظهار ما يدل علي سلامته من ذلك. فالعبرة في الحرمة بقصد تلبيس الأمر علي المشتري".

والظاهر رجوع ما ذكره إلي أنه لابد من كون الغش والتلبيس داعياً للعمل الموجب له، ولا يكفي ترتبه من دون أن يكون داعياً، ككون الشيء معيباً في نفسه، كالثمرة التالفة في شجرتها، أو بفعل غير الشخص، أو بفعل الشخص نفسه غفلة، أو لداع آخر، كنضح الماء علي البقل من أجل حفظه من التلف إذا كان موهماً لكونه جديداً. فيرجع لما في الرياض، حيث قال: "ثم لو غش لكن لا بقصده، بل بقصد إصلاح المال لم يحرم. للأصل. واختصاص ما مر من النص بحكم التبادر بصورة القصد. وللصحيح...".

هذا ولا يخفي أن الغش لا يتحقق بفعل ما يوجب الإيهام والتلبيس، كشوب

ص: 237

اللبن بالماء، ومزج الجيد بالرديء وستر الرديء بالجيد، بل بإيقاع الغير في المحذور الذي لا يقدم عليه لولا الإيهام والتلبيس، كأن يعرض للبيع اللبن المشوب بالماء والطعام الممزوج بالرديء، أو الذي ستر الرديء بالجيد منه، وأن يقدم الخصي علي الزواج موهماً أنه غير خصي، وأن تعرض الثيب نفسها للزواج مع إيهام كونها بكراً ونحو ذلك. ولذا تختص حرمة كتمان العيب بمن يعرض المبيع للبيع يبيعه دون غيره ممن يعلم بالعيب ولا دخل له بالمبيع، بخلاف مدح السلعة علي خلاف واقعها، فإنه يحرم من كل أحد، لأنه بنفسه سبب في حمل المشتري علي شرائها سواء كان من البايع أم من غيره.

وحينئذٍ لا أثر في تحقق الغش للقصد حين فعل ما يوجب الإيهام والتلبيس كخلط الجيد بالرديء.

وأما حين إيقاع الغير في المحذور بالبيع أو النكاح أو غيرها فالقصد للغش إن كان بمعني كونه داعياً لإيقاع المعاملة فهو غالباً لا يتحقق، بل يكون الداعي غالباً هو الانتفاع المترتب علي المعاملة، ككسب المال، وتحصيل الزوج أو الزوجة، ولا يكون الغش داعياً إلا قليلاً أو نادراً كما إذا كان الذي يراد غشه عدواً يراد بالتعامل معه غشه وإيذاؤه من دون نظر لفائدة المعاملة، ومن الظاهر أنه لا مجال لحمل أدلة تحريم الغش علي خصوص هذه الصورة.

وإن كان القصد للغش بمعني إقدام طرف المعاملة عليها مع العلم بالتباس الأمر علي الطرف الآخر فهو متحقق حتي لو كان حصول سبب الالتباس غير مقصود له أو لم يكن بفعله. ومن ثم يتعين البناء علي عموم حرمة الغش لذلك.

مضافاً إلي أن ذلك مقتضي النصوص الخاصة، مثل ما تضمن النهي عن كتمان العيب(1). لوضوح أن العيب في الغالب يحصل قهراً علي صاحب المتاع، ولا يقع باختياره بداعي التلبيس علي المشتري. ومثله ما سبق من تدليس الخصي نفسه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب آداب التجارة حديث: 2، وذيله.

ص: 238

وصحيح محمد بن مسلم المتقدم عن أحدهما (عليهما السلام): "أنه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض وبعضه أجود من بعض. قال: إذا رؤيا جميعاً فلا بأس ما لم يغط الجيد الرديء"(1). لشمول إطلاقه لما إذا غطي الجيد الرديء صدفة أو لغرض آخر غير التلبيس، وصحيح الحلبي المتقدم أيضاً عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما بشيء [شيء. كافي. شتي. فقيه. تهذيب]، وأحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعر واحد. فقال: لا يصلح أن يغش المسلمين حتي يبينه"(2). فإن إطلاقه شامل لما إذا لم يكن الخلط بداعي التلبيس، بل مع البناء علي الإعلام.

وكذا ما سبق في صحيح هشام بن الحكم، فإن البيع في الظلال قد لا يكون بداعي الغش - خصوصاً من مثل هشام - بل من أجل الفرار من الحرّ، أو لعدم وجود المكان الملائم للبيع في غيره. بل تنبيه الإمام (عليه السلام) لتحقق الغش بذلك ظاهر في عدم التفات هشام له، فضلاً عن كونه داعياً له... إلي غير ذلك.

وأما الصحيح الذي استدل به في الرياض فهو صحيح الحلبي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له وأنفق له أن يبله من غير أن يلتمس زيادته. فقال: إن كان بيعاً لا يصلحه إلا ذلك ولا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، وإن كان إنما يغش المسلمين فلا يصلح"(3).

لكنه كما تري ظاهر في التفصيل بين أنواع الطعام المبيع، وأنه إن كان من النوع الذي يكون صلاحه ببله، ولا يبل من أجل زيادته غشاً له فلا بأس ببله، وإن كان من النوع الذي يكون بله غشاً له ومظهراً له علي خلاف حقيقته فبلّه محرم. وأين هذا من التفصيل بين كون الغش داعياً وغيره الذي هو محل الكلام ؟! ومن ثم لا مجال للخروج به عما ذكرنا.

وكأن ما ذكراه (قدس سرهما) ناشئ من ارتكاز أن الغش من الأمور القصدية

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2، 3.

ص: 239

الممقوتة، كالرياء والنفاق. أو أن تحريمه يبتني علي ذلك، بحيث ينصرف دليله إليه وإن كان مفهومه أعم، كما قد يظهر مما تقدم من الرياض. لكن الظاهر أنه متقوم بالقصد بمعني الإقدام علي تغرير الغير وخدعه عن التفات. وهو قبيح وممقوت قطعاً، وليس متقوماً بالقصد بمعني كون ذلك داعياً. كما أنه بعد عمومه فتحريمه لا يبتني علي ذلك ولا ينصرف دليله إليه، بل هو لا يناسب ما تقدم. نعم قصده بالمعني المذكور أشد مقتاً وقبحاً.

الرابع: ذكرنا آنفاً أن الغش لا يتحقق بفعل ما يوجب الإيهام والتلبيس، كشوب اللبن بالماء ومزج الجيد بالرديء، بل بإيقاع الغير في المحذور الذي لا يقدم عليه لولا الإيهام والتلبيس، كعرض اللبن المشوب بالماء والطعام الممزوج بالرديء للبيع. ويترتب علي ذلك أن الغاش هو الموقع في المحذور كالبايع في المثال، لا الذي يفعل ما يوجب الإيهام والتلبيس.

نعم إذا كان الموقع في المحذور جاهلاً بالحال لم يكن غاشاً قطعاً. وحينئذٍ قد ينسب الغش لمن هو أسبق منه، كفاعل ما يوجب التلبيس والإيهام مع التفاته للحال وإغفاله لمن بعده. كما يناسبه ما ورد في عيوب المرأة المسوغة للفسخ من أن لها المهر مع الدخول، ويرجع به علي الولي، لأنه دلسها، فإن لم يكن يعرف دخيلة أمرها فلا شيء عليه بل يؤخذ المهر منها(1) ، وغيره.

وكيف كان فلا مجال للبناء علي حرمة فعل ما يوجب الإيهام والتلبيس إذا ترتب عليه الغش من الغير. نعم بناءً علي عموم حرمة الإعانة علي الإثم يتعين البناء علي الحرمة. لكن سبق في المسألة الثامنة عدم ثبوت العموم المذكور.

هذا ولكن ذكر الأصحاب (رضي الله عنهم) حرمة تدليس الماشطة للمرأة من أجل أن تتزوج، أو الجارية من أجل أن تباع، وفي الجواهر:" بلا خلاف أجده، كما عن بعضهم الاعتراف به، بل عن آخر الإجماع عليه وهو الحجة".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب العيوب والتدليس حديث: 2.

ص: 240

إلا أنه لا مجال للتعويل علي الإجماع بعد عدم ظهور كونه إجماعاً تعبدياً. ولاسيما مع قرب استنادهم للنصوص الناهية عن وصل شعر المرأة بشعر غيرها بعد حملها علي الغش، كما يظهر من بعض كلماتهم، حيث يتعين حينئذٍ النظر في تلك النصوص سنداً ودلالة، والعمل ما يتحصل منها.

إذا عرفت هذا فاعلم: النصوص المذكورة وإن لم تخل عندهم عن خدش في السند، إلا أن تعددها يوجب الوثوق بمضمونها إجمالاً. علي أن بعضها لا يخلو عن اعتبار، كمرسل بن أبي عمير عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: دخلت ماشطة علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه ؟ فقالت: يا رسول الله أنا أعمله، إلا أن تنهاني عنه فانتهي عنه. فقال: افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي [تحكي] الوجه بالخرق، فإنه يذهب بماء الوجه، ولا تصلي الشعر بالشعر"(1). ويؤيده معتبر علي: "سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك، وقد دخلها ضيق. قال: لا بأس، ولكن لا تصل الشعر بالشعر"(2) ، وخبر عبدالله بن الحسن:" سألته عن القرامل. قال: ما القرامل ؟ قلت: صوف تجعله النساء في رؤوسهن. قال: إذا كان صوفاً فلا بأس. وإن كان شعراً فلا خير فيه من الواصلة والموصولة"(3) ، وغيرهما.

وقد يظهر من بعضهم حمل النهي المذكور علي تحقق الغش بذلك. لأن وصل الشعر بالشعر يوهم كونه شعر المرأة نفسها بخلاف وصله بالصوف حيث رخصت النصوص فيه.

لكن لا إشعار في النصوص بفرض الغش بذلك، بل مقتضي إطلاقها العموم لصورة عدمه للعلم بالحال، أو لعدم وجود شخص يراد غشه، بل المراد بذلك التزيين للناس أو الزوج أو المولي. ولاسيما وأن تمشيط العروس إنما يكون بعد عقد النكاح عليها، فلا يكون منشأ لغش الزوج.

نعم يظهر من الأصحاب البناء علي كراهة الوصل المذكور مع عدم الغش به

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 4، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 4، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 4، 5.

ص: 241

وعدم حرمته.

وربما استدل له بمعتبر سعد الإسكاف: "سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن يصلنه بشعورهن. فقال: لا بأس علي المرأة بما تزينت به لزوجها. قال: فقلت: بلغنا أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لعن الواصلة والموصولة. فقال: ليس هناك، إنما لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الواصلة التي تزني في شبابها، فلما كبرت قادت النساء إلي الرجال، فتلك الواصلة والموصولة"(1).

لكن مقتضي الجمع العرفي بينه وبين نصوص النهي عن وصل الشعر هو تقييده بها، لا جعله شاهداً علي حملها علي الكراهة. نعم لو تمّ حمل نصوص النهي علي صورة الغش تعين جعل إطلاقه شاهداً علي جواز وصل الشعر بالشعر. إلا أنه سبق المنع من ذلك. مع أنه عليه لا يبقي دليل علي كراهة وصل الشعر بالشعر.

اللهم إلا أن يقال: عدم اقتصار الإمام (عليه السلام) علي بيان مورد السؤال، وهو وصل القرامل، وبيان عموم جواز الزينة، موجب لقوة شمول العموم، لوصل الشعر بالشعر، الذي هو من أفراد الوصل، إذ لو كان محرماً لكان المناسب جداً استثناؤه من العموم، منعاً لتخيل جوازه كالقرامل. بل هو أولي من التنبيه عليه في خبر عبدالله بن الحسن المتقدم. ولاسيما مع التنبيه علي خطأ تفسير النبوي بوصل شيء بالشعر، الذي أظهر أفراده وصل الشعر بالشعر.

ومن ثم لا يبعد كون معتبر سعد صالحاً للقرينية علي حمل النهي في تلك النصوص عن وصل الشعر بالشعر علي الكراهة. ولا أقل من التوقف والتردد بين الجمع بذلك والجمع بتخصيص النهي المذكور للعموم الذي تضمنه المعتبر المذكور الراجع لإجمال الأدلة حكماً، والرجوع لأصالة البراءة من حرمة وصل الشعر بالشعر.

علي أن ظهور مفروغية الأصحاب عن عدم الحرمة في مثل هذه المسألة العملية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

ص: 242

(مسألة 27): الغش وإن حرم لا تفسد المعاملة به (1).

---------------

كافٍ في المقام، فإنه إن لم ينهض بالقرينية علي حمل النهي علي الكراهة فلا أقل من كونه موجباً للريب عرفاً في مطابقة ظهور النهي في الحرمة للواقع بنحو يسقط عن الحجية، ويكون المرجع بعد ذلك أصل البراءة. فلاحظ. والحمد لله رب العالمين.

(1) لأن حرمة المعاملة تكليفاً لا تقتضي بطلانها، كما حقق في الأصول. خصوصاً إذا لم يكن النهي عنها بعنوانها، بل بعنوان خارج عنها، كالغش.

وأما ما سبق منا في القمار من استفادة عدم ترتب الأثر تبعاً من النهي التكليفي عن المعاملة. فهو إنما يتجه فيما إذا كان موضوع النهي هو المعاملة بعنوانها، كالقمار، دون مثل المقام مما كان الموضوع عنواناً عاماً ينطبق علي المعاملة وغيرها مما ليس له أثر اعتباري. أو كان خصوصية في المعاملة زائدة عليها، كالبيع وقت النداء.

ومثله ما تكرر في كلماتهم من أن النهي في المعاملات ونحوها من الماهيات ذات الأجزاء والشرائط ينصرف إلي بيان عدم تماميتها وعدم ترتب الأثر عليها. لاندفاعه بأن مرجع ذلك إلي حمل النهي علي الإرشاد لفساد المعاملة من دون أن يكون نهياً تكليفاً، والمفروض في المقام - تبعاً لظاهر النصوص - أن النهي تكليفي، وأنه متعلق بعنوان يعم المعاملة وغيرها مما لا يكون من الماهيات ذات الأجزاء والشرائط التي يراد منها ترتيب أثرها ولا يتصف بالصحة والفساد.

علي أنه قد يقال: إن الغش لا يكون بنفس البيع، بل بتعريض السلعة للبيع، بنحو يتوهم معه سلامتها، الذي هو نظير مدح السلعة علي خلاف واقعها، وليس البيع إلا الغاية من الإيهام، التي يناط بها صدق الغش عليه، لما سبق من أن إيهام خلاف الواقع لا يكون غشاً إلا إذا أوجب وقوع الغير في المحذور.

فالبيع وإن توقف عليه صدق الغش، إلا أن الغش لا يصدق علي البيع نفسه، بل ما يدفع له ويحمل عليه مما يوهم كون المبيع علي خلاف واقعه، كعرضه للبيع مع

ص: 243

الإيهام المذكور، وكمدحه كذباً من البايع أو غيره. وعليه ينزل ما سبق في صحيح هشام بن الحكم من أن البيع في الظلال غش. وبناءً علي ذلك فالمنهي عنه لا ينطبق علي البيع، ليتوهم اقتضاؤه للفساد.

ودعوي: أن المقصود بالمعاملة هو الأمر المتخيل بسبب الغش - كاللبن المحض والطعام الجيد ونحوهما - دون الواقع المغشوش، ومع تخلف المقصود بالمعاملة يتعين بطلانها.

مدفوعة بأن موضوع المعاملة هو الأمر الخارجي الذي وقعت عليه، وهو محفوظ لم يتخلف. وأما تخيله علي الوجه الخاص الذي اقتضاه الغش فهو غالباً من سنخ الاعتقاد المقارن غير المقوم لموضوع المعاملة، فلا يكون تخلفه موجباً لبطلانها، نظير اعتقاد السلامة مع وجود العيب الذي كان صريح النصوص صحة البيع معه.

غاية الأمر أنه قد يكون داعياً لإيقاع المعاملة أو وصفاً قد ابتنيت عليه، كشراء العبد علي أنه كاتب، وكلاهما لا يكون تخلفه موجباً لبطلانها، بل غاية الأمر ثبوت الخيار فيها، كما سيأتي إن شاء الله تعالي.

هذا وفي معتبر المفضل بن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الدرهم المغشوش قال (عليه السلام): "اكسرها، فإنه لا يحل بيع هذا ولا شراؤه"(1) ، وفي خبر موسي بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه كسر الدينار المغشوش، ثم قال:" ألقه في البالوعة حتي لا يباع شيء فيه غش"(2). ومقتضاهما النهي عن التعامل بالمغشوش وضعاً الراجع لبطلان المعاملة، أو تكليفاً، فيستفاد منه بطلان المعاملة تبعاً، كما سبق.

لكن مقتضي الحديثين النهي عن التعامل بما فيه غش وخلط من غير الجنس ولو مع عدم الغش به للعلم بحاله، وهو أجنبي عما نحن فيه. علي أنه لا مجال للالتزام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 10 من أبواب الصرف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 86 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 244

لكن يثبت الخيار للمغشوش (1). إلا في بيع المطلي بماء الذهب أو الفضة،

---------------

بذلك علي إطلاقه. غاية الأمر أن يخص بمورده وهو النقود المغشوشة. وإن كان الظاهر عدم ثبوت ذلك فيها أيضا علي ما تقدم في المسألة العاشرة. فراجع.

(1) كما تضمنه في الجملة صحيح ميسر عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قلت له: رجل اشتري زقّ زيت فوجد فيه دردياً. قال: فقال: إن كان يعلم أن ذلك يكون في الزيت لم يرده، وإن لم يكن يعلم أن ذلك يكون في الزيت رده علي صاحبه"(1) ، وحديث أبي صادق:" دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) سوق التمارين فإذا امرأة قائمة تبكي وهي تخاصم رجلاً تماراً. فقال لها: ما لك ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين اشتريت من هذا تمراً بدرهم وخرج أسفله ردياً ليس مثل الذي رأيت. قال: فقال: ردّ عليها، فأبي، حتي قالها ثلاثاً، فأبي، فعلاه بالدرة حتي ردّ عليها. وكان يكره أن يجلل التمر"(2).

لكن لا يخفي أنهما لم يتضمنا عنوان الغش، بل المستفاد منهما ثبوت الخيار مع ظهور حال المبيع علي خلاف ما يتوقعه المشتري مطلقاً وإن لم يكن الأمر مبنياً علي الغش والتدليس، وإنما حصل الذي حصل صدفة، أو لأنه مقتضي طبيعة السلعة، كما هو ظاهر الأول.

إلا أن يقال: المناسبات الارتكازية تقضي بأن حكم الأصحاب بثبوت الخيار مع الغش يبتني علي الإرفاق بالمشتري، لا علي عقوبة البايع، وذلك يقتضي إلغاء خصوصية الغش في كلامهم، وعموم الخيار لجميع موارد ظهور المبيع علي خلاف ما يتوقعه المشتري وإن لم يكن مبنياً علي الغش، كما هو المستفاد من الحديثين، فمفاد الحديثين مطابق لحكمهم بثبوت الخيار من هذه الجهة، لا أعم منه. وعلي كل حال فهما صالحان للاستدلال في المقام.

نعم لا ينهض الحديثان بإثبات سببية الغش أو ظهور المبيع علي خلاف م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 1، 2.

ص: 245

يتوقعه المشتري للخيار علي الإطلاق، بحيث يكون الخيار المذكور خياراً مستقلاً في قبال الخيارات المعهودة، لعدم التعرض فيهما لملاك الخيار في موردهما. كما لا مجال لإثبات ذلك من طريق آخر، كارتكاز معاملي أو غيره، لعدم وضوح شيء من ذلك. ومجرد الحكم في الحديثين بثبوت الخيار في موردهما لا يقتضيه، لقرب كونه من صغريات خيار تخلف الوصف المذكور في محله.

فإن الظاهر أن المعيار فيه الوصف الذي يبتني عليه العقد، إما لأخذه في العقد صريحاً، كبيع العبد علي أنه كاتب والثوب علي أنه جديد، أو لاستفادة أخذه من القرائن المحيطة بالعقد، سواءً كانت ارتكازية عامة - كوصف السلامة - أم خاصة لظهور الحال المستفاد من خصوصية السوق أو البايع أو العين أو غير ذلك.

ومن الظاهر شراء زقّ الزيت الذي تضمنه صحيح ميسر ظاهر بدواً في فرض صلاحه بتمامه وعدم كون بعضه دردياً - وهو الكدر الراسب في أسفله - ولا يخرج عن الظهور المذكور إلا بالقرينة، وهي علم المشتري بوجود ذلك في الزيت. وكذلك شراء التمر الذي يجلله الجيد ظاهر في فرض كونه بتمامه جيداً، فظهور المبيع علي خلاف ذلك موجب لخيار تخلف الوصف.

أما لو لم يكن الغش بنحو يوجب ابتناء العقد علي الوصف المفقود فلا طريق لإثبات الخيار. كما لو خدع البايع المشتري بتوقع خاصية في السلعة مرغوب فيها توقعاً اجتهادياً من دون تعهد بها، بحيث يبتني البيع عليها.

وأظهر من ذلك ما إذا كان الغاش أجنبياً عن المعاملة، حيث لا إشكال حينئذ في عدم ابتناء البيع علي الوصف الذي يتحقق به الغش بعد أن كان الغاش غير البايع. من دون فرق بين المواطأة مع البايع وعدمها، لأن المواطأة بينهما لا دخل لها بتحديد خصوصيات البيع الواقع بين البايع والمشتري. ومنه ما سبق من الغش الحاصل بالنجش.

نعم إذا صادف حصول سبب آخر للخيار - كخيار الحيوان في الأيام الثلاثة - فل

ص: 246

فإنه يبطل فيه البيع، ويحرم الثمن علي البايع. وكذا أمثاله مما كان الغش فيه موجباً لاختلاف الجنس (1).

---------------

إشكال في ثبوته به، عملاً بعموم دليله. كما لا إشكال في سقوطه مع حصول المسقط له - كإسقاط الخيار الخاص - عملاً بعموم دليل المسقط المذكور، من دون خصوصية للمقام تمنع من سقوط الخيار فيه بحصول ذلك المسقط.

(1) وتوضيح ذلك: أن العنوان المأخوذ في المبيع الخارجي: تارة: يكون مقوماً لموضوع البيع عرفاً. وأخري: يكون وصفاً زائداً علي الموضوع مرغوباً فيه، بحيث يبتني عليه البيع. وثالثة: يكون وصفاً مقارناً لا دخل له في البيع، لم يذكر لكونه مرغوباً فيه، بل لمجرد اعتقاد وجوده واتصافه به.

والظاهر أنه لا أثر لتخلف الثالث علي البيع أصلاً، بل هو كسائر الاعتقادات المقارنة الخاطئة، كالاعتقاد بطلوع الشمس ونزول المطر.

كما أن تخلف الثاني لا يقتضي بطلان البيع بعد سلامة موضوعه، بل غاية ما يقتضيه هو خيار تخلف الوصف الذي سبق الكلام فيه آنفاً.

أما تخلف الأول فهو يوجب بطلان البيع، لأن البيع وإن تعلق بالأمر الخارجي إلا أن العنوان المأخوذ فيه إذا كان مقوماً للمبيع عرفاً فتخلفه موجب لتخلف المبيع عرفاً وإن كان محفوظاً صورة، فإذا رأي رجل عند آخر تمثال فرس أو بقرة أو حماراً وتخيله فرساً حقيقياً، فقال: بعني هذا الفرس، فباعه إياه علي ذلك فلا مجال للبناء علي صحة البيع المذكور بلحاظ حفظ موضوعه، وهو الأمر المشار إليه، بل يتعين البناء علي بطلانه، لكون عنوان الفرس مقوماً للمبيع عرفاً، فَتخلفه راجع إلي عدم تحقق المبيع ووقوع البيع بلا موضوع فيبطل.

بل يتعين البطلان حتي لو لم يؤخذ العنوان في المبيع، بل صادف اعتقادهما له علي خلاف واقعه، لأن تعيين موضوع البيع تابع للقصد، فمع قصد موضوع لا واقع

ص: 247

له لم يسلم البيع بعد كون المقصود مقوماً للمبيع عرفاً.

بل يكفي في بطلان البيع قصد أحدهما له علي خلاف واقعه إذا كان ما قصده مقوماً للمبيع عرفاً، لاعتبار اتفاق المتعاقدين علي العقد الواحد بجميع أركانه.

نعم الظاهر عدم اطراد تقوم الموضوع بالجنس، بل يختلف باختلاف البيوع: فتارة: يكون المقوم للموضوع هو العنوان المنتزع من الجنس، كالمثال المتقدم، وكما لو أراد الشخص أن يشتري ذهباً أو فضة ليصوغهما، أو صوفاً ليغزله، أو حنطة ليطحنها، أو عنباً أو تمراً أو نحو ذلك.

وأخري: يكون المقوم للموضوع هو العنوان المنتزع من الهيئة والصورة، ويكون الجنس أمراً زائداً عليه مرغوباً فيه أو مجرد مقارن له، كما لو اشتري ساعة عقاربها من ذهب، أو عباءة من صوف، أو قميصاً من قطن، أو خبزاً من حنطة، أو عصير عنب معلب، أو نحو ذلك. فإن الظاهر عدم تقوم الموضوع في جميع ذلك بالجنس، بل ليس الجنس إلا وصفاً يبتني عليه البيع، أو مقارناً له لا غير، والمقوم للبيع هو العنوان المنتزع من الهيئة.

ومن ثم يبطل البيع لو انكشف أن المبيع قياس درجة حرارة عقاربه ذهب أو فضة بدل الساعة، أو طاقة صوف بدل العباءة، أو منديلاً من قطن بدل القميص، أو دقيق حنطة بدلاً من الخبز، أو عنباً معلباً بدل العصير. ولا يبطل البيع لو ظهر أن المبيع ساعة عقاربها نحاس بدل الذهب، أو عباءة أو قميصاً من المواد المشابهة للصوف أو القطن، أو خبزاً من ذرة أو مخلوط بها بدلاً من الحنطة، أو عصيراً يشبه عصير العنب أو نحو ذلك.

هذا وربما يكون كل من العنوان المنتزع من الجنس والعنوان المنتزع من الهيئة والصورة مقوماً للبيع، حيث يكون تخلفه موجباً لبطلانه. ولا ضابط لجميع ذلك، بل يختلف باختلاف الخصوصيات والظروف المحيطة بالبيع. والمرجع في تشخيص ذلك هو العرف بعد الإطلاع عليها. وربما يلتبس الأمر في بعض الموارد، فيتعين التوقف.

ص: 248

بقي شيء. وهو أنه حيث سبق بطلان البيع مع عدم سلامة العنوان المقوم للمبيع، فلو فرض عدم سلامته في بعض المبيع يتعين تبعض الصفقة، لبطلان البيع فيه وفي ما يقابله من الثمن وصحته في الباقي. غاية الأمر أنه يثبت خيار تبعض الصفقة لكل من البايع والمشتري، كما صرح بذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره.

لكن في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه: "أن علياً (عليه السلام) قضي في رجل اشتري من رجل عكة فيها سمن احتكرها حكرة، فوجد فيها ربّاً، فخاصمه إلي علي (عليه السلام). فقال له علي (عليه السلام): لك بكيل الرب سمناً. فقال له الرجل: إنما بعته منك حكرة(1). فقال له علي (عليه السلام): إنما اشتري منك سمناً، ولم يشتر منك ربّاً"(2). ومقتضاه صحة البيع بتمام الثمن ووجوب إتمام ما نقص من المبيع من جنسه. وهو مخالف للقاعدة بعد كون المبيع خارجياً، كما يظهر من الموثق.

وربما يحمل: تارة: علي كون المبيع كلياً، وهو عكة من سمن، حيث يتعين تسليم عكة تامة ولو بتتميم العكة الناقصة. وأخري: علي بيان حلّ عرفي من أجل تصحيح أخذ تمام الثمن. ولاسيما مع صعوبة تشخيص نسبة مقدار الرب لمجموع العكة ليمكن استرجاع ما يناسبها من الثمن، حيث يظهر من الموثق كون بيع العكة جزافاً.

لكن الأول بعيد جداً عن لسان الموثق. ولعل الأقرب الثاني. وإلا فالخروج بالموثق عن مقتضي القاعدة صعب جداً. ولاسيما بعد وروده في قصة خاصة لا إطلاق لها. ومع عدم الإشارة في صحيح ميسر المتقدم لذلك مع مشابهته له مورداً والأمر محتاج لمزيد من التأمل. ويأتي ما يتعلق بالمقام في المسألة الثالثة من الفصل الثالث في شروط العوضين إن شاء الله تعالي.

********

(1) قال في لسان العرب:" وفي الحديث: من احتكر طعاماً فهو كذا. أي اشتراه وحبسه ليقل فيغلو. والحكُر والحكُرة الاسم منه. ومنه الحديث: أنه نهي عن الحكرة. ومنه حديث: عثمان: أنه كان يشتري حكرة. أي جملة. وقيل: جزافاً. وأصل الحكرة الجمع والإمساك ".

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 7 من أبواب أحكام العيوب حديث: 3.

ص: 249

(مسألة 28): لا تصح الإجارة علي العبادات التي لا تشرع إلا أن يفعلها الأجير عن نفسه مجاناً (1)، واجبة كانت أو مستحبة، عينية كانت أو كفائية،

---------------

ثم إن ما ذكرنا من تبعض الصفقة إنما يتم فيما إذا كان لمخالف الجنس المبيع وجود متميز في مقابل الجنس المبيع، كالربّ في مورد الموثق، وعدل الشعير في ضمن أعدال الحنطة والدرهم في ضمن الدنانير، أما إذا كان منبثاً في المبيع، بحيث لا يتميز عنه عرفاً، كخليط النحاس في الذهب والفضة، والماء المشوب في اللبن والتراب المخلوط في الحنطة ودقيق الشعير الممزوج في دقيقها فهو عرفاً من سنخ العيب في المبيع يثبت به الخيار في البيع جملة، ولا يوجب بطلان البيع فيما يقابله، ليثبت خيار تبعض الصفقة.

(1) لا يخفي أن الفرض المذكور مستلزم لعدم صحة الإجارة، لأن موضوع الإجارة لما كان هو العبادة التي يتقرب بها بلحاظ مشروعيتها، ففرض عدم مشروعيتها إلا مع المجانية مستلزم لتعذر العمل المستأجر عليه، المستلزم لبطلان الإجارة. فالكبري التي ذكرها (قدس سره) أشبه بالقضية بشرط المحمول التي لا ينبغي التعرض لها، بل لصغرياتها، كما يظهر منه (قدس سره) الاهتمام بذلك في بقية كلامه.

أما المذكور في كلام الأصحاب (رضي الله عنهم) فهو حرمة الإجارة علي الواجبات وإن لم تكن عبادات، بل حرمة التكسب بها الشامل لمثل الجعالة.

قال في الشرايع في بيان ما يحرم التكسب به: "الخامس: ما يجب علي الإنسان فعله، كتغسيل الموتي وتكفينهم ودفنهم" .وفي الجواهر: "بلا خلاف معتد به أجده فيه... وفي المحكي عن مجمع البرهان: كأن دليله الإجماع".

وقال شيخنا الأعظم (قدس سره): "والظاهر أن نسبته إلي الشهرة في المسالك في مقابل قول السيد المخالف في وجوب تجهيز الميت علي غير الولي، لا في حرمة أخذ الأجرة علي تقدير الوجوب عليه. وفي جامع المقاصد الإجماع علي عدم جواز أخذ الأجرة علي

ص: 250

تعليم صيغة النكاح أو إلقائها علي المتعاقدين. انتهي. وكأنه لمثل هذا ونحوه ذكر في الرياض أن علي هذا الحكم الإجماع في كلام جماعة...".

هذا وقد قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "واعلم أن موضوع هذه المسألة ما إذا كان الواجب علي العامل منفعة تعود إلي من يبذل بإزائه المال، كما لو كان كفائياً وأراد سقوطه منه، أو عينياً علي العامل ورجع نفعه منه إلي باذل المال، كالقضاء للمدعي إذا وجب عيناً.

وبعبارة أخري: مورد الكلام ما لو فرض مستحباً لجاز الاستئجار عليه، لأن الكلام في كون مجرد الوجوب علي الشخص مانعاً من أخذ الأجرة عليه، فمثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، لا لوجوبها، بل لعدم وصول عوض المال إلي باذله، فإن النافلة أيضاً كذلك...".

لكن ما ذكره من لزوم حصول نفع العمل المستأجر عليه للباذل غير ظاهر الوجه، بل الإجارة إنما تقتضي تملك المستأجر للعمل، فإن اعتبر كون باذل الأجرة هو المستأجر كان الباذل هو المالك للعمل وإن لم يعد نفعه له، وإن لم يعتبر ذلك - كما هو غير بعيد - لم يعتبر ملكية للباذل للعمل، فضلاً عن انتفاعه به.

بل لا مانع من انحصار منفعته بالأجير، كما لو استؤجر علي خياطة الثوب من أجل انتفاعه به بنفسه بإتقان مهنة الخياطة، أو الانتفاع بالثوب المخيط، وكما لو استؤجر في المقام علي أداء صلاة الظهر عن نفسه من أجل براءة ذمته وأمنه من عقاب تارك الصلاة.

ودعوي: أن بذل الشخص للمال في مقابل العمل من دون أن يعود نفعه إليه سفهي لا تصح معه المعاملة. مدفوعة بأنه يكفي في رفع السفه تعلق الغرض العقلائي بالمعاملة ولو مثل نفع الأجير بها. مع أن كون المعاملة سفهية لا يوجب بطلانها، كما تقدم التعرض لذلك في أوائل المسألة الرابعة.

ومن ثم لا يتم ما ذكره (قدس سره). ويتعين النظر في وجه كبري حرمة بطلان الإجارة

ص: 251

علي الواجبات. وقد استدل عليها بوجوه:

الأول: الإجماع المدعي الذي تقدم التعرض له من شيخنا الأعظم (قدس سره).

وفيه: أنه لا مجال للتعويل عليه بعد عدم التعرض للكبري المذكورة في النصوص، ليمكن معرفة رأي أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ورواة أحاديثهم من روايتها وتدوينها في كتبهم، وإنما ذكر في كتب المتأخرين عنهم ممن جري علي تدوين الفتاوي، حيث يحتمل اعتمادهم في الكلية المذكورة علي النهي في بعض النصوص عن أخذ الأجرة علي بعض الواجبات، كتعليم القرآن، أو علي بعض الوجوه الاعتبارية. ولاسيما مع شدة اضطراب كلماتهم في الصغريات والتفاصيل، كما ذكر جملة منها شيخنا الأعظم (قدس سره).

الثاني: أن المنافاة بين صفة الوجوب والتملك ذاتية، لما ذكره كاشف الغطاء (قدس سره) من أن المملوك والمستحق لا يملك ولا يستحق ثانياً.

وفيه: أولاً: أنه يختص بالتكسب بالإجارة الموجبة لتملك العمل علي الأجير، دون التكسب بالجعالة الموجبة لضمان أجر العمل علي الجاعل من دون أن يملكه علي من يقوم به.

وثانياً: أن التكليف بالشيء شرعاً لا يوجب استحقاقه لله تعالي علي نحو استحقاق العمل المستأجر عليه، بل استحقاق العمل المستأجر عليه وملكية المستأجر له من سنخ الوضع للمباين للتكليف سنخاً، فلا محذور في اجتماعهما في شيء واحد، وليس هو كاجتماع الملكيتين الممتنع عرفاً.

نعم إذا كان التكليف شرعاً مترتباً علي استحقاق الفعل وملكيته وضعاً امتنع التكسب بالإجارة عليه، كما لو استؤجر علي عمل فوجب عليه أداؤه شرعاً، فإنه لا تصح الإجارة علي أدائه، لأن أداءه عين فعله المفروض كونه مملوكاً للمستأجر، فلا يملك بالإجارة ثانياً. بل لا يمكن التكسب به حتي بنحو الجعالة، لأن الجعل من سنخ العوض للعمل، فلا يستحقه العامل بعد أن لم يكن مالكاً للعمل، بل مالكه

ص: 252

المستأجر الأول.

لكن ذلك لا يجري في غير ملكية العمل من موارد الحق الثابت للغير، فلو كان الشخص قد استولي علي عين مملوكة لغيره غصباً، فإن مالكها وإن كان يستحق عليه تسليمها، بحيث له المطالبة بذلك، كما يطالب بالعمل المستأجر عليه وبالشرط الذي أخذه في عقد لازم، إلا أنه لا يملك التسليم المذكور بل يملك العين فقط، ولذا يمكن استحقاقه الفعل بسبب آخر كالشرط، فيتأكد الاستحقاق المذكور، بخلاف الملكية، فإنها تستند للسبب الأول ولا يمكن تأكدها بتعدد السبب. وحينئذٍ فتمليكه لشخص ثالث بالأجرة لا يستلزم اجتماع ملكيتين علي مملوك واحد.

وأظهر من ذلك ما إذا أوجب الفعل تكليفاً من دون استحقاق، كما إذا حلف أن يعطي زيداً ثوباً، فإن الثوب لا يكون مملوكاً لزيد، ولا يستحق أخذه وإن وجب إعطاءه له شرعاً، تبعاً لوجوب الوفاء باليمين، ولذا ليس له المطالبة به، ولا يكون حبسه اعتداء عليه، بل يكون متمحضاً في مخالفة التكليف الشرعي. وكذا الحال في جميع موارد التكليف الشرعي المحض. ومن ثم لا يلزم من تمليك العمل المكلف به للغير بالإجارة اجتماع مالكيتين علي مملوك واحد.

الثالث: ما ذكره هو (قدس سره) أيضاً في شرحه المذكور من أن المستأجر مسلط علي العمل المستأجر عليه، علي نحو سلطنة المالك علي ملكه، فله وجوده وعدمه، وله الإبراء والإقالة والتأجيل، وذلك ممتنع في الواجب، لأنه لابد من حصوله في وقته.

وفيه - مع اختصاصه أيضاً بالتكسب بالإجارة، دون مثل الجعالة -: أن قدرة المستأجر علي العمل المستأجر عليه إنما هي بمعني سلطنته علي المطالبة به وعدمها، وهي ممكنة في الواجب، وليست هي بمعني سلطنته علي إلزام الأجير بالقيام بالعمل وبتركه، لتمتنع في الواجب، لعدم سلطنة أحد علي الإلزام بتركه، إذ لا ريب في عدم سلطنة المستأجر علي إلزام الأجير بترك العمل.

كما أن قدرته علي الإبراء والإقالة إنما تقتضي إسقاط حقه من حيثية الإجارة

ص: 253

بحيث ترتفع ملكيته للعمل، وهو ممكن في الواجب أيضاً وإن لم يسقط من حيثية التكليف من قِبَل الشارع الأقدس.

وأما التأجيل فإنما يكون مسلطاً عليه إذا رضي الأجير ولم يرتفع به موضوع العمل المستأجر عليه، وإلا امتنع التأجيل إلا أن يرجع للإبراء، كما إذا استأجره علي أن يخدم زيداً عند نزوله ضيفاً عنده، فنزل زيد ضيفاً عنده وأذن للأجير في عدم المبادرة لخدمته حتي يسافر.

وفي المقام حيث كان موضوع الإجارة هو العمل المشروع في وقته فالتأجيل فيه إن أخرجه عن كونه مشروعاً لعدم مشروعية قضائه ارتفع به موضوع العمل المستأجر عليه، ويرجع للإبراء الذي تقدم إمكانه في الواجب، وأنه يسقط به حق المستأجر في العمل، وإن لم يسقط التكليف به شرعاً. وإن لم يخرجه التأجيل عن كونه مشروعاً، لمشروعية قضائه فقد ذكرنا أنه ليس له تأجيله إلا برضا المستأجر، وليس له الرضا في المقام بعد فرض وجوب المبادرة للعمل.

الرابع: ما ذكره أيضاً من أنه لابد في صحة الإجارة من قدرة الأجير علي تسليم العمل المستأجر عليه. وكأنه لأن القدرة عليه لا تكون إلا بالقدرة علي فعله وتركه، وذلك لا يتم في الواجب، للزوم حصوله علي كل حال.

وفيه - مع أنه كسابقيه مختص بالتكسب بالإجارة دون مثل الجعالة -: أنه إن أريد بالقدرة علي التسليم القدرة الخارجية فهي حاصلة في المقام، ولولاها لامتنع الوجوب شرعاً. وإن أريد بها التخيير عقلاً بين الفعل والترك الذي يرتفع بالوجوب فاعتباره في الإجارة أول الكلام، وهو عين الدعوي.

ودعوي: أنه مع الوجوب يكون الفعل امتثالاً له راجعاً لله تعالي، لا مسلماً للمستأجر.

مدفوعة بأن رجوعه لله تعالي بلحاظ امتثال أمره به، وتسليمه للمستأجر بلحاظ كونه محققاً لموضوع الإجارة، وهما مختلفان سنخاً، والتنافي بينهما أول الكلام،

ص: 254

ولا ينهض الوجه المتقدم بإثباته.

الخامس: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن العمل إنما يعوض صاحبه بالمال إذا كان مالكاً له، بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي، لأنه إذا كان واجباً عليه فلا يقدر علي تركه، وإذا كان محرماً فلا يقدر علي فعله، ويعتبر في صحة المعاملة علي العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره.

وفيه: أنه إن أريد بملكيته للعمل الاعتبارية فالحر لا يملك عمل نفسه، وإنما هو مسلط علي تمليكه. نعم لابد في ذلك من عدم كونه مملوكاً عليه، لامتناع اجتماع الملكيتين علي أمر واحد. لكن سبق في جواب الوجه الأول أن وجوب العمل عليه لا يرجع إلي كونه مملوكاً عليه.

وإن أريد بملكيته له سلطنته وقدرته عليه، فالقدرة الخارجية لا ترتفع بالوجوب، واعتبار ما زاد عليها مما يرتفع بالوجوب عين الدعوي، ولا ينهض بإثباته الوجه المذكور. وقد تقدم في دفع الوجه الثالث والرابع ما ينفع في المقام.

السادس: ما ذكره هو أيضاً (قدس سره) من أنه يعتبر في العمل المستأجر عليه أن يقع للمستأجر، ومع فرض عدم قبول العمل للنيابة لا يقع للمستأجر.

وفيه: أنه إن أريد بوقوعه للمستأجر أن يكون امتثالاً للأمر المتوجه إليه، فلا دليل علي اعتباره في الإجارة، بل لا إشكال في عدم اعتباره، ولذا يصح الاستئجار علي الأعمال التي ليست مورداً للامتثال، كالخياطة والنساجة. وإن أريد به أنه يكون مملوكاً للمستأجر فلا دليل علي امتناعه في ما لا يقبل النيابة، غايته أنه يلزم امتثال الأجير بعمل مملوك للمستأجر، ولم يتضح من هذا الوجه امتناع ذلك.

نعم إذا قام الدليل علي اعتبار المجانية في المكلف به فلا إشكال في بطلان الإجارة، كما سبق، وهو خارج عن محل الكلام.

السابع: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن أخذ الأجرة علي الواجب أكل للمال بالباطل، قال (قدس سره): "لأن عمله هذا لا يكون محترماً، لأن استيفاءه منه لا يتوقف

ص: 255

علي طيب نفسه، لأنه يقهر عليه مع عدم طيب النفس والامتناع".

لكن المراد بسقوط حرمة العمل إن كان سقوطه عن المالية. فهو ممنوع، لإناطة المالية بتنافس العقلاء، ولا يمنع منه الوجوب شرعاً مع إمكان المعصية، وإنما يمنع منه وجوب الوجود خارجاً، بحيث لا يمكن التخلف. علي أنه سبق في المسألة الثالثة المنع من اعتبار المالية في المعاوضة.

وإن كان المراد بسقوط حرمة العمل عدم احترامه وإن كان مالاً، فهو مال مهدور نظير آلات اللهو والأصنام والصلبان ونحوها مما لا حرمة لها، حيث يجوز، بل قد يجب إتلافها ولو بتغيير هيئتها من دون ضمان.

ففيه: أن القهر عليه مع عدم طيب نفسه إنما هو بمعني إلزام الشارع به تكليفاً أو بمعني جواز قهر الغير له عليه لو امتنع منه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلا الأمرين لا يقتضي سقوط حرمته بالمعني المذكور.

نعم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب كونه من أكل المال بالباطل يبتني علي كون المراد به أكله في مقابل ما لا مالية له أو ما لا حرمة له، وقد سبق في أواخر المسألة الرابعة المنع من ذلك، وتقريب كون المراد به أكله بالأسباب والوجوه المستنكرة. وحينئذٍ فالظاهر صدقه في المقام، لأن وجوب الشيء شرعاً يوجب ارتكازاً استنكار أكل المال في مقابله، كما يشهد به أدني تأمل في المرتكزات.

بل لا يختص الأمر بالوجوب الشرعي، وإنما يعم كل تكليف يلزم امتثاله، فإن لزوم الفعل علي الإنسان يوجب ارتكازاً استنكاراً أكل المال في مقابله، بحيث يكون المال مأكولاً بالباطل.

غايته أن لزوم امتثال التكليف يختلف باختلاف الأعراف والأنظار، فكل آمر يري لنفسه الحق في الأمر والإلزام يستنكر أكل المال في مقابل ما يلزم به شارعاً كان أو سلطاناً أو غيرهما. كما أن كل شخص يري لزوم امتثال أمر أي شخص يري استنكار أكل المال في مقابل ما يأمر به ذلك الشخص، والاختلاف في ذلك لا يكون

ص: 256

إلا للاختلاف في لزوم امتثال الأمر، فالشارع الأقدس حيث لا يري لزوم امتثال أمر السلطان الجائر لا يستنكر التكسب بما يأمر به. كما أن العرف، إذا لم يدرك لزوم امتثال الأمر الشرعي لا يستنكر التكسب بما يأمر به.

ولذا لا يظن بأحد التوقف في حرمة أكل المال في مقابل تسليم الأعيان المملوكة لأصحابها، أو في مقابل وفاء الديون التي انشغلت بها الذمم، مع أنه سبق في جواب الوجه الأول أن المملوك للغير هو الأعيان الخارجية أو الذمية بنفسها، وليس تسليمها إلا واجباً تكليفاً، لمنافاته لسلطنتهم عليها.

وكذا الحال في بقية الواجبات التوصلية كالإنفاق علي من يجب الإنفاق عليه، وتجنب عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، ورد السلام، والوفاء باليمين والعهد حتي لو تعلق بالغير كما لو حلف أو عاهد الله تعالي أن يعطي زيداً ديناراً، حيث لا مجال لدعوي استحقاق زيد علي الحالف أو المعاهد شيئاً، فضلاً عن ملكيته له. كما لا مجال لدعوي ملكية الله تعالي العمل فيهما، وإن قيل بذلك في النذر. ومع ذلك لا مجال لأخذ المال في مقابل ذلك. وأظهر من ذلك الواجبات التعبدية كالصلاة والصيام والحج وغيرها.

وأما ما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره من أن امتناع التكسب بالواجبات المذكورة إنما هو لثبوت عدم مشروعيتها إلا إذا أتي بها المكلف بها عن نفسه مجاناً.

فيندفع بأنه لا منشأ لثبوت عدم مشروعيتها حينئذٍ بعد إطلاق أدلتها، إلا ما ذكرنا من استنكار التكسب بها ارتكازاً بعد وجوبها، الموجب لكون أكل المال في مقابلها أكلاً له بالباطل. ولذا لا يتوقف المتشرعة بمرتكزاتهم من منع التكسب بالواجبات التعبدية وغيرها علي ثبوت عدم مشروعية التكسب بها من دليل خاص.

إن قلت: لو كان المنع من التكسب بالواجبات لوجوبها لاختص المنع بها، ولم يجر في المستحبات، كالنوافل الرواتب، مع أنه لا إشكال في عدم جواز التكسب بها أيضاً. وما ذلك إلا لكون منشأ المنع من التكسب أمراً آخر غير الوجوب،

ص: 257

وهو عدم مشروعية الفعل إلا إذا وقع مجاناً، حيث يمكن أن يحرز ذلك الواجب والمستحب معاً.

قلت: كما يمنع الوجوب ارتكازاً من التكسب بالواجب، كذلك يمنع قصد الامتثال بالفعل من التكسب به، من دون فرق بين كون الآمر هو الشارع وغيره، فكل مأمور بشيء من قبل الشارع أو السلطان أو الأب أو غيرهم لا يستطيع الإتيان به امتثالاً للأمر - بحيث يكون فعله محسوباً علي الآمر، ومتقرباً به إليه - إذا كان قد أتي به متكسباً به بإجارة أو جعالة أو غيرهما، بحيث يكون العمل لباذل المال، وفي مقابل ماله.

إن قلت: إن كان المنع بسبب منافاة قصد أخذ الأجرة للتقرب المعتبر في العبادة فمن المعلوم أن قصد الدواعي غير القربية إنما ينافي التقرب المعتبر في العبادة إذا لم يكن الداعي القربي صالحاً للداعوية استقلالاً، أما مع صلوحه للداعوية استقلالاً فانضمام غيره من القصود لا يمنع من مقربيته بالنحو المعتبر فيها.

مضافاً إلي أن التكسب بالعمل إنما يتوقف علي قصد أخذ الأجرة عليه، إذا كان موضوع التكسب هو العمل الكلي - كما في الجعالة وبعض أقسام الإجارة - حيث لا ينطبق علي فعل المكلف الخارجي الذي يكون مورداً للتقرب إلا إذا جاء به بقصد تحقيق العمل الكلي المذكور المستلزم لنية استحقاق الأجرة به. بخلاف ما إذا كان موضوع الإجارة هو عمل المكلف الخارجي، كما لو استأجره علي أن تكون له منفعته يوم الجمعة، فإن المستأجر عليه ينطبق علي فعل المكلف حينئذٍ قهراً عليه ولو لم ينو به الوفاء بالإجارة واستحقاق الأجرة.

قلت: مانعية التكسب من قصد الامتثال والتقرب ليست بلحاظ مانعية قصد الأجرة من التقرب، ليجري ما سبق، فإن ذلك لا يختص بالأجرة التي هي محل الكلام، بل يجري في كل نفع يترتب علي العمل ويصلح أن يكون داعياً له، كما لو علم المتقرب بأن شخصاً ما سوف يدفع له جائزة علي عمله تشجيعاً له من دون أن تكون

ص: 258

أجرة له أوعوضاً عنه.

وإنما تبتني مانعية التكسب بالعمل من التقرب به علي أن موضوع الامتثال والتقرب هو العمل الذي يؤتي به لأجل الآمر الذي يتقرب به بامتثال أمره، وهذا المعني لا يتحقق ارتكازاً في العمل المقابل بالمال الذي يكون مملوكاً لباذل المال بمثل الإجارة، أو ماتياً به له في قبال ماله في مثل الجعالة، لإباء المرتكزات العرفية من التقرب والامتثال بالعمل الذي يقع لغير المتقرب له الذي يراد امتثال أمره.

فكما يمكن للمكلف التقرب بعمل غيره إذا وقع له بإجارة أو تبرع فيما يقبل النيابة كذلك ليس له التقرب بعمل نفسه إذا لم يقع له، بل وقع لغيره بإجارة أو جعالة.

وأدني تأمل في المرتكزات العرفية يوجب وضوح ذلك. ولذا لا يتوقف العرف ولا المتشرعة في امتناع التكسب بالعبادات الواجبة أو المستحبة من دون حاجة إلي ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من قيام الدليل الخاص علي عدم مشروعية العبادة إلا إذا وقعت مجاناً. وإلا فلا منشأ للبناء علي ذلك غير الارتكاز المذكور، علي ما أشرنا إليه آنفاً.

وبالجملة: في المقام كبريان: الأولي: التكسب بالواجب. الثانية: امتناع التقرب بما يتكسب به، بحيث يقع العمل المتقرب به لباذل المال في مقابل ماله. ومحل الكلام فعلاً الأول، والثاني يذكر تبعاً. وينفرد الأول في الواجبات التوصلية، والثاني في المستحبات التعبدية، ويجتمعان في العبادات الواجبة، فيتأكد فيها المنع من التكسب بها.

وربما ترجع الكبريان إلي أمر واحد. وهو أن أمر المكلف بالعمل إلزامياً كان أو استحبابياً يقتضي إتيانه بنحو يقع امتثالاً منه للأمر، لا بمعني قصد ذلك منه، ليختص بالأمر التعبدي، بل بمعني مجرد القيام بمقتضي الأمر وموافقته، وذلك يقتضي عدم وقوع العمل منه للغير، لأن ما يقع من عمل الإنسان لغيره - بإجارة أو جعالة أو تبرع

ص: 259

لا يقع امتثالاً منه، بل يمكن أن يقع امتثالاً لأمر ذلك الغير إذا كان مما يقبل النيابة.

وحينئذٍ إذا كان الخطاب إلزامياً لازم الامتثال فهو يستلزم امتناع أخذ الأجرة علي العمل وإن كان توصلياً، لأن لزوم امتثاله بصرف الوجود يمنع من وقوع صرف الوجود للغير بإجارة أو جعالة أو تبرع، وإذا لم يقع للغير كان أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل، لعدم وقوع العمل المقابل بالمال لباذل المال، وعدم تحقق مضمون المعاملة.

أما إذا لم يكن الخطاب إلزامياً فهو في نفسه لا يمنع من مقابلة العمل بالمال بعد عدم لزوم ما يقتضيه من الامتثال. وحينئذٍ إن كان العمل توصلياً لا يتوقف مشروعيته علي قصد امتثال أمره، صح التكسب به ولم يكن أكل المال في مقابله أكلاً له بالباطل.

ولو فرض قصد الامتثال به كان القصد المذكور منافياً للتكسب به، لما سبق من امتناع امتثال المكلف بعمله إذا وقع لغيره بإجارة، أو جعالة، أو تبرع.

وحينئذٍ إن كان التكسب بالعمل موقوفاً علي قصد إيقاعه للغير حين وقوعه، كما في مورد الجعالة، وفي الإجارة إذا كان موضوعها العمل الكلي، تعين التنافي بين القصدين، فإن كان أحدهما أصلياً دون الآخر كان الآخر لاغياً، وإن كانا معاً أصليين تعين ترتب عدم الأثر عليهما معاً.

وإن لم يكن التكسب بالعمل موقوفاً علي قصد إيقاعه للغير حين وقوعه، كما إذا كان موضوع الإجارة هو عمل المكلف الخارجي، بأن استؤجر علي أن تكون منفعته يوم الجمعة مثلاً للمؤجر، تعين تحقق التكسب بالعمل، ولغا قصد الامتثال ولم يترتب عليه الأثر.

أما إذا كان تعبدياً لا يشرع إلا مع قصد التقرب فالمتعين امتناع التكسب به، لأن التكسب ليس بصورة العمل، بل بالعمل المشروع، وعدم وقوع العمل مشروعاً إلا بقصد التقرب مستلزم لامتناع التكسب به بعد ما سبق من امتناع تقرب المكلف

ص: 260

بعمل نفسه وامتثاله به إذا وقع لغيره.

ومنه يظهر امتناع التكسب بالتوصلي أيضاً إذا أخذ في موضوع التكسب تقرب صاحب العمل به، بحيث يكون التقرب وقصد الامتثال من الفاعل شرطاً في العمل المقابل بالمال، لأن الشرط المذكور ينافي التكسب بالعمل ووقوعه لباذل المال.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات في امتناع التكسب بالواجب، وبما يؤتي به بداعي امتثال الأمر واجباً كان أو مستحباً، من دون حاجة إلي ثبوت كون العمل مما لا يشرع فيه التكسب من دليل آخر. بل لا طريق لثبوت ذلك في العمل غير وجوبه أو كونه عبادياً، كما ذكرنا. فإن تمّ توجيهه بما سبق، وإرجاع الكبريين المذكورتين معاً إليه فهو، وإلا كفت المرتكزات في الدليل عليهما، بنحو يري العرف صدق أكل المال بالباطل علي التكسب فيها معاً. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

بقي في المقام أمور:

الأمر الأول:

أن هذا الوجه يختص بالعمل الذي يقع من الأجير ونحوه امتثالاً لأمره الإلزامي والذي يقصد به امتثال أمره وإن لم يكن إلزامياً، سواءً كان الأمر عينياً أم كفائياً.

أما إذا كان امتثالاً لأمر غيره فيما يقبل النيابة فلا محذور من التكسب بالعمل بعد كون المتمثل بالعمل غير الأجير، وهو باذل المال أو من تبرع عنه الباذل. وذلك في العيني ظاهر.

أما في الكفائي فكذلك بناءً علي رجوعه إلي تكليف كل واحد بصدور الفعل منه مع سقوط التكليف عن الكل بفعل أحدهم، حيث لابد فيه من الامتثال من أحدهم، وهو لا يكون مع وقوع فعله مملوكاً للغير إلا مع إمكان النيابة، إذ لا يكون الممتثل حينئذٍ هو الفاعل المباشر، بل باذل المال في مقابله أو من تبرع عنه.

لكن ذكرنا في الأصول أن الأمر الكفائي لا يرجع إلي ذلك، بل إلي أمر الكل

ص: 261

بالماهية بنحو يكتفي بصرف الوجود. ولذا يجب علي العاجز عن الفعل بالمباشرة السعي لحصوله من غيره، مع أنه لو كان مكلفاً بفعل نفسه لم يكن لإلزامه بذلك وجه بعد سقوط التكليف عنه بالعجز، فوجوب ذلك عليه كاشف عن أن المكلف به مطلق الفعل ولو من غيره المفروض قدرته عليه بتهيئة مقدماته.

وحينئذٍ قد يشكل الأمر في الواجب الكفائي، بدعوي: أن وجوب صرف الوجود علي الكل يمنع الكل من أخذ الأجر عليه وتكسبه به. وأما انتسابه مع أخذ الأجر عليه لغير المباشر بحيث يكون هو المتمثل به دون المباشر. فهو لا يخرجه عن صرف الوجود الواجب علي المباشر، فالمباشر لا يأخذ الأجرة علي ما هو الواجب علي باذل الأجرة أو من تبرع عنه فقط، بل علي ما هو الواجب عليه أيضاً، فيكون أكله للمال في مقابله أكلاً له بالباطل.

لكنه يندفع بأن الواجب علي المباشر وإن كان هو صرف الوجود، إلا أن إيقاع صرف الوجود عن الغير أمر زائد علي الوجوب، فلا مانع من أخذ الأجرة عليه. نظير ما إذا استؤجر المكلف علي أن يصلي الفريضة في مكان خاص، أو بنحو خاص.

بل قد يتجه أخذ الأجرة علي الواجب الكفائي حتي إذا لم يحرز كونه قابلاً للاستنابة لأن كثيراً من الواجبات الكفائية لا يعتبر صدورها من ممتثل، حيث يكفي صدورها من غير المكلفين - كالأطفال والمجانين - ولو بالاشتراك معهم. بل حتي الحيوانات، كما لو توقف تطهير المسجد مثلاً علي فتح بابه ليدخل له ماء المطر منها، أو رفع الظلال عنه ليصيبه المطر أو الشمس وأمكن تهيئة ذلك للحيوان ليستقل به من دون أن يستند الفعل للمكلفين.

وحينئذٍ ففعل الأجير وإن لم يقع امتثالاً له، لأنه مملوك للأجير، ولا امتثالاً للأجير، لعدم إحراز قابليته للاستنابة، إلا أنه يجزي عن الواجب. ويجوز أخذ الأجرة عليه، لأنه فرد خاص من صرف الوجود لا يجب علي الأجير إيقاعه.

ومن ذلك يظهر أن جواز أخذ الأجرة علي الواجب الكفائي إنما يتوقف علي

ص: 262

ثبوت قابلية الواجب للنيابة فيما إذا كان اللازم فيه إيقاعه من ممتثل، كصلاة الميت، فإنه إذا لم تشرع النيابة فيه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، حيث لا يكون المباشر له ممتثلاً لكون عمله مملوكاً لدافع الأجرة، ولا يكون دافع الأجرة به ممتثلاً لعدم قابليته للنيابة.

لكنه يحتاج إلي عناية يصعب إثباتها في كثير من الواجبات الكفائية. ولعله لذا خص بعضهم امتناع التكسب بالواجب العيني دون الكفائي. وإن كانت كلماتهم في المسألة ومبانيها في غاية الغموض والاضطراب. والله سبحانه وتعالي ولي التوفيق والتسديد.

الأمر الثاني:

قد اشتهر في كلامهم النقض علي المنع من التكسب بالواجبات بأن لازمه حرمة أخذ الأجرة علي الصناعات الواجبة كفاية، مع وضوح جواز أخذ الأجرة عليها.

ولا مجال للجواب عن ذلك بخروجها بالإجماع والسيرة، فإنهما وإن نهضا بإثبات جواز أخذ الأجرة علي الصناعات، بنحو لا مجال معه لاحتمال المنع تشبثاً بشيء من الوجوه المتقدمة، بل تكون كالشبهة في مقابل البديهة، إلا أنهما إنما ينفعان في دفع النقض المتقدم لو كان امتناع أخذ الأجرة علي الواجبات مستفاداً من الإجماع أو من عموم لفظي، حيث يرجع الإجماع والسيرة المذكوران إلي قصور الإجماع المدعي علي المنع عن الواجبات المذكورة، كما يصلحان لتخصيص العموم اللفظي المذكور لو كان.

أما حيث كان المنع لوجه عقلي راجع إلي منافاة الوجوب للتكسب فالإجماع والسيرة لو تما يكشفان عن خلل في ذلك الوجه يمنع من التمسك به في غير موردهما. إلا أن يدعي قصور وجه المنع عن موردهما موضوعاً، فلا يكشفان عن خلل فيه، وهو ما ينبغي البحث عنه هنا. وقد يذكر في تقريب ذلك وجوه:

الوجه الأول: ما عن المحقق الثاني (قدس سره) من اختصاص جواز الأخذ بصورة قيام من به الكفاية، فلا يكون واجباً حينئذٍ.

ص: 263

وفيه: أولاً: أن قيام من به الكفاية لا يرفع وجوبه الكفائي، لأن الوجوب المذكور مستمر باستمرار الحاجة. وقيام العدد الكافي به في الزمان الأول لا ينافي تكليف الباقين به معهم في الزمان الثاني، حيث لا مرجح للأولين بعد اشتراك الكل في صلوحهم لسدّ الحاجة.

وثانياً: أنه لا ينبغي التأمل في أن مقتضي الفتوي والعمل جواز أخذ الأجرة حتي للأولين الذين تمت بهم الكفاية، بل حتي مع الوجوب العيني، لانحصار مقدار سدّ الحاجة بفرد أو جماعة مخصوصين، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره).

الوجه الثاني: أن المنع عن أخذ الأجرة علي الصناعات الواجبة لإقامة النظام موجب لاختلال النظام، لأن تحديد مقدار الحاجة إنما يكون عن طريق الأجر، حيث يبذل الناس الأجر بإزاء ما يحتاجون إليه، دون ما يستغنون عنه. كما أنه لولاه لما تعلم الناس الصناعات ولا أتقنوها. ولاسيما مع صعوبة كثير منها، ولو لكونه خسيساً مبتذلاً.

وفيه: أن ذلك وإن نهض بإثبات مشروعية أخذ الأجرة علي الصناعات، بل لزوم مشروعية ذلك، إلا أنه لا ينهض بدفع محذور جواز أخذ الأجرة علي الواجبات، بنحو يخرج الصناعات عن كبري امتناع أخذ الأجرة عليها موضوعاً، بل غاية الأمر التنافي بين المحذورين العقليين في الصناعات، بنحو يكشف عن خلل في أحدهما أو كليهما، ويبقي السؤال عما يرفع التنافي المذكور.

اللهم إلا أن يرجع هذا الوجه إلي أن الواجب لحفظ النظام هو التكسب بالعمل، لا مطلق بذله، فيخرج عن كبري المنع المتقدمة، لأن موضوعها التكسب بالعمل الواجب، لا التكسب الواجب.

لكنه يشكل بأن الوجه المذكور لا يقتضي الإلزام بالتكسب، بل عدم المنع منه، لما هو الظاهر من أن النظام كما يحفظ ببذل العمل علي نحو التكسب يحفظ ببذله مجاناً، فهو يتوقف علي مجرد بذل العمل، وحينئذٍ يعود الإشكال في جواز التكسب به.

الوجه الثالث: ما يظهر من كاشف الغطاء (قدس سره) في شرحه علي القواعد من أن

ص: 264

وجوب الصناعات المذكورة مشروط ببذل العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما، فهي قبل بذل العوض ليس واجبة، لتدخل في كبري المنع من أخذ الأجرة علي الواجب.

ويشكل بعدم وضوح الوجه في هذا التقييد، إذ بعد وجوب حفظ النظام مطلقاً، والاكتفاء في حفظ النظام بمطلق العمل مجاناً أو بعوض، فما هو الوجه في تقييد وجوب العمل ببذل العوض ؟! كيف ولازم ذلك عدم وجوب التهيؤ للعمل بتعلمه وإتقانه، والاستعداد لبذله قبل بذل العوض له، لعدم وجوب تهيئة مقدمات الواجب بعد عدم فعلية وجوبه، لعدم وجود شرطه، ولا مجال للبناء علي ذلك.

علي أن الإشكال لا يختص بالصناعات، بل يجري نظيره في موارد وجوب العمل لضرورة، كحفظ النفس أو نحوه، حيث لا إشكال في وجوب ما يدفع الضرورة - كالتطبيب - مع امتناع من له العمل من بذل العوض، أو عجزه عن البذل، لإغماء ونحوه، ومع ذلك له العمل بنية الرجوع بالعوض. ومرجعه التكسب بما هو واجب فعلاً. وما يدفع به الإشكال في ذلك يدفع به الإشكال في الصناعات الواجبة لحفظ النظام من دون حاجة للتشبث بدعوي: أن وجوبها مشروط ببذل العوض.

الوجه الرابع: أن ملاك الوجوب في الصناعات المذكورة لما كان هو حفظ النظام ولم يكن حفظ النظام موقوفاً علي المجانية تعين جواز أخذ الأجرة علي العمل، لوفائه مع أخذ الأجرة بالملاك المقتضي للوجوب، ولا وجه للتقييد بالمجانية بعد عموم الملاك.

وفيه: أنه لما كان المفروض مانعية الوجوب من أخذ الأجرة فلا أثر لعموم ملاك الوجوب في جواز أخذ الأجرة. وإلا فكما يحرز عموم ملاك الواجب في الصناعات المذكورة لصورة أخذ الأجرة، بلحاظ عدم توقف حفظ النظام علي المجانية، كذلك يمكن إحراز عموم الملاك في سائر الواجبات لصورة أخذ الأجرة من إطلاق أدلة الواجبات بعد فرض عدم قيام الدليل من الخارج علي تقييدها بالمجانية.

الوجه الخامس: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن النظام يتوقف علي بذل العمل، لا علي نفس العمل. وحينئذٍ لا مانع من أخذ الأجرة علي العمل نفسه بعد

ص: 265

عدم وجوبه.

لكن المراد ببذل العمل إن كان هو الحضور النفسي له، فلا أثر له في حفظ النظام، بل يكفي في حفظه تحقق العمل ولو كرها، بل وإن كان من الآلات الصامتة. وإن كان المراد به المعني المصدري المقابل للمعني الاسم المصدري الذي هو نتيجة العمل - كما قد يظهر من كلامه علي غموض فيه - فالتفريق بينهما - بكون الواجب الأول والمقابل بالمال الثاني - غير ظاهر الوجه. ولاسيما وأن الفرق بينهما أشبه بالفرق الاعتباري، حيث يصعب تفريق العرف بينهما، بحيث يكون الواجب بنظره أحدهما والمقابل بالمال الثاني. وخصوصاً مع ما سبق في جواب الوجه الرابع من عدم انحصار الإشكال بالصناعات، بل يجري فيما يجب للضرورة، كحفظ النفس، مع عدم الإشكال ظاهراً في أن الواجب فيه هو المقابل بالمال.

وهناك بعض الوجوه الأُخري مذكورة في كلماتهم قد لا يحسن صرف الوقت في التعرض لها بعد ظهور ضعفها، ولاسيما بملاحظة ما سبق.

فالعمدة في المقام: أن الإشكال المذكور يهون بناءً علي ما سبق من قصور وجه المنع من أخذ الأجرة عن الواجب الكفائي إذا لم يؤخذ فيه كون العمل منسوباً للمكلف، بحيث يكون هو المتمثل به. لوضوح أنه لا يعتبر في حفظ النظام بالصناعات صدورها بالنحو المذكور، بل يكفي صدورها بأي وجه اتفق، بل حتي من الآلات الصامتة، كما سبق، حيث لا مانع حينئذٍ من كون العمل مملوكاً لغير الفاعل المباشر بحيث لا يكون هو المتمثل به، غايته أنه مكلف بحصول العمل في الجملة كما يكلف بذلك غيره ممن يستطيع السعي له بوجه ما.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن دعوي قابلية امتثال التكليف المذكور للنيابة، بحيث يكون العمل مملوكاً لغير المباشر، لأن ملاكه لا يقتضي المنع من النيابة بعد تحقق حفظ النظام بالصناعات المذكورة معها.

فهو نظير وجوب تطهير المسجد الذي يتحقق بفعل الشخص عن نفسه وعن

ص: 266

غيره، حيث لا مجال مع ذلك للبناء علي عدم جواز التكسب به لو أراد غير المباشر أن يقوم به بتوسط المباشر، بأن يستأجره علي تطهيره، فيأتي له به ويكون امتثالاً عنه. وليس هو كأمر الصلاة مثلاً الذي يظهر من أدلته اعتبار كون المصلي مصلياً لنفسه ممتثلاً الأمر المتوجه إليه، لا ممتثلاً لأمر غيره.

وبذلك يظهر أن ما وجب للضرورة، كحفظ النفس لا مانع من التكسب به أيضاً وإن انحصر بشخص واحد، لأن انحصاره به لا يقتضي تكليفه به عينياً بنحو يكون العمل له ويكون هو المتمثل به، بل يقتضي تكليفه به عيناً في الجملة، بمعني التكليف بمباشرته، إما عنه أو عن غيره، مع تكليف الكل كفائياً بالسعي لحصوله من طريق المباشر، ولو بأن يملكوه عليه، فيأتي به عنهم.

ولعل ذلك هو منشأ المرتكزات القاضية - كما سبق - بالمنع من التكسب بالواجب الذي يبتني علي كون المباشر متمثلاً به، وبالعمل العبادي الذي يكون المباشر متمثلاً به أيضاً وإن كان مستحباً، من دون أن تمنع تلك المرتكزات من التكسب بالصناعات ونحوها مما وجب لحفظ النظام أو غيره من الضرورات ولو مع الانحصار، حتي سبق جواز التكسب بها بالإجماع والسيرة، اللذين لا مجال لحصولهما لو كانت المرتكزات آبية عن التكسب به، كما لعله ظاهر.

الأمر الثالث:

اشرنا آنفاً إلي إمكان التكسب بالواجب والعبادة في موارد مشروعية النيابة. والمناسب التعرض تبعاً لذلك إلي حقيقة النيابة وأحكامها. وذلك بالكلام في جهات ثلاث.

الجهة الأولي: لا ينبغي للتأمل في أن ظاهر أمر المكلف بشيء لزوم مباشرته له بنفسه، وعدم الاجتزاء بفعل غيره بدلاً عنه. إلا أنه كثيراً ما يقتضي ملاك الأمر عموم المأمور به لفعل الغير بدلاً عن المأمور، بحيث يقع العمل له وفي حسابه امتثالاً للأمر المتوجه له، إما لملكية المأمور لعمل الغير بإجارة ونحوها، أو لكونه في مقابل ما يبذله من المال في مثل الجعالة، أو لوقوعه له تبرعاً من المباشر، حيث يتعين حينئذٍ الاجتزاء

ص: 267

بفعل الغير بدلاً عن المأمور في امتثال أمره وسقوطه وتفريغ ذمته من المأمور به.

بل لا إشكال فيه في الجملة في مثل الأمر بأداء الأمانة وقضاء الدين والإنفاق علي من تجب نفقته وإعانة المؤمنين وبناء المسجد وغيرها. كما دلت عليه الأدلة الخاصة في مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها من وجوه البر.

ولا وجه مع ذلك لتوهم رجوع النيابة إلي إهداء ثواب العمل للغير بعد وقوعه للمباشر وامتثاله لأمره به وحصول ثوابه له بدواً. بل لا ريب في عدم ابتنائها علي ذلك، بل علي امتثال أمر المنوب عنه بفعل النائب في الأمثلة المتقدمة.

إن قلت: إنما يمكن امتثال الأمر بفعل الغير إذا كان يستند للمأمور بذلك الأمر بتسبيبه له بالأمر به أو التوكيل فيه أو الإجارة عليه، أما إذا لم يستند إليه فلا معني لامتثال أمره به بعد كونه أجنبياً عنه، كما في النيابة التبرعية، أو بالإجارة أو الأمر غير الصادرين عن المأمور، كما في الإجارة عن الميت أو نحوه ممن لا يستند إليه فعل المباشر ولو بالتسبيب. ولاسيما مع أن الأمر قد يسقط بتعذر الفعل في حق المأمور أو بموته أو نحو ذلك.

قلت: لا يراد بامتثال أمر المكلف بفعل الغير إلا قيام الغير بفعل المأمور به وأدائه عن المكلف، بحيث يكون فراغ ذمة المكلف معه بملاك تحقق المأمور به وأدائه، لا بملاك ارتفاع موضوع الأمر أو شرطه. ومن الظاهر تحقق ذلك في جميع موارد النيابة، ومنها مثلاً التبرع بوفاء دين الغير حياً كان أو ميتاً من دون تسبيب منه، فإنه ليس كسقوطه عن ذمته بالإبراء، أو سقوط وجوب أدائه بخروج الدائن الذمي عن الذمة.

كما يكفي في إمكان النيابة عن الغير، بحيث يكون الفعل له ثبوت ملاك الأمر في حقه وإن لم يتوجه له الأمر أصلاً ولم تنشغل ذمته بالمأمور به لعجزه عن القيام به أو موته، وعلي ذلك تتجه النيابة عن الأموات في وجوه البر الحادثة بعد موتهم، وعن الأحياء فيما لا يطيقونه.

ص: 268

فإن النيابة في الجميع علي نهج واحد، ومرجعها إلي أداء العمل عن الغير بعد فرض مشروعيته منه وثبوت ملاكه في حقه. ويكون ثبوت الثواب للمنوب عنه بملاك الجزاء له علي العمل المذكور، كالثواب المترتب علي عمله بالمباشرة، وليس كالتفضل من المولي بالثواب ابتداء، أو بعد إهداء الثواب من الغير له علي عمل قد عمله ذلك الغير لنفسه واستحق ثوابه.

الجهة الثانية: ربما يستشكل في النيابة في العبادات المعتبر فيها التقرب من المتمثل، بدعوي: أن التقرب المعنوي كالتقرب الخارجي لا يقبل النيابة، فيمتنع قصد النائب تقرب المنوب عنه أو التقرب بأمره، كما يمتنع تقرب المنوب عنه بفعل النائب.

ومن ثم ذهب بعض مشايخنا (قدس سره) - وربما يستفاد من غيره - إلي أن النائب هو المتقرب بالعمل، بلحاظ أن الأمر ألاستحبابي متوجه إلي جميع الناس بالنيابة في العبادة عن الميت - بل الحي في بعض الموارد - وقد يجب بالإجارة. ولا شبهة في أن الأمر المذكور بالنيابة - استحبابياً كان أو وجوبياً - عبادي يعتبر في امتثاله الإخلاص والتقرب. فالنائب عن الغير في الإتيان بعبادته يتقرب بالأمر بالنيابة المتوجه له، لا بالأمر بالعبادة المتوجه للمنوب عنه.

لكن ذلك في غاية الإشكال: أولاً: لأن الأمر بالنيابة ليس عبادياً، بل هو توصلي، ولذا يترتب الأثر علي النيابة مع غفلة النائب عن استحباب النيابة، وعدم قصده التقرب بها، بل كان قصده منها نفع المنوب عنه حبّاً له، أو وفاء بالالتزام بالنيابة بمثل الإجارة، التي لا إشكال في أن وجوب الوفاء بها توصلي، كوجوب الوفاء بالدين.

غاية الأمر أن هذا الأمر التوصلي يمكن التقرب به، كما في سائر الأوامر التوصلية. إلا أنه لا إشكال في عدم توقف صحة النيابة في العبادة علي التقرب به، فإن كثيراً من الناس إنما يهمهم من النيابة نفع من ينوبون عنه، أو التخلص من تبعة الالتزام بالنيابة عنه بإجارة أو نحوها، من دون علم أو اهتمام باستحباب النيابة. كيف وكثير

ص: 269

من الناس لا يعلمون باستحباب النيابة في العبادات وترتب الثواب عليها للنائب.

بل لا إشكال في إمكان مشروعية النيابة في العبادة من دون أن تكون مستحبة، ليمكن التقرب بأمرها. ولعل منه ما في صحيح وهب بن عبد ربه: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أيحج الرجل عن الناصب. فقال: لا. قلت: فإن كان أبي. قال: إن كان أباك فنعم [فحج عنه]"(1) ، حيث يصعب إثبات استحباب الحج عن الأب الناصب ولاسيما مع إطلاق النهي في بعض النصوص عن النيابة في الحج عن الناصب(2) ، ولا يظهر من الصحيح أكثر من مشروعيتها.

وثانياً: لأن فراغ ذمة المنوب عنه بفعل النائب إنما هو من أجل إتيانه بما انشغلت به ذمته، بل سبق تقوم مفهوم النيابة بقيام النائب بما هو مشروع في حق المنوب عنه، ولو بلحاظ ثبوت الملاك في حقه، والمفروض أن الثابت في حق المنوب عنه هو العبادة التي يشترط فيها التقرب بامتثال أمرها أو موافقة ملاك محبوبيتها، فإذا لم يقصد النائب ذلك لم يتحقق شرط العبادة، فلا مجال لصحتها وفراغ ذمة المنوب عنه بها. والتزام فراغ ذمته بها تعبداً وإن لم تكن واجدة للشرط، بل كانت مباينة لما انشغلت به الذمة، مما تأباه المرتكزات جداً، بل هو لا يناسب مفهوم النيابة ووظيفة النائب عرفاً.

ومن ثم لا يتم ما ذكره (قدس سره). ولابد من البناء علي مقربية عمل النائب للمنوب عنه بلحاظ قصده امتثال أمره وتحقيق ما انشغلت به ذمته.

وبذلك يظهر وهن ما سبق من دعوي امتناع مقربية عمل النائب للمنوب عنه، قياساً علي القرب المكاني. فإن أدلة النيابة في العبادات قاضية بإمكانه، وكما يرجع للشارع الأقدس في أصل اعتبار التقرب في العبادة يرجع له في كيفية التقرب وخصوصياته سعة وضيقاً.

ولاسيما مع ثبوت ذلك عرفاً في الجملة، حيث يشيع عند العرف إرسال الشخص ممثلاً عنه في بعض مظاهر التكريم للآخرين المبنية علي التقرب منهم،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 20 من أبواب النيابة في الحج حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 20 من أبواب النيابة في الحج حديث: 1، 2.

ص: 270

كالتسليم والزيارة ونحوهما، بحيث يقصد الممثل القيام مقام من يمثله في ذلك والأداء عنه.

بل قد يتبرع شخص عن آخر من دون طلب منه في التسليم علي من يحبه أو الزيارة له أو نحوهما من مظاهر التكريم، بحيث يعد عرفاً مؤدياً عنه ويجزيه في الجملة. ولا مجال مع ذلك للخروج عن ظاهر أدلة النيابة.

الجهة الثالثة: ربما يستشكل في التكسب بالنيابة بالعبادة - بنحو الإجارة أو الجعالة أو نحوهما - فيما إذا لم ينهض الداعي القربي بالداعوية استقلالاً، لضعفه في نفس النائب، بحيث لولا ترتب الأجر لم يأت بالعمل العبادي، كما هو الغالب من حال المتكسبين في المقام وسائر موارد التكسب. لما هو المعلوم من أنه يعتبر في العبادة كون الداعي القربي من القوة في نفس العامل بحيث يصلح للداعوية استقلالاً.

وقد يدفع الإشكال المذكور بوجوه:

أولها: أن الإشكال إنما يتوجه فيما إذا كان الداعي القربي في عرض الداعي غير القربي، كالوضوء بقصد القربة والتنظيف. أما إذا كان في طوله فلا محذور من عدم استقلاليته في الداعوية، كما في الإتيان بالعبادات بداعي آثارها وفوائدها الدنيوية - كسعة الرزق والشفاء من المرض وغيرهما - والأخروية - كالأمن من العقاب والفوز بجزيل الثواب - حيث لا إشكال في صحة العبادة حينئذٍ وإن لم يصلح الداعي القربي بنفسه للداعوية لولا الفوائد المذكورة المترتبة عليه.

ونظيره ما نحن فيه، لأن استحقاق الأجر إنما يتم مع الإتيان بالعبادة علي الوجه الصحيح وبالداعي القربي، فيكون الإتيان بها بداعي الأجرة داعياً للإتيان بها بالداعي القربي، ويكون الداعي القربي مقصوداً في طول داعي استحقاق الأجرة، لا في عرضه.

وفيه: أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، وما يقع في طوله من الدواعي فإنٍ فيه لا أثر له معه إلا إذا كان بنحو يستقل بالداعوية. فإذا أمر الأب ابنه بتنفيذ أوامر

ص: 271

جاره والاستجابة لطلبه، فإذا استجاب لجاره بداعي أمر أبيه لم تكن استجابته لجاره مقربة له من الجار، بل للأب لا غير، ولا تكون مقربة للجار إلا إذا كانت بداعي الاستجابة للجار، بحيث يكون الداعي المذكور صالحاً للاستقلال بالداعوية مع قطع النظر عن أمر الأب.

وعلي ذلك فقصد التقرب في طول استحقاق الأجر لا يكفي في التقرب المعتبر في العبادة ما لم يكن من القوة في نفس العامل بحيث يصلح للاستقلال بالداعوية.

ولا مجال لقياس قصد استحقاق الأجرة المترتب علي العبادة بقصد آثارها وفوائدها الدينية والدنيوية. للفرق عرفاً وارتكازاً بين الفوائد التي هي من سنخ الجزاء من المتقرب إليه نتيجة قبوله للعمل وشكره عليه وحصول القرب منه بسببه، والفوائد الأخري التي لا دخل للمتقرب إليه بها، كاستحقاق الأجر في المقام، فإن الأولي لما كانت مقتضي طبيعة التقرب بالعمل لم يكن قصدها في طول قصده مانعاً منه، بخلاف الثانية التي هي مترتبة بملاك آخر لا يبتني علي الجزاء من المتقرب إليه علي العمل المتقرب به.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن تحصيل الجعل وإن كان داعياً للامتثال، ولكن الداعي للإتيان بالعبادة علي وجهها الصحيح هو أمر الشارع الأقدس والخوف الإلهي، إذ لولا ذلك لأمكن للعامل أن يأتي بالعمل خالياً عن بعض الشروط التي لا يطلع عليها باذل الأجر، بحيث يخيل إليه أنه جاء به علي الوجه المطلوب.

لاندفاعه أولاً: بأن الخوف من الله تعالي من أخذ المال بلا حق إنما يقتضي الامتناع من أخذه مع عدم صحة العبادة، ولا يقتضي تصحيحها وحصول التقرب بها من أجل استحقاق المال بعد أن لم يكن أمرها صالحاً - في مفروض الكلام - للاستقلال بالداعوية، فإن التقرب المعتبر في العبادة هو التقرب بأمرها وبلحاظ ملاك محبوبيتها، لا التقرب من جهة أجنبية عنها، كالخوف من أكل المال بلا حق.

وثانياً: بأن كثيراً من الأُجَراء إنما يحافظون علي شروط صحة العمل في أداء م

ص: 272

التزموا به من دون نظر لحرمة الأجرة بلا حق.

ثانيها: ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن موضوع التقرب مباين لموضوع التكسب المقابل بالمال، فالتقرب بنفس العمل الخارجي الذي يؤديه النائب، والتكسب إنما يكون بجعل العامل نفسه نائباً عن المكلف في أداء ذلك العمل، وهو أمر نفسي مباين لنفس العمل المتقرب به.

وقد استشكل فيه السيد الطباطبائي (قدس سره) وغيره بأن ذلك خلاف الواقع في الخارج، كيف وإلا لزم استحقاق الأجرة بمجرد جعل الأخير نفسه نائباً وإن لم يتحقق منه العمل.

لكنه كما تري، فإن النيابة أمر إضافي قائم بالنائب والمنوب عنه والمنوب فيه، وهو العمل، فمع عدم تحقق العمل لا تتحقق النيابة فيه، لعدم الموضوع. وليست هي كالوكالة، التي يراد بها كون الوكيل بمنزلة الموكل في السلطنة علي الأمر الموكل فيه بدلاً عنه وإن لم يتحقق ذلك الأمر بعد.

ولو فرض صدق النيابة علي هذا المعني فليس هو مراد شيخنا الأعظم (قدس سره)، بل مراده ما ذكرنا، فإنه أمر نفسي مباين للعمل الخارجي مقارن له، حاول (قدس سره) دفع المحذور به بلحاظ تباين موضوعي التقرب والتكسب.

فلعل الأولي دفع ما ذكره (قدس سره) أولاً: بما ذكره غير واحد من أن الظاهر من حال المعاملات الواقعة علي العبادة كون موضوع العوض والأجرة هو العمل بنفسه، لا النيابة. وهو الظاهر أيضاً من النصوص الكثيرة الواردة في الاستئجار للحج، كموثق عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن الرجل يأخذ الدراهم يحج بها عن رجل هل يجوز أن ينفق منها في غير الحج ؟ قال: إذا ضمن الحجة فالدراهم له يصنع بها ما أحب. وعليه حجة"(1) ، وغيره. وقد اعترف (قدس سره) في ذيل الكلام في الاستئجار المستحب بأن ذلك هو ظاهر نصوص الاستئجار علي الحج. فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 10 من أبواب النيابة في الحج حديث: 3.

ص: 273

وثانياً: بأنه لو تم كون المقابل بالمال هو الأمر النفسي، دون العمل الخارجي فمن المعلوم أنه لولا ما يترتب علي الأمر النفسي المذكور من الأجر والعوض لم يأت النائب بالعمل الخارجي الذي هو مورد التقرب، فالداعي القربي غير مستقل بالداعوية، ومعه لا يتم التقرب، ولا تصح العبادة.

وبعبارة أخري: لا أثر للتباين بين موضوعي التقرب والتكسب مع التلازم بينهما، بل إن كان الداعي القربي مستقلاً بالداعوية صحت العبادة وإن اتحد موضوع التكسب مع موضوع التقرب، وإن لم يكن مستقلاً بها - كما هو الغالب - لم ينفع تباين الأمرين في تحقق التقرب المعتبر في المقام.

ثالثها وهو العمدة: أن التقرب المعتبر في العمل إنما هو بقصد الإتيان به امتثالاً للأمر به وموافقة لملاك المحبوبية المستكشف بالأمر المذكور، وذلك حاصل في المقام، وهو إنما يقتضي مقربية العمل للمأمور به الذي يقع الامتثال له، وهو المنوب عنه، دون النائب. وأخذ النائب الأجرة إنما يمنع من تقربه بالعمل، والمفروض عدم اعتبار تقربه به، لفرض عدم كونه مأموراً به، ليتقرب بامتثاله، وعدم كون أمر النيابة تعبدياً بحيث لا يترتب الأثر علي النيابة إلا بقصد التقرب به.

وبعبارة أخري: وقوع العمل بداعي الأجرة، إنما يمنع من مقربية العمل للمباشر الآخذ لها، وهو النائب في المقام، لا من مقربية من يقع له العمل ويكون امتثالاً لأمره ومقرباً له، وهو المنوب عنه.

فهو نظير عمل النائب بداعي حبّ المنوب عنه الذي تقدم عدم الإشكال في صحة النيابة والعمل معه، مع وضوح أن حبّ المنوب عنه كأخذ الأجرة من الدواعي غير القربية للمولي، والتي قد تكون هي الدافع للنائب نحو العمل.

ويبدو أن شيخنا الأعظم (قدس سره) عند الكلام في الاستئجار علي الواجب قد حام حول هذا الوجه علي طول في عبارته وغموض فيها. وبه صرح سيدنا المصنف (قدس سره) بوضوح في أوائل مبحث صلاة الاستئجار من مستمسكه علي اختصار كلامه.

ص: 274

فلو استأجر شخصاً علي فعل الفرائض اليومية أو نوافلها أو صوم شهر رمضان أو حج الإسلام (1) أو تغسيل الأموات أو تكفينهم (2) أو الصلاة عليهم أو غير ذلك من العبادات الواجبة أو المستحبة، لم تصح الإجارة إذا كان المقصود أن يفعلها الأجير عن نفسه (3). نعم لو استأجره علي أن ينوب

---------------

فلاحظهما. وهناك بعض الوجوه الأخري مذكورة في كلماتهم لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد وفاء ما ذكرنا بدفع الإشكال.

علي أنه بعد ورود النصوص بالاستئجار للحج، وظهور عمل الأصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) بها فلا مجال للتوقف في جواز الاستئجار علي العبادات للوجه المتقدم أو غيره، بل هو كالشبهة في مقابل البديهية، إن أتضح وجه دفعه فذاك، وإلا فلا مجال للخروج به عن النصوص المذكورة، للعلم بخطئه معها وإن لم يتضح لنا وجه خطئه.

(1) بل مطلق الحج، حيث لا يحتمل جواز الإجارة علي الحج المستحب علي أن يفعله المباشر عن نفسه، نظير النوافل الرواتب، وقد سبق منّا أن فعله عن نفسه بحيث يكون هو الممتثل يمنع من أخذ الأجرة عليه.

(2) لا يخفي أن موضوع الكبري المتقدمة في كلامه العبادات، والتكفين ليس منها. نعم إذا فرض العلم بعدم مشروعيته من المكلف إلا مع وقوعه عن نفسه مجاناً تعين امتناع أخذ الأجرة عليه، لأن فرض اعتبار المجانية مستلزم لامتناع التكسب، ولذا سبق أن الكبري المتقدمة منه (قدس سره) غنية عن الاستدلال، لأنها أشبه بالقضية بشرط المحمول، ولا يفرق فيها بين العبادات والتوصليات.

(3) كأنه للمفروغية عن أن فعلها لنفسه لا يشرع إلا مع المجانية، فيدخل في الكبري التي سبقت منه (قدس سره). وحينئذٍ يبقي الكلام في وجه المفروغية. نعم يظهر مما سبق منّا في وجه حرمة أخذ الأجرة علي الواجبات أن فرض فعلها عن نفسه - بحيث

ص: 275

عن غيره في عبادة - من صلاة أو غيرها إذا كان مما تشرع فيه النيابة - جاز (1). وكذا لو استأجره علي الواجب غير العبادي - وصف الدواء للمريض أو

---------------

يكون هو الممتثل بها - مستلزم لامتناع أخذ الأجرة عليها، لكونه أكلاً للمال بالباطل.

هذا ومما سبق في أول المسألة من المحقق في الشرايع وغيره يظهر بناؤهم علي حرمة أخذ الأجرة علي أحكام الميت مطلقاً، ومن البعيد جداً حمل كلامهم علي خصوص صورة إتيان الأجير بها عن نفسه، لاحتياجه إلي عناية، بعد اقتضاء الاستئجار وقوع العمل للمستأجر، المناسب لنيابة الأجير عنه فيه. ومن ثم استدل في الجواهر علي حرمة التكسب بها بظهور الأدلة في ابتناء الأمر بها علي الإتيان بها مجاناً، وعدم مشروعية النيابة فيها.

لكن لم يتضح منشأ ظهور الأدلة في ابتنائها علي المجانية. نعم مما سبق يتضح أنه لا مجال لامتثال المباشر بعمله مع أخذ الأجرة عليه، لأن العمل حينئذٍ يكون لباذل المال وفي حسابه عوضاً عنه، ويمتنع امتثاله بما يقع لغيره. إلا أن اعتبار كون المباشر هو الممتثل في هذه الأمور أول الكلام بعد كون التكليف كفائياً ومقتضي إطلاقه الاجتزاء بصرف الوجود ولو من غير الممتثل.

غاية الأمر أن الغسل والصلاة لما كانا عباديين فلابد من الإتيان بهما بقصد الامتثال وموافقة ملاك المحبوبية. إلا أن ذلك لا يقتضي وقوعهما امتثالاً من المباشر إذ يمكن الاجتزاء بوقوعهما منه امتثالاً عن غيره، كباذل المال في المقام. إلا أنه متوقف علي ثبوت مشروعية النيابة فيهما. وهو خلاف الأصل. بل مقتضي الإجماع الذي سبقت دعواه في أول المسألة عدم مشروعيتها. وإن سبق منّا وهن الاستدلال به. فلاحظ.

(1) إذ مع فرض مشروعية النيابة فعدم جواز أخذ الأجرة، بحيث تكون النيابة مجانية يحتاج إلي دليل، خصوصاً مع ثبوت جواز الاستئجار علي الحج النيابي، كما سبق.

ص: 276

العلاج له أو نحو ذلك - فإنه يصح (1). وكذا لو استأجره لفعل الواجبات التي يتوقف عليها النظام (2)، كتعليم علوم الزراعة والصناعة والطب.

---------------

(1) مما سبق منّا يتضح عدم الفرق بين الواجب العبادي والتوصلي، فمع ظهور دليل الواجب في لزوم كون المباشر هو الممتثل به لا يصح الاستئجار ولا التكسب بهما معاً. ومع عدم ظهوره في ذلك - إما لعدم لزوم صدوره من ممتثل، أو للاكتفاء بامتثاله من غير المباشر، لقبوله للنيابة - يتعين جواز الاستئجار عليه والتكسب به.

كما أنه بناءً علي ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) فالمعيار في جواز التكسب وعدمه في القسمين عدم ظهور الدليل في المجانية وظهوره فيها. وعلي ذلك لا مجال لإطلاق الجواز في التوصلي. بل هو لا يناسب ما سبق منه (قدس سره) من عدم جواز أخذ الأجرة علي التكفين وما يأتي منه من عدم جواز الاستئجار لتعليم الحلال والحرام، إذ هما معاً توصليان.

وحينئذٍ فالوجه في جواز أخذ الأجرة علي وصف الدواء للمريض وعلاجه في مورد وجوبه - لتوقف حياة المريض عليه مع احترامه - هو أن وجوب حفظ حياة محترم الدم لا يختص بالطبيب، بنحو يلزم صدوره منه، بحيث يكون هو المتمثل به، بل المكلف بذلك الكل، فيمكن امتثاله من غير الطبيب ببذل المال في سبيل ذلك، بحيث يقع العمل له امتثالاً منه، لا من الطبيب، ويكون الطبيب من سنخ النائب عنه. وقد تقدم منّا في آخر الكلام في الصناعات تمام الكلام في ذلك.

أما بناءً علي ما جري عليه سيدنا المصنف (قدس سره) فيكفي في جواز التكسب بذلك عدم ثبوت ابتناء التكليف المذكور علي لزوم صدور العمل من الطبيب عن نفسه مجاناً، بل ثبت عدم ابتنائه علي ذلك بعد قيام سيرة المتشرعة المعتضدة بالمرتكزات علي التكسب به.

(2) يظهر الكلام فيها مما تقدم في وصف الدواء للمريض وعلاجه.

ص: 277

ولو استأجره لتعليم الحلال والحرام في ما هو محل الابتلاء فالأظهر البطلان وحرمة الأجرة (1). وفي عموم الحكم لما لا يكون محلاً للابتلاء إشكال.

---------------

(1) يظهر من الجواهر أن الوجه فيه وجوب تعليم الأحكام علي العالم بها المستفاد من قوله تعالي: (فَلَولاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ)(1) ، بتقريب: أن جعل التفقه والإنذار غاية للنفر الواجب ظاهر في وجوبهما، علي تفصيل مذكور عند الاستدلال بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد ولوجوب التقليد علي العامي.

ومن النصوص الكثيرة الدالة علي وجوب بذل العلم، كموثق طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قرأت في كتاب علي (عليه السلام): إن الله لم يأخذ علي الجهال عهداً بطلب العلم حتي أخذ علي العلماء عهداً ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل"(2).

لكن من الظاهر أن الاستدلال المذكور إنما يتجه بناءً علي حرمة التكسب بالواجب مطلقاً. أما بناءً علي عدم حرمة التكسب بالواجب إلا مع ظهور أدلته في لزوم قيام المكلف به مجاناً - كما يظهر من صاحب الجواهر وسيدنا المصنف وبعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم) - فلابد من إثبات ظهور الأدلة المذكورة في اعتبار المجانية.

ومن ثم ادعي بعض مشايخنا (قدس سره) أن ذلك هو الظاهر من آية النفر. لكن لم يتضح منشأ ظهورها في ذلك، حيث لم تتضمن إلا كون التفقه والإنذار هما الغاية من الأمر بالنفر، وذلك إنما يقتضي ظهورها في وجوبهما من دون نظر للمجانية.

نعم سبق منّا أنه إذا استفيد من الأدلة لزوم حصول الواجب من المكلف

********

(1) سورة التوبة آية: 122.

(2) الكافي ج: 1 ص: 41.

ص: 278

والأظهر الجواز والصحة (1).

(مسألة 29): يحرم النوح بالباطل. يعني: الكذب. ولا بأس بالنوح بالحق (2).

---------------

بحيث يكون هو الممتثل له تعين حرمة أخذ الأجرة وذلك هو ظاهر الأدلة المتقدمة، لقوة ظهورها في أن وظيفة الفقيه والعالم تعليم أحكام الدين وبذل العلم فيها. ويؤيد ذلك خبر يوسف بن جابر:" قال أبو جعفر (عليه السلام) لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) من نظر إلي فرج امرأة لا تحل له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه [لفقهه] فسألهم الرشوة"(1). فإن مقتضي إطلاقه العموم لبيان الأحكام الشرعية وعدم اختصاصه بالقضاء، فهو ينهض بإثبات المطلوب، لولا ضعف سنده.

(1) لانصراف أدلة وجوب تعلم الأحكام وتعليمها إلي ما هو محل الابتلاء، لأن الوجوب المذكور طريقي من أجل العمل علي الأحكام، والخروج عن عهدتها. وهو المناسب لتعقيب الإنذار بالحذر في آية النفر، لوضوح أن الحذر إنما يكون فيما هو محل الابتلاء، وكذا ما في موثق طلحة بن زيد من كون أخذ العهد علي الجهال بالتعلم متأخراً عن أخذ العهد علي العلماء بالتعليم، لوضوح أن الجهال إنما يجب عليهم التعلم فيما هو محل ابتلائهم لا غير. وأظهر من ذلك خبر يوسف بن جابر.

(2) التفصيل المذكور هو المعروف بين الأصحاب، والظاهر أو المصرح به في كلام جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين، بل عن المنتهي: "النياحة بالباطل محرمة إجماعاً، أما بالحق فجائزة إجماعاً" .نعم أطلق في المبسوط والوسيلة التحريم، بل في المبسوط في آخر أحكام الجنائز: "وأما اللطم والخدش وجز الشعر والنوح فإنه كله باطل محرم إجماعاً".

وقد يستدل له بالنصوص الناهية عنها، كحديث عمرو بن أبي المقدام: "سمعت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب آداب القاضي حديث: 5.

ص: 279

أبا الحسن وأبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله عز وجل: (وَلاَ يَعصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ) قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لفاطمة (عليها السلام): إذا أنا مت فلا تخمشي عليّ وجهها [وجها. ظ]

ولا ترخي علي شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمن علي نائحة. قال: ثم قال: هذا المعروف الذي قال الله عز وجل في كتابه: (وَلاَ يَعصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ)"(1) ، وخبر الحسين بن زيد عن الصادق (عليه السلام) في حديث المناهي:" نهي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن الرنة عند المصيبة، ونهي عن النياحة والاستماع إليها"(2) ، وخبر الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليهم السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أربعة لا تزال في أمتي إلي يوم القيامة: الفخر بالأحساب... والنياحة. وإن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم وعليها سربال من قَطِران ودرع من حرب [جرب]"(3).

ومثلها في ذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام):" سألته عن النوح علي الميت أيصلح ؟ قال: يكره "(4) وغيره مما تضمن كراهة النياحة أو كراهة كسبها، بناءً علي ظهور الكراهة في الحرمة.

لكن يعارضها في ذلك نصوص كثيرة، كصحيح يونس بن يعقوب عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تند بني عشر سنين بمني أيام مني"(5) ، وصحيح أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: مات الوليد بن المغيرة، فقالت أم سلمة للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فاذهب إليهم ؟ فأذِن لها، فلبست ثيابها وتهيأت... فندبت ابن عمها بين يدي رسول (صلي الله عليه وآله وسلّم)... فما عاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ذلك، ولا قال شيئاً"(6) ، ومعتبر الحسين بن زيد قال:" ماتت ابنة لأبي عبدالله (عليه السلام) فناح عليها سنة، ثم مات له ولد آخر فناح عليه سنة... فقيل لأبي عبدالله (عليه السلام): أيناح في دارك ؟! فقال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال لما مات حمزة: لكن حمزة لا بواكي له"(7).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 83 من أبواب الدفن حديث: 5، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 83 من أبواب الدفن حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 12، 13، 1، 2.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 70 من أبواب الدفن حديث: 6.

ص: 280

وموثق حنان بن سدير قال: "كانت امرأة معنا في الحي، ولها جارية نائحة، فجاءت إلي أبي فقالت: يا عم إنك تعلم أن معيشتي من الله ثم من هذه الجارية، فأحب أن تسأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن ذلك، فإن كان حلالاً، وإلا بعتها وأكلت ثمنها حتي يأتي الله بالفرج، فقال لها أبي: والله إني لأعظم أبا عبدالله (عليه السلام) أن أسأله هذه المسألة. قال: فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): تشارط؟ قلت: والله ما أدري تشارط أم لا. فقال: قل لها لا تشارط، وتقبل ما أعطيت"(1).

وصحيح أبي بصير:" قال أبو عبدالله (عليه السلام): لا بأس بأجر النائحة التي تنوح علي الميت"(2) ، وغيرها. وهي أصح سنداً، وأظهر عملاً بين الطائفة، فلا مجال لطرحها من أجل النصوص السابقة.

وقد يجمع بين الطائفتين بحمل الأولي علي الكراهة. لكنه لا يناسب صحيح أبي حمزة فإن إذنه (صلي الله عليه وآله وسلّم) بحضور المناحة و المشاركة فيها وإن أمكن أن يكون لجهات ثانوية تزاحم الكراهة، كصلة الأرحام وتألفيهم وتجنب تنفيرهم بمقاطعة مناحتهم، إلا أن قوله (عليه السلام): "فما عاب رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ذلك ولا قال شيئاً" وارد مورد التنبيه علي عدم محذور في النياحة من حيث هي يقتضي الإعابة والإنكار.

وكذا الحال في معتبر الحسين بن زيد، فإن إقامته (عليه السلام) للمناحة بالوجه المذكور في بيته وإن أمكن أن يكون لضغط العرف الاجتماعي بحيث يكون تركه توهيناً للميت، كما أن قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "لكن حمزة لا بواكي له" قد يكون بلحاظ أن في البكاء علي حمزة إعزازاً للنبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وللدين بالنحو المزاحم للكراهة الأولية أو بنحو يستثني منها، إلا أن الإنكار علي الإمام (عليه السلام) في إقامته النياحة في داره لما كان بلحاظ توهم الكراهة بالعنوان الأولي فرده (عليه السلام) علي ذلك بحديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في قضية حمزة (عليه السلام) ظاهر في عدم الكراهة بالنحو المذكور، وفي نهوض الحديث المذكور بنفيها.

نعم لا بأس بالبناء علي استحباب الترك تصبراً. وربما يحمل عليه من الطائفة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب حديث: 3، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب حديث: 3، 7.

ص: 281

الأولي حديث عمرو بن أبي المقدام وغيره. وإن كان كثيراً منها يأباه لقوة ظهوره أو صراحته في الحرمة. لكن يهون أمرها، لضعف سند أكثرها، وقرب حمل الجميع علي التقية، لموافقتها لكثير من العامة، ولما هو المعروف من سيرة بعض أوائلهم وشدة إنكاره لذلك. ولا يبعد أن يكون ذلك هو المنشأ لما أشير إليه في نصوص الطائفة الثانية من استنكار النياحة ورده.

ثم إن نصوص الطائفة الثانية الدالة علي جواز النياحة وإن كانت مطلقة، إلا أنه قد يستدل للتفصيل الذي سبق من المشهور بمرسل الصدوق: "قال (عليه السلام): لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً"(1) ، وخبر خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين (عليهما السلام)، قالت في حديث:" سمعت عمي محمد بن علي (عليه السلام) يقول: إنما تحتاج المرأة إلي النوح لتسيل دمعتها، ولا ينبغي لها أن تقول هجراً، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح"(2).

لكنهما لا ينهضان بالاستدلال لضعفهما. ولأن الهجر هو القول القبيح أو الفحش، من دون خصوصية للكذب. ومن القريب أن يراد به هنا التجاوز إما في مدح الميت، أو في الخروج عن مقتضي الصبر والتسليم لله تعالي والرضا بقضائه.

فالعمدة في المقام: أن النصوص المذكورة إنما تدل علي جواز النياحة من حيث هي، ولا تنافي حرمتها لو اشتملت علي محرم، كالكذب، أو مدح من لا يستحق المدح، أو توهين الحق، أو ترويج الباطل، أو قول ما ينافي التسليم لله تعالي، أو غير ذلك مما هو محرم في نفسه وإن لم يكن كذباً. بل مقتضي إطلاق أدلة حرمة تلك الأمور حرمتها حينئذٍ، بل هو المقطوع به، وإن لم تحرم من حيثية النياحة. ومن ذلك يظهر أن اللازم التفصيل بالوجه المذكور، وعدم الاقتصار في الحرمة علي الكذب.

بقي شيء، وهو أن الظاهر عدم الإشكال في جواز التكسب بالنياحة مع حليتها، كعدم الإشكال في حرمته مع حرمتها. عملاً بعموم صحة العقود وأصالة

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث 9، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث 9، 6.

ص: 282

(مسألة 30): يحرم هجاء المؤمن (1).

---------------

احترام العمل مع حليته، ولخصوص صحيح أبي بصير المتقدم. ولأجله يتعين حمل موثق سماعة: "سألته عن كسب النائحة والمغنية فكرهه" (1) علي الكراهة المصطلحة، أو علي التقية بلحاظ ما سبق.

كما أن ما تضمنه موثق حنان بن سدير المتقدم من النهي عن المشارطة لم أعثر عاجلاً علي من عمل بظاهره من حرمة المشارطة، بل عن التذكرة وغيرها كراهة كسب النائحة معها، وعن التحرير تأكد الكراهة حينئذٍ. وهو المناسب لصحيح أبي بصير، لأن حمل إطلاق جواز التكسب علي صورة عدم المشارطة يحتاج إلي عناية، لأن طبيعة التكسب تقتضي المشارطة وتعيين الأجر. فتأمل.

(1) بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. وهو الحجة. كذا في الجواهر. لكن لا مجال للتعويل علي الإجماع المذكور بعد قرب ابتنائه علي دخول الهجاء في كبريات مأخوذة من الكتاب المجيد والسنة الشريفة والمرتكزات الراجعة لحرمة عرض المؤمن، كتحريم إيذائه وسبه وغيبته وبهته وإهانته والطعن عليه وإذاعة ما يشينه ويهدم مروءته ويسقطه في أعين الناس، وإحصاء عثراته وعورته ليعيره بها ونحو ذلك. وحينئذٍ لا يكون للهجاء خصوصية في الحرمة.

كما لا يكون محرماً مطلقاً، بل في خصوص ما إذا كان من صغريات إحدي الكبريات المتقدمة، دون غير ذلك، كما في هجاء الإخوان بعضهم لبعض في مقام المطايبة والمفاكهة أو نحو ذلك مما لا ينافي حرمة المؤمن، وليس فيه محذور شرعي آخر.

وكذا لو سقطت حرمته إما بأن يكون الهجاء وسيلة لإنكار المنكر عليه بشروطه. وإما بأن يكون الشخص متجاهراً بالفسق. كما يستفاد من معتبر هارون بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 17 من أبواب ما يكتسب به حديث: 8

ص: 283

ويجوز هجاء المخالف (1). وكذا الفاسق المبتدع، لئلا يؤخذ ببدعته (2).

(مسألة 31): يحرم الفحش من القول (3) - وهو ما يستقبح التصريح به - إذا كان الكلام مع الناس غير الزوجة،

---------------

الجهم عن الصادق (عليه السلام): "قال: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة"(1). فإن مقتضي نفي الحرمة ارتفاع جميع الأحكام المتفرعة علي الحرمة، ومنها الكبريات المذكورة، لا خصوص الغيبة.

نعم إذا اشتمل الهجاء علي محرم آخر غير متفرع علي حرمة المقول فيه، كالكذب والنيل ممن ينتسب له ونحو ذلك فلا يكفي في حله سقوط حرمة الشخص المذكور.

إلا أن تسقط حرمة المحرم المذكور، كالبهتان في حق أهل البدع والريب. لصحيح داود بن سرحان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): إذا رأيتم أهل الريب والبدع بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام [ويحذرهم الناس] ولا يتعلمون من بدعهم. يكتب الله لكم الحسنات ويرفع لكم به الدرجات"(2).

(1) لعدم ثبوت الحرمة له التي سبق أنها المعيار في حرمة الهجاء. بل ما تظافرت به النصوص من لعنهم وسبهم يقتضي جواز ذلك بالأولوية العرفية أو بفهم عدم الخصوصية. وقد تقدم في مبحث الغيبة من مباحث التقليد ما ينفع في المقام، إذ بناءً علي ما قربناه هناك من تقوّم مفهوم الغيبة بالإعابة تكون مقاربة للهجاء مفهوماً وملاكاً.

(2) كما يظهر مما تقدم. ويظهر منه أيضاً الجواز في حق المتجاهر، وفي مورد النهي عن المنكر.

(3) كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). فقد ذكر في المسألة الثامنة والعشرين أنه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 154 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 39 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما حديث: 1.

ص: 284

يحرم الهجر، ثم قال: "وهو الفحش من القول وما استقبح التصريح به".

وقد استدل عليه هو (قدس سره) وغيره بالنصوص المتضمنة للنهي عن البذاء والفحش، وكون الإنسان ممن لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، وكونه ممن يكره مجالسته ويخاف لسانه، وهي نصوص كثيرة.

كصحيح عيص بن القاسم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال:

إن أبغض خلق الله عبد اتقي الناس لسانه" (1) ، وصحيح عبدالله بن سنان:" قال أبو عبدالله (عليه السلام)

:من خاف الناس لسانه فهو في النار" (2) .

وصحيح أبي بصير عنه (عليه السلام) في حديث: "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

إن من أشر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه" (3) وصحيح أبي عبيدة عنه (عليه السلام): "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"(4) ، وخبر سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

إن الله حرم الجنة علي كل فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له..." (5) ، وغيرها من النصوص الكثيرة.

ثم إن ظاهر شيخنا الأعظم وسيدنا المصنف (قدس سرهما) أن موضوع التحريم هو ما يستقبح التصريح به مما يتعلق بالجنس من أعضاء وأفعال.

لكنه لا يناسب النصوص المذكورة، فإن البذاء هو الفحش، والفحش كل قبيح من القول والفعل، والتعدي في الجواب، كما صرح بجميع ذلك اللغويون، ويناسبه الاستعمالات الكثيرة.

وكذا الحال في الجفاء، وعدم الحياء، وكون الإنسان ممن يتقي لسانه وتكره مجالسته. لظهور عمومها لكل قبيح، وعدم اختصاصها بخصوص ما يستقبح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 70 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 6، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 70 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 6، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 8.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 72 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 5، 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 72 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه حديث: 5، 2.

ص: 285

أما معها فلا بأس به (1).

---------------

التصريح به مما يتعلق بالجنس، بل تعم حتي خشونة القول المناسبة للجفاء والغلظة.

كما أن النصوص المذكورة لا تنهض بحرمة الكلام الدال علي ذلك مطلقاً، بل علي ما يبتني علي الكثرة والاستمرار بحيث يكون خلقاً ثابتاً في الإنسان، ليكون بسببه ممن يتقي لسانه، وتكره مجالسته، وممن لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، ونحو ذلك مما تضمنته النصوص. وهو المناسب أيضاً للتعبير بالفحاش الذي هو من أمثلة المبالغة، والبذاء الذي هو من سنخ الخلق، والبذيء الذي هو صفة مشبهة دالة علي الثبوت.

بل يصعب جداً البناء علي حرمة الخشونة في القول مطلقاً إذا لم تستلزم التعدي علي من يحرم التعدي عليه. لعدم مناسبته للسيرة والمرتكزات، بل المرتكز كون تركه من سنخ الكمال والخلق السامي والحياء ونحو ذلك من دون أن يبلغ مرتبة الوجوب. كيف وقد ورد عن المعصومين (صلوات الله عليهم) وكثير من أعيان المؤمنين جبه من يستحق بالكلام الغليظ والرد الخشن، بل السب والشتم في كثير من الموارد.

غاية الأمر أن ذلك ليس خلقاً لهم يعرفون به كما عرف عن غيرهم، وإنما ورد في مناسبات خاصة، واقتضته الحاجة، من دون أن تنافي الحياء منهم، ولا حسن الخلق وطيب المعشر وليونة الجانب التي عرفوا بها.

وأما البناء علي الحرمة إلا مع الحاجة فلا مجال له بعد عدم الإشارة لذلك في النصوص، لينظر في معيار الحاجة شرعاً أو عرفاً، وعدم سهولة التقيد بها في مثل ذلك مما يصعب ضبطه، بخلاف ما لو كان المدار في الحرمة علي كون ذلك خلقاً ثابتاً في الإنسان، فإنه أمر قابل للإدراك، ويمكن التجنب عنه بالمراقبة والرياضة والتمرن والاعتبار، كما لعله ظاهر.

(1) يعني: فيما يقبح التصريح به مما يتعلق بالجنس. لعدم منافاته معها لحسن المعاشرة والمخالطة، وعدم حسن الحياء معها في ذلك. ومثلها في ذلك السرية، كما هو

ص: 286

(مسألة 32): تحرم الرشوة (1)

---------------

ظاهر. بل الظاهر جريان ذلك في غيرهما في مقام المطايبات بين الإخوان من دون أن يبلغ حدّ التخلع والبذاء.

كما أن الظاهر أن الكلام الواحد يختلف طرحه باختلاف المناسبات، فيكون: تارة: بذيئاً تخلعياً منافياً للحياء. وأخري: كلاماً طبيعياً لا ينافيه. هذا وأما بناءً علي ما ذكرنا في تحديده فلا يفرق بين الزوجة وغيرها في غير ما يتعلق بالجنس منه.

(1) حرمة الرشوة في الجملة من القطعيات المدعي عليها الإجماع منّا ومن المسلمين عامة. وقد استدل عليها - مضافاً إلي ذلك - بالكتاب المجيد والسنة الشريفة.

أما الكتاب المجيد فبقوله تعالي: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَي الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ)(1). حيث قد يستدل به بحمل المال الذي يدلي به للحكام علي الرشوة التي تكون سبباً للحكم بالجور وأكل فريق من أموال الناس حراماً.

لكن الذي يظهر من غير واحد من المفسرين أن المال الذي يدلي به للحكام هو المال الذي يدعي بلا حق ويرفع أمره لهم ليحكموا فيه بالجور لغير أهله، فهو عين المال الذي أريد بقوله تعالي: (لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِن أَموَالِ النَّاسِ...). وهو وإن كان لا يناسب ظهور التعبير المذكور في التباين بينهما، إلا أنه يناسبه ما في معتبر أبي بصير: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): قول الله عز وجل في كتابه: (وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَي الحُكَّامِ)، فقال: يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكاماً يجورون. أما إنه لم يعن حكام أهل العدل، ولكنه عني حكام أهل الجور. يا أبا محمد إنه لو كان لك علي رجل حق فدعوته إلي حكام أهل العدل، فأبي عليك إلا أن

********

(1) سورة البقرة: آية 188.

ص: 287

يرافعك إلي حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم إلي الطاغوت..." (1) لظهوره في ورود الآية للردع عن التحاكم لحكام أهل الجور، لا عن الرشوة للحكام. وأظهر منه في ذلك ما رواه في مجمع البيان عنه (عليه السلام) أنه قال: "علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق، فنهي المؤمنين أن يتحاكموا إليهم وهم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق"(2).

بل قد يناسب ذلك أن مقتضي تركيب الآية الشريفة كون المدلي إلي الأحكام هو الآكل له بالباطل، مع أنه لو كان المراد بالإدلاء بالمال دفعه للحاكم رشوة لكان المناسب أن يقول: ولا تعطوا أموالكم بالباطل وتدلوا بها إلي الأحكام. ومن ثم كان من القريب أن الآية الشريفة أجنبية عما نحن فيه. ولا أقل من إجمالها من هذه الجهة، فلا تنهض بالاستدلال في المقام.

فالعمدة في المقام السنة الشريفة، حيث تضمنت نصوص كثيرة النهي عن الرشوة، وفي كثير منها عدها من السحت، كموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام):" قال: السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغي، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن "(3) وغيره.

بل في صحيح عمار بن مروان:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الغلول. فقال: كل شيء غلّ من الإمام فهو سحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر، والربا بعد البينة. فأما الرشا في الحكم فإن ذلك كفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله (صلي الله عليه وآله وسلّم) "(4) ونحوه غيره.

هذا مضافاً إلي أن الرشوة في موضوع كلام سيدنا المصنف (قدس سره): إن كانت علي الحكم بالباطل فهي من الأجرة علي الحرام التي هي محرمة بلا كلام، وإن كانت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب صفات القاضي حديث: 3.

(2) مجمع البيان ج: 1 ص: 282.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5، 1.

ص: 288

علي الحكم بالحق فهي من الأجرة علي ما هو واجب علي المباشر - وهو الحاكم - عيناً، بحيث يجب أن يكون هو المتمثل به، وقد سبق أن التحقيق حرمة التكسب في ذلك. وأظهر من ذلك ما لو كان أجيراً علي القضاء من قبل جهة شرعية بناءً علي جواز الاسئتجار عليه، حيث يكون الحكم بالحق مملوكاً لتلك الجهة فلا يملك ثانياً.

نعم هذا الوجه إنما يقتضي عدم مشروعية الرشوة إذا كانت مدفوعة عوضاً عن الحكم لصالح الدافع وأجراً له، دون ما إذا كانت هبة مجانية مشروطة بترتب الحكم المذكور، ضرورة أنه لا مانع من اشتراط الواجب - كالحكم بالحق في المقام - في الهبة، من دون أن يوجب بطلانها، بل ذلك يؤكد وجوبه. بل لا ضرر في اشتراط الحرام - كالحكم بالباطل - بناءً علي التحقيق من أن الشرط الفاسد في العقد لا يبطله، غاية الأمر أنه لا يجب الوفاء به.

وأظهر من ذلك ما إذا كان ترتب الحكم لصالح دافع المال من سنخ الداعي لدفع المال من دون أن يكون مقابلاً بالمال ولا شرطاً في دفعه، حيث لا موجب لتوهم عدم مشروعية دفع المال حينئذٍ بحسب القاعدة، وإن صدق عليه الرشوة إما مطلقاً، أو بشرط ترتب المطلوب عليه. بلحاظ أن الرشوة في اللغة هي الوصلة للحاجة بالمصانعة أو ما يقرب من ذلك، فلا تصدق إلا مع ترتب المطلوب عليها، اللهم إلا أن يستشكل في صدق الرشوة عليها عرفاً، بل هي عندهم من الهدية المقابلة للرشوة، فتقصر عنها النصوص المتقدمة.

كما أن الوجه المذكور إنما يقتضي - في مورد تماميته - حرمة الرشوة وضعاً، بمعني عدم تملك الآخذ لها، من دون أن يقتضي حرمتها تكليفاً. غايته أنها تحرم علي الحكم بالباطل تكليفاً بملاك آخر، وهو حرمة التشجيع علي الحرام والحمل عليه، ولا يجري ذلك لو كان الغرض منها الحكم بالحق. وهذا بخلاف النصوص فأنها ظاهرة في الحرمة التكليفية والوضعية معاً.

وبالجملة: الوجه المذكور وإن كان تاماً في نفسه، إلا أنه لا ينهض بتمام المدعي

ص: 289

علي القضاء (1).

---------------

الذي تضمنته النصوص، بل يقصر عن النصوص مفاداً ومورداً.

(1) يعني: علي الحكم لصالح دافع المال، لا علي أصل القضاء والنظر في الخصومة، فإن المال المدفوع عليه لا يعد رشوة عرفاً، بل أجراً أو جعلاً علي القضاء.

هذا والرشوة علي القضاء والحكم هي مورد كلام كثير من الأصحاب. بل يظهر من بعض كلماتهم كون ذلك مراد من أطلق منهم. وكيف كان فلا إشكال في حرمة الرشوة في القضاء، لأنها مورد النصوص المتقدمة وغيرها.

وأما الرشوة في غيره من الجهات المتعلقة بالدولة فهي تارة: تدفع للموظف علي عمل متعلق بوظيفته ومن شؤونها. وأخري: تدفع للشخص علي عمل غير متعلق بوظيفته، وليس من شأنه القيام به مع قطع النظر عن دفع المال له من أجله.

أما في الصورة الثانية فلا إشكال في جوازها إذا كانت علي عمل محلل: أولاً: لعدم وضوح صدق الرشوة عليها عرفاً، فإن الرشوة وإن كانت لغة هي الوصلة للحاجة بالمصانعة أو ما يقرب من ذلك، إلا أن معناها عرفاً ليس هو ذلك علي إطلاقه، إذ لا إشكال في عدم صدقها عندهم علي مثل الجعالة والأجرة علي الأعمال المرغوبة.

نعم قد تستعمل في ذلك، كما في صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل علي أن يتحول من منزله فيسكنه. قال: لا بأس به"(1). وما سبق في خبر يوسف بن جابر المتقدم في أواخر المسألة الثامنة والعشرين. إلا أن الاستعمال المذكور قد يكون بلحاظ المعني اللغوي لمادة الرشوة، أو توسعاً ومجازاً بلحاظ المعني العرفي، ولا يستلزم عموم معني الرشوة عرفاً لها حقيقة، لما هو المعلوم من أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 85 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 290

وثانياً: لأن موضوع النهي في النصوص المتقدمة وغيرها هو الرشوة في الحكم، ولم نعثر - بعد ما تيسر لنا من الفحص - علي إطلاق ينهض بإثبات عموم النهي عن الرشوة. عدا ما ذكره في البحار عن كتاب الإمامة والتبصرة بسنده المطابق لسند الجعفريات عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): الراشي والمرتشي والماشي بينهما ملعون"(1). وروي مثله أو قريب منه مرسلاً في جملة من كتبنا وكتب العامة، ومسنداً من طرقهم. والسند المذكور وإن كان الظاهر اعتباره، إلا أن توثيق كتاب الإمامة والتبصرة عند المجلسي لا يخلو عن إشكال، كما يظهر بملاحظة ما ذكره عند الكلام في توثيق مصادر كتاب البحار من مقدمته.

علي أن من القريب عدم صدوره لبيان إطلاق حرمة الرشوة، بل لبيان عدم اختصاص الحرمة بالمرتشي الآكل للرشوة، بل تعم الراشي، والماشي بينهما، بعد الفراغ عن حرمة الرشوة، فلا ينافي اختصاصها بالرشوة في الحكم. ولاسيما مع التصريح بالقيد المذكور في بعض طرق الحديث عند العامة، ففي كتاب التاج:" عن أبي هريرة: لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) الراشي والمرتشي في الحكم"(2).

مضافاً إلي أنه لو فرض ورود الإطلاق المذكور فظهور عدم إرادته بهذه السعة يمنع من انعقاد ظهوره في العموم، ويجعله بحكم المجمل الذي يلزم الاقتصار فيه علي المتيقن، وهو في المقام الرشوة في الحكم.

وأما في الصورة الثانية، وهي رشوة الموظف فيما يتعلق بوظيفته فمن القريب صدق الرشوة عليها، لقرب تقوم الرشوة عرفاً بذلك، كما يناسبه استعمالها في موارد القضاء، وما في خبر الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال: أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك"(3) ، ومعتبر حكيم بن حكم الصيرفي:" سمعت أب

********

(1) بحار الأنوار ج: 104 ص: 274.

(2) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلّم) ج: 3 ص: 56.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 10.

ص: 291

عبدالله (عليه السلام) وسأله حفص الأعور فقال: إن السلطان يشترون منّا القرب والأدواة، فيوكلون الوكيل حتي يستوفيه منّا، فنرشوه حتي لا يظلمنا. فقال: لا بأس ما تصلح به مالك. ثم سكت ساعة، ثم قال: أرأيت إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟ قال: نعم. قال: فسدت رشوتك"(1). وقد يبتني عليه ما سبق في خبر يوسف بن جابر المتقدم في أواخر المسألة الثامنة والعشرين، بلحاظ أن بذل الفقه واستعماله مقتضي وظيفة الفقيه.

وأما احتمال اختصاصها بالقضاء فبعيد جداً، بل هو لا يناسب التقييد بالحكم في نصوص القضاء السابقة، لقوة ظهور القيد المذكور في كونه احترازياً زائداً علي الرشوة مفهوماً، لا تأكيدياً مقوماً لمفهومها.

نعم سبق عدم الدليل علي عموم النهي عن الرشوة، ليمكن الاستدلال به علي الحرمة في المقام، بل النصوص مختصة بالرشوة في الحكم عدا خبر الأصبغ المتقدم الذي لا ينهض بالاستدلال، لضعف سنده. ولا مجال للتعدي من القضاء لما نحن فيه بعد عدم القرينة علي ذلك. ولاسيما مع أهمية منصب القضاء، المناسب لشدة اهتمام الشارع الأقدس بأداء الأمانة فيه علي الوجه الأكمل.

ومن هنا فقد استدل عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) بوجهين:

الأول: فحوي ما تضمن النهي عن هدايا الولاة والعمال، كخبر الأصبغ المتقدم، وخبر جابر عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: "هدية الأمراء غلول"(2). ومثله مرسل المبسوط(3) وفي مرسله الآخر:" هدية العمال سحت"(4). وما روي مرسلاً فيه ومسنداً من طرق العامة من خطبة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) باستنكار ذلك والوعيد عليه(5) ، ونحوها. فإنه حيث ل

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 7 ص: 235. ورواه بتغيير في وسائل الشيعة ج: 12 باب: 37 من أبواب أحكام العقود حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 8 من أبواب آداب القاضي حديث: 6.

(3) المبسوط ج: 8 ص: 151.

(4) المبسوط ج: 8 ص: 151.

(5) المبسوط ج: 8 ص: 151. والتاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول (صلي الله عليه وآله وسلّم) ج: 3 ص: 54.

ص: 292

إشكال في جواز الهدية للعامل في الجملة فالمناسبات الارتكازية تقضي بحملها علي الهدية التي يراد منها حمل العامل علي التصرف لصالح المهدي، وذلك يقتضي النهي عن الرشوة المبتنية علي ذلك بالأولية العرفية.

وقد استشكل فيه بعض مشايخنا (قدس سره) بضعف سند النصوص المذكورة. وهو في محله لولا تأيدها بما في نهج البلاغة(1) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) من شدة إنكار أمير المؤمنين (عليه السلام) علي من أهدي له، وموافقتها للاعتبار، لما هو المعلوم من تعرض العمال لذلك، ومن البعيد رضا الشارع الأقدس به مع ما يؤدي إليه بالآخرة من فساد إداري مريع، إذ من البعيد جداً اكتفاء الشارع الأقدس بتحريم انحراف الوالي والعامل من دون أن يسد الطريق لذلك بتحريم الهدايا المذكورة. وإن كان في بلوغها بذلك حداً تنهض معه بالاستدلال إشكال.

الثاني: أنه من أكل المال بالباطل. وقد يستشكل فيه بأنه لا مجال لذلك مع حلية العمل الذي يرشي عليه في نفسه، وصلوحه لأن يقابل بالمال. وفيه: أن انطباق عنوان الرشوة عليه كاف في صدق أكل المال بالباطل عليه عرفاً، لأن الرشوة من المستنكرات العرفية، بل بعد فرض كون إنجاز العمل مقتضي الوظيفة يكون واجباً، فيكون أخذ المال عليه أكلاً للمال بالباطل، كما تقدم في المسألة الثامنة والعشرين.

إلا أن يبني علي عدم نفوذ التوظيف، فيخرج المال عن كونه رشوة حينئذٍ. ومن هنا يحسن توضيح الكلام في ذلك فنقول: الوالي والعامل وأعوانهما تارة: يكونون في جهاز حكم نافذ التعيين والتوظيف بالأصل أو بالإمضاء الشرعي. وأخري: يكونون في جهاز غير نافذ التعيين والتوظيف.

ففي الصورة الأولي لا إشكال في حرمة الرشوة، سواءً كانت من أجل التسامح في أداء الوظيفة والخروج عن مقتضاها، أم من أجل الحفاظ علي أداء الوظيفة، تجنباً لظلم الولي والعامل.

********

(1) نهج البلاغة ص: 426 طبعة ثانية دار الأندلس، وأمالي الصدوق طبعة النجف الأشرف ص: 557.

ص: 293

أما في الأول فلتحريم العمل الذي يقابل بالرشوة، فيكون أكل المال في مقابله أكلاً له في مقابل الحرام.

وأما في الثاني فلوجوب العمل المقابل بالرشوة علي العامل والموظف بنحو يجب عليه قيامه به بنفسه بعد فرض شرعية التوظيف، وقد سبق عدم جواز أخذ الأجرة مع ذلك، وأنه من أكل المال بالباطل. بل إذا كان العامل والموظف معيناً بأجر من قبل الهيئة الحاكمة يكون عمله مملوكاً عليه للجهة التي تمثلها تلك الهيئة، فلا يمكن أن يملك ثانياً للراشي، ويكون أخذ المال حينئذٍ بلا حق قطعاً.

ويتأكد ذلك بلحاظ اشتراط الهيئة الحاكمة صريحاً أو ضمناً عدم الرشوة، حيث يوجب ذلك كون أخذ الرشوة منافياً لحق صاحب الشرط في شرطه المفروض نفوذه.

نعم هذا الوجه إنما يقتضي حرمة الرشوة وضعاً، بمعني ترتب الأثر عليها، وعدم ملكية الآخذ لها، ولا يقتضي حرمتها تكليفاً علي الدافع والآخذ مع قطع النظر عن ذلك.

غاية الأمر أنه يحرم دفعها من أجل حمل العامل علي الحيف والظلم في أداء وظيفته، لما فيه من التشجيع علي الحرام والحمل عليه. وقد يحمل عليه ما سبق في ذيل معتبر حكيم بن حكم الصيرفي. بخلاف دفعها من أجل حمله علي أداء الوظيفة تجنباً لظلمه، حيث لا موجب لحرمته.

نعم إذا فرض اشتراط عدمها عليه - ضمناً أو صريحاً - يكون دفعها له حملاً له علي مخالفة الشرط التي هي حرام أيضاً. إلا أن تسقط حرمتها بقاعدة نفي الضرر. كما فيما إذا انحصر دفع الظلم بذلك. وربما يحمل عليه ما سبق في معتبر حكيم بن حكم الصيرفي.

ومنه يظهر الحال في الرشوة في حق كل موظف تشرع وظيفته وتنفذ وإن كانت وظيفته غير حكومية، كالموظفين في الشركات الأهلية، وعند الأفراد من حجاب

ص: 294

وكتاب وغيرهم ممن تجري أمور موظِّفيهم علي أيديهم، حيث يمكن تعلق مصالح الآخرين بهم، بنحو يبذلون المال من أجل جريهم علي مقتضي وظيفتهم بأمانة، أو التفافهم عليها وانحرافهم عن مقتضاها.

فإنه مع فرض احترام الجهة التي يتوظفون فيها يجري علي رشوتهم ما سبق. أما مع عدم احترامها وجواز الخروج عليها فيلحقها حكم الصورة الثانية.

أما في الصورة الثانية فحيث لا يكون الاستعمال والتوظيف ملزماً له شرعاً بالعمل علي ما يقتضيه، بل قد لا يكون مسوغاً له بالعمل علي ذلك، لعدم مشروعيته أو لكونه ظلماً، فلا يكون دفع المال له فيما يتعلق بعمله رشوة - بالمعني المتقدم - شرعاً، وإن صدق عليه الرشوة عرفاً، غفلة عن عدم شرعية الاستعمال والتوظيف.

ومن ثم لا يشمله دليل حرمة الرشوة لو فرض ثبوت حرمتها في غير القضاء، إذ لا اعتبار بالصدق العرفي إذا ابتني علي الغفلة والخطأ علي خلاف المعيار الشرعي. بل لابد من النظر في حكمه بلحاظ القواعد العامة، نظير ما سبق منا في الصورة الأولي بناءً علي عدم ثبوت عموم حرمة الرشوة لغير القضاء.

وحينئذٍ فمن الظاهر حرمة ما يدفع له من المال بنحو يعدّ رشوة عرفاً في مقابل عمل محرم عليه، سواءً كان محرماً تعبدياً، كالترخيص في بيع الخمر، أم تعدياً علي الناس وانتهاكاً لحرمتهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وسواءً كان بالمحافظة علي مقتضي وظيفته وحرفية تطبيقها، أم بالخروج عن مقتضاها والالتفاف عليه.

وكذا إذا كان في مقابل امتناعه من فعل محرم عليه، كما لو أراد أن يرخص في بيع الخمر، فدفع له المال ليمتنع من ذلك، أو أراد ظلم شخص بمثل القبض عليه وسجنه أو ضربه أو تغريمه، فاستدفع شره بدفع شيء من المال له، لرجوع ذلك إلي كون المال مدفوعاً له في مقابل أمر واجب عليه، وهو ترك ذلك المحرم، بحيث يتعين عليه القيام به بنفسه، وقد تقدم حرمة أخذ المال في مقابل ذلك، وأنه من أكل المال بالباطل.

نعم ذلك إنما يقتضي حرمة الرشوة وضعاً، بمعني عدم استحقاقها، وحرمة

ص: 295

أخذها تكليفاً تبعاً لذلك. كما لا إشكال في حرمة دفعها تكليفاً في الصورة الأولي، لحرمة الحمل علي الحرام والتشجيع عليه. بخلاف دفعها في الصورة الثانية، حيث لا وجه لحرمته، بل يتعين رجحانه، لظهور رجحان منع الحرام ودفع الفساد.

بقي الكلام في موردين:

الأول: أخذ الرشوة لعمل يرفع به ظلم لا دخل له في حصوله، كأخذ الموظف الرشوة لإنجاز معاملة تسريح المواطن من التجنيد أو الترخيص في السفر أو في الاستيراد أو نحوهما، فإن التجنيد والمنع من السفر والاستيراد ظلم لا دخل للموظف المذكور به، وإنجاز المعاملات المذكورة سبب في رفع الظلم المذكور. وقد يدعي جواز ذلك وحلّ الرشوة له، لعدم وجوب رفع الظلم عليه، فلا مانع من أخذه الجعل عليه، كما يجوز أخذه لغير الموظف ممن يسعي لإقناع الموظفين وتسهيل إنجاز هذه المعاملات.

لكنه إنما يتجه إذا كان إنجاز أمثال هذه المعاملات بوجه غير قانوني وخارجاً عن مقتضي وظيفته. أما إذا كان إنجازها قانونياً فهو واجب عليه، لأن الظلم لما كان بسبب القانون فأمده تابع لما يقتضيه القانون، فمع فرض انتهاء الأمد قانوناً يكون تولي الشخص وظيفة إنجاز المعاملات المذكورة ثم امتناعه من إنجازها مستلزماً لاستناد بقاء الظلم له، فيجب عليه رفع الظلم بإنجاز المعاملات، ويحرم عليه أخذ المال بإزاء ذلك، لحرمة أخذ المال في مقابل ما يجب عليه، وهو رفع الظلم في المقام. وكذا الحال في غير الظلم من المحرمات التي يستند حدوثها للقانون وينتهي أمدها قانوناً، ويتوقف رفعها علي إنجاز الموظف معاملة رفعها.

الثاني: أخذ الرشوة في مقابل عمل يترتب عليه نفع أو خير غير واجب علي الموظف مع قطع النظر عن الوظيفة، كالتطبيب والتعليم وفتح الطرق وعمران المساجد والمستشفيات ومساعدة الفقراء ونحو ذلك من المصالح العامة أو الخاصة. ومقتضي القاعدة جواز الرشوة في ذلك، إذ بعد فرض عدم وجوب ذلك في نفسه علي

ص: 296

الموظف، وعدم كون التوظيف ملزماً له بمقتضاه، لا منشأ لتحريم أخذ المال في مقابل العمل المذكور بعد احترامه في نفسه.

بل ينبغي البناء علي جواز أخذ الرشوة من أجل منع إنجاز هذه المنافع، كما لو أرادت الدولة مثلاً إنشاء مرفق عام لم تبلغ الحاجة إليه حداً يقتضي وجوبه كفائياً، فسعي بعض ذوي المصالح الخاصة لمنعه ودفع الرشوة للموظف من أجل عرقلة إنجازه، إذ بعد فرض عدم وجوبه لا يكون منعه محرماً، ليحرم المال المدفوع في مقابل ذلك.

نعم سبق أنه يحرم التوظيف ومعاونة الظالم - في فرض عدم الإكراه - إلا إذا كان الغرض منه نفع المؤمنين، وذلك إنما يكون في المقام بالعمل بمقتضي الوظيفة علي الوجه الأكمل، والتقاعس عن ذلك راجع إلي الامتناع من نفع المؤمنين.

لكن ذلك إنما يقتضي وجوب العمل بمقتضي الوظيفة عقلاً منعاً لتحريم التوظيف والتعاون، من دون أن يكون واجباً شرعاً، ليمتنع أخذ المال عليه أو علي تركه. فتأمل جيداً.

وأظهر من ذلك ما إذا كان مكرهاً علي التوظيف، حيث لا منشأ لتوهم وجوب القيام بمقتضي الوظيفة عليه حينئذٍ حتي في المورد الأول، وهو ما إذا كان القيام بمقتضي الوظيفة موجباً لإنهاء الظلم الواقع من قبل غيره.

هذا كله إذا ابتنت الرشوة علي مقابلة المال بالعمل بحيث يكون عوضاً عنه، حيث يدخل في أخذ الأجرة علي الواجب أو الحرام أو المباح، فيجري فيه ما سبق. أما إذا كانت بنحو الهبة المشروطة، أو كان العمل داعياً محضاً - بناءً علي صدق الرشوة حينئذٍ - فالمتعين ملكية المال في جميع الصور المتقدمة، عملاً بالقواعد بعد عدم ثبوت عموم النهي عن الرشوة، واختصاصه بالقضاء. إلا أن يتمّ ما سبق من احتمال استفادة العموم لغير القضاء مما ورد في هدايا العمال. فلاحظ.

هذا ما تيسر لنا ذكره في المقام، ولابد من مزيد التأمل والتدبر. والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

ص: 297

بالحق أو الباطل (1). وأما الرشوة علي استنقاذ الحق فجائزة (2).

---------------

(1) كما يظهر مما ذكرناه في وجه حرمة الرشوة بحسب القاعدة. كما أنه مقتضي إطلاق النصوص، لصدق الرشوة عرفاً في الصورتين معاً. بل الظاهر عمومها لغة لهما، كما هو مقتضي تعريفهم لها بأنها الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة أو ما يعطيها الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله علي ما يريد ونحو ذلك.

ويناسبه الاستعمالات المتقدمة في النصوص، وما صرحوا به من أنها مأخوذة من الرشا وهو الجعل الذي يجعل في الدلو لأخذ الماء من البئر أو من رشي الفرخ إذا مد عنقه لأمه لتزقه. ولا ينافيه ما في مجمع البحرين من أنه قل ما تستعمل إلا فيما يتوصل به إلي إبطال حق أو تمشية باطل، فإن قلة الاستعمال فيه لا تنافي العموم.

نعم عن النهاية لابن الأثير: "الرشوة الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، فالراشي الذي يعطي ما يعينه. فأما ما يعطي توصلاً إلي أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه" .وفي المنجد وعن أقرب الموارد أنها ما يعطي لإبطال حق أو إحقاق باطل.

لكن لا مجال للخروج بها عن ما سبق. ولا يبعد كون نظر ابن الأثير إلي قصور حكمها - وهو الحرمة - عن الصورة المذكورة، واختلاط الأمر علي من بعده. أو إلي أن أصل الحاجة إليها إنما كان لإبطال الحق أو إحقاق الباطل، لاستغناء صاحب الحق عنها بحقه، وإنما احتاج إليها بعد أن شاعت الاستعانة بها لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فاضطر إليها. وكيف كان فيكفي في المقام عموم معناها عرفاً معتضداً بالقاعدة. هذا في القضاء، وأما في غيره فقد سبق الكلام في الصورتين معاً.

(2) قال في الجواهر: "لو توقف تحصيل الحق علي بذله لقضاة حكام الجور جاز للراشي وحرم علي المرتشي، كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً، لقصور أدلة الحرمة عن تناول الفرض... ضرورة أن للإنسان التوصل إلي حقه بذلك ونحوه مما هو محرم عليه في الاختيار. بل ذلك كالإكراه علي الرشا الذي لا بأس به علي الراشي معه عقلاً ونقلاً".

ص: 298

وظاهره - كسيدنا المصنف (قدس سره) - حرمة الرشوة علي الراشي. ومن الظاهر أن النصوص المتقدمة منصرفة للمرتشي، لأنه الذي تكون الرشوة في حقه سحتاً. وأما ما تضمن أنها الكفر بالله تعالي فمقتضي سياقه أنها من أشد السحت، وليس هو حكماً مستقلاً، ليتوهم عمومه للراشي أو اختصاصه به.

نعم يشهد للحرمة في حق الراشي النبوي المتقدم - المتضمن لعن الراشي والمرتشي والماشي بينهما - لو تم سنده. بل هو مقتضي القاعدة، لأن حرمة الأخذ تقتضي حرمة الإعطاء، لما فيه من السعي للحرام والمشاركة فيه، حيث لا يتحقق الأخذ إلا بالإعطاء.

وحينئذٍ يتعين الاقتصار في الجواز في حق الراشي علي صورة انحصار حفظ الحق ورفع الظلم بها، كما هو ظاهر الجواهر، عملاً بقاعدة نفي الضرر والحرج ونحوهما.

اللهم إلا أن يقال: الإعطاء مباين للأخذ مفهوماً وخارجاً، فالمعطي لا يشارك الآخذ في الحرام، غاية الأمر أن يكون معيناً له، وقد سبق في المسألة الثامنة المنع من عموم حرمة الإعانة علي الحرام. بل لا يمكن البناء علي ذلك في أمثال المقام من موارد تحمل ظلم الغير، لما هو المعلوم من السيرة الارتكازية من جواز دفع المال لمن يطلبه ظلماً وإن أمكن التخلص منه ببعض الوسائل غير الحرجية. بل ورد استحباب اختيار الغرم في الدعوي علي اليمين صادقاً(1). ومن هنا لا يبعد انصراف النبوي المتقدم للرشوة من أجل الجور، فإن ذلك أنسب بالمرتكزات المذكورة. وإن كان الأمر قد يسهل فيه بلحاظ ما سبق من عدم الإطلاق فيه.

وكيف كان فالظاهر جواز الرشوة للراشي من أجل استنقاذ حقه وإن لم ينحصر استنقاذ الحق بذلك، كما هو مقتضي إطلاق سيدنا المصنف (قدس سره). عملاً بإطلاق معتبر حكيم بن حكم الصيرفي المتقدم.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 2، 3 من أبواب كتاب اليمين.

ص: 299

وإن حرم علي الظالم أخذها (1).

---------------

نعم قد تحرم لعنوان ثانوي، كالتشجيع علي الحرام، أو فيما إذا كان الامتناع منها سداً لباب الفساد، أو نهياً عن المنكر أو نحو ذلك مما لا ينافي جوازها ذاتاً. فلاحظ.

(1) لإطلاق أدلتها أو عمومها.

بقي في المقام شيء، وهو أن من الظاهر صدق الرشوة لغة علي المعاملة المحاباتية مع الحاكم من أجل حمله علي الحكم لصالح موقعها، كما لو باعه ما قيمته عشرة بخمسة. بل تصدق علي المعاملة غير المحاباتية لو تعلق بها غرض الحاكم، كما لو كان يرغب في شراء شيء من الشخص وهو يأبي بيعه له حتي إذا احتاج إلي حكمه لصالحه باعه منه ليحمله عليه. كما تصدق علي غير البيع، كالإجارة والعارية وغيرهما لو تعلق بها غرض الحاكم.

كل ذلك لتوصل الخصم به للحكم لصالحه، الذي هو المعيار في صدق الرشوة لغة. بل لا يبعد صدق الرشوة عليها عرفاً، لعدم العناية في إطلاق الرشوة منهم علي جميع ذلك ارتكازاً.

نعم الظاهر اختصاص النصوص المتقدمة بالمال، لمناسبته لما تضمنته من إطلاق السحت عليها، لأن السحت هو المال الحرام، لا كل حرام. كما أن القاعدة المتقدمة تقصر عنه، لأنها إنما تقتضي عدم مقابلة المال بالواجب أو الحرام، بل يكون أخذه في مقابلهما أكلاً له بالباطل، ولا تقتضي بطلان المعاملة التي يكون الغرض منها الواجب أو الحرام أو المشروط فيها أحدهما.

ومن ثم لا مجال للتعدي لغير المال - كالمعاملات المتقدمة - في الحرمة الوضعية الراجعة لعدم تملك الرشوة حتي لو تم صدق الرشوة عليه عرفاً فضلاً عما لو لم تصدق عليه.

وما في الجواهر من أن المتجه بطلان المعاملات المذكورة إذا صدق عليها رشوة،

ص: 300

(مسألة 33): يحرم حفظ كتب الضلال (1)

---------------

لإطلاق النهي عنها. في غير محله بعد ما ذكرنا من قصور النصوص عنها.

وأشكل منه ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من قوة بطلان المعاملات المذكورة وإن لم يصدق عليها أنها رشوة، لأنها ملحقة بالرشوة حكماً.

إذ فيه: إنه لا وجه لإلحاقها بالرشوة حكماً بعد خروجها عنها موضوعاً.

ولاسيما بعد ثبوت الفرق فيما يشبه ذلك، حيث تبطل الإجارة علي الحرام، ولا تبطل المعاملة المشروط فيها الحرام، بل يبطل الشرط لا غير، فلا يجب الوفاء به من دون أن يستلزم بطلان المعاملة.

نعم يقرب جداً إلغاء خصوصية المال في الحرمة التكليفية، لأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن ملاكها تنزيه منصب القضاء حفاظاً علي أمانة الحاكم وحياديته وسداً لباب الانحراف في القضاء، وذلك يناسب عموم الحرمة لكل انتفاع وإن لم يكن مالاً.

والتفكيك في العموم والخصوص بين الحرمتين غير عزيز، فإن إيقاع المعاملة المشترط فيها الحرام حرام تكليفاً، لما فيه من التشجيع علي الحرام والحمل عليه، المنافيين لوجوب النهي عن المنكر، من دون أن يقتضي حرمتها وبطلانها، كما سبق.

ولعل التباس ذلك علي صاحب الجواهر وشيخنا الأعظم (قدس سرهما) هو الذي أوجب حكمهما بعموم الحرمة الوضعية تبعاً للحرمة التكليفية.

نعم إذا صدق الإكراه في المقام تعين بطلان المعاملة، كما إذا هدده بالحكم جوراً عليه إذا لم يوقع المعاملة، فأوقعها. ولا يكفي فيه مجرد الامتناع عن الحكم بالحق إذا لم يوقعها، فضلاً عن الامتناع عن الحكم بالباطل له. فإنه لا يصدق الإكراه بذلك.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة من الأصحاب، ونفي في التذكرة ومحكي المنتهي الخلاف فيه. ويظهر من كلامهم حرمته في نفسه مع قطع النظر عن ترتب الفساد

ص: 301

عليه، حيث لم يستثنوا من ذلك إلا حفظها للنقض أو الحجة علي أهلها الذي هو من سنخ المانع من الحرمة.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع المشار إليه. لكنه - لو تم - إنما يقتضي حرمة الحفظ في الجملة ولو من جهة ترتب الفساد والضلال عليه، ولا ينهض بإثبات الحرمة مطلقاً ولو بدون ذلك، بعد كونه دليلاً لبياً.

ومجرد إطلاق الحكم في كلام كثير منهم لا يكفي فيه بعد عدم النص في المسألة، ليكون ظاهرهم الإشارة إلي مضمونه وإطلاقهم تبعاً لإطلاقه، وبعد قرب ابتناء الحكم في كلامهم علي ارتكاز حرمة مقدمة الحرام وترويجه وتشييد أركانه، ونحو ذلك مما يختص بصورة ترتب الفساد عليه.

ولاسيما وأن البناء علي هذا الإطلاق صعب جداً بل قد لا يناسب سيرة العلماء بعد ما هو المعلوم من شيوع الابتلاء بالكتب المشتملة علي الضلال ولو بلحاظ اشتمال بعضها عليه. وقيام سيرة العلماء علي اقتنائها للانتفاع بها والرجوع إليها في موضوعاتها المختلفة من دون تهيؤ للنقض أو الاحتجاج.

وأما الالتزام باختصاص موضوع الحرمة بما تمحض في الضلال، كما حكاه في الجواهر عن بعض مشايخه. فهو لا يناسب عموم الحكم ارتكازاً لغيره، ولا ذكرهم في كتب الضلال التوراة والإنجيل الرائجين، لعدم ثبوت تمحضهما في الضلال.

ومثله ما حكاه عن شرح الإرشاد من اختصاص موضوع الحرمة بما سيق للاستدلال علي الضلال، دون ما تضمنه من دون استدلال. لعين ما تقدم.

كما أن البناء علي وجوب إتلاف خصوص موضوع الضلال من الكتاب إذا كان مشتملاً علي غيره - كما في جامع المقاصد والمسالك - مخالف للمعلوم من سيرتهم. ومن ثم يشكل الجمود علي إطلاق معقد الإجماع، ويتعين الاقتصار فيه علي المتيقن، كما سبق.

ص: 302

الثاني: ما ذكره في الجواهر، قال: "بل الظاهر أن حرمة الحفظ لوجوب إتلافها باعتبار دخولها تحت الوضع للحرام، وتحت ما من شأنه ترتب الفساد عليه، بل هي أولي حينئذٍ بالحرمة من هياكل العبادة المبتدعة".

ويشكل بأنه لم يتضح كفاية ذلك في البناء علي تحريم الإبقاء والحفظ ووجوب الإتلاف، لعدم الدليل علي ذلك، كما يظهر مما تقدم في المسألة التاسعة.

وأما ما ذكره من أنها أولي بالحرمة من هياكل العبادة المبتدعة كالأصنام والصلبان. فكأنه لأن هياكل العبادة يتحقق بها الباطل من دون أن تدعو له، وكتب الضلال تدعو للباطل وتحث عليه.

لكنه يشكل أولاً: بأنه يختص بما تضمن من الكتب الاستدلال علي الباطل وتقويته، مع أنه صرح بأن موضوع الكلام أعم من ذلك.

وثانياً: بأنه لم يثبت وجوب إتلاف هياكل العبادة إذا لم يترتب عليها الفساد، كما يظهر مما سبق في المسألة التاسعة.

وثالثاً: بأنه إذا ثبت وجوب إتلاف هياكل العبادة المبتدعة تعبداً وإن لم يترتب عليها الفساد فلا مجال للتعدي لكتب الضلال بمقتضي الأولوية، لابتناء الأولوية المدعاة علي كون منشأ وجوب الإتلاف الحذر من ترتب الباطل، الذي هو عبارة أخري عما ذكرنا من ترتب الفساد، فمع فرض عموم الوجوب لصورة عدم ترتبه لا طريق لمعرفة وجه الحكم، ليمكن التعدي عن مورده بالأولوية المذكورة.

الثالث: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من حكم العقل بوجوب قطع مادة الفساد. لكنه في غاية المنع. ولذا ليس بناؤهم علي ذلك فيما لا يختص بالفساد بل يشترك بينه وبين الصلاح، مع أن ترتب الصلاح علي الشيء لا يمنع من صدق قطع مادة الفساد بإتلافه. علي أن الملازمة بين حكم العقل والشرع ممنوعة، كما ذكرناه في الأصول.

ومن ثم كان الظاهر أن وجوب النهي عن المنكر حكم شرعي تعبدي يرجع

ص: 303

مع احتمال ترتب الضلال (1) لنفسه أو لغيره. فلو أمن من ذلك، أو كانت

---------------

في عمومه وخصوصه وإطلاقه وتقييده لأدلته الشرعية، وليس مستفاداً من حكم العقل. ولذا لا إشكال في ارتفاعه بمثل الحرج من روافع التكليف الشرعية. ولا مجال لذلك في المستقلات العقلية بناءً علي الملازمة، لعدم ارتفاع حكم العقل إلا بالعجز المانع من التكليف.

الرابع: ما ذكره (قدس سره) أيضاً من الذم المستفاد من قوله تعالي: (وَمِن النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ)(1) ، وبقوله تعالي: (وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ)(2). وكأنه لحمل الآية الأولي علي النهي عن اكتساب ما يوجب الضلال، والثانية علي إطلاق اجتناب قول الزور بنحو يمنع حتي من اكتسابه وحفظ ما يتضمنه.

وفيه: أن ظاهر الآية الأولي ذم فعل ما يوجب الإضلال فعلاً. وظاهر اجتناب قول الزور في الآية الثانية هو تركه بنفسه، ولا يشمل حفظ الكتاب الذي يتضمنه. ولاسيما بملاحظة تفسير الآيتين الشريفتين بالغناء في النصوص(3) ، فالآيتان أجنبيتان عما نحن فيه، لورودهما لبيان حرمة ممارسة الأمرين بنفسهما، والمدعي في المقام حرمة حفظ الكتب بلحاظ اشتمالها علي الضلال من دون نظر إلي الوقوع فيه.

ومن ثم كان الظاهر اختصاص حرمة حفظ كتب الضلال، بما إذا احتمل ترتب الفساد عليها، كما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره)، ويأتي الكلام في وجهه إن شاء الله تعالي.

(1) وقد استدل علي ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بمعتبر عبد الملك بن أعين: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إني قد ابتليت بهذا العلم، فأريد الحاجة، فإذا نظرت إلي الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت

********

(1) سورة لقمان آية: 6.

(2) سورة الحج آية: 30.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 304

هناك مصلحة أهم، جاز (1). وكذا يحرم بيعها (2)،

---------------

في الحاجة. فقال لي: تقضي ؟ قلت: نعم. قال: احرق كتبك"(1). قال (قدس سره): "بناء أن الأمر للوجوب، دون الإرشاد للخلاص من الابتلاء بالحكم بالنجوم. ومقتضي ترك الاستفصال في هذه الرواية أنه إذا لم يترتب علي إبقاء كتب الضلال مفسدة لم يحرم".

وفيه: أولاً: أنه تقدم عند الكلام في حرمة التنجيم أن الحديث محمول علي الإرشاد لتجنب النظر في الكتب المذكورة في فرض ثبوت ترتب المحذور - وهو الحكم بالنجوم - عند النظر فيها. والظاهر اكتفاؤهم في المقام باحتمال ترتب الضلال.

وثانياً: أن الحديث أجنبي عن محل الكلام، لعدم وضوح كون الكتب المذكورة كتب ضلال. ومجرد بطلان علم النجوم لا يقتضي ذلك. اللهم إلا أن يتعدي من مورده لما نحن فيه بفهم عدم الخصوصية، بل بالأولوية العرفية. ومن ثم كان المتعين في الجواب هو الأول. فالأولي الاستدلال علي المدعي بأنه مقتضي القاعدة. أما مع خوف الضلال علي نفسه فلأن أهمية محذور الضلال تقضي بوجوب الأمن منه. وأما مع خوفه علي الغير فلأن محذور ضلال الناس من الأهمية بحيث يعلم باهتمام الشارع الأقدس بمنعه وسدّ بابه، وذلك بمنع الكتاب من أن يطلع عليه أو بإتلافه أو نحو ذلك. فتأمل.

(1) أما مع خوف الضلال علي نفسه فالظاهر عدم وجود مصلحة أهم. نعم يمكن ذلك مع خوف الضلال علي الغير، لإمكان أن يترتب علي حفظ الكتاب نقضه، ويترتب علي النقض تحصين جماعة من ضرره أكثر ممن يحتمل ضلالهم به بسبب حفظه. ولو أمكن الجمع بين النقض والفرار عن محذور ضلال الغير به بعدم تمكين من يخشي ضلاله من الإطلاع عليه كان متعيناً.

(2) لعين ما سبق. بل إذا انحصر أثر الكتاب في ضلال الناس به تعين بطلان بيعه، لكونه من أكل المال بالباطل، نظير ما تنحصر فائدته في الحرام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 14 من أبواب آداب السفر إلي الحج وغيره حديث: 1.

ص: 305

ونشرها (1). ومنها الكتب الرائجة من التوراة والإنجيل وغيرها. هذا مع احتمال التضليل بها (2).

(مسألة 34): يحرم تزيين الرجل بالذهب (3) وإن لم يلبسه.

---------------

(1) لعين ما سبق. وكذا يحرم البيع والنشر لو كان في ذلك ترويج للباطل وتقوية ودعاية له وإن لم يترتب عليهما الإضلال. ومنه يظهر الحال في طبع الكتب المذكورة.

(2) وكذا مع احتمال ترويج الكفر أو الضلال وتقويتهما وحصول الدعاية لهما بسبب ذلك.

(3) قال في الشرايع في كتاب الشهادات: "يحرم التختم بالذهب والتحلي به للرجال" ،وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه" .ويظهر منهما أن موضوع كلامهما مطلق التزين ولو بغير اللباس، بناءً علي أن الحلي مطلق ما يتزين به ولو بغير اللباس، كما يناسبه إضافته لما لا يلبس كالسيف، حيث لا يراد بتحليته إلا تزينه.

وكيف كان فلا إشكال في أن التزيين الذي ذكره سيدنا لمصنف (قدس سره) أعم من اللبس من وجه، فيجتمعان في الملبوس الذي هو زينة، كالخاتم والسوار والرداء. وينفرد التزيين عن اللباس في مثل أزرار الثوب، والأوسمة المحمولة، ونحوها. كما ينفرد اللبس عن التزين فيما إذا كان الملبوس مستوراً، كلبس السوار مع طول أكمام الثوب، ولبس الخاتم تحت القفازين.

ولا إشكال في حرمة التزين بلبس الذهب، وهو المتيقن من كلام الأصحاب، والإجماع المتقدم من الجواهر، والنصوص. كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الرجل هل يصلح أن يتختم بالذهب ؟ قال: لا"(1) ، وموثق عمار عن أبي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 10.

ص: 306

عبدالله (عليه السلام) في حديث قال:" لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلي فيه، لأنه من لباس أهل الجنة"(1) ، وموثق روح بن عبد الرحيم عنه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتختم بالذهب، فإنه زينتك في الآخرة"(2) ، وموثق حنان بن سدير عنه (عليه السلام):" سمعته يقول: قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): إياك أن تتختم بالذهب، فإنه حليتك في الجنة، وإياك أن تلبس القسي"(3) ، وغيرها.

ودعوي: أن النصوص المذكورة وإن كانت ظاهرة في الحرمة، إلا أنه لابد من رفع اليد عن ظهورها المذكور بصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): "قال: قال علي (عليه السلام): نهاني رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) - ولا أقول نهاكم - عن التختم بالذهب وعن ثياب القسي"(4). لظهور اختصاص النهي بأمير المؤمنين (عليه السلام) في كونه تنزيهياً، ولا يناسب كونه تحريمياً.

مدفوعة: أولاً: بأن اختصاص النهي بأمير المؤمنين (عليه السلام) لا يستلزم كونه تنزيهاً، إذ كما يمكن اختصاص النهي التنزيهي به (عليه السلام) يمكن اختصاص النهي التحريمي به.

وثانياً: بأن الصحيح لم يتضمن اختصاص النهي به، بل مجرد إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) بنهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) له وعدم إخباره (عليه السلام) بنهيه (صلي الله عليه وآله وسلّم) لهم، وهو لا ينافي عموم النهي لهم في الواقع، كما هو صريح بعض النصوص الأول، وظاهر بعضها، وهو ما تضمن نهي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن ذكر الإمام (عليه السلام) النهي له (عليه السلام) من دون تنبيه لاختصاصه به ظاهر في عمومه لغيره، وأن الغرض من بيانه الحث علي العمل بمقتضاه، لا مجرد نقل حدث تاريخي.

ومن ثم لابد من البناء علي عموم النهي، وكونه تحريمياً، عملاً بظاهره، كما هو المتسالم عليه عندنا، بل ادعي اتفاق المسلمين عليه.

وإنما الإشكال في عموم الحرمة للصورتين الأخريين، وهما التزين بالذهب من دون لبس، ولبسه من دون تزين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب لباس المصلي حديث: 4، 1، 11، 7.

ص: 307

ومقتضي إطلاق حرمة اللبس في كلام بعضهم حرمة الثانية، وهو مقتضي إطلاق معقد الإجماع المدعي من الجواهر في مبحث لباس المصلي، حيث قال:" لا يجوز لبس الذهب للرجل إجماعاً ".كما أن مقتضي إطلاق حرمة التحلي المتقدم من الشرايع حرمة الأولي، وهو مقتضي إطلاق معقد الإجماع المتقدم من الجواهر. وصريح سيدنا المصنف (قدس سره) حرمتهما معاً.

وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في حرمة الأولي، وهي التزين من دون لبس، لدعوي اختصاص النصوص باللبس.

لكن تعليل النهي عن التختم بالذهب في موثقي روح وحنان بأنه زينة أهل الجنة راجع إلي التنافي في حق الرجل بين كون الذهب زينة له في الدنيا وكونه زينة له في الآخرة، وذلك راجع إلي حرمة تزين الرجل به في الدنيا. ولاسيما وأن التختم غالباً يجمع بين اللبس والتزيين، فالتعدي منه بقرينة التعليل لكل زينة أولي من التعدي لكل ملبوس، بل هو المتعين، ومقتضي ذلك أن حرمة اللباس بلحاظ كونه زينة، فلا يحرم إذا لم يكن زينة، عكس ما ذكره (قدس سره).

نعم قد يقال: كما تضمنت النصوص المذكورة التعليل بأنه زينة في الآخرة، كذلك تضمن موثق عمار التعليل بأنه لباس أهل الجنة، ومقتضاه أن موضوع التنافي في حق الرجل بين الدنيا والآخرة هو اللباس لا مطلق الزينة، وبعد تنافي التعليلين يتعين تساقطهما والرجوع لموثق عمار المتضمن إطلاق النهي عن لبس الذهب.

لكن المناسبات الارتكازية قاضية بكون موضوع التنافي المذكور هو الزينة، وحمل اللباس في موثق عمار علي خصوص ما يكون زينة منه، تحكيماً للنصوص الأخر عليه، لأن خصوصية الذهب إنما يهتم بها عرفاً من أجل كونه زينة، ومن ثم يكون تنزيل اللباس في موثق عمار علي ما يكون زينة أقرب عرفاً من تنزيل الزينة في بقية النصوص علي خصوص الملبوس.

ودعوي: أنه لا تنافي بين التعليلين، بل يتعين العمل بكلتا الطائفتين والبناء

ص: 308

ولو تزين بلبسه تأكد التحريم (1).

(مسألة 35): يحرم الكذب (2)

---------------

علي حرمة كل من اللباس والزينة. وعليه يبتني إطلاق من سبق، وصريح كلام سيدنا المصنف (قدس سره).

مدفوعة: بأن تنزيل أحد التعليلين علي الآخر أقرب عرفاً من إبقاء كل منهما علي إطلاقه، لأن التعليل بالزينة قد ورد في الخاتم الذي هو ملبوس أيضاً، فالاقتصار في التعليل فيه علي الزينة ظاهر في أنها تمام العلة له، فينافي التعليل باللباس، ويتعين الجمع بينهما بما ذكرنا. فتأمل جيداً.

هذا وإذا حرم تزين الرجل بالذهب حرم تزيينه به، لأنه فعل لنفس الحرام في حقه، فهو نظير التعاون علي الإثم، وليس من الإعانة علي الإثم، ليتوجه ما سبق في المسألة الثامنة من المنع عن حرمتها.

نعم لو فرض عدم الإثم في حقه - لجهله بالموضوع أو بالحكم جهلاً يعذر فيه

فتحريم التزيين لا يخلو عن إشكال لأن التزين إذا لم يكن إثماً في حق المتزين لم يكن التعاون عليه تعاوناً علي الإثم في حق المتعاون.

اللهم إلا أن يقال: الجهل بكون الشيء محرماً لا يخرجه عن كونه إثماً. غايته أنه يكون عذراً رافعاً للعقاب في حق الجاهل دون المتعاون العالم. أو يقال: المستفاد مما تضمن عدم تزين الرجل بالذهب في الدنيا حرمة حصول ذلك له ولو بفعل غيره. فلاحظ.

(1) بناءً علي حرمة كل من التزين واللبس. لكن عرفت الإشكال في ذلك.

(2) بلا ريب ولا إشكال، وقال شيخنا الأعظم (قدس سره):" بضرورة العقول والأديان ".وكأن المراد بضرورة العقول حكم العقل بقبحه، حيث يقتضي حرمته شرعاً بناءً علي الملازمة.

ص: 309

ويظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) إنكار حكم العقل بقبحه في نفسه، وأنه إنما يقبح عقلاً من ترتب مفسدة عليه. لكنه كما تري، فإن حسن الصدق وقبح الكذب من الوجدانيات الضرورية.

نعم الظاهر عدم ملازمة الحكم المذكور للحرمة شرعاً، لإمكان مزاحمته بجهة تمنع من الحكم بحرمته، وإلي ذلك يرجع ما ذكرناه في الأصول وأشرنا إليه في المسألة السابقة من إنكار ملازمة حكم العقل لحكم الشرع.

فالعمدة في الدليل علي حرمته الأدلة التعبدية من الكتاب والسنة والإجماع. ولا إشكال في نهوضها بحرمته في الجملة. والمهم إقامة الدليل علي حرمته مطلقاً، ليرجع إليه في موارد الشك. والظاهر وفاء الكتاب والسنة بذلك.

أما الكتاب فقد يستدل منه بقوله تعالي: (وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ)(1) فإن جعل سبب العذاب الكذب دون تقييد له بكذب خاص في حرمة الكذب بنفسه مطلقاً مع قطع النظر عن خصوصية موضوعه.

وأظهر من ذلك قوله تعالي: (وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ)(2) فإن الزور وإن لم يختص بالكذب، كما سبق عند الكلام في حرمة الغناء، بل هو مطلق الميل، إلا أن الكذب من أظهر أفراد قول الزور. وأما تفسير قول الزور في النصوص الكثيرة(3) بالغناء فالظاهر أنه راجع إلي تطبيقه عليه وكونه من أفراده، من دون أن يختص به، لشيوع ذلك في النصوص الواردة في تفسير القرآن، ويحتاج التخصيص إلي عناية. ويؤكد ذلك في المقام صحيح حماد بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن قول الزور. قال: منه قول الرجل الذي يغني: أحسنت"(4).

********

(1) سورة البقرة آية: 10.

(2) سورة الحج آية: 30.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 99 من أبواب ما يكتسب به حديث: 21.

ص: 310

وهو الإخبار بما ليس بواقع (1).

---------------

وأما السنة فيقتضيه منها النصوص التي سبق في مباحث التقليد الاستدلال بها، لكونه من الكبائر، فقد عُدّ من الكبائر فيما كتبه الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمون من حديث شرايع الدين(1) ، وموثق محمد بن مسلم أو صحيحه عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: إن الله عز وجل جعل الشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب. والكذب شر من الشراب"(2). فإنه حيث كان الشراب من الكبائر، فيكون الكذب أشد منه يستلزم كونه من الكبائر وهناك نصوص أخر لتأييد الحكم وأن كان قد يشكل الاستدلال بها، لضعف سندها. وتمام الكلام هناك.

(1) كما هو المتبادر منه عرفاً، المناسب لما في لسان العرب من أنه ضد الصدق. وربما قيد بما إذا علم بمخالفة الخبر للواقع. بل ربما ادعي أنه الإخبار علي خلاف المعلوم للمخبر وإن صادف الواقع.

لكن لا يبعد انصراف الكذب لذلك بسب ارتكاز أن الكذب من الصفات الذميمة، والذم إنما يكون مع تعمد الإخبار بخلاف الواقع، ولا يكون مع الخطأ، مع كون المعني الحقيقي للكذب هو الإخبار بخلاف الواقع مطلقاً ولو مع الخطأ.

كما قد يناسب ذلك مثل قوله تعالي: (وَكَذَّبَ بِهِ قَومُكَ وَهُوَ الحَقُّ)(3) ، وقوله سبحانه: (فَقَد كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُم)(4). لظهورها في أن مجرد كون الشيء حقاً مستلزم لكون إنكاره تكذيباً من دون أن يتوقف علي أمر آخر، وهو اعتقاد أن مدعيه قد تعمد الكذب.

وكذا مثل قوله عز اسمه: (ذَلِكَ وَعدٌ غَيرُ مَكذُوبٍ)(5) وقوله عز وجل:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 46 من أبواب جهاد النفس حديث: 33.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 138 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3.

(3) سورة الأنعام آية: 66، 5.

(4) سورة الأنعام آية: 66، 5.

(5) سورة هود آية: 65.

ص: 311

ولا فرق في الحرمة بين ما يكون في مقام الجد وما يكون في مقام الهزل (1).

---------------

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا الله وَرَسُولَهُ) (1) لظهوره في أنه يكفي في كذب الوعد عدم تحقيق الأمر الموعود به وإن كان الواعد معتقداً تحققه حين الوعد به.

وكذلك ما تضمن تقييد الكذب بالعمد، مثل ما في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: "يا علي من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(2) ، وما في وصيته (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأبي ذر:" قلت: يا رسول الله فما توبة الرجل الذي يكذب متعمداً؟ قال: الاستغفار وصلوات الخمس تغسل ذلك"(3)... إلي غير ذلك. والأمر سهل.

وكيف كان فلا إشكال في حرمة الإخبار من غير علم وإن كان مضمون الخبر متحققاً في الواقع، بل هو من الضروريات، كما يقتضيه ما دل علي وجوب كون الأمر المشهود به معلوماً، كقوله تعالي: (أَشَهِدُوا خَلقَهُم سَتُكتَبُ شَهَادَتُهُم وَيُسأَلُونَ)(4) ، وموثق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنه من شاء كتب كتاباً ونقش خاتماً"(5) ، وغيرهما. وهو كما يمكن أن يبتني علي أخذ العلم في جواز الإخبار واقعاً يمكن أن يبتني في وجوب الاحتياط ظاهراً في الإخبار، وإن كان جوازه منوطاً واقعاً بصدق الخبر.

(1) لإطلاق الأدلة المتقدمة. وخصوص معتبر الأصبغ بن نباتة:" قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يجد عبد طعم الإيمان حتي يترك الكذب هزله وجده"(6) ، ومرسل سيف بن عميرة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ علي الكبير. أما علمتم أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: مايزال العبد يصدق حتي يكتبه

-

********

(1) سورة التوبة آية: 90.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 139 من أبواب أحكام العشرة حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(4) سورة الزخرف آية: 19.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 8 من أبواب الشهادات حديث: 4.

(6) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 1.

ص: 312

نعم إذا تكلم بصورة الخبر هزلاً بلا قصد الحكاية والإخبار فلا بأس به (1).

---------------

الله صديقاً، ومايزال العبد يكذب حتي يكتبه الله كذاباً"(1) ، وخبر الحارث عنه (عليه السلام):" قال: لا يصلح من الكذب جد ولا هزل، ولا يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له. إن الكذب يهدي إلي الفجور، والفجور يهدي إلي النار..."(2) ، وفي وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأبي ذر (رضي الله عنهم): "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم. ويل له ويل له ويل له. يا أبا ذر من صمت نجي، فعليك بالصمت، ولا تخرجن من فيك كذبة أبداً..."(3).

اللهم إلا أن يقال: معتبر الأصبغ لا يخلو عن قصور في الدلالة، فإن توقف وجدان طعم الإيمان علي ترك الكذب بجميع أفراده أعم من وجوبه، لأن وجدان طعم الإيمان أمر زائد علي الإيمان لا دليل علي وجوبه.

ومرسل سيف - مع ضعفه - ظاهر في الإرشاد إلي ترك الكذب مطلقاً من أجل حصول ملكة تجنب الكذب، لتنفع في تجنب الكذب في الكبير من دون نظر إلي حرمته شرعاً.

وكذلك خبر الحارث، فإن قوله:" لا يصلح "وإن كان ظاهراً بدواً في الحرمة، إلا أنه يشكل ذلك بلحاظ ذكر خلف الوعد للصغير، حيث لا يبعد من أجله حمله علي الإرشاد لتحصيل ملكة تجنب الكذب من أجل سدّ باب الفجور.

نعم ما في وصية أبي ذر لا قصور في دلالته، إلا أن ضعف سنده مانع من الاستدلال. فالعمدة في المقام ما ذكرناه أولاً من إطلاق الأدلة.

(1) لخروجه عن الكذب موضوعاً بعد فرض عدم قصد الإخبار فيه. لكن احتمل شيخنا الأعظم (قدس سره) الحرمة من جهة النصوص المتقدمة، لغلبة كون الكذب المضحك في مقام الهزل من هذا القسم، فيبعد حمل النصوص المذكورة علي خصوص القسم الأول، الذي هو الكذب الحقيقي.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1، 3، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 140 من أبواب أحكام العشرة حديث: 1، 3، 4.

ص: 313

ومثله التورية (1)، بأن يقصد من الكلام معني له واقع، ولكنه خلاف

---------------

وهو مبني علي المفروغية عن كون موضوع النصوص ما يتحقق به الهزل من نوعي الكذب، حيث تصلح الغلبة حينئذٍ للقرينة علي كون المراد بالكذب في تلك النصوص ما يعم الكذب الصوري. وهو غير ظاهر، بل ظاهر النصوص النهي عن الكذب الصادر في مقام الهزل، وحينئذٍ لا تنهض الغلبة المذكورة بالقرينية علي كون المراد بالكذب فيها ما يعم الكذب الصوري، بل لا مخرج عن ظهور الكلام في إرادة خصوص الكذب الحقيقي.

علي أنه سبق الإشكال في الاستدلال بالنصوص المذكورة علي حرمة الكذب الحقيقي، فكيف بالكذب الصوري. ومن ثم يتعين البناء علي الجواز في ذلك.

هذا ولا يفرق في الجواز بين قيام القرينة علي إرادة الهزل وعدمه، بحيث يفهم منه الجدّ من دون أن يكون مقصوداً. غاية الأمر أن يكون الثاني من سنخ التورية التي يأتي الكلام فيها.

(1) كما هو ظاهر غير واحد. لعدم صدق الكذب عليها بعد عدم قصد الإخبار معها بخلاف الواقع أو بما لا يعلم أنه الواقع.

ولكن عن المحقق القمي (قدس سره) أن المعتبر فيه اتصاف الخبر بالصدق والكذب هو ما يفهم من ظاهر الكلام، لا ما هو المراد منه، فلو قال: رأيت حماراً وأراد منه البليد من دون نصب قرينة فهو متصف بالكذب وإن لم يكن المراد مخالفاً للواقع.

وهو كما تري، مخالف لمعني الكذب لغة وعرفاً. نعم لا ريب في بناءً العرف علي كذب الخبر بمخالفة ظاهره للواقع. إلا أن ذلك ناشئ من بنائهم علي حجية الظهور في تعيين مراد المتكلم، فهو راجع إلي بنائهم علي تحقق الكذب بذلك ظاهراً، لا علي تحققه واقعاً، من أن الكذب ثبوتاً عندهم هو مخالفة ظاهر الكلام للواقع، كما ذكره (قدس سره).

ص: 314

الظاهر (1). كما أنه يجوز الكذب لدفع الضرر عن نفسه (2).

---------------

ومثله ما في مفتاح الكرامة والجواهر من دخول التورية والهزل من دون قرينة في الكذب حقيقة أو مشاركتهما له في الحكم.

لظهور المنع من الأول، كما سبق. ولعدم الدليل علي الثاني. بل يمكن الاستدلال علي بطلانهما معاً بالسيرة والمرتكزات، المؤيدة بما ذكره جمع من الأصحاب من وجوب التورية لمن يقدر عليها مع الاضطرار للحلف كاذباً، وبما في بعض النصوص، مثل ما في الاحتجاج في توجيه عدم كذب إبراهيم ويوسف (صلي الله علي نبينا وآله وعليهما وسلم) بالتورية(1) ، وما تضمن صدور التورية من الأئمة (صلوات الله عليهم)(2).

(1) وكذا لو لم يكن المعني المقصود مخالفاً للظاهر، إلا أن المخاطب لم يفهمه وفهم غيره، لأنس ذهنه به أو لغير ذلك. هذا إذا كان قصد المتكلم تفهيم المعني الذي فهمه المخاطب. أما إذا كان قصده تفهيم المعني الذي قصده هو في مقام الاستعمال، وهو المطابق للواقع، إلا أن المخاطب فهم المعني الآخر خطأ، أو لقرينة لم يلتفت لها المتكلم، فهو خارج عن التورية.

ولا إشكال في جوازه، لعدم قصد المتكلم إيهام السامع. كما لا يجب عليه تصحيح خطأ السامع، لعدم الدليل علي ذلك.

(2) بلا إشكال ظاهر. لقاعدة نفي الضرر. ولما يأتي من عموم جواز الكذب للإصلاح، لأن من أظهر أفراده دفع الضرر عن المؤمن. ولخصوص ما ورد في جواز الحلف تقية ولدفع الضرر عن نفسه وماله.

ففي صحيح إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث:" سألته عن الرجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف. قال: لا جناح عليه. وعن رجل يخاف علي ماله من السلطان، فيحلفه لينجو به منه. قال: لا جناح عليه.

********

(1) الاحتجاج ج: 2 ص: 105.

(2) الكافي ج: 8 ص: 100، 253، 292.

ص: 315

أو عن المؤمن (1). بل يجوز الحلف كاذباً حينئذٍ (2). ويجوز الكذب أيضاً للإصلاح بين المؤمنين (3).

---------------

وسألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله ؟ قال: نعم"(1).

وفي معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلي المأمون: "ولا حنث علي من حلف تقية يدفع بها ظلماً عن نفسه" (2) وصحيح الحلبي: "أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز [يجوز] بذلك ماله ؟ قال: نعم" (3) وغيرها. وإذا ساغ الحلف كاذباً ساغ الكذب في نفسه مع قطع النظر عن اليمين بالأولوية.

(1) كما تقدم في صحيح إسماعيل. وفي موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): أحلف بالله كاذباً ونج أخاك من القتل"(4) ، ونحوهما غيرهما.

(2) كما تضمنته النصوص المتقدمة وغيرها.

(3) بلا إشكال ظاهر وادعي إجماع الفريقين عليه. وقد استدل عليه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن مقتضي قوله تعالي: (فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم)(5) جواز الإصلاح مطلقاً ولو بالكذب، وبينه وبين عموم حرمة الكذب عموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع، وهو الكذب للإصلاح، وبعد تساقطهما يكون المرجع فيه أصل البراءة، أو عموم: المصلح ليس بكذاب(6) ، فإنه ينفي الكذب عن الصلح بلسان الحكومة.

لكن عموم المصلح ليس بكذاب - لو تم - لما كان أخص من عموم حرمة الكذب، بل هو حاكم عليه - كما اعترف به - فهو مقدم عليه بلا حاجة إلي التعارض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 12 من أبواب كتاب الأيمان حديث: 1، 10، 8، 4.

(5) سورة الحجرات آية: 10.

(6) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3، 9.

ص: 316

بينه وبين إطلاق الآية الشريفة.

وأما أصل البراءة فالرجوع إليه موقوف علي ما ذكره من سقوط عموم حرمة الكذب بمعارضته بعموم الآية الشريفة. لكنه ممنوع، بل الظاهر أن المورد من موارد التزاحم، لعدم الاتحاد بين عنواني الكذب والإصلاح عرفاً، لأن عنوان الإصلاح منتزع من ترتب الصلح علي العمل، وحيث كان منشأ انتزاع العنوان هو مورد الغرض في الحقيقة فالجائز والمستحب هو الصلح، وليس هو متحداً مع الكذب خارجاً، بل مسبباً عنه، فيكون المورد من صغريات التزاحم، كما أوضحنا ذلك في مبحثي اجتماع الأمر والنهي والتزاحم من الأصول.

وحيث كان الكذب محرماً والصلح جائزاً أو مستحباً فالمتعين تقديم حرمة الكذب، لأن الحكم غير الإلزامي لا يقوي علي مزاحمة الحكم الإلزامي. ولذا لا إشكال في عدم جواز الإصلاح بغير الكذب من المحرمات، كالنميمة، وعقد مجلس يشرب فيه الخمر، أو يفطر فيه في نهار شهر رمضان، وغيرها.

نعم لو فرض وجوب الصلح في مورد كان صالحاً لمزاحمة تحريم الكذب، وتعين النظر في الترجيح أو التخيير بينهما، ومن المعلوم عدم اختصاص كلامهم بذلك.

فالعمدة في المقام - بعد ظهور مفروغية الأصحاب - النصوص مثل ما في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام):" يا علي ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، وعدتك زوجتك، والإصلاح بين الناس"(1) ، ونحوه خبر المحاربي وخبر عيسي بن حسان: "سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً، إلا كذباً في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئاً وهو يريد أن لا يتم لهم"(2) ، ومرسل الواسطي عنه (عليه السلام):" قال: الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس..."(3). وهذه النصوص وإن كانت ضعيفة السند، إلا أن تعاضدها بحيث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 5، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 5، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 5، 6.

ص: 317

يوثق بصدور بعضها، وتكون حجة بمجموعها، قريب جداً.

هذا مضافاً إلي دخوله في إطلاق الكذب في الصلاح أو في الإصلاح، الذي تضمن جوازه غير واحد من النصوص، منها ما هو معتبر في نفسه، كصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال: المصلح ليس بكذاب"(1) ، وخبره الآخر في حديث:" أنه قال له: أبلغ أصحابي كذا، وأبلغهم كذا وكذا. قال: قلت: فأني لا أحفظ هذا، فأقول ما حفظت و [ما] لم أحفظ [قلت] أحسن ما يحضرني ؟ قال: نعم المصلح ليس بكذاب"(2).

وحديث الحسن الصيقل: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام): (أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُم لَسَارِقُونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب. وقال إبراهيم: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) فقال: والله ما فعلوه وما كذب. فقال أبو عبدالله (عليه السلام) ما عندكم فيها يا صقيل ؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم. قال: فقال: إن الله أحب اثنين، وأبغض اثنين. أحب الخطر فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح. إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا) إرادة الإصلاح، ودلالة علي أنهم لا يفعلون، وقال يوسف إرادة الإصلاح"(3).

وخبر عطاء عنه (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا كذب علي مصلح، ثم تلا: (أيّتُها العيرُ إنكُم لَسارِقُون) ثم قال: والله ما سرقوا وما كذب، ثم تلا: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) ثم قال: والله ما فعلوه وما كذب"(4) ، وفي صدر حديث وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) المتقدم قال: "يا علي إن الله أحب الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد"(5).

ومن ثم لا ينبغي الإشكال في جواز الكذب للإصلاح بين الناس بعد أن كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 141 من أبواب أحكام العشرة حديث: 9، 4، 7، 1.

ص: 318

والأحوط فيهما الاقتصار علي صورة عدم إمكان التورية (1).

---------------

هو مورد جملة من النصوص المتقدمة والمتيقن من جملة منها.

بل مقتضي إطلاق الإصلاح والصلاح في النصوص الأخيرة جوازه لكل صلاح شرعي - كما يظهر من مفتاح الكرامة والجواهر - وإن لم يكن من إصلاح ذات البين، كتنبيه الجاهلين، وموعظة الغافلين، وتجنب المشاكل ونحو ذلك. ولاسيما بملاحظة موارد أخبار معاوية بن عمار والحسن وعطاء.

ودعوي: أن ذلك ينافي الحصر المستفاد من أخبار إصلاح ذات البين المتقدمة. ولاسيما خبر عيسي بن حسان. مدفوعة بأن الأخبار المذكورة لما لم تكن معتبرة السند فهي تشارك أخبار معاوية والحسن وعطاء في ابتناء حجيتها علي التعاضد.

وحينئذٍ لا ريب في أن ظهور الأخبار الأخيرة أقوي من الحصر المذكور في الأخبار الأول، ومقتضي الجمع بين الطائفتين تنزيل الحصر المذكور علي إلغاء خصوصية إصلاح ذات البين، وأن ذكره طرفاً في الحصر بلحاظ كونه من أفراد مطلق الإصلاح.

أما لو بني علي عدم بلوغ الأخبار المذكورة بالتعاضد مرتبة الحجية وإن التعويل علي صحيح معاوية بن عمار فمقتضي إطلاقه العموم لغير إصلاح ذات البين من أفراد الصلاح والإصلاح.

وبذلك يظهر أن إصلاح ذات البين إنما يسوّغ الكذب حيث يكون راجحاً وينطبق عليه الصلاح والإصلاح، أما لو كان مرجوحاً لترتب مفسدة عليه فهو لا يسوّغ الكذب. بل لا يبعد كون ذلك هو المنصرف من نصوص إصلاح ذات البين مع قطع النظر عن الجمع المذكور. لما هو الظاهر من أن تسويغ الشارع الكذب لإصلاح ذات البين من أجل اهتمام الشارع الأقدس بإصلاح ذات البين ورجحانه بنظره، وذلك يناسب اختصاصه بما إذا لم تترتب عليه مفسدة تجعله مرجوحاً شرعاً.

(1) قال في جامع المقاصد: "ولو اقتضت المصلحة الكذب وجبت التورية".

ص: 319

ونسبه شيخنا الأعظم (قدس سره) لظاهر المشهور مستشهداً له بجملة من كلمات الأصحاب. لكن الكلمات التي ذكرها إنما تضمنت اعتبار التورية في الحلف كاذباً، لا في نفس الكذب.

وكيف كان فلا إشكال في عدم وجوب اختيار التورية بناءً علي أنها محرمة كالكذب، إذ لا منشأ ظاهراً لترجيح أحد المحرمين علي الآخر. ولعله لذا استشكل في مفتاح الكرامة فيما سبق من جامع المقاصد، قال: "لأن ظواهر الأدلة علي خلاف ذلك" ،وفي الجواهر: "ولا تجب التورية حينئذٍ ولو تمكن منها. للأصل وغيره".

وأما بناءً علي جواز التورية فالوجه في وجوب اختيارها قصور أدلة الترخيص في الكذب عن صورة القدرة عليها. أما مثل قاعدة نفي الضرر - التي سبق الاستدلال بها لجواز الكذب لدفع الضرر عن النفس والمال - فظاهر. لعدم لزوم الضرر من حرمة الكذب مع القدرة علي التورية، لإمكان اندفاع الضرر بها. وأما النصوص الخاصة الواردة في المقام فلقرب انصراف إطلاقها لذلك. لورودها مورد الاضطرار، كما يناسبه ذكر الخوف والتقية في بعض نصوص الحلف لحفظ النفس والمال.

إن قلت: ليس المورد من موارد الاضطرار، لعدم وجوب إصلاح ذات البين، وعدم وجوب حفظ المال، خصوصاً القليل منه الذي هو مورد نصوص جواز الحلف للعشار، لما هو الظاهر من كثرة موارد قلة المال الذي يأخذه.

نعم لا إشكال في وجوب حفظ النفس، إلا أن النصوص لا تختص به، بل بعضها قد تضمنه مع حفظ المال في سياق واحد، كمرسل يونس عن أحدهما (عليه السلام): "في رجل حلف تقية. فقال: إن خفت علي مالك ودمك فاحلف ترده بيمينك، فإن لم ترَ أن ذلك يرد شيئاً فلا تحلف لهم"(1) ، وحيث لا ضرورة لحفظ المال لم تصلح قرينة الضرورة للتقييد حتي في حفظ النفس.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 12 من أبواب الأيمان حديث: 3.

ص: 320

قلت: ليس المراد بالاضطرار الاضطرار المطلق، بل الاضطرار الإضافي، الراجع إلي توقف الأمر المرغوب فيه علي الشيء، إذ الظاهر أن تسويغ الكذب لحفظ المال أو النفس أو إصلاح ذات البين، إنما هو من أجل توقف المسوغات المذكورة، المرغوب فيها شرعاً أو عرفاً، عليه، فهو مضطر إليه من أجل الوصول إليها، وإن لم يكن مضطراً إليه في نفسه، لعدم الاضطرار إليها.

ودعوي: أن عدم التنبيه في النصوص المذكورة للتورية مع كونها مغفولاً عنها موجب لظهورها بمقتضي إطلاقها المقامي في عدم وجوب اختيارها.

مدفوعة بأن وجوبها مع القدرة عليها ليس مغفولاً عنه بلحاظ قرينة الاضطرار المذكورة، بل هو مقتضي المرتكزات، فلا يكون عدم التنبيه عليه في النصوص موجباً لظهورها في عدمه بمقتضي الإطلاق اللفظي ولا المقامي.

نعم القدرة المعتبرة في وجوبها ارتكازاً هي القدرة الفعلية حين الحاجة للإخبار الكاذب، وهي موقوفة علي التفات الشخص للتورية وسيطرته عليها، إذ مع غفلته عنها أو عدم سيطرته عليها يكون مضطراً للكذب حقيقة، فيسوغ له. وعدم التنبيه للتورية حينئذٍ في النصوص يكون سبباً لبقاء العجز عنها، وتحقق الاضطرار للكذب. الذي هو موضوع لتسويغه، ولا موجب لرفع الموضوع المذكور. ولاسيما إذا كان موجباً لارتفاع ملاك حرمة الكذب، حيث لا يلزم من عدم التنبيه فوت ملاك الحرمة.

هذا ولكن الإنصاف أن انصراف الإطلاق لصورة الاضطرار للكذب والعجز عن التورية إنما يتجه في نصوص الحلف لدفع الضرر أو المال، لما سبق من ذكر الخوف والتقية فيها. وهي إنما تقتضي توقف جواز الحلف علي ذلك، لا توقف جواز الكذب عليه، لعدم تعرضها للكذب، وإنما استفيد منها تبعاً بالأولوية، كما سبق.

أما نصوص الكذب للإصلاح فلا مجال لذلك فيها، لعدم القرينة فيها عليه، بل نفي الكذب عن الصلح في مثل صحيح معاوية قد يناسب خروجه موضوع

ص: 321

وأما الكذب في الوعد - بأن يخلف في وعده - فالظاهر جوازه (1)،

---------------

وملاكاً عن حرمة الكذب، لا بملاك الاضطرار المبني علي تحقق موضوع التكليف مع سقوطه بسبب العذر.

وكذا الحال فيما تضمن حسن الكذب للإصلاح أو إصلاح ذات البين، وأنه محبوب لله تعالي، فإنه وإن أمكن حمله علي كونه حسناً ومحبوباً بالعنوان الثانوي بسبب الضرورة والمزاحمة بجهة الحسن في الأمر المترتب عليه، إلا أنه يحتاج إلي عناية، بل ظاهره كونه حسناً ومحبوباً بنفسه في هذا الحال وبعنوانه الأولي.

ولا أقل من كون ذلك مقتضي الإطلاق من دون موجب للانصراف. ولاسيما مع سياقه في بعض النصوص مع الكذب علي الأهل الذي يصعب جداً البناء علي عدم جوازه إلا مع تعذر التورية.

هذا وحيث سبق وفاء النصوص المذكورة بجواز الكذب لدفع الضرر عن النفس والمال والأخ تعين عدم وجوب التورية في ذلك، عملاً بإطلاق هذه النصوص. غاية الأمر أنه لا يجوز الحلف كاذباً إلا مع تعذر التورية، لأن الحلف أمر زائد علي الكذب، ولا دليل علي جوازه إلا النصوص الواردة فيه، وقد سبق انصراف إطلاقها بقرينة الاضطرار إلي صورة تعذر التورية.

ولعل ذلك هو الوجه في تنبيه الأصحاب (رضي الله عنهم) علي لزوم التورية في الحلف مع القدرة عليها، وعدم تنبيههم لذلك في أصل الكذب مع قطع النظر عن الحلف.

(1) الكلام في الوعد: تارة: في حقيقته. وأخري: في حكمه حين صدوره وثالثة: في حكم الوفاء به بعد صدوره.

المقام الأول: في حقيقة الوعد.

والمستفاد من كلمات غير واحد من اللغويين أنه عبارة عن التعهد بالشيء والالتزام بإنجازه، بحيث يكون مسؤولاً به بمقتضي التزامه، نظير الالتزام في العقد

ص: 322

والنذر واليمين. وهو المناسب لكثير من الاستعمالات الشرعية والعرفية. ولاسيما ما تضمن منها ذكر الوفاء به، لأن الوفاء بالشيء فرع صيرورته في العهدة.

نعم الظاهر شيوع استعماله في مطلق الإخبار بالأمر المستقبل وإن لم يكن من أفعال الواعد التي من شأنه أن يلتزم بها، كما في قوله تعالي: (وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِن المُرسَلِينَ)(1) ، وقوله سبحانه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَن أُخرَجَ وَقَد خَلَت القُرُونُ مِن قَبلِي)(2) ، وقوله عز وجل: (الشَّيطَانُ يَعِدُكُم الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشَاءِ)(3) ، وغير ذلك مما تضمن نسبة الوعد لغير الله تعالي مع كون الموعود به من أفعاله سبحانه. ولعله يبتني علي التوسع بلحاظ المعني الأول.

ولذا لا يبعد اختصاص الاستعمالات المذكورة بصورة إصرار المخبر علي وقوع الأمر الذي يخبره به وتبنيه لذلك، وعدم الاكتفاء بمجرد الإخبار بالأمر المستقبل من دون ذلك، حيث يقرب تشبيه الإصرار والتبني المقارن له بالتزام الإنسان بالشيء علي نفسه وتعهده بفعله الذي هو قوام المعني الأول، مع كون المعني الحقيقي الأصلي للوعد هو الأول، كما يناسبه ما يأتي في المقام الثالث من نصوص الوفاء بالوعد، وغيرها من الاستعمالات الكثيرة المبتنية علي أن الوعد موضوع للوفاء.

وكيف كان فالوعد بالمعني الأول يتقوم بالتزام الواعد بالأمر الموعود به علي نفسه، بحيث يكون مقتضي التزامه المذكور تحقيق الأمر الموعود به. ولذا لا يتعلق إلا بما يكون مقدوراً له، وراجعاً بالآخرة إليه. سواء كان إبراز الالتزام المذكور بطريق الإخبار عن الأمر المستقبل، كما لو قال: أزورك غداً، أم بطريق التعهد والالتزام بالأمر المستقبل ابتداء، كما لو قال: لك عليّ أن أزورك غداً.

********

(1) سورة الأعراف آية: 77.

(2) سورة الاحقاف آية: 17.

(3) سورة البقرة آية: 268.

ص: 323

أما بالمعني الثاني فهو يتقوم بالإخبار بالأمر المستقبل بنحو التبني، كتبني الخبير لمقتضي خبرته، سواء ابتني علي الالتزام بالأمر الذي يخبر به علي نفسه، بحيث يكون مسؤولاً بتحقيقه بمقتضي التزامه، كما في المعني الأول، أم لم يبتن علي ذلك، إما لعدم كونه فعلاً له، ولا تحت قدرته وسلطانه، كإخبار الأنبياء (صلوات الله عليهم) بالبعث والنشور، وإخبار المنجم بحوادث الكون، أو لعدم كونه في مقام الالتزام به علي نفسه وإن كان مقدوراً له، كما لو أخبر المنجم بأنه سوف يتزوج أو يمرض أو يسافر، قاصداً بيان مقتضي حكم النجوم ومتبنياً للحكم المذكور، لقناعته به، من دون أن يلتزم به علي نفسه، ليكون مسؤولاً به بمقتضي التزامه، وإن كان مسؤولاً به بمقتضي تبنيه لعلمه المدعي له. لكنها مسؤولية لا تقتضي السعي للتنفيذ.

وبذلك يظهر أن المعنيين وإن كانا متباينين مفهوماً ومصداقاً، لتقوم الأول بالالتزام بالشيء، والثاني بالإخبار عنه بنحو التبني، إلا أن بين مورديهما عموماً من وجه، فيجتمعان في إخبار الشخص عن فعله المستقبل ملتزماً به علي نفسه، كما لو قال: أزورك غداً، وينفرد الأول في التزامه بفعله في المستقبل من دون إخبار عنه، كما لو قال: لك عليّ أن أزورك غداً، وينفرد الثاني في إخبار الشخص عن الأمر المستقبل من دون التزام به علي نفسه، كإخبار الأنبياء (صلوات الله عليهم) بالبعث والنشور، وإخبار المنجم بمقتضي حكم النجوم.

المقام الثاني: في حكم الوعد حين صدوره.

أما المعني الثاني فحيث كان متقوماً بالإخبار عن المستقبل - كما سبق - فالمتعين جريان حكم الخبر عليه، فإن كان مطابقاً للواقع بأن يتحقق الأمر الذي أخبر عنه في وقته كان صدقاً وحلالاً. غاية الأمر أنه لابد في جواز الإخبار من إحراز تحققه، كما سبق. وإن لم يكن مطابقاً للواقع كان حراماً.

وأما المعني الأول فحيث كان متقوماً بالتزام الواعد بالأمر الموعود به علي نفسه، فهو من سنخ الإنشاء الذي لا يتصف بالصدق والكذب. نعم إذا أبرز بصورة

ص: 324

الخبر جري علي الخبر المذكور حكم سائر الإخبار من الاتصاف بالصدق والكذب، والحلية والحرمة، فلابد من قصد الوفاء في حليته.

ودعوي: أن صدور الخبر من المتكلم لما كان بداعي بيان التزامه بالأمر الموعود به علي نفسه، فهو من سنخ الإنشاء الذي لا يتصف بالصدق والكذب.

مدفوعة بأن صدور الخبر بداعي بيان الالتزام المذكور لا ينافي صدوره أيضاً لبيان تحقق الأمر الموعود به في الخارج، كما هو مفاد الهيئة التركيبية للكلام، وبذلك يصدق عليه الخبر، ويتصف بالصدق والكذب.

وأما إذا أبرز بصورة الإنشاء كما لو قال: لك علي أن أزورك غداً فلا يكون موضوعاً للصدق والكذب، ولا يحرم من هذه الجهة ولو مع عدم قصد الوفاء.

لكن في مفتاح الكرامة. بعد أن ذكر حرمة الكذب قال:" وقد يجري حكمه في الإنشاء المنبئ عن الخبر، كوعد غير العازم "وقريب منه في الجواهر. وسبقهما إليه كاشف الغطاء في شرح القواعد.

وهو غير ظاهر بعد خروجه عن الكذب موضوعاً. ومجرد صدوره بداعي بيان وقوع الأمر الموعود به في المستبقل لا يقتضي ذلك، إذ لا دليل علي عموم حرمة بيان خلاف الواقع. نعم لو رجع إلي الكناية عن الإخبار بالواقع، بحيث يصدق عليه الخبر كان موضوعاً للصدق والكذب. فلاحظ.

المقام الثالث: في حكم الوفاء بالوعد بعد صدوره.

والظاهر أنه لا مجال للوفاء إلا في الوعد بالمعني الأول المبني علي التزام الواعد علي نفسه بما وعد به وجعله في عهدته، لأن الوفاء فرع المسؤولية بالشيء، نظير انشغال الذمة به. ومنه يظهر أن جميع ما ورد في الوفاء بالوعد من النصوص وكلمات الأصحاب منزل علي هذا المعني.

وأما الثاني المتقوم بالإخبار بالأمر المستقبل فلا يكون موضوعاً للوفاء. غاية الأمر أنه حيث كان خبراً موضوعاً للصدق والكذب أمكن أن يكون موضوع

ص: 325

للتصديق والتكذيب، بمعني جعله صادقاً بفعل ما تضمنه، أو كاذباً بعدم فعله.

والظاهر أنه لا مجال لدعوي وجوب تصديق الخبر، لعدم الدليل عليه. ووجوب الصدق في الخبر وتحريم الكذب فيه، إنما هما بمعني وجوب كون الخبر حين وقوعه صادقاً وتحريم صدور الخبر الكاذب، لا بمعني أنه بعد وقوع الخبر يجب تصديقه بتحقيق مضمونه، ويحرم تكذيبه بعدم تحقيقه. لما هو المعلوم من أن الصدق والكذب من صفات الخبر، وتحقيقهما إنما يكون بفعل موضوعهما وهو الخبر المتصف بأحدهما، فهما صفتان منتزعتان للخبر المطابق للواقع أو غير المطابق له.

وأما تصديق الخبر بتحقيق مضمونه في الخارج، وتكذيبه بعدم تحقيقه فهما أمران خارجان عن الخبر متأخران عنه، ولا دليل علي وجوب الأول وحرمة الثاني. ولذا لا ريب في عدم وجوب السعي لتصديق الخبر لو كان متعلقاً بفعل الغير، كما لو اعتقد أن زيداً سيسافر غداً فأخبر عن ذلك ثم ظهر خطؤه في خبره أو عدول زيد عن السفر، حيث لا يحتمل وجوب إقناع زيد بالسفر علي المخبر لو قدر علي ذلك، تجنباً لكذب خبره.

إن قلت: الصدق والكذب صفتان منتزعتان من نحو إضافة بين الخبر والواقع المحكي به، فإن تطابقا حصل الصدق، وإن اختلفا حصل الكذب، وحيث كانت الإضافة متقومة بطرفيها، فكما يستند وجود الصدق والكذب للخبر يستندان للواقع المحكي به، فكما يحرم تحقيق الخبر المخالف للواقع يحرم جعل الواقع بعد ذلك مخالفاً للخبر.

قلت: الصدق والكذب وإن كانا موقوفين علي موافقة الخبر للواقع أو مخالفته، إلا أنهما عرفاً من صفات الخبر الموافق والمخالف له، ويتحققان بتحققه، لا من الإضافات القائمة بالخبر والواقع المتحققة بتحققهما معاً. ولذا ينتزع الصدق أو الكذب للخبر بمجرد صدوره علي أحد الوجهين، فيكون الخبر فعلاً صادقاً أو كاذباً بلا حاجة إلي انتظار تحقق الواقع المحكي به ليتم طرفا الإضافة المدعاة وتتحقق بتحققهما. ومرجع

ص: 326

ذلك إلي وجوب كون الخبر صادقاً وحرمة الكذب فيه حين صدوره، لا إلي وجوب تصديق الخبر بعد تحققه بتحقيق مضمونه وحرمة تكذيبه بعدمه.

إن قلت: الكذب وإن كان من صفات الخبر حين تحققه، إلا أن اتصاف الخبر به لما كان منوطاً بمخالفته للواقع المحكي به وجب بحكم العقل تصديقه وتجنب تكذيبه، وذلك بتحقيق مضمونه، ليخرج الخبر بذلك عن كونه محرماً ومنشأ لاستحقاق العقاب.

قلت: أما بناءً علي أن المحرم واقعاً هو تعمد الكذب وبيان خلاف ما يعتقد ولو مع مطابقة الخبر للواقع، فلا أثر لتصديق الخبر بعد ذلك، لعدم انقلاب الخبر عما وقع عليه بذلك.

وأما بناءً علي أن المحرم الواقعي هو الإخبار بخلاف الواقع وإن كان معذوراً لو أخطأ في اعتقاد خلاف الواقع، فإن كان حين الإخبار عن الأمر المستقبل معتقداً تحقق ما أخبر به وعازماً علي تحقيقه لو كان فعلاً له، فلا أثر لتحقيقه في وقته وعدمه بالإضافة للعقاب، لأن عدم تحقيقه في وقته وإن كشف عن كون الإخبار كذباً محرماً واقعاً، إلا أنه لا عقاب عليه بعد كونه معذوراً فيه بسبب اعتقاده السابق. وكذا إذا كان حين الإخبار عن الأمر المستقبل معتقداً عدم تحقق ما أخبر به، إذ حيث كان قد قصد الكذب المحرم فهو يستحق العقاب بإقدامه علي المعصية علي كل حال. غاية الأمر أنه إن حقق ما أخبر به بعد ذلك يستحق العقاب بملاك التجري، وإن لم يحققه يستحقه بملاك المعصية الحقيقة.

نعم، بناءً علي عدم استحقاق العقاب بالتجري يتجه البناء علي لزوم تصديق الخبر مع القدرة علي ذلك عقلاً، تجنباً لاستحقاق العقاب بالمعصية. لكن المبني المذكور في غير محله، كما حققناه في مباحث القطع من الأصول.

ومما سبق يظهر أن الوعد بالمعني الثاني لا يجب الوفاء به من هذه الجهة حتي لو كان الوعد بطريق الخبر، فلا يجب الوفاء تصديقاً للخبر المذكور. وإنما الكلام في

ص: 327

حكم الوفاء به من حيثية الالتزام بالأمر الموعود به وإن كان إبراز الالتزام بذلك من غير طريق الخبر.

والمعروف بين الأصحاب عدم وجوب الوفاء به. بل لم يظهر لنا عاجلاً من صرح بوجوبه. نعم ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن السيرة وإن قامت علي عدم وجوب الوفاء بالوعد، إلا أن رفع اليد عن ظهور النصوص وحملها علي الاستحباب يحتاج إلي الجرأة، والأوفق بالاحتياط هو الوفاء بالوعد. لكنه أفتي بالآخرة بعدم الوجوب.

وكيف كان فهناك جملة من النصوص قد يدعي ظهورها في وجوب الوفاء، كصحيح شعيب العقرقوفي عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد"(1) ، وصحيح هشام بن سالم:" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرض. وذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفعَلُونَ * كَبُرَ مَقتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفعَلُونَ)"(2) ، وصحيح علي بن عقبة عنه (عليه السلام): "قال: المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه"(3) ، وصحيح عبدالله بن سنان عنه (عليه السلام):" قال: ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعاً علي الناس: من إذا حدثهم لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم، وإذا خالطهم لم يظلمهم، وجب أن يظهروا في الناس عدالته، وتظهر فيهم مروته، وأن تحرم عليهم غيبته، وأن تجب عليهم أخوته"(4) ، وموثق سماعة عنه (عليه السلام): "قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وكملت مروته، وظهر عدله، ووجبت أخوته" ،ونحوه ما رواه الصدوق في العيون والخصال عن الرضا (عليه السلام) بأسانيد(5) ، ومعتبر الأصبغ بن نباتة: "سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 109 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 109 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 122 من أبواب أحكام العشرة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 41 من أبواب الشهادات حديث: 16.

(5) وسائل الشيعة ج: 8 باب: 152 من أبواب أحكام العشرة حديث: 2، وذيله.

ص: 328

سألت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) عن صفة المؤمن فقال: عشرون خصلة في المؤمن، فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه. إن من أخلاق المؤمنين الحاضرون الصلاة... الذين إن حدثوا لم يكذبوا، وإن وعدوا لم يخلفوا..."(1).

وصحيح أبي حمزة عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال في حديث:" والمنافق ينهي ولا ينتهي... إن حدثك كذبك، وإن وعدك أخلفك، وإن ائتمنته خانك، وإن خالفته اغتابك"(2). وخبر يزيد الصائغ: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل علي هذا الأمر إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن ائتمن خان، ما منزلته ؟. قال (عليه السلام): هي أدني المنازل من الكفر، وليس بكافر"(3) ، وخبر عبدالله بن سنان عنه (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): ثلاث من كن فيه كان منافقاً وإن صام وصلي وزعم أنه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف. إن الله عز وجل قال في كتابه: (إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) وقال: (أَنَّ لَعنَةَ اللهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِن الكَاذِبِينَ) وفي قوله: (وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِسمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)"(4) ، وخبر الحارث المتقدم عند الكلام في الكذب في الهزل المتضمن النهي عن خلف الوعد للصبي. وهناك نصوص أخر تقارب هذه المضامين.

لكن خبر الحارث - مع ضعفه في نفسه - قد سبق قرب حمله علي الإرشاد لتحصيل ملكة تجنب الكذب، كما يناسبه تخصيص الوعد بالصبي، حيث لا يظهر وجهه إلا بلحاظ أن خلف الوعد معه قد يكون سبباً لتعوده علي الكذب، لتأثره بفعل المربي. بل لا يمكن البناء علي وجوب الوفاء بالوعد مع الطفل.

وأما صحيح أبي حمزة فهو إنما تضمن أن المنافق يتخلق بالأخلاق المذكورة جميعاً، بحيث تكون خلقاً لازماً له، وذلك لا يستلزم حرمة مقارفة أحد تلك الأمور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 4 من أبواب جهاد النفس حديث: 15.

(2) أمالي الصدوق المجلس: 74 حديث: 10، وذكره في الوسائل بطريق غير معتبر ج: 11 باب: 49 من أبواب جهاد النفس حديث: 11، 12.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 49 من أبواب جهاد النفس حديث: 6، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 49 من أبواب جهاد النفس حديث: 6، 4.

ص: 329

من دون أن تكون خلقاً ثابتاً. وبذلك يظهر حال خبري يزيد الصائغ وعبدالله بن سنان. مضافاً إلي ضعفهما في أنفسهما.

وأما معتبر الأصبغ فلا ظهور له في الوجوب، لأن المراد بأخلاق المؤمنين هي الأخلاق الكاملة المناسبة للإيمان الأكمل، لا الواجبة التي يتوقف عليها أصل الإيمان، كما يشهد به اشتماله علي كثير من الصفات غير اللازمة، مثل أنهم يمسحون رأس اليتيم، وأنهم رهبان الليل أسد بالنهار وغيرها. علي أن كون الشيء من أخلاق المؤمن لا يستلزم وجوبه.

وأما صحيح عبدالله بن سنان وموثق سماعة وما يجري مجراهما فلا منشأ لدعوي ظهورهما في الوجوب إلا جواز الغيبة مع عدم الوفاء بالوعد، وهو مستلزم لكونه محرماً، فيدخل في غيبة الفاسق أو المتجاهر بالفسق علي ما تقدم الكلام فيه في مباحث التقليد. لكنها كما تضمنت إناطة حرمة الغيبة تضمنت إناطة وجوب الأخوة وكمال المروة، فلعلها مسوقة لإناطة المجموع بالمجموع، لا بنحو الانحلال، بل هو المتيقن من تركيب الكلام، فلا يتم وجه الاستدلال.

وأما صحيح علي بن عقبة فهو ظاهر في بيان حقوق الأخ التي كثير منها ليست من الواجبات. وقد يظهر ذلك أيضاً من صحيح هشام بن سالم، بلحاظ أخذ الأخ في موضوعه. وإن كان ذلك غير مناسب للاستشهاد بالآية الشريفة الظاهرة في الحرمة مطلقاً.

ومن ثم كان الظاهر تمامية دلالة الصحيح المذكور، وكذا صحيح شعيب العقرقوفي. وما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر: "وإياك والمن علي رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فَتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يستوجب المقت عند الله وعند الناس. قال الله سبحانه: (كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفعَلُونَ)"(1). ويؤيده

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 8 باب: 92 من أبواب أحكام العشرة حديث: 6. واللفظ له، نهج البلاغة ج: 3 ص: 109.

ص: 330

بعض المراسيل، كخبر داود بن سليمان عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام):" قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) يقول: عدة المؤمن نذر لا كفارة له"(1).

ويعضد ذلك كله الآية الشريفة التي استشهد بها في بعض النصوص السابقة. فإنها وإن تضمنت الإنكار علي القول من دون فعل، فيناسب إرادة الكذب، لا علي عدم الفعل مع القول، ليناسب خلف الوعد، إلا أن تخصيص متعلق القول بفعل القائل يناسب الحمل علي الثاني، لوضوح أن الكذب حرام في كل شيء من دون خصوصية لفعل القائل.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حملها علي أمر الشخص بالمعروف من دون أن يفعله ونهيه عن المنكر مع فعله له. نظير قوله تعالي: (أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم)(2).

ففيه: أن حمل القول علي الأمر والنهي يحتاج إلي قرينة. علي أن ما سبق من النصوص وافٍ بتفسير الآية الشريفة بخلف الوعد، ويبقي ظهورها في الحرمة هو المحكم. ومن ثم كان الظاهر وفاء الأدلة بوجوب الوفاء بالوعد وتحريم خلفه.

لكن لابد من الخروج عن ذلك كله بظهور مفروغية الأصحاب. عن عدم وجوب الوفاء إلا في العقد والشرط والجعالة واليمين ونحوها، معتضدة بالسيرة القطعية علي ذلك، مع ما هو المعلوم من عموم الابتلاء بالوعد في جميع العصور، حيث يكشف ذلك عن عدم الوجوب، ويلزم لأجله حمل الأدلة المذكورة علي كراهة خلف الوعد، لعدم إباء لسانها عنه، وإن كان هو خلاف الظاهر بدواً.

وربما تستفاد المفروغية المذكورة من بعض النصوص الواردة في العقود، مثل ما ورد في مساومة الشخص علي متاع ليس عنده، علي أن يشتريه من صاحبه ثم يبيعه منه، كصحيح معاوية بن عمار: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): يجيئني الرجل يطلب [مني]

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 8 باب: 92 من أبواب أحكام العشرة حديث: 4.

(2) سورة البقرة آية: 44.

ص: 331

علي كراهة شديدة (1).

نعم لو كان حال الوعد بانياً علي الخلف فالظاهر حرمته (2) إلا إذ

---------------

بيع الحرير، وليس عندي منه شيء، فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتي نجتمع علي شيء، ثم أذهب وأشتري له الحرير فأدعوه إليه. فقال: أرأيت إن وجد بيعاً هو أحب إليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك ؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس"(1) ، ونحوه غيره.

وكذا ما تضمن بطلان بعض الشروط بين الزوجين، مثل ما ورد من أن ضرسياً كانت تحته بنت حمران، فجعل لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسري أبداً في حياتها ولا بعد موتها علي أن جعلت له هي أن لا تتزوج بعده أبداً، فذكر ذلك للإمام الصادق، فأبطله، وقال:" اذهب فتزوج وتسر، فإن ذلك ليس بشيء، وليس عليك ولا عليها، وليس ذلك الذي صنعتما بشيء"(2). لظهوره في المفروغية عن أن عدم نفوذ الاتفاق المذكور بينهما يقتضي جواز مخالفته، وعدم لزومه من حيثية الوعد من كل منهما للآخر.

ومثله ما تضمن عدم لزوم اليمين بغير الله تعالي لظهوره في المفروغية عن جواز مخالفة اليمين بغيره تعالي، وعدم وجوبه من حيثية الوعد... إلي غير ذلك مما قد يظهر بالتتبع، وإن كان الأمر أظهر من أن يحتاج لذلك. ولعله لذا لم تتضمن النصوص الكلام في فروع ذلك وشروطه، كما ورد في العقود والشروط والأيمان وغيرها.

(1) كما يظهر من النصوص السابقة. نعم يختص ذلك بوعد الغير بما ينفعه، دون ما يضره - الذي يختص باسم الوعيد - كما يظهر من التعبير بالدين في صحيح هشام بن سالم وغيره، بل هو أظهر من أن يحتاج إلي بيان، بملاحظة المرتكزات والمفروغية.

(2) لكونه كذباً حينئذٍ. لكن يظهر مما سبق أن المحرم حينئذٍ هو الوعد نفسه، لا عدم تنفيذه بعد حصوله. كما أن ذلك مختص بما إذا كان إبراز الالتزام بطريق الإخبار

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 8 من أبواب أحكام العقود حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 15 باب: 20 من أبواب المهور حديث: 2.

ص: 332

كان قد وعد أهله بشيء وهو لا يريد أن يفعله (1).

(مسألة 36): تحرم الولاية من قبل السلطان الجائر (2)، إلا مع

---------------

بفعل الشيء، أما إذا كان بمجرد التصريح بالتزامه بفعله فلا كذب ولا حرمة.

(1) لما تقدم في خبري المحاربي وعيسي بن حسان وما في وصية النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام).

نعم قد يستشكل فيها بضعف السند. ولذا احتاط بعض مشايخنا (قدس سره) في المقام. إلا أن تتم حجيتها بالتعاضد، أو بظهور عمل الأصحاب.

وكيف كان، فالمتيقن من ذلك الزوجة، لعدم إطلاق الأهل إلا في خبر عيسي بن حسان. وهو ضعيف لم يتضح انجباره بعمل الأصحاب في الإطلاق. نعم لو كان صدور الوعد منه من أجل الإصلاح، بحيث صدق عليه أنه كذب للإصلاح، فلا إشكال في العموم لجميع الأهل كغيرهم.

(2) بلا خلاف في الجملة، وإن وقع الكلام في حرمتها مطلقاً، أو إذا استلزمت محرماً، أو لم يؤمن الوقوع بسببها في المحرم، كما يظهر من الشرايع. وإن كان الثاني راجعاً إلي حلية الولاية نفسها، وإنما تحرم بالعرض إذا ترتب عليها المحرم.

هذا وقد يستدل علي حرمتها بوجوه:

الأول: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في مصابيحه من أنها تتضمن التشريع فيما يتعلق بالمناصب الشرعية. لكن ذلك راجع إلي حرمة التشريع المصاحب للولاية، لا إلي حرمة الولاية نفسها. مع أن بينه وبين الولاية عموماً موردياً من وجه، إذ قد لا يعتقد المتولي حصول الولاية له شرعاً بتوليه الجائر، كما قد يعتقد غيره حصول الولاية بسببها.

الثاني: أنها تستلزم التصرف فيما ولي عليه من دون حق، لعدم الولاية عليه بتولية الجائر بعد عدم ثبوت الولاية العامة له. وهو - كسابقه - لا يقتضي حرمة الولاية

ص: 333

القيام بمصالح المؤمنين (1)، وعدم ارتكاب ما يخالف الشرع المبين (2). ويجوز أيضاً مع الإكراه من الجائر (3)، بأن يأمره بالولاية ويتوعده علي

---------------

علي نفسها، بل حرمة العمل المترتب عليها.

مع أنه قد لا يحرم العمل المذكور في نفسه، كالولاية علي القضاء إذا كان المتولي له أهلاً له واجداً لشرائطه. وكالولاية علي بعض المناصب المستحدثة التي لا تقتضي حجر الناس عن سلطنتهم، كالتدريس والتطبيب ونحوهما، مما ليس من شأنه التصرف في نفس الغير أو ماله بدون رضاه. وكذا إدارة المصالح العامة غير المملوكة للأفراد، كالكهرباء والماء والاتصالات الهاتفية ونحوها.

الثالث: أنها من أظهر أفراد إعانة الظالم، التي سبق حرمتها في المسألة الثامنة عشرة. ولاسيما بلحاظ أنها تبتني علي كون المتولي المنصوب من المنسوبين للظالم التابعين له، الذي هو أظهر من غيره في الحرمة عندهم. كما يظهر مما سبق. وهذا هو العمدة في المقام.

(1) كما تقدم منّا في المسألة الثامنة عشرة، وتقدم الوجه فيه.

(2) حيث لا يحتمل ارتفاع حرمة ذلك في حق المتولي. ولا أقل من كونه مخالفاً لإطلاق دليل حرمته.

نعم إذا كان النفع المذكور واجباً، وكان أهم من محذور المخالفة اللازمة من الولاية، تعين ارتفاع حرمة المحذور المذكور بالمزاحمة، كما لو توقف علي الولاية إنقاذ نفس المؤمن مثلاً، وكان المحذور اللازم التصرف في ملك الغير أو نحوه مما هو دون حفظ نفس المؤمن في الأهمية.

(3) كما تقدم منا في المسألة الثامنة عشرة، وتقدم الوجه فيه وبعض الفروع المتعلقة به. فراجع.

ص: 334

تركها (1) بما يوجب الضرر بدنياً أو مالياً (2) عليه أو علي من يتعلق به، بحيث يكون الإضرار بذلك الشخص إضراراً بالمكره عرفاً، كالإضرار بأبيه أو أخيه أو ولده أو نحوهم ممن يهمه أمرهم (3).

---------------

(1) الظاهر أنه يكفي الخوف بوجه معتد به من ترتب المحذور علي تقدير المخالفة، وإن لم يتوعده بذلك، لصدق الإكراه حينئذٍ بنفس الأمر.

(2) الظاهر صدق الإضرار بتخوف الضرر علي العِرض، كما لو خاف من هتكه له وفضيحته إياه، لأن الضرر المذكور قد يزيد أهمية علي الضرر المالي، بل قد يهون دونه تلف النفس.

(3) كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). لصدق الإكراه في جميع ذلك. فإن الإكراه - كما قيل - هو حمل الإنسان علي ما يكره، وليس المراد بالحمل الحمل الخارجي، لأن ذلك إنما يكون بالإلجاء الرافع للاختيار، بل الحمل التنزيلي الراجع إلي دفعه إلي ما يكره بتخويفه بما يصعب عليه تحمله علي تقدير عدم فعله لما يكرهه، بحيث يكون الدفع بتوسط الخوف المذكور. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

هذا وقد قرب بعض مشايخنا (قدس سره) صدق إكراه الشخص بالتخويف بفعل كل ما يكرهه وإن لم يتعلق به ولا يرجع إليه. قال مقرر درسه مصباح الفقاهة: "الكراهة في اللغة هي ضد الحب، والإكراه هو حمل الرجل علي ما يكرهه، وهذا المعني يتحقق بحمل الشخص علي كل ما يكرهه، بحيث يترتب علي تركه ضرر عليه، أو علي عشيرته، أو علي الأجانب من المؤمنين. وإذا انتفي التوعد بما يكرهه انتفي الإكراه. وعليه فلا نعرف وجهاً صحيحاً لما ذكره المصنف من تخصيص الإكراه ببعض ما ذكرناه. نعم يختلف موضوع الكراهة باختلاف الأشخاص والحالات، فإن بعض الأشخاص يكره مخالفة أي حكم من الأحكام الإلهية في جميع الحالات، وبعضهم يكره ذلك في الجهر دون الخفاء، وبعضهم يكره مخالفة التكاليف المحرمة دون

ص: 335

والواجبات، وبعضهم بالعكس...".

لكنه يشكل بأن تفسير الإكراه بما سبق منا ومنه إنما يقتضي الاكتفاء في صدق الإكراه بكراهة الأمر المحمول عليه، كالولاية في المقام بلحاظ حرمتها، لا بكراهة الأمر الذي يترتب علي تقدير المخالفة، بل لابد فيه من كونه بمرتبة من الأهمية، بحيث يصدق بسبب الخوف منه الحمل، وهو مختص بما ذكرنا عرفاً، ولا يعم كل مكروه.

ولذا لا ريب في عدم صدق الإكراه فيما لو هدد المكرِه بفعله لبعض المعاصي، كشرب الخمر، حتي في حق من يكره صدور ذلك منه من المتدينين. إلا أن يضيق بصدور تلك المعصية منه، لتعلقها به بوجه ما، بحيث يصعب عليه تحمل ذلك، كما لو كان يتقزز من مشاهدة الفعل المذكور أو كان موجباً لتشويه سمعته، لكون الشخص المكرِه ذا علاقة به، بحيث يكون سلوكه محرجاً له.

وكأن ما ذكره (قدس سره) ناشئ من اختلاط منشأ الاشتقاق في مادة الإكراه عليه، وتخيل أن اشتقاق الإكراه بلحاظ كراهة الأمر الذي يخشي من ترتبه علي تقدير عدم فعل ما يطلب منه، مع أنه في الحقيقة بلحاظ كراهة نفس الأمر المطلوب منه المحمول عليه. غايته أنه لابد من صدق الحمل، وهو لا يصدق إلا بما ذكرنا.

هذا بناءً علي ما سبق منا وذكره في صدر كلامه من أن الإكراه هو حمل الإنسان علي ما يكرهه، وهو الذي صرح به غير واحد من اللغويين. لكن التأمل في معني الإكراه يقضي بكون الكره قائماً بنفس الاندفاع نحو الشيء بحيث يكون اندفاعاً عن كراهة وضيق، فهو كالقسر، وإن اختلف معه في ارتفاع الاختيار مع القسر، وبقائه مع الإكراه.

ولعلّه إلي ذلك يرجع ما في مجمع البحرين، حيث قال: "أكرهته علي الأمر إكراهاً: حملته عليه كرهاً" ،ونحوه ما في مختصر المصباح. وعلي ذلك يكون اعتبار كون الأمر المخوف شاقاً يصعب تحمله أظهر. وكأن بعض مشايخنا (قدس سره) قد استوضح بعد ذلك ما سبق، فأقرّ عبارة سيدنا المصنف (قدس سره) في مقام الفتوي.

ص: 336

نعم الظاهر جواز الولاية وغيرها من المحرمات لدفع الضرر عن المؤمن وإن لم يكن ممن يحسب عليه ويكون إضراره إضراراً به، لا لصدق الإكراه، بل لما يستفاد من بعض أدلة التقية من مشروعيتها لدفع الضرر عن المؤمنين.

ففي موثق معمر بن يحيي: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن معي بضايع للناس، ونحن نمر بها علي هؤلاء العشار، فيحلفونا عليها، فنحلف لهم. فقال: وددت أني أقدر أن أجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها. كل ما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية"(1). فإن موضوع الكبري في ذيله وإن كان هو خوف المؤمن الضرورة علي نفسه، إلا أنه يتعين بقرينة المورد حمله علي الجنس، وهو مطلق المؤمن.

وفي موثق إسماعيل:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أمر بالعشار ومعي المال، فإن حلفت تركوني، وأن لم أحلف فتشوني وظلموني. فقال: أحلف لهم. قلت: أن حلفوني بالطلاق ؟ قال: فأحلف لهم. قلت: فإن المال لا يكون لي. قال: تتقي مال أخيك"(2). لظهوره في عموم عنوان التقية لذلك.

ويؤيده ما في مرسل الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: في حديث طويل: "ولئن تبرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي علي نفسك روحها التي بها قوامها، ومالها الذي به قيامها، وجاهك الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك أولياءنا وإخواننا، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين. وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك، معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال، مذل لهم في أيدي أعداء دين الله، وقد أمرك بإعزازهم..."(3).

هذا وقد تقدم في المسألة الثامنة عشرة أنه كما تحل بالإكراه الولاية يحل ما قد يترتب عليها من المحرمات، ما لم يترتب عليها إراقة الدماء، بل مطلق الإضرار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 16، 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 12 من أبواب كتاب الإيمان حديث: 16، 17.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 29 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يناسبهما حديث: 11.

ص: 337

(مسألة 37): ما يأخذه السلطان المدعي للخلافة العامة من الضرائب المجعولة علي الأراضي والأشجار والنخيل (1)،

---------------

بالمؤمنين. فراجع.

(1) الظاهر أن مراده (قدس سره) بذلك الضرائب الشرعية بالذات، وهي الضرائب المجعولة علي الأراضي العامرة المفتوحة عنوة، والتي هي ملك للمسلمين ويجب إبقاؤها واستثمارها لهم بأخذ الخراج عليها ممن يستغلها، دون الضرائب غير الشرعية بالذات، كالضرائب المجعولة علي الأراضي المملوكة الخاصة، سواءً كانت مملوكة من قبل الفتح كالأراضي العامرة التي أسلم أهلها أو صولحوا علي أن تبقي لهم، أم مملوكة بالإحياء بعد الفتح، كالأراضي الميتة حين الفتح، فإنه يجوز لكل أحد تملكها بالإحياء من دون أن يتعلق بها حق المسلمين، ليشرع أخذ الخراج عليها.

والوجه في التقييد المذكور: أن موضوع النصوص والفتاوي هو مال الخرج والمقاسمة والزكاة، المفروض كونها مستحقة بالأصل علي مستغل الأرض، وإنما الإشكال فيها من وجهة قصور ولاية الجائر علي أخذها، الذي يمكن ارتفاعه بإمضاء الأئمة (عليهم السلام) لتصرفه، لأن لهم الولاية بالأصل.

ولا يشمل الضرائب غير المستحقة بالأصل، والتي يكون أخذها من المستغل - الذي هو المالك - ظلماً له مع قطع النظر عن قصور ولاية الجائر، لعدم استحقاقها عليه، فإنهم (عليهم السلام) وإن كان لهم أن يجيزوا أخذها بمقتضي ولايتهم العامة الراجعة إلي كونهم (عليهم السلام) أولي بالناس من أنفسهم، إلا أنه لم يثبت إعمال ولايتهم المذكورة فيها بعد اختصاص النصوص والفتاوي بالخراج والمقاسمة.

ومن هنا يتعين البناء علي حرمة أخذها من الجائر حينئذٍ، إلا بإذن المالك. ولو فرض أخذها من غير إذنه تعين إرجاعها له، عملاً بالقاعدة. نظير ما يأتي في جوائز السلطان إذا علم بغصبيتها.

ص: 338

يجوز شراؤه وأخذه منه مجاناً (1).

---------------

(1) بلا خلاف معتد به، كما في الجواهر، وذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). بل في جامع المقاصد أن عليه إجماع فقهاء الإمامية، وفي المسالك:" وأطبق عليه علمائنا لا نعلم فيه خلافاً "،وعن مصابيح العلامة الطباطبائي أن عليه إجماع علمائنا، وعن المفاتيح أنه لا خلاف فيه، وعن التنقيح وتعليق الإرشاد الإجماع علي جوز الشراء، وفي الرياض:" والأصل في المسألة بعد عدم الخلاف في الطائفة والإجماع المستفيض حكاية في كلام جماعة... "،وقال في الجواهر:" بل لعله المسألة من الضروريات التي لا يحتاج في إثباتها إلي الاستدلال بالروايات. ولعل وقوع ذلك من المحقق الكركي وغيره ممن تأخر عنه لغفلة بعض من عاصره عن ذلك... وكم من مسألة ضرورية صارت نظرية بسبق الشبهة إلي بعض الأوهام".

قال شيخنا الأعظم (قدس سره):" وقد تأيدت دعوي هؤلاء بالشهرة المحققة بين الشيخ ومن تأخر عنه ".بل يمكن استيضاح المفروغية عنه ممن سبق الشيخ، كالمفيد، والصدوق والكليني ونحوهما ممن يظهر منهم الفتوي بالنصوص التي يثبتونها في كتبهم، بنحو يكشف عن المفروغية عن الحكم بين الأصحاب من عصور الأئمة (عليهم السلام).

ومثل هذه المفروغية توجب اليقين في مثل هذا الحكم المخالف للقاعدة، لما هو المعلوم من مذهب الإمامية من عدم ولاية الجائر، فمفروغيتهم عن جواز أخذ المال من السلطان تكشف عن أخذهم الحكم المذكور من الأئمة (صلوات الله عليهم). وكفي بذلك دليلاً في المقام. نعم هو دليل لبي لا إطلاق له، لينفع في مورد الشك.

هذا وقد استدل عليه في كلام غير واحد - مضافاً إلي الإجماع المذكور - بلزوم الحرج في الاجتناب عن هذه الأموال، والضرر علي المؤمنين واختلال النظام في حقهم. بل في الجواهر أنه شبه التكليف بما لا يطاق. وكأنه بلحاظ كثرة الابتلاء بهذه الأموال.

ص: 339

لكن المراد بذلك إن كان هو الاستدلال بقاعدة نفي الحرج والضرر والإضرار ونحوها، فمن الظاهر أن القواعد المذكورة إنما تقتضي نفي الأحكام التكليفية في موارد لزوم الضرر والحرج الشخصيين، لا تشريع أحكام يندفع بها الضرر والحرج، كثبوت الولاية للجائر علي الأموال المذكورة أو نفوذ تصرفه فيها، بنحو يقتضي جواز التصرف في الأموال المذكورة حتي في غير موارد لزوم الضرر أو الحرج.

علي أن قاعدتي نفي الضرر ونفي الحرج لما كانتا امتنانيتين فهما لا تجريان في مورد يلزم من جريانهما التعدي علي الآخرين، لمنافاة ذلك للامتنان.

وإن كان المراد بذلك أن كثرة الابتلاء بالأموال المذكورة وصعوبة اجتنابها كاشف عن حَلّ الشارع لمشكلتها، وإمضاء تصرف الجائر فيها، لما هو المعلوم من سليقة الشارع الأقدس من الرأفة بالمؤمنين في دولة الجور، وحلّ مشاكلهم بما يناسب الوضع القائم، نظير تحليل الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم الأنفال، والخمس المتعلق بالأموال التي يبتلون بها، ونحو ذلك.

أشكل بأن ذلك استبعاد لا يبلغ مرتبة الحجية. ولاسيما مع عدم وضوح كثرة الابتلاء بهذه الأموال مع العلم بأصحابها بنحو يتعذر استرضاؤهم. والابتلاء بها مع الجهل بهم لا ينفع، لإمكان حلّ مشكلتها حينئذٍ بإجراء حكم مجهول المالك فيها، حيث تنحل به كثير من المشاكل.

وبالجملة: هذا الوجه لا ينهض بالاستدلال علي جواز أخذ الأموال المذكورة من الجائر، بحيث يكشف عن نفوذ تصرفه، خصوصاً المجاني، الذي هو غالباً تعد علي بيت المال، لمنافاته لمصلحة عموم المسلمين الذين يملكون المال، ويجب صرفه في مصالحهم.

فالعمدة في المقام - بعد الإجماع - النصوص: منها: ما تضمن جواز شراء الأموال المذكورة، كصحيح أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم

ص: 340

أكثر من الحق الذي يجب عليهم. قال: فقال: ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك. لا بأس به حتي تعرف الحرام بعينه. قيل له: فما تري في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها فيبيعناها، فما تقول في شرائها منه ؟. فقال: إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس. قيل له: فما تري في الحنطة والشعير، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل. فما تري في شراء ذلك الطعام منه ؟ فقال: إن كان قد قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل"(1). وهي دالة علي المدعي بفقراتها الثلاث.

بل ظاهر الفقرة الأولي المفروغية عن أصل جواز شراء ما يأخذه السلطان، وأن الموجب للسؤال هو العلم بتجاوزهم أكثر من الحق. وذلك قد يكون قرينة علي أن منشأ السؤال في الفقرة الثانية هو احتمال عدم جواز الشراء من القاسم قبل وصول الصدقة للسلطان، أو عدم جواز شراء الإنسان زكاته حيث تضمنت بعض النصوص النهي عن تملك الإنسان لما يتصدق به بغير الميراث(2). وإن كان في دلالته علي المنع في الزكاة إشكال. كما قد يكون قرينة علي أن منشأ السؤال في الفقرة الثالثة هو احتمال عدم جواز الشراء من دون كيل جديد، أو الشراء من القاسم قبل وصول الصدقة للسلطان.

لكن عن الأردبيلي في مجمع الفائدة أن الفقرة الأولي وإن كانت ظاهره في جواز شراء الزكاة، إلا أنه لا ينبغي الحمل علي ذلك، لمنافاته العقل والنقل، فلابد من حمل قوله (عليه السلام):" لا بأس به حتي تعرف الحرام بعينه "علي بيان ضابط الحرمة بنحو ينطبق علي المورد، لأنه معلوم الحرمة بسبب حرمة تصرف الجائر. وقد يكون التهرب من التصريح في المورد للتقية. ولاسيما مع العلم بعدم إرادة الظاهر، إذ لا إشكال في عدم حِلّ ما يأخذه الجائر.

وهو كما تري، فإن غاية ما يدعي في المقام هو حكم العقل بقبح التصرف في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب كتاب الوقف والصدقات حديث: 1، 5.

ص: 341

مال الغير، وعموم حرمة التصرف به شرعاً، ولا ريب في أن القبح المذكور اقتضائي قابل للارتفاع بترخيص الشارع، كما يكون دليل الترخيص المذكور مخصصاً لعموم النقل المتضمن لحرمة التصرف في ملك الغير.

علي أن المستفاد من مجموع الأدلة في المقام كون أخذ الجائر للمال بعنوان كونه حقاً شرعياً - من زكاة أو خراج أو نحوهما - موجباً لتعين الحق به، وخروجه عن ملك صاحبه، فيخرج عن موضوع حكم العقل والعموم المتقدمين. غاية الأمر أن ذلك مخالف للأصل بعد عدم ولاية الجائر. فليكن الصحيح ونحوه دليلاً علي إمضاء تصرف الجائر مخرجاً عن الأصل المذكور، وهو لا يخالف العقل ولا النقل.

وأما ما ذكره (قدس سره) من العلم بعدم إرادة الظاهر، لعدم الإشكال في حرمة ما يأخذه الجائر. فيدفعه أن المراد بحل المال في ظاهر الحديث - بقرينة السؤال - هو عدم زيادته عن الحق الثابت علي من أخذ منه، لا أنه يحل للجائر أخذه لكونه مسلطاً عليه شرعاً، ليعلم بعدم إرادته بعد ما هو المعلوم من عدم ولايته.

ومثله ما عنه أيضاً - وسبقه إليه الفاضل القطيفي فيما حكي عنه - من احتمال كون المراد من القاسم في الفقرة الثالثة صاحب الأرض أو وكيله في المزارعة، دون المنصوب من قبل السلطان لأخذ الخراج، أو لأخذ الزكاة، ليكون مما نحن فيه.

لاندفاعه بعدم معهودية إطلاق القاسم علي المزارع أو وكيله، بل الظاهر أن المراد به القاسم من قبل السلطان. ولاسيما بملاحظة سياق الفقرتين السابقتين الواردتين في عمال السلطان.

علي أنه لو تم ما ذكره في الفقرة الأولي والثالثة فالفقرة الثانية تبقي دليلاً في المقام، حيث لا مجال فيها للتأويل بالوجهين المذكورين فيهما. وينحصر الوجه في ردّها بدعوي منافاتها للعقل والنقل التي عرفت وهنها.

وبالجملة: لا إشكال في تمامية دلالة الصحيح علي جواز الشراء في المقام.

نعم الفقرتان الأوليان منه مختصتان بالزكاة، وقد يكونان قرينة علي اختصاص

ص: 342

الفقرة الثالثة بها. إلا أن يستفاد العموم منه بفهم عدم الخصوصية أو بعدم الفصل. فلاحظ.

ومنها: موثق إسحاق بن عمار:" سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم. قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحداً"(1). لتصريحه بجواز شراء ما لا يعلم بكونه مأخوذاً ظلماً.

وأما ما عن الفاضل القطيفي من إمكان حمله علي شراء الأملاك الشخصية للعامل، وحينئذٍ يكون مقتضي الاستثناء حرمة شراء ما عنده من الأموال العامة، لأنها ظلم بمقتضي القاعدة من عدم سلطنة العامل علي أخذ المال.

فيدفعه: أولاً: أن ذكر العامل في السؤال موجب لانصراف الشراء منه للشراء مما هو عامل فيه، لا من ملكه الشخصي، وإلا فلا موجب لتخصيص العامل في السؤال بل يعم لكل من يظلم الناس.

وثانياً: أن ظلم العامل في المال ينسبق عرفاً إلي ظلمه في عمله بتجاوزه مقدار الحق، لا إلي مطلق الظلم الحقيقي ولو بسبب الظلم في التصدي للمنصب. ولاسيما بملاحظة ما سبق في صحيح أبي عبيدة.

ومنه يظهر وجه الاستدلال بصحيح معاوية بن وهب: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): اشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنه يظلم. فقال: اشتر منه"(2) ، ونحوه معتبر أبان(3) ، وقد يستفاد من غيرهما. غاية الأمر أنه لابد من قصر ذلك علي ما إذا لم يعلم بكون الشيء الذي يشتري منه ظلماً بعينه، عملاً بالقاعدة وبصحيح أبي عبيدة وموثق إسحاق المتقدمين.

هذا وقد يستدل بصحيح أبي بصير:" سألت أحدهما عليهما السلام عن شراء الخيانة والسرقة. قال: لا، إلا أن يكون قد اختلط معه غيره. فأما السرقة بعينها فلا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 3.

ص: 343

إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك"(1) ، وموثق سماعة: "سألته عن شراء الخيانة والسرقة. قال: إذا عرفت أنه كذلك فلا، إلا أن يكون شيئاً اشترتيه من العامل"(2) ، ونحوهما مرسل محمد بن عيسي(3). حيث يتعين حملها علي السرقة والخيانة بلحاظ إشغال المنصب والعمل بمقتضاه من غير حق، دون الخيانة والسرقة لنفس المال وأخذه من مالكه من دون أن يكون مستحقاً عليه، جمعاً بينها وبين صحيح أبي عبيدة وموثق إسحاق المتقدمين، فينفع في إثبات المدعي.

وكذا الحال في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج:" قال لي أبو الحسن موسي (عليه السلام): مالك لا تدخل مع علي في شراء الطعام ؟ إني أظنك ضيقاً. قال: قلت: نعم، فإن شئت وسعت علي. قال: اشتره "(4) واحتمال كون الطعام فيه غير طعام الخراج والمقاسمة والزكاة. بعيد جداً، لأن ذلك هو الطعام الشايع الذي هو مورد الابتلاء من طعام السلطان.

وحمله علي طعام غير السلطان أبعد، إذ لا منشأ للتوقف والاستئذان في غيره. ولاسيما مع ظهور فهم الشيخ له ذلك، حيث ساق الحديث في مساق عمل السلطان والتعامل معه، إذ من القريب احتفاف الحديث بما يصلح قرينة علي الحمل المذكور، ولو كان هو شيوع ذلك في العصور السابقة.

نعم لا ظهور له في عموم الإذن لكل أحد، بل لخصوص عبد الرحمن. بل توقف عبد الرحمن في الشراء من دون إذن خاص من الإمام الكاظم (عليه السلام) لا يناسب ظهور المفروغية عن جواز الشراء في صحيح أبي عبيدة من عهد الإمام الباقر (عليه السلام)، وظهور جملة من النصوص في الجواز من عهد الصادقين (عليهما السلام).

اللهم إلا أن يكون ظهور المفاهيم الشيعية والتأكيد عليها من قبل الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم)، وبلورتها نتيجة توسع الوجود الشيعي وامتيازه

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 1.

ص: 344

بفقهه وتعاليمه، أوجب حدوث الشبهة لخاصتهم كالراوي، فأراد الإمام (عليه السلام) بذلك رفع الشبهة وتنبيهه للجواز. نعم لا ريب في عدم نهوضه بالاستدلال علي العموم.

وأشكل من ذلك الاستدلال بصحيح جميل بن صالح:" أرادوا بيع تمر عين أبي بن زياد، فأردت أن اشتريه، فقلت: حتي استأذن أبا عبدالله (عليه السلام)، فأمرت مصادفاً فسأله، فقال له: قل له فليشره، فإنه إن لم يشتره اشتراه غيره"(1). لأن المتيقن منه الأذن الشخصي، ولعله لكون العين ملكاً شخصياً للإمام قد غصب منه، كما قد يناسبه مرسل يونس أو غيره عن أبي عبدالله (عليه السلام): "قلت له: جعلت فداك بلغني أنك كنت تفعل في غلة عين زياد شيئاً، وأحب أن أسمعه منك..."(2). بل هو الذي صرح به الطبري(3) وأبو الفرج الاصفهاني(4) عند التعرض لمقتل محمد بن عبدالله بن الحسن.

هذا والنصوص المتقدمة - كما تري - مختصة بالشراء. وربما يتعدي عنه لكل معاوضة، لفهم عدم الخصوصية. نعم لا مجال للتعدي للأخذ المجاني. ولاسيما مع ما أشرنا إليه آنفاً من التعدي به غالباً علي بيت المال وعلي المسلمين الذين يملكونه.

لكن ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن وصف المال المأخوذ في صحيح أبي عبيدة بالحلية يقتضي عموم الترخيص لجميع أنحاء الانتقال.

وهو كما تري.. أولاً: أن مراده (قدس سره) بالحلية إن كان هو حلية المال في حق السلطان، بحيث يكون كأمواله التي له أن يتصرف فيها كيف يشاء، فلا إشكال في عدم ثبوت الحلية في حقه، بل هو معتد في الاستيلاء علي المال، فضلاً عن التصرف فيه. ولو ثبتت في حقه - كما في الولي الشرعي - لكانت مقصورة علي التصرفات الملائمة لمصلحة عموم المسلمين، دون التصرفات المجحفة بهم، كما هو حال كثير من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 53 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1. ورواه في الكافي ج: 5 ص: 229 إلا أن فيه:" عين أبي زياد [عين ابن زياد] "،وفي التهذيب ج: 6 ص: 375 إلا أن فيه:" عين أبي زياد ".

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 18 من أبواب زكاة الغلات ح: 2.

(3) تاريخ الأمم والملوك ج: 6 ص: 205، 225 مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة: 1358 ه -- 1939 م.

(4) مقاتل الطالبين ص: 184 طبعة النجف الثانية سنة 1385 ه - 1965 م.

ص: 345

تصرفات حكام الجور، ومنها دفعهم المال مجاناً.

وإن كان مراده بالحلية حلية المال في حق السائل مع قطع النظر عن شرائه، فالظاهر عدم ثبوت الحلية في حقه بالنحو المذكور، ولذا ليس له سرقة المال من السلطان، ولا أخذ أكثر مما اشتراه.

وثانياً: لأن الصحيح لم يتضمن وصف المال بالحلية. بل ظاهر قوله (عليه السلام):" لا بأس حتي تعرف الحرام بعينه "جواز شراء ما لم يعلم حرمته، والمراد من حرمته حرمته من حيثية كونه مغصوباً ومأخوذاً ممن ليس عليه حق، ومقتضي ذلك جواز شراء ما يؤخذ ممن عليه الحق استيفاء لحقه، ولا ظهور له في جواز غير الشراء إلا بفهم عدم الخصوصية الذي سبق قصوره عن الأخذ المجاني. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من قصور النصوص المذكورة عن الأخذ المجاني.

اللهم إلا يقال: مقتضي إطلاق النصوص هو العموم للشراء المحاباتي، بل لعل ذلك هو الغالب في شراء الناس من السلطان، ولا مجال لحمل إطلاقها علي صورة عدم المحاباة. وذلك يناسب إلغاء خصوصية الشراء والتعدي للأخذ المجاني، لعدم الفرق بينهما في كون التصرف إجحافاً ببيت المال وتعدياً علي المسلمين. لكن في كفاية ذلك في التعدي للأخذ وفهم عدم خصوصية الشراء من النصوص إشكال. ولاسيما وأن المحاباة لو تمت فهي بمرتبة خاصة تستلزم نزول قيمة ما يؤخذ من السلطان نوعاً. فلاحظ.

ومنها: معتبر أبي بكر الحضرمي:" دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه، فقال: ما يمنع ابن أبي السمال [السماك. الشمال. خ ل] أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، ويعطيهم ما يعطي الناس. ثم قال لي: لمَ تركت عطاءك ؟ قال: مخافة علي ديني. قال: ما منع ابن أبي السمال [السماك. الشمال. خ ل] أن يبعث إليك بعطائك ؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيباً؟"(1). لظهوره في جواز أخذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 346

شباب الشيعة من بيت المال في مقابل ما يقومون به من عمل، وأخذ الراوي منه بعنوان العطاء.

وأما ما عن الأردبيلي من أن ما في بيت المال قد يكون من أموال تنطبق علي الآخذ بوصية أو نذر، ولا يتعين كونه من الأموال العامة. فهو كما تري، ضرورة أن المعلوم من حال بيت المال هو اجتماع الأموال العامة فيه، وهي التي تدفع عطاء، أو في مقابل عمل للسلطان. ومتي كان بيت المال من الأموال الخاصة مثل النذور والوصايا؟! فضلاً عن أن يدفع منها العطاء وما يكون في مقابل العمل للسلطان.

ومنها: نصوص تقبل الأرض من السلطان واستغلال أرض الخراج، كصحيح الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان"(1) ، وصحيح داود بن سرحان عنه (عليه السلام):" في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم، وربما زاد وربما نقص، فيدفعها إلي رجل علي أن يكفيه خراجها ويعطيه مائتي درهم في السنة. قال: لا بأس"(2) ، وغيرهما. حيث تدل هذه النصوص علي نفوذ التعامل مع السلطان علي الأرض، وفراغ الذمة من خراج الأرض بدفعه للسلطان، لعدم التنبيه فيها إلي لزوم دفع خراج آخر للإمام أو غيره.

ومنها: نصوص تقبل الخراج والجزية، كصحيح إسماعيل بن الفضل عنه (عليه السلام): "سألته عن الرجل يتقبل خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد والسمك والطير، وهو لا يدري لعل هذا لا يكون أبداً أو يكون، أيشتريه ؟ أو في أي زمان يشتريه يتقبل منه ؟ فقال: إذا علمت أن من ذلك شيئاً واحداًَ قد أدرك فاشتره وتقبل به"(3). وقريب منه موثقه المروي عن الكافي والتهذيب(4). ومثله ما في صحيح الحلبي المتقدم من تقبل أهل أرض الخراج. إذ الظاهر أن تقبلهم إنما يكون بتقبل جزيتهم لأنهم غالباً ذميون.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة حديث: 3، 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 17 من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة حديث: 3، 1.

(3) الفقيه ج: 3 ص: 141 باب: البيوع حديث: 62.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 4.

ص: 347

حيث تدل هذه النصوص علي جواز التعامل مع السلطان علي مال الخراج والجزية بدفع شيء للسلطان في مقابل أخذ الجزية والخراج من أربابه، وذلك مستلزم لنفوذ تصرف السلطان بحيث يستحق المتقبل منه بسببه أخذ الخراج والجزية ممن يستحقان عليه.

ومنها: النصوص الكثيرة المتضمنة لحل جوائز السلطان، كصحيح محمد بن عيسي عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: لا بأس بجوائز السلطان"(1) ، وحديث محمد بن مسلم وزرارة: "سمعناه يقول: جوائز العمال ليس بها بأس"(2) ، وصحيح أبي ولاد:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ما تري في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم، وأنا أمر به فأنزل عليه، فيضيفني ويحسن إلي، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة، وقد ضاق صدري من ذلك. فقال لي: كل، وخذ منه، فلك المهنأ [الحظ] وعليه الوزر"(3) ، وصحيح أبي المغرا: "سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده. فقال: أصلحك الله أمر بالعامل فيجزني بالدراهم آخذها؟ قال: نعم. قلت: وأحج بها؟ قال: نعم [وحج بها. فقيه]" (4) وغيرها.

ودعوي: أن الحل في النصوص قد يكون ظاهرياً، لاحتمال ملكية المجيز لما يدفعه، لاكتسابه له بوجه محلل ولو باقتراضه، لحجية يده علي الملكية مع الاحتمال المذكور.

مدفوعة بأن الظاهر من حال السائل أن السؤال بلحاظ الحرمة الواقعية بسبب عدوانه علي ما تحت يده من الأموال العامة، فينصرف الجواب إلي بيان عدم الحرمة من هذه الجهة واقعاً لا ظاهراً بلحاظ احتمال الملكية. بل هو المتعين بلحاظ قوله (عليه السلام) في صحيح أبي ولاد: "فلك المهنأ [الحظ] وعليه الوزر" ،لظهور أن الوزر واقعي بلحاظ عدوانه علي المال وعدم سلطنته عليه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 16، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 12 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 1، 2.

ص: 348

بلا فرق بين الخراج - وهو ضريبة النقد - والمقاسمة، وهي ضريبة السهم من النصف والعشر ونحوهما (1).

---------------

ولا أقل من كون ذلك مقتضي إطلاق النصوص المذكورة، لأن حملها علي الحلية الظاهرية مستلزم لتقييدها بصورة احتمال ملكية المجيز للجائزة. ولاسيما مع شيوع صورة فقد الاحتمال المذكور، خصوصاً في الجوائز العظام، حيث يبعد جداً التقييد المذكور حينئذٍ.

هذا ومقتضي هذه النصوص جواز الأخذ المجاني من السلطان والعمال. وبه يتم ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - ويقتضيه إطلاق الأصحاب - من العموم.

لكن استشكل في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) بأن نصوص جوائز السلطان قد وردت في أشخاص خاصين، وربما كانوا ذوي حصص في بيت المال، ولا مجال معه للبناء علي جواز أخذها لمن لا حق له فيه.

وهو كما تري، فإن بعض تلك النصوص تام الإطلاق، كصحيح محمد بن عيسي وحديث محمد بن مسلم وزرارة. بل حتي مثل صحيح أبي ولاد وأبي المغرا، لأنهما لم يتضمنا الترخيص في جائزة خاصة بنحو القضية الخارجية، ليحتمل كون المخاطب مستحقاً في بيت المال بقدرها أو أكثر منها، بل بنحو الإطلاق والقضية الحقيقة، ومقتضي الإطلاق المذكور حلّ الجائزة وإن لم يكن المخاطب مستحقاً لشيء، أو كانت أكثر مما يستحقه.

ولاسيما مع تعقيب ذلك في صحيح أبي ولاد بأن لك المهنأ وعليه الوزر. إذ لو كان المفروض عدم تعدي الجائزة عن مقدار الحق لكان المناسب التعليل بأنك قد أخذت حقك، كما تقدم في معتبر أبي بكر الحضرمي. ومن ثم لا ينبغي التأمل في جواز الأخذ المجاني وإن لم يكن الآخذ مستحقاً لما أخذ، أو لم يحرز استحقاقه له.

(1) يعني من نفس الغلة. لإطلاق نصوص جوائز السلطان، لما هو المعلوم من

ص: 349

وكذا المأخوذ بعنوان الزكاة (1). والظاهر براءة ذمة المالك بالدفع إليه (2).

---------------

عدم تقيد السلطان بشيء. مضافاً إلي نصوص تقبل الأرض والخراج، حيث تدل علي نفوذ تصرف السلطان في الخراج وفيما يقابل حق المسلمين في الأرض. ونفوذ تصرفه كيف وقع. ولو فرض اختصاص بعض النصوص أمكن تعميم مفادها بفهم عدم الخصوصية عرفاً.

(1) لصراحة صحيح أبي عبيدة في ذلك. وهو مقتضي إطلاق نصوص جوائز السلطان. لما هو المعلوم من سيرة سلاطين الجور من أنهم يجيرون من الزكاة كما يجزون من غيرها.

لكن في المسالك أن للزكاة مصارف خاصة، فلا يجوز أخذها إلا مع صرفها في تلك المصارف. وفيه: أولاً: أن ظاهر النصوص وصيرورتها ملكاً للأخذ، فإن بني علي تحكيمها في الزكاة تعين البناء علي ملكيتها، كما لو أخذت من النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام (عليه السلام). وإن بني علي عدم تحكيمها تعين عدم جواز أخذ الزكاة من السلطان حتي مع صرفها في مصارفها، لعدم الولاية علي ذلك. إلا أن تستفاد عليها الولاية عليها من طريق آخر غير النصوص.

وثانياً: أن ذلك يجري في الخراج أيضاً، لأن له مصارف خاصة أيضاً. ولعله لذا قال في المسالك: "ويحتمل الجواز مطلقاً، نظراً إلي إطلاق النص والفتوي. ويجيء مثله في المقاسمة والخراج، لأن مصرفهما بيت المال، وله أرباب مخصوصة عندهم أيضاً".

وكان علي سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره أن يذكروا الجزية، التي هي مورد بعض النصوص المتقدمة، وتدخل في نصوص جوائز السلطان.

(2) كما نفي الخلاف فيه في الجواهر في الخراج والمقاسمة. ويظهر من المسالك في كلامه الآتي في الزكاة المفروغية عنه. لكن قد يظهر الخلاف فيه من شيخنا الأعظم (قدس سره)، حيث قال: "فما يأخذه الجائر باق علي ملك المأخوذ منه، ومع ذلك يجوز قبضه

ص: 350

عن الجائر" .فإن بقاءه علي ملك صاحبه لا يناسب براءة ذمته من الحق الثابت عليه، والذي أخذ السلطان المال وفاء عنه.

إلا أن يدعي أن المال وإن بقي علي ملك المأخوذ منه، إلا أن الشارع أسقط عنه الحق تخفيفاً بسبب أخذ السلطان المال منه، لا لكون المال المأخوذ وفاء عن الحق.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في براءة ذمته من الخراج والمقاسمة بسبب أخذ المال، لما هو المعلوم من قيام السيرة علي عدم دفع الخراج والمقاسمة مرة أخري. ولعدم التنبيه علي ذلك في نصوص تقبل الأرض مع كونه مغفولاً عنه. بل مقتضي ما ورد في تقبل الخراج والجزية انتقالها للمتقبل، لأن ذلك هو مقتضي القبالة التي يظهر من النص إمضاؤها.

وكذا الحال في ذيل صحيح أبي عبيدة المتضمن جواز شراء ما يعزله القاسم بكيل، بناءً علي أن المراد بالقاسم من يأخذ مال المقاسمة علي أرض الخراج فإن شراءه يناسب تعينه لما عين له وخروجه عن ملك صاحبه. وأما احتمال كون الشراء صورياً، وحقيقته استنقاذ المالك لماله. فهو مخالف للظاهر جداً. ولاسيما مع التقييد فيه بما إذا عزله بكيل، لوضوح أن الاستنقاذ ليس مشروطاً بشيء.

أما لو كان المراد بالقاسم عامل الزكاة إذا قسم حصة الزكاة وعزلها، فهو وإن كان خارجاً عن موضوع الكلام، إلا أنه يمكن استفادة ما نحن فيه بفهم عدم الخصوصية أو بعدم الفصل.

ومن ذلك يظهر إمكان الاستدلال بنصوص الشراء من العامل وشراء الطعام، بناءً علي كونها مما نحن فيه، لأن الطعام الذي عند السلطان ليس إلا من الخراج أو الزكاة.

كما يظهر ضعف ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من بقاء المال في ملك المأخوذ منه، فإنه لا يناسب نصوص تقبل الخراج والجزية وما تضمن الترخيص في الشراء.

ولأجل ذلك يتعين الإجزاء في الزكاة أيضاً، لصراحة صحيح أبي عبيدة في جواز

ص: 351

شراء صاحب الصدقة لصدقة أغنامه بعد عزلها، ومقتضي صحة شرائها خروجها عن ملك المأخوذ منه وتعينها فيما عينت له. ولا مجال لحمل الشراء علي الاستنقاذ، ولاسيما بعد اشتراطه صحته بعزل الزكاة، كما يظهر مما سبق.

هذا مضافاً إلي النصوص الكثيرة الصريحة في الإجزاء، كصحيح عيص بن القاسم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "في الزكاة. قال: ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا به، ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فإن المال لا يبقي علي هذا أن يزكيه مرتين"(1) ، وصحيح سليمان بن خالد:" سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذه السلطان، فرقّ لهم، وإنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري والله لهم، فقلت [له]: يا أبه إنهم إن سمعوا إذاً لم يزك أحد. فقال: يا بني حق أحبّ الله أن يظهره"(2) ، وصحيح الحلبي: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن صدقة المال يأخذه [يأخذها] السلطان فقال: لا آمرك أن تعيد"(3) ، وغيرها.

نعم في صحيح أبي أسامة:" قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إن هؤلاء المصدقين يأتونا ويأخذون منا الصدقة، فنعطيهم إياها أتجزي عنا؟ فقال: لا، إنما هؤلاء قوم غصبوكم، أو قال: ظلموكم أموالكم، وإنما الصدقة لأهلها"(4).

وقد حمله الشيخ (قدس سره) وغيره علي الاستحباب. وهو في محله لو كان الحكم بالإجزاء أو عدمه شرعياً، كما هو الظاهر في سائر المقامات، إذ حيث كان الحكم المذكور واحداً يتعين الجمع العرفي بين النصوص المختلفة فيه.

لكن ظاهر صحيح سليمان بن خالد المتقدم كون الحكم المذكور حكماً شخصياً للإمام (عليه السلام) بلحاظ ولايته العامة، كما هو مقتضي قوله (عليه السلام): "فرق لهم وهو يعلم..." .وحينئذٍ يمكن عدول الإمام عنه لتبدل المصلحة باختلاف الأزمنة. ومقتضي ذلك العمل علي المتأخر، وحيث لا يتيسر تعيينه في المقام، لورود جملة من نصوص الإجزاء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 4، 5، 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 4، 5، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 4، 5، 6.

ص: 352

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً، يتعين التوقف، والرجوع للقاعدة القاضية بعدم الإجزاء.

اللهم إلا أن يقال: الفقرة المذكورة في صحيح سليمان بن خالد وإن كانت ظاهرة في كون الحكم بالإجزاء شخصياً، إلا أن قوله (عليه السلام) في ذيله: "يا بني حق أحب الله أن يظهره" ظاهر في كون الحكم المذكور شرعياً ثابتاً في الواقع قد أظهر الله تعالي علي لسانه (عليه السلام).

مع أن تعليل التخفيف والإجزاء في صحيح عيص بن القاسم بأن المال لا يبقي علي هذا يزكيه مرتين يناسب بقاءه في جميع الأزمنة وحمل صحيح أبي أسامة علي الاستحباب، فإنه أولي من حمله علي ارتفاع التخفيف مع بقاء ملاكه. خصوصاً مع أن مقتضي تعليل عدم الإجزاء في صحيح أبي أسامة العموم للخراج والمقاسمة، وليس بناؤهم علي عدم الإجزاء فيهما، كما سبق. حيث يناسب ذلك حمل الحكم علي الاستحباب بلحاظ العنوان الأولي. ومن ثم لا معدل عما ذكره الشيخ (قدس سره) من حمل الصحيح علي الاستحباب.

هذا ولكن احتمل في جامع المقاصد عدم الإجزاء في الزكاة، بل قواه في المسالك. قال: "وهل تبرأ ذمة المالك من إخراج الزكاة مرة أخري ؟ يحتمله، كما في الخراج والمقاسمة، مع أن حق الأرض واجب لمستحق مخصوص... وعدمه، لأن الجائر ليس نائب المستحقين، فيتعذر النية، ولا يصح الإخراج بدونها... والأقوي عدم الاجتزاء بذلك".

وهو كما تري، فإن تعذر النية لا ينافي الإجزاء، ضرورة إمكان الاجتزاء بفاقد الشرط عن الواجب تخفيفاً. مع أنه لا يعتبر النية حين تسليم الزكاة للمستحق، بل يكفي النية حين عزلها، وهو حاصل في المقام عند تسليمها للجائر. وكيف كان فلا مجال لرد النصوص المتقدمة بذلك، بل هو يبتني إما علي الغفلة عن تلك النصوص، أو الاجتهاد في مقابلها.

ص: 353

هذا وفي صحيح محمد بن مسلم: "سألته عن الرجل يتكاري الأرض من السلطان بالثلث أو النصف هل عليه في حصته زكاة ؟ قال: لا..."(1) ، وفي صحيح رفاعة بن موسي عن أبي عبدالله (عليه السلام):" سألته عن الرجل يرث الأرض أو يشتريها، فيؤدي خراجها إلي السلطان هل عليه فيها عشر؟ قال: لا"(2) ، وفي خبر أبي كهمس عنه (عليه السلام): "قال: من أخذ منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه"(3) ، وفي خبر سهل بن اليسع:" أنه حيث أنشأ سهل آباد وسأل أبا الحسن موسي (عليه السلام) عما يخرج منها ما عليه ؟ فقال: إن كان السلطان يأخذ خراجه فليس عليك شيء، وإن لم يأخذ السلطان منها شيئاً فعليك إخراج عشر ما يكون فيها"(4). وربما يستفاد ذلك من غيرها. ومقتضي هذه النصوص إجزاء الخراج عن الزكاة.

وهو لا يخلو عن غرابة، لأن الخراج ليس من سنخ الزكاة، ليتناسب مع كونه مجزياً عنها. بل هو حق آخر ثابت معها، وذلك يناسب وجوب إخراجهما معاً وعدم إجزاء أحدهما عن الآخر.

نعم في مرسل ابن بكير عن أحدهما (عليه السلام): "قال في زكاة الأرض إذا قبلها النبي أو الإمام بالنصف أو الثلث أو الربع فزكاتها عليه. وليس علي المتقبل زكاة. إلا أن يشترط صاحب الأرض أن الزكاة علي المتقبل، فإن اشترط فإن الزكاة عليهم. وليس علي أهل الأرض اليوم زكاة، إلا من كان في يده شيء مما أقطعه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم"(5). ومقتضاه أن سقوط الزكاة في الأرض الخراجية ليس لإجزاء الخراج عنها. كما يظهر من بعض النصوص السابقة، ليتأتي ما سبق في وجه غرابته، بل لأن الزكاة يتحملها صاحب الأرض.

فالعمدة في الإشكال في هذه النصوص أنها معارضة بالنصوص المتضمنة ثبوت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 10 من أبواب زكاة الغلات حديث: 2، 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 10 من أبواب زكاة الغلات حديث: 2، 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 10 من أبواب زكاة الغلات حديث: 2، 3، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 4.

ص: 354

الزكاة في حصة المزارع، كصحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" أنهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما تري فيها؟. فقال: كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك مما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه، وليس علي جميع ما أخرج الله منها العشر، إنما العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك"(1) ، ونحوه صحيح البزنطي(2) ، وخبر صفوان والبزنطي(3).

وقد جمع الشيخ (قدس سره) بين الطائفتين بحمل الأولي علي نفي الزكاة في تمام حاصل الأرض حتي ما أخذه السلطان، مع ثبوتها في حصة الزارع التي تبقي له بعد أخذ السلطان حصته. لكن هذا إن أمكن عرفاً في خبر أبي كهمس فهو لا يمكن بالباقي، خصوصاً صحيح محمد بن مسلم، كما هو ظاهر. ومن ثم يكون مقتضي الجمع العرفي بينهما حمل الطائفة الثانية علي الاستحباب.

لكن ذلك موقوف علي حجية الطائفة الأولي في نفسها. ولا مجال له بعد ظهور تسالم الأصحاب علي عدم سقوط الزكاة بدفع الخراج، فقد ادعي في الخلاف والمعتبر والتذكرة ومحكي المنتهي الإجماع علي وجوب الزكاة في حصة المزارع بعد دفع حصة السلطان، معتضداً بما في الجواهر ناسباً له إلي غير واحد من عدم وجدان الخلاف في ذلك، وما في مفتاح الكرامة من أن المسألة إجماعية، وما في الرياض من أن ظاهر الأصحاب الإطباق علي ردّ هذه الأخبار. ولم ينقل القول بسقوط الزكاة مع الخراج إلا عن أبي حنيفة.

قال في الحدائق بعد أن أطال الكلام حول هذه النصوص: "وكيف كان فحيث كانت الأخبار المتقدمة مما أعرض عن العمل به كافة الأصحاب قديماً وحديثاً، مع معارضتها بالأخبار المتقدمة في المقام السابع، وكونها علي خلاف الاحتياط، فلابد من تأويلها، أو طرحها وإرجاعها إلي قائلها. والأظهر هو حملها علي التقية، فإنه مذهب أبي حنيفة...".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1، 3، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1، 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1، 3، 2.

ص: 355

بل الظاهر أنه لو لم تأخذه الحكومة وحولت شخصاً علي المالك في أخذه منه جاز للمحول أخذه (1).

---------------

فإن أوجب ذلك اليقين بورودها للتقية فهو، وإلا فلا أقل من كونها مورداً للريب بنحو تسقط عن الاستدلال، ويرد علمها إليهم (صلوات الله عليهم)، من دون أن تمنع من العمل بالنصوص الأخيرة المعتبرة سنداً، الواضحة دلالة، المطابقة للاعتبار، المعول عليها بين الأصحاب (رضوان الله عليهم). والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

(1) كما في الدروس والمسالك وعن التنقيح، بل قد يظهر من المسالك أن المراد من أخذ الجائر لها في كلامهم ما يعم ذلك. ولعله لذا نفي الخلاف فيه في الجواهر ومحكي الحدائق، وادعي الإجماع عليه في جامع المقاصد، وفي الرياض أنه الذي ذكره الأصحاب من غير خلاف يظهر.

لكن في مفتاح الكرامة أنه الذي فهمه الأكثر. وكأنه لما نسبه للمحكي عن شرح النافع للسيد عميد الدين من قوله: "إنما يحل ذلك بعد قبض السلطان أو نائبه. ولهذا قال المصنف بأخذه".

وكيف كان فيقتضيه نصوص تقبل الجزية والخراج المتقدمة، كصحيح إسماعيل ابن الفضل، لصراحتها في جواز التعامل مع السلطان علي الخراج قبل قبضه له، بحيث يستحق المتقبل بسبب القبالة أخذه ممن هو عليه.

وأما بقية النصوص فلا يخلو التمسك بها عن إشكال. أما نصوص الشراء فهي مختصة أو منصرفة إلي شراء الشيء الشخصي الذي هو من عند السلطان والعمال وفي قبضتهم، ولاسيما مع عدم ورودها في مقام بيان نفوذ تصرف السلطان والعامل، ليتم لها ظهور في الإطلاق، بل في مقام البيان من جهة أخري، كعدم مانعية ظلم العامل من الشراء منه. وكذا معتبر أبي بكر الحضرمي، كما هو ظاهر.

ص: 356

وأما نصوص تقبل أرض الخراج فهي إنما تدل علي نفوذ تصرف السلطان في الخراج قبل قبضه بتعين مقداره، لا بتمليكه بنحو يجوز لمن ملكه من السلطان أن يأخذه ممن عليه الخراج قبل قبض السلطان له الذي هو محل الكلام.

وأما نصوص حلّ جوائز السلطان والعامل، فلقرب انصرافها إلي خصوص ما يدفعه مما هو عنده - كما هو مورد غير واحد منها - دون ما لم يقبضه. ولاسيما وأن مقتضي نفوذ التحويل وجوب الدفع علي المحول عليه، ونصوص حلّ الجوائز واردة لبيان جواز الأخذ لا غير.

ومن ذلك يظهر الإشكال في نفوذ التحويل المجاني. لاختصاص نصوص تقبل الخراج والجزية بشراء حصة السلطان منه وتحويله بها علي من هي عليه. وإلغاء خصوصية ذلك بنحو يفهم منه العموم للتحويل المجاني لا يخلو عن إشكال. بل إلحاق المحول المجاني بالمتقبل في جواز الأخذ ليس بأولي من إلحاقه بعمال السلطان في عدم جوازه.

هذا وقد تقدم في صحيح أبي عبيدة اشتراط جواز شراء أغنام الصدقة من المصدق بأخذه لها وعزلها، ومقتضي مفهوم الشرطية المذكورة عدم جواز الشراء قبل ذلك، فينافي ما سبق.

وقد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بوجهين:

الأول: أن اعتبار الأخذ في الصحيح إنما هو من أجل أن يصير العامل صاحب يد علي الصدقة ويحرز سلطنته عليها، لينفذ تصرفه فيها. أما بدونه فلا طريق لإحراز سلطنته علي البيع، ولا يكفي احتمال إذن السلطان في البيع.

ولا مجال للتمسك بقاعدة الصحة في البيع الصادر منه، إما لاختصاص قاعدة الصحة بما إذا شك في تحقق شرائط صحة العقد، دون شرائط العوضين - كما ذكره (قدس سره)

أو لما هو الظاهر من قصورها عن صورة الشك في سلطنة العاقد.

وفيه: أنه لا شاهد علي ما ذكره من كون الشرطية من أجل إحراز سلطنة العامل

ص: 357

علي البيع، بل مقتضي الإطلاق كون الأخذ والعزل شرطاً واقعاً لجواز البيع حتي مع إحراز سلطنة العامل عليه، لإذن السلطان له فيه.

الثاني: أن الصدقات لا تتعين بأمر الجائر بعزلها ودفعها له، فإذا اشتراها المالك قبل أخذ الجائر لها تعين بطلان البيع، لأنه اشتري مال نفسه.

وهو لا يخلو عن غموض، فإن الصدقات كغيرها من الحقوق العامة الثابتة في أموال الناس وذممهم - كالخراج والمقاسمة وغيرهما - لا تتعين بأمر الجائر بعزلها، ولا بأخذه لها، بل ولا بأخذ العامل المنصوب من قبل الإمام الحق، وإنما تتعين باتفاق المالك مع من ينفذ تصرفه في الحق - كالجائر وغيره - علي تعيينها في عين خاصة. بل الزكاة أهون من غيرها، لأنه يكفي في تعينها عزل المالك وحده له.

لكن المراد بشرائها قبل أخذ الجائز لها ليس هو شراءها علي نحو شراء العين الشخصية، ليشكل بعد تعينها قبل الأخذ والعزل، بل شراؤها بنحو شراء الكلي، نظير تقبل الخراج، وهو لا يحتاج إلي الأخذ والعزل.

ومن ثم يشكل الخروج عن ظاهر الشرطية في الصحيح. نعم هو مختص بالزكاة، كما أن نصوص القبالة مختصة بالخراج والجزية، فيتعين العمل بكل منهما في مورده.

ودعوي: عدم الفصل بين الخراج والزكاة. غير ظاهرة بنحو تنهض بإثبات حكم شرعي والخروج عن ظاهر أدلته. ولاسيما مع ما سبق في صحيح العيص من النهي عن إعطاء الزكاة للجائر مع الإمكان، ولم يرد مثل ذلك في الخراج والمقاسمة. مضافاً إلي قرب كون مساق كلامهم عدم الفصل بينهما من حيثية السلطنة ونفوذ معاملة سلطان الجور بعد الفراغ عن مشروعية المعاملة ذاتاً.

ولعل خصوصية الزكاة في المقام من أجل عدم جواز بيعها ذاتاً بنحو بيع الكلي حتي من قبل العادل، للفرق بينها وبين الخراج في نحو ثبوتها في العين أو في الذمة. واحتمال ذلك كاف في امتناع التمسك بعدم الفصل في المقام.

ص: 358

وبرئت ذمة المحول عليه (1).

---------------

إن قلت: صحيح أبي عبيدة كما تضمن اشتراط بيع الصدقة بأخذ العامل لها تضمن أيضاً اشتراط بيع الطعام في المقاسمة التي هي من سنخ الخراج بالأخذ والقبض أيضاً كما هو مفاد الفقرة الثالثة.

قلت: مجرد التعبير في الفقرة الثالثة بالقاسم لا يصلح دليلاً علي ورودها في المقاسمة التي هي من سنخ الخراج. بل ربما يكون المراد به عامل الزكاة المتعلقة بالحنطة والشعير، كما هو الأنسب بالسياق. علي أنها لم تتضمن شرطية مجرد الأخذ والقبض في جواز البيع، بل شرطية الأخذ والقبض بكيل في جواز البيع من غير كيل، وهو أجنبي عما نحن فيه.

(1) يعني بالدفع. فإن مقتضي نصوص القبالة كون ما يأخذه المتقبل بعد القبالة خراجاً عن الأرض وإذا كان خراجاً كان مبرئاً لذمة دافعه، إذ ليس علي الأرض إلا خراج واحد. بل الظاهر عموم ذلك لغير مورد القبالة من موارد تحويل السلطان من دون استحقاق عليه، لأنه حينئذٍ كوكيل السلطان وعماله الذين لا إشكال في براءة الذمة بالدفع إليهم وإن حرم عليهم الأخذ.

بقي في المقام شيء. وهو أن المتيقن مما سبق ما إذا كان السلطان مسلماً مخالفاً ولو لأنه مورد الابتلاء في عصر صدور النصوص المتقدمة. أما إذا كان السلطان مؤمناً فقد يمنع من عموم الحكم له.

لدعوي: قصور النصوص عنه، لأنها إنما وردت بنحو القضية الخارجية، فتختص بموردها، وهو المخالف، وليست واردة بنحو القضية الحقيقية، لتعم غير موردها. وإلغاء خصوصية موردها عرفاً من حيثية أشخاص السلاطين لا يستلزم إلغاءه من حيثية كونهم مخالفين.

وفيه: أن ظاهر النصوص بيان الحكم بنحو القضية الحقيقية، كما هو الأصل

ص: 359

في جميع القضايا الشرعية. غاية الأمر أن النصوص قد تكون واردة في مقام البيان من بعض الجهات، فلا يكون لها إطلاق من غير تلك الجهة، لكن الظاهر ثبوت الإطلاق في بعض النصوص للسلطان من هذه الجهة، كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي المتقدم في قبالة الأرض: "لا بأس بأن يتقبل الأرض وأهلها من السلطان"(1) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم المتقدم عند الكلام في إجزاء الخراج عن الزكاة:" كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك مما اخرج الله منها الذي قاطعك عليه"(2).

نعم قد يدعي انصرافها للمخالف لأحد وجوه:

الأول: الغلبة. ويظهر ضعفه مما تكرر منا من عدم صلوح الغلبة بنفسها لتقييد الإطلاق، وأن الانصراف بسببها بدوي لا يعتد به.

الثاني: ابتناء الحكم في النصوص علي إمضاء معتقد السلطان في أهلية التصدي للمنصب وما يستتبعه من الولاية علي الأموال العامة، وذلك لا يتم مع كونه مؤمناً، لاعتقاده حينئذٍ بكونه ظالماً في أخذ الأموال المذكورة.

وفيه - مع عدم وضوح ابتناء الحكم في النصوص علي ذلك -: أن المراد باعتقاد الأهلية إن كان هو الاعتقاد الحقيقي المجرد فهو غير حاصل في كثير من سلاطين المخالفين، لمعرفتهم بالحق وأهلهم، وإنما خرجوا عن معتقدهم عملاً حباً للسلطنة والمنصب.

وإن كان هو ابتناء سلطنتهم علي فرض أهليتهم للمنصب وما يستتبعه. فهو حاصل في المؤمن أيضاً، إذ هو لا يتصدي للمنصب إلا بدعوي استحقاقه لذلك، إما تغافلاً عن مقتضي مذهبه، كما تغافل المتسلطون من الصدر الأول عن مقتضي التشريع الحق. وإما للبناء علي أنه المتعين لأخذ المال بعد غيبة الإمام الحق (عجل الله تعالي فرجه الشريف).

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 18 من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب زكاة الغلات حديث: 1.

ص: 360

وفي جريان الحكم المذكور في ما يأخذه السلطان المسلم المؤالف أو المخالف الذي لا يدعي الخلافة العامة (1) أو الكافر إشكال (2).

---------------

الثالث: ابتناء الحكم في النصوص علي أمضاء شبهة الاستحقاق من حيثية الاختلاف في المذهب لا مطلقاً. وفيه: أنه لا شاهد في النصوص علي ذلك. وما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن ذلك هو منظور الأصحاب. لو تم لا يصلح قرينة علي مفاد النصوص، ولا ينهض بالخروج عن مفادها.

ومن هنا يتعين البناء علي عموم الحكم للمؤمن. خصوصاً إذا ابتني أخذه للأموال العامة علي دعوي ولايته العامة نيابة عن الإمام (عليه السلام). بل لا يبعد خروج ذلك عن مورد كلام المصنف (قدس سره) وغيره ممن استشكل في عموم الحكم للمؤمن.

هذا ولا يبعد جريان ذلك في الكافر أيضاً إذا ابتني أخذه للأموال العامة علي سلطنته علي المسلمين وولايته عليهم وإدارته لأمورهم ونظره لصلاحهم مع إغفال مانعية الكفر من الولاية، أو ادعاء عدم مانعيته، لمثل أن الكافر العادل خير من المسلم الجائر أو نحوه مما قد يتسني للسلاطين إعلانه، ولو بالاستعانة بعلماء السوء. حيث لا موجب لخروجه عن الإطلاق. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك لو لم يكن معلنا كفره، بل كان متستراً به عن العامة وإن علم به الخاصة، حيث لا يبعد تحقق ذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام). ولعله خارج عن محل كلام من منع من العموم للكافر.

(1) الظاهر إلحاق دعوي الولاية العامة نيابة عن الإمام (عليه السلام) بدعوي الخلافة، عملاً بالإطلاق. بل لو قيل بثبوت الولاية المذكورة فالأمر أظهر، حيث يكون نفوذ التصرف مقتضي تلك الولاية بلا حاجة للأدلة المتقدمة.

(2) لقرب انصراف السلطان في النصوص المتقدمة وغيرها للمعهود من السلاطين الذين يبتني حكمهم علي سلطنتهم علي عموم المسلمين ولزوم حكمهم عليهم، حيث يكون لهم بمقتضي ذلك أن يأخذوا الأموال التي يملكها عموم

ص: 361

(مسألة 38): إذا دفع إنسان إلي آخر مالاً ليصرفه في طائفة من الناس، وكان المدفوع إليه منهم، فإن فهم من الدافع الإذن في الأخذ من ذلك المال جاز له أن يأخذ منه مثل أحدهم أو أكثر علي حسب الإذن (1)، وإن لم يفهم الإذن لم يجز له الأخذ منه أصلاً (2).

---------------

المسلمين وينفقونها في مصلحتهم، دون غيرهم ممن يبتني حكمه علي الاختصاص بمنطقة خاصة، فإن الأموال المذكورة لا تختص بأهل تلك المنطقة، فلا يكون أخذها من شؤون سلطنته المزعومة، بل تعدياً وغصباً.

وأظهر من ذلك ما إذا أخذ الأموال لا بعناوينها الشرعية المعهودة من خراج أو زكاة أو غيرها، بل بعناوين أخري اقتضتها القوانين الوضعية المجعولة. لخروجها حينئذٍ عن موضوع الإمضاء المستفاد من النصوص المتقدمة والسيرة.

نعم إذا لم يكن الاختصاص بمنطقة خاصة مبني لكيان السلطنة القائم، بل ناشئاً من العجز عن تعميم السلطنة فالظاهر دخوله في إطلاق نصوص الإمضاء. ولاسيما بلحاظ حصول ذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام) حيث قصرت سلطنة العباسيين عن الأندلس. غاية الأمر أنه لابد من أخذ المال بالعناوين الشرعية من زكاة أو خراج أو غيرهما، لما سبق.

(1) بلا إشكال ظاهر. لنفوذ التصرف المذكور بسبب الإذن المفروض.

(2) كما في أواخر كتاب الوكالة من المبسوط، وفي كتاب الزكاة من السرائر، ومكاسب النافع والقواعد والتذكرة وجامع المقاصد وعن التحرير وغيره.

عملاً بمقتضي القاعدة من عدم نفوذ التصرف في مال الدافع وجميع ما له الولاية عليه إلا بإذنه.

ولصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "سألته عن رجل أعطاه رجل مالاً ليقسمه في محاويج أو في مساكين وهو محتاج، أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه ؟ قال: لا يأخذ منه

ص: 362

شيئاً حتي يأذن له صاحبه"(1).

لكن صرح بجواز الأخذ بقدر ما يعطي غيره في كتاب الزكاة من المبسوط والنهاية، وفي مكاسب السرائر والشرايع والمسالك وعن غيرها. ومال إليه في الدروس ونسبه للأكثر وعن الحدائق نسبته للمشهور.

لصحيح الحسين بن عثمان عن أبي إبراهيم (عليه السلام):" في رجل أعطي ما لا يفرقه فيمن يحل له، أله أن يأخذ منه شيئاً لنفسه وإن لم يسم له ؟ قال: يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطي غيره"(2) ، وموثق سعيد بن يسار أو صحيحه: "قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يعطي الزكاة فيقسمها في أصحابه. أيأخذ منها شيئاً؟ قال: نعم"(3) ، وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يعطي الرجل الدراهم ويضعها في مواضعها وهو ممن تحل له الصدقة. قال: لا بأس أن يأخذ لنفسه كما يعطي غيره. قال: ولا يجوز له أن يأخذ إذا أمره أن يضعها في مواضع مسماة إلا بإذنه"(4).

وذكر الشيخ في الاستبصار أنه يمكن حمل صحيح عبد الرحمن الأول إما علي الكراهة، أو علي ما إذا عين له محاويج ومساكين خاصين، أو علي أخذ أكثر مما يدفعه لغيره.

لكن الأخير بعيداً جداً بعد قوله (عليه السلام): "لا يأخذ منه شيئاً" .كما يبعد الأول أن المنسبق من الجواب الإشارة إلي حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه. وهو لا يناسب الكراهة، ومن هنا كان الأقرب الثاني، فإن النكرة كثيراً ما تستعمل في المعين المجهول دون المطلق.

ودعوي: أنه مع تعين الأشخاص المدفوع إليهم يبعد اشتباه الحكم علي مثل عبد الرحمن. مدفوعة بعدم استبعاد اشتباه الحكم عليه وتخيله جواز الأخذ لتحقق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 84 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 40 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 40 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 40 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 3.

ص: 363

الملاك فيه، كما يناسبه التنبيه لعدم جواز الأخذ حينئذٍ في صحيحه الآخر، إذ لولا إمكان الاشتباه فيه لم يحتج للتنبيه عليه. وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضي الجمع العرفي تحكيم نصوص الجواز، وتنزيل صحيح عبد الرحمن الأول علي ما لا ينافيها.

هذا وقد فصل بعض مشايخنا (قدس سره) بين ما إذا كان للمال المدفوع مصرف خاص شرعاً - كالزكاة والخمس وغيرهما - وما إذا لم يكن كذلك، بل كان تعين المصرف اقتراحاً من صاحب المال. فحكم بجواز الأخذ للمدفوع له في الأول دون الثاني.

وكأن الوجه فيه اختصاص نصوص الجواز بالأول، لورود موثق سعيد في الزكاة وقوله في صحيح الحسين بن عثمان: "يفرقه فيمن يحل له" وفي صحيح عبد الرحمن: "ويضعها في مواضعها" .لظهورهما في كون المال مختصاً بطائفة خاصة ومواضع مخصوصة لا يحل لغيره.

ويكون الوجه في عدم الجواز في الثاني صحيح عبد الرحمن المانع إما لاختصاصه به، لظهور قوله: "حتي يأذن له صاحبه" في كون المال مملوكاً للدافع، وليس من سنخ الحقوق ذات المصارف الخاصة، أو للبناء علي عمومه في نفسه وتقييده بنصوص الجواز.

وإن بني علي عدم نهوضه بالاستدلال، لاحتمال كون المراد به ما إذا عين الدافع محاويج ومساكين خاصين، لما سبق من كثرة استعمال النكرة في المعين المجهول دون المطلق، كان الوجه في عدم الجواز في الثاني القاعدة المتقدمة.

لكن قد يبعد ذلك غفلة الأصحاب هذه المدة الطويلة عن التفصيل المذكور، فإن فهمهم وإن لم يكن حجة في نفسه، إلا أنه قد يكشف في المقام عن فهمهم إلغاء خصوصية موارد نصوص الجواز والمنع عرفاً، بنحو تأبي التفصيل المذكور، كما هو غير بعيد، لعدم الفرق في وجوب متابعة دافع المال في كيفية الصرف بين القسمين. وإن كان في كفاية هذا المقدار في ردّ هذا التفصيل إشكال.

ثم إنه لو بني علي جواز الأخذ مطلقاً أو في خصوص المال الذي له مصرف

ص: 364

شرعي، عملاً بنصوص الجواز المتقدمة، فاللازم الاقتصار فيه علي ما إذا لم تقم قرينة علي عدم ترخيص المدفوع له في الأخذ. لانصراف نصوص الجواز عن ذلك، وكون المتيقن منه ما إذا كان الدفع بنحو يوجب التحير والشك. ولاسيما مع التصريح في صحيح عبد الرحمن الثاني بعدم جواز الأخذ مع تعيين الدافع مواضع مسماة للمال، لأن المرتكز ابتناء ذلك علي لزوم متابعة دافع المال فيما عين، وهو يجري في محل الكلام، لأن الأخذ مع قيام القرينة علي عدم الإذن فيه خروج عن ما عينه.

نعم ليس من ذلك ما إذا كان الدافع يعتقد عدم دخول المدفوع له في العنوان الذي عينه، فإن ذلك بمجرده لا يكفي قرينة عرفاً علي عدم الإذن له بشخصه في فرض كون متصفاً به واقعاً.

وكذا إذا كان يعتقد دخوله فيه. ودعوي: أنه لو أراده حينئذٍ لخصه بشيء، فعدم تخصيصه به قرينة علي عدم رضاه بأخذه منه. مدفوعة بأن عدم تخصيصه بشيء مع علمه بدخوله في العنوان المذكور لا يدل علي عدم رضاه بأخذه، إذ قد يكون ذلك تجنباً لإحراجه، أو لإيكاله اختيار التعيين للمدفوع له لحسن ظنه باختياره.

بقي شيء. وهو أن المذكور في كلام غير واحد ممن صرح بالجوار اعتبار مساواة ما يأخذه لما يعطيه لغيره، وفي المسالك: "هكذا شرطه كل من سوغ له الأخذ" ،وعن الأردبيلي (قدس سره) نسبة عدم جواز أخذ الزيادة إلي ظاهر المجوزين. والعمدة فيه صحيحا الحسن بن عثمان وعبد الرحمن بن الحجاج.

ودعوي: أن مقتضاهما وجوب التساوي في التوزيع شرعاً، وهو مما لا يمكن البناء عليه، خصوصاً فيما إذا كان العنوان غير محصور، حيث يتعين البناء علي المصرفية التي لا تمنع من التفاضل. فلابد من تأويل الصحيحين وتنزيلهما علي ما لا ينافي ذلك.

مدفوعة بأنه إذ لا نظر في هذه النصوص لكيفية صرف المال المدفوع شرعاً، بل لكيفية صرفه من حيثية كونه مورداً لولاية دافعه ومباشر صرفه وموضوعاً لسلطنته،

ص: 365

(مسألة 39): جوائز الظالم حلال (1)،

---------------

كما لعله ظاهر.

نعم المنصرف من الصحيحين ما إذا كان البناء علي التوزيع بالتساوي، إما لأمر الدافع بذلك أو لجري المدفوع له عليه. أما مع عدم البناء علي ذلك فالصحيحان قاصران عنه. والمرجع حينئذٍ إطلاق حديث ابن يسار.

اللهم إلا أن يقال: لا يراد بالأمر بالمساواة فيهما وجوبها، بل عدم الزيادة علي ما يعطيه لغيره، وذلك ممكن مع التفاضل بينهم. فلاحظ.

(1) بلا خلاف، كما في الرياض وعن الحدائق، وفي مفتاح الكرامة أنه اتفقت عليه كلمة الأصحاب، وعن المفاتيح دعوي الإجماع عليه.

ويقتضيه النصوص الكثيرة التي تقدم بعضها عند الاستدلال لجواز أخذ الأموال العامة من السلطان في المسألة السابعة والثلاثين.

هذا وربما يدعي أنه يشترط في حلّ مال الجائر العلم بوجود مال حلال له. لمكاتبة الحميري للناحية المقدسة، وفيها: "وعن الرجل من وكلاء الوقف يكون مستحلاً لما في يده لا يرع عن أخذ ماله، ربما نزلت في قرية وهو فيها، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه، فيدعوني إليه، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه، وقال: فلان لا يستحل أن يأكل من طعامنا، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة، وكم مقدار الصدقة ؟ وإن أهدي هذه الهدية إلي رجل آخر، فاحضر فيدعوني أن أنال منها وأنا أعلم أن الوكيل لا يرع عن أخذ ما في يده فهل عليّ شيء إن أنا نلت منها؟. الجواب: إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه وأقبل بره، وإلا فلا"(1).

لظهورها في أنه يعتبر في جواز التصرف في مال من يبتلي بالحرام ولا يتورع عنه أن يكون له مال حلال، ولا يكفي احتمال حلية المال من دون ذلك. وذلك حاصل

********

(1) كتاب الغيبة ص: 822-235، الوسائل ج: 12 باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.

ص: 366

غالباً في السلطان وعماله، لتعديهم علي الناس وغصبهم أموالهم. نعم لو فرض عدم العلم بحصول ذلك منهم لكان خارجاً عن موضوع المكاتبة.

وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الاستدلال بها بأنها مرسلة. وكأنه لأن الشيخ (قدس سره) وإن رواها في كتاب الغيبة عن جماعة فيهم غير واحد من الثقات عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي الذي هو من الأعيان، إلا أن ابن داود يرويها عن الحسين بن روح من دون ذكر سنده إليه.

ويندفع بأن ابن داود لم يثبتها علي أنها رواية منقولة عن الحسين بن روح، بل قال:" وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن نوح [روح] رضي الله عنه"(1) ، وحيث يحتمل، بل يقرب استناده في ذلك لمقدمات تقرب من الحس، فاللازم تصديقه فيه وخروجه عن الإرسال.

وأظهر من ذلك ما ذكره الشيخ (قدس سره) تعقيباً علي الطريق المذكور، حيث قال: "وقال ابن نوح: أول من حدثنا بهذا التوقيع أبو الحسين محمد بن علي بن تمام، وذكر أنه كتبه من ظهر الدرج الذي عند أبي الحسن بن داود، فلما قدم أبو الحسن بن داود قرأته عليه. وذكر أن هذا الدرج بعينه كتب به أهل قم إلي الشيخ أبي القاسم، وفيه مسائل، فأجابهم علي ظهره بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي، وحصل الدرج عند أبي الحسن بن داود"(2). فإن من القريب جداً استناده في إخباره جزماً بأن الدرج المذكور بعينه الدرج الذي كتبه أهل قم، وأنه قد حصل عنده، إلي المفروغية أو نحوها مما يلحق بالحس، بنحو يخرج الخبر عن الإرسال.

ولاسيما مع أن ابن داود معاصر للحسين بن روح أو مقارب لعصره، لأنه في طبقة الصدوق المعاصر له، وأنه هو الذي قال عنه النجاشي (قدس سره):" شيخ هذه الطائفة وعالمها وشيخ القميين في وقته وفقيههم. حكي أبو عبدالله الحسين بن عبيد الله أنه لم

********

(1) كتاب الغيبة ص: 228. ص: 31 في ذكر طرق الشيخ في كتاب الغيبة.

(2) كتاب الغيبة ص: 229.

ص: 367

وإن علم إجمالاً أن في ماله حرام (1).

---------------

يرَ أحداً أحفظ منه ولا أفقه ولا أعرف بالحديث".

فالعمدة في الإشكال في المكاتبة ظهور إعراض الأصحاب عنها، وقيام السيرة علي خلافها، إذ ليس بناءً المسلمين علي التوقف عن أموال من يبتلي بالحرام إلا بعد العلم بوجود مال حلال له. ولاسيما مع عدم الإشارة للقيد المذكور في نصوص جوائز السلطان والعمال علي كثرتها، مع ما هو المعلوم من كثرة ابتلائهم بالحرام وتسامحهم فيه، لا من أجل تعديهم علي المنصب، لما هو المعلوم من ابتناء جواز التعامل مع السلطان علي إمضاء تصرفه في حق المؤمنين، بل من أجل تعديهم في المنصب وغصبهم لأموال الناس زائداً علي ما يقتضيه المنصب.

مضافاً إلي أن نماء الوقف غالباً لا يكون عين الطعام الذي يقدم للضيوف، بل ثمناً له، وحرمة الثمن لا تقتضي حرمة المثمن غالباً، لكون الشراء بالكلي في الذمة، لا بعين الثمن الحرام.

ومن هنا يتعين طرح المكاتبة، أو حملها علي الكراهة - كما احتمله في الجواهر - أو علي صورة العلم بحرمة الطعام، كما احتمله أيضاً في الجواهر وجزم به في الوسائل، ويكون اشتراطه (عليه السلام) وجود مال آخر للشخص المذكور من أجل حصول احتمال كون الطعام منه لا من الحرام، كما قد يناسبه قول السائل:" فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق... "،بلحاظ أن السؤال لو كان عن الجواز ظاهراً من أجل احتمال الحل تحكيماً لليد فلا موضوع للصدقة، وإنما يحتاج إليها في فرض كون الطعام المأكول من نفس مال الوقف الحرام، لتكون الصدقة عوضاً عنه. وكيف كان فلا مجال للخروج بالمكاتبة عن إطلاق نصوص المقام.

(1) المراد بذلك الحرام الذي يستولي عليه علي خلاف مقتضي ولايته المدعاة. أما ما يستولي عليه بمقتضي ولايته المدعاة فهو لازم للظالم، وخارج عن مراد الأصحاب في هذه المسألة، ولا يمنع من أخذ المال منه، لما سبق في المسألة السابعة والثلاثين.

ص: 368

هذا وجواز أخذ الجائزة حينئذٍ قد صرح به غير واحد. ولعله داخل في المتيقن من معقد الإجماع المتقدم، لغلبة تحقق العلم المذكور في سلاطين الجور، ولاقتصار الأصحاب علي استثناء ما إذا علم حرمته الجائزة بعينها.

وكيف كان فقد استدل عليه في المسالك بالنص. والمحتمل فيد بدواً طائفتان:

الأولي: نصوص حلّ جوائز السلطان المشار إليها آنفاً. لظهور قوله (عليه السلام) في صحيح أبي ولاد المتقدم:" فلك المهنا [الحظ] وعليه الوزر "في انقلاب الحكم في حق آخذ الجائزة، وصيرورة المال حلالاً له واقعاً، وإن كان حراماً في حق العامل الذي يدفع الجائزة، ومع انقلاب الحكم في حقه لا أثر للعلم الإجمالي.

لكن مقتضاه حينئذٍ حلّ الجائزة حتي مع العلم بحرمة الجائزة بعينها. مع أن كلمات الأصحاب صريحة في الحرمة حينئذٍ، ونفي غير واحد الإشكال فيها، كما نفي في مفتاح الكرامة والجواهر الخلاف فيها. وهو المناسب لما تقدم في المسألة السادسة والثلاثين من النصوص المتضمنة حرمة الشراء من العامل إذا عرف الحرام بعينه.

وأما احتمال انقلاب الحكم في الجائزة المجانية دون الشراء فهو بعيد جداً، بل الأولي العكس، لحفظ مالية المغصوب مع الشراء.

فلابد من حمل ذلك علي الحرمة من حيثية كسب العامل، لكونه في مقابل العمل للسلطان الذي هو محرم في نفسه، ولكونه من الأموال العامة التي يحرم علي السلطان وعماله التصرف فيها، كما هو المناسب لقوله في السؤال:" ليس له مكسب إلا من عملهم ".وحينئذٍ لا ينهض بانقلاب الحكم من حيثية الحرام المعلوم بالإجمال المفروض في المقام، كما لو علم بوجود المغصوب من الأموال الخاصة تحت يده.

نعم قد يقال: لا مجال لحمل جميع نصوص الجوائز علي صورة عدم العلم باشتمال أموال المجيز علي الحرام، لأن ذلك إن أمكن في بعض العمال فهو لا يمكن في كثير منهم، كما لا يمكن في السلطان نفسه، لما هو المعلوم من حال سلاطين الجور من تعديهم علي الرعية وأخذهم منهم بلا حق، أو أكثر من الحق الذي عليهم بمقتضي

ص: 369

سلطنتهم لو فرض شرعيتها. فهي وإن كانت مسوقة لبيان انقلاب الحكم واقعاً بلحاظ حرمة عمل السلطان والأموال العامة في حقه، إلا أنه يستفاد منها تبعاً عدم مانعية العلم الإجمالي المذكور من التصرف في الجائزة.

اللهم إلا أن يقال: إن أريد بذلك استفادة الحلية الواقعية بالإضافة للمعلوم بالإجمال وانقلاب حكمه من النصوص المذكورة تبعاً. فلا يظن منهم البناء علي ذلك، حيث لا إشكال ظاهراً في حرمة الجائزة واقعاً لو كانت في الواقع من المحرم المعلوم بالإجمال، وعدم ارتفاع حرمته الواقعية بدفع السلطان له وإجازته به.

وإن أريد بذلك استفادة الحلية الظاهرية خروجاً عن مقتضي العلم الإجمالي. فلابد من توجيهه بما يناسب القاعدة. ويأتي الكلام في ذلك.

الثانية: نصوص جواز الشراء من العمال، حيث تقدم التصريح في بعضها بجواز الشراء ما لم يعلم بالحرام بعينه.

لكنه مبني علي إلغاء خصوصية الشراء والتعدي للجائزة. وهو لا يخلو عن إشكال، لإمكان إمضاء الشارع الأقدس شراء المغصوب دون هبته، لحفظ ماليته في الشراء دون الهبة. مضافاً إلي ما سبق من تعذر حملها علي حلية المعلوم بالإجمال واقعاً، ولاسيما مع ظهورها في الحلية الظاهرية بقرينة جعل العلم بالحرمة غاية للحلّ. وحملها علي الحلية الظاهرية علي خلاف مقتضي العلم الإجمالي يحتاج للتوجيه.

هذا وقد يظهر من مفتاح الكرامة الاستدلال علي حلية الجائزة حينئذٍ بأنها مقتضي قاعدة الصحة في تصرف الجائر في المال وهبته.

لكن المراد بها إن كان هو حمل فعل المسلم علي الصحة في مقابل تعمد المعصية فهو - مع اختصاصه بالمؤمن - لا مجال له في المقام بعد العلم بكونه ظالماً معتدياً إما في دفع ما دفع أو إبقاء ما أبقاه تحت يده. مع أنه لا ينفع في نفوذ تصرفه بنحو يسوغ الأخذ منه والبناء علي ملكية المأخوذ.

وإن كان هو صحة دفعه الجائزة وهبته لها وترتب الأثر علي ذلك لواجديته

ص: 370

للشرائط. فلا مجال له، لما ذكرناه في محله - وأشرنا إليه آنفاً - من توقف جريان قاعدة الصحة في التصرف علي إحراز سلطنة المتصرف، ولا تجري مع الشك في سلطنته، ولا يحرز سلطنة الظالم علي التصرف فيما ما تحت يده إلا اليد، التي هي في المقام، مقرونة بالعلم الإجمالي بأنها عدوانية في بعض ما تحت يده.

فالعمدة في المقام: عدم منجزية العلم الإجمالي المذكور، لخروج بعض أطرافه عن الابتلاء، وهو ما بقي تحت يده، إما لتعذر التصرف فيه، أو لحرمته بعدم إذنه فيه، وذلك يكفي في سقوط منجزية العلم الإجمالي، علي ما تحقق في محله من مباحث العلم الإجمالي من الأصول.

من دون فرق في ذلك بين السلطان الجائر وغيره ممن يبتلي بالحرام، ويعلم إجمالاً باشتمال ما تحت يده عليه، سواءً كان معذوراً بجهل أو نحوه، أم لا، كالسراق ومن يزاول المعاملات المحرمة من بيع المحرمات - كالخمر والميتة - والإجارة علي الأعمال المحرمة كالملاهي. فإن العلم الإجمالي المذكور لا يمنع من التعامل معهم وقبول هبتهم ونحوهما، لما سبق.

نعم لو فرض عدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بما سبق تعين الاجتناب، كما لو وهب الظالم أو غيره أمرين يعلم إجمالاً بحرمة أحدهما وغصبيته، أو رخص في المبيت بإحدي الدارين المعلوم غصبية إحداهما، أو في أخذ أحد الكيسين المعلوم غصبية أحدهما. من دون فرق في ذلك بين السلطان الجائر وعماله وغيرهم.

لكن قد يدعي خصوصية السلطان وعماله في الحلّ حتي مع العلم الإجمالي المنجز لوجهين:

الأول: موثق سماعة:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أصاب مالاً من عمل بني أمية، وهو يتصدق منه ويصل منه قرابته، ويحج ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة، وإن الحسنة تحط الخطيئة، ثم قال: إن كان خلط الحرام حلالاً فاختلطا جميعاً، فلم يعرف

ص: 371

وكذا كل ما كان في يده يجوز أخذه منه (1) بإذنه (2)،

---------------

الحرام من الحلال فلا بأس"(1).

ويشكل بأن مقتضي الموثق حلية المال في حق العامل نفسه واقعاً، ولا يظن منهم البناء علي ذلك. علي أنه مختص بما اكتسبه من العمل، الذي يحرم تبعاً لحرمة العمل وعدم ولاية الجائر، ولا يشمل المال المأخوذ ظلماً خارجاً عن مقتضي العمل الذي هو محل الكلام.

كما لا يبعد ظهوره في سبق العمل وطلب التوبة والمخرج منه، وحينئذٍ يمكن البناء علي حلّ المال بالتوبة بشرط الاختلاط، نظير ما ورد في الربا(2) ، وتمام الكلام في محله. والمهم أنه لا ينفع في ما نحن فيه.

الثاني: التقييد في بعض نصوص الشراء المتقدمة بالعلم بحرمة المال بعينه، وهو ظاهر في الحلية الظاهرية في ظرف عدم العلم.

لكنه كالتقييد بذلك في جملة من نصوص قاعدة الحلّ غير المختصة بالجائر لابد من تنزيله علي صورة عدم منجزية العلم الإجمالي، لوجود المانع منها مما ذكرناه سابقاً أو غيره. ولا مجال له مع منجزيته، كيف ولازمه جواز المخالفة القطعية إجمالاً، ولا إشكال في امتناع ذلك، كما حقق في محله من الأصول.

(1) لحجية يده علي تملكه، أو ثبوت الولاية له عليه في فرض عدم منجزية العلم الإجمالي.

(2) أما بدون إذنه فلا يجوز إذا احتمل كون المال ملكاً له أو تحت ولايته شرعاً، لأن مقتضي يده عليه كون السلطنة عليه تابعة له وموقوفة علي إذنه.

وأما إذا كان المال من الأموال العامة فلأنه وإن لم تكن له الولاية عليه شرعاً،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب الربا.

ص: 372

إلا أن يعلم (1) أنه غصب (2).

---------------

إلا أن مقتضي احترام المال الاقتصار في جواز التصرف فيه علي المتيقن، وهو صورة إذن الجائر، لما سبق في المسألة السابعة والثلاثين من جواز أخذ الأموال المذكورة بإذنه.

نعم بناءً علي ثبوت ولاية الحاكم الشرعي علي المال المذكور - إما لعموم ولايته، أو من باب ولاية الحسبة - يتعين جواز أخذه بإذنه وإن لم يأذن الجائر. والكلام في ذلك موكول إلي مقام آخر.

(1) ولو إجمالاً بوجه منجز، كما يظهر من ما سبق.

(2) يعني ممن هو محترم المال. ولا إشكال حينئذٍ في حرمة أخذه في الجملة. لمنافاته لسلطنة صاحب المال علي ماله، فيكون تعدياً عليه. ولما تضمن حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه وطيب نفسه، كالتوقيع المروي بطريق معتبر: "وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا: هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما يفضل من دخلها إلي الناحية احتساباً للأجر وتقريباً إليكم، فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحل ذلك في مالنا؟!..."(1) ، وصحيح زيد الشحام عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث:" ان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: من كانت عنده أمانة فليؤدها إلي من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه"(2). ونحوه موثق سماعة(3) وغيره.

نعم قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "وإن أخذه بنية الردّ كان حسناً، وكان في يده أمانة شرعية" .ومقتضاه استحباب الأخذ حينئذٍ، لاستحباب الإحسان.

لكن إن كان المراد بذلك أنه ناوٍ للإحسان وقاصد له فهو مسلم في الجملة. إلا أن ذلك وحده لا يقتضي الخروج عن عموم حرمة المال، ولا يجعل المال أمانة شرعية،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص في النفس حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1.

ص: 373

ليخرج به عن عموم الضمان، كما هو ظاهر. ويناسبه ما سبق في التوقيع الشريف، فإن مفروض السؤال فيه نية الإحسان.

وإن كان المراد بذلك أنه محسن حقيقة فهو غاية المنع، إذ الإحسان إنما يكون بالرد الذي قد يترتب علي الأخذ ويكون متأخراً عنه. علي أن عموم حسن الإحسان لا ينهض بتخصيص عموم حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه بعد كون الإحسان عنوناً ثانوياً للفعل، حيث يكون المورد من صغريات التزاحم الذي يتعين معه ترجيح الحكم الإلزامي علي غيره، وهو الحرمة في المقام، نظير ما تقدم عند الكلام في جواز الكذب للإصلاح. كما يناسبه أيضاً ما تقدم في التوقيع الشريف. بل لو فرض عدم رضا صاحب المال بالتوسط في إرجاع ماله إليه، لغرض ما، خرج عن الإحسان موضوعاً.

هذا وما ذكره من أنه مع الإحسان يكون المال في يده أمانة شرعية هو المناسب لما في التذكرة. قال في أول الفصل الثاني من الوديعة: "يشترط في المستودع والمودع التكليف... فلو أودع الصبي أو المجنون غيره شيئاً لم يجز له قبوله منهما... ولو خاف هلاكه فأخذه منهما لهما، نظراً في مصلحتهما علي وجه الحسبة صوناً له، فالأقرب عدم الضمان، لأنه محسن إليهما، وقد قال الله تعالي: (مَا عَلَي المُحسِنِينَ مِن سَبِيلٍ)". وقريب منه ما في جامع المقاصد.

لكن سياق الآية الشريفة شاهد بأنها أجنبية عما ذكره، وظاهرة في نفي الحرج والمؤاخذة علي من أدي مقدوره وإن كان دون الواجب. قال تعالي: (لَيسَ عَلَي الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَي المَرضَي وَلاَ عَلَي الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَي المُحسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ... إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَي الَّذِينَ يَستَأذِنُونَكَ وَهُم أَغنِيَاءُ...)(1).

بل ذكر في الجواهر في المسألة المذكورة أن نفي السبيل علي المحسن إنما هو

********

(1) سورة التوبة آية: 91، 93.

ص: 374

بالنسبة إلي ما فعله من الإحسان، فليس له الاعتراض عليه في ذلك. وإن كان هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، وظاهرها ما ذكرنا.

وكيف كان فقد قرب في الجواهر أن الحسبة والإحسان يجوزان الإقدام علي أخذ ملك الغير، ولا يرفعان الضمان الذي هو من سنخ الحكم الوضعي، وليس من سنخ العقوبة.

لكنه قد يشكل بأنه لا إطلاق لضمان اليد، فإن النبوي المشهور: "علي اليد ما أخذت حتي تؤديه" لم يرو من طرقنا، وإنما هو عامي رواه الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم)(1). نعم روي في عوالي اللآلي مرسلاً. والظاهر أنه مأخوذ منهم.

ولم يتضح اعتماد قدماء الأصحاب عليه بعد عدم ذكره في كتب الحديث عندهم. غاية الأمر أنه ذكر في بعض كتب الفقه التي تتعرض لأخبار العامة مجاراة لهم عند التعرض لأقوالهم وأدلتهم، أو لموافقتها للمرتكزات الشرعية أو العقلائية أو غيرها من الأدلة وتأييدها لها. ولو فرض استدلال بعضهم به فلعله غفلة عن حاله بسبب مطابقته للمرتكزات أو نحوها. وإلا فمن البعيد جداً إطلاع الأصحاب علي قرائن لوجب الوثوق بالصدور مع مثل هذا السند المثبت في كتب العامة. ويأتي بعض الكلام في الحديث في المسألة الثالثة عشرة من فصل شروط العقد.

ولو فرض نهوض الحديث بالاستدلال فمن القريب اختصاصه بالأخذ بغير حق، لا لما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من اعتبار التعدي في مفهوم الأخذ، إذ لا إشكال في عمومه عرفاً لصورة الأخذ بحق، بل لانصراف الحديث تبعاً للمرتكزات العقلائية للمأخوذ بغير حق.

وإلا فمن البعيد جداً عمومه، مع وضوح عدم الضمان في الأمانات - كالوديعة والعارية ومال المضاربة - ومثل العين المستأجرة والمرهونة وغيرهما، مما يؤخذ بحق

********

(1) سنن البيهقي ج: 6 ص: 90 من أبواب كتاب العارية، وكنز العمال ج: 5 ص: 257.

ص: 375

وإن لم ينو المالك تسليمه عند إجراء العقد، ومثل ما يؤخذ من دون إذن المالك مع إحراز رضاه وطيب نفسه لو علم بأخذه، وما يقع في اليد تبعاً لليد المستأمنة، كودائع الميت في حق ورثته ونحوهم ممن يستولي علي ما تحت يده خلفاً له وغير ذلك. إذ الالتزام بالتخصيص في جميع ذلك من العموم المذكور صعب جداً، والتزام قصور عموم الضمان عنه من أول الأمر أقرب عرفاً. ولذا كان ظاهر المشهور المفروغية عن عدم الضمان في جميع ذلك مما يعد عندهم أمانة مالكية أو شرعية.

ومن ثم كان الظاهر عدم الضمان في فرض جواز أخذ مال الغير شرعاً من باب الحسبة أو غيرها حتي لو لم يتم الاستدلال بآية نفي السبيل المتقدمة علي عدم الضمان، كما سبق.

فالعمدة في وجه الضمان ما سبق من عدم كفاية الإحسان المدعي في جواز أخذ المال، ليتجه من أجله عدم الضمان.

نعم سبق منا في المسألة الثالثة من فصل واجبات حال التخلي ومحرماته جواز التصرف في ملك الغير مع إحراز رضا المالك التقديري وطيب نفسه، بحيث لو التفت لأَذِن في التصرف، وهو المعبر عنه في بعض كلماتهم بإذن الفحوي. لأن مقتضي الجمع بين النصوص السابقة الاكتفاء به والسيرة. بل الظاهر عدم الإشكال بينهم في عدم ضمان الأعيان والمنافع معه بضمان الإتلاف، فضلاً عن ضمان اليد.

وحينئذٍ إذا أحرز رضا المالك بأخذ المال بنية إرجاعه إليه أو مطلقاً جاز له أخذه، ولا ضمان عليه لو كان إحرازه مطابقاً للواقع. ولعل ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) من حسن الأخذ بنية الرد ناشئ من غلبة إحراز رضا المالك بذلك، فيكون إحساناً في حقه.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يكون حينئذٍ أمانة مالكية. وإن كان ذلك في غاية المنع، لعدم قصد المالك الاستئمان بعد غفلته عن الحال. ومجرد طيب نفسه التقديري إنما يقتضي حلّ الأخذ والتصرف، وهو أعم من الاستئمان.

ص: 376

غاية الأمر أن يكون أمانة شرعية إذا لم يحرز رضا المالك بالتصرف فيه واستهلاكه. فلا يكون مضموناً بضمان اليد، لا من جهة قصد الرد الذي هو المنشأ للإحسان المدعي في المقام، لما سبق من عدم كفاية الإحسان في رفع الضمان، بل لأن جواز الأخذ بسبب طيب نفس المالك التقديري يوجب قصور أدلة الضمان، كما ذكرنا.

أما إذا لم يطابق إحرازه الواقع، وصادف رضا المالك بأخذه فالمتعين حرمة أخذه واقعاً، لعدم المسوغ له، وكونه مضموناً بضمان اليد، بعد ما سبق من عدم كفاية قصد الإحسان في رفع الضمان.

وأظهر من ذلك ما إذا أحرز قبل الأخذ عدم رضا المالك به، لنهيه عنه صريحاً، أو للعلم بعدم رضاه به لو استؤذن فيه. لعدم صدق الإحسان حينئذٍ، فلا مجال لقصده. ولو فرض قصده لاعتقاد صلاح المالك بأخذه وإن لم يرض به، فهو لا يصلح مسوغاً للأخذ مع عدم رضا المالك به، كما يظهر مما سبق.

أما لو شك في رضا المالك فمقتضي استصحاب عدم رضاه وعدم طيب نفسه حرمة الأخذ. لكن استوضح بعض مشايخنا (قدس سره) جواز الأخذ بنية الرد، لكونه عدلاً وإحساناً. ويظهر ضعفه مما سبق، إذ كيف يكون عدلاً وإحساناً بعد كون مقتضي الاستصحاب كونه تعدياً علي المالك بالتصرف في ماله بغير إذنه وبدون طيب نفسه، الذي تقدم في التوقيع الشريف وبقية النصوص حرمته ؟!.

وأما ما ذكره من اختصاص التوقيع بالتصرف بالمال الذي هو عبارة عن تقليبه والتقلب فيه، ولا يصدق علي مجرد الأخذ بنية الرد. ولو فرض صدقه عليه لغة فهو منصرف عنه عرفاً. كما أن ما دلّ من النصوص المتقدمة علي حرمة المال من دون طيب نفس المالك مختص بمنافع المال التي تعود للمتصرف من الأكل والشرب والبيع والهبة ونحوها، ولا يشمل الأخذ بنية الرد، لأنه من المنافع العائدة للمالك دون المتصرف.

فهو في غاية المنع، فإن أخذ المال والاستيلاء عليه من أوضح أنحاء التصرف

ص: 377

الذي تضمنه التوقيع الشريف. ومجرد كونه بنية الرد للمالك والإحسان إليه لا يخرجه عن كونه تصرفاً فيه، ولذا كان مورد التوقيع هو التصرف بنية الإحسان للمالك.

كما أن نصوص حرمة المال من دون طيب نفس المالك تقتضي حرمة كل تصرف مناف لسلطنة المالك علي المال، وهو يشمل أخذ المال، بل هو أشد من حبس المال الذي هو مورد تلك النصوص، حيث تضمنت الردع عن حبس الأمانة. ومجرد كونه بنية الإحسان للمالك لا يوجب قصور النصوص عنه بعد أن كان من حق المالك المنع منه.

وإن شئت قلت: إن كان منشأ قصور النصوص عن الأخذ بنية الرد للمالك هو عدم كون الأخذ بنفسه تصرفاً معتداً به. فهو في غاية المنع، بل هو أشد من الحبس الذي تضمنت نصوص حرمة المال المنع منه. وإن كان هو عود نفعه للمالك دون الآخذ. فهو ممنوع أيضاً لما تقدم، كما أنه لا يناسب التوقيع الشريف الذي مورده ذلك. بل السؤال فيه شاهد بعدم وضوح جواز التصرف لصالح المالك مع الشك في رضاه، ولذا احتاج للسؤال عنه.

علي أن لازم الثاني قصور النصوص عن الأخذ بنية الرد مع العلم بعدم رضا المالك، ولازم الأول قصورها عنه وعن الأخذ لا بنية الرد أيضاً، ولا يظن بأحد البناء علي ذلك. بل صرح هو (قدس سره) بكونهما من التصرف في مال الغير بغير إذنه. فلاحظ كلامه.

والحاصل: أنه لا ينبغي التوقف في عدم جواز أخذ المال من دون إحراز رضا المالك ولو مع نية الرد، وفي أن الأخذ معه موجب للضمان، لأنه بلا حق.

نعم لو صادف رضا المالك واقعاً كان حلالاً واقعاً، غير موجب للضمان، عكس ما تقدم في صورة إحراز رضا المالك خطأ.

ومن ثم قد يشكل البناء علي جواز الأخذ فيما يكثر الابتلاء به في هذه العصور من أموال الحكومات القائمة في بلاد الإسلام من دون أن تبتني علي دعوي الولاية العامة إذا كان المال المأخوذ مسبوقاً بملك مسلم، حيث تقدم في المسألة السابعة

ص: 378

والثلاثين الإشكال في إمضاء تصرفها وترتيب آثار الملكية علي ما تحت يدها، خصوصاً إذا لم تأخذ الأموال من الرعية بالعناوين الشرعية - من الزكاة والخراج ونحوهما - بل بعناوين أخر، تبعاً للقوانين الوضعية، حيث لم يثبت إمضاء تصرفها شرعاً والحكم بملكيتها لما تأخذه.

بل يتعين البناء علي بقائه علي ملكية المأخوذ منه، ومع الجهل به يكون المال مجهول المالك، وحيث كان المالك محترم المال ولو ظاهراً، لأنه في بلاد الإسلام، فيشكل أخذه بناءً علي ما سبق آنفاً من عدم جواز أخذ المال المغصوب من دون إحراز رضا صاحبه.

نعم قد يهون الأمر مع العلم بأن صاحب المال من المخالفين. لأن الظاهر من حال المخالفين البناء علي ملكية الدول المذكورة وإمضاء معاملاتها، فيجوز للمؤمنين ترتيب آثار ذلك فيما تأخذه هذه الدول من أموالهم، لقاعدة الإلزام، خروجاً عن عموم عاصمية الإسلام. أما مع الشك فاستصحاب عدم تدين صاحب المال بمذهب المخالفين يحرز عدم خروجه عن عموم عاصمية الإسلام.

وأظهر من ذلك ما إذا علم بسبق يد المؤمن علي المال، حيث يكون مقتضاها ملكيته للمال وعدم جواز التصرف فيه بغير إذنه. إلا أن يحرز رضا المالك بأخذ المال وطيب نفسه بذلك لو التفت له فيجوز أخذه حينئذٍ، كما سبق.

نعم لا يكفي إحراز رضاه من أجل غفلته عن كونه مالكاً، وتخيله ملكية الدولة، فلا يضره التصرف فيه. فإن الرضا حينئذٍ لا يحل للغير التصرف، لابتنائه علي الخطأ في تشخيص الحال، نظير المقبوض بالعقد الفاسد.

بل لابد من إحراز رضاه لو التفت لكونه مالكاً إما حباً في التسهيل علي الناس بعد قصور يده عن الانتفاع بالمال بسبب أخذ الدولة له، خصوصاً إذا لم يرَ نفسه مغبوناً، لأنه قد دفع المال للدولة بطيب نفسه من أجل أمر محبوب له، لا إكراهاً.

وإما لأنه بعد تعذر رجوع المال له وانتفاعه به في مصالحه الدنيوية يرضي

ص: 379

بأخذه وإجراء حكم مجهول المالك عليه بالتصدق به عنه، لما فيه من الفائدة الأخروية له بالتصدق به وبتسهيل أمور الناس.

لكن إحراز الرضا بأحد الوجهين المذكورين صعب جداً مع الجهل بالمالك، لاختلاف الناس في الأذواق والسلايق، وسهولة الجانب ووعورته، وفي استيعاب الأمور ووزنها بميزانها، فكيف يمكن مع ذلك القطع برضا المالك التقديري وحلّ المشكلة بذلك ؟!.

نعم كثرة الابتلاء بالأموال المذكورة تستلزم اضطراب أمر المؤمنين بتجنبها، بل اختلال نظامهم، بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به، كما يناسبه إمضاء معاملة سلاطين الجور، وتحليل الخمس والأنفال للشيعة، وجواز إلزامهم المخالفين بأحكامهم، وغير ذلك مما يشهد اهتمام الشارع الأقدس بالتخفيف علي المؤمنين ونظم أمرهم عند عدم ظهور دولة الحق.

وذلك موجب للعلم بجواز أخذ الأموال المذكورة إما مع إمضاء معاملة الدولة، أو مع إجراء حكم مجهول المالك علي المال، رعاية للمالك في إيصال نفع معاملة ماله له بالتصدق به عنه، وحلّ مشاكل المؤمنين به. واللازم مع الدوران بين الأمرين البناء علي الثاني، اقتصاراً في الخروج عن القاعدة علي ما هو المتيقن عملاً، وهو جواز أخذ المال لا غير.

وإن كان اللازم مع ذلك الاحتياط بعدم الخروج عن مقتضي القوانين الوضعية فيما إذا استلزم الخروج عنها الإضرار بالمؤمنين، لقوة احتمال إمضاء مقتضي القوانين المذكورة في هذا الحال رفقاً بالمؤمنين، ورعاية لهم. وإن كان الأمر بعد لا يخلو عن إشكال. والله سبحانه وتعالي العالم بحقيقة الحال.

نعم لو تم جواز أخذ الأموال المذكورة من أجل نظم أمر المؤمنين ففي سقوط الضمان معه إشكال، لأن المتيقن مما سبق في سقوط الضمان مع جواز الأخذ ما إذا ابتني جوازه علي إذن المالك ورضاه، أو علي حكم الشارع بالجواز تعبداً، دون ما إذ

ص: 380

فلو أخذ منه حينئذٍ وجب رده إلي مالكه إن عرف بعينه (1)،

---------------

كان من أجل الإرفاق بالآخذ، كما لو خاف علي نفسه الهلاك من البرد، فجاز له أخذ غطاء الغير والتدثر به من غير إذنه. فإن عدم الضمان حينئذٍ لا يخلو عن إشكال، لقضاء المرتكزات بالضمان، كإطلاق حديث "علي اليد..." بناءً علي نهوضه بالاستدلال.

هذا وقد يستفاد جواز الأخذ شرعاً في المقام من النصوص الواردة في مجهول المالك التي يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالي، حيث لا يبعد ظهورها في المفروغية عن جواز أخذ المال والاستيلاء عليه من أجل حفظه وإجراء وظيفة مجهول المالك فيه. كما يجوز تمكين الغير منه بالنحو غير المنافي لإجراء الوظيفة المذكورة، إذ لا إشكال في أن من يأخذه لا يمتنع من تمكين متعلقيه من أولاده وخدمه منه، فإن ذلك يناسب جواز التصرف في مجهول المالك. ويؤيده نصوص اللقطة.

وعلي ذلك فالتفصيل المتقدم بين إحراز رضا المالك وعدمه مختص بما يعلم مالكه بعينه أو بوجه محصور، ولا يجري في مجهول المالك، ليتوجه الإشكال في أموال الدولة المذكورة.

(1) بلا إشكال ظاهر، فإن حبس المال عن ملكه مناف لسلطنته عليه، ولحرمة صاحب المال، كما تضمنه صحيح زيد الشحام وغيره من النصوص المشار إليها آنفاً.

إنما الكلام في أن الواجب هو إيصاله للمالك وتسليمه له أو يكفي تمكين المالك منه، بإعلامه به، وعدم حبسه عنه.

قد يدعي الأول لقوله تعالي: (إِنَّ الله يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَي أَهلِهَا)(1) وللأمر بالأداء في صحيح زيد الشحام وموثق سماعة وغيرهما مما سبقت الإشارة إليه.

لكنه لا يناسب تعليل الأمر بالأداء في الأحاديث المذكورة بحرمة مال المسلم وعدم حله إلا بطيب نفسه، لأن حرمة المال ارتكازاً إنما تقتضي حرمة التعدي عليه

********

(1) سورة النساء آية: 6.

ص: 381

فإن جهل وتردد بين جماعة محصورة (1) فإن أمكن استرضاؤهم

---------------

وحبسه علي خلاف مقتضي سلطنة صاحبه عليه، لا وجوب أدائه إليه زائداَ علي ذلك، ولذا لو طلب المودع من الودعي حمل الأمانة إليه وإيصالها له ولم يكتف بتمكينه منها ذمه العقلاء، كما نبّه له بعض مشايخنا (قدس سره). فمن القريب جداً حمل الأمر بالأداء في الأدلة المتقدمة علي الكناية عن عدم حبس المال للمالك ووجوب تمكينه منه.

إلا أن يحتف العقد الموجب للأمانة بقرينة عامة أو خاصة تقتضي إرجاع العين للمالك، كما هو غير بعيد في العارية والعين المستأجرة والمرهونة ونحوها مما يؤخذ لصالح الآخذ، حيث لا يبعد ابتناء العقد فيها ارتكازاً علي لزوم إرجاع العين للمالك عند انتهاء المدة أو حصول الفسخ، وعدم الاكتفاء بتمكينه منها، إلا بقرينة مخرجة عن ذلك.

هذا كله في الوجوب التكليفي. وأما ارتفاع الضمان لو كانت اليد مضمنة فالظاهر كونه مشروطاً بالأداء وتسليم العين، تبعاً للمرتكزات العقلائية، وهو مقتضي الجمود علي النبوي المتقدم لو كان ينهض بالاستدلال.

نعم لو امتنع المالك من قبض ماله لم يبعد الاكتفاء بإيصاله له والتخلية بينه وبينه. إلا أن يكون الضامن قد نقله عن محله فلا يبعد حينئذٍ وجوب إرجاعه إليه لو طلب المالك ذلك، لكون ذلك مضموناً عرفاً. فلاحظ.

كما أنه لو رجع امتناعه عن قبض المال إلي الإذن للغاصب في حفظه انقلب أمانة في يده وسقط الضمان. نعم للغاصب الامتناع من ذلك والتخلية بينه وبينه، كما سبق.

(1) تقرر في محله من مباحث العلم الإجمالي بالتكليف أن المعيار في عدم الانحصار بلوغ كثرة الأطراف حداً يوجب خروج بعض الأطراف عن الابتلاء، لسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بذلك حتي مع انحصار الأطراف.

ولا مجال لذلك في المقام، لأن وظيفة مجهول المالك حكم تعبدي يبتني علي

ص: 382

وجب (1)، وإلا رجع في تعين مالكه إلي القرعة (2).

---------------

قصور سلطنة المالك، فيمكن جعله شرعاً حتي مع معرفة المالك تفصيلاً، فضلاً عن اشتباهه بوجه محصور، وليس الوجه في خروج الشبهة المحصورة إلا قصور أدلة الوظيفة المذكورة عنها. وحينئذٍ يكون تحديدها تابعاً للنظر في تلك الأدلة، وهو مما يأتي عند الكلام في الشبهة غير المحصورة إن شاء الله تعالي.

(1) عملاً بمقتضي العلم الإجمالي بوجوب إيصال المال إلي أحدهم والخروج عن مقتضي الأمانة أو الضمان معهم. ومقتضي إطلاقه وجوب الاسترضاء لو توقف علي بذل العين لأحدهم والبدل - من المثل أو القيمة - للباقي.

لكن في الجواهر: "وإن جهله بعينه وكان بين محصورين تخلص منهم بصلح ونحوه" .وقد يظهر منه عدم وجوب بذل ما زاد علي العين. والظاهر أنه مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، لأن مشروعية القرعة عنده في تعين المالك يناسب عدم تكليفه بالبدل. ويأتي إن شاء الله تعالي تمام الكلام في ذلك.

(2) لما ذكره (قدس سره) في المسألة الثالثة والأربعين من فصل ما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح من المستمسك من عموم: ان القرعة لكل أمر مشكل. ووافقه في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) في المسألة الخامسة والأربعين من فصل القسمة من مباني تكملة المنهاج. وسبقهما في الرجوع للقرعة في جامع المقاصد وكشف اللثام والجواهر. وإن لم أعثر عاجلاً علي من قوي الرجوع إليها عملاً بالعموم المذكور قبل صاحب الجواهر، مع تصريحه في بعض المواضع بعدم العثور علي موافق في البناء علي القرعة.

نعم صرح في القواعد وفي كشف اللثام بالرجوع إليها في بعض فروع الشك في مقدار المهر. كما احتمل الرجوع إليها في غير واحد من الفروع في التذكرة والقواعد.

وكيف كان فالمراد بالمشكل إن كان هو المجهول فقد ورد بذلك معتبر محمد بن حكيم: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء، فقال: كل مجهول ففيه القرعة. قلت له: إن

ص: 383

القرعة تخطئ وتصيب. قال: كلما حكم الله به فليس بمخطئ"(1).

وهو وإن كان شاملاً لما نحن فيه، إلا أن عمومه لكل مجهول موجب لكثرة تخصيصه. لوجوب الخروج عنه في جميع موارد الأصول الشرعية، لأنها أخص منه، وفي الشبهات الحكمية من موارد الأصول العقلية، لتسالمهم علي عدم الرجوع للقرعة في الشبهات الحكمية، وفي كثير من موارد الاشتباه الأخر، كالحكم بالتنصيف في موارد التداعي، وتنازع الزوجين في متاع البيت، وفي درهم الودعي، وفما لو أقر الرجل لأحد رجلين بمال ولم يعينه، وفي ميراث الخنثي المشكل، ونظيره الحكم بتوزيع الدية علي أهل الحي والقرية عند اشتباه القاتل فيهم. وكالحكم بوجه آخر في ميراث الغرقي والمهدوم عليهم، وفي اشتباه القبلة، وبالاحتياط في موارد العلم الإجمالي بالتكليف، علي ما هو المعروف من مذهب الأصحاب ووردت به النصوص في بعض الموارد... إلي غير ذلك مما دلت الأدلة علي عدم الرجوع فيه للقرعة.

وذلك يمنع من التعويل عليه، حيث يكشف عن احتفافه بما يمنع من ظهوره في العموم ويجعله بحكم المجمل. ولذا لم يكن بناء الأصحاب علي الرجوع للعموم المذكور، ولا للقرعة إلا بدليل خاص. وإن ذكر الرجوع إليها احتمالاً أو جزماً في كلمات بعض المتأخرين في بعض موارد التحير وعدم ورود المخرج الشرعي.

وأشكل من ذلك الاستدلال بصحيح سيابة وإبراهيم بن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل قال: أول مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة. قال: يقرع بينهم، فمن أصابه القرعة اعتق. قال: والقرعة سنة"(2). بدعوي: أن تعليل الإرجاع للقرعة في مورد الصحيح بأن القرعة سنة يقتضي عموم الرجوع للقرعة في سائر الموارد.

إذ فيه: أنه لا يظهر من الصحيح سوق ذلك مساق التعليل، بل مجرد بيان أن القرعة سنة ولها أصل في التشريع بنحو القضية المهملة. علي أنه لو فرض سوق الفقرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 11، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 11، 2.

ص: 384

المذكورة للتعليل فلا مجال لاستفادة العموم منها، لأن مقتضي حذف التعليق عمومها لكل مورد، فتكون أعم من معتبر محمد بن حكيم الذي سبق أن كثرة التخصيص فيه تجعله بحكم المجمل.

وإن كان المراد بالمشكل ما يلزم العمل فيه بالوظيفة الشرعية أو العقلية بعض المشاكل كلزوم الضرر من الاحتياط في المقام وغيره. ولعله إليه يرجع ما في آخر مبحث الاستصحاب من حقائق الأصول من أن الظاهر من المشكل ما يصعب حله. فالعموم المذكور وإن لم يكن بتلك السعة التي يلزم معها كثرة التخصيص. إلا أنه لا شاهد لعموم الرجوع للقرعة في ذلك إلا ما عن دعائم الإسلام: "عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبدالله (عليهم السلام) أنهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل"(1) ، وما في جامع المقاصد:" وقد ورد عنهم (عليهم السلام): في كل أمر مشكل القرعة"(2).

لكنه - مع إرساله - يقرب أن يكون منقولاً بالمعني المتحصل لحاكيه من مجموع نصوص القرعة، حيث لم نعثر علي المضمون المذكور فيما بأيدنا من النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام).

علي أن من القريب كون المراد بالإشكال في النص المذكور هو الجهل، فإن إشكال الأمر لغة هو التباسه، وإرادة لزوم بعض المشاكل منه لم نعثر عاجلاً علي أصل له في اللغة، وإنما ورد في الاستعمالات المتأخرة.

هذا وقد قال سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة المذكورة بعد التعرض لإطلاق دليل القرعة: "نعم ليس بناء الأصحاب علي العمل به في موارد الاحتياط، كالشبهة المحصورة. لكن ذلك إذا لم يلزم منه محذور، والمفروض لزومه. وقد ورد في بعض نصوص القرعة ما تضمن مشروعيتها فيمن نزا علي شاة في قطيع غنم وقد اشتبهت بغيرها. والمقام نظيره في لزوم الضرر من الاحتياط".

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 1.

(2) جامع المقاصد ج: 12 ص: 470-471.

ص: 385

فإن كان مراده بذلك الاستدلال بالنص المذكور، وهو صحيح محمد بن عيسي عن الرجل (عليه السلام): "أنه سئل عن رجل نظر إلي راعٍ نزا علي شاة. قال: إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتي يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، وقد نجت سائرها"(1).

فمن الظاهر أن هذا النص خاص بمورده، ولا ينهض ببيان قاعدة كلية تنفع في غيره، كما لا ينهض بتفسير عموم معتبر محمد بن حكيم بما يناسب القاعدة المذكورة. ولاسيما مع تفريق النصوص في حلّ المشكلة بين الموارد المتشابهة، فقد حكمت في الخنثي المشكل بالتنصيف - كما سبق - وفي الممسوح بالقرعة، كما حكمت في اشتباه الشاة الموطوءة بالقرعة ولم تحكم بها في اشتباه القاتل، بل بالتوزيع، كما سبق.

كما أن بعض نصوص القرعة لم تحكم بها بلحاظ جميع الأحكام، بل مع الاحتياط والتحفظ في الجملة، ففي معتبر الحسين بن المختار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في بيت سقط علي قوم فبقي منهم صبيان، أحدهما حرّ، والآخر مملوك لصاحبه، ولم يعرف الحر من العبد، قال (عليه السلام) في جملة حديث:" يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، ويعتق هذا فيجعل مولي هذا"(2) ، ونحوه مرسل حريز أو صحيحه(3). فإن عتق الآخر احتياط لاحتمال الحرية، لعدم نهوض القرعة بنفيه نفياً قاطعاً... إلي غير ذلك.

فإن ذلك يناسب كون الرجوع للقرعة في الموارد المختلفة تعبدياً لخصوصية فيها، لا لعموم مرجعية القرعة، ومع ذلك كيف يمكن إلغاء خصوصية مورد صحيح محمد بن عيسي وفهم القاعدة العامة منه ؟!.

وإن كان مراده (قدس سره) بذلك أن العموم المذكور لما لم يمكن العمل به علي ما هو عليه، لعدم بناء الأصحاب علي ذلك، يتعين الاقتصار في العمل به علي مورد رجوع الأصحاب إليه، وهو مورد لزوم محذور من الاحتياط، كالضرر في مورد كلامه.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 7، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 7، 9.

ص: 386

فهو يناسب ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في أواخر مبحث الاستصحاب عند التعرض للقرعة، حيث قال: "مضافاً إلي وهن دليلها بكثرة تخصيصه، حتي صار العمل به في مورد محتاجاً إلي الجبر بعمل المعظم، كما قيل" .وربما يظهر من بعضهم ذلك في بعض العمومات الأخر، كعموم قاعدة الميسور، وأنه يقتصر في العمل به علي مورد عمل الأصحاب.

لكنه غير ظاهر. إذ مع ضعف سند العموم يكون عمل الأصحاب به في غالب الموارد جابراً للسند، ومع انجبار السند به يتعين حجية العموم وعدم الخروج عنه إلا بدليل. ومع تمامية سند العموم يكون هجر الأصحاب له في أكثر موارده كاشفاً عن خلل فيه من حيثية الظهور أو الجهة، ولا مجال مع ذلك لحجيته في بقية الموارد إلا بقرينة كاشفة عن اختصاصه بها، بحيث تكون مفسرة للعموم المذكور وشارحة له، ولا مجال لتحصيلها في المقام بعد ما سبق.

هذا وقد يستدل للعموم بصحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: بعث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) علياً (عليه السلام) إلي اليمن، فقال له حين قدم: حدثني بأعجب ما ورد عليك. فقال: يا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) أتاني قوم قد تبايعوا جارية، فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجوا فيه كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم. فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلي الله إلا خرج سهم المحق"(1).

بدعوي: أن ذكر التفويض إلي الله تعالي فيه ظاهر في أن الرجوع للقرعة في ظرف الاحتياج إلي حكمه، لعدم حكم له في الواقعة، فيقصر عن جميع موارد الطرق والأصول الشرعية، وحينئذٍ لا يلزم كثرة التخصيص فيه بالنحو المسقط له عن الحجية، لكون أدلة الطرق والأصول المذكورة حينئذٍ واردة علي دليل القرعة من دون أن تكون مخصصة له.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 6.

ص: 387

كما أن كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) وإن لم يكن ظاهراً في نفسه في الإلزام بالرجوع إلي القرعة، إلا أن وروده مورد الإمضاء لما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من الرجوع للقرعة في الواقعة، الظاهر استقلاله (عليه السلام) بذلك وعدم استئذانه من المتنازعين فيه، يوجب ظهور كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في إلزام الخصوم بها ولو لقيام الحاكم مقامهم من دون أن يحتاج لاستئذانهم. كما ذكرنا ذلك كله في أواخر الكلام في وجوب الموافقة القطعية من كتابنا (المحكم في الأصول).

لكنه لو تم إنما يقتضي جواز رجوع الحاكم للقرعة عند تنازع أطراف الشبهة في المقام ورجوعهم له. ولا ينهض بإثبات عموم الرجوع للقرعة مع امتناعهم عن التصالح ونحوه من دون تنازع بينهم، بحيث يرجع لها من بيده المال من دون رضا منهم.

علي أن تقريب دلالته علي المطلوب بالوجه المتقدم يشكل: أولاً: بأن ظاهر الصحيح أن تفويض المتنازعين أمرهم لله تعالي سبب في تسديد القرعة ومطابقة حكمها للحق. ولعله لبيان أنها لو وقعت بدونه، بل لمجرد حلّ النزاع، لم يؤمن عليها من الخطأ. من دون أن يشعر بفرض عدم الحكم لله تعالي في الواقعة.

فهو نظير ما في صحيح منصور بن حازم:" سأل بعض أصحابنا أبا عبدالله (عليه السلام) عن مسألة فقال: هذه تخرج في القرعة: ثم قال: فأي قضية أعدل من القرعة إذا فوضوا أمرهم إلي الله عز وجل. أليس الله يقول: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدحَضِينَ)"(1).

وثانياً: لا يظهر من الصحيح ورود كلام النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) لإمضاء ما فعله أمير المؤمنين (صلوات الله تعالي عليه)، إذ لا أشعار فيه باحتياج ما فعله للإمضاء. وكيف يحتاج له وهو مرسل من قبله (صلي الله عليه وآله وسلّم)، وقد ورد أنه دعا له أن يهدي قلبه، ويثبت لسانه وأنه (صلوات الله عليه) لم يشك في قضاء بعد ذلك(1) ، أو بعد أن علمه بعض آداب القضاء(2). بل كل ما في الأمر أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) عقّب علي فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) ببيان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 17.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي حديث: 17.

ص: 388

فائدة القرعة وشرط تسديدها.

وهو لا يقتضي وجوب رجوع المتنازعين إليها، ولا علي عموم سلطنة الحاكم علي حلّ نزاعهم بها، فضلاً عن سلطنة آخذ المال في مثل المقام علي الرجوع إليها من دون تنازع منهم.

ومن هنا لا مجال للبناء علي عموم الرجوع للقرعة بنحو ينفع في غير الموارد المنصوص عليها بالخصوص وما يلحق بها عرفاً. وذلك هو الظاهر من حال الأصحاب، خصوصاً القدماء منهم، كما يظهر مما سبق. وعلي ذلك لا مجال للرجوع إليها في المقام، بل يتعين الرجوع فيه لما تقتضيه القواعد أو الأدلة الخاصة.

وحينئذٍ إن تنازع أطراف الشبهة في المال المأخوذ كل يدعيه لنفسه ولم يصطلحوا، لم يحل دفعه لهم بالتشريك أو لأحدهم إلا بعد ترافعهم للحاكم الشرعي، ويتبع حكمه، فإن حكم به لأحدهم تعين العمل علي ذلك.

وكذا إذا حكم بتقسيمه بين الأطراف، لأن من بيده المال وإن كان يعلم إجمالاً بعدم استحقاق بعضهم لما يأخذه، إلا أنه لا يكون مفرطاً بدفع المال له بعد حكم الشارع به، ليكون ضامناً بذلك.

نعم إذا كان المال مضموناً بضمان اليد فقد يقال بعدم براءة ذمة من بيده المال بدفع بعضه لغير صاحبه، بل يتعين دفع بدله من المثل أو القيمة لجميع أطراف الشبهة. لكن لا علي أن يدفعه لكل منهم علي نحو الإطلاق، لعدم وجوب ذلك عليه، بل معلقاً علي استحقاقه له، فمن اعتقد أنه مستحق له جاز له أخذه، ومن لا يعتقد ذلك يحرم عليه أخذه. ويتعين لهم الصلح إن اشتركوا في الجهل.

ودعوي: أن الاحتياط المذكور موجب للضرر في حق من بيده المال، فيتعين عدم وجوب الاحتياط بالنحو المذكور في حقه، وجواز اقتصاره علي توزيع المال

-

(1) الإرشاد ج: 1 ص: 194-195. إعلام الوري ج: 1 ص: 258. ويوجد في كثير من مصادر الجمهور. (2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 4 من أبواب آداب القاضي حديث: 6.

ص: 389

تنفيذاً للحكم.

مدفوعة بأن قاعدة نفي الضرر لما كانت امتنانية فهي لا تجري هنا، لأنه يلزم من جريانها في حقه الضرر في حق صاحب المال الواقعي، فلا مخرج عن مقتضي القاعدة من لزوم الاحتياط مع العلم الإجمالي.

لكن لا يبعد وفاء دليل التبعيض بحكم الحاكم برفع الضمان، كما يفي برفع وجوب أداء الأمانة. ولو فرض عدم وفائه بذلك، فلا مجال للبناء علي الاحتياط بدفع البدل للكل، لأن الواجب مع الضمان هو دفع البدل بعنوان كونه بدلاً عما في الذمة، ودفعه بالعنوان المذكور لأكثر من واحد ممتنع. وأما تمليك مقداره لكل منهم مردداً بين كونه هبة له ووفاء لدينه فهو أمر آخر زائد علي الامتثال لا ملزم به، كما تقدم منا نظيره ذلك في فروع المال المختلط بالحرام من كتاب الخمس. فراجع.

وإن لم يتنازع أطراف الشبهة، بل اقتصر كل منهم علي التمسك بحقه المعلوم أو المحتمل له من دون أن يرضي بالصلح. فإن كان المال أمانة شرعية أو مالكية بيد الآخذ فمقتضي القاعدة أنه يجوز له، بل يجب عليه الامتناع عن تسليمه لأي واحد من الأطراف، للعلم الإجمالي بالعدوان علي المال بتسليمه لبعضهم. ولا يحرم عليه حبسه عن مالكه الواقعي بعد أن لم يكن معتدياً بذلك بسبب جهله به.

لكن في موثق السكوني عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام): "في رجل استودع رجلاً دينارين، فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها. قال: يعطي صاحب الدينارين ديناراً، ويقسم الآخر بينهما نصفين"(1). ومن القريب جداً التعدي عن مورده، والبناء علي عموم وجوب التوزيع علي الأمين لو ترددت الأمانة التي عنده بين محصورين.

وإن لم يكن المال أمانة بيد الآخذ بل كان معتدياً في ذلك وضامناً له جاز له الامتناع عن تسليمه لأي منهم ولا يجب، لدوران الأمر في تسليم كل منهم بين الوجوب والحرمة الذي هو مجري أصل التخيير. ولا حلّ للمشكلة حينئذٍ إلا الصلح،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 12 من أبواب كتاب الصلح حديث: 1.

ص: 390

وإن تردد بين جماعة غير محصورة تصدق به عن مالكه (1).

---------------

ولا يجب عليه الجمع بين دفع العين لبعضهم والبدل للآخر حتي لو رضوا بذلك، لأن دفع البدل أمر خارج عن امتثال التكليف المعلوم بالإجمال لا دليل علي وجوبه. كما لا يجب دفع البدل للكل لو تلفت العين، لأن مقتضي الضمان هو دفع البدل بعنوان كونه بدلاً ووفاء، ودفعه بالعنوان المذكور لأكثر من واحد ممتنع، نظير ما تقدم.

(1) إجماعاً، كما في شرح القواعد لكاشف الغطاء (قدس سره)، وقال في الجواهر:" كما في غيرها من أقسام مجهول المالك، الذي حكمه ذلك نصاً وفتوي ".ويمكن الاستدلال علي العموم المذكور بجملة من النصوص.

منها: صحيح أبي علي بن راشد:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) قلت: جعلت فداك اشتريت أرضاً إلي جنب ضيعتي بألفي درهم، فلما وفرت المال خبرت أن الأرض وقف. فقال: لا يجوز شراء الوقوف [الوقف. يب]، ولا تدخل الغلة في ملكك. ادفعها إلي من أوقفت عليه. قلت: لا أعرف لها رباً. قال: تصدق بغلتها"(1).

ودعوي: أن وقفية الأرض لا تمنع من ملكية الغلة، لتبعية الزرع في الملكية للبذر، لا للأرض. غاية الأمر أن تنشغل ذمة الزارع بأجرة الأرض. مدفوعة بأن حكم الإمام (عليه السلام) بدفع الغلة للموقوف عليهم ملزم بحمل الغلة علي ما يكون تابعاً للوقف وحقاً للموقوف عليهم، إما لكون الأرض الوقف مغروسة بأصول موقوفة مثلها ذات ثمرة، أو لابتناء ذلك علي الترخيص في زرع الأرض بحصة من الثمرة بنحو المزارعة المقتضية لاستحقاق أرباب الوقف حصة من الغلة، أو غير ذلك. ولا مجال للتوقف في الاستدلال بالصحيح من أجل ذلك.

ومنها: صحيح يونس بن عبد الرحمن المروي في التهذيب: "سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) وأنا حاضر... قال: جعلت فداك، رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 6 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات حديث: 1.

ص: 391

منزله، ورحلنا إلي منازلنا. فلما أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فأي شيء نصنع به ؟ قال: فقال: تحملونه حتي تحملوه إلي الكوفة. قال: لسنا نعرفه، ولا نعرف بلده، ولا نعرف كيف نصنع. قال: إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه. قال له: علي من جعلت فداك ؟. قال: علي أهل الولاية"(1).

وقريب منه في الكافي عن يونس، إلا أنه قال:" سألت عبداً صالحاً "،وقال في أخره:" فقال: بعه وأعط ثمنه أصحابك. قال: فقلت: جعلت فداك، أهل الولاية ؟ فقال: نعم"(2).

فإن كانتا روايتين كانت الأولي محكمة علي الثانية تحكيم المقيد علي المطلق. وإن كانت رواية واحدة، والاختلاف بينهما من جهة النقل بالمعني، لم يبعد كون الأولي شاهدة بانصراف إطلاق الإعطاء في الثانية للصدقة، فإنه أقرب عرفاً من حمل التعبير في الأولي بالصدقة علي الخطأ. ولا أقل من كون ذلك مقتضي الجمع بين الصحيح وبقية نصوص المقام بعد إلغاء خصوصية مواردها.

ومنها: معتبر علي الصايغ: "سألته عن تراب الصواغين، وإنا نبيعه. قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ؟ قال: قلت: لا، إذا أخبرته أتهمني. قال: بعه. قلت: بأي شيء نبيعه ؟ قال: بطعام. قلت: فأي شيء أصنع به ؟ قال: تصدق به. إما لك وإما لأهله. قلت: إن كان ذا قرابة محتاجاً أصله ؟ قال: نعم" .كذا رواه في التهذيب(3). ورواه في الوسائل عنه، إلا أن فيه نسختين: إحداهما كما سبق، والثانية: "إما لك أو لأهلك" (4) والظاهر أنها تصحيف، لعدم وضوح معناها، ولعدم وجودها في التهذيب، ولا في خبره الآخر(5) عن أبي عبدالله (عليه السلام)، المقارب له في المضمون. إلا أنه لم يتضمن السؤال عن الاستحلال من صاحب المال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب اللقطة حديث: 2.، التهذيب ج: 6 ص: 395.

(2) الكافي ج: 5 ص: 307.

(3) التهذيب ج: 6 ص: 383.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2، 1

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2،

ص: 392

وقد تضمنا معاً الأمر بالصدقة بثمن تراب الصاغة المشتمل علي أجزاء من الذهب والفضة وغيرهما مما هو مجهول المالك. ولا يمنع من الاستدلال بالمعتبر إضماره بعد إيداع أصحاب الحديث له في كتب أخبار الأئمة المتضمنة لفتواهم. ولاسيما مع اعتضاده بحديثه الآخر المشار إليه.

لكن استشكل في الجواهر في الاستدلال بالمعتبر بأن ظاهره جواز الصدقة مع تعذر استحلال المالك لخوف التهمة، مع أن خوف التهمة لا يبيح التصرف في مال الغير.

ويندفع بما هو المعلوم في تراب الصاغة من الجهل بأصحاب المال وعدم انحصارهم، لتجمع التراب تدريجاً في مدة طويلة يكثر فيها العملاء، فلابد من حمل الاستحلال من صاحب المال في المعتبر علي الاستحلال من كل عميل قبل العمل له مما قد يسقط في التراب من ذهبه أو فضته للذين يعمل فيهما الصايغ، ومن الظاهر أن الاستحلال المذكور موجب لتهمة الصائغ بأنه قد يتسامح بسبب ذلك في المال ويفرط به. كما أنه غير واجب، لعدم العلم حين التعامل مع الشخص بسقوط شيء من ماله واختلاطه بالتراب.

وأما الجمود علي التعبير فيه باستحلال صاحبه، الظاهر في معرفة صاحبه وإرادة استحلاله حين بيع التراب. فهو - مع عدم مناسبته لواقع الحال في تراب الصاغة - لا يناسب السؤال فيه عن إمكان الاستحلال، بل ولا للسؤال عن حكم التراب، للمفروغية عن لزوم دفع التراب للشخص المذكور حينئذٍ بعد كونه صاحب المال، لعدم الموجب لخروج المال عن ملكه، ولا لسقوط حرمة ماله.

وظاهر الوسائل حمل الحديثين علي استحباب التصدق. وكأنه لظهور قوله (عليه السلام) فيهما: "إما لك وإما لأهله" في التنبيه لاحتمال كونه للصائغ، فيجوز التعويل عليه من أجل كونه صاحب يد، وإن كانت الصدقة أحوط، لأنها مشروعة علي كل حال.

وبعبارة أخري: لما كان الحكم بالتصدق معللاً بالاحتياط، كان ظاهره الإرشاد إلي حسن الاحتياط، وحيث لا يجب الاحتياط في نفسه بسبب اليد، فلا ينهض الخبران

ص: 393

بإثبات وجوبه، ولا بإثبات وجوب التصدق.

نعم يظهر من بعضهم حمل قوله (عليه السلام): "إما لك وإما لأهله" علي معني أن المال بعد أن كان مملوكاً للغير فثواب الصدقة يكون بالآخرة إما لك وإما لأهله، لأنه إن ظهر صاحبه ورضي بالتصدق ثبت ثواب الصدقة له، وإن لم يرض بالتصدق ضمنت له المال وصار ثواب الصدقة لك.

ولعله لظهور قوله (عليه السلام) في المعتبر: "أما تستطيع أن تستحله من صاحبه ؟" وقوله (عليه السلام) فيهما معاً: "إما لك وإما لأهله" في المفروغية عن وجود صاحب للمال غير الصائغ. وعليه يتعين حمل الحديث علي وجوب التصدق، لعدم القرينة علي الاستحباب.

لكن سبق لزوم حمل الاستحلال من صاحبه علي الاستحلال من العميل حين التعامل معه مما يحتمل سقوطه من ذهبه أو فضته في التراب. كما أن حمل قوله (عليه السلام): "إما لك وإما لأهله" علي الترديد في ثواب الصدقة بعيد جداً، بل يقوي ظهوره في الترديد لنفس الصدقة. ولاسيما وأن ما يكون في تراب الصاغة من الذهب والفضة ليس من شأنه أن يعرف صاحبه، ليمكن صيرورة ثواب الصدقة للصايغ بسبب ضمانه المال بعد عدم قبول صاحب المال بالصدقة. فلابد من كون الترديد بلحاظ جهالة صاحب المال وتردده بين الصائغ نفسه وعملائه، وكون الأمر بالتصدق للاحتياط.

غاية الأمر أنه يشكل البناء علي استحباب الاحتياط المذكور، لعدم وضوح حجية اليد في المقام بعد عدم استقلال اليد علي ما في التراب من الذهب والفضة، وإنما هو تابع لما يبتلي به الصائغ من ماله ومال غيره. نظير ما لو كان عند الإنسان كيسين أحدهما له والآخر لغيره ثم سقط درهم منهما وتردد بينهما، حيث يشكل الحكم بكونه له من أجل اليد.

علي أن من القريب جداً علم الصائغ باشتمال ترابه علي ما سقط من ذهب عملائه وفضتهم، إذ من البعيد جداً أن يحتمل مع كثرة عملائه بطول المدة عدم

ص: 394

سقوط شيء منهم وكون كل ما سقط من ماله. ومن ثم يقرب حمل الترديد في قوله (عليه السلام): "إما لك وإما لأهلك" علي التقسيم.

ومثله ما في بعض كلماتهم من توجيه الاستحباب بظهور حال أصحاب المال في الإعراض عنه، لقلته وصعوبة تحصيله، فيجوز تملكه للصايغ، وإنما يستحب التصدق والاستحلال الذي تضمنه المعتبر احتياطاً لاحتمال عدم مطابقة ظهور الحال للواقع وعدم تحقق الإعراض، فإن الاحتمال المذكور وإن كان لا يعتني به مع الظهور المذكور، إلا أنه لا ينافي حسن الاحتياط.

لاندفاعه بأن ظهور الحال إنما يعول عليه إذا استند لفعل من المالك ظاهر في الإعراض عن المال والرضا بتملكه. أما إذا كان لمجرد استبعاد اهتمامه بالمال مع قلته وصعوبة تحصيله - كما هو المدعي في المقام - فهو لا يخرج عن الظن الذي لا تعويل عليه في الخروج عن مقتضي الأصل. ولاسيما مع جهله بوجوده، حيث لا يعلم العميل بسقوط شيء من ذهبه في التراب. ومن ثم كان الخروج عن ظهور الحديثين في وجوب التصدق في غاية الإشكال.

علي أن استحباب التصدق احتياطاً لاحتمال كون المال مملوكاً للعملاء المجهولين وغير المحصورين وعدم إعراضهم عنه مستلزم لوجوب التصدق في فرض العلم بكونه مملوكاً للمجهول من دون إحراز لإعراضه عنه الذي هو محل الكلام. ومن ثم لا يمنع من الاستدلال بالمعتبر للمدعي، وتأييده بالحديث الآخر لو لم يبلغ مرتبة الحجية.

ومنها: صحيح إسحاق بن عمار: "سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيها نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتي قدم الكوفة، كيف يصنع ؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب كتاب اللقطة حديث: 3.

ص: 395

ودعوي: أن المعروف نصاً وفتوي أن المال المدفون لواجده، فلابد من حمل الصحيح علي الاستحباب. مدفوعة بأن ذلك إنما ورد في الموجود في الخربة التي جلا عنها أهلها، دون الدار العامرة التي هي مورد الصحيح، فإنه يكون لأهل الدار، فإذا لم يعرفوه تعين كونه مجهول المالك.

ولاسيما في دور مكة التي ينزل فيها المسافرون، حيث يعلم حينئذٍ أن المال لمسافرين آخرين قد نزلوا فيها قبل ذلك في نفس الموسم أو في المواسم السابقة، ودفنوه في البيت حفاظاً عليه ثم نسوه أو غلبوا علي أمرهم فتركوه. والغالب حينئذٍ تعذر الفحص عنهم، خصوصاً بعد أن كان واجد الدراهم قد نسيها حتي رجع إلي الكوفة، حيث لا يتسني له سؤال أهل الدار إلا إذا رجع إلي مكة في الموسم الثاني أو نحوه، فإذا أنكروها لم يتيسر الوصول لأصحابها، لبعد العهد بهم ورجوعهم إلي بلادهم، بنحو يتحقق اليأس عن الوصول إليهم بالفحص، فلم يبق علي واجدها إلا التصدق بها. ومن ثم كان الظاهر تمامية الاستدلال بالصحيح علي المطلوب. هذه عمدة النصوص المستدل بها في المقام.

وربما يستدل بنصوص أخر:

منها: مرسلة السرائر قال في مسألة جوائز السلطان: "وروي أصحابنا أنه يتصدق به عنه، ويكون ضامناً إذا لم يرضوا بما فعل" .قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "ثم الحكم بالصدقة فيما نحن فيه - أعني جواز السلطان - هو المشهور. ونسبه في السرائر إلي رواية أصحابنا. فهي مرسلة مجبورة بالشهرة المحققة... هذا والعمدة ما أرسله في السرائر مؤيداً...".

ولعل الوجه في كونه عمدة الدليل وبقية ما ذكره - بما في ذلك بعض ما سبق

مؤيداً أن المرسلة واردة في جوائز السلطان التي هي محل الكلام، وغيرها وارد في موارد أخري.

لكن فيه: أولاً: أنه يبعد وجود رواية في خصوص جوائز السلطان رواه

ص: 396

أصحابنا، قد اطلع عليها ابن إدريس ولم تدون في كتب الحديث والفتوي المعروفة. ومن القريب جداً كون مراده الروايات الكثيرة الواردة في موارد مجهول المالك المختلفة بعد إلغاء خصوصية مواردها. فاللازم النظر في تلك الروايات.

وثانياً: أنه لو كان مراده رواية خاصة بجوائز السلطان فلا مجال لدعوي انجبارها بالشهرة، حيث لا طريق لإثبات اعتماد المشهور عليها بعد عدم تعرضهم لها، وإنما ذكروا الروايات التي أشرنا إليها، ويظهر منهم الاعتماد عليها، لا علي المرسلة.

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة: "كان لي صديق من كتاب بني أمية. فقال لي: استأذن لي علي أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذنت له [عليه] فأذن له. فلما أن دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك، إني كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم. فقال الفتي: جعلت فداك فهل لي مخرج منه ؟ قال: إن قلت لك تفعل ؟ قال: أفعل. قال له: فاخرج من جميع ما كسبت [اكتسبت] في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك علي الله الجنة..."(1).

لكنه - مع الإشكال في سنده، ولو لاشتماله علي إبراهيم بن إسحاق الأحمر الذي لم تثبت وثاقته -: أولاً: وارد في واقعة خاصة مشتملة علي خصوصيات لا مجال لإلغائها عرفاً، لعدم كون المفروض فيه أن تمام المال الذي عند العامل من الحرام والظلم الشخصي للناس، بل لعل كثيراً منه من الأموال العامة التي هي خارجة عن محل الكلام.

وثانياً: أن السؤال فيه ليس عن خصوص الخروج عن تبعة المال الحرام، لأن ذلك وإن كان هو مفتتح السؤال، إلا أن تعرض الإمام (عليه السلام) بعد ذلك لحرمة العمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 47 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 397

معهم، ومشاركة العامل معهم في جريمتهم، دعا السائل لطلب المخرج من جميع ذلك. فلعل التصدق بما لم يعرف صاحبه كفارة لحرمة العمل معهم، من دون أن يكون هو حكم المال في نفسه. بل مقتضي كونه شرط ضمان الجنة له أنه كفارة لجميع ذنوبه بما في ذلك ما أكله وأنفقه في المدة الطويلة من المال الحرام. فلعله من سنخ الحسنات المكفرة للسيئات، ولو بأن يكون صدقة عن نفسه لا عن أصحاب المال المجهولين، كما هو المدعي في المقام.

فهو في ذلك نظير موثق سماعة المتقدم في أوائل المسألة:" سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أصاب مالاً من عمل بني أمية، وهو يتصدق منه، ويصل منه قرابته، ويحج، ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة، وإن الحسنة تحط الخطيئة. ثم قال: إن كان خلط الحرام حلالاً، فاختلطا جميعاً، فلم يعرف الحرام من الحلال، فلا بأس"(1). ومن ثم لا مجال للاستدلال بالخبر في المقام. بل ولا التأييد.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام): "في رجل ترك غلاماً له في كرم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه. قال: لا يصلح ثمنه... ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): إن أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها"(2). وفي موثق أبي أيوب عنه (عليه السلام) في نظير ذلك:" إن أحب الأشياء إلي أن يتصدق بثمنه"(3).

لكنهما - مع قوة ظهورهما في الاستحباب - غير ظاهرين في مجهول المالك، إذ لم يفرض فيهما الجهل بالمشتري ولا تعذر معرفته والوصول إليه. ولعل منشأ السؤال فيهما عن الثمن بعد معروفية حرمة بيع الخمر ليس هو التحير في أمر الثمن، لتعذر إرجاعه لصاحبه وصيرورته مجهول المالك أو ما بحكمه، بل احتمال حلّ الثمن في حق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 55 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1، 2.

ص: 398

صاحب الكرم، لعدم تعمده بيع الخمر، وعدم إذنه بذلك، حيث قد يحتمل حينئذٍ حلّ الثمن له في مقابل ما تلف عليه من ماله.

إن قلت: بعد معلومية حرمة بيع الخمر وبطلانه، وبقاء الثمن علي ملك المشتري، فالمتعين إرجاع الثمن لصاحبه مع إمكانه، وحمل الحكم بالتصدق به علي تعذر إرجاعه له، للجهل به أو تعذر الوصول إليه.

قلت: أولاً: بطلان بيع الخمر وبقاء الثمن علي ملك المشتري لا يستلزم وجوب إرجاعه إليه، بل يجوز تملك الثمن إذا كان المشتري يري في دينه ملكية البايع له، كالذمي، لقاعدة الإلزام المعول عليها في سائر الموارد.

كما يمكن حكم الشارع الأقدس بعدم وجوب إرجاعه له وإن كان لا يري ذلك في دينه، عقوبة له علي انتهاكه الحرمة بشراء الخمر، ولئلا يجتمع له التمتع بالحرام الذي اشتراه وبثمنه من دون خسارة.

وثانياً: أن تحريم البيع وكون الثمن سحتاً - كما ورد في الخمر - وإن كانا ظاهرين في بطلان البيع وبقاء المال علي ملك المشتري، إلا أنه يمكن حملهما علي حرمة البيع تكليفاً مع صحته وصيرورة الثمن للبايع مع كونه خبيثاً يحرم أكله، بل الواجب أو الأفضل له التخلص منه بالتصدق به.

وحمل الحكم بالتصدق في المقام علي أحد هذه الوجوه ليس بأبعد من حمله علي فرض تعذر إرجاع الثمن للبايع - للجهل به أو تعذر الوصول إليه - بعد عدم الإشارة إليه في الحديثين. ولاسيما مع ما أشرنا إليه من قوة ظهورهما في استحباب التصدق.

ومن هنا لا مجال للخروج عن إطلاق الحديثين من جواز التصدق بالثمن ولو مع معرفة البايع، فيخرجان عن محل الكلام.

ومنها: صحيح هشام بن سالم: "سأل حفص الأعور أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال: كان لأبي أجير، وكان له عنده شيء، فهلك الأجير، فلم يدع وارثاً ولا قرابة، وقد ضقت بذلك كيف أصنع ؟. قال: رأيك المساكين، رأيك المساكين. فقلت:

ص: 399

إني ضقت بذلك ذرعاً. قال: هو كسبيل مالك، فإن جاء طالب أعطيته"(1). لظهور قوله (عليه السلام):" رأيك المساكين... "في إرادة التصدق عليهم.

لكنه - لو تم - لا ظهور له في وجوب التصدق، بل غايته الجواز، ولاسيما مع قوله (عليه السلام) بعد ذلك:" هو كسبيل مالك ".بل لا يخلو الحديث عن اضطراب، حيث لا يتضح الوجه في ضيق السائل لو كان المراد الترخيص في التصدق، لوضوح حلّ المشكلة به، فهو سبب للفرج لا للضيق.

ومثله في ذلك موثقه:" سأل حفص الأعور أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده جالس. قال: إنه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه، وله عندنا دراهم، وليس له وارث. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): تدفع إلي المساكين، ثم قال: رأيك فيها. ثم أعاد عليه المسألة، فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): تطلب له وارثاً، فإن وجدت له وارثاً، وإلا فهو كسبيل مالك. ثم قال: ما عسي أن تصنع بها؟ ثم قال: توصي بها، فإن جاء لها طالب، وإلا فهي كسبيل مالك"(2). بل لعله عين الصحيح، والاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعني. وكيف كان فهو يشاركه في عدم الظهور في وجوب التصدق، وفي الاضطراب، إذ لا منشأ لتكرار السؤال بعد حلّ الإمام (عليه السلام) المشكلة بالتصدق.

نعم لا اضطراب في صحيحه الآخر: "سأل الأعور أبا إبراهيم (عليه السلام) وأنا جالس، فقال: إنه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأجرة، ففقدناه، وبقي من أجره شيء، ولا يعرف له وارث. قال: فاطلبوه. قال: قد طلبناه فلم نجده. قال: فقال: مساكين، وحرك يده. قال: فأعاد عليه. قال: اطلب واجهد، فإن قدرت عليه، وإلا فهو كسبيل مالك حتي يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء له طالب أن يدفع إليه"(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وما يشبهه حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 1، 11.

ص: 400

لكنه - كما تري - لا يتضمن الصدقة علي المساكين. ويكاد الإنسان يقطع بأن هذا الصحيح هو الأصل، وأن اختلاف الحديثين الأولين عنه بسبب النقل بالمعني، لولا مخالفته لهما في السائل والمسؤول.

هذا مضافاً إلي الإشكال في الصحيح الأول والموثق بأن المفروض فيهما عدم الوارث لصاحب المال - ولو بضميمة الأصل - فيكون المال للإمام (عليه السلام)، ويكون أمره في الموثق بطلب الوارث للاستظهار، كما يكون الأمر بالصدقة أو حفظ المال حكماً شخصياً له (عليه السلام) في المال بعد كونه له ظاهراً. وعلي كل حال لا مجال للاستدلال بهما في المقام.

ومنها: مرسلة الصدوق، فإنه بعد أن ذكر صحيح معاوية بن وهب الآتي قال:" وقد روي في خبر آخر: إن لم تجد له وارثاً وعرف الله عز وجل منك الجهد فتصدق بها"(1).

لكنه - مع إرساله - لم يتعرض فيه للسؤال. نعم ظاهره كون مورده هو مورد حديث معاوية، وهو المفقود الذي لا يدري أنه حي أو ميت، فيشبه ما نحن فيه. إلا أن من القريب كون ذلك اجتهاداً من الصدوق (قدس سره)، لعدم ورود المضمون المذكور إلا في معتبر العباس بن عامر أو المثني بن عبد السلام: "سألته عن رجل أوصي له بوصية، فمات قبل أن يقبضها، ولم يترك عقباً. قال: اطلب له وارثاً أو مولي فادفعها إليه. قلت: فإن لم أعلم له ولياً؟ قال: اجهد علي أن تقدر له علي ولي، فإن لم تجد، وعلم الله منك الجدّ، فتصدق بها"(2). وحينئذٍ يجري فيه ما سبق في صحيح هشام وموثقه من قرب كون مقتضي الأصل في موردهما عدم الوارث وصيروة المال للإمام (عليه السلام).

ومثلها في ذلك صحيح يونس عن نصر بن حبيب صاحب الخان:" كتبت إلي عبد صالح (عليه السلام): لقد وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم، وأنا صاحب فندق، ومات صاحبها، ولم أعرف له ورثة، فرأيك في إعلامي حالها وما أصنع بها، فقد ضقت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 1، 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 30 من أبواب كتاب الوصية حديث: 2.

ص: 401

بها ذرعاً. فكتب: اعمل فيها وأخرجها صدقة قليلاً قليلاً حتي يخرج"(1).

بل الترخيص في العمل بها والتدرج في التصدق بقدرها قليلاً قليلاً يناسب ملكية الإمام (عليه السلام) لها واقعاً أو ظاهراً. نعم يمكن أن يرخص (عليه السلام) في العمل بالمجهول المالك، لعموم ولايته. إلا أنه لا يعهد منهم (عليهم السلام) إعمال هذه الولاية.

ولا أقل من أن احتمال ابتناء الأمر بالتصدق في هذه النصوص علي الحكم بملكية الإمام (عليه السلام) للمال لكونه وارث من لا وارث له يمنع من الاستدلال بها في المقام.

اللهم إلا أن يقال: الذي يظهر من مساق هذه النصوص كون المنظور للسائل هو الجهل بالمالك والتحير بسبب ذلك، من دون نظر إلي أن المال للإمام (عليه السلام) لأصالة عدم الوارث، لظهور أن ذلك يقتضي تسليم المال للإمام (عليه السلام) رأساً وعدم الضيق بتحمل تبعة حفظ المال وانتظار العثور علي الوارث.

ولا يظهر من الإمام (عليه السلام) ردع السائل عن ذلك، بل مجاراته فيه، كما يناسبه الأمر بطلب الوارث وانتظار من يطلب المال. وذلك يوجب انصراف النصوص لبيان حكم المال من حيثية كونه مجهول المالك، وإغفال الأصل المذكور، إما لعدم كون الإمام (عليه السلام) في مقام الجري عليه، أو لفرض العلم بوجود الوارث إجمالاً وإن لم يعرف ويعثر عليه.

ومن ثم يقوي الاستدلال بهذه النصوص، لولا ما سبق من اضطراب متن صحيح هشام وموثقه. ولا أقل من كونها مؤيدة للحكم ومشعرة بأن موردها لو كان من مجهول المالك لكان حكمه الصدقة.

نعم قد يعارضها في ذلك ما في صحيح يونس عن الهيثم: "كتبت إلي عبد صالح (عليه السلام): إني أتقبل الفنادق فينزل عندي الرجل، فيموت فجأة، ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ولا ورثته، فيبقي المال عندي كيف أصنع به ؟، ولمن ذلك المال ؟ قال: اتركه علي حاله" (2) حيث تضمن الأمر بترك المال ولم يرخص في التصدق به، فضل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وأشباهه حديث: 4.

ص: 402

عن الأمر بذلك. ومثله ما تقدم في صحيح هشام بن سالم الثاني.

وحينئذٍ إن كان الحكم في هذه النصوص شخصياً للإمام (عليه السلام) بعد الحكم بكون المال له فلا تعارض بين هذه النصوص، لإمكان اختلاف حكمه الشخصي باختلاف الموارد. أما إذا كان الحكم فيها شرعياً مبنياً علي كون المال مجهول المالك فاللازم التعارض بينها وتساقطها وعدم نهوضها بالاستدلال، ولا التأييد.

اللهم إلا أن يجمع بينها بحمل نصوص ما تضمن التصدق علي الترخيص في التصدق مع اليأس من العثور علي المالك من أجل التخلص من مشكلة حفظ المال، وما تضمن إبقاء المال علي استحباب الانتظار بأمل العثور علي المالك ولو بوجه غير محتسب الذي هو لا ينافي اليأس عرفاً. وإن كان الأمر بعد لا يخلو عن إشكال.

ومنها: خبر حفص بن غياث: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً، واللص مسلم هل يرد عليه ؟ فقال: لا يرده، فإن أمكنه أن يرده علي أصحابه فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردها عليه، وإلا تصدق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله، وإن اختار الغرم غرم له، وكان الأجر له"(1).

وضعف سنده - باشتماله علي القاسم بن محمد الأصفهاني غير الثابت التوثيق

قد يهون، لانجباره بعمل الأكثر، كما في الجواهر. إلا أنه تضمن إجراء حكم اللقطة عليه بالتعريف به سنة، وعليه جري الأصحاب في وديعة اللص. وهو غير المدعي في مجهول المالك.

لكن يظهر من الجواهر حمله علي حكم مجهول المالك وأن مورده منه. قال في رد بعض الأقوال الأخر في وديعة اللص:" إلا أن الجميع كما تري، خصوصاً بعد م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 18 من أبواب كتاب اللقطة حديث: 1.

ص: 403

سمعت من الخبر المعمول به بين الأصحاب الموافق للمعلوم من حكم مجهول المالك، الذي ما نحن فيه فرد منه. ولا ينافي التعريف سنة الذي هو حكم اللقطة، لا مجهول المالك الذي حدّ التعريف به اليأس، لا السنة. لإمكان حمل الخبر المزبور علي إرادة حصول اليأس بذلك غالباً. أو علي إرادة بيان أن الفرض مثل اللقطة التي عرفت حولاً في أصل التصدق بها والضمان، بقرينة قوله: "وإلا" المراد منه عدم أمكان ردهّ علي صاحبه حتي بالتعريف، لحصول اليأس منه".

وهو كما تري، فإن حمل التحديد بالحول في الخبر علي إرادة حصول اليأس بذلك غالباً، مخالف لظاهره جداً. ولاسيما بعد كون التحديد المذكور من تتمة تنزيل المورد منزلة اللقطة، التي يعتبر الحول فيها بخصوصيته.

وأضعف من ذلك ما ذكره أخيراً من حمل قوله:" وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة "علي معني وإن لم يمكن رده علي أصحابه حتي بعد التعريف، وأن المراد تنزيله منزلة اللقطة المعرف بها في التصدق، لا في التعريف. إذ هو مبني علي تكلف مخالف لظاهر التنزيل جداً، حيث لا فائدة في ذكر اللقطة حينئذٍ بل المناسب حينئذٍ أن يقول: فإن أمكنه أن يرده علي أصحابه فعل، وإلا تصدق به، فإن جاء طالبه... بل التفكيك في أحكام اللقطة المذكورة في الخبر - بجعل بعضها داخلاً في الموضوع المنزل عليه، وبعضها خارجاً عنه بلحاظه يكون التنزيل - مبني علي تكلف لا يناسبه سوقها في مساق واحد. ومن ثم يقوي جداً كون التنزيل بلحاظ جميع أحكام اللقطة بما في ذلك التعريف في الحول.

وعلي ذلك يلزم حمل قوله:" فإن أمكنه أن يرده علي أصحابه... "علي أنه إن أمكنه أن يرده علي أصحابه لمعرفته بهم فعل، وإن لم يمكن رده عليهم للجهل بهم كان في يده بمنزلة اللقطة...

وهو الذي فهمه من أفتي بمضمون الخبر من الأصحاب. قال في النهاية:" وإذا كان المودع ظالماً، وما أودعه يكون مغصوباً لم يجز للمودع رده عليه... وعليه أن

ص: 404

يردها إلي أربابها إن عرفهم، فإن لم يعرفهم عرفها حولاً كما يعرف اللقطة، فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها عنه "ونحوه في الشرايع والقواعد وغيرهما. ومن هنا لا مجال للاستدلال بالخبر في المقام.

ومثله الاستدلال بجميع نصوص اللقطة للمطلوب، حيث جعلها شيخنا الأعظم (قدس سره) في جملة النصوص المؤيدة لمرسلة السرائر المتضمنة وجوب التصدق في المقام. وقد سبق أن جعله (قدس سره) تلك النصوص مؤيدة للمرسلة بلحاظ ورودها في موارد أخر غير جوائز السلطان. وذلك يناسب مفروغيته عن الاستدلال بها لوجوب التصدق في مواردها.

لكنه كما تري فإن بعض نصوص اللقطة وإن تضمن التصدق بها، إلا أن بعضها الآخر قد تضمن جواز تملكها، ولذا كان المعروف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) الجمع بين تلك النصوص بالتخيير في اللقطة بين الأمرين. مضافاً إلي ما تضمنته نصوصها أيضاً من لزوم مضي السنة. وكل ذلك لا يناسب المدعي في حكم مجهول المالك، كما لا يناسب النصوص التي تقدم الاستدلال بها له، فكيف يمكن جعل نصوص اللقطة من مؤيداته ؟!.

هذه جميع النصوص التي استدل أو يستدل بها في المقام. وقد ظهر مما تقدم انحصار الدليل بالنصوص الأول التي سبق منا الاستدلال بها. وإن كانت قد تؤيد بالنصوص المتقدمة الواردة فيمن مات ولم يعرف له وارث.

والنصوص المذكورة وإن وردت في موارد خاصة مختلفة، من دون أن يرد شيء منها في جوائز السلطان، ولا في عموم المال المجهول مالكه، إلا أن إلغاء خصوصية مواردها واستفادة عموم التصدق بالمال المجهول مالكه منها قريب جداً، لأن ذلك هو الجهة الارتكازية الجامعة بين الموارد المذكورة.

ولاسيما مع قوله (عليه السلام) في معتبر علي الصائغ المتقدم:" تصدق به إما لك وإما لأهله "ونحوه في حديث آخر، لظهورهما في المفروغية عن رجحان الصدقة علي كل

ص: 405

التقديرين، وذلك يناسب المفروغية عن رجحان الصدقة بمال الغير مع الجهل به.

ويعضد ذلك ظهور حال الأصحاب في فهم العموم المذكور من هذه النصوص وإلغاء خصوصية مواردها، حيث يناسب ذلك ارتكازية الجهة المناسبة للعموم عرفاً.

إن قلت: كما تضمنت هذه النصوص إطلاق الحكم بالصدقة في مواردها كذلك تضمنت نصوص اللقطة بعد الجمع بينها التخيير بين الصدقة والتملك بعد التعريف سنة. وليس التعدي عن موارد هذه النصوص بالبناء علي عموم وجوب التصدق بمجهول المالك بعد اليأس عن الوصول لصاحبه إلا في اللقطة بأولي من التعدي عن موارد نصوص اللقطة بالبناء علي عموم وظيفتها لجميع أفراد مجهول المالك إلا في موارد هذه النصوص، كما هو المناسب لما تقدم في خبر حفص بن غياث من إلحاق موارده باللقطة.

نعم لو كان لنصوص وظيفة مجهول المالك عموم يشمل جميع أفراده تعين العمل عليه والاقتصار في الخروج عنه علي موارد نصوص اللقطة وما ألحق بها، لأنها أخص منه. أما حيث لم يكن لها عموم في نفسها، وفهم العموم منها بضميمة إلغاء خصوصية مواردها، فليست هي بأولي من نصوص اللقطة في ذلك.

قلت: لا مجال لإلغاء خصوصية اللقطة بعد التصريح بعنوانها في جملة من النصوص مع إمكان اختصاص العنوان المذكور بأحكامها عرفاً. بخلاف نصوص مجهول المالك، فإنها قد وردت في موارد خاصة مختلفة يصعب البناء علي دخل خصوصياتها في حكمها، ولا جامع عرفي بينها إلا اليأس من الوصول لمالكها بسبب الجهل به، حيث يكون ذلك منشأ لفهم العرف عموم حكمها للجامع المذكور. ولاسيما بملاحظة ما سبق من اعتضاد العموم المذكور بفهم الأصحاب، وبما تضمنه حديثا علي الصائغ.

علي أنه لو فرض التردد بين الوجهين، وعدم المعين لما ذكرنا، فحيث اتفقت

ص: 406

نصوص المقام ونصوص اللقطة علي مشروعية الصدقة، فاللازم الاقتصار عليها في غير اللقطة من مجهول المالك، لأصالة عدم نفوذ التملك، وعدم جواز تصرف من بيده المال بالمال واستغلاله لصالحه.

إن قلت: بناءً علي ذلك يتعين الانتظار في التصدق بمجهول المالك - في غير موارد النصوص المتقدمة - إلي مضي الحول، إذ بعد احتمال الاقتصار علي موارد النصوص المتقدمة وتحكيم نصوص اللقطة في بقية موارد مجهول المالك فمقتضي الأصل عدم جواز التصدق وعدم نفوذه قبل مضي الحول.

قلت: الذي تضمنته نصوص اللقطة هو اعتبار الحول من أجل التعريف بالمال، ولا موضوع للتعريف عرفاً مع اليأس من العثور علي المالك. وحينئذٍ فمع اليأس من الوصول للمالك يتعين عدم وجوب الفحص وعدم انتظار الحول حتي في اللقطة، ومع عدم اليأس من الوصول للمالك يتعين الانتظار حتي بعد الحول في غير اللقطة من مجهول المالك، بعد عدم وضوح التعدي عن مورد نصوص اللقطة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في نصوص المقام ونصوص اللقطة في مشروعية التصدق بالمال. كما أنه يتعين في غير اللقطة من مجهول المالك عدم مشروعية التملك، إما لاستفادة عموم وجوب التصدق بمجهول المالك من نصوص المقام، وإما لأن مقتضي الأصل عدم مشروعية التملك في غير اللقطة.

وبذلك يظهر تأيد الحكم المدعي في المقام بنصوص اللقطة بضميمة الأصل المذكور. وإن لم تنهض بالاستدلال ولا التأييد استقلالاً، كما سبق.

نعم قد ينافي الحكم المذكور صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام):" في رجل كان له علي رجل حق، ففقده ولا يدري أين يطلبه، ولا يدري أحي هو أم ميت، ولا يعرف له وارثاً ولا نسباً ولا ولداً. قال: اطلب. قال: فإن ذلك قد طال، فأتصدق به ؟ قال: اطلبه"(1). فإن مورده مجهول المالك أو ما يتعذر الوصول لمالكه، لأن المفروض فيه احتمال حياة الرجل التي هي مقتضي الاستصحاب، ولم يفرض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وما أشبهه حديث: 2.

ص: 407

فيه موته، ليحتمل كون المال ميراث من لا وارث له، ومع ذلك لم يفسح فيه المجال للصدقة، بل ألزم بالانتظار. وكذا صحيح هشام بن سالم عن أبي إبراهيم (عليه السلام) المتقدم.

لكنه لا ينهض في قبال ما سبق. ولاسيما مع إمكان حمله علي عدم اليأس من العثور علي المالك، لأن طول المدة لا يستلزم اليأس من العثور عليه. أو علي كون الحق ذمياً، كما هو الظاهر من التعبير في الصحيح بأن له حق ومثله في ذلك صحيح هشام بن سالم، حيث لا يبعد ظهور قوله: "وبقي من أجره شيء" في كونه ذمياً. ويأتي إن شاء الله تعالي عدم مشروعية الصدقة في الذمي.

هذا وربما يدعي في المقام وجوه أخر:

الأول: ما في السرائر من وجوب حفظ المال المجهول لمالكه، ولو بوصية من بيده به حين وفاته. لأن ذلك هو مقتضي القاعدة الأولية المعتضدة بالنصوص المتقدمة، كصحيح معاوية بن وهب وغيره.

ويظهر ضعفه مما سبق من عدم نهوض النصوص المذكورة بذلك ولزوم الخروج عن القاعدة بنصوص التصدق المتقدمة. مؤيداً باستبعاد تكليف من بيده المال بحفظه، لصعوبة ذلك جداً، ولتعرض المال بذلك للخطر، وعدم انتفاع مالكه به حينئذٍ أصلاً.

الثاني: أن المال المجهول المالك للإمام (عليه السلام)، لحديث داود بن أبي يزيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رجل: إني قد أصبت مالاً، وإني قد خفت فيه علي نفسي. ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت منه. قال: فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): والله لو أصبته كنت تدفعه إليه ؟ قال: إي والله. قال: فأنا والله، ما له صاحب غيري. قال: فاستحلفه أن يدفعه إلي من يأمره. قال: فحلف. فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك، ولك الأمن مما خفت منه. قال: فقسمته بين أخواني "(1) ومعتبر محمد بن القاسم بن الفضيل عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب كتاب اللقطة حديث: 1.

ص: 408

أبي الحسن (عليه السلام):" في رجل كان في يده مال لرجل ميت لا يعرف له وارثاً، كيف يصنع بالمال ؟ قال: ما أعرفك لمن هو. يعني نفسه"(1).

لكن الأول - مع عدم خلو سنده عن الإشكال لاشتراك موسي بن عمر - ظاهر السؤال فيه الجهل بمالك المال الخاص بعنوانه الأولي، لا بعنوان كونه مجهول المالك، وحينئذٍ يكون ظاهر الجواب فيه ملكية الإمام (عليه السلام) للمال المذكور بذاته لا بعنوان كونه مجهول المالك، فيكون وارداً في قضية خاصة مجهولة الخصوصيات، وربما يكون المال ملكاً للإمام (عليه السلام) لكونه ميراث من لا وارث له، أو لكونه غنيمة حرب من غير إذن الإمام، أو غير ذلك.

ودعوي: أن ذلك بعيد في نفسه، حيث لم يشر السائل لعنوان المال الذي يكون به ملكاً للإمام بنفسه، ومن البعيد جداً ابتناء جواب الإمام (عليه السلام) علي علمه بعنوان المال بالطرق الغيبية الخاصة به، بل الظاهر ابتناء جوابه (عليه السلام) علي كونه (عليه السلام) هو المالك للمال بعنوانه المتحصل من السؤال، وهو كونه مجهول المالك، لأن ذلك يكفي في حلّ مشكلة السائل ورفع حيرته.

مدفوعة بأن ذلك راجع إلي حمل كلام الإمام (عليه السلام) علي خلاف ظاهره البدوي الذي يقتضيه سياق الكلام لمجرد استبعاد إرادة الظاهر المذكور، وذلك وحده لا يكفي في الظهور الحجة. وليس هو بأولي من حمل جواب الإمام (عليه السلام) علي إرادة بيان أنه (عليه السلام) المرجع في تعيين مصرف المال وحلّ المشكلة، إما لكونه ولياً عليه، أو لكونه العالم بحكمه، فلا ينافي النصوص المتقدمة المتضمنة الأمر بالتصدق بالمال.

وأما الثاني فمن القريب ابتناء الحكم فيه بأنه للإمام علي كون مقتضي الأصل عدم الوارث لصاحب المال، فيكون المال ميراث من لا وارث له، لا علي فرض كونه ذا وارث مجهول، ليكون مجهول المالك. ولاسيما مع ظهور الجواب في أن الحكم بأن المال المذكور له (عليه السلام) من الواضحات التي لا تخفي علي السائل، حيث لا يظهر منش

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 6 من أبواب ميراث الخنثي وما أشباهه حديث: 12.

ص: 409

لوضوح ملكية الإمام (عليه السلام) للمال المجهول مالكه، بخلاف ملكيته لميراث من لا وارث له، التي تظافرت النصوص بها(1).

ولاسيما وأنه يصعب جداً خروج المال عن ملك مالكه الواقعي بمجرد الجهل به أو اليأس من الوصول إليه، حيث يبعد جداً كون العثور علي المالك موجباً لرجوع ماله لملكه بعد خروجه عنه. وأبعد منه الالتزام بعدم رجوعه له، حيث لا إشكال ظاهراً في لزوم إرجاعه إليه. وهذا بخلاف الالتزام بخروجه عن ملكه بالتصدق كأمواله التي يتصدق بها هو، الراجع لقصور سلطنته علي المال ونفوذ تصرف غيره فيه الذي هو شايع في الغائب ومن لا يمكن الوصول إليه.

علي أنه لو تمت دلالة الخبرين علي ملكية الإمام لمجهول المالك فمقتضي الجمع بينهما وبين نصوص الصدقة المتقدمة كون التصدق بالمال هو الوجه المأذون فيه من قِبَل الإمام (عليه السلام) المالك للمال أو الولي عليه، فهو نظير ما ورد من دفع ميراث من لا وارث له لأهل بلده، ومن كون الحيازة مملكة للأرض الغامرة التي هي من الأنفال المملوكة للإمام ونحو ذلك، ولا يكون حينئذٍ كسهمه (عليه السلام) من الخمس الذي يصرف في جميع المصارف المناسبة لمنصبه، ليكون لهذه النصوص أثر عملي.

الثالث: أن مجهول المالك يجوز تملكه لآخذه مع وجوب تخميسه عليه. لصحيح علي بن مهزيار الوارد في بيان الغنائم والفوائد التي يجب فيها الخميس، حيث قال (عليه السلام) فيه: "فالغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلي موالي من أموال الخرمية الفسقة..."(2).

قال في مصباح الفقاهة:" وقد استظهر هذا الرأي من الرواية المذكورة المحقق

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس حديث: 5.

ص: 410

الهمداني. بل ذكر المحقق الإيرواني أن هذه الصحيحة صريحة في جواز تملك مجهول المالك".

وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الاستدلال به للمدعي بوجهين:

الأول: أنه ليس صريحاً في جواز تملك المال بعد إخراج خمسه، وإنما هو مطلق من هذه الجهة، وحينئذٍ يقيد بنصوص التصدق، ويكون مقتضي الجمع بينه وبينها إخراج خمسه ثم التصدق به.

وهو كما تري أولاً: لأن وجوب الخمس في المال متفرع علي كونه غنيمة وفائدة مملوكة، وهو لا يناسب نصوص التصدق التي هي صريحة أو كالصريحة في بقاء المال علي ملك مالكه إلي حين التصدق به. بل كيف يكون المال غنيمة وفائدة إذا وجب إخراج خمسه والتصدق ببقيته.

وثانياً: لأن نصوص التصدق صريحة أو كالصريحة في وجوب التصدق بتمام المال. ومن ثم يتعذر الجمع بين الطائفتين عرفاً بما ذكره (قدس سره).

الثاني: أنه لا يدل علي جواز تملك مجهول المالك، كما هو المدعي، بل علي وجوب الخمس فيما جاز تملكه من مجهول المالك من دون تعين له.

وقد يقرب ما ذكره (قدس سره) بأن الصحيح غير وارد لبيان المال الذي يجوز تملكه، ليكون مقتضي إطلاقه جواز تملك كل مال لا يعرف له صاحب، بل لشرح الغنيمة والفائدة التي يجب الخمس فيها بعد الفراغ عن جواز اغتنامها وتملكها. ولذا لا يتوهم ظهوره في جواز تملك مال كل عدو يصطلم، بل يحمل علي خصوص العدو غير محترم المال.

هذا مضافاً إلي أنه لو حمل علي جواز تملك كل مال مجهول مالكه لكان معارضاً لنصوص المقام ونصوص اللقطة الواردة بمجموعها في الشايع من أفراد مجهول المالك، والتي هي كالصريحة في عدم وجوب تخميس المال، بل يتعين التصدق به بتمامه، أو يخير بين ذلك وبين تملكه.

وحيث كانت النصوص المذكورة كثيرة عدداً مشهورة بين الأصحاب رواية

ص: 411

وعملاً فلا مجال للخروج عنها بالصحيح. ومن ثم يتعين سقوطه عن الحجية، أو حمله علي ما ذكرناه من عدم الإطلاق له في جواز تملك مجهول المالك، وإنما يدل علي وجوب الخمس في المال بعد الفراغ عن جواز تملكه. وليحمل حينئذٍ علي اللقطة بعد التعريف والتملك وما يوجد في جوف السمكة أو الدابة، والمدفون في الخربة التي جلا أهلها، ونحو ذلك مما دل الدليل علي جواز تملكه.

ولاسيما مع قرب حمل قوله (عليه السلام) في الصحيح:" ولا يعرف له صاحب "علي الجهل بوجود مالك للمال، لاحتمال كونه مباحاً أصلياً، مثل يوجد في جوف السمكة، أو احتمال بعد العهد بصاحبه بحيث مات ومات عقبه حتي يصدق عرفاً أن المال لا صاحب له. لا الجهل بصاحب المال بعد الفراغ عن وجوده الذي هو محل الكلام في المقام. وبالجملة: لا مجال للخروج بالصحيح عن النصوص المتقدمة المتضمنة للتصدق بالمال.

ومنه يظهر أنه لا مجال للبناء في مجهول المالك علي التخير بين التصدق به بتمامه وتملكه مع دفع الخمس منه جمعاً بين نصوص التصدق والصحيح المذكور. لظهور أن الجمع المذكور - مع كونه تبرعاً خالياً عن الشاهد - لا يناسب بعض نصوص التصدق المتقدمة، مثل قوله (عليه السلام) في صحيح أبي علي بن راشد:" ولا تدخل الغلة في ملكك".

بل الاقتصار في نصوص التصدق عليه وعدم التعرض فيها لإخراج الخمس الذي هو الأنفع لمن بيده المال والأحب له كالصريح في لزوم التصدق وعدم الاكتفاء بإخراج الخمس. ولاسيما في حديثي تراب الصاغة الذي يحتمل كونه أو بعضه للصائغ نفسه، حيث يكون الاكتفاء بإخراج الخمس أقرب للجمع بين الحقوق المحتملة.

الرابع: وجوب دفع المال للحاكم، لأنه ولي الغائب. وفيه: أنه لم يتضح عموم ولايته علي الغائب بحيث يكون بمنزلة وكيله المفوض في كون دفع ماله إليه بمنزلة دفعه للمالك. بل هو لا يناسب النصوص المتقدمة الدالة علي التصدق، ولاسيما بناءً علي الضمان معه لو ظهر المالك، ولا النصوص الدالة علي وجوب الحفظ، ول

ص: 412

نصوص اللقطة وغير ذلك مما ورد في مجهول المالك، حيث كان الأولي بها التنبيه علي الدفع للحاكم، كما لعله ظاهر.

غاية الأمر ثبوت ولايته حسبة في موارد الحاجة للتصرف بالمال وثبوت مشروعيته وعدم ثبوت الولي عليه، لأنه المتيقن بعد احتمال ولايته شرعاً وتوقف جواز التصرف ونفوذه علي مراجعته، وذلك لا يقتضي وجوب الدفع له بحيث تبرأ ذمة واجد المال منه بذلك. ولاسيما بعد الأمر بالتصدق به في النصوص المتقدمة. نعم قد يدعي وجوب استئذانه في التصدق وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالي.

هذه الأقوال المعتد بها في المقام. وربما كان هناك أقوال أو احتمالات أخر يظهر حالها مما سبق، لا مجال لإطالة الكلام فيها. ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والتسديد.

بقي في المقام أمور:

الأول: الظاهر عدم الفرق في وجوب التصدق بين الجهل بالمالك ومعرفته مع اليأس من الوصول إليه. لأن أكثر النصوص المتقدمة وإن وردت في صورة الجهل بالمالك، إلا أن صحيح يونس المتقدم قد ورد في صورة معرفة المالك مع اليأس من الوصول إليه، لأن مورده الرفيق في مكة، وذلك يناسب معرفته لو صادف الوصول إليه. وقوله فيه:" لسنا نعرفه ولا نعرف بلده "يراد به عدم معرفته معرفة تكون سبباً للوصول إليه، وذلك بمعرفة نسبه أو موقعه الاجتماعي أو نحوهما، لا عدم معرفته لو فرض الالتقاء به والوصول إليه، فإن ذلك بعيد جداً لا يناسب الرفاقة المفروضة في السؤال.

مضافاً إلي قرب فهم العموم من النصوص الأخر، لإلغاء خصوصية الجهل بصاحب المال عرفاً، وفهم أن المدار علي تعذر إيصال المال للمالك. ولا يبعد بناء الأصحاب علي ذلك.

نعم إذا كانت معرفة المالك مستلزمة لإمكان معرفة وارثه فالظاهر قصور النصوص عنه حتي صحيح يونس، لإمكان الوصول إلي مالك المال بالانتظار،

ص: 413

ويلحقه حينئذٍ حكم مال المفقود من التربص به مدة، ثم دفعه للوارث علي ما يذكر في محله. والظاهر مفروغية الأصحاب عن ذلك.

الثاني: المتيقن من وجوب التصدق ما إذا كان المال المجهول مالكه خارجياً شخصياً، لأنه مورد النصوص المتقدمة.

وأما إذا كان ذمياً - كالقرض وعوض المتلفات والمنافع المستوفاة - فيظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) عموم الحكم له، بل المفروغية عن ذلك. وعليه جري من تأخر عنه حتي شاع في عصورنا وما قاربها أن من الوجوه الشرعية ردّ المظالم التي هي عبارة عن الصدقات المدفوعة لبراءة الذمة مما تنشغل به من حقوق للمجهولين الذين لا يمكن التعرف عليهم ولا الوصول إليهم.

وقد صرح شيخنا الأعظم (قدس سره) بورود الأخبار بالتصدق بالدين المجهول المالك. لكن لم أعثر علي شيء من الأخبار المذكورة عدا مرسلة الصدوق المتقدمة في الاستدلال علي وجوب التصدق في المقام، بناءً علي كون موردها هو مورد صحيح معاوية بن وهب الوارد فيمن له علي رجل حق ففقده، لظهور التعبير فيه في الدين كما سبق.

وقد سبق المنع من الاستدلال بالمرسلة لضعفها، ولقرب كونها مقتطعة من معتبر العباس بن عامر أو المثني بن عبد السلام المتقدم الوارد فيمن أوصي له بوصية فمات قبل أن يقبضها، ولم يعلم أن له ولي، ومن الظاهر أن المال الموصي به ليس ذمياً، بل معيناً، أو كلياً ثابتاً في التركة، يتشخص بتشخيص الوصي.

نعم قد يستدل بنصوص المقام لدعوي إلغاء خصوصية مواردها، وفهم العموم منها، بلحاظ أن المستفاد منها كون الأمر بالتصدق لأنه أقرب طرق إيصال نفع المال للمالك، ولا يفرق في ذلك بين المال الشخصي الخارجي والكلي الذمي.

لكنها تندفع بقرب كون تشريع التصدق للإرفاق بمن عنده المال، لصعوبة حفظ المال، خصوصاً إذا طالت المدة وحصل اليأس من الوصول للمالك عرفاً. بل لو

ص: 414

علم بعدم الوصول له فلا موضوع لحفظ المال، ولابد من حل مشكلته بالتصدق أو بغيره أما إذا كان ذمياً فلا يلزم المحذور المذكور.

مضافاً إلي الإشكال في الذمي بعدم تعينه إلا باتفاق الدائن والمدين علي تعيينه، ولا دليل علي استقلال المدين بتعيينه مع تعذر الوصول للدائن، ليمكن التصدق به عنه.

ودعوي: أنه يلزم الرجوع للحاكم الشرعي، فيقوم مقام المدين في ذلك، لولاية الحاكم علي الغائب. ممنوعة، لما سبق من عدم ثبوت عموم ولاية الحاكم علي الغائب. وولايته حسبة إنما تنفع في موارد العلم بوجوب التصدق وعدم ثبوت الولي عليه، والمفروض في المقام الشك في وجوب التصدق. لاختصاص دليله بالمال الخارجي.

هذا وقد ذكر الشيخ (قدس سره) وجماعة أن من كان عليه دين لغائب لا يقدر عليه وجب عليه عزل دينه - مطلقاً أو إذا حضرته الوفاة - ثم يوصي به. وقد يدعي الإجماع علي ذلك.

فإن كان مرادهم به براءة ذمة المدين بذلك، لتعين الدين في المال المعزول، ويكون أمانة في يده أو يد من يوصي إليه به لا يضمن إلا بالتفريط، أشكل بأنه خروج عن مقتضي استصحاب بقاء الدين في الذمة من دون دليل بعد ما سبق من عدم الدليل علي استقلال المدين بعزل الدين، وأنه لو فرض استقلاله بالولاية علي ذلك فلا دليل علي وجوبه.

ودعوي: أن ذلك أحري بحفظ الحق لصاحبه، لتعرض أمواله للتلف، خصوصاً بعد وفاته، حيث تتوجه الأطماع للتركة ممن لا يهمهم حفظ الحق لصاحبه.

مدفوعة: أولاً: بأن ذلك يختلف باختلاف الموارد، إذ قد يكون حفظ المال المعزول بعد تعيين الدين به أصعب من حفظ مجموع مال المدين أو حفظ الحق في تركته، ولا ضابط لذلك. وثانياً: بأن مجرد كون ذلك أحري بحفظ الحق لصاحبه لا يقتضي وجوبه ما لم يكن تركه تفريطاً في أداء الدين عرفاً.

ص: 415

وإن كان مرادهم وجوب العزل من أجل التحفظ علي الحق من الضياع، بإفلاس المدين في حياته، أو تعرض تركته للضياع بسبب تعلق أطماع من لا يهمه أداء الدين لصاحبه منها، من دون أن يتعين الدين في المال المعزول، ولا تبرأ منه ذمة المدين، وعلي ذلك فالعزل لمجرد تيسر وفاء الدين بذلك المال مع بقائه علي ملك المدين إلي أن يتحقق الوفاء به.

ففيه: أولاً: أنه لا دليل علي وجوب ذلك بعد عدم تحقق الوفاء به. وثانياً: أن المال المعزول إذا لم يتعين الدين به ولم يخرج عن ملك المدين فلا أثر للعزل في حفظ الدين، لأن المال المذكور يبقي كسائر أموال المدين مورداً لتزاحم الحقوق الواردة عليه وعلي ماله، ولا معين له في وفاء الدين المذكور، بحيث يترجح هذا الدين علي غيره من المصارف، بل ليس الدين المذكور إلا كسائر الديون غير المطالب بها فعلاً.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما في الشرايع والقواعد من الجمع بين الحكم بعزل الدين الذي لا يقدر علي صاحبه والتردد في وجوب التصدق به بعد اليأس من العثور علي صاحبه.

إذ العزل إن كان موجباً لتعيين الدين في المال المعزول، تعين وجوب التصدق بذلك المال، كسائر أفراد المال الخارجي المجهول صاحبه بعد اليأس من الوصول له. وإن لم يكن موجباً لتعيين الدين في المال المعزول تعين عدم وجوب التصدق، إذ لا يحتمل وجوب التصدق علي المدين مع بقاء الدين في ذمته.

اللهم إلا أن يرجع التردد منهما في وجوب التصدق به للتردد في تعين الدين في المال المعزول بمجرد العزل أو بعد اليأس من الوصول للمالك. إذ لو رجع التردد منهما لاحتمال وجوب تفريغ الذمة من الدين بالصدقة من دون أن يتعين الدين في المال المعزول، فالمناسب منهما حينئذٍ الاكتفاء في الخروج عن الاحتمال المذكور بالتصدق مطلقاً ولو بغير المال المعزول، ولم يبق وجه لوجوب العزل.

وكيف كان فلا مجال للتعدي عن مورد نصوص المقام، وهو المال الخارجي،

ص: 416

وفهم العموم منها للذمي بعد ما سبق.

مضافاً إلي أمرين:

أحدهما: ما يظهر من بعض النصوص من عدم وجوب التصدق: منها: موثق زرارة أو صحيحه: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر علي صاحبه، ولا علي ولي له، ولا يدري بأي أرض هو. قال: لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء"(1).

ويؤيده أو يعضده ما تقدم في صحيح معاوية بن وهب من الاقتصار علي الأمر بالطلب فيمن له علي رجل حق ففقده، وعدم تشريع التصدق حتي مع طول المدة، لما سبق من ظهور الحق فيه في الذمي، فإنه وإن سبق أن طول المدة لا يستلزم اليأس من العثور علي صاحب الحق، إلا أنه يكفي عمومه له مورداً، بل كونه أظهر موارده.

ومثله في ذلك صحيح هشام بن سالم عن أبي إبراهيم المتقدم، حيث لا يبعد ظهور قوله فيه:" وبقي من أجره شيء "في الذمي، ولو كان قد قبض الأجر وتعين لكان الأنسب التعبير بأنه قد بقي له دراهم مثلاً. ولا أقل من عمومه للذمي، فينفع في المقام.

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة المتقدم الوارد في عامل بني أمية الذي تاب واستأذن له علي الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث اقتصر (عليه السلام) فيه علي حكم المال الموجود من دون تنبيه للتخلص من تبعة المال الذي أنفقه أو تلف عنده في المدة الطويلة في حق من لا يعرفه، وأنه يجب عليه التصدق بقدره عنه من المال الموجود عنده، أو الذي يحصله بعد ذلك من وجوه الحلال.

ومنها: موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

من ظلم أحداً وفاته، فليستغفر الله له، فإنه كفارة له" (2) . لظهور أن كثيراً من أنحاء الظلم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 22 من أبواب الدين والقرض حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 78 من أبواب جهاد النفس حديث: 5.

ص: 417

أو أكثره يستتبع الضمان المالي، إما لكون الظلامة مالية، أو لكونها بدنية مضمونة بالمال، فالاقتصار علي الاستغفار كالصريح في عدم وجوب غيره من البدل المالي بأن يتصدق به أو غيره.

ثانيهما: أن انشغال الذمم للمجهول ومن لا يقدر الوصول له شايع في جميع العصور بما في ذلك عصور المعصومين (صلوات الله عليهم)، كما في السراق وولاة الجور والمرابين وسائر من يمارس المعاملات المحرمة والباطلة، ويتعرض للتعدي علي أموال الناس عمداً أو جهلاً، وكثيراً ما يتوب العامد من عمله، أو ينكشف الحال للجاهل، ومن الطبيعي أن يطلب المخرج، وهو ظاهر في حق من يعرفه ويقدر علي الوصول إليه، حيث لا إشكال في وجوب ردّ الحق له، عملاً بمقتضي القاعدة، وبه تظافرت النصوص(1).

أما في حق من لا يعرفه أو لا يقدر علي الوصول إليه فمن القريب جداً بناء الناس - بمقتضي طبعهم الأولي - علي أن تعذر الوصول إليه وإيصال الحق له كاف في المعذرية من جهته، ويحتاج معرفة التكليف بالبدل - من التصدق أو غيره - للتنبيه من قبل الشارع الأقدس، فلو كان ثابتاً لكثر التنبيه عليه في النصوص، وكثر السؤال عن ذلك وعن فروعه، كما نجده الآن حين أفتي الفقهاء بذلك وجروا عليه. فسكوت النصوص عن ذلك يناسب قيام السيرة علي عدمه، ويشرف بالإنسان علي القطع بذلك.

ومن هنا يقوي البناء علي عدم وجوب التصدق في المقام، والاكتفاء بالعزم علي نية الوفاء لو قدر علي صاحب الحق، لما تقدم في حديث زرارة، وبالاستغفار لصاحب المال، لموثق السكوني، لكن مع تعمد ظلمه بأخذ المال، ليكون ذنباً يحتاج للكفارة. بل قد يقال بوجوبه مطلقاً، عملاً بإطلاق الموثق، بحمل الكفارة فيه علي تكفير الظلم وسقوط تبعته، ولو كانت أمراً غير العقاب الذي ينحصر سببه بالذنب. فلاحظ.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 78 من أبواب فعل المعروف، وج: 12 باب: 47، 76 من أبواب ما يكتسب به، وباب: 3 من أبواب عقد البيع وشروطه وغيرها.

ص: 418

إن قلت: إن بني علي عدم وجوب التصدق في المقام علي من عليه الحق - من أجل ما سبق - فلا مجال للبناء علي براءة ذمته من المال بغير الأداء. وحينئذٍ له المطالبة بتفريغ ذمته منه، لأن بقاء انشغال ذمته به ضرر عليه، فيتعين استقلاله بعزله، أو الرجوع في ذلك للحاكم الشرعي، لولايته عليه ولو حسبة، بنحو يكون المتيقن من نفوذ العزل ما إذا كان بإذنه.

قلت: الضرر المذكور - لو تم - لا يكفي في مشروعية العزل مع عدم القدرة علي المالك، لمنافاته للامتنان في حقه بعد عدم سقوط حرمته بامتناعه. ولاسيما مع ما تقدم في صحيحي معاوية بن وهب وهشام بن سالم من الاقتصار علي الأمر بطلب صاحب الحق وعدم تشريع التصدق وإن طالت المدة.

إن قلت: لو تم ذلك في حق من عليه الحق فلا مجال له في حق وارثه، لما هو المعلوم من ثبوت ديون الميت في تركته، وعدم جواز تصرف الوارث في التركة قبل وفاء الدين، ومنع الوارث من التركة ضرر عليه، بل يقطع بعدم رضا الشارع الأقدس به، فيتعين عزل الدين ثم التصرف في التركة، كما لا يبعد بناؤهم عليه في الدين المعلوم المالك إذا لم يتيسر المبادرة لوفائه، كغيبة الدائن أو نحو ذلك، ومع عزل الدين وتعينه في المعزول يتعين جريان حكم المال الخارجي المجهول المالك عليه، وهو التصدق به.

قلت: الظاهر عدم مانعية الدين المذكور من تصرف الوارث في التركة، كما هو مقتضي قوله (عليه السلام) في صحيح هشام بن سالم المتقدم: "فإن قدرت عليه، وإلا فهو كسبيل مالك حتي يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء له طالب أن يدفع إليه" .لظهوره في كونه بحكم ماله مطلقاً ولو بعد وفاته ما لم يجيء له طالب.

بل هو المستفاد تبعاً من جميع ما يظهر منه عدم تكليف المدين بالوفاء، كحديث زرارة وموثق السكوني وخبر علي بن أبي حمزة المتقدمة، لما هو المعلوم من تبعية الوارث للمدين، فمع عدم تكليف المدين بالوفاء يغفل عن تكليف وارثه به، فسكوت هذه النصوص وغيرها عن التنبيه لذلك، وعن وجوب الوصية بالدين من أجله، يوجب

ص: 419

ظهوره تبعاً في عدمه. وأظهر من ذلك السيرة التي أشرنا إليها، حيث لا إشكال في عمومها للمدين ووارثه. فلاحظ والله سبحانه وتعالي العالم العاصم.

هذا وقد صرح كاشف الغطاء في شرحه علي القواعد في مسألة جوائز الظالم بأن ما يأخذه الظالم غصباً مضمون عليه ويقاص به من ماله، إلا أنه إذا تلف لا يلحقه حكم الدين في التقديم علي الوصايا والمواريث. قال: "ويؤخذ من الظالم قهراً مع الإمكان إن بقيت في يده، وعوضها مع التلف، ويقاص بها من أمواله مع حياته... إلا أن ما في يده من المظالم تالفاً لا يلحقه حكم الديون في التقديم علي الوصايا والمواريث، لعدم انصراف الدين إليه وإن كان منه، وبقاء عموم الوصية والمواريث علي حاله. وللسيرة المأخوذة يداً بيد من مبدأ الإسلام إلي يومنا هذا...".

وفي الجواهر أنه لم يجد له موافقاً في ذلك. علي أنه في غاية المنع، كما ذكره في الجواهر شيخنا الأعظم (قدس سره). لمنع الانصراف. بل لا معني للتفريق فيه بين أحكام الدين، فتجوز المقاصة به ويجب عليه وفاؤه في حياته، ولا يترتب عليه الأثر في تركته بعد وفاته. كما لا معني للتفريق فيه بين الجائر وغيره. ولعدم ثبوت السيرة بين المتدينين بنحو تكشف عن رأي المعصوم الحجة.

وإنما تختص السيرة بما ذكرنا من فرض عدم معرفة صاحب الحق وتعذر الوصول إليه من دون فرق بين حياة المدين وموته، ولا بين الظالم وغيره. كما أن الذي يدعم السيرة ما ذكرناه من الأدلة، دون الانصراف.

نعم كثيراً ما لا يكون الظالم ضامنا لما يأخذه، لعدم وضع يده عليه، بل يستعين بأتباعه، فيكونون هم المباشرين للظلم بأخذ المال وإتلافه، والضمان حينئذٍ عليهم، لا عليه. إلا أن يريد (قدس سره) بالظالم ما يعمّ الأتباع. فلا يظهر الأثر لذلك في مدعاه.

الثالث: هل يستقل من بيده المال المجهول المالك بالتصدق به، أو لابد له من استئذان الحاكم الشرعي فيه ؟ مقتضي إطلاق النصوص المتقدمة وفتاوي الأصحاب في المقام وغيره من موارد مجهول المالك الأول.

ص: 420

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "ويمكن أن يقال: إن أخبار التصدق واردة في مقام إذن الإمام (عليه السلام) بالصدقة. أو محمولة علي بيان المصرف، فإنك إذا تأملت كثيراً من التصرفات الموقوفة علي إذن الحاكم وجدتها واردة في النصوص علي طريق الحكم العام، كإقامة البينة والإحلاف والمقاصة. وكيف كان فالأحوط - خصوصاً بملاحظة ما دلّ علي أن مجهول المالك مال الإمام (عليه السلام) - مراجعة الحاكم في الدفع إليه أو استئذانه.

ويتأكد ذلك في الدين المجهول المالك، إذ الكلي لا يتشخص للغريم إلا بقبض الحاكم الذي هو وليه، وإن كان ظاهر الأخبار الواردة فيه ثبوت الولاية للمديون".

وفيه: أن حمل أخبار التصدق علي بيان إذن الإمام (عليه السلام) بالصدقة مخالف لظاهرها جداً، لظهور حال السائل في السؤال عن حكم المال شرعاً، لا في الاستئذان في التصدق به بعد الفراغ عن وجوبه شرعاً وعن لزوم استئذان الإمام فيه، ومقتضي مطابقة الجواب للسؤال حمل الأمر بالتصدق علي أنه الحكم الشرعي، لا الحكم الشخصي الراجع للإذن فيه. بل هو كالصريح من قوله (عليه السلام) في حديث تراب الصاغة: "إما لك وإما لأهله" لوضوح عدم احتياج تصدق الإنسان بماله للإذن. وحينئذٍ يكون مقتضي إطلاقه عدم اعتبار إذن الإمام فيه، فضلاً عن الحاكم الشرعي.

ومثله في الإشكال حمل الأخبار المذكورة علي بيان المصرف الشرعي من دون نظر لمن يتولي صرفه فيه وشروط صرفه، كي لا يكون له إطلاق يقتضي قيام من عنده المال به من دون حاجة للاستئذان. إذ هو مخالف لظاهر خطاب من عنده المال بالتصدق الظاهر في توليه له بنفسه من دون حاجة للاستئذان.

ومثله في ذلك المقاصة. ولذا كان الظاهر عدم الحاجة للاستئذان فيها، عملاً بإطلاق أدلتها الظاهرة في قيام صاحب الحق بها بمجرد ثبوت الحق له وإن لم يستأذن.

وكذا الحال في إقامة البينة والعمل بها، فإن مقتضي إطلاق أدلة حجيتها عموم

ص: 421

حجيتها لكل أحد ولو في غير مورد القضاء وفصل الخصومة. بل يكفي في حجيتها قيامها بنفسها ولو لم يقمها صاحب الحق.

نعم فصل الخصومة بها مختص بالحاكم، لأنه من شؤون القضاء المختص به. وكذا الإحلاف، بل لا أثر له إلا فصل الخصومة التي هي وظيفة القاضي. وأما الحجة في مورده فهي اليد والأصل ونحوهما مما يكون موافقه هو المنكر، وهو حجة في نفسه في حق كل أحد من دون حاجة لليمين. ومن ثم يتعين حمل أدلة الإحلاف علي بيان وظيفة القاضي دون غيره.

وبعبارة أخري: حمل الإطلاق علي ما ذكره يحتاج إلي قرينة خاصة كما في الإحلاف، ومع عدمها يتعين البناء علي مقتضي الإطلاق، كما في المقام.

وأما ما تضمن أن مجهول المالك ملك الإمام (عليه السلام) فهو - لو تم - يقتضي بدواً وجوب استئذان الإمام في صرفه، ومع تعذر الرجوع له يتعين الاحتياط بالرجوع للحاكم، لاحتمال قيامه مقامه في ذلك، كما هو الحال في سهم الإمام (عليه السلام). لكن سبق قصوره سنداً ودلالة.

مع أن مقتضي الجمع بينه وبين نصوص التصدق أن المال وإن كان له (عليه السلام)، إلا أنه قد عين صرفه بالتصدق، كما سبق نظير ملكه (عليه السلام) للأرض الموات مع ترخيصه في تملكها بالحيازة، وحينئذٍ فمقتضي إطلاق نصوص التصدق ولاية من بيده المال عليه من دون حاجة إلي مراجعة الإمام (عليه السلام) فضلاً عن الحاكم الشرعي، وليس هو كسهمه (عليه السلام) لم يخاطب شخص خاص بمصرف خاص له، ليكون مقتضي إطلاق الخطاب تولي ذلك الشخص له، بل لابد من الاحتياط بمراجعة الحاكم.

ودعوي: أنه حيث لا يمكن البناء علي ملكية الإمام لمجهول المالك لنصوص التصدق ولعدم بناء الأصحاب عليه، يتعين حمل الحديث علي أنه ليس ملكاً له (عليه السلام)، بل يجب الرجوع إليه فيه، واستئذانه في التصدق به، وحينئذٍ فمع تعذر استئذانه - كما في زماننا - يتعين استئذان الحاكم، لاحتمال قيامه مقامه.

ص: 422

مدفوعة بأن الجمع بينه وبين نصوص التصدق بذلك ليس عرفياً، بل الأقرب الجمع بما ذكرنا. وأما عدم بناء الأصحاب علي ملكيته (عليه السلام) للمال فهو إن رجع إلي الإعراض عن الحديث أسقطه عن الحجية لو كان حجة في نفسه، وإلا لم يصلح للتصرف في دلالته وحمله علي خلاف ظاهره.

وأما الدين المجهول المالك فقد عرفت عدم وجوب التصدق به وخروجه عن محل الكلام. مع أنه لو تم وجوب التصدق به للأخبار الخاصة التي ادعاها فلا ملزم بالاحتياط فيه باستئذان الحاكم بعد ما اعترف (قدس سره) به من ظهور تلك الأخبار في ثبوت الولاية للمديون.

وكذا الحال لو بني علي استفادته من إطلاق نصوص التصدق المتقدمة، لما سبق من ظهورها في ولاية المخاطب بالتصدق عليه. ومن ثم لا مجال للبناء علي وجوب استئذان الحاكم في الدين - لو تم وجوب التصدق به - فضلاً عن المال الخارجي. بل يتعين استقلال من بيده المال بذلك، كما عرفت أنه ظاهر الأصحاب.

نعم ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) جواز الدفع للحاكم، لكونه أعرف بمواقع التصدق، ولولايته علي مستحقي الصدقة.

لكن الأول - مع عدم اطراده - إنما يقتضي توكيله في التصدق - الذي عرفت أنه وظيفة من بيده المال - أو الاسترشاد برأيه، ولا يقتضي الاكتفاء بدفع المال له. ولازم ذلك عدم براءة ذمة من بيده المال إلا بوقوع التصدق من الحاكم، أو ممن بيده المال مع الاسترشاد برأيه.

والثاني لا دليل عليه، كما سبق في نظيره، وهو ولايته علي الغائب. مع أنه لو تمّ فلا ينفع في المقام، لظهور الأدلة في لزوم التصدق علي أشخاص الفقراء، لا التصدق علي النوع مع التخيير في دفعه بعد ذلك لأشخاصهم. بل لم يثبت مشروعية مثل هذا التصدق.

وأما دفع مثل الزكاة للإمام أو للحاكم الشرعي بناءً علي نيابته عنه في ذلك.

ص: 423

فليس هو من التصدق علي النوع بالدفع إلي وليه. بل لولاية الإمام علي المال الزكوي بعد تعينه بالعزل، بل حتي قبل تعينه، فله المطالبة به، جعله طرفاً لعقد معاوضي، ونحو ذلك.

وكون الزكاة من الصدقات ليس من أجل التصدق بها، بل لكونها بنفسها صدقة، نظير نماء الوقف. ولا مجال لمثل ذلك في المقام بعد ظهور الأدلة في وجوب التصدق بالمال، وما هو المعلوم من بقاء المال علي ملك صاحبه إلي حين التصدق به.

ومن ذلك يظهر أن دفع المال للحاكم لا يكفي في براء ذمة من بيده المال منه، بل لابد من رجوع الدفع إليه إلي توكيله في التصدق، مع عدم تحقق الامتثال والخروج عن العهدة إلا بتحقق التصدق منه، كما هو الحال في سائر موارد التوكيل في أداء الواجب والقيام به.

نعم لا يبعد جواز الدفع للحاكم وغيره، لا بعنوان التوكيل، بل من أجل أن يقوم هو بالوظيفة المطلوبة في المال استقلالاً. فإن الظاهر عدم اختصاص التكليف بالوظيفة من الفحص عن المالك ثم التصدق بمن وقع المال بيده أولاً، ليتعين قيامه به مباشرة أو توكيلاً، بل يعمّ كل من وقع المال بيده، كما هو المناسب للمرتكزات المتشرعية.

ويقتضيه إطلاق صحيح يونس المتقدم في رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلي منزله وأصبنا بعض متاعه معنا في الطريق، لظهوره في أن متاع الرجل المفقود كان مع جماعة أحدهم السائل، ومع ذلك لم ينبه الإمام (عليه السلام) إلي لزوم وقوع التصدق ممن وقع المال بيده أولاً أو بإذنه وكالة عنه.

وبذلك يظهر جواز قيام كل من يصير المال بيده بإجراء حكم مجهول المالك عليه أصالة، سواءً كان هو أول من وقع بيده المال أم غيره، إما لدفعه المال له، أو لتفريطه في القيام بالوظيفة، أو لخروجه عن يد الأول بضياع أو نحوه، أو غير ذلك.

نعم لا تبرأ ذمة كل واحد ممن وقع المال بيده إلا بوقوع التصدق من أحدهم،

ص: 424

نظير الواجب الكفائي. إلا أن تكون يد أحدهم غير مضمنة للمال، كما إذا كان مستأمناً من صاحب المال، أو ممن استولي عليه ولم يكن في مقام التفريط به والخروج عن مقتضي الوظيفة فيه. فلاحظ.

كما أنه يشكل جواز مزاحمة من بيده المال بأخذه منه قهراً عليه إذا كان هو في مقام أداء الوظيفة فيه. لعدم وضوح الدليل علي جواز ذلك بعد كونه مخالفاً لعموم حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه. فلاحظ.

الرابع: هل يضمن من بيده المال لو ظهر المالك فلم يرض بالصدقة ؟ وجهان قرب شيخنا الأعظم (قدس سره) الضمان، وقد يظهر من الجواهر في مسألة جوائز السلطان المفروغية عنه، كما قد يظهر من السرائر الإجماع عليه، حيث نسبه لرواية أصحابنا، وإن كان هو لا يناسب إهماله في كلام غير واحد، كالشيخ في النهاية، والمحقق في الشرايع، والعلامة في القواعد.

وكيف كان فهو مقتضي عموم ضمان اليد، بل حتي ضمان الإتلاف لو كان التصدق بنحو يمنع المالك من الوصول للمال، حيث يرجع إلي إتلاف المال عليه. من دون فرق في ذلك بين كون يد من بيده المال أمانية وكونها عدوانية، لأن اليد الأمانية وإن لم تقتض الضمان، إلا أنها لا تمنع من ضمان الإتلاف الحاصل بالتصدق المذكور.

لكن مقتضي نصوص التصدق عدم الضمان، لأن الإذن فيه شرعاً لا يناسب الضمان معه عرفاً، ولاسيما وأن قاعدة الضمان بالإتلاف لم تستفد من إطلاق دليل شرعي، وإنما استفيدت من الحكم بالضمان في موارد متفرقة يجمعها عرفاً الإتلاف، والمتيقن من الإتلاف حينئذٍ هو الإتلاف غير المأذون فيه شرعاً.

بل حتي ضمان اليد من القريب ارتفاعه بالتصدق، لظهور أدلة التصدق في كونه مخرجاً عن تبعة المال، فسكوت النصوص عن التنبيه للضمان مباشرة أو عند ظهور المالك يوجب ظهورها - ولو بإطلاقها المقامي - في عدم الضمان.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه ليس هنا أمر مطلق بالتصدق ساكت

ص: 425

عن ذكر الضمان، كي يستظهر منه عدمه، فهو غريب. إلا أن يبتني ذلك منه علي أن الدليل في المسألة مرسلة السرائر دون بقية النصوص، بل هي مؤيدة لا غير، كما سبق منه، وسبق منّا الإشكال فيه.

إن قلت: المناسبات الارتكازية قاضية بأن التصدق هو حكم المال الذي يتعذر الوصول لصاحبه، وليس اليأس من الوصول لصاحب المال أو القطع بعدم الوصول له إلا من سنخ الطريق المحرز لذلك من دون أن يكون مأخوذاً في موضوعه واقعاً.

ولذا لو تحقق اليأس أو القطع بعدم الوصول للمالك ثم ظهر المالك قبل التصدق لا ينقلب حكم المال واقعاً من مشروعية التصدق به إلي وجوب تسليمه للمالك، بل ينكشف الخطأ في اعتقاد مشروعية التصدق به، وبقاء وجوب تسليمه للمالك الثابت من أول الأمر.

كما أنه لو بادر من بيده المال للتصدق بالمال غفلة أو تسامحاً قبل استكمال الفحص عن المالك واليأس من العثور عليه، ثم لم يعثر علي المالك حتي تحقق اليأس منه أو قطع بعدمه، انكشف وقوع التصدق في محله.

وحينئذٍ إذا حصل اليأس لمن بيده المال أو القطع بعدم العثور علي المالك، فتصدق بالمال، ثم عثر علي المالك علي خلاف ما كان يتوقع، فهو وإن كان معذوراً في التصدق، إلا أنه ينكشف وقوعه في غير محله، وأنه غير مأذون به شرعاً في الواقع، ويتعين كونه مورداً لضمان الإتلاف، كسائر موارد تصرف الفضولي.

نظير ما لو اعتقد الوكيل الإذن من الموكل في التصدق بالمال، فتصدق به، ثم انكشف عدم الإذن فيه، أو اعتقد الولي أن المال للمولي عليه فأنفقه في صلاحه ثم انكشف أنه أمانة لغيره غير مأذون في التصرف به.

قلت: ما ذكر وإن كان قريباً جداً، إلا أن البناء علي أن ظهور المالك كاشف عن عدم الإذن واقعاً في التصدق وعن عدم كونه مشروعاً ولا نافذاً مستلزم للبناء علي ضمان من بيده المال المتصدق به في طول ضمان الفقير المتصدق عليه وكل من يقع

ص: 426

المال بيده من بعده، كما هو الحال في سائر موارد تعاقب الأيدي، حيث يضمن الكل، ويستقر الضمان علي المتأخر علي تفصيل وكلام يأتي في محله إن شاء الله تعالي في فروع بيع الفضولي.

والظاهر أنه لا يمكن البناء علي ذلك بل قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "لم يقل أحد برجوع المالك علي الفقير مع بقاء العين" ،فكيف يمكن البناء علي ذلك مع تلفها؟!.

ومن هنا لا بد من البناء علي صحة التصدق واقعاً بإقدام من بيده المال عليه، إما لكونه مشروعاً واقعاً بمجرد حصول اليأس من المالك، أو لتنفيذ الشارع له حين وقوعه وإن لم يكن مشروعاً واقعاً في فرض القدرة بعد ذلك علي المالك، نظير حكمه بصحة الصلاة في النجس جهلاً وإن لم تطابق المأمور به الواقعي، وحينئذٍ لا يكون تسليم المال للفقير سبباً لضمان الإتلاف بعد صيرورته بالتصدق مالكاً له شرعاً.

غاية الأمر أن يحتمل حكم الشارع الأقدس بالضمان والانتقال للبدل، إما بمجرد التصدق، أو بظهور المالك. وكلاهما مخالف للأصل، بل مخالف لظهور دليل التصدق في كونه موجباً للتخلص من تبعة المال، كما سبق، فبعد فرض صحته واقعاً يتعين عدم الضمان به.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الاستدلال باستصحاب الضمان في مورد كون اليد غير أمانية. حيث يتعين الخروج عنه بالنصوص المذكورة.

وأشكل منه ما ذكره (قدس سره) من الاستدلال به للضمان حتي في اليد غير الضمانية بضميمة عدم الفصل، لتقديمه علي البراءة عند المعارضة.

لاندفاعه - بعد تسليم جريان الاستصحاب وغض النظر عن النصوص -:

أولاً: بأن مجرد عدم الفصل لا ينهض حجة ما لم يبلغ حدّ الإجماع علي الملازمة بين الموردين، وهو غير حاصل في المقام.

وثانياً: بأن الملازمة بين الموردين لا تكفي في الاستدلال بالاستصحاب في غير مورده إلا من باب الأصل المثبت الذي لا يعول عليه علي المشهور المنصور عنده

ص: 427

وعندنا. ولذا كان التفكيك بين المتلازمات شايعاً في جريان الاستصحاب وغيره من الأصول. إلا أن ترجع الملازمة إلي التلازم بين الموردين واقعاً وظاهراً، حيث يتعين حينئذٍ قصور أحد الأصلين في أحد الموردين، وخروجه عن عموم دليله تخصيصاً. ومن البعيد جداً البناء في المقام علي الملازمة بالنحو المذكور.

وثالثاً: بأن الاستصحاب إنما يحكم علي البراءة مع اتحادهما مورداً، ولا وجه لتحكيمه عليها مع اختلافهما مورداً، كما في المقام، لعدم المرجح. بل حيث سبق رجوع الملازمة بالوجه المتقدم إلي قصور أحد الأصلين في أحد الموردين، وخروجه عن عموم دليله تخصيصاً، يتعين سقوط كل من الاستصحاب والبراءة الشرعية في المقام، والرجوع في الموردين للبراءة العقلية القاضية بعدم الضمان. بل هو مقتضي البراءة الشرعية أيضاً في مورد اليد غير الأمانية بعد فرض سقوط استصحاب الضمان فيه. وبالجملة: لا مجال لاستصحاب الضمان في مورد اليد العدوانية، فضلاً عن مورد اليد الأمانية.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من الاستدلال بمرسلة السرائر التي سبق منه انجبارها بالشهرة لما سبق منّا من عدم نهوضها بالاستدلال، لقرب رجوعها للروايات التي ذكرها الأصحاب، وعدم وضوح انجبارها بالشهرة لو كانت رواية مستقلة غيرها.

والظاهر أن منشأ احتمال الضمان في المقام هو النصوص الواردة في اللقطة وما ألحق بها، وهو وديعة اللص التي هي مورد خبر حفص بن غياث، فإن اللقطة وإن كانت تختلف عما نحن فيه موضوعاً وحكماً، إلا أنه قد يتعدي في الحكم بالضمان فيها لسائر أفراد مجهول المالك، ويفهم أن الحكم المذكور إنما ثبت فيها للاهتمام بحرمة المالك، وأن التصدق أو التملك إنما هو لحلّ المشكلة مادام الوصول له متعذراً.

لكن الإنصاف أن ذلك لا يخرج عن الظن والتخرص، ولا يبلغ مرتبة الاستدلال، ولاسيما مع ما ورد في النصوص الكثيرة من النهي عن الالتقاط، حيث يناسب ذلك خصوصية اللقطة في التثقيل علي الملتقط والحكم عليه بالضمان، ويصعب

ص: 428

معه الجزم بالعموم لكل أفراد مجهول المالك، خصوصاً ما كان وقوعه تحت اليد غفلة أو قهراً، ولعله لذا قوي في الجواهر عدم الضمان في المقام.

وإن كان الاحتياط بالضمان حسناً علي كل حال. ولاسيما مع العدوان ممن بيده المال، كما في السارق والأمين المتهاون في إرجاع الأمانة لصاحبها حتي تعذر الوصول إليه ونحوهما.

بل قد يلزم الاحتياط حينئذٍ، إذ من البعيد جداً رضا الشارع الأقدس بخسارة المالك من دون ضمان له ممن بيده المال مع تفريطه وتعديه وتضييعه المال علي المالك.

علي أنه قد يقال: حيث لا عموم في أدلة التصدق بمجهول المالك، وإنما ورد في موارد متفرقة، وقد استفيد منها العموم بضميمة إلغاء خصوصية تلك الموارد، فالمتيقن التعدي لغير موارد التفريط، لاختصاص النصوص المتقدمة بغيرها. وأما في موارد التفريط فالمتيقن مشروعية التصدق مع تعذر الوصول للمالك واقعاً، حيث لا موضوع معه لحفظ المال للمالك، ولا يحتمل جواز تصرف من بيده المال فيه وأخذه له، بحيث يكون أحسن حالاً من غير المفرط، فلم يبق إلا التصدق. ولا أقل من استفادة تشريعه من نصوص المقام بتنقيح المناط، ولو بضميمة ظهور مفروغية الأصحاب. وذلك يقتضي الاقتصار في إثبات مشروعيته وصحته علي المتيقن، وهو تعذر الوصول للمالك واقعاً، ولا مجال للبناء علي مشروعيته وصحته بمجرد اليأس، فمع ظهور المالك ينكشف عدم مشروعيته. ولا طريق لإثبات صحته بعد ما سبق من قصور النصوص المتقدمة عنه. ومن هنا يتعين البناء علي ضمان من بيده المال، بل حتي الفقير ومن بعده ممن يقع المال تحت يده، كما يظهر مما سبق.

ولو فرض القطع بعدم ضمان الفقير - ولو لمفروغية الأصحاب - فلا مجال للبناء علي عدم ضمان من بيده المال بعد كون مقتضي القاعدة ضمانه من دون مخرج عنها. وإن كان الأمر بعد لا يخلو عن إشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

هذا وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب عدم الضمان مطلقاً من أن

ص: 429

التصدق بمجهول المالك لو كان موجباً للضمان وانشغال الذمة بالبدل لزم التصدق بالبدل، لكونه مجهول المالك أيضاً، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو مقطوع البطلان.

فيندفع - مضافاً إلي ما سبق من عدم وجوب التصدق بمجهول المالك إذا كان ذمياً - بأن ذلك إنما يكشف عن عدم وجوب التصدق بالبدل في المقام، لا عن عدم ثبوت البدل في الذمة. فالعمدة في المقام ما سبق. فلاحظ.

هذا ولو تم الوجه للضمان - مطلقاً أو في بعض الحالات - ففي الجواهر: "ولو أراد السلامة من ذلك سلمه إلي الحاكم الذي هو ولي الغائب، والإيصال إليه بمنزلة الوصول للمالك" .ويظهر ضعفه مما سبق من عدم ثبوت ولاية الحاكم، وإنما يجوز الدفع للحاكم بتوكيل من بيده المال بالتصدق بدلاً عنه. وحينئذٍ لا يرتفع الضمان عمن بيده المال، لعدم إيصاله المال للمالك ولا لمن يقوم مقامه.

الخامس: قال شيخنا الأعظم (قدس سره): "ثم إن مستحق هذه الصدقة هو الفقير، لأنه المتبادر من إطلاق الأمر بالتصدق" .وبه صرح أيضاً في النهاية والسرائر والروضة في حكم تراب الصاغة، وإليه يرجع ما في المسالك وعن حواشي الشهيد في المسألة المذكورة من أن مصرفها مصرف الصدقات الواجبة، ونسبه في الرياض في تلك المسألة للأصحاب، وظاهر الجواهر في فروع المال المختلط بالحرام المفروغية عنه.

وكيف كان فربما يقال: إن مقتضي إطلاق الأمر بالتصدق في نصوص المقام هو جواز التصدق علي الغني، لعدم أخذ الفقر في مفهوم الصدقة، كما هو مقتضي إطلاق تعريفهم للصدقة بأنها العطية لوجه الله تعالي، في مقابل الهدية والهبة، حيث لا يؤخذ فيهما التقرب، ومن الظاهر إمكان التقرب بالعطية للغني ولو من حيثية كونه إحساناً للمؤمن. ومن ثم جزم شيخنا الأستاذ (قدس سره) بعموم مفهوم الصدقة، بنحو تشمل الصدقة علي الغني.

لكنه يشكل بأنه لا مجال للبناء علي عموم التعريف المذكور، بحيث تكون كل عطية عن تقرب صدقة، إذ لا إشكال في إمكان التقرب بالهدية والهبة من دون أن

ص: 430

يكونا صدقة، كما في التقرب بإهداء ثلث الهدي، وبالهدية والهبة للرحم وللمؤمن ونحو ذلك من موارد انطباق جهة قربية علي الهبة والهدية. ومن هنا لابد من رجوع التعريف إلي اعتبار التقرب في الصدقة دون الهدية والهبة، من دون نظر إلي إطلاق الصدقة من بقية الجهات، ليكشف عن عدم أخذ الفقر فيها.

ومثله الاستشهاد للعموم المذكور: تارة: بما في غير واحد من النصوص منها صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): كل معروف صدقة" (1) بل في خبر الحارث عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم): "قال: كل معروف صدقة إلي غني أو فقير، فتصدقوا ولو بشق التمرة..."(2). وأخري: بأنه لا إشكال في جواز الوقف علي الغني، مع أنه من الصدقات.

لاندفاع الأول بأن الظاهر عدم ورود النصوص المذكورة لشرح مفهوم الصدقة الحقيقي، لما هو المعلوم من أن المعروف يشمل مثل حسن الخلق والإعانة علي قضاء الحوائج ونحوهما مما لا يكون من سنخ العطية التي هي مقومة عرفاً لمفهوم الصدقة التي هي محل الكلام، بل لابد من حمله علي التنزيل بلحاظ ثواب الصدقة أو أثرها الوضعي، كدفع البلاء وسعة الرزق وغيرهما.

واندفاع الثاني بأن محل الكلام هو التصدق بالإعطاء، وليس الوقف منها، بل هو عقد أو إيقاع يكون المال به صدقة بنفسه وإن لم يدفع، نظير الزكاة التي هي صدقة وإن لم تدفع.

ومنه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال علي عدم جواز التصدق علي الغني بقوله تعالي: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ...)(3) بتقريب أنه قد بين مصرف الصدقات ولم يجعل الغني منها، فيخرج الغني عن حدود

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 41 من أبواب الصدقة حديث: 2. ومثله حديث: 1. وما في ج: 11 باب: 1 من أبواب فضل المعروف حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 7 من أبواب الصدقة حديث: 5.

(3) سورة التوبة آية: 60.

ص: 431

أخبار التصدق موضوعاً.

إذ فيه: أنه ليس وارداً لبيان من يتصدق عليه الذي هو موضوع نصوص المقام، بل لبيان مصرف الصدقات التي هي الأموال المعنونة بالصدقة قبل دفعها، فلا يكون صرفها في مصارفها تصدقاً، بل إنفاقاً لها في الوجه المعين لها شرعاً. بل تمام الآية شاهد بأن المراد بالصدقات فيها خصوص الزكاة، لأنها هي المنفردة بمجموع المصارف المذكورة فيها.

ومثله ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) في وجه لزوم الاقتصار علي الفقير - مع البناء منه علي عموم التصدق لغيره، كما سبق - من عدم رضا المالك بالصدقة علي الغني.

إذ فيه - مع عدم اطراده -: أن رضا المالك إنما يعتبر لو كان المتصدق وكيلاً عنه، وليس هو كذلك في المقام، بل هو مأذون من قبل الشارع الأقدس، نظير الولي القهري، وحينئذٍ يتعين له الرجوع إلي إطلاق دليل الإذن المفروض وعدم الخروج عنه إلا بدليل شرعي.

فالعمدة في المقام عدم وضوح عموم إطلاق التصدق للتصدق علي غير الفقير. بل هو مختص أو منصرف لخصوص الفقير، تبعاً للمرتكزات المتشرعية القاضية باختصاصها به، وأنها نحو من المواساة والإعانة المأخوذة فيها الحاجة والعون، ولذا كانت مناسبة لنحو من الامتهان الذي يأنف منه الغني، بل كثير من الفقراء، بل أخذ الغني لها تجاوز فاحش بنظر المتشرعة.

ويدل علي ذلك ما في جملة من النصوص من عدم حلّ الصدقة للغني، كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" سمعته يقول: إن الصدقة لا تحل لمحترف، ولا لذي مرة سوي، فتنزهوا عنها"(1) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي، ولا لمحترف ولا لقوي. قلنا: ما معني هذا؟ قال: لا يحل له أن يأخذها وهو يقدر أن يكف نفسه عنها" (2) وغيرهما. حيث يستفاد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، 8.

ص: 432

من مجموعها اعتبار الفقر في آخذ الصدقة. وحمله علي خصوص الزكاة بلا شاهد.

ويؤيد ذلك أو يعضده أمور:

الأول: ما في بعض النصوص(3) من أنه لا صدقة وذو رحم محتاج، ولاسيما ما عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) في وصيته لأمير المؤمنين (عليه السلام): "يا علي صلة الرحم تزيد في العمر، يا علي لا صدقة وذو رحم محتاج"(4) ، لظهور ذلك في أن وجهه ترجيح الرحم علي غيره، فتقييد الرحم بالحاجة يناسب اعتبار الفقر في المتصدق عليه.

الثاني: ما دلّ علي تحريم السؤال من غير حاجة(5). إذ من البعيد جداً التحريم لولا المفروغية عن عدم استحقاق الصدقة لغير المحتاج، بحيث يكون السؤال مستلزماً لإظهار الحاجة والتدليس فيها، فإن السؤال وإن كان بنفسه مرجوحاً حتي للفقير، كما تضمنته النصوص الكثيرة(6) ، إلا أنه لا يظن بأحد الالتزام بحرمة السؤال للغني لو أعلن عن عدم الحاجة، وأنه يطلب الصدقة والمال استكثاراً.

اللهم إلا أن يحمل النهي المذكور ما يعم الكراهة بقرينة ما في بعض نصوصه من الاكتفاء في النهي بأن يكون عنده قوت ثلاثة أيام(1).

الثالث: ما دلّ علي استحباب الصدقة مع احتمال استحقاق السائل، كصحيح أبي حمزة في حديث:" أنه سمع علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول لمولاة له: لا يعبر علي بابي سائل إلا أطعمتموه، فإن اليوم يوم الجمعة. قلت له: ليس كل من يسأل مستحقاً. فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقاً فلا نطعمه ونرده، فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله. أطعموهم..."(2) ، وموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 20 من أبواب الصدقة حديث: 1، 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 8 من أبواب الصدقة حديث: 4.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 31 من أبواب الصدقة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب الصدقة.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب الصدقة حديث: 5.

(6) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 21 من أبواب الصدقة حديث: 9.

ص: 433

"قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): لا تقطعوا علي السائل مسألته، فلولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردّهم"(3).

فإن أظهر موارد عدم الاستحقاق أو الكذب في الحديثين هو الفقر الذي كثيراً ما يدعيه السائل أو يقتضيه حاله، وذلك يناسب اختصاص استحقاق الصدقة بالفقير... إلي غير ذلك مما قد يظهر بسبر النصوص.

الرابع: ما في خبر اليسع بن حمزة:" كنت في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال آدم، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك مصدري من الحج، وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلي بلدي، ولله علي نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة..."(4).

ويناسبه أو يشهد به في خصوص المقام ما في ذيل معتبر علي بن ميمون الصائغ المتقدم: "قلت: إن كان ذا قرابة محتاجاً أصله ؟ قال: نعم"(1) ، ونحوه خبره الآخر(2). إذ لولا المفروغية عن عدم جواز التصدق علي غير المحتاج لم يكن وجه لتقييد السائل ذا القرابة بالحاجة. ومن ثم لا ينبغي التوقف في اعتبار الفقر في المقام.

ومنه يظهر اعتبار الفقر حتي في الصدقة الابتدائية المندوبة. وإن استحب التصدق علي مجهول الحال احتياطاً في الفرار عن محذور رد السائل لو كان محقاً، وتترتب بعض الآثار عليها، غاية الأمر أن يتحمل السائل محذور السؤال بلا حق.

ومن ثم فما ذكره في جامع المقاصد من أن مصرف الصدقة في المقام هو مصرف الصدقات المندوبة لا يشهد بخلافه في اعتبار الفقر في المقام، لاحتمال ذهابه إلي ما ذكرنا.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 22 من أبواب الصدقة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 39 من أبواب الصدقة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب بيع الصرف حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب بيع الصرف حديث: 2، 1.

ص: 434

هذا وفي جواز إعطاء مجهول المالك للهاشمي وجهان يظهر الأول مما سبق من جامع المقاصد من أن مصرفها مصرف الصدقات المندوبة، والثاني مما سبق من المسالك وعن حواشي الشهيد من أن مصرفها مصرف الصدقات الواجبة.

وكيف كان فلا ريب في حلّ الصدقة المندوبة للهاشمي، وإنما الخلاف في أن ما يحرم عليه خصوص الزكاة، أو مطلق الصدقة الواجبة. والظاهر الأول لموثق إسماعيل بن الفضل الهاشمي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصدقة التي حرمت علي بني هاشم ما هي ؟ فقال: هي الزكاة. قلت: فتحل صدقة بعضهم علي بعض ؟ قال: نعم"(3) ، وخبر زيد الشحام عنه (عليه السلام): "سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم فقال: هي الزكاة المفروضة، ولم يحرم صدقة بعضنا علي بعض"(4).

نعم في صحيح جعفر بن إبراهيم الهاشمي عنه (عليه السلام):" قلت له: أتحل الصدقة لبني هاشم ؟ فقال: إنما [تلك] الصدقة الواجبة علي الناس لا تحل لنا، فأما غير ذلك فليس به بأس..."(1).

لكن الظاهر الجمع بينه وبين الحديثين الأولين بحمل الصدقة الواجبة فيه علي العهد والإشارة لخصوص الزكاة، فإنه أقرب عرفاً من إلغاء خصوصية الزكاة في الحديثين الأولين والتعميم لمطلق الصدقة الواجبة.

ولاسيما بلحاظ كون الزكاة من فرائض الإسلام العامة، كالصلاة، حيث يناسب ذلك إطلاق عموم وجوبها علي الناس، وإن كانت مشروطة بشروط خاصة، بخلاف بقية أنواع الصدقات الواجبة، كالكفارات والفدية، فإنها تجب في حالات خاصة لا تناسب إطلاق عموم وجوبها علي الناس.

ومع ما في جملة من النصوص(2) من تعليل تحريم الصدقة عليهم بأنها من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 5، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 32 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 5، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 31 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 29 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 2، وباب: 1 من أبواب قسمة الخمس حديث: 4، 7، 8، 10.

ص: 435

أوساخ الناس أو أوساخ ما في أيديهم، فإن ذلك يناسب اختصاصها بالزكاة الملحوظ بها الطهارة من القذر، كما يناسبه اسمها، وقوله تعالي: (خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا)(1) أما بقية أنواع الصدقات الواجبة - كالكفارات ونحوها - وغيرها فلم يعهد فيها ذلك، وإنما هي فرض ومواساة وإحسان.

ولعل أظهر النصوص المذكورة في الاختصاص معتبر الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل قال: "فلما جاءت قصة الصدقة نزه نفسه ورسوله ونزه أهل بيته، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ...) الآية. ثم قال: فلما نزه نفسه عن الصدقة ونزه رسوله ونزه أهل بيته، لا بل حرم عليهم، لأن الصدقة محرمة علي محمد وآله، وهي أوساخ أيدي الناس لا تحل لهم..." (2) فإن الاستشهاد بآية الصدقات المختصة بالزكاة يناسب اختصاص الصدقة المحرمة عليهم بها.

ولو فرض التردد بين الوجهين في الجمع بين صحيح جعفر والحديثين الأولين تعين الرجوع في مورد الاشتباه - وهو الصدقة الواجبة غير الزكاة - لإطلاق الأمر بالتصدق القاضي بجواز الدفع لبني هاشم. ولا مجال للرجوع فيه لإطلاق تحريم الصدقة علي بني هاشم بعد ما سبق من التعليل في جملة من نصوصه بأنها أوساخ منزهون عنها. ولاسيما مع ما في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال: لو حرمت علينا الصدقة لم يحل لنا أن نخرج إلي مكة، لأن كل ماء بين مكة والمدينة فهو صدقة" (3) فإنه بقرينة المفروغية عن حرمة الصدقة عليهم محمول علي أن تحريم الصدقة لا يراد منه العموم، وذلك راجع إلي إجماله ولزوم الاقتصار فيه علي المتيقن.

ثم إنه لو بني علي عموم تحريم الصدقة الواجبة عليهم وعدم اختصاصها بالزكاة جموداً علي مفاد صحيح جعفر المتقدم، فمن القريب اختصاصه بالصدقة

********

(1) سورة التوبة آية: 113.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 1 من أبواب قسمة الخمس حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 31 من أبواب المستحقين للزكاة حديث: 1.

ص: 436

الواجبة بالأصل دون الواجبة بالعرض، كالمنذورة والموصي بها ونحوهما. إما لما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ظهور الصحيح في إرادة ما تعلق به الوجوب بعنوان كونه صدقة، دون ما إذا كانت الصدقة بعنوانها موضوعاً للأمر الندبي، وكان وجوبها بعنوان آخر طارئ، كالوفاء بالنذر وتنفيذ الوصية، وإما لأن المنصرف منه فرض كون وجوب الصدقة تابعاً لخصوصية نوعها، لا حالة تطرأ عليها.

نعم لو كان التعبير هكذا: إنما تلك الصدقة إذا وجبت، فقد يتجه العموم. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "ولذا لا يظن بأحد الالتزام بأن الصدقة علي الهاشمي مستحبة، وأنه لا يجوز نذرها ولا الوصية بها".

بل لعل الأمر في الصدقة الموصي بها أظهر، لقرب انصراف الوجوب للوجوب علي صاحب المال، دون الوجوب علي غيره كالوصي، فإن الوجوب عليه لوجوب تنفيذ أمر الموصي - كالوكيل والأمين لو تعذر إيصال المال للمالك، وأمرهما المالك بالصدقة - مع كون التصدق في حق الموصي مستحباً.

ومنه يظهر الحال في المقام، فإن التصدق بمجهول المالك ليس لوجوبه علي المالك، بل لانحصار التخلص من مشكلة المال به. ولاسيما مع ما هو المرتكز - المصرح به في كلامهم والذي يقتضيه قوله في معتبر علي بن ميمون الصائغ: "إما لك وإما لأهله" (1)- من كون الصدقة به عن المالك، وقيام من بيده المال مقامه، لوضوح استحباب الصدقة به في حقه.

السادس: أن ظاهر النصوص المتقدمة لزوم تصدق من بيده المال بالمال علي غيره، وعدم الاجتزاء بأخذه لنفسه صدقة عن صاحبه إذا كان مستحقاً للصدقة. ولا مجال لقياسه علي ما تقدم في المسألة الثامنة والثلاثين من أن من دفع له مال ليفرقه في طائفة من الناس جاز له أن يأخذ منه لنفسه إذا كان داخلاً فيهم. لاختصاص ذلك بما إذا كان التعيين من قِبَل دافع المال، أما التعيين في المقام فهو من قبل الشارع الأقدس،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 16 من أبواب الصرف حديث: 2.

ص: 437

إن كان يائساً (1) عن معرفته (2)،

---------------

وجواز الخروج عن ظاهر الدفع في الأول لا يستلزم الخروج عنه في الثاني عقلاً، بل ولا عرفاً، ليفهم من دليله إلغاء خصوصية مورده.

ومن ثم يتعين الجمود علي ظاهر النصوص، كما هو ظاهر الأصحاب، وفي الدروس في حكم فضلات الصياغة وترابها: "ولا يجوز تملكها ولو كان الصايغ مستحقاً للصدقة".

وفي الجواهر: "أما لو دفعه إلي الحاكم فتصدق به عليه أمكن الجواز" .وهو يتجه بناءً علي جواز استقلال الحاكم في التصدق، كما يتجه في حق غير الحاكم لو وقع المال بيده، واستقل بإجراء وظيفة حكم مجهول المالك عليه.

أما مع وكالته عمن بيده المال فيشكل بأن المتصدق حينئذٍ هو من بيده المال، فلا يجوز الأخذ منه، كما لو باشر هو التصدق. وقد تقدم في آخر الأمر الثالث ما ينفع في المقام. فراجع. والله سبحانه وتعالي العالم. ومنه نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) كما ذكره غير واحد. وقد يظهر من بعضهم إرساله إرسال المسلمات، بل في مفتاح الكرامة في مسألة جوائز السلطان: "لا ريب في أنه إنما يتصدق بها بعد اليأس عن الوصول إليه أو إلي وارثه بعد موته، ولذا تركه الأكثر" ،وفي الجواهر في المسألة المذكورة بعد الحكم بوجوب التصدق بشرط اليأس: "كما في غيرها من أقسام مجهول المالك الذي حكمه ذلك نصاً وفتوي".

ويقتضيه ما يأتي من وجوب الفحص عنه مع عدم معرفته، والاكتفاء في الفحص بمقدار حصول اليأس، حيث يدلّ ذلك علي الاكتفاء باليأس في التصدق، وعدم مشروعيته بدونه.

(2) أو الوصول إليه، لما تقدم في الأمر الأول من إلحاق تعذر الوصول للمالك

ص: 438

وإلا وجب الفحص عنه (3) وإيصاله إليه.

---------------

بالجهل به. نعم إذا يئس من الوصول إليه ولم ييأس من الوصول لوارثه فالظاهر وجوب الانتظار وعدم مشروعية التصدق، لقصور الوجه المتقدم عنه.

(3) كما ذكره غير واحد. بل لا يبعد الإجماع عليه، كما يظهر مما سبق من المفروغية عن عدم التصدق إلا بعد اليأس وأن عدم تصريح بعضهم به للمفروغية عنه، تبعاً للمرتكزات القاضية بوجوب إيصال المال لمالكه وحرمة التصرف فيه بغير إذنه، المقتضي لوجوب الفحص عنه مقدمة لإيصاله إليه.

ودعوي: أن احتمال العجز عن الوصول إليه وإيصال المال له بالفحص مستلزم لاحتمال عدم وجوبه، وفي مثله تجري البراءة من وجوبه، فلا يجب الفحص مقدمة له.

مدفوعة: أولاً: بأن احتمال عدم وجوب إيصاله المال لمالكه في المقام حيث كان للشك في القدرة عليه فمقتضي الأصل الاحتياط في ذلك، وإنما تجري البراءة إذا كان الاحتمال عدم ثبوت التكليف راجعاً لاحتمال عدم تمامية موضوعه، كما إذا شك في إسلام صاحب المال من دون أصل يحرز إسلامه واحترام ماله.

وثانياً: بأن أصالة البراءة من وجوب إيصال المال لمالكه لو جرت فهي لا تحرز مشروعية التصدق بالمال مع احتمال إمكان إيصاله لصاحبه، بل مقتضي عموم عدم جواز التصرف في المال بغير إذن صاحبه عدم مشروعية التصدق به. فتأمل. ولا أقل من كونه مقتضي أصالة عدم ترتب الأثر.

نعم لو تم إطلاق دليل التصدق بمجهول المالك، بحيث يشمل حال ما قبل الفحص واحتمال العثور علي المالك به، رجع ذلك إلي عدم وجوب إيصال المال لمالكه تكليفاً، فلا يجب الفحص مقدمة له، والي مشروعية التصدق ونفوذه مع عدم اليأس من الوصول للمالك وبه يخرج عن عموم عدم جواز التصرف في المال بغير إذن صاحبه

ص: 439

وعن أصالة عدم ترتب الأثر.

ولعله إلي ذلك نظر شيخنا الأعظم (قدس سره) في قوله: "ويحتمل غير بعيد عدم وجوب الفحص. لإطلاق غير واحد من الأخبار".

لكنه يشكل: أولاً: بأن الإطلاق المذكور لو تم ينصرف إلي صورة تعذر إيصال المال لمالكه، لما هو المرتكز من أن التصدق بالمال ليس لسقوط حرمة المالك، ولا لقصور سلطنته، بل لتعذر إيصال المال إليه، فهو من سنخ البدل الاضطراري الذي لا يشرع إلا عند تعذر المبدل.

ومن ثم ذكروا أن إطلاق أدلة الابدال الاضطرارية وإن كان شاملاً لفظاً لحال تحقق موضوعاتها - من فقد الماء أو المرض أو العجز أو غيرها - رأساً، إلا أنه ينصرف بقرينة ورودها مورد الاضطرار إلي استمرار تحقق تلك الموضوعات في تمام الوقت، بحيث يتعذر تحصيل الواجب الأولي.

وثانياً: بأنه يظهر مما سبق من أدلة التصدق بمجهول المالك أنه لا عموم يقضي بالتصدق، لينظر في ثبوت إطلاق له بنحو يشمل حال عدم الفحص، وإنما ورد في موارد متفرقة استفيد منها العموم بضميمة إلغاء خصوصية مواردها، والنصوص الواردة في الموارد المذكورة بين ما هو ظاهر أو صريح في تقييد مشروعية التصدق بصورة اليأس من الوصول للمالك، و ما هو وارد في واقعة خاصة ظاهرة في اليأس من ذلك أو قابلة للحمل عليه.

فمن الأول صحيح يونس المتقدم في أدلة التصدق حيث يقول يونس فيه: "فقال: تحملونه حتي تحملوه إلي الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده، ولا نعرف كيف نصنع ؟ قال: إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه..."(1) ، فإن الظاهر أن الأمر بحمله إلي الكوفة إنما هو من أجل الفحص عن المالك وإيصال المال له، وأن قول السائل:" لا نعرفه ولا نعرفه بلده "لبيان تعذر الفحص عنه، فيكون مقتضي الشرطية في الجواب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب اللقطة حديث: 2.

ص: 440

توقف مشروعية التصدق علي اليأس من الوصول لصاحب المال.

ومثله في ذلك قوله (عليه السلام) في معتبر العباس بن عامر أو المثني بن عبد السلام:" اجهد أن تقدر له علي ولي، فإن لم تجد وعلم الله منك الجد فتصدق بها"(2) ، وقريب منه مرسلة الصدوق المتقدمة، بناءً علي ما تقدم من أنهما إن لم يصلحا للاستدلال في المقام فهما صالحان للتأييد.

ومن الثاني بقية نصوص المسألة، فإن الظاهر تعذر معرفة صاحب المال في مورد حديثي علي بن ميمون الصائغ الواردين في تراب الصاغة. كما أن صحيح إسحاق بن عمار - الوارد فيمن وجد في بعض بيوت مكة سبعين درهماً مدفونة - وارد في مورد اليأس من معرفة المالك، كما يظهر مما تقدم في وجه الاستدلال به.

وقريب منه خبر نصر بن حبيب صاحب الخان فيمن مات في الفندق ولم يعرف له ورثة، بناءً علي ما سبق من أنه إن لم يصلح للاستدلال صالح للتأييد. لما هو المعلوم أن المسافر الذي لا يعرف نسبه يصعب أو يتعذر الوصول لوارثه في تلك العصور التي لم يعرف فيها هوية ولا جواز سفر.

ولا يبعد ذلك في صحيح علي بن راشد الوارد في الوقف المجهول أربابه، لظهوره في انقطاع أرباب الوقف عنه حتي بيع، ففرض جهله بكون الأرض موقوفة قد ينصرف للجهل المبني علي ضياع الموقوف عليهم واليأس من الوصول إليهم.

علي أنه لو فرض عمومه - بمقتضي ترك الاستفصال - أو عموم غيره لصورة عدم اليأس وإمكان الفحص عن المالك تعين الخروج عنه بالقسم الأول الظاهر في لزوم الفحص عنه.

ويؤيد ذلك أو يعتضد بما تضمن الأمر بالطلب في الدين المجهول المالك، كصحيح معاوية بن وهب وصحيح هشام بن سالم عن أبي إبراهيم المتقدمين، وربما يستفاد من غيرهما. حيث يبعد جداً الفرق بين الذميات والأعيان في حرمة المالك

-

********

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 30 من كتاب الوصية حديث: 2.

ص: 441

(مسألة 40): يكره بيع الصرف (1)،

---------------

وأهمية الوصول إليه وإن أمكن الفرق بينها في وجوب التصدق، لما سبق.

ومن هنا لا مجال للبناء علي عدم وجوب الفحص، وجواز المبادرة للتصدق بالمال بمجرد الجهل بمالكه قبل اليأس من الوصول إليه.

هذا ولا ينبغي التأمل في الاكتفاء باليأس من الوصول للمالك، إما رأساً أو بعد الفحص عنه، لأنه المنسبق من النصوص المتقدمة، فإن ما ذكر فيها لا يستلزم العلم بعدم الوصول للمالك، حيث لا ضابط للمصادفات غير المحتسبة. فلا مجال لحمل النصوص علي صورة العلم بعدم الوصول إليه، وإن كان هو مقتضي القاعدة الأولية القاضية بالاحتياط في الفحص عن المالك مادام يحتمل الوصول إليه والقدرة علي إيصال المال له، وعدم مشروعية التصدق من دون إذنه حينئذٍ، بل يتعين حملها علي اليأس. وهو المناسب لمرتكزات المتشرعة وسيرتهم.

نعم يشكل البناء علي وجوب المبادرة للتصدق بمجرد حصول اليأس، لعدم ظهور الأمر به في الفور. ولاسيما مع ظهور بعضها في مجرد بيان الوظيفة في المال نتيجة التحير في أمره. وحينئذٍ لا يمنع من الاحتياط بحفظ المال لاحتمال العثور علي المالك بوجه غير محتسب. وهو المناسب للمرتكزات المتشرعية. ولاسيما بناءً علي الضمان للمالك لو ظهر، حيث يبعد جداً منع من بيده المال من الاحتياط المذكور حينئذٍ أملاً في التخلص من الضمان.

لكن لو خيف علي المال - أو بدله بعد بيعه - من الضياع والتلف تعين وجوب المبادرة للتصدق به فراراً عن محذور التفريط بالوظيفة اللازمة فيه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالي العالم. والحمد لله رب العالمين.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر أنه لا يجد فيه خلافاً. لحديث إسحاق ابن عمار: "دخلت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فخبرته أنه ولد لي غلام. قال: ألا سميته

ص: 442

محمداً؟ قلت: قد فعلت. قال: فلا تضرب محمداً، ولا تشتمه. جعله الله قرة عين لك في حياتك، وخلف صدق بعدك. قلت: جعلت فداك في أي الأعمال أضعه ؟ قال: إذا عدلته [عزلته] عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت. لا تسلمه صيرفياً، فإن الصيرفي لا يسلم من الربا. ولا تسلمه بياع أكفان، فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان. ولا تسلمه بياع طعام، فإنه لا يسلم من الاحتكار. ولا تسلمه جزاراً، فإن الجزار تسلب منه الرحمة. ولا تسلمه نخاساً، فإن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال:

شر الناس من باع الناس" (1) .

هذا ولا يظهر من مساق الحديث السؤال عن الحكم الشرعي. بل المتيقن منه الاسترشاد والاستنصاح. وحينئذٍ لا يدل علي كراهة الحرف المذكورة تعبداً. بل المتيقن مرجوحيتها بالعرض بلحاظ ما يترتب عليها. نعم الاستدلال فيه للنخاسة بحديث النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) قد يقتضي الكراهة الذاتية. وتمام الكلام في ذلك يأتي إن شاء الله تعالي.

وكيف كان فموضوع الحديث اتخاذ ذلك حرفة تبتني علي الاستمرار، فإن الصيرفي هو الذي حرفته الصيرفة لا مطلق من يقوم ببيع الصرف. وهو المناسب للتعليل أيضاً، ضرورة أن بيع الصرف كثيراً ما يسلم من الربا، بخلاف من يتخذ ذلك حرفة، لأن كثرة التعامل بالصرف كثيراً ما يوجب الابتلاء بالربا تسامحاً أو غفلة، فيحسن تجنبه احتياطاً لذلك.

ولعله لذا نبه للتفصيل في مفتاح الكرامة والجواهر. بل لعله مراد مثل سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره ممن أطلق. إذ يصعب جداً البناء علي العموم مع كثرة حاجة الناس في العصور السابقة لبيع الصرف وشيوعه بينهم بسب كون تعاملهم بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية.

ثم إنه قد قرب في الجواهر عدم الكراهة مع الأمن من الربا بالتزام الصرف بغير المجانس أو بالوزن أو نحو ذلك، وحكاه عن بعض متأخري المتأخرين. لمعتبر سدير الصيرفي:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حديث بلغني عن الحسن البصري، فإن كان حق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 443

وبيع الأكفان (1)،

---------------

فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال: ما هو؟ قلت: بلغني أن الحسن كان يقول: لو غلا دماغه بحر الشمس ما استظل بحائط صيرفي، ولو تفرثت كبده عطشاً لم يستق [يستسق] من دار صيرفي ماءً، وهو عملي وتجارتي، وفيه نبت لحمي ودمي، ومنه حجتي وعمرتي. قال: فجلس، ثم قال: كذب الحسن. خذ سواء وأعط سواء، فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك وانهض إلي الصلاة. أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة. يعني: صيارفة الكلام، ولم يعن صيارفة الدراهم"(1). كذا رواه الصدوق في الفقيه. ولا يبعد كون التفسير في الذيل منه، لا من أصل الحديث، لعدم ذكر الكليني له حينما ذكر الحديث بسنده عن سدير. بل هو لا يناسب سياق الحديث، ولا لسان الذيل.

لكن الحديث المذكور إنما ينهض بنفي الحرمة في مقابل موقف الحسن البصري الشديد من الصيرفة، وبلحاظ الشرط الذي ذكره الإمام (عليه السلام)، وهو أخذ السواء وإعطاء السواء، فإنه شرط للحل. ولا ينافي الكراهة بلحاظ احتمال الوقوع في الربا ولو من غير احتساب. وأما عدم تأخير الصلاة عن وقتها فهو من آداب مطلق التكسب من دون خصوصية للصرف. كما أن المتيقن ورود ما ذكره (عليه السلام) من أن أصحاب الكهف صيارفة لنفي توهم الحرمة تأكيداً لتكذيب الحسن، ولا ينافي الكراهة.

نعم لا يبعد انصراف حديث إسحاق بن عمار إلي الصيرفة بالنحو المتعارف المعهود في الأسواق المبني علي احتمال التعرض للربا ولو غفلة، وقصوره عن صورة إحكام الصيرفة بنحو يقطع معه بعدم التعرض للربا. ولا أقل من كونه المتيقن، ولو بضميمة التعليل. بل هو المتعين بناءً علي ما سبق من كون المتيقن ورود الحديث مورد الاسترشاد.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر أنه لا يجد فيه خلافاً. ويقتضيه حديث إسحاق المتقدم وموثق إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن [موسي بن جعفر] (عليهما السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 22 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 444

وبيع الطعام (1)،

---------------

"قال: جاء رجل إلي النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله قد علمت ابني هذا الكتابة، ففي أي شيء أسلمه ؟ فقال: أسلمه لله أبوك، ولا تسلمه في خمس: لا تسلمه سباءً، ولا صائغاً، ولا قصاباً، ولا حناطاً، ولا نخاساً. فقال: يا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ما السباء؟ قال: الذي يبيع الأكفان ويتمني موت أمتي، ولَلمولود من أمتي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. وأما الصائغ فإنه يعالج زين غني أمتي. وأما القصاب فإنه يذبح حتي تذهب الرحمة من قلبه. وأما الحناط فإنه يحتكر الطعام علي أمتي، ولئن يلقي الله العبد سارقاً أحب إلي من أن يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوماً. وأما النخاس فإنه أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن شرار أمتك الذين يبيعون الناس..."(1).

ويجري فيه ما تقدم من اختصاصه بمن يتخذ ذلك حرفة، كما أشار إليه في مفتاح الكرامة والجواهر أيضاً. ومنه يظهر قصوره عمن يكون بيع الأكفان بعض شؤون حرفته، كباعة الأقمشة في عصورنا. ولا مجال للبناء علي عمومه له بلحاظ التعليل. للفرق بين من تنحصر حرفته ببيع الأكفان الذي يتوقف علي موت الناس ومن ذكرنا، حيث قد يكون شيوع الموت في الناس سبباً لكساد الجانب الأهم من حرفتهم. كما لعله ظاهر.

بل لا يبعد اختصاصه - بسبب التعليل - بمن يتعارف منه بيع كفن الشخص عند موته، كما لعله المعهود سابقاً، دون من يتعارف منه بيع الكفن من أجل اتخاذه قبل الموت، كما شاع في بلادنا هذه الأيام، فإن رواج حرفتهم لا يتوقف علي موت الناس، بل علي قيامهم بالسنة، وهي إعداد الإنسان كفنه في حياته.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر أنه لا يجد فيه خلافاً. ويقتضيه حديث إسحاق المتقدم وخبر أبي إسحاق عن علي (عليه السلام):" قال: من باع الطعام نزعت منه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

ص: 445

وبيع العبيد (2).

---------------

الرحمة "(1) وحتي موثق إبراهيم المتقدم، فإن موضوع النهي فيه وإن كان هو الحناط، وهو الذي يبيع الحنطة، إلا أن مقتضي عموم التعليل فيه عموم الكراهة لكل طعام.

وما تقدم من اختصاص الكراهة باتخاذ ذلك حرفة جارٍ هنا، كما صرح به من سبق ويقتضيه حديثا إسحاق وإبراهيم. وأما خبر أبي إسحاق فلا يبعد انصرافه لذلك أيضاً، لمناسبته للأثر المذكور فيه. فلاحظ.

(2) كما ذكره غير واحد، ونفي في الجواهر وجدان الخلاف فيه.

ويقتضيه حديث إسحاق وموثق إبراهيم المتقدمان. ومرسل علي بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال في حديث بياع الزيت:" لقد كان يحبني حباً لو كان نخاساً لغفر الله له "(2) وغيره(3). بل في بعضها عنهم عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال:" شرار الناس من باع الحيوان "(4) ولا يخلو عن غرابة.

هذا وفي موثق ابن فضال:" سمعت رجلاً يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) فقال: إني أعالج الرقيق فأبيعه، والناس يقولان [يقولون خ. ل]: لا ينبغي. فقال: الرضا (عليه السلام): وما بأسه ؟ كل شيء مما يباع إذا اتقي الله فيه العبد فلا بأس"(5).

وربما يجمع بينه وبين ما سبق بحمله: تارة: علي من لم يتخذ ذلك حرفة. وأخري: علي بيان أصل الجواز، كما أشار إلي ذلك في الجواهر. وكلاهما بعيد جداً. لمخالفة الأول لظاهر النص. بل هو لا يناسب إنكار الناس، حيث لا يحتمل كراهة بيع الإنسان رقيقه من شيوع ذلك وشدة الحاجة له. والثاني أيضاً لا يناسب إنكار الناس، حيث لا يمكن احتمال حرمة النخاسة مع شيوع الرق سابقاً، كما لا يناسب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6، 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 13 باب: 19 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

ص: 446

كما يكره أن يكون الإنسان جزاراً (1)،

---------------

عدم تنبيه الإمام (عليه السلام) للكراهة مع شدة لسان النصوص السابقة.

ولعل الأقرب الجمع بينهما بعدم كراهة النخاسة في نفسها، وإنما ورد النهي عنها لغلبة ابتلاء من يزاولها بالمحرمات، خصوصاً امتهان الرقيق وظلمهم والاستهوان بهم، لمناسبته لطبيعة المهنة، وظلم الضعيف أفحش للظلم. فإذا اتقي النخاس الله تعالي وحفظ حدوده في الرقيق فلا كراهة في حرفته بنفسها، ولا بأس بها.

بل الإنصاف أن النصوص الأول لا تنهض بكراهة نفس حرفة النخاسة، إذ لو كانت هي السبب لكون صاحبها شر الناس كانت محرمة، نظير قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم): "يا علي شر الناس من أكرمه الناس اتقاء فحشه وأذي شره، يا علي شر الناس من باع آخرته بدنياه، وشر منه من باع آخرته بدنيا غيره"(2). فلا بد من كون النهي بلحاظ أنها تؤول غالباً إلي المحرم كما ذكرنا.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الجواهر نفي وجدان الخلاف فيه. ويقتضيه حديث إسحاق وموثق إبراهيم المتقدمان وموثق طلحة بن زيد عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام):" قال: إن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) قال: إني أعطيت خالتي غلاماً، ونهيتها أن تجعله قصاباً أو حجاماً أو صائغاً"(1).

هذا ومقتضي التعليل في الأولين كراهة نفس الحرفة من دون نظر للتكسب بها وهو مقتضي إطلاق الأخير، وحينئذٍ يشكل البناء علي كراهة التكسب بها، بأن يكون المال في مقابل نفس الذبح، فضلاً عن أن يكون المال المذكور حزازة.

ودعوي: أن معروفية كون الصنائع الثلاث المذكورة في الأخير من المكاسب يوجب انسباق إطلاق النهي عنها للنهي عن التكسب بها، بنحو يوجب حزازة المال المكتسب بها.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71 من أبواب جهاد النفس حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 21 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 447

أو حجاماً (1).

---------------

مدفوعة بأن المعهود من تكسب القصاب هو تكسبه ببيع لحم الحيوان المذبوح، لا تكسبه بذبحه، ولا يظن من أحد البناء علي كراهة التكسب ببيع اللحم، فلابد من حمله علي كراهة نفس العمل الذي هو مقدمة للتكسب المذكور، كما يظهر من الحديثين الأولين، ويكونان شارحين له.

(1) مقتضي السياق كراهة نفس الحرفة مع قطع النظر عن التكسب بها. إلا أن تتمة كلامه قد يظهر منه إطلاق كراهة التكسب. وكيف كان فلا يبعد البناء علي كراهة الحرفة بنفسها، عملاً بإطلاق موثق طلحة بن زيد المتقدم بعد ما سبق من عدم صلوح معروفية التكسب بالأمور المذكورة فيه برفع اليد عن ذلك.

نعم لا إشكال في كراهة التكسب بالحجامة في الجملة، وبه صرح جماعة كثيرة. وصرح غير واحد بتقييدها بما إذا شارط، بل في الجواهر: "قيل إنه المفهوم من كلام الأصحاب" .لكن أطلق في اللمعة. ولعله ناظر إلي كراهة نفس الصنعة مع قطع النظر عن التكسب بها.

وكيف كان فالنصوص علي طوائف:

الأولي: ما أطلق فيه النهي، كموثق سماعة قال: "قال: السحت أنواع كثيرة، منها كسب الحجام وأجر الزانية وثمن الخمر" (1) وقريب منه أو عينه موثقه الآخر(2) ونحوهما غيرهما. وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): "إن رجلاً سأل رسول الله عن كسب الحجام. فقال له: ألك ناضح ؟ فقال: نعم. فقال. اعلفه إياه، ولا تأكله" (3) وقريب منه غيره(4).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

(2) تهذيب الأحكام ج: 6 ص: 352.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2، 3، 11، 6.

ص: 448

الثانية: ما أطلق فيه الحل، كصحيح معاوية بن عمار: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب الحجام. قال: لا بأس به"(1) ، وقريب منه أو عينه صحيحه الآخر(2) ، وفي معتبر حنان:" دخلنا علي أبي عبد الله (عليه السلام) ومعنا فرقد الحجام، فقال له: جعلت فداك إني أعمل عملاً، وقد سألت عنه غير واحد ولا اثنين، فزعموا أنه عمل مكروه، وأنا أحب أن أسألك، فإن كان مكروهاً انتهيت عنه... قال: وما هو؟ قال: حجام. قال: كل من كسبك يا ابن أخي وتصدق وحج منه وتزوج، فإن نبي الله قد احتجم وأعطي الأجر، ولو كان حراماً ما أعطاه"(3) ، وقريب منه غيره(4).

الثالثة: ما تضمن التفصيل بين الشرط وعدمه، كخبر سماعة: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): السحت أنواع كثيرة، منها كسب الحجام إذا شارط وأجر الزانية وثمن الخمر..."(5) ، وفي صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام):" سألته عن كسب الحجام. فقال: لا بأس به إذا لم يشارط"(6) ، وفي موثق زرارة: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن كسب الحجام. فقال: مكروه له أن يشارط، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماكسه، وإنما يكره له، ولا بأس عليك"(7).

هذا ويظهر من المشهور الجمع بين النصوص بالتفصيل في الكراهة بين الشرط وعدمه. وكأنه للجمع بين إطلاق الكراهة المستفادة من الطائفة الأولي وإطلاق نفي البأس المستفاد من الطائفة الثانية. بالتفصيل بين الاشتراط وعدمه بقرينة الطائفة الثالثة.

لكنه ليس بأولي من إبقاء الطائفتين الأوليين علي إطلاقهما، والجمع بينهما بحمل النهي علي الكراهة مطلقاً، كما قد يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره)، مع البناء علي شدة الكراهة بالاشتراط، عملاً بالطائفة الثالثة.

وقد يؤيد ذلك اختلاف لسان النصوص في بيان الكراهة، فمثل موثق سماعة ظاهر في شدتها، ومثل صحيح الحلبي ظاهر في خفتها. ولا أقل من عدم ظهوره في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(6) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

(7) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4، 5، 7، 2، 1، 9.

ص: 449

ولاسيما مع الشرط، بأن يشترط أجرة ويكره أيضاً التكسب بضراب الفحل (1)، بأن يؤاجره لذلك، أو بغير إجارة بقصد العوض (2). أما لو كان بقصد المجانية فلا بأس بما يعطي بعنوان الهدية (1).

(مسألة 41): لا يجوز بيع أوراق اليانصيب (2).

---------------

تلك الشدة، فيقيد اللسان الأول بها بالاشتراط في خبر سماعة المتقدم في الطائفة الثالثة.

هذا وفي الخلاف في كتاب الأطعمة:" كسب الحجام مكروه للحر مباح للعبد... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ".لكن لا يظهر التفصيل المذكور بين الأصحاب، حتي منه (قدس سره) في التهذيبين والنهاية. كما لا يتضح الدليل عليه من الأخبار. بل في موثق رفاعة:" سألته عن كسب الحجام فقال: إن رجلاً من الأنصار كان له غلام حجام، فسأل رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) فقال: هل لك ناضح ؟ قال: نعم. فقال: اعلفه ولا تأكله"(1) ، وهو ظاهر في كراهة كسب الغلام، ولذا نهي عن أكله. فتأمل.

(1) لما ورد من النهي عن ثمن اللقاح وعن عسيب الفحل(2) الذي لابد من حمله علي الكراهة، لما تقدم في المسألة الأولي في حكم بيع الأعيان النجسة عند الكلام في حرمة بيع المني. فراجع.

(2) لصدق التكسب والأجر والثمن بذلك، فيدخل في موضوع نصوص النهي.

(1) لخروجه عن موضوع النهي، كما يظهر مما تقدم.

(2) كأنه لعدم المالية لها، حيث لا فائدة فيها بنفسها، وإنما يرغب في تحصيلها من أجل ترتب الجائزة عليها. من دون أن تكون بنفسها مالاً، وحينئذٍ يبطل البيع، لاعتبار المالية في العوضين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 9 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5، 12 من أبواب ما يكتسب به وغيرها.

ص: 450

ويظهر ضعفه مما سبق في المسألة الثالثة من عدم اعتبار المالية في العوضين علي أن احتمال ترتب الجائزة عليها يجعلها مالاً، كما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث يوجب تنافس العقلاء فيها الذي هو المعيار في المالية. نظير مالية الشبكة بلحاظ احتمال حصول الصيد فيها، ومالية البذر غير الصالح للأكل بلحاظ احتمال صيرورته زرعاً بالزراعة وغير ذلك.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) - مع ذهابه إلي عدم اعتبار المالية في المبيع - قال في مستحدثات المسائل عند التعرض لبيع أوراق اليانصيب وبيان وجوه المعاملة المذكورة: "الأول: أن يكون شراء البطاقة بغرض احتمال إصابة القرعة باسمه والحصول علي الجائزة. فهذه المعاملة محرمة وباطلة بلا إشكال".

وقد يظهر منه مبطلية الداعي المذكور للمعاملة. ولا يظهر الوجه في ذلك، فإن احتمال ترتب النفع علي المعاملة وعدم اليقين به شايع في المعاملات، كشراء البذر لاحتمال صيرورته زرعاً وترتب النفع عليه بذلك.

وربما يمنع من صحة المعاملة لوجوه أخر:

الأول: أنها غررية، لعدم إحراز ترتب الجائزة عليها. وفيه: أن ذلك قد يتم إذا كان دفع المال في مقابل نفس الجائزة. أما حيث كان دفع المال في مقابل الورقة، فالورقة ذات مالية محدودة، وهي حاصلة للمشتري. والجائزة من سنخ الداعي الاحتمالي الذي لا يضر تخلفه، كداعي وقوع الصيد في الشبكة.

ودعوي: أن مالية الورقة لما لم تكن لأهميتها في نفسها، بل بلحاظ ترتب الجائزة عليها، فهي مجهولة، لا يحرز ترتبها. مدفوعة بأن احتمال ترتب الجائزة يوجب مالية الورقة بمرتبة ضعيفة، وهي بالمرتبة المذكورة لا تتخلف، بل تسلم للمشتري، نظير ما ذكرناه في الشبكة.

الثاني: أنها قمارية، لابتنائها علي الرهن والمغالبة. ويندفع بأنه لا يبعد اختصاص القمار يبتني علي المغالبة بين الأطراف من أجل كسب المال بعضهم من بعض، بحيث

ص: 451

يكون هناك غالب ومغلوب. أما في المقام فالاقتراع ليس من أجل تثبيت الخسارة علي شخص، لأن الشركة متعهدة بدفع الجائزة علي كل حال بمقتضي الشرط، والاقتراع إنما يقتضي تعيين من تدفع له الجائزة والمنتفع بها، من دون أن يتضمن خسارة الشركة ولا خسارة بقية أطراف الاقتراع، ولا يتضح صدق القمار بذلك.

الثالث: ما تضمن أنه لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل(1) ، فإن مقتضاه عدم استحقاق السبق - وهو المال المتسابق عليه - في غير الأمور المذكورة، ومن الظاهر أن السبق قد يكون من شخص ثالث غير المتسابقين، ومنه المقام.

وفيه: أنه لا تسابق في المقام بين الأطراف، فإن شراء الورقة بنفسه ليس تسابقاً، ولا يستحق شيء غير الدخول في الاقتراع الحاصل للكل، وأما الاقتراع فلا يقوم به الأطراف المعرضة للانتفاع، بل تقوم به الشركة وفاءً بتعهدها.

الرابع: أن مالية الورقة لما كانت من أجل تحصيل الجائزة، وكان احتمال تحصيلها ضعيفاً، فالإقدام علي بذل المال بإزائها يكون سفهياً.

ويندفع: أولاً: بأن البذل إنما يكون سفهياً إذا كان المال المبذول كثيراً، أما إذا كان قليلاً بنحو يناسب ضعف الاحتمال، فلا يكون بذله من أجل الاحتمال المذكور سفهياً.

ثانياً: بأن كون بذل المال سفهياً لا يقتضي بطلان المعاملة، كما سبق في المسألة الثالثة عند الكلام في اعتبار المالية في البيع.

ومن هنا لا يتضح الوجه في حرمة بيع الورقة وبطلانه في المقام.

نعم لو فرض عدم البذل بإزاء نفس الورقة، بل بإزاء الجائزة المحتملة، مع تمحض الورقة في كونها وثيقة علي المعاملة المذكورة من دون أن تكون طرفاً فيها، تعين بطلان البيع.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 3 من أبواب كتاب السبق والرماية.

ص: 452

نعم يصح الصلح بينهم (1) بدفع مقدار من المال علي أن يملكه ورقة اليانصيب المشتملة علي الرقم الخاص علي نحو يكون من أحد الأفراد الذين تكون الجائزة مرددة بينهم (1). وإذا اجتمع عشرة أشخاص، فوهب كل واحد منهم عشرة دنانير لواحد منهم (2)، بشرط أن يجري القرعة في

---------------

أولاً: لعدم إحراز وجود العوض الذي هو المقوم للبيع، ولا يصح البيع مع ذلك إلا بضميمة أمر معلوم الحصول للمبيع، نظير بيع العبد الآبق مع الضميمة علي ما يتضح عند الكلام في اشتراط القدرة علي التسليم من فصل شروط العوضين من مباحث البيع إن شاء الله تعالي.

وثانياً: لأن مقتضي البيع لما كان هو المبادلة بين الثمن والمثمن فهو يقتضي ملكية المشتري للمثمن بنفس البيع كما يقتضي خروج الثمن عن ملكيته به. مع أن الجائزة في المقام لو حصلت فهي تملك بالاقتراع لا بالبيع.

وعلي ذلك يبتني ما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره). ولعله لذا قال بعض مشايخنا (قدس سره) في المنهاج: "لا يجوز بيع أوراق اليانصيب. فإذا كان الإعطاء بقصد البدلية عن الفائدة المحتملة فالمعاملة باطلة" .وهو غير ما سبق منه.

لكن الظاهر عدم ابتناء المعاملة في المقام علي ذلك، بل علي بيع نفس الورقة، وبذل المال بإزائها، فيجري فيه ما سبق.

(1) كأنه للفرق بين الصلح والبيع في عدم اعتبار المالية في موضوع الصلح. لكن سبق عدم ثبوت الفرق المذكور، وعدم ترتب الثمرة عليه في المقام.

(1) يعني: في الاقتراع.

(2) إما أن يفرض كون الموهوب له شخصاً غيرهم، أو يفرض كونه منهم علي أن يشترط عليه جعل عشرة منه مع التسعين عند الاقتراع، لتتم المائة.

ص: 453

المائة دينار المجتمعة عنده، وتعطي لمن تخرج القرعة باسمه منهم، صحّ (3). وأما إذا كان الإعطاء بقصد البدلية عن المائة المحتملة فالمعاملة باطلة (4)، وإذا كان اليانصيب علي النحو الأول فهو صحيح (5).

(مسألة 42): يجوز إعطاء الدم للمرضي المحتاجين إليه (6). كما يجوز أخذ العوض عن الإعطاء والتمكين منه (7). ولا يجوز أخذ العوض عن نفس الدم (1). وإذا وضع الدم في قارورة جاز أخذ العوض عن القارورة

---------------

(3) لعموم نفوذ العقود، المقتضي لصحة الهبة، وعموم نفوذ الشرط المقتضي لصحة الشرط المذكور، ولزوم العمل عليه.

(4) لعدم إحراز المبدل عنه، ولعدم ملكيته بالمبادلة، بل بالقرعة، مع أن مقتضي المبادلة ملكيته بها، كما تقدم في نظيره.

(5) لكن اليانصيب المعروف هذه الأيام لا يبتني علي ذلك، بل علي بيع ورقة اليانصيب، الذي سبق منه (قدس سره) المنع منه، وسبق منّا جوازه.

(6) كما يجوز لهم استعماله لما تقدم منّا ومنه من جواز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير المنافع الثابت حرمتها. بل حتي لو قيل بحرمة الانتفاع بها فلابد من البناء علي جوازه في المقام من أجل الحاجة له.

(7) كأن المراد به إجارة الإنسان نفسه لأن يؤخذ منه الدم، بحيث يكون أخذ الدم والتمكين منه من سنخ المنفعة المقابلة بالمال، نظير إجارة المرأة للإرضاع والفحل للضراب، ليباين ما يأتي منه من الحكم بجواز المصالحة علي التمكين. والوجه في الجواز أن التمكين من ذلك نحو من المنفعة المحللة، فيجوز بذل المال بإزائها.

(1) كأنه لما سبق منه (قدس سره) في المسألة الأولي من حرمة بيع الأعيان النجسة. لكن تقدم منّا المنع من ذلك، كما تقدم دفع ما ربما يستدل به علي حرمة بيع الدم بالخصوص.

ص: 454

نفسها إن كانت ذات قيمة (2) ويكون الدم تابعاً لها، ولا يجوز أخذ العوض عن الدم. نعم تجوز المصالحة علي التمكين من الدم بعوض (3). فالعوض يكون في مقابل التمكين لا مقابل الدم.

ويحرم حلق اللحية (4)،

---------------

(2) بل مطلقاً، لما سبق من عدم اعتبار المالية في العوضين.

(3) لعموم نفوذ الصلح. وقد سبق منه (قدس سره) أن الأعيان النجسة وإن لم تكن مالاً شرعاً، إلا أنه يثبت حق الاختصاص فيها، فتجوز المعاوضة علي الحق المذكور، وذلك جارٍ هنا. بل لعل ما ذكره من الصلح راجع إليه.

(4) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعي عليه الإجماع في كلام غير واحد. بل ربما ادعي إجماع المسلمين علي ذلك، كما يناسبه ما عن الحنفية والمالكية والحنابلة من الحرمة. نعم قد لا يناسبه ما عن الشافعية من التعبير بكراهة حلقها والمبالغة في قصها.

وكيف كان فقد يستدل علي الحرمة بقوله تعالي حكاية عن إبليس لعنه الله: (وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللهِ)(1) ، لظهوره في حرمة تغيير خلق الله تعالي، لأنه إنما يأمرهم بما يخرجهم عن حظيرة الطاعة، ويكون سبباً في هلاكهم. ومن الظاهر أن حلق اللحية من تغيير خلق الله تعالي.

لكن قيام الضرورة علي جواز تغيير الخلق في الإنسان والحيوان والنبات والجماد وشيوع ذلك، بل رجحانه أو وجوبه في كثير عن الموارد، كحلق الرأس للرجل والشارب وتقليم الأظفار والختان وغير ذلك، يمنع من الجمود علي لفظ الآية. ولاسيما مع عطفه علي قوله: (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ) الذي هو نحو من تغيير خلق الله. فلابد إما من حمله علي تغيير خاص، ويكون مجملاً غير صالح للاستدلال.

********

(1) سورة النساء آية: 118.

ص: 455

أو علي ما ذكره غير واحد من إرادة تغيير دين الله تعالي، كما يناسبه قوله تعالي: (فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)(1)، وهو المروي عن الصادقين (عليهم السلام) -(2).

كما قد يستدل أيضاً علي الحرمة بجملة من النصوص:

منها: ما تضمن الأمر بإعفاء اللحية. كخبر علي بن غراب عن جعفر عن أبيه عن جده (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): حفوا الشوارب وأعفوا اللحي، ولا تشبهوا بالمجوس"(3) ، ومرسل الصدوق:" قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): حفوا الشوارب واعفوا اللحي، ولا تشبهوا باليهود"(4) ، وغيرهما.

وفيه - مع ضعف السند -: أن إعفاء اللحية لا يتحقق بمجرد عدم حلقها، بل بتركها حتي تطول، ولا إشكال في عدم وجوبه، بل لابد من حمله علي الاستحباب، وحينئذٍ لا مجال لاستفادة حرمة حلقها منه.

وأما النهي عن التشبه باليهود فلابد من حمله - بقرينة ما هو المعروف من تطويلهم للحية - علي الاستدراك من الإعفاء، فيرجع عن النهي عن الإفراط في إطالة اللحية حتي يتجاوز القبضة الذي ورد النهي عنه في غير واحد من النصوص(5) ، كما حكي عن الوافي.

وأما النهي عن التشبه بالمجوس فكأنه لأن من سيرتهم حلق اللحية وإطالة الشارب، كما ورد في بعض النصوص(6). وحينئذٍ إما أن يراد به أنهم خرجوا عما ينبغي، كما هو المناسب لما في مرسل الصدوق: "قال: رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) إن المجوس جزو

********

(1) سورة الروم آية: 30.

(2) تفسير العياشي ج: 1 ص: 276.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، 1.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 65 من أبواب آداب الحمام.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 2. مستدرك الوسائل ج: 1 باب: 40 من أبواب آداب الحمام.

ص: 456

لحاهم ووفروا شواربهم. وإنا نحن نجز الشوارب ونعفي اللحي. وهي الفطرة"(1). فيرجع لتأكيد ما سبقه، من دون أن يقتضي حكماً آخر زائداً عليه، وقد عرفت أن ما سبقه محمول علي الاستحباب.

وإما أن يراد به النهي عن التشبه بهم بعنوانه، أو بعنوان كونه تشبهاً بالكفار، نظير ما ورد في موثق السكوني عن الصادق (عليه السلام):" قال: إنه أوحي الله إلي نبي من أنبيائه، قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي"(2) ، ونحوه أو عينه موثقه الآخر(3) ، وعلي ذلك فإنما يحرم الحلق حيث يكون شعاراً مختصاً بهم، بحيث يكون فاعله متشبهاً بهم عرفاً سالكاً مسالكهم. وهو أمر غير المدعي.

ومنها: خبر حبابة الوالبية: "رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار، ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان. فقام إليه فرات بن أحنف، فقال: يا أمير المؤمنين وما جند بني مروان ؟ قال: فقال له: أقوام حلقوا اللحي وفتلوا الشوارب، فمسخوا..."(4).

وجه الاستدلال به: أن المسخ لابد أن يكون لحرمة عملهم، وحيث لا يحرم فتل الشوارب، فلابد من كون المسخ من أجل حلق اللحي. نعم الاستدلال به يتوقف علي استصحاب أحكام الشرايع السابقة، وهو غير تام علي التحقيق.

إلا أن يستفاد ثبوت الحكم في هذه الشريعة من شدة الحرمة المناسبة للمسخ. أو من ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك في مقام التنفير. وكلاهما لا يخلو عن إشكال. فإن الشدة في الحرمة قد تكون مع اختصاصها بالشريعة السابقة، كحرمة العمل يوم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 19 من أبواب لباس المصلي حديث: 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 11 باب: 64 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 67 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

ص: 457

السبت، حيث أوجبت مخالفتها المسخ في بني إسرائيل. وذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك ليس من أجل التنفير عنه، بل من أجل بيان الممسوخين من بني إسرائيل علي صورة السمك الذي نهي عن بيعه.

اللهم إلا أن يقال: حيث كان حلق اللحية مفروغاً عن مرجوحيته في شريعتنا من مجموع النصوص والسيرة، فالتنبيه لشدة حرمته في الشريعة السابقة يناسب كون المرجوحية بنحو الحرمة في هذه الشريعة، وإلا كان المناسب الاستدراك والتنبيه لعدم الحرمة.

لكنه لا يخلو عن إشكال. علي أن ضعف سند الخبر، وعدم وضوح اعتماد الأصحاب عليه في البناء علي الحرمة، يمنع من الاستدلال به.

ومنها: صحيح البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) المروي عن مستطرفات السرائر:" وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته ؟ قال: أما من عارضيه فلا بأس، وأما من مقدمها فلا "،ونحوه صحيح علي بن جعفر(1).

ويشكل بأن الأخذ من اللحية إنما يكون بإبقاء شيء منها، لا بحلقها. ولابد حينئذٍ من حمله علي كراهة تخفيفها من المقدم دون العارضين، من دون أن تدل علي حرمة حلقها.

ومنها: حديث الجعفريات عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام):" قال رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم): حلق اللحية من المثلة، ومن مثّل فعليه لعنة الله"(2).

وقد يستشكل فيه بوجوه:

الأول: أن اللعن لا يستلزم الحرمة، بل يجتمع مع الكراهة. ففي موثق إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسي (عليه السلام): "قال: لعن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة منهم النائم في بيت وحده"(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 63 من أبواب آداب الحمام حديث: 5 وذيله.

(2) مستدرك الوسائل ج: 1 باب: 40 من أبواب آداب الحمام حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 20 من أبواب أحكام المساكن حديث: 10.

ص: 458

ويندفع بأنه ظاهر في الحرمة، ولو بلحاظ وروده مورد الردع عن العمل، والأصل في الردع الحرمة ما لم يثبت الترخيص، نظير ما ذكرناه في وجه حمل النهي علي الحرمة في الأصول. علي أن تطبيق المثلة في المقام كافٍ في البناء علي الحرمة، لما هو المعلوم من حرمة المثلة.

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن المثلة هي التنكيل بالغير بقصد هتكه وإهانته، وعليه فالمراد بالحديث الردع عن حلق لحية الغير من أجل هتكه وإهانته، لا عن حلق الإنسان لحيته تجملاً أو حلق غيره لها برضاه كذلك.

ويندفع بأن ظاهر الحديث مبغوضية حلق اللحية في نفسه وبعنوانه، لا بعنوان كونه مثلة بالغير. وتطبيق المثلة عليه تعبدي مبني علي نحو من التوسع من أجل الردع عنه، نظير قوله (صلي الله عليه وآله وسلّم):

"الشيب نور فلا تنتفوه "(1)حيث لا مجال لحمله علي خصوص ما إذا كان بهياً منيراً. وإلا فليس من وظيفة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) تطبيق الكبريات الخارجية إذا كانت واضحة الانطباق. نعم لو كان التعبير هكذا: لما كان حلق اللحية مثلة فعلي الحالق لعنة الله، كان لما ذكر وجه.

وأما حلق لحية الغير بقصد هتكه وإهانته فحرمته أهم من حرمة المثلة وأظهر من أن تحتاج إلي تطبيق عنوانها، لما فيها من انتهاك حرمة الله تعالي بانتهاك حرمة عبده المؤمن في بدنه وعرضه، ودونها حرمة سبه وشتمه واحتقاره، التي ورد فيها مضامين قاسية في الاستنكار والردع لا تناسب لسان الردع المذكور في الحديث المستدل به. بل هي أفظع أنواع الظلم الذي ورد فيه ما ورد مما لا يناسب اللسان المذكور ولا يشابهه.

علي أن ذلك ليس أمراً شايعاً، ليناسب إرادته من الإطلاق، بخلاف حلق الإنسان لحيته، الذي هو زي معروف يختاره بعض الناس، والذي أشارت إليه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 79 من أبواب آداب الحمام حديث: 4، مستدرك الوسائل ج: 1 باب: 50 من أبواب آداب الحمام حديث: 2.

ص: 459

النصوص المتقدمة وغيرها، حيث يقرب جداً إشارة الإطلاق إليه ردعاً عن سريان هذا الزي وشيوعه بين المؤمنين. ولاسيما وأن هذا هو الأنسب بالإطلاق، لابتناء علي ما ذكره (قدس سره) علي نحو من التقييد، لاختصاصه بفعل ذلك بالغير وبقصد الإهانة والتنكيل، ولا إشعار بهما في الحديث.

الثالث: أن الحديث قد تضمن حكاية عن واقع قائم آنذاك، حيث لم يكن حلق اللحية مألوفاً ولا مقبولاً اجتماعياً، وليس تطبيقاً شرعياً، أما إذا خرج عن ذلك وصار مقبول اجتماعياً فلا يترتب عليه حكم المثلة، لخروجه عنه.

وفيه: أنه إن أريد أن حلق اللحية غير مقبول اجتماعياً، بلحاظ كونه زياً لأهل الاختيال والترف والبطر، فهو غير بعيد، إلا أنه لا يقتضي تطبيق المثلة. وإن أريد أنه غير مقبول اجتماعياً، لأنه من المستبشعات، نظير قطع الآذان، فتطبيق المثلة عليه وإن كان مناسباً، إلا أنه في غاية المنع، لما سبق من كونه زياً معروفاً لفئة خاصة.

علي أن المثلة حيث كانت مبنية علي التنكيل لغة، فتطبيقها لا يكون حقيقياً، بل مبنياً علي نحو من التوسع، وكما يمكن التوسع بلحاظ الاستبشاع، كذلك يمكن التوسع بلحاظ الخروج به عن مقتضي الوضع الطبيعي والخلقة الأصلية. وحيث كان الأول يبتني علي نحو من التقييد، لاختصاصه بصورة تحقق الاستبشاع المدعي، فلا مجال للبناء عليه من دون قرينة، بل يتعين الثاني، عملاً بالإطلاق.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الحديث الشريف في إطلاق حرمة حلق اللحية بما هو في نفسه كزي خاص معروف، قد أشارت إليه النصوص السابقة وغيرها.

الرابع: ضعف الحديث سنداً. وحيث سبق أن الحديث من الجعفريات فأحاديث الجعفريات كلها أو جلها مروية عن محمد بن محمد بن الأشعث عن موسي بن إسماعيل بن الإمام موسي بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه.

وقد سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) الإشكال في سند الخبر لجهالة موسي بن إسماعيل. ثم حكم في المسألة المائة والسابعة والسبعين من كتاب القضاء من مباني

ص: 460

تكملة المنهاج بأن الطريق لا بأس به.

وكأنه بناءً علي مختاره سابقاً من وثاقة رجال السند في كتاب كامل الزيارات لكون موسي وأبيه منهم. وهو وإن عدل عن ذلك، إلا أن الظاهر أن عدوله في غير محله، علي ما أوضحناه في جواب سؤال وجّه إلينا حول ذلك(1).

********

(1) جاء في البيان المطبوع في وجه عدول المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) عن موقفه من رجال كامل الزيارات. بعد نقل كلامه وتأكيد ظهوره في توثيق جميع رجال السند. ولكن بعد ملاحظة روايات الكتاب والتفتيش في أسانيدها ظهر اشتماله علي جملة وافرة من الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة والتي تنتهي إلي غير المعصوم (عليه السلام)، والتي وقع في أسانيدها من هو من غير أصحابنا كما أنه يشتمل علي الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال أصلاً. بل وجماعة مشهورين بالضعف كالحسن بن علي بن عثمان ومحمد بن عبدالله بن مهران وأمية بن علي القيسي وغيرهم. ومعلوم أن هذا كله لا ينسجم مع ما أخبر به (قدس سره) في الديباجة لو كان مراده توثيق جميع من وقع في إسناد كتابه، ومن أنه لم يخرج فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم فصوناً لكلامه عن الأخبار بما لا واقع له لم يكن بد من حمل العبارة علي خلاف ظاهرها بإرادة مشايخه خاصة. لكن ملاحظة عبارته بتمامها تشهد بأنها آبية عن الحمل المذكور، كيف وأن الغرض من توثيق الرجال بيان اعتبار روايات الكتاب، ومن الظاهر أن اعتبار الرواية إنما يكون بوثاقة جميع رجال سندها لا خصوص الراوي الأول الذي يروي عنه ابن قولوية. بل قوله:" ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال، كالصريح في خلافه "وإلا كان يقول:" ولا أخرجت فيه حديثاً رواه الشذاذ "ومنه لابد من إبقاء كلامه علي ظاهره من هذه الجهة وحيث كان منزهاً عن الكذب فلابد من توجيه كلامه بما يناسب الكتاب المذكور وذلك بالنظر في نقاط الضعف التي أشير إليها واحدة واحدةً.

1 - اشتمال الكتاب علي الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة لا تنافي تعهده، فإن من القريب اطلاعه علي أن الشخص الذي أرسل من لا يرسل إلا عن ثقة، حيث لا يبعد مألوفية ذلك عند القدماء كما وصل ذلك إلينا من بعضهم صريحاً، أو علي الكتاب الذي اشتمل عليه الخبر المذكور منه من الكتب التي قامت القرائن الخارجية من صحة أخبارها

ص: 461

نعم استشكل (قدس سره) هناك بأن كتاب الجعفريات الذي بأيدينا لم يثبت صحة

_______________

********

(1) لعرضها علي الأئمة (عليهم السلام) أو علي خواص أصحابهم ممن يحسن التمييز ونحو ذلك مما قد يتيسر له ولأمثاله من قدماء الأصحاب وذوي المقام منهم الاطلاع عليه وإن خفي علينا الكثير من ذلك لبعد العهد وإثارة الشبه ونحو ذلك.

2 - انتهاء الروايات إلي غير المعصومين (عليهم السلام) إنما يكشف عن أن تعهده بالاقتصار علي رواياتهم مبني علي الغالب، لكونه المقصود بالأصل وكون المقصود من ذكر غيره للتأييد والاستظهار، علي أنه إنما التزم بذلك فيما إذا كان في الرواية عنهم ما يغني عن الرواية عن غيرهم. حيث قال:" ولم أخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم إذا كان فيما روي عنهم من حديثهم (صلوات الله عليهم) كفاية عن حديث غيرهم ".وعلي كل حال فلا دخل لذلك بالمهم فيما نحن فيه من وثاقة رجال السند ومثله الحال في الرواية عن غير أصحابنا إذا كان المراد منهم من هو بعيد عن أصحابنا أما لو أريد به منهم من هو يختلط بهم كالسكوني، وأبي الجارود، وطلحة بن زيد، فهم ملحقون بأصحابنا في عرف أهل الحديث كما هو ظاهر.

3 - اشتمال الكتاب علي الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال لا ينافي تعهده فإن كتب الرجال قد أهملت الكثير من الرواية. ولاسيما وأن بعض تلك الكتب قد ألفت لاستيعاب أهل الكتب من أصحابنا لا جميع الرواة منهم كما هو الحال في كتاب النجاشي وفهرست الشيخ. وبعضها اقتصر علي خصوص أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من دون نظر لغيرهم من الرواة الذين وقعوا في طريق أسانيد الروايات من دون أن يكونوا من أصحابهم (عليهم السلام)، كما في كتاب الشيخ. وهو وإن ذكر فيه جملة من الرجال في باب من لم يروِ عنهم (عليهم السلام) إلا أنه مضطر في ذلك قطعاً وغير مستوف للرواة يقيناً. اشتمال الكتاب علي جماعة مشهورين بالضعف إن كان المراد به أنهم مشهورين عند غيره بنحو يمكن مخالفة ابن قولويه للمشهور في ذلك، فهو لا يعدو أن يكون اختلافاً بين أهل الجرح والتعديل الذي يقع كثيراً وليس تقديم قول غيره عليه بأولي من تقديم قوله. ولاسيما مع كون عمدة الجارحين متأخرين عنه كالشيخ والنجاشي. علي أنه يأتي ما يمكن به توجيه الاختلاف المذكور. وإن كان المراد أنهم مشهورون بالضعف عند الأصحاب عموماً بحيث لا يمكن خفاء ذلك علي ابن قولويه ومخالفته لهم فيه. فيهوّن الأمر إمكان جمع توثيقه لهم في كتابه مع تضعيفهم المذكور بما ذكرنا في توجيه حجية مراسيل ابن أبي

ص: 462

نسبته لمن ينسب إليه. وعمدة ما ذكره في وجهه أن النجاشي والشيخ (قدس سرهما)

_______________

********

(1) عمير (1) من أنه حيث كان الغرض من توثيق الرجال في كامل الزيارات وفيمن يروي عنه ابن أبي عمير ونحوه هو توثيق رواياتهم. فالظاهر أن المراد بذلك وثاقتهم حين أدائهم الرواية وأخذها عنهم، لأن ذلك كافٍ في حجية الرواية والاعتماد عليها، ولا ينافي ذلك أن يعرض ما يسقط روايته عن الحجية من ضعف في الذاكرة حتي صار يخلط ولا يضبط، أو من هزة وفتنة أخرجته عن مقام الوثاقة أي الكذب أو العلو أو الكفر أو غير ذلك. كما أن الظاهر أيضاً أن مراد الجارح هو حصول ما يمنع من الاعتماد علي رواية الرجل في الجملة ولو في بعض الأزمنة، كما هو المظنون أو المطمأن به في أكثر المجروحين ممن روي عنه الأصحاب في كتبهم واختلط بهم. وإلا فمن البعيد جداً رواياتهم عمن هو كاذب في جميع عمره يعرف عنه ذلك وهم يعاشرونه ويخالطونه ويحدثهم ويحدثونه، وحينئذٍ لا تنافي بين التوثيق المذكور والجرح الثابت علي الشخص لنضطر معه إلي تأويل كلام الموثقين بمثل هذه التوثيقات أو البناء علي خطئهم فيها. غاية الأمر أنه مع الجهل بتاريخ رواية الشخص الذي يجتمع فيه التوثيق المذكور مع الطعن لا يعتمد عليها لعدم العلم بصدورها في زمان الاستقامة، وعلي ذلك يتعين البناء علي وثاقة الرجال المذكورين في الكتاب المذكور، وكذا الذين روي عنهم مثل ابن أبي عمير ما لم يطعن فيهم من يقبل طعنه فلا تقبل حينئذٍ بقية رواياتهم ما لم يعلم صدورها حال الاستقامة والمظنون جريان ذلك في رجال جميع الكتب التي يظهر من أصحابها تصحيح رواياتها كالكافي والفقيه وإن كان في بلوغ ذلك مرتبة الحجية بعد عدم تصريح مؤلفيها بوثاقة رجالها إشكال لإمكان اعتمادهم في توثيق الرواية علي قرائن أخري من دون أن يثبت عندهم وثاقة راويها حين أدائها، وإن كان بعيداً في الجملة، وكيف كان إن لم يكن هذا الوجه هو الظاهر بدواً فلا أقل من لزوم الحمل عليه بعد ملاحظة واقع الكتاب، ومراعاة حال مؤلفه في الوثاقة والجلالة، ورفعة المقام وقدم الطبقة، وهو أولي بكثير من حمل كلامه علي توثيق خصوص مشايخه الذين يروي عنهم بلا واسطة. (منه عفي عنه)

ص: 463

قد نسبا لإسماعيل بن موسي بن جعفر (عليهما السلام) جملة من الكتب روياها عنه بطرق معتبرة، إلا أن الموجود في أيدينا قد اشتمل علي كتب لم يذكراها، وهي كتاب الجهاد، وكتاب التفسير، وكتاب النفقات، وكتاب الطب والمأكول، وكتاب غير مترجم. كما أنهما ذكرا كتاب الطلاق، ولم يوجد فيما بأيدينا.

قال بعد ذلك:" فمن المطمأن به أنهما متغايران. ولا أقل من أنه لم يثبت الاتحاد، حيث لا طريق لنا إلي إثبات ذلك، وأن الشيخ المجلسي وصاحب الوسائل (قدس سرهما) لم يرويا عن ذلك الكتاب شيئاً، ولم يصل الكتاب إليهما جزماً. بل الشيخ الطوسي نفسه لم يصل إليه الكتاب، ولذلك لم يرو عنه في كتابيه شيئاً ".وقد سبقه إلي بعض ذلك وغيره في الجواهر عند الكلام في جواز إقامة الحدود للحاكم الشرعي من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فراجع.

هذا ولا يخفي أن الجعفريات عبارة عن مجموعة من الكتب في أبواب الفقه وغيره، كل كتاب منها يتضمن مجموعة من الروايات رويت بالطريق المتقدم. ومن ثم فقد تنسب لإسماعيل - كما سبق عن النجاشي والشيخ (قدس سرهما) - باعتباره الراوي لها عن أبيه الإمام الكاظم (عليه السلام) عن أبيه الإمام الصادق جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام).

ولعل تسميتها بالجعفريات لروايتها عن الإمام الصادق (عليه السلام). كما قد تنسب لمحمد بن الأشعث بلحاظ رجوع طرق الرواة للكتاب المذكور إليه، فهو سبب نشرها. ولذا قد تسمي بالأشعثيات. وحينئذٍ نقول:

أما النجاشي والشيخ (قدس سرهما) فهما ليسا في مقام ذكر جميع كتب إسماعيل، ولا جميع الكتب التي اشتمل عليها كتاب الجعفريات، وإنما ذكرا أن لإسماعيل كتباً منها ما ذكراه، وهذا لا ينافي وجود كتب أخري له قد أودعت في كتاب الجعفريات، أو أن بعض الكتب التي ذكراها لم يودع في كتاب الجعفريات. وحينئذٍ لا يدل ما ذكراه علي مباينة الكتاب الموجود بأيدينا للكتاب الأصلي.

ولاسيما مع احتمال التداخل في عرض الكتب وغيرها، وأن عدم ذكرهم

ص: 464

لبعض الكتب لدخوله فيما ذكراه، ككتاب النفقات الذي ذكر فيما بأيدينا بعد كتاب النكاح، ولعله كان بنظرهما تتمة لكتاب النكاح، كما عليه سيرة الفقهاء. كما أن كتاب الطلاق وإن لم يذكر فيما بأيدينا بعنوان كتاب، إلا أنه ذكر بعنوان باب في ضمن كتاب النفقات، وتبعه أبواب في أحكام الطلاق.

علي أنه لو فرض ظهور كلامهما في عدم وجود الكتب المذكورة فهو إنما يكشف عن كون تلك الكتب قد زيدت في الكتاب من المؤلف أو غيره، لا أن كتاب الجعفريات الذي بأيدينا مباين للكتاب الأصلي.

مضافاً إلي أن الصدوق (قدس سره) ذكر في المجلس الواحد والسبعين من أماليه بسنده عن موسي بن إسماعيل من دون توسط محمد بن الأشعث ثلاثة أحاديث موجودة في كتاب التفسير مما بأيدينا، وروي في المجلس الأربعين حديثاً رابعاً عنه موجود فيه أيضاً، حيث يناسب ذلك كون كتاب التفسير من جملة الكتب التي تنسب لإسماعيل أو لابنه موسي، ولعله هو الذي نسبه النجاشي لموسي وسماه كتاب جوامع التفسير، ونسبه الشيخ له وسماه جامع التفسير.

وكذا ما ذكره من عدم وصول الكتاب للمجلسي وصاحب الوسائل، إذ عدم وصول بعض الكتب لهما قد يكون بسبب صعوبة انتشار الكتب المخطوطة، وإن كان الكتاب في نفسه مشهوراً معروفاً.

بل ذكر المجلسي (قدس سره) عند التعرض لسند كتاب النوادر المأخوذ من كتاب الجعفريات أن كتاب الجعفريات قد روي بطرق متعددة غير الطريق الذي اعتمده صاحب النوادر(1). كما ذكر في موضع آخر عن كتاب النوادر المذكور أن كتاب الجعفريات الذي هو الأصل له قد روي بطرق متعددة، ثم قال: "فتلك القرائن يقوي العمل بأحاديثه"(2).

وأما عدم اطلاع الشيخ علي الكتاب وعدم روايته عنه في كتابيه، فهو غير ظاهر.

-

********

(1) بحار الأنوار ج: 1 ص: 54، 36.

(2) بحار الأنوار ج: 1 ص: 54، 36.

ص: 465

حيث قد روي الشيخ في أول باب فضل زيارة النبي (صلي الله عليه وآله وسلّم) من كتاب الحج من التهذيب حديثاً مطابقاً لما في الكتاب الذي بأيدينا متناً وسنداً. كما رواه أيضاً ابن قولويه في الباب الثاني من كتابه كامل الزيارات. وروي الشيخ أيضاً في التهذيبين(1) حديثاً آخر مطابقاً لما في أيدينا متناً وسنداً.

هذا وبالرجوع إلي الفائدة الثانية من خاتمة كتاب مستدرك الوسائل يتضح أن الكتاب المذكور قد اشتهر بين الخاصة والعامة ورواه كثير من مشايخ الحديث، وذكره العلامة في إجازته لبني زهرة باسم الجعفريات، وذكر بعض أحاديثه، كما ذكر بعضها ابن طاووس في فلاح السائل. بل أثبت منه غير واحد روايات موجودة فيما هو الموجود بأيدينا منه.

منهم ابن طاووس (قدس سره) في الإقبال، والشهيد (قدس سره) في الذكري ونكت الإرشاد. وقد اختصره الشهيد (قدس سره) واختار منه مجموعة من الأحاديث، وذكر صاحب المستدرك أنها موجودة عنده، وتقدم أن نوادر فضل الله الراوندي مأخوذة منه.

كما أن الصدوق (قدس سره) روي في المجلس الثالث والخمسين حديثاً بسنده عن موسي من دون توسط محمد بن الأشعث موجود في كتاب الدعاء مما بأيدينا، وروي في المجلس الواحد والسبعين من دون توسط محمد أيضاً حديثين آخرين موجودين في كتاب الجهاد مما بأيدينا، وهي غير ما سبق منه فيما هو الموجود من كتاب التفسير.

وذلك كله موجب للوثوق بصحة نسبة الكتاب الذي بأيدينا ومطابقته للكتاب الأصلي. فلاحظ.

هذا مضافاً إلي تأيد الحكم المذكور بالإجماع المدعي، الذي يقرب كشفه عن رأي المعصومين (صلوات الله عليهم) بسبب كون المسألة مورداً للابتلاء من صدر الإسلام. بل قد تستفاد المفروغية عن الحرمة من اقتصار الأسئلة في النصوص عن كيفية وضع اللحية من الأخذ منها من دون سؤال عن أصل الحلق. وقد صرح سيدن

********

(1) تهذيب الأحكام ج: 6 ص: 266، والاستبصار ج: 3 ص: 24.

ص: 466

ويحرم أخذ الأجرة عليه (1). إلا إذا كان ترك الحلق يوجب سخرية ومهانة شديدة لا تتحمل عند العقلاء، فيجوز حينئذٍ (2).

---------------

المصنف (قدس سره) في حديث لنا معه بأن الإجماع دليل المسألة عنده، كما هو الظاهر من حال كثير من الأعلام.

ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) فإن حرمة العمل تقتضي حرمة الأجرة المأخوذة في مقابله، لكونه من أكل المال بالباطل، كما تقدم غير مرة.

(2) إما لخروجه عن المتيقن من دليل الحرمة عنده (قدس سره) وهو الإجماع، أو لقاعدة نفي الحرج. لكن لا مجال للأول بناءً علي ما سبق من نهوض حديث الجعفريات بإثبات الحرمة. كما لا مجال للثاني بناءً علي ما صرح به (قدس سره) في مجلس درسه الشريف من عدم نهوض الحرج برفع الحرمة.

نعم لا يظهر الوجه في ذلك، لعدم مناسبته لإطلاق دليل نفي الحرج، حيث يتعين البناء علي عمومه لها وعدم الخروج عنه إلا في الموارد التي يعلم بقصوره عنها، تبعاً للمرتكزات المتشرعية، بلحاظ أهمية الحكم التي يمكن فرضها في الأحكام الوجوبية والتحريمية معاً، وليس منها المقام، لعدم وضوح أهميته بنحو يمنع من تحكيم دليل الحرج عليه.

غاية الأمر أن الحرج لا يصلح لرفع الحكم إذا كان مسبباً عن ضعف شخصية المكلف الدينية، بأن لا يري دينه سبباً لعزته، بحيث ترتفع به معنوياته، ويسخر ممن يسخر منه، كما قال تعالي حكاية عن نوح (علي نبينا وآله وعليه السلام): (وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ)(1). لظهور أن ضعف الشخصية الدينية مبغوض شرعاً، بحيث يعلم

********

(1) سورة هود آية: 38.

ص: 467

بعدم اعتداد الشارع الأقدس بالحرج الناشئ منه، وعدم رفع أحكامه بسببه. بخلاف ما إذا لم يكن مسبباً عن ذلك، كما لو كان بحيث لا يستطيع الانتصار وإظهار الاعتزاز بدينه، خوفاً من الطرف المقابل، حيث يصلح الحرج حينئذٍ لرفع الحكم.

وكذا يجوز حلق اللحية عند خوف الضرر بلا إشكال. لقاعدة نفي الضرر. ولعله إنما لم يذكره لوضوحه.

انتهي الكلام في المكاسب المحرمة شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من شهر جمادي الثانية سنة ألف وأربعمائة وإحدي وعشرين لهجرة سيد المرسلين عليه وآله أفضل الصلوات وأزكي التحيات. في النجف الأشرف بيمن الحرم المشرف علي مشرفه الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل سماحة آية الله (السيد محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. والحمد لله في البدء والختام، وبه الاعتصام.

ص: 468

فهرست تفصيلي

(5)كتاب التجارة المراد من التجارة مطلق البيع والشراء5

(7)عمومات النفوذ في مطلق المعاملات7

(14)ما يختص بنفوذ البيع والتجارة14

(15)استحباب التجارة15

(16)تحرم التجارة بالأعيان النجسة في الجملة16

(19)يحرم بيع الخنزير19

(20)الكلام في جواز أخذ الغير الثمن من البائع20

(23)إذا أسلم الكافر قبل قبضه الثمن23

(27)يحرم بيع الكلب إلا كلب الصيد مع الكلاب في كلب الماشية والزرع27

(32)يحرم بيع الميتة إذا اختلط المذكي بالميتة32

(36)ميتة ذي النفسي السائلة36

(36)يحرم بيع الخمر36

(37)التصدق بالثمن ولو مع معرفة البائع37

(38)جواز اخذ الغير الثمن من البائع38

(39)يحرم بيع الدم39

(40)يحرم يع العذرة40

(45)يحرم بيع المني مع الكلام في صور بيعه45

(49)لا فرق في الحرمة بين البيع والشراء وغير ذلك مما يعتبر فيه المالية49

(51)بيع العصير العنبي إذا غلا51

(53)وثاقة علي بن أبي حمزة البطائني53

(56)ثبوت حق الاختصاص في الأعيان النجسة56

ص: 469

(59)يجوز المعاوضة علي حق الاختصاص59

(60)يجوز بيع الميتة الطاهرة60

(60)بيع ما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة60

(60)الكلام في شرطية المالية في البيع60

(68)يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة في غير الجهة المحرمة68

(74)بيع الارواث الطاهرة74

(76)بيع الأبوال الطاهرة76

(79)بيع الأعيان المتنجسة79

(82)وجوب إعلام المشتري بالنجاسة82

(86)وجوب الإعلام نفسي لا شرطي86

(88) بيع ما يكون آلة للحرام88

(89)يحرم بيع آلات اللهو89

(90)يحرم بيع الأصنام والصلبان90

(91)يحرم بيع آلات القمار91

(95)عمل ما يكون آلة للحرام95

(97)الكلام في وجوب إعدام آلات الحرام97

(102)التعامل بالعملة المغشوشة102

(105)يجوز بيع السباع والحشرات والمسوخات105

(109)بيع أواني الذهب والفضة109

(109)بيع المصحف علي الكافر109

(112) بيع المصحف علي المسلم112

(118) حرمة بيع المصحف تكليفية أو وضعية ؟118

(125)بيع العنب أو التمر ممن يصنعه خمراً125

(126)إجارة المساكن ونحوها لبيع الخمر ونحوه126

(129)يحرم تصوير ذوات الأرواح129

(134)يجوز تصوير غير ذوات الأرواح وان كانت نجسة134

(136)يجوز التصوير الفوتوغرافي136

(140)كراهة اقتناء الصور140

(145)حرمة الغناء145

ص: 470

(151)حرمة استماع الغناء151

(152)استثناء الحداء من حرمة الغناء152

(153)استثناء غناء النساء في الأعراس من حرمة الغناء153

(155)ضرب الدفوف في الأعراس155

(158)يحرم معونة الظالمين في ظلمهم158

(160)الكلام في عموم الحرمة لكل ظالم160

(161)تحديد الإعانة المحرمة161

(167)حرمة الانتساب إلي الظالم ولو من غير معونة167

(169)يجوز العمل مع السلطان لنفع المؤمنين169

(175)يجوز العمل مع السلطان لدفع الضرر والإكراه175

(176)إذا استلزم العمل للسلطان اضراراً بالمؤمنين176

(179)الكلام في جواز العمل للسطان عند الحاجة المادية الملحة179

(180)يحرم اللعب بآلات القمار180

(181)حرمة أخذ الرهن181

(182)يحرم اللعب بآلات القمار ولو من دون رهن182

(185)المراهنة في غير آلات القمار185

(191)المغالبة في غير آلات القمار191

(196)تحديد القمار196

(197)يحرم عمل السحر197

(202)تعلم السحر وتعليمه202

(205)تحديد مفهوم السحر205

(207)القيافة حرام207

(210)تحديد القيافة المحرّمة210

(213)الكلام في حرمة الشعبذة213

(216)حرمة الكهانة وتحديدها216

(220) كما يحرم تصديق المخبر كذلك يحرم إخباره عن اعتقاد وجزم220

(220) تختص الحرمة بالخبر الجازم220

(221) موضوع الحرمة هو الإخبار بالغيب221

(223) حرمة النجش223

(226) حرمة التنجيم مع تحديد المحرّم منه226

ص: 471

(229) حرمة الغش وتحديد موضوعه229

(233)عدم اختصاص حرمة الغش بالبيع والنكاح233

(236)لا يحرم غش غير المؤمن236

(237)عدم توقف الغش علي القصد237

(240)تحديد الغاش من غيره في صورة التعدد240

(243)الغش في المعاملة لا يوجب فسادها243

(245)الكلام في صور الغش التي يثبت بها الخيار أو يبطل بها البيع245

(249)لو فرض عدم سلامة بعض المبيع249

(250)الإجارة علي الواجبات250

(261)ما يقبل النيابة لا محذور في التكسب به261

(263)اخذ الأجرة علي الصناعات الواجبة كفاية263

(267)حقيقة النيابة وأحكامها267

(276)الاستئجار علي الواجب غير العبادي276

(277)الاستئجار علي تعليم الأحكام277

(279)النوح بالباطل279

(282)يجوز التكسب بالمحلل من النياحة282

(283)يحرم هجاء المؤمن283

(284)يحرم الفحش من القول284

(287)حرمة الرشوة وتحديد موضوعها287

(290)الكلام في الرشوة في غير القضاء290

(296)الكلام في أخذ الرشوة لدفع الظلم296

(296)الكلام في أخذ الرشوة لترتب النفع296

(298)الرشوة علي استنقاذ الحق298

(300)صدق الرشوة علي المعاملة المحابانية300

(301)حفظ كتب الضلال301

(306)يحرم التزين بلبس الذهب للرجل306

(309)يحرم الكذب309

(311)تحديد موضوع الكذب311

(315)جواز الكذب لدفع الضرر315

(316)يجوز الكذب للإصلاح بين المؤمنين316

ص: 472

(320)إذا أمكنت التورية وجب اختيارها320

(322)الكذب في الوعد322

(323)حقيقة الوعد323

(324)حكم الوعد حين صدوره324

(325)حكم الوفاء بالوعد بعد صدوره325

(333)تحرم الولاية من قبل السلطان الجائر333

(334) تجوز الولاية مع الإكراه مع الكلام في تحديد موضوعها334

(338) يجوز شراء ما يأخذ السلطان من الضرائب338

(350)ما يأخذه السلطان من الضرائب الشرعية تبرأ به ذمة الدافع350

(362)إذا دفع الإنسان إلي آخر مالاً ليصرفه في طائفة من الناس362

(366)جوائز الظالم حلال366

(373)إذا علم ان في أموال الظالم غصب373

(383)الكلام في عموم حجية القرعة لكل أمر مشكل383

(408)الكلام في وجوب التصدق في مجهول المالك408

(408)الكلام في أن المال المجهول المالك للإمام408

(410)الكلام في جواز تملك المجهول المالك لآخذة مع التخميس410

(413)لا فرق في وجوب التصدق بين الجهل بالمالك أو اليأس من الوصول إليه413

(414)إذا كان المال المجهول مالكه ذمياً414

(421)الكلام في وجوب أستأذان الحاكم الشرعي421

(425)لو ظهر المالك ولم يرض بالصدقة425

(430)الكلام في مستحق الصدقة430

(438)الكلام في جواز احتسابه صدقة علي نفسه438

(439)يجب الفحص عن المالك439

(443) مكروهات التجارة443

(443) الكلام في كراهة بيع الصرف443

(445) كراهة بيع الأكفان445

(446) بيع الطعام والعبيد446

(447) كراهة أن يكون الإنسان جزاراً447

(448) كراهة التكسب بالحجامة448

(451)يكره التكسب بضراب الفحل451

ص: 473

(451)بيع أوراق اليانصيب451

(455)يجوز إعطاء الدم إلي المرضي وأخذ العوض عليه455

(455)يحرم حلق اللحية455

(461)وثاقة رجال السند في كتاب كامل الزيارات461

(464)كتاب الجعفريات وصحة نسبته464

ص: 474

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.