الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب المجلد 2

اشارة

عنوان قراردادي:الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب

عنوان و نام پديدآور:الوسيط في اصول الفقه/ تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر:دارالجواد(ع) - بيروت - لبنان

مشخصات ظاهري:2ج.

شابك:160000 ريال: ج.1 978-600-316-066-8 : ؛ 160000 ريال: ج.2 978-600-316-067-5 : ؛ 250000 ريال(ج.2،چاپ سوم)

وضعيت فهرست نويسي:فاپا

يادداشت:فارسي- عربي.

يادداشت:ج.2 (چاپ اول: 1392).

يادداشت:ج.2(چاپ سوم : 1395).

يادداشت:عنوان ديگر: الوسيط في اصول الفقه.

يادداشت:كتابنامه.

عنوان ديگر:الوسيط في اصول الفقه.

موضوع:اصول فقه شيعه

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه الذي عجزت العقول عن كنه معرفته، و قصرت الألباب عن الإحاطة بكماله، و الصّلاة و السّلام علي أفضل خليقته و أشرف بريّته أبي القاسم المصطفي محمّد الّذي بعثه بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلي عبادته، و من طاعة الشيطان إلي طاعته ، و علي آله الطيّبين الطّاهرين الذين هم موضع سرّه، و عيبة علمه، و موئلُ حُكْمِه، و كهوف كتبه، و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، و أذهب ارتعاد فرائصه.

أمّا بعد، فإنّ خلود الشريعة و بقاءها علي مرّ الزمان و مسايرتها للحضارات الإنسانية، و استغناءها عن كلّ تشريع، رهن أمرين:

الأوّل: احتواء التشريع علي مادة حيوية خلاّقة للتفاصيل، بحيث يتمكّن علماء الأُمّة من استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.

الثاني: فتح باب الاجتهاد و عدم إيصاده، ليقوم الفقهاء بدورهم في استنباط الأحكام التي تنسجم مع تطور الحياة و مواكبة العصر.

ص: 5

و من مفاخر الشيعة الإمامية هو عدم ايصاد باب الاجتهاد منذ رحيل النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)إلي يومنا هذا، فلذلك صار هذا سبباً لحفظ غضاضة الفقه و طراوته عندهم.

و مما لا شكّ فيه انّ أُصول الفقه يحظي بأهمية كبيرة في استنباط الأحكام الشرعية، ففي ظلّ قواعده يُتاح للمجتهد أن يُبدي رأيه في كافة الحوادث و المستجدّات.

و لقد قام بالتأليف حول هذه المهمة واحد بعد واحد من أُولي البصائر، و كابر بعد كابر من الأعاظم و الفطاحل، فللّه درّ عصابة ألّفوا فأسّسوا، و صنّفوا فأفادوا، و قد كانت كتبهم محور الدراسة جيلاً بعد جيل.

غير انّ لكلّ عصر لغتَه، و لكلّ مجتمع حاجتَه، هذا و ذاك ، ممّا يُلزم أساتذة الحوزة و المشرفين علي المناهج الدراسية بإعادة النظر في ما أُلّف و صار محوراً للدراسة، لكي يُنتفع بنقاط قوته و يضاف إليه مسائل جديدة تلبّي حاجات عصره، حتي يكون التأليف كحلقة متسلسلة من الجيل السابق إلي الجيل اللاحق.

و هذا، ما قمت به بفضل من اللّه خلال تدريسي لأُصول الفقه أزيد من خمسين سنة فجاء متمثّلاً في هذه الكتب:

1. »الموجز « أعددته للمبتدئين في علم الأُصول في جزء واحد.

2. »الوسيط« أعددته لمن أراد الخوض في علم الأُصول في جزءين بعد انّ كوّن فكرة عامّة عن المسائل الأُصوليةِ عبر دراسته لكتاب »الموجز«.

و أمّا المرحلة النهائية فقد ألقيت محاضرات لدورات متتابعة حتي انتهي بنا الأمر إلي الدورة الخامسة كلّ ذلك بفضل منه سبحانه فجاءت خلاصتها في كتابين:

ص: 6

1. »المحصول«طبع في أربعة أجزاء.

2. »إرشاد العقول إلي مباحث الأُصول«طبع منه إلي الآن جزءان.

و انبري بعض الفضلاء من حضار بحوثي »حفظهم اللّه« إلي كتابتها و تدوينها.

و التمس من طالع» الوسيط« بكلا جزأيه أن يرشدني إلي مواضع الخلل فيه »فانّ أحبّ إخواني من أهدي إليَّ عيوبي«.

كما أرجو من اللّه سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) 17رمضان المبارك1421ه

ص: 7

ص: 8

المقصد السادس: في الحجج و الأمارات

اشارة

1. العقل 2. الإجماع 3. الكتاب 4. السنّة 5. الإجماع المنقول بخبر الواحد 6. الشهرة الفتوائية 7. قول اللغوي

ص: 9

ص: 10

تمهيد

يعلم الفقيه أنّ بينه و بين ربّه حججاً معتبرة تقطع العذر و تُنجّز الواقع، غير انّه لا يعلم في بدء الأمر خصوصياتها و معالمها، فيبعثه العقل إلي التعرّف عليها بالتفصيل عن كثب، و هي عند الشيعة الإمامية أربعة:

الكتاب، السنّة، الإجماع، و العقل التي يدور عليها رحي الفقه و الاستنباط، و أمّا سائر الأمارات فهي غير معتبرة عندنا و إن كانت معتبرة عند الآخرين.

إذا كانت الحجج منحصرة عندنا في الأدلّة الأربعة كان اللازم علي الأُصوليّين المتأخّرين الذين أفاضوا القول في علم الأُصول أن يعقدوا لكلّ منها فصلاً خاصاً ليتعرّف عليه المبتدئ و يقف علي معالمه و حدوده، و لكنّهم لم يقوموا بهذه المهمة.

و مع ذلك كلّه لم تفتهم الإشارةُ إليها في ثنايا بحوثهم حيث أدرجوا البحث عن الكتاب في مبحث حجّية الظواهر علي الإطلاق، و البحث عن السنّة في مبحث حجّية خبر الواحد، كما أدغموا البحث عن الإجماع محصَّلاً كان أو منقولاً في مبحث الإجماع المنقول، و البحث عن حجّية العقل في مبحث القطع. و لكن مرّوا عليها مروراً خاطفاً دون التركيز عليها. و لأجل الأهميّة التي تمتعت بها الأدلّة الأربعة عقدنا لكلّ واحد عنواناً خاصاً متميزاً عن غيره و مع ذلك فلصيانة المنهج السائد في الكتب الأُصولية عقدنا الفصول كالتالي:

العقل، الإجماع المحصّل، الكتاب، و السنّة.

و إن كان الأنسب تقدّم الكتاب و السنّة علي الآخرين.

ص: 11

الأدلّة الأربعة

1- العقل أحد مصادر التشريع

اشارة

انّ العقل أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلاّ قليلاً منهم علي حجّيته في مجال استنباط الحكم الشرعي، ثمّ إنّ البحث عن حجّية حكم العقل يقع في مقامين:

الأوّل: حجّية حكم العقل بما انّه من مصاديق القطع.

الثاني: كشفه عن حكم الشارع.

أمّا الأوّل فالبحث فيه من فروع البحث عن حجّية القطع مطلقاً (1) و انّ حجّيته ذاتية. و هذا هو الذي بسط الأُصوليون الكلام فيه في رسالة القطع و بحثوا عن حجّيته بحثاً مُسْهباً.

و أمّا الثاني فيرجع فيه البحث إلي وجود الملازمة بين حكمي العقل و الشرع و عدمه و هذا هو الذي اختصروا الكلام فيه غالباً (2). دون أن يعقدوا له فصلاً مستقلاً، و لأجل مزيد ايضاح، نفرد لكل بحثاً مستقلاً في ضمن مقامين:

ص: 12


1- . سواء أ كان مصدره العقل أو غيره.
2- . إلاّ المحقّق القمي في قوانينه و صاحب الفصول في فصوله.
المقام الأوّل: في أحكام القطع و أقسامه
اشارة

و فيه أُمور:

الأمر الاوّل: في حجّية القطع

لا شكّ في وجوب متابعة القطع و العمل علي وفقه ما دام موجوداً، لأنّه بنفسه طريق إلي الواقع، و هو حجّة عقلية، و ليس حجّة منطقية أو أُصولية، و لإيضاح الحال نذكر أقسام الحجّة، فنقول: إنّ الحجّة علي أقسام:

1. الحجّة العقلية.

2. الحجّة المنطقية.

3. الحجّة الأُصولية.

أمّا الأُولي، فهي عبارة عمّا يحتج به المولي علي العبد و بالعكس، و بعبارة أُخري ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب و معذِّراً إذا أخطأ، و القطع بهذا المعني حجّة ، حيث يستقل به العقل و يبعث القاطعَ إلي العمل وفْقَه و يُحذّره عن المخالفة، و ما هذا شأنه، فهو حجّة بالذات، غنيّ عن جعل الحجّية له.

و بهذا يمتاز القطع عن الظن، فإنّ العقل لا يستقلُّ بالعمل علي وفق الظن و لا يحذِّر عن المخالفة لعدم انكشاف الواقع لدي الظن، فلا يكون حجّة إلاّ إذا أُفيضت له الحجّية من قِبَلِ المولي، بخلاف القطع فانّ العقل مستقل بالعمل علي

ص: 13

وفقه و التحذير عن مخالفته لانكشاف الواقع، و إلي هذا يرجع قول القائل بأنّ حجّية القطع ذاتية دون الظن فإنّها عرضية.

و بذلك يتبيّن أنّ للقطع ثلاث خصائص:

1. كاشفيته عن الواقع و لو عند القاطع.

2. منجّزيته عند الإصابة للحكم الواقعي بحيث لو أطاع يُثاب و لو عصي يعاقَب.

3. معذِّريته عند عدم الإصابة، فيُعذَّر القاطع إذا أخطأ في قطعه و بان خلافه.

و أمّا الثانية، فهي عبارة عن كون الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له، فيوصف بالحجّة المنطقية، كالتغيّر الذي هو علّة لثبوت الحدوث للعالم.

يقال:العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث.

و القطع بهذا المعني ليس حجّة، لأنّه ليس علّة لثبوت الحكم للموضوع و لا معلولاً له، لأنّ الحكم تابع لموضوعه، فإن كان الموضوع موجوداً يثبت له الحكم سواء أ كان هنا قطع أم لا، و إن لم يكن موجوداً فلا يثبت له، فليس للقطع دور في ثبوت الحكم و لذلك يُعدُّ تنظيم القياس بتوسيط القطع باطلاً، مثل قولك: هذا مقطوع الخمرية، و كلّ مقطوع الخمرية حرام فهذا حرام، و ذلك لكذب الكبري، فليس الحرام إلاّ نفس الخمر لا خصوص مقطوع الخمرية.

و أمّا الثالثة، فهي عبارة عمّا لا يستقل العقل بالاحتجاج به غير أنّ الشارع أو الموالي العرفيّة يعتبرونه حجّة في باب الأحكام و الموضوعات لمصالح، فتكون حجّيته عرضيّة مجعولة كخبر الثقة، و من المعلوم أنّ القطع غنيّ عن إفاضة

ص: 14

الحجّية عليه، و ذلك لاستقلال العقل بكونه حجّة في مقام الاحتجاج و معه لا حاجة إلي جعل الحجّية له.

أضف إليه انّ جعل الحجّية للقطع يتم إمّا بدليل قطعي، أو بدليل ظنّي.

و علي الأوّل يُنقل الكلام إلي ذلك الدليل القطعي، و يقال: ما هو الدليل علي حجّيته؟ و هكذا فيتسلسل.

و علي الثاني يلزم أن يكون القطع أسوأ حالاً من الظن، و لذلك يجب أن ينتهي الأمر في باب الحجج إلي ما هو حجّة بالذات، أعني: القطع، و قد تبيّن في محله »أنّ كلّ ما هو بالعرض لا بد و أن ينتهي إلي ما بالذات«.

و بذلك يعلم أنّه ليس للشارع الأمرُ المولويّ بالعمل بالقطع لسبق العقل بذلك، كما ليس له المنع عن العمل بالقطع، فلو قطع إنسان بكون مائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به، لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع، و في الواقع إذا أصاب قطعه للواقع.

ص: 15

الأمر الثاني: تقسيم القطع إلي طريقي و موضوعي

إذا كان الحكم مترتباً علي الواقع بلا مدخلية للعلم و القطع فيه، كترتّبا لحرمة علي ذات الخمر و القمار فيكون القطع بهما طريقيّاً ، و لا دور للقطع حينئذ سوي تنجيز الواقع، و إلاّ فمع قطع النظر عن التنجيز فالخمر و القمار حرام سواء أ كان هناك قطع أم لا، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب كما يكون العلم منجزاً للواقع.

و أمّا إذا أُخذ القطع في موضوع الحكم الشرعي بحيث يكون الواقع بقيد القطع موضوعاً للحكم، فيعبّر عنه بالقطع الموضوعي، و هذا كما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقيد القطع بالخمريّة بحيث لولاه لما كان الخمر محكوماً بالحرمة، و هذا التقسيم جار في الظنّ أيضاً، و لقد وردت في الشريعة المقدسة موارد أخذ القطع وحده أو الظن كذلك موضوعاً للحكم، نظير:

1. الحكم بالصحّة، فإنّه مترتّب علي الإحراز القطعي للركعتين في الثنائية و للركعات في الثلاثية من الصلوات و للأُوليين في الرباعية، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.

2. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.

3. الحكم بوجوب التيمّم لمن أحرز بالقطع أو الظن كون استعمال الماء مضرّاً.

ص: 16

4. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.

فلو انكشف الخلاف، و أنّ الطريق لم يكن مخطوراً، و لا الماء مضرّاً، و لا الوقت ضيّقاً لما ضرَّ بالعمل، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلي متعلّق القطع لا بالنسبة إلي الموضوع المترتب عليه الحكم.

ثمّ إنّه ليس للشارع أيّ تصرف في القطع الطريقي فهو حجّة مطلقاً من أيّ سبب حصل، لانّ الحكم مترتب علي الموضوع بما هو هو و ليس للقطع دور سوي كونه كاشفاً عن الواقع، فإذا قطع به، انكشف له الواقع و ثبت وجود الموضوع، فيترتب عليه حينئذ حكمه، ويحكم العقل بلزوم العمل به من غير فرق بين حصوله بالأسباب العادية أو غيرها فليس للشارع تجويز العمل بالقطع الحاصل من سبب و النهي عن القطع الحاصل من سبب آخر.

و أمّا القطع المأخوذ في الموضوع فبما أنّ لكلّ مقنّن، التصرفَ في موضوع حكمه بالسعة و الضيق، فللشارع أيضاً حقُّ التصرف فيه، فتارة تقتضي المصلحة اتخاذ مطلق القطع في الموضوع سواء أ حصلت من الأسباب العادية أم من غيرها، و أُخري تقتضي جعل قسم منه في الموضوع كالحاصل من الأسباب العادية، و عدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غيرها.

ص: 17

الأمر الثالث: تقسيم القطع الموضوعي إلي طريقي و وصفي

ثمّ إنّ القطع الموضوعي ينقسم إلي قسمين:

1. موضوعي طريقي.

2. موضوعي وصفي.

توضيح ذلك: انّ القطع من الصفات النفسية ذات الإضافة، فله إضافة إلي القاطع(النفس المدرِكة) و إضافة إلي المقطوع به(المعلوم بالذات و الصورة المعلومة في الذهن)، فتارة يؤخذ في الموضوع بما أنّ له وصف الطريقية و المرآتية فيطلق عليه القطع الموضوعي الطريقي، أي أُخذ في الموضوع بما انّ له وصف الحكاية، و أُخري يؤخذ في الموضوع بما أنّه وصف نفساني كسائر الصفات مثل الحسد و البخل و الإرادة و الكراهة، فيطلق عليه القطع الموضوعي الوصفي، أي المأخوذ في الموضوع لا بما أنّه حاك عن شيء وراءه بل بما أنّه وصف للنفس المدركة.

لنفترض انّك تريد شراء مرآة من السوق، فتارة تلاحظها بما أنّها حاكية عن الصور التي تعكسها، و أُخري تلاحظها بما أنّها صُنعت بشكل جميل مثير للإعجاب مع قطع النظر عن محاكاتها للصور.

فالقطع الموضوعي الطريقي أشبه بملاحظة المرآة بما أنّها حاكية، كما أنّ القطع الموضوعي الوصفي أشبه بملاحظة المرآة بما لها من شكل جميل ككونها مربعة أو مستطيلة و غيرهما من الأوصاف.

و أمّا ما هو الأثر الشرعي لهذا التقسيم فموكول إلي دراسات عليا.

ص: 18

الأمر الرابع: الموافقة الالتزامية
اشارة

لا شكّ أنّ المطلوب في الأُصول الدينيّة و الأُمور الاعتقادية هو التسليم القلبي و الاعتقاد بها جزماً، إنّما الكلام في الأحكام الشرعية التي ثبتت و تنجّزت بالقطع أو بالحجّة الشرعية، فهل هناك تكليفان؟ أحدهما الالتزام بأنّه حكم اللّه قلباً و جناناً.

ثانيهما الامتثال عملاً و خارجاً.

فهل لكلّ، امتثال و عصيان، فلو التزم قلباً و خالف عملاً فقد عصي عملاً; كما أنّه لو وافق عملاً و خالف جناناً و التزاماً فقد ترك الفريضة القلبية، فيؤاخذ عليه؟ أو أنّ هناك تكليفاً واحداً، و هو لزوم امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل و إن لم يلتزم بها قلباً و جناناً، و هذا كمواراة الميّت فتكفي و إن لم يلتزم قلباً بأنّها حكم اللّه الشرعي؟ فليعلم أنّ البحث في غير الأحكام التعبدية، فإنّ الامتثال فيها رهن الإتيان بها للّه سبحانه أو لامتثال أمره أو غير ذلك ممّا لا ينفك الامتثال عن الالتزام و التسليم بأنّه حكمه سبحانه، فينحصر البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية و عدمه في الأحكام التوصلية.

ذهب المحقّق الخراساني إلي القول الثاني، باعتبار أنّ الوجدان الحاكم في باب الإطاعة و العصيان خير شاهد علي عدم صحّة عقوبة العبد الممتثل لأمر

ص: 19

المولي و إن لم يلتزم بحكمه.

و ربّما يقال: إنّ الالتزام مع العلم بأنّ الحكم للّه أمر قهري، فكيف يمكن أن يواري المسلمُ الميّتَ مع العلم بأنّه سبحانه أمر به و لا يلتزم بأنّها حكم اللّه، فعدم عقد القلب علي وجوبه أو علي ضدّه أمر ممتنع و بذلك يُصبح النزاع غير مفيد.

و علي هذا، فالعلم بالحكم يلازم التسليم بأنّه حكم اللّه. (1)

و لكن الظاهر عدم الملازمة بين العلم و التسليم، فربّ عالم بالحق، غير مسلِّم قلباً، فإنّ الإنسان كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب، لكنّه لا ينقاد له قلبه و لا يسلّمه باطناً، و إن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه و سطوته، و هكذا كان حال كثير من الكفّار بالنسبة إلي نبيّنا، حيث إنّهم كانوا عالمين بنبوّته كما نطق به القرآن، و مع ذلك لم يكونوا منقادين له قلباً و لا مقرّين باطناً، و لو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا له مؤمنين حقيقة. (2)

و الذي يدلّ علي أنّ بين العلم و التسليم مرحلة أو مراحل قوله سبحانه:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (3) ). (4)

قيل: نزلت في الزبير و رجل من الأنصار خاصمه إلي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في شراج (5) من الحرّة كانا يسقيان بها النخل كلاهما، فقال النبي للزبير: »اسق ثمّ أرسل إلية.

ص: 20


1- . لاحظ تهذيب الأُصول: 2/46.
2- . نهاية الدراية:2/26.
3- سوره 4 - آيه 65
4- . النساء:65.
5- . مسيل الماء من الحرّة إلي السهل، و»الحرّة«: الأرض ذات الحجارة.

جارك«، فغضب الأنصاري و قال: يا رسول اللّه لئن كان ابن عمتك.... (1)

فإنّ خطاب الأنصاري للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)كشف عن عدم تسليمه لقضائه و إن لم يخالف عملاً، و بذلك يعلم أنّ المراد من الجحد في قوله سبحانه:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (2) ) . (3) هو الجحد القلبي و عدم التسليم لمقتضي البرهان، لا الجحد اللفظي; فالفراعنة أمام البيّنات التي أتي بها موسي كانوا:

1. عالمين بنبوة موسي و هارون(عليهما السلام)( اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (4) ).

2. لكن غير مسلِّمين قلباً، مستكبرين جناناً( وَ جَحَدُوا بِها (5) ).

ثمرة البحث

تظهر الثمرة في موارد العلم الإجمالي، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين، فهل يجري الأصل العملي، كأصل الطهارة في كلّ منهما باعتبار كون كلّ واحد منهما مشكوك الطهارة و النجاسة أو لا؟ فثمة موانع عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي.منها: وجوب الموافقة الالتزامية، فلو قلنا به، لمنع عن جريان الأُصول، فإنّ الالتزام بوجود نجس بين الإناءين، لا يجتمع مع الحكم بطهارة كلّ واحد منهما، فمن قال بوجوب الموافقة الالتزامية لا يصح له القول بجواز جريان الأصل في أطراف المعلوم إجمالاً، و أمّا من نفاه فهو في فسحة عن خصوص هذا المانع، و أمّا الموانع الأُخر فنبحث عنها في مبحث الاحتياط و الاشتغال إن شاء اللّه.

ص: 21


1- . مجمع البيان:2/69.
2- سوره 27 - آيه 14
3- . النمل:14.
4- سوره 27 - آيه 14
5- سوره 27 - آيه 14
المقام الثاني: كشف العقل عن حكم الشرع

إنّ العقل كما مرّ أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلاّ قليلاً منهم علي حجّيته في مجال استنباط الحكم الشرعي، غير انّ اللازم هو تحرير محلّ النزاع و تبيين إطار البحث، فإنّ عدم تحريره أوقع الكثير لا سيما الأخباريّين في الخلط و الاشتباه، فنقول:

إنّ عدّ العقل من مصادر التشريع و أحد الأدلّة الأربعة يتصوّر علي أنحاء ثلاثة:

الأوّل: إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه، و تجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلي نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع، و هذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، و حسنه معه، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ و هكذا إذا أمر المولي بشيء و استقل العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته أو وجوب الشيء و حرمة ضدّه، أو امتناع اجتماع الأمر و النهي علي شيء واحد بعنوانين، أو جوازه إلي غير ذلك من أنواع الملازمات، فهل يكشف حكم العقل عن حكم الشرع؟ و بذلك يظهر انّ الموضوع للحسن و القبح هو نفس الفعل بما انّه صادر عن فاعل مختار، سواء أ كان الفاعل واجباً أم ممكناً، و سواء أ ترتب عليه المصالح أو

ص: 22

المفاسد أو لا، و سواء أ كان مؤمِّناً للأغراض العقلائية و عدمها، فالموضوع للحكم بالحسن أو القبح أو الملازمة أو ما أشبه ذلك هو ذات الفعل دون سائر الأُمور الجانبية.

الثاني: إذا أدرك الفقيه مصالح و مفاسد في الفعل، فهل يمكن أن يتخذ وقوفَه علي أحدهما ذريعة إلي استكشاف الحكم الشرعي في الوجوب أو الحرمة بحيث يكون علم الفقيه بالمصالح و المفاسد من مصادر التشريع الإسلامي؟ و بعبارة أُخري: إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه و لكن أدرك الفقيه بعقله، وجودَ مصلحة فيه و لم يَرد من الشارع أمر بالأخذ و لا بالرفض، فهل يصحّ تشريع الحكم علي وفقها؟ و هذا هو الذي يسمّي بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح في فقه أهل السنّة لا سيما المالكية، فكلّ مصلحة لم يرد فيها نصّ يدعو إلي اعتبارها أو عدم اعتبارها و لكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر فهل يتخذ دليلاً علي الحكم الشرعي أو لا؟ الثالث: تنقيح مناطات الأحكام و ملاكاتها بالسبر و التقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم و تصلح لأن تكون العلّة، واحدة منها و يختبرها وصفاً وصفاً علي ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلة، و بواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علة، و يستبقي ما يصحّ أن يكون علّة ، و بهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصل إلي الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة ثمّ يتبعه التشريع، و هذا ما يسمّي في الفقه الشيعي الإمامي بتنقيح المناط و استنباط العلّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ محطّ النزاع بين الأُصوليّين و الأخباريّين من أصحابنا هو المعني الأوّل.

و سنرجع إليه بعد استيفاء البحث في الأخيرين فنقول:

ص: 23

أمّا المعني الثاني و الثالث فلم يقل به أحد من أصحابنا إلاّ الشاذّ النادر منهم، و ذلك لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه لا يكشف عن الحكم الشرعي لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح و المفاسد الواقعية، فربما يُدرك المصلحة و المفسدة و يَغفل عن موانعهما، فإدراك العقل المصالح و المفاسد لا يكون دليلاً علي أنّها ملاكات تامة لتشريع الحكم علي وفقها.

و هكذا المعني الثالث، فإنّ الخوض في تنقيح مناطات الأحكام عن طريق السبر و التقسيم من الخطر بمكان، إذ انّي نعلم أنّ ما أدركه مناطاً للحكم هو المناط له، فانّ العقل قاصر عن إدراك المناطات القطعية.

ثمّ لو افترضنا انّه أصاب في كشف المناط، فمن أين علم أنّه تمام المناط و لعلها جزء العلّة و هناك جزء آخر منضم إليه في الواقع و لم يصل الفقيه إليه؟ و لأجل ذلك رفض أصحابنا قاعدة الاستصلاح و المصالح المرسلة و هكذا استنباط العلّة عن طريق القياس، بمعني السبر و التقسيم.

نعم يستثني من المعني الثاني، المصالح و المفاسد العامة التي أطبق العقلاء عامة علي صلاحها أو فسادها علي نحو صار من الضروريات، و هذا كتعاطي المخدّرات التي أطبق العقلاء علي ضررها; و مثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجُدري، و الحصبة و غيرهما ، فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردّد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

و لشيخنا المظفر قدَّس سرّه كلام يشير إلي خروج المعنيين عن محط النزاع، بنصّ واحد لا بأس بنقله:

»لا سبيل للعقل بما هو عقل إلي إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية، فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر، و لم يكن إدراكه مستنداً إلي

ص: 24

المصلحة أو المفسدة العامّتين اللّتين يتساوي في إدراكهما جميع العقلاء، فانّه أعني: العقل لا سبيل له إلي الحكم بأنّ هذا المدرَك، يجب أن يحكم به الشارع علي طبق حكم العقل، إذ يحتمل انّ ما هو مناط الحكم عند الشارع، غير ما أدركه العقل مناطاً، أو أنّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع علي طبق ما أدركه العقل، و إن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشارع«. (1)

فخرجنا بالنتائج التالية:

أوّلاً: انّ حكم العقل بشيء يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً و يكون المدرَك حكماً عاماً. و ذلك لما عرفت من انّ المدرك حكم عام لا يختصّ بفرد دون فرد، و الشرع و غير الشرع فيه سيان، كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.

ثانياً: إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء، كوجود المفسدة في استعمال المخدرات، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي. دون ما لا يكون كذلك كادراك فرد أو فردين وجود المصلحة الملزِمة.

ثالثاً: استكشاف ملاكات الأحكام و استنباطها بالسبر و التقسيم، ثمّ استكشاف حكم الشرع علي وفقه أمر محظور، لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام و مفاسدها، و سوف يوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع في المعني الأوّل في موردين:

الأوّل: إمكان استقلال العقل بدرك حسن الشيء أو قبحه أو دركه الملازمة0.

ص: 25


1- . أُصول الفقه:1/239 240.

بين الوجوبين.

الثاني: إذا استقلّ العقل بما ذكر فهل يكشف عن كونه كذلك عند الشرع.

أمّا الأوّل، فالعدلية متّفقة علي إمكانه ، و هو من الأحكام البديهية للعقل ضرورة انّ كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل و قبح الظلم، و إذا عرض الأمرين علي وجدانه يجد في نفسه نزوعاً إلي العدل و تنفّراً عن الظلم و هكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات الأمرين.

يقول العلاّمة الحلّي: »إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء و قبح بعضها من دون نظر إلي شرع، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان و يمدح عليه و بقبح الإساءة و الظلم و يذم عليه، و هذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ و ليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة و الملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع«. (1)

إنّ حكم الإنسان بحسن العدل و قبح الظلم ليس بأدون من الجزم بحاجة الممكن إلي العلّة، أو انّ الأشياء المساوية لشيء متساوية، فإذا أمكن الجزم بالأمرين الأخيرين فليكن الأمر الأوّل كذلك.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

و أمّا الأمر الثاني أعني: الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع فهو ثابت أيضاً، لأنّ الموضوع للحسن و القبح هو نفس الفعل بغضِّ النظر عن فاعل خاص، بل مع غض النظر عمّا يترتّب عليه من المصالح و المفاسد، فإذا كان هذا هو الموضوع فما وقف عليها العقل بفطرته و وجدانه يعمّ فعل الواجب و الممكن.

و بعبارة أُخري: انّ ما يدركه العقل في الحكمة العملية مثل ما يدركه في الحكمة النظرية، فكما انّ ما يدركه لا يختص بالمدرِك بل يعمه و غيره، فهكذا الحال في الحكمة العملية، مثلاً: إذا أدرك العقل بفضل البرهان الهندسي بانّ زوايا).

ص: 26


1- . كشف المراد مع تعليقتنا: 59 نشر المؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام).

المثلث تساوي قائمتين فقد أدرك أمراً واقعياً لا يختص بالمدرك لانّ التساوي من آثار طبيعة المثلث، فهكذا إذا أدرك حسن شيء أو قبحه و الفرق بين الحكمتين انّ المعلوم في النظرية من شأنه أن يعلم كما انّ المعلوم في العملية من شأنه أن يعمل به.

فإن قلت: كيف يمكن الاعتماد علي حكم العقل و جعله دليلاً علي الحكم الشرعي مع أنّه قامت الأدلّة علي لزوم العمل بحكم تتوسط الحجّة في تبليغه و بيانه و لا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة؟ و تدلّ علي ذلك الأحاديث التالية:

1. صحيح زرارة »فلو انّ رجلاً صام نهاره، و قام ليله، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه و تكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له علي اللّه ثواب و لا كان من أهل الإيمان«. (1)

2. قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »من دان بغير سماع ألزمه اللّه التيه يوم القيامة«. (2)

3.و قال أبو جعفر(عليه السلام): »كلّما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل«. (3) إلي غير ذلك من الروايات. (4)

قلت أوّلاً: انّ الروايات ناظرة إلي المُعْرضين عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)و المستهدين بغيرهم علي وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم، و أمّا من أناخ مطيّته علي عتبة أبوابهم في كلّ أمر كبير و صغير، و مع ذلك اعتمد علي العقل في مجالات خاصة فالروايات منصرفة عنه جداً.ل.

ص: 27


1- . الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 13.
2- . الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14و18.
3- . الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14و18.
4- . الكافي:161/13، باب العقل و الجهل.

و بعبارة أُخري: كما للآيات أسباب و شأن نزول، فهكذا الروايات لها أسباب صدور فهي تعبِّر عن سيرة قضاة العامة و فقهائهم كأبي حنيفة و ابن شبرمة و أضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و لم ينيخوا مطاياهم علي أبواب أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.

و أمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلي الكتاب و السنّة و تمسّكوا بالثقلين فلا تعمّهم، و المورد (صدورها في مورد فقهاء العامة) و إن لم يكن مخصصاً لكن يمكن إلغاء الخصوصية بالنسبة إلي المماثل و المشابه لا المباين، و تمسّك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.

و ثانياً: إذا كان العقل أحد الحجج كما في صحيح هشام فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلي المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.

روي هشام عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): »يا هشام إنّ للّه علي الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة; فالظاهرة الرسل و الأنبياء و الأئمّة، و أمّا الباطنة فالعقول«. (1)

و هناك كلام للمحقّق القمي نتبرّك بذكره ختاماً للبحث، قال:

»إنّ انحصار الطاعة و المخالفة في موافقة الخطاب اللفظي و مخالفته، دعوي بلا دليل، بل هما موافقة طلب الشارع و مخالفته و إن كان الطلب بلسان العقل، و نظير ذلك أنّ اللّه تعالي إذا كلّف نبيّه بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل(عليه السلام)و إتيان كلام، و امتثله النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)فيقال إنّه أطاع اللّه جزماً، و العقل فينا نظير الإلهام فيه.7.

ص: 28


1- . لاحظ الكافي:1/60، باب الرد إلي الكتاب و السنة، الحديث 6; و أيضاً ص 56 باب البدع و الرأي و المقاييس، الحديث7.

ثمّ يقول: إنّ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة و حرمة الظلم يدّعي القطع بأنّ اللّه تعالي خاطبه بذلك بلسان العقل، فكيف يجوز العمل بالظن بخطاب اللّه تعالي و تكليفه، و لا يجوز العمل مع اليقين به؟ فإن كان و لا بدّ من المناقشة، فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل و انّه لا يمكن ذلك«. (1)

ثمرات البحث إذا قلنا بالحسن و القبح العقليّين و الملازمة بين الحكمين تترتب عليه ثمرات أُصولية نذكر منها ما يلي:

1. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.

2. لزوم تحصيل البراءة اليقينيّة عند العلم الإجمالي و تردّد المكلّف به بين أمرين لأجل حكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

3. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة و القضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

4. وجوب تقديم الأهم علي المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.

و أمّا الثمرات الفقهية المترتّبة علي القول بالملازمة العقلية فيستنتج منها الأحكام التالية:

1. وجوب المقدّمة علي القول بحكم العقل بالملازمة بين الوجوبين.

2. حرمة ضد الواجب علي القول بحكم العقل بالملازمة بين الأمر بالشيء و النهي عن ضدّه.2.

ص: 29


1- . القوانين: 32/2.

3. بطلان العبادة علي القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي و تقديم النهي عن الأمر.

4. صحّة العبادة علي القول بالامتناع و تقديم جانب الأمر.

5. صحّة العبادة علي القول بجواز اجتماع الأمر و النهي.

6. فساد العبادة إذا تعلّق النهي بنفس العبادة سواء كان المنهي نفسها أو جزئها أو شرطها أو أوصافها.

7. فساد المعاملة إذا تعلّق النهي بالثمن أو المثمن للملازمة بين النهي و فسادها.

8. انتفاء الحكم(الجزاء) مع انتفاء الشرط إذا كان علة منحصرة.

ص: 30

الأدلّة الأربعة

2- الإجماع المحصّل

اشارة

الإجماع المحصّل أحد مصادر التشريع عند أهل السنّة بما هو هو لا بما هو كاشف عن حجّة شرعية، كما عليه الإمامية، و قد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تعريفه.

فعرّفه الغزالي بقوله: إنّه اتّفاق أُمّة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم)بعد وفاته في عصر من العصور علي حكم شرعي. (1)

و علي هذا التعريف لا يكفي اتّفاق المجتهدين، بل يجب اتّفاق جميع المسلمين في عصر من العصور، و هو أمر نادر الوقوع.

و عرّفه الآخرون: باتّفاق أهل الحلّ و العقد علي حكم من الأحكام، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر علي أمر.

المهم في المقام هو الوقوف علي وجه حجّية الإجماع عند أهل السنّة أوّلاً، و عند الشيعة ثانياً، فانّ الإجماع عند الطائفة الأُولي بما هو هو دليل شرعي يُضفي علي الحكم صبغة الشرعية فهو في عرض الكتاب و السنّة و العقل.

أمّا الإجماع عند الطائفة الثانية فهو عندهم حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر، و لأجل إيقاف القارئ علي موقف الطائفتين من الإجماع، نوضح الموضوع إجمالاً.

ص: 31


1- . المستصفي:1/110.
موقف أهل السنّة من الإجماع المحصَّل

إذا اتّفق المجتهدون من أُمّة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم)في عصر من العصور علي حكم شرعي، يكون المجمع عليه حكماً شرعياً واقعياً عند أهل السنّة و لا تجوز مخالفته، و ليس معني ذلك انّ إجماعهم علي حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكماً شرعياً، بل يجب أن يكون إجماعهم مستنداً إلي دليل شرعي قطعي أو ظنّي، كالخبر الواحد و المصالح المرسلة و القياس و الاستحسان.

فلو كان المستند دليلاً قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيداً و معاضداً له; و لو كان دليلاً ظنياً كما مثلناه، فيرتقي الحكم حينئذ بالإجماع من مرتبة الظن إلي مرتبة القطع و اليقين.

و مثله ما إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة، فالاتّفاق علي حكم شرعي استناداً إلي ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس بالصلاة كي لا تفوتهم، حتي صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً و إن لم ينزل به الوحي. (1)

و علي ذلك فقد أعطي سبحانه للإجماع و اتّفاق الأُمّة منزلة كبيرة علي وجه إذا اتّفقوا علي أمر، يُصبح المجمع عليه حكماً شرعياً قطعياً كالحكم الوارد في القرآن و السنّة النبويّة، و لذلك قلنا بأنّ الإجماع عندهم من مصادر التشريع.

ثمّ إنّهم استدلّوا علي ما راموه بوجوه:

منها: قوله سبحانه:( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (2) ). (3)

وجه الاستدلال انّه سبحانه ابتدأ كلامه بجملتين شرطيّتين:

ص: 32


1- . الوجيز في أُصول الفقه لابن وهبة:49.
2- سوره 4 - آيه 115
3- . النساء:115.

أ.( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي (1) ).

ب.(و [ مَنْ (2) ] يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ (3) ).

ثمّ إنّه سبحانه جعل لهما جزاءً واحداً و هو قوله:( نُوَلِّهِ ما تَوَلّي... (4) ) فإذا كانت مشاقّة اللّه و رسوله حراماً كان اتّباع غير سبيل المؤمنين حراماً مثله بشهادة وحدة الجزاء، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم، فاتّباع سبيلهم واجب إذ لا واسطة بينهما. و يلزم من وجوب اتّباع سبيلهم كون الإجماع حجّة، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد. (5)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الوقوف علي مفاد الآية يتوقّف علي تبيين سبيل المؤمن و الكافر أي سبيل لا من يشاقق و من يشاقق في عصر الرسول الذي تحكي الآية عنه ، فسبيل المؤمن هو الإيمان باللّه و إطاعة الرسول و مناصرته، و سبيل الآخر هو الكفر باللّه و معاداة الرسول و مشاقّته، فاللّه سبحانه يندّد بالكافر و يذكر جزاءه بقوله:( نُوَلِّهِ ما تَوَلّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ (6) ) و يكون جزاء المؤمن بطبع الحال خلافه.

و علي ضوء ذلك يكون المراد من اتّباع سبيل المؤمنين هو إطاعة الرسول و مناصرته، و من سبيل غيرهم هو معاداة الرسول و مناقشته فأي صلة للآية بحجّية اتّفاق المؤمنين علي حكم من الأحكام.

و بعبارة أُخري: أنّ الموضوع للجزاء في الآية مركّب من أمرين:

أ.معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فَعَطفَ أحدهما علي الآخر بواو الجمع و جَعَلَ سبحانه لهما جزاءً واحداً و هو قوله:( نُوَلِّهِ ما تَوَلّي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ (7) ).9.

ص: 33


1- سوره 4 - آيه 115
2- سوره 4 - آيه 115
3- سوره 4 - آيه 115
4- سوره 4 - آيه 115
5- . الوجيز:49.
6- سوره 4 - آيه 115
7- سوره 4 - آيه 115

و بما انّ معاداة الرسول وحدها كافية في الجزاء و هذا يكشف عن انّ المعطوف عبارة أُخري عن المعطوف عليه، و المراد من اتّباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول و معاداته و ليس أمراً مغايراً معه كما حسبه المستدل.

و ثانياً: أنّ سبيل المؤمنين في عصر الرسول هو نفس سبيل الرسول، فحجّية السبيل الأوّل لأجل وجود المعصوم بينهم و موافقته معه فلا يدلّ علي حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

و منها: قوله سبحانه:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1) ). (2)

وجه الاستدلال: انّ الوسط من كلّ شيء خياره، فيكون تعالي قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة، فإذا أقدموا علي شيء من المحظورات لما وُصِفُوا بالخيرية فيكون قولهم حجة.

يلاحظ عليه: أنّ وصف جميع الأُمّة بالخير و العدل مجاز قطعاً، فإنّ بين الأُمّة من بلغ في الصلاح و الرشاد إلي درجة يُستدرُّ بهم الغمام، و في الوقت نفسه فيها من بلغ في الشقاء إلي درجة خضّب الأرض بدماء الصالحين و المؤمنين، و مع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً و عدلاً، و تكون بعامة أفرادها شهداء علي سائر الأُمم، مع أنّ كثيراً منهم لا تقبل شهادتهم في الدنيا فكيف في الآخرة.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير الآية: »فإن ظننت انّ اللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين، أ فتري أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا علي صاع من تمر، تُطلب شهادته يوم القيامة و تقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!«. (3)

و هذا دليل علي أنّ الوسطية وصف لعدة منهم، و لمّا كان الموصوف بالوسطية0.

ص: 34


1- سوره 2 - آيه 143
2- . البقرة:143.
3- . البرهان في تفسير القرآن:1/160.

جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم إلي الجميع، نظير قوله سبحانه:( وَ إِذْ قالَ مُوسي لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (1) ) (2) فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

و إذا كانت الوسطية لعدّة منهم دون الجميع، يكون قولهم هو الحجّة كما يكونوا هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة و إنّما نسب إلي الجميع مجازاً.و أمّا من هو هذه العدّة فبيانه علي عاتق التفسير.

و منها: ما روي عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم): »انّ أُمّتي لا تجتمع علي ضلالة«. و رواه أصحاب السنن. (3)

يلاحظ عليه: أوّلاً :أنّ الحديث مع أنّه روي في غير واحد من السنن ضعيف السند.

قال الشيخ العراقي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي: »جاء الحديث بطرق في كلّها نظر«. (4)

و قد قمنا بدراسة هذا الحديث و تحليله في رسالة (5) جمعنا فيها أسانيده و خرجنا بحصيلة انّ جميع تلك الأسانيد ضعيفة، مضافاً إلي أنّ الحديث خبر واحد لا يحتجّ به في الأُصول.

ثانياً: أنّ الوارد في الحديث هو عدم الاجتماع علي »الضلالة« لا عدم الاجتماع علي »الخطأ«، فيكون الحديث ناظراً إلي مسائل العقيدة التي هي مدار الهداية و الضلالة لا إلي الفروع، فلا يوصف المصيب فيها بالهداية و المخطئ بالضلالة.09

ص: 35


1- سوره 5 - آيه 20
2- . المائدة:20.
3- . ابن ماجه: السنن:2، الحديث 3950; الترمذي: السنن:4، برقم 2167; أبو داود: السنن:4، برقم 4253; مسند أحمد:5/145.
4- . سنن ابن ماجه:2/1303.
5- . لاحظ كتاب »رسائل و مقالات«: ج/194.2 209

ثالثاً: أنّ المصون من الضلالة هي الأُمّة بما هي أُمّة لا الفقهاء فقط و لا أهل العلم و لا أهل الحل و العقد، و علي ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة في مجال العقائد و الأُصول و الفروع.

إلي هنا تمّ ما استدلّ به أهل السنّة علي حجّية الإجماع و كونه من مصادر التشريع بما هو هو، و قد عرفت قصور أدلّتهم عن إثبات مرامهم فهلمّ معي ندرس مكانة الإجماع عند الشيعة.

مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة
اشارة

إنّ الأُمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم، غير مصونة من الخطأ في الأحكام فليس للاتّفاق و الإجماع رصيد علمي، إلاّ إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين:

1. استكشاف قول المعصوم بالملازمة العقلية(قاعدة اللطف).

2. استكشاف قوله(عليه السلام)بالملازمة العادية(قاعدة الحدس).

أمّا الأمر الأوّل فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام(عليه السلام)من اتّفاق من عداه من العلماء علي حكم و عدم ردعهم عنه نظراً إلي قاعدة اللطف التي لأجلها وجب علي اللّه نصب الحجّة الموصوف بالعلم و العصمة في كلّ الأزمنة.فإنّ من أعظم فوائدها، حفظ الحقّ و تمييزه عن الباطل كي لا يضيع بخفائه و يرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره، و تلقينُهم طريقاً يتمكن العلماء و غيرهم من الوصول به إليه و منعهم و تثبيطهم عن الباطل أوّلاً أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه ثانياً. (1)

ص: 36


1- . كشف القناع:114.

و حاصل هذا الوجه: انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة و ردّهم عن الإجماع علي الباطل و إرشادهم إلي الحقّ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان علي الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق بوجه من الوجوه.و هذا ما يسمّي بقاعدة اللطف.

و أمّا الثاني أي استكشاف قوله(عليه السلام) بالملازمة العادية فيمكن تقريره بالنحوين التاليين:

الف: تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوي كلّ فقيه و إن كان يفيد الظن و لو بأدني مراتبه، إلاّ أنّها تعزَّز بفتوي فقيه ثان فثالث، إلي أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة علي حكم القطعُ بالصحة، إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلي فتوي جماعة كثيرين.

نقل المحقّق النائيني عن بعضهم: إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوي إلي حدّ يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (1)

ب: الاتّفاق كاشف عن دليل معتبر

إنّ حجّية الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا، و هذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول و قال: يستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلي الأئمّة في الأحكام و طريقتهم التحرّز عن القول بالرأي و الاستحسان.

ص: 37


1- . فوائد الأُصول:3/149

و هذان الوجهان هما السندان لحجية الإجماع المحصل، و هناك بحوث أُخري تطلب من دراسات عليا.

ثمّ إنّ الدارج في الكتب الأُصولية هو البحث عن حجّية الإجماع المحصّل المنقول إلينا بخبر الواحد، و بما انّ حجّية مثل هذا النقل، فرع حجّية خبر الواحد آثرنا تأخيره إلي الفراغ من حجّية خبر الواحد.

ص: 38

الأدلّة الأربعة

3- الكتاب

اشارة

إنّ الكتاب من أهم المصادر الشرعية للاستنباط، فلا محيص للفقيه من مراجعة الكتاب و استنطاقه، و قد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب، و هذا ما يندي له الجبين، إذ كيف تكون المعجزة الكبري للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)مسلوبة الحجية. و لعل اقتصارهم علي السنّة كان رد فعل لما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال عند ما طلب النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)القلم و الدواة ليكتب كتاباً للأُمّة لئلاّ يضلّوا بعده:حسبنا كتاب اللّه. (1)

و علي كلّ تقدير فالاقتصار علي الكتاب كالاقتصار علي السنّة علي طرفي الإفراط و التفريط.

و المراد من حجّية ظواهر القرآن في مجال الفقه مضافاً إلي موارده الخاصة هو التمسك بعموماته و مطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة خصوصاً بعد الفحص عن مقيداته و مخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة، فإذا تمت هذه الأُمور فهل يتمسك بظواهر القرآن في موردها؟ ذهب علماء الأُصول إلي وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه

ص: 39


1- . صحيح البخاري:1/30، كتاب العلم، باب كتابة العلم.

بظاهره و الاخباريون إلي المنع و انّ الاستدلال بالقرآن يتوقف علي تفسير المعصوم فيُصبح الاحتجاج بتفسيره(عليه السلام)لا بنصّ القرآن.

ثمّ إنّ الأدلّة علي حجّية ظواهر القرآن كثيرة نذكر منها ما يلي:

الأوّل: دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية علي أنّ القرآن نور، و النور بذاته ظاهر و مظهر لغيره، قال سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (1) ). (2)

و في آية أُخري:( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (3) ) (4) فلو كان قوله( وَ كِتابٌ مُبِينٌ (5) ) عطفَ تفسير لما قبله، يكون المراد من النور هو القرآن.

إنّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء، و حاشا أن يكون تبياناً له و لا يكون تبياناً لنفسه، قال سبحانه:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ (6) ). (7)

و قال سبحانه:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (8) ). (9)

أ فيمكن أن يهدي من دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته؟! فإن قلت: إنّ الاستدلال بظواهر القرآن علي حجّيتها دور واضح، فإنّ الأخباري لا يقول بحجّيتها.

قلت: إنّ الاحتجاج علي حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره، و الأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.9.

ص: 40


1- سوره 4 - آيه 174
2- . النساء:174.
3- سوره 5 - آيه 15
4- . المائدة:15.
5- سوره 5 - آيه 15
6- سوره 16 - آيه 89
7- . النحل:89.
8- سوره 17 - آيه 9
9- . الإسراء:9.

الثاني: قد تضافر بل تواتر عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)وجوب التمسك بالثقلين و فسرهما بالكتاب و السنّة، و قال: »إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا« فكلّ من الثقلين حجّة و انّ كلاً يؤيد الآخر.

الثالث: الروايات التعليمية التي علّم فيها الإمام تلاميذه كيفية استنباط الحكم من القرآن الكريم، فلو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة لما كان للتعليم قيمة، فإنّ موقف الإمام في هذه المقامات موقف المعلّم لا موقف المتكلم عن الغيب.

و الروايات في ذلك المجال كثيرة نذكر منها واحدة، و هي رواية عبد الأعلي مولي آل سام و قد سأل أبا عبد اللّه(عليه السلام)بقوله: رجل عثر فوقع ظفره فجعل علي إصبعه مرارة، فقال:»إنّ هذا يعرف من كتاب اللّه:( وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) ) (2) ثمّ قال: »امسح علي المرارة«. (3)

فأحال الإمام(عليه السلام)حكم المسح علي اصبعه المغطّي بالمرارة إلي الكتاب.

الرابع: قد تضافر عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في مورد تعارض الروايات لزوم عرضه علي القرآن و انّ ما وافق كتاب اللّه يؤخذ به و ما خالف يضرب به عرض الجدار.

فقد روي عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)أنّه قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »إنّ علي كلّ حق حقيقة، و علي كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه«. (4)

الخامس: اتّفق الفقهاء علي أنّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو مرفوض،ك.

ص: 41


1- سوره 22 - آيه 78
2- . الحج:78.
3- . الوسائل: 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.
4- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، و لاحظ الحديث 11، 12، 14 إلي غير ذلك.

ففي صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سمعته يقول: »من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له، و لا يجوز علي الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللّه«.

و في رواية أُخري: »المسلمون عند شروطهم، إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ و جلّ فلا يجوز«. (1)

فلو لم يكن ظواهر الكتاب حجّة، لما كان هناك معني لعرض الشرط علي الكتاب في هذه الروايات و غيرها ممّا يشرف الفقيه علي القطع بحجّية ظواهر الكتاب، و إنّما المهم دراسة أدلّة المخالف.

أدلّة الأخباري علي عدم حجّية ظواهر الكتاب

استدلّ الأخباري علي عدم حجّية ظواهر الكتاب بوجوه، أهمها وجهان:

الأوّل: انّ حمل الكلام الظاهر في معني علي أنّ المتكلّم أراد هذا، تفسير له بالرأي، و قد قال النبي (صلي الله عليه و آله و سلم): »من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار«. (2)

يلاحظ عليه: أنّ حمل الظاهر في معني، علي أنّ المتكلّم أراده ليس تفسيراً فضلاً عن كونه تفسيراً بالرأي، فانّ التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه المراد.

و أمّا الرأي فهو عبارة عن الميل إلي أحد الجانبين اعتماداً علي الظن الذي لم يدلّ عليه دليل.

إذا عرفت معني التفسير أوّلاً ثمّ الرأي ثانياً، نقول:

إنّ حمل الظاهر في معني، علي أنّه مراد المتكلّم، ليس من مقولة التفسير، إذ

ص: 42


1- . الوسائل: 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 1و2.
2- . الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 76.

ليس هنا أمر مستور يُكشف عنه، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه، ليس تفسيراً، و رافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر علي مصاديقه، و التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطي في قوله سبحانه:( حافِظُوا عَلَي الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطي (1) ) (2) فحملها علي إحدي الصلوات، يقال انّه تفسير و كشف للقناع.

فإذا لم يكن حمل الظاهر علي معني علي أنّه المراد، تفسيراً للآية يكون بالنسبة إلي الجزء الآخر »برأيه« أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

الثاني: اختصاص فهم القرآن بأهله. يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة و قتادة انّه لا يفهم القرآن إلاّ من خوطب به، و هم أئمّة أهل البيت، و إليك نصّ ما دار بينهما من الحوار:

»يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حق معرفته و تعرف الناسخ و المنسوخ؟« قال: نعم.

قال: »يا أبا حنيفة: لقد ادّعيت علماً، ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، و لا هو إلاّ عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد، و ما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً«. (3)

أقول: إنّ الرواية لا تنفي عن أبي حنيفة المعرفة الإجمالية، و إنّما تنفي حقّ المعرفة، و هو لا يتحقّق إلاّ بمعرفة الناسخ و المنسوخ و الخاص و العام و المطلق و المقيد إلي غير ذلك من القرائن المنفصلة التي تؤثِّر في الاحتجاج بالآية، و كلّها مخزونة عند أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، فمن عمل بظاهر الآية ، بعد الرجوع إليهم في7.

ص: 43


1- سوره 2 - آيه 238
2- . البقرة:238.
3- . وسائل الشيعة:الجزء18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.

معرفة تلك المواضع، فهو غير مشمول للرواية بل هي تردُّ علي المستبدين بالقرآن الذين يفسرونه و يفتون به من دون مراجعة إلي من نزل القرآن في بيوتهم حتي يعرفوا ناسخه و منسوخه، و عامّه و خاصّه، و مطلقه و مقيده، و أين هو من عمل أصحابنا؟! فانّهم يحتجون بالقرآن بعد الرجوع إلي حديث العترة الطاهرة ، في مجملاته و مبهماته، و مخصصات عمومه و مقيدات مطلقاته، ثمّ الأخذ بمجموع ما دلّ عليه الثقلان.

فالاستبداد بالقرآن شيء و الاحتجاج بالقرآن بعد الرجوع إلي أحاديث العترة الطاهرة شيء آخر، و الأوّل ممنوع و الثاني مجاز جري عليه أصحابنا رضوان اللّه عليهم عبر القرون.

و بذلك يظهر مفاد سائر الروايات الواردة في هذا المضمار.

إلي هنا تمّ ما استدلّ به الأخباريون من منع التمسّك بظواهر القرآن و بقيت هناك أدلة أُخري لهم تظهر حالها بالإمعان فيما ذكرنا.

الظواهر من القطعيات

ثمّ إنّ الأُصوليين ذكروا ظواهر القرآن تحت الظنون التي ثبتت حجّيتها بالدليل و أسموه بالظن الخاص مقابل الظن المطلق الذي ليس علي حجّيته دليل سوي دليل الانسداد.

و لكن الحقّ انّ ظواهر كلام كلّ متكلم فضلاً عن ظواهر القرآن من الكواشف القطعية، و يظهر حال هذا المدعي بالإمعان فيما ذكرناه في الموجز و ما نوضحه في المقام.

إنّ الفرق بين الظاهر و النص هو انّ كلا الأمرين يحملان معني واحداً و يتبادر منهما شيء فارد، غير انّ الأوّل قابل للتأويل، فلو أوّل كلامه لعدّ عمله

ص: 44

خلافاً للظاهر و لا يعدّ مناقضاً في القول، كما إذا قال: أكرم العلماء، الظاهر في الوجوب ثمّ أشار بدليل خاص بأنّ المقصود هو الندب.

و أمّا النصّ فهو لا يحتمل إلاّ معني واحداً، و لا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً، و هذا مثل قوله سبحانه:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (1) ). (2)

فإنّ كون حظّ الذكر مثلي حظ الأُنثي شيء ليس قابلاً للتأويل و لذلك يعدّ نصاً، و من حاول تأويله لا يقبل منه، و مثله قوله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (3) ).

إذا علمت ذلك، فنقول: إنّ القضاء بين الرأيين: كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظني، يتوقّف علي بيان الوظيفة التي حملت علي عاتق الظواهر؟ و تبيين رسالتها في إطار التفهيم و التفهّم؟ فلو تبيّن ذلك لسهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.

فنقول: إنّ للمتكلّم إرادتين:

1. إرادة استعمالية، و هي استعمال اللفظ في معناه، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أ كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك، سواء أ كان المعني حقيقياً أو مجازياً.

2. إرادة جدية، و هي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً، و ما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المرادُ الاستعمالي، المرادَ الجدي، كما في الهازل و المورّي و المقنّن الذي يُرتِّب الحكم علي العام و المطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص و المقيد، ففي هذه الموارد تغاير الإرادةُ الجدية الإرادةَ الاستعمالية، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل و المورّي و اللاغي، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص، أو المطلق1.

ص: 45


1- سوره 4 - آيه 11
2- . النساء:11.
3- سوره 112 - آيه 1

الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

و علي ضوء ذلك فيجب علينا أن نركِّز علي أمرين:

الأوّل: ما هي الرسالة الموضوعة علي عاتق الظواهر؟ الثاني: ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟ أمّا الأوّل: فالوظيفة الملقاة علي عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أ كانت المعاني حقائق أم مجازات، فلو قال: رأيت أسداً، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأي الحيوان المفترس، و إذا قال: رأيت أسداً في الحمام، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأي رجلاً شجاعاً فيه، فكشف الجملة في كلا الموردين عن المراد الاستعمالي كشف قطعي و ليس كشفاً ظنياً، و قد أدّي اللفظ رسالته بأحسن وجه. و علي ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنياً، اللّهمّ إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعني الاستعمالي بوجه متعيّن، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث فإنّ الكلام في الظواهر لا في المجملات و المتشابهات.

و أمّا الثاني: أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً، فانّه يتلخص في الأُمور التالية:

1. لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معني.

2. أو استعمل في المعني المجازي و لم ينصب قرينة.

3. أو كان هازلاً في كلامه.

4. أو مورّياً في خطابه.

5. أو لاغياً فيما يلقيه.

6. أو أطلق العام و أراد الخاص.

7. أو أطلق المطلق و أراد المقيّد.

ص: 46

إلي غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي علي وجه القطع.

و لكن أُلفت نظر القارئ إلي أُمور ثلاثة لها دور في المقام:

1. انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتي يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي لأجلها بالظنّية، و ذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلاّ شيء واحد و هو إحضار المعاني في ذهن المخاطب، و أمّا الاحتمالات المذكورة و كيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتي يوصف كشفها لأجلها بأنّه ظني.

2. انّ بعض هذه الاحتمالات موجودة في النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً، أو هازلاً، أو مورّياً، أو متّقياً، أو غير ذلك من الاحتمالات، مع أنّا نري أنّهم يعدّونها من القطعيات.

3. إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها، كأصالة كون المتكلّم في مقام الإفادة ، لا الهزل و لا التمرين، بدافع نفسي، لا بدافع خارجي كالخوف و غيره.

و الظاهر انّه لا حاجة إلي هذه الأُصول فإنّ الحياة الاجتماعية مبنيّة علي المفاهمة بالظواهر، ففي مجال المفاهمة و التفاهم بين الأُستاذ و التلميذ و البائع و المشتري و السائس و المسوس، يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم علي المراد الاستعمالي و الجدي دلالة قطعية لا ظنية، إلاّ إذا كان هناك إبهام أو إجمال، أو جريان عادة علي فصل الخاص و القيد عن الكلام.

و بذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي، علي ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة الخصوصية (1) كشف قطعي و لا يُعرَّج إلي تلك الشكوك.ي.

ص: 47


1- . أي لا في مجال التقنين فإن كشفها عن المراد الجدّي ليس بقطعي.

الأدلّة الأربعة

4- السنّة

قد تطلق السنّة و يراد منها قول المعصوم و فعله و تقريره، فلا شك انّ السنّة بهذا المعني من الأدلة القطعية، إذ هي عدل القرآن الكريم فهي الحجّة الثانية بعد الذكر الحكيم، و من أعرض عن السنّة و استغني بالقرآن الكريم فقد عدل عن المحجّة البيضاء.

و قد يطلق السنة و يراد منها الخبر الحاكي عن السنّة الواقعية و هو المراد في المقام سواء نقلت بصورة متواترة أو مستفيضة أو محفوفة بالقرائن أو مجرّدة عن الاستفاضة و القرائن، و الكلام هنا في حجّية الخبر الواحد المجرّد عن كلّ شيء، فانّ المتواتر أو الخبر الواحد المحفوف بالقرينة يفيدان العلم، و هكذا الخبر المستفيض يورث الاطمئنان المتاخم للعلم.

امّا كون السنّة الخبر الواحد المجرد عن القرائن« دليلاً ظنياً فإنّما هو لأجل سندها، و أمّا من حيث الدلالة فقد عرفت أنّ الدلالة في الجميع دلالة قطعية بالنسبة إلي المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي في بعض المقامات.

ثمّ إنّ الإفتاء بمضمون الخبر الواحد يتوقف علي ثبوت أمرين:

أ: إمكان التعبّد به إمكاناً ذاتيّاً.

ب: إمكان التعبّد به إمكاناً وقوعيّاً.

ص: 48

أمّا الإمكان بالمعني الأوّل الذي يعبّر عنه بالإمكان الماهوي فهو أمر لا سترة عليه، ضرورة انّ التعبّد بالخبر ليس واجباً و لا ممتنعاً فيُصبح أمراً ممكناً بالذات، فنسبة جواز التعبد إلي الخبر كنسبة الوجود و العدم بالنسبة إلي الإنسان، فالبحث عن الإمكان بهذا المعني، أمر خارج عن محط البحث.

و أمّا الإمكان بالمعني الثاني و هو الذي لا يمنع عن وقوعه مانع خارجي عن الذات بعد إمكانه الذاتي فهو داخل محطّ البحث.

و هذا نظير إدخال المطيع في النار، فإنّه و إن كان ممكناً بالذات، لأنّه سبحانه قادر علي الحَسن و القبيح، لكن غير ممكن وقوعاً لمخالفته لعدله و حكمته، فهو ممكن بالذات غير ممكن وقوعاً.

فذهب بعضهم كابن قبة (1) إلي امتناع التعبّد بالظن وقوعاً و استدلّ له بوجهين:

الأوّل: لو جاز العمل بالخبر الواحد في الفروع، لجاز العمل به في الأُصول، فلو أخبر أحد من اللّه سبحانه لزم قبول قوله إذا كان عادلاً بلا حاجة إلي طلب البيّنة و المعجزة.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر في الفروع أسهل، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبول خبره في ادّعاء النبوة التي هي أمر خطير.

الثاني: انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال، فإذا كان الحكم الواقعي هو الحلية و قام خبر الواحد علي الحرمة أو بالعكس و قلنا بحجّيته، يلزم أحد المحذورين.4.

ص: 49


1- . محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي المتكلّم المعاصر لأبي القاسم البلخي الذي توفّي عام 317 و قد توفي ابن قبة قبله بقليل. لاحظ رجال النجاشي برقم 1024.

و يعبّر عن حلّ هذا الاشكال في مصطلح الأُصوليّين »بالجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي«.

و قد فصّل المتأخرون الكلام فيه و موجز الجواب في هذا المقام عن هذا الإشكال انّه إذا كان مفاد الخبر موافقاً للواقع يكون منجّزاً للحكم الواقعي، و أمّا إذا كان مخالفاً للواقع فيكون الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة علي خلافه، إنشائياً لا فعلياً، و إنّما يتوجّه الإشكال إذا كان هناك حكمان فعليان متضادان في واقعة واحدة، و أمّا إذا كان أحد الحكمين(الحكم الواقعي )إنشائياً و الآخر فعلياً فلا إشكال فيه، و التفصيل يطلب من دراسات علياء.

ما هو الأصل في العمل بالظنّ؟

اشارة

و قبل التعرّف علي أدلّة وقوع التعبّد بالظن في الشريعة الإسلامية يجب الوقوف علي ما هي القاعدة الأوّلية في العمل بالظن، فهل هي حرمة العمل بالظن إلاّ ما خرج بالدليل؟ أو الأصل جواز العمل بالظن إلاّ ما خرج بالدليل؟ فعلي الأوّل يكون الأخذ بواحد من أقسام الظنون كالخبر الواحد و قول اللغوي و الشهرة الفتوائية و غيرها متوقفاً علي وجود دليل، و إلاّ فالأصل هو الحرمة; كما أنّه تنعكس القاعدة علي القول الثاني، فالأصل هو حجّية كلّ ظن إلاّ ما قام الدليل علي الحرمة كالقياس و الاستحسان.

و بذلك يعلم أنّ المراد من الأصل في العنوان هو مقتضي الأدلة الاجتهادية، و يعبّر عنها بمقتضي القاعدة الأوّلية و ليس المراد منه هو الأصل العملي.

و علي كلّ تقدير اتّفقت كلمة المحقّقين علي أنّ الأصل هو حرمة العمل بالظن إلاّ أن يقوم الدليل علي الحجّية.

ص: 50

و الدليل عليه هو انّ البدعة أمر محرم إجماعاً من غير خلاف ; و هي عبارة عن ادخال ما يعلم انّه ليس من الدين أو يشكّ انّه منه، في الدين; و الاعتماد علي الظن الذي لم يقم دليل علي جواز العمل و الإفتاء علي وفقه ، التزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه و حقّ غيره، و هذا هو نفس البدعة، لأنّه يُدخل في الدين ما يشكّ انّه من الدين.

و بعبارة أُخري: انّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلي الشارع في مقام العمل، و من المعلوم أنّ إسناد المؤدّي إلي الشارع و العمل به إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّه حكم الشارع و إلاّ يكون الإسناد تشريعاً قولياً و عملياً دلّت علي حرمته الأدلّة الأربعة، و ليس التشريع إلاّ إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلي الدين.

قال سبحانه:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (1) ). (2)

فالآية تدلّ علي أنّ الإسناد إلي اللّه يجب أن يكون مقروناً بالإذن منه سبحانه، و في غير هذه الصورة يعدّ افتراءً سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أو مقطوع العدم، و الآية تعمّ كلا القسمين، و المفروض انّ العامل بالظن شاك في إذنه سبحانه و مع ذلك ينسبه إليه.

و قال سبحانه:( وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (3) ). (4)

تجد انّه سبحانه يذم التقوّل بما لا يُعلم حدودُه من اللّه سواء أ كان مخالفاً للواقع أم لا، و العامل بالظن يتقوّل بلا علم.8.

ص: 51


1- سوره 10 - آيه 59
2- . يونس:59.
3- سوره 7 - آيه 28
4- . الأعراف:28.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ الضابطة الكلية في العمل بالظن هي المنع، لكونه تشريعاً قولياً و عملياً محرّماً و تقوّلاً علي اللّه بغير علم، فالأصل في جميع الظنون أي في باب الحجج هو عدم الحجّية، إلاّ إذا قام الدليل القطعي علي حجّيته.

ثمّ إنّ الأُصوليّين ذكروا خروج بعض الظنون عن هذا الأصل بالدليل القطعي و بذلك خرج عن كونه تقولاً بلا علم، و هي:

1. خبر الواحد.

2. الإجماع المنقول بخبر الواحد.

3. الشهرة الفتوائية.

4. قول اللغوي.

و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر:

ص: 52

الأدلّة الظنّية

1- حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد
اشارة

السنّة بمعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره حجّة بلا كلام، كما أنّه لا شكّ في حجّية الخبر الحاكي للسنّة إذا كان خبراً متواتراً أو محفوفاً بالقرينة لإفادتهما العلم، إنّما الكلام في حجّية الحاكي إذا كان خبراً مجرّداً عن القرينة و كان الراوي ثقة، فقد ذهب معظم الأُصوليين إلي حجّيته و استدلّوا عليه بالكتاب و السنّة و الإجماع، و قد ذكرنا دلائلهم في كتاب »الموجز« فلا حاجة إلي الإعادة.

لكن الأولي الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية المنتشرة بينهم، فقد جرت سيرتهم علي العمل بخبر الثقة المفيد للاطمئنان الذي هو علم عرفي و إن لم يكن علماً عقلياً، و ما هذا إلاّ لأجل انّ تحصيل العلم في أغلب الموارد موجب للعسر و الحرج، هذا من جانب، و من جانب آخر انّ القلب يسكن إلي قول الثقة، و يطمئن به، و لأجل ذلك يعد عند العرف علماً لا ظنّاً، لما له من ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب، فبملاحظة هذين الأمرين جرت سيرتهم علي الأخذ بقول الثقة.

و لو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع، كان عليه الردع عنها كما ردع عن العمل بقول الفاسق.

و بعبارة أُخري: انّك إذا سبرت أحوال الأُمم في العصور الغابرة، تقف علي أنّ سيرتهم جرت علي العمل بخبر الثقة، و انّ عمل المسلمين به لم يكن إلاّ

ص: 53

استلهاماً من تلك السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

و لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً لكان للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و الأئمّة المعصومين، الردع القارع و الطرد الصارم حتي يتنبه الغافل و يفهم الجاهل. كما تضافرت الروايات علي ردّ القياس و سائر المقاييس الظنّية الدارجة بين أهل السنّة. فلو كان العمل بخبر الواحد علي غرار العمل بالقياس لعمّه الردع من قبل أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، و لوصلت إلينا رواياتهم الناهية عن العمل بخبر الواحد، و حيث إنّه لم يرد شيء من هذا القبيل، دلّ ذلك علي إمضائهم العمل بخبر الواحد.

و ثمة نكتة أُخري و هي انّ ما استدلّ به الأُصوليّون من الكتاب و السنّة علي حجّية قول الثقة ليس في مقام تأسيس القاعدة و اضفاء الحجية علي قول الثقة، بل الكلّ عند الدقة و الإمعان ناظر إلي هذه السيرة العقلائية، فلاحظ قول الراوي(عبد العزيز بن المهتدي، و الحسن بن علي بن يقطين) للإمام الرضا(عليه السلام).

أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: »نعم«. (1)

كما يشير إليه قول أبي الحسن الثالث لأحمد بن إسحاق عند ما سأله بقوله من أُعامل؟ و عمّن آخذ؟ و قول من أقبل؟ فقال الإمام: »العمري ثقتي، فما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي، فعنّي يقول، فاسمع له، و أطع فإنّه الثقة المأمون«. (2)

فإنّ الحوار الدائر بين الراوي و الإمام حاك عن أنّ الكبري(حجّية قول الثقة) كان أمراً مسلّماً بينهما، و إنّما الكلام في الموارد و المصاديق، فقال الإمام انّ4.

ص: 54


1- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33، 34.
2- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

العمري ثقة.

و لو قيل انّه ليس علي حجية قول الثقة إلاّ دليل واحد، و هو السيرة العقلائية فقط و سائر الأدلّة إرشاد إليها أو بيان لصغريات القاعدة لم يقل قولاً مجازفاً.

ثمّ إنّ الشيخ الطوسي »جعل سيرة الأصحاب علي العمل بخبر الواحد دليلاً علي الحجّية، و بما انّ سيرتهم كانت بمرأي و مسمع من الأئمّة، تكشف عن إمضائهم لها«، و لكن الحقّ انّ سيرة أصحابنا لم تكن سيرة منقطعة عن سيرة العقلاء بل كانت متفرعة عنها، و بما انّ دليل الشيخ من أتقن الأدلة علي حجّية قول الثقة نذكر عبارته في المقام، حيث يقول:

إنّي وجدت الفرقة المحقّة مجمعة علي العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دوّنوها في أُصولهم، لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه حتي أنّ واحداً منهم إذا أفتي بشيء لا يعرفونه، سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم علي كتاب معروف أو أصل مشهور، و كان راويه ثقة لا يُنكر حديثه، سكتوا و سلّموا الأمر في اللّه و قبلوا قوله، و هذه عادتهم و سجيّتهم من عهد النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و من بعده من الأئمّة(عليهم السلام)، و من زمن الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام)الذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته، فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا علي ذلك و لأنكروه، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط و السهو. (1)

ثمّ إنّ الشيخ و ان عبر في المقام بلفظ الإجماع الموهِم انّه استدلّ بالإجماع، و لكنّه في الحقيقة احتجاج بالسيرة العملية للأصحاب، المستمدة من السيرة العقلائية..

ص: 55


1- . العدة في أُصول الفقه:1/126، ط عام 1376ه.
الحجّة هي الخبر الموثوق بصدوره

إذا كانت السيرة هي الدليل الوحيد علي حجّية قول الثقة، فاعلم أنّ عمل العقلاء بمفاده لأجل كون وثاقة الراوي مفيداً للاطمئنان بصدق الخبر و مطابقته للواقع، و ليست لوثاقته موضوعية في المقام حتي نتوقف عن العمل عند عدم إحراز وثاقة الراوي مع حصول الوثوق بصدور الرواية من قرائن أُخري، وعليه فمناط الحجّية عند العقلاء هو الخبر الموثوق بصحته و صدوره لا خصوص كون الراوي ثقة، و لذلك لو كان المخبر ثقة لكن دلّت القرائن علي عدم صدق الخبر لما عملوا به.

فاتّضح بما ذكرنا انّ موضوع الحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيشمل الخبر الصحيح و الموثق و الحسن إذا كانت بمرحلة موروثة للاطمئنان، بل يشمل الضعيف إذا دلّت القرائن علي صدقه.

و إلي ما ذكرنا أشار الشيخ الأنصاري بعد بيان الأدلّة العقلية التي أُقيمت علي حجّية الخبر الواحد بقوله: و الإنصاف انّ الدال فيها لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه، و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء (1)و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به العقلاء، و لا يكون عندهم موجباً للتحيّر و التردّد. (2)

ص: 56


1- . الصحيح عند القدماء ما يورث الوثوق بالمضمون، و الصحيح عند المتأخرين ما يكون آحاد رجال السند عدولاً.
2- . الفرائد:106، طبعة رحمة اللّه.

الأدلّة الظنّية

2- الإجماع المنقول بخبر الواحد

ينقسم الإجماع إلي محصَّل و منقول، فلو قام المجتهد بنفسه بتتبّع آراء العلماء في حكم واقعة و حصّل اتّفاقهم عليه فهو إجماع محصَّل، و أمّا إذا قام مجتهد آخر بهذا العمل و وقف علي اتفاقهم علي حكم في واقعة ثمّ نقله إلي غيره، فيكون هذا بالنسبة إلي المنقول إليه إجماعاً منقولاً و إن كان بالنسبة إلي الناقل إجماعاً محصَّلاً.

و قد عرفت وجه حجّية الإجماع المحصَّل، إنّما الكلام في حجّية الإجماع المحكي بخبر الثقة، و البحث في المقام منصبٌّ علي أمر واحد و هل يشتمل دليل حجّية قول الثقة هذا المورد(نقل الإجماع)و عدمه، فلو قلنا بشموله له يكون الإجماع المنقول حجّة كالإجماع المحصّل بملاك واحد و إلاّ فلا.

و بما انّ ملاك حجّية الإجماع المحصل هو كشفه عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة فلا يكون الإجماع المنقول حجّة إلاّ إذا بلغ بهذه المرتبة أي يكون كاشفاً عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة.

ثمّ إنّ المشهور عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد، بمعني انّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا يعمُّ المورد، و ذلك لأنّ قول الثقة إنّما يكون حجّة إذا أخبر عن قول المعصوم أو الحجّة المعتبرة عن حس لا عن حدس، كما إذا أخبر زرارة عن قول الإمام بالسماع عنه، و أمّا المقام فإنّ ناقل الإجماع و إن كان ينقل الاتفاق

ص: 57

عن حس لكنّه لا ينقل قول الإمام عن حس و إنّما ينقله عن حدس، و دليل حجّية قول الثقة لا يشمل ما ينقله المخبر لا عن حس.

فإن قلت: إنّ الإخبار عن حدس إذا كان مستنداً إلي الحس، الملازم للمخبر به عند الناقل و المنقول إليه، فهو حجّة، كما إذا أخبر عن الشجاعة و العدالة اللّتين هما من الأُمور النفسانية غير المحسوسة مستنداً إلي مشاهداته في ميدان القتال و تورّعه عن المحرّمات و المشتبهات، فليكن الإجماع المنقول بخبر الواحد من هذا النوع من الخبر فانّ الناقل و إن لم يخبر عن قول الإمام عن حس و إنّما يخبر عنه عن حدس لكن حدسه مستند إلي اتّفاق العلماء الذي هو أمر محسوس، و هو عند الناقل و المنقول إليه ملازم لوجود الدليل المعتبر للعلماء في إفتائهم.

قلت: ما ذكرته صحيح إذا بذل الناقل جهده لتحصيل مثل ذلك الاتّفاق الذي لا يفارق الحجّة و أنّي لأكثر الناقلين للإجماع هذا النوع من تحصيل الجهد، فإنّ غالب نَقَلَة الإجماع يتساهلون في نقل الإجماع، و ربما يكتفون في ادّعاء الإجماع بالعثور علي فتوي جماعة قليلة من دون أن يكون هناك ملازمة بين الاتّفاق و الدليل المعتبر.

فإذا كان هذا هو الحال في أغلب الإجماعات الدارجة علي ألسن الفقهاء المتقدّمين و المتأخّرين، فلا يصحّ الاعتماد عليه إذ ليس هناك أيّة ملازمة بين السبب(الاتفاق الذي حصَّله الناقل) و المسبب(قول المعصوم أو الدليل المعتبر).

نعم لو كان الناقل ممّن لا يدّعي الإجماع إلاّ بعد تتبع تام في المصادر، و كانت المسألة من المسائل المعنونة في العصور السابقة يمكن الاعتماد علي إخباره عن الإجماع الملازم لقول المعصوم أو الحجّة المعتبرة، و هو بين نقلة الإجماع نادر جدّاً.

و أقصي ما يمكن أن يقال انّ الإجماعات المنقولة تصدّ الفقيه عن التسرّع بالفتوي إلاّ بعد التتبع التام في كلمات العلماء لتُعرف مدي صحّة الإجماع.

ص: 58

الأدلّة الظنّية

3- الشهرة الفتوائيّة

إنّ الشهرة علي أقسام ثلاثة:

أ. الشهرة الروائيّة.

ب. الشهرة العمليّة.

ج. الشهرة الفتوائيّة.

أمّا الأُولي، فهي الرواية التي اشتهر نقلها بين المحدِّثين و كثرت رواتها، كالأحاديث الواردة في نفي التجسيم و التشبيه و نفي الجبر و التفويض عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)و يقابلها النادر.

ثمّ إنّ الخبر المشهور إنّما يكون معبِّراً عن الحكم الشرعي فيما إذا أفتي الفقهاء علي وفقه، و أمّا إذا رواه المحدّثون و لكن أعرض عنه الفقهاء، فهذه الشهرة موهنة لا جابرة.

أمّا الثانية، فهي الرواية التي عمل بها مشهور الفقهاء و أفتوا علي ضوئها، فهذه الشهرة تورث الاطمئنان، و تسكن إليها النفس، و هي التي يصفها الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة الّتي وردت في علاج الخبرين المتعارضين اللّذين أخذ بكلّ واحد منهما أحد الحكَمين في مقام فصل الخصومات بقوله:»يُنظرُ إلي ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمعَ عليه عند أصحابك فيُؤخذ به من

ص: 59

حُكْمنا، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك«. (1)

و علي ضوء ذلك فالشهرة العملية تكون سبباً لتقديم الخبر المعمول به علي المتروك الشاذّ الذي لم يعمل به.

و هل يكون عمل الأصحاب المتقدّمين بالرواية جابراً لضعف سندها و إن لم يكن لها معارض؟ ذهب المشهور إلي أنّه جابر لها. نعم الجابر للضعف هو عمل المتقدّمين من الفقهاء الذين عاصروا الأئمة(عليهم السلام)، أو كانوا في الغيبة الصغري، أو بعدها بقليل كوالد الصدوق و ولده و المفيد و غيرهم، و أمّا المتأخّرون فلا عبرة بعملهم و لا إعراضهم، و قد أوضحنا ذلك في محاضراتنا. (2)

و أمّا الثالثة، فهي عبارة عن اشتهار الفتوي في مسألة لم ترد فيها رواية و هي التي عقدنا البحث لأجله، مثلاً إذا اتّفق المتقدّمون علي حكم في مورد، و لم نجد فيه نصاً من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)يقع الكلام في حجّية تلك الشهرة الفتوائية و عدمها.

و الظاهر حجّية مثل هذه الشهرة، لأنّها تكشف عن وجود نص معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا حتي دعاهم إلي الإفتاء علي ضوئه، إذ من البعيد أن يُفتي أقطاب الفقه بشيء بلا مستند شرعي و دليل معتدّ به، و قد حكي سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف أنّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة تلقّاها الأصحاب قديماً و حديثاً بالقبول، و ليس لها دليل إلاّ الشهرة الفتوائية بين8.

ص: 60


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1. و قد رواها المشايخ الثلاثة في جوامعهم و تلقّاها الأصحاب بالقبول. و لذلك سمّيت بالمقبولة.
2- . المحصول في علم الأُصول:3/207 208.

القدماء، بحيث لو حذفنا الشهرة عن عداد الأدلّة، لأصبحت تلك المسائل فتاوي فارغة مجرّدة عن الدليل.

و يظهر من غير واحد من الروايات أنّ أصحاب أئمّة أهل البيت كانوا يقيمون وزناً للشهرة الفتوائية السائدة بينهم و يقدّمونها علي نفس الرواية التي سمعوها من الإمام(عليه السلام)، و لنأت بنموذج:

روي عبد اللّه بن محرز بيّاع القلانس قال: أوصي إليّ رجل و ترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم، و ترك ابنة، و قال: لي عصبة بالشّام، فسألت أبا عبد اللّه(عليه السلام)عن ذلك فقال: أعط الابنة النصف، و العصبة النصف الآخر، فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا فقالوا: اتّقاك، فأعطيت الابنة النصف الآخر. ثمّ حججت فلقيت أبا عبد اللّه(عليه السلام)فأخبرته بما قال أصحابنا و أخبرته أنّي دفعت النصف الآخر إلي الابنة، فقال: أحسنت إنّما أفتيتك مخالفة العصبة عليك.. (1)

توضيح الرواية: انّه إذا توفّي الأب و لم يكن له وارث سوي البنت، فالمال كلّه لها، غاية الأمر:

النصف الأوّل فرضاً و النصف الآخر ردّاً.

و لكن أهل السنّة يورّثون البنت في النصف و العصبةَ في النصف الآخر، و قد كان حكم الإمام في اللقاء الأوّل بما يوافق فتوي العامة، و لمّا وقف الراوي علي أنّ المشهور بين أصحاب الإمام غير ما سمعه ترك قول الإمام و عمل بما هو المشهور عند أصحابه. فلولا أنّ للشهرة الفتوائية قيمة علمية لما عمل الراوي بقول الأصحاب، و هذا يدلّ علي أنّه كانت للشهرة الفتوائية يومذاك مكانة عالية إلي حدّ ترك الراوي القولَ الذي سمعه من الإمام و قد أخبر الإمام عند وفد إليه في العام القادم و هو عليه صحّح عمله.4.

ص: 61


1- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث4.

الأدلّة الظنّية

4- حجّية قول اللغوي

إنّ لتمييز الموضوع له عن غيره طرقاً قد تقدّم بعضها في الجزء الأوّل، أعني: التبادر و صحّة الحمل و الاطراد و قول اللغويّ، و الكلام في المقام في حجّية الأخير في تعيين الموضوع له.

و علي القول بالحجّية، فهل هو حجّة من باب الشهادة و انّ اللغوي يشهد انّ العرب تستعمل ذلك اللفظ في هذا المعني؟ أو حجّة من باب حجّية أهل الخبرة كالمقوم؟ فيها وجهان.

فذهب بعض إلي أنّ قوله حجّة من باب الشهادة، فيعتبر فيه التعدّد و العدالة و اخباره عن حس.

و ربما يقال بأنّه حجّة من باب حجّية قول أهل الخبرة، كالمقوّم و الطبيب، فتشمله أدلّة حجّية قول أهل الخبرة، فلا تعتبر فيه العدالة و التعدّد، بل يكفي الوثوق بقوله.

يستدلّ للقول الأوّل بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر و الرأي فيها، لأنّ اللغوي ينقلها علي ما وجده في الاستعمالات و المحاورات، و ليس له إعمال النظر و الرأي، فيكون داخلاً في باب الشهادة و تشمله أدلّة الشهادة، و يعتبر فيها العدالة و التعدّد علي قول المشهور. (1)

ص: 62


1- . مصباح الأُصول:2/131.

يلاحظ عليه: أنّ إخباره عن موارد الاستعمال فضلاً عن إخباره عن المعني الحقيقي في مقابل المعني المجازيّ ليس مجرداً عن إعمال النظر و الاجتهاد، بل هو مزيج بالحدس، و يدلّ علي ذلك انّ أصحاب المعاجم يستشهدون علي إثبات مقاصدهم بالآيات و الأحاديث النبوية و الأشعار، فيستخرجون موارد الاستعمال ببركة الإمعان فيها، فالجلُّ لو لا الكل مزيج بالاجتهاد و يتّضح ذلك لمن سَبَرَ كتب اللغة، فالحق حجّية قولهم من باب انّهم أهل الخبرة.

و قد أورد علي هذا القول بعدم حجّية هذه السيرة، لعدم وجودها في زمان المعصومين(عليهم السلام)، فإنّ الرجوع إلي كتب اللغويين أمر حادث. (1)

يلاحظ عليه: بوجود هذه السيرة(أي الرجوع إلي أئمّة اللغة و كتبهم) في عصر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، و هذا هو الخليل بن أحمد الفراهيدي من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)و قد أدرك عصر الإمام الكاظم(عليه السلام)ألّف كتابه العين ليرجع إليه الناس، و قد توفّي عام 170ه، و كان مرجعاً في اللغة.

و كان الأصمعي(المتوفّي207ه) المرجع في اللغة و الأدب، و كان الناس يسألونه عن معاني الألفاظ، و قد سئل يوماً عن الألمعيّ فأنشد:

الألمعيّ الذي يظن بك الظن كأن قد رأي و قد سمعا

و كان ابن عباس المرجعَ الكبير في تفسير لغات القرآن، و كان يقول:الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله بلغة العرب رجعنا إلي ديوانه، فالتمسنا معرفة ذلك منه ثمّ قال:

إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإنّ الشعر ديوان العرب.

و كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه بالشعر، و قد سأله نافع بن الأزرق عن7.

ص: 63


1- . تهذيب الأُصول:2/97.

لغات القرآن ما يربو علي مائة و سبعين سؤالاً، فأجابه مستشهداً بشعر العرب، و هو يعرب عن إحاطة ابن عباس بشعر العرب و موارد استعماله، و قد نقلها السيوطي في »الإتقان«. (1)

هذا إذا قلنا بحجية قول اللغوي و أمّا إذا لم نقل بحجيّة قوله (2)، فليس للفقيه أيضاً غني عن الرجوع إلي المعاجم، و ذلك لأنّ هناك ألفاظاً فقهية معلومة إجمالاً، لكنّها مجهولة من حيث الشروط و القيود فلا تفهم إلاّ بالرجوع إلي المعاجم المعتبرة لاستظهار الحقيقة منها بالدقة و الإمعان.

لا أقول: إنّ قول اللغوي الواحد حجّة، بل أقول إنّ الرجوع إلي المعاجم المختلفة المعتبرة و الدقّة في كلماتهم و ضرب بعضها علي بعض، يورث الاطمئنان و يزيح الستار عن وجه الواقع، مثلاً: اختلف الفقهاء في معني القمار و المقامرة و انّه هل يعتبر فيهما العوض أو لا؟ و هل يعتبر فيه الآلة المتعارفة أو لا؟ و لا يعلم ذلك إلاّ بعد مراجعة اللغات الأصلية حتّي يحصل الاطمئنان بواحد من الطرفين.

إلي هنا تمّ البحث في الأدلّة الظنّية الّتي قامت علي حجّيتها أدلّة قطعية، فيبقي البحث في العرف و السيرة، و قد تطرّقنا إليها في »الموجز« علي قدر الكفاية.

ثمّ إنّ هناك ظنوناً غير معتبرة عندنا و معتبرة عند أهل السنّة نتناولها بالبحث لمسيس الحاجة إلي الوقوف عليها.6.

ص: 64


1- . الإتقان:1/382 416.
2- . ذكرنا دليل القائلين بحجّية قول اللغوي و عدمها في الموجز، ص175 176.

الظنون غير المعتبرة

اشارة

1. القياس 2. الاستحسان 3. الاستصلاح أو المصالح المرسلة 4. سدّ الذرائع 5. فتح الذرائع 6. قول الصحابي 7. إجماع أهل المدينة

ص: 65

ص: 66

الظنون غير المعتبرة تنقسم الظنون عندنا إلي قسمين: معتبرة و قد مضي الكلام فيها و غير معتبرة عندنا، و معتبرة عند أكثر أهل السنّة، و هي عبارة عن الأُمور التالية:

القياس، الاستحسان، الاستصلاح، سد الذرائع، الحيل(فتح الذرائع)، قول الصحابي، إجماع أهل المدينة، فلنأخذ كلّ واحد بالبحث علي حدة.

1. القياس
و لنقدم أُموراً:
الأمر الأوّل: حقيقة القياس

القياس في اللّغة: هو التسوية، يقال قاس هذا بهذا أي سوّي بينهما، قال علي(عليه السلام):»لا يقاس بآل محمد(صلي الله عليه و آله و سلم)من هذه الأُمّة أحد« (1) أي لا يُسوّي بهم أحد.

و في الاصطلاح: استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نصٌّ، عن حكم واقعة ورد فيها نصٌّ، لتساويهما في علّة الحكم، و مناطه و ملاكه.

ثمّ إنّ أركان القياس أربعة:

الأصل: و هو المقيس عليه.

الفرع: و هو المقيس.

ص: 67


1- . نهج البلاغة، الخطبة الثانية.

الحكم: و هو ما يحكم به علي الثاني بعد الحكم به علي الأوّل.

العلّة: و هو الوصف الجامع، الذي يجمع بين المقيس و المقيس عليه، و يكون هو السبب للقياس.

مثلاً إذا قال الشارع: »الخمر حرام لكونه مسكراً«، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ و الفقاع يحكم عليهما بالحرمة، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.

الأمر الثاني: أقسام القياس

إنّ القياس ينقسم إلي منصوص العلّة، و مستنبطها.

فالأوّل فيما إذا نصَّ الشارع علي علّة الحكم و ملاكه علي وجه علم أنّها علّة الحكم الّتي يدور الحكم مدارها لا حكمته التي ربّما يتخلّف الحكم عنها.

و الثاني، فيما إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها، و إنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره و جهده، فيطلق علي هذا النوع من القياس، مستنبط العلّة.

و ينقسم مستنبط العلّة إلي قسمين:

تارة يصل الفقيه إلي حدّ القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم و مناطه.

و أُخري لا يصل إلاّ إلي حدّ الظن بكونه كذلك.و سيوافيك حكم القسمين تحت عنوان »تنقيح المناط«.

و قلّما يتّفق لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع و مناطه واقعاً، و أنّه ليس هناك ضمائم أُخري وراء ما أدرك.

ص: 68

الأمر الثالث: الفرق بين علّة الحكم و حكمته

الفرق بين علّة الحكم و حكمته، هو أنّ الحكم لو كان دائراً مدار الشيء وجوداً و عدماً، فهو علّة الحكمِ و مناطه، كالإسكار بالنسبة إلي الخمر، و امّا إذا كان الحكم أوسع ممّا ذُكر في النصّ، أو اسْتُنْبِطَ، فهو من حِكَم الأحكام و مصالحه، لا من مناطاته و ملاكاته، فمثلاً:

الإنجاب و تكوين الأُسرة من فوائد النكاح و مصالحه، و ليس من مناطاته و ملاكاته، بشهادة أنّه يجوز تزويج المرأة العقيمة و اليائسة و من لا تطلب ولداً بالعزل، و غير ذلك من أقسام النكاح.

الأمر الرابع: القياس في منصوص العلّة

العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلي العمل بالسنّة، لا بالقياس، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل، فنسير علي ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة، كما في قول الإمام الرضا(عليه السلام)في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع: ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتي يذهب الريح، و يطيب طعمه، لأنّ له مادة. (1)

فإنّ قوله :»لأنّ له مادة« تعليل لقوله:»لا يفسده شيء« فيكون حجّة في غير ماء البئر، لانّه يشمل بعمومه ماء البئر، و ماء الحمام، و العيون و حنفية الخزّان و غيرها، فلا ينجس الماء إذا كانت له مادّة، و عندئذ يكون العمل بظاهر السنّة لا بالقياس، فليس هناك أصل و لا فرع و لا انتقال من حكم الأصل إلي الفرع، بل موضوع الحكم هو العلّة، و الفروع بأجمعها داخلة تحتها.

ص: 69


1- . وسائل الشيعة:1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6.
الأمر الخامس: قياس الأولوية

القياس الأولوي: هو عبارة عن كونِ الفرع(ضرب الوالدين) أولي بالحكم من الأصل(التأفيف) عند العرف، مثل دلالة قوله تعالي:( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1) ) (2)علي تحريم الضرب، و لا شكَّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم، لأنّه مدلول عرفيّ، يقف عليه كل من سمع الآية.

الأمر السادس: تنقيح المناط أو إلغاء الخصوصيّة

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف، و خصوصيات، لا يراها العرف المخاطب دخيلة في الموضوع، و يتلقّاها من قبيل التمثيل علي وجه القطع و اليقين، فهذا ما يسمّي بتنقيح المناط أو الغاء الخصوصية كما إذا ورد في السؤال: رجل شك في المسجد بين الثلاث و الأربع، فأُجيب بأنّه يبني علي الأكثر، فإنّ العرف لا يري للرجولية و مكان الشك(المسجد) تأثيراً في الحكم، و لذلك يري الحكم ثابتاً لمطلق الشاك، من غير فرق بين الرجل و المرأة، و المسجد و غيره.

و هذا(قياس المرأة بالرجل و غير المسجد بالمسجد) ليس بقياس في الحقيقة بل حكم الكل مستفاد من النصّ، بمساعدة فهم العرف علي عدم مدخلية القيدين.

و مما ذكرنا ظهر انّ النزاع في حجّية القياس منحصر في القياس الذي استنبط المجتهد علّته و مناطه، من دون أيّ دلالة عليه من جانب الشرع و إنّما يقوم به عقل المستنبط و حدسه علي حدّ الظنّ بأنّ ما استنبطه مناط الحكم و ملاكه.

ص: 70


1- سوره 17 - آيه 23
2- . الإسراء:23.
الأمر السابع: السبب من وراء العمل بالقياس

ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)لمواجهة الأحداث الجديدة، و كان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به، و لو توفّرت بأيديهم نصوص فيها لما حاموا حول القياس، و لكن إعواز النصوص جرّهم إلي العمل بالقياس لأجل معالجة المشاكل العالقة و المسائل المستحدثة، و قد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول إلاّ سبعة عشر حديثاً. (1) فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب و السنّة؟! فلم يكن له محيص إلاّ اللجوء إلي القياس و الاستحسان.

فأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و لفيف من الصحابة و التابعين رفضوه و أكثروا من ذمِّه، و الشيعة عن بكرة أبيهم تبعاً للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و أهل بيته أبطلوا العمل بالقياس، و وافقهم من الفقهاء داود بن خلف، إمام أهل الظاهر، و تبعه ابن حزم الأندلسي، فلم يقيموا له وزناً، و أوّل من توسّع في القياس هو أبو حنيفة شيخ أهل القياس، و تبعه مالك، و ابن حنبل.

و قد عقد شيخنا الحرّ العاملي في وسائله باباً خاصاً، أسماه باب »عدم جواز القضاء و الحكم بالمقاييس« و نقل فيه ما يربو علي عشرين حديثاً في النهي عن العمل بالقياس.

و مما نقل فيه انّ أبا حنيفة دخل علي أبي عبد اللّه(عليه السلام)، فقال له: »يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس«.

قال: نعم، قال: »لا تقس فانّ أوّل من قاس هو إبليس«. (2) فقد قاس نفسه

ص: 71


1- . مقدمة ابن خلدون:444، الفصل السادس في علوم الحديث. نعم الحنفية ينكرون هذه النسبة إلي إمامهم.
2- . الوسائل: الجزء18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.

بآدم، فزعم أنّه أفضل من آدم، لأنّه خُلِق من طين، و هو خُلِقَ من النار، و لم يلتفت إلي أنّ ملاك السجود هو الروح الإلهية التي نفخت في آدم، فصار مجلي لأسمائه و صفاته تعالي و عاد معلّماً للملائكة.

أدلّة القائلين بالقياس
أ. الدليل النقلي

و اعلم أنّ الأصل الأوّلي في الظنون التي لم يقم دليل علي حجّيتها، هو عدم الحجّية و قد سبق انّ الشكّ في حجّية كلّ ظن لم يقم علي حجّيته دليل يلازم القطع بعدم الحجّية ما لم يدل دليل عليه (1) ، و قد استدل القائلون بحجّية القياس بوجوه نشير إلي أهمّها:

1. حديث الجارية الخثعمية قالت: يا رسول اللّه إنّ أبي أدركته فريضة الحج شيخاً، زمناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أ ينفعه ذلك؟ فقال لها:»أ رأيت لو كان علي أبيك دين فقضيتيه، أ كان ينفعه ذلك؟« قالت: نعم، قال: »فدَيْن اللّه أحقّ بالقضاء«.

2. حديث ابن عباس: انّ امرأة جاءت إلي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)فقالت: إنّ أُمي نذرت أن تحجّ فماتت قبل أن تحجّ، أ فأحج عنها؟ قال: »نعم حجّي عنها، أ رأيت لو كان علي أُمّك دَيْن أ كنت قاضية؟«.

قالت: نعم، فقال: »اقضوا للّه فإنّ اللّه أحقّ بالوفاء«. (2)

وجه الاستدلال: انّ الرسول ألْحق دَيْن اللّه بدين الآدمي في وجوب القضاء

ص: 72


1- . مرّ صفحة 51 من هذا الكتاب.
2- . السرخسي، أُصول الفقه:2/130.

و نفعه، و هو عين القياس بشهادة أنّه قال: »فدَيْن اللّه أحقّ بالقضاء و الوفاء«. (1)

يلاحظ علي الاستدلال بكلا الحديثين مضافاً إلي أنّ الاستدلال علي حجّية قياس غير المعصوم، بقياس المعصوم نوع من القياس، و هو أوّل الكلام أنّ القياس الوارد في كلام النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)من باب القياس الأولوي، و ذلك لأنّه إذا وجب الوفاء بحقوق الناس حسب النص فحقوق اللّه أولي بالقضاء و الوفاء كما نصّ به النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في الحديث و أين هذا من مورد النزاع؟! و قد تقدّم انّ القياس الأولوي عمل بالنصّ، لأنّه مدلول عرفي.

3. حديث عمر بن الخطاب، قال: قلت: يا رسول اللّه، أتيتُ أمراً عظيماً، قبّلتُ و أنا صائم، فقال رسول اللّه: »أ رأيت لو تمضمضت بماء و أنت صائم«، فقلتُ: لا بأس بذلك، فقال رسول اللّه: »فصم«.

وجه الاستدلال: انّه(صلي الله عليه و آله و سلم)قاس القُبْلة بالمضمضة، فحكمَ بعدم بطلان الصوم فيها إيضاً.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الحديث دليل علي بطلان القياس، لأنّ عمر ظنَّ أنّ القُبلة تُبطل الصوم قياساً علي الجماع، فردَّ عليه رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): بأنّ الأشياء المماثلة و المتقاربة لا تستوي أحكامها.

و ثانياً: أنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع من حكم الأصل، بحيث يستمد الفرع حكمه من الأصل، و ليس المقام كذلك، بل كلاهما في مستوي واحد كغصني شجرة، أو كجدولي نهر.

و إن شئت قلت: إنّ المبطل هو الشرب لا مقدّمته(المضمضة)، كما أنّ المبطل هو الجماع لا مقدّمته، فبما أنّ المخاطب كان واقفاً علي ذلك الحكم في0.

ص: 73


1- . السرخسي، أُصول الفقه:2/130.

الشرب، دون الجماع، أرشده النبي إلي تشبيه القُبلَة بالمضمضة إقناعاً للمخاطَب، لا استنباطاً للحكم من الأصل.

ب: الدليل العقلي

و يقرّر بوجهين:

أ. انّه سبحانه ما شرّع حكماً إلاّ لمصلحة، و أنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعةُ المسكوت عنها، الواقعةَ المنصوص عليها في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة، قضت الحكمة و العدالة أن تساويها في الحكم، تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع، و لا يتفق و عدلَ اللّه و حكمتَه أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة علي عقول عباده، و يبيح نبيذاً آخر فيه خاصيّة الخمر، و هي الإسكار، لأنّ مآل هذا ، المحافظةُ علي العقول من مسكر، و تركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (1)

يلاحظ عليه: أنّ الكبري مسلّمة، و هي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح و المفاسد، إنّما الكلام في وقوف الإنسان علي مناطات الأحكام و عللها علي وجه لا يخالف الواقع قيد شعرة، و أمّا قياس النبيذ علي الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام، لأنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ مناط حرمة الخمر هو الإسكار، و لذلك روي عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)أنّه سبحانه حرّم الخمر و حرّم النبيُّ كلَّ مسكر. (2) و لو كانت جميع الموارد من هذا القبيل لما اختلف في حجية القياس اثنان.

و لأجل إيضاح الحال، و أنّ المكلّف ربّما لا يصل إلي مناطات الأحكام، نقول:

ص: 74


1- . عبد الوهاب الخلاف: مصادر التشريع الإسلامي: 3534.
2- . الكليني:الكافي:1/265، باب التفويض إلي رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم).

اعلم أنّه إذا نصّ الشارع علي حكم و لم ينصّ علي علّته و مناطه، فهل للمجتهد التوصّل إلي معرفة ذلك الحكم عن طريق السبر و التقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، و تصلح لأن تكون العلّة، واحدة منها، و يختبرها وصفاً وصفاً، و بواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة، و يستبقي ما يصحّ أن يكون علة، و بهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصل إلي الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة؟ و لكن في هذا النوع من تحليل المناط إشكالات واضحة مع غض النظر عن النهي الوارد في العمل بالقياس:

أوّلاً: نحتمل أن تكون العلّة عند اللّه غير ما ظنّه بالقياس، فمن أين نعلم بأنّ العلّة عندنا و عنده واحدة؟ ثانياً: لو افترضنا أنّ المُقيس أصاب في أصل التعليل، و لكن من أين نعلم أنّها تمام العلّة، لعلّها جزء العلّة و هناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع و لم يصل المُقيس إليه؟ ثالثاً: نحتمل أن تكون خصوصية المورد دخيلة في ثبوت الحكم، مثلاً لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في فساد البيع، و لكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه، إذا كان المهر فيه مجهولاً، فالعلّة هي الجهل بالثمن، لا مطلق الجهل بالعوض حتي يشمل المهر، و مع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.

و قد ورد علي لسان أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)النهي عن الخوض في تنقيح المناط، و يشهد بذلك ما رواه أبان بن تغلب، عن الإمام الصادق(عليه السلام)يقول أبان:

قلت له: ما يكون في رجل قطع اصبعاً من أصابع المرأة، كم فيها؟

ص: 75

قال: »عشر من الإبل«.

قلت: قطع اثنتين؟ قال: »عشرون«.

قلت: قطع ثلاثاً؟ قال:»ثلاثون«.

قلت: قطع أربعاً؟ قال: »عشرون«.

قلت: سبحان اللّه، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، و يقطع أربعاً، فيكون عليه عشرون؟! إن هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول: الذي جاء به شيطان.

قال: »مهلاً يا أبان: هذا حكم رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلي ثلث الدية. فإذا بلغت الثلث رجعت إلي النصف، يا أبان: إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست مُحِق الدين«. (1)

و الإمام ليس بصدد تخطئة أبان لقطعه الحاصل من القياس، بل بصدد إزالة يقينه بالتصرّف في مقدّماته، و هو أنّه أخذ الشريعة من القياس.

و الذي يكشف عن هذا المطلب، هو أنّ الجارية تحت العبد إذا أعتقت فلها الخيار إن شاءت مكثت مع زوجها، و إن شاءت فارقته، أخذاً بالسنّة حيث إنّ بريدة كانت تحت عبد، فلمّا أُعتقت، قال لها رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم):»اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، و إن شئت أن تفارقيه«. (2)2.

ص: 76


1- . الوسائل:19، الباب44 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث1.
2- . الشوكاني: نيل الأوطار:3/152.

ثمّ إنّ الحنفية قالت بأنّ الجارية تحت الحرّ إذا أُعتقت لها الخيار كالمعتقة تحت العبد لاشتراكهما في كونهما جاريتين اعتقتا، و لكن من أين نعلم بأنّ الانعتاق تمام المناط للحكم؟ و لعلّ كونها تحت العبد و افتقاد المماثلة جزء العلّة؟ فما لم نقطع بالمناط لا يمكن إسراء الحكم، و هذا هو الذي دعا الشيعة إلي منع العمل بالقياس و طرح تخريج المناط الظني الذي لا يغني من الحق شيئاً.

إلي هنا تمّ الدليل الأوّل للقائلين بالقياس و إليك دليلهم الثاني.

ب. انّ نصوص القرآن و السنّة متناهية، و الوقائع غير محدودة فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية مصادر تشريعيّة لما لا يتناهي، و القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة، و يكشف عن حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث. (1)

يلاحظ عليه: أنّ استدلاله هذا أشبه بدليل الانسداد عند القائلين بحجّية الظن المطلق، و من المعلوم أنّه لا تصل النوبة إلي الظن إلاّ بعد انسداد باب العلم، و العلمي، لكنه مفتوح عندنا ببركة أحاديث العترة الطاهرة الّذين أمر النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)بالتمسّك بهم و بالكتاب معاً.

إنّ أهل القياس من السنّة رووا و صحّحوا حديث الثقلين فيجب عليهم الرجوع إليهم في العقيدة و الشريعة لكونهم عدل القرآن و لو رجعوا إليهم لاستغنوا عن العمل بالقياس الذي ما أنزل اللّه به من سلطان.

إلي هنا تبيّن عدم توفر دليل صالح لحجّية القياس مع قطع النظر عن النهي الوارد فيه، و قد عرفت تضافر الروايات علي النهي عن القياس، و لنذكر ما روي عن أعلام السنّة حول القياس:2.

ص: 77


1- . الشوكاني: نيل الأوطار:3/152.

1. روي عن ابن سيرين أنّه قال: أوّل من قاس إبليس، و ما عُبدت الشمس و القمر إلاّ بالمقاييس.

2. و روي عن الحسن البصري: أنّه تلا هذه الآية:( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (1) ) (2) ، قال:

قاس إبليس و هو أوّل من قاس.

3. و روي عن مسروق أنّه قال: إنّي أخاف و أخشي أن أقيس فتزلّ قدمي.

4. و روي عن الشعبي قال: و اللّه لأن أخذتم بالمقاييس لتُحرّمنّ الحلال و لتحلنّ الحرام.

إلي غير ذلك. (3)

2. الاستحسان

الاستحسان لغة: عدّ الشيء حسناً، كالاستقباح، و هو عدّه قبيحاً.

و أمّا اصطلاحاً فقد اختلفوا في تعريفه و لنذكر تعريفين:

1. الاستحسان: ترك القياس و الأخذ بما هو أوفق للناس. و علي هذا التعريف، فالاستحسان استثناء من القياس و مخصِّص له، و كأنّ المجتهد يترك القياس الجلي بقياس خفي.

فمثلاً مقتضي القياس الجلي، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة علي القول بنجاسة سؤره لاشتراكهما في الافتراس، و لكن مقتضي القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.

2. الاستحسان:هو ترك الدليل في المسألة قياساً كان أو غيره، لدليل

ص: 78


1- سوره 7 - آيه 12
2- . الأعراف:12.
3- . الدارمي، السنن:1، باب تفسير الزمان، ص65.و لاحظ كتاب العدة للشيخ الطوسي:2/688 690للوقوف علي كلمات نفاة القياس من أعلام السنّة.

يستحسنه المجتهد بعقله. و لعلّ التعريف الثاني أوفق كما يظهر من الأمثلة التي سنذكرها.

و قد كان مالك بن أنس أكثر الناس أخذاً به، حيث قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم; و كان الشافعي رافضاً له، حيث قال: من استحسن فقد شرّع; إلي ثالث يفصِّل بين الاستحسان المبني علي الهوي و الرأي، و الاستحسان المبني علي الدليل.

و القول الحاسم في الاستحسان هو أن يقال: إنّ المجتهد المستحسِن إذا استند إلي ما يستقل به العقل من حسن العدل و قبح الظلم، أو إلي دليل شرعي، فلا إشكال في كونه حجّة، لأنّه أفتي بالدليل، لا بمجرّد الاستحسان، و أمّا إذا استند لمجرد استحسان طبعه و فكره، و أنّ الحكم الشرعي لو كان كذا لكان أحسن، فهو تشريع باطل، و إفتاء بما لم يقم عليه دليل شرعي و هو تشريع محرّم.

و لنذكر أمثلة:

1. انّ مقتضي قوله سبحانه:( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (1) ). (2)

هو قطع يد السارق من دون فرق بين عام الرخاء و المجاعة، لكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

2. يقول سبحانه:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (3) ). (4)

و قد نقل عن مالك بن أنس إخراج الأُم، الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن تُرضع ولدها.

يلاحظ عليه: بأنّ التفريق بين عام المجاعة و غيره، أو بين الأُمّهات، إن كان3.

ص: 79


1- سوره 5 - آيه 38
2- . المائدة:38.
3- سوره 2 - آيه 233
4- . البقرة:233.

مستنداً إلي دليل شرعي لا أقلّ من انصراف الدليل عن عام المجاعة، أو الأُم الرفيعة المنزلة فهو، و إلاّ فلا وجه لصرف الحكم عنهما، لأنّ ذمّة المجتهد رهن إطلاق الدليل الأوّل فلا يجوز له العدول عن مقتضي دليله إلي حكم آخر بمجرّد الاستحسان و موافقته لطبعه، بل لا بدّ من دليل شرعي يعتمد عليه في العدول، و علي ضوء ذلك فالعدول لو كان مستنداً إلي دليل شرعي فهو عدول من حجّة إلي حجّة أقوي، سواء استحسنه الطبع أم لا، و إن لم يكن كذلك فهو تشريع محرّم.

و بذلك يظهر أنّ الاستحسان بما هو استحسان ليس له قيمة في مجال الإفتاء، بل الاعتبار بالدليل، فلو كان هناك دليل للعدول فالمنكر و المثبت أمامه سواء، و إن لم يكن فلا وجه للعدول.

و لأجل ذلك نري أنّ بعض المتأخرين من أهل السنّة فسّره بوجه ثالث، و قال: هو العدول عن حكم اقتضاه دليل شرعي في واقعة إلي حكم آخر فيها، لدليل شرعي اقتضي هذا العدول، و هذا الدليل الشرعي المقتضي للعدول هو سند الاستحسان. (1)

أقول: إذا كان ثمة دليل معتبر علي العدول فلا عبرة بالاستحسان حتي يكون الدليل سنداً و عماداً له.

و يكون استخدام لفظ»الاستحسان« في المقام غير صحيح، لأنّ الفقيه إمّا يعتمد علي دليل شرعي، فالحجّة هو الدليل سواء استحسنه المجتهد أم لا، و إلاّ فلا قيمة له بمجرد أنّ الفقيه يميل إليه بطبعه.1.

ص: 80


1- . عبد الوهاب الخلاف: مصادر التشريع الإسلامي: 71.
3. الاستصلاح أو المصالح المرسلة

المصالح المرسلة:عبارة عن تشريع الحكم في واقعة لا نصّ فيها، و لا إجماع، وفقَ مصلحة مرسلة لم يدلّ دليل علي اعتبارها و لا علي عدم اعتبارها، و في الوقت نفسه في اعتبارها جلب نفع أو دفع ضرر.

فقد ذهب مالك و آخرون تبعاً له إلي أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه و لا إجماع، و لكنّ الشافعي و من تبعه ذهبوا إلي أنّه لا استنباط و لا استصلاح، و من استصلح فقد شرّع.

و قد استدل عليها بما يلي:

إنّ الحياة في تطوّر مستمر و مصالح الناس تتجدّد و تتغيّر في كل زمن. فلو لمتشرّع الأحكام المناسبة لتلك المصالح لوقع الناس في حرج، و تعطّلت مصالحهم في مختلف الأزمنة و الأمكنة، و وقف التشريع عن مسايرة الزمن و مراعاة المصالح و التطورات، و هذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس و تحقيقها. (1)

و قد اشترط الإمام مالك فيها شروطاً ثلاثة:

1. أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع و لا دليلاً من أدلّته.

2. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم، أو دافعة ضرراً عنهم.

3. أن لا تمسَّ العبادات، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معني علي هذا التفسير. (2)

ص: 81


1- . الوجيز في أُصول الفقه: 94 لابن وهبة.
2- . الدكتور أحمد شلبي: تاريخ التشريع الإسلامي: 173172.

فلنذكر عدّة أمثلة:

1. ما روي انّ عمر منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ما كانوا يأخذونه في عهد الرسول بعد ما قوي الإسلام.

2. تجديد عثمان أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون، و لم يكف الأذان بين يدي الخطيب و إعلامهم.

3. اشتراط سن معيّنة للمباشرة عند الزواج.

4. انشاء الدواوين و سَكِّ النقود.

أقول: إنّ الإمعان في الدليل يثبت بأنّ اللجوء إلي قاعدة الاستصلاح لأجل أمرين:

1. إعواز النصوص في المسائل الفرعية المستجدة ذات المصالح. فلم يجدوا بُدّاً من تشريع الحكم علي وفقها.

و معني هذا أنّهم وجدوا التشريع الإسلامي الموروث من النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)غير واف بحاجات الناس المستجدة، لأنّ الحاجات كثيرة و المصادر قليلة، و لا يفي القليل بالكثير.

2. أنّهم أعطوا لأنفسهم حقّ التشريع في تلك المواضع.

و كلا الأمرين لا يوافقان روح الإسلام لتصريحه بكمال الدين، و كماله رمز كمال تشريعه، فكيف لا يكون التشريع الموروث عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)وافياً بالمقصود مع أنّه سبحانه قال:( اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (1) )؟! (2)كما أنّ حقّ التشريع مختص باللّه سبحانه لم يفوِّضه لأحد ، و قد بيّنه بقوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ (3):3

ص: 82


1- سوره 5 - آيه 3
2- . المائدة:3
3- سوره 12 - آيه 40

لا يَعْلَمُونَ (1) ). (2)

و النظر الحاسم في المقام هو: إنّ استخدام المصالح المرسلة في مجال الإفتاء يتصوّر علي وجوه:

الأوّل: الأخذ بالمصلحة و ترك النصّ بالمصلحة المزعومة، و هذا نظير إمضاء الطلاق ثلاثاً، ثلاثاً.

روي مسلم عن ابن عباس كان الطلاق علي عهد رسول اللّه و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناها عليهم، فأمضاه عليهم. (3)

لا شكّ أنّ الخليفة صدر في حكمه هذا عن مصلحة تخيّلها، و لكنّ هذا النوع من الاستصلاح رفض للنصّ في موردها، و هو تشريع محرّم.

و علي هذا نهي الخليفة عن متعة الحج و متعة النساء، و الحيعلة في الأذان.

الثاني: إذا كان الحكم علي وفق الاستصلاح مخالفاً لإطلاق الدليل كما هو الحال في منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم، فإنّ مقتضي إطلاق الآية كونهم من مصارف الزكاة، سواء أ كان للإسلام قوّة أم لا، فتخصيص الحكم بحالة ضعف الإسلام تقديم للرأي علي إطلاق الكتاب، و قد مرّ عن الإمام مالك أنّ من شرائط العمل بالاستصلاح عدم مخالفته لإطلاق أُصول الشرع.

الثالث: أن يكون الحكم علي وفق المصلحة مستلزماً لإدخال ما ليس من الدين في الدين، فيكون تشريعاً محرّماً بالأدلّة الأربعة، و قد عرفت أنّ من الشرائط1.

ص: 83


1- سوره 12 - آيه 40
2- . يوسف:40.
3- . صحيح مسلم:4/183، باب الطلاق الثلاث، الحديث 1.

التي اعتبرها مالك بن أنس أن لا تمس المصالح المرسلة العبادات، لأنّ أغلبها توقيفية، و علي هذا يكون الأذان الثاني أو الثالث بدعة محرّمة.

و أمّا المصلحة المزعومة من عدم كفاية الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم فلا يكون مسوّغاً لتشريع أذان آخر، و إنّما يتوصل إليه بأمر آخر.

الرابع: أن يكون المورد ممّا ترك أمره إلي الحاكم الإسلامي، و لم يكن للإسلام فيه حكم خاص، و هذا كتجنيد الجنود و إعداد السلاح و حماية البلاد، فإنّ القانون هو ما ورد من قوله سبحانه:( وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (1) ). (2)

و أمّا تطبيق هذا القانون الكلّي فهو رهن المصالح، فللحاكم تطبيق القانون الكلّي علي حسب المصالح، و هذا كتدوين الدواوين، و سك النقود، فإنّ الحكم الشرعي فيها هو حفظ مصالح المسلمين و صيانة بلادهم من كيد الأعداء.

و علي هذا فالاستصلاح أو المصالح المرسلة تتحدّد بهذا القسم دون سائر الأقسام.

الخامس: تشريع الحكم حسب المصالح و المفاسد العامّة، فلو افترضنا أنّ موضوعاً مستجداً لم يكن له نظير في عصر النبي و الأئمّة المعصومين، و فيه مصلحة عامة للمجتمع، كالتلقيح للوقاية من الجدريّ أو مفسدة لهم، كالمخدّرات القتّالة فالعقل يحكم بارتكاب الأُولي و الاجتناب عن الثانية فيمكن أن يكون الاستصلاح منشأ لكشف العقل عن حكم شرعي من دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع.

و بذلك يظهر أنّ الاستصلاح لا يكون سبباً للتشريع، و إنّما العقل ببركة تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد القطعيّة، يكشف عن الحكم الشرعي.0.

ص: 84


1- سوره 8 - آيه 60
2- . الأنفال:60.
4. سد الذرائع

الذرائع جمع ذريعة بمعني الوسيلة، فقد تطلق و يراد منها مقدّمة الشيء، أعني ما يتوقف عليه وجوده، من غير فرق بين أن يكون واجباً كالوضوء بالنسبة إلي الصلاة أو حراماً كالمشي إلي النميمة أو استماع الغيبة.

و قد تطلق و يراد منها ما يفضي إلي الحرام، و إن لم يكن وجود الشيء متوقفاً عليه كضرب المرأة برجلها ذات الخلاخيل فإنّه ذريعة للافتتان بها، فإنّ الضرب بالأرجل في هذه الحالة يُفضي إلي الافتتان و إن كان الافتتان لا يتوقف علي الضرب بالأرجل.

و علي هذا، فحكم الذرائع بالإطلاق الاوّل تابع لحكم ذي الذريعة، فلو كانت ذريعة للواجب أو المستحب أو الحرام توصف بحكمه علي القول بالملازمة بين وجوب الشيء أو حرمته و بين وجوب مقدمته أو حرمته.و يكون سدّ الذرائع عنواناً آخر لحكم المقدمة الذي يبحث عنه في الأُصول.

كما أنّ الذريعة بالاطلاق الثاني تدخل في الإعانة علي الإثم و تكون محكومة بحكمها، يقول سبحانه:

( وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ (1) ). (2)

و بذلك تبيّن انّه ليس سدّ الذرائع مصدراً فقهيّاً مستقلاً بل هو داخل في أحد العنوانين(حرمة مقدّمة الحرام، أو حرمة الإعانة بالإثم).

و قد أكثرت المالكية و الحنابلة من إعماله خلافاً للحنفية حيث حلّ فتح الذرائع مكانها كما سيوافيك.

ص: 85


1- سوره 6 - آيه 108
2- . الأنعام:108.
5. فتح الذرائع(لحيل)

إنّ فتح الذرائع من أُصول الحنفية كما أنّ سد الذرائع من أُصول المالكية، و قد صارت هذه القاعدة مثاراً للنزاع و سبباً في الطعن بالحنفية حيث إنّ نتيجة التحيّل، إبطال مقاصد الشريعة.

و من أكثر الناس ردّاً للحيل، الحنابلة ثمّ المالكية، لأنّهم يقولون بسدِّ الذرائع، و هو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة.

إنّ إعمال الحيل علي أقسام:

الأوّل: أن يكون التوصل بها منصوصاً في الكتاب و السنّة فليس المكلّف هو الذي يتحيّلها، بل الشارع رخّص في الخروج عن المضائق بطريق خاص، كتجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار، و قال:( وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلي سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) ). (2)

الثاني: إذا كان هناك أمر واحد له طريقان أحلّ الشارع أحدهما و حرّم الآخر، فلو سلك الحلال لا يعد ذلك تمسّكاً بالحيلة، لأنّه اتخذ سبيلاً حلالاً إلي أمر حلال، و ذلك كمبادلة المكيل و الموزون من المثلين، فلو بادل التمر الرديء بالجيد متفاضلاً عُدّ رباً محرماً، دون ما يباع كل علي حدة، فالنتيجة واحدة و لكن السلوك مختلف.

الثالث: إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً، فالتوصّل بمثله

ص: 86


1- سوره 2 - آيه 185
2- . البقرة:185.

محرم غير ناتج، و ذلك كالمثال الذي نقله البخاري عن أبي حنيفة و قال: في مسألة »إذا غصب جارية فزعم انّها ماتت« فحكم القاضي في المفروض بقيمة الجارية الميّتة، ثمّ وجدها صاحبها، فالجارية لصاحبها و ترد القيمة و لا تكون القيمة ثمناً.

ثمّ أضاف البخاري و قال: قال بعض الناس يريد أبا حنيفة »الجارية للغاصب لأخذه القيمة«.

ثمّ إنّ البخاري ردّ عليه بقوله:»و في هذا احتيال لمن اشتهي جارية رجل لا يبيعها فغصبها، و اعتلَّ بأنّها ماتت حتي يأخذ ربُّها قيمتها، فيطيب للغاصب جارية غيره، ثمّ رد علي أبي حنيفة، بقوله: قال النبي (صلي الله عليه و آله و سلم):»أموالكم عليكم حرام و لكل غادر لواء يوم القيامة«. (1)

و هذا النوع من الاحتيال حرام، لأنّ السبب الأصلي في كلام أبي حنيفة(زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها، كما أنّ إخبار الغاصب بموت الجارية جازماً أو عالماً بالخلاف(السبب الفرعي في كلام البخاري) لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها و خروج قيمتها عن ملك الغاصب، فعدم جواز التحيّل يرجع إلي أنّ السبب غير مؤثر.

الرابع: إذا كانت الوسيلة حلالاً، و لكن الغاية هي الوصول إلي الحرام علي نحو لا تتعلّق إرادته الجدية إلاّ بالمحرّم، و لو تعلّقت بالسبب فإنّما تعلّقت به صورياً لا جدياً، كما إذا باع ما يساوي عشرة بثمانية نقداً ثمّ اشتراه بعشرة نسيئة إلي أربعة أشهر، فمن المعلوم أنّ الإرادة الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية و دفع عشرة و حيث إنّه رباً محرّم احتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما، فيكون فتح هذه الذريعة أمراً محرّماً، و هذا ما يسمّي ببيوع الآجال، و قد أشار سبحانه إليه.

ص: 87


1- . البخاري: الصحيح: 9/32، كتاب الإكراه.

هذا النوع من فتح الذرائع بقوله سبحانه:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (1) ) (2). (3)

6. قول الصحابي

تَعدّ المذاهب غير المذهب الحنفي قولَ الصحابي من مصادر التشريع إجمالاً، و التحقيق انّ لقول الصحابي صوراً يختلف حكمها باختلاف الصور:

1. لو نقل قول الرسول و سنّته يؤخذ به إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية.

2. لو نقل قولاً و لم يسنده إلي الرسول و دلّت القرائن علي أنّه نقل قول لا نقل رأي، فهو يعدّ في مصطلح أهل الحديث من الموقوف للوقف علي الصحابي من دون إسناد إلي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)فليس حجّة لعدم العلم بكونه قول الرسول.

3. إذا كان للصحابي رأي في مسألة و لم يقع موقع الإجماع إمّا لقلّة الابتلاء، أو لوجود المخالف، فهو حجّة لنفس الصحابي المستنبِط و لمقلّديه إذا كان مفتياً و قلنا بجواز تقليد الميت، و ليس بحجّة للمجتهد الآخر.

نعم ذهب مالك و بعض الأحناف إلي حجّيته ، و اختار الإمام الرازي و الأشاعرة و المعتزلة عدم كونه حجّة، و ثمة كلمة قيمة للشوكاني(المتوفّي1255 ه) ننقلها بنصّها قال: و الحقّ انّه رأي الصحابي ليس بحجّة، فإنّ اللّه لم يبعث إلي هذه الأُمّة إلاّ نبينا محمّداً(صلي الله عليه و آله و سلم)و ليس لنا إلاّ رسول واحد و كتاب واحد و جميع الأُمّة

ص: 88


1- سوره 7 - آيه 163
2- . الأعراف:163.
3- . مجمع البيان:2/490، ط صيدا. و اقرأ سبب نزولها فيه.

مأمورة باتّباع كتابه و سنّة نبيه، و لا فرق بين الصحابة و من بعدهم في ذلك، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية و باتباع الكتاب و السنّة، فمن قال: إنّها تقوم الحجّة في دين اللّه عزّ و جلّ بعد كتاب اللّه تعالي و سنّة رسوله(صلي الله عليه و آله و سلم)و ما يرجع إليها، فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت. (1)

و هناك حقيقة مرّة و هي أنّ حذف قول الصحابي من الفقه السنّي الذي يعد الحجر الأساس للبناء الفقهيّ علي صعيد التشريع، يوجب انهيار صَرْحِ البناء الذي أُشيد عليه و بالتالي انهيار القسم الأعظم من فتاواهم، و لو حلَّ محلّها فتاوي أُخري ربما استتبع فقهاً جديداً لا أنس لهم به.

7. إجماع أهل المدينة

ذهب مالك إلي حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً: بأنّ أهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل، فالحق لا يخرج عمّا يذهبون إليه، فيكون عملهم حجّة يقدم علي القياس و خبر الواحد، و قد أفتي بمسائل نظراً لاتفاق أهل المدينة عليها.نظير الجمع بين الصلاتين ليلة المطر، و القضاء بشهادة واحد و يمين صاحب الحق، و الاسهام في الجهاد لفرس أو لفرسين (2) ;و قد ردّ عليه معاصره الليث بن سعد في رسالة مبسّطة.

لكن القول الحاسم: إنّ اتّفاق أهل المدينة لو كان ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فيؤخذ به، و إلاّ فلا يكون حجّة، و مثله اتّفاق المصرين الكوفة

ص: 89


1- . إرشاد الفحول:214.
2- . اعلام الموقعين:3/94 100، طبع دار الفكر.

و البصرة و إلاّ فلا قيمة لاتفاق فئة ليسوا بمعصومين.

و كان علي الإمام مالك أن يعدَّ اتّفاق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)أحد الحجج، مكان عدّ إجماع أهل المدينة منها، لأنّهم معصومون بنصِّ الكتاب و تصريح صاحب الرسالة.

هذه هي الأمارات التي عدّها فقهاء أهل السنّة حججاً شرعيّة، و قد تجلّت الحقيقة، و اتضح الحق و ليس وراءه شيء.

ص: 90

المقصد السابع: في الأُصول العملية (البراءة، التخيير الاشتغال، و الاستصحاب)

اشارة

ص: 91

ص: 92

الأُصول العملية إنّ المكلّف الملتفت إلي الحكم الشرعي تحصل له إحدي حالات ثلاث:

1. القطع، 2. الظن، 3. الشك.

فإن حصل له القطع فقد فرغنا عن حكمه في بابه، و انّه حجّة عقلية لا مناص من العمل علي وفقه، و إن حصل له الظن فالأصل فيه عدم الحجّية إلاّ إذا دلّ الدليل القطعي علي صحّة العمل به.

و إن حصل له الشكّ يجب عليه العمل وفق القواعد التي قررها العقل و النقل للشاك. (1)

ثمّ إنّ المستنبط إنّما ينتهي إلي تلك القواعد التي تسمي ب»الأُصول العملية« إذا لم يكن هناك دليل قطعي، كالخبر المتواتر، أو دليل علمي كالظنون المعتبرة التي دلّ علي حجّيتها الدليل القطعي و تسمّي بالأمارات و الأدلّةك.

ص: 93


1- . انّ تقسيم حال المكلّف الملتفت إلي الحكم الشرعيّ إلي حالات ثلاث، تقسيم طبيعيّ، و لا يختص التقسيم الثلاثي بمورد التكليف بل كلّ موضوع وقع في أُفق الالتفات، فهو بين إحدي حالات ثلاث فمن قال بأنّ للمكلّف الملتفت إلي الحكم الشرعي إحدي حالات ثلاث فقد انطلق من هذا المنطَلق، و استلهم عن تلك القاعدة العامّة. فما أورده المحقّق الخراساني علي التقسيم الثلاثي، من »إرجاعه إلي الثنائي من انّ الظن بالحكم إن كان حجّة فهو ملحق بالقطع بالحكم(الظاهري) و إلاّ كان في حكم الشكّ، فليس هنا إلاّ القطع بالحكم أو الشكّ فيه« غفلة عن ملاك التقسيم الثلاثي و إن كان للثنائي منه أيضاً ملاك.

الاجتهادية، كما تسمّي الأُصول العملية، بالأدلة الفقاهية، و إلاّ فلا تصل النوبة إلي الأُصول مع وجود الدليل.

و بذلك تقف علي ترتيب الأدلّة في مقام الاستنباط، فالمفيد لليقين هو الدليل المقدّم علي كلّ دليل، و يعقبه الدليل الاجتهادي ثمّ الأصل العملي.

إنّ الأُصول العملية علي قسمين:

القسم الأوّل: ما يختصّ بباب دون باب، نظير:

أ: أصالة الطهارة المختصة بباب الطهارة و النجاسة.

ب: أصالة الحلّية المختصة بباب الشك في خصوص الحلال و الحرام.

ج: أصالة الصحة المختصة بعمل صدر عن المكلّف و شُكّ في صحّته و فساده، سواء أ كان الشكّ في عمل نفس المكلّف فيسمّي بقاعدة التجاوز و الفراغ، أو في فعل الغير فيسمّي بأصالة الصحّة.

القسم الثاني: ما يجري في عامة الأبواب الفقهية كافة و هي حسب الاستقراء أربعة:

الأوّل: البراءة.

الثاني: التخيير.

الثالث:الاشتغال.

الرابع: الاستصحاب.

فهذه أُصول عامّة جارية في جميع أبواب الفقه، إنّما الكلام في تعيين مجاريها و تحديد مجري كلّ أصل متميّزاً عن مجري أصل آخر، و هذا هو المهم في المقام، و قد اختلفت كلمتهم في تحديد مجاريها و الصحيح ما يلي:

ص: 94

تحديد مجاري الأُصول

إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو لا يكون. فالأوّل مورد الاستصحاب; و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً، أو لا; و الثاني مورد التخيير، و الأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي علي ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا; و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة. (1)

و علي ذلك فقد عُيِّن مجري كلّ أصل بالنحو التالي:

أ. مجري الاستصحاب: أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

ب. مجري التخيير: أن لا تكون الحالة السابقة ملحوظة و كان الاحتياط غير ممكن.

ج. مجري الاشتغال: إذا أمكن الاحتياط و نهض دليل علي العقاب لو خالف.

د. مجري البراءة: إذا أمكن الاحتياط و لم ينهض دليل علي العقاب بل علي عدمه من العقل، كقبح العقاب بلا بيان، أو من الشرع كحديث الرفع.

و مما ذكرنا يُعلم أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في التكليف مجري البراءة غير تام بل مجري البراءة عمّا لم ينهض فيه دليل علي العقاب في صورة وجود التكليف، و إلاّ يجب الاحتياط و إن كان الشكّ في التكليف كما في الشكّ فيه قبل الفحص فيجب الاحتياط مع كون الشكّ في التكليف.

كما أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في المكلّف به الذي هو عبارة عمّا إذا علم نوع التكليف مع تردد المكلّف به بين أمرين، كالعلم بوجوب إحدي

ص: 95


1- . انّ للشيخ في أوّل رسالة القطع تقريرين مختلفين في تحديد مجاري الأُصول، و قد عدل عنهما في أوّل رسالة البراءة إلي تقرير ثالث و هو الذي أوردناه في المقام لإتقانه.

الصلاتين مجري الاحتياط غير تام بل مجري الاشتغال هو ما إذا أمكن الاحتياط و نهض دليل علي العقاب لو خالف و إن كان نوع التكليف مجهولاً كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، فالعلم بالالزام أي الجنس الجامع بين الوجوب و الحرمة موجب للاحتياط لوجود الدليل علي العقاب و إن كان نوع التكليف مجهولاً.

و الحاصل انّ ما ذكرنا من الميزان لمجري البراءة و الاشتغال أولي من جعل الشكّ في التكليف مجري البراءة و الشكّ في المكلّف به مجري الاشتغال.

هذه هي الأُصول العملية الأربعة و هذه مجاريها علي النحو الدقيق، و إليك البحث في كلّ من هذه

الأُصول العملية الأربعة

اشارة

واحداً تلو الآخر.

ص: 96

الأصل الأوّل: أصالة البراءة

اشارة

عقد الشيخ الأعظم لمبحث البراءة فصولاً ثلاثة باعتبار انّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو مشتبهة بينهما، فهذه مطالب ثلاثة.

ثمّ عقد لكلّ فصل مسائل أربع و ذلك، لأنّ منشأ الشكّ في الجميع أحد الأُمور الأربعة.

فقدان النصّ، أو إجماله، أو تعارض النّصين، أو خلط الأُمور الخارجية، و علي ضوء ذلك فباب البراءة مشتمل علي مطالب ثلاثة في اثنتي عشرة مسألة، و بذلك طال كلامه في المقام.

و أمّا ما هو السبب لعقد الفصول الثلاثة علي حدة فهو يرجع إلي أمرين:

أ: اختصاص النزاع بين الأُصولي و الأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية و دون الموضوعية منها، و دون دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة.

ب: اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية و لا تعم الوجوبية و الموضوعية، مثل قوله: »كلّ شيء مطلق حتي يرد فيه نهي«.

لكنّ المحقّق الخراساني أدخل جميع المسائل تحت عنوان واحد و بحث عن الجميع بصفقة واحدة»و هو من لم يقم عنده حجّة علي واحد من الوجوب و الحرمة و كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية« و لكلّ من السلوكين وجه.

و بما انّا اقتفينا أثر الشيخ الأعظم في الموجز، نمسك عن الاطالة و نعقد

ص: 97

للجميع عنواناً واحداً فنقول:

دلّت الأدلة علي أنّ الوظيفة العملية فيما إذا أمكن الاحتياط و لكن لم ينهض دليل علي العقاب حسب تعبيرنا أو إذا كان الشكّ في التكليف حسب تعبير المشهور هو البراءة و عدم وجوب الاحتياط، فلنذكر ما هو المهم

من الأدلة
اشارة

روماً للاختصار:

الاستدلال بالكتاب
1. التعذيب فرع البيان

دلّت آيات الذكر الحكيم علي أنّه سبحانه لا يعذِّب قوماً علي تكليف إلاّ بعد بعث الرسول الذي هو كناية عن بيان التكليف، و قد تواتر ذلك المضمون في الآيات الكريمة نذكر منها ما يلي:

1. قال سبحانه:( مَنِ اهْتَدي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1) ). (2)

2. و قال تعالي:( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُري حَتّي يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي الْقُري إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (3) ). (4)

و الاستدلال بالآيتين مبني علي أمرين:

الأوّل: انّ صيغة »و ما كنّا « أو »ما كان« تستعمل في إحدي معنيين: إمّا نفي الشأن و الصلاحية لقوله تعالي:( وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (5) ) (6) ، أو نفي الإمكان كقوله تعالي:

( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ (7)

ص: 98


1- سوره 17 - آيه 15
2- . الإسراء:15.
3- سوره 28 - آيه 59
4- . القصص:59.
5- سوره 2 - آيه 143
6- . البقرة:8143
7- سوره 3 - آيه 145

بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً (1) ). (2)

الثاني: انّ بعث الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)كناية عن إتمام الحجّة علي الناس، و بما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان و الإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول، و إلاّ يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط و حصول الغاية المنشودة.

و علي ضوء ذلك فلو لم يبعث الرسول بتاتاً، أو بعث و لم يتوفق لبيان الأحكام أبداً، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه و بين بعض الناس، لقبح العقاب إلاّ في الواصل من التكليف، و ذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجة.

و المكلف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط، ينطبق عليه قوله سبحانه:( وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (3) )أي نُبيّن الحكم و الوظيفة.

و لأجل ذلك نري أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية علي وجود المنذر و يقول:( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ (4) ). (5) هذا كلّه حول الآيتين الأُوليين.

3. و قال سبحانه:( وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزي (6) ). (7)

4. و قال سبحانه:( وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (8) ). (9)

و الاستدلال بهما مبني علي أنّه سبحانه استصوب منطق المجرمين ، و هو7.

ص: 99


1- سوره 3 - آيه 145
2- . آل عمران:145.
3- سوره 17 - آيه 15
4- سوره 26 - آيه 208
5- . الشعراء:208.
6- سوره 20 - آيه 134
7- . طه:134.
8- سوره 28 - آيه 47
9- . القصص:47.

انّ التعذيب قبل البيان قبيح، فأرسل الرسل لإفحام المشركين و دحض حجتهم يوم القيامة، فلو كان منطقهم عند عدم البيان منطقاً، زائفاً كان عليه سبحانه نقض منطقهم ببيان انّ التعذيب صحيح مطلقاً مع أنّا نري أنّه سبحانه استصوبه و أرسل الرسل لإتمام الحجّة.

2. الإضلال فرع البيان

قال سبحانه:( وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1) ). (2)

وجه الاستدلال: انّ التعذيب من آثار الضلالة، و الضلالة معلَّقة علي البيان في الآية، فيكون التعذيب معلَّقاً عليه، فينتج انّه سبحانه لا يعاقب إلاّ بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

فإن قلت: ما هو المراد من إضلاله سبحانه، فانّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلي اللّه سبحانه؟ قلت: انّ الإضلال يقابل الهداية، و هي علي قسمين، فيكون الإضلال أيضاً مثلها.

توضيحه: انّ للّه سبحانه هدايتين:

هداية عامّة تعم جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتي الجبابرة و الفراعنة، و هي تتحقق ببعث الرسل و إنزال الكتب و دعوة العلماء إلي بيان الحقائق، مضافاً إلي العقل الذي هو رسول باطني، و إلي الفطرة التي تسوق الإنسان إلي فعل الخير.

هداية خاصّة و هي تختص بمن استفاد من الهداية الأُولي، فعندئذ تشمله

ص: 100


1- سوره 9 - آيه 115
2- . التوبة:115.

الألطاف الإلهية الخفية التي نعبر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلي المطلوب.

قال سبحانه:( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُديً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (1) ). (2)

و قال تعالي:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (3) ). (4)

و أمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولي، فلا يكون مستحقاً للهداية الثانية، فيضلّ بسبب سوء عمله، فإضلاله سبحانه، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض من الاستضاءة بالهداية الأُولي.

قال سبحانه:( فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) ) (6) فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغهم و إعراضهم و كِبْرهم و تولّيهم عن الحقّ.

و بذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلي اللّه سبحانه فالمراد هو قبض الفيض لأجل تقصير العبد لعدم استفادته من الهداية الأُولي فيصدق عليه انّه أضلّه اللّه سبحانه. قال سبحانه:( إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ (7) ) (8) أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب(لم يهتد بالهداية الأُولي فأسرف و كذّب) فاستحق قبض الفيض و عدم شمول الهداية الخاصة له.

و في آية أُخري( كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (9) ) (10) فقوله: »يضلّ« في هذه الآية هو نفس قوله: »لا يهدي القوم الفاسقين« في الآية السابقة فكلاهما يرميان إلي معني واحد و هو عدم الهداية لقبض الفيض لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه و كذبه و ارتيابه.

إلي هنا تمّ الاستدلال بالآيات و هناك آيات أُخر تركنا البحث فيها روماً للاختصار.4.

ص: 101


1- سوره 47 - آيه 17
2- . محمد:17.
3- سوره 29 - آيه 69
4- . العنكبوت:69.
5- سوره 61 - آيه 5
6- . الصف:5.
7- سوره 40 - آيه 28
8- . غافر:28.
9- سوره 40 - آيه 34
10- . غافر:34.
الاستدلال بالسنّة
1. حديث الرفع
اشارة

روي الصدوق في »التوحيد« و»الخصال« عن أحمد بن محمد بن يحيي، عن سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسي، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »رفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخطأ، و النسيان، و ما أكرهوا عليه، و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة«. (1)

و رواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد اللّه(عليه السلام): »وضع عن أُمّتي تسع خصال:

الخطأ، و النسيان، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكّر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد«. (2)

و رواة الحديث الأُولي كلهم ثقات، و الرواية صحيحة.

و أمّا أحمد بن محمد بن يحيي، فهو و إن لم يوثق ظاهراً و لكن المشايخ أرفع من التوثيق فهو من مشايخ الصدوق فهو ثقة قطعاً.

نعم الرواية الثانية مرفوعة، مضافاً إلي انّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه، كما ذكره النجاشي في ترجمته.

و توضيح الاستدلال رهن بيان أُمور:

1. انّ الفرق بين الرفع و الدفع هو انّ الأوّل عبارة عن إزالة الشيء بعد

ص: 102


1- . الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2- . الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

وجوده و تحقّقه، كما أنّ الثاني عبارة عن المنع عن تقرر الشيء و تحقّقه بعد وجود مقتضيه، يقول سبحانه:( اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها (1) ) (2)، فكانت السماء و الأرض ملتصقتين فأزالها عن مكانها.

( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (3) ) (4)، أي ما له من شيء يمنع عن تحقّقه بعد تعلّق إرادته بالوقوع.

و علي ذلك فاستعمال الرفع في المقام لأجل تحقّق هذه الأُمور التسعة في صفحة الوجود، فتعلّق الرفع بها باعتبار كونها أُموراً متحقّقة.

نعم رفع هذه الأُمور التسعة بعد تحقّقها رفع ادّعائي باعتبار رفع آثارها، فتعلّقت الإرادة الاستعمالية برفع نفس هذه الأُمور التسعة المتحقّقة، و تعلّقت الإرادة الجدية برفع آثارها.

2. انّ نسبة الرفع إلي هذه التسعة مع وجودها يحتاج إلي مصحّح و مسوّغ و إلاّ يلزم الكذب، و ليس الحديث متفرداً في هذا الباب، بل له نظائر، مثل قوله: »لا ضرر و لا ضرار«، »لا طلاق إلاّ علي طهر« ، »لا رضاع بعد فطام«، »لا رهبانية في الإسلام« فمع أنّ هذه الأُمور التي دخلت عليها »لا« النافية، موجودة متحقّقة في صحيفة الوجود لكن الشارع أخبر عن عدمها و المصحح لهذا الإخبار هو سلب آثارها، مثلاً لا يترتب علي الرضاع بعد الفطام أثر الرضاعة و هكذا، و علي ذلك فيلزم تعيين ما هو الأثر المسلوب في هذه التسعة خصوصاً قوله:»ما لا يعلمون« و هذا هو المهم في المقام.

3. انّ لفظة »ما« في قوله:»ما لا يعلمون« موصولة تعمّ الحكم و الموضوع المجهولين، لوضوح انّه إذا جهل المكلّف بحكم التدخين، أو جهل بكون المائع7.

ص: 103


1- سوره 13 - آيه 2
2- . الرعد:2.
3- سوره 52 - آيه 7
4- . الطور:87.

الفلاني خلاً أو خمراً ، صدق علي كلّ منهما انّه من »ما لا يعلمون«، فيكون الحديث عاماً حجّة في الشبهة الحكمية و الموضوعية معاً.

و ربما يتصوّر أنّ الموصول مختص بالموضوع المجهول لا الحكم المجهول، بشهادة قوله(صلي الله عليه و آله و سلم)في الفقرات التي أعقبته، أعني: »و ما أُكرهوا عليه« و »ما لا يطيقون« و »ما اضطروا إليه«، فإنّ المراد هو الفعل المكرَه عليه، و العمل الخارج عن الإطاقة، و العمل المضطرّ إليه، فيلزم أن يكون المراد من الموصول في »ما لا يعلمون« هو العمل المجهول لا الحكم المجهول، فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية.

يلاحظ عليه: أنّ »ما« الموصولة استعملت في جميع الفقرات في المعني المبهم، لا في الحكم و لا في الموضوع، و إنّما يعلم السعة(شمولها للحكم و الموضوع المجهولين)، و الضيق(اختصاصها بالموضوع) من صلتها، و الصلة »فيما لا يعلمون« قابل للانطباق علي الموضوع و الحكم، دون سائر الفقرات، فإنّها لا تنطبق إلاّ علي الفعل، و لا يكون ذلك قرينة علي اختصاص الفقرة الأُولي بالشكّ في الموضوع.

أضف إلي ذلك: أنّ المرفوع في »الحسد« »و الطيرة« و »التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة« هو الحكم، أي حرمة الحسد و الطيرة، و أمّا النسيان و الخطأ المرفوعان في الحديث فيتعلّقان بالحكم و الموضوع معاً، فيصلحان لكلا الأمرين: نسيان الحكم أو الموضوع و مثله الخطأ.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ الرفع كما عرفت رفع تشريعي، و المراد منه رفع الموضوع بلحاظ رفع أثره، فحينئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر المسلوب الذي صار مصحِّحاً لنسبة الرفع إليها، فهنا أقوال ثلاثة:

1. المرفوع هو المؤاخذة.

ص: 104

2. المرفوع هو الأثر المناسب لكلّ واحد من تلك الفقرات، كالمضرّة في الطيرة، و الكفر في الوسوسة.

3. المرفوع هو جميع الآثار أو الآثار البارزة.

و الظاهر هو الأخير، لوجهين:

الأوّل: أنّه مقتضي الإطلاق و عدم التقييد بشيء من المؤاخذة و الأثر المناسب.

الثاني: أنّ فرض الشيء مرفوعاً في لوح التشريع ينصرف إلي خلوّه عن كلّ أثر و حكم، أو عن الآثار البارزة له. (1) فلو كان البعض مرفوعاً دون البعض، فلا يطلق عليه أنّه مرفوع.

و علي ذلك فالآثار كلّها مرفوعة سواء تعلّق الجهل بالحكم كما في الشبهة الحكمية، أو بالموضوع كما في الشبهة الموضوعية.

و إن شئت قلت: إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل أن يقول بأنّه مرفوع، و إلاّ فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر و وجوب جلد الشارب، أو الوضعية كالجزئية و الشرطية عند الجهل بحكم الجزء و الشرط أو نسيانهما و كالصحة في العقد المكره.

و يؤيد عموم الآثار ما رواه البرقي، عن صفوان بن يحيي و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً، عن أبي الحسن(عليه السلام)في الرجل يُستكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: »لا، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): وضع عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا«. (2)ن.

ص: 105


1- . كما في قول الإمام علي(عليه السلام): »يا أشباه الرجال و لا رجال« هذا إذا كان الأثر منقسماً إلي بارز و غيره، و أمّا إذا كان الجميع علي حد سواء، فالمرفوع هو جميع الآثار كما في المقام.
2- . الوسائل:16، الباب 12من أبواب الأيمان، الحديث 12، نقلاً عن المحاسن.

و قد تمسّك الإمام بالحديث علي بطلان الطلاق و رفع الصحة، فيكشف عن أنّ الموضوع أعم من المؤاخذة و الحكم التكليفي و الوضعي.

تنبيه

المراد من الآثار الموضوعة، هي الآثار المترتبة علي المعنون، أي ما تعلّق بالنسيان أو الخطاء أو الجهل، لا آثار هذه العنوانات مثلاً دلّ الدليل الاجتهادي علي وجوب سورة تامّة في الصلوات الواجبة كما في قوله(عليه السلام)»لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة و لا بأكثر«. (1) و اطلاقه يعم حالتي الذكر و النسيان فالوجوب الضمني ثابت في الحالتين مع قطع النظر عن حديث الرفع و أمّا معه فهو حاكم عليه، حيث يرفع وجوبها في حالة النسيان، و يخصّه بحالة الذكر.

و أمّا ما دلّ علي وجوب سجدتي السهو عند نسيان الجزء كما في قوله(عليه السلام):»تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة و نقصان تدخل عليك أو نقصان« (2) فهو غير مرفوع لأنه أثر نفس النسيان، لا أثر المنسيّ أعني وجوب السورة.

و مثله إذا قتل إنساناً خطأ، فالمرفوع هو أثر القتل أعني القصاص الوارد في قوله سبحانه:( وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (3) ) (4) الشامل اطلاقه حالتي العمد و الخطأ.

و أمّا الأثر المترتّب علي عنوان الخطأ كالدية الّتي دلّ عليها قوله سبحانه:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلي أَهْلِهِ« (5) ) (6) فهي غَيْرُ مرفوعة.

ص: 106


1- . الوسائل: 5، الباب 32 من أبواب الخلل، الحديث 3.
2- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 2.
3- سوره 5 - آيه 45
4- . مائدة: 45.
5- سوره 4 - آيه 92
6- . النساء: 92.
2. مرسلة الصدوق

روي الصدوق مرسلاً في »الفقيه« و قال: قال الصادق(عليه السلام): »كلّ شيء مطلق حتّي يرد فيه نهي«. (1)

و الحديث و إن كان مرسلاً، و لكن الصدوق يُسنده إلي الإمام الصادق(عليه السلام)بصورة جازمة، و يقول: قال الصادق(عليه السلام)، و هذا يعرب عن يقينه بصدور الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، نعم لو قال رُوي عن الإمام الصادق(عليه السلام)كان الاعتماد علي مثله مشكلاً.

أمّا كيفية الاستدلال: فقد دلّ الحديث علي أنّ الأصل في كلّ شيء هو الإطلاق و الإرسال حتي يرد فيه النهي بعنوانه، فإنّ الضمير في قوله: »يرد فيه« يرجع إلي الشيء بما هو هو، كأن يقول: الخمر حرام، أو الرشوة حرام، فما لم يرد النهي عن الشيء بعنوانه يكون محكوماً بالإطلاق و الإرسال، و بما أنّ التدخين لم يرد فيه النهي بعنوانه الأوّلي فهو مطلق، و علي هذا فلا يكفي في رفع الإطلاق ورود النهي بعنوانه الثانوي كأن يقول: إذا شككت فاحتط، بل هو باق علي إطلاقه حتي يرد النهي فيه بالعنوان الأوّلي، فتكون الشبهات البدوية التي لم يرد النهي فيها بعنوانها الأوّلي محكومة بالإطلاق و الحليّة.

و علي هذا لو تمّ دليل الأخباري بورود النهي عن ارتكاب الشبهات التحريمية بالعنوان الثانوي(الشبهة) وقع التعارض بينه و بين دليله.

نعم لو قلنا بأنّ المراد من قوله»حتي يرد فيه نهي« هو الأعم من ورود النهي بعنوانه الأوّلي أو بعنوانه الثانوي، يكون دليل الأخباري مقدّماً عليه، لأنّ الإطلاق في المقام معلّق علي عدم ورود النهي مطلقاً، لا بالعنوان الأوّلي و لا الثانوي، و الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوانه الثانوي و حصول المعلّق عليه.

ص: 107


1- . الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.

و لكن تفسير الحديث بهذا النحو الأعم خلاف الظاهر،لأنّ ظاهر قوله:»حتي يرد فيه« أي يرد النهي في نفس الشيء بما هو هو.

إلي هنا تمّ الاستدلال علي البراءة بالكتاب العزيز و السنّة المطهّرة، بقي الكلام في الاستدلال عليها بالعقل .

الاستدلال بحكم العقل
اشارة

استدلّ القائل بالبراءة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلي المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفتُه من الفحص عن حكم الشبهة و اليأس عن الظفر به في مظانّه، و انّ وجود التكليف في الواقع مع عدم وصوله إلي المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب، و انّ وجوده بلا وصول إلي المكلّف كعدمه في عدم ترتب الأثر، و ذلك لأنّ فوت المراد مستند إلي المولي في كلتا الصورتين التاليتين:

1. ما إذا لم يكن هناك بيان أصلاً فحاله معلوم.

2. ما إذا كان هناك بيان صادر من المولي لكنّه غير واصل إلي العبد، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إلي المولي إذ في وسعه إيجاب الاحتياط علي العبد، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف، و مع تركه يكون ترك المراد مستنداً إلي المولي و ذلك لانّه اقتصر في طلب المقصود، بالحكم علي الموضوع بالعنوان الواقعي، و لو كان مريداً للتكليف حتي في ظرف الشك فيه و عدم الظفر به بعد الفحص، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفّظ، و مع عدمه يحكم العقل بالبراءة و انّ العقاب قبيح، و يشكَّل قياساً بالشكل التالي:

العقاب علي محتمل التكليف بعد الفحص التام و عدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي عقاب بلا بيان.

و العقاب بلا بيان مطلقاً أمر قبيح.

ص: 108

فينتج انّ العقاب علي محتمل التكليف أمر قبيح.

الإشكال علي كبري البرهان

ثمّ إنّ السيد الشهيد الصدر قدِّس سرُّه استشكل علي كبري هذا البرهان و أنكر قبح العقاب بلا بيان بتأسيس مسلك »حق الطاعة للّه سبحانه«، فقال:

و الذي ندركه بعقولنا انّ مولانا سبحانه و تعالي، له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال، ما لم يرخص هو نفسه في عدم التحفّظ.

و علي ذلك فليست منجّزية القطع ثابتة له بما هو قطع بل بما هو انكشاف و انّ أيّ انكشاف، منجِّز، مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به.

نعم كلما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة و قبح المخالفة أشد، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشدّ من التنجز و الإدانة، لأنّها المرتبة العليا من الانكشاف، و بهذا يظهر انّ القطع لا يتميز عن الظن و الاحتمال في أصل المنجزية، و إنّما يتميز عنهما في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية(بأن يرخص علي خلاف ما قطع) لانّ الترخيص في مورده مستحيل، و ليس كذلك في حالات الظن و الاحتمال، فانّ الترخيص الظاهري فيها ممكن لأنّه لا يتطلب أكثر من فرض الشك و الشكّ موجود.

و من هنا صحّ أن يقال بأنّ منجزية القطع غير معلقة بل ثابتة علي الإطلاق و انّ منجزية غيره من الظن و الاحتمال معلقة لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ. (1)

ص: 109


1- . دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية:32 33.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ القول بأنّ احتمال التكليف منجِّز للواقع عند العقل و إن لم يستوف المولي البيان الممكن غير تام، و ذلك لأنّ الاعتمادَ في التعذيب و المؤاخذة علي مثل هذا الحكم العقلي، إنّما يصحّ إذا كان ذلك الحكم من الأحكام العقلية الواضحة لدي العقلاء حتي يعتمد عليه المولي سبحانه في التنجيز و التعذيب و لكن المعلوم خلافها إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي و الأخباري لما ستعرف من أنّ الأخباري لا ينكر الكبري و إنّما ينكر الصغري أي عدم البيان و يقول بورود البيان بالعنوان الثانوي كوجوب الاحتياط و التوقّف في الشبهات.

و ثانياً: أنّ اتفاق العقلاء علي قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف علي مقاصد المولي و لم يجد بياناً بأحد العنوانين، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً و إلاّ يعود بناء العقلاء إلي أمر تعبدي و هو كما تري.

و ثالثاً: انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدلُّ بها الوحي علي الناس و يقول:( وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1) ) (2)و يذكر في آية أُخري انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل، حجّة الكفار و العصاة حيث قال:( وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزي (3) ) (4) فتبين بذلك انّ الكبري من الأحكام الواضحة لدي العقل و العقلاء بشرط التقرير علي نحو ما ذكرناه.

الإشكال علي صغري البرهان

قد عرفت حال الإشكال علي الكبري، و لكنّ هناك إشكالاً آخر يتوجه إلي

ص: 110


1- سوره 17 - آيه 15
2- . الاسراء:15.
3- سوره 20 - آيه 134
4- . طه:134.

الصغري تعرّض إليه المحقّقون، و حاصل الإشكال انّه يكفي في مقام البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية، و يكون شكل القياس بالنحو التالي:

في المشتبه التحريمي ضرر محتمل.

و كل ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه.

فينتج المشتبه التحريمي يجب تركه.

يلاحظ عليه: انّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة:

أ. العقاب الأُخروي.

ب. الضرر الدنيوي الشخصي.

ج. المصالح و المفاسد الاجتماعية.

أمّا الأوّل: أي العقاب الأُخروي فهو بين قطعيّ الإحراز، و قطعيّ الانتفاء، و ليس هنا ضرر محتمل، فالأوّل كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه، فينطبق الكبري علي الصغري و لذلك أطبق العلماء علي وجوب الموافقة القطعية.

و أمّا الثاني: أي قطعي الانتفاء كما في المقام، فانّ الضرر بمعني العقاب قطعي الانتفاء بحكم العقل علي قبح العقاب بلا بيان، و مع العلم بعدمه لا يصحّ الاحتجاج بالكبري المجردة عن الصغري، و بذلك يعلم انّه لا تعارض بين الكبريين »قبح العقاب بلا بيان«و »وجوب دفع الضرر المحتمل« و انّ لكلّ موضعاً خاصاً، فمورد الأُولي هو الشبهة البدوية، كما أنّ موضع الثانية إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.

و هذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولي علي الثانية أمر غير

ص: 111

صحيح، فانّ الورود فرع التعارض و لا معارضة بينهما بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه، فمورد قاعدة القبح هو ما إذا لم يكن من المولي أيّ بيان، كما أنّ مورد القاعدة الثانية ما إذا تم البيان و إن جهل المتعلّق.

هذا كلّه حول العقاب الأُخروي و أمّا الضرر الدنيوي الشخصي فالإجابة عنه واضحة، لأنّ الأحكام الشرعية لا تدور مدار الضرر أو النفع الشخصيين حتي يكون احتمال الحرمة ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي علي الجسم و الروح بل الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد نوعية، و ربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا و ترك الظلم علي الناس.

نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة النوعية كشرب المسكر لكنّه ليس ضابطة كلية.

سلّمنا انّ في ارتكاب المشتبه احتمالَ ضرر دنيوي لكن إنّما يجب دفعه إذا لم يكن في تجويز الارتكاب مصلحة كما هو المقام، لأنّ في الترخيص دفعَ عسر الاحتياط.

و أمّا الثالث: أي المصالح و المفاسد النوعية فحكم الشارع بالبراءة يكشف عن أحد الأمرين: إمّا عدم الأهمية، و إمّا لوجود المصلحة الغالبة علي المفسدة الحاصلة.

أدلة الأخباري علي وجوب الاحتياط

استدلّ الأخباري علي وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلة الثلاثة: الكتاب و السنة و العقل، و بما انّا استقصينا ذكر أدلّتهم و أجوبتها في الموجز فلا حاجة إلي التكرار. (1)

ص: 112


1- . الموجز:186 193.
تنبيهات
اشارة

إنّ في المقام أُموراً يلزم التنبيه عليها، لأنّ لها دوراً هاماً في استنباط الأحكام.

التنبيه الأوّل: في حكومة الأصل الموضوعي علي البراءة و الحلية

من المعروف انّ الأُصول الموضوعية التي تجري في الموضوع و تُنقّح حاله مقدمة علي الأُصول الحكمية كأصالة البراءة و الحلّية بيانه:

إنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، و موضوع البراءة الشرعية هو الشكّ في الحكم الشرعي، فلو كان هناك أصل آخر يصلح لأن يكون بياناً أو رافعاً للشكّ تعبّداً فلا يبقي موضوع لأصل البراءة، و لهذا اشتهر أنّ الأصل المنقِّح للموضوع، حاكم علي أصل البراءة، أو أصالة الحلّية.

فمثلاً: إذا شككنا في تذكية حيوان علي النحو الوارد في الشرع فمقتضي الأصل الحكمي هو الحليّة، لدخوله تحت قوله: »كلّ شيء حلال حتّي تعرف انّه حرام بعينه« ، و لكنّه محكوم بأصل موضوعيّ آخر أعني أصالة عدم التذكية، و هو أصل موضوعي ينقِّح حال الموضوع، و يُحرِز انّه غير مذكي، و بطبع الحال يكون محرّماً لا حلالاً، و هذا الأصل عبارة عن استصحاب عدم التذكية، لأنّه حينما كان حيّاً لم يكن مذكي، و بعد زهوق روحه نشكّ في تذكيته، فاستصحاب عدم التذكية مقدّم علي أصالة الحل، و ذلك لأنّ الشكّ في الحليّة مُسَبب عن الجهل بحال الموضوع و أنّه هل وردت عليه التذكية أو لا؟ فإذا ثبت حال الحيوان بالاستصحاب، و حكم عليه بعدم التذكية، لا يبقي الشكّ في حرمته، و هذا ما يعبر عنه بتعبيرين:

ص: 113

أ. حكومة الأصل الموضوعي(عدم التذكية) علي الأصل الحكمي(الحلية).

ب. حكومة الأصل السببي(عدم التذكية ) علي الأصل المسببي(الحلية).

مثال آخر: لو افترضنا دلالة الدليل الاجتهادي علي جواز مسّ المرأة بعد النقاء و قبل الاغتسال، و لكن وقع الشكّ في حصول النقاء، فاستصحاب كونها حائضاً حاكم علي أصالة الحلية لأنّه بيان، فيرتفع موضوع البراءة العقلية، و رافع أيضاً للشك في الظاهر فيكون رافعاً لموضوع البراءة الشرعية.

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط

لا شكّ في حسن الاحتياط(بشرط أن لا يخل بالنظام عقلاً، أو لا ينجرّ إلي العسر و الحرج شرعاً)، و لكن الظاهر من الشيخ الأعظم اتّفاق الفقهاء علي لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة: النفوس، و الأعراض، و الأموال مطلقاً، فيجب الاحتياط لكون المحتمل ذا أهميّة حتّي و إن كان الاحتمال ضعيفاً، مع كون الشبهة موضوعية.

و الظاهر انّ اتّفاقهم علي وجوب الاحتياط فيها مبنيّ علي قاعدة مضي الإيعاز إليها في مبحث العام و الخاص (1) و هي انّ كلّ موضوع كانت الحرمة و الفساد هو الحكم الأصلي فيه، يجب الاجتناب عنه حتي في الشبهة الموضوعية، و لذلك حكم الفقهاء بالاحتياط وراء الموارد الثلاثة أيضاً، كما إذا ترددت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها أو غيرها، أو تردّد بيع الوقف بين احتمال وجود المسوِّغ فيه و عدمه، أو تردّد تصرف غير الولي في مال اليتيم بين وجود الغبطة فيه، و عدمه، ففي هذه الموارد يحمل علي الحرمة و الفساد، لأنّ طبيعة الموضوع تقتضي الحرمة و الفساد إلاّ ما خرج بالدليل.

ص: 114


1- . راجع الوسيط:الجزء الأوّل ص 208.
التنبيه الثالث: قاعدة التسامح في أدلّة السنن
اشارة

اشتهر بين الأصحاب قاعدة »التسامح في أدلّة السنن« و يراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها و العمل بها ما يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات و المحرمات من كون الراوي ثقة، ضابطاً، بل يكفي وروده و لو عن طريق ضعيف، و المسألة معنونة في كلمات الفريقين، غير انّ أهل السنة يعبِّرون عن المسألة بقولهم: العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال. (1)

و قد ورد عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)روايات متعددة في ذلك المضمار و ربما يناهز عددها إلي خمسة بعد توحيد بعضها مع بعض. (2)

و قد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تفسير هذه الروايات، و نحن نذكر بعض الروايات ثمّ نبحث في مدلولها.

1. روي الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن حسن بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: »من سمع شيئاً من الثواب علي شيء فصنعه كان له، و إن لم يكن علي ما بلغه«.

رواه البرقي عن هشام بن سالم بمتن آخر و هو:

»من بلغه عن النبي شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه(عليه السلام)لم يقله«.

ص: 115


1- . و قد ألمع إليها الشهيد الأوّل(734 786ه) في الذكري، و ابن فهد الحلي(المتوفّي 841ه) في عدة الداعي، و الشهيد الثاني(المتوفّي 966ه) في درايته، و بهاء الدين العاملي(المتوفّي1030ه) في أربعينه، إلي ان وصلت النوبة للشيخ الأنصاري فألف رسالة مستقلة فيها طبعت في ذيل كتاب المتاجر له قدِّس سرّه و أدرجها تلميذه الشيخ موسي التبريزي في حاشيته علي الفرائد، باسم »أوثق الوسائل« فلاحظ.
2- . الوسائل:1، الباب 18 من أبواب مقدّمات العبادات،بعد توحيد بعضها مع بعض.

2. روي صفوان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: »من بلغه شيء من الثواب علي شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه لم يقله«.

إلي غير ذلك من الروايات.

فذهب الشيخ الأنصاري إلي أنّ هذه الأخبار لا تدلّ إلاّ علي ثبوت الأجر للعامل و لا يدلّ علي استحباب نفس العمل، و بالتالي لا يمكن تصحيح العمل العبادي المردد بين الاستحباب و غير الوجوب، بهذه الأخبار.

و قال صاحب العناوين: إنّ مفادها هو انّه لا يعتبر في الخبر الوارد في المستحبات ما يشترط فيما دلّ علي الحكم الإلزامي، و يكون مفاد هذه الأخبار إضفاء الحجية للخبر الضعيف في مجال خاص و بالتالي بكون الفعل مستحباً بالذات، مضافاً إلي ترتب الثواب. (1)

و الحقّ مع النظرية الأُولي، لأنّ لسانها غير لسان إعطاء الحجية للخبر الضعيف، و ذلك لأنّ لسان الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف و البناء علي أنّ مؤدّي الطريق هو الواقع كما في قوله: »العمري ثقتي فما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي« (2) ،لا الأخذ به مع احتمال عدم ثبوت المؤدّي في الواقع كما هو الحال في روايات هذا الباب حيث يقول: »و إن كان رسول اللّه لم يقله«، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجية و لا يصلح لها.

ثمرات القاعدة

و تظهر الثمرة في عدّة موارد منها:

1. لو ورد خبر غير معتبر بالأمر بالوضوء في وقت خاص كدخول المسجد،

ص: 116


1- . العناوين:1: العنوان 151، قاعدة التسامح:420.
2- . الوسائل:الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث4.

فعلي القول الأوّل لا يترتب عليه إلاّ الثواب، و علي الثاني يعامل معه معاملة المستحب بالذات فيكون رافعاً للحدث.

2. لو ورد خبر ضعيف يدل علي استحباب غسل اللحية المسترسلة، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّت يده، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولي.

و في بعض هذه الثمرات نظر ذكرناه في محاضراتنا الأُصولية. (1)4.

ص: 117


1- . لاحظ إرشاد العقول:1/443 444.

الأصل الثاني: أصالة التخيير

اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: كان الواجب علي علماء الأُصول المتأخرين عقد فصل خاص لأصالة التخيير كبقية الأُصول العملية غير انّهم بحثوا قسماً منه في أصالة البراءة و قسماً آخر في أصالة الاحتياط، و صار ذلك سبباً لغموض البحث و عدم وقوف الطالب علي مجري أصالة التخيير. بصورة واضحة.

الثاني: انّ الميزان في جريان أصالة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط، أعني الموافقة القطعية، سواء أ كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة في واقعة واحدة، كشرب مائع مردد بين الحلف علي فعله أو تركه في ليلة واحدة، أو كانت ممكنة كتردده بينهما مع تعدد الواقعة ككل ليلة جمعة إلي شهر.

الثالث: انّ دوران الأمر بين المحذورين يجتمع تارة مع الشكّ في التكليف إذا كان نوعه مجهولاً، و مع الشكّ في المكلف به إذا كان نوعه معلوماً و المتعلّق مردداً بين أمرين غير قابلين للاحتياط:

أمّا الأوّل: كتردد العبادة في أيام الاستظهار بين كونها واجبة أو محرمة، فهنا تكليف واحد مجهول نوعه، فلو كانت المرأة حائضاً فنوع التكليف هو الحرمة و لو كانت مستحاضة فنوع التكليف هو الوجوب.

و أمّا الثاني: كما إذا علم أنّ واحدة من الصلاتين واجبة و أُخري محرمة، و تردد

ص: 118

أمرهما بين الظهر و الجمعة، فالنوع هنا معلوم و هو انّ هنا واجباً و محرماً، غير انّ الموضوع مردد بين الجمعة و الظهر، فالجامع لكلا القسمين عدم امكان الموافقة القطعية.

ثمّ إنّ القوم ذكروا ما إذا كان نوع التكليف مجهولاً كدوران الأمر بين محذورين في باب البراءة، كما ذكروا ما إذا كان نوعه معلوماً و المتعلّق مردداً في باب الاشتغال، و صار ذلك سبباً لغموض البحث.

و نحن عقدنا لهذا الأصل عنواناً مستقلاً و أوردنا الجميع في هذا الفصل.

الرابع: انّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة:

أ. دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التوصلي.

ب. دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي.

ج. دوران الأمر بين المحذورين مع العلم بنوع التكليف و الشكّ في المكلّف به.

و إليك الكلام في كلّ واحد منها.

المقام الأوّل: دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع الحكم التوصلي

إذا دار أمر التكليف بين المحذورين، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان أو حرمته، و منشأ التردد كونه مجهول الهوية، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً، فعلي الأوّل يحرم قتله، و علي الثاني يجب، فأمر القتل دائر بين الحرمة و الوجوب، و لكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب و الحرمة علي فرض ثبوته ، توصلي.

هذا فيما إذا كانت الشبهة موضوعية، و ربما تكون الشبهة حكمية كالولاية عن الجائر لدفع الظلامة عن الناس، فقالت طائفة بالحرمة، لأنّها إعانة للظالم،

ص: 119

و أُخري بالوجوب لأنّ فيها التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حسب المقدرة.

لا شكّ انّ المخالفة و الموافقة القطعيتين غير ممكنة و المكلّف مخيّر تكويناً بين الفعل و الترك، لكن يقع الكلام في الحكم الظاهري و الأصل الجاري في المقام. و الظاهر انّ المقام محكوم بالبراءة العقلية و النقلية.

أمّا الأوّل: فلأنّ كلاًّ من الوجوب و الحرمة مجهولان فيقبح المؤاخذة عليهما.

و أمّا الثاني: فلعموم قوله: رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون.

نعم لا تجري أصالة الإباحة المستفادة من قولهم: كلّ شيء حلال حتّي تعلم أنّه حرام، و ذلك لأنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال لأنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل و الترك و ذلك يناقض العلم بالإلزام، و هو لا يجتمع مع جعل الإباحة و لو ظاهراً.

هذا هو أحد الأقوال في الحكم الظاهري، و هناك أقوال أُخري تطلب من محالها.

المقام الثاني: دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي

إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديّين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة حرمة توصلية، و أمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً، فلا تجري هنا البراءتان العقلية و النقلية لاستلزام الجريان المخالفة القطعيّة، للفرق بين المقام و ما قبله، ففي المقام السابق كانت الموافقة القطعيةَ كالمخالفة القطعية ممتنعة، و أمّا في المقام فالموافقة القطعية و إن كانت ممتنعة لكن المخالفة القطعية ممكنة، فلو صلت بلا نيّة القربة معتمدة علي جريان البراءة من الوجوب و الحرمة فقد أتت بالمبغوض إذ لو كانت طاهرة فصلاتها

ص: 120

باطلة، و لو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء علي أنّ صورة العبادة محرمة عليها.

فالمرجع هو أصالة التخيير إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً، و الميزان في جريان أصالة التخيير هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية كما في المقام أو لا كما في المقام السابق.

المقام الثالث:دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به

أنّ أصالة التخيير بملاك عدم إمكان الموافقة القطعية كما تجري في الشك في التكليف كما في الصورتين السابقتين، كذلك تجري في الشكّ في المكلّف به كما في المقام و مثلاً:

1. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب و الآخر حرام في زمان معيّن و اشتبه أحدهما بالآخر، فهو مخيّر بين فعل أحدهما و ترك الآخر، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

2. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان، و ترك ذاك في زمان آخر، و اشتبه زمان كلّ منهما كما إذا حلف بالإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

نعم لا تجري أصالة التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً كالجهر، و ذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة و إن كانت غير ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين يجهر في إحداهما و يخافت في الأُخري.

و قد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية و هو ليس بموجود في هذا المورد.

ص: 121

هذا كلّه في دوران الأمر بين المحذورين عند عدم النص و نظيره إجمال النصّ، و تعارض النصّين أو الشبهة الموضوعية التحريمية، فالحكم في الجميع واحد، و قد استقصينا الكلام في هذه الصور في »الموجز«.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ الميزان في جريان أصل التخيير عدم إمكان الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

2. انّ المكلّف في المقام الأوّل مخيّر تكويناً، و الحكم الظاهري هو البراءة، بخلاف المقامين الأخيرين فالحكم الظاهري فيهما هو التخيير.

ص: 122

الأصل الثالث: أصالة الاحتياط

اشارة

قد تقدّم بيان مجري الاحتياط (1) و هو ما إذا قام دليل عقلي أو نقلي علي ثبوت العقاب بمخالفة الواقع، و له صور أربع:

أ. الشبهة التكليفية قبل الفحص.

ب. الشبهة البدوية و لكن كان للمحتمل أهمية بالغة، كما في الدماء و الأعراض و الأموال.

ج. إذا دار الأمر بين وجوب فعل و ترك فعل آخر.

د. إذا علم نوع التكليف و تردّد الواجب بين أمرين، كتردد الفريضة بين الظهر و الجمعة، و الخمر بين الإناءين. و الثلاثة الأُول من قبيل الشك في التكليف مع وجوب الاحتياط فيها، و الرابع من قبيل الشكّ في المكلّف به.

و من هنا علم أنّ مجري أصالة الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به، و الميزان قيام الدليل العقلي أو النقلي علي وجود العقاب عند المخالفة و الجميع داخل تحت هذا العنوان، و بما انّ حكم الصور الثلاث الأُول واضحة نكرس البحث في الصورة الرابعة أي الشكّ في المكلّف به، و الكلام فيه في مقامين:

1. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله الأربع، و يعبّر عنه بالشبهة التحريمية.

2. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله الأربع، و يعبّر عنه بالشبهة الوجوبية.

و إليك الكلام في كلا المقامين:

ص: 123


1- . لاحظ صفحه 95.
المقام الأوّل: أصالة الاحتياط الشبهة التحريمية
اشارة

مقتضي ما ذكرناه في الشكّ في التكليف أن يكون في هذا المقام أيضاً مسائل أربع، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين، أو خلط الأُمور الخارجية، و بما انّ المسائل الثلاث الأُول، فاقدة للتطبيقات الفقهية، خصصنا البحث في الشبهة التحريمية الموضوعية.

و هي علي قسمين: لأنّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في أُمور محصورة أو غير محصورة، فيقع

الكلام في هذا المقام في موردين:
المورد الأوّل: حكم الشبهة المحصورة
اشارة

إذا علم المكلّف بتكليف(الحرمة) علي وجه لا يرضي المولي بمخالفته، فلا محيص عن وجوب الموافقة القطعية، فضلا عن حرمة المخالفة القطعية سواء أ كان العلم إجمالياً أم تفصيلياً، فالبحث عن إمكان جعل الترخيص لبعض الأطراف أو لجميعها مع العلم الوجداني بالتكليف الجدي تهافت، لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتضادتين، و هذا كمثل قتل المؤمن إذا اشتبه بغيره، و هذا النوع من العلم الإجمالي يناسب البحث عنه في باب القطع.

و أمّا المناسب للمقام، كما هو الظاهر من كلام الشيخ (1) فهو ما إذا قامت الأمارة علي حرمة شيء و شمل إطلاق الدليل مورد العلم الإجمالي، كما إذا قال:

ص: 124


1- . لاحظ الفرائد:240، طبعة رحمة اللّه.

اجتنب عن النجس، و كان مقتضي إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالاً أيضاً، و عندئذ فمقتضي القاعدة الأوّلية هو تحصيل البراءة القطعيّة بالاجتناب عن كلا الطرفين لأن المفروض شمول اطلاق الدليل، المعلوم اجمالاً كشموله للمعلوم تفصيلاً.

انّما الكلام في مقتضيا لقاعدة الثانويّة أعني إمكان الترخيص اوّلاً، و وقوعه ثانياً و إليك الكلام فيهما.

الأوّل: إمكان الترخيص

فالحقّ إمكانه لأنّك عرفت أنّ ما لا يقبل الترخيص هو العلم الوجداني بالتكليف و هو الذي لا يجتمع مع الترخيص لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتناقضتين.

و أمّا لو كان سبب العلم بالتكليف هو إطلاق الدليل أعني:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) ) (2)الشامل للصور الثلاث.

أ. المعلوم تفصيلاً.

ب. المعلوم إجمالاً.

ج. المشكوك وجوداً مع وجوده واقعاً.

فكما يصحّ تقييد إطلاقه بإخراج المشكوك و جعل الترخيص فيه، فهكذا يجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم به تفصيلاً، فالشكّ في إمكان التقييد كأنّه شكّ في أمر بديهي، إنّما الكلام في الأمر الثاني.

ص: 125


1- سوره 5 - آيه 90
2- . المائدة:90.
الثاني: ورود الترخيص في لسان الشارع

و هذا هو الأمر المهم في هذا الباب، و المتتبع للروايات و فتاوي العلماء يقف علي عدم ورود الترخيص لبعض الأطراف، فكيف بجميعها، و قد ذكرنا بعض الروايات في الموجز (1)؟ فلا نعيد.

نعم ربما استدلّ ببعض الروايات علي جعل الترخيص نذكر منها ما يلي:

الأوّل: قوله »كلّ شيء لك حلال حتي تعلم أنّه حرام بعينه« بناء علي أنّ قوله»بعينه« تأكيد للضمير في قوله: »انّه« فيكون المعني حتي تعلم أنّه بعينه حرام، فيكون مفاده انّ محتمل الحرمة ما لم يتعين انّه بعينه حرام فهو حلال فيعم العلم الإجمالي و الشبهة البدوية.

يلاحظ عليه: بأنّ الرواية جزء من رواية مسعدة بن صدقة، و الإمعان في الأمثلة الواردة فيها يورث اليقين بأنّ موردها هو الشبهة البدوية و لا صلة لها بأطراف العلم الإجمالي، و قد أوضحنا حالها في الموجز فلاحظ. (2)

الثاني: ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام)عن الجبن، فقال لي: »لقد سألتني عن طعام يُعجبني« ثمّ أعطي الغلام درهماً، فقال: »يا غلام ابتع لنا جبناً«، ثمّ دعا بالغداء، فتغدّينا معه، فأتي بالجبن فأكل و أكلنا، فلمّا فرغنا من الغذاء، قلت: ما تقول في الجبن... إلي أن قال:» سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّما كان فيه حلال و حرام، فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه«. (3)

و ربّما يتوهم جواز الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لكن الرواية ناظرة إلي الشبهة غير المحصورة، إذ كان في المدينة المنورة أمكنة كثيرة تُجعل الميتة في الجبن، و كان هذا سببَ السؤال، فأجاب الإمام(عليه السلام)بما سمعت.

ص: 126


1- . الموجز:199.
2- . الموجز:199.
3- . الوسائل:17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث1.

و يشهد علي ذلك ما رواه أبو الجارود، قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام)في الجبن، فقلت له: أخبرني مَنْ رأي أنّه يجعل فيه الميتة فقال: »أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة، حرّم في جميع الأرضين«. (1)

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ الروايتين المرخِّصتين خارجتان عن محطّ البحث، و انّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز مطلقاً سواء أ كان علماً قطعياً، أم حاصلاً من إطلاق الدليل، فتحرم مخالفته القطعية كما تجب موافقته القطعية.

***

المورد الثاني: حكم الشبهة غير المحصورة

قد عرفت أنّ الشبهة التحريمية الموضوعية تنقسم إلي محصورة و غير محصورة، و قد عرفت حكم الأُولي، و إليك الكلام في الثانية، فيقع الكلام تارة في معيار كون الشبهة غير محصورة، و أُخري في حكمها.

أمّا الأوّل: فقد عُرّفت الشبهة غير المحصورة بتعاريف أفضلها:بلوغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلي درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، أ لا تري أنّ المولي إذا نهي عبده عن المعاملة مع زيد، فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً و إن صادف الواقع، و قد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال، ما لا يؤثّر مع الانتشار و كثرة الاحتمال، كما إذا نهي المولي عن سبّ زيد و هو تارة مردّد بين اثنين و ثلاثة، و أُخري بين أهل بلدة و نحوها. (2)

و أمّا الثاني أي حكمها، فانّ عنواني المحصورة و غير المحصورة لم يردا في

ص: 127


1- . الوسائل:17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.
2- . الفرائد:261.

النصوص لكن العنوان الأوّل مشير إلي تنجيز العلم الإجمالي لاعتناء العقلاء بالعلم فيها لقلة الأطراف، و العنوان الثاني مشيراً إلي عدم تنجيزه لعدم اعتنائهم بالتكليف فيه لصيرورته موهوماً في كلّ طرف، و هذا هو الدليل القاطع علي عدم التنجيز.

هذا مضافاً إلي أنّ الاجتناب عن الأطراف في الثاني يوجب العسر، و التبعيض في الارتكاب إلي حدّ العسر غير خال عن العسر أيضاً.

علي أنّ هناك روايات في أبواب مختلفة تدلّ علي إمضاء الشارع بناء العقلاء، و هذه الروايات مبثوثة في أبواب أربعة.

1. ما ورد حول الجبن. (1)

2. ما ورد حول شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم. (2)

3. ما ورد حول قبول جائزة الظالم. (3)

4. ما ورد حول التصرف في المال الحلال المختلط بالربا. (4)

و لعلّ هذه الروايات مع بناء العقلاء و السيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة اختلاط الحرام بين كثير من الحلال.

إذا عرفت حكم الشبهتين: المحصورة و غير المحصورة فاعلم انّ هنا تنبيهات مهمة حول المحصورة نذكرها واحداً بعد الآخر.ة.

ص: 128


1- . انظر الوسائل:7/61 من أبواب الأطعمة المباحة.
2- . الوسائل:12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.
3- . الوسائل: 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، و الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2و3.
4- . الوسائل: 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 2و3. و قد اقتصرنا بذكر مصادر الروايات خشية الإطالة فبإمكان الأُستاذ، نقل الروايات عن الوسائل خلال إلقاء المحاضرة.
تنبيهات
التنبيه الأوّل: تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين أن يكون أطرافه حاصلة بالفعل، أو يكون بعضها حاصلة بالفعل دون بعض، و هذا ما يسمّي بالعلم الإجمالي بالتدريجيات، كما إذا علم بأنّ أحد البيعين: إمّا ما يبيعه اليوم أو ما يبيعه غداً، ربوي، فلا فرق عند العقل بينه و بين ما علم أنّ أحد البيعين الحاضرين ربوي، فيجب ترك الجميع تحصيلاً للموافقة القطعية.

التنبيه الثاني: تنجيز العلم الإجمالي إذا تعلّق بحقيقتين

لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين أن تكون المشتبهات من حقيقة واحدة ، كما إذا علم بنجاسة ماء أحد الإناءين، أو من حقيقتين، كما إذا علم إجمالاً إمّا نجاسة هذا الماء، أو غصبية الماء الآخر، و المناط في الجميع واحد، و هو انّ الاشتغال اليقيني بالتكليف(وجوب الاجتناب) يستلزم البراءة اليقينية.

التنبيه الثالث: شرط التنجيز كونه محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير

يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف علي كلّ حال فلو وقعت النجاسة في أحد الإناءين الطاهرين و لم يعلم أنّها وقعت في أيّ واحد منهما، فهو ينجّز، لأنّها لو وقعت في أيّ منهما يحدث تكليفاً بإيجاب الاجتناب عنه. و أمّا إذا لم يحصل لنا علم بحدوث التكليف علي كلّ تقدير فلا يكون منجزاً، كما إذا علم بوقوع النجاسة إمّا في هذا الماء القليل، أو في ذاك الماء الكر، فلا ينجّز

ص: 129

حتي يجب الاجتناب عن الماء القليل فإنّه لو وقع في الماء القليل يكون محدثاً للتكليف دون ما إذا وقع في الكر، فلا يكون محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير فلا يكون هناك علم بالتكليف علي كلّ تقدير.

فالعلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحد الماءين و إن كان متحقّقاً، لكنّ العلم بانعقاده مؤثّر علي كلّ تقدير بمعني احتمال احداث التكليف في كلّ من الطرفين علي فرض وقوعها فيه غير متحقّق و ذلك لأنّه لو وقعت النجاسة في الماء الكر لا تؤثر فيه أبداً فلا يُحتمل فيه التكليف، فهو طاهر قطعاً علي كلّ تقدير، و لو وقعت في الإناء الآخر فهو و إن كان يحدث تكليفاً، لكن وقوعه فيه محتمل فيكون محتمل النجاسة و يقع مجريً لأصل البراءة و بالتالي: ينحلّ العلم الإجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما ،إلي طاهر قطعي و هو الماء الكرّ، و مشكوك النجاسة و هو الماء القليل فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً.

و مثله ما إذا كان أحد الإناءين نجساً قطعاً و الآخر طاهراً قطعاً، فوقعت النجاسة في أحدهما، فمثل هذا العلم بما أنّه لا يحدث تكليفاً علي كلّ تقدير لا يكون منجزاً، لأنّه لو وقعت في الإناء النجس لا تزيده النجاسة الجديدة حكماً جديداً، و وقوعه في الإناء الآخر مشكوك، فتجري فيه البراءة ، فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً، إذ لا يصحّ لنا أن نقول: إمّا هذا نجس، أو ذاك نجس، بل الأوّل نجس قطعاً، و الثاني مشكوك النجاسة.

و الحاصل: أنّه لو لم يحدث تكليفاً في كلّ طرف علي فرض وقوعها فيه لا ينعقد العلم الإجمالي مؤثراً، لأنّ العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين و إن كان حاصلاً، لكن العلم الإجمالي بتنجيس أحدهما لا بعينه غير حاصل بل أحدهما نجس قطعاً و الآخر مشكوك، فتدبّر.

ص: 130

التنبيه الرابع: حكم خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء قبل العلم

إذا تعلّق العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين اللّذين يتمكّن المكلّف عرفاً من ارتكاب أحدهما دون الإناء الآخر لأنّه في بيت شخص لا يتفق للمكلّف عادة دخوله و استعماله فلا يكون منجِّزاً، لأنّه لا يحدث التكليف علي كلّ تقدير، إذ لو وقعت النجاسة في الإناء الذي ابتلي به يُحدث التكليف و يحسن الخطاب بالاجتناب دون ما إذا وقعت فيما لا يبتلي به لأنّه يقبح الخطاب، فلا يصحّ خطابه ب »اجتنب إمّا عن هذا الإناء، أو ذلك الإناء«، فإذا كان الخطاب بالنسبة إلي الإناء الخارج عن ابتلائه قبيحاً لا ينعقد العلم الإجمالي منجّزاً و مؤثراً، فيكون الشكّ في الإناء الأوّل أشبه بالشبهة البدوية.

و لأجل ذلك يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون كلا الطرفين مورداً للابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي حتي يصحّ خطابه بالنسبة إلي كلا الطرفين، و أمّا لو كان أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي، ثمّ حدث فلا يكون منجزاً، لأنّه ليس محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير.

نعم لو حدث العلم الإجمالي و الطرفان في محل الابتلاء، ثمّ خرج أحدهما عن محلّ الابتلاء، فالاجتناب عن الإناء الآخر لازم، و ذلك لأنّ الخطاب بالاجتناب علي وجه الترديد و إن كان قبيحاً بعد خروج أحد أطرافه عن محلّ الابتلاء، و لكنّ العلم الإجمالي لما انعقد مؤثراً فالاجتناب عن الإناء الباقي، من آثار العلم الإجمالي السابق، فوجوده آناً ما، يوجب الاجتناب عن الثاني ما دام موجوداً.

و يدلّ علي ذلك أنّه لو كان الخروج عن محل الابتلاء بعد طروء العلم موجباً لجواز ارتكاب الإناء الآخر، لما أمر الإمام بإهراقهما (1)، بل أمر بإهراق

ص: 131


1- . الوسائل: الجزء2، الباب 64 من أبواب النجاسات، الحديث2.

أحدهما و التوضّؤ بالآخر.

التنبيه الخامس: الاضطرار إلي بعض الأطراف

لو اضطرّ إلي ارتكاب بعض المحتملات، فهو علي قسمين:

الأوّل: إذا اضطر إلي ارتكاب واحد معيّن.

الثاني: إذا اضطر إلي ارتكاب واحد لا بعينه.

أمّا القسم الأوّل، فله صورتان:

الأُولي: إذا اضطرّ إلي ارتكاب واحد معيّن قبلَ العلم أو معه، فلا يجب الاجتناب عن الآخر.

الثانية: إذا اضطر إلي ارتكاب واحد معيّن بعد العلم، فيجب الاجتناب عن الآخر.

أمّا الصورة الأُولي، أي إذا كان الاضطرار إلي طرف معيّن قبل العلم، أو معه، فلما عرفت من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف علي كلّ تقدير و أن يصحّ خطاب المكلّف بالاجتناب عن كلّ من الطرفين، و هذا الشرط غير موجود في هذه الصورة، لأنّ الحرام لو كان فيما اضطرّ إليه معيّناً فلا يكون العلم محدثاً للتكليف لفرض اضطراره إليه و هو رافع للتكليف فلا يصحّ خطابه بالاجتناب عنه، و لو كان الحرام في غير ما اضطرّ إليه فهو، و إن كان يحدث فيه التكليف و يصحّ خطابه بالاجتناب عنه، لكن وجوده فيه عندئذ أمر محتمل فتجري فيه البراءة.

و إن شئت قلت: إنّ العلم الإجمالي بحرمة واحد من الأُمور إنّما ينجّز فيما لو عُلِم تفصيلاً لوجب الاجتناب عنه علي كل حال، و هذا الشرط غير متحقّق، لأنّه لو عُلِم أنّ الحرام في غير الطرف المضطرّ إليه و إن وجب الاجتناب عنه، لكن لو

ص: 132

كان في الجانب المضطرّ إليه لا يجب و يقبح الخطاب، فاذاً العلم التفصيلي بالحرام ليس منجّزاً علي كلّ حال بل منجّز علي حال دون حال، فيكون العلم الإجمالي مثله، فلا يكون هناك قطع بالتكليف المنجَّز علي كلّ التقادير حتي يجب امتثاله.

و أمّا الصورة الثانية، أي إذا كان الاضطرار إلي واحد معيّن بعد انعقاد العلم الإجمالي، فالحقّ وجوب الاجتناب عن الآخر، لأنّ الخطاب بعد طروء الاضطرار بالاجتناب عن كلّ من الطرفين و إن لم يكن صحيحاً، لكن وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق حيث نجّز التكليف و أوجب الاجتناب و حكم العقل بوجوبه، فإذا طرأ الاضطرار فلا يتقدّر إلاّ بقدر الضرورة، فالحكم العقلي السابق من لزوم الخروج عن عهدة التكليف القطعي باق علي حاله إلاّ ما خرج بالدليل، أي المضطرّ إليه.

هذا كلّه إذا كان الاضطرار إلي طرف معيّن.

و أمّا القسم الثاني، أي إذا كان الاضطرار إلي ارتكاب واحد لا بعينه، فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً سواء أ كان الاضطرار بعد العلم كما هو واضح لما عرفت في القسم الأوّل من أنّ وجوب الاجتناب في هذه الصورة من آثار العلم السابق المتقدّم علي الاضطرار ، أم كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي، أو معه فهو علي خلاف ما إذا كان الاضطرار إلي معين.

و الفرق بين القسمين ظاهر ممّا سبق، و هو أنّ العلم الإجمالي في هذا القسم حاصل بحرمة واحد من أُمور علي وجه لو علم بحرمته تفصيلاً، وجب الاجتناب عنه علي كل تقدير، لإمكان رفع الاضطرار ، بغير الحرام، فيكون العلم الإجمالي مثل التفصيلي، غاية الأمر انّ ترخيص بعضها علي البدل لرفع الاضطرار موجب لاكتفاء الآمر في مقام الامتثال، بالاجتناب عن الباقي، بخلاف القسم السابق فإنّ

ص: 133

العلم التفصيلي فيه لم يكن فيه منجزاً علي كلّ تقدير،لما قلنا من أنّ الحرام لو كان في غير الطرف المضطرّ إليه و إن وجب اجتنابه لكن لو كان في الجانب المضطر إليه لا يجب بل يقبح الخطاب، فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فكيف بالعلم الإجماليّ؟

التنبيه السادس: حكم ملاقي أحد الأطراف
اشارة

لا شكّ انّه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس الواقعي. إنّما الكلام فيما إذا لاقي شيئاً لا نعلم بنجاسته و لكنّه محكوم عقلاً و شرعاً بوجوب الاجتناب، كأحد طرفي العلم الإجمالي، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً أو لا؟و هذا كما إذا علم بنجاسة موضع من ثوبه و تردد بين أسفله و أعلاه ثمّ أصاب الملاقي الرطب، أحد الموضعين، فيقع الكلام في وجوب الاجتناب عن الملاقي و عدمه.

و بذلك اتضح خروج الموارد التالية عن محلّ النزاع.

أ. إذا لاقي الملاقي كلا الطرفين، فهو معلوم النجاسة قطعاً لا مشكوكها فيجب الاجتناب عنه.

ب. إذا تعدّد الملاقي، بأن يلاقي شيء أحدَ الطرفين و شيء آخر الطرف الآخر، فيحدث علم إجمالي بنجاسة أحد الملاقيين، كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الأصلين.

ج. انّ البحث عن طهارة الملاقي و نجاسته إذا كان هناك مجرّد ملاقاة دون أن يحمل شيئاً من أجزاء الملاقي، و علي ذلك فلو غمس يده في أحد الإناءين ثمّ أخرجها تكون اليد طرفاً للعلم الإجمالي لا ملاقياً، فينقلب العلم عن كونه ثنائي الأطراف إلي ثلاثيّها، نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين، قسمين و جعل كلّ قسم في إناء.

ص: 134

إذا علمت ذلك، فالمشهور بين الأُصوليّين المتأخّرين عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

ادلّة الطرفين

استدل القائل بعدم وجوب الاجتناب بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي من شئون ملاقاة النجس لا من شئون محتمل النجاسة و إن حكم علي المحتمل بوجوب الاجتناب مقدمة.

و ذلك لأنّ الشكّ في طهارة الملاقي ناشئ من طهارة الملاقي و نجاسته، فليس الأصل(الطهارة) الجاري في الملاقي، في رتبة الأصل الجاري في الملاقي في رتبة واحدة، و بما أنّ أصالة الطهارة في الملاقي معارضة لأصالة الطهارة في الطرف الآخر فتتعارضان و تتساقطان، فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

و الحاصل: أنّ الأصل يجري في الملاقي و الطرف الآخر ثمّ يتساقطان، و لا يجري في الملاقي حين جريانه في الملاقي لتأخّر رتبته عن الملاقي و المفروض انّ الأصلين فيهما تعارضا و تساقطا، فيكون الأصل في جانب الملاقي بلا معارض.

استدل القائل بالاجتناب عن الملاقي بأنّه بعد العلم بالملاقاة يتبدّل العلم، الثُنائي الأطراف، إلي ثُلاثي الأطراف، فيحصل العلم إمّا بنجاسة الملاقي و الملاقي أو ذاك الطرف، و ذلك لاتحاد حكم الملاقي و الملاقي، فلو كان الأوّل طرفاً للعلم، فالثاني أيضاً كذلك، وعليه يجب الاجتناب عن الجميع لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الموجود في البين.

يلاحظ عليه: بما مرّ في التنبيه الثالث من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف علي كلّ تقدير، فلو أحدث علي تقدير دون آخر فلا

ص: 135

يكون منجِّزاً.

و هذا الشرط موجود في العلم الأوّل لأنّه لمّا لم يكن واحد من المشتبهين محكوماً بوجوب الاجتناب، حدث العلم الإجمالي مؤثراً، و هذا بخلاف العلم الثاني، لأنّه حدث عند ما كان الطرف الآخر محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الإجمالي الأوّل، و معه لا يُحدث في الملاقي و لا يؤثر فيه حكماً لفقدان الشرط المؤثّر في تنجيز العلم الإجمالي، أعني: كونه محدثاً للتكليف علي كلّ تقدير، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدويّة يجري فيه الأصل بلا معارض.

فإن قلت: انّ هنا علماً إجمالياً ثالثاً و هو العلم الإجمالي بنجاسة الطرف، أو الملاقي و الملاقي معاً فالطرفان بين أُحاديّ، و ثُنائيّ.

قلت: ليس هذا علماً ثالثاً وراء العلمين و إنّما هو تلفيق منهما و قد عرفت أنّ العلم الأوّل منجز دون الثاني، فليس هنا علم ثالث نبحث في حكمه.

هذا خلاصة الكلام و التفصيل موكول إلي دراسات عليا.

ص: 136

المقام الثاني: أصالة الاحتياط الشبهة الوجوبية

اشارة

قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به ينقسم إلي شبهة تحريمية و إلي شبهة وجوبية، و قد تمّ الكلام في الأُولي مع الإشارة إلي مسائلها الأربع، و لكن ركزنا البحث علي مسألة واحدة من المسائل الأربع و هي الشبهة الموضوعية لعدم وجود تطبيقات عملية لسائر مسائلها الثلاث.

بقي الكلام في الشبهة الوجوبية من المكلّف به فهي تنقسم إلي قسمين، تارة يكون الشكّ مردداً بين المتباينين كتردد الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة.

و أُخري بين الأقل و الأكثر كتردد الواجب بين الصلاة مع السورة أو بدونها. و بذلك يقع الكلام في موضعين.

و لما كان حكم المتباينين واضحاً و هو وجوب الاحتياط فيهما مضافاً إلي أنّا تعرضنا له في الموجز (1)نقتصر في المقام من الشبهة الوجوبية علي الأقل و الأكثر.

ثمّ إنّ الأقل و الأكثر ينقسمان إلي الاستقلاليين و الارتباطيين، و الفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي علي فرض وجوبه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، كالفائتة المرددة بين الواحد و الكثير، و الدّين المردّد بين الدرهم و الدرهمين، بخلاف الأقل الارتباطي فانّه علي فرض وجوب الأكثر، متحد معه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، و لا استقلال له في شيء من الأُمور الثلاثة، كالشكّ في وجوب الصلاة مع السورة أو لا معها.

ص: 137


1- . الموجز:202.

ثمّ إنّ المشكوك في الشبهة الوجوبية يكون تارة الجزء الخارجي كالسورة و القنوت و جلسة الاستراحة بعد السجدتين، و أُخري الشرط أي الخصوصية المعتبرة في العبادة، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات و المسحات بنيّة التقرب، و ثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به، كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال أو المردد بين الأُمور الثلاثة، و حكم الجميع واحد.

و الأقوال في المقام لا تتجاوز عن ثلاثة:

أ. جريان البراءة العقلية و الشرعية.

ب. القول بالاحتياط و عدم جريانهما.

ج. التفصيل بين العقلية و الشرعية تجري الأُولي دون الثانية.

و لكن الحقّ جريانهما معاً، و قد استدل علي البراءة العقليّة بوجوه مختلفة نذكر منها وجهاً واحداً و هو أوضح الوجوه.

و هو انّ الأمر و إن تعلق بعنوان الصلاة لكنّها ليست شيئاً مغايراً للأجزاء بل هو عبارة أُخري عن نفس الأجزاء لكن بصورة الجمع و الوحدة في التعبير. و ذلك لانّ الاجزاء تارة تلاحظ بصورة الكثرة بملاحظة كلّ جزء مستقلاً مع جزء آخر، و أُخري تلاحظ بنعت الجمع و في لباس الوحدة، و العنوان المشير إلي ذات الأجزاء بهذا النعت هو عنوان الصلاة. و هي نفس الأجزاء في لحاظ الوحدة و علي نحو الجمع في التعبير.

إذا علمت ذلك فنقول: إنّ الحجة قامت علي وجوب العنوان نحو قوله:»أقم الصلاة« و قيام الحجّة عليه نفس قيامها علي الأجزاء، و قد عرفت أنّ نسبة الصلاة إليها نسبة المجمل إلي المفصّل لكن الاحتجاج بالعنوان علي وجوب

ص: 138

الأجزاء إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلي جزء و جزء حتي يكون داعياً إليه، و أمّا إذا جُهلت جزئية الشيء فلا يكون الأمر به، حجّة عليها و داعياً إليها ضرورة انّ قوام الاحتجاج بالعلم، و العلم بتعلّق الأمر المركب، إنّما يكون حجّة علي الأجزاء التي علم تركب المركب منها دون ما لا يكون.

و إن شئت نزّل المقام علي ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان، فكما أنّه لا يحتج إلاّ علي الأجزاء المعلومة دون المشكوكة، فهكذا المقام فانّ الأمر و إن تعلق بالعنوان مباشرة دونها، لكنّك عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلي المفصل، فالأجزاء في مرآة الإجمال، عنوان; و في مرآة التفصيل، أجزاء.

و علي ضوء ذلك: إذا بذل العبد جهده للعثور علي الأجزاء التي ينحلّ العنوان إليها، فلم يقف إلاّ علي التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل، يستقل العقل بانّه ممتثل حسب قيام الحجة و يعدّ العقاب علي ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.

و بعبارة موجزة: انّ العقل يستقل بقبح مؤاخذ مَنْ أُمر بمركب لم يُعلَم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء، و يشكّ في وجود جزء آخر، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل علي جزئية ذلك الأمر، فلم يعثر فأتي بما علم و ترك المشكوك، خصوصاً مع اعتراف المولي بعدم نصب قرينة عليه، فكما تقبح المؤاخذة فيما إذا لم ينصب قرينة فهكذا تقبح فيما إذا نصب و لكن لم تصل إلي المكلّف بعد الفحص و هذا تقرير للبراءة العقلية. (1)

و بهذا يعلم جريان البراءة الشرعية حيث إنّ تعلّق الوجوب الشرعي بالنسبة إلي الجزء أو الشرط أو القيد مجهول فيشمله حديث الرفع و غيره من أدلّة البراءةن.

ص: 139


1- . ثمّ إنّ ما ذكرنا من الدليل، غير ما هو المعروف من القوم في المقام من كون الأقلّ واجباً علي كلّ تقدير و الأكثر مشكوك الوجوب فانّ الاستدلال علي البراءة بهذا الطريق ذو شجون.

الشرعية.

و من هنا يعلم انّ المرجع في الأقل و الأكثر هو البراءة من غير فرق بين أن يكون منشأ الشك فقدان النص كما علمت أو إجمال النص، كما إذا دلّ الدليل علي غسل ظاهر البدن و يشك في أنّ الجزء الفلاني داخل فيه أو لا، أو تعارض النصين، كما إذا دلّ دليل علي جزئية السورة، و أُخري علي عدم جزئيتها، فالمرجع حسب القاعدة الأُولي هو البراءة، غير انّ الأدلة الشرعية دلت علي التخيير بين الدليلين عند عدم المرجح. (1)

أو كان منشأ الشك خلط الأُمور الخارجية، كما إذا أمر بتكريم مجموع العلماء علي نحو العام المجموعي بأن يكون هناك وجوب واحد و إطاعة واحدة فشكّ في كون زيد عالماً أو لا.فالمرجع هو البراءة، لأنّ الشكّ في كون زيد عالماً يرجع إلي الشكّ في كون الموضوع ذا أجزاء كثيرة أو قليلة فيكون حكمه، حكم الأقل و الأكثر الارتباطيين. (2)

و ثمة سؤال و هو لما ذا خصصنا الأقل و الأكثر بالشبهة الوجوبية و لم نتعرض له في الشبهة التحريمية؟ و الجواب واضح لأنّ مرجع دوران الأمر بين الأقل و الأكثر في الشبهة التحريمية إلي الشكّ في أصل التكليف، لأنّ الأقل معلوم الحرمة و الشكّ في حرمة الأكثر، نظير الشك في الأقل و الأكثر الاستقلاليين في المقام.2.

ص: 140


1- . سيوافيك تفصيله في التعادل و الترجيح، ص194.
2- . فوائد الأُصول:4/202.
تنبيهات
التنبيه الأوّل: حكم النقيصة السهوية

إذا ترك جزء المركب أو شرطه سهواً فهل تبطل عبادته أو لا؟ و الكلام في المقام في تبيين حكم القاعدة الأُولي دون النظر إلي الأدلة الخارجية.(القاعدة الثانويّة) أقول: إنّ للمسألة صوراً:

الأُولي: إذا كان لدليل المركب إطلاق يدلّ علي مطلوبية الباقي مطلقاً سواء كان معه الجزء المنسيّ أو لا، مثل قوله(عليه السلام): »لا تترك الصلاة بحال« إذا كان لفظ الصلاة صادقاً علي غير المنسي.

الثانية: إذا كان لدليل الجزء إطلاق يدل علي مدخليته في المركب مطلقاً في حالتي الذكر و النسيان، كقوله(عليه السلام): »لا صلاة إلاّ بطهور«.

الثالثة: أن يكون لكلّ من دليلي المركب و الجزء إطلاق، فمقتضي إطلاق دليل المركب وجود الأمر بالباقي، و مقتضي إطلاق دليل الجزء عدم الأمر بالباقي.

الرابعة: أن لا يكون لواحد منهما إطلاق.

أمّا الصورة الأُولي: أي وجود الإطلاق لدليل المركب دون دليل الجزء، فيؤخذ بمقتضي إطلاق دليل المركب، و يحكم بصحّة المأتي به عدا المنسيّ، و لو شكّ في جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان تجري أصالة البراءة فيها.

أمّا الصورة الثانية: أي إذا كان لدليل الجزء و الشرط إطلاق دون دليل المركب، فيدلّ علي فعلية أحكامهما في حالتي الذكر و النسيان، و مقتضي الإطلاق

ص: 141

عدم الاكتفاء بالمأتي به، و لو ارتفع النسيان كان عليه الإعادة أو القضاء.

و أمّا الصورة الثالثة: أي إذا كان لكلّ من الدليلين إطلاق فيقدم إطلاق دليل الجزء علي إطلاق المركب تقدمَ المقيد علي المطلق، فإنّ دليل المركّب و إن كان يدلّ علي مطلوبية كلّ واحد من الأجزاء غير المنسيّة حالتي الذكر و النسيان و بالتالي يدل وجود الأمر بما عدا المنسي سواء أنسي الجزء الآخر أم لا، لكن دليل الجزء أخص منه حيث يدلّ علي دخله في صحّة المركب و عدم إيفاء الباقي بغرض المولي مطلقاً ذاكراً كان أو ناسياً، فيقدم علي إطلاق المركب، و علي ذلك فلا يجوز الاكتفاء بما عدا المنسي، فإذا قال المولي:

»لا صلاة إلاّ بطهور« (1) أو قال: »لا صلاة لمن لا يقيم صلبه«. (2) كان ظاهرهما مدخليتهما في ماهية الصلاة و حقيقتها، فيعمّان حالتي الذكر و النسيان، فتكون النتيجة بطلانَ الصلاة المنسيّ جزؤها حسب إطلاق دليل الجزء و الشرط، و ليس المقام مجري للبراءة العقلية أو الشرعية من شرطية الشرط أو جزئية الجزء لفرض وجود الدليل الاجتهادي، أعني: الإطلاق فيهما.

و أمّا الصورة الرابعة: أعني: إذا لم يكن لدليل المركب و لا لدليل الجزء إطلاق فأتي بما عدا المنسي ثمّ ذكر بعد الفراغ عن العمل، فهذا هو المناسب للمقام و المحكّم فيه هو البراءة، لأنّ الواقع لا يخلو من أحد أمرين، إمّا أن تكون الجزئية مطلقة تلزم إعادتها، أو مختصة بحال الذكر فيكفي ما أتي به، فيكون مرجع الشك في وجوب الإعادة، إلي الشك في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان و الأصل البراءة من الجزئية أو الشرطية في هذه الحالة، فيحكم عليها بالصحّة.2.

ص: 142


1- . الوسائل: 1، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
2- . الوسائل: 1، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 1و2.
التنبيه الثاني: تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء
اشارة

التنبيه الثاني: تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء (1)

إذا عُلِمت جزئية شيء أو شرطيته و دار الأمر بين كونه جزءاً أو شرطاً مطلقاً و لو في حال العجز حتي يسقط الأمر بالباقي لعدم تمكنه من الإتيان بالمأمور به، أو كونه جزءاً أو شرطاً في حال التمكّن فيبقي الأمر بالباقي علي حاله، فللمسألة صور أربع:

الأُولي: أن يكون لدليل المركّب وحده إطلاق بالنسبة إلي سائر الأجزاء يعم الحكم حالتي التمكّن و التعذّر.

الثانية: أن يكون لدليل الجزء وحده إطلاق يعم الحكم كلتا الحالتين.

الثالثة: أن يكون لكلا الدليلين إطلاق.

الرابعة: أن لا يكون لواحد منهما إطلاق.

فالمحكّم هو الدليل الاجتهادي، أعني: الإطلاق في الأوّلين، فتكون النتيجة لزوم الإتيان بغير المتعذّر في الأُولي و عدمه في الثانية، و تقديم إطلاق الجزء علي إطلاق المركّب في الصورة الثالثة، فتكون النتيجة عدم جواز الإتيان بغير المتعذر، لتقدّم إطلاق دليل الجزء علي دليل المركّب، تقدمَ المقيد علي المطلق. كما مرّ في النقيصة السهويّة.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة، أي ما لا يكون هناك إطلاق في كلا الموضعين، فهل يجب الإتيان بالباقي إذا كان عنوان المركّب صادقاً علي الباقي، كالأمر بالصلاة في ثوب طاهر مع تعذر إقامتها في الطاهر، أو لا؟

ص: 143


1- . كان البحث في التنبيه السابق في جريان البراءة بعد العمل أي الإتيان بما عدا المنسيّ، بخلاف المقام فالبحث في جريانها قبل الإتيان بما عدا المتعذر. و كلا الأمرين يرجعان إلي أمر واحد: و هو انّ الأصل في الجزئية و الشرطية، الركنيّة أو لا، فلاحظ.

الظاهر هو الثاني، لأنّ التكليف المتيقّن إنّما كان بمجموع الأجزاء و الشرائط، فإذا لم يتمكّن من بعضها فكأنّه لم يتمكّن من الكل بما هو كل، فالتكليف الجديد بالنسبة إلي الباقي يحتاج إلي الدليل و الأصل البراءة منه.

قاعدة الميسور

و ربما يقال بوجوب الإتيان بالباقي تمسّكاً بقاعدة الميسور التي دلّ عليها الحديث النبويّ و الولويّ.

1. روي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّه قال: خطبنا رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)فقال:

»أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا« فقال رجل: أ كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتي قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »لو قلت نعم لوجب و لما استطعتم« ثمّ قال: »ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم علي أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فدعوه«. (1)

و الرواية غير صالحة سنداً و متناً.

أمّا الأوّل: فيكفي في ضعفه كون الناقل ممّن لا يصحّ الاحتجاج برواياته.

و أمّا الثاني: فإنّ الرواية ناظرة إلي واجب ذي افراد لا ذي أجزاء بقرينة موردها، و هو الحج، و بقرينة قول الرجل: أ كلّ عام يا رسول اللّه؟ و لكنّ الكلام في المقام انّما هو في واجب ذي أَجزاء لا في واجب ذي افراد.

2. ما رواه صاحب »غوالي اللآلي« قال الإمام عليّ(عليه السلام):»لا يُترك الميسور بالمعسور«. (2) و قال(عليه السلام):»ما لا يُدْرَك كُلُّه لا يُترَكُ كُلّه«. (3)

ص: 144


1- . التاج الجامع للأُصول:2/100، كتاب الحج.
2- . غوالي اللآلي:4/58 برقم 205و207.
3- . غوالي اللآلي:4/58 برقم 205و207.

يلاحظ عليهما: عدم ثبوت سند الحديثين.

و أمّا الدلالة، فالظاهر أنّه لا غبار في دلالتهما شريطة أن يكون الباقي ميسوراً للمعسور، كالثمانية بالنسبة إلي العشرة، لا الخمسة بالنسبة إليها.

و مثله قوله:»ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه« المنصرف إلي ما إذا كان المُدرَك مرتبة ناقصة ممّا لا يُدرك.

التنبيه الثالث: حكم الزيادة السهوية

انّ لزيادة الجزء صوراً ثلاثاً:

أ. إذا أُخذ شيء جزء للمركب و أُخذَ عدم زيادته قيداً للمركب لا لجزئيّة الجزء، بأن يقول: يجب عليك الصلاة بشرط عدم زيادة جزء من أجزائها.

ب. إذا أخذ شيء جزء للمركّب لكن أُخذ عدم زيادته قيداً لجزئيّة الجزء فصار الجزء بقيد الوحدة جزء، كأن يقول: اركع بشرط عدم الزيادة.

ج. إذا أخذ شيء جزءاً و كان بالنسبة إلي الزيادة لا بشرط، بأن تكون الزيادة و عدمها غير مؤثرين في صحّة الواجب و لا في بطلانه.

فلا شكّ انّ الصلاة في الصورتين الأُوليين باطلة لعدم كون المأتي به موافقاً للمأمور به كما لا شكّ في صحّة الصلاة في الصورة الثالثة.

إنّما الكلام فيما إذا لم تحرز كيفية اعتبار الجزء و دار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم الثالث. فيقع الكلام في مقتضي القاعدة الأوّلية، و المرجع هو البراءة، لأنّ مرجع الشك إلي أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء أو أخذ الزائد مانعاً، و قاطعاً و الأصل في الجميع هو العدم. هذا حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية، و أمّا حكمها حسب القواعد الثانوية فهو موكول إلي الفقه.و لكن نقول علي وجه الإجمال انّ مقتضي القاعدة الثانوية هو البطلان في موارد خمسة

ص: 145

اعتماداً علي قاعدة »لا تعاد«.

روي زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: »لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود« ثمّ قال: »القراءة سنّة، و التشهد سنّة فلا تنقض السنة الفريضة« (1)، هذا بناء علي أنّ شمول الحديث النقيصة و الزيادة.

التنبيه الرابع: دوران الأمر بين شرطية شيء و مانعيته أو قاطعيته

التنبيه الرابع: دوران الأمر بين شرطية شيء و مانعيته أو قاطعيته (2)

إذا علمنا اعتبار شيء في المأمور به و لكن دار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة أو وجوده مانعاً عنها. (3) و هذا كالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث قيل بوجوبه، و قيل بوجوب الإخفات، و كتدارك الحمد بعد الدخول في السورة و غيرهما من الشبهات الحكمية.

الظاهر وجوب الاحتياط إذا أمكن، كما إذا كان للواجب أفراد طولية، كصلاة الظهر في يوم الجمعة فدار الأمر بين كون الجهر شرطاً أو مانعاً فيجب التكرار، و نظير ذلك دوران الأمر بين التمام و القصر للشك في كون الركعتين الأخيرتين جزءاً أو مانعاً.

نعم إذا لم يتمكّن إلاّ من فرد واحد كصلاة الجمعة في الشبهة الحكمية، فالمرجع هو التخيير.

خاتمة: في شرائط العمل بالاحتياط و البراءة

اشارة

و المراد من الشرائط ما هو شرط لجريانهما دون جواز العمل بهما، و الفرق

ص: 146


1- . الوسائل:3، الباب 1 من أبواب القبلة، الحديث1.
2- . و مثله ما إذا دار الأمر بين جزئية شيء و مانعيته أو قاطعيته و الحكم في الجميع واحد.
3- . قد تقدّم انّ معني المانعية هو وجود الشيء مزاحماً للصحّة لا اعتبار عدمه في المأمور به إذ العدم ليس شيئاً قابلاً للاعتبار.

بينهما واضح، لأنّ الشرائط علي قسمين:

الأوّل: ما يكون وجوده محقِّقاً لموضوع الأصل بحيث لولاه لما كان هناك محلّ للأصل.

الثاني: ما يكون وجوده شرطاً للعمل بالأصل علي وجه يكون الأصل جارياً، و لكن لا يعمل به إلاّ مع هذا الشرط، و إليك الكلام في كلا الشرطين علي وجه الإيجاز.

أصل الاحتياط و شروط جريانه

لا شكّ في حسن الاحتياط لكونه طريقاً لتحصيل الحقّ و العمل به و العقل حاكم بحسنه، و لا يشترط فيه سوي أمرين:

1. عدم استلزامه لاختلال النظام.

2. عدم مخالفته لاحتياط آخر.

و أمّا موارده فتنحصر في المواضع التالية:

1. الاحتياط المطلق فيما إذا لم يكن هنا علم إجمالي و لا حجّة شرعية، كالشبهة البدويّة.

2. الاحتياط فيما إذا كان هناك علم وجداني إجمالي.

3. الاحتياط إذا كانت هناك حجّة شرعية لها إطلاق بالنسبة إلي المعلوم بالتفصيل و المعلوم بالإجمال.

أصل البراءة و شرط جريانه

اشارة

لا يشترط في جريان البراءة في الشبهات الحكمية إلاّ الفحص عن الدليل الاجتهادي، لأنّ البيان الرافع لقبح العقاب هو البيان الواصل هذا من جانب.

ص: 147

و من جانب آخر ليس المراد من الواصل هو إيصاله إلي كلّ واحد بدقّ باب بيته و إعطائه البيان، بل المراد وجود البيان في مظانّه علي وجه لو أراد لوقف عليه، و علي هذا فوجود البيان عند الرواة أو حملة العلم أو في الجوامع الحديثية كاف في رفع القبح و مع احتماله فيها لا يستقل العقل بالقبح ما لم يتفحّص.

و أمّا الشبهات الموضوعية، فالظاهر تسالم الأُصوليين علي عدم وجوب الفحص، و لكنّه علي إطلاقه غير صحيح، و إنّما لا يحتاج إلي الفحص إذا كان تحصيل العلم منوطاً بمقدّمات بعيدة.

و أمّا إذا كان العلم بالواقع ممكناً بأدني نظر، كالنظر إلي الأُفق فيمن شكّ في دخول الفجر فيجب عليه الفحص، و مثله إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية حدّ النصاب، أو الشكّ في زيادة الربح علي المئونة، أو الشكّ في حصول الاستطاعة المالية للحج، أو الشكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجلاّت، إلي غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي يحصل العلم بها بأدني تأمل.

و أمّا شرائط العمل بالبراءة فيمكن أن يعدّ منها، عدم معارضته مع أصل آخر، كما في موارد العلم الإجمالي، أو أن لا يكون علي خلاف المنّة.و لا يختص هذا الشرط بالبراءة، بل يعم الاضطرار الوارد في حديث الرفع أيضاً، كعدم الضمان في عام المجاعة إذا توقفت حياة المضطر علي أكل طعام الغير، فالمرفوع هو حرمة التصرف لأجل الاضطرار لا الضمان، فالتصرف جائز لكن مع ضمان قيمته، لأنّ عدمه علي خلاف المنَّة.

صحّة عمل تارك الفحص و عدمها

إذا ترك المجتهد الفحص عن الدليل الاجتهادي، أو ترك العامي طريقي

ص: 148

الاجتهاد و التقليد، فهل يحكم بصحّة العمل أو لا؟ لا شكّ في عدم الصحّة إذا خالف الواقع توصليّاً كان أو تعبديّاً ، و كما لا شكّ في الصحة إذا صادف الواقع في التوصليات كالمعاملات، لأنّ الصحّة ليست رهن قصد القربة، و أمّا العبادات إذا صادفت الواقع، فإن تمكن من الإتيان بها بقصد القربة كما إذا كان غافلاً حين العمل صحّت عبادته ظاهراً لحصول شرطها و هي القربة و مطابقتها للواقع، و إلاّ فهي باطلة لخلوّها من التقرّب.

نعم اتّفق الأصحاب علي بطلان عمل الجاهل المقصّر في التعبديات إذا خالف الواقع إلاّ في موضعين، فأفتوا بالصحّة و عدم لزوم الإعادة و القضاء، و ذلك:

أ. إذا أتمّ في موضع القصر(دون العكس).

ب. إذا جهر في موضع الإخفات أو بالعكس، لتضافر الروايات علي ذلك. (1)

تمّ الكلام في الاحتياط، و يليه البحث في الأصل الرابع، و هو الاستصحاب.

و الحمد للّه ربّ العالمين1.

ص: 149


1- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3و4و8و11.

الأصل الرابع: الاستصحاب

اشارة

الاستصحاب أحد الأُصول الأربعة العامة الذي له دور كبير في استنباط الوظيفة العملية، و لم يزل يُتمسك به بين الفقهاء من عصر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)إلي يومنا هذا، و يتميز عن سائر الأُصول الثلاثة بوجود الحالة السابقة و ملاحظتها.

أمّا وجود الحالة السابقة فهو أساس الاستصحاب، و أمّا اشتراط كونها ملحوظة، فلأجل انّه ربّما لا تكون الحالة السابقة معتبرة عند الشارع بأن تكون حجة في استنباط الوظيفة العملية كما سيوافيك موارده. (1)

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: الاستصحاب في اللغة

أخذ الشيء مصاحَباً أو طلب صحبته، و في الاصطلاح»إبقاء ما كان علي ما كان « و المعروف بين المتأخرين أنّ الاستصحاب أصل كسائر الأُصول و إن كانت مرتبته متقدّمة علي سائر الأُصول العملية لكن الظاهر من قدماء الأُصوليين أنّه أمارة ظنية، فكأنّ اليقين السابق بالحدوث أمارة ظنية لبقاء الشيء في ظرف

ص: 150


1- . كما في الشكّ في المقتضي عند الشيخ الأنصاري، أو في الشبهات الحكمية التي أنكر المحقّق النراقي و تبعه المحقق الخوئي، حجّية الاستصحاب فيها و خصّا الحجّية بالشك في الشبهات الموضوعية.

الشك، إذ ليس المراد من الشك هو الشكّ المنطقي أعني به تساوي الطرفين حتي ينافي الظن بالبقاء، بل المراد احتمال الخلاف الجامع مع الظن بالبقاء.

و أمّا المتأخرون فلم يعتبروه أمارة ظنية بل تلقّوه أصلاً عملياً و حجّة في ظرف الشك، و استدلّوا عليه بروايات ستوافيك.

الثاني: الاستصحاب مسألة أُصولية لا قاعدة فقهية،

و ذلك لأنّ المعيار في تمييز المسائل الأُصولية عن القواعد الفقهية هو محمولاتها.

توضيحه: انّ المحمول في القواعد الفقهية لا يخلو إمّا أن يكون حكماً فرعيّاً تكليفيّاً كالوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة و الإباحة. أو حكماً فرعيّاً وضعيّاً كالضمان و الصحّة و البطلان. مثلاً قوله:»كل شيء حلال حتي تعلم أنّه حرام« قاعدة فقهية بحكم أنّ المحمول هو الحليّة، التي هي من الأحكام الفرعية التكليفية، كما أنّ قوله: »ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده« قاعدة فقهية، لأنّ المحمول فيها هو الضمان و هو حكم وضعي، و مثله قوله:»لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس: الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود« (1) فانّ المحمول هو البطلان في الخمسة و الصحّة في غيرها. هذا هو ميزان القاعدة الفقهية.

و أمّا القاعدة الأُصولية فتختلف محمولاً عن القاعدة الفقهية، فالمحمول فيها ليس حكماً شرعياً تكليفياً أو وضعياً، بل يدور حول الحجّية و عدمها، فنقول: الظواهر حجّة، الشهرة العملية حجّة، خبر الواحد حجّة، أصل البراءة و الاحتياط و الاستصحاب، كلٌّ حجّة في ظرف الشك.

و ربما يخطر بالبال بأنّ المحمول في المسائل الأُصولية ربما يكون غير الحجّة، كقولك: الأمر ظاهر في الوجوب و النهي ظاهر في الحرمة، و لكنّه عند التدقيق يرجع إلي البحث عن الحجّة علي الوجوب و الحرمة، فالغاية من إثبات ظهورهما هي إقامة الحجّة علي الوجوب و التحريم.

و إن شئت قلت: الغاية من إثبات الصغري(كونه ظاهراً في الوجوب) هي

ص: 151


1- . الوسائل:4، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

احتجاج المولي به علي العبد. و روح المسألة عبارة عن كون الأمر حجّة في الوجوب أو لا، و هكذا كلّ ما مرّ في باب الأوامر و النواهي.

الثالث: قد تضافرت الأخبار عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)في...

الثالث: قد تضافرت الأخبار عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)في مضمون »أنّ اليقين لا يُنقض بالشك«،

و ظاهره اجتماعهما في زمان واحد و عدم نقض أحدهما الآخر، و هو في بادئ النظر أمر غريب، لأنّهما لا يجتمعان حتي لا ينقض أحدُهما الآخر، لأنّ اليقين هو الجزم بشيء، و الشكّ هو التردّد و انفصام الجزم، فكيف يجتمعان؟! و الجواب أنّ اليقين و الشكّ لا يجتمعان إذا كان المتعلّق واحداً ذاتاً و زماناً، كما إذا فرضنا انّه تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ في نفس ذلك اليوم في عدالته، ففي مثله لا يمكن اجتماع اليقين و الشكّ، فعند ما يكون متيقناً لا يمكن أن يكون شاكاً و بالعكس.

و أمّا إذا كان متعلقاهما متحدين جوهراً، و متغايرين زماناً، فاليقين و الشكّ يجتمعان قطعاً، مثلاً لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لكن صدر منه يوم السبت فعلٌ شكَ معه في بقاء عدالته في ذلك اليوم، ففي هذا الظرف يجتمع اليقين و الشكّ فهو في آن واحد متيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لا يشك فيه أبداً، و هو في الوقت نفسه شاك في عدالته يوم السبت، و بذلك صحّ اجتماع اليقين و الشكّ في زمان واحد لتغاير المتعلّقين زماناً، و إلي ذلك يؤول قولهم في باب الاستصحاب »اليقين يتعلّق بالحدوث و الشكّ بالبقاء« فمقتضي الاستصحاب إبقاء عدالة زيد يوم الجمعة إلي يوم السبت و ترتيب أثر العدالة في زمان الشك.

و بذلك علم أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين:

أ. فعليّة اليقين في ظرف الشكّ، و وجودهما في آن واحد في وجدان المستصحِب.

ص: 152

ب. وحدة متعلّقهما جوهراً و ذاتاً، و تعدده زماناً بسبق زمان المتيقن علي المشكوك.

الرابع:الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين

إنّ في مصطلح الأُصوليين قاعدة موسومة بقاعدة اليقين و الشك الساري لسريان الشكّ إلي نفس اليقين كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة(لا السبت) و قد تبين بذلك أركان قاعدة اليقين:

أ. عدم فعلية اليقين في ظرف الشك.

ب. وحدة متعلقهما جوهراً و زماناً، حيث تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين و هو عدالة يوم الجمعة.

و المعروف بين الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. و انّ روايات الباب منطبقة علي الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.

***

الخامس: انّ هنا قاعدة ثالثة

و هي قاعدة المقتضي و المانع التي تغاير القاعدتين الماضيتين و تختلف عنهما باختلاف متعلّق اليقين و الشك جوهراً و ذاتاً فضلاً عن الاختلاف في الزمان.

مثلاً إذا تيقن بصبِّ الماء علي اليد للوضوء، و شك في تحقّق الغَسْل للشك في المانع. أو تيقن برمي السهم و شكّ في القتل للشك في وجود المانع، فمتعلّق اليقين غير متعلّق الشكّ بالذات، حيث تعلّق اليقين بصبّ الماء و الرمي، و تعلّق الشكّ بوجود الحاجب و المانع.

نعم يتولد من هذا اليقين و الشكّ، شك آخر، و هو الشكّ في حصول

ص: 153

المقتضي أعني: الغَسْل و القَتل، و القائل بحجّية تلك القاعدة يتمسك بأصالة عدم المانع و الحاجب و يثبت بذلك الغَسل أو القتل. بحجّة انّ المقتضي موجود، و المانع مرفوع بالأصل فيكون »المقتضي« محقّقاً.و ربما حاول تطبيق روايات الباب علي تلك القاعدة. (1)

و المشهور أعرضوا عن تلك القاعدة بحجّة عدم الدليل عليها.

السادس:تقسيمات الاستصحاب

اشارة

إنّ للاستصحاب تقسيمات، تارة باعتبار المستصحَب، و أُخري باعتبار الشكّ المأخوذ فيه، و إليك البيان:

1. تقسيمه باعتبار المستصحَب

ينقسم الاستصحاب باعتبار المستصحَب إلي الأقسام التالية:

ألف. أن يكون المستصحَب أمراً وجوديّاً أو عدميّاً، كاستصحاب الكرّية إذا كان الماء مسبوقاً بها، أو عدم الكرّية إذا كان مسبوقاً به.

ب. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً تكليفيّاً سواء أ كان كليّاً كاستصحاب حليّة المتعة، أم جزئياً كاستصحاب وجوب الإنفاق علي الزوجة المعيّنة إذا شكّ في كونها ناشزة.

ج. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً وضعياً لا تكليفياً كاستصحاب الزوجية، و الجزئية، و المانعية و الشرطية، و السببية عند طروء الشك في بقائها.

د. أن يكون المستصحب موضوعاً لحكم

ص: 154


1- . لاحظ تعليقة المحقّق الخراساني علي الفرائد،ص195 عند البحث عن مفاد »لا تنقض« فقد ردّ علي القائل بالقاعدة ردّاً عنيفاً.

شرعي سواء كان موضوعاً لحكم شرعي تكليفي، أو موضوعاً لحكم وضعي، و هذا كاستصحاب حياة زيد، فتترتب عليه حرمة قسمة أمواله، و بقاء علقة الزوجية بينه و بين زوجته.

2. تقسيمه باعتبار الشك

ينقسم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه إلي الأقسام التالية:

أ. أن يتعلّق الشكّ باستعداد المستصحَب للبقاء في الحالة الثانية، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء، المتغيّرِ أحدُ أوصافه الثلاثة، بالنجس، إذا زال تغيره بنفسه، حيث إنّه يتعلّق الشكّ بمقدار استعداد النجاسة للبقاء، بعد زوال تغيّره بنفسه، و مثله الشكّ في بقاء الليل أو النهار، حيث إنّه يتعلّق بمقدار استعدادهما للبقاء من حيث الطول و القِصَر، و هذا ما يسمّي بالشكّ في المقتضي.

ب. و أُخري يتعلّق بطروء الرافع مع إحراز قابلية بقاء المستصحب و دوامه لولاه، و هو علي أقسام:

1. أن يتعلّق الشكّ بوجود الرافع، مع إحراز قابلية بقائه و دوامه لو لا الرافع، كما إذا شكّ في وجود الحدث بعد الوضوء.

2. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه، كالمذي الخارج من الإنسان، فيشك في أنّه رافع للطهارة مثل البول أو لا؟ فيرجع الشكّ إلي رافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه.

3. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بوصفه و حاله، كالبلل المردّد بين البول و الوذي مع العلم بحكمهما.

هذه هي التقسيمات الرئيسيّة، و هناك تقسيمات أُخري تركنا ذكرها للاختصار.

ص: 155

إذا عرفت ذلك، فاعلم انّه استدلّ علي حجّية الاستصحاب بوجوه

اشارة

مختلفة أصحها هو الأخبار المتضافرة في المقام و قد أوردنا في الموجز ثلاث روايات، فلنذكر سائرها.

1. صحيحة زرارة الثالثة

روي الكليني ، عن زرارة، عن أحدهما(عليهما السلام)قال:» إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخري و لا شيء عليه، و لا ينقض اليقين بالشك«. (1)

وجه الاستدلال: الظاهر انّ قوله:»و لا ينقض اليقين بالشك« علّة للأمر بإضافة ركعة أُخري، فكأنّه يقول: يأتي بركعة أُخري و لا شيء عليه، لأنّه كان علي يقين بعدم الإتيان بها فليمض علي يقينه.

نعم ظاهر قوله:»فأضاف« انّه يأتي بالركعة الاحتياطيّة متصلة، مع أنّ الفتوي علي الانفصال، فتُرفع اليد عن هذا الظاهر بقرينة إجماع الطائفة علي الانفصال.

2. موثقة إسحاق بن عمّار

روي الصدوق باسناده، عن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو الحسن الأوّل: »إذا شككت فابن علي اليقين«، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: »نعم«. (2)

وجه الاستدلال: أنّ ظاهر الكلام فعليّة اليقين و الشكّ، فهو في آن واحد ذو

ص: 156


1- . الوسائل: 5، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3، رواه عن علي بن إبراهيم الثقة عن أبيه، الذي هو فوق الثقة، عن حماد بن عيسي عن حريز عن زرارة و كلّهم ثقات.
2- . الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 2 و سند الصدوق إلي إسحاق بن عمار صحيح في المشيخة.

يقين و شك، فينطبق علي الاستصحاب.

و أمّا قاعدة اليقين، فالشكّ فيها فعلي دون اليقين بل هو زائل كما مرّ في توضيح القاعدة.

أضف إلي ذلك انّ الرواية ظاهرة في الاستصحاب بقرينة وحدة لسانها مع سائر الروايات.

3. مكاتبة القاساني

كتب علي بن محمد القاساني إلي أبي محمد(عليه السلام)، قال: كتبت إليه و أنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب:» اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية و أفطر للرؤية«. (1)

وجه الاستدلال: أنّ المراد من اليقين، إمّا هو اليقين بأنّ الزمان الماضي كان من شعبان فشكّ في خروجه بحلول اليوم التالي، أو اليقين بعدم دخول رمضان و قد شكّ في دخوله.و علي كلا التقديرين لا يكون اليقين السابق منقوضاً بالشك. و هذا هو المراد من قوله: »اليقين لا يدخل فيه الشك«.

4. صحيحة عبد اللّه بن سنان

روي الشيخ بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد الله(عليه السلام)و أنا حاضر: إنّي أُعير الذمِّي ثوبي و أنا أعلم أنّه يشرب الخمرَ، و يأكل لحم الخنزير، فيردّها عليّ أ فأغسِلُه قبل أن أُصلّي فيه؟فقال أبو عبد اللّه(عليه السلام): »صلّ فيه و لا تَغْسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه،

ص: 157


1- . الوسائل: الجزء7، الباب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث13.

فلا بأس أن تصلّي فيه حتي تستيقن أنّه نجّسه«. (1)

وجه الاستدلال: انّ الإمام لم يعلِّل طهارة الثوب بعدم العلم بالنجاسة حتي ينطبق علي قاعدة الطهارة، بل علّله بأنّك كنتَ علي يقين من طهارة ثوبك و شككتَ في تنجيسه فما لم تستيقن انّه نجّسه فلا يصحّ لك الحكم علي خلاف اليقين السابق، و المورد و إن كان خاصّاً بطهارة الثوب لكنه غير مخصِّص و ذلك لوجهين:

الأوّل: ظهور الرواية في صدد إعطاء الضابطة الكلّية.

و الثاني: التعليل بأمر ارتكازيّ يورث إسراء الحكم إلي غير مورد السؤال.

5. خبر بكير بن أعين

روي بكير بن أعين قال: قال لي أبو عبد اللّه(عليه السلام): »إذا استيقنت أنّك توضّأت، فإيّاك أن تحدث وضوءاً حتي تستيقن أنّك أحدثت«. (2)

هذه هي المهمّات من روايات الباب، و فيما ذكرنا غنيً و كفاية.

ثمّ إنّ مقتضي إطلاق الروايات، و كون التعليل(لا تنقض اليقين بالشك) أمراً ارتكازياً، حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب و الموارد، سواء أ كان المستصحب أمراً وجودياً أم عدميّاً، و علي فرض كونه وجوديّاً لا فرق بين كونه حكماً شرعيّاً تكليفياً أو وضعياً أو موضوعاً خارجياً له آثاره الشرعيّة كالكرّية، و حياة زيد، و غير ذلك.

ص: 158


1- . الوسائل: 2، الباب 74 من أبواب النجاسات ، الحديث 1. رواه الشيخ باسناده عن سعد بن عبد اللّه القمي، عن أحمد بن محمد بن عيسي المتوفّي نحو 280ه، عن الحسن بن محبوب المتوفّي عام 224ه، عن عبد اللّه بن سنان، و سند الشيخ إلي سعد بن عبد اللّه صحيح في التهذيبين، لاحظ آخر الكتاب الذي ذكر فيه أسانيده إلي أصحاب الكتب التي أخذ الأحاديث منها.
2- . الوسائل1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 7. و السند صحيح إلي »بكير« غير أنّ بكيراً لم يوثّق لكن القرائن تشهد علي وثاقته.

حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي

ذهب بعضهم إلي عدم حجّيته في خصوص الشكّ في المقتضي دون الرافع، و لإيضاح الفرق بين الشكّين نقول:

كلُّ حكم أو موضوع لو ترك لبقي علي حاله إلي أن يرفعه الرافع فالشكّ فيه شكّ في الرافع، و أمّا كلّ حكم أو موضوع لو ترك لزال بنفسه و إن لم يرفعه الرافع فالشك فيه من قبيل الشكّ في المقتضي، فمثلاً وجوب الصلاة و الصوم و الحجّ من التكاليف التي لا ترفع إلاّ برافع، و ذلك لأنّ الوجوب الجزئي منه لا يُرفع إلاّ بالامتثال، و أمّا الوجوب الكلي فبالنسخ، فالشكّ في الامتثال في مورد الحكم الجزئي، أو الشكّ في النسخ في مورد الحكم الكلي، شك في الرافع، لإحراز المقتضي لبقائه.

و هذا بخلاف ما لو شكّ في بقاء الخيار في الآونة المتأخرة، كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن و تمكّنه من إعمال الخيار، إذا لم يفسخ، فيشكّ في بقاء الخيار، لأجل الشكّ في اقتضائه للبقاء بعد العلم و المساهلة في إعماله، و مثله الشكّ في بقاء النهار إذا كانت في السماء غيوم، فالشكّ في تحقّق الغروب يرجع إلي طول النهار و قصره، فالشكّ فيه شكّ في المقتضي.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل القائل بعدم حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي بدليل مبني علي أمرين:

الأوّل: أنّ حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية، كما في قوله نقضت الحبل، قال سبحانه:( وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً (1) ) (2).

الثاني: أنّ إرادة المعني الحقيقي ممتنعة في المقام لعدم اشتمال اليقين علي

ص: 159


1- سوره 16 - آيه 92
2- . النحل:92.

الهيئة الاتصالية، فلا بدّ من حمله علي المعني المجازي، و أقرب المجازات هو ما إذا تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي للبقاء و شك في رافعه، لا ما شكّ في أصل اقتضائه للبقاء مع صرف النظر عن الرافع، و قد قُرر في محلّه أنّه إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولي.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت في اللغة كون النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية حتي لا تصح نسبته إلي نفس»اليقين« لعدم اشتماله عليها، بل هو عبارة عن نقض الأمر المبرم و المستحكم سواء أ كان أمراً حسيّاً أم قلبيّاً و الشاهد علي ذلك صحّة نسبة النقض إلي اليمين و الميثاق و العهد في الذكر الحكيم، قال سبحانه:

( وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها (1) ) (2) و قال سبحانه:( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ (3) ) (4)و قال سبحانه:( وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (5) ) (6)و اليقين كالميثاق و اليمين و العهد من الأُمور النفسانية المبرمة المستحكمة فتصح نسبة النقض إليه، سواء تعلق بما أحرز فيه المقتضي للبقاء أو لا، و المصحح للنسبة هو كون نفس اليقين أمراً مبرماً مستحكماً، سواء أ كان المتعلّق كذلك، كما في الشكّ في الرافع، أم لم يكن كذلك كما في الشكّ في المقتضي.

هذا تمام الكلام في أدلّة الاستصحاب.5.

ص: 160


1- سوره 16 - آيه 91
2- . النحل:91.
3- سوره 4 - آيه 155
4- . النساء:155.
5- سوره 13 - آيه 25
6- . الرعد:25.

تنبيهات

التنبيه الأوّل: كفاية إحراز المتيقّن بالأمارة

تنبيهات (1) : التنبيه الأوّل: كفاية إحراز المتيقّن بالأمارة

قد عرفت أنّ اليقين بالحدوث من أركان الاستصحاب فلا كلام فيما إذا كان حدوث المتيقّن محرزاً باليقين، إنّما الكلام فيما إذا كان محرزاً بالأمارة و شكّ في بقائه، كما إذا دلّ قول الثقة علي وجود الخيار للمغبون في الآن الأوّل و شُكَّ في بقائه في الآن الثاني، أو دلّت البيّنة علي حياة زيد أو كونه مالكاً فشُك في بقاء حياته أو مالكيته فهل يحكم بالبقاء أو لا؟ وجه الإشكال أنّه لا يقين بالحدوث لعدم إفادة قول الثقة أو البيّنة ، اليقينَ فكيف يحكم بالبقاء؟ و الجواب أنّ المراد من اليقين في أحاديث الاستصحاب هو الحجّة علي وجه الإطلاق، لا خصوص اليقين بمعني الاعتقاد الجازم، كما هو المصطلح في علم المنطق، و الشاهد علي ذلك أمران:

1. انّ العلم و اليقين يستعملان في الحجّة الشرعية، كما في قولهم: يحرم الإفتاء بغير علم، فيُراد به الحجّة الشرعية لا العلم الجازم القاطع. لكفاية الحجّة غير القطعية في جواز الافتاء.

2. ملاحظة روايات الباب مثلاً ففي الصحيحة الأُولي (2) لزرارة لم يكن له علم وجداني بالطهارة النفسانية، بل كان علمه مبنياً علي طهارة مائه و بدنه و لباسه، بالأُصول و الأمارات، و هكذا سائر الروايات، فإنّ حصول اليقين فيها هناك كان رهنَ قواعد فقهية و أُصولية، و في الصحيحة الثانية كان اليقين بطهارة ثوبه

ص: 161


1- . قد تركنا بعض التنبيهات اقتناعاً بما حرّرناه في الموجز.
2- . لاحظ صحيحة زرارة الأُولي و الثانية في الموجز220.

و الشكّ في طروء النجاسة مستنداً إلي جريان أصالة الطهارة في الإناء و الماء الذي غسل به ثوبه إلي غير ذلك.

كلّ ذلك دليل علي أنّ المراد من اليقين في الروايات هو الحجّة، عقلية كانت كالقطع، أو شرعية كالبيّنة و الأمارة، و يكون المراد من »الشك« بقرينة المقابلة هو اللاحجّة من غير فرق بين الظن و الشكّ والوهم. فكأنّ الشارع يقول: »لا تنقض الحجّة باللاحجّة « لأنّ اليقين فيه صلابة، و الشكّ فيه رخاوة فلا يُنقض الأوّل بالثاني كما لا يُنقض الحجر بالقطن.

التنبيه الثاني: في استصحاب الزمان و الزمانيات

المستصحب تارة يكون نفس الزمان، و أُخري الشيء الواقع فيه.

أمّا الأوّل: فكما إذا كان الزمان موصوفاً بوصف ككونه ليلاً أو نهاراً، فشككنا في بقاء ذلك الوصف، فيستصحب بقاء الليل أو النهار.

و ربّما يقال: إنّ الزمان غير قارّ الذات و لا يتصوّر فيه البقاء بل سنخ تحقّقه هو الوجود شيئاً فشيئاً، و ما هذا حاله، لا يتصور فيه الحدوث و البقاء، حتي يتحقّق فيه أركان الاستصحاب.

و الجواب: إنّ بقاء كلّ شيء بحسبه، فللأُمور القارّة بقاء و انقضاء، و للأُمور المتصرّمة كالليل و النهار أيضاً بقاء و زوال مثلاً، يطلق علي الطليعة، أوّل النهار، و علي الظهيرة، وسط النهار، و علي الغروب، آخره، و هذا يعرب عن أنّ للنهار بقاءً حسب العرف، و إن لم يكن كذلك بالدقة العقلية.

و أمّا الثاني: أعني الشيء الواقع في الزمان و هو المسمّي بالزماني كالتكلم و الكتابة و المشي و جريان الماء، فلكل منها حدوث و بقاء في نظر العرف، فلو شرع الإنسان بالتكلّم أو أخذ بالمشي ، فشككنا في بقائهما أو انقطاعهما، يصح استصحابهما كاستصحاب الزمان، و الإشكال فيه كالإشكال في الزمان، و الجواب

ص: 162

نفس الجواب.

و مثاله الشرعي إذا كانت العين نابعة، جارية و وقعت فيها نجاسة، و شككنا عند الوقوع في بقاء النبع و الجريان ، فيستصحب، و يترتب عليه الأثر الشرعي و هو عدم انفعال ماء العين بالنجاسة.

التنبيه الثالث: في شرطية فعلية الشك

يشترط في الاستصحاب، فعلية الشكّ فلا يفيد الشكّ التقديريّ، فلو تيقن الحدث من دون أن يشكّ ثمّ غفل و صلّي ثمّ التفت بعدها فشكّ في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب، لأنّ اليقين بالحدث و إن كان موجوداً قبل الصلاة لكنّه لم يشك لغفلته فلا يتحقّق أركان الاستصحاب، و لأجل عدم جريانه يحكم عليه بصحّة الصلاة أخذاً بقاعدة الفراغ، لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة، و هذا المقدار من الاحتمال كاف لجريان قاعدة الفراغ، و لكن يجب عليه التوضّؤ بالنسبة إلي سائر الصلوات، لأنّ قاعدة الفراغ لا تثبت إلاّ صحّة الصلاة السابقة، و أمّا الصلوات الآتية فهي رهن إحراز الطهارة.

و هذا بخلاف ما إذا كان علي يقين من الحدث ثمّ شكّ في وضوئه و مع ذلك غفل و صلّي و التفت بعدها فالصلاة محكومة بالبطلان لتماميّة أركان الاستصحاب و إن احتمل انّه توضأ بعد الغفلة.

التنبيه الرابع: المراد من الشك مطلق الاحتمال

يطلق الظن علي الاحتمال الراجح، والوهم علي الاحتمال المرجوح، فيكون الشكّ هو الاحتمال المساوي و هذا هو المسمّي بالشكّ المنطقي.

و أمّا الشكّ الأُصولي المطروح في باب الاستصحاب فهو عبارة عن خلاف

ص: 163

اليقين، سواء كان البقاء مظنوناً أو موهوماً أو مشكوكاً متساوي الطرفين، و هذا هو المراد من الشكّ في لسان الروايات، و قد ورد الشك بالمعني الأُصولي في الذكر الحكيم، قال سبحانه:( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ (1) ) (2)، و قال سبحانه:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3) ) (4)، و الشكّ في الآيتين يعمّ الحالات الثلاث.

و نظير الآيتين: الشكّ في صحيحة زرارة قال: فإنْ حُرّك علي جنبه شيء و لم يعلم به؟ قال(عليه السلام): »لا، حتي يستيقن أنّه قد نام حتي يجيء من ذلك أمر بيّن، و إلاّ فانّه علي يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ « و ذلك لأنّ التحريك علي جنب الإنسان يفيد الظن بأنّه قد نام، و مع ذلك أطلق عليه الإمام الشك و لم يستفصل بين إفادته الظن بالنوم و عدمه، و هذا يدل علي أنّ المراد من الشكّ هو مطلق الاحتمال المخالف لليقين، من غير فرق بين كون البقاء مظنوناً أو مرجوحاً أو مساوياً.

أضف إلي ذلك ما مرّ من أنّ المراد من اليقين هو الحجّة الشرعية، و يكون ذلك قرينة علي أنّ المراد من الشكّ هو اللاّحجة ، و يكون معني الحديث لا تنقض الحجّة باللاّحجّة ، فالملاك في الجميع عدم وجود الحجّة، من دون نظر إلي كون البقاء راجحاً أو مرجوحاً أو متساوياً.

التنبيه الخامس: التمسّك بعموم العام أو استصحاب حكم المخصص

إذا كان هناك عموم يدل علي استمرار الحكم في جميع الأزمنة، كقوله سبحانه:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5) ) حيث يدلّ علي وجوب الوفاء علي وجه الإطلاق من غير فرق بين زمان دون زمان.

ص: 164


1- سوره 10 - آيه 94
2- . يونس:94.
3- سوره 14 - آيه 10
4- . إبراهيم:10.
5- سوره 5 - آيه 1

ثمّ إذا فرضنا أنّه خرج منه عقد في وقت خاص، كالعقد الغبني، فانّ المغبون يملك الخيار و له أن يفسخ العقد بظهوره، و لكنّه تساهل و لم يفسخ، فيقع الشكّ في بقاء الخيار في الآن الثاني فهل المرجع هو:

أ. عموم العام، فيكون العقد واجب الوفاء في الآن الثاني و الخيار فوريّاً؟ ب. أو استصحاب حكم المخصِّص (1) و يكون الخيار غير فوري؟ و مثله خيار العيب إذا تساهل المشتري و لم يفسخ، فهل المرجع عموم وجوب الوفاء بالعقد أو استصحاب حكم المخصص الذي دلّ علي جواز الفسخ إذا ظهر العيب؟ (2)فالتحقيق أن يقال: إنّه إن لزم من العمل بحكم المخصِّص عن طريق الاستصحاب، تخصيص زائد وراء التخصيص الأوّل فالمرجع هو عموم العام، و أمّا إذا لم يلزم إلاّ نفس التخصيص الأوّل فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

توضيح ذلك: أنّ الزمان تارة يكون قيداً للموضوع في ناحية العام، بحيث يكون العقد في الزمان الأوّل موضوعاً و في الزمان الثاني موضوعاً آخر و هكذا، و هذا ما يطلق عليه بكون الزمان مفرِّداً للموضوع.

و أُخري يكون الزمان ظرفاً للحكم و مبيّناً لاستمراره، بمعني أنّ العقد في جميع الآونة موضوع واحد، فلو خرج في الآن الأوّل أو خرج في جميع الآونة لم يلزم إلاّ تخصيص واحد.ر.

ص: 165


1- . المخصص قوله(عليه السلام): »غبن المسترسل سحت« و قوله:»غبن المؤمن حرام« و قوله(صلي الله عليه و آله و سلم): »لا ضرر و لا ضرار « لاحظ الوسائل:12، الباب 17 من أبواب الخيار، الحديث 1و2و3.
2- . مثل قوله(عليه السلام): إن شاء رد البيع و أخذ ماله كله... لاحظ الوسائل:12، الباب 14 من أبواب الخيار.

ففي الصورة الأُولي يكون المرجع هو عموم العام، لافتراض أنّ الأخذ بحكم المخصص يستلزم تخصيصاً زائداً ، و من المعلوم أنّ المرجع عند الشكّ في التخصيص هو عموم الدليل الاجتهادي، مثلاً إذا قال المولي: أكرم العلماء، و علمنا بخروج زيد ثمّ شككنا في خروج عمرو، فكما أنّ المرجع عندئذ هو عموم قوله : أكرم العلماء، لأنّ خروج عمرو تخصيص زائد، فهكذا المقام، فالعقد الغبني في الآن الأوّل موضوع كما انّه في الآن الثاني موضوع ثان، و قد دلّ الدليل علي التخصيص الأوّل، و بقي العقد في الآن الثاني تحت العام، فيتمسك به لتقدم الدليل الاجتهادي علي الأصل العملي و هو استصحاب حكم المخصص.

و هذا بخلاف ما إذا كان للفرد في جميع الأزمنة مصداق واحد بحيث لا يلزم من خروجه في الآن الأوّل و الثاني إلاّ تخصيص واحد، ففي مثله يؤخذ باستصحاب حكم المخصص، لأنّه كان متيقناً و شكّ في بقائه، و لا ينقض اليقين بالشك و لا يؤخذ بالعام لخروجه عنه حسب الفرض، فرجوعه تحت العام ثانياً يتوقف علي دليل خاصّ.

و زبدة القول: هي أنّه لو كان الزمان في ناحية العام قيداً للموضوع العقد و مفرِّداً له بحيث يلزم من خروجه بعد الآن الأوّل تخصيص ثان و ثالث فالمرجع هو عموم العام.

و أمّا إذا كان الزمان في ناحية العام ظرفاً لبيان استمرار الحكم بحيث يكون له في جميع الأزمنة فرد واحد و لا يلزم من خروجه في الآونة المتأخرة تخصيص زائد، فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

و هذه هي النظرية المعروفة من الشيخ الأعظم قدَّس سرّه ، و هناك نظريات أُخري تطلب من محالها.

ص: 166

التنبيه السادس: كفاية وجود الأثر بقاءً

يكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر بقاءً و لا يشترط ترتّب الأثر عليه حدوثاً، و بعبارة أُخري:

يشترط ترتّب الأثر في زمان الشكّ و ظرف التعبّد بالبقاء، دون زمان اليقين، إذ يكفي في صحّة التعبّد بالبقاء، وجود أصل الأثر حتي لا يكون التعبّد ببقاء المستصحب أمراً لغواً، و لذلك يصحّ الاستصحاب في المثال التالي:

إذا كان الوالد و الولد حيّين فمات الوالد و شككنا في حياة الولد، فتُستصحب حياتُه، و يترتب عليها الأثر الشرعي من إرثه، و بالتالي: تُعزل حصته من التركة، فحياة الولد ذاتُ أثر الوراثة القطعيّة بقاءً و إن لم يكن كذلك حدوثاً، أي في زمان حياة الوالد إلاّ علي وجه التعليق.

التنبيه السابع: قياس الحادث إلي أجزاء الزمان

إذا علم بحادث في زمان معيّن و لم يُعلم وقته فيمكن استصحاب عدم حدوثه إلي زمان العلم به، مثلاً إذا علمنا بحدوث الكرّية و شككنا في حدوثها يوم الخميس أو الجمعة، فتجري أصالة عدم حدوثها إلي نهاية يوم الخميس، فيترتب عليه أثر عدم الكرّية في ذلك اليوم، فلو غسل ثوب بهذا الماء في يوم الخميس يحكم ببقاء النجاسة فيه.

نعم لا يثبت باستصحاب عدم حدوث الكرية إلي يوم الخميس عنوان تأخرها عنه، لأنّه لازم عقلي لا شرعي، و لو كان للتأخر أثر شرعي فلا يثبت بهذا الاستصحاب.

ص: 167

التنبيه الثامن: قياس الحادث بحادث آخر

الكلام هنا حول قياس حادث بحادث آخر، كما إذا علم بحدوث حادثين، و لم يعلم المتقدّم و المتأخر منهما، فهل يجري الأصل أو لا؟ مثلاً لو علم موت الوالد المسلم و علم أيضاً إسلام وارثه، و لكن شكّ في تقدّم موت المورِّث علي إسلام الوارث حتي لا يرثه لأنّ الكافر لا يرث المسلم حتي و إن أسلم بعد موت المورِّث أو تأخر موته عن إسلامه حتي يرثه، فهل يجري الأصل أو لا؟ فنقول: للمسألة صورتان:

الأُولي: أن يكون أحد الحادثين(موت الوالد) معلوم التاريخ و الآخر(إسلام الوارث) مجهوله، فيجري الأصل في المجهول دون المعلوم.

امّا أنّه لا يجري الأصل في معلوم التاريخ كموت الوالد المسلم في غرّة رجب فلأجل أنّ حقيقة الاستصحاب هو استمرار حكم المستصحَب عدم الموت إلي الزمان الذي يشكّ في بقائه، و هذا إنّما يتصور فيما إذا جهل تاريخ حدوثه، و أمّا لو فرض العلم بزمان الحدوث و أنّه مات في غرّة رجب فلا معني لاستصحاب عدمه لعدم الشكّ في زمان الموت.

و بعبارة أُخري: لا بدّ في الاستصحاب من وجود زمان يشكّ في بقاء المستصحَب فيه، و هذا غير متصوّر في معلوم التاريخ، لأنّا نعلم عدم موت الوالد قبل غرّة رجب و موته فيها، فليس هنا زمان خال يُشك في بقاء المستصحب عدم موت الوالد فيه.

و أمّا جريانه في مجهول التاريخ، و هو إسلام الولد، حيث كان كافراً في شهر جمادي الآخرة و مسلماً في غرّة شعبان و مشكوك الإسلام بين الشهرين

ص: 168

فيُستصحب بقاؤه أي عدم الإسلام في الظرف المشكوك، و يترتب عليه أثره و هو حرمانه من الإرث لثبوت موضوعه و هو موت الوالد حين كفر الولد.

الثاني: إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ و شكّ في التقدّم و التأخر، فيجري الاستصحاب في كلّ منهما و يسقطان بالتعارض و يرجع إلي دليل اجتهاديّ كعامّ أو اطلاق أو أصل آخر، و إليك بعض الأمثلة:

1. إذا علم موت المورث و في الوقت نفسه علم إسلام الوارث و لكن شكّ في تقدّم أحدهما علي الآخر، فلو كان موت المورث متقدّماً علي إسلام الوارث فلا يرث الوارثُ الكافر، بخلاف ما انعكس فيري الوارث كسائر الورثة، فيقال الأصل عدم إسلام الوارث إلي زمان موت المورث، كما انّ الأصل عدم موت المورث إلي زمان إسلام الوارث، فيجريان و يتساقطان، و لأجل التساقط لا يثبت تقارن الإسلام و الموت.

مضافاً إلي انّ التقارن لازم الأصلين فيكون الأصلان بالنسبة إليه مثبتين، فإذا سقط الأصلان يرجع إلي دليل أو أصل آخر.

2. إذا وجد كرّ فيه نجاسة يعلم بعدم حصول الكرية للماء في زمان و عدم وجود النجاسة فيه أيضاً و لكن لا يعلم زمان حدوثهما فيحتمل تقدّم كلّ منها علي الآخر و تقارنهما، فيستصحب حينئذ عدم تقدّم كلّ منهما علي الآخر فيتعارضان و يتساقطان و لا يثبت بهما التقارن لما عرفت انّ الأصلين بالنسبة إليه مثبتان.

و أمّا ما هو حكم الماء أو الثوب النجس الوارد عليه فيرجع فيهما إلي دليل أو أصل آخر.

و بما انّه ليس هنا ضابطة خاصة لتعيين ذلك الدليل أو الأصل بل لكلّ مورد، حكمه الخاص أعرضا عن التفصيل فيهما.

ص: 169

التنبيه التاسع: تقدّم الاستصحاب علي سائر الأُصول

الاستصحاب متقدّم علي سائر الأُصول، لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق و جعله حجّة في الآن اللاحق يوجب ارتفاع موضوعات الأُصول(عدم البيان)، أو حصول غاياتها(العلم بالحرمة)، و إليك البيان:

أ. أنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، فإذا كان الشيء مستصحَب الحرمة أو الوجوب، فالأمر بالتعبّد بإبقاء اليقين السابق بيان من الشارع، فلا يبقي موضوع للبراءة العقلية.

ب.كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو »ما لا يعلمون« و المراد من العلم هو الحجّة الشرعيّة، و الاستصحاب كما قرّرناه حجّة شرعيّة علي بقاء الوجوب و الحرمة في الأزمنة اللاحقة، فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.

ج. أنّ موضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال، و الاستصحاب بحكم الشرع هادم لذلك التساوي.

د. أنّ موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل أو الترك، و الاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمِّن، فالاستصحاب بالنسبة إلي هذه الأُصول رافع لموضوعها.و إن شئت فسمِّه وارداً عليها.

و ربّما يكون الاستصحاب موجباً لحصول غاية الأصل كما هو الحال في أصالتي الطهارة و الحليّة، فإنّ الغاية في قوله(عليه السلام):»كلّ شيء طاهر حتّي تعلم أنّه قذر«، و في قوله(عليه السلام): »كلّ شيء حلال حتي تعلم أنّه حرام« و إن كان هو العلم، لكن المراد منه هو الحجّة، و الاستصحاب حجّة، و مع جريانه تحصل الغاية، فلا يبقي للقاعدة مجال.

و لمّا انجرّ الكلام إلي تقدّم الاستصحاب علي عامّة الأُصول اقتضي المقام بيان نسبة بعض القواعد إلي الاستصحاب.

ص: 170

خاتمة المطاف : الاستصحاب و القواعد الأربع

اشارة

ثمّة قواعد فقهية أربع لها دور عظيم في تنقيح الفروع الفقهية و تعدُّ من أهمّ القواعد، و قد تناولها مؤلّفو القواعد الفقهيّة في كتبهم علي وجه التفصيل، و نحن نشير إلي بعض ما له صلة بالاستصحاب:

1. قاعدة اليد 2. قاعدة أصالة الصحّة في فعل الغير.

3. قاعدة التجاوز و الفراغ.

4. قاعدة القرعة.

ص: 171

ص: 172

1. قاعدة اليد

إنّ اليد و الاستيلاء علي الشيء عند العقلاء أمارة الملكية و دليلها، إلاّ إذا دلّ الدليل علي خلافها، كيد الغاصب و السارق و السمسار، و علي ذلك استقرّت السيرة في الأعصار و أمضاها الشارع.

إنّ اعتبار اليد من دعائم الحياة الاجتماعية و قوام نظام المعاملات و المبادلات فلو رُفِضَت اليد لاختلّ النظام التجاري، إذ من المحال أن يُقيم كلُّ إنسان شاهداً علي ما تحت يده، أو أن يُسجّل كلّ شيء مما يملكه في دائرة خاصّة، و قد صار هذا سبباً لإمضاء تلك السيرة العقلائية، قولاً و تقريراً، و أمّا سيرة المتشرّعة أو إجماع الفقهاء و أصحاب الفتوي علي حجّية اليد، فالكل يستند إلي السيرة العقلائية، و يشهد بذلك قول الإمام أبي عبد اللّه(عليه السلام)لحفص بن غياث: »لو لم يجز هذا دلالة اليد علي الملكية لم يقم للمسلمين سوق«. (1)

و يستفاد من غير و احد من الأخبار أنّ اليد أمارة الملكية و ليست أصلاً من الأُصول، روي محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق ؟ فقال: »إن كانت معمورة، فيها أهلها فهي لهم، و إن كانت خربة قد جلا عنها أهلها، فالذي وجد المال أحقّ به«. (2)

روي يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في امرأة تموت قبل الرجل، أو

ص: 173


1- . الوسائل:18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
2- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب اللقطة، الحديث 1، و لاحظ الحديث 2 من هذا الباب.

رجل قبل المرأة، قال: »ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولي علي شيء منه فهو له«. (1)

و كفي في دلالة اليد علي الملكية قوله:»و من استولي علي شيء منه فهو له«، و الرواية و إن وردت في متاع البيت لكن المورد لا يخصصها، فالعرف يتلقاها قاعدة كلّية في جميع الموارد، و اللام في قوله(له) للملكية، أي الاستيلاء دليل الملكية سواء كان من خصائص الزوج أو من خصائص الزوجة، و إنّما يستدل بمتاع الرجل علي أنّه له، و متاع المرأة علي أنّه لها، إذا لم يكن لأحدهما استيلاء تام، و أمّا معه فهو مقدّم علي الاستدلال بكون المتاع من الخصائص فيدفع إلي من يختصّ به.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ قاعدة اليد مقدّمة علي الاستصحاب تقدّمَ الأمارة علي الأصل، و لذلك نشتري من السوق كلَّ الأمتعة مع العلم بأنّها كانت ملكاً للغير، و ما هذا إلاّ لتقدّم اليد علي استصحاب بقاء الملكية للغير.3.

ص: 174


1- . الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

2. أصالة الصحّة في فعل الغير

أصالة الصحّة في فعل الغير من الأُصول المجمع عليها و لها معنيان:

1. حسن الظن بالمؤمن و الاعتقاد الجميل في حقّه حتّي لا ينسبه إلي اعتقاد فاسد أو صدور عمل محرّم منه أو فاسد، و هذه من الوظائف الإسلامية التي يدعو إليها القرآن و السنّة قال سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (1) ) (2).

و أمّا السنّة فروي إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: »إذا اتّهم المؤمن أخاه، إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء«. (3)

و أصالة الصحّة بهذا المعني أصل أخلاقي لا كلام فيه و لا يترتّب عليه أثر فقهيّ.

2. فرض الفعل الصادر من الغير صحيحاً مطابقاً للواقع، مثلاً إذا قام المسلم بغَسْل الميت و تكفينه و الصلاة عليه، و دفنه، أو قام بغسل الأواني و اللحوم المتنجّسة، يحمل فعله علي الصحّة بهذا المعني، و بالتالي يسقط التكليف عن الغير و لا يحتاج إلي إحراز الصحّة بالعلم و البيّنة.

و مثله إذا أذّن أحد المؤمنين أو أقام و شُكّ في صحّة عمله، يحمل علي الصحّة، و يسقط التكليف عن الغير، أو ناب المسلم عن رجل في الحجّ أو العمرة أو في جزء من أعمالهما، و شُكّ في صحّة العمل المأتي به، يحمل علي الصحّة، إلي غير ذلك من أعمال الوكلاء في الزواج و الطلاق و البيع و الشراء و الإجارة، أو فعل الأولياء كالأب و الجدّ في تزويج من يتوليانه أو الاتّجار بماله.

ص: 175


1- سوره 49 - آيه 12
2- . الحجرات:12.
3- . الوسائل: 8، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

و الدليل علي أصالة الصحّة بهذا المعني هو وجود الإجماع العملي بين الفقهاء و سيرة المسلمين النابعين من سيرة العقلاء علي حمل فعل الغير علي الصحّة، و هذا ممّا لا شكّ فيه.

و الذي دعا إلي اتخاذهم هذا الأصل سنداً في الحياة هو ملاحظة طبع العمل الصادر عن إنسان عاقل، و هو يعمل لغاية الانتفاع بعمله آجلاً أو عاجلاً، و مقتضي ذلك هو إيجاد العمل صحيحاً لا فاسداً، كاملاً لا ناقصاً، و إلاّ يلزم نقض الغرض و فعل العبث.

ثمّ إنّ أصالة الصحّة متقدّمة علي الاستصحاب لأحد وجهين:

الأوّل: انّها أمارة علي الصحّة، لأنّ الغالب علي فعل الإنسان العاقل المريد هو الصحّة لا الفساد، و انّ الفاسد أقلّ بكثير من الصحيح، فتكون أمارة ظنّية أمضاها الشارع.

الثاني: أنّها أصل لكنّها متقدّمة علي الاستصحاب للزوم اللغوية إذا قُدِّم الاستصحاب عليها، إذ ما من مورد من مواردها إلاّ و فيه أصل يدل علي الفساد في المعاملات، و علي الاشتغال في العبادات، لأنّ الشكّ في الصحّة ناشئ غالباً من احتمال تخلّف شرط أو جزء، و الأصل عدم اقتران العمل بهما.

نعم تُقدَّم أصالة الصحّة علي استصحاب الفساد إلاّ في موارد كان الفساد فيها هو الطبع الأوّلي للعمل مثلاً:

إذا كان طبع العمل مقتضياً للفساد، بحيث تكون الصحّة من عوارضه الشاذة و أطواره النادرة، كبيع الوقف مع احتمال المسوّغ له، و مال اليتيم إذا لم يكن البائع وليّاً و بيع العين المرهونة مدّعياً إذن المرتهن.

هذا في المعاملات و نظيره في العبادات، كإقامة الصلاة في المكان المغصوب، و في الثوب النجس، مع احتمال المسوّغ لها فلا تجري أصالة الصحة فيهما.

ص: 176

3. قاعدة التجاوز و الفراغ

إذا شكّ في وجود الشيء، كالشكّ في الركوع بعد السجود، أو الشكّ في صحّة الشيء الموجود، كالشكّ في الصلاة المأتي بها، بعد الفراغ، فالأصل هو عدم الاعتداد بالشك، سواء أتعلّق بوجوده أم بصحته، و قد تضافرت الروايات في هذا المضمار، و في الحقيقة يرجع هذا الأصل إلي حمل فعل النفس علي الصحّة كما أنّ القاعدة السابقة ترجع إلي حمل فعل الغير علي الصحّة، فكأنّهما قاعدة واحدة لها وجهان.

و تدلّ عليها من الروايات، صحيحة زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): رجل شكّ في الأذان و الإقامة و قد كبّر؟ قال: »يمضي«، قلت: رجل شكّ في التكبير و قد قرأ؟ قال: »يمضي«، قلت: شكّ في القراءة و قد ركع؟ قال: »يمضي«، قلت: شك في الركوع و قد سجد؟ قال: »يمضي علي صلاته«، ثمّ قال: »يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء«. (1)

و الرواية و إن وردت في مورد الصلاة لكن المستفاد من الذيل انّها بصدد إعطاء ضابطة كلّية في جميع المجالات، و انّ المكلّف إذا قام بعمل سواء أ كان مركّباً أم بسيطاً، عبادياً كان أم معاملياً، و خرج منه ثمّ شكّ فيه، لا يلتفت إليه، و يؤيده سائر الروايات الواردة في هذا المضمار.

روي بكير بن أعين عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قال: قلت له: الرجل يشكّ بعد ما

ص: 177


1- . الوسائل: 5، الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

يتوضأ؟ قال: »هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك«. (1)

و التعليل بأمر ارتكازي يدل علي أنّها قاعدة عامّة في جميع أبواب الفقه من غير فرق بين العبادات و المعاملات.

ثمّ إنّ القاعدة متقدّمة علي الاستصحاب بوجهين:

1. إنّ الإمام قدّمها علي الاستصحاب في صحيحة زرارة حيث إنّ الأصل كان يقتضي عدم تحقّق الركوع و السجود، مع أنّه(عليه السلام)حكم بالصحة و عدم الاعتداد.

2. إنّ تقديم الاستصحاب علي القاعدة يستلزم لغوية تشريعها كما مرّ في البحث السابق، فإنّ كلّ مشكوك مسبوق بالعدم فلا يبقي مجال لقاعدة التجاوز و الفراغ.7.

ص: 178


1- . الوسائل: 1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

4. قاعدة القرعة

اشارة

القرعة في اللغة: بمعني الدّق و الضرب، يقال قرع الباب: دقّه، و قال ابن فارس: و الإقراع و المقارعة بمعني المساهمة، و سمّيت بذلك لأنّها شيء كأنّه يضرب. (1)

و يظهر من الآيات و الروايات أنّ القرعة كانت رائجة في الأعصار السابقة عند تزاحم الحقوق و المصالح دفعاً للترجيح بلا ملاك و التفريق بلا وجه، و لا يتمسك بها إلاّ إذا انغلقت أبواب الحلول كلّها و انحصر وجه الحل بها.

أ. قال سبحانه:( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (2) ) (3) لمّا حملت امرأة عمران أُمّ مريم العذراء بنتها إلي الكنيسة حتي يكفل حضانتها العُبّاد بعد وفاة والدها، و هي في بطن أُمّها، فعند ما رأوها تشاحّوا و طلب كلٌّ أن يتكفّل حضانتها، لأنّها بنت عمران، و من البيوت الرفيعة في بني إسرائيل، فاتّفقوا علي المساهمة فخرج السهم باسم خير الكفلاء لها أعني:زكريا و المقام من قبيل تزاحم الحقوق، لأنّ الحضانة كانت حقّاً لها ابتداءً و بالذات و لما دفعتها إلي العبّاد و الزهاد، دون أن تعيّن واحداً منهم، صار الجميع بالنسبة إلي هذه المفخرة علي حد سواء، فاتّفقوا علي المقارعة لأجل حسم النزاع.

ب. و قال سبحانه:( وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَي الْفُلْكِ (4)

ص: 179


1- . مقاييس اللغة، مادة قرع.
2- سوره 3 - آيه 44
3- . آل عمران:44.
4- سوره 37 - آيه 139

اَلْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (1) ) (2) روي المفسرون أنّه سبحانه: أوعد قوم يونس بالعذاب و أخبرهم يونس به، فلمّا كُشف عنهم العذاب و قُبلت توبتهم، ترك يونس قومه مغاضباً، و مضي إلي ساحل البحر، و ركب السفينة، و أحسّ الربّان أنّ السفينة مشرفة علي الغرق، و لو خُفِّفت بإلقاء واحد من الركّاب في البحر لنجا الكلّ، فساهموا فأصاب السهم اسم يونس.

هذا ما في الذكر الحكيم، و قد وردت في السنّة روايات كثيرة حول القرعة تناهز 62 حديثاً، و من جوامع الكلم قول النبي(صلي الله عليه و آله و سلم):»ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلي اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ«.

(3) و في حديث آخر: أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوِّض الأمر إلي اللّه، أ ليس اللّه يقول:( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (4) ). (5)

إنّ حجّية القرعة لا تتجاوز عن مورد التنازع أو التزاحم لوجهين:

الأوّل: بناء العقلاء علي العمل بها في خصوص مورد التنازع و التزاحم لا في كلّ مجهول، أو كلّ مشتبه أو كلّ مشكل و إن لم يكن مثاراً للتنازع.

الثاني: انّ استقصاء روايات القرعة يرشدنا إلي أنّها وردت في خصوص المنازعات تعارضاً أو تزاحماً. (6) نعم، وردت رواية بالقرعة في مورد تمييز الموطوءة من الشاة عن غيرها، و لكنّها رواية شاذة.و أمّا غيرها فيدلّ علي اختصاصها بتزاحم الحقوق و تعارضها.م.

ص: 180


1- سوره 37 - آيه 140
2- . الصافات:139 141.
3- . الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث5و 13.
4- سوره 37 - آيه 141
5- . الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث5و 13.
6- . التعارض: فيما إذا كان الحق لواحد معين في الواقع غير معلوم لنا، و التزاحم: إذا كان الجميع بالنسبة إلي الحق علي حدّ سواء نظير حضانة مريم.

أضف إلي ذلك: أنّ الأصحاب عملوا بالقرعة في الموارد التالية و جميعها إلاّ مورد الشاة من هذا الباب:

1. باب قسمة الأعيان المشتركة.

2. باب تزاحم المدعيين عند القاضي.

3. باب قسمة الليالي بين الزوجات.

4. باب تداعي الرجلين أو أكثر ولداً.

5. باب تعارض البيّنتين.

6. توريث الخنثي المشكل.

7. توريث المشتبهين في تقدّم موت أحدهما علي الآخر.

8. باب الوصايا المتعددة إذا لم يف الثلث بها.

9. باب إذا أوصي بعتق عبيده و لم يف الثلث بها.

10. باب اشتباه الشاة الموطوءة بغيرها.

تنبيه: أدلّة القرعة غير مخصصة

قد اشتهر بين الأصحاب أنّ عمومات القرعة لا يعمل بها إلاّ أن يُجبر عمومها بعمل الأصحاب، و ذلك لأجل كثرة ورود التخصيص عليها.

و لكن الصواب غير ذلك، فإنّ من وصف أدلّة القرعة بكثرة التخصيص تصوّر أنّ موضوعها هو مطلق المجهول أو مطلق المشكل و إن لم يكن مورداً للتشاجر. و لما رأي أنّه لا يُعْمل بالقرعة في كلّ مجهول أو مشكل زعم ورود كثرة التخصيص عليها و صيرورة عمومها موهوناً لا يتمسك بها إلاّ عند عمل

ص: 181

الأصحاب بها.

و أمّا علي ما اخترناه من أنّ موضوعها هو خصوص التنازع أو التزاحم في الحقوق، مع انغلاق الأبواب لسائر الحلول، فأدلّة القرعة غير مخصصة، و العمل بها ليس رهن عمل الأصحاب.

تمّ الكلام في الأُصول العملية، و يليه البحث في تعارض الأدلّة الشرعية إن شاء اللّه و الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 182

المقصد الثامن: في تعارض الأدلّة الشرعية في تعارض الأدلّة الشرعية

اشارة

المقصد الثامن: في تعارض الأدلّة الشرعية في تعارض الأدلّة الشرعية (1)

و فيه أُمور و فصلان:

الأمر الأوّل: تعريف التعارض.

الأمر الثاني: في الفرق بين التعارض و التزاحم.

الأمر الثالث: أسباب التزاحم.

الأمر الرابع: مرجحات باب التزاحم.

الفصل الأوّل: في التعارض غير المستقر.

الفصل الثاني: في التعارض المستقر.

خاتمة المطاف: في التعارض علي نحو العموم و الخصوص من وجه.

ص: 183


1- . انّ طبيعة البحث تقتضي أن يبحث عن تعارض الأدلّة قبل الأُصول العملية، لانّ موضوعها عدم الحجّة و المفروض في هذا المقصد وجودها و عدم تعينها، لكن اقتفينا أثر القوم، لئلاّ يحصل تشويش في النظام الدراسي.

ص: 184

في تعارض الأدلّة الشرعية

قبل الخوض في الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: البحث عن تعارض الأدلّة الشرعيّة و كيفية علاجها من أهمّ المسائل الأُصولية.

إذ قلّ باب في الفقه لا توجد فيه حجّتان متعارضتان و مختلفتان، فلا مناص للمستنبط من علاجهما. و لأجل تلك الأهميّة الملموسة جعله المحقق الخراساني أحد المقاصد الثمانية في مقابل عمل الشيخ حيث جعله خاتمة لكتابه.

و الخاتمة و المقدّمة خارجتان عن مقاصد الكتاب مع أنّه من صميم مقاصد العلم و مسائله. و قد عرفت في صدر الكتاب أنّ روح المسائل الأُصولية هو البحث عن تعيين ما هو الحجّة في الفقه، و الهدف في هذا المقصد هو تعيين ما هو الحجّة من المتعارضين من الترجيح و التخيير عند عدم المرجّح أو سقوطهما و الرجوع إلي دليل آخر، فإذا كان هذا مكانة هذا المقصد، فلا وجه لجعله خاتمة للكتاب.

الثاني: المقصود تعارض الأخبار دون سائر الأدلّة

إنّ قولنا: »في تعارض الأدلّة الشرعيّة« و إن كان يعمّ تعارض الخبرين أو الأخبار و تعارض سائر الأدلّة الشرعيّة كتعارض قول اللغويين، أو المدّعيين للإجماع و غيرهما، لكن القوم لم يطرحوا في المقام إلاّ تعارض الأخبار دون سائر الأدلّة، و اقتصروا فيما يرجع إلي تعارض قول اللغويين أو المدّعيين للإجماع، بما ذكروه في بابيهما.

ص: 185

الثالث: في تعريف التعارض

عرّف الشيخ التعارض بأنّه: »تنافي مدلولي الدليلين علي وجه التناقض أو التضاد«. (1)

و عرّفه المحقّق الخراساني بأنّه:تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة و مقام الإثبات علي وجه التناقض أو التضاد. (2)

و إنّما عدل عن التعريف الأوّل، لأجل إخراج ما يمكن فيه الجمع بين الروايتين عرفاً، من التعريف ، كموارد »الورود و الحكومة و التخصيص« فانّ التنافي بين المدلولين و إن كان موجوداً في مواردها، لكنّه ليس موجوداً حسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

و الحاصل: أنّ المحقّق الخراساني يفرّق بين التنافي في المدلول و التنافي في الدلالة، لاختصاص الثاني بغير موارد وجود الجمع العرفي، دون الأوّل فانّه يعمّ جميع الموارد سواء كان هناك جمع عرفي أو لا.

الرابع:إنّ الظاهر من التعريفين أنّ التنافي علي نحو التضاد، غير التنافي علي نحو التناقض.

و لكن الحقّ رجوع التنافي علي وجه التضاد إلي التنافي علي وجه التناقض، فإذا ورد دليلان علي الوجوب، و الحرمة فما يدلّ بالدلالة المطابقية علي الوجوب فهو بمدلوله الالتزامي يدلّ علي عدم الحرمة، فينافي ما يدلّ علي الحرمة، و علي ضوء ذلك، التنافي بالمدلول المطابقي و إن كان بصورة التضاد، لكنّه بالمدلول الالتزامي، بنحو التناقض علي ما عرفت.

و مع ذلك كلّه، الإرجاع المذكور أمر دقيق لا يلتفت إليه الإنسان إلاّ بعد التأمّل حتي يستغني بقيد»علي وجه التناقض« عن القيد الآخر، و مقام التعريف

ص: 186


1- . الشيخ الأنصاري: فرائد الأصول:431.
2- . المحقّق الخراساني: كفاية الأصول: 2/376.

يطالب لنفسه مقاماً واضحاً فلا إشكال في الإتيان بكلا القيدين حتّي يشمل التعريف لكلتا الصورتين بوضوح.

الخامس: في الفرق بين التعارض و التزاحم

إنّ اختلاف الدليلين تارة يكون علي وجه التعارض، و أُخري علي نحو التزاحم، فلو رجع التنافي إلي مقام الجعل و المدلول، و أصل الإنشاء علي وجه لا يصحّ للمشرِّع أن يحكم علي شيء واحد بحكمين متناقضين، أو متضادين، مع قطع النظر عن قدرة المكلَّف علي امتثالهما، فالتنافي من قبيل التعارض كالحكم بوجوب شيء و حرمته أو عدم وجوبه.

و أمّا إذا رجع التنافي إلي مقام الامتثال، بأن لا يكون هناك تناف في مقام الملاك و المناط، و لا في مقام الجعل و الإنشاء، بل رجع التنافي إلي مرتبة متأخرة أعني مرتبة الامتثال، فالتنافي من قبيل التزاحم.

مثلاً إنّ تشريع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد، لا ينافي تشريع وجوب الصلاة في المسجد، و ليس بينهما أيُّ تزاحم في مقام الملاك و لا الإنشاء و لا الفعلية، و انّما التنافي بينهما في مقام الامتثال، حيث إنّه يرجع إلي عجز المكلَّف عن امتثالهما إذا ابتلي بهما في وقت واحد، و هذا نظير قولك:»انقذ هذا الغريق« و قولك:

»انقذ ذاك الغريق« إذ ليس بينهما أيّ منافرة، و انّما حصلت المنافرة في ظرف الامتثال، حيث إنّه ليس بمقدوره أن ينقذ كلا الغريقين في زمان واحد، و هذا ما يسمّي بالتزاحم.

و إن شئت قلت: إنّ المتعارضين متكاذبان في مقام التشريع و الجعل، و المتزاحمين متنافران في مقام الامتثال، دون أن يكون بينهما أيُّ تكاذب و تعاند في مقام الجعل و الإنشاء.

ص: 187

السادس: أسباب التزاحم و أقسامه

إذا وقفت علي الفرق بين التعارض و التزاحم، و أنّ مرجع التعارض إلي تكذيب كلّ من الدليلين الدليلَ الآخر في مقام الجعل و التشريع، و أنّ مرجع التزاحم إلي تنافي كلّ منهما مع الآخر في مقام الامتثال بلا تكاذب و تدافع في مقام التشريع.

فاعلم أنّ التزاحم ينقسم إلي الأقسام التالية:

1. ما يكون التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر، كما إذا توقف إنقاذ الغريق علي التصرّف في أرض الغير.

2. ما يكون منشأ التزاحم وقوع التضاد بين متعلّقين من باب التصادف لا دائماً، كما إذا زاحمت إزالة النجاسة عن المسجد، إقامةَ الصلاة فيه.

3. ما يكون أحد المتعلّقين مترتّباً في الوجوب علي الآخر، كالقيام في الركعة الأُولي و الثانية مع عدم قدرته عليه إلاّ في ركعة واحدة، أو كالقيام في الصلاتين: الظهر و العصر، مع عدم استطاعته إلاّ علي القيام في واحدة منهما.

و مثله إذا دار أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع و سجود، أو الصلاةَ معهما من دون قيام في مخبأ آخر.

السابع: مرجّحات باب التزاحم

اشارة

إذا كان التزاحم راجعاً إلي مقام الامتثال مع كمال الملاءمة في مقام التشريع فيتمسك بالمرجحات التي هي عبارة عن الأُمور التالية:

1. تقديم ما لا بدل له علي ما له بدل

إذا كان هناك واجبان لأحدهما بدل شرعاً، دون الآخر، فالعقل يحكم بتقديم

ص: 188

الثاني علي الأوّل، جمعاً بين الامتثالين، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت و تحصيل الطهارة الحدثية بالماء، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل، بخلاف الطهارة الحدثية، فتُقدّم مصلحة الوقت علي مصلحة الطهارة الحدثية بالماء، فيتيمم بدلاً عن الطهارة المائية و يصلّي في الوقت.

2. تقديم المضيّق علي الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضي المولي بتأخيره، و الموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق، إلاّ فضيلة الوقت، فالعقل يحكم بتقديم الأوّل علي الثاني، و لذلك يجب امتثال إزالة النجاسة أوّلاً ثمّ القيام بالصلاة.

3. تقديم أحد المتزاحمين علي الآخر لأهميته

إذا دار الأمر بين ترك الأهم و المهم، كإنقاذ الغريق و التصرّف في مال الغير، فالعقل يحكم بتقديم الأهم علي المهم، و هذه من القضايا التي قياساتها معها.

4. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين متقدّماً في مقام الامتثال علي الآخر زماناً، كما إذا وجب صوم يوم الخميس و الجمعة، و لا يقدر إلاّ علي صيام يوم واحد، أو إذا وجبت عليه صلاتان و لا يتمكن إلاّ من الإتيان بواحدة منهما قائماً، أو وجبت صلاة واحدة و لا يتمكن إلاّ من القيام بركعة واحدة، ففي جميع هذه الصور يستقلُّ العقل بتقديم ما يجب امتثاله متقدّماًً علي الآخر، حتي يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً، إلاّ إذا كان الواجب المتأخر أهمّ في نظر المولي فيجب صرف القدرة

ص: 189

في الثاني، و هو خارج عن الفرض.

و بعبارة أُخري: لو صام يوم الخميس، أو صلّي الظهر قائماً، فقد ترك صوم يوم الجمعة و القيام في صلاة العصر عن عذر و حجّة بخلاف ما لو أفطر يوم الخميس و صلّي الظهر جالساً فقد ترك الواجب بلا عذر.

5. تقديم الواجب المطلق علي المشروط

إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور مرقد الإمام الحسين(عليه السلام)في كلّ عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة فيقدّم الحج علي زيارة الحسين(عليه السلام)، لأنّه إذا قال القائل: للّه عليَّ أن أزور الإمام الحسين (عليه السلام)في كلّ عرفة، إمّا أن لا يكون له إطلاق بالنسبة إلي عام حصول الاستطاعة للحج، أو يكون.

فعلي الأوّل عدم الإطلاق لدليل النذر يكون الحجّ مقدّماً، إذ لا يكون عندئذ إلاّ واجب واحد.

و علي الثاني، بما أنّ الإطلاق مستلزم لترك الواجب أعني الحجّ يكون إطلاق النذر لا نفسه باطلاً، نظير ما إذا نذر شخص أن يقرأ القرآن من طلوع الفجر إلي طلوع الشمس، فانّه في حدّ نفسه راجح، لكنّه بما أنّه مستلزم لتفويت الواجب و هي صلاة الصبح فلا ينعقد، و هذا هو المراد من قولنا تقديم الواجب المطلق(الحج) علي الواجب المشروط(زيارة الحسين) المشروطة بعدم كونها مفوّتة للواجب.

الثامن: أنّ الخبرين المتعارضين علي قسمين:

أ: ما يكون التنافي بينهما تنافياً غير مستقر علي نحو يزول بالتأمّل و الإمعان، و يعلم من خلاله أنّ المتكلم لم يخبر بأمرين متنافيين في الظرف الذي ألقي فيه الكلام.

ص: 190

ب: ما يكون التنافي بينهما تنافياً مستقراً لا يزول بالتأمّل و الإمعان و يُعدّ الخبران أمرين متنافيين حتي في نفس الظرف الذي أُلقي فيه الكلام. و لأجل ذلك لا يمكن التصديق بهما، بل لا بدّ من ردّهما أو الأخذ بأحدهما دون الآخر.

أمّا القسم الأوّل فقد بذل الأُصوليون جهودهم في إعطاء ضوابط لتشخيص التعارض غير المستقر عن المستقر، أو لتشخيص الجمع المقبول عن غيره و حصروها في العنوانات التالية:

1. أن يكون أحد الدليلين وارداً علي الدليل الآخر.

2. أن يكون أحد الدليلين حاكماً علي الدليل الآخر.

3. أن يكون أحد الدليلين مخصصاً للدليل الآخر.

4. أن يكون أحد الدليلين ، أظهر من الدليل الآخر.

و للأظهرية ملاكات خاصة مبينة في محلها.

و بما انّا استوفينا الكلام في القسم الأوّل بعنواناتها الأربعة من الموجز، نركز في القسم الثاني أي التعارض المستقر الذي يُعالج التعارض بغير هذا النحو.

ص: 191

في التعارض المستقر

اشارة

قد عرفت أنّ التعارض علي قسمين: بدويّ غير مستقر ، و تعارض مستقر، و يقع الكلام في القسم الثاني، في ضمن مباحث:

المبحث الأوّل: ما هو مقتضي القاعدة الأوّلية؟

إذا قلنا بأنّ الخبر حجّة لكونه طريقاً إلي كشف الواقع من دون أن يكون في العمل بالخبر هناك أيُّ مصلحة سوي مصلحة درك الواقع (1)، فما هو مقتضي حكم العقل؟ أقول: إنّ هنا صورتين:

الأُولي: فيما إذا لم يكن لدليل حجّية خبر الواحد إطلاق شامل لصورة التعارض، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لبيّاً كالسيرة العقلائية أو الإجماع، فعندئذ يكون دليل الحجية قاصراً عن الشمول للمتعارضين، لأنّ الدليل اللبيّ لا يتصوّر فيه الإطلاق، فيؤخذ بالقدر المتيقن و هو اختصاص الحجّية بما إذا كان الخبر غير معارض، فتكون النتيجة عدم الدليل علي حجّية الخبرين المتعارضين و هو مساو لسقوطهما.

الثانية: إذا كان هناك إطلاق شامل لصورة التعارض، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لفظياً كآية النبأ و النفر، و قلنا بوجود الإطلاق فيهما الشامل لصورة

ص: 192


1- . في مقابل احتمال حجّية الخبر الواحد من باب السببية، و بما انّ الاحتمال باطل عند أصحابنا تركنا البحث فيها و بيان أحكامها. و من أراد التفصيل فلنرجع إلي المحصول:ج3/110 126.

المتعارضين، فيقع الكلام في مقتضي القاعدة الأوّلية.

إنّ مقتضي القاعدة الأوّلية هو التساقط، و إلاّ فالأمر دائر بين الأُمور الثلاثة:

1. الأخذ بكليهما، و هو يستلزم الجمع بين المتناقضين.

2. الأخذ بأحدهما المعين، و هو ترجيح بلا مرجح.

3. الأخذ بأحدهما المخير، و هو لا دليل عليه.

لأنّ الأدلة دلت علي حجّية كلّ واحد معيّناً لا مخيّراً، فإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين التساقط.

المبحث الثاني: في حجّية المتعارضين في نفي الثالث

قد عرفت أنّ الأصل في المتعارضين علي القول بحجّيتهما من باب الطريقية هو التساقط، لكن يقع الكلام في اختصاص التساقط بالمدلول المطابقي أو يعمّ المدلول الالتزامي أيضاً.

فعلي الوجه الأوّل يُحتج بهما في نفي الثالث دون الوجه الثاني، فلو كان هناك خبران متعارضين أحدهما يدل علي أنّ نصاب الغوص دينار، و الآخر علي أنّ نصابه عشرون ديناراً، فعلي الاختصاص يحتج بهما في نفي الثالث، أي نفي عدم اعتبار النصاب في الغوص أو كون نصابه عشرة دنانير دون القول الآخر.

فيه وجهان:

و الظاهر عدم صحة الاحتجاج، لأنّ الأخذ بالمدلول الالتزامي فرع الأخذ بالمدلول المطابقي، فإذا امتنع الأخذ بالمدلول المطابقي فكيف يمكن الأخذ بمدلوله الالتزامي؟! و بعبارة أُخري: الأخذ بالمدلول الالتزامي لأجل كونه من لوازم المعني

ص: 193

المطابقي، فإذا لم يثبت الملزوم تعبّداً فكيف يثبت اللازم؟! إلاّ أن يدل دليل علي التحفظ باللازم تعبداً.

المبحث الثالث: مقتضي القاعدة الثانوية في المتعارضين

اشارة

قد عرفت أنّ مقتضي القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط، إنّما الكلام في ورود دليل خارجي علي خلاف القاعدة و عدمه، فعلي الثاني(عدم ورود الدليل) يؤخذ بمفاد القاعدة الأُولي ويحكم بتساقط الخبرين في جميع الحالات، و علي الأوّل يجب أن يؤخذ بمدلول القاعدة الثانوية.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الخبرين المتعارضين تشعّبت إلي طوائف ثلاث:

الطائفة الأُولي: ما يدلّ علي التخيير.

الطائفة الثانية: ما يدلّ علي التوقّف.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ علي الأخذ بذي الترجيح.

و نذكر من القسم الأوّل ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا(عليه السلام)في حديث:

قلت: يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين و لا نعلم أيّهما الحق؟ قال: »فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت«. (1)

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري ادّعي تواتر الأخبار الدالّة علي التخيير في المتعارضين، و كان سيدنا الأُستاذ قدَّس سرّه ينكر التواتر، و لكن يعترف بالتضافر، و قد عثرنا علي ما يدل علي التخيير بما يناهز ثماني روايات. (2)

ص: 194


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث40.
2- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث6،21، 39، 40، 41، 44; المستدرك:17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، 12.

لكنّ المشكلة تكمن في إعراض الأصحاب عن روايات التخيير، فانّه لا يوجد مورد أفتي المشهور في الكتب الفقهية بالتخيير بين الخبرين.

و أمّا الطائفة الثانية، أعني: ما يدلّ علي التوقف، فيناهز عدد رواياتها ما يناهز الخمس، نذكر منها ما يلي:

1. روي سماعة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: »يرجئه حتي يلقي من يخبره، فهو في سعة حتي يلقاه«. (1)

2. روي سماعة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)، قلت: يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به، و الآخر ينهانا عنه؟ قال: »لا تعمل بواحد منهما حتي تلقي صاحبك فتسأله«، قلت: لا بدّ أن نعمل بواحد منهما.

قال:»خذ بما فيه خلاف العامة«. (2)

و يحتمل وحدة الحديثين لوحدة الراوي عن الإمام و إن اشتمل الحديث الثاني علي زيادة، و لاحظ ما يدل علي التوقف أيضاً. (3)

و علي فرض حجّية أخبار التخيير فقد قام غير واحد من المحقّقين بالجمع بين الطائفتين(التخيير و التوقف) بوجوه، أوضحها ما أفاده الشيخ الأعظم من حمل روايات التوقف علي صورة التمكّن من لقاء الإمام، و يشهد علي ذلك ما في حديث سماعة: »يرجئه حتي يلقي من يخبره«.

و في حديث آخر عنه:»لا تعمل بواحد منهما حتي تلقي صاحبك فتسأله«.2.

ص: 195


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث5و 42.
2- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث5و 42.
3- . الوسائل:18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 36; المستدرك:17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث10، 2.

إذا كانت الطائفة الأُولي دالة علي التخيير و الثانية علي التوقف(و قد عرفت الجمع بينهما) فهناك طائفة ثالثة تدل علي الأخذ بذي الترجيح، و يقع الكلام في هذه الطائفة في جهات:

1. التعرف علي أقسام المرجحات.

2. كون الأخذ بذات المزية لازم أو لا.

3. لزوم الاقتصار علي المنصوص منها أو جواز التعدّي عنه إلي غيره؟ و إليك دراسة هذه الجهات واحدة تلو الأُخري.

ص: 196

الجهة الأُولي: في أقسام المرجحات
اشارة

إنّ المرجحات الواردة في الروايات علي أقسام، و بما انّ مقبولة عمر بن حنظلة هي بيت القصيد في هذا الباب نذكر المرجحات وفق الترتيب الوارد في الرواية المذكورة و المرجحات الواردة فيها خمسة (1):

1. الترجيح بصفات الراوي.

2. الترجيح بالشهرة العملية.

3. الترجيح بالكتاب و السنّة.

4. الترجيح بمخالفة العامة.

5. الترجيح بالأحدثية.

هذه هي المرجحات الواردة في المقام، و إليك البحث فيها علي وجه التفصيل:

1. الترجيح بصفات الراوي

قد ورد الترجيح بصفات الراوي في روايات ثلاث:

أ. رواية عمر بن حنظلة.

ب. رواية داود بن الحصين.

ج. رواية موسي بن أكيل.

و لكن الجميع يرجع إلي ترجيح حكم أحد القاضيين علي الآخر بهذه

ص: 197


1- . و لم نأخذ بمرفوعة العلاّمة عن زرارة، لارسالها، لاحظ المستدرك:17، الباب9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، نقلاً عن عوالي اللآلي، عن العلاّمة مرفوعاً عن زرارة.

الصفات و لا تمت بترجيح أحد الخبرين علي الآخر بصفات الرواة.

أمّا رواية عمر بن حنظلة، فحاصل الرواية انّه فرض حكمين من أصحابنا حكما في موضوع بحكمين و كلاهما صدرا عن الحديث المروي عن الأئمّة(عليهم السلام)، فقال الإمام(عليه السلام): »الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلي ما يحكم به الآخر«. (1)

يلاحظ عليه: بما عرفت من أنّ مورد الرواية هو ترجيح حكم أحد القاضيين بصفاتهما، و أين هو من ترجيح إحدي الروايتين علي الأخري بصفات الراوي؟ أمّا رواية داود بن الحصين، فهي ما رواه الصدوق بسند كالصحيح عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في رجلين اتّفقا علي عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: »ينظر إلي أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت إلي الآخر«. (2)

و هذه الرواية كسابقتها ناظرة إلي ترجيح أحد الحكمين علي الآخر.

و أمّا رواية موسي بن أكيل، ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح، عن ذُبيان بن حُكيم، عن موسي بن أكيل،عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ، فيتفقان علي رجلين، يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما، قال: »و كيف يختلفان«؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: »ينظر إلي أعدلهما و أفقههما في دين اللّه، فيمضي حكمه«. (3)5.

ص: 198


1- . الكافي:1/67، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث10. و سيوافيك بقية الحديث ضمن المرجحات.
2- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20و 45.
3- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20و 45.

و هذا الحديث أيضاً أجنبي عن المقام، لأنّ الضمائر ترجع إلي الحكمين اللّذين اختارهما كلّ واحد من المتحاكمين، و بما انّ القضاء أمر لا يخلو تأخيره من مضارّ ناسب أن تكون صفات القاضي من المزايا، بخلاف الإفتاء.

نعم اختلاف الحكمين في القضاء ، و إن نشأ عن الاختلاف في الحديث المروي عنهما(عليهما السلام)لكنّ الاختلاف الحديث سبب الاختلاف في القضاء و ليس الإمام بصدد ترجيح رواية علي رواية أُخري، بل بترجيح قضاء، علي قضاء آخر.

إلي هنا تمّ الكلام في المرجح الأوّل، و ثبت انّه لا يمتُّ إلي ترجيح الرواية بصلة.

2. الترجيح بالشهرة العملية

قد ورد الترجيح بالشهرة العملية في رواية واحدة و هي مقبولة عمر بن حنظلة، فقد فرض عمر بن حنظلة مساواة الحكمين في الصفات، قائلاً:

قلت: فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما علي الآخر.

قال: فقال: »ينظر إلي ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمعَ عليه من أصحابنا فيؤخذ به من حكمنا، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه، و إنّما الأُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيُتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ علمه إلي اللّه و إلي رسوله، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم):حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم«. (1)

فإن قلت: إنّ صدر الحديث راجع إلي ترجيح أحد الحكمين علي الآخر، فليكن الترجيح بالشهرة العملية راجعاً إليهما لا إلي الخبرين.

قلت: إنّ صدر الحديث و إن كان راجعاً إلي ترجيح حكم أحد القاضيين

ص: 199


1- . الكافي:1، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.

علي حكم الآخر، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات أرجع الإمام السائل إلي ملاحظة مصدر فتاواهما، و انّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب، علي من قضي بمصدر شاذ.

و من هنا توجه كلام الإمام إلي بيان مرجحات الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً، فكلامه في المجمع عليه و ما بعده كموافقة الكتاب و مخالفته راجع إلي ترجيح أحد الخبرين علي الآخر في مقام الإفتاء.

هذا كلّه لا غبار عليه لكن هنا إشكالاً آخر، و هو انّ المراد من المرجّح، هو تقديم إحدي الحجتين علي الأُخري، لا تقديم الحجّة علي اللاحجّة، و التقديم بالشهرة العملية من قبيل القسم الثاني، و يعلم ذلك من تحليل مقاطع الرواية في ضمن أُمور:

1. المراد من »المجمع عليه« ليس ما اتّفق الكل علي روايته، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور، و الدليل علي ذلك قول الإمام(عليه السلام): »و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك«.

2. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب هو اشتهارها مع الإفتاء بمضمونها، إذ هو الذي يمكن أن يكون مصداقاً لما لا ريب فيه، و إلاّ فلو نقلوا الرواية بلا إفتاء وفق مضمونها ففيه كلّ الريب و الشكّ.

3. المراد من قوله: »لا ريب فيه« هو نفي الريب علي وجه الإطلاق، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فالرواية المشهورة نقلاً و عملاً ليس فيها أي ريب و شك.

و أمّا ما يقابلها، أعني :الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، و ذلك لأنّه إذا كانت النسبة في إحدي القضيتين صحيحة قطعاً تكون النسبة في القضية المناقضة لها باطلة قطعاً، و هذا هو المهم فيما نرتئيه.

ص: 200

4. انّ هذا البيان يثبت انّ الخبر المشهور المفتي به داخل في »بيّن الرشد« في تثليث الإمام(عليه السلام)و الخبر الشاذ داخل في »البيّن الغي« من تثليثه، و ذلك لما تبيّن انّ المشهور لا ريب في صحته و المخالف لا ريب في بطلانه.

و يظهر من ذلك ما ذكرنا من الإشكال، و هو انّ الشهرة العملية إذا كانت سبباً لطرد الريب عن نفسها و إلصاقه بمخالفها تكون أمارة علي تمييز الحجّة عن اللاحجة ، و بيّن الرشد عن بيّن الغي، و مثل ذلك لا يعدّ مرجحاً أصلاً.

إلي هنا تبيّن انّ ذينك الأمرين، الترجيح بصفات الراوي، و الترجيح بالشهرة العملية لا يمتّ إلي ترجيح أحد الخبرين علي الآخر بصلة، امّا لكونه راجعاً إلي ترجيح أحد الحكمين، أو إلي تمييز الحجّة عن غيرها، لا تقديم إحداهما علي الأُخري كما هو المقصود، و إليك دراسة الباقي:

3. الترجيح بالكتاب و السنّة
اشارة

قد ورد الترجيح بالكتاب و السنّة في غير واحد من الروايات، و نحن نذكر في هذا المقام بعضاً منها:

1. مقبولة عمر بن حنظلة

فقد جاء في المقطع الثالث منها:

قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم.

قال:» ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة(و خالف العامة) فيؤخذ به، و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنّة و وافق العامة«. (1)

2. ما رواه الميثمي عن الرضا(عليه السلام)

أنّه قال: »فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما علي كتاب اللّه، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً،

ص: 201


1- . الكافي:1/68، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.

فاتّبعوا ما وافق الكتاب، و ما لم يكن في الكتاب فاعرضوه علي سنّة رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام، و مأموراً به عن رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)أمر إلزام، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)و أمره«. (1)

3. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الصادق(عليه السلام)

أنّه قال: »إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما علي كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه«. (2)

4. ما رواه الحسن بن الجهم، عن الرضا(عليه السلام)

قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال: »ما جاءك عنّا فقس علي كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، و إن لم يكن يشبهها فليس منّا«. (3)

5. ما رواه الحسن بن الجهم، عن العبد الصالح(عليه السلام)

أنّه قال: »إذا جاءك الحديثان المختلفان، فقسهما علي كتاب اللّه و أحاديثنا، فإن أشبههما فهو حقّ، و إن لم يشبههما فهو باطل«. (4)

و الظاهر انّ موافقة الكتاب ليست من وجوه الترجيح، بل المخالف ليس بحجّة، و ذلك لأجل أمرين:

إنّ الأخبار الواردة حول الخبر المخالف للكتاب علي صنفين:

أ. ما يصف الخبر المخالف و إن لم يكن له معارض بكونه زخرفاً. (5) و انّه ممّا لم »أقله« (6) أو »لا يصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه«. (7)

ب. ما يصف الخبر المخالف للكتاب مع كونه معارضاً لما هو موافق له

ص: 202


1- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
2- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
3- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
4- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
5- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
6- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.
7- . الوسائل:18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 29، 40، 48، 12، 15، 47.

فيصف المخالف بقوله »فردّوه« (1)، أو »فليس منّا« (2)، أو »فهو باطل« (3) ، فانّ هذه التعابير تناسب كون الخبر المخالف ممّا لم يصدر عن الأئمّة بتاتاً فيكون من قبيل تقديم الحجّة علي اللاحجّة فيخرج عن محط البحث.

4. الترجيح بمخالفة العامة

تضافرت الروايات علي أنّه إذا اختلفت الأخبار، يُقدّم ما خالف العامة، و ما ذلك إلاّ لأنّ الظروف القاسية دفعت بالأئمة إلي الإفتاء وفق مذاهبهم صيانة لدمائهم و صيانة نفوس شيعتهم، و لذلك جعل ما يشبه قولهم ممّا فيه التقية. (4)

و إليك نقل ما ورد في هذا المجال:

1. ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في مقبولته:جعلت فداك أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة و الآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: »ما خالف العامة ففيه الرَّشاد«.

فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال:» ينظر إلي ما هم إليه أميل، حكامهم و قضاتهم، فيترك و يؤخذ بالآخر«. (5)

و قد مرّ آنفاً انّ صدر الحديث و إن كان راجعاً إلي ترجيح حكم أحد القاضيين علي حكم الآخر، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات ارجع الإمام السائل إلي ملاحظة مصدر فتواهما، و انّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب علي من قضي بمصدر شاذ...

و من هنا انحدر كلام الإمام من بيان مرجّحات الحكمين إلي مرجّحات

ص: 203


1- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
2- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
3- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
4- . قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.
5- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 46.

الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً، و كلّ ما جاء بعد الكلام في المجمع عليه يرجع إلي مرجحات الرواية.

و قد ورد الترجيح بمخالفة العامة في غير واحد من الروايات. (1) و ظهر انحصار المرجّح فيها.

5. الترجيح بالأحدثية

هناك روايات عديدة دلّت علي لزوم الأخذ بالأحدث من الحكمين، و إليك بعض ما يدلّ عليه.

1. روي المعلّي بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام): إذا جاء حديث عن أوّلكم و حديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: »خذوا به حتي يبلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله«. (2)

و لكن هذا القسم لا صلة له بباب المرجحات، لأنّ الأخذ بالأحدث ليس لأجل كونه بياناً للحكم الواقعي و الآخر علي خلافه بل يمكن أن يكون علي العكس، و إنّما وجب الأخذ بالأحدث، لأجل انّ إمام كلّ عصر أعرف بمصالح شيعته، مع أنّ كلاً من الخبرين بالنسبة إلي بيان الحكم الواقعي و عدمه سواء، و علي هذا يختص الترجيح بهذه المزيّة لعصرهم دون عصر الغيبة، لأنّه بالنسبة إلي الخبرين متساو.

نعم الأخذ بالأحدث إذا كان في كلام النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)ربما يكون لأجل كونه ناسخاً للأوّل، و أمّا في كلام الإمامين أو الإمام الواحد فلا يتصور فيه ذلك.

تمّ الكلام في الجهة الأُولي، و إليك الكلام في الجهة الثانية.

ص: 204


1- . لاحظ الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 30، 31، 34.
2- . الوسائل: 18، الباب 9من أبواب صفات القاضي، الحديث 8; و انظر أيضاً الحديث 9و17 من نفس الباب.
الجهة الثانية: لزوم الأخذ بالمرجِّح

المشهور هو لزوم الأخذ بذات المزية من الخبرين، و قد استدلّ علي القول المشهور بوجوه نشير إلي بعضها بوجه موجز:

أ. دعوي الإجماع علي الأخذ بأقوي الدليلين.

ب. لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح علي الراجح، و هو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.

إلي غيرها من الوجوه التي ربما ترتقي إلي خمسة، و الأولي أن يستدلّ علي وجوب الأخذ بالوجه التالي:

إنّ لسان الروايات هو لزوم الأخذ لا استحبابه، أمّا علي القول بأنّ الجميع يرجع إلي تميز الحجة عن اللاحجة فواضح، و أمّا علي القول بأنّها من مقولة المرجحات بعد وصف الخبرين بالحجّية، فلأنّ المتبادر من الجمل التالية هو اللزوم لا الفضل و الاستحباب.

أ: انّ المجمع عليه لا ريب فيه.

ب: ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة فيؤخذ به و يترك ما خالف.

ج: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

د: ما وافق القوم فاجتنبه.

إلي غير ذلك من العنوانات الصريحة في لزوم الأخذ بالمرجح و ترك الآخر.

ص: 205

الجهة الثالثة: التعدّي من المنصوص إلي غيره

لو افترضنا انّ ما ذكر من المزايا مرجّحات للرواية، فهل يقتصر عليها في مقام الترجيح أو يتعدّي عنه إلي غيره كموافقة الإجماع المنقول أو موافقة الأصل و غيرهما؟ إنّ التعدّي يحتاج إلي حجة قطعية يقيد بها إطلاقات التخيير، و قد عرفت تضافر الروايات علي التخيير. (1) فالترجيح بغير المنصوص نوع تقييد لها و لم يدلّ دليل علي لزوم التعدي، و يؤيد المختار أمران:

الأوّل: لو كان الملاك هو العمل بكلّ مزية في أحد الطرفين، لكان الأنسب في الروايات الإشارة إلي الضابطة الكلية من دون حاجة إلي تفصيل المرجحات.

و لو قيل: إنّ الغاية من التفصيل هو إرشاد المخاطب إلي تلك المرجّحات، و لو لا بيان الإمام لما كان المخاطب علي علم بها.

قلت: نعم و لكن لا منافاة بين تفصيل المرجّحات و إعطاء الضابطة ليقف المخاطب علي وظيفته العملية في باب التعارض.

الثاني: انّ الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض تساوي الخبرين أمر بالتوقف و إرجاء حكم الواقعة حتي يلقي الإمام، و لو كان العمل بكلّ ذي مزية واجباً لما وصلت النوبة إلي التوقّف إلاّ نادراً.

ص: 206


1- . علي القول بعدم اعراض الأصحاب عن روايات التخيير كما عليه الشيخ الأعظم قدَّس سرّه.
الجهة الرابعة: في التعارض علي نحو العموم و الخصوص من وجه

قد عرفت أنّ الجمع المقبول بين الروايتين مقدّم علي الأخبار العلاجية من التخيير و الترجيح.

كما عرفت أنّه إذا كانت النسبة بين الخبرين هو التباين، يجب العمل بالرواية ذات المزية و إلاّ فالتخيير.

بقي الكلام فيما إذا كان التعارض بين الخبرين علي نحو العموم من وجه، كما إذا دلّ الدليل علي نجاسة عذرة ما لا يؤكل لحمه، و دلّ دليل آخر علي طهارة عذرة كلّ طائر، فيفترق الدليلان في موردين:

أحدهما: عذرة الوحوش، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل الأوّل; و ثانيهما:عذرة الطائر الذي يؤكل لحمه، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل الثاني; و إنّما يتعارضان في الطائر غير المأكول لحمه كما فيما إذا كانت له مخالب، فهل المرجع هو التساقط و الرجوع إلي دليل آخر من اجتهادي كالعموم و الإطلاق، و أصل عملي إذا لم يكن دليل اجتهادي، أو المرجع هو الأخبار العلاجية من الترجيح أوّلاً و التخيير ثانياً؟ و الظاهر هو القول الأوّل، لأنّ المتبادر من الأخبار العلاجية هو دوران الأمر بين الأخذ بالشيء بتمامه و ترك الآخر كذلك، أو بالعكس كما هو الظاهر من قوله:

»أحدهما يأمر و الآخر ينهي« و الأمر في العامين من وجه ليس كذلك، إذ لا يدور الأمر بين الأخذ بواحد منهما و ترك الآخر أو بالعكس، بل يؤخذ بكلّ في

ص: 207

موردي الافتراق، و إنّما الاختلاف في مورد الاجتماع، فالعُقاب بما انّه حيوان غير مأكول يحكم علي فضلته بالنجاسة، و بما انّه طائر يحكم عليها بالطهارة.

و منه يعلم حكم أخبار العرض علي الكتاب و السنّة و فتاوي العامة، فإنّ الظاهر هو الأخذ بتمام ما وافق كتاب اللّه و ترك تمام ما خالفه، و مثله ما وافق العامة أو خالفها، فإنّ المتبادر هو أخذ تمام ما خالف العامة و ترك كلّ ما وافقهم، و الأمر في العموم من وجه ليس كذلك، لأنّه يؤخذ بكلا الدليلين و لا يترك الآخر بتاتاً.

سؤال و إجابة ما الفرق بين »صل« و »لا تغصب«، و قولنا:»أكرم العلماء« و »لا تكرم الفساق«؟ حيث يعد الأوّل من باب التزاحم بخلاف الآخر حيث يعد من باب التعارض، و لم نجد أحداً يعالج المثال الأوّل من باب التعارض، كما لم نجد من يعالج المثال الثاني من باب التزاحم مع أنّ المثالين من باب واحد.

و الجواب: انّه إذا أحرز الملاك و المناط في متعلّق كلّ واحد من الإيجاب و التحريم مطلقاً حتي في مورد التصادق و الاجتماع، فهو من باب التزاحم; و أمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق، سواء أحرز مناط أحد الحكمين بلا تعيين، كما إذا كان أحد الدليلين قطعياً أو لم يحرز المناط في كلّ من المتعلّقين كالخبرين الواحدين فهما من باب التعارض. و قد مرّ الايعاز إليه في الجز الأوّل عند البحث في اجتماع الأمر و النهي.

تمّ الكلام في المقصد الثامن و يليه البحث في الاجتهاد و التقليد

ص: 208

خاتمة: في الاجتهاد و التقليد

اشارة

و فيها فصلان:

الفصل الأوّل: في الاجتهاد و أحكامه، و فيه مسائل:

الأُولي: الاجتهاد لغة و اصطلاحاً.

الثانية: جواز عمل المجتهد برأيه.

الثالثة:حرمة رجوع المجتهد إلي غيره.

الرابعة: جواز رجوع العامي إلي المجتهد.

الخامسة: نفوذ حكم المجتهد و قضائه.

السادسة: في الاجتهاد التجزئي.

السابعة: مقدمات الاجتهاد.

الثامنة: في التخطئة و التصويب.

التاسعة: في تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد.

الفصل الثاني: في التقليد و أحكامه، و فيه مسائل:

الأُولي: التقليد لغة و اصطلاحاً.

الثانية: في جواز التقليد.

الثالثة: في وجوب تقليد الأعلم.

الرابعة: في تقليد الميت ابتداء.

الخامسة: في البناء علي تقليد الميت.

السادسة: في العدول من مجتهد إلي مجتهد آخر.

ص: 209

ملاحظة مهمّة

إنّ البحث في الاجتهاد و التقليد و إن لم يكن من المسائل الأُصولية، و لكنّه مشحون بمسائل هامة لا غني للفقيه عنها، فلأجل ذلك ذيّلنا المقصد الثامن بمباحث الاجتهاد و التقليد هذا من جانب.

و من جانب آخر يمكن أن ينتهي العام الدراسي دون أن تسنح الفرصة للأُستاذ للتطرق إلي هذا المبحث . فعند ذاك فبإمكان الأُستاذ حثّ التلاميذ علي مطالعته استيفاءً للغاية المتوخاة من وراء هذا البحث.

ص: 210

الفصل الأوّل: في الاجتهاد و أحكامه

اشارة

و يقع الكلام في هذا الفصل في عدّة مسائل:

المسألة الأُولي: الاجتهاد لغة و اصطلاحاً

الاجتهاد لغة مأخوذ من الجهد بضم الجيم بمعني الطاقة و الوسع، و بفتحها بمعني المشقة; فهو إمّا بمعني بذل الطاقة و الوسع، أو تحمّل الجهد و المشقّة. يقال: اجتهد في حمل الرحي و لا يقال: اجتهد في حمل الخردلة، لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

و أمّا اصطلاحاً، فقد عرّفه بهاء الدين العاملي بأنّه عبارة عن ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الشرعي الفرعي من أدلّته فعلاً أو قوّة قريبة منه. (1)

قوله: »فعلاً أو قوة« قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعليّتها، و أمّا الاستنباط فينقسم إلي ما »بالفعل« كمن تهيّأت له أسبابه و لم يبق إلاّ المراجعة; و إلي ما »بالقوة« كمن لم تتهيّأ له أسبابه كفقد الكتب.

و كان عليه إضافة قيد آخر و هو استنباط الوظيفة الفعلية، كأن يقول: ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية، و ذلك كما في مجاري الأُصول، فإنّ المستنبَط فيها هو الوظيفة في حال الشكّ لا الحكم الواقعي.

ثمّ إنّ الاجتهاد وقع موضوعاً لأحكام عديدة سنشير إلي بعضها:

ص: 211


1- . زبدة الأُصول:141.

المسألة الثانية: جواز عمل المجتهد برأيه

إنّ عمل المجتهد برأيه من القضايا التي قياساتها معها، لأنّه إمّا عالم بالحكم الواقعي وجداناً، كما في صورة العلم القطعي; أو عالم به تعبّداً ، كما في مورد الطرق و الأُصول الشرعية; و إمّا عالم بالوظيفة العملية، كما في موارد الأُصول العقلية، و للعالم، العمل بعلمه.

المسألة الثالثة: حرمة رجوع المجتهد إلي الغير

إذا تمكّن المجتهد من الاستنباط فقط، أو خاض فيه و استحصل الأحكام الشرعية بالطرق المألوفة، فهل يجوز له ترك الاستنباط أو ترك رأيه و الركون إلي رأي غيره أو لا؟ المشهور العدم و لم ينقل الجواز عن أحد.

و ذلك لانصراف ما دلّ علي جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد، و اختصاصه بمن لا يتمكّن من تحصيل العلم بها. أضف إليه انّه ربّما يخطِّئ الغيرَ باجتهاده، إذا اجتهد فكيف يرجع إليه و يأخذ برأيه؟! خصوصاً إذا خاض و تبيّن خطأ الغير.

المسألة الرابعة: جواز رجوع العامي إلي المجتهد و تقليده

إنّ رجوع العامي إلي المجتهد أمر ثابت بالسيرة ،لأنّه من فروع رجوع الجاهل إلي العالم، و العامي إلي المتخصّص، و سيوافيك شرحه في فصل التقليد.

المسألة الخامسة: نفوذ حكم المجتهد و قضائه

لمّا كان القضاء بين الناس ملازماً للتصرّف في أموالهم و أنفسهم، احتاج التلبّس به إلي ولاية حقيقية، يمارس في ظلّها ذلك العمل، و ليست هي إلاّ للّه

ص: 212

سبحانه، قال سبحانه:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (1) ) (2).

و بما انّ من لوازم القضاء كون المتصدّي له، مجانساً للمتحاكمين، نصب سبحانه أنبياءه و أولياءه قضاة للناس، يحكمون فيهم بما أنزل اللّه سبحانه و لا يحيدون عنه قيدَ شعرة، قال سبحانه:( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (3) ) (4).

و قال سبحانه في حقّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم):( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (5) ) (6).

و قال سبحانه في حقّ ولاة الأمر:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (7) ) (8).

و قد عرّف النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)أُولي الأَمر الذين هم أوصياؤه بأسمائهم و خصوصياتهم واحداً تلو الآخر. (9)

فهؤلاء هم القضاة المنصوبون من اللّه سبحانه بأسمائهم و خصوصياتهم، و أمّا بعد ارتحال النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)و عدم التمكّن من الوصيّ المنصوب سواء أ كان في عصر الحضور أو عصر الغيبة، عيّنت الشريعة رجالاً لتصدّي القضاء عرّفتهم بصفاتهم و سماتهم لا بأسمائهم، و هم كما في مقبولة عمر بن حنظلة عند ما قال السائل: فكيف يصنعان؟ قال(عليه السلام): »ينظران إلي من كان منكم ممّن روي حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّه استخفَّ بحكم اللّه و علينا ردَّ، و الرادّ علينا رادّء.

ص: 213


1- سوره 6 - آيه 57
2- . الأنعام:57.
3- سوره 38 - آيه 26
4- . ص:26.
5- سوره 4 - آيه 65
6- . النساء:65.
7- سوره 4 - آيه 59
8- . النساء:59.
9- . البرهان في تفسير القرآن: 1/381 في تفسير الآية 59 من سورة النساء.

علي اللّه، و هو علي حدّ الشرك باللّه«. (1)

و الإمعان في القيود الواردة في الرواية تُثبت بأنّ ولاية القضاء لا ينالها إلاّ الموصوف بالصفات التالية:

1. أن يكون شيعياً إمامياً بقرينة قوله:»من كان منكم«.

2. أن يحكم بحكمهم، فلو حكم بحكم غيرهم لا ينفذ حكمه لقوله:»فإذا حكم بحكمنا...«.

3. أن يكون راوياً لحديثهم، لقوله:»روي حديثنا...«.

4. أن يكون صاحب نظر في الحلال و الحرام لقوله:»و نظر في حلالنا و حرامنا...«.

5. أن يكون خبيراً في الوقوف علي أحكامهم(عليهم السلام)لقوله:»و عرف أحكامنا «.

و من الواضح انّ هذه التعابير لا تنطبق إلاّ علي المجتهد في عصرنا هذا.

و هناك روايات أُخر تدعم ولاية الفقيه للقضاء تركنا ذكرها للاختصار، و أمّا تصدّي غير المجتهد سواء كان مقلّداً أو مجتهداً متجزّئاً ففيه تفصيل يطلب من كتاب القضاء. (2)

المسألة السادسة: في الاجتهاد التجزّئي

الاجتهاد التجزّئي عبارة عن تمكّن الإنسان من استنباط بعض الأحكام دون بعض، مثلاً انّ أبواب الفقه مختلفة مدركاً، و المدارك مختلفة سهولة و صعوبة، فربّ شخص ضالع في النقليات دون العقليات و كذلك العكس، و هذا يمكِّنُ له الاستنباط في بعضها دون بعض، علي أنّ حصول الاجتهاد المطلق ليس أمراً دفعياً،

ص: 214


1- . الكافي:1/76، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث.
2- . لاحظ كتابنا »القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء«.

بل يتوقف علي التدرّج شيئاً فشيئاً، فالمجتهد في بادئ ذي بدء لم يكن مجتهداً مطلقاً بل كان متجزئاً ثمّ صار مجتهداً مطلقاً، و أمّا أحكامه فنقول:

يجوز له العمل بما استنبط، و إلاّ فأمامه طريقان:

أ. العمل بالاحتياط.

ب. الرجوع إلي الغير.

و الأوّل غير واجب باتّفاق الكلّ، و جواز الثاني موقوف علي تحقّق موضوعه، و هو كونه غير عالم أو جاهل، فلا يعم العالم، و المفروض أنّه عالم بالحكم و لو في موارد خاصّة.

و أمّا رجوع الغير إليه و تقليده له، فإن كان هناك من هو أفقه منه و قلنا بوجوب الرجوع إلي الأفقه فلا يجوز الرجوع إلي المتجزّئ في المقام، و إلاّ فلا مانع من الرجوع إليه و يكون المتجزّئ و المطلق في جواز الرجوع سيّان، غير أنّ الكلام في جواز الرجوع إلي غير الأفقه كما سيوافيك.

المسألة السابعة: مقدّمات الاجتهاد

الاجتهاد يتوقّف علي مقدّمات نشير إليها بوجه موجز، فنقول:

الأوّل: الوقوف علي القواعد العربية علي وجه يقف علي ضوئها علي مراد المتكلّم، و لا يشترط أن يكون مجتهداً في العلوم العربية، بل يكفيه الرجوع إلي أهل الخبرة.

الثاني: الوقوف علي معاني المفردات حتي يُميّز المعني الحقيقي عن المجازي، و يعرف الكنايات و الاستعارات الواردة في الكتاب و السنّة، و لا يشترط أن يكون لغويّاً محقّقاً في اللغة، و يكفيه في تفسير المفردات الرجوعُ إلي أُمّهات الكتب اللغويّة و معاجم اللغة، ك»العين« للخليل بن أحمد الفراهيدي، و»لسان العرب«

ص: 215

لابن منظور الإفريقي، و»النهاية في غريب الحديث« للجزري، و»مجمع البحرين« للطريحي.

و لأجل الوقوف علي أُصول المعاني و الفروع التي اشتق منها لا بدّ من الرجوع إلي كتاب »مقاييس اللغة« لأحمد بن فارس و»أساس البلاغة« للزمخشري.

الثالث: معرفة الكتاب و السنّة اللّذين هما مصدران أساسيان للاستنباط و يعدّان حجر الأساس له; فلا بدّ للفقيه أن يستنير بنورهما في كلّ مسألة، فيرجع إلي الكتاب العزيز أوّلاً و يدرس الآيات التي لها مساس بالموضوع، ثمّ يعرّج إلي السنّة.

و بذلك يظهر أنّ علمي التفسير و الحديث من مقدمات الاجتهاد و لا غني لمجتهد عن معرفتهما.

و المعروف أنّ عدد الآيات التي تستنبط منها أكثر الأحكام لا تتجاوز عن ثلاثمائة آية، و لكن ثمّة آيات لا تعد من آيات الأحكام و لكن يمكن استنباط أحكام فرعية منها، و علي ذلك لو ضمت تلك إلي آيات الأحكام لجاوزت العدد المذكور، و قد استنبط بعض الفقهاء من سورة »المسد« أحكاماً شرعية مختلفة، و كذلك من قوله تعالي حاكياً كلام شعيب:( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلي أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللّهُ عَلي ما نَقُولُ وَكِيلٌ (1) ) (2) فقد استنبط بعض الفقهاء من الآيتين أحكاماً في النكاح و الإجارة.

الرابع: الوقوف علي المسائل الأُصولية التي تدور عليها رحي الاستنباط، فلو7.

ص: 216


1- سوره 28 - آيه 27
2- . القصص:2827.

لم يثبت عنده مثلاً حجية الخبر الواحد لم يكن بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية و تشخيص الوظائف العملية.

الخامس:علم الرجال و معرفة الثقات من الضعاف، فلو قلنا بأنّ الحجّة هي وثاقة الراوي، فيتوقف إحرازها علي ذلك العلم; و لو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق الصدور، فالعلم بوثاقة الراوي يحصِّل الوثوق بصدوره. و يلحق به علم الدراية حتي يقف علي أقسام الرواية من الصحيح و الحسن و الموثق و الضعيف حسب صفات الراوي.

السادس: معرفة المذاهب الفقهية الرائجة في عصر الأئمّة(عليهم السلام)التي كان عمل القضاة عليها و كان الناس يرجعون إليهم، فإنّ في معرفة تلك المذاهب تمييزَ ما صدر عنهم عن تقية عمّا صدر عن غيرها.

و أمّا المذاهب الأربعة المعروفة، فإنّها صارت رائجة بعد أعصارهم(عليهم السلام); و أفضل كتاب في هذا الموضوع كتاب »الخلاف« للشيخ الطوسي.

و سبب التأكيد علي معرفة المذاهب المعاصرة لأئمّة أهل البيت، هو أنّ لأخبارهم و كلماتهم أسباب صدور و ليست إلاّ فتاوي فقهاء عصرهم، فهذه الفتاوي كالقرينة المتصلة لفهم أخبارهم، فلا يمكن غضّ النظر عنها.

السابع: معرفة الشهرة الفتوائية، و قد وقفت علي أهمّيتها عند البحث عن حجّية الشهرة، و قلنا إنّ الشهرة علي أقسام ثلاثة:

1. روائية. 2. عملية. 3. فتوائية. و الأخيرة كاشفة عن وجود النص، أو كون الحكم مشهوراً عند أصحاب الأئمّة، و الثانية أي عمل الأصحاب بالرواية و الإعراض عن مخالفها يوجب خروج المعارض عن الحجية.

و في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس عليها دليل سوي الشهرة. حسب ما كان يراه سيّد مشايخنا العلاّمة البروجردي(قدس سره).

ص: 217

الثامن: ممارسة الفروع الفقهية لتنمية قدرته علي الاستنباط، و قد كانت مجالس العلماء سابقاً حافلة بذكر الفروع الفقهية، و كانت عملية التدريب دائرة فيها علي قدم و ساق.

التاسع: معرفة القواعد الفقهية التي هي خير وسيلة لاستخراج الأحكام الجزئية من الأحكام الكلية، فلا محيص للطالب عن الرجوع إلي: كتاب»القواعد و الفوائد« للشهيد الأوّل، ثمّ »نضد القواعد« للفاضل المقداد السيوري، و»تمهيد القواعد« للشهيد الثاني و غيرها.

العاشر: معرفة المسائل الرياضية و الهندسية و علم الهيئة التي تسهّل استنباط أحكام المواريث، و تعيين القبلة، و المقادير الواردة في الكر و الزكاة، و غيرها.

فمن توفرت فيه تلك المقدّمات، يصبح مؤهلاً لاستنباط أحكام الموضوعات بعد الدقة و الفحص و الممارسة و التمرين و الاستئناس بالمسائل و الأقوال.

المسألة الثامنة: في التخطئة و التصويب

اشارة

في التخطئة و التصويب اصطلاحان للفقهاء:

الأوّل: انّ للّه سبحانه حكماً مشتركاً للعالم و الجاهل، فالمجتهد قد يصيبه و قد لا يصيبه، فلو اختلفت آراء المجتهدين فالمصيب واحد و غيره مخطئ. و بذلك وُصفوا بالمخطِّئة، لأنّهم لا يصفون كلّ اجتهاد بالصواب و تقابلها »المصوبة« التي تنكر حكم اللّه المشترك بين العالم و الجاهل، و تخص أحكامه سبحانه بالعالمين به. و هذا هو التصويب المستلزم للدور المعروف، و التصويب بهذا المعني خارج عن موضوع بحثنا و لعلّه صرف افتراض لا قائل به و المهم هو التصويب بالمعني الآتي.

الثاني: تفويض التشريع إلي المجتهدين في خصوص ما لا نصّ فيه من

ص: 218

الشارع، فيكون كلّ رأي صواباً لعدم وجود واقع محدَّد حتي يوصف المطابق بالصواب، و غيره بالخطإ، و بذلك وُصِفُوا بالمصوّبة، لأنّهم يصفون كلّ اجتهاد بالصواب. و علي هذا القول يكون الاجتهاد من منابع التشريع و مصادره، بخلافه علي القول الآخر فإنّ الاجتهاد عليه لا يعدو عن بذل جهد لإصابة الواقع المحدَّد، فما ربما يُري في بعض كلمات أهل السنّة من عدِّ الاجتهاد من منابع التشريع مبني علي ذاك القول.

غير أنّ اللازم معرفة المواضع التي تضاربت فيها الآراء فصارت طائفة إلي التخطئة و أُخري إلي التصويب (1)، و يظهر ذلك بمعرفة المواضع التي اتّفقوا فيها علي التخطئة، و نذكر منها ما يلي:

1. لا تصويب في الأُصول و المعارف

اتّفق المسلمون علي أنّ الحقّ في الأُصول و المعارف أمر واحد، و ما وافقه هو الحقّ و الصواب، و ما خالفه هو الخطأ، و لم يقل أحد من المسلمين إلاّ من شذّ بتصويب جميع الآراء. (2)

قال المرتضي: إنّ الأُصول المبنيّة علي العلم نحو التوحيد و العدل و النبوة لا يجوز أن يكون الحقّ فيها إلاّ واحداً، لأنّ اللّه تعالي لا يجوز أن يكون جسماً أو غير جسم، يُري و لا يُري علي وجهين مختلفين. (3)

و قال الشيخ الطوسي: اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغييره عمّا هو عليه فلا

ص: 219


1- . أي التصويب و التخطئة بالمعني الثاني فلا تغفل.
2- . نقل الغزالي انّ عبد اللّه بن الحسن الغيري ذهب إلي أنّ كلّ مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع(لاحظ المستصفي:2/359). و لعلّ مراده من التصويب في العقائد كونه مثاباً.
3- . الذريعة:2/793.

خلاف بين أهل العلم أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف، و أنّ الحقّ واحد، و أنّ من خالفه ضال فاسق و ربما كان كافراً، و ذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو حادث، و إذا كان حادثاً هل له صانع أو لا؟ (1)

2. لا تصويب في الموضوعات الخارجية

كما أنّ الحقّ في الأُصول و المعارف واحد، فكذلك في الموضوعات ; كالقبلة; فلو اختلفت الأمارة في تعيين القبلة، فإحداهما مخطئة و الأُخري مصيبة; و هكذا الحال في أرش الجنايات.

3. لا تصويب في الأحكام العقليّة البديهية

إنّ كلّ موضوع ثبت حكمه ببداهة العقل فالحقّ فيه واحد لا غير، و هذا كالظلم و العبث و الكذب فإنّها قبيحة عند الكل، كما أنّ شكر المنعم و ردّ الوديعة و الإنصاف حسن علي كلّ حال. نعم حكي بأنّ كلّ مجتهد فيها مصيب، لكنّه قول شاذ. (2)

4. لا تصويب في المسائل المنصوصة
اشارة

إذا كان في المسألة نص قطعي السند و الدلالة، فلا موضوع للاجتهاد فيها، و بالتالي لا موضوع للتصويب و التخطئة.

قال الشافعي: أجمع الناس علي أنّ من استبانت له سنّة عن رسول اللّه، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

و تواتر عن الشافعي أنّه قال: و إن صحّ الحديث، فاضربوا بقولي الحائطَ.

ص: 220


1- . العدّة:2/113.
2- . العدّة: 2/113.

و قال أيضاً: إذا رَوَيتُ عن رسول اللّه حديثاً و لم آخذ به، فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب.

و قال: لا قول لأحد مع سنّة رسول اللّه. (1)

فتعيّن من خلال ذلك انّ المواضع الأربعة السابقة لا مجال فيها للقول بالتصويب، و الرأي الصائب فيها واحد و غيره خاطئ.

إذا عرفت خروج المواضع السالفة الذكر عن محط النزاع، و انّ جمهور الفقهاء إلاّ من شذّ قائلون فيها بالتخطئة، يُعلم منه أنّ النزاع يختص بالمسائل التي لم يرد حكمها في الكتاب و السنّة، فمن قال بأنّ للّه سبحانه في نفس تلك المسائل التي لم يرد فيها نص، حكم مشترك بين الناس، فالآراء عند قياسها به يوصف الموافق منها بالصواب و المخالف بالخطإ، و من أنكر وجود ذلك الحكمَ المشترك، في نفس المورد يري الجميع صواباً، و كانَ الحكم الشرعي مفوّضاً إلي تشخيص المجتهد و رؤيته، فيصح الجميع علي حد سواء.

و ممن صرّح بتخصيص محل النزاع بما لا نص فيه هو الغزالي، قال: قد ذهب قوم إلي أنّ كلّ مجتهد في الظنّيات مصيب، و قال قوم: المصيب واحد، و اختلف الفريقان جميعاً في أنّه هل في الواقعة التي لا نصّ فيها، حكم معين للّه تعالي هو مطلوب المجتهد، فالذي ذهب إليه محقّقو المصوّبة انّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن، بل الحكم يتبع الظن، و حكم اللّه تعالي علي كلّ مجتهد، ما غلب علي ظنّه و هو المختار، و إليه ذهب القاضي. (2)

إذا عرفت ذلك فنقول:

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت انّ للّه سبحانه حكماً مشتركاً في3.

ص: 221


1- . أعلام الموقعين:2/922.
2- . المستصفي:2/363.

كلّ واقعة و انّه سبحانه لم يترك الحوادث سدي، بل شرّع لها أحكاماً خاصة، و لم يُفوِّض أمر التشريع بيد أحد، و نكتفي بالقليل من تلك الروايات:

1. قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): »إنّ اللّه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله(صلي الله عليه و آله و سلم)، و جعل لكلّ شيء حدّاً، و جعل عليه دليلاً يدل عليه، و جعل لمن تعدّي ذلك الحدّ حدّاً«. (1)

2. روي حمّاد، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)قال: سمعته يقول:»ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنّة«. (2)

3. روي سماعة، عن أبي الحسن موسي(عليه السلام)، قال: قلت له: أكل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: »بل كل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه«. (3)

4. و قال النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في خطبة حجّة الوداع:»يا أيّها الناس و اللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنة و يبعّدكم عن النار إلاّ و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقرّبكم من النار و يبعّدكم عن الجنّة إلاّ و قد نهيتكم عنه«.

5. روي (4) الترمذي عن أبي هريرة، عن رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم)قال: »إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد«. (5)

6. سئل أبو بكر عن حكم الكلالة، فقال: إنّي سأقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن اللّه وحده لا شريك له، و إن كان خطأ فمنّي و من الشيطان و اللّه منه بريء. (6)0.

ص: 222


1- . الكافي:1، باب الرد إلي الكتاب و السّنة و انّه ليس شيء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 2، 4، 10.
2- . الكافي:1، باب الرد إلي الكتاب و السّنة و انّه ليس شيء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 2، 4، 10.
3- . الكافي:1، باب الرد إلي الكتاب و السّنة و انّه ليس شيء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 2، 4، 10.
4- . الكافي: 2/74، الحديث 2.
5- . الترمذي: السنن: 2/391برقم 1341.
6- . الدر المنثور: 2/250.

تكشف هذه الروايات و الكلم بوضوح عن وجود الحكم المشترك، و انّ للّه سبحانه حكماً للجميع من غير فرق بين ما إذا ورد فيه النص و ما لا نص فيه، غاية الأمر يكون المجتهد فيما لا نصّ فيه معذوراً إذا أخطأ.

و قد ذهب أصحابنا تبعاً للروايات انّ للّه سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتّجه إليه المجتهد، فيصيبه تارة و يخطئه أُخري.

قال الشيخ الطوسي: ذهب أكثر المتكلّمين و الفقهاء إلي أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده و في الحكم.

و هو مذهب أبي علي و أبي هاشم و أبي الحسن الأشعري و أكثر المتكلّمين، و ذهب الأصم (1) و بشر المريسي (2)إلي أنّ الحقّ واحد و انّ ما عداه خطأ.

ثمّ قال: و الذي أذهب إليه و هو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين من المتقدّمين و المتأخّرين، و هو الذي اختاره سيدنا المرتضي، و إليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه(المفيد)، انّ الحقّ واحد.

تنبيه

ثمّ إنّ السبب الذي دعا أهل السنّة إلي القول بالتصويب هو قلّة الروايات النبوية في الأحكام الشرعية، فأصبح قسم هائل من الموضوعات عندهم ممّا لا نصّ فيه، فظنّوا انّ عدم ورود النص من الشرع قرينة علي تفويض حكمها إلي المجتهدين، فما استخرجه المجتهد علي ضوء المعايير و المقاييس يُصبح حكماً شرعياً للّه تبارك و تعالي، سواء أ وجِد المخالف أم لا، فالجميع علي صواب.

ص: 223


1- . هو عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي الأُصولي المتوفّي عام 225ه.
2- . هو بشر بن غياث المريسي، فقيه معتزلي، و هو رأس الطائفة المريسية، و أُوذي في دولة هارون الرشيد، توفّي عام 218ه.

المسألة التاسعة: تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد

اشارة

قد يُطرح الزمان و المكان بما انّهما ظرفان للحوادث و الطوارئ الحادثة فيهما، و قد يطرحان و يراد منهما المظروف، أساليب الحياة و الظروف الاجتماعية حسب تقدّم الحضارة، و الثاني هو المراد من المقام.

ثمّ إنّه يجب أن يفسر تأثير الزمان و المكان بالمعني المذكور في الاجتهاد، علي وجه لا يعارض الأُصول المسلّمة في التشريع الإسلامي، و نشير إلي أصلين منها.

الأوّل: انّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين و التشريع، فلا مشرّع و لا مقنّن سواه، قال تعالي:

( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (1) ) (2) و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله:( أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ (3) ).

و قال سبحانه:( قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحي إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (4) ) (5).

الثاني: انّ الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)خاتم الأنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة.

روي زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام)عن الحلال و الحرام، قال: »حلال محمد حلال أبداً إلي يوم القيامة لا يكون غيرُه و لا يجيء غيرُه، و حرامه حرام أبداً إلي يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجيء غيره« و قال: قال علي(عليه السلام):»ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترك بها سنّة«. (6)

ص: 224


1- سوره 12 - آيه 40
2- . يوسف:40.
3- سوره 12 - آيه 40
4- سوره 10 - آيه 15
5- . يونس:15.
6- . الكافي: 1/58، الحديث 19; و بهذا المضمون أحاديث كثيرة.

و علي ضوء هذين الأصلين يجب أن يفسر تأثير الزمان و المكان في استنباط الأحكام.

و ممن أشار إلي هذه المسألة من علمائنا، المحقّق الأردبيلي، حيث قال:و لا يمكن القول بكلية شيء، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات و الأحوال و الأزمان و الأمكنة و الأشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات و الانطباق علي الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف، امتياز أهل العلم و الفقهاء، شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم. (1)

و هناك كلمة مأثورة عن الإمام السيد الخميني(قدس سره)حيث قال: إنّي علي اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا و بالاجتهاد علي النهج الجواهري، و هذا أمر لا بدّ منه، و لا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر علي ضوء الأُصول الحاكمة علي المجتمع و سياسته و اقتصاده. (2)

إنّ القول بأنّ عنصري الزمان و المكان لا تمسّان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة، مما اتّفقت عليه أيضاً كلمة أهل السنّة حيث إنّهم صرّحوا بأنّ العاملين المذكورين يؤثران في الأحكام المستنبطة عن طريق القياس و المصالح المرسلة و الاستحسان و غيرها، فتغيير المصالح ألجأهم إلي الحكم بتغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة. يقول الأُستاذ مصطفي أحمد الزرقاء:

و قد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب علي أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان و أخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية أي التي قررها8.

ص: 225


1- . مجمع الفائدة و البرهان:3/436، و قد سبقه غيره، و قد أوردنا كلماتهم في رسالة مبسطة طبعت في كتاب »رسائل و مقالات«، ج2، فلاحظ.
2- . صحيفة النور:21/98.

الاجتهاد بناء علي القياس أو علي دواعي المصلحة و هي المقصودة من القاعدة المقررة »تغيير الأحكام بتغيّر الزمان«.

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرّمات المطلقة، و كوجوب التراضي في العقود، و التزام الإنسان بعقده، و ضمان الضرر الذي يُلحقه بغيره، و سريان إقراره علي نفسه دون غيره، و وجوب منع الأذي و قمع الإجرام، وسد الذرائع إلي الفساد و حماية الحقوق المكتسبة، و مسئولية كل مكلف عن عمله و تقصيره، و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، إلي غير ذلك من الأحكام و المبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة خلافها، فهذه لا تتبدّل بتبدل الأزمان، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان و الأجيال، و لكن وسائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة. (1)

و علي هذا فيجب أن يفسر تأثير العاملين بشكل لا يمسُّ الأصلين المتقدمين.

و اعلم أنّ تأثير العنصرين علي أقسام، و إليك البيان:

الأوّل: تأثير الزمان و المكان في صدق الموضوعات

إنّ تبدّل الموضوع يراد منه تارة انقلابه إلي موضوع آخر كصيرورة الخمر خلاً و النجس تراباً، و هذا غير مراد في المقام قطعاً.

و أُخري صدق الموضوع علي مورد في زمان و مكان و عدم صدقه علي ذلك المورد في زمان و مكان آخر، و ما هذا إلاّ لمدخلية الظروف و الملابسات فيها.

ص: 226


1- . المدخل الفقهي العام:9252/924.

و يظهر ذلك بالتأمّل في الموضوعات التالية:

1. الاستطاعة. 2. الفقر. 3. الغني. 4. بذل النفقة للزوجة. 5. و إمساكها بالمعروف حسب قوله سبحانه:( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (1) ) (2).

فإن هذه العنوانات موضوعات لأحكام شرعية، واضحة و لكن محقّقاتها تختلف حسب اختلاف الزمان و المكان، فمثلاً:

1. التمكّن من الزاد و الراحلة التي هي عبارة أُخري عن الاستطاعة، له محقّقات مختلفة عبْر الزمان، فربما تصدق علي مورد في ظرف و لا تصدق عليه في ظرف آخر، كما هو الحال في إمساك الزوجة بالمعروف فإنّها تختلف حسب الظروف الاجتماعية، و تبدّل أساليب الحياة، و لا بعد إذا قلنا انّ فقير اليوم غنيّ الأمس.

2. في صدق المثلي و القيميّ، و قد جعل الفقهاء ضابطة للمثلي و القيمي و في ظلّها، عدّوا الحبوب من قبيل المثليات، و الأواني و الألبسة من قبيل القيميات، و ذلك لكثرة وجود المماثل في الأُولي و ندرته في الثانية، و كان ذلك الحكم سائداً حتي تطورت الصناعة تطوراً ملحوظاً فأصبحت تُنتج كميات هائلة من الأواني و المنسوجات لا تختلف واحدة عن الأُخري قيد شعرة، فأصبحت القيميات بفضل الازدهار الصناعي، مثليات.

3. في صدق المكيل و الموزون حيث إنّ الحكم الشرعي هو بيع المكيل بالكيل، و الموزون بالوزن، و لا يجوز بيعهما بالعدّ، و لكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات و المجتمعات، و يلحق لكلّ، حكمه.

و من أحكامهما انّه لا تجوز معاوضة المتجانسين متفاضلاً إلاّ مثلاً بمثل، إذا1.

ص: 227


1- سوره 2 - آيه 231
2- . البقرة:231.

كانا من المكيل و الموزون، دون المعدود و المزروع، و هذا يختلف حسب اختلاف الزمان و المكان فربما جنس يباع بالكيل و الوزن في بلد و بالعدّ في بلد آخر، و هكذا يلحق لكلّ، حكمه.

هذا كلّه حول تأثير عنصري الزمان و المكان في صدق الموضوع.

الثاني: تأثيرهما في ملاكات الأحكام

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات و المصالح و المفاسد، فربما يكون مناط الحكم مجهولاً و مبهماً و أُخري يكون معلوماً بتصريح من الشارع، و القسم الأوّل خارج عن محلّ البحث، و أمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه و ملاكه.

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت، و أمّا إذا تغيّر المناط حسب الظروف و الملابسات يتغير الحكم قطعاً، مثلاً:

1. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، و لم يزل حكم الدم كذلك حتي اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحي الحياة، و أصبح التبرع بالدم إلي المرضي كإهداء الحياة لهم، و بذلك حاز الدم علي ملاك آخر فحلّ بيعه و شراؤه. (1)

2. انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم):»إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور« (2) و من الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام و التشفّي، و لم يكن يومذاك أيُّ فائدة تترتّب علي قطع أعضاء الميت

ص: 228


1- . قال السيد الإمام الخميني قدَّس سرّه:لم تكن في تلك الأعصار للدم منفعة غير الأكل، فالتحريم منصرف إليه.
2- . لاحظ نهج البلاغة، قسم الرسائل، برقم 47.

سوي تلبية للرغبة النفسية الانتقام و لكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت، حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين علي الموت.

3. دلّت الروايات علي أنّ دية النفس تؤدّي بالأنعام الثلاثة، و الحلّة اليمانية، و الدرهم و الدينار، و مقتضي الجمود علي النص عدم التجاوز عن النقدين إلي الأوراق النقدية، غير أنّ الوقوف علي دور النقود في النظام الاقتصادي، و انتشار أنواع كثيرة منها في دنيا اليوم، و النظر في الظروف المحيطة بصدور تلك الروايات، يشرف الفقيه علي أنّ ذكر النقدين بعنوان أنّه أحد النقود الرائجة آنذاك، و لذلك يجوز لأولياء الدم، المطالبة بالأوراق النقدية المعادلة للنقدين الرائجة في زمانهم، أو اعدالهما من الأنعام و الحُلّة ، و قد وقف الفقهاء علي ملاك الحكم عبر تقدّم عنصر الزمان.

الثالث: تأثيرهما في كيفية تنفيذ الحكم

1. تضافرت النصوص علي حلّية الفيء و الأنفال للشيعة في عصر الغيبة، و من الأنفال المعادن و الآجام و أراضي الموات، و قد كان الانتفاع بها في الأزمنة الماضية محدوداً، ما كان يُثير مشكلة ، و أمّا اليوم و مع تطور الأساليب الصناعية و انتشارها بين الناس أصبح الانتفاع بها غير محدود، فلو لم يتخذ أُسلوباً خاصاً في تنفيذ الحكم لأدّي إلي انقراضها أوّلاً، و خلق طبقة اجتماعية مرفّهة، و أُخري بائسة فقيرة ثانياً.

فالظروف الزمانية و المكانية تفرض قيوداً علي إجراء ذلك الحكم بشكل جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم، أي حلّية الأنفال للشيعة أوّلاً، و حفظ النظام و بسط العدل و القسط بين الناس ثانياً، بتقسيم الثروات العامة عن طريق الحاكم

ص: 229

الإسلامي الذي يُشرف علي جميع الشئون لينتفع الجميع علي حد سواء.

2. اتّفق الفقهاء علي أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين علي نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابه، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور بين السيف و الرمح و السهم و الفرس و غير ذلك، و من المعلوم انّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آنذاك، أمّا اليوم و في ظل التقدّم العلمي الهائل، فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات و المدرّعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج الحربية، و من الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسر، فعلي الفقيه أن يتّخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم علي صعيد العمل ليجمع فيه بين العمل و أصل الحكم و الابتعاد عن المضاعفات.

3. انّ الناظر في فتاوي الفقهاء السابقين فيما يرجع إلي الحج من الطواف حول البيت و السعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح في مني يواجه ضغطاً شديداً في تطبيق عمل الحجّ علي هذه الفتاوي، و لكن تزايد وفود حجاج بيت اللّه عبر الزمان و يوماً بعد يوم أعطي للفقهاء رؤي وسيعة في تنفيذ أحكام الحجّ، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة و الحرج، بل من باب التوسع في تنفيذ الحكم و انّ المطاف عند الزحام أوسع.

الرابع: تأثيرهما في مَنْح نظرة جديدة نحو المسائل

إنّ تغيير الأوضاع و الأحوال الزمنية يؤثر في كيفية نظر المجتهد و يمنح له نظرة جديدة نحو المسائل المطروحة في الفقه قديماً و حديثاً. و لنذكر بعض الأمثلة:

1. كان القدماء ينظرون إلي البيع بمنظار ضيّق و يفسرونه بنقل الأعيان

ص: 230

و انتقالها، و لا يجيزون علي ضوئها بيع المنافع و الحقوق، غير انّ تطور الحياة و ظهور حقوق جديدة في المجتمع الإنساني و رواج بيعها و شرائها، حدا بالفقهاء إلي إعادة النظر في حقيقة البيع، فجوّزوا بيع الامتيازات و الحقوق عامة.

2. أفتي القدماء بأنّ الإنسان يملك المعدن المركوز في أرضه تبعاً لها دون أيّ قيد أو شرط، و كان الداعي من وراء تلك الفتوي هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك، و لم يكن بمقدور الإنسان الانتفاع إلاّ بمقدار ما يعدّ تبعاً لأرضه، و لكن مع تقدم الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن يتسلط علي أوسع مما يُعد تبعاً لأرضه، فعلي ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط، بل يحدد بما يعد تبعاً لها، و أمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات العامّة التي يتوقف تملّكها علي إجازة الإمام. و ليست هذه النظرة الجديدة مختصة بالفقه بل تعم أكثر العلوم.

الخامس: تأثيرهما في تعيين الأساليب

إنّ هناك أحكاماً شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجع في التقويم علاجاً، و إليك بعض الأمثلة علي ذلك:

1. الدفاع عن بيضة الإسلام قانون ثابت لا يتغير و لكن الأساليب المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلي مقتضيات الزمان التي تتغيّر بتغيّره، و لكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت إلاّ أمر واحد، و هو قوله سبحانه:( وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (1) ) (2).

و أمّا غيرها فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّر حسب تغيّر الزمان.

ص: 231


1- سوره 8 - آيه 60
2- . الأنفال:60.

2. نشر العلم و الثقافة أصل ثابت في الإسلام، و أمّا تحقيق ذلك و تعيين كيفيته فهو موكول إلي الزمان، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الأصل الكلي حسب مقتضيات الزمان.

3. التشبّه بالكفار أمر مرغوب عنه حتي أنّ الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)أمر بخضب الشيب و قال: »غيِّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود«، و الأصل الثابت هو صيانة المسلمين عن التشبّه بأهل الكتاب، و لما اتسعت دائرة الإسلام و اعتنقته شعوب مختلفة و كثر فيهم الشيب تغير الأُسلوب و لما سُئل علي(عليه السلام)عن ذلك، قال: »إنّما قال(صلي الله عليه و آله و سلم)ذلك و الدين قُلّ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار«. (1)

4. انّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق و صيانتها، و كان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو أُسلوب القاضي الفرد، و قضاؤه علي درجة واحدة قطعية، و كان هذا النوع من القضاء مؤمِّناً لهدف القضاء، و لكن اليوم لما دبّ الفساد إلي المحاكم و قلَّ الورع ألزم الزمان أن يتبدل أُسلوب القضاء إلي أُسلوب محكمة القضاة الجمع، و تعدّد درجات المحاكم حسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط، و قد ذكرنا كيفية ذلك في بحوثنا الفقهية. (2)

ثمّ إنّ ما ذكرنا يرجع إلي دور الزمان و المكان في عملية الاجتهاد و الإفتاء، و أمّا دورهما في الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح و المفاسد و ليست من قبيل الأحكام الواقعية و لا الظاهرية فلها باب واسع، و قد استوفينا الكلام في ذلك في رسالة مخصوصة. (3)غ.

ص: 232


1- . نهج البلاغة، قسم الحكم، رقم 16.
2- . انظر »نظام القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء« للمؤلف حيث ذكرنا انّ تعدد درجات المحاكم لا ينافي كون القضاء الأوّل لازم الإجراء.
3- . رسالة تأثير الزمان و المكان في الاجتهاد المطبوعة مع رسالة البلوغ.

فقد خرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ عنصري الزمان و المكان لا تمسّ كرامة الكبريات و لا الأُصول الشرعية.

2. تأثير عنصري الزمان و المكان في صدق الموضوع.

3. تأثير عنصري الزمان و المكان في الوقوف علي ملاكات الأحكام.

4. تأثير عنصري الزمان و المكان في كيفيّة إجراء الحكم.

5. تأثيرهما في منح النظرة الجديدة نحو الأحكام.

6. تأثيرهما في تعيين الأساليب.

المسألة العاشرة:في التفسير الخاطئ أو تغيير الأحكام حسب المصالح

قد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بتأثير عنصري الزمان و المكان يجب أن يحدّد بما لا يمسُّ كرامة الأصلين السابقين: تأبيد الأحكام الشرعية، و حصر التقنين باللّه سبحانه و تعالي، غير انّه ربّما يفسر التأثير بنحو خاطئ أي بمعني تغيير الأحكام الشرعية حسب المصالح الزمنية تبريراً لمخالفة بعض الخلفاء للكتاب و السنّة قائلاً بأنّ للحاكم الأخذ بالمصالح و تفسير الأحكام علي ضوئها، و لنقدّم نموذجاً:

دلّ الكتاب و السنّة علي بطلان الطلاق ثلاثاً، و انّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخري، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلاّ طلاقاً واحداً; و قد جري عليه رسول اللّه و الخليفة الأوّل و كان(صلي الله عليه و آله و سلم)لا يمضي من الطلاق الثلاث إلاّ واحدة منها، و كان الأمر علي هذا إلي سنتين من خلافة عمر، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. (1)

ص: 233


1- . مسلم: الصحيح:1844/183، باب طلاق الثلاث، الحديث 1.

يلاحظ عليه بأنّ استخدام الرأي فيما فيه نص، أمر خاطئ، و لو صحّ استخدامه فإنّما هو فيما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة، و لمّا كان ذلك يمسّ كرامة الخليفة جاء الآخرون يبرّرون عمله بتغيّر الأحكام، بالمصالح و المفاسد، و من المتحمّسين لهذا الموضوع هو ابن القيم فقال: لمّا رأي عمر بن الخطاب انّ مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق لا تندفع إلاّ بإمضائها علي الناس، و رأي مصلحة الإمضاء أقوي من مفسدة الإيقاع، أمضي عمل الناس و جعل الطلاق ثلاثاً ثلاثاً. (1)

يلاحظ عليه: أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح و الفساد، و أمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.

و العجب انّ ابن القيم التفت إلي ذلك و قال: كان أسهل من ذلك(تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، و يحرّمه عليهم، و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه، ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته علي التصويب،قال: قال عمر بن الخطاب: ما ندمت علي شيء مثل ندامتي علي ثلاث. (2)6.

ص: 234


1- . أعلام الموقعين:3/48.
2- . أعلام الموقعين:3/36، و أشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:1/336.

الفصل الثاني: في التقليد و أحكامه

اشارة

و يقع الكلام في هذا الفصل في عدّة مسائل:

المسألة الأُولي: التقليد لغة و اصطلاحاً

التقليد لغة من القلادة، و معناه جعلها في عنق الغير.

و أمّا اصطلاحاً، فقد عرّف بوجوه:

أ. التقليد: هو الأخذ بفتوي الغير و تعلّمها للعمل بها.

ب. التقليد: هو الالتزام بالعمل بفتوي الغير و إن لم يتعلّم فضلاً عن أن يعمل.

ج. التقليد: هو الاستناد إلي فتوي الغير في مقام العمل.

و التعريف الثالث هو المناسب للفظ التقليد، لأنّ المقلّد من يجعل القلادة في عنق الغير. (1) فالشيء الذي هو يشبه القلادة الّتي يجعلها في عنق الغير هو عمله، فكأنَّ العامي يجعله في عنق المجتهد بمعني جعله مسئولاً عن صحّة عمله و فساده و براءة ذمّته و اشتغالها، و هذا لا يتحقّق إلاّ بنفس العمل لا بالأخذ و لا بالالتزام.

و يؤيده ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبيدة الحذاء، قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): »من أفتي الناس بغير علم و لا هدي من اللّه لعنته ملائكة الرحمة

ص: 235


1- . و المتقلّد من يجعل القلادة في عنق نفسه. و ليس العامي متقلّداً بل مقلِّد.

و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه«. (1)

فإن قلت: إذا كان التقليد هو العمل استناداً إلي قول المجتهد، يلزم أن يكون التقليد متأخراً عن العمل و محقّقاً به، مع أنّه متقدم علي العمل حيث لا بدّ أن يكون العمل عن تقليد; فيكون التقليد في رتبة سابقة.

قلت: هذا إنّما يتم لو دلّ دليل علي لزوم كون العمل ناشئاً عن تقليد كي يكون سابقاً علي العمل و ليس كذلك إذ الواجب أن يكون العامي في عمله معتمداً علي الحجة. و هو متحقّق حتي و لو كان التقليد نفس العمل.

لكن لا فائدة مهمة في تحقيق مفهوم التقليد، لأنّه لم يقع موضوعاً لحكم شرعيّ في دليل صالح للاستناد، فصحّة عمل العامي تابع لدلالة الدليل الشرعي، لا لصدق التقليد و عدمه، و تصوّر انّه وقع موضوعاً في المسألتين التاليتين:

1. البقاء علي تقليد الميت.

2. العدول من تقليد حي إلي حيّ.

مدفوع بأنّ الحكم بالجواز أو المنع ليس دائراً مدار صدق التقليد و عدمه، بل دائر مدار وجود الدليل علي البقاء أو العدول و عدمه، و لعلّ كلمة »التقليد« عنوان مشير إلي واقع المسألة لا انّه دخيل في الموضوع.

المسألة الثانية: في جواز التقليد

البحث في جواز التقليد يتصوّر علي وجهين:

الأوّل: فيما يصحّ للعاميّ أن يعتمد عليه في أمر التقليد و جواز الرجوع إلي الغير.

الثاني: ما يمكن أن يعتمد عليه المجتهد في الإفتاء بجواز التقليد.

أمّا الأوّل، فللعامّي أن يستند في جواز الرجوع إلي العلماء إلي السيرة

ص: 236


1- . الوسائل: 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

العقلائية في جميع الأمصار، و هي لزوم رجوع الجاهل إلي العالم، و هذا أصل قام عليه صَرْح الحياة، إذ من المستحيل أن يستقل كل فرد متحضّر بإنجاز جميع حاجاته من جميع النواحي، فلا محيص من تقسيم الحاجات الأوّلية و الثانوية كي يتحمّل كلّ شخص أو طائفة، ناحية من نواحيها، و لأجل ذلك نري أنّ أصحاب التخصّصات في العلوم و الفنون، يرجعون في غير اختصاصاتهم إلي أهل الخبرة.

و الرجوع إلي علماء الدين الذين حازوا علي مكانة خاصة في قلوب الناس ممّا أطبق عليه كافة العقلاء.

و أمّا الثاني، فيكفي في الإفتاء علي جواز التقليد أمران:

1. آية النفر، فانّ التفقّه آية أنّ المنذر، فقيه فهم الدين عن نظر و بصيرة، و عاد ينذر قومه ببيان أحكامه سبحانه و غيرها.

2. الروايات الإرجاعية، فإنّ أئمّة أهل البيت أرجعوا شيعتهم إلي فقهاء أصحابهم، كأبان بن تغلب، و محمد بن مسلم الثقفي، و زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و زكريا بن آدم القمي، و معاذ بن مسلم النحوي، و أضرابهم ممّن كانوا علي درجة كبيرة من العلم و فهم الحكم من الكتاب و السنّة، و نشير إلي بعض هذه الروايات:

1. سأل عبد العزيز المهتدي، الرضا(عليه السلام)فقال له: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال(عليه السلام): »خذ عن يونس بن عبد الرحمن«. (1)

2. قال علي بن المسيّب الهمداني للرضا(عليه السلام): شقّتي بعيدة و لست أصِلُ إليك في كل وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال(عليه السلام):»من زكريا بن آدم القمي، المأمون علي الدين و الدنيا«. (2)ك.

ص: 237


1- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34و27.و لاحظ الأحاديث 36و23 إلي غير ذلك.
2- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34و27.و لاحظ الأحاديث 36و23 إلي غير ذلك.

و هؤلاء الذين أرجع إليهم الإمام(عليه السلام)كانوا في الطبقة الأُولي من الفقهاء، و لم يكونوا من الرواة الّذين لا شغل لهم إلاّ نقل النصوص، غاية الأمر كانوا يفتون بلفظ النص بعد الإحاطة بجميع النصوص، و تطبيق الأُصول علي الفروع.

و أمّا الآيات الذامّة للتقليد (1) فهي بصدد ذم رجوع الجاهل إلي الجاهل بداعي العصبية لا بما أنّه من أصحاب البصيرة و التدبّر، فأين هذا من رجوع العاميّ إلي العالم بداعي أنّه من أهل الخبرة في مجال الدين؟!

المسألة الثالثة: في وجوب تقليد الأعلم

اشارة

إذا اختلف الأحياء في العلم و الفضيلة، فمع علم المقلّد باختلافهم علي وجه التفصيل أو الإجمال أو شكّه، فهل يجب الأخذ بفتوي الفاضل، أو يجوز العمل بفتوي المفضول أيضاً؟ قولان، و لنذكر صور المسألة:

الصورة الأُولي: إذا علم العامّي موافقة الأعلم لغيره في الفتوي بتفاصيلها.

الصورة الثانية: إذا علم مخالفتهما في الفتوي تفصيلاً.

الصورة الثالثة: إذا علم مخالفتهما إجمالاً.

الصورة الرابعة: إذا شكّ في مخالفتهما فيها.

أمّا الصورة الأُولي، فهي خارجة عن محل النزاع.

و أمّا الصورة الثانية: فحكمها تعيّن الرجوع إلي الأعلم لسيرة العقلاء، و من البعيد شمول كلمات القائلين بالجواز لهذه الصورة.

و أمّا الصورة الثالثة: فهي محل الكلام، فذهب القاضي و الحاجبي و العضدي إلي جواز تقليد المفضول، مستدلّين بأنّ المفضولين باتفاق في زمان الصحابة

ص: 238


1- . كقوله سبحانه:(بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلي أُمّة وَ إنّا علي آثارِهِمْ مُهْتَدُون)(الزخرف22/).

و غيرهم كانوا يفتون و يستفتون و لم ينكره أحد و دلّ علي جوازه. (1)

و اختار الغزالي تعيّن تقليد الفاضل، و قال: الأولي عندي أنّه يلزم اتّباع الأفضل، فمن اعتقد أنّ الشافعي أعلم، و الصواب علي مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمثل مخالفه بالتشهّي. (2)

و أمّا أصحابنا فقد استقصي الشيخ الأنصاري أقوالهم في رسالة خاصّة له في تقليد الأعلم، و قال: إنّ تقديم الفاضل هو خِيَرة أكابر العلماء، كالسيد المرتضي، و المحقّق، و العلاّمة، و عميد الدين، و الشهيد، و المحقّق الثاني، و الشهيد الثاني، و صاحب المعالم، و بهاء الدين العاملي، و الشيخ صالح المازندراني، و السيد علي صاحب الرياض. (3)

و لنذكر بعض كلمات الأصحاب:

1. قال السيد المرتضي: و إن كان بعضهم عنده أعلم من بعض، أو أورع، أو أدين، فقد اختلفوا فمنهم من جعله مخيّراً، و منهم من أوجب أن يستفتي المقدَّم في العلم و الدين، و هو أولي، لأنّ الثقة هاهنا أقرب و أوكد، و الأُصول كلّها بذلك شاهدة. (4)

2. و قال المحقّق الحلي: و يجب عليه الاجتهاد في معرفة الأعلم و الأورع، فإن تساويا تخيّر في استفتاء أيّهما شاء، و إن ترجّح أحدهما من كلِّ وجه، تعيّن العمل بالراجح، و إن ترجّح كلُّ واحد منهما علي صاحبه بصفة فالأقوي الأخذ بقول الأعلم.1.

ص: 239


1- . منتهي الوصول و الأمل في علمي الأُصول و الجدل:221.
2- . المستصفي:2/391.
3- . رسالة تقليد الأعلم المطبوعة في ذيل مطارح الأنظار:276.
4- . الذريعة:2/801.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: ما هي وظيفة العامي في تلك المسألة، و هل يستقل عقله بالرجوع إلي الفاضل، أو بالتخيير بينه و بين المفضول؟ المقام الثاني: ما هو مقتضي الأدلّة عند المجتهد، فهل يستفاد منها لزوم الرجوع إلي الفاضل، أو يستفاد التخيير؟ أمّا الأوّل: فلا شكّ أنّه لو تدبّر، يستقل عقله بعدم جواز تقليد المفضول، لأنّ قول الفاضل متيقن الحجّية دون المفضول، فهو مشكوك الحجّية، و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و لا يحصل إلاّ بالعمل علي رأي الفاضل.

نعم لو قلّد في تلك المسألة المجتهد الفاضل و أجاز تقليد المفضول، جاز له تقليدُه، لكنّه ليس تقليداً له ابتداء، بل هو في الحقيقة تقليد للفاضل، و بتقليده تُصْبِحُ فتاوي المفضول حجّة.

أمّا المقام الثاني: أعني ما هو مقتضي الأدلّة عند المجتهد، فقد ذهب المشهور إلي أنّ مقتضي الأدلّة هو لزوم تقديم الفاضل، و إليك أدلّتهم.

أدلّة القائلين بلزوم تقديم الفاضل

استدلّ القائلون بوجوه:

1. إنّ مقتضي الأصل الأوّلي هو عدم حجّية رأي أحد علي آخر، خرج منه متابعة الفاضل بالاتفاق، و بقيت متابعة المفضول تحت عموم حرمة العمل بلا علم، فالعمل بغيره يتوقف علي دليل خاص.

فإن قلت: مقتضي الأصل الأوّلي هو التخيير لأنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين و التخيير، و بما أنّ في الأوّل مئونة زائدة، تجري البراءة في تعيّن الفاضل.

قلت: إنّ دوران الأمر بين التعيين و التخيير علي قسمين:

ص: 240

أ. قسم يدور الأمر بين التعيين و التخيير الشرعيين، كما في خصال الكفارة المردّدة بين تعيّن صوم ستين يوماً، أو التخيير بينه و بين الإطعام و العتق، فمقتضي الأصل الأوّلي فيه هو الاشتغال و الأخذ بمحتمل التعيّن، لعدم العلم بالبراءة إذا امتثل بمحتمل التخيير، بلا فرق بين التكاليف و الحجج كما في المقام ، بل الأمر في الحُجج أوضح، لما عرفت من أنّ الشك في الحجّة مساوق للقطع بعدمها.

ب. لو دار الأمر بين التعيّن الشرعي لفرد و التخيير العقلي بين الأفراد فالمرجع هو البراءة، كما إذا دار الأمر بين عتق خصوص الرقبة المؤمنة، أو مطلق الرقبة الملازم لتخيير المكلف عقلاً بين أفرادها، لأنّ الالتزام بعتق مطلق الرقبة معلوم تفصيلاً، و الشكّ في وجوب خصوص قيدها(الإيمان) فتجري فيه البراءة.

2. جرت سيرة العقلاء علي الرجوع إلي الفاضل عند العلم بالخلاف، فلو اختلف الحاذق و غير الحاذق من الأطبّاء في تعيين نوع المرض فيقدّم قول الحاذق علي غير الحاذق من دون فرق بين كون الخلاف بينهما معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال.

و أمّا رجوعهم إلي المفضول في بعض الموارد فيرجع إلي عدم العلم بالخلاف في مورد المراجعة(الصورة الرابعة)، و إن علم إجمالاً بوجود الخلاف بين أصحاب الفن، أو إلي تسامحهم في الرجوع إلي المفضول في أغراضهم المادية دون مهام الأُمور و معاليها.

3. إنّ تجويز الرجوع إلي المفضول رهن وجود إطلاق في أدلّة جواز التقليد، يكون مقتضاه جواز الرجوع إليه، و لكن ليس بأيدينا من الأدلّة شيء وراء آية النفر، و السؤال، و الروايات الإرجاعية، و كلّها منصرفة عن مورد اختلاف الفتويين.

و قد جاءت الإشارة إلي تلك السيرة في بعض الروايات كتلميح علي لزوم

ص: 241

الأخذ بقول الأعلم نأتي ببعضها:

أ. روي عيسي بن قاسم قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام)يقول: »عليكم بتقوي اللّه وحده لا شريك له، و انظروا لأنفسكم، فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها، يخرجه و يجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها«. (1)

ب. روي عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في اختلاف الحكمين، أنّه(عليه السلام)قال:

»الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلي ما يحكم به الآخر«. (2)

ج. روي داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)في مسألة اختلاف الحكمين: »انّه ينظر إلي أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما، فينفذ حكمه و لا يلتفت إلي الآخر«. (3)

د. روي موسي بن أكيل، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام)عند اختلاف الحكمين أنّه قال: »ينظر إلي أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه«. (4)

نعم مورد الأحاديث الثلاثة الأخيرة هو الحكم و القضاء و لا يصحّ التعدّي عنه إلي مورد الإفتاء، لأنّ أمر القضاء لا يقبل التخيير و لا التفويض و لا الإهمال، بخلاف الفتوي إذ لا مانع من التخيير بين الرأيين. و مع ذلك لا يخلو من تلميح إلي الترجيح به في الإفتاء، لأنّ اختلاف الحكمين قد ينشأ من الاختلاف في الأُمور الخارجية، و أُخري من الاختلاف في الفتوي، و مورد بعض الروايات هو اختلاف الحكمين لأجل الاختلاف في الفتوي كما في مقبولة عمر بن حنظلة حيث كان5.

ص: 242


1- . الوسائل: 11، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
2- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20، 45.
3- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20، 45.
4- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 20، 45.

اختلاف الحكمين في الحبوة.

هذا كلّه إذا لم تكن فتوي المفضول مطابقة للاحتياط، و فتوي الفاضل مخالفة له، كما إذا أفتي الأوّل بنجاسة الغسالة و الآخر بطهارتها، أو أفتي الأوّل بوجوب التسبيحات الأربع ثلاثاً و أفتي الفاضل بوجوبها مرّة، إذ يجوز حينئذ ترك قول الفاضل و الأخذ برأي المفضول، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة عمل بالاحتياط الوارد في فتوي المفضول دون الفاضل.

ما هو المراد من الأعلم؟

ليس اختلاف الفاضل و المفضول في زيادة العلم و قلّته و شدّته و ضعفه، بل المراد الأقوي ملكة، أو الأكثر خبرة من غيره و الأعرف بدقائق الفقه و مباني الاستنباط، و تتركّز قوة الملكة و شدّتها علي أمرين:

1. الذكاء المتوقّد و الفهم القويم.

2. كثرة الممارسة و التمرين بحيث يصير الفقه مخالطاً لفكره و ذهنه و روحه، فيكون أقوي استنباطاً، و أدق نظراً في استنباط الأحكام من مبادئها، و أعرف بالكبريات و كيفية تطبيقها علي الصغريات بحدّة ذهنه و حسن سليقته.

لا يقال: إنّ تشخيص الأدق نظراً و الأقوي استنباطاً من الأُمور الصعبة و العسيرة.

فانّه يقال ليس تشخيص الفاضل عن المفضول بأعسر من تشخيص أصل الاجتهاد، و بما انّ لكل علم و فن رجالاً حاذقين يعرفون مراتب الرجال و مواهبهم و صلاحياتهم، فيميزون المجتهد عن غيره و الفاضل عن المفضول، و قد قيل: من دق باباً و لجَّ ولج.

و أمّا الصورة الرابعة، أعني: إذا شكّ في مخالفتهما في الفتوي، فهل يجوز

ص: 243

الرجوع إلي المفضول أو لا؟و يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: مقتضي الأصل الأوّلي.

الثاني: مقتضي الأدلّة الاجتهادية.

أمّا الأوّل: فهو نفس الأصل في الصورة المتقدّمة(أي العلم بالمخالفة) لأصالة عدم حجّية رأي أحد علي أحد إلاّ ما قام الدليل القطعي علي حجّيته و هو رأي الفاضل، و أمّا غيره فهو مشكوك الحجية و الشك فيها مساوق للقطع بعدمها، و بعبارة أُخري: الشكّ في حجّية فتوي المفضول يلازم القطع بعدم حجّيتها ما لم يدل دليل قاطع عليها.

و أمّا الثاني: أي مقتضي الدليل الاجتهادي، فالرجوع إلي المفضول مع وجود الفاضل يتوقّف علي وجود الإطلاق في الآيات و الروايات الإرجاعية و شمولها لصورة الشك في المخالفة، و هو موضع تأمّل.

بل الدليل الوحيد لجواز الرجوع إلي المفضول مع وجود الفاضل هو السيرة العقلائية في أمثال المقام حيث إنّهم يرجعون إلي أهل الحرف و أصحاب التخصصات مع اختلاف مراتبهم مع عدم العلم بوحدة نظرهم في عامة المسائل.

المسألة الرابعة: في تقليد الميت ابتداءً

المشهور بين الأصحاب من عصر العلاّمة الحلي(726648ه) علي منع تقليد الميت ابتداءً و لم نجد المسألة معنونة قبل العلاّمة الحلّي، و لكن كلماتهم تعرب عن استمرار السيرة علي المنع.

نعم شذّ الأخباريون حيث لم يشترطوا الحياة في المفتي و وافقهم المحقّق القمي(12311150ه) من المجتهدين.

ص: 244

و دراسة المسألة تتم من خلال بيان أمرين:

الأوّل: أنّ مقتضي الأصل الأوّلي هو عدم حجية قول الميت، لما عرفت من أنّ الأصل عدم الحجية إلاّ ما قام الدليل علي حجيته و ليس هو إلاّ تقليد الحي.

الثاني: أنّ مقتضي الأدلّة الاجتهادية هو المنع، للإجماعات المنقولة المتضافرة من عصر العلاّمة إلي يومنا هذا، فإنّه و إن لم يكشف عن دليل شرعي وصل إليهم و لم يصل إلينا، لكنه يكشف عن قيام السيرة علي المنع، و هو عدم جواز تقليد الميت. قال الشيخ الأنصاري: إنّ هذا الاتفاق بدرجة من القبول حتي شاع عند العوام انّ قول الميت كالميّت.

و ربّما يستدل علي جواز الرجوع بإطلاقات الآيات و الروايات، كآية النفر و السؤال و الروايات الإرجاعية إلي رواة الأحاديث أو إلي أشخاص معيّنين، و لكن الاستدلال غير تام، فإنّ الأدلّة ناظرة إلي عنوان المنذر و المحذر(في آية النفر) و المفتي(في حديث أبان) و ظهورها في الحي ممّا لا ينكر.

المسألة الخامسة: في البقاء علي تقليد الميت

اشارة

البقاء علي تقليد الميت التي يعبّر عنها بالتقليد الاستمراري من المسائل المستحدثة في القرن الثالث عشر، عصر صاحب الجواهر(12661200ه) فقد اختلفت كلمتهم إلي ثلاثة أقوال:

أ. جواز البقاء مطلقاً.

ب. عدم جوازه كذلك.

ج. جوازه فيما عمل بفتواه، و عدمه إذا لم يعمل به، أو ما أشبهه.

و التحقيق يتوقّف علي بيان الحكم في مرحلتين:
اشارة

الأُولي: ما هو مقتضي القاعدة الأوّلية؟

ص: 245

الثانية: ما هو مقتضي القاعدة الثانوية؟

أمّا الأُولي، أي مقتضي القاعدة الأوّلية

فقد مرّ بيانها في المسائل السابقة، و قلنا: إنّ مقتضي القاعدة الأوّلية في الظنون عدم الحجية إلاّ أن يقام دليل عليها.

و أمّا الثانية، أي مقتضي القاعدة الثانوية

فالظاهر انّ مقتضاها هو جواز البقاء علي تقليد الميت لوجهين:

الأوّل: وجود السيرة بين العقلاء حيث إنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلي العالم فيما جهله بين كون العالم حيّاً عند العمل بقوله أو عدمه، و ما ذكرناه سابقاً من تضافر الإجماعات المنقولة علي منع تقليد الميت، فالقدر المتيقن منها هو تقليد الميت ابتداءً لا استمراراً.

الثاني: انّ الروايات الإرجاعية تعم المقام، فإنّ من أرجعه الإمام إلي أشخاص معيّنين، كالأسدي أو يونس بن عبد الرحمن، أو زكريا بن آدم، ما كان يشك في حجية قولهم بعد وفاتهم. و لا يخطر ببال العامي ترك ما أخذه و تعلمه بمجرد موت من أخذ عنه.

المسألة السادسة: العدول من تقليد مجتهد إلي آخر

هل يجوز العدول من الحي إلي الحي مطلقاً، أو لا يجوز كذلك، أو فيه التفصيل بين كون الثاني أعلم أو عدمه؟ و محل الكلام فيما إذا كان بين المجتهدين اختلاف في الفتوي و صور المسألة ثلاث:

أ. أن يكون الأوّل أعلم من الثاني، فلا يجوز العدول، لما تقدّم من عدم جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل.

ب. أن يكون الأمر علي العكس، فيجب العدول إلي الثاني، للسيرة السائدة بين العقلاء من الرجوع إلي الفاضل في مهام الأُمور.

ص: 246

ج. أن يكونا متساويين مع العلم بالخلاف، فمقتضي القاعدة الأوّلية هو سقوط الفتويين عن الحجية للتعارض و الرجوع إلي الاحتياط، و لكن لمّا كان الاحتياط أمراً متعسّراً يستقل العقل بعد بطلانه أو عدم جوازه بالأخذ بأحدهما مطلقاً ابتداءً و استمراراً، فيجوز العدول من المساوي إلي المساوي الآخر بشرط أن لا ينتهي إلي اللعب بالتقليد.

و الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة و السّلام علي سيّد المرسلين و آله الطيّبين الطاهرين وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب، و لاح بدر تمامه بيد مؤلفه جعفر السبحاني ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي قدّس اللّه سرّه يوم الأحد الثامن من شهر رجب المرجب من شهور عام 1418 من الهجرة النبوية علي هاجرها و آله ألف صلاة و تحية.

ص: 247

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.