الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب المجلد 1

اشارة

عنوان قراردادي:الوسيط في اصول الفقه: كتاب يبحث عن الادلةاللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب

عنوان و نام پديدآور:الوسيط في اصول الفقه/ تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر:دارالجواد(ع) - بيروت - لبنان

مشخصات ظاهري:2ج.

شابك:160000 ريال: ج.1 978-600-316-066-8 : ؛ 160000 ريال: ج.2 978-600-316-067-5 : ؛ 250000 ريال(ج.2،چاپ سوم)

وضعيت فهرست نويسي:فاپا

يادداشت:فارسي- عربي.

يادداشت:ج.2 (چاپ اول: 1392).

يادداشت:ج.2(چاپ سوم : 1395).

يادداشت:عنوان ديگر: الوسيط في اصول الفقه.

يادداشت:كتابنامه.

عنوان ديگر:الوسيط في اصول الفقه.

موضوع:اصول فقه شيعه

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1) ) التوبة: 122

ص: 3


1- سوره 9 - آيه 122

ص: 4

مقدمة المؤلف

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السلام علي أفضل خليقته، و أشرف بريّته، و خاتم رسله، محمّد و علي آله حفظة سننه، و عيبة علمه، و خزنة سره، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج، و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد، فقد ألّفتُ في سالف الزمان كتاب »الموجز في أُصول الفقه« للمبتدئين في دراسة هذا الفن، توخّيت منه التعرض لأهمّ المسائل الأُصولية بنحو موجز يتلاءم مع روح العصر و قد انكبَّ عليه الدارسون بالبحث و المطالعة حتي غدا محور الدراسة في الجامعات الإسلامية.

و لمّا كانت الغاية من تأليفه هو بيان أُمّهات المسائل الأُصولية علي وجه الايجاز، فقد أوجزت الكلام في بعض المسائل، و تركت التعرّض لبعضها الآخر رعاية لحال الدارسين،فدعا الأمر إلي تأليف كتاب آخر يتميز عن سابقه بميزتين:

1. تبسيط ما أوجز في الكتاب الأوّل.

2. طرح المسائل الأُصولية التي لم نتعرض إليها في الموجز.

و ربما مست الحاجة إلي تكرار بعض ما ذكرناه في »الموجز« حفظاً لنظام البحث و تسلسله و ليعلم انّ المتن الدراسي يتميز عن غيره بمزية خاصة و هي انّه يأخذ علي عاتقه التعبير عن المطالب و المحتويات بأقصر العبارات و أوجزها،

ص: 5

خالية من التعقيد و الغموض.

و علي ذلك جري ديدن القدماء في تأليف المتون الدراسية و قد راعينا هذا الأُسلوب في كتابنا، و احترزنا عن الاسهاب و الاطناب كما احترزنا عن التعقيد و حرصنا علي أن تكون لغته علي مستوي اللغة الدارجة في الحوزة العلمية.

و اسميته ب»الوسيط« لتوسطه بين الايجاز و التبسيط.

و نستهلُّ البحث بنبذة موجزة عن تاريخ علم الأُصول و كيفية نشوئه و تكامله و الأدوار التي مرّ بها و الجهود التي بُذلت بغية ارساء قواعده.

و ختاماً أرجو من اللّه سبحانه أن ينتفع به رواد هذا العلم و ينير لهم الدرب في تذليل الصعوبات التي تعترض سبيلهم.

ص: 6

إلماع إلي تاريخ علم الأُصول

الإسلام عقيدة و شريعة; فالعقيدة هي الإيمان باللّه سبحانه و صفاتِه و التعرّفُ علي أفعاله، و الشريعة هي الأحكام و القوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد و المجتمع في حقول مختلفة تجمعها العبادات، و المعاملات، و الإيقاعات، و السياسات.

فالمتكلِّم الإسلامي مَن تكفّل ببيانِ العقيدة و برهَن علي الإيمان باللّه سبحانه و صفاتِه الجمالية و الجلالية، و أفعاله من لزوم بعث الأنبياء و الأوصياء لهداية الناس و حشرهم يوم المعاد.

كما أنّ الفقيه من قام ببيان الأحكام الشرعية الكفيلة بإدارة الفرد و المجتمع، و التنويه بوظيفتهما أمام اللّه سبحانه و وظيفة كلّ منهما بالنسبة إلي الآخر.

بيد أنّ لفيفاً من العلماء أخذوا علي عاتقهم بكلتا الوظيفتين، فهم في مجال العقيدة أبطال الفكر و سنامه، و في مجال التشريع أساطين الفقه و أعلامه، و لهم الرئاسة التامّة في فهم الدين علي مختلف الأصعِدة.

إنّ علم أُصول الفقه يعرّف لنا »القواعدَ الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية و ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل«، و قد سُمِّي بهذا الاسم لصلته الوثيقة بعلم الفقه، فهو أساس ذلك العلم و ركنه، و عماد الاجتهاد و سناده.

الاجتهاد: عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية، أو الوظائف

ص: 7

العمليّة من مصادرها، و هو رمز خلود الدين و حياته، و جعله غضّاً طريّاً، مصوناً عن الاندراس عبْر القرون و مغنياً المسلمينَ عن التطفّل علي موائد الأجانب، و يتّضح ذلك من خلال أُمور:

1. انّ طبيعة الدين الإسلامي أي كونه خاتم الأديان إلي يوم القيامة تقتضي فتح باب الاجتهاد لما سيواجه الدين في مسيرته من أحداث و تحدّيات مستجدَّة، و موضوعات جديدة لم يكن لها مثيل أو نظير في عصر النص، فلا محيص عن معالجتها إمّا من خلال بذل الجهود الكافية في فهم الكتاب و السنّة و غيرهما من مصادر التشريع و استنباط حكمها، و إمّا باللجوء إلي القوانين الوضعية، أو عدم الفحص عن حكمها و إهمالها.

و الأوّل هو المطلوب، و الثاني يكوّن نقصاً في التشريع الإسلامي، و هو سبحانه قد أكمل دينه بقوله:

( اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1) ) (2) و الثالث لا ينسجم مع طبيعة الحياة و نواميسها.

2. لم يكن كل واحد من أصحابِ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) متمكناً من دوامِ الحضورِ عنده(صلي الله عليه و آله و سلم) لأخذ الأحكام عنه، بل كان في مدّة حياته يحضره بعضهم دون بعض، و في وقت دون وقت، و كان يسمع جواب النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) عن كلّ مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب و يفوت عن الآخرين، فلمّا تفرّق الأصحاب بعد وفاته(صلي الله عليه و آله و سلم) في البلدان، تفرّقت الأحكام المروية عنه(صلي الله عليه و آله و سلم) فيها، فتُروي في كلّ بلدة منها جملة، و تُروي عنه في غير تلك البلدة جُملة أُخري، حيث إنّه قد حضر المدنيّ من الأحكام، ما لم يحضره المصري، و حضر المصريّ ما لم يحضره الشاميّ، و حضر الشاميّ ما لم يحضره البصري، و حضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلي غير ذلك، و كان كل منهم3.

ص: 8


1- سوره 5 - آيه 3
2- . المائدة:3.

يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام. (1)

إنّ الصحابي قد يسمع من النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) في واقعة، حكماً و يسمع الآخر في مثلها خلافه، و تكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين غفل أحدهما عن الخصوصية، أو التفت إليها و غفل عن نقلها مع الحديث، فحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً، و لا تنافي واقعاً; و من هذه الأسباب و أضعافِ أمثالها احتاج حتي الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور، في معرفة الأحكام إلي الاجتهاد و النظر في الحديث، و ضمّ بعضه إلي بعض، و الالتفات إلي القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر، و مراد النبي خلافه اعتماداً علي قرينة في المقام، و الحديث نُقِلَ و القرينة لم تنقل.

و كلُّ واحد من الصحابة، ممّن كان من أهل الرأي و الرواية، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث، للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو و محدث، و تارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية، أو الروايات بحسب نظره و اجتهاده فهو في هذا الحال، مفت و صاحب رأي. (2)

3. و هناك وجه ثالث و هو انّ صاحبَ الشريعة ما عُني بالتفاصيل و الجزئيات لعدم سنوح الفرص ببيانها، أو تعذر بيان حكم موضوعات لم يكن لها نظير في حياتهم، بل كان تصوّرها لعدم وجودها أمراً صعباً علي المخاطبين، فلا محيص لصاحبِ الشريعةِ عن إلقاء أُصول كلية ذات مادة حيويّة قابلة لاستنباط الأحكام وفقاً للظروفِ و الأزمنة.

4. انّ حياة الدين مرهونة بمدارسته و مذاكرته و لو افترضنا أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) ذكرة.

ص: 9


1- . المقريزي: الخطط:2/333.
2- . أصل الشيعة و أُصولها: 147، طبعة القاهرة.

التفاصيل و الجزئيات و أودعها بين دفّتي كتاب ، لاستولي الركود الفكري علي عقلية الأُمة، و لانحسر كثير من المفاهيم و القِيَم الإسلامية عن ذهنيّتها، و أوجب ضياع العلم و تطرق التحريف إلي أُصوله و فروعه حتي إلي الكتاب الذي فيه تلك التفاصيل.

علي هذا، لم تقم للإسلام دعامة،و لا حُفِظَ كِيانُه و نظامه، إلاّ علي ضوء هذه البحوث العلمية و النقاشات الدارجة بين العلماء، أو ردّ صاحب فكر علي ذي فكر آخر بلا محاباة.

ص: 10

تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية

اشارة

لم يكن علم الأُصول بمحتواه أمراً مغفولاً عنه في عصر الأئمّة(عليهم السلام) ، فقد أملي الإمام الباقر (عليه السلام) و أعقبه الإمام الصادق(عليه السلام)علي أصحابهما قواعد كلّية في الاستنباط، رتّبها بعض الأصحاب علي ترتيب مباحث أُصول الفقه.

و ممن ألّف في ذلك المضمار:

1. المحدّث الحرّ العاملي(المتوفّي 1104ه)

مؤلف كتاب :»الفصول المهمة في أُصول الأئمّة« و هذا الكتاب يشتمل علي القواعد الكلية المنصوصة في أُصول الفقه و غيرها.

2. السيد العلاّمة الشبّر عبد اللّه بن محمد الرضا الحسيني الغروي(المتوفّي 1242ه)

له كتاب »الأُصول الأصلية«.

3. السيد الشريف الموسوي، هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني، له كتاب: »أُصول آل

الرسول«، و قد وافته المنيّة عام 1318 ه.

فهذه الكتب الحاوية علي النصوص المروية عن أئمة أهل البيت في القواعد و الأُصول الكلية في مجال أُصول الفقه، تعرِبُ عن العناية التي يوليها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) لهذا العلم.

و قد تبعهم أصحابهم، منهم:

اشارة

ص: 11

1. يونس بن عبد الرحمن(المتوفّي 208ه)

يقول النجاشي: كان يونس بن عبد الرحمن وجهاً في أصحابنا، متقدّماً، عظيم المنزلة، روي عن أبي الحسن موسي و الرضا(عليهما السلام). فقد صنف كتابَ: »اختلاف الحديث و مسائله« (1) و هو قريب من باب التعادل و الترجيح في الكتب الأُصولية.

2. أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي(237 311ه)

يقول النجاشي :كان شيخ المتكلمين من أصحابنا و غيرهم، له جلالة في الدنيا و الدين، إلي أن قال: له كتاب »الخصوص و العموم«،و »الأسماء و الأحكام«. (2)

و يقول ابن النديم: هو من كبار الشيعة، و كان فاضلاً عالماً متكلّماً، و له مجلس يحضره جماعة من المتكلّمين، إلي أن قال: له كتاب »إبطال القياس«. (3)

3. الحسن بن موسي النوبختي

عرّفه النجاشي بقوله: شيخنا المتكلّم، المبرّز علي نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة و بعدها. و ذكر من كتبه»خبر الواحد و العمل به«. (4)

يقولُ ابن النديم: الحسن بن موسي ابن اخت أبي سهل بن نوبخت، متكلّم فيلسوف، كان يجتمع إليه جماعة من النقَلة لكتب الفلسفة. (5)

ص: 12


1- . رجال النجاشي:2/420 برقم 1209.
2- . رجال النجاشي:1/121 برقم 67.
3- . الفهرست: 225.
4- . رجال النجاشي:1/179 برقم 146.
5- . الفهرست: 225.

يقول ابن حجر: الحسن بن موسي النوبختي، أبو محمد من متكلّمي الإمامية، و له تصانيف كثيرة. (1)

أُصول الفقه و أدواره

اشارة

اجتاز علم الأُصول من لدن تأسيسه إلي زماننا هذا مرحلتين، و لكلّ منهما أدوار، و امتازت المرحلة الثانية بالإبداع و الابتكار و طرح مسائل مستجدّة لم تكن مذكورة في كتب الفريقين.

المرحلة الأُولي: مرحلة النشوء و الازدهار
اشارة

ابتدئتْ المرحلةُ الأُولي منذُ أوائل القرن الثالث إلي عصر العلاّمة الحلي(726648) و قد اجتازت أدواراً ثلاثة.

الدور الأوّل:(دور النشوء)

و قد بُدئ هذا الدور بإفراد بعض المسائل الأُصولية بالتأليف دون أن يعمَّ كافّة المسائل المعنونة في هذا العلم يومذاك، و لم نقف في هذا الدور علي كتاب عام يشمل جميع مسائله، و قد عرفت أنّ يونس بن عبد الرحمن صنَّف كتابَ »علل الحديث« ، و أبا سهل النوبختي كتابَ »الخصوص و العموم« و »إبطال القياس«، و الحسن بن موسي النوبختي كتاب »خبر الواحد و العمل به« و بالرغم من ذلك فقد ازدهرتْ حركة الاستنباط و الاجتهاد بين أصحابنا في هذا الدور، فهذا هو »الحسن بن علي العماني« شيخ فقهاء الشيعة، المعاصر للشيخ الكليني(المتوفّي 329 ه) ألّف كتاب »المتمسِّك بحبل آل الرسول«.

ص: 13


1- . لسان الميزان:2/258، برقم 175.

يقول النجاشي: أبو محمد العماني، فقيه متكلّم، ثقة، له كتب في الفقه و الكلام، منها كتاب »المتمسّك بحبل آل الرسول « كتابٌ مشهورٌ في الطائفة.

و قيل: ما ورد الحاج من خراسان إلاّ طلَب و اشتري منه نسخاً. (1)

كما ألّف الشيخ الكبير أبو علي الكاتب الإسكافي(المتوفّي381ه) كتاب »تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة« في الفقه، و هو كتابٌ كبيرٌ جامعٌ، ذكر فهرس كتبه، الشيخ النجاشي في رجاله، و له كتاب »الأحمدي في الفقه المحمدي«.

يقول النجاشي: وجهٌ في أصحابنا، ثقةٌ، جليلُ القدرِ، صنّف فأكثر. (2)

الدور الثاني:(دور النمو)
اشارة

إنّ حاجة المستنبط في علم الأُصول لم تكن مقصورة علي عصر دون عصر، بل كلّما تقدّمتْ عجلة الحضارة نحوَ الإمام، ازدادت الحاجة إلي تدوين قواعد الاستنباط للإجابة علي الحوادث المستجدّة و ملابساتها التي كان الفقهاء يواجهونها طيّ الزمان، مما ترك تأثيراً إيجابياً علي علم الأُصول و ساهم في نموّه، فأفردوا جميع المسائل(بدل البعض كما في الدور الأوّل) بالتأليف، و قد تحمّل ذلك العبء ثلّة من أساطين العلم و سنامه، منهم:

4. محمد بن محمد بن النعمان المفيد(336 413ه)

هو شيخنا و شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالمفيد، صنف كتاباً باسم »التذكرة بأُصول الفقه« و طبع في ضمن مصنّفاته (3) و نقل خلاصته شيخنا الكراجكي(المتوفّي 449ه) في كتابه »كنز الفوائد«.

ص: 14


1- . رجال النجاشي:1/153.
2- . رجال النجاشي:2/306: برقم 1048.
3- . المؤتمر العالمي بمناسبة الذكري الألفيّة لوفاة الشيخ المفيد، المصنّفات: 9/5.
5. الشريف المرتضي(355 436ه)

هو السيد الشريف علي بن الحسين المعروف بالمرتضي.

قال عنه النجاشي: حاز من العلوم ما لم يدانه أحد في زمانه، و سمع من الحديث فأكثر، و كان متكلماً، شاعراً، أديباً، عظيم المنزلة في العلم و الدين و الدنيا، و عدّ من كتبه »الذريعة« (1) و قد طبع الكتاب في جزءين طباعة منقّحة، و قد عثرت علي نسخة خطية منها في مدينة »قزوين« جاء في آخرها انّ المؤلف فرغ من تأليفها عام 400ه، و قد نقل عنه جلُّ من تأخّر من السنّة و الشيعة.

6. سلاّر الديلمي(المتوفّي 448 ه)

هو سلاّر بن عبد العزيز الديلمي. يعرّفه العلاّمة بقوله: شيخنا المقدّم في الفقه و الأدب و غيرهما، كان ثقة وجهاً ألّف »التقريب في أُصول الفقه«، ذكره في الذريعة. (2)

7. الشيخ الطوسي(385 460ه)

هو محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي.

يقول عنه النجاشي: أبو جعفر، جليل من أصحابنا، ثقةٌ، عينٌ، من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه المفيد، و عدَّ من كتبه كتاب »العدّة في أُصول الفقه« (3)، و قد طُبِع غير مرّة، و هو كتابٌ مفصلٌ مبسوطٌ يحتوي علي الآراء الأُصولية المطروحة في عصره.

ص: 15


1- . رجال النجاشي: 1/102 برقم 706.
2- . الذريعة: 365 4/ و ذكر أنّه توفّي في السفر سنة 448.
3- . رجال النجاشي:2/332 برقم 1069.
الدور الثالث:(دور الازدهار)
اشارة

بدأ هذا الدور منذ أواخر القرن السادس إلي أواسط القرن الثامن، و قد صنف أصحابنا كتباً خاصّة في أُصول الفقه تعرب عن الإنجازات الضخمة، و المنزلة الراقية التي بلغها علمُ الأُصول من خلال دراسة مسائله باسهاب و دقّة و إمعان أكثر، و من المصنّفين في هذا الحقل:

8. ابن زهرة الحلبي(511 558ه)

هو الفقيه البارع السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي مؤلف كتاب »غنية النزوع إلي علمي الأُصول و الفروع« و كتابه هذا يدور علي محاور ثلاثة، العقائد و المعارف، أُصول الفقه، و الفروع.و قد طبع الكتاب محقّقاً في مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) في جزءين، و الناظر في قسم أُصول الفقه يري فيه التفتح و الازدهار بالنسبة إلي ما سبقه.

9. سديد الدين الحمصي(المتوفّي نحو 600 ه)

هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن حسن الحمصي الرازي و قد صنف »كتابه المنقذ من التقليد، و المرشد إلي التوحيد« عام 581ه في الحلة الفيحاء عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز. (1)

قال منتجب الدين الرازي: الشيخ الإمام سديد الدين علاّمة زمانه في الأُصوليين، ورع ثقة، و ذكر مصنّفاته الّتي منها: »المصادر في أُصول الفقه« و »التبيين و التنقيح في التحسين و التقبيح«. (2)

ص: 16


1- . لاحظ المنقذ من التقليد: 17، مقدّمة المؤلف.
2- . الفهرست: برقم 389.
10. نجم الدين الحلي(602 676ه)

هو نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا الهذلي الحلي، المكنّي بأبي القاسم، الملقّب بنجم الدين، و المشتهر بالمحقّق.

قال ابن داود في رجاله:جعفر بن الحسن، المحقّق المدقّق، الإمام، العلاّمة، واحد عصره كان ألسَنَ أهل زمانه، و أقومهم بالحجة، و أسرعهم استحضاراً، قرأت عليه و ربّاني صغيراً، و كان له عليّ إحسان عظيم،و ذكر من تآليفه:»المعارج في أُصول الفقه« (1) و قد طبع غير مرّة، و هو و إن كان صغير الحجم، لكنّه كثير المعني شأنُ كلِّ ما جادت به قريحتُه في عالم التأليف، فهذا كتابه»شرائع الإسلام« عكف عليه العلماء في جميع الأعصار، و كتبوا عليه شروحاً و تعاليق و قد طبع في إيران و لبنان.

و قال في أعيان الشيعة: و من كتبه »نهج الوصول إلي معرفة علم الأُصول«. (2)

11. العلاّمة الحلّي(648 726ه)

الحسن بن يوسف المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي و هو غنيٌّ عن التعريف، برع في المعقول و المنقول، و تقدَم علي العلماء الفحول و هو في عصر الصبا، أخذ عن فقيه أهل البيت الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن، خاله، و من أبيه سديد الدين يوسف بن مطهر الحلّي، و أخذ العلوم العقلية عن نصير الدين الطوسي و غيره.

ص: 17


1- . رجال ابن داود: 83.
2- . أعيان الشيعة:4/92. لاحظ الذريعة: 24/426.

و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات: النقلية و العقلية، كما ألّف في أُصول الفقه تصانيف عديدة ذكرها السيد الأمين في »أعيان الشيعة« نشير إليها:

1. النكت البديعة في تحرير الذريعة للسيد المرتضي.

2. غاية الوصول و إيضاح السبل في شرح مختصر منتهي الوصول لابن الحاجب.

3. »مبادئ الوصول إلي علم الأُصول« مطبوع في ذيل المعارج للمحقّق.

4. »نهاية الوصول إلي علم الأُصول« في أربعة أجزاء. (1)

5. »تهذيب الوصول في علم الأُصول« صنّفه باسم ولده فخر الدين، و هو مطبوع.

و قد كتب عليه شروح و تعاليق مذكورة في أعيان الشيعة. (2)

12. عميد الدين الأعرجي(المتوفّي عام 754 ه)

عبد المطلب بن أبي الفوارس بن محمد بن علي الأعرجي الحسيني ابن أُخت العلاّمة الحلّي.

وصفه الشهيد الأوّل بقوله: السيد، الإمام، فقيه أهل البيت(عليهم السلام) في زمانه، عميد الحقّ و الدين، أبو عبد اللّه عبد المطلب بن الأعرج الحسيني.

كما وصفه غيره بقوله: درّة الفخر و فريد الدهر، مولانا الإمام الرباني و هو ابن أُخت العلاّمة الحلّي (رحمه الله) و قد ألّف كتباً كثيرة في الفقه و غيره، كما ألّف في أُصول الفقه كتابه »منية اللبيب في شرح التهذيب« (3) لخاله العلاّمة الحلي و قد فرغ منه في

ص: 18


1- . نحتفظ بنسخة منها في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) في قم المقدّسة.
2- . أعيان الشيعة:5/404.
3- . نحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق(عليه السلام) في قم المقدّسة. و ربما ينسب المنية لأخيه ضياء الدين الأعرجي و النقول في تهذيب الأُصول لعميد الدين.

الخامس عشر من رجب سنة 740ه. (1)

13. ضياء الدين الأعرجي

هو السيد ضياء الدين عبد اللّه بن أبي الفوارس ابن أُخت العلاّمة الحلّي فقد شرح كتاب تهذيب الأُصول لخاله و أسماه »النقول في تهذيب الأُصول«، و قام الشهيد بالجمع بين الشرحين و أسماه »جامع البين الجامع بين شرحي الأخوين«.

14. فخر المحقّقين(682 771ه)
اشارة

هو محمد بن الحسن نجل العلاّمة الحلّي، فقد شرح تهذيب والده و أسماه »غاية السئول في شرح تهذيب الأُصول«.

كان الأمل أن يواكب التأليفُ تقدّمَ العصر و لكن الركب توقف عن متابعة هذا التطور و أخلد إلي الركود، فلا نكاد نعثر علي تصانيف أُصولية بعد شيخنا عميد الدين إلاّ ما ندر كمقدّمة المعالم للمحقّق الشيخ حسن صاحب المعالم، نجل الشهيد الثاني(المتوفّي 1011 ه). قد صار محور الدراسة قرابة أربعة قرون و عكف عليه العلماء بالتعليقة و الشرح.

نعم انصبّت الجهود علي تدوين القواعد الفقهية و تنظيمها بشكل بديع نستعرض بعضها:

1. محمد بن مكي المعروف ب»الشهيد الأوّل«(786734ه) قد ألّف كتاب »القواعد و الفوائد« و قد استعرض فيه 302 قاعدة، و مع الاعتراف بفضله و تقدّمه في التأليف، لم يفصل القواعد الفقهية عن الأُصولية أو العربية، كما لم

ص: 19


1- . السيد الخوانساري: روضات الجنات: 261.

يرتِّب القواعد الفقهية علي أبواب الفقه المشهورة ممّا حدا بتلميذه المقداد عبد اللّه السيوري بترتيب تلك القواعد كما سيوافيك.

2. الفقيه المتبحر و الأُصولي المتكلّم مقداد بن عبد اللّه السيوري(المتوفّي 826ه) من أكابر رجال العلم و التحقيق، فقد قام بترتيب كتاب القواعد لشيخه الشهيد و سمّاه ب »نضد القواعد الفقهية علي مذهب الإمامية« و قد طبع محقّقاً عام(1404ه).

3. الشيخ الأجل زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد المعروف ب»الشهيد الثاني« (966911ه)، ولد في عائلة نذرت نفسها للدين و العلم، و قد ألّف في غير واحد من الموضوعات و من آثاره كتابه:»تمهيد القواعد« جمع في هذا الكتاب بين فني تخريج الفروع علي الأُصول و تخريج الفروع علي القواعد العربية، و هو كتاب قلّ نظيره عظيم المنزلة ، طبع مرّة مع كتاب الذكري للشهيد الأوّل، كما طبع أخيراً محقّقاً في مشهد الإمام الرضا استعرض المؤلِّف فيه مائتي قاعدة و فرغ منها في مستهل عام 958ه.

***

عصر النكسة و الركود

ظهرت الأخبارية في أواخر القرن العاشر و بداية القرن الحادي عشر علي يد الشيخ محمد أمين الاسترابادي(المتوفّي1033 ه) فشنَّ حملة شعواء علي الأُصول و الأُصوليّين و زيّف مسلك الاجتهاد المبني علي القواعد الأُصولية، و زعم انّ طريقة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)و أصحابه تخالف ذلك المسلك، فممّا قاله في ذم الاجتهاد:

ص: 20

و أوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) و اعتمد علي فن الكلام، و علي أُصول الفقه المبنيّين علي الأفكار العقلية المتداولة بين العامة، محمد بن أحمد ابن الجنيد العامل بالقياس، و حسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم، و لما أظهر الشيخ المفيد حسنَ الظن بتصانيفهما بين أصحابه منهم السيد الأجل المرتضي، و شيخ الطائفة شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا، حتي وصلت النوبة إلي العلاّمة الحلّي، فالتزم في تصانيفه أكثرَ القواعد الأُصولية من العامة، ثمّ تبعه الشهيدان و الفاضل الشيخ علي رحمهم اللّه تعالي. (1)

أقول: الأخبارية منهج مبتدع، و لم يكن بين علماء الشيعة إلي زمان ظهورها منهجان متقابلان متضادان في مجال الفروع باسم المنهج الأُصولي و الأخباري حتي يكون لكل منهج مبادئ مستقلة يناقض أحدهما الآخر، بل كان الجميع علي خطّ واحد، و كان الاختلاف في لون الخدمة و كيفية أداء الوظيفة.

يقول شيخنا البحراني: إنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المجتهدين و المحدّثين مع أنّه لم يرتفع بينهم مثل هذا الخلاف و لم يطعن أحد منهم علي الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف و إن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل. (2)

و العجب انّ الشيخ الاسترابادي(رحمه الله) استدلّ علي انقسام علماء الإمامية إلي أخباريّين و أُصوليّين بأمرين:

1. ما ذكره شارح المواقف، حيث قال:

كانت الإمامية أوّلاً علي مذهب أئمّتهم حتي تمادي بهم الزمان فاختلفوا و تشعّب متأخّروهم إلي المعتزلة و إلي الأخباريين، و ما ذكره الشهرستاني في أوّلة.

ص: 21


1- . الفوائد المدنيّة: 44، الطبعة الحجريّة.
2- . الحدائق الناضرة: 1701/167، المقدمة الثانية عشرة.

كتاب الملل و النحل: من أنّ الإمامية كانوا في الأوّل علي مذهب أئمّتهم في الأُصول ثمّ اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم حتي تمادي بهم الزمان، فاختارت كلّ فرقة طريقة، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إمّا وعيدية و إمّا تفضيلية، بعضها أخبارية مشبِّهة و إمّا سلفية.

2. ما ذكره العلاّمة في »نهاية الوصول إلي علم الأُصول« عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد، فقال:

أمّا الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أُصول الدين و فروعه إلاّ علي أخبار الآحاد، و الأُصوليّون منهم كأبي جعفر الطوسي و غيره وافقوا علي خبر الواحد و لم ينكره سوي المرتضي و أتباعه.

لكن كلا الشاهدين أجنبيان عمّا يرومه الأمين.

أمّا الشاهد الأوّل: فقد نقله بالمعني، و لو نقل النصّ بلفظه لظهر للقارئ الكريم ما رامه شارح المواقف، و إليك نصه:...و تشعب متأخّروهم إلي »المعتزلة«: إمّا وعيدية أو تفضيلية(ظ.تفضلية) و إلي »أخبارية« يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة، و هؤلاء ينقسمون إلي »مشبّهة« يجرون المتشابهات علي أنّ المراد بها ظواهرها، و »سلفية« يعتقدون أنّ ما أراد اللّه بها حقّ بلا تشبيه كما عليه السلف و إلي ملتحقة بالفرقة الضالة«.

و بالتأمل في نصّ كتاب المواقف يظهر فساد الاستنتاج، و ذلك لأنّ مسلك الأخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأمين ليس إلاّ مسلكاً فقهياً قوامه عدم حجّية ظواهر الكتاب أوّلاً، و لزوم العمل بالأخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الاسناد، و علاج التعارض بالحمل علي التقية و غيرها ثانياً، و عدم حجّية العقل في استنباط الأحكام ثالثاً.

ص: 22

و ما ذكره شارح »المواقف« و »الشهرستاني« من تقسيم الشيعة إلي أخبارية و غيرها راجع إلي المسائل العقائدية دون الفقهية، فعلي ما ذكراه فالشيعة تشعّبت في تفسير الصفات الخبرية كاليد و الاستواء و الوجه و غير ذلك ممّا ورد في الأخبار بل الآيات إلي طوائف ثلاث:مشبِّهة، و سلفية، و ملتحقة بالفرق الضالة.

و الحكم بأنّ ما ذكره شارح المواقف راجع إلي المسلك الذي ابتدعه الاسترآبادي عجيب جداً مع اختلافهما في موضوع البحث، فأين العمل بظواهر الأخبار في صفاته سبحانه، عن الأخبارية التي ابتدعها الأمين الاسترآبادي في سبيل استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب و السنة، مضافاً إلي أنّ مسلكه مبني علي أسس و قوائم لم تكن معروفة عند غيره.

و أمّا الشاهد الثاني أعني ما ذكره العلاّمة، فهو أيضاً لا يمتُّ بصلة إلي مسلك الأخبارية المبتدَع، بل هو راجع إلي مسألة خلافية بين علماء الإمامية منذ زمن بعيد، و هو هل الخبر الواحد حجّة في الأُصول كما هو حجّة في الفروع أو لا؟ فالمحدّثون و الذين سبروا غور الأخبار، ذهبوا إلي القول الأوّل، و الأُصوليون الذين حكَّموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني.

فالأخباري في كلام العلاّمة هو ما يمارس الخبر و يدوّنه شأن كل محدّث، لا من يسلك مسلك الأخباريّين في استنباط الأحكام الشرعية.

إنّ هذه الفكرة الخاطئة الشاذة عن الكتاب و السنّة و إجماع الأصحاب الأوائل شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين، و أضحت تلك البرهة فترة ركود الأُصول و تألق نجم الأخبارية، فتري أنّ أكثر مؤلّفاتهم تعلو عليها صبغة الأخبارية، و هم بين متطرِّف كالأمين الاسترابادي، و معتدل كالشيخ يوسف البحراني(المتوفّي 1186ه) صاحب الحدائق الناضرة.

ص: 23

و من سوء الحظ انّ النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر علي نطاق المحافل العلمية، بل تسرّب إلي الأوساط العامة و المجتمعات، فأُريقت دماء طاهرة و هتكت أعراض من جرّاء ذلك، و قتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمد بن عبد النبي المحدِّث النيسابوري المعروف بميرزا محمد الأخباري (12331178ه) لمّا تجاهر بذمِّ الأُصوليين قاطبة و النيل منهم، فلقي حتفه عند هجوم العامة عليه عن عمر يناهز 55 عاماً.

بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنّه الأمين الأسترآبادي و أتباعه علي الحركة الأُصولية، نري أنّ هناك من أخذ بزمام الحركة بتأليف كتب استطاعت حينها أن تصمد بوجه الأخبارية و تذود عن كيانها و قاموا بمحاولات:

15. الفاضل التوني(المتوفّي 1071 ه)

هو عبد اللّه بن محمد التوني البشروي. وصفه الحر العاملي بقوله: عالم، فاضل، ماهر، فقيه، صنّف »الوافية« في أُصول الفقه فرغ منها عام 1059 ه، و قد طبعت و انتشرت و له حاشية علي معالم الأُصول.

16. حسين الخوانساري(المتوفّي 1098 ه)

هو المحقّق الجليل السيد حسين بن محمد الخوانساري مؤلّف كتاب »مشارق الشموس في شرح الدروس« و كتابه هذا يشتمل علي أغلب القواعد الأُصولية و الضوابط الاجتهادية، طرح فيه أفكاراً أُصولية بلون فلسفي.

17. محمد الشيرواني(المتوفّي 1098ه)

هو محمد بن الحسن الشيرواني.

له تعاليق علي »المعالم« و مصنّفات جمة، مثل حاشية علي »شرح المطالع«

ص: 24

و أُخري علي »شرح المختصر« للعضدي.

18. جمال الدين الخوانساري(المتوفّي عام 1121 ه أو 1125)

هو المحقق الكبير جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري، له تعليقة علي شرح مختصر الأُصول للعضدي كما هو مذكور في ترجمته.

و هذه الكتب المؤلفة في فترة انقضاض الحركة الأخبارية علي المدرسة الأُصولية مهّدت لظهور حركة أُصولية جديدة تبنّاها المحقّق الوحيد البهبهاني(1118 1206 ه) الذي فتح بأفكاره آفاقاً جديدة في علم الأُصول.

إلي هنا تمت المرحلة الأُولي التي طواها علم الأُصول و حان استعراض المرحلة الثانية التي هي مرحلة الإبداع و الابتكار.

المرحلة الثانية مرحلة الإبداع و الابتكار
اشارة

ابتدأت هذه المرحلة من عصر المحقّق البهبهاني و امتدت إلي يومنا هذا، مع ما لها من أدوار مختلفة، و إليك بيانها:

19. المحقق البهبهاني(1118 1206ه)

كان للأُستاذ الأكبر الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني دور فعال في إخماد نائرة الفتنة، بالرد القاطع علي الأخباريين، و تزييف أفكارهم، و تربية جيل من العلماء و المفكّرين علي أُسس مستقاة من الكتاب و السنّة و العقل الصريح، و اتّفاق الأصحاب، و استطاع أن يشيِّدَ للأُصولِ أركاناً جديدةً، و دعامات رصينة، فنهض بالأُصول من خموله الذي دام قرنين، مذعناً بانتهاء عصر الركود و ابتداء عصر التطور و الابتكار.

ص: 25

و بلغت تصانيفه 103 ما بين رسائل مختصرة و كتب مفصّلة، منها: الرسائل الأُصولية، إبطال القياس; إثبات التحسين و التقبيح العقليين; الاجتهاد و التقليد، و الفوائد الحائرية، و غيرها.

و بذر البذرة الأُولي لهذه المرحلة التي تلقّفها العلماء بعده بالرعاية حتي أينعت و أثمرت ثمارها علي أيدي أساطين من العلماء في غضون الأدوار: و بها امتازت هذه المرحلة عمّا سبقها من المرحلة الأُولي:

الدور الأوّل:(دور الانفتاح)
اشارة

ابتدأ هذا الدور بنخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني و في طليعتهم:

20. جعفر كاشف الغطاء(1156 1228ه)

هو الشيخ الأكبر جعفر بن خضر بن يحيي النجفي المعروف بكاشف الغطاء، تلمّذ عند: الشيخ محمد مهدي الفتوني، و المحقّق البهبهاني.

قال عنه شيخنا الطهراني :و هو من الشخصيات العلمية النادرة المثيل، و انّ القلم لقاصر عن وصفه و تحديد مكانته و إن بلغ الغاية في التحليل، و في شهرته و سطوع فضله غني عن إطراء الواصفين.

و من جملة تصانيفه »كشف الغطاء«، و »غاية المأمول في علم الأُصول«. (1)

21. أبو القاسم القمي(1151 1231ه)

هو أبو القاسم محمد حسن الجيلاني القمي، تلمّذ عند: المحقّق البهبهاني، و الشيخ محمد مهدي الفتوني، و محمد باقر الهزار جريبي.

ص: 26


1- . الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة:1/248 برقم 506.

حطّ الرحال في قم، و عكف فيها علي التدريس و التصنيف حتي أصبح من كبار المحقّقين و أعاظم الفقهاء المتبحّرين، و اشتهر أمره و طار صيته و لقب بالمحقّق القمي.

من تصانيفه الأُصولية »القوانين«.

22. السيد علي الطباطبائي(12311161ه)

هو السيد علي بن محمد بن علي الطباطبائي، يعرفه الرجالي الحائري بقوله: ثقة، عالم، جليل القدر، وحيد العصر، و من تآليفه في الأُصول: »رسالة في الإجماع و الاستصحاب«، و تعليقة علي معالم الدين، و تعليقة علي مبادئ الوصول إلي علم الأُصول. (1)

الدور الثاني:(دور النضوج)
اشارة

ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خرّيجي مدرسة البهبهاني، فقاموا بوضع صياغة جديدة للأُسس الأُصولية من منظار جديد و علي رأسهم:

23. محمد تقي بن عبد الرحيم الاصفهاني(المتوفّي 1248ه)

هو محمد تقي بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني عالم جليل، محقّق، له: »شرح الوافية«، و »شرح طهارة الوافي« من تقرير أُستاذه بحر العلوم، و »حاشية علي المعالم«. (2)

24. شريف العلماء(المتوفّي 1245 ه)

هو الشيخ الجليل محمد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء،

ص: 27


1- . راجع ترجمته في مقدّمة كتاب »رياض المسائل« الذي طبع عام 1412ه.
2- . أعيان الشيعة:9/198.

و كفي به فخراً انّ الشيخ مرتضي الأنصاري ذلك النجم اللامع في سماء الأُصول، ممّن استسقي من فيّاض علمه، و قد بقيت من آثاره العلمية رسالة »جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء الشرط«.

25. محمد حسين بن عبد الرحيم الاصفهاني(المتوفّي 1261ه)

الفقيه الأُصولي الشهير، أخذ عن أخيه الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين، و عن الشيخ علي بن الشيخ جعفر، قطن كربلاء فرحل إليه الطلاب.

له مؤلفات في الأُصول، منها: »الفصول« و هو من كتب القراءة في هذا الفن، أورد فيه مطالب القوانين و حلّها و اعترض عليها، و هو مشهور. (1)

الدور الثالث:(دور التكامل)
اشارة

بلغ فيه علم الأُصول الذروةَ في التحقيق و التعميق و البحث و تطرّقت إليه مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق، و يُعتبر الشيخ مرتضي الأنصاري هو البطل المِقْدام في هذا الحقل حيث استطاع بعقليّته الفذّة أن يشيّد أركاناً جديدة لعلم الأُصول بلغ بها قمةَ التطور و التكامل.

و أنت إذا قارنت المؤلفات الأُصولية في هذه البرهة مع ما ألّف في المرحلة الأُولي و حتي مستهلّ المرحلة الثانية تجد بينهما بوناً شاسعاً يُتراءي في بادئ النظر كعلمين، و ما هذا إلاّ بفضل التطور و التكامل الذي طرأ علي بِنْية الأُصول بيد هذا العبقري الفذّ و لم يزل ينبوعه فيّاضاً إلي يومنا هذا.

ص: 28


1- . أعيان الشيعة:9/233.
26. مرتضي الأنصاري(1214 1281ه)

هو مرتضي بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري، مؤسس النهضة الأُصولية المعاصرة، قرأ أوائل عمره علي عمّه الشيخ حسين من وجوه علماء دزفول، ثمّ مكث في كربلاء و تلمّذ عند السيد محمد المجاهد و شريف العلماء، ثمّ عزم علي الطواف في البلاد للقاء علمائها، فخرج إلي خراسان مارّاً بكاشان حيث فاز بلقاء النراقي صاحب المناهج و تلمذ عنده نحو ثلاث سنين، ثمّ إلي أصفهان، ثمّ إلي دزفول، و منها إلي النجف، فحط الرحال فيها، و قد انتهت الرئاسة العلمية فيها آنذاك إلي الشيخ علي بن الشيخ جعفر و صاحب الجواهر، فتلمذ عندهما إلي أن انتهت إليه الرئاسة الإمامية العامة بعد وفاتهما، و كان مجلس درسه يغص بالفقهاء، و قد تخرّج به أكثر الفحول من بعده، مثل: الميرزا الشيرازي، و الميرزا الرشتي، و السيد حسين الكوهكمري، و المامقاني، و الخراساني. و قد ذاع صيته و انتشرت آثاره في الآفاق.

أمّا مصنّفاته الأُصولية فيعد كتابه »فرائد الأُصول« من أهم الكتب الأُصولية التي عوّل عليها قاطبة الأُصوليين من الإمامية في كلّ زمان و مكان، و هذا الكتاب يضم في طياته خمس رسائل أُصولية هي:

1. أحكام القطع.

2.رسالة حجّية الظنّ.

3. أصل البراءة و الاشتغال.

4. الاستصحاب.

5. التعادل و الترجيح.

و قد طبعت مراراً، و علق عليها مشاهير العلماء بعده، أخص منهم بالذكر:

ص: 29

موسي التبريزي، و الشيخ حسناً الآشتياني، و الشيخ محمد حسن المامقاني، و الشيخ محمد كاظم الخراساني، و الشيخ محمد رضا الهمداني. (1)

إنّ عصر الشيخ الأنصاري كوّن منعطفاً رائعاً في تاريخ علم الأُصول، و قد تخرّج في مدرسته مئات المحقّقين، و أُلّفت عشرات الكتب في الأُصول التي تحمل في طياتها الفكر الأُصولي الذي صاغه الأنصاري، و هذه الكتب بين تأليف مستقل أو تعليقة أو تحشية علي فرائد الشيخ الأنصاري، أو علي كفاية الأُصول لتلميذه المحقّق الخراساني، أو بين تقرير يمليه الأُستاذ و يكتبه التلميذ أثناء الدرس أو خارجه.

و بما انّ الإفاضة في هذا المجال علي ما هو حقّه تورث الإطناب، فلنقتصر علي سرد أسماء المشاهير من الأُصوليين في هذا العصر اعتماداً علي ما فصلنا ترجمتهم و ترجمة تلاميذهم إلي نهاية القرن الرابع عشر في آخر موسوعة طبقات الفقهاء.

و خرج من مدرسته العديد من الفطاحل و العباقرة، و أخص بالذكر منهم:

27. السيد المجدّد الشيرازي(1224 1312ه)

هو السيد محمد حسن بن محمود بن إسماعيل الحسيني الشيرازي، كان فقيهاً، عالماً، ماهراً، محقّقاً، مدقّقاً، ورعاً، تقياً، انتهت إليه رئاسة الإمامية العامة في عصره، و طار صيته و اشتهر ذكره و وصلت رسائله التقليدية و فتاواه إلي جميع الأصقاع.

من مؤلّفاته الأُصولية:رسالة في اجتماع الأمر و النهي، و تلخيص إفادات

ص: 30


1- . أعيان الشيعة:10/117 118.

أُستاذه الأنصاري، و رسالة في المشتق. (1)

28. محمد كاظم الخراساني(1255 1329ه)

هو المحقّق الكبير الشيخ محمّد كاظم الخراساني الهروي، مؤلّف كتاب »كفاية الأُصول« و يُعدّ كتابه هذا محور البحوث الأُصولية في الحوزات العلمية إلي يومنا هذا.

و قد تخرّج علي يديه، نخبة من رجال الفكر و العلماء البارعين في علم الأُصول.

29. الميرزا حسين النائيني(13551274ه)

المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني له محاضرات قيّمة في الأُصول و قد دوّن آراءه تلميذه البارع الشيخ محمد علي الكاظمي(1309 1365ه) و قد نشرت باسم »فوائد الأُصول«، كما دوّن تلك الآراء أيضاً تلميذه الآخر المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي و نشرت باسم »أجود التقريرات«.

30. عبد الكريم الحائري(1274 1355ه)

هو الشيخ الكبير عبد الكريم بن محمد جعفر الحائري اليزدي مؤسس الحوزة العلمية في قم المحمية، و شيخنا هذا ضمّ إلي عمله و فقهه الجمّ حصافة في العقل و دراية في الحياة، مؤلّف كتاب »درر الفوائد« و كان محوراً لمحاضراته التي كان يلقيها علي طلاب الحوزة العلمية، و تخرج علي يديه نخبة من الفطاحل و جيل من الأعاظم لو قام باحث بتدوين أسمائهم و سيرتهم لخرج بكتاب مفرد كبير.

ص: 31


1- . أعيان الشيعة:5/304.
31.ضياء الدين العراقي(13611278ه)

الأُستاذ الكبير الشيخ ضياء الدين العراقي صاحب كتاب »المقالات في علم الأُصول« و قد دون أفكاره العلاّمة الحجّة الشيخ محمد تقي البروجردي و نشرها تحت عنوان »نهاية الأفكار« طبعت في ثلاثة أجزاء، و العالم البارع الشيخ هاشم الآملي(14121322ه) في كتاب »بدائع الأفكار«.

32. محمد حسين الاصفهاني(13611296ه)

المحقّق الكبير الشيخ محمّد حسين الأصفهاني من أعاظم تلاميذ المحقّق الخراساني، و قد تخرّج عليه طليعة من العلماء، منهم: المحقّق العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي(14011321ه) و السيد المحقّق محمد هادي الميلاني(13951313ه) و من مصنفاته كتاب »نهاية الدراية في التعليقة علي الكفاية« طبعت في أجزاء ثلاثة.

33. السيّد محمد الحجّة الكوهكمري(1301 1372ه)

أُستاذنا الكبير و الفقيه البارع السيد محمّد الحجّة الكوهكمري تخرج علي أعلام عصره في النجف الأشرف كالسيد الطباطبائي اليزدي و شيخ الشريعة الاصفهاني و المحقّق النائيني. لعب دوراً كبيراً في تنشيط حوزتي النجف و قم و تخرّج علي يده العديد من الفقهاء و المجتهدين. و دوّن غير واحد من تلاميذه آراءه و أفكاره و أخصّ بالذكر سماحة آية اللّه الحاج علي الصافي الكلبايكاني فقد نشر ما تلقي عنه تحت عنوان »المحجة في تقريرات الحجّة«.

ص: 32

34. السيد حسين البروجردي(1392 1380ه)

هو السيد حسين البروجردي الطباطبائي سيد مشايخنا العظام تخرج علي أعلام عصره في النجف الأشرف و تردد كثيراً إلي أندية دروس المحقّق الخراساني و نال منه إجازة الاجتهاد(عام 1328ه) ، و للسيّد البروجردي دور كبير في تنقيح مباني الاجتهاد و أُصول الفقه و الرجال، و قد حضرنا درسه سنين طوالاً و كتبنا شيئاً من تقريراته و له تعليقة علي كفاية الأُصول في جزءين لم تر النور.

35. السيّد روح اللّه الموسوي الخميني(1320 1409ه)

المجاهد الكبير قائد الثورة الإسلامية المباركة و الذاب عن حياض الإسلام بقلمه و لسانه و ما أُوتي من حول و قوة السيّد روح اللّه بن السيد مصطفي الخميني فقد ربي جيلاً كبيراً في الجامعة الإسلامية و درّس الأُصول دورة بعد دورة. و قد برز بقلمه الشريف »مناهج الوصول إلي علم الأُصول« في المباحث اللفظية ، و »الرسائل« في المباحث العقلية، إلي غير ذلك و قد قمنا بتدوين محاضراته الأُصولية و نشرناها تحت عنوان »تهذيب الأُصول« عام 1375 1383.و له علي الإسلام و المسلمين أياد بيضاء تشكر.

36. السيد أبو القاسم الخوئي(1317 1411ه)

هو السيّد أبو القاسم بن السيد علي أكبر الخوئي أحد المراجع العظام و زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف.تخرج علي يديه جيل كبير من الفضلاء و المحقّقين، و قد ألقي محاضرات في الأُصول سنين عديدة حتي تجاوزت دوراته عن الخمس. و دوّنت آراؤه عن طريق تلامذته و انتشرت بعنوانات مختلفة، و قد تألّق نجمه في علم الأُصول منذ شبابه إلي أوان رحيله.

ص: 33

هذه إلماعة عابرة إلي تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية و قد اقتصرنا في ذلك علي أعلام العصر في كلّ قرن، و لو قمنا بترجمة كلّ من له دور في تنشيط هذا العلم لأحوج الأمر إلي تأليف مفرد.

و في الختام أرفع أسمي آيات الاعتذار إلي المشايخ الّذين لعبوا دوراً فعالاً في تصعيد نشاط الحركة الأُصولية و لم أُوفق لذكر أسمائهم و تقدير جهودهم و العذر عند كرام الناس مقبول.

*** ثمّ إنّ كتابنا هذا يشتمل علي مقدمة و مقاصد، و المقدّمة علي أُمور ،و إليك الخوض فيها واحداً تلو الآخر:

ص: 34

الوسيط في أُصول الفقه كتاب يبحث عن الأدلة اللفظية و العقلية بين الايجاز و الاطناب تأليف جعفر السبحاني كتاب دراسي أُعِدَّ لطلبة الحوزة العلمية، السنة الخامسة

ص: 35

ص: 36

مقدمة الكتاب:و فيها أمور تسعة:

الأمر الأوّل: في تعريف علم الأُصول و بيان موضوعه و مسائله و غايته

قد جري ديدن العلماء في مقدّمة الكتاب علي التعرض لأُمور أربعة:

1. تعريف العلم، 2. بيان موضوعه، 3. الإلماع إلي مسائله، 4. و الإشارة إلي غايته.

أمّا الأوّل: فقد عُرّف علم الأُصول بتعاريف أدقّها هي: »القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع كبري لاستنباط الأحكام الكلية الفرعية الإلهية، أو الوظيفة العملية«.

و المراد ب»القواعد الآلية« هو ما ينظر بها إلي الحكم الشرعي و تكون ذريعة إلي استنباطه; فخرجت القواعد الفقهية، فانّها تتضمن نفس الحكم الشرعي، و لا ينظر بها إلي حكم شرعي آخر بل هي ممّا ينظر فيها. (1)

كما أنّه دخل بقولنا:»يمكن« الظنون غير المعتبرة كالقياس و الاستحسان

ص: 37


1- . و الأوّل كقولنا: خبر الواحد حجّة، فيقع ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي بخبر زرارة علي وجوب شيء أو حرمته. و الثاني كقولنا: كلّ شيء طاهر حتّي تعلم انّه قذر و هو يتضمن نفس الحكم الشرعي و سيوافيك التفصيل في الأمر الثاني.

و الظن الانسدادي، فإنّ الجميع قواعد أُصولية تصلح لأن تقع في طريق الاستنباط، لكن أحجم الشارع عن إعمالها.

و خرج بقولنا: »تقع كبري« مسائلُ سائر العلوم التي ليس لها هذا الشأن.

كما دخل بقولنا:»الوظيفة العملية« ما إذا انتهي المجتهد إلي استنباط الوظيفة الفعلية، لا استنباط الحكم الشرعي، كما هو الحال في حكم العقل بالبراءة عند الشك في أصل التكليف، و حكمه بالاحتياط عند العلم بالتكليف و الشك في المكلّف به فكلا الحكمين، أعني: البراءة و الاحتياط في الموردين وظيفة عملية لدي الشك، لا حكم شرعيّ.

بقي في المقام علم اللغة الذي ربما يقع في طريق الاستنباط كالعلم بمعني »الصعيد« و»المفازة« و »الوطن«، فربما يقال: إنّه يخرج بقيد الآليّة، فإنّه ليس آلة للاستنباط و إن كان ربما يترتب عليه فانّ الغاية من علم اللغة أوسع من ذلك بكثير.

و يمكن أن يقال بعدم دخوله في التعريف حتّي يحتاج إلي الخروج إذ ليس في علم اللغة »قواعد« كلّية بل هو علم كافل لبيان معاني المفردات، و لا يوصف مثل ذلك بالقواعد.

و بما انّ مضامين سائر القيود المأخوذة في التعريف واضحة نترك البحث فيها روماً للاختصار.

و أمّا الثّاني: فقد اختلفت كلمة الأُصوليّين في بيان موضوع ذلك العلم، و النظر الحاسم عندنا هو انّ موضوعه: »الحجّة في الفقه«.

فنقول إيضاحاً: قد اشتهر بينهم انّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.

فالشيء الذي يبحث في العلم عن خصائصه و آثاره المطلوبة منه، هو

ص: 38

الموضوع، و الخصائص و الآثار المترتبة علي ذلك الشيء هي العوارض و إليك بعض الأمثلة:

1.انّ موضوع علم الطب هو البدن، و الخصائص و الآثار المطلوبة منه هي عوارضه من الصحة و المرض.

2. انّ موضوع علم النحو هو الكلمة و الكلام، و الآثار المترتبة عليه من الرفع و النصب و الجر هي العوارض المترتبة عليها.

3. انّ موضوع العلم الطبيعي هو الجسم و الآثار المترتبة عليه، أعني: الحركة و السكون، و الحرارة و البرودة و غيرهما هي العوارض الطارئة عليه. إلي غير ذلك من العلوم.

و علي ضوء ذلك فعلم الأُصول كسائر العلوم له موضوع، و موضوعه هو الحجّة في الفقه، و يمكن استكشاف ذلك(كون موضوعه هو الحجّة في الفقه) من امعان النظر في الغرض المطلوب من ذلك العلم، فانّ الغاية القصوي للفقيه هو معرفة الحجج الشرعية أو العقلية سواء أ كانت حجّة شرعية للحكم الشرعي أم حجّة للوظيفة العملية كما في مورد الأُصول فيصبح موضوع ذلك العلم هو الحجّة في الفقه.

و أمّا عوارضه أي الخصائص و الآثار المترتبة عليه فهي عبارة عن البحث عن تفاصيلها و حدودها و خصوصياتها، حيث إنّ الفقيه يعلم بوجود حجّة بينه و بين ربّه لكن لا يعلم بخصوصياتها علي وجه التفصيل فيبحث عن تشخّص »الحجّة في الفقه« بخبر الواحد أو بالشهرة أو بالإجماع أو بالسيرة أو بالأُصول العملية، فتعيناتها و خصوصياتها هي عوارضها، و البحث فيها يتكفله علم الأُصول.

و بالجملة العلم بالحجّة الإجمالية بيننا و بين ربّنا لا يُسمن و لا يغني من جوع

ص: 39

ما لم تُعلم حدودها و تعيّناتها، فالعلم الذي يقوم بهذه المهمّة هو علم الأُصول حيث يُحدِّد و يعيِّن حدودَ ذلك الموضوع و خصوصياته و تعيّناته بإحدي الحجج ، كما أنّه ربما ينفي تعيّنها و تحددها بأُمور أُخري كالقياس و الاستحسان.

فتلخص من ذلك انّ الموضوع هو »الحجّة في الفقه« بوجه مطلق غير متعيّن الحدود و الخصوصيات، و أمّا العوارض فهي ما يُخرج الموضوع عن الإطلاق و يحدده و يقيده بإحدي الخصوصيات.

و أنت إذا تفحّصت المسائل الأُصولية تقف علي أنّ روح البحث في جميعها يرجع إلي تعيين الحجج علي الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية، و ما من مسألة من المسائل الأُصولية إلاّ و يحتج بها علي أحد الأمرين بنحو من الاحتجاج.

و أمّا الثالث أعني مسائله فقد تبين ممّا ذكرنا، فإنّها عبارة عن المحمولات(العوارض) التي تعرض للموضوع أي الحجّة في الفقه علي وجه الإطلاق، فالخصوصيات المحمولة علي الموضوع من كونها خبر الواحد أو الاستصحاب أو غير ذلك هي مسائل ذلك العلم. (1)

و إن شئت قلت: انّ الحجّة في الفقه بوصف الإطلاق هي الموضوع، و تعيناتها و تشخصاتها بإحدي الخصوصيات هي المسألة.

و أمّا الرابع أعني غايته فقد تبين ممّا ذكرنا فانّ غاية ذلك العلم هي تحصيل ملكة استنباط الحجج علي الأحكام أو الوظيفة العمليّة.ه.

ص: 40


1- . فانّ الحق انّ المسائل عبارة عن نفس المحمولات المنتسبة إلي موضوعاتها في مقابل من يقول بانّها عبارة عن المركب من الموضوع و المحمول و النسبة. و التفصيل موكول إلي محلّه.

الأمر الثاني: الفرق بين المسألة الأُصولية و القاعدة الفقهية

قد عرفت أنّ المسألة الأُصولية عبارة عن القاعدة الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية أو الوظيفة العملية، و علي هذا فالمسألة الأُصولية تتميّز بالخصوصيات التالية:

1. انّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية أو الوظيفة العملية.

2. أنّها لا تختص بباب دون باب، كحجية خبر الواحد التي يُستند إليها في عامّة الأبواب.

3. انّها لا تتضمّن حكماً شرعياً و لا وظيفة عملية، بل يستنبط منها الحكم الشرعي و الوظيفة العملية.

و أمّا القاعدة الفقهية فهي تمتاز بميزتين:

1. انّها تشتمل علي حكم شرعي كلّي أو منتزع من عدّة أحكام، و الأوّل كقاعدة الطهارة و الثاني كقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

ص: 41

2. لا تجري في عامة الأبواب بل تختص بباب أو بأبواب معدودة، كقاعدة الطهارة و قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و هذه الميزة الثانية هي الغالبة خرجت منها قاعدتا نفي الضرر و الحرج فانّهما تعمّان جميع أبواب الفقه.

و أمّا المسألة الفقهية فهي ما يبحث فيها عن أحكام الموضوعات الخاصة كطهارة الماء و نجاسة الدم، و ربما يبحث فيها عن ماهية الموضوعات كماهية الصلاة و أجزائها و موانعها و شرائطها.

هذا هو المختار عندنا و ربما تذكر هنا ضابطتان أُخريان:

إحداهما للشيخ الأنصاري، و الأُخري للمحقّق العراقي تطلبان من محلّهما. (1)3.

ص: 42


1- . و من أراد التفصيل فليرجع إلي المحصول:1/43.

الأمر الثالث: في الوضع

اشارة

لا شكّ انّ الإنسان العارف باللسان، إذا سمع لفظ »الماء« ينتقل إلي معناه، أعني: الجسم السيّال الرطب، إنّما الكلام في سبب الانتقال، فهنا احتمالان:

1. وجود الرابطة الذاتية بين اللفظ و المعني التي تكون سبباً لحضور المعني. لكنّه احتمال ساقط إذ لازم ذلك، حضور المعني لكلّ من سمع اللفظ سواء كان عارفاً باللسان أم لا.

2. انّ سبب الحضور، هو وضع الواضع اللفظ للمعني، و بما انّ الوضع أمر اعتباري تكون العلقة الحاصلة بين اللفظ و المعني كذلك غير انّهم اختلفوا في تفسير حقيقة ذلك الأمر الاعتباري.

فذهب المحقّق النهاوندي(المتوفّي 1317ه) إلي أنّ حقيقة الوضع ليس إلاّ التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعني، و تبعه عدّة من الأعلام منهم المحقّق الخوئي، قال: الوضع عبارة عن الالتزام النفسي بإبراز المعني الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص. (1)

يلاحظ عليه :مضافاً إلي استلزامه أن يكون كلّ مستعمل واضعاً لصدق

ص: 43


1- . أجود التقريرات:1/12 و لاحظ المحاضرات:1/48.

حدّه عليه:أنّ التّعهد، أو الالتزام النفسي غير داخل في حقيقة الوضع، بل هو من دواعيه، الخارجة عن حقيقة الشيء، فيكفي في تحقّق الوضع »جعل اللّفظ في مقابل المعني« بداعي الانتقال إليه عند التكلّم كما هو الحال في سائر الدوال كالعلامات الرائجة لإدارة المرور، فلا فرق بين وضع الألفاظ و نصب العلامة علي رأس الفرسخ، فالوضع في الجميع علي نسق واحد، فليس عمل ناصب العلامة علي رأس الفرسخ إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه من دون تعهّد منه.

و يدلّ علي ذلك انّ الملموس في المجامع العلمية المختصة لوضع الألفاظ للمعاني المستحدثة، غير ذاك فانّ الأخصّائيّين من علماء اللغة، ليس لهم شأن إلاّ تعيين الألفاظ في مقابل المعاني، و لا يخطر ببالهم عند الوضع غير هذا، و أمّا التزام الواضع بأنّه متي أراد تفهيم المعني، يتكلّم بهذا اللّفظ فهو من دواعي الوضع و ليس نفسَه و لا جزءه.

فالحقّ أن يقال: إنّ وضع الألفاظ للمعاني، أمر اعتباري يُعلم كنهه من حال سائر العلامات و الدوال التي تضعها إدارة المرور للانتقال إلي وظائف خاصة، ككون الدخول في الشارع مجازاً أو ممنوعاً، فإنّ ماهية جعل تلك الدوال ليس إلاّ جعلها للانتقال إلي مقاصد خاصة، فيكون وضع الألفاظ أيضاً من هذه المقولة، و يعرف بأنّها »جعل اللفظ في مقابل المعني« بداعي الانتقال إليه عند سماعه; أو تعينه علامة علي المعني بسبب كثرة الاستعمال. و الأوّل كما في الوضع التعييني،و الثاني كما في الوضع التعيّني.

ثمّ إنّ وضع اللفظ في مقابل المعني أو استعماله فيه بداعي الوضع كما إذا قال: ائتني بولدي الحسن بداعي تسميته به عمل اختياري صادر من الفاعل المختار الذي لا يرجِّح أحد الطرفين إلاّ بمرجّح.

و امّا ما هو المرجّح لاختيار لفظ

ص: 44

خاص علي سائر الألفاظ فيختلف حسب اختلاف المقامات.

لكن التتبع يكشف عن انّه يُستند في تسمية الحيوانات إلي أصواتها كالهدهد، و البوم، و الحمام، و العصفور، و الهرة.كما يستند في حكاية الأفعال و الحركات إلي أصواتها كالدقّ و الدكّ و الشقّ و الكسْر، و الصرير، و الدَّويّ و النهيق. و لأجل ذلك يمكن أن يقال: إنّ كلّ إنسان في الأدوار السالفة، كان ينتخب لإبراز ما في ضميره ألفاظاً يري مناسبة خيالية أو وهمية بينها و بين معانيها، كالمشابهة في الشكل و الهيئة و غير ذلك من المناسبات ، فها هو لفظ الهيولي يستعمله العرف الخاص في الموجود المُخيف و المَهيب لمناسبة يري بين اللّفظ و المعني.

و قد جرّبنا ذلك في بعض الأطفال فرأيناهم يخترعون لبعض الأشياء و المعاني عند الحكاية عنها ألفاظاً مهملة، لمناسبة خيالية بينهما عندهم، و ربما يكون هذا هو السرّ لتكثّر الألفاظ و تكامل اللغة من دون أن يكون هناك وضع تعييني، و لعلّ هذا هو مقصود من قال بوجود العلقة بين اللفظ و المعني لا ما هو المعروف عن قائلها من رابطة ذاتيّة بينهما فلاحظ.

في أقسام الوضع

اشارة

إذا كان الوضع بمعني »جعل اللّفظ في مقابل المعني« فلا بدّ حينَه من تصوّر اللفظ أوّلاً، و المعني ثانياً، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فله أقسام:

1. الوضع العام و الموضوع له العام

و هو أن يتصوّر المعني الكلّي بلا واسطة و يضع اللّفظ عليه، كوضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق.

2. الوضع الخاص و الموضوع له الخاص

و هو أن يتصوّر المعني الجزئي مباشرة و يضع اللّفظ عليه كما في الأعلام.

ص: 45

3. الوضع العام و الموضوع له الخاص

و هو أن يتصوّر المعني الجزئي من خلال العنوان الكلّي المنطبق عليه، كتصوّر المعاني الجزئية للابتداء من خلال تصوّر مفهوم الابتداء الكلّي و يضع اللّفظ علي مصاديقه.

4. الوضع الخاص و الموضوع له العام

و هو أن يتصوّر المعني الكلّي من خلال تصوّر الفرد و يضع اللّفظ علي المعني الكلّي.

لا شكّ في وقوع الأوّلين، إنّما الكلام في الثالث و الرابع فقد ذهب المحقّق الخراساني إلي إمكان الثالث و امتناع الرابع، و قال في وجههما ما هذا توضيحه:

إنّ العام باعتبار انّه كلي يصلح لأن يكون مرآة لأفراده و آلة للحاظ مصاديقه لوضوح كون العام حاكياً عن المصاديق التي تحته و عندئذ يصحّ أن يتصور الواضع المفهوم العام و يجعله مرآة لأفراده التي يشملها ثمّ يضع اللفظ بإزاء تلك الأفراد.

مثلاً: إذا تصوّر الواضع »المفرد المذكر« علي النحو الكلّي من دون لحاظ الخصوصيات و مشخصات الأفراد، ثمّ وضع لفظ »هذا« لكلّ فرد و مصداق من ذلك الكلي فعندئذ يكون الوضع عاماً لكون الملحوظ عاماً و الموضوع له خاصاً لانّ المفروض انّه عبارة عن الأفراد الخارجية و المصاديق العينيّة.

هذا في الوضع العام و الموضوع له الخاص، و أمّا القسم الآخر أي الوضع الخاص و الموضوع له العام، فوجه امتناعه انّ الملحوظ إذا كان خاصاً(كزيد) فهو بما انّه متشخص بخصوصيات، لا يصدق إلاّ علي مصداق واحد و لا يحكي عن المعني العام، حتّي يوضع اللفظ بإزاء ذلك المعني العام.

مثلاً: إذا تصوّر الواضع مفهوم »زيد« الذي هو علم لشخص معيّن فلا يتصور أن يضع لفظ الإنسان إزاء المعني العام كالحيوان الناطق بواسطة ذلك

ص: 46

الملحوظ الخاصّ لانّه لا يحكي عن المعني العام حتّي يوضع اللفظ له، و من المعلوم انّ الواضع ما لم يتصور الموضوع له بنحو من الأنحاء لا يمكن له أن يضع اللفظ بإزائه.

يلاحظ عليه: بانّ الخاص بما هو خاص كما لا يكون مرآة للعام و لا يمكن تصوره من خلال تصور الخاص، كذلك لا يمكن تصور الخاص من خلال تصوّر العام و ذلك لأنّ العام لم يوضع إلاّ لنفس الحقيقة المعرّاة من كلّ قيد و شرط، فعندئذ كيف يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات و الجزئيات؟ فإنّ المرآتية فرع الوضع و المفروض انّه وضع للمعرّاة عن الخصوصية.

و بذلك ظهر انّه لا فرق بين الثالث و الرابع في امتناع الحكاية و المرآتية، فالعام لسعته لا يحكي عن الجزئيات، و الخاص لضيقه لا يحكي عن الحقيقة المجرّدة المعرّاة عن كلّ قيد.

و الحقّ أن يقال: إنّ القسمين مشتركان في الامتناع علي وجه و في الإمكان علي نحو آخر، فلو قلنا بأنّه يشترط أن يكون الملحوظ عند الوضع حاكياً عن الموضوع له، و مرآة له فهو غير ممكن في القسمين لما عرفت انّ عنوان العام كالإنسان لا يحكي إلاّ عن حيثية الإنسانية دون ما يقارنها من العوارض و الخصوصيات لخروجها عن حريم المعني الكلي، و الحكاية فرع الدخول في الموضوع له.

كما انّ عنوان الخاص كزيد بما انّه متشخّص في فرد خاص لا يمكن أن يكشف عن الماهية المعرّاة المجرّدة.

و أمّا لو قلنا بأنّه يكفي في الوضع، الانتقال إلي الموضوع له بأي نحو تحقّق فالظاهر إمكان كليهما، فإنّ الانتقال من تصوّر العام إلي تصوّر مصاديقه أو بالعكس أمر ممكن، فإنّ التداعي ليس رهن الحكاية بل ربما ينتقل الإنسان من

ص: 47

الضدّ إلي الضدّ الآخر.

و الظاهر انّه لا يتوقف الوضع علي الحكاية و المرآتية بل يكفي العنوان الإجمالي المشير إلي الموضوع له فيكون القسمان كالأوّلين من الأقسام الممكنة.

انقسام الوضع إلي شخصيّ و نوعيّ

قد تقدّم انّ الوضع يتوقّف علي لحاظ اللّفظ أوّلاً و لحاظ المعني ثانياً، و قد عرفت الثاني علي وجه التفصيل، و أمّا الأوّل فربما يكون اللّفظ ملحوظاً بشخصه، فيكون الوضع شخصياً كوضع الأعلام، و ربما يكون ملحوظاً بعنوان كلّي ينطبق عليه و علي غيره فيكون الوضع نوعياً و هذا كأسماء الفاعلين و المفعولين و غيرهما. فانّ هيئة الفاعل وضعت لمن قام به الفعل بنحو من الأنحاء، و لكن الموضوع ليس هو الهيئة الشخصية القائمة بمادة »فعل« بل الهيئة النوعية المتحقّقة فيها و في غيرها، و ذلك لأنّ إحضار تمام المواد عند وضع الهيئة أمر صعب للغاية فتوضع الهيئة في ضمن مادة خاصة كفاعل و نحوه و لكن يراد منه كلّ ما كان علي هذه الهيئة في ضمن أيّة مادّة تحققت.

ص: 48

الأمر الرابع: في المعاني الحرفية

يقع الكلام في الحروف في موضعين:

1. ما هو معانيها و مفاهيمها؟ 2. في كيفية وضعها.

أمّا الأوّل فقد عُرِّف المعني الحرفي بما ذكره ابن الحاجب في »كافيته« حيث قال: الاسم ما دلّ علي معني في نفسه، و الحرف ما دلّ علي معني في غيره.

و المراد من قوله»ما دلّ« هو اللفظ، و الضمير في كلّ من: »في نفسه« و »في غيره« يرجع إلي المعني، و انّه في حدّ ذاته علي قسمين:

قسم يكون مفهوماً محصَّلاً في نفسه، لا يتوقّف تصوّره في الذهن إلي معني آخر.

و قسم يكون مفهوماً متحقّقاً في الذهن بتبع غيره.

»فمعاني الأسماء معان مستقلة ملحوظة بذواتها، و معاني الحروف معان آلية حيث إنّها تلحظ بنحو الآلية و المرآتية لملاحظة غيرها«.

توضيحه: إنّ الغاية من وضع الألفاظ سواء أ كان بالوضع التعييني أو التعيّني، هي رفع الحاجة و إظهار ما يقوم في النفس من المفاهيم و المعاني التي ينتقل إليها الذهن من طرق الحواس و غيرها من أدوات المعرفة و لمّا كانت النشأة

ص: 49

الخارجية علي أقسام، كانت المفاهيم المتّخذة منها علي غرارها، ذاتَ أقسام.

إنّ الإنسان إذا أجال نظره في صحيفة الوجود يجد انّ ثمّة أقساماً من الحقائق:

الأوّل: ما هو مستقل ذاتاً و ماهية، كما هو مستقل خارجاً و وجوداً، كالجواهر كلّها. و هذا ما يعبر عنه ب »ما وجوده في نفسه لنفسه« و يشير قولهم:» في نفسه« إلي كونها ذات مفاهيم مستقلة، كما يشير قولهم:»لنفسه« إلي كونها غير ناعتة علي خلاف الأعراض المتأصّلة.

الثاني: ما هو مستقل ذاتاً و ماهية، غير مستقل خارجاً و وجوداً و هذا كالأعراض مثل البياض و السواد، فانّ لكلّ مفهوماً مستقلاً، فيعرّف الأوّل بأنّه نور مفرّق لنور البصر، و الثاني بأنّه نور قابض لنور البصر لكنّه غير مستقل في عالم الوجود حيث لا يوجد إلاّ في الموضوع.

الثالث: ما هو غير مستقل ذاتاً و وجوداً، فهو اندكاكيّ المعني كما هو اندكاكيّ الوجود، فمفهومه فان في غيره كما أنّ وجوده في الخارج كذلك. و هذا ما يسمّي ب»الوجود الرابط« و»المعني الحرفي« فهو لا يتصوّر إلاّ تبعاً للمعني الاسمي، كما لا يتحقّق إلاّ مندكاً في الغير، و هذا نظير قولنا: زيد في الدار، فكلّ من »زيد« و»الدار« من المعاني الاسمية أمّا كونه فيها من المعاني الحرفية، إذ لا يتصوّر الكون إلاّ مضافاً إلي زيد و الدار، كما لا يتحقّق إلاّ بهما، فالكون قائم بهما تصوّراً و خارجاً، و لو أردنا إضفاء الاستقلالية لهذا المعني الحرفي لزم انسلاخه عن حقيقته، فالمعني الحرفي من أضعف مراتب الوجود.

و بما انّ وضع لفظ لمعني يتوقف علي تصوّره، و المعاني الحرفية لا يمكن تصوّرها و إلاّ لا نسلخ عن المعني الحرفي و انقلب إلي المعني الاسمي، فيُحتال في مقام الوضع، بملاحظة المعاني الاسمية كالابتداء و الانتهاء و يوضع اللّفظ لا

ص: 50

بإزائها بل بإزاء مصاديقها الخارجية التي هي معان حرفية.

فلفظة »مِن« موضوعة لمصداق الابتداء لا لمفهوم الابتداء الكلّي و إلاّ ينقلب المعني الحرفي اسمياً، فالمحكيّ بلفظة »من« في قولك: »سرت من الكوفة إلي البصرة« ليس هو مفهوم الابتداء بل مصداقه الخارجي الذي لا يتحقّق إلاّ بطرفيها، أعني: »السير«و »الكوفة«. (1)

نعم هناك حروف ربما لا تنطبق عليها ما ذكرنا من الضابطة، و هذا نحو »واو« الاستئناف و»تاء« التأنيث في »ضربتْ« و »قد« في الفعل الماضي، فالأولي عدّها علامات لا حروفاً.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

و أمّا الثاني، أعني كيفية وضعها، فقد ظهر ممّا ذكرنا انّ وضع الحروف من قبيل الوضع العام و الموضوع له الخاص، فانّ الواضع لاحظ المعني الاسمي، فوضع اللّفظ بإزاء مصاديقه التي هي معان حرفية.

فإن قلت: إذا كان الملحوظ معني اسمياً فلا بدّ أن يكون مصداقه أيضاً كذلك، فحينئذ كيف يصحّ أن يقال»انّ الواضع لاحظ المعني الاسمي و وضع اللفظ بإزاء مصاديقه التي هي معان حرفية مع انّ مصداق كلّ شيء بحسبه.

قلت: انّ المعاني الاسمية علي قسمين:

1. ما يتمتع بالاستقلال تصوراً و مصداقاً، لحاظاً و تطبيقاً و ذلك كاسماء الأجناس مثل الإنسان فله مفهوم مستقل كما انّ له مصداقاً كذلك عند التطبيق علي الخارج.2.

ص: 51


1- . و ما ذكرناه هو المعروف بين الأُدباء في معاني الحروف، و هناك نظريات أُخري كنظرية المحقّق الرضي في شرح الكافية:10، ط مصر، التي اختارها المحقّق الخراساني، و نظرية المحقّق صاحب الحاشية، و نظرية المحقّق النائيني و تلميذه المحقّق الخوئي و قد بسطنا الكلام في نقد هذه النظريات في محاضراتنا المدونة باسم »المحصول«:681/62.

2. ما يتمتع بالاستقلال في مقام التصور و اللحاظ دون التطبيق علي الخارج و ذلك كمفهوم الابتداء أو الانتهاء فانّهما من المفاهيم الاسمية فيخبر عنهما كما يخبر بهما و يقال: الابتداء خبر من الانتهاء، و لكنّهما عند التطبيق لا ينطبقان إلاّ علي الموجود القائم بالغير المندك فيه، من السير و القراءة و الكتابة و غيرها و هذه خصيصة هذا القسم من المعاني الاسمية.

فالابتداء عند اللحاظ و التصور يتجلي بصورة مفهوم اسمي و عند التطبيق علي الخارج يتحقّق في معني قائم بالغير، كالابتداء المندك في السير إلي البصرة و غيره.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا حاول الواضع أن يضع لفظاً لمصاديق الابتداء و الانتهاء فلا محيص له من تصور تلك المصاديق و لو إجمالاً فعندئذ يلاحظ تلك المصاديق من خلال ذينك المفهومين الاسميين و يقول:

وضعت لفظة »مِن« أو لفظة «إلي« لما ينطبق عليه لفظ الابتداء أو يصدق عليه الانتهاء في الخارج.

فاتضح بما ذكرنا أمران:

1. انّه ربما يكون المفهوم اسمياً، و ما ينطبق عليه معني حرفياً.

2. انّ الواضع في وضع الحروف يلاحظ الحقائق الحرفية من خلال المفاهيم الاسمية.

ثمّ إنّ المعاني الحرفية علي قسمين:

1. معان حاكية. 2. معان ايجادية.

فالقسم الأوّل يحكي عن معني متحقق في الخارج، مثل قولك: سر من البصرة إلي الكوفة.

و القسم الثاني موجد للمعني بنفس الاستعمال، كالنداء و الخطاب في قولك: يا زيد أو قوله سبحانه:

( إِيّاكَ نَعْبُدُ (1) ).

ص: 52


1- سوره 1 - آيه 5

الأمر الخامس: في علامات الوضع

اشارة

ذكر المشهور لتمييز الحقيقة عن المجاز علامات نذكر منها ما يلي:

الأوّل: التبادر

إنّ سبق المعني من اللّفظ إلي الذهن بلا قرينة ، دليل علي أنّه هو الموضوع له، و المعني المجازي و إن كان ينسبق إليه أحياناً لكنّه يتبادر بمعونة القرينة.

و قد أُشكِل علي كون التبادر علامة الوضع بالدور و حاصله:

انّ العلم بالوضع متوقّف علي التبادر، و هو متوقّف علي العلم بالوضع، إذ لو لا العلم بأنّ اللّفظ موضوع لذلك المعني، لما تبادر.

و الجواب: انّ المراد من التبادر في المقام، هو التبادر عند المستعلم الذي هو من أهل اللسان و قد نشأ بينهم منذ نُعومة أظفاره إلي أنّ شبّ و شاب، و عندئذ العلم التفصيلي بالوضع موقوف علي التبادر عند ذاك الشخص، و لكنّ التبادر عنده غير موقوف علي ذلك العلم التفصيلي، بل يكفي العلم الإجمالي الارتكازي للوضع حيث إنّ المستعلم من أهل اللغة، له علم بالوضع منذ نشأ بين أهل اللّسان و إن لم يكن ملتفتاً إلي علمه هذا و بالجملة: العلم التفصيلي بالوضع موقوف علي التبادر، و التبادر موقوف علي العلم الارتكازي الحاصل للإنسان

ص: 53

الناشئ بين أهل اللغة من لدن صباه و إن كان غير ملتفت إلي علمه بالوضع.

و هذا النوع من العلم الإجمالي لا صلة له بالعلم الإجمالي المبحوث عنه في باب البراءة و الاشتغال.

هذا إذا كانت الحجّة للمستعلم تبادرَ نفسه الذي هو من أهل اللسان و أمّا إذا كانت الحجّة للمستعلم، تبادرَ الغير فهو كما إذا كان المستعلم من غير أهل اللسان و رأي أنّه كلّما يطلق الماء يتبادر عند بعض أهل اللسان، الرطب السيّال، فهو أيضاً غير مستلزم للدور، لأنّ العلم التفصيلي للمستعلم متوقّف علي التبادر بين بعض أهل اللسان، و التبادر لديه يتوقّف علي علمه الارتكازي بكون اللّفظ موضوعاً لذلك المعني. و يحصل ذلك العلم الارتكازي له بنشوئه بين أهل اللسان منذ صباه. (1)

الثاني: صحة الحمل

إنّ من علامات الوضع صحّة الحمل، توضيحه:

ص: 54


1- . و ربما يجاب عن الدور بأنّه لا محل له أساساً، لأنّه مبني علي افتراض انّ انتقال الذهن إلي المعني من اللّفظ فرع العلم بالوضع مع أنّه فرع نفس الوضع أي وجود عملية القرن الأكيد بين تصوّر اللّفظ و تصوّر المعني في ذهن الشخص، فالطفل الرضيع الذي اقترنت عنده كلمة »ماما« برؤية أُمّه، يكفي نفس هذا الاقتران الأكيد ليتصوّر أُمّه عند ما يسمع كلمة »ماما« مع أنّه ليس عالماً بالوضع إذ لا يعرف معني الوضع.1 يلاحظ عليه: أنّه ليس شيئاً جديداً بل هو عبارة أُخري عن العلم الارتكازي بالوضع، فإنّ مرجع اقتران كلمة »ماما« برؤية الأُمّ، في حياته إلي علمه الارتكازي بالوضع فانّ التقارن الممتد بين لفظ »ماما« و رؤية الأُمّ، يورث الملازمة بينهما عند الطفل فإذا سمع الأوّل من دون الرؤية ينتقل إلي الثانية بلا اختيار، و هذا هو المراد من العلم الارتكازي بالوضع. 1. دروس في علم الأُصول، الحلقة الثانية: 86.

إنّ الحمل علي قسمين:

1. حمل أوّلي ذاتي، و هو عبارة عن الوحدة بين المحمول و الموضوع مفهوماً، كما إذا قيل: الحيوان الناطق إنسان.

2. حمل شائع صناعي، و هو عبارة عن اختلاف الموضوع و المحمول مفهوماً و الاتحاد مصداقاً و وجوداً، كما إذا قلنا: زيد إنسان.

إذا أردنا أن نتعرف علي أنّ لفظ الإنسان هل هو موضوع للحيوان الناطق، فنجعل المعني موضوعاً، و اللّفظ الذي بصدد استعلام حاله محمولاً، فنقول: الحيوان الناطق إنسان، فنستكشف عن صحّة الحمل مفهوماً، كون الثاني موضوعاً للمعني المفروض، أعني: الحيوان الناطق. و بعبارة أُخري: نجعل ما نتصوّر انّه معني، موضوعاً للقضية و ننظر إليه بما انّه معني محض ليس معه لفظ، و نجعل اللّفظ الذي نريد تبيين معناه محمولاً، فيقال: الحيوان المفترس، أسد.

هذا إذا كان اللّفظ و المعني متميّزين كما في المثالين، و أمّا إذا لم يكن كذلك كما في المترادفات التي يصلح أن يكون كلّ مبيّناً و موضحاً للآخر، فيجعل المعلوم موضوعاً و المبهم محمولاً، و يقال: المطر هو الغيث و إن جاز العكس.

فكما أنّ صحّة الحمل آية الوضع، فكذلك صحّة السلب آية عدمه، كما إذا قال: الرجل الشجاع ليس بأسد.

هذا كلّه حول الحمل الأوّلي، و أمّا الحمل الشائع الصناعي فيجعل المصداق موضوعاً و اللفظ الذي بصدد استعلام حاله محمولاً و يقال:زيد إنسان، لكنّه لا يثبت به كون الموضوع هو الموضوع له للمحمول، و إنّما يُثبت كونه من مصاديق المعني الذي وضع له المحمول.

فتحصل من ذلك انّ الحمل الأوّلي يثبت كون المعني هو الموضوع له، لكن الحمل الثاني يثبت انّه مصداق للمعني الذي وضع له اللّفظ.

ص: 55

ثمّ إنّه أورد علي كون صحّة الحمل علامة بأُمور نذكر منها أمرين أحدهما في المتن و الآخر في الهامش:

الأوّل: انّ الاستكشاف و الاستعلام حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع السابق علي الحمل، فيكون إسناده إلي الحمل في غير محلّه. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه إنّما يرد إذا كان المستعلم عن طريق صحّة الحمل من أهل اللسان، فيتقدم التبادر عنده علي صحّة الحمل دون ما إذا لم يكن من أهله فليس عنده تبادر حتي يتقدم علي صحة الحمل، و من صحّ عنده الحمل، بما انّه ليس بصدد استكشاف المعني، غافل عن تبادره.

و ثانياً: سلمنا انّ المستعلم من أهل اللسان لكنّه إنّما يرد إذا كان زمان الاستكشاف مقارناً لزمان الحمل فيسبقه التبادر و يغني عن غيره.و أمّا إذا كان زمان الحمل مقدماً علي زمان الاستكشاف كما إذا ألقي محاضرة و اشتملت علي أحد الحملين من دون أن يكون بصدد استكشاف المعني الموضوع له، ثمّ صار بصدد الاستكشاف فرجع إلي خطاباته و محاضراته و رأي أنّ حمل المحمول بما له من المعني الارتكازي علي الموضوع متلائم جداً، فيستكشف انّ الموضوع الذي حمل عليه اللّفظ، هو المعني الحقيقي. (2)7.

ص: 56


1- . تهذيب الأُصول: 1/58.
2- . الثاني: ما يقال انّ صحّة الحمل إنّما تكون علامة علي كون المحمول عليه، هو نفس المعني المراد في المحمول أو مصداق المعني المراد، امّا انّ هذا المعني المراد في جانب المحمول هل هو معني حقيقي للّفظ أو مجازي؟ فلا سبيل إلي تعيين ذلك عن طريق صحّة الحمل، بل لا بدّ أن يرجع الإنسان إلي مرتكزاته لكي يعيّن ذلك.(1) يلاحظ عليه: هذا الشرط أنّ كون المعني المراد في جانب المحمول معني حقيقي، حاصل و ذلك من خلال كون الحمل عارياً عن كلّ شرط و يكفي هذا في كون المعني حقيقياً، بخلاف المعني المجازي فلا يصحّ الحمل إلاّ مع شرطين: الأوّل: وجود الادّعاء المصحّح للاستعمال، و انّ هذا هذا أو من مصاديقه. الثاني: كون المقام مناسباً لإعمال الادّعاء دون ما إذا لم يكن. و هذان الشرطان متوفران في قوله سبحانه:( وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ )(يوسف:31) حيث تخيّل للنساء الجالسات انّ فتي امرأة العزيز قد ارتقي من الجمال بمكان صيَّره ملكاً. و بما انّ المفروض كون الحمل فاقداً لكلّ من الشرطين يثبت كون المعني المراد في جانب المحمول معني حقيقياً. 1. دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية: 87.

الثالث: الاطراد

الاطراد هو العلامة الثالثة و قد قرر بالنحو التالي:

إذا اطرد استعمال لفظ في أفراد كلّي بحيثية خاصة، كرجل باعتبار الرجولية في زيد و عمرو مع القطع بعدم تعدّد الوضع، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها و بين ذاك الكلّي، و علم أنّه موضوع للطبيعي من المعني.

و احتمال كونه مجازاً لأجل وجود العلاقة، مدفوع بعدم الاطراد في علائق المجاز، فانّ علاقة الجزء و الكلّ ليست مطردة بشهادة انّه يصحّ استعمال »العين« في المراقب و لا يصحّ استعمال الشعر فيه، و يصحّ استعمال اللسان في الوكيل دون الصدر فيه و غير ذلك.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه:

1. انّ المجاز و إن لم يطرد في نوع علائقه و مطلق المشابهة، إلاّ أنّه في خصوص ما يصحّ معه الاستعمال في المجاز مطرد كالحقيقة، فاستعمال الجزء في الكلّ مطرد في خصوص ما إذا كان للجزء دور خاص في المورد، كالمراقبة في العين، و التبيين في اللسان، و العمل في اليد. (1)

ص: 57


1- . كفاية الأُصول: 1/28 29.

يلاحظ عليه: أنّ المجاز غير مطرد حتي في صنف العلاقة الذي وصفه لما عرفت من أنّ صحّة المجاز وراء العلاقة قائمة بأمرين:

أ. حسن الادّعاء.

ب. كون المقام مناسباً لإظهار هذا الادّعاء.

و علي ذلك فالمجاز غير مطرد حتي في صنف العلائق بل يتوقّف مضافاً إلي صنف العلاقة علي توفُّر الشرطين المذكورين و لذا لا يصحّ استعمال الأسد في الرجل الأبخر لعدم حسن الادّعاء، كما لا يصحّ نداء الرجل الشجاع بلفظ يا أسد إذا لم يكن المقام مناسباً لإظهار الادّعاء كما إذا كان النداء لأجل تناول وجبة طعام.

هذا كلّه حول تقرير القوم.

و لكنّ التحقيق انّ العلامة المفيدة التي يدور عليها كشف الحقيقة و تمييزها عن المجاز هو هذه العلامة و لكنّ القوم أنار اللّه برهانهم لم يعطوا للمسألة حق النظر، و لو أمعنوا فيها لأذعنوا بأنّه من أنجع العلائم و أشملها، و ذلك انّ الجاهل باللغة إذا أراد أن يعرف معاني اللغات الأجنبية من أهل اللسان، فليس له طريق إلاّ الاستماع في مقامات مختلفة لمحمولات عديدة علي موضوع واحد، كما إذا رأي أنّ الفقيه يقول: الماء طاهر و مطهّر، أو قليل أو كثير، و الكيمياوي يقول: الماء رطب سيال، و الفيزياوي يقول: الماء لا لون له، و رأي اطراده في الموضوع الخاص، يحدس انّ اللفظ موضوع علي ما استعمل فيه في هذه الموارد، لأنّ المصحّح:

إمّا الوضع أو العلاقة، و الثاني لا اطراد فيه و المفروض انّه مطرد فتعين الأوّل.

و هذا هو الطريق الرائج في تحصيل معاني اللغات، و علي ذلك بُني منهج التفسير البياني في تحقيق كلمات الذكر الحكيم، حيث يتتبَّع موارد استعمال اللفظ

ص: 58

في القرآن إلي استخراج المعني الحقيقي له.

و قد ذكرنا لذلك مثالاً في الموجز (1) فلاحظ.

الرابع: تنصيص أهل اللغة

قد ذكروا انّ تنصيص أهل اللغة من أسباب التعرّف علي الوضع و تمييز الحقيقة عن المجاز.

و قد استشكل عليه بانّ ديدن أهل اللغة بيان المستعمل فيه لا الموضوع له، فتري أنّهم يذكرون للفظة القضاء معاني عشرة و للوحي معاني كثيرة مع أنّهما ليسا من المشترك اللفظي، فلا يكون تنصيص أهل اللغة علامة للوضع.

أقول: إنّ علماء الأُصول لم يُولوا هذا الموضوع أهمية نظيره في الاطراد، و يعلم ذلك من خلال النقاط التالية:

1. انّ المعاجم و القواميس ليست علي نحو واحد، فليس الجميع علي ما وصفوه من ذكر موارد الاستعمال، بل هناك مَنْ تطرّق إلي تمييز المعني الحقيقي عن المجازي، و المعني الأصلي عن المعاني المتفرعة منه، و قد ألّف علي هذا المنوال كتاب المقاييس لأحمد بن زكريا(المتوفّي 395ه) و أساس البلاغة للزمخشري(المتوفّي 538ه)، فالكتابان يعدّان من أحسن ما أُلّف في هذا الباب.

2. انّ الإمعان في المعاجم المعروفة المتداولة التي تتكفل لبيان موارد الاستعمال ربما يوصل الإنسان الذكي إلي تمييز المعني الحقيقي عن المجازي شريطة أن يكون له ذوق لغوي و فطانة خاصة، مثلاً: إذا رجع إلي »القاموس« يري انّه ذكر للفظ القضاء معاني عشرة و للوحي معاني متنوعة، لكن لو أمعن النظر

ص: 59


1- . الموجز:1312.

يقف علي أنّ الجميع صور مختلفة لمعني واحد و هو إتقان العمل، في مورد القضاء، و الإفهام بخفاء في مورد الوحي، و الباقي صور لهذين المعنيين، و لذلك يجب علي الفقيه، ممارسة المعاجم و مطالعتها مع ما فيها من الخلل كمطالعة الكتب الفقهية و الأُصولية حتي يخالط علمُ اللغة دمَه و لحمَه، عندئذ يتسنّي له القضاء في اللغة و يميّز المعني الحقيقي عن المجازي كما هو ديدن الأوائل من علمائنا كالصدوق و المفيد و المرتضي و الطوسي و الطبرسي، فكانوا ذوي باع طويل في اللغة قبل أن يكونوا فقهاء.

3. انّ الأوائل من مدوني اللغة كالخليل بن أحمد الفراهيدي(المتوفّي 170ه) و الجوهري(المتوفّي 299ه) قد أخذوا كثيراً من المعاني من ألسن سكّان البوادي الذين قطنوا الجزيرة العربية، فإذا أخبر الخليل في كتاب العين عما سمعه من سكان البوادي، يُصدَّق كما يصدَّق قوله في النحو و الصرف و العروض و غيرها من العلوم العربية.

ص: 60

الأمر السادس: الجمل الإخبارية و الإنشائية

ذهب مشاهير الأُدباء و الأُصوليين إلي أنّ دور الصيغ الإنشائية هو دور الإيجاد لمعانيها فإذا قال:

زوّجت، فقد أوجد علقة الزوجية بين الزوجين، و إذا قال: بعت بقصد الإنشاء، فقد أوجد علقة الملكية بين البائع و المشتري، و إذا قال: هل قام زيد؟ فقد أنشأ استفهاماً بالحمل الشائع، إلي غير ذلك من الجمل الإنشائية بخلاف الجمل الإخبارية فإنّها بصدد الإخبار عن واقع المعاني المتحقّقة مع قطع النظر عن اللّفظ من دون أن تكون فيها رائحة الإنشاء و الإيجاد.

و إن أردت التشبيه فلاحظ معاني الحروف فانّ قسماً منها حاك عن معني متحقّق في الخارج، كما إذا قال: سرت من البصرة إلي الكوفة، فالحرفان مشيران إلي الابتداء و الانتهاء الآليين المتحقّقين في الخارج قبل تكلمه.

كما أنّ قسماً منها موجد للمعني من دون أن يكون له واقع وراء الاستعمال كما هو الحال في الخطاب و النداء، فإذا قال: يا زيد، فقد أوجد نداءً و خطاباً بنفس الاستعمال. و هكذا الجمل فهي بين إخبارية تحكي عن شيء وراء الاستعمال، و إنشائية موجدة للمعني بنفس النطق بها.

ص: 61

هذا هو المشهور، و لأجل المزيد من التوضيح، نقول:

إنّ الزوجية و الملكية و الرئاسة مفاهيم اجتماعية تدور عليها رحي الحياة، إنّما الكلام في كيفية اعتبارها أوّلاً، ثمّ إنشائها و إيجادها في عالم الاعتبار ثانياً.

نقول: إنّ الإنسان إذا نظر إلي صحيفة الوجود رأي أنّ هناك أشياء مزدوجة يُعدّ كل منها عدلاً للآخر تكويناً ، كالعينين و الأُذنين و الرجلين ، هذا من جانب و من جانب آخر رأي انّ بين الرجل و المرأة تجاذباً جنسيّاً و عاطفيّاً علي نحو تقتضي حالهما أن يجعل كلٌّ عِدلاً للآخر.

و هذا ما يدعو المقنِّن إلي تصوير الرجل و المرأة كالزوجين التكوينيين يتساهمان في الحياة. لكن الزوجية الاعتبارية كالزوجية التكوينية بحاجة إلي جعل متناسب لها، فالزوجية التكوينية لها عامل تكويني يؤثر في خلق الأُذنين و اليدين و أمّا الزوجية الاعتبارية فلا بدّ لها من عامل اعتباري يُضفي للرجل و المرأة وصف الزوجية انشاءً و اعتباراً و لها أسباب و أدوات، أوضحها هي الألفاظ التي يستعان بها علي الجعل و الإيجاد في ظرف الاعتبار.

و منه يعلم حال سائر الأُمور الاعتبارية التي تنشأ بالألفاظ، فمثلاً انّ الملكية الاعتبارية استنساخ للملكية التكوينية للإنسان بالنسبة إلي سائر أعضائه فيري نفسه مالكاً لأعضائه ملكية تكوينيّة فتكون مبدأً لاعتبارها في غير واحد من الموارد، كاعتبار المقنّن كون البائع مالكاً للثمن مقابل ما دفع إلي المشتري من المثمن.

و بالعكس غير انّ هذا الاعتبار، أمر ذهني لا يعتبر عند العقلاء إلاّ بإيجادها في خارج الذهن بسبب من الأسباب أوضحها قولهما: بعت و اشتريت.

و بذلك يعلم أنّ الأُمور الاعتبارية المنشأة لها جذور في التكوين فيقتبس المقنِّن ما هو الموجود في التكوين و يعتبره في عالم الاعتبار بين الزوجين أو بين

ص: 62

المالين، و هكذا سائر الأُمور الاعتبارية.

كما يعلم أنّ الإنشائيات لا توصف بالصدق أو الكذب، و ذلك لأنّ الجمل الإنشائية وضعت للإيجاد اعتباراً بالاستعمال و المفروض تحقق السبب و يتلوه المسبب.

و ما ذكرناه هي النظرية المعروفة ، و هناك نظريّات أُخري في الفرق بين الإخبار و الإنشاء موكولة إلي دراسات عليا.

ص: 63

الأمر السابع: في الحقيقة الشرعية

إنّ ألفاظ الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ كانت حقائق لغوية في الدعاء و الإمساك و النمو و القصد، غير انّ المتبادر منها في عصر الصادقين(عليهما السلام) بل قبله أيضاً هو المعاني الخاصة، فيقع الكلام في كيفية كونها حقائق في هذه المعاني الثانية، فهناك أقوال أربعة:

القول الأوّل: ذهب أبو بكر الباقلاني(المتوفّي403ه) من أكابر الأشاعرة إلي نفي موضوع البحث، و هو انّ هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغويّة و قد استعملت فيها و طُبِّقت علي مصاديق، كشف عنها الشارع، فالصلاة بالهيئة المخصوصة من مصاديق الدعاء، و الصوم بالنحو المعين من مصاديق الإمساك و أمّا سائر الخصوصيات فقد علمت من دوال أُخر، فهذه النظرية لا تعدّ في الحقيقة قولاً في المسألة لأنّها نافية للموضوع من أساسه.

مضافاً إلي أنّ ادّعاء بقاء الألفاظ في نفس المعاني و انّ المصاديق الفعلية من جزئياتها، من السخافة بمكان، إذ أين الدعاء من الصلاة؟ و اشتمالها علي الدعاء لا يجعلها من مصاديق الدعاء. و مثلها سائر الألفاظ.

القول الثاني: إنّما نقلت في لسان النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) من معانيها اللغوية إلي المعاني

ص: 64

الشرعية بالوضع التعييني أو التعيّني فصارت حقائق في تلك المعاني في عصره.

ثمّ إنّ صيرورتها حقائق شرعية في لسانه يتصوّر لها وجوه ثلاثة:

أ: أن يقوم الشارع بوضعها لها بالوضع التعييني و يخبر الناس بها، و هو بعيد جداً.

ب: حصول الوضع التعيّني بكثرة الاستعمال في عصر الرسول، و هو أمر غير بعيد لطول زمان الرسالة.

ج: الاستعمال بداع الوضع كما إذا احتفلت الأُسرة بتسمية المولود الجديد و الكل ينظرون إلي كبيرهم، فإذا هو يقول: ائتوني بولدي الحسن، فهو بنفس هذا الاستعمال يسمّيه حسناً، و لعل النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)عند ما قال: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي، قام بنفس هذا العمل.

و بالجملة انّ القول الثاني علي الوجهين الأخيرين أمر قريب لو لم يكن هناك وجه أصح.

القول الثالث: إنّها استعملت في لسان النبي في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق فيها في لسان المتشرّعة بعد رحيل الرسول، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.

يلاحظ عليه: أنّ عصر الرسالة لم يكن عصراً قصيراً، فقد كان المسلمون في المدينة المنوّرة يصلّون مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) في أوقات خمسة و المؤذِّن ينادي في كلّ نهار و ليل بقوله:(حيّ علي الصلاة) فهل يمكن لنا عدّ هذه الاستعمالات مجازاً مع طول الزمان؟ فتحصّل من ذلك إنّ القول الأوّل لا يعتدّ به، و القول الثاني أي كونها حقائق شرعيه في عصره أقرب من القول الثالث، و لكنّ هناك قولاً رابعاً هو أقوي

ص: 65

الأقوال و أسدِّها بل هو المتعيّن، و إليك بيانه.

القول الرابع: إنّ هذه الألفاظ كما كانت حقائق في المعاني اللغوية كذلك كانت حقائق في هذه المعاني الشرعية أيضاً قبل بعثة النبي و نزول القرآن عليه، و ذلك لأنّ هذه العبادات لم تكن من ابتكارات الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)، بل كانت موجودة في الشرائع السابقة، و من البعيد جدّاً أن لا يكون في لغة العرب لفظ يعبر عن هذه المعاني و قد كان في الجاهليّة حنفاء يصلّون و يحجّون.

و يشهد علي ذلك أي كون تلك الحقائق موجودة في الشرائع السابقة الآيات التالية:

قال تعالي:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ). (2)

و قال تعالي:( وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (3) ). (4)

و قال تعالي:( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (5) ). (6)

و قال تعالي:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (7) ). (8)

نعم وجود تلك الماهيات قبل البعثة غير كاف إلاّ إذا انضمّ إليه أنّ العرب قبل عصر الرسالة كانت عارفة بها و كانت تعبّر عنها بهذه الألفاظ، إذ من البعيد5.

ص: 66


1- سوره 2 - آيه 183
2- . البقرة:183.
3- سوره 22 - آيه 27
4- . الحج:27.
5- سوره 19 - آيه 30
6- . مريم:3130.
7- سوره 19 - آيه 54
8- . مريم:54و55.

أن لا يكون لها لفظ تشير به إليها.

و يؤيد ذلك انّ النبي كان يعبّر عن هذه الماهيات بهذه الألفاظ في بدء البعثة، و ذلك لأنّ لفظ الصلاة ورد في السور المكية 35 مرة، و كان تشريع الصلاة ليلة المعراج في العام العاشر من البعثة و قد نزلت كثير من الآيات المشتملة علي هذه الألفاظ في أوائل البعثة قبل المعراج، كقوله سبحانه في سورة القيامة:

( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّي * وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّي (1) ) (2). و في سورة المدثر( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (3) ) (4)، و في سورة العلق( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهي * عَبْداً إِذا صَلّي (5) ) (6) و في سورة الأعلي( وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّي (7) ) (8) ، و في سورة الكوثر:( إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (9) ) (10) إلي غير ذلك من الآيات الواردة في بدء البعثة، الشاملة للصلاة و الزكاة الحاكية عن تبادر المعاني الشرعية منها منذ صدع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)بالرسالة.

و أمّا الثمرة فتظهر في الألفاظ الواردة علي لسان النبي بلا قرينة، كما إذا قال: إذا رأيتم الهلال فصلّوا، فعلي القول الثاني يحمل علي الحقيقة المعروفة بخلافه علي القول الثالث.

و أمّا علي القول الرابع فالثمرة معدومة، لأنّها تحمل علي الماهية الشرعية علي كلّ حال و إنّما طرحنا المسألة لأجل إيقاف القارئ علي سير التشريع علي وجه الإجمال.2.

ص: 67


1- سوره 75 - آيه 31
2- . القيامة:31و32.
3- سوره 74 - آيه 43
4- . المدثر:43.
5- سوره 96 - آيه 9
6- . العلق:9و10.
7- سوره 87 - آيه 15
8- . الأعلي:15.
9- سوره 108 - آيه 1
10- . الكوثر:1و2.

الأمر الثامن: هل أسماء العبادات و المعاملات

اشارة

موضوعة للصحيح أو للأعم؟

و يقع الكلام في مقامين: الأول في اسماء العبادات:

و قبل الخوض في المقصود، نقدم أُموراً:

الأوّل: في إمكان جريان النزاع علي عامّة الآراء

إنّ عنوان البحث يعرب عن أنّ الهدف تعيين ما هو الموضوع له لأسماء العبادات عند الشارع فيصح البحث علي أحد المبنيين:

أ: ثبوت الحقيقة الشرعية في لسان الشارع(القول الثاني) في المبحث السابق.

ب: ثبوت الحقيقة العرفية لهذه الألفاظ في الماهيات الشرعية قبل البعثة(القول الرابع).

و أمّا علي القول باستعمالها في لسان الشارع مجازاً و صيرورتها حقائق متشرعة فلا ينطبق عليه عنوان البحث. إلاّ إذا تغيّر عنوانه بأن يقال:هل لاحظ الشارع في استعماله، العلاقة بين المعاني اللغوية، و الماهيات الشرعية الصحيحة أو لاحظ العلاقة بينها و بين الأعمّ من هذه الماهيات.

ص: 68

كما أنّه يجب تغيير عنوان البحث علي القول ببقاء الألفاظ علي معانيها اللغوية و انّ إرادة الخصوصيات حصلت عن طريق الدوال الأُخر،(كما هو خيرة الباقلاني (1) بأن يقال: انّ القرينة التي نصبها الشارع لإفادة الخصوصيات هل كانت دالّة علي إرادة المعني الصحيح أو الأعمّ و يكون الأصل في الاستعمال هو المعني الذي نُصِبت عليه القرينة في هذا الاستعمال بحيث تحتاج إرادة المعني الآخر إلي القرينة.

فتلخّص من ذلك انّ عنوان البحث إنّما يصحّ علي القولين الأوّلين دون الأخيرين إلاّ بتغيير عنوانه.

الثاني: في تفسير الصحّة لغة و شرعاً

قد تطلق الصحّة و يراد بها أحد المعنيين:

1. ما يقابل السقم و المرض، فيقال: صحيح و مريض. و علي هذا فهما أمران وجوديّان، و كيفيّتان عارضتان للشيء باعتبار اتّصافه بكيفية ملائمة أو منافرة.

فالصحيح بهذا المعني يقابله في العبادات و المعاملات الفاسد.

2. ما يقابل المعيب، فيقال: صحيح و معيب، و علي هذا تكون الصحة أمراً وجودياً و ما يقابلها أمراً عدمياً. و الصحّة بهذا المعني يقابلها النقص لا الفساد، هذا هو تفسير الصحّة حسب اللغة.

و أمّا حسب الاصطلاح، فالصحّة تارة تقع وصفاً للعبادة أو المعاملة

ص: 69


1- . هو أبو بكر محمد الطيب بن محمد القاضي المعروف ب»ابن الباقلاني« وليد البصرة، و ساكن بغداد، متكلم علي مذهب أبي الحسن الأشعري معاصر للشيخ المفيد، توفي عام 403ه و له كتاب »اعجاز القرآن« و»التمهيد« و »الانصاف« لاحظ ترجمته في كتابنا »بحوث في الملل و النحل«:3142/311.

المتحقّقة، فتكون نتيجة الصحّة كون العمل الخارجي مطابقاً لما اعتبره الشارع فيهما و يترتب عليه إسقاط القضاء و الإعادة في العبادات، و لزوم الوفاء في المعاملات; و أُخري تقع وصفاً للعنوان الكلّي منهما ،فيقال: ألفاظ العبادات و المعاملات وضعت للصحيح منهما فيكون مفادها في العبادات كون ألفاظها موضوعاً لما تمّت أجزاؤها و كملت شروطها، و في المعاملات علي القول بوضعها للأسباب(العقود) كون ألفاظها موضوعة للأسباب الحاوية لتمام الأجزاء و الشرائط.

و أمّا علي القول بوضع ألفاظها للمعاني المسببية كالملكية و الزوجية فيرجع النزاع إلي كونها موضوعة للماهية الاعتباريّة بحيث لو وجدت في الخراج لَوُصِفَت بالصحة شرعاً. (1)

الثالث:لزوم وجود جامع علي القولين

يجب علي كلّ من القولين تصوير جامع منطبق علي الأفراد المختلفة، فعلي الصحيحي أن يصور جامعاً شاملاً لجميع أفراد الصلاة علي اختلافها في الأجزاء و الشرائط قلّة و كثرة.

أقول: انّ تصوير الجامع علي القول بالصحيح أمر مشكل، لأنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء القليلة هو جواز الاكتفاء بها أوّلاً، و كون الأجزاء الأُخر أمراً

ص: 70


1- . و من ذلك يعلم ضعف ما ربما يقال من عدم إمكان تصوير النزاع علي القول بأنّ المعاملات موضوعة للمسببات، و ذلك لأنّها من الأُمور البسيطة التي يدور أمرها بين الوجود و العدم فلا يتأتي علي هذا الفرض النزاع السابق، لأنّ الملكية إمّا موجودة أو غير موجودة، و الزوجية إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة، فلا معني للزوجية أو الملكية الفاسدتين. وجه الضعف فإنّ المتصوّر الذهني للمسبب و إن كان أمره دائراً بين الوجود و العدم، لكن الكلام في أمر آخر، و هو:هل ذلك المعني البسيط بعد الاتيان به علي نحو ينطبق عليه عنوان الصحيح شرعاً، أو ينطبق عليه الأعم منه و من الفاسد.

خارجاً عنها ثانياً، كما أنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء الكثيرة خروج المشتمل علي الأجزاء القليلة عن تحت الصلاة. فلا يكون للصحيح إلاّ مصداق واحد.

و أمّا علي القول بالأعم فتصوير الجامع أمر سهل جدّاً إذ في وسعه أن يقول: بانّه موضوع للأركان، و أمّا الباقي فهو اجزاء للمأمور به و ليست جزءاً للمسمي.

و بذلك يعلم أنّ الصحيحي لا محيص له إلاّ عن جعل الجميع جزء المسمّي و هو أمر غير ممكن في بادئ النظر لاختلاف الصحيح حسب اختلاف حالات المكلّف من حيث الأجزاء و الشرائط، و هذا بخلافه علي القول بالأعم، فالأجزاء الثابتة(الأركان)علي كلّ حال من أجزاء المسمّي و الباقي من أجزاء المأمور به.

و قد بذل القوم جهودهم لتصوير الجامع علي القول بالصحيح الذي يصدق علي جميع المراتب. و ذكروا تقريبات حول تصوير الجامع أوضحها ما ذكره السيد الإمام الخميني، و هذا خلاصته:

المركبات الاعتبارية علي قسمين:

قسم يكون الملحوظ فيه كثرة معينة، كعدد العشرة فإنّها علي وجه لو فقد منها جزء تنعدم العشرة.

و قسم يكون علي نحو لم تلحظ فيه كثرة معينة في ناحية المواد و لا صورة معينة في جانب الهيئة.

أمّا في جانب المواد فيصدق اللّفظ ما دامت هيئتها و صورتها موجودة قلّت موادها أو كثرت، و هذا نظير لفظ الدار و البيت، فانّ الميزان للصدق هي هيئة الدار و صورتها، و أمّا من حيث المادة، كيفية و كمية فهي لا بشرط، و لذلك يصدق البيت علي ما أخذت موادها من الطين أو الآجر أو الحجر أو الحديد أو الاسمنت.

أمّا في جانب الهيئة فلم تلحظ هيئة معيّنة فيصدق سواء بُنيت علي هيئة

ص: 71

مربعة أو مثلثة، بنيت علي طبقة واحدة أو طبقات، فهو موضوع لهيئة مخصوصة غير معينة، فهو لا بشرط من جانب المادة و الهيئة.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ لفظ الصلاة موضوعة لنفس الهيئة اللابشرط، الموجودة في الفرائض و النوافل قصرها و تمامها، و ما وجب علي الصحيح أو المريض بأقسامها، فيكفي في صدقها، وجود هيئة بمراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون صلاة كصلاة الغرقي، لعدم وجود مواد من ذكر و قرآن و سجود و ركوع. (1)

المقام الأوّل: في وضع أسماء العبادات للصحيح

استدلّ للقول بوضع أسماء العبادات للصحيح بوجوه:

1.تبادر الصحيح.

2. صحّة السلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزاء العبادة.

3. الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص و الآثار للمسمّيات كقوله: الصلاة عمود الدين أو معراج المؤمن ممّا يترتب علي الصحيح.

و قد نوقشت هذه الأدلّة بوجوه لا حاجة لذكرها.

و الأولي أن يستدلّ عليه بأنّ الصلاة ماهية اعتبارية، اعتبرها المعتبر لأغراض خاصة وردت في الكتاب و السنّة، و تلك الأغراض إنّما تترتّب علي الصحيح منها دون الأعمّ.

ص: 72


1- . تهذيب الأُصول: 781/77.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع لمّا أراد تهذيب الإنسان و تربيته، من جانب، و من جانب آخر انّ ذلك الغرض، إنّما يترتب علي العبادة الصحيحة. و من المعلوم انّ الفعل يُتحدّد من ناحية العلة الغائية فلا يكون العمل أوسع من الغرض و الغاية المحرِّكة، و المعلول الوضع يتضيق من ناحية علته الغائية.

و بعبارة أُخري:انّ طبيعة الحال تقتضي أن يضع اللّفظ لما تعلق به غرضه و يفي به و هو الصحيح لا الأعم، فانّ الداعي للاعتبار هو الداعي للوضع، فوضع اللفظ للأوسع من الغرض يحتاج إلي داع آخر غير موجود.

نعم الإتيان بما يتعلق به الغرض يقتضي وجود قسم آخر و هو الفاسد، فيطلق عليه الاسم(الصلاة) عناية. و مقتضي ذلك أن يكون الموضوع له هو ما يترتّب عليه الغرض، و استعماله في الفاسد من باب العناية و المجاز.

المقام الثاني: في وضع اسماء المعاملات للصحيح

انّ العبادات من مخترعات الشارع فيصحّ فيها البحث عن انّ ألفاظها هل هي موضوعة في الشرع للصحيح أو للأعم منها، و أمّا المعاملات فهي من مخترعات العقلاء و هم الذين وضعوا ألفاظ المعاملات في مقابل ما اعتبروه بيعاً أو نكاحاً أو إجارة و ليس للشارع فيها دور سوي تحديدها بحدود و قيود فعلي ذلك فلا بدّ من تخصيص النزاع في كونها موضوعة للصحيح فحسب أو الأعم عند العرف.

و مع القول بامكان وضعها للأعم عند العرف لكن الدليل السالف الذكر

ص: 73

في ألفاظ العبادات هو الدليل أيضاً علي انّ ألفاظ المعاملات عند العرف موضوعة للصحيح لما عرفت من انّ الغرض يُحدِّد فعل الإنسان فلا يصدر عن الإنسان الحكيم فعل أوسع من غرضه.و بما انّ المصالح التي تدور عليها رحي الحياة قائمة بالمعاملات الصحيحة و هم أيضاً قد اعتبروها لتلك الغايات فلا بدّ أن يُحدَّد عملهم(وضع الألفاظ) بما يناسب الغاية و هو الوضع للقسم الصحيح دون الأعم.

إذا عرفت أنّ اسماء العبادات و المعاملات اسماء للصحيح منها لا للأعم، يقع الكلام في ثمرات النزاع.

ثمرات النزاع

اشارة

قد ذكر للنزاع أربع ثمرات نذكرها، واحدة بعد الأُخري:

الأُولي: عدم صحّة التمسّك بالإطلاق علي الصحيح
اشارة

قد اشتهر انّ ثمرة البحث هو عدم صحّة التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئية شيء علي القول بالوضع للصحيح، و صحّة التمسك به علي القول بالأعم.

توضيحها: انّه إنّما يصحّ التمسّك بالإطلاق فيما إذا أحرز صدق الموضوع علي المورد و شك في مدخلية شيء آخر وراء صدقه، كما إذا أمر المولي بعتق رقبة، و شك في اعتبار الإيمان فيها، فحينئذ يتمسّك بالإطلاق في رفع احتمال اعتبار الإيمان، إذ لو كان الإيمان دخيلاً في غرض المولي وراء صدق الرقبة لكان اللازم ذكره و أمّا إذا لم يكن الموضوع محرزاً و صار الشكّ في مدخلية الأمر المشكوك سبباً للشكّ في صدق الموضوع فلا يصحّ حينئذ التمسك به، كما إذا أمر المولي بالتيمّم

ص: 74

علي الصعيد و شكّ في معناه و أنّه هل هو خصوص التراب، أو مطلق وجه الأرض من الحجر و الجص و النورة و غيرها؟ ففي مثله لا يمكن التمسّك بالإطلاق لدفع احتمال مدخلية التراب، و لا يصحّ لنا القول بأنّه لو كان التراب دخيلاً في صحّة التيمم كان علي الشارع بيانه لاحتمال انّ الشارع قد بيّن مدخلية التراب في موضوع حكمه باستخدامه لفظ الصعيد.

و يتّضح علي ضوء هذين المثالين:انّه لو شكّ في اعتبار السورة في صدق الصلاة، فعلي القول بالصحيح و أنّها موضوعة للماهية الجامعة للأجزاء و الشرائط، يكون المورد من قبيل المثال الثاني، حيث يشكّ المصلي في أنّ ما أتي به هل هو صلاة أو ليس بصلاة؟ لانّها موضوعة للصحيحة و الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في صدق الموضوع.

و أمّا علي القول الآخر أي وضعها للأعم من الصحيح فيكون من قبيل المثال الأوّل، لأنّ الموضوع (الصلاة) محرز بحكم كونها موضوعة للأعمّ، سواء أ كانت السورة دخيلة في الفريضة أم لا، فإذا لم يدلّ علي وجوبها دليل يُتمسك بالإطلاق و ينفي وجوبه.

فصارت الثمرة عدم جواز التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته للعبادة علي القول بالصحيح و جوازه علي القول بالأعم.

نقد الثمرة في العبادات

لكن يمكن أن يقال بصحّة التمسّك علي القول بوضعها للصحيح و ذلك انّ لفظة الصلاة موضوعة لنفس الهيئة اللابشرط الموجودة في الفرائض و النوافل قصرها و تمامها، و في ما وجب علي الصحيح أو المريض بأقسامها فيكفي في صدقها، وجودُ هيئة الصلاتيّة بإحدي مراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون

ص: 75

صلاة كصلاة الغرقاء.

كما أنّها من حيث المادة لم تؤخذ فيها كثرة معينة بل أخذت لا بشرط، و يكفي فيها التكبير و الركوع و السجود و الطهور و تصدق علي الميسور من كلّ واحد منها، و من المعلوم انّ هذا المقدار من الموضوع محرز عند الشكّ في جزئية شيء كالسورة أو شرطيته، فلا يكون الشكّ فيهما شكّاً في صدق الموضوع بل الموضوع محرز و إنّما الكلام في وجوب الجزء الزائد علي الموضوع و هكذا الشرط.

هذا كلّه في العبادات، و أمّا المعاملات فربما يقال بنفس الثمرة و انّ التمسّك بالإطلاق إنّما هو علي القول بالأعم دون الصحيح.

توضيح ذلك إذا قال الشارع:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) ) (2)، فلو قلنا بأنّ الألفاظ موضوعة للأسباب التامة من حيث اجتماع الأجزاء و الشرائط، و مع ذلك شكّ في جزئية شيء أو شرطيته للأسباب، كتقدّم الإيجاب علي القبول و عدمه، فعلي القول بالصحيح لا يصحّ التمسّك بالإطلاق لأنّ مرجع الشكّ فيه إلي الشكّ في صدق الموضوع.

و من المعلوم انّ التمسّك بالإطلاق فرع إحراز الموضوع، بخلافه علي القول بالأعم فانّ الإيجاب إذا تأخّر يتحقّق البيع أو النكاح قطعاً، و إنّما يشكّ في مدخلية التقدم في صحّته لا في صدقه و كونه جزءاً للمسمّي و عندئذ يتمسك بالإطلاق و تنفي شرطية التقدّم.

نقد الثمرة في المعاملات

و يمكن أن يقال بصحّة التمسّك بالإطلاقات حتي علي القول بوضعها

ص: 76


1- سوره 5 - آيه 1
2- . المائدة:1.

للصحيح و يكفي في صحّة التمسّك إحراز الموضوع عرفاً، و ذلك لأنّ المعاملات مخترعات عرفية، و قد أمضاها الشارع بما لها من المعني العرفي، غير انّه أضاف شروطاً أو اعتبر موانع من الصحّة، فعلي ذلك فيمكن استكشاف ما هو المؤثر عند الشارع من خلال ما هو المؤثر عند العرف(إلاّ إذا دلّ الدليل علي عدم التطابق). إذ لو كان المؤثر عنده غير ما هو المؤثر عند العرف لزمه البيان لئلاّ يلزم نقض الغرض و لغوية الأدلّة الإمضائيّة.

و بعبارة أُخري: انّ أسماء المعاملات التي وقعت مورد الإمضاء سواء أ كانت اسماً للسبب كما في قوله:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) )أم كانت اسماً للمسبب أي العلقة الحاصلة من الايجاب و القبول كما في قوله سبحانه :( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (2) ) (3) و قوله: »الصلح جائز بين المسلمين« (4) ألفاظ واضحة المعاني عند العرف غير انّ الشارع تصرّف فيها بإضافة قيد أو شرط أو غير ذلك، فإذا كان كذلك يكون الفهم العرفي في هذه الألفاظ طريقاً شرعياً إلي ما هو المعتبر عند الشارع إلاّ ما خرج و ذلك أخذاً بمقتضي الإطلاق، إذ لو كان ما هو السبب المؤثر عنده غير ما هو المرتكز في أذهان العرف كما في بيع المنابذة (5)، أو كان المسبب المعتبر عنده غير المعتبر عند العرف كما في نكاح الشغار. (6) كان عليه البيان و إلاّ تلزم لغوية هذه الإمضاءات التي تصبح مجملات.2.

ص: 77


1- سوره 5 - آيه 1
2- سوره 2 - آيه 275
3- . البقرة:275.
4- . الوسائل: الجزء 13، الباب 3 من أبواب كتاب الصلح، الحديث 2.
5- . و هو بيع القاء الحجر أو بيع الحصاة فيحضر الرجل قطيع الغنم فينبذ الحصاة و يقول لصاحب الغنم انّ ما أصاب الحجر فهو لي بكذا.
6- . نكاح الشغار: أن يزوج الرجل ابنته أو أُخته و يتزوج ابنة المتزوج أو أُخته و لا يكون بينهما مهر غير التزويجين لاحظ الوسائل: الجزء 14، الباب 27 من أبواب عقد النكاح الحديث2.

و إلي هذا الوجه يشير الشيخ الأنصاري في آخر تعريف البيع حيث يقول:

»و أمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلّة البيع و نحوه، فلأنّ الخطابات لما وردت علي طبق العرف حمل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعية علي ما هو الصحيح المؤثر عند العرف فيستدل بإطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء، علي كونه مؤثراً في نظر الشارع. (1)

الثانية:عدم صحّة التمسّك بالبراءة علي الصحيح

انّ الثمرة الثانية للبحث هي انّ الفقيه إذا شكّ في شرطية شيء أو جزئيّته للمسمّي، فعلي القول بالوضع للصحيح يكون الشكّ في شرطية شيء أو جزئيته ملازماً للشكّ في صدق المسمّي، و معه يجب الاحتياط حتي يعلم أنّه أتي بالمسمّي. بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للأعمّ فإنّ الفاقد للمشكوك يكون مصداقاً للمسمّي و يعود الشكّ إلي الشكّ في شرطية شيء زائد علي المسمي أو جزئيته، فيكون الشكّ من قبيل الشكّ في تكليف أمر زائد. و يقع مجري للبراءة،و هذا بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للصحيح.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا كان الموضوع له أمراً بسيطاً حاصلاً من الأجزاء و الشرائط كعنوان »الناهي عن الفحشاء« فعندئذ يرجع الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته إلي صدق الناهي عن الفحشاء و عدمه، و أمّا إذا كان الموضوع له أمراً مركباً ذا أجزاء و شرائط و ذا مراتب كما مرّ فيصدق الجامع علي الفاقد من الجزء المشكوك و يكون الشكّ في وجوب أمر زائد و المرجع عندئذ البراءة.

و الحاصل انّه إذا كان الجامع ذا أبعاض و كان تعلّق التكليف بالمقدار المتيقن معلوماً و بغيره مشكوكاً ، يكون المرجع هو البراءة لانحلال العلم الإجمالي.

ص: 78


1- . المتاجر: آخر تعريف البيع.
الثالثة: صدق الوفاء بالنذر علي الأعم

إذا نذر الرجل أن يعطي درهماً للمصلّي فعلي القول بوضعها للصحيح لا يُجزي و لا تبرأ ذمّته إلاّ باعطائه لمن صلّي صلاة صحيحة، بخلافه علي القول بالأعم فيجزي مطلقاً، كانت صلاته صحيحة أم فاسدة.

يلاحظ عليه: انّ الاجزاء و براءة الذمة تابع لكيفية النذر، لا للوضع فلو نذر أن يعطي لمن صلّي صلاة صحيحة فلا يجزي الدفع لغيره و إن كان الوضع للأعم، و لو نذر أن يعطي الأعم ممّن صلّي صلاة صحيحة، يجزي و إن كان الوضع للصحيح.

الرابعة: صحّة صلاة الرجل عند المحاذاة مع المرأة

ربما يقال: انّه تظهر الثمرة فيما إذا ورد النهي عن محاذاة المرأة للرجل في حال الصلاة و علمنا بفساد صلاة المرأة، فعلي القول بوضعها للصحيح، تصحّ صلاة الرجل و لا يشملها النهي، بخلاف ما إذا قلنا بأنّها للأعم، فيشملها النهي. (1) و مثلها إقامة صلاتي جمعة في أقلّ من فرسخ مع بطلان إحداهما.

يلاحظ عليه: مضافاً إلي أنّ النهي في هذه المقامات منصرف إلي الصلاة الصحيحة، سواء كان لفظ الصلاة موضوعاً للصحيح منها أو للأعمّ أنّه ليس ثمرة للمسألة الأُصولية إذ غاية ذلك هو البحث عن إمكان تطبيق الحكم الكلّي، علي هذا المورد و ليس ذلك ثمرة لها.

و منه تظهر حال الثمرة الثالثة أيضاً فلاحظ.

ص: 79


1- . المحاضرات:1/193.

الأمر التاسع: المشتق

اشارة

اختلفت كلمة الأُصوليّين في أنّ المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ أو الأعم منه و ما انقضي عنه المبدأ، مثلاً:

مثلاً إذا قيل لا تتوضأ بالماء المسخَّن بالشمس، فهل يختص بالموصوف بالمبدإ بالفعل، أو يعمّ ما زال عنه المبدأ و بَرَدَ الماء؟ و يرجع النزاع إلي بيان تحديد مفهوم المشتق من حيث السعة و الضيق و انّ الموضوع له، هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدإ أو الأعمّ من تلك الذات المنقضي عنها المبدأ؟ فعلي القول بالأخص، يكون مصداقه منحصراً في الذات المتلبّسة، و يختص النهي بالمسخّن بالفعل و علي القول بالأعمّ يكون مصداقه أعمّ من هذه و مما انقضي عنها المبدأ. و يعمّ النهي المسخّن بالفعل و غيره.

و بعبارة ثانية: انّ العقل يري جامعاً حقيقياً بين الأفراد المتلبّسة بالمبدإ، و لا يري ذاك الجامع الحقيقي للأعمّ منها و ممّا انقضي عنها المبدأ و إنّما يري بينها جامعاً انتزاعياً. فالنزاع في أنّ الموضوع له هو ذاك الجامع الحقيقي أو جامع انتزاعي آخر.

فعلي القول بالأخصّ فالموضوع في قولك: صلّ خلف كلّ عالم عادل، مَنْ

ص: 80

متلبّساً بالمبدإ الذي بين مصاديقه جامع حقيقي دون من كان متلبّساً و زال عنه المبدأ، الذي ليس بين مصاديقه إلاّ جامع انتزاعي.

و هذا بخلاف القول بالأعم فالموضوع هو الأعم منه و ما انقضي عنه المبدأ. و يكفي وجود نسبة ما بين الذات و المبدأ.

دليل القول بوضع المشتق للمتلبّس

اشارة

و قد استدلّ علي القول بوضعه للمتلبّس بوجوه، ذكرنا بعضها في الموجز (1) غير انّ أمتن الأدلّة هي ما يلي:

انّ مفهوم المشتق ليس هو تلوُّن الذات(زيد) بأنحاء النسب حتي يكون الركن الوطيد هو الذات سواء أبقي المبدأ أم انقضي، بل مفهومه هو تلوّن المبدأ بأنحاء النسب و انّ المشتقات عامة منتزعة عن المبدأ باعتبار الوان النسب الحاصلة بينه و بين الذات ، فتارة يلاحظ المبدأ بما انّه منتسب إلي الذات بالصدور عنها(كاسم الفاعل)، و أُخري بالوقوع عليها(كاسم المفعول)، و ثالثة بالثبوت فيها كما في الصفة المشبهة، و رابعة بكونها واقعاً فيها له زماناً و مكاناً، و علي ذلك فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسبة خاصة و مضاف إليها نحو إضافة، و ما هذا شأنه يكون هو المحور، لا الذات، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ عند الإضافة إلي الذات.

و إن شئت قلت: إنّ واقع الصيغ المختلفة عبارة عن جعل المبدأ في قوالب مختلفة، فكأنّ المعاني تتوارد علي المبدأ، و هو الذي يتجلّي بصور أشكال مختلفة و ليس واقعُ الصيغ جعلَ الذات في أشكال مختلفة، فإذا كان هذا هو واقع الصيغ

ص: 81


1- . الموجز:28، 29.

فكيف يمكن أن تصدق الصيغة مع عدم المبدأ؟ و يدلّ علي ذلك انّ علماء الصرف و الاشتقاق يحولون المبدأ(المصدر) إلي صور لا الذات إلي صيغ.

و علي ذلك فلا مناص من التحفظ علي المبدأ في صدق الصيغة.

نعم لما كان المبني عند المشهور هو تلوّن الذات و تلبسها بأنواع النسب أخذوا يستدلّون عليها بالتبادر و صحّة السلب عمّن انقضي عنه المبدأ. و الأولي إقامة البرهان حسب ما عرفت.

استدلّ القائل بالأعم بوجوه ثلاثة:

الأوّل التبادر

المتبادر من المشتق مطلق من تلبس بالمبدإ سواء أ كان باقياً أم لا.

يلاحظ عليه :أنّ المتبادر هو المتلبّس لا الأعم، فإذا قيل لا تصلِّ خلف الفاسق، يتبادر المتلبس به حين الاقتداء لا من كان متلبّساً و انقضي عنه المبدأ قبل الاقتداء.

الثاني: صحّة الحمل

نري بالوجدان انّه يصحّ حمل المقتول و المضروب علي من قتل و ضرب و انقضي عنه المبدأ ثانياً.

يلاحظ عليه: بأنّ هذه الصفات تحمل علي الذات باعتبار اتحادها مع المبدأ في ظرف من الظروف.

و بتعبير آخر انّ الحمل بلحاظ حال التلبّس و الجري خصوصاً في المقتول، فإنّ عدم كونه قابلاً للتكرار قرينة علي أنّ الإطلاق بلحاظ حال التلبّس و الجري،

ص: 82

و مثله السارق و الزاني فانّ عدم كونهما قابلين للاستمرار قرينة علي أنّ الإطلاق بهذا اللحاظ.

الثالث: استدلال الإمام(عليه السلام)

استدل الإمام بقوله سبحانه:( لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (1) ) (2) علي عدم صلاحية من عبد وثناً أو صنماً أو أشرك باللّه طرفة عين للخلافة و الإمامة و إن أسلم بعد ذلك. و قال(عليه السلام):الظلم وضع الشيء في غير موضعه و أعظم الظلم الشرك باللّه، قال اللّه تعالي:( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (3) ) (4)«. (5)

ثمّ إنّ الاستدلال مبني علي صغري مسلّمة و كبري قرآنية.

أمّا الصغري:هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي.

و أمّا الكبري: و الظالمون لا تنالهم الإمامة.

فينتج:هؤلاء لا تنالهم الإمامة.

و إنّما تصحّ الصغري إذا قلنا بوضع المشتق للأعمّ، حتّي يصحّ عدّهم من الظالمين حين التصدّي للخلافة و إلاّ تبقي الكبري بلا صغري.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال علي عدم الصلاحية للإمامة يصحّ علي كلا القولين.

أمّا علي الأعم فواضح، لأنّهم علي هذا القول ظالمون عند التصدّي حقيقة.

و أمّا علي القول الثاني، فوجه الاستدلال ليس مبنيّاً علي كونهم من مصاديق الظالمين حين التصدّي، بل علي أساس آخر و هو انّ الإمامة منصب إلهي خطير،

ص: 83


1- سوره 2 - آيه 124
2- . البقرة:124.
3- سوره 31 - آيه 13
4- . لقمان:13.
5- . البرهان في تفسير القرآن:1/149.

لأنّ صاحبها يتصرّف في النفوس و الأعراض و الأموال، فالمتصدّي لهذا المنصب يجب أن يبتعد عن ألوان الشرك و قبائح الأعمال طيلة عمره، لأنّ الناس يتنفّرون من مقترفي هذه الأعمال و إن طابوا و طهروا.

فالاستدلال ليس مبنياً علي الظهور الوضعي بل مبني بقرينة المقام و عظمة المنصب علي أنّ الممنوع هو المتلبّس بالظلم آناً ما سواء أ بَقي عليه أم لا.

ثمّ إنّ هناك تحليلاً دقيقاً لبعض أساطين العلم و حاصله: انّ الناس بحسب التقسيم العقلي علي أربعة أقسام:

من كان ظالماً في جميع عمره، و من لم يكن ظالماً في جميع عمره، و من هو ظالم في أوّل عمره دون آخره،و من هو بالعكس.

هذا و إبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذرّيته، فيبقي القسمان الآخران، و قد نفي اللّه أحدهما، و هو الذي يكون ظالماً في أوّل عمره دون آخره، فبقي الآخر و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.

تطبيقات

إنّ البحث عن كون المشتق موضوعاً للمتلبّس أو للأعم ليس عديم الثمرة، و إليك بعض ما يترتب عليه.

1. قال أمير المؤمنين(عليه السلام):»لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون و المحدود و ولد الزنا، و الأعرابي لا يؤم المهاجرين«. (1)

2. عن أبي عبد اللّه(عليه السلام):في المرأة إذا ماتت و ليس معها امرأة تغسّلها، قال:

ص: 84


1- . الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

»يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها إلي المرافق«. (1) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي يجوز للزوج المطلق لها، التغسيل عند فقد المماثل.

و ربما يمثل كما مرّ في صدر البحث بالماء المشمَّس أو المسخّن،و لكن الوارد في لسان الأدلّة، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق، فقد ورد عن رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به،و لا تغتسلوا به و لا تعجنوا به، فإنّه يورث البرص«. (2)

*** هذه أُمور تسعة بحث فيها علماء الأُصول في مقدّمة كتبهم، و بما انّها كانت ذات فوائد حجة، تعرضت لها بمزيد من التفصيل.

و أمّا البحث في المجاز و الاشتراك و الترادف أو البحث في بساطة مفهوم المشتق و تركّبه، فقد ضربنا عنها صفحاً، لما تقدّم بعضها في الموجز، و عدم مساس بعض آخر كالأخير بفن الاستنباط. فمن أراد التفصيل فليرجع إلي محاضراتنا. (3)ل.

ص: 85


1- . الوسائل: 2، الباب 24 من أبواب غسل الميت، الحديث 8.
2- . الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.
3- . راجع المحصول: الجزء الأوّل.

ص: 86

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

التشريع الإسلامي في الكتاب و السنّة يدور حول الأوامر و النواهي، و قد أولي الأُصوليون لهما أهمية خاصة و عقدوا لكلّ منهما مقصداً خاصاً، و بما انّا قد استوفينا البحث في بعض ما يرجع إليهما في الموجز، نأتي في المقام ما أوجزناه فيه أو لم نتعرض له و يأتي كلّ ذلك في ضمن فصول:

الفصل الأوّل: في دلالة صيغة الأمر علي الوجوب الفصل الثاني: دلالة الجملة الخبرية علي الوجوب الفصل الثالث: أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر الفصل الرابع: في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين الفصل الخامس: الإتيان بالمأمور به علي وجهه يقتضي الإجزاء الفصل السادس: في المقدّمة، أقسامها و أحكامها الفصل السابع: في ترتّب الثواب علي امتثال الواجب الغيري الفصل الثامن: في تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط الفصل التاسع: في تقسيم الواجب المطلق إلي منجَّز و معلَّق الفصل العاشر: في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه الفصل الحادي عشر: متعلّق الأوامر الفصل الثاني عشر: التخيير بين الأقلّ و الأكثر

ص: 87

ص: 88

الفصل الأوّل: في دلالة صيغة الأمر علي الوجوب

من البحوث المهمة هي تحقيق مفاد صيغة الأمر و انّها هل هي موضوعة للوجوب أو للأعم منه و من الندب؟ و المشهور عند الأُصوليّين دلالتها علي الوجوب علي نحو يأتي، و لتحقيق ذلك نقدّم بحثاً في تبيين حقيقة الوجوب و الندب و الآراء المطروحة في هذا الصدد.

لا شكّ انّ الوجوب و الندب من أقسام البعث الإنشائي ، و إنّما الكلام فيما يحصل به امتياز أحدهما عن الآخر، فقيل فيه وجوه:

أ: الوجوب هو البعث الإنشائي مع المنع من الترك، و الندب هو البعث الإنشائي لا مع المنع من الترك.

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر من الوجوب و الندب هو الحتمية و عدمها، و ما ذكره تحليل عقلي لهذين المعنيين البسيطين و ليسا بموضوع له لهذين اللفظين.

ب: الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة عند مخالفته، و الاستحباب هو الطلب غير الموجب له.

يلاحظ عليه: أنّ الاستحقاق و عدمه من آثارهما بعد تحقّقهما، و الكلام في المقام في مقوّماتها، و المقوّم يجب أن يكون مقارناً لا متأخّراً.

ص: 89

ج: الوجوب هو البعث المسبوق بالإرادة الشديدة، و الندب هو البعث المسبوق بإرادة غير شديدة، و ذلك انّ البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس فلا بدّ في تحقّقه من سبق إرادة تكوينية، فهي تختلف شدّة و قوّة حسب اختلاف الغايات و الأغراض و المصالح في لزوم إحرازها و عدمه. فالذي يميّز الوجوب عن الندب المشتركين في البعث، إنّما هو نشوء البعث عن الإرادة الشديدة أو الضعيفة، و هذا هو المختار.

هذا كلّه في امتيازهما حسب الثبوت، و أمّا امتيازهما حسب الإثبات فإنّما يحصل بالمقارنات، فإذا كان إنشاء البعث مقروناً بصوت عال و حركات خاصة تدلّ علي عدم رضا المولي بتركه فينتزع منه الوجوب، و إذا كان مقارناً بما يفيد عكس ذلك ينتزع منه الندب.

إلي هنا تبيّن مفاد الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً و انّ التفاوت بينهما ثبوتاً يرجع إلي شدّة الإرادة و ضعفها، و إثباتاً إلي المقارنات الحاكية عن أحدهما.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي صلب الموضوع، أي دلالة الصيغة علي الوجوب، فنقول:

إذا تبيّن أحد الأمرين من خلال المقارنات في مقام الإثبات فيُتبع، إنّما الكلام فيما إذا لم يتبيّن أحد الأمرين، و كان الكلام مجرّداً عن المقارنات فالمعروف هو تبادر الوجوب، و اختلفت كلمتهم في سبب التبادر.

1. ذهب بعضهم إلي أنّ الصيغة تدلّ علي الوجوب دلالة لفظية.

ص: 90

يلاحظ عليه: أنّ الهيئة وضعت لإنشاء البعث و هو مشترك بين الوجوب و الندب، فكيف تدلّ علي الوجوب دلالة لفظية.

2. انصراف صيغة الأمر إلي الوجوب يلاحظ عليه: أنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود أو لكثرة الاستعمال، و كلا الأمرين موجودان في جانب الندب أيضاً.

3. كون الصيغة كاشفة عند العقلاء عن الإرادة الحتمية.

يلاحظ عليه: أنّ الكشف لا يمكن أن يكون إلاّ بملاك، و الملاك إمّا كونه موضوعاً للوجوب، أو الانصراف، أو كونه مقتضي مقدّمات الحكمة; و الأوّلان غير تامّين كما عرفت، و الثالث يعود إلي الوجه الرابع الذي نتلوه عليك.

4. انّ مقتضي مقدّمات الحكمة هو حمل الصيغة علي الوجوب و حاصله: انّ الإرادة الوجوبية تفترق عن الإرادة الندبية بالشدة، فانّها ليست شيئاً سوي الإرادة، و أمّا الإرادة الندبية فهي تفترق عن الوجوبية بالضعف و هو غير الإرادة، فالإرادة الوجوبية إرادة خالصة، بخلاف الإرادة الندبية فإنّها محدودة بحدّ خاص (الضعف) فتكون الإرادة الندبية أمراً ممزوجاً منها و من غيرها، و علي هذا فإطلاق الكلام كاف في مقام الدلالة علي الإرادة الوجوبية إذ لا حدّ لها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلي بيان ذلك الحدّ، بخلاف الإرادة الندبية فانّ الحدّ ليس من سنخ المحدود فيفتقر إلي تقييد الكلام به. (1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره غفلة عن حقيقة التشكيك، فهي عبارة عمّا يكون ما به التفاوت نفس ما به الاشتراك، و علي ذلك فالضعف أيضاً مثل الشدة من سنخ المحدود(الإرادة) و ليس الضعف أمراً وجوديّاً منضمّاً إلي النور كما أنّ4.

ص: 91


1- . بدائع الأفكار:1/214.

الشدّة كذلك، بل النور الضعيف مثل النور القوي، نور، لا انّه نور و ضعف، كما أنّ القوي ليس نوراً و قوة، فصار القيدان علي منوال واحد في لزوم البيان إذا كان المتكلّم في مقامه.

5. كون مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الإطاعة عند العقل، و استحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الطلب ندبياً. و هذا معني كون الأمر ظاهراً في الوجوب.

و بعبارة أُخري: وظيفة المولي هي إنشاء البعث و إصدار الأمر، و أمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه. بل علي العبد السعي، فإن تبيّن له أحدهما عمل علي طبق ما تبيّن، و إلاّ عمل علي مقتضي حكم العقل و هو أنّ أمر المولي لا يترك بلا جواب، و هذا هو المختار في وجه حمل الأمر علي الوجوب.

ص: 92

الفصل الثاني: دلالة الجملة الخبرية علي الوجوب

ربما تستعمل الجملة الخبرية في مقام الطلب و البعث، يقول سبحانه:( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1) ). (2)

و قال سبحانه:( وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ (3) ). (4)

و قال سبحانه:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (5) ). (6)

و نري مثل ذلك في الروايات حيث ورد في أبواب الطهارة و الصلاة، قولهم(عليهم السلام):»يغتسل«، »يعيد الصلاة«، »يستقبل القبلة« فالجمل الخبرية في هذه الموارد استعملت لداعي البعث، و إنّما الكلام في كيفية دلالتها علي الوجوب و كونها آكد في الدلالة علي الوجوب من الأمر بالصّيغة.

توضيحه: انّ الإخبار عن وجود الشيء في المستقبل بداع البعث يكشف عن شدّة رغبة المولي بالمراد إلي حدّ يراه موجوداً و محققاً في الخارج حيث يخبر عن وجوده فيكون حاكياً عن الوجوب و الإرادة الحتمية.

و أمّا عدم كونها كذباً فانّ ظاهر الكلام و إن كان هو الإخبار، و لكن جلوس المولي علي منصَّة التكليف قرينة علي أنّه بصدد البعث واقعاً لا بصدد الإخبار.

ص: 93


1- سوره 2 - آيه 228
2- . البقرة:228.
3- سوره 2 - آيه 241
4- . البقرة:241.
5- سوره 2 - آيه 233
6- . البقرة:233.

الفصل الثالث: أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر

أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر(1)

إنّ الواجب ينقسم إلي توصلي و تعبّدي، و انّ التعبّدي يفسر بوجوه ثلاثة:

1. التقرّب بقصد امتثال أمره.

2. الإتيان للّه تبارك و تعالي.

3. الإتيان بداع التقرّب إليه سبحانه، لكون الفعل محبوباً له.

و يقابله التوصّلي، فإذا علمنا أنّ الواجب تعبّدي أو توصّلي فيمتثل علي النحو الذي عُلم، إنّما الكلام فيما إذا شكّ في واجب انّه توصّلي أو تعبّدي، فهل ثمة أصل لفظي يعوّل عليه كالشكّ في وجوب ردّ السلام حيث إنّ أمره يدور بين كونه توصلياً أو تعبدياً، يجب قصد أمره حتّي يصدق الامتثال.

مثلاً إذا قال سبحانه:( وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها (2) ). (3)

فهل مقتضي الإطلاق هو كونه توصّلياً أو لا؟ و هناك أمر يجب إلفات النظر إليه، و هو انّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ إذا

ص: 94


1- . هذا الفصل جزء من الفصل الآتي و يعبّر عنه في الكتب الأُصولية كالتالي: إذا دارت صيغة الأمر بين كونه تعبديّاً أو توصليّاً فما هو مقتضي القاعدة؟ و بما أنّه طويل الذيل أفردناه بالبحث.
2- سوره 4 - آيه 86
3- . النساء:86.

أمكن أخذ الشيء المشكوك اعتباره في متعلّق الأمر، فإذا خلا منه متعلّقه، يحكم بعدم اعتباره فيه، مثلاً إذا شكّ في وجوب السورة في الصلاة فبما أنّه يمكن أخذها في متعلّق الأمر بأن يقول: صلِّ مع السورة، فيصحّ التمسّك بالإطلاق اللّفظي إذا خلا منها متعلّق الأمر عند الشكّ.

و أمّا إذا تعذّر أخذ المشكوك في متعلّق الأمر فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق، لأنّ التمسّك به فرع إمكان أخذه فيه و المفروض أنّه متعذّر.

ثمّ إنّ الأُصوليّين اختلفوا في إمكان أخذ التعبديّة في المتعلّق و عدمه، فلو أمكن أخذها في متعلّق الأمر، يصحّ التمسّك بإطلاقه إذا خلا منها، و إلاّ فلا.

فذهب الأكثر إلي إمكان أخذ التعبديّة في متعلّق الأمر، فإذا شكّ في اعتبارها في المتعلّق يتمسّك بإطلاقه ويحكم بالتوصلية.

و ذهب الشيخ الأنصاري إلي امتناع أخذها في متعلّق الأمر، فلا يمكن التمسّك بإطلاق المتعلّق و إثبات التوصّلية، فانّ من شرائط التمسّك بالإطلاق، إمكان الإتيان بالقيد في متعلّقه و المفروض عدم إمكان أخذ القيد فيه.

ثمّ إنّ محلّ الخلاف في إمكان الأخذ إنّما هو التعبدية بالتفسير الأوّل أي »قصد امتثال الأمر« ، و أمّا التفسيران الآخران للتعبدية، أعني: الإتيان للّه تبارك و تعالي، أو الإتيان لأجل محبوبية الفعل، فأخذهما فيه بمكان من الإمكان.

و بعبارة أُخري: انّ محلّ الخلاف في إمكان الأخذ و عدمه هو أن يأمر المولي بالنحو التالي:

صلّ صلاة الظهر بقصد امتثال أمرها، و أمّا إذا قال: صلِّ صلاة الظهر للّه تبارك و تعالي، أو لكونها محبوبة للّه، فأخذهما في المتعلّق ممّا لا شبهة فيه.

استدلّ القائلون بامتناع أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه بأُمور نذكر

ص: 95

واحداً منها و هو »انّ ما لا يتأتّي إلاّ من قبل الأمر يمتنع أخذه في المتعلّق شطراً أو شرطاً«.

توضيحه: انّ ما يتصوّر أخذه في المتعلّق علي نحوين:

النحو الأوّل: ما لا صلة للقيد بالأمر، فسواء أ كان هناك أمر أو لا، يمكن تصوّر القيد، و تقييد المتعلّق به و هذا كالإيمان في الرقبة، و يمكن إيجاده مع القيد في الخارج بلا توقّف علي الأمر و هذا كالسورة و القنوت في الصلاة فيصحّ في الجميع أخذ القيد بأن يقول: أعتق رقبة مؤمنة، أو صلّ مع السورة و القنوت، فإذا أطلق المولي و لم يأخذ القيد في المتعلّق، استكشف منه عدم مدخليته في الواجب.

النحو الثاني: ما لا يتأتّي إلاّ بعد تعلّق الأمر به، و هذا كقصد امتثال الأمر، فما لم يكن هناك أمر من المولي لا يمكن للمكلّف إيجاد متعلّقه في الخارج بقصد امتثال أمره.

و هذا النحو من القيد بما أنّه لا يتأتّي إلاّ من قبل الأمر لا يمكن أخذه في المتعلّق و لا يُستكشف من عدم أخذه، عدم مدخليّته في المتعلّق.

بعبارة أُخري: أنّ الأمر يتعلّق بالشيء المقدور قبل الأمر و »الصلاة مع قصد امتثال الأمر« ليست بمقدورة قبل تعلّق الأمر بها، لكي يتعلّق بها الأمر و يقول: »صلّ مع قصد الأمر«. و يُستكشف من عدم أخذه، عدمُ مدخليته.

يلاحظ عليه: أوّلاً:أنّ اللازم في صحّة الأمر كون المتعلّق مقدوراً في ظرف الامتثال لا قَبْل الأمر و لا حينه، و امتثال قصد الأمر و إن كان غير مقدور قبل البعث، و لكنّه أمر مقدور بعد تعلّق الأمر و في ظرف الامتثال، فيصحّ تعلّق الأمر به، و يستكشف من عدم تعلّقه، و عدمُ مدخليته و علي ذلك فمقتضي الإطلاق اللفظي كون الأصل هو التوصّلية إلاّ إذا دلّ دليل علي خلافها.

ص: 96

و ثانياً:أنّ مقتضي الإطلاق المقامي أيضاً هو التوصلية.

توضيحه: إنّ الإطلاق علي قسمين: إطلاق لفظي، و إطلاق مقامي.

الإطلاق اللّفظي: عبارة عن خلوّ المتعلّق من القيد، فيحتج بخلوّ المتعلّق عن القيد علي عدم مدخليّته في الواجب، فمصبُّ الإطلاق اللّفظي هو متعلّق الأمر مع إمكان تقييده. و هذا هو الذي مرّ بيانه و أمّا الإطلاق المقامي: فحاصله أنّ القيد المشكوك اعتباره في المأمور به إذا كان ممّا يغفل عنه أكثر الناس يجب علي المولي التنبيه عليه إذا كان دخيلاً في الغرض، إمّا بالأخذ في المتعلّق، أو بالتنبيه عليه بدليل منفصل، فلو افترضنا امتناع الأوّل، فإمكان الثاني بمرحلة من الوضوح، فسكوته حينئذ دليل علي عدم المدخليّة.

ثمّ إنّ بعض المحقّقين استدلّ علي امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق بأنّ قصد الأمر إذا دخل في الواجب كان نفس الأمر قيداً من قيود الواجب، لأنّ القصد المذكور مضاف إلي نفس» الأمر«، و إذا لاحظنا الأمر وجدنا انّه ليس اختيارياً للمكلّف (1) كما هو واضح، و قد ثبت في محلّه انّ القيود المأخوذة في الواجب يجب أن تكون اختيارية. (2)

يلاحظ عليه:بالنقض أوّلاً: مثلاً إذا قال المولي: صلّ إلي القبلة، فتكون نفس القبلة من قيود الواجب، و هي خارجة عن اختيار المكلّف مع انّه جائز بالاتّفاق.5.

ص: 97


1- . لأنّه من فعل المولي لا المكلّف، هذا ما فهمناه من عبارته، و لعلّ كلامه ناظر إلي ما نقلناه سابقاً من القائلين بالمنع.
2- . دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية: 265.

و ثانياً بالحلّ، لأنّ قيد الواجب هو القصد المضاف إلي الأمر علي نحو يكون التقيّد داخلاً و القيد خارجاً، فليس نفس الأمر قيداً للواجب، بل القيد، القصد المضاف إليه و هو باختيار المكلّف بعد صدور الأمر من المولي. اللّهمّ إلاّ أن يريد قبل صدوره من المولي فيرجع إلي الوجه السابق.

إلي هنا تبين انّ مقتضي الأصل اللّفظي و الإطلاق المقامي هو التوصّلية إلاّ أن يدلّ دليل علي كون الواجب قُربياً.

مقتضي الأصل العقلي و الشرعي قد ظهر ممّا ذكرنا من جواز التمسّك بالإطلاق اللّفظي أو المقامي ، مقتضي الأصل العملي إذا لم يكن إطلاق لفظي و دليل اجتهادي، و ذلك لأنّ هذا الشرط يقع في عداد سائر الشروط فيجري فيه أصل البراءة العقلية و الشرعية كما يجري في غيره.

بل يمكن أن يقال بأنّ المرجع هو البراءة حتّي علي القول بامتناع أخذه في المتعلّق، و ذلك لإمكان بيانه بدليل مستقل آخر كما ذكرنا، فإنّ الممتنع هو البيان في ضمن الأمر الأوّل لا في ضمن الأمر الثاني كما عرفت.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ مقتضي الأصل اللّفظي و الإطلاق المقامي هو التوصّلية.

2. انّ مقتضي الأصل العقلي و الشرعي عند عدم وجود الإطلاق هو البراءة العقلية و الشرعية.

ص: 98

الفصل الرابع: في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين

ينقسم مفاد صيغة الأمر إلي كونه نفسياً و غيرياً، و عينياً و كفائياً، و تعيينياً و تخييرياً (1)، فإذا دار الأمر بين أحد القسمين، فما هو مقتضي الأصل؟ و إليك الأمثلة:

أ: إذا قال: اغتسل للجنابة، و دار أمر الغسل بين كونه واجباً نفسياً أو غيرياً للصلاة و الصوم.

ب: إذا قال :قاتل في سبيل اللّه، و دار أمر القتال بين كونه واجباً عينياً و عدم سقوطه بقتال الآخرين أو كفائياً ساقطاً بقتال الآخرين.

ج: إذا قال:( فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللّهِ (2) ) الذي أُريد منه فريضة الجمعة و دار أمرها بين التعييني و عدم عِدْل له أو التخييري بوجود عِدْل له يسقط بالظهر مثلاً، فيقع الكلام في مقتضي القاعدة ، و لنأخذها بالبحث و التمحيص.

ذهب بعض المحقّقين إلي أنّ مقتضي الإطلاق اللّفظي هو الحمل علي النفسي و العيني و التعييني، و ذلك لأنّ كلاً من الغيرية و الكفائية و التخييرية يحتاج إلي قيد بخلاف مقابلاتها.

ص: 99


1- . أو تعبديّاً أو توصلياً و قد مرّ البحث عنه في الفصل السابق و قد أوضحنا حال الأقسام في الموجز فلا نعيد.
2- سوره 62 - آيه 9

توضيحه: انّ أحد القسمين يحتاج إلي بيان زائد دون الآخر، فالنفسي غني عن البيان الزائد دون الغيري، و ذلك لأنّ الوجوب النفسي لمّا كان نابعاً من مصالح كامنة في المتعلّق، كفي إلقاء الحكم علي وجه الإطلاق، و يكون البيان وافياً بما أراد. و أمّا لو كان غيرياً فبما أنّ وجوبه منبعث عن وجوب غيره، فيجب تقييده بما يفيد ذلك.

و بعبارة أُخري: أنّ الواجب النفسي في متلقّي العرف هو الإيجاب بلا قيد، بخلاف الغيري فإنّه الإيجاب مع تقييده بأنّه واجب لغيره، فلو فرضنا كون المتكلم في مقام بيان تلك الخصوصية ، فالإطلاق كاف في تفهيم الأوّل، دون الثاني.

و منه تظهر الحال في دوران الأمر بين العيني و الكفائي، فانّه يكفي في بيان الواجب العيني، الأمرُ بالشيء و السكوت عن أيّ قيد بخلاف الواجب الكفائي فلا يكفي في بيانه، الأمر به مع السكوت عن القيد بل يحتاج إلي القيد نظير: ما لم يقم به الآخر، فالقتال في سبيل اللّه لو كان واجباً عينياً كفي فيه قول المولي: قاتل في سبيل اللّه، و لو كان كفائياً فلا يكفيه ذلك إلاّ أن ينضم إليه قيد آخر، أعني: ما لم يقاتل غيرك.

و إن شئت قلت: إنّ العيني هو الواجب بلا قيد و لا حدّ، بخلاف الكفائي فانّه الواجب المقيّد المحدود، فالعيني في متلقّي العرف بلا قيد، و الكفائي مقيّد، فإذا أمر و لم يأت بالقيد، يكون كافياً في إفادة المقصود العيني.

و منه تظهر حال القسم الثالث أي دوران الأمر بين كون الواجب تعيينياً أو تخييرياً.

فالواجب التعييني هو الواجب بلا أن يكون له عدل،كالفرائض اليومية، و الواجب التخييري هو الواجب الذي يكون له عدل كخصال كفّارة الإفطار

ص: 100

العمدي في يوم شهر رمضان، حيث إنّ المفطِر مخيّر بين عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين و إطعام ستين مسكيناً.

و هناك بيان آخر لوجوب الحمل علي النفسية و العينية و التعيينية، و هو انّ أمر المولي لا يُترك بلا عذر، و مقتضي ذلك هو الحمل علي ما ذكر إذ فيه امتثال لأمر المولي علي كلّ تقدير بخلاف ما إذا حمل علي مقابلاتها فلا علم فيه بالامتثال كما لا علم بترك الامتثال عن عذر.

كلّ ذلك إذا كان المتكلّم في مقام بيان الجهات المختصّة كالنفسية و الغيرية، و العينية و الكفائية، و التعيينية و التخييرية، و إلاّ يكون الأمر مجملاً من الناحية المشكوكة.

هذا كلّه حول الأصل اللّفظي، و أمّا مقتضي الأصل العملي إذا قصرت اليد عن الأصل اللّفظي فسوف يوافيك بيانه في مبحث البراءة و الاشتغال. (1)م.

ص: 101


1- . فقد أخّرنا بيانه تبعاً للقوم.

الفصل الخامس: الإتيان بالمأمور به علي وجهه يقتضي الإجزاء

اشارة

قد عنونت مسألة الإجزاء في كتب الأُصوليّين بعنوانات مختلفة و ما ذكرناه من العنوان هو المختار عند أغلب الأُصوليين، و المراد من قولهم »علي وجهه« هو الكيفية المعتبرة شرعاً و قد عرفت أنّ قصد الأمر من هذه الكيفية.

و هذه المسألة غير مسألة دلالة الأمر علي المرة و التكرار فانّ هناك مسألتين بملاكين، فالبحث في المسألة الثانية عن مقدار مفاد الأمر و انّه هل هو نفس الطبيعة أو الطبيعة المقيدة بإحداهما؟ و أمّا المقام فالكلام فيه بعد الفراغ عن المفاد فيقال هل الإتيان بالمأمور به سواء أ كان الطبيعة المطلقة أو المقيدة بالمرّة أو التكرار يقتضي الإجزاء أو لا.

كما أنّ هذه المسألة غير مسألة كون القضاء بأمر جديد أو بنفس الأمر الأوّل و ذلك لاختلاف المسألتين من حيث الموضوع، فإنّ موضوع مسألتنا هو الإتيان بالمأمور به بنحو من الأنحاء و الموضوع لمسألة تبعية القضاء للأداء هو فوت المأمور به في وقته فكيف تكونان مسألة واحدة؟ علي أنّ النسبة بينهما من حيث المورد عموماًً من وجه، فلو أتي بالمأمور به علي وجهه الواقعي، يقع الكلام فيه في الإجزاء، و لا موضوع لمسألة التبعية كما أنّه إذا فاته الواقع، و لم يأت بالواجب أصلاً، فلا موضوع للإجزاء. و يجتمعان فيما إذا

ص: 102

أتي بالواجب بأمر اضطراري أو ظاهري، فيصحّ البحث عنه من الجهتين، و معه يصحّ عقد المسألتين، فلاحظ.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في إجزاء امتثال كلّ أمر عن التعبد به ثانياً

إنّ إجزاء امتثال الأمر عن التعبّد به ثانياً من أوضح القضايا و أبدهها، و الوجه في ذلك أنّه لو لم يسقط، فإمّا أن يبقي ملاك الأمر، أو لا. و الأوّل خلاف الفرض، إذ لا معني لبقاء الملاك مع الإتيان بالمأمور به، لأنّ إتيان المأمور به محصِّل لغرض المولي، بلا زيادة و لا نقيصة، و لولاه لما أمر به، و مع ذلك كيف يمكن القول ببقاء الغرض و عدم حصوله؟و الثاني أوضح فساداً لاستلزامه ثبوت الإرادة الجزافية للمولي، إذ لا يأمر إلاّ لتحصيل الغرض، و قد حصل بالامتثال الأوّل، فلا معني لبقاء الغرض ثانياً، و هل هذا إلاّ كبقاء المعلول مع زوال علّته.

و إن شئت قلت: إنّ عدم السقوط ، سببه أُمور كلّها محكومة بالبطلان، فعدم السقوط إمّا:

لأجل تعدّد المأمور به، و المفروض عدمه، إذ هو نفس الطبيعة.

أو لأجل عدم حصول الغرض. و هو خلف أيضاً، لأنّ المفروض انّ المأتي به علّة، لحصوله و إلاّ لما أمر به.

أو لأجل بقاء الأمر مع حصول الغرض، و هذا يستلزم الإرادة الجزافية.

فإن قلت: إنّ أبا هاشم(المتوفّي321ه) و القاضي عبد الجبار(المتوفّي 415ه) المعتزليَّين ذهبا إلي أنّ الإتيان بالمأمور به علي وجهه لا يقتضي الإجزاء، و استدلاّ عليه بما إذا أفسد المكلّف حجَّه بالجماع فتجب عليه الإعادة كلّما تمكّن.

قلت: إنّ الحجّ إمّا أن يكون فاسداً، كما إذا جامع عن علم; أو صحيحاً،

ص: 103

كما إذا كان جاهلاً بالحكم علي القول بالصحّة في هذه الصورة فكلتا الصورتين خارجتان عن محطّ البحث.

أمّا إذا كان فاسداً، فلأنّه لم يأت بالمأمور به علي ما هو عليه، و البحث فيما إذا أتي به علي النحو المطلوب.

و أمّا إذا كان صحيحاً فالأمر الثاني من باب العقوبة لا لعدم الإجزاء، و قد ورد به التصريح في رواياتنا.

قال زرارة: قلت: فأي الحَجَّتين لهما؟ قال: »الأُولي التي أحدثا فيها ما أحدثا، و الأُخري عليهما عقوبة«. (1)

و علي ذلك فهناك أمران: أمر بنفس الحجّ بما انّه واجب عباديّ ماليّ و قد امتثله، و أمر به بما انّه عقوبة و كفّارة لما أحدثا في أثناء العبادة من الجماع.

فإن قلت: ربما يجوز تبديل امتثال بامتثال آخر، كما إذا طلب المولي ماءً ليشربه فأحضره، فانّ للعبد تبديل هذا الامتثال بامتثال أفضل، كما إذا أتي ثانياً بماء حلو أكثر، أو وعاء انظف قبل أن يقضي المولي حاجته بالشرب.

قلت: إنّ الأمر الأوّل قد سقط بإحضار الماء و ليس المقام من قبيل تبديل امتثال بامتثال آخر، بل من قبيل تبديل فرد من المأمور به إلي فرد آخر أحلي منه، و الفرق بينهما واضح فانّ تبديل الفرد لا يتوقف علي بقاء الأمر بل يصحّ و إن كان الأمر ساقطاً، بخلاف تبديل الامتثال فانّه فرع بقاء الأمر حتي يصدق عليه انّه تبديل امتثال بآخر.

فإن قلت: إذا أحضر الماء و أُهرق و اطّلع العبد عليه وجب عليه إتيانه ثانياً.

قلت: إنّ الأمر الأوّل قد سقط بالامتثال، و أمّا الأمر الثاني فهو امتثال آخر0.

ص: 104


1- . الوسائل: 9، الباب 3 من أبواب كفارة الاستمتاع، الحديث 10.

للغرض غير الحاصل للمولي لأجل إهراق الماء، فكأنّ هناك أمرين: أحدهما تعلّق باحضار الماء و قد امتثل، و الثاني تعلّق بحكم العقل بتحصيل غرض المولي و هو بعد لم يُمتثل.

و الحاصل انّ العلم بالغرض القطعي موضوع عند العقل بوجوب الامتثال و إن لم يكن هناك أمر ظاهري من المولي كما إذا غرق ابن المولي أو احترق البيت و وقف عليه العبد، دون المولي، ففي هذه المقامات العلم بالغرض موضوع تام للامتثال و تحصيل غرض المولي.

و بما ذكرنا تقف علي ما ورد من إعادة الصلاة في أبواب الكسوف (1). أو إذا وجد جماعة و قد صلي فرادي (2)، أو صلّي مع المخالف (3)و وجد فرصة للإعادة. إذ ليس الامتثال الثاني من باب تبديل الامتثال الأوّل بآخر حتي يكون الثاني بداعي الأمر الأوّل، بل من باب استحباب الإعادة بأمر ثان استحبابي لا بملاك الأمر الوجوبي الأوّل.

الثاني: إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي

إذا كان المكلّف فاقداً للطهارة المائية فيجب عليه الصلاة بالطهارة الترابية، فالفرد الأوّل فرد اختياري، و الفرد الثاني فرد اضطراري، و مثله ما إذا ابتلي بالتقية و لم يتمكّن من الامتثال بالفرد الاختياري، كان عليه الامتثال بالفرد الاضطراري كغسل الرجلين مكان مسحهما، إلي غير ذلك من الأمثلة، فهل يجزي الامتثال بالفرد الاضطراري عن الامتثال بالفرد الاختياري عند ما زال الاضطرار؟

ص: 105


1- . الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف، الحديث 1.
2- . الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

أقول: ظاهر عنوان المسألة انّ هنا أمرين: أمراً بالفرد الواقعي، و أمراً بالفرد الاضطراري، و الكلام في إجزاء الامتثال الثاني عن الامتثال الأوّل. و يظهر ذلك من أكثر المتأخّرين الذين عكفوا علي دراسة هذه المسألة بعد الشيخ الأنصاري(قدس سره).

و لكن الحقّ انّ هنا أمراً واحداً و خطاباً فارداً لعامة المكلّفين من دون فرق بين المختار و المضطر، و هو قوله سبحانه:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ (1) ) (2)، غير انّ امتثال ذلك الأمر يختلف حسب اختلاف حالات المكلّفين من صحة و سقم، و قدرة و عجز، فيصلي السليم المتمكن، قائماً بالطهارة المائية كما يصلّي السقيم العاجز قاعداً بالطهارة الترابية، فالاختلاف يرجع إلي كيفية امتثال الأمر الواحد بالنسبة إلي اختلاف حالات المكلّفين، و نظير الآية السابقة قوله سبحانه:( إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (3) ) (4) حيث إنّ ظاهر الآية وحدة الأمر في الحاضر و المسافر غير انّ المسافر يجوز له أن يُقصِّر تلك الصلاة و يجعلها ركعتين من دون أن يختلف أمر الحاضر و المسافر.

و مثل الآيتين قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ (5) ) (6) إلي أن قال:( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (7) (8)، فالآية ظاهرة في أنّ كلاّ من الواجد و الفاقد للماء يقصد أمراً واحداً لكنّهما يختلفان في كيفية إيجاد الجامع الصادق علي الفردين، فأحدهما يأتي بها بالطهارة المائية و الآخر يأتي بها بالطهارة الترابية، فكلا الفردين من مصاديق الصلاة التي أمر بها جميع المكلّفين علي اختلاف حالاتهم.

و المبرِّر لوحدة الأمر مع اختلاف المتعلّق في الكيفية هو كون الطبيعة ذات6.

ص: 106


1- سوره 17 - آيه 78
2- . الإسراء:78.
3- سوره 4 - آيه 101
4- . النساء:101.
5- سوره 5 - آيه 6
6- . المائدة:6.
7- سوره 5 - آيه 6
8- . المائدة:6.

عرض عريض و ذات مراتب مختلفة. و قد مرّ في مبحث الصحيح و الأعم (1) انّ الصلاة بمعني واحد تصدق علي جميع المراتب المختلفة من دون أن يكون اللفظ مشتركاً لفظيّاً بين المراتب.

فعلي هذا الأساس يتجلّي الإجزاء بصورة واضحة، لأنّ المفروض انّ الأمر واحد و الطبيعة المتعلّقة للأمر، صادقة علي فعل المتمكّن و المضطر و ينطبق علي كليهما عنوان الصلاة و عند ذاك لا وجه لعدم الإجزاء بعد تمامية المقدّمات.

ثمّ إنّ القول بوحدة الأمر إنّما يوجب الإجزاء في صورتين:

أ: إذا كان العذر مستوعِباً لتمام الوقت فامتثل الأمر بالفرد الاضطراري الموجب للإجزاء.

ب: إذا لم يكن العذر مستوعباً و لكن دلّ الدليل علي كفاية العذر غير المستوعب في البدار إلي امتثال الأمر بالفرد الاضطراريّ و عدم اشتراط العذر المستوعب، فإذا كان الامتثال بإذن من الشارع و انطبق عليه عنوان الطبيعة سقط الأمر قطعاً، و لا يبقي لعدم الإجزاء وجه.

نعم لو كان العذر غير مستوعب و لم يدلّ دليل علي جواز البدار إلي الامتثال بالفرد الاضطراري فلا وجه للقول بالإجزاء، لأنّ المقام يكون من قبيل الشكّ في سقوط الواجب بالفرد المشكوك فتجب عليه الإعادة في الوقت، و القضاء خارجه، و لو لم يُعِد و الوقت باق فعليه القضاء.

هذا كلّه علي القول بوحدة الأمر ، و أمّا علي القول بتعدد الأمر و انّ هناك أمراً بالفرد الاختياري، و أمراً بالفرد الاضطراري، فإثبات الإجزاء علي عاتق الدراسات العليا.1.

ص: 107


1- . لاحظ صفحة 71.

الثالث: اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

اشارة

الثالث: اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي (1)

إنّ العمل بالأمارات و الأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف و الوظيفة، كالأمارة القائمة علي كون الواجب هو صلاة الجمعة في ظهرها، أو الاستصحاب الدالّ علي كونها الواجب.

و أُخري لاستكشاف كيفية التكليف، كما إذا قامتا علي عدم كون شيء شرطاً أو جزءاً أو مانعاً، أو علي كونه شرطاً أو جزءاً أو مانعاً.

فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: العمل بالأمارات أو الأُصول لاستكشاف كيفية التكليف، سواء أ كانت الشبهة حكمية أو موضوعية.

الثاني: العمل بهما لاستكشاف أصل التكليف.

فلنقدم البحث في الأمارة علي الأُصول
اشارة

كما تقدم إعمالها لاستكشاف الكيفيّة، علي استكشاف أصل التكليف.

الف: العمل بالأمارة في استكشاف كيفية التكليف

لو صلّي إنسان أو توضّأ أو اغتسل أو حجّ علي وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً علي حجّية قوله لدي الشارع ثمّ بان خطأ الراوي، فهل يكون العمل مجزياً أو لا؟ حكي سيّد مشايخنا البروجردي(قدس سره) تسالم القدماء علي الإجزاء في الأمارات و الأُصول في استكشاف كيفية التكليف، و إنّما طرأ القول بعدم الإجزاء من عصر الشيخ الأنصاري(1212 1281ه).

و يمكن أن يُستدلّ علي الإجزاء بوجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بها

ص: 108


1- . الحكم الواقعي هو كلّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ في حكم، مثل الغنم حلال. الحكم الظاهري هو كلّ حكم أخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي نظير كلّ شيء حلال حتّي تعلم انّه حرام و سيوافيك تفصيلهما عند البحث في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي في ج 2.

في موردها، و إجزائه في مقام الامتثال مطلقاً، وافقت الواقع أم خالفت، مثلاً إذا قال الإمام: »العمري ثقتي، فما أدّي إليك عنّي فعني يؤدّي، و ما قال لك عني، فعني يقول، فاسمع له و أطع، فانّه الثقة المأمون«. (1)

و هو يعلم انّ العمري إنسان غير معصوم ربما يخطأ و مع ذلك يأمر بالعمل بقوله علي وجه الإطلاق. فيكون معني هذا انّ المولي قد رضي في امتثال أوامره و نواهيه، و تحصيل أغراضه و مقاصده، علي حدّما، أدّت إليه الأمارة، التي تكون مطابقة للواقع بدرجة كبيرة، فكون الأمارة محصِّلة للمقاصد بهذا المقدار صحَّحَ الأمر بالعمل بقوله مطلقاً و بالتالي أوجب رفع اليد عن أغراضه فيما إذا أخطأ، كلّ ذلك لمصلحة عالية و هو تسهيل الأمر علي المكلّفين.

و ما استظهرنا من الملازمة بين الأمر بالعمل بقول الثقة، و الإجزاء مطلقاً سواء أ وافق الأمر أم لا، هو المتفاهم في العرف في هذه الموارد. مثلاً:

لو أمر المولي عبده بأن يهيِّئ له دواء ليتداوي به و أمره بأن يسأل صيدليّاً معيّناً عن نوعيّة أجزائه و كمّية و كيفية تركيبه، فاتبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب، ثمّ ظهر أنّ الصّيدليّ قد أخطأ في مورد أو موردين، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه، و يرون عمله مسقطاً للتكليف، من دون ايجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء، اللّهمّ إلاّ أن يأمره المولي مجدّداً.

و هذه الارتكازات تدلّ علي الملازمة بين الأمر بالرجوع إلي الثقات و الخبراء، و الاكتفاء في امتثال الأمر بما أتاه بإرشادهم و هدايتهم، و هذا يعطي أنّ الشارع اكتفي في دائرة المولوية و العبودية فيما يرجع إلي مقاصده، بما يؤديه إخبار الثقة، و لو بان الخلاف، فهو يرفع اليد عن مقاصده، تسهيلاً للأمر علي العباد.

فإن قلت: فأي فرق بين هذا القول و بين القول بالتصويب، فانّ رفع اليد4.

ص: 109


1- . الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4.

عن الحكم الواقعي في حقّ الجاهل كما هو المفروض تصويب و إنكار للحكم المشترك بين عامة الناس.

قلت: التصويب عبارة عن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم و عدم شمولها للجاهل من رأس، و هذا بخلاف المقام، فانّ الأحكام الواقعية علي هذا القول تشمل جميع الناس من دون تفاوت بين العالم و الجاهل، و لكنّه سبحانه و تعالي تسهيلاً للأمر علي العباد اكتفي في امتثال أوامره بإخبار الثقات، لمطابقتها للواقع بنسبة عالية، فأوجبت المصلحةُ التسهيلية عدمَ فعلية هذه الأحكام في موارد التخلّف.

و بالجملة فرق بين عدم جعل الحكم علي الجاهل و بين عدم فعليته في حقّه، لأجل قيام الأمارة علي خلاف الواقع.

فإن قلت: إنّ العبد و إن كان معذوراً في ترك الواقع و لكن غرض المولي بعدُ لم يستوف فتجب الإعادة و القضاء لذلك.

قلت: لو علم المكلّف بأنّ غرض المولي بعدُ لم يُستوف كما إذا أمر بإحضار الماء للتوضّؤ فأتي به ثمّ تلف يجب عليه تجديد الامتثال لأجل حفظ الغرض، و أمّا المقام فليس هناك علم بعدم استيفاء الغرض و ذلك لما عرفت من أنّ المصلحة التسهيليّة سبَّبت لأن يتضيّق غرض المولي بما أدّت إليه الأمارة التي تطابق الواقع بدرجة كبيرة، فليس له إلاّ هذا المقدار من الغرض.

نعم لو لا المصلحة التسهيلية لربما يتعلّق غرضه باستيفائه في عامة الموارد وافقت الأمارة للواقع أو خالف. و عندئذ يقوي القول بعدم الإجزاء.

و بالجملة رفع الحرج عن المكلّفين و إيجاد الرغبة للناس إلي الدين من الأُمور التي صارت سبباً لتضييق غرضه و تحدّده بما توصل إليه الأمارة و غض النظر عمّا إذا لم يُستوفَ.

ص: 110

هذا هو المختار عندنا و لكن المتأخرين كالشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني و غيرهما من الأعلام ذهبوا إلي عدم الإجزاء في الأمارات القائمة علي كيفية التكليف.

ب:العمل بالأمارة لاستكشاف أصل التكليف

إذا قامت الأمارة علي أصل التكليف، كما إذا قام علي أنّ الواجب هو صلاة الظهر و كان الواجب هو صلاة الجمعة، فالحقّ عدم الإجزاء و ذلك لوجود الفرق بين قيام الأمارة علي كيفية التكليف و قيامها علي أصل التكليف.

ففي الصورة الأُولي أتي بالمكلّف به و انطبق عليه عنوان الصلاة و لكنّه كان ناقصاً غير تام، فيمكن ادّعاء الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأمارة و الإجزاء في صورة التخلّف، و أمّا إذا لم يمتثل أصلاً، كما لو أمره المولي بخياطة ثوبه فاخبرت الثقة بانّ الواجب هو طبخ الطعام فلا وجه للامتثال.

فالملازمة العرفية التي اعتمدنا عليها مختصة بما إذا كان هناك امتثال لأمره، غاية الأمر لم يكن المأتيّ به مطلوباً تاماً، و أمّا إذا لم يمتثل أبداً، و لم ينطبق عليه عنوان المأمور به، يبقي الغرض علي ما كان عليه، فلا وجه لاجزاء امتثال أمر موهوم عن أمر حقيقي.

هذا كلّه حول العمل بالأمارة في كلا الموردين، و إليك البحث في العمل بالأُصول.

العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف

إذا امتثل الواجبَ، بالأُصول الشرعية كما إذا صلّي المكلّف في الثوب المتنجس اعتماداً علي قاعدة الطهارة أو استصحابها فهل يحكم بالإجزاء أو لا،

ص: 111

فالظاهر هو الحكم بالإجزاء لوجهين:

الأوّل: ما ذكرنا من حديث الملازمة بين الأمر بالعمل بالشيء لاستكشاف كيفية التكليف، و الإجزاء و قد مرّ مفصّلاً فلا نطيل.

الثاني: هو حكومة أدلّة الأُصول بالنسبة إلي أدلّة الأجزاء و الشرائط، فإذا قال: صلّ في ثوب طاهر، ثمّ قال: إذا شككت في كون شيء طاهراً أو لا فهو طاهر، فالظاهر منه هو حكومة دليل الأصل علي أدلّة الأجزاء و الشّرائط حيث إنّ الدليل الأوّل يدعو إلي إيقاعها في ثوب طاهر، و الدليل الثاني يُثبت انّ هذا المشكوك طاهر و مصداق للدليل الأوّل، فتكون نتيجة الحكومة هو كون الشرط للصلاة هو الأعمّ من الطّهارة الواقعية أو الظّاهرية، وعليه إذا صلّي في ثوب محكوم بالطهارة، فقد صلّي في ثوب حاصل للشرط واقعاً، إذ المفروض بعد الحكومة انّ الشرط هو الأعمّ من الواقعية و الظاهرية، و عندئذ ينطبق عليه عنوان الصلاة فيسقط الأمر، لما عرفت من أنّ الإتيان بالمأمور به يلازم الإجزاء.

فإن قلت: إنّ الامتثال بالثوب المحكوم بالطهارة ظاهراً، و النجس واقعاً يوجب الإجزاء بالنسبة إلي الحكم الظاهري، و أمّا الحكم الواقعي المتعلّق بالثوب الطاهر واقعاً فهو باق.

قلت: إنّ الإشكال مبني علي تعدد الأمر و انّ هناك أمرين:

أمر بالصلاة بالطهارة الظاهرية، و أمر بها بالطهارة الواقعية، فالامتثال الأوّل لا يغني من الثاني، و أمّا علي ما ذهبنا إليه من أنّ هناك أمراً واحداً متعلّقاً بالصلاة حسب اختلاف الحالات و حسب ما للصلاة من العرض العريض من الأفراد فليس هناك إلاّ أمر واحد و المفروض انّه امتثله بشهادة كون الفعل حائزاً لما هو الشرط فيه و بالتالي انطباق عنوان الصلاة عليه و معه لا يبقي أمر.

ص: 112

و بذلك يعلم الحال في سائر الأُصول كقاعدة الحلية و البراءة و التجاوز، فلو انّ القوم قاموا بدراسة واقع التشريع و وحدة الأمر مكان تعدده لسهل عليهم القول بالإجزاء في عامة المراتب إلاّ إذا لم يكن هناك أيُّ امتثال.

و بذلك يعلم حال الصورة الثانية من العمل بالأُصول و هو ما إذا قام الأصل علي أصل التكليف و بان الخلاف كما إذا استصحب وجوب الجمعة و كان الواجب في الواقع هو الظهر فعدم الإجزاء هو المحكم لما مرّ في مورد الأمارات.

تنبيه: في تبدّل القطع

لو قطع المكلّف بشيء ثمّ بان خلافه من غير فرق بين تعلّق قطعه بكيفية العمل أو أصله، فلا ينبغي الشكّ في عدم الإجزاء، و ذلك لأنّه لم يكن هناك أمر من المولي بالمقطوع به حتي يستدلّ بالملازمة علي الإجزاء. إذ القطع حجّة عقلية، و الآمر بتطبيق العمل علي وفقه هو العقل لا الشرع، و من جانب آخر لم يُستوف غرض المولي، فهو بعد باق، فلا وجه للإجزاء.

تطبيقات

1. لو صلّي اعتماداً علي يقينه بدخول الوقت فبان الخلاف، لاعاد صلاته لعدم الأمر الشرعي بها.

نعم لو صلّي اعتماداً علي البيّنة الشرعية فمقتضي القاعدة(الملازمة العرفية) هو الإجزاء لو لا قاعدة »لا تعاد« حيث إنّ الوقت أحد الأُمور الخمسة التي تعاد الصلاة في فوتها مطلقاً.

2. لو دخل الصبي في الصلاة و هو غير بالغ فبلغ في أثنائها، فيجب عليه إكمال الصلاة و الاجتزاء بها لما عرفت من أنّ البالغ و غير البالغ يقصدان أمراً واحداً

ص: 113

و هو( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ (1) ) (2). غير انّ الدليل الخارجي دلّ علي شدّة الإرادة في البالغ و ضعفها في غيره.و هذا لا يكون سبباً لتعدد الأمر، و عندئذ فقد امتثل الأمر المتعلق بالصلاة، و انطبق عنوان الصلاة علي المأتي به فلا وجه لبقاء الأمر.

نعم ذهب صاحب الجواهر إلي لزوم الإعادة عملاً بتعدد الأمر، و قال: فيكون اللّذان تواردا علي الصبي في الفرض أمرين: ندبياً و إيجابياً و مع المعلوم عدم إجزاء الأوّل عن الثاني. (3)

3. إذا انحصر الثوب في النجس و لم يتمكن من غسله و نزعه لبرد و صلّي فيه، فإن كان العذر مستوعباً فلا كلام في الإجزاء، و إن كان غير مستوعب كما إذا تمكّن من الغسل أو النزع في فترة من الوقت فالاجتزاء به يتوقف علي إطلاق في دليل الاضطرار. بأن كان العذر غير المستوعب مجوزاً للبدار و إقامة الصلاة في النجس و إلاّ فالمرجع هو الاحتياط للشكّ في سقوط الأمر الواحد.

4. لو دفع الزكاة إلي شخص علي أنّه فقير فبان غنياً، ارْتجعت مع التمكّن، فإن تعذّر ارتجاعها كان في ذمّة الآخذ، إنّما الكلام في براءة ذمّة الدافع فإن اعتمد في الفحص عن حاله علي حجّة شرعية كالبيّنة أو خبر العادل بناء علي حجّيته في الموضوعات أو الاستصحاب أجزأ ، لقاعدة الملازمة العرفية و يكون الموضوع لبراءة الذمة، الدفع لمن ظهر منه الفقر لا الفقر الواقعي.

5. إذا قلّد من يقول بصحّة الصلاة بلا سورة أو بصحّة العقد باللغة الفارسية أو بجواز ذبح الحيوان بغير الحديد ثمّ مات المقلَّد و قلد مجتهداً آخر يقول فيها بخلاف ما قال الأوّل، فيقع الكلام في عباداته و معاملاته و التفصيل في مباحث الاجتهاد و التقليد.2.

ص: 114


1- سوره 17 - آيه 78
2- . الإسراء:78.
3- . الجواهر:7/262.

الفصل السادس : في المقدّمة: أقسامها و أحكامها

اشارة

عُرِّفت المقدّمة بأنّها ما يتوصّل بها إلي شيء آخر علي وجه لولاه لما أمكن تحصيله، و قد قسّموا المقدّمة إلي داخلية و خارجية، إلي عقلية و شرعية و عادية، إلي مقدّمة الوجود و الصحّة، إلي مقدمة الوجوب و العلم، إلي السبب و الشرط و المعد و المانع، إلي المقدّمة المفوّتة و غير المفوّتة، و إلي العبادية و التوصلية، و قد بحثنا في هذه الأُمور في كتاب الموجز (1) فلا نعيد.

و الذي تجب الإشارة إليه في المقام هو تقسيم الشرط إلي شرط التكليف و شرط الوضع، و شرط المأمور به.

فشرط التكليف كالأُمور العامّة، مثل: العقل، و البلوغ، و القدرة.

و شرط الوضع كشرط الصحّة مثلاً نظير الإجازة في بيع الفضولي، إذ لولاها لما وصف العقد الصادر من الفضولي بالصحّة التامّة.

و شرط المأمور به كالطهارة من الحدث و الخبث.

ص: 115


1- . الموجز:4845.

تقسيم الشرط إلي متقدّم و مقارن و متأخّر

قسَّم الأُصوليون الشرطَ إلي متقدّم و مقارن و متأخر، و إليك أمثلته:

أ: ما هو متقدّم في وجوده زماناً علي المشروط، كالوضوء و الغسل بالنسبة إلي الصلاة و نحوها، بناء علي أنّ الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلي حين الصلاة.

ب: ما هو مقارن للمشروط للزوم وجوده طول العمل، كالاستقبال و طهارة اللباس.

ج: ما هو متأخّر عن المشروط في وجوده زماناً، كالاغتسال في الليل للمستحاضة، الذي هو شرط لصحّة صوم النهار السابق، و كإجازة المالك التي هي شرط لصحّة بيع الفضولي من أوّل إنشائه علي القول بأنّ الإجازة كاشفة لا من حين صدور الإجازة(علي القول بأنّ الإجازة ناقلة) و إلاّ يكون من قبيل المقارن.

دليل القائل بوجوب المقدّمة

اشتهر القول بأنّ مقدّمة الواجب واجبة، و مقدّمة الحرام حرام. و لنقدّم الكلام في حكم الأُولي، فنقول:

قد استدلّ علي وجوب المقدّمة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني، حيث قال: إنّ الوجدان أقوي شاهد علي أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، و يقول مولوياً: ادخل السوق و اشتر اللحم مثلاً.

بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب ادخل، مثل المنشأ بخطاب »اشتر« في كونه

ص: 116

بعثاً مولوياً و أنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أُخري بدخول السوق بعد الالتفات إليه و أنّه مقدّمة له. (1)

يلاحظ عليه: أنّ الوجدان يشهد علي خلافه، و انّه ليس هنا إلاّ بعث واحد، و الأمر بالمقدّمة إمّا إرشاد إلي المقدمية، أو تأكيد لذيها، و يشهد علي ذلك أنّه لو سئل المولي عن وحدة بعثه و تعدّده، لأجاب بوحدته و إن هنا بعثاً واحداً متعلقاً بالمطلوب الذاتي.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني، و حاصله انّه لا فرق بين الإرادة التكوينية و التشريعية في جميع لوازمها، غير انّ التكوينية تتعلّق بفعل نفس المريد، و التشريعية تتعلّق بفعل غيره; و من الضروري انّ تعلّق الإرادة التكوينية بشيء يستلزم تعلّقها بجميع مقدّماته قهراً.

نعم لا تكون هذه الإرادة القهرية فعلية، فيما إذا كانت المقدمية مغفولاً عنها، إلاّ انّ ملاك تعلّق الإرادة بها، و هو المقدّمية علي حاله. فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية، فتكون الإرادة التشريعية مثلها أيضاً. (2)

يلاحظ عليه: بالفرق بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية، و ذلك لانّ الإرادة التكوينية تتعلّق بنفس الفعل الصادر من المريد، و لا يصدر الفعل من الفاعل إلاّ بعد تعلّق الإرادة التكوينية بمقدّماته، فيريد كلّ مقدّمة بارادة خاصة.

و أمّا الإرادة التشريعية فلا تتعلق بنفس الفعل الصادر من الغير، من دون فرق بين نفس الفعل و مقدمته، لأنّ الإرادة تتعلق بما هو واقع تحت اختيار المريد، و فعل الغير نفسه و مقدّماته غير واقع تحت اختيار المريد، و عندئذ فإرادة4.

ص: 117


1- . كفاية الأُصول: 1/200.
2- . أجود التقريرات:1/231، و لاحظ فوائد الأُصول: 1/284.

المريد(الآمر) تتعلّق بما هو تحت اختياره و هو الأمر و البعث لا فعل الغير.

و قد صار تصوّر إمكان تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير سبباً لإشكالات كثيرة نبهنا عليها في موضعها.

هذا كلّه حول دراسة أدلّة القائلين بالوجوب و قد ذكرنا بعض أدلّتهم، و أمّا دليل القائل بعدم الوجوب فأمتنه ما يلي:

دليل القائل بعدم وجوب المقدّمة

و هو انّ الغرض من الإيجاب المولوي هو جعل الداعي و إحداثه في ضمير المكلّف، لينبعث و يأتي بالمتعلّق، مع أنّ وجوبها إمّا غير باعث، أو غير محتاج إليه، فإنّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة، فالأمر النفسي الباعث إلي ذيها، باعث إليها أيضاً، و معه لا يحتاج إلي باعث آخر بالنسبة إليها. و إن لم يكن بصدد الإتيان بذيها و كان مُعرضاً عنه، لما حصل له بعث بالنسبة إلي المقدّمة.

و الحاصل: انّ الأمر المقدمي يدور أمره بين اللغوية إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها و عدم الباعثية و إحداث الداعوية أبداً ، إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.

ما هو الواجب من المقدّمة؟

ثمّ إنّ القائلين بوجوب المقدّمة اختلفوا فيما هو الواجب:

1. الواجب هو نفس المقدّمة من حيث هي هي، و هذا القول هو المشهور.

2. الواجب هو المقدّمة الموصلة، و هو خيرة صاحب الفصول.

3. الواجب هو المقدّمة بقصد التوصل إلي ذيها، و هو خيرة الشيخ الأنصاري.

ص: 118

استدلّ صاحب الفصول علي مختاره: بأنّ الحاكم بالملازمة بين الوجوبين هو العقل، و لا يري العقل إلاّ الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب ما يقع في طريق حصوله و سلسلة وجوده، و فيما سوي ذلك لا يدرك العقل أيّة ملازمة بينهما.

و أُورد عليه: بأنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ علي وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، لثبوت مناط الوجوب أعني التمكن من ذيها في مطلقها و عدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.

و لكن الحقّ انّه لو قلنا بوجوب المقدّمة لاختصّ الوجوب بالموصلة منها، و ذلك لأنّ الغاية تُحدِّد حكم العقل و تضيّقه، و ذلك لأنّ التمكّن من ذي المقدّمة و إن كان غاية لوجوبها لكنّها ليست تمامها، و الغاية التامة هي كون المقدّمة الممكِّنة، موصلة لما هو المطلوب، و إلاّ فلو لم تكن موصلة، لما أمر بها، لأنّ المفروض أنّ المقدّمة ليست مطلوبة و إنّما تطلب لأجل ذيها.

و إن شئت قلت: إنّ المطلوب الذاتي هو التوصّل خارجاً، دون التوقّف، فلو فرض إمكان التفكيك بينهما، لكان الملاك هو التوصّل خارجاً دون التوقف.

و بما انّ المقدّمة في متن الواقع علي قسمين يتعلّق الوجوب بالقسم الموصل في الواقع و نفس الأمر دون غيره.

و تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا توقّف إنقاذ النفس المحترمة علي إتلاف مال الغير إذا كان أقلّ أهمية منها، و لو افترضنا أنّه أتلفه و لم ينقذ الغريق، فعلي القول بوجوب مطلق المقدّمة لم يرتكب الحرام، لامتناع اجتماع الوجوب و الحرمة في شيء واحد، بخلاف ما إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة، فبما أنّها لم يكن موصلة لم تكن واجبة بل باقية علي حرمتها.

و استدلّ علي القول الثالث: بأنّ قصد التوصّل قيد للواجب، فالواجب هو خصوص ما أوتي به بقصد التوصّل.

ص: 119

يلاحظ عليه: أنّه دعوي بلا برهان، فإنّ ملاك الوجوب هو التوقّف إذا لم نقل بوجوب المقدّمة الموصلة و هو متحقّق فيما قصد به التوصّل و ما لم يقصد، و لا معني لأخذ ما لا دخالة له في موضوع الوجوب.

فخرجنا بالنتائج التالية:

أ. عدم وجوب المقدّمة علي الإطلاق.

ب. علي فرض وجوبها فالواجب هو المقدّمة الموصلة.

ج. علي القول بالملازمة بين الوجوبين يترتّب عليها وجوب المقدّمة في الواجبات و حرمتها في المحرمات، و بذلك تكون المسألة(وجوب المقدّمة) من المسائل الأُصولية لوقوعها كبري لاستنباط حكم شرعي كما في الموارد التالية:

1. إذا تعلّق النذر بالواجب، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يكفي في الامتثال الإتيان بكلّ واجب غيري، و إلاّ فلا بدّ من الإتيان بواجب نفسي.

2. إذا أمر شخص ببناء بيت، فأتي المأمور بالمقدّمات، ثمّ انصرف الآمر، فعلي القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته يصير الآمر ضامناً لها، فيجب عليه دفع أُجرة المقدّمات و إن انقطع العمل.

3. لو قلنا بوجوب المقدّمة شرعاً، يحرم أخذ الأُجرة عليها، كما إذا أخذ الأُجرة علي تطهير الثوب الذي يريد الصلاة فيه، لما تقرر في محلّه من عدم جواز أخذ الأُجرة علي الواجبات.

4. لو كان لواجب واحد مقدّمات كثيرة، كالحجّ من أخذ جواز السفر، و تذكرة الطائرة، يحصل الفسق بترك هذين الأمرين علي وجه لا يمكن تداركهما، لصدق الإصرار علي الصغيرة إذا كانت مخالفة الأمر المقدّمي معصية صغيرة، و لا يتوقف حصول الفسق علي ترك ذيها.

ص: 120

5. إذا كانت المقدّمة أمراً عبادياً، كالطهارات الثلاث، فلو قلنا بأنّ قصد الأمر الغير يكفي في كون الشيء عبادة، فعلي القول بوجوب المقدّمة يكفي قصد الأمر الغيري في عباديّتها، و إلاّ فلا بدّ في تصحيح عبادية الطهارات الثلاث من محاولة أُخري مذكورة في محلّها.

في حكم مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام

لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب تكون مقدّمة المستحب مستحبة، كالمشي إلي زيارة الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) ، إنّما الكلام في مقدّمة المكروه فالظاهر انّها مكروهة بعامة أجزائها كالمشي إلي الطلاق، لأنّ لكلّ جزء مدخلية في تحقّق المبغوض فيسري إليها البغض كسريان الحبّ إليها في مقدّمة الواجب.

و يمكن أن يقال بكراهة الجزء الأخير من العلّة التامة لموضوع المكروه.

و منه يظهر حال مقدّمة الحرام، فإذا كان الملاك للحرمة هو المدخلية فيحرم كلّ مقدّمة من مقدّمات الحرام، شرطاً كان أو معدّاً.

و هناك احتمال آخر و هو حرمة الجزء الأخير من العلّة التامة الذي لا ينفك عنه وجود المبغوض و علي كلّ تقدير فالجميع فروض علي أساس غير محقّق و هو وجوب المقدّمة أو حرمتها.

مميّزات الوجوب الغيري

ثمّ إنّه إذا قلنا بالوجوب الغيري فهو يتميز عن النفسي عند المشهور بوجوه:

1. انّ الوجوب الغيري لا يوجد إلاّ بعد افتراض الوجوب النفسي، لكونه معلولاً له.

2. انّ الوجوب الغيري لا يترتب علي مخالفته العقاب لوضوح انّ العقاب

ص: 121

لا يتعدد، حسب تعدد مقدّمات الواجب النفسي.

3. الوجوب الغيري لا يكون مقصوداً بالذات في مقام الامتثال، و إنّما يكتسب المحبوبية من ناحية الوجوب النفسي الّذي يتوقف امتثاله علي امتثال الواجب الغيري.

ص: 122

الفصل السابع: في ترتّب الثواب علي امتثال الواجب الغيري

لا إشكال في أنّ ترك الواجب النفسي يستوجب العقاب، لأنّه تمرّد و طغيان علي المولي، و خروج عن رسم العبوديّة و زيّ الرقية، و هو قبيح عقلاً و شرعاً، فيستوجب اللوم و العقاب.

كما لا إشكال في أنّ ترك الواجب الغيري بما هو هو لا يستوجب العقاب، غير أنّه لمّا كان تركه ملازماً لترك الواجب النفسي، فالعقاب إنّما هو علي ترك النفسي لا علي مقدّمته.

كما لا إشكال في أمر ثالث، و هو ترتّب الثواب علي امتثال الواجب النفسي إذا قصد القربة و أتي به للّه سبحانه.

إنّما الكلام في أمر رابع و هو ترتّب الثواب علي الواجب الغيري إذا أتي به بقصد التوصّل، و عدم ترتّبه عليه، و قبل الخوض في المقصود، نشير إلي مسألة كلامية، و هي:

هل ترتّب الثواب علي امتثال التكليف علي وجه الاستحقاق أو علي وجه التفضّل؟ قولان: ذهب إلي الأوّل المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد و تبعه العلاّمة الحلّي في كشف المراد و مال إليه المحقّق الخراساني في الكفاية، و ذهب إلي الثاني الشيخ المفيد علي ما نقل عنه.

ص: 123

أقول: أمّا الأوّل فالظاهر عدم ثبوته بل ثبوت خلافه، و ذلك لأنّ من عرف ربّه و عظمته، و عرف فقر نفسه، و أنّ ما يملكه من حول و قوة، و جارحة و جانحة، و ما يصرفه في طريق الطاعة، كلّه مفاض منه تعالي إليه، و ليس ملكاً للعبد، بل ملك له سبحانه، صدّق القول بعدم الاستحقاق، لأنّ القائل بالاستحقاق ذهب إلي أنّه يجب عليه سبحانه القيام به، و عَدّ تركه ظلماً منه للعباد، و هو لا يجتمع مع القول بأنّ المالك هو اللّه سبحانه علي الإطلاق، لا غير، و أنّ جميع شئون العبد و حوله و قوّته و إرادته و فعله ملك للّه تعالي، فما أتي به العبد ليس سوي ما أعطاه إيّاه تعالي.

و إن شئت قلت: إنّ مثَل المخلوق إلي خالقه، مثَل المعني الحرفي إلي الاسمي فلا يملك المعني الحرفي لنفسه شيئاً سوي كونه موجوداً غير مستقل في ذاته و فعله، و عند ذلك كيف يستحقّ شيئاً في ذمة المولي، بحيث لو لم يؤدّه يكون ظالماً في حقّه؟! و إلي ذلك يشير قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَي اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (1) ). (2)

و أمّا التّعبير في بعض الآيات »بالأجر« الظاهر في الاستحقاق كقوله سبحانه:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (3) ). (4)

و قوله سبحانه:( وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (5) ) (6) إلي غير ذلك من الآيات، فإنّما هو من باب المشاكلة نظير التعبير بالاستقراض في قوله سبحانه:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (7) ). (8)1.

ص: 124


1- سوره 35 - آيه 15
2- . فاطر:15.
3- سوره 35 - آيه 7
4- . فاطر:7.
5- سوره 11 - آيه 115
6- . هود:115.
7- سوره 57 - آيه 11
8- . الحديد: 11.

و أمّا علي القول الثاني أي كون الثواب تفضّلاً من اللّه سبحانه فيكون الثواب و العقاب بالجعل و المواضعة فله أن يتفضّل علي العباد بالوعد كما أنّ له أن لا يتفضّل عليهم به.

نعم بعد ما وعد يمتنع عليه التخلّف لاستلزامه الكذب الذي هو قبيح علي الحكيم.

و علي ضوء ذلك يظهر حكم المسألة أي ترتّب الثواب علي الواجب الغيري، فلو قلنا بأنّ الثواب علي نحو الاستحقاق يكون المدار هو إطاعة أمر المولي، سواء أ كان المأمور به نفسياً أم غيرياً خصوصاً إذا أتي العبد بالمقدّمة بقصد التوصّل إلي الواجب فيعد مطيعاً و المطيع مستحق للثواب من غير فرق بين إطاعة أمر دون أمر و لا بين كون الواجب محبوباً بالذات أو لا، لأنّ ملاك الاستحقاق هو أن يكون فعل العبد لأجل امتثال أمره سبحانه من دون أن ينبعث عن أهواء نفسية و كون المتعلّق غير محبوب بالذّات كما في الواجب الغيري لا يؤثر في صدق الطاعة و كون الفعل للمولي المستتبع للثواب.

و أمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالجعل و المواضعة فيتبع مقدار الجعل و حدوده، و الظاهر من الكتاب هو الأعم و انّ الثواب يترتب علي مقدّمة الواجب أيضاً كما في قوله سبحانه:( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (1) ) (2) فقد قدّر لطيّ الأرض و السفر إلي أرض المعركة، و ما يصيبهم في أثناء ذلك من ظمأ و تعب0.

ص: 125


1- سوره 9 - آيه 120
2- . التوبة:120.

و مشقة، أجراً، مع أنّها واجبات مقدمية غيرية ، و مثل ذلك ما ورد من ترتّب الثواب علي كلّ خطوة يخطوها المؤمن المتوجّه لزيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي(عليهما السلام). (1)3.

ص: 126


1- . لاحظ كامل الزيارات: 133.

الفصل الثامن : في تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط

اشارة

الفصل الثامن : في تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط (1)

إذا كان وجوب الشيء مشروطاً بوجود شيء، سواء أ كان أمراً خارجاً عن الاختيار كدلوك الشمس بالنسبة إلي وجوب صلاة الظهر، أم داخلاً في الاختيار كالاستطاعة بالنسبة إلي وجوب الحجّ ، يطلق عليه الواجب المشروط.

و أمّا إذا كان وجوب الشيء غير مشروط بوجود الشيء بل يجب، سواء أ كان هذا الشيء موجوداً أو لا، يطلق عليه الواجب المطلق، و ذلك كوجوب الصلاة بالنسبة إلي الوضوء، فإنّ وجوبها ليست مشروطة بالوضوء علي نحو لو لم يتوضأ لم تجب عليه الصلاة، بل الوجوب مطلق غاية الأمر انّ الوضوء شرط الصحة.

و بذلك يعلم أنّ الإطلاق و التقييد من الأُمور الإضافية كالأُبوّة و البنوّة و لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة و يجتمعان فيه من جهتين، مثلاً وجوب الصلاة بالنسبة إلي دلوك الشمس وجوب مشروط و هو بالنسبة إلي الوضوء وجوب مطلق، و تظهر ثمرة كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً في خصوص المقدّمات الاختيارية، فإن كان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلي أمر مثلاً كالوضوء لزم تحصيل

ص: 127


1- . عقدنا الفصلين: الثامن و التاسع بعد فصل مقدمة الواجب لوجود صلة بينهما باعتبار انّ الشرط و المعلق عليه يعدان من المقدمات.

الوضوء و بذل المال لشراء ماء الوضوء، و أمّا إذا كان وجوبه مشروطاً به، فالوجوب لا يتحقّق إلاّ بعد وجود الشرط فلا وجه لوجوب تحصيله.

و منه يعلم أنّ المقسم هو تقسيم الوجوب إلي المطلق و المشروط و وصف الواجب بهما من قبيل الوصف بحال المتعلّق.

نظرية الشيخ الأنصاري في الواجب المشروط

ذهب المشهور إلي أنّ الوجوب في الواجب المشروط مقيّد بالقيود المأخوذة في لسان الدليل، فالوجوب غير حاصل ما لم تحصل هذه القيود. و أمّا المادّة التي تلبّست بها الهيئة، فهي باقية علي إطلاقها. و معني قوله سبحانه:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ (1) ) هو تجب عند دلوك الشمس الصلاة، فالوجوب مقيّد بدلوكها و إن كانت المادة أعني: نفس الصلاة باقية علي إطلاقها. فالقيد راجع إلي الهيئة.

و خالف في ذلك الشيخ الأعظم في تقريراته (2) فاختار انّ القيود كلّها من خصوصيات المادة و أمّا الهيئة فهي باقية علي إطلاقها. وعليه يصير معني الآية المذكورة: تجب الصلاة المقيدة بالدلوك، كما أنّه يصير محصل قولك: »أكرم زيداً إن جاء« أنّه يجب الإكرام المقيد بالمجيء.

و عند ذلك تختلف النتيجة، فعلي المشهور، لا وجوب ما لم يتحقّق القيد أي الدلوك. و علي قول الشيخ الوجوب حاليّ، و إن كان ظرف العمل استقبالياً.

يلاحظ علي نظرية الشيخ بأنّ القيود بحسب اللب و الواقع علي قسمين، و لا معني لجعلهما قسماً واحداً.

فإنّ قسماً منها يرجع إلي مادة الواجب كما إذا ترتبت المصلحة علي الصلاة

ص: 128


1- سوره 17 - آيه 78
2- . مطارح الأنظار:4645.

في المسجد و الطواف حول البيت لا علي نفس الصلاة و الطواف المطلق. فلا شكّ انّ القيد »في المسجد«، »حول البيت« من قيود الصلاة فلأجل ذلك يجب عليه تحصيل المسجد لإقامة الصلاة فيه و شدّ الرحال إلي مكة المكرّمة للطواف.

و أنّ قسما منها يكون مؤثراً في ظهور الإرادة و بعث المولي بحيث لو لا الشرط لما كان هناك بعث و لا طلب فلا شكّ انّه من قيود الهيئة، فإذا قال: إن أفطرت فكفِّر و إن ظاهرت فأعتق، فانّ تعلّق إرادة المولي بالتكفير بصورة الإيجاب، رهن صدور عمل محرم من العبد كالإفطار في شهر رمضان و الظهار بحيث لولاهما لما صدر منه بعث إلي التكفير و لا أمر بالعتق فيكون »الافطار« في قوله: »إن أفطرت فكفِّر« قيداً للبعث الحاكي عن الإرادة.

و لنمثِّل مثالاً آخر: انّ حجّ المتسكع ذو مصلحة، كما أنّ أداء الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يخلو من مصلحة غير انّ إرادة المولي أو بعثه مشروطة بالاستطاعة و بلوغ الغلة حدّ النصاب، و ما ذلك إلاّ للزوم الحرج و الضيق علي المكلّفين لو لم يقيد الوجوب بالاستطاعة و بلوغ النصاب.

فإذا كانت ماهية الشروط علي قسمين مختلفين فلا وجه لجعلها قسماً واحداً كما عليه المحقّق الأنصاري.

ص: 129

الفصل التاسع: في تقسيم الواجب المطلق إلي منجَّز و معلَّق

اشارة

إنّ صاحب الفصول قد قسّم الواجب المطلق إلي قسمين: منجز و معلّق، فقال:

إذا تعلّق الوجوب بالمكلّف به كمعرفة اللّه و لم يتوقّف حصول الواجب علي أمر غير مقدور يسمّي منجزاً، و إن تعلّق به و توقّف حصول الواجب في الخارج علي أمر غير مقدور كالوقت في الحج يسمي معلّقاً فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلف من أوّل زمان الاستطاعة أو خروج الرفقة و يتوقف فعله علي مجيء وقته و هو غير مقدور. (1)

و حاصله: أنّه إذا لم يكن وجوب الواجب، و لا امتثال نفس الواجب، متوقفين علي حصول أمر غير مقدور، فهو الواجب المنجز كالمعرفة.

و إن كان وجوبه غير متوقف علي شيء لكن كان امتثال الواجب متوقفاً علي حصول أمر غير مقدور، فهو الواجب المعلّق، أي عُلِّق الإتيان به علي مجيء زمنه، كما هو الحال في المستطيع عند وجود جميع المقدّمات قبل حلول أيّام الحجّ.

فالوجوب في كلتا الصورتين فعليّ، غير انّ الواجب في الأوّل(المعرفة) فعلي دون الثاني، فانّ الواجب فيه استقبالي.

ص: 130


1- . الفصول: 81 بتلخيص.

ثمرة التقسيم إلي المنجز و المعلّق

ثمّ إنّ الداعي إلي هذا التقسيم هو دفع الإشكال عن المقدّمات المفوِّتة حيث إنّ المشهور هو انّ فعلية وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها، و مع ذلك نري في الشريعة الإسلامية موارد توهم خلاف ذلك حيث وجبت المقدّمة قبل وجوب ذيها و ذلك في الموارد التالية:

أ: وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.

ب: وجوب الغسل ليلة الصيام قبل الفجر للجنب و المستحاضة.

ج: وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية بعد الاستطاعة قبل فوت الحجّ.

د: وجوب تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت الوجوب إذا ترتّب علي ترك التعلّم فوت الواجب في ظرفه.

ففي هذه الموارد تنهدم القاعدة المعروفة من »انّ فعليّة وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها« لوجوب المقدّمة فيها قبل وجوب ذيها.

هذا هو الإشكال و قد تخلّص منه صاحب الفصول بتقسيم الواجب المطلق إلي المنجز و المعلّق، و القول بأنّ الواجب في هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق، فالوجوب فعلي قبل الوقت و إن كان الواجب استقبالياً، فلا يلزم انهدام القاعدة. لأنّ وجوب المقدّمة المفوّتة في هذه الموارد لأجل فعلية وجوب ذيها و لا تنافي استقبالية الواجب لوجوب المقدّمة بالفعل.

ثمّ إنّ من أنكر تقسيم الواجب المطلق إلي المنجز و المعلّق، تخلص من الإشكال في هذه الموارد بوجوه أُخري مذكورة في دراسات عليا.

ص: 131

الفصل العاشر: في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

اشارة

اختلفت كلمة الأُصوليّين في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه، و الضدّ علي قسمين:

أحدهما: الضدّ العام و هو بمعني النقيض، فلو أمر بالصّلاة يكون تركها محرماً.

ثانيهما: الضدّ الخاص و هو الفعل الوجودي الذي لا يجتمع مع الفعل الواجب، كما إذا أمر بإزالة النجس عن المسجد فوراً و قد دخل وقت الصلاة، فلو قلنا بالاقتضاء يكون الأمر بالإزالة نهياً عن الصلاة.

في حكم الضدّ العام

أمّا الضدّ العام فلا يخلو إمّا أن يكون الاقتضاء بالدلالة المطابقية بأن يكون الأمر بالشيء عين النّهي عن تركه، أو بالدلالة التضمنية بأن يكون الأمر بالشيء بمعني طلب ذلك الشيء و المنع عن تركه، فالوجهان لا يرجعان إلي شيء لما عرفت من أنّ مفاد الأمر هو البعث إلي الشيء و ليس فيه أيّ دلالة علي حكم الترك فضلاً عن كون النّهي عنه علي نحو العينية أو الجزئية، و أمّا الدّلالة علي النّهي بنحو الدلالة الالتزامية فهي تتصور علي نحوين:

الأوّل: الالتزام بنحو اللّزوم البين بالمعني الأخص بأن يكون نفس تصوّر

ص: 132

الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك.

الثاني: الالتزام بنحو اللّزوم البيّن بالمعني الأعم بأن يكون تصوّر الطرفين(الأمر بالشيء و النهي عن الضدّ العام) و النسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء.

أمّا الأوّل فواضح الانتفاء، إذ كيف يصحّ ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو، مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بشيء و هو غافل عن الترك فضلاً عن النّهي عنه؟ و أمّا الثّاني: ففيه انّ هذا النحو من النهي يدور أمره بين عدم الحاجة و اللغوية ، و ذلك لأنّ الأمر بالشيء إذا كان باعثاً نحو المطلوب يكون النّهي عن الترك غير محتاج إليه إلاّ إذا كان تأكيداً للأمر و لكنّه خارج عن محط البحث، و إذا لم يكن باعثاً نحو المطلوب، يكون النهي عن الترك لغواً لعدم ترتّب الفائدة عليه.

هذا كلّه حول الضد العام.

أمّا الضدّ الخاص، فقد استدلّ عليه بوجهين:

أحدهما:مسلك المقدمية.

الثاني: مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو مبني علي تسليم أُمور ثلاثة:

1. انّ ترك الضدّ كالصلاة مقدّمة للمأمور به كالإزالة.

2. انّ مقدّمة الواجب واجبة فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.

3. انّ الأمر بالشيء(و هو في المقام قوله: اترك الصلاة) يقتضي النهي عن ضدّه العام، أعني: نقيض المأمور به و هو هنا نفس الصلاة.

و أنت خبير بعدم صحّة واحد من هذه الأُمور.

أمّا الأمر الأوّل أي كون ترك الضد مقدّمة للمأمور به فغير صحيح، إذ لا

ص: 133

مقدّمية لترك أحد الفعلين لإيقاع الفعل الآخر، فلا ترك الصلاة مقدّمة للإزالة و لا ترك الإزالة مقدّمة للصّلاة، بل غاية الأمر انّ بينهما منافرة و معاندة لا يجتمعان في زمان واحد. و أمّا كون أحد التركين مقدّمة للآخر فلا، لأنّ السبب الحقيقي لتحقّق كلّ واحد من الضدّين، هو إرادة المكلّف و اختياره، فإذا وقع امام الضدين و رأي انّ الجمع بينهما أمر غير ممكن، يختار واحداً منهما ، و يترك الآخر، حسب اقتضاء غرضه، من دون أن يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر.

و يمكن إبطاله أيضاً بوجه آخر و هو انّ جعل العدم موقوفاً عليه غفلة عن حقيقة العدم، فإنّ العدم أمر ذهني لا وجود له في الخارج كما هو واضح، و ما هو هذا شأنه لا يكون مؤثّراً و لا متأثّراً و لا موقوفاً و لا موقوفاً عليه.

و أمّا الأمر الثاني، أي وجوب المقدّمة التي هي »ترك الصلاة« فقد عرفت ضعفه لما عرفت من أنّ وجوب المقدّمة دائر بين ما لا حاجة إليه أو كونه لغواً.

و أمّا الأمر الثالث أي كون الأمر بالشيء حتّي الأمر المقدّمي مثل »اترك الصلاة«، يقتضي النهي عن ضدّه العام و نقيضه أي الصلاة ففيه انّ هذا النهي(لا تصلّ) امّا غير محتاج إليه إذا كان الأمر بالترك باعثاً، أو لغو إذا كان الأمر بالترك غير باعث.

إلي هنا تمّ الكلام في اقتضاء وجوب الشيء حرمة ضدّه سواء أُريد منه الضدّ العام أو الخاص من باب المقدمية.

و أمّا المسلك الثاني، أي مسلك الملازمة فقد أوضحنا حاله في الموجز (1) فلا نطيل فلاحظ.6.

ص: 134


1- . الموجز:5756.

الثمرة الفقهية للمسألة

تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء، فإذا كان الضدّ عبادة كالصلاة، و قلنا بتعلقّ النهي بها بأحد المسلكين السابقين تقع فاسدة، لأنّ النهي يقتضي الفساد، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة، أو اشتغل بها، حين طلب الدائن دينه.

ثمّ إنّ شيخنا بهاء الدين العاملي أنكر الثمرة، و قال: إنّ الصلاة باطلة سواء أقلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أم لم نقل.

أمّا علي الصورة الأُولي فلأجل النهي، و أمّا علي الصورة الثانية فلأجل سقوط الأمر بالصلاة، لأنّ الأمر بالشيء و إن لم يستلزم النهي عن الضدّ و لكن يستلزم سقوط الأمر بالضدّ في ظرف الأمر بالإزالة لئلا يلزم الأمر بالضدين في وقت واحد، فنفس عدم الأمر كاف في البطلان و ان لم يتعلّق بها النهي.

فالمسألة فاقدة للثمرة علي كلّ حال، لأنّ الصلاة باطلة إمّا لكونها محرّمة علي القول بالاقتضاء، أو غير واجبة علي القول بإنكار الاقتضاء، و معني عدم وجوبها، عدم تعلّق الأمر بها و هو يلازم البطلان.

ثمّ إنّ المتأخّرين من الأُصوليّين حاولوا إثبات صحّة الصلاة مع سقوط أمره من طريقين:

الأوّل: صحّة الصلاة لأجل وجود الملاك في الضدّ المبتلي به.

الثاني: الأمر بالضدّ علي نحو الترتّب، أي بشرط عصيان الأمر بالأهم، كأن يقول: أزل النجاسة و إن عصيت فصلِّ.

أمّا الوجه الأوّل، فقد اختاره المحقّق الخراساني، و ذلك لأنّ تعلّق النهي يلازم فساد العبادة لا عدم تعلّق الأمر، و المقام من قبيل الثاني لا الأوّل. فإذا

ص: 135

كانت العبادة غير منهية عنها يكون محكوماً بالصحّة و إن لم يكن هناك أمر و ذلك لكفاية الملاك و الرجحان الذاتي فيها، إذ الفرد المزاحِم للعبادة و غير المزاحِم سيان في الملاك و المحبوبية الذاتية، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره و أمّا ملاكه فهو بعدُ باق عليه.

هذا هو حال الوجه الأوّل، و أمّا حال الوجه الثاني فهو المعروف بمسألة الترتّب يطلب من دراسات عليا.

ص: 136

الفصل الحادي عشر: متعلّق الأوامر

اشارة

هل الأوامر و النواهي تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟ فنقول: المراد من الطبيعة: هو المفهوم الكلي من غير فرق بين أن يكون من الماهيات الحقيقية، كالأكل و الشرب; أو الماهيات المخترعة، كالصلاة و الصوم.

و المراد من الأفراد: هي الطبيعة مع اللوازم التي لا تنفك عنها لدي وجودها و لا يمكن إيجادها في الخارج منفكة عنها، فوقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر هل هو نفس الطبيعة الصرفة بحيث لو قدر المكلّف علي الإتيان بها مجرّدة عن المشخصات الفردية لكان ممتثلاً لأوامر المولي، أو أنّ متعلّقه هو الطبيعة مع اللوازم الفردية ؟ و علي ذلك، فالمراد من الطبيعة هو ذات الشيء بلا ضم المشخّصات، كما أنّ المراد من الفرد ذاك الطبيعي منضماً إلي المشخّصات الفردية الكلية، مثلاً:

إذا قال: المولي أكرم العالم، فهل متعلّق الأمر هو نفس ذلك المفهوم الكلي أي إكرام العالم أو هو مع المشخّصات الملازمة للمأمور به، كالإكرام في زمان معين، أو مكان معين، و كون الإكرام بالضيافة، أو بإهداء الهدية إلي غير ذلك من العوارض.

ص: 137

إذا وقفت علي معني الطبيعة و الأفراد في عنوان البحث، فنقول:

الحق أنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة دون الفرد، لأنّ البعث و الطلب لا يتعلّقان إلاّ بما هو دخيل في الغرض و يقوم هو به، و لا يتعلّقان بما هو أوسع ممّا يقوم به الغرض و لا بما هو أضيق منه، و ليس هو إلاّ ذات الطبيعة دون مشخّصاتها، بحيث لو أمكن للمكلّف الإتيان بذات الطبيعة بدونها لكان ممتثلاً.

و علي هذا فالطبيعة بما هي هي متعلّقة للطلب و البعث.

و بذلك يعلم أنّ متعلّق الزجر في النهي هو نفس متعلّق الأمر أي الطبيعة.

و الحاصل: أنّ محصّل الغرض هو المحدِّد لموضوع الأمر، و قد عرفت أنّ المحصّل هو نفس الطبيعة لا المشخّصات، كالزمان و المكان و سائر عوارض الطبيعة.

ثمرة المسألة

تظهر الثمرة في باب الضمائم، كما إذا توضأ في الصيف بماء بارد و قصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع لكفي وجود القربة في أصل الوضوء بالماء و إن لم يقصد القربة في الضمائم، و أمّا لو قلنا بتعلّقه مضافاً إلي الطبيعة بالأفراد أي اللوازم لبطل الوضوء لعدم قصد القربة فيها بل لأجل التبريد مثلاً.

تفسير خاطئ للفرد في المقام

نعم ربّما يفسر الفرد، بالفرد الخارجي أو المصداق من الطبيعة و يقال: هل الأمر يتعلّق بالمفهوم الكلي كالصلاة، أو يتعلّق بالفرد الخارجي الذي يمتثل به المكلّف؟

ص: 138

لكنّه تفسير خاطئ، لأنّ الفرد بهذا المعني لا يتحقّق إلاّ في الخارج و هو ظرف سقوط التكليف، و ليس ظرفاً لعروضه، و البحث إنّما هو في معروض التكليف لا فيما يسقط به، بل المراد من الفرد في المقام هو الطبيعة مع العوارض و المشخّصات كما مثلنا، و هما كالطبيعة من الأُمور الكليّة.

نعم، المراد من الفرد في مبحث اجتماع الأمر و النهي عند القائل بالامتناع هو الفرد الخارجي، و المصداق المعين من الطبيعة، فاحفظ ذلك لئلاّ يختلط الاصطلاحان في المقامين عليك.

ص: 139

الفصل الثاني عشر: التخيير بين الأقلّ و الأكثر

لا إشكال في التخيير بين المتباينين كما هو الحال في خصال الكفّارة إنّما الإشكال في جوازه بين الأقلّ و الأكثر، كتخيير المصلّي بين تسبيحة واحدة أو ثلاث تسبيحات، و ذلك لأنّ الأقل يحصل دائماً قبل الأكثر فيسقط به الأمر، و لا تصل النوبة إلي الامتثال بالأكثر، و لأجل ذلك حمل الزائد علي التسبيحة الواحدة علي اجتماع الواجب مع المستحب.

و قد قام بعض المحقّقين بتصحيح التخيير بينهما بالبيان التالي و هو:

إذا كان الأثر مترتباً علي الفرد التام من الأقل و الفرد التام في الأكثر يصحّ التخيير بين الفرد الأقل و الفرد الأكثر، و ذلك لأنّ الأقلّ الموجود في ضمن الأكثر لا يكون مصداقاً للواجب الأقلّ و إنّما يكون مصداقاً له إذا وجد بحده و بصورة فرد مستقل و هو لا يتحقّق إلاّ بفصله عن الزائد، و أمّا إذا وجد متصلاً معه فلا يكون فرداً للأقل المأمور به و إن كان مصداقاً لذات الأقل.

نعم لو كان الأثر مترتباً علي مطلق الأقل الأعم من أن يكون مستقلاً أو موجوداً في ضمن الأكثر فلا يصحّ التخيير إذ لا تصل النوبة في مقام الامتثال إلي الامتثال بالأكثر، لأنّ المأتي به لا يخلو إمّا أن يكون فرداً مستقلاً للأقل فيسقط الأمر به، أو يكون في ضمن الأكثر فيتحقّق قبل تحقّق الأكثر.

ص: 140

و بعبارة أُخري يصحّ التخيير بين الفرد بشرط لا، و الفرد بشرط شيء و لا يصحّ التخيير بين الفرد اللابشرط و البشرطشيء ، لأنّ الأقل يتحقّق دائماً قبل الأكثر.

يلاحظ عليه: أنّ التخيير بين الفرد »بشرط لا« و الفرد »بشرط شيء« ليس من قبيل التخيير بين الأقل و الأكثر بل من قبيل التخيير بين المتباينين. و ذلك لأنّ الأقل الموجود بحده و بصورة »بشرط لا« لا يعدُّ أقلّ بالنسبة إلي الأكثر، بل هو فرد مباين للأكثر، فعندئذ يصبح التخيير بين المتباينين و هو خارج عن الفرض.

و أمّا التخيير بين ذات الأقل اللابشرط و الأكثر فهو كما أفاده أمر غير صحيح لوجود الأقلّ في ضمن الأكثر فيسقط الأمر بالإتيان بالأقل من دون حاجة إلي الأكثر، و علي ضوء هذا فالخط القصير المحدود بحد، و الطويل المحدود بحد، و إن كان يصحّ التخيير بينهما، لكنّهما ليسا من قبيل الأقلّ و الأكثر بل من قبيل المتباينين.

و أمّا ذات الخط القصير الأعمّ من المحدود، و الموجود في ضمن الأكثر، فهو و إن كان بالنسبة إلي الأكثر من قبيل الأقل و الأكثر، لكنّه لا يصحّ التخيير بينهما لسقوط الأمر مطلقاً بالأقل الأعم من المحدود، أو الموجود في ضمن الأكثر.

و مثله التسبيحات الأربع، فانّ الغرض إذا كان مترتباً علي التسبيحة الواحدة المقيّدة بالوحدة بحيث تخرج عن قابلية لحوق الزائد عليها بها، و إن صحّ التخيير لكنّه تخيير بين المتباينين. أمّا التخيير بين ذات الأقل و الأكثر فقد عرفت لغوية الأمر بهذا النحو.

قد تمّ الكلام في الأوامر ضمن اثني عشر فصلاً و يليه البحث في النواهي

ص: 141

ص: 142

المقصد الثاني: في النواهي

اشارة

الكلام في النّواهي علي غراره في الأوامر، فيبحث فيها تارة عن مفاد مادة النّهي، و أُخري عن مفاد هيئته، و ثالثة عن دلالتها علي المرة أو التكرار، إلي غير ذلك ممّا يمتُّ إليها بصلة. و بما انّا أشبعنا الكلام في هذه المقامات في »الموجز« عند البحث في الأوامر فلا نري حاجة إلي التكرار في المقام. فلنعطف عنان الكلام إلي تبسيط ما أوجزناه أو ما لم نتعرض له فيه. و يتم الكلام في هذين الأمرين ضمن فصول:

الفصل الأوّل: في اجتماع الأمر و النّهي الفصل الثاني: في اقتضاء النهي في العبادات للفساد الفصل الثالث: في اقتضاء النهي في المعاملات للفساد

ص: 143

ص: 144

الفصل الأوّل: في اجتماع الأمر و النّهي

و قبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

1. في عنوان البحث

هل يجوز اجتماع الأمر و النّهي علي عنوانين متصادقين علي واحد في الخارج أو لا؟ كما إذا أمر بالصّلاة علي وجه الإطلاق و نهي عن الغصب كذلك فتصادقا في الصلاة في الدار المغصوبة، فيقع الكلام في أنّه هل يمكن الأخذ بإطلاق الدليلين في مورد التصادق أو لا ؟ لا شكّ انّه يجب الأخذ بكلّ من الأمر و النهي في موردي الافتراق إنّما الكلام في إمكان الأخذ بكلا الإطلاقين في مورد التصادق بأن يكون للمولي فيه أمر و نهي، بعث و زجر، أو لا. فيه قولان: قول بجواز الاجتماع، و قول بامتناعه.

فالقائل بجواز الاجتماع يأخذ بإطلاق كلا الدليلين و يُعدُّ المصلّي في الدار المغصوبة، ممتثلاً من جهة، و عاصياً من جهة أُخري و القائل بالامتناع يقول بلزوم الأخذ بأحد الإطلاقين و رفض الإطلاق الآخر في مورده.

و بما ذكرنا ظهر انّ متعلّق التكليف هو الطبيعتان المختلفتان باسم الصلاة و الغصب، و أمّا الواحد فهو ما يتصادق عليه المتعلّقان و يتمَّثلان فيه. فيرجع روح

ص: 145

النزاع إلي إمكان حفظ الإطلاقين في ذلك المورد و عدم حفظه، فالقائل بالاجتماع يحتفظ بهما دون القائل بالامتناع فيأخذ بأحدهما إمّا الأمر و إمّا النهي.

كما ظهر انّ النزاع كبروي و هو جواز الأخذ بالإطلاقين في مورد التصادق و عدمه.

2. الفرق بين المسألتين

قد ذكرنا في الموجز (1) انّ الفرق بين هذه المسألة و ما سيأتي من دلالة النهي في العبادات و المعاملات علي الفساد واضح جدّاً، لأنّ المسألتين تفترقان موضوعاً و محمولاً، و ما كان كذلك يكون غنيّاً عن بيان الفرق، فأين هذه المسألة(هل يجوز اجتماع الأمر و النهي علي عنوانين متصادقين علي واحد في الخارج أولاً) من قولنا: »هل النهي في العبادات أو المعاملات يدل علي الفساد أو لا؟« فليس بينهما وجه اشتراك حتي نبحث عن وجه الامتياز.

3. الفرق بين المقام و ما يأتي في باب التعارض

ربما يتبادر إلي الذهن أنّ البحث في المقام يُشبه البحث في حكم العامين من وجه في باب التعادل و الترجيح، توضيحه:

إذا تعلّق الأمر بعنوان، و النهي بعنوان آخر و كان بين العنوانين عموم و خصوص من وجه كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، فتصادقا في العالم الفاسق، فقد عدّ الأُصوليّون المسألة في مورد الاجتماع من أقسام التعارض مع أنّ هذا المقام يماثله إلي حدّ كبير، حيث إنّ الأمر تعلّق بالصلاة و النهي بالغصب و بين العنوانين عموم و خصوص من وجه و تصادقا في مورد واحد، فيقع

ص: 146


1- . الموجز:72.

الكلام فيما هو الفرق بين المقام و المذكور في باب التعادل و الترجيح حيث جعلوا الثاني من قبيل المتعارضين، دون الأوّل.

و الجواب وجود الفرق بين المسألتين و هو: انّه إذا كان لكلّ من العنوانين مناط و ملاك في مورد التصادق فهو من هذا الباب كما في المثال المعروف حيث إنّ الصلاة في الدار المغصوبة ذات مصلحة كما أنّها ذات مفسدة، و لذلك يعبر عنه بالمتزاحمين كانقاذ الغريقين، و هذا بخلاف ما ورد في باب التعادل و الترجيح حيث لم يحرز المناط إلاّ لأحد العنوانين دون الآخر، فالعالم الفاسق أمّا ذو مصلحة بلا مفسدة أو علي العكس و لذلك يعبر عنهما بالمتعارضين، بل يحتمل أن لا يكون لواحد منهما ملاك لاحتمال كذب كلا الخبرين واقعاً، و إن كانا حجّتين في الظاهر. (1)

إذا عرفت هذه الأُمور فلنرجع إلي ذكر أدلّة الطرفين، و لنقدم دليل القائل بالجواز ثمّ نردفه بذكر دليل القائل بالامتناع.

دليل القائل بجواز الاجتماع

قد استدلّ للقول بالجواز بوجوه ستة (2) نذكر وجهاً واحداً و هو أمتنها:

لو كان متعلّق الأمر و النهي شيئاً واحداً كان للامتناع وجه، كما إذا أمر بانجاز أمر في زمان خاص ثمّ نهي عنه في نفس ذلك الزمان ،فمن المعلوم انّه

ص: 147


1- . ما ذكرناه هو خيرة المحقّق الخراساني في الكفاية، و قد بسط الكلام فيه تحت عنوان الأمر الثامن و التاسع بتفصيل لا يخلو من تعقيد.
2- . من أراد الوقوف علي تلك الوجوه فعليه الرجوع إلي محاضراتنا: المحصول في علم الأُصول: 2/208 235، و ما ذكرناه في المتن هو عصارة ما ذكره سيد مشايخنا البروجردي و شيَّد أركانه السيد الإمام الخميني(قدس سرهما) لكن بتوضيح و تحقيق منّا.

محال، لأنّه تكليف بالمحال بل يمكن أن يقال انّه تكليف محال. (1)

و أمّا إذا كان مختلفاً كالصلاة و الغصب فلا مانع من تعلّق الأمر بحيثية و النهي بحيثية أُخري و إن تصادق المتعلّقان في مقام الامتثال في شيء واحد شخصي، لأنّ الحيثية التي تجعله مصداقاً للمأمور به غير الحيثية التي تجعله مصداقاً للمنهي عنه. هذا هو إجمال الدليل.

توضيحه: انّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو المحبوب دون الخصوصيات التي لا دخل لها فيه، سواء أ كانت ملازمة أو مفارقة، و هكذا النهي لا يتعلق إلاّ بما هو المبغوض و فيه الملاك دون اللوازم و الخصوصيات، و علي ذلك فما هو المأمور به هو الحيثية الصلاتية و إن قارنت الغصب في مقام الإيجاد، و ما هو المنهي عنه هو الحيثية الغصبية و إن قارنت الصلاة في الوجود الخارجي، فالخصوصيات الملازمة (كاستدبار الجدي عند الصلاة إلي القبلة) أو المفارقة(كالغصب بالنسبة إلي الصلاة في المقام) كلّها خارجة عن حريم الأمر و النهي و لو تعلّق الأمر أو النهي بها لكان من قبيل تعلّق الارادة بشيء لا ملاك فيه و ليس دخيلاً في الغرض و هو محال علي الحكيم.

و إن شئت قلت: إنّ الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية فكما أنّ الثانية لا تتعلّق حسَب اللبّ إلاّ بما هو الدخيل في الغرض، المحصِّل له. و لا تسري إلي ما لا مدخلية له فيه فهكذا الإرادة التشريعية لا تتعلّق إلاّ بما هو المحصِّل لغرض المريد دون ما لا دخل له فيه، فالمتعلّق في كليهما واحد. و قد عرفت أنّ المحقِّق للغرض هو الحيثية الصلاتية في الأمر، و مثل الارادة التشريعية، الزجر التشريعي فانّه يتعلّق بالحيثية الغصبية لانّها المبغوضة من دون أن يتجاوز الزجر من الحيثية الغصبية إلي الحيثية الصلاتيّة.ر.

ص: 148


1- . الفرق بينهما واضح، ففي الأوّل الموصوف بالمحال هو المكلّف به، و في الثاني نفس التكليف و ظهور إرادتين مختلفين في ذهن الآمر.

نعم فرق بين الخصوصية المتلازمة و الخصوصية المفارقة، فانّ الأُولي كالزوجية بالنسبة إلي الأربعة لا يمكن أن يكون حكمها(لكونها خصوصية ملازمة) مضاداً للملزوم، فلو أمر بإيجاد الأربعة يمتنع عليه أن ينهي عن الزوجية. و هذا بخلاف ما إذا كانت الخصوصية(كالغصب بالنسبة إلي الصلاة في الدار المغصوبة) مفارقة فيمكن أن يكون الخصوصية محرّمة و نفس الفعل واجباً كما في المقام. و لا يلزم أي محذور فيه كالتكليف بالمحال إذ في وسع المكلّف امتثال المأمور به في غير المكان المغصوب، لكنّه إذا أتي به في المكان المغصوب فقد جاء بالواجب منضماً إلي الحرام الذي له فيه مندوحة. و لكلّ حكمه، فلو كان الواجب توصلياً برأت ذمة المكلّف و لو كان تعبدياً كما في المقام يتوقف الامتثال علي تمشّي قصد القربة كما في الجاهل.

فقد خرجنا بالنتيجة التالية:انّه لا مانع من حفظ إطلاق كلا الدليلين: »صلّ و لا تغصب« في مورد التصادق الذي جمع المكلف بين المأمور به و المنهي عنه في مصداق واحد بسوء اختياره، فالوجوب سائد غير ساقط كما أنّ النهي كذلك و أنّ البعث و النهي في زمان واحد لا يستلزم الأمر بالمحال لما عرفت من أنّ الخصوصية، مفارقة لا ملازمة، و لا يشترط في المفارق عدم التضاد في الحكم و إنّما يشترط في الخصوصية الملازمة.

و لك أن تقرر هذا الدليل بوجه آخر، و هو انّ محذور الامتناع أحد أُمور ثلاثة:

أ: أن يكون هناك تضاد في مقام الجعل و التشريع.

ب: أن يكون هناك تضاد في مبادئ الأحكام.

ج: أن يكون تضاد في ملاكات الأحكام.

د: أن يكون تضاد في مقام الامتثال.

و من حسن الحظ انّه ليس هناك أيُّ تضاد في واحد من هذه المقامات.

ص: 149

أمّا مقام الجعل و التشريع فقد عرفت أنّ الحكم يتعلّق بما هو دخيل في تحصيل الغرض و لا يسري إلي الخصوصيات الملازمة أو المقارنة، فالوجوب يتعلّق بالصلاة بما هي هي، و الحرمة بالغصب بما هو هو، و أمّا الأمر الخارج عن تينك الطبيعتين فلا يكون متعلقاً للأمر و لا للنهي.

و أمّا مبادئ الأحكام الّتي يراد بها الحب و البغض و المصلحة و المفسدة فيجتمعان بلا تضاد فيها. حيث إنّ الحب يتعلّق بالصلاة بما هي هي و الكراهة بالغصب بما هو هو، فالمحبوب هو الحيثية الصلاتية كما أنّ المبغوض هو الحيثية الغصبية.

و أمّا ملاكات الأحكام فالمصلحة قائمة بالصلاة، و المفسدة قائمة بالغصب، و العمل بما هو صلاة، ذو مصلحة و بما هو غصب ذو مفسدة، و بما انّ العمل ليس أمراً بسيطاً، فلا مانع من أن يكون ذا مصلحة و مفسدة لحيثيتين مختلفتين، نظير إطعام اليتيم في الدار المغصوبة فلا تضاد في ملاكات الأحكام.

و أمّا عدم لزوم المحذور(التكليف بغير المقدور) في مقام الامتثال فتوضيحه يتم ببيان أمرين:

1. إنّ تعلّق الوجوب بالحيثية الصلاتية، و تعلّق الحرمة بالحيثية الغصبية و تصادقهما في الصلاة في الدار المغصوبة، لا يوجد مشكلاً أبداً، و لا يدفعنا إلي الأخذ بأحد الإطلاقين و رفع اليد عن الإطلاق الآخر و ذلك لانّها لو كانت الحيثية الثانية من اللوازم غير المنفكة، كان لتوهم »التكليف بغير المقدور« مجال، إذ كيف يمكن أن يأمر بالصلاة و هي لا تنفك دائماً عن الغصب المبغوض، و أمّا إذا كانت الحيثية الثانية من الأُمور المقارنة، التي كثيراً ما تنفك عن الأُخري فلا يلزم المحال في مقام الامتثال إذ في وسع المكلّف امتثال الواجب في مكان مباح.

2. انّ تصادق العنوانين علي الحركة الواحدة لا يستلزم اجتماع حكمين

ص: 150

متضادين في أمر واحد لما عرفت من انّ الأحكام لا تتعلق بالخارج بل تتعلّق بالعناوين الكلية، فالواجب و الحرام هما عنوانا الصلاة و الغصب الكليين، و معني اجتماع الوجوب و الحرمة في الصلاة في الدار المغصوبة هو بقاء الحكمين الكليين علي عنوانيهما في نفس المورد من دون إخراج المورد عن تحت أحدهما و إدخاله تحت الآخر.

و أمّا الحركة في الدار فمع انّها ليست متعلّقة للأحكام لكنّها بما انّها مصداق للعنوان الواجب يتحقّق بها الطاعة و بما انّها مصداق للعنوان المحرم يتحقّق به العصيان، فكونها محقّقة للطاعة و العصيان ليس بمعني كونها محلاً لتوارد الوجوب و الحرمة عليها لما عرفت انّهما يتواردان علي العنوانات الكلية.

دليل القائل بالامتناع

اشارة

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها و أوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات نذكر المهم منها:

أ: تضاد الأحكام بعضها مع بعض.

ب: انّ متعلق الأحكام هي الأفعال الخارجية.

دليل المحقّق الخراساني
أمّا المقدّمة الأُولي:

فتوضيحها: انّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها و بلوغها إلي مرتبة البعث و الزجر، ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامة بين البعث إلي شيء في زمان، و الزجر عنه في نفس ذلك الزمان، فاستحالة اجتماع الأمر و النهي في زمان واحد من قبيل التكليف المحال، أي يمتنع ظهور إرادتين جدّيتين مختلفتين في ذهن الآمر.

و أمّا المقدّمة الثانية:

فتوضيحها: انّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف و ما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه و عنوانه، و إنّما يؤخذ العنوان في متعلّق الأحكام للإشارة إلي مصاديقها و أفرادها الحقيقية.

ص: 151

ثمّ استنتج و قال: إنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً و ذاتاً يكون تعلّق الأمر و النهي به محالاً، و إن كان التعلّق به بعنوانين لأنّ الموضوع الواقعي للتكليف هو فعل المكلف بحقيقته و واقعيته لا عنواناته و أسمائه.

و علي ذلك فليس للقائل بالامتناع إلاّ الأخذ بأحد الحكمين و أقواهما ملاكاً، و هو إمّا النّهي كما هو المعروف أو الأمر.

يلاحظ علي المقدّمة الأُولي: بأنّ الضدّين أمران وجوديان حقيقيان كالسواد و البياض، و الأحكام الإنشائية من الأُمور الاعتبارية التي لا محل لها إلاّ في عالم الاعتبار بحسب المواضعة فلا توصف بالتضاد ما دام الحال كذلك.

و إن أُريد من تضاد الأحكام تضاد مبادئها في نفس الأمر من الحبّ في الأمر و البغض في النهي فقد عرفت أنّ الحبّ يتعلّق بالصلاة المجردة، عن كلّ قيد و البغض بالغصب كذلك فمتعلّق كلّ غير الآخر، و هكذا الأمر في المصلحة و المفسدة.

و إن أُريد من التضاد، التضاد في مقام الامتثال فقد عرفت عدم المطاردة في ذلك المقام إذ بإمكان المكلف الجمع بين الفعل و الترك.

هذا كلّه حول المقدّمة الأُولي.

و أمّا المقدّمة الثانية فهي مبنيّة علي تعلّق الأحكام بالأفراد أوّلاً، و تفسيره في قولهم(هل الأمر متعلّق بالطبائع أو الافراد) بالفرد الخارجي (1) ثانياً، و قد عرفت أنّ الخارج ظرف الثبوت لا العروض فكيف يمكن أن يتعلّق التكليف به.

و إن شئت قلت: إن أريد من تعلّق الأحكام بالفرد الخارجي هو تعلّقه بهد.

ص: 152


1- . تقدّم في ص 134 انّ مصطلح المحقّق الخراساني في الفرد هو المصداق الخارجي خلافاً لما هو المعروف بين المشايخ في تفسير الفرد.

قبل وجوده أو حين وجوده، فهذا نفس القول بتعلّق التكليف بالعنوانات و إن أُريد بتعلّقه به بعد الوجود فقد عرفت أنّه ظرف السقوط.

نعم بقي هنا سؤال، و هو انّه ربما يتبادر إلي الأذهان انّ العنوانات و الماهيات بما أنّها ليست إلاّ هي، لا تسمن و لا تغني من جوع، فكيف يمكن أن تقع متعلّقة للأمر و النهي؟ و الجواب عنه واضح لأنّ متعلق الأمر هي الطبيعة المعرّاة من كلّ عارض و لاحق، المنسلخة عن كلّ شيء لكن لغاية إيجادها، و الإيجاد غاية للبعث و ليس متعلّقاً له.

فالقوة المقننة إنما تنظر إلي واقع الحياة، عن طريق المفاهيم و العنوانات الكلية، و يبعث إليها، لغاية الإيجاد أو الترك، فيكون متعلّق كلّ في الأمر و النهي، مفهوماً فاقداً لكلّ شيء، إلاّ نفسه، لكن يبعث إليه لغاية الإيجاد، و كون الإيجاد غاية، غير كونه متعلّقاً للحكم، و علي ذلك لا يكون عندئذ أيُّ مطاردة في مقام العمل، لأنّه بوجوده الواحد، مصداق للامتثال، و مصداق للعصيان لكن كلاّ بحيثية خاصة.

إلي هنا تبيّن ما هو الحقّ في المسألة، و بذلك استغنينا عن ذكر سائر الأدلّة للطرفين.

ثمرة المسألة

أ: حصول الامتثال مطلقاً علي القول بالاجتماع.

إنّ القائل بجواز الاجتماع يحكم بحصول الامتثال في المقام عبادياً كان العمل أو توصلياً، إذ لا مانع من أن يتقرب المكلَّف بالمأتي به من حيثية دون حيثية، و إن كان المحبوب و المبغوض موجودين بوجود واحد، كما إذا مسح رأس

ص: 153

اليتيم في الدار المغصوبة، أو أطعمه فيها لأجل رضاه سبحانه، فيكون متقرّباً من جهة و عاصياً من جهة أُخري، و هكذا الأمر في المقام.

و مع ذلك فالحكم بصحّة العبادة أمر مشكل و ذلك لعدم إمكان التقرب بعمل يعدّ تمرّداً علي المولي، و طغياناً عليه، و تغاير الحيثية الصلاتية للحيثية الغصبية إنّما يصحح إمكان اجتماع الأمر و النهي،و الحفظ بالإطلاقين كما مرّ و لا يبرر التقرب إلي اللّه سبحانه بعمل يبغضه المولي.

و لذلك كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي قائلاً ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة مع القول بجواز اجتماع الأمر و النهي.

ب. حصول الامتثال علي القول بالامتناع و تقديم جانب الأمر:

قد عرفت أنّه ليس علي القول بالاجتماع إلاّ صورة واحدة، و أمّا علي القول بالامتناع فله صور مختلفة، فتارة يُقدَّم الأمر علي النهي و يقال: بأنّ الحكم الفعلي هو الوجوب، فيحكم بالصحة لأنّها مأمور بها و ليست بمنهيّ عنها ، و أُخري يقدّم النهي علي الوجوب و هو الذي سيأتيك بيانه في الفقرات التالية.

ج. حصول الامتثال علي القول بالامتناع، و تقديم جانب النهي مع الجهل القصوري:

إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي علي الأمر، و كان المكلّف جاهلاً بالحكم أو الموضوع جهلاً عن قصور فيحكم بالصحة، لعدم فعلية الحرمة لأجل الجهل بها فلا يكون العمل مصداقاً للتمرّد و الطغيان، و الأمر و إن كان مرفوعاً حسب الفرض(تقديم الحرمة علي الأمر) لكن يكفي في صحّة العبادة، التقرب بالملاك و هو كون العمل في هذه الحالة محبوباً للمولي.

د. بطلان العمل علي القول بالامتناع و تقديم جانب النهي مع الجهل التقصيري:

ص: 154

إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي و كان الفاعل جاهلاً بالحرمة أو الموضوع عن تقصير فالحكم هو البطلان; و ذلك لأنّ الصحة معلول أحد شيئين: إمّا الأمر و هو مفروض الانتفاء لتقديم جانب النهي علي الأمر و فعليته، و إمّا الملاك، و هو غير معلوم الوجود للفرق بين العمل الصادر عن جهل قصوري للفاعل، و العمل الصادر عن جهل تقصيري له و إحرازه فرع الأمر و المفروض عدمه.

و منه يعلم حال الناسي المقصِّر، فلا يحكم بصحة صلاته إذا نسي الحكم أو الموضوع عن تقصير.

ه.بطلان العمل علي القول بالامتناع و تقديم جانب النهي مع العلم بالحرمة:

إذا قيل بالامتناع مقدِّماً جانب النهي و كان الفاعل عالماً بالحرمة لا جاهلاً و لا ناسياً فالحكم هو البطلان، لأنّ الصحّة رهن أحد شيئين: إمّا الأمر و هو مفروض الانتفاء، و إمّا الملاك و هو غير معلوم، لما مرّ من انّ احرازه فرع الأمر و هو منتف.

هذا تمام الكلام في جواز الاجتماع و عدمه.

ص: 155

تنبيهان:

الأوّل: حكم الاضطرار لا بسوء الاختيار

كان النزاع في المسألة السابقة فيما إذا ارتكب الحرام بسوء الاختيار، فقد عرفت أنّ فيها قولين: جواز الاجتماع و عدمه، و أمّا إذا اضطرّ لا بسوء الاختيار إلي أحد الأمرين: امّا ترك الواجب أو ارتكاب الحرام، فالقولان متفقان في تقديم ما هو الأقوي من الحكمين، مثلاً:

إذا اضطر الإنسان ، للتصرف في ملك الغير لأجل إنقاذ غريق فيكون تصرفه في الأرض واجباً من جهة إنقاذ الغريق، و حراماً من جهة التصرف في ملك الغير، ففي هذا الفرض يقع التزاحم بين الواجب و الحرام في مقام الامتثال، و بما انّ ارتكاب الحرام ليس بسوء اختياره، فيُرجع إلي أقوي الملاكين فإن كان ملاك الأمر أقوي كما هو الحال في المثال المذكور قُدِّم جانب الأمر و يسقط النهي عن الفعلية، و إن كان ملاك النهي أقوي قُدِّم جانب النهي كما إذا توقّف إنقاذ حيوان محترم علي هلاك إنسان.

و منه تظهر صحة العبادة إذا اضطر إليها في تلك الصورة، كما إذا ضاق الوقت و لم يتمكن من الصلاة أداءً إلاّ في ملك الغير فتصح الصلاة لوجود الأمر دون النهي لسقوطه لأجل الاضطرار، قال رسول اللّه (صلي الله عليه و آله و سلم): »رفع عن أُمّتي تسعة:... و ما اضطروا إليه...« (1).

الثاني: حكم الاضطرار بسوء الاختيار

إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل بيتاً مغصوباً متعمداً فبادر إلي الخروج تخلّصاً من استمرار الغصب، فإنّ الخروج يعدّ تصرفاً في البيت، لكنّه

ص: 156


1- . الخصال: 2/417، باب التسعة.

مضطرٌّ إلي ارتكابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام و إن كان اضطراره إليه باختياره إذ دخل البيت غاصباً، و هذه المسألة هي المعنونة في لسان المتأخّرين ب»التوسط في الأرض المغصوبة« فيقع الكلام فيها في أمرين:

1. في حرمة التصرّف الخروجي أو وجوبه.

2. في صحة الصلاة المأتي بها حال الخروج إذا ضاق الوقت.

أمّا الأمر الأوّل، فالخروج محكوم بأحكام ثلاثة:

1. محرّم بالنهي السابق.

2. النهي ساقط بعد حدوث الاضطرار.

3. العقل حاكم بالخروج.

أمّا أنّه محرم، فلأنّ قوله: لا تغصب، شامل لأنحاء الغصب كلّها، و منها الخروج و هو من مصاديق الغصب، و قد كان في وسعه ترك هذا الفرد بترك الدخول.

و أمّا كون النهي السابق، ساقطاً فلعدم إمكان امتثاله حيث إنّ ترك التصرف في المغصوب و لو بمقدار الخروج غير ممكن.فالخروج بما أنّه تصرف في المغصوب غير مقدور الترك و معه لا يكون الخطاب فعلياً.

و أمّا حكم العقل بالخروج، فإنّما هو لدفع أشدّ المحذورين بارتكاب أخفّ القبيحين.

و أمّا الأمر الثاني، أعني: حكم الصلاة فيها بقاءً و خروجاً.

فلو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي، فمقتضي القاعدة، الصحة مطلقاً سواء أضاق الوقت أم اتّسع، و أمّا علي القول بالامتناع فتختلف النتيجة حسب اختلاف ما هو المقدَّم، فإن قدّم الأمر فالصحة هي المحكَّمة، و لو قدّم النهي

ص: 157

فاللازم هو البطلان، لأنّه حين الصلاة إمّا عالم بالحرمة أو جاهل مقصّر أو ناس كذلك، و قد عرفت أنّ الحكم فيها علي الامتناع هو البطلان، و أمّا الجهل القصوري فهو خارج عن محط البحث.

ص: 158

الفصل الثاني: في اقتضاء النهي في العبادات للفساد

اشارة

الكلام في دلالة النهي في العبادات علي الفساد، يقع في مواضع:

الأوّل: النهي المولوي التحريمي

إنّ تعلّق النهي التحريمي بالعبادات يتصوّر علي أنحاء:

1. أن يتعلّق النهي بنفس العبادة كالنّهي عن الصيام في العيدين، فهذا النوع من النهي يدلّ علي الفساد لوجهين:

الأوّل: انّ النهي يكشف عن المبغوضية، و لا يمكن أن يكون المبغوض مقرِّباً.

الثاني: انّ الصحّة بمعني مطابقة المأتي به للمأمور به فرع وجود الأمر، و من المعلوم أنّه إذا تعلّق النهي بشيء لا يتعلّق به الأمر لاستلزامه اجتماع الأمر و النهي في متعلّق واحد، و مع انتفاء الأمر لا يصدق كون المأتي به مطابقاً للمأمور به لعدم الأمر و بالتالي لا يكون مسقطاً للواجب كما لو صام يوم الفطر قضاءً.

و لو قلنا بأنّ الصحّة فرع أحد الأمرين إمّا الأمر أو الملاك، فالعبادة أيضاً فاسدة لعدم استكشاف وجود الملاك فيه بعد عدم الأمر لأجل تعلّق النهي بها.

و اعلم أنّ هذه الصورة تتميّز عن الصور التالية بوجود النهي فيها دون

ص: 159

الأمر، فلذلك اتّفقوا علي بطلان العبادة لعدم الأمر بها و عدم إحراز الملاك.

و أمّا الصور التالية فقد اجتمع فيها الأمر و النهي مع تغاير متعلّقهما و لذلك أشبه بمسألة اجتماع الأمر و النهي، مثلاً: إذا تعلّق الأمر بنفس العبادة و النهي بجزئها أو شرطها أو وصفها، فيقع الكلام في أنّ فساد الجزء العبادي باعتبار تعلّق النهي به هل يستلزم فساد المركب أو لا؟ و هذه الجهة هي التي يجب أن يركز البحث عليها دون سائر الجهات.

إذا علمت ذلك، فإليك بيان سائر الصور.

2. أن يتعلّق النهي بجزء العبادة كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة فلا شكّ في انّه يقتضي فساد الجزء للوجهين الماضيين(لكشف النهي عن المبغوضية و المبغوض لا يكون مقرباً، و عدم إحراز الملاك لعدم الأمر). و لكن فساد الجزء لا يكون دليلاً علي فساد الكلّ إلاّ إذا اقتصر علي ذلك الجزء المبغوض، و إلاّ فلو أتي بفرد آخر من ذلك الجزء غير منهيّ عنه يكون الكلّ محقّقاً، كما إذا قرأ بعدها سورة أُخري من غير العزائم.

نعم ربما يكون الإتيان بفرد آخر موجباً للفساد، لأجل طروء عنوان آخر و هو الزيادة في الصلاة، أو استلزامه القرآن بين السورتين و لكن الفساد من هاتين الجهتين غير مطروح لنا في هذا المقام.

3. أن يتعلّق النهي بشرط العبادة كالنهي عن الطهارة المائية عند ما كانت مضرة و لا شكّ انّ الشرط يكون فاسداً للوجهين السابقين(المبغوض لا يكون مقرباً و عدم إحراز الملاك لعدم الأمر) إنّما الكلام في سراية فساد الشرط إلي فساد المشروط، فالحقّ انّه كالجزء لا يوجب بطلان المشروط إذا أمكن التدارك و إلاّ فيكون المشروط فاسداً لا لتعلّق النهي بالشرط بل لفقدانه الشرط.

ص: 160

4. أن يتعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالنسبة إلي القراءة، و المراد من الوصف اللازم ما لا يمكن سلبه مع بقاء موضوعه حيث إنّه تنعدم القراءة الشخصية بانعدام وصفها فيكون المقام من قبيل اجتماع الأمر و النهي، و حيث إنّ القراءة تتحد وجوداً مع الجهر المحرّم فتفسد لأجل عدم إمكان قصد القربة علي ما مرّ.

5. أن يتعلّق النهي بالوصف المفارق كالغصبية بالنسبة إلي الصلاة، فقد عرفت حكمه فيما سبق.

الثاني: النهي المولويّ التنزيهي

إذا كان النهي التنزيهي متضمناً حكماً شرعيّاً و مُنْشَأ بداعي الردع و الزجر فهو أيضاً يلازم الفساد، فإنّه و إن لم يكشف عن كونه مبغوضاً للمولي و موجباً للعقوبة، لكن يكشف عن عدم حبِّه و استحسانه، و من المعلوم امتناع التقرب بشيء مزجور أو بأمر مرغوب عنه.

نعم يختلف النهي التحريمي عن التنزيهي بشدة الكراهة و ضعفها و لكن الجميع يكشف عن كون المتعلَّق مرغوباً عنه غير محبوب للمولي.

و الحاصل انّه إذا أحرز انّ النهي متضمن لحكم شرعي أُنشئ بداعي الردع و الزجر و إن كان علي وجه لا يبغضه المولي و لا يعاقب عليه و لكنّه لا يجبه و لا يستحسنه، فهذا يلازم الفساد لامتناع التقرب بالأمر غير المرغوب.

و صرّح المحقّق النائيني بما ذكرنا و قال: »لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوي اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به. (1)

ص: 161


1- . الفوائد الأُصولية: 1/456.

نعم انّ هذا النوع من النهي التنزيهي قليل جداً و الغالب في النواهي التنزيهية هو الإرشاد إلي قلّة الثواب مع كون العمل محبوباً في ذاته لو أتي به، ففي مثله لا يكون النهي مسوقاً لبيان الحكم التكليفي بداعي الزجر و الردع عنه، بل يكون مسوقاً لبيان قلّة الثواب و لأجل ذلك أفتي المشهور بصحّة الصلاة عند طلوع الشمس و غروبها أو الصلاة في مرابض الخيل و البغال و الحمير، و معاطن الإبل، أو الصلاة علي الطرق و الأرض السبخة و المالحة، أو في بيت فيه خمر أو مسكر، و ما هذا إلاّ لأنّ النهي في هذه الموارد إرشاد إلي قلّة الثواب و ليس متضمناً لحكم شرعي كاشف عن كونه مرغوباً عنه.

هذا كلّه حول النهي المولوي سواء أ كان تحريمياً أم كان تنزيهياً(كراهية) فقد عرفت دلالة النهي فيهما علي الفساد للوجهين الماضيين.

الثالث: النهي الإرشادي

إنّ النهي كالأمر ينقسم إلي مولوي و إرشادي، أمّا المولوي كقوله سبحانه:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّني إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (1) ) (2) و أمّا الإرشادي كقوله سبحانه:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ (3) ) (4) علي القول بانّ النهي فيه إرشاد إلي الفساد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القضاء في دلالة النهي الإرشادي علي الفساد يتوقّف علي تعيين المرشد إليه للنهي، إذ له أقسام:

أ: أن يكون إرشاداً إلي الفساد كقوله: »دعي الصلاة أيّام أقرائك« فانّ معناه أيّتها المكلّفة لا تصلّ، لأنّ الصلاة في هذه الحالة لا تكون صحيحة.

ص: 162


1- سوره 17 - آيه 32
2- . الاسراء:32.
3- سوره 4 - آيه 22
4- . النساء:22.

ب: أن يكون إرشاداً إلي مانعية متعلّقه كما في قوله: »لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه« الدالّ علي مانعية لُبْس ما هو مأخوذ ممّا لا يؤكل لحمه.

ج: أن يكون إرشاداً إلي شرطية متعلّقة كقوله: »لا تبع بلا كيل« الدالّ علي شرطية الكيل. ففي الموردين الأخيرين أيضاً يلازم النهيُ الفسادَ باعتبار إرشاده إلي المانعية أو الشرطية، و من الواضح انّ المركب يختل بوجود المانع أو فقدان الشرط.

د: أن يكون إرشاداً إلي قلّة الثواب، كما في قوله: »لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد«. (1) فانّه بحكم الإجماع علي صحّة الصلاة لو صلّي في غيره، إرشاد إلي قلّة الثواب لا الكراهة المصطلحة.

الرابع: النهي إذا جهل حاله

إذا دار أمر النهي بين كونه نهياً مولوياً أو إرشادياً كما إذا قال: »لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه« (2) فلا يحكم عليه بشيء من الفساد و عدمه فلو كان مولوياً فهو يستلزم الفساد مطلقاً سواء أ كان تحريمياً أو تنزيهياً، بخلاف ما إذا كان إرشادياً، ففيه التفصيل المذكور من استلزامه الفساد إذا كان إرشاداً إلي الجزئية و المانعية، و عدمه إذا كان إرشاداً إلي قلّة الثواب.

و الحاصل انّه إذا دار أمر النهي بين الوجوه الثلاثة، لا يحكم عليه بشيء. اللّهمّ إلاّ أن يقال بظهوره في هذه المقامات في الإرشاد إلي المانعية كما إذا قال الطبيب: اشرب هذا الدواء، و لا تمزجه بالماء فعند ذاك يستلزم الفساد.

ص: 163


1- . الوسائل: 3، الباب 2من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2.
2- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 7.

الفصل الثالث: في اقتضاء النهي في المعاملات للفساد

اشارة

المراد من المعاملات في عنوان البحث ما لا يعتبر فيه قصد القربة، كالعقود و الإيقاعات.

ثم إنّ النهي الوارد في المعاملات علي أقسام أربعة كالعبادات:

و إليك البحث في كلّ واحد منها:

القسم الأوّل: إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بنفس المعاملة:

فهي علي أنحاء:

1. إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بالسبب بما هو فعل مباشريّ، كالعقد الصادر عن المُحْرِم في حال الإحرام بأن يكون المبغوض صدور عقد النكاح في هذه الحالة، من دون أن يكون نفس العمل(عقد النكاح) بما هو هو مبغوضاً و مزجوراً عنه، فهل يدلّ علي الفساد أو لا ؟ الظاهر عدم الاقتضاء، لأنّ غاية النهي هي مبغوضية نفس العمل(العقد) في هذه الحالة و هو لا يلازم الفساد و ليس العقد أمراً عبادياً حتي لا يجتمع مع النهي الكاشف عن المبغوضيّة.

2. إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بالمسبّب، كالنهي عن بيع المصحف

ص: 164

و العبد المسلم من الكافر، فإنّ الحرام ليس هو صدور العقد من المالك، و انّما المحرّم هو مضمون المعاملة و مسبَّبها، أي مالكية الكافر لهما التي هي فعل تسبيبي لا مباشري، و مبغوض لأجل انّه يعدّ سبيلاً علي المسلم و سلطة عليه، فهل يدلّ علي الفساد أو لا؟ الكلام في هذه الصورة فيما إذا كان العقد واجداً لشرائطه من سائر الجهات، كشرائط العوضين و المتعاقدين و ليس في البين إلاّ كون نفس العمل مبغوضاً حيث إنّه سبحانه لا يرضي بسلطة الكافر علي المسلم و المصحف، فهل يدلّ نفس النهي الكاشف عن المبغوضية علي الفساد أو لا؟ و التحقيق انّه لا يدلّ، و ذلك لأنّ المبغوضية أعم من الفساد في باب المعاملات لا العبادات.

و بما ذكرنا تقف علي وجود الفرق بين المقام و سائر المعاملات المنهية عنها كالنهي عن بيع السفيه و المجنون و الصغير، أو النهي عن بيع الخمر و الميتة، لأنّ الأوّل فاقد لشرائط المتعاقدين لشرطية العقل و البلوغ في البائع، كما أنّ الثاني فاقد لشروط العوضين لاشتراط إباحة المبيع و التمكّن من التصرّف فيه، ففي جميع تلك الصور يلازم النهيُ الفسادَ، لأنّه إرشاد إلي فقدان الشرط في هذه الموارد، و البحث في المقام إنّما هو في الجامع للأجزاء و الشرائط غير أنّه تعلّق النهي بمضمون المعاملة.

3. إذا تعلّق النهي بالتسبب أي لا بالسبب و لا بالمسبب، بل تعلّق بالتوصّل به إلي المسبب كتملك الزيادة عن طريق البيع الربوي، و التملّك عن طريق الحيازة بالآلة المغصوبة، و التسبب إلي الطلاق بقوله:

»أنت خلية«. فليس السبب و لا المسبب بما هما من الأفعال بحرام و إنّما الحرام هو التوصل بهذا السبب إلي المسبب.

ص: 165

و الكلام في هذا القسم نفس الكلام في القسمين السابقين، فلا منافاة بين مبغوضية التسبب و حصول الأثر بعده.

نعم ما ذكرنا من عدم الدلالة في هذه الأقسام الثلاثة إنّما هو فيما إذا كان النهي مولوياً تحريمياً لا إرشاداً إلي الشرطية و الجزئية و المانعية، و بالتالي إلي الفساد عند الاختلال و إلاّ فيدخل في القسم الثالث الآتي.

4. إذا تعلّق النهي بالأثر المترتب علي المسبب، كما إذا تعلّق النهي بالتصرف في الثمن و المثمن فهذا النوع عند العرف يساوق الفساد، فلا معني لصحّة المعاملة إلاّ ترتب هذه الآثار عليها، فإذا كانت تلك الآثار مسلوبة في الشرع فتكشف عن فساد المعاملة.

و إن شئت قلت: إنّ الصحّة لا تجتمع مع الحرمة المطلقة في التصرف في الثمن الذي دفعه المشتري أو المثمن الذي دفعه البائع.

القسم الثاني: إذا تعلّق النهي المولوي التنزيهي بالمعاملة:

إذا تعلّق النهي المولوي التنزيهي بالمعاملة بأحد الأنحاء الأربعة الماضية فلا يدل علي الفساد، و يُعْلم وجهه ممّا ذكرنا عند بيان أنحاء القسم الأوّل، فإنّ عدم المحبوبية في المعاملات لا يلازم الفساد، فالمعاملات المكروهة صحيحة حتي علي النحو الرابع، أي إذا تعلّق النهي بالأثر المطلوب من المعاملة كالتصرف في المبيع.

القسم الثالث: إذا كان النهي إرشاداً إلي الفساد :

إذا ورد النهي بداعي بيان فساد المعاملة كما في قوله تعالي:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ (1) ) (2) فلا كلام في الدلالة علي الفساد.

ص: 166


1- سوره 4 - آيه 22
2- . النساء:22.

القسم الرابع: إذا كان النهي مردّداً بين كونه مولوياً أو إرشادياً إلي الفساد :

إذا ورد النهي و لم يعلم حاله من المولوية و الإرشادية، فالظاهر انّه يحمل علي الإرشاد إلي الفساد و عدم ترتّب الآثار عليه، فإذا قيل »لا تبع ما ليس عندك« فهو إرشاد إلي عدم إمضاء ذلك البيع و لما ذكرنا يستدلّ الفقهاء بالنواهي المتعلّقة بالمعاملات علي الفساد، و ما ذلك إلاّ لأجل كونها ظاهرة في الإرشاد إلي الفساد، و أنّ المعاملة فاقدة للشرط أو واجدة للمانع.

و قد عرفت أنّ محط البحث هو القسمان الأوّلان، و أمّا الأخيران فلوضوح حكمهما خارجان عنه.

تمّ الكلام في المقصد الثاني

ص: 167

ص: 168

المقصد الثّالث: في المفاهيم

اشارة

و تحقيق الكلام ضمن فصول:

الفصل الأوّل: في مفهوم الشرط الفصل الثاني: في مفهوم الوصف الفصل الثالث: في مفهوم الغاية الفصل الرابع: في مفهوم اللقب و أمّا مفهوم الحصر و العدد فقد استوفينا الكلام فيهما في »الموجز« فلا نعيد.

ص: 169

ص: 170

تمهيد: في تعريف المفهوم

اشارة

نذكر في المقام أُموراً:

1. وصف المعني بما هو هو و وصفه بما هو مدلول

ما يقع وصفاً للمعني علي قسمين:

أ: ما يكون وصفاً له بما هو هو كتقسيم المفهوم إلي كلي و جزئي سواء دلّ عليه اللفظ أم لا مثلاً الإنسان المتصوَّر في الذهن كلي، كما انّ زيد المتصوّر فيه جزئي، فالكلية و الجزئية في هذه الحالة من أوصاف المعني بما هو هو، من دون نظر إلي دلالة لفظ عليهما و عدمها.

ب: ما يكون وصفاً للمعني لكن بما هو واقع في إطار الدلالة و دلّ عليه اللفظ، و هذا كوصف المعني بكونه معني مطابقياً أو تضمنياً فانّه فرع كون المعني مدلولاً للّفظ، فالحيوان الناطق بما هو مدلول لفظ الإنسان، يوصف بالمطابقية.

انّ وصف المعني بكونه منطوقاً أو مفهوماً من قبيل القسم الثاني، لانّ قسماً من المدلول لوضوح دلالة اللفظ عليه يوصف بكونه مدلولاً منطوقياً. و كأنّ المتكلّم نطق به في عالم المحاورة، و قسم منه، يوصف بكونه مدلولاً مفهومياً، يفهم من كلام المتكلّم، و إن لم ينطق به في ذلك الظرف.

ص: 171

و بذلك يعلم انّهما وصفان للمعني بما انّه مدلول اللفظ و واقع في إطار الدلالة و ليسا وصفين له بما هو هو.

ربما يقال »انّهما من أوصاف الدلالة حيث تقسم الدلالة إلي الدلالة المنطوقية و الدلالة المفهومية«.

أقول: انّ وصف الدلالة بهما باعتبار كون المدلول موصوفاً بأحدهما فالوصف للمدلول بالحقيقة و للدلالة بالعناية و المجاز.

و لذلك نري أنّ الحاجبي يُعرِّف المنطوق بقوله: ما دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق، كما يُعرِّف المفهوم بقوله ما دلّ عليه اللّفظ في غير محل النطق. (1)

2. تعريف المفهوم

عرّف المحقّق الخراساني المفهومَ بانّه:»حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعني الّذي أُريد من اللّفظ بتلك الخصوصية، فالمفهوم حكم غير مذكور لا انّه حكم لغير مذكور«. (2)

توضيحه: إذا قال القائل: إن أكرمك زيد فأكرمه، يكون إكرام زيد منوطاً بخصوصية معيّنة تستفاد من الجملة الشرطية، إذ لزيد حالتان:

أ: حالة إكرامه المخاطب هذه هي الخصوصية التي تستتبع المفهوم.

ب: حالة عدم إكرامه إيّاه.

فقد دلّ بمنطوقه علي أنّه يُكْرم عند إكرام المخاطب.

كما دلّ بمفهومه علي ارتفاع الحكم أي وجوب الإكرام عند عدم تكريم

ص: 172


1- . منتهي الوصول و الأمل: 147، المعروف بمختصر الحاجبي، و قد شرحه العضدي و غيره و اشتهر بشرح المختصر.
2- . كفاية الأُصول: 1/301.

المخاطب.

فالموضوع في الحالتين واحد و هو زيد، و الحكم مختلف حسب اختلاف حالاته. و المفهوم كالمنطوق حكم انشائي: أي إذا لم يكرمك زيد فلا يجب إكرامه.

3. في الشرط المحقّق للموضوع

إنّ النزاع في وجود المفهوم في القضايا الشرطية إنّما هو فيما إذا عُدَّ القيد شيئاً زائداً علي الموضوع و تكون الجملة مشتملة علي موضوع، و محمول،و شرط، فيقع النزاع حينئذ في دلالة القضية الشرطية علي انتفاء المحمول عن الموضوع، عند انتفاء الشرط و عدمها مثل قوله(عليه السلام):»إذا كان الماء قدر كرّ لم يُنجّسه شيء« فهناك موضوع و هو الماء، و محمول و هو العاصمية(لم ينجسه) و شيء آخر باسم الشرط، أعني: الكرية، فعند انتفاء الشرط يبقي الموضوع(الماء) بحاله بخلاف القضايا التي يعد الشرط فيها محقّقاً للموضوع من دون تفكيك بين الشرط و الموضوع بل يكون ارتفاع الشرط ملازماً لارتفاع الموضوع، فهي خارجة عن محلّ النزاع، كقوله: إن رزقت ولداً فاختنه، فهذه القضايا فاقدة للمفهوم. فإنّ الرزق هنا ليس شيئاً زائداً علي نفس الولد.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. يكون الشيء تارة وصفاً للمعني بما هو هو، و أُخري وصفاً له بما هو مدلول و المنطوق و المفهوم من أوصاف المعني المدلول لا المعني بما هو هو، إذ المدلول باعتبار ظهوره و خفائه ينقسم إلي ما نُطق به و إلي ما فُهم منه 2.المفهوم قضية اخبارية أو انشائية، يستفاد من الخصوصية الواردة في الكلام.

3. الشرط المحقِّق للموضوع فاقد للمفهوم.

ص: 173

الفصل الأوّل: في مفهوم الشرط

مسلك القدماء في استفادة المفهوم

إنّ مسلك القدماء في استفادة المفهوم من القضايا الشرطيّة بل مطلقاً يختلف مع مسلك المتأخرين، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها علي الانتفاء عند القدماء ليست دلالة لفظية، بل هي من باب بناء العقلاء علي حمل الفعل الصادر عن الغير علي كونه صادراً لغاية و الغاية المنظورة عند العقلاء من نفس الكلام، حكايته لمعناه، كما أنّ الغاية من خصوصياته، دخالتها في المطلوب فإذا قال المولي: إن أكرمك زيد فأكرمه، حكم العقلاء بمدخلية إكرام زيد في وجوب إكرامه، قائلاً بأنّه لو لا دخله فيه لما ذكره المتكلّم و كذا سائر القيود، و علي ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنية علي دلالة الجملة علي الانتفاء عند الانتفاء، بل مبنيّة علي أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً بل يكون، صادراً لغايته الطبيعية و الغاية من إتيان القيد هي مدخليته في الحكم.

و لما كان مسلكهم علي الاستدلال بفعل المتكلّم و انّه لو لا المفهوم تلزم لغوية القيد، أجاب عنه السيد المرتضي في ذريعته، بقوله: بأنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به و ليس يمتنع أن يخلفه و ينوب منابه شرط آخر، يجري مجراه

ص: 174

و لا يخرج عن كونه شرطاً، فانّ قوله سبحانه:( وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (1) ) (2) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّي ينضم إليه شاهد آخر فانضمام الثاني إلي الأوّل شرط في القبول، ثمّ علمنا أنّ ضم امرأتين إلي الشاهد الأوّل شرط في القبول كما في نفس الآية، أعني قوله سبحانه:( فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (3) ) (4)ثمّ علمنا انّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصي. (5)

و حاصل كلام السيّد في ردّ مسلكهم: انّ غاية ما يدلّ عليه فعل العقلاء، انّ للقيد دخلاً في شخص الحكم،و أمّا انّه ليس له بديل يقوم مقامه بحيث ينتفي بانتفائه سنخ الحكم فلا يستفاد من فعلهم و تشهد عليه الآيات المذكورة.

و بعبارة أُخري: انّ ما تثبته صيانة فعل العقلاء عن اللغوية هو كون القيد احترازيّاً ، لا كونه ذا مفهوم و قد أوضحنا في الموجز (6) الفرق بين القيدين فلاحظ.

مسلك المتأخّرين في استفادة المفهوم

و أمّا مسلك المتأخّرين فهو مبني علي دلالة القضية الشرطية علي الأُمور الثلاثة التالية :

1. دلالة القضية علي الملازمة بين المقدّم و التالي فيخرج ما يفقد الملازمة.

2. دلالة القضية علي أنّ التالي معلّق علي المقدّم و مترتّب عليه علي وجه يكون المقدّم سبباً و التالي مسبباً، فخرج قوله: إن طال الليل قصر النهار إذ فيه ملازمة و ليس فيه ترتب لكونهما معلولين لعلّة ثالثة.

3. دلالتها زيادة علي ما تقدم ،علي انحصار السببية و انّ ما وقع بعد حرف

ص: 175


1- سوره 2 - آيه 282
2- . البقرة:282.
3- سوره 2 - آيه 282
4- . البقرة:282.
5- . الذريعة: 1/406.
6- . الموجز:91.

الشرط هو السبب المنحصر للجزاء حتي يدلّ علي ارتفاع الجزاء بارتفاع السبب المنحصر.

لا شكّ في دلالة الجملة الشرطية علي الأمرين الأوّلين، إنّما الكلام في تبادر الانحصار من الجملة الشرطية.

و قد استدل عليه بوجوه:

الأوّل: التبادر

انّ المتبادر كون اللزوم و الترتّب بين الشرط و الجزاء بنحو الترتّب علي العلّة المنحصرة.

يلاحظ عليه: أنّ ادّعاء تبادر اللّزوم و الترتّب العِلّي لا غبار عليه إلاّ أن تبادر كون الشرط علّة منحصرة ممنوع لوجهين:

1. لو كانت الهيئة موضوعة للعلّة المنحصرة، يلزم أن يكون استعمالها في غير صورة الانحصار مجازاً و محتاجاً إلي إعمال العناية كسائر المجازات و ليس كذلك.

2. لو كان كذلك، يجب الأخذ بالمفهوم حتّي في مقام المخاصمات و الاحتجاجات و عدم القبول من المتكلّم إذا قال: ليس لكلامي مفهوم مع أنّه خلاف المفروض.

الثاني: انصراف القضية إلي أكمل أفرادها و هو كون الشرط علّة منحصرة.

يلاحظ عليه: أنّ الانحصار لا يوجب أكملية الفرد، فلو كانت للعاصمية علّة واحدة و هي الكرية أو عللاً متعدّدة مثل المطر و الجريان فلا يتفاوت الحال في العليّة و ليس نصيب العلّة المنحصرة من العلية أشدّ من نصيب غيرها، علي أنّ سبب الانصراف إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال و ليست العلة المنحصرة أكثر من غيرها و لا القضية الشرطية أكثر استعمالاً فيها من غيرها.

ص: 176

الثالث: التمسّك بالإطلاق

و قد قرّره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة و نحن نقرره بوجه واحد:

انّه لو كان هناك سبب آخر للجزاء يقوم مقام الشرط لكان علي المتكلّم عطفه عليه بمثل لفظة »أو« بأن يقول: إن أكرمك زيد أو أكرم أخاك فأكرمه. غير انّ اقتصاره علي السبب الأوّل دليل علي أنّه السبب المنحصر و ليس له بديل و لا عِدْل، و إلاّ لوجب علي الحكيم بيانه.

و هذا الوجه متين جدّاً بشرط أن يحرز انّ المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو سبب للجزاء، فإذا أطلق الشرط و لم يعطف عليه شيئاً بواو العطف يعلم أنّه سبب تام، كما أنّه إذا لم يعطف عليه ب »أو« العاطفة نعلم أنّه سبب منحصر لا بديل له و لا عِدْل غير انّ إحراز كون المتكلّم في ذلك المقام يحتاج إلي قرينة.

هذا و لكن الظاهر من المتفاهمات العرفية هو دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم بل يظهر من بعض الروايات كونه أمراً مسلماً بين الإمام و السائل.

روي أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن الشاة تذبح فلا تتحرك، و يُهرق منها دم كثير عبيط، فقال: »لا تأكل، إنّ علياً كان يقول: إذا ركضت الرّجْل أو طرفت العين فكل«. (1)

تري أنّ الإمام(عليه السلام) يستدلّ علي الحكم الذي أفتي به بقوله »لا تأكل« بكلام علي(عليه السلام) ، و لا يكون دليلاً عليه إلاّ إذا كان له مفهوم، و هو إذا لم تركض الرجل و لم تطرف العين(كما هو مفروض الرواية) فلا تأكل.

و علي ذلك فالقول بدلالة القضية الشرطية علي المفهوم من خلال إثبات السبب المنحصر أمر غير بعيد بين العقلاء.

ص: 177


1- . الوسائل: 16/264، الباب 12 من أبواب الذبائح، الحديث1.

تنبيهان

1. في تداخل الأسباب و المسبّبات
اشارة

إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء علي نحو يقبل التكرار كما إذا قال: إذا بُلْت فتوضأ و إذا نمت فتوضأ، فيقع الكلام في تداخل الأسباب تارة، و تداخل المسببات أُخري، و المراد من تداخل الأسباب، اقتضاء كلّ سبب وجوباً خاصاً غير ما يقتضيه السبب الآخر، كما أنّ المراد من تداخل المسببات بعد القول بعدم تداخل الأسباب إجزاء امتثال واحد، لكلا الوجوبين و عدمه. فيقع الكلام في موضعين:

تداخل الأسباب و عدمه

استدلّ القائل بعدم التداخل بأنّ ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء(الوجوب) عند حدوث الشرط (النوم أو البول) و لازم ذلك هو حدوث الوجوبين لا الوجوب الواحد، و قد عرفت أنّ معني عدم تداخل الأسباب هو تعدّد التكليف و الاشتغال، و أنّ ظاهر كل قضية أنّ الشرط علّة تامة لحدوث الجزاء، أعني: الوجوب مطلقاً، سواء وجد الشرط الآخر معه أو قبله أو بعده أو لم يوجد، و ليس لعدم تداخل الأسباب معني سوي تعدّد الوجوب.

ص: 178

دليل القائل بالتداخل

إنّ القائل بالتداخل يعترف بهذا الظهور(حدوث الجزاء عند حدوث الشرط) إلاّ أنّه يقول: لا يمكن الأخذ به، لأنّ متعلّق الوجوب في كلا الموردين شيء واحد و هو »طبيعة الوضوء«، و من المعلوم أنّه يمتنع أن يقع الشيء الواحد متعلّقاً لوجوبين و موضوعاً لحكمين متماثلين، و المفروض أنّ متعلّق الوجوب في كليهما طبيعة الوضوء لا طبيعة الوضوء في أحدهما و الوضوء الآخر في الثاني حتي يصح تعلّق الوجوبين بتعدّد المتعلّق، فإطلاق الجزاء(متعلق الوجوب)، بمعني أنّ الوضوء بما هو هو موضوع لا هو مع قيد كلفظ »آخر«، يقتضي التداخل.

إلي هنا تبيّن دليل القولين; فالقائل بعدم التداخل يتمسّك بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كل شرط، و هو يلازم عدم التداخل في الأسباب; و القائل بالتداخل يتمسّك بوحدة المتعلّق و كون الموضوع للوجوبين هو نفس الطبيعة التي تقتضي وحدة الحكم و لا تقبل تعدّده، فلا بد من رفع اليد عن أحد الظهورين.

و الظاهر تقديم ظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كلّ شرط، علي إطلاق الجزاء في وحدة المتعلَّق، فتكون قرينة علي تقدير لفظ مثل »فرد آخر« أو لفظ »مرّة أُخري« في متعلّق أحد الجزاءين، و عندئذ يكون الموضوع للوجوب في إحدي القضيتين، هو الطبيعة، كما يكون الموضوع للوجوب في القضية الأُخري، الفرد الآخر.

و لعل العرف يساعد لتقديم ظهور الصدر علي ظهور الذيل بالتصرف في الثاني بتقدير لفظ »آخر« لقوة ظهور الصدر.

و يمكن توجيه تقديم ظهور الصدر علي إطلاق الذيل بالارتكاز العرفي، إذ

ص: 179

المرتكز في الأذهان هو أنّ كل سبب تكويني يطلب معلولاً خاصّاً، فكل من النار و الشمس تُفيض حرارة مستقلّة من غير فرق بين أن تتقارنا أو تتقدّم إحداهما علي الأخري، فإذا كان هذا هو المرتكز في الأذهان، و سمع صاحب هذا الارتكاز من المعصوم قوله: إذا نمت فتوضأ، و إذا بلت فتوضأ، ينتقل إلي أنّ كلاً من النوم و البول يطلب وجوباً مستقلاً، و أن أثر كل واحد غير أثر الآخر، و الارتكاز الموجود في الأذهان يوجب انعقاد ظهور خاص للقضية، و هو حدوث الوجوب عند حدوث كل شرط مستقلاً مطلقاً.

و بهذا يقدّم ظهور الصدر علي ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق الآبية عن تعلّق الوجوبين، و ليس هذا من قياس التشريع علي التكوين حتي يقال بأنّه أمر باطل، بل هو من باب جعل الارتكاز العرفي في العلل التكوينية قرينة علي انتقال العرف إلي مقتضي مثلها في العلل التشريعية.

و بذلك ظهرت قوّة الوجه الأوّل و ضعف الوجه الثاني.

هذا كلّه حول التداخل و عدمه في الأسباب، و إليك البحث في تداخل المسببات.

في تداخل المسببات

إذا ثبت في البحث السابق عدم التداخل، و أنّ كل سبب، علّة لوجوب مستقل، فحينئذ يقع الكلام في مقام آخر، و هو إنّ تعدّد الوجوب هل يقتضي تعدّد الواجب أو لا؟ و بعبارة أُخري :إنّ تعدّد السبب كما يقتضي تعدد الوجوب، فهل يقتضي تعدد الامتثال أيضاً، أو لا يقتضي، بل يكفي في امتثال كلا الوجوبين، الإتيان بمصداق واحد نظير امتثال قول القائل: أكرم العالم و اكرم الهاشمي بضيافة العالم

ص: 180

الهاشمي؟ الظاهر عدم ظهور القضية في أحد الطرفين، أي كفاية امتثال واحد و عدم كفايته، فتصل النوبة بعد اليأس عن الدليل الاجتهادي إلي الأصل العمليّ و هو أنّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد و لو كان ذلك بقصد امتثال الجميع، في غير ما دل الدليل علي سقوطها به، و بعبارة أُخري: الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، و هي رهن تعدّد الامتثال.

نعم دلّ الدليل علي سقوط أغسال متعددة بغسل الجنابة أو بغسل واحد نوي به سقوط الجميع.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ مقتضي الأصل العملي هو عدم سقوط الواجبات المتعددة ما لم يدلّ دليل بالخصوص علي سقوطها.

و يستثني من ذلك ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً و خصوصاً من وجه، كما في قضية أكرم عالماً و أكرم هاشمياً، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين و لا يعتبر في تحقّق الامتثال إلاّ الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر. (1)

2. ما هو مفهوم القضية السالبة الكلية؟

اختلفت كلمة الأُصوليين في مفهوم القضية السالبة الكلية، و هل مفهومها هو الموجبة الجزئية، أو الموجبة الكلية؟ فمثلاً قوله(عليه السلام): »إذا كان الماء قدر كر لا ينجّسه شيء« (2) فهل مفهومه إذا لم يكن الماء قدر كرّ، ينجسه شيء، أو أنّ مفهومه إذا لم يكن الماء قدر كر، ينجسه كل شيء؟

ص: 181


1- . اقتباس ممّا ذكره الأُستاذ الكبير السيد الإمام الخميني(قدس سره) في دروسه الشريفة.
2- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 21.

ذهب الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية علي المعالم إلي الأوّل، و أُيّد قوله بما ذكره المنطقيون من أنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية.و اختار الشيخ الأنصاري القولَ الثاني و سيوافيك دليله:

و تظهر الثمرة فيما دل الدليل علي طهارة ماء الاستنجاء إذا كان قليلاً دون الكرّ، فعلي القول بأنّ المفهوم هو الموجبة الجزئية لا تنافي بينهما، إذ لا منافاة بين المفهوم أي قولنا :»ينجسه شيء« و»لا ينجسه شيء آخر« كالاستنجاء، بخلاف ما إذا كان مفهومه، الموجبة الكلية فلا بد من علاج التنافي بالتخصيص أو التقييد أو غيرهما.

و بما أنّ دليل القول الأوّل واضح، لانّ نقيض الموجبة الكلّية التي هي المنطوق هو السالبة الجزئية، فالمهم في المقام تبيين ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري فيما اختاره من النظر.

و حاصله: أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عند انتفاء الشرط، و يعتبر في المفهوم أمران:

أ. انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء.

ب. وحدة القضية المنطوقية و المفهومية في الموضوع و القيود الموجودة في المنطوق، إلاّ في السلب و الإيجاب، فلو قال: إن سلّم عليك زيد يوم الجمعة فأكرمه، فمفهومه إن لم يسلِّم عليك في ذلك اليوم فلا تكرمه، و أمّا في غيره من أيام الاسبوع فالقضيتان ساكتتان عنه، فهما متحدتان في جميع الأُمور إلاّ في السلب و الإيجاب، أعني: الكيف.

و لو كان القيد المأخوذ في المنطوق، هو العموم و الشمول فلا بد أن يكون محفوظاً في جانب المفهوم أيضاً، مثلاً إذا قال: إن جاء زيد فأكرم العلماء، أي كل واحد، فمفهومه أنّه إن لم يجئ زيد فلا تكرم العلماء، أي كل واحد منهم.

ص: 182

و بذلك يظهر أنّ أساس المفهوم هو الحفاظ علي جميع الخصوصيات إلاّ كيف القضية من السلب و الإيجاب.

ثم إنّه(قدس سره) رَتب علي ذلك البيان بأنّ المنطوق لما كان قضية كلّية فلا بد من الحفاظ عليه في جانب المفهوم أيضاً أخذاً بالضابطة في باب المفهوم، فقوله(عليه السلام):»إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء« قضية سالبة كلية، فلا بد أن يكون المفهوم موجبة كلية أيضاً، فلا يكون هناك أي اختلاف إلاّ في السلب و الإيجاب، فيكون المفهوم هو قوله: إذا لم يكن الماء قدر كر ينجسه كل شيء.

يلاحظ علي ما ذكره: بأنّ ما ذكره من الضابطة إنما يتمّ في الخصوصيات المذكورة في المنطوق كيوم الجمعة في المثال الأوّل، و استغراق جميع الأفراد في المثال الثاني(إن جاء زيد فاكرم العلماء).

و أمّا إذا كانت الخصوصية مستفادة من السياق في المنطوق فلا يمكن الحفاظ عليه عند انقلاب القضية إلي كيف آخر، و ذلك كالاستغراق في قوله: »إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء« فإنّه مستفاد من سياق الكلام، أي من وقوع النكرة بعد النفي، فبما أنّ المفهوم علي طرف النقيض من المنطوق في جهة الكيف يكون المفهوم حكماً إيجابياً، فينتفي وقوع النكرة في سياق النفي، و معه لا يستفاد منه العموم فمثلاً:

إذا قال: إن جاءك زيد لا تكرم أحداً، لا يكون مفهومه إذا لم يجئ زيد »أكرم كل أحد« و ما هذا إلاّ لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام، و قد تبدّل سياقه من النفي إلي الإثبات و من السلب إلي الإيجاب، فكيف يمكن حفظ العموم في جانب المفهوم مع زوال السياق؟ فإذا زال ما يدل علي العموم عند الأخذ بالمفهوم، كيف يمكن الأخذ بمعلوله و أثره؟

ص: 183

الفصل الثاني: في مفهوم الوصف

عرّفه المحقّق القمي بقوله: هل تعليق الحكم بالصفة يدلّ علي انتفائه لدي انتفائها أو لا. (1) و المراد من الوصف في كلامه ما يعم النعت و الحال و التمييز و غيرها ممّا يكون قيداً لموضوع التكليف.

و بذلك(كونه قيداً لموضوع التّكليف) يعلم أنّ النزاع مختص بما إذا كان الوصف معتمداً علي موصوف كما إذا قال: أكرم رجلاً عالماً حتي ينطبق عليه تعريف المفهوم من ثبوت الموضوع و ارتفاع القيد، و أمّا إذا كان الوصف نفسُه موضوعاً كما في قوله سبحانه:( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (2) ) (3) فهو داخل في مفهوم اللقب الآتي.

و بذلك يعلم خروج الصورتين التاليتين أيضاً عن محط النزاع.

أ: أن يكون الوصف مساوياً للموصوف كالإنسان المتعجّب، أو يكون الوصف أعمّ من الموضوع كالإنسان الماشي. إذ لا يتصوّر فيه ارتفاع الوصف مع بقاء الموضوع، فانحصر البحث في موردين:

1. إذا كان الوصف أخص من الموضوع، كما إذا قال: أكرم الإنسان الكريم في مقابل اللئيم، فهو داخل في محلّ النزاع.

2. إذا كانت نسبة الوصف إلي الموصوف عموماً و خصوصاً من وجه، كما إذا

ص: 184


1- . القوانين: 1/178 بتصرّف يسير.
2- سوره 5 - آيه 38
3- . المائدة:38.

قال في الغنم السائمة زكاة. يقع الكلام فيما إذا بقي الموضوع(الغنم) و ارتفع الوصف فصارت الغنم معلوفة، و أنّه هل يدلّ انتفاء الوصف علي عدم وجوب الزكاة فيها أو لا؟ هذا كلّه إذا كان الافتراق من جانب الوصف، و أمّا إذا كان الافتراق من جانب الموصوف مع بقاء الوصف، فلا يدلّ علي شيء كما في البقر و الإبل السائمتين لما عرفت من أنّ أخذ المفهوم رهن بقاء الموصوف و ارتفاع الوصف، و في هذه الصورة، الأمر علي العكس.

إذا عرفت ذلك فقد استدلّ علي دلالة الوصف علي المفهوم بوجوه:

1. التبادر الكاشف عن وضع الهيئة الوصفية للانتفاء عند الانتفاء.

يلاحظ عليه: أنّ غاية ما يتبادر هو مدخلية الوصف في شخص الحكم، و أمّا مدخليته في سنخ الحكم و انّه لا نائب له، فغير ثابت.و المطلوب في باب المفاهيم انتفاء سنخ الحكم، لا شخص الحكم الوارد في القضية فإنّه منتف بانتفاء القيد سواء أقلنا بالمفهوم أم لا.

2. التمسّك بالإطلاق علي الوجه المقرر في دلالة الهيئة الشرطية.

يلاحظ عليه: قد عرفت أنّ أقصي ما يدلّ عليه الإطلاق، هو أنّ الوصف مع موصوفه تمام الموضوع و أمّا أنّه لا ينوب عنه شيء آخر فلا يدلّ عليه، نعم لو أحرز أنّ المتكلّم في مقام بيان كل ما له دخل في سنخ الحكم فلم يأت إلاّ بنفس الوصف وحده يكشف عن عدم ما ينوبه و هو غير محرز غالباً.

3. لو لم يدلّ علي المفهوم يلزم اللغوية.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً و أمّا إذا كان له دخل في شخص الحكم، و إن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا، و تخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو للتأكيد

ص: 185

نحو: إياك و ظلم الطفل اليتيم، أو لدفع توهّم عدم الحرمة في مورد الوصف، كما في قوله تعالي:

( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ (1) ). (2)

و علي كلّ تقدير فالذي دعا الأُصوليّين إلي عدم القول بالمفهوم في التقييد بالوصف، هو عدم انتفاء الحكم عند انتفاء القيد في النصوص الشرعية نظير قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً (3) ) (4) فإنّ الربا حرام مطلقاً أضعافاً كان أو لا.

و قوله سبحانه:( وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (5) ) (6) مع اتّفاقهم علي جواز القضاء بشهادة شاهد واحد و يمين المدّعي.

و قوله سبحانه:( وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ (7) ) (8) مع حرمة الربيبة إذا دخل بأُمّها و إن لم تكن في حجره.

و قوله سبحانه:( وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (9) ). (10)

فالتقصير قيّد بالخوف من فتنة الكفّار مع أنّه جائز مطلقاً سواء كان هناك فتنة أو لا.

نعم خرجت عن تلك الضابطة العقود و الإيقاعات المتداولة بين الناس حتي الاقرارات و الوصايا، فإنّها لو اشتملت علي قيد و وصف لأفاد المفهوم كما ذكرناه في الموجز (11) فمثلاً لو قال: »داري هذه وقف للسادة الفقراء« فمعناه خروج السادة الأغنياء عن الخطاب حيث اتّفق الفقهاء علي الأخذ بالمفهوم في الاقرارات و الوصايا إذا اشتملت علي قيد و وصف كما عرفت.3.

ص: 186


1- سوره 6 - آيه 151
2- . الأنعام:151.
3- سوره 3 - آيه 130
4- . آل عمران: 130.
5- سوره 2 - آيه 282
6- . البقرة:282.
7- سوره 4 - آيه 23
8- . النساء:23.
9- سوره 4 - آيه 101
10- . النساء:101.
11- . الموجز:93.

الفصل الثالث: مفهوم الغاية

اشارة

هل الغاية تدلّ علي ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية أو لا؟ المشهور انّ أداة الغاية تدلّ علي ارتفاع الحكم عمّا بعدها، بل ربّما يقال بأنّ دلالتها علي الارتفاع أشد من دلالة القضية الشرطية علي ارتفاع الحكم عند ارتفاع شرطه.

نعم ذهب السيّد المرتضي و الشيخ الطوسي إلي خلاف هذا القول و استُدلّ لقولهما بالآيات التالية:

1.( وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّي يَطْهُرْنَ (1) ). (2)

2. قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ (3) ). (4)

3. قوله:( وَ قاتِلُوهُمْ حَتّي لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (5) ). (6)

فإنّ لفظة »حتّي« الجارة في هذه الآيات تدلّ علي أنّ الوظيفة تنتهي بالوصول إلي الغاية، أعني:

تطهّر المرأة، أو تبين الخيط الأبيض، أو الإذعان بعدم طروء الفتنة.

ص: 187


1- سوره 2 - آيه 222
2- . البقرة:222.
3- سوره 2 - آيه 187
4- . البقرة:187.
5- سوره 2 - آيه 193
6- . البقرة:193.

و التحقيق أن يقال: إنّه لو كانت الغاية غاية للحكم فلا شكّ في الدلالة، كما في قوله: »كلّ شيء حلال حتّي تعلم انّه حرام« فانّ الغاية غاية للحكم بالحلية كما هي غاية للحكم بالطّهارة في قوله:»كلّ شيء طاهر حتي تعلم انّه قذر« فادّعاء التبادر في أمثال ذلك ممّا لا إشكال فيه.

و أمّا إذا كانت الغاية قيداً للموضوع و محدِّداً له كما في قولك: »سر من البصرة إلي الكوفة« فإنّه بمنزلة أن يقال: السير من البصرة إلي الكوفة واجب، و مثله قوله سبحانه:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ (1) ) (2) فانّه بمنزلة أن يقال: غسل الأيدي إلي المرافق واجب، فالظاهر عدم الدلالة علي المفهوم، إذ غاية الأمر أنّ الموضوع المقيد محكوم بالحكم، و أمّا عدم الحكم علي الموضوع عند انتفاء القيد، فلا يدلّ عليه لعدم وضع لذلك، إلاّ إذا قلنا بدلالة كلّ قيد علي المفهوم كمفهوم الوصف.

حكم نفس الغاية

ما ذكرناه راجع إلي حكم ما بعد الغاية، و أمّا الكلام في نفس الغاية فهل هي داخلة في حكم المغيّي أو خارجة عنه؟ فذهب المحقّق الخراساني و السيّد الإمام الخميني إلي خروجها أيضاً، ففي مثله قوله سبحانه:

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرافِقِ (3) ) ، فالواجب هو دون المرفق، و أمّا نفس المرفق فهو خارج عن وجوب الغسل، اللّهمّ إلاّ لأجل تحصيل اليقين بغسل ما دون المرفق و استدلّ عليه الرضي بأنّ الغاية حدّ الشيء و حدود الشيء خارجة عنه.

و الأولي أن يستدلّ بالتبادر فانّ المتبادر من قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ (4) ) (5)فانّ المتبادر هو

ص: 188


1- سوره 5 - آيه 6
2- . المائدة:6.
3- سوره 5 - آيه 6
4- سوره 97 - آيه 4
5- . القدر:54.

خروج مطلع الفجر عن الحكم السابق الوارد في الآية كما هو الحال في قوله:( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَي اللَّيْلِ (1) ) فالليل خارج عن حكم المغيي.

ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيي و عدمه محدّد بشرطين نوّهنا بهما في الموجز أيضاً (2)و هما:

1. إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره تارة داخلاً في حكم المغيي، و أُخري داخلاً في حكم ما بعد الغاية كالمرفق فإنّه يصلح أن يكون محكوماً بحكم المغيي(الأيدي) و حكم ما بعد الغاية(كالعضد) و أمّا إذا لم يكن كذلك، فلا موضوع للبحث كما إذا قال: اضربه إلي خمس ضربات، فالضربة السادسة من أفراد ما بعد الغاية، و الضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّي حسب التبادر فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيي و عدمه.

2. انّ البحث مركز في »حتّي« الخافضة و أمّا »حتّي« العاطفة فلا شكّ في دخول الغاية في حكم المغيي كما في قولك: جاء الحجاج حتي المشاة. قال الشاعر:

ألقي الصحيفة كي يخفف رحله و الزاد حتّي نعله ألقاها

مات الناس حتّي الأنبياء.

فخرجنا بالنتائج التالية:

أ: دلالة الجملة علي خروج ما بعد الغاية عن حكم المغيي إذا كانت قيداً للحكم.

ب: عدم دلالة الجملة علي خروج الغاية عن حكم المغيي إذا كانت قيداً للموضوع.

ج: عدم دخول الغاية في حكم المغيّي.

إنّ البحث مركَّز في »حتّي« الخافضة لا العاطفة و إلاّ فلا شكّ في الدخول.5.

ص: 189


1- سوره 2 - آيه 187
2- . الموجز:94 95.

الفصل الرابع: مفهوم اللقب

المراد من مفهوم اللقب ما يجعل أحد أركان الكلام و القيود الراجعة إليه كالفاعل و المفعول و المبتدأ و الخبر و الظروف الزمانية و المكانية، فذهب الدقّاق و الصيرفي و أصحاب أحمد بن حنبل إلي ثبوت المفهوم، و المشهور إلي عدمه و استدلّ المشهور بأنّه لا دلالة لقولك زيد موجود علي أنّه تعالي ليس بموجود، و قولك:

»موسي رسول اللّه« لا يدلّ علي أنّ محمّداً ليس رسول اللّه.

و منه يظهر عدم المفهوم في باب الوقف و النذر و العهد، فإذا قال: هذا وقف لأولادي أو نذر لطلبة البلدة المعيّنة، فلا شكّ أنّه لا يشمل الجيران و لا طلبة غير تلك البلدة، و لكن عدم الشمول لا من باب أنّ الجملة تدلّ علي ذلك و إنّما هو لأجل قصور الإنشاء و عدم شموله لغير موردهما فعدم الشمول من باب فقد الدال و الدلالة، لا الدلالة علي العدم.

و الحاصل أنّ هنا حكماً واحداً شخصياً و هو مترتّب علي موضوع و عدم شموله لموضوع آخر لا يسمّي مفهوماً.

تمّ الكلام في المقصد الثالث

ص: 190

المقصد الرابع: في العام و الخاص

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في المخصص المتصل و المنفصل الفصل الثاني: في أنّ التخصيص لا يوجب المجازية الفصل الثالث: في أنّ العام حجّة في الباقي الفصل الرابع: إجمال المخصِّص مفهوماً الفصل الخامس: إجمال المخصِّص مصداقاً الفصل السادس: التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص الفصل السابع: تعقيب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده الفصل الثامن: تخصيص العام بالمفهوم الموافق و المخالف الفصل التاسع: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد الفصل العاشر: دوران الأمر بين التخصيص و النسخ خاتمة المطاف: الخطابات الشفاهية

ص: 191

ص: 192

تمهيد

اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأمر الأوّل: انّ العام من المفاهيم المشهورة الغنيّة عن التعريف،

و يقابله الخاصّ. و مع ذلك فقد عُرّف بوجوه أوضحها: كون اللّفظ بحيث يشمل مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد، فلفظة العلماء عامّ لكونها شاملة لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد أعني: »العالم« و يقابله الخاص.

الأمر الثاني: انّ العام ينقسم إلي استغراقي و مجموعي و بدلي،

و هل انقسامه إلي هذه الأقسام الثلاثة باعتبار ذات العام و لحاظه بوجوه مختلفة مع قطع النظر عن الحكم و كونه موضوعاً، أو أنّ هذا التقسيم باعتبار تعلّق الحكم عليه؟ ذهب المحقّق الخراساني إلي الثاني، قائلاً بأنّ الاختلاف باعتبار اختلاف كيفية تعلّق الأحكام به، و إلاّ فالعموم في الجميع بمعني واحد، و هو شمول الحكم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الأمر انّ تعلّق الحكم به تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً علي حدة للحكم، و أُخري بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في »أكرم كلّ فقيه« مثلاً لما امتثل أصلاً، بخلاف الصورة الأُولي فانّه أطاع و عصي، و ثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً علي البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لما أطاع و امتثل كما يظهر لمن أمعن النظر و تأمّل. (1)

ص: 193


1- . كفاية الأُصول: 1/332.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو لم يكن هناك ألفاظ موضوعة لخصوص هذه الأقسام الثلاثة ، و إلاّ يكون التقسيم بلحاظ ذاته، مثلاً انّ لفظ »الكل« و»التمام«و»الجميع« دال علي العام الاستغراقي و انّ كلّ فرد ملحوظ مستقلاً كما أنّ لفظ »المجموع« دال علي العام المجموعي و أنّ الأفراد ملحوظة بنعت الاجتماع، كما أنّ لفظ »أيّ« دالّ علي العام البدلي و أنّ كلّ فرد من الأفراد ملحوظ علي البدل مثل قوله تعالي:( قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (1) ). (2)

و علي ذلك فدلالة كلّ واحد من هذه الألفاظ علي كيفية الموضوع، بنفسها، لا باعتبار تعلّق الحكم به.

الأمر الثالث: انّ الإطلاق ينقسم إلي الشمولي(الاستغراقي) و البدلي كانقسام العام إليهما

، فالإطلاق في مثل قوله:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (3) )شمولي كما أنّه في قوله: »أكرم عالماً« بدلي و الفرق انّ استفادة الشمولي و البدلي في العام بالدلالة اللّفظية الوضعية، و أمّا المطلق فإنّما هو بالقرائن الحافّة و مقدّمات الحكمة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام ضمن فصول:

ص: 194


1- سوره 27 - آيه 38
2- . النمل:38.
3- سوره 2 - آيه 275

الفصل الأوّل: في المخصّص المتصل و المنفصل

إنّ تخصيص العام يتصوّر علي وجهين:

الأوّل: أن يقترن المخصص بنفس العام في مقام الإلقاء كقولك: أكرم »العلماء العدول« فيسمّي مخصِّصاً متصلاً لاتّصاله بالعام في الكلام و يكون قرينة علي عدم إرادة العموم.

الثاني: أن لا يقترن المخصص بالعام في نفس الكلام بل يأتي قبل العام أو بعد ورود العام فتكون قرينة علي انّ المتكلّم أراد ما عدا الخاصّ، و كلّ من المخصصَين حجّة و قرينة علي المراد إلاّ أنّه إذا كان المخصّص متصلاً لا ينعقد للعام ظهور في العموم، بل ينعقد الظهور من بدء الأمر في الخصوص و أمّا إذا كان منفصلاً فبما انّه غير مقترن بالعام، ينعقد للعام ظهور في العموم و إذا وقف المخاطب علي المخصص المنفصل و كان ظهوره أقوي من ظهور العام فهو لا يزاحم ظهور العام في عمومه لانعقاد الظهور له في العموم قبل العثور علي المخصّص و إنّما يزاحم حجّيته في العموم، فإذا قال: أكرم العلماء ثمّ ورد بعد شهر و قبل وقت العمل لا تكرم فسّاق العلماء، فالكلام الثاني لا يزاحم ظهور الكلام الأوّل في العموم بعد انعقاده فيه.

نعم العثور علي المخصص و كونه أقوي من العام يكون قرينة علي

ص: 195

أنّ العموم ليس بمراد، و هذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل لا يزاحم ظهور العموم و إنّما يزاحم حجّيته في العموم.

و إن شئت قلت: إنّه إذا كان المخصص متصلاً لا ينعقد للعام ظهور إلاّ في الخصوص، و هذا بخلاف ما إذا كان المخصص منفصلاً فينعقد للكلام ظهور في العموم، و العثور علي الخاص لا ينافي انعقاد ظهوره في العموم و إنّما يزاحم حجّيته فيه فيكون من باب تقديم الأظهر أو النصّ علي الظاهر.

ص: 196

الفصل الثاني: في أنّ التخصيص لا يوجب المجازية

كان المعروف بين الأُصوليّين هو انّ تخصيص العام يوجب المجازية أي استعمال العام في غير ما وضع له أعني الخصوص لكن الحقّ كما عليه المتأخّرون كونه حقيقة و إن خصِّص، سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً.

أمّا المتّصل فلأنّ كلاً من لفظي الأمر و متعلقه في قولك: »أكرم العلماء العدول« استعمل في نفس معناه فأطلق العلماء و أُريد منه كلّهم، كما أطلق العدول و أُريد منهم الموصوفون بالعدالة. فاللفظان مستعملان في معناهما و إن كان ظهور الكلام منعقداً في الخصوص، فالمورد من قبيل تعدد الدالّ و المدلول.

و أمّا المخصص المنفصل فلأنّ المتكلم يستعمل العام في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية، فإذا كانت الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية يَقتصر علي العام و لا يكون أيّ حاجة للخاصّ، و أمّا إذا كانت الإرادة الجدية من حيث السعة مخالفة للإرادة الاستعمالية فيشير المتكلم إلي من لم تتعلّق به الإرادة الجدّية بالمخصص حتي يدل علي أنّ متعلّق الإرادة الجدية أضيق من متعلّق الإرادة الاستعمالية.

فلا يكون العثور علي المخصص أيضاً سبباً لاستعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

ص: 197

و إن أردت مزيد توضيح فنقول: إنّ التخصيص بالمنفصل إنّما يوجب مجازية العام المخصَّص إذا استعمله المتكلّم في غير معناه العام من أوّل الأمر، كأن يريد بقوله: أكرم العلماء، »العلماء غيرَ الفساق« و لكنّه أمر غير معهود، فالمتكلّم يستعمله في نفس ما وضع له، بالإرادة الاستعمالية، أو قل بالإرادة التفهيمية.

ثمّ إنّه لو كان المراد بالإرادة الاستعمالية نفسَ المراد بالإرادة الجدية لسكت، و لم يعقبه بشيء، و أمّا إذا كان المراد بالإرادة الاستعمالية غير المراد بالإرادة الجدية من حيث السعة و الضيق لأشار إلي إخراج بعض ما ليس بمراد جداً، و يقول: لا تكرم فساق العلماء، و هذا إن دلّ علي شيء فإنّما يدلّ علي ضيق الإرادة الجديّة من أوّل الأمر، و أمّا الإرادة الاستعمالية فتبقي علي شموليتها للمراد الجدي و غيره، و هذا رائج في المحاورات العرفية و الملاك في كون الاستعمال حقيقة أو مجازاً هي الإرادة الأُولي، و المفروض أنّ العام حسب تلك الإرادة مستعمل في نفس ما وضع له و إذا ورد التخصيص فإنّما يرد علي ما هو المراد بالإرادة الجدية.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ العام المخصَّص سواء أ كان التخصيص متصلاً أم منفصلاً، حقيقة و ليس بمجاز، و يجمع كلا التخصيصين كونُ العام و الخاص من قبيل تعدّد الدال و المدلول.

سؤال: لما ذا لا يستعمل المتكلّم العامَّ في الخاص من أوّل الأمر أي فيما هو متعلّق الإرادة الجدية، بل يستعمله منذ بدء الأمر في العموم ثمّ يشير بدليل ثان إلي التخصيص.

الجواب: إنّما يستعمله كذلك لضرب القاعدة و إعطاء الضابطة فيما إذا شكَّ المخاطبُ في خروج بعض الأفراد، حتي يتمسك بالعام إلي أن يثبت المخصص، و ذلك لأنّ الأصل هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجديّة إلاّ إذا قام الدليل علي المخالفة.

ص: 198

و هذا لا يتم إلاّ باستعماله من أوّل الأمر في العموم بخلاف ما إذا استعمله في الخصوص و في غير معناه الحقيقي فلا يمكن للمخاطب التمسّك بعموم العام في موارد الشكّ، لأنّ للمعني المجازي مراتب (1) مختلفة، و لا نعلم أيّ مرتبة من تلك المراتب هي المرادة، فيصير الكلام مجملاً في صورة الشك.ل.

ص: 199


1- . و حيث يحتمل انّه استعمله في تمام الباقي كما يحتمل استعماله في بعض الباقي، و للبعض الباقي أصناف مختلفة، مثلاً العلماء غير القرّاء ، العلماء غير النحاة، العلماء غير الفقهاء، فالكل يعدّ من المجاز حيث إنّ اللّفظ فيها ليس بحقيقة فتعيين أحدها يحتاج إلي دليل.

الفصل الثالث: في أنّ العام حجّة في الباقي

قد خرجنا في الفصل السابق بنتيجتين:

الأُولي: انّ العام مستعمل في معناه، و انّ التّخصيص لا يوجب المجازية.

الثانية: انّ الأصل بين العقلاء هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّيّة إلاّ إذا قام الدّليل علي المخالفة في مورد التّخصيص.

ثمّ إذا شككنا في ورود التّخصيص علي العام أو في ورود تخصيص زائد فمقتضي الأصلين هو حجّية العام في مدلوله، و ذلك لأنّ مقتضي كون اللّفظ مستعملاً في معناه بالإرادة الاستعمالية و كونها مطابقة للجدّ ما لم يدلّ دليل علي خلافه، هو كون ما وقع تحت العام محكوماً بحكمه و انّه حجّة فيه ما لم يدلّ دليل قطعي علي الخلاف.

ص: 200

الفصل الرابع: إجمال المخصِّص مفهوماً

اشارة

كان البحث في الفصل السابق منصبّاً علي حجية العام في الباقي بعد افتراض كون المخصص مبيَّناً لا إجمال فيه، و إنّما كان الشكّ في تخصيص زائد بمعني احتمال أن يكون هناك تخصيص وراء التخصيص الأوّل، فقد قلنا بحجّية العام في الباقي ما لم يثبت تخصيص آخر.

و أمّا البحث في هذا الفصل فهو فيما إذا كان المخصص مجملاً مفهوماً و صار إجماله سبباً للشك في بقاء مورد، تحت العام، أو داخلاً تحت الخاص، و علي هذا فالفصلان مختلفان موضوعاً و محمولاً، و إن كانا يشتركان في تعلّق الشكّ ببقاء فرد أو عنوان تحت العام، لكن منشأ الشك في الفصل السابق، احتمال طروء تخصيص زائد علي العام و في المقام وجود الإجمال في المخصِّص فالمسألتان متغايرتان.

ثمّ إنّ إجمال المخصص مفهوماً علي قسمين: فتارة يكون مفهوم المخصص مردّداً بين الأقل و الأكثر، و أُخري يكون مفهومه مردّداً بين المتباينين. و إليك توضيح القسمين بذكر بعض الأمثلة.

أمّا المخصص المردّد مفهومه بين الأقل و الأكثر، فإليك مثالين:

ص: 201

أ. إذا قال: كلّ ماء طاهر إلاّ ما تغيّر طعمُه أو لونُه أو رائحته، فإنّ المخصِّص مردّد بين كون المراد خصوص التغيّر الحسي، أو ما يعمّه و التغيّر التقديريّ، كما إذا مزج الماء الذي وقعت فيه النجاسة، بالطيب علي فرض لولاه لظهر التغيّر بإحدي صوره الثلاث، فالمخصص(إلاّ ما تغير) مردّد بين الأقل و هو التغير الحسّي، و الأكثر و هو شموله له و للتقديري.

ب. إذا قال: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق و تردّد مفهوم الفاسق بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة، أو الأعم منه و من مرتكب الصغيرة، فهو مردّد بين الأقل و هو مرتكب الكبيرة ، و الأكثر و هو مرتكب الكبيرة و الصغيرة.

و أمّا المخصص المردّد مفهومه بين المتباينين.

فكما إذا قال المولي: أكرم العالم إلاّ سعداً، و تردّد بين سعد بن زيد و سعد ابن بكر، فالإجمال في المفهوم صار سبباً لتردّد المخصّص بين المتباينين.

إذا وقفت علي إجمال المفهوم بقسميه، فاعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام أربع. لأنّ المخصّص المجمل إمّا متصل أو منفصل و إجمال كلّ، إمّا لدورانه بين الأقل و الأكثر، أو بين المتباينين، و إليك أحكام الصور الأربع:

الصورة الأُولي: المخصص المتّصل الدائر مفهومه بين الأقل و الأكثر

إذا كان العام مقروناً من أوّل الأمر بمخصص مجمل مفهوماً مردّد أمره بين الأقل و الأكثر كما عرفت في المثالين، فلا شكّ في أمرين:

1. انّ الخاص حجّة في الأقل أعني: التغيّر الحسّي و مرتكب الكبيرة و ليس العام حجّة فيهما بلا كلام.

2. انّ الخاص ليس حجّة في المصداق المشكوك، أي التغير التقديري و مرتكب الصغيرة.

ص: 202

إنّما الكلام في أمر ثالث، و هو هل العام حجّة في هذا الفرد المشكوك أو لا؟ و المسألة مبنية علي سريان إجمال المخصص إلي العام فلا يكون حجّة فيه، و عدمه فيكون حجّة.

التحقيق انّه يسري، لأنّ المخصص المتّصل من قبيل القرائن المتصلة بالكلام، و ما هذا شأنه يوجب »عدم انعقاد ظهور للعام إلاّ فيما عدا الخاص« فإذا كان الخاص مجملاً، سري إجماله إلي العام، لأنّ ما عدا الخاص غير معلوم فلا يحتج بالعامّ في مورد الشكّ.

و إن شئت قلت: إنّ التخصيص بالمتصل أشبه شيء بالتقييد حيث يعود الموضوع مركباً من العام و عنوان »غير الفاسق« فلا بدّ في الحكم بوجوب الإكرام(حكم العام) من إحراز كلا الجزءين، أعني: كونه عالماً و كونه غير فاسق، و الأوّل و إن كان محرزاً بالوجدان، و لكن الثاني(غير فاسق) غير محرز، لأنّه لو كان الفاسق موضوعاً لمرتكب الكبيرة، فالموضوع محرز، لأنّ مرتكب الصغيرة غير فاسق، و لو كان موضوعاً للأعم فهو فاسق، فلا ينطبق عليه عنوان العام المخصَّص(العالم غير الفاسق)، و بما انّه لم يحرز عندئذ الجزء الآخر(غير الفاسق)، فلا يصحّ التمسّك بالعام.

الصورة الثانية: المخصص المتّصل الدائر مفهومه بين المتباينين

إذا ورد العام منضماً إلي مخصص دائر مفهومه بين أمرين متباينين ليس بينهما قدر مشترك حتي يدور الأمر بين الأقل و الأكثر، كما إذا قال: أكرم العالم إلاّ سعداً، و كان مردّداً بين سعد بن زيد و سعد بن بكر، فلا يمكن التمسّك بالعام في واحد منهما للبيان السابق حيث إنّ العام حجّة فيما عدا الخاص، فيجب إحراز

ص: 203

كلا الجزءين:الأوّل: انّه(عالم) و الثاني انّه(ليس سعداً)، و بما أنّ سعداً مردّد مفهوماً بين الفردين، فلا يكون موضوع العام محرزاً بتمامه في أيّ واحد من الفردين.

الصورة الثالثة: المخصص المنفصل الدائر مفهومه بين الأقلّ و الأكثر

إذا ورد العام مجرداً عن المخصص ثمّ لحقه مخصص منفصل دائر مفهومه بين الأقل و الأكثر، كما إذا قال: أكرم العلماء، و قال بعد فترة:لا تكرم فسّاق العلماء، فلا شكّ أنّ العام ليس بحجّة في مرتكب الكبيرة و يقع الكلام في كونه حجّة في مرتكب الصغيرة.

المشهور بين المحقّقين كونه حجّة في مورد الصغيرة، و يقع الكلام في بيان ما هو الفرق بين المتصل و المنفصل حيث إنّ إجمال المخصص المتصل يسري إلي العام عند دورانه بين الأقل و الأكثر و لا يسري إليه إجمال المخصص المنفصل إذا دار أمره بينهما، و إليك بيان الفرق:

إنّ اتصال المخصص يوجب عدم انعقاد ظهور للعام من أوّل الأمر إلاّ في العنوان المركب(العالم غير الفاسق)، فلا يكون هنا إلاّ دليل واحد و له ظهور واحد.

و هذا بخلاف ما إذا كان المخصص منفصلاً، فإنّه ينعقد للعام ظهور في العموم، و يعمّ قوله: أكرم العلماء، مرتكبَ الصغيرة و الكبيرة معاً في بدء الأمر و يكون حجّة فيهما.

ثمّ إذا لحقه المخصص المنفصل فهو لا يزاحم ظهوره، لأنّ ظهوره انعقد في العموم، و إنّما يزاحم حجّيته في العموم، لأنّ ظهور الخاص أقوي، و بما انّ المخصص المنفصل ليس حجّة إلاّ في مرتكب الكبيرة دون الصغيرة، بل كان فيها مشكوك الحجية فلا يزاحم حجيّة العام فيه فيتمسك بالعام الذي انعقد ظهوره

ص: 204

في العموم و كان حجّة فيه ما لم يكن هناك حجّة أُخري و المفروض عدمها.

و بعبارة أُخري: العام المنفصل عن المخصص ينعقد ظهوره في العموم، فيكون حجّة في وجوب إكرام العالم أعم من مرتكب الصغيرة أو الكبيرة، و هذا الظهور حجّة ما لم يكن هناك دليل أقوي، و المفروض أنّ الدليل الأقوي مجمل مردّد بين الأقل و الأكثر، فلا يكون حجّة في المشكوك أي الأكثر فلا ترفع اليد عن الحجّة السابقة إلاّ بمقدار ما ثبتت حجّية الخاصّ فيه، و ليس هو إلاّ مرتكب الكبيرة فيتمسك في مورد الصغيرة، بالعام.

هذا هو المعروف و هناك رأي آخر يطلب من دراسات عليا.

الصورة الرابعة: المخصص المنفصل الدائر مفهومه بين المتباينين

إذا ورد العام مجرداً عن المخصص، ثمّ لحقه المخصص بعد فترة و لكن دار أمره بين متباينين، كما إذا قال: »أكرم العالم«، ثمّ قال بعد فترة: »لا تكرم سعداً« و كان سعد مردّداً مفهوماً بين »سعد بن زيد و سعد بن بكر« فالإجمال في المصداق و تردّده بين الشّخصين لأجل الإجمال في المفهوم بحيث لو أزيل الإجمال المفهومي لما كان هناك إجمال في المصداق ، فهل يكون العام حجّة في واحد منهما؟ التحقيق: انّه لا يكون العام حجّة بل يسري إجمال المخصص و إن كان منفصلاً إلي العام و وجه ذلك مع أنّه يشترك مع الصورة الثالثة في انفصال المخصص، و لكن يفارقه في شيء آخر، و هو انحلال العلم الإجمالي في الصورة الثالثة في مورد مرتكب الصغيرة فيكون الشكّ فيه شكاً بدوياً بخلاف المقام، فإنّ هنا علماً إجمالياً بحرمة أو عدم وجوب إكرام أحد العنوانين، و مع هذا العلم كيف يمكن التمسك بظهور العام و إن انعقد ظهوره قبل لحوق المخصص المنفصل به في العموم بل يسقط العام عن الحجية في كلّ واحد منهما.

ص: 205

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. يسري إجمال المخصص المتصل الدائر أمره بين الأقل و الأكثر إلي العام.

2. يسري إجمال المخصص المتصل الدائر أمره بين المتباينين إلي العام.

3. يسري إجمال المخصص المنفصل الدائر أمره بين المتباينين إلي العام. (1)

4. لا يسري إجمال المخصص المنفصل الدائر أمره بين الأقل و الأكثر إلي العام.ن.

ص: 206


1- . هذه هي الصورة الرابعة قدّمناها في المقام لمساواة حكمها مع القسمين الأوّلين.

الفصل الخامس: إجمال المخصص مصداقاً

كان البحث في الفصل السابق فيما إذا شكّ في كون فرد داخلاً تحت العام أو الخاص و كان منشأ الشك إجمال المخصص مفهوماً و أمّا إذا كان المخصص مبيناً مفهوماً، لكن وقع الشكّ في بقاء فرد من أفراد ما ينطبق عليه العام تحته أو خروجه عنه و دخوله تحت المخصِّص، فمثلاً، قال رسول اللّه(صلي الله عليه و آله و سلم): »علي اليد ما أخذت حتي تؤدي« و هو عام يشمل اليد العادية و اليد الأمينة، ثمّ لحقه المخصص فأخرج اليد الأمينة.

و لو تلف مال تحت يد إنسان مردّدة مصداقاً بين كونها يد عادية أو يد أمانة، فالإجمال ليس في مفهوم العام و لا في مفهوم الخاص، و إنّما الإجمال في المصداق و الأمر الخارجي حيث إنّ كيفية اليد مردّدة بين كونها باقية تحت العام أو كونها خارجة عنه، فهل يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص، أو لا؟ ربما ينسب إلي القدماء صحّة التمسك و لذلك أفتوا في مثال اليد المشكوكة، بالضمان، و لكن الحقّ خلافه.

بيانه: انّ الخاص(اليد الأمينة) و إن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه، كما في المقام لتردّده بينها و بين غيرها، و لكنّه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير

ص: 207

عنوان المخصص، فكأنّه(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: علي اليد »إذا كانت عادية« ما أخذت حتي تؤدي، فالاحتجاج بالعام في مورد الشبهة مبني علي إحراز كلا العنوانين:

أ. استيلاؤه علي العين، و هو محرز بالوجدان.

ب. استيلاؤه علي وجه العدوان و انّ اليد عادية، و هو مشكوك.

و مع الشكّ في صدق الجزء الثاني علي المورد كيف يتمسك بالعام و يحكم بالضمان؟ و إلي ما ذكرنا يرجع قول العلماء: »إنّ الخاص و إن لم يكن حجّة في مورد المشتبه، لكنّه يجعل العام السابق حجّة في غير عنوان الخاص فيجب علي المتمسك إحراز كلا العنوانين«. (1)

و قد خرجنا بالنتيجة التالية:

و هي انّ العام ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصص.

سؤال: إذا كان هذا هو مقتضي القاعدة، فلما ذا أفتي المشهور بضمان اليد المشكوكة المردّدة بين كونها يد ضمان، أو يد أمانة مع أنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص؟ الجواب: انّ الإفتاء بالضمان ليس من هذا الباب، بل لأجل ضابطة فقهية سارية في أمثالها و هي:

إذا كان طبع العمل مقتضياً للفساد و كانت الصحّة حالة طارئة، عليه فلا2.

ص: 208


1- . ثمّ إنّ الصور المتصوّرة في المقام(إجمال المخصص مصداقاً) أربعة كإجماله مفهوماً، و ذلك لأنّ المخصص المجمل مصداقاً إمّا أن يكون متصلاً، أو يكون منفصلاً و علي كلّ تقدير، كل من الإجمالين تارة يكون علي وجه التباين و أُخري علي نحو الأقل و الأكثر و علي كلّ تقدير فالعام ليس حجّة في الشبهة المصداقيّة للمخصّص مطلقاً. و لأجل الاختصار اكتفينا في هذا القسم بالإشارة. لاحظ المحصول: الجزء2.

تجري فيه أصالة الصحّة بل يحكم عليه بالفساد ما لم يحرز مسوغ الصحّة. و التصرف في مال الغير يقتضي الضمان بطبعه، و عدم الضمان أمر طارئ استثنائي، فاللازم هو الأخذ بمقتضي طبيعة الموضوع إلي أن يثبت خلافه، و إليك نظائرها:

1. إذا باع غير الولي مال اليتيم و احتمل كون بيعه مقروناً بالمسوِّغ، فلا يحكم عليه بالصحّة إلاّ بالعلم و البيّنة علي وجوده، لأنّ طبع العمل(بيع مال اليتيم) محكوم بالفساد، فهو محكوم بمقتضي الطبع إلي أن يعلم خلافه.

2. إذا باع المتولي، الوقف فلا يحكم عليه بالصحة إلاّ بإحراز أحد المسوغات، لأنّ طبع بيع الوقف يقتضي الفساد و الصحّة أمر طارئ عليه، فيحكم بمقتضي الطبع إلي أن يعلم خلافه.

3. إذا تردّدت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها و غيرها، فلا يجوز النظر إليها، لأنّ مقتضي طبع العمل في المقام هو حرمة النظر و جواز النظر أمر طارئ علي مطلق المرأة، فيحكم بحرمة النظر إلي أن يعلم المسوّغ.

ص: 209

الفصل السادس: التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص

نزل الوحي الإلهي علي قلب سيّد المرسلين نجوماً علي سبيل التدريج و قد بيّن سبحانه وجه ذلك بقوله:

( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (1) ) (2) فجعل تثبيت فؤاد النبي دليلاً علي نزول القرآن تدريجاً.

ثمّ إنّ نزول القرآن نجوماً، صار سبباً لتدريجية التشريع القرآني، فربما نزل العام في فترة، و الخاص في فترة أُخري فلا يُحتج بالعام القرآني إلاّ بعد الفحص عن خاصّه فيه.

و نظيره السنّة النبويّة فقد كان التشريع فيها أمراً تدريجياً، فربما ورد العام في لسان النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)في فترة، و الخاص في فترة أُخري، فلا يحتج بعموم السنة النبويّة إلاّ بعد الفحص عن مخصصه فيها.

ثمّ إنّ هناك أحكاماً كثيرة شُرّعَت لكن حال الأجل بين الرسول و إبلاغه للأُمّة لكنّه صلوات اللّه عليه جعلها مخزونة عند العترة الطاهرة وصفهم أعدالاً للقرآن الكريم و قال: »إنّي تاركٌ فيكُمُ الثقلين كتاب اللّه و عِترتي«، فقاموا ببيان الأحكام المخزونة: عمومها و خصوصها، مطلقها و مقيّدها في فترة تقرب من 250

ص: 210


1- سوره 25 - آيه 32
2- . الفرقان:32.

سنة، فجاء العام في لسان إمام و الخاص في لسان إمام آخر أو روي الراوي العام من دون أن يروي الخاص و عكس الآخر، و بالتالي طرأ الفصل علي المخصصات و المقيدات، و هذا هو السبب التّام لوجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام.

و ليس هذا من خصيصة التشريع الإسلامي بل التشريع الوضعي(البشري) يتمتع بذلك أيضاً فربما يذكر العمومات و المطلقات في قائمة، و المخصصات و المقيدات في قائمة أُخري و ما ذلك إلاّ لكون التشريع أمراً غير دفعي.

نعم لا يجب الفحص عن المخصص المتصل، لأنّ سقوطه عن كلام الراوي علي خلاف الأصل لأنّ سقوطه عمداً تنفيه وثاقة الراوي، و سهواً يخالفه الأصل العقلائي المجمع عليه.

ثمّ إنّ الفحص في المقام يغاير ماهية عن الفحص عن الدليل الاجتهادي عند العمل بالأُصول العملية فانّ الفحص هنا فحص عن متمم الحجّية، لأنّ موضع الأُصول العملية هو الشكّ في ظرف عدم البيان فما لم يتحقّق الفحص لا يحرز موضوع الأصل(عدم البيان) و لا يحصل المقتضي بخلاف المقام فانّه فحص عن الدليل الأقوي ظهوراً.

و أمّا مقدار الفحص فاللازم هو حصول الاطمئنان الشخصي علي عدم المخصص، و هذا النوع من الاطمئنان حجّة عقلائيّة لم يردع عنها الشارع بل هو علم عرفي.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا علي وجوب الفحص بدلائل مختلفة أشرنا إليها في التعليقة. (1)م.

ص: 211


1- . أ. عدم حصول الظن الشخصي بالتكليف قبل الفحص. ب. وجود العلم الإجمالي بالمخصص و هو مانع عن التمسك بالعام.

الفصل السابع: تعقيب العام بضمير يرجع إلي بعض أفراده

إذا كان هناك عام يتعقّبه ضمير يرجع إلي بعض أفراده، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟ مثاله قوله سبحانه:( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً... (1) ). (2)

فقد دلّ الدليل علي أنّه ليس كلّ بعل أحقّ باسترجاع مطلّقته، و إنّما يستحق إذا كان الطلاق رجعياً لا بائناً، فيقع الكلام في أنّه يوجب ذلك، تخصيصَ العام و اختصاص التربص أيضاً(كالاسترجاع) للرجعيات، أو يبقي العام علي عمومه سواء أ كانت رجعية أم بائنة و يتصرف في الضمير فقط. وجهان:

توضيحه: انّ هنا حكمين:

1. حكم العام، أعني قوله:( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (3) )و ظاهره عموم حكم التربّص لعامة المطلّقات رجعيّة كانت أو بائنة.

2. حكم الضمير الراجع إلي العام، أعني: حقّ الرجوع في قوله: »» بُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِن) فقوله:

»»(أَحَقُّ) لا يشمل كل بعل بل البعض أي المطلِّق رجعياً.

ص: 212


1- سوره 2 - آيه 228
2- . البقرة:228.
3- سوره 2 - آيه 228

فعندئذ يقع التنافر بين استعمال المرجع في العموم، و استعمال الضمير الراجع إليه في الخصوص فإنّ الأصل هو رجوع الضمير إلي نفس ما أُريد من المرجع لا إلي بعض ما أُريد منه فلا بدّ من علاجه بإحدي الصور التالية:

أ. التصرّف في المرجع بإخراج البائنة عن حكمه، و ذلك لأجل أنّ الحكم الحديث الثاني يرجع إلي بعض المطلقات، فيصير قرينة علي أنّ الحكم الأوّل(التربص) به لبعض الأفراد، فيحصل التطابق بين المرجع و الضمير.

ب. التصرّف في الضمير بارتكاب الاستخدام فيه بعوده إلي خصوص المطلقة الرجعية، و إبقاء حكم العام علي عمومه.

ج. عدم التصرّف في واحد من المرجع و الضمير، و التصرّف في الإسناد، و ذلك بإسناد الحكم(أحقّ بردّهنّ) المسند إلي البعض(الرجعية) إلي الكل(مطلق المطلقة) توسعاً و تجوزاً ، فيكون مجازاً في الإسناد، بلا تصرف في المرجع و لا في الضمير.

و هناك وجه رابع، و هو عدم الحاجة إلي التصرف مطلقاً، و ذلك لأنّه يمكن أن يقال إنّ الحكمين باقيان علي عمومهما.

1. فالمطلقات كلهنّ يتربصن بلا استثناء ، و الإرادة الاستعمالية فيها مطابقة للجدية.

2. و بعولتهن مطلقاً رجعياً كان الطلاق أو بائناً أحقّ بردهنّ بلا استثناء لكن بالإرادة الاستعمالية، و أمّا الإرادة الجدية فقد تعلّقت بخصوص الرجعية، و ذلك بشهادة الدليل القطعي علي خروج بعض الأصناف كما إذا كان الطلاق بائناً عنه.

و تظهر صحّة ما ذكرنا ممّا تقدّم في الفصل الثاني من هذا المقصد(عدم

ص: 213

استلزام التخصيص المجاز في العام) فالعلم بتخصيص الحكم الثاني بالمطلّقة رجعيّة لا يستلزم استعمال الضمير في بعض ما يراد من العام حتي يدور الأمر بين أحد المجازات، بل من الجائز أن يستعمل الضمير في المعني العام أيضاً غاية الأمر علمنا بدليل خارجي اختصاص الحكم بالرجعية.و أقصي ما يلزم من ذلك تخصيص الإرادة الجدية في جانب الضمير لا الاستعمالية كما هو الضابطة في كلّ تخصيص.

ص: 214

الفصل الثامن: تخصيص العام بالمفهوم الموافق و المخالف

لا شكّ انّ العام كما يخصص بمنطوق القضية، كذلك يخصص بمفهومها.

مثلاً لو افترضنا ورد عام يأمر باطاعة الوالدين في كلّ ما يأمران به و قال: أطعهما في كلّ ما يأمران.

ثمّ ورد قوله سبحانه:( إِنْ جاهَداكَ عَلي أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما (1) ). (2)

فمنطوق الآية ناظر إلي الشرك في العبادة فيخصص العام المتقدّم بهذا المنطوق.

ثمّ إنّ الآية تدلّ علي حرمة اطاعتهما إذا جاهدا أن يشرك الولد، في الخالقية و الربوبية، بطريق أولي(المفهوم الموافق) فيخصص به أيضاً، العام السابق.

وجه الاتفاق علي جواز التخصيص هو انّ المفهوم الموافق من مقولة الدلالة اللفظية عند العرف، فكما يخصص العام بمنطوق الآية فهكذا يخصص بمفهومها الموافق لأنّهما في درجة واحدة لو لم يكن الموافق أعلي منزلة.

إنّما الكلام في تخصيص العام بالمفهوم المخالف، فربما يتصوّر عدم الجواز لأجل انّ الدلالة المفهومية أضعف من الدلالة المنطوقية ، فصار ذلك سبباً لعقد

ص: 215


1- سوره 31 - آيه 15
2- . لقمان:15

هذا الفصل.

ثمّ إنّ العام و ما يكون له المفهوم إمّا يقعان في كلام أو كلامين علي نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة علي التصرف في الآخر و دار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فيعمل بالأظهر منهما، و هذا كما في قوله سبحانه:( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1) ). (2)

فانّ الصدر ظاهر في المفهوم، و هو عدم وجوب التثبُّت عند خبر العادل و لكن الذيل عام (3) يدلّ علي لزومه عند كلّ خبر غير علمي سواء كان المخبر فاسقاً أو عادلاً، لأنّ الجهالة بمعني عدم العلم موجود في كلا القسمين، فعندئذ يقدم الأظهر منهما علي الآخر و إلاّ فيتساقطان، و أمّا ما هو الأظهر فقد اختلفت فيه أنظارهم.

فهناك من يقدّم المفهوم علي العام و هناك من يعكس، و التّحقيق موكول إلي محلّه.

هذا كلّه إذا كان العام و ما يدلّ علي المفهوم في كلام واحد، و أمّا إذا كان منفصلين فهل يخصّص العام بالمفهوم أو لا؟ فالظاهر انّه إذا لم تكن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف علي الآخر يعود الكلام مجملاً، و أمّا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر فيقدم الأظهر. فربما يكون المفهوم أظهر من حكم العام و إليك المثال:

أ. روي محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه(عليه السلام):انّه سئل عن الماء يبول فيه الدواب و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب، قال(عليه السلام):»إذا كان الماء قدر كرّ لم..

ص: 216


1- سوره 49 - آيه 6
2- . الحجرات:6.
3- . لوقوع النكرة(بجهالة) في سياق النفي أي لئلاّ يصيبوا...

ينجسه شيء«.

فالرواية تحمل المفهوم و هو أنّ الماء إذا لم يكن قدر كرّ يتنجس بالنجس. و في مقابله عام كقوله:»الماء كلّه طاهر« قابل لتخصيصه بمفهوم هذا الحديث. وجه الأظهرية هو أنّ العام متعرض لحكم طبيعة الماء، و المفهوم متعرض لحكم حال من أحواله و هو إذا كان الماء قليلاً و لاقي النجاسة، فيقدم علي الأوّل إذ لا منافاة بين أن يكون الماء القليل بما هو هو طاهراً و عند الملاقاة بالنجس نجساً.

و ربما يكون علي العكس فيكون العام أظهر من المفهوم لكونه معللاً غير قابل للتخصيص عرفاً كالمثال التالي:

ب. روي محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا(عليه السلام) قال: »ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحُه أو طعمُه، فيُنزَحُ حتي يذهبَ الريحُ و يطيب طعمُه، لأنّ له مادة«. (1)

و هو يدلّ علي اعتصام ماء البئر و عدم انفعاله بالملاقاة سواء أ كان كراً أو غير كر، و بما انّه معلل يقدم علي المفهوم المستفاد من قوله: »إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء« فيحكم بطهارة ماء البئر القليل إذا لاقي نجساً، و بالجملة الملاك هو الأظهرية فتارة يكون الأظهر هو المفهوم و أُخري يكون العام.

و التصديق الفقهي في الموردين و نظائرهما موكول إلي محلّه في كتاب الطهارة.1.

ص: 217


1- .1 . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

الفصل التاسع: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

لا شكّ انّ الكتاب حجّة قطعية و أمّا الخبر الواحد فهو و إن كان ظنياً لكنّه ثبتت حجّيته بالدليل القطعي، فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: تبيين مجملات القرآن و مبهماته بالخبر الواحد لا شكّ انّ كثيراً من الآيات الواردة حول الصلاة و الزكاة و الصوم و غيرها واردة في مقام أصل التشريع و لذلك تحتاج إلي البيان، و الخبر الواحد بعد ثبوت حجّيته يكون حجّة مبينة لمجملاته و موضحاً لمبهماته و لا يعد مثل ذلك مخالفاً للقرآن و معارضاً له، بل يكون في خدمة القرآن و الغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلك.

إنّما الكلام في تخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد، بمعني إخراج ما شمله القرآن بعمومه، فذهب المتأخرون إلي جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، كتخصيص قوله:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (1) ) (2) بما ورد في السنّة »لا ميراث للقاتل«. (3)

و نظيره قوله سبحانه:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (4) ) (5) حيث خصص بما ورد في السنة:المرأة لا تزوّج علي عمّتها و خالتها. (6)

ص: 218


1- سوره 4 - آيه 11
2- .1 . النساء:11.
3- .2 . الوسائل: 17، الباب 7 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
4- سوره 4 - آيه 24
5- .3 . النساء:24.
6- .1 . الوسائل: 14، الباب 30 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.

و مع أنّ المشهور بين المتأخرين هو جواز التخصيص لكن ذهب الشيخ الطوسي إلي عدم الجواز، و تبعه المحقّق و قالا: بأنّا لا نسلّم انّ خبر الواحد دليل علي الإطلاق، لأنّ الدلالة علي العمل به، هو الإجماع علي استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به. (1)

و حاصل استدلاله هو أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد قاصرة عن شمولها لما إذا كان في المورد دلالة قرآنية. فالكلام ليس في أصل حجّية الخبر الواحد بل في سعته. و أمّا التّخصيص بما عرفت من الروايات فلاتّفاق الأُمّة عليه فلعلّها كانت محفوفة بالقرائن.

و حاصل الكلام انّ كون الكتاب حجّة ليس ككون خبر الواحد حجّة بل هو من الحجج القطعية التي لا يعادله شيء إلاّ نفس كلام المعصوم(عليه السلام) لا الحاكي عنه الذي يحتمل أن يكون كلامَه أو كلام غيره، كيف و قد سمّي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) القرآن في حديث الثقلين، بالثقل الأكبر و العترة الطاهرة بالثقل الأصغر،و عندئذ كيف يمكن رفع حكمه بمجرّد قول الثقة هذا و لا يعدّ ذلك خلفاً في حجّية خبر الواحد فانّ الكلام ليس في أصلها بل في سعتها.

ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به، لأنّ الكتاب قطعيُّ الثبوت و خبر الواحد ظنّي الصدور، فكيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصاً إذا كان النسخ كلياً لا جزئياً أي رافعاً للحكم من رأسه؟ و إليك المثال:

قال سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ (2) ). (3)8.

ص: 219


1- .2 . ع--دة الأُصول: 1 / 344، بتلخيص ; معارج الأُصول:114.
2- سوره 2 - آيه 180
3- .1 . البقرة:18.

يدلّ لحن الآية علي أنّ الوصية أمر قطعي لا تزول عبْر الزمان بشهادة قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ (1) ) الحاكي عن الثبوت و اللزوم، كما أنّ تذييل الآية بقوله:( حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ (2) ) دليل علي أنّه حقّ ثابت علي خصوص المتّقين و ما هو حقّ لهم لا يُغيّر.

و مع ذلك فقد ذهب أكثر فقهاء السنة إلي أنّه منسوخ بخبر الواحد، أي ما روي عنه(صلي الله عليه و آله و سلم): »لا وصية لوارث«.

و قد بسطنا الكلام فيه في بعض مسفوراتنا الفقهية.

ص: 220


1- سوره 2 - آيه 178
2- سوره 2 - آيه 180

الفصل العاشر: دوران الأمر بين التّخصيص و النسخ

إذا ورد عام و خاص، و تردّد الخاص بين كونه مخصِّصاً أو ناسخاً أو منسوخاً، فللمسألة صور:

1. إذا ورد العام و الخاص متقارنين.

2. إذا ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام.

3. إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام.

4. إذا ورد العام بعد الخاص و قبل حضور وقت العمل بالخاص.

5. إذا ورد العام كذلك لكن بعد حضور وقت العمل بالخاص.

6. إذا جهل ورود الخاص، و أنّه هل ورد قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعد حضوره؟ و إليك تفاصيلها:

1. إذا ورد العام و الخاص متقارنين فلا شكّ في أنّ الخاص مخصِّص لا ناسخ، لأنّ النسخ إنّما يتصوّر بعد حضور وقت العمل بالعام، و ورود الخاص حينه أو بعده و المفروض أنّهما وردا معاً.

2. إذا ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، كما إذا قال المولي يوم الأربعاء: أكرم العلماء يوم الجمعة، و قال يوم الخميس: لا تكرم فساقهم في ذلك

ص: 221

اليوم، فهو مخصص لوروده قبل حضور وقت العمل بالعام.

3. إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، كما إذا ورد العام في الكتاب أو علي لسان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) و ورد الخاص علي لسان الأئمّة(عليهم السلام) فمثلاً قال سبحانه:( وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ (1) ). (2)

و مقتضي الآية أنّهنّ يرثْنَ من جميع ما تركه الزوج حتي العقار، و لكن ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: »لا ترث النساء من عقار الدور شيئاً«. (3)

فمقتضي القاعدة هو كون الخاص ناسخاً، لأنّه ورد بعد حضور وقت العمل بالعام أزيد من قرن و لكنّه يشكل من وجهين:

الأوّل: إجماع الأُمّة علي أنّ النسخ مختص بعصر الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) و أنّ ما لم يُنسخ فهو باق مستمرّ إلي يوم القيامة، و هذا هو الوجه في عدم كونه ناسخاً.

الثاني: انّه اشتهر »انّه ما من عام إلاّ و قد خُصّ« فجعل المخصصات الكثيرة في لسان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ناسخة يستلزم نسخ أكثر الأحكام و لو في بعض مدلولها.

سؤال: إذا قلنا بأنّ الخاص المتأخر مخصِّص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، فقد كانت الآية الشريفة(آية الميراث) رائدة الأُمة أزيد من قرن مع أنّ المقصود الجدي كان علي خلافه.

الجواب: انّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً، فالأحكام كلّها كانت مشروعة في عصر الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) نازلة عليه، غير أنّه(صلي الله عليه و آله و سلم)بَيّن ما بَيّن و أودع ما لم يُبيّن7.

ص: 222


1- سوره 4 - آيه 12
2- .1 . النساء:12.
3- .2 . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 7.

إمّا لعدم وجود الفرصة السانحة للبيان أو لوجود المصلحة في تأخيره عند أوصيائه و الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)بعده، و ليس تأخير البيان أمراً قبيحاً بالذات حتي لا يغيّر حكمه و إنّما هو بالنسبة إلي القبح، كالمقتضي، نظير الكذب، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً.

هذا هو الحقّ الذي يدركه من سبر سيرة النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) و المجتمع الإسلامي.

فأقصي ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقة أو تفويت المصلحة، و كلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبري تأخير البيان.

4. إذا ورد العام بعد الخاص و قبل حضور وقت العمل بالخاص.

كما إذا قال في أوّل شهر شعبان: لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان، ثمّ قال في اليوم الثامن و العشرين من شهر شعبان:أكرم العلماء في شهر رمضان، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصّصاً للعام المتأخر، و لا وجه للنسخ، أي كون العام المتأخر ناسخاً للخاص المتقدّم لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ(الخاص).

أضف إلي ذلك أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام، و هو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.

5. إذا ورد العام كذلك لكن بعد حضور وقت العمل بالخاص، كما إذا ورد قوله: أكرم العلماء في أثناء شهر رمضان، فمقتضي القاعدة كون العام المتأخّر ناسخاً للخاص المتقدّم لورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، و لا يلزم منه اللغوية لفرض العمل به مدّة نصف شهر.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال إنّ قلّة النسخ و كثرة التخصيص يجرّنا إلي القول بأنّه من قبيل التخصيص.

ص: 223

ثمّ الثمرة بين القولين واضحة، إذ علي القول بكون العام ناسخاً يكرم العالم الفاسق في باقي شهر رمضان، و علي القول الآخر لا يكرم في النصف الآخر كالنصف الأوّل.

6. إذا جُهل ورود الخاص، و أنّه هل ورد قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعد حضوره؟ الظاهر عدم ترتّب ثمرة علي القولين، لأنّه علي كلا التقديرين يعمل بالخاص في المستقبل سواء أ كان ناسخاً أم مخصصاً.

و أكثر ما ذكرناه فروض علمية ليس بأيدينا من الأدلّة ما يصلح للتمثيل بها، و لذلك تركنا ذكر بعض الصور الأُخري.

ص: 224

خاتمة المطاف: الخطابات الشفاهية

اشارة

هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين في مجلس التخاطب، أو تعمّ غيرهم من الغائبين و المعدومين؟ فمثلاً قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ) (2). هل يختص الخطاب فيه بالحاضرين في مجلس التخاطب، أو يعم الغائبين و المعدومين أيضاً؟ إنّ محلّ النزاع يمكن أن يكون إحدي الجهات التالية:

الجهة الأُولي: هل يصحّ تعلّق التكليف بالمعدومين كتعلّقه بالموجودين سواء كان التكليف وارداً عن طريق الخطاب أو لا؟ الجهة الثانية: هل تصحّ مخاطبة المعدوم أو الغائب عن محل الخطاب بالألفاظ الموضوعة له، أو بنفس توجيه الكلام إليه أو لا؟ الجهة الثالثة: هل الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب تعمّ المعدوم و الغائب أو لا؟ و البحث علي الأُوليين عقلي، و علي الثالثة لغويّ، فلنأخذ كلّ واحدة بالبحث.

ص: 225


1- سوره 2 - آيه 183
2- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 7.

الجهة الأُولي: في صحّة تكليف المعدوم

لا شكّ أنّ المعدوم من حيث إنّه معدوم لا يصحّ تكليفه بتوجيه البعث و الزجر الفعليين إليه، و هذا من القضايا التي قياساتها معها.

نعم يمكن إنشاء التكليف علي العنوان(لا علي الأفراد) الشامل للموجود و الغائب و المعدوم إنشاءً بلا بعث و لا زجر فعليّ ليُصبح فعلياً بعد ما وجدت الشرائط و فقدت الموانع بلا حاجة إلي إنشاء جديد.

و علي هذا فلا مانع من صحّة تكليف المعدوم و شمول التكاليف القرآنية لعامة المكلّفين عَبْرَ القرون.

الجهة الثانية: إمكان خطاب المعدوم

لا شكّ انّه لا يصحّ خطاب المعدوم خطاباً حقيقيّاً لغاية التفهيم و التفهم، و لكن يمكن تصحيح خطاب المعدوم علي النحو الذي مرّ في صحّة تكليف المعدوم، و ذلك بتعلّق الخطاب انشاءً بالعنوان لا بالأفراد، ففي قوله سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) ) (2) تعلّق الخطاب بعنوان الناس و له مصاديق كثيرة عبر الزمان، فمن كان واجداً للشرائط عند الخطاب يكون الخطاب في حقّه فعليّاً، و من كان فاقداً لها يكون الخطاب في حقّه إنشائيّاً، و سيُصبح فعلياً عند توفّر الشرائط.

و علي ذلك فلا مانع من شمول الخطابات القرآنية لعامة المكلّفين علي النحو الذي حرّرناه.

ص: 226


1- سوره 2 - آيه 21
2- .1 . البقرة: 21.

الجهة الثالثة: عمومية الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب

و هذا البحث لغوي، و لكنّه متفرع علي كون الخطاب حقيقياً أو إنشائياً.

فعلي الأوّل يختص بالموجودين، و علي الثاني يعمّ الموجودين و المعدومين، و علي ذلك فقوله سبحانه:( يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ (1) ) (2) يعم الموجودين و المعدومين علي النحو الذي بيّناه.

ثمرة البحث

تظهر ثمرة البحث في صحّة التمسّك بإطلاقات الكتاب، فلو شككنا في شرطية شيء أو جزئيته، فعلي القول باختصاص الخطاب بالحاضرين المشافهين لا يصح لغير المشافه التمسّك بالإطلاق الوارد في الخطاب، لأنّه أجنبي عنه، فلا يمكن له الاحتجاج علي المولي بإطلاق الخطاب و عدم تقيّده بالجزء و الشرط، و هذا بخلاف ما إذا كان الخطاب عامّاً للمشافه، و غير المشافه فهما سيّان في مقام التخاطب، فكما يصحّ للمشافه الاحتجاج بالإطلاق كذلك يصحّ لغيره أيضاً.

تمّ الكلام في المقصد الرابع و الحمد للّه

ص: 227


1- سوره 4 - آيه 1
2- .1 . النساء: 1 .

ص: 228

المقصد الخامس

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في تحديد المطلق و المقيّد

الفصل الثاني: المطلق عقيب التقييد، حقيقة

الفصل الثالث: في مقومات الإطلاق أو مقدّمات الحكمة

الفصل الرابع: في حمل المطلق علي المقيّد الفصل

الخامس: في المجمل و المبين

ص: 229

ص: 230

الفصل الأوّل: في تحديد المطلق و المقيّد

قد عُرّف المطلق في ألسنة القدماء من الأُصوليين بانّه: ما دلّ علي شائع في جنسه; و المقيّد بخلافه.

و المراد من الموصول في قولهم »ما دلّ« هو اللفظ.

كما انّ المراد من قولهم: »علي شائع« هو الفرد الشائع، المتوفَّر وجودُه من ذلك الجنس، فخرج العام الاستغراقي و المجموعي حيث إنّ العام يدلّ علي جميع الأفراد بنحو العموم و الشمول، كما خرجت الأعلام فانّها لا تدلّ إلاّ علي الفرد المعيّن.

يلاحظ علي التعريف: بانّه ربما يكون مدلول المطلق، الماهيةَ المطلقة من دون أن تكون فيه رائحة الفرد فضلاً عن كونه متوفراً في جنسه كما في قوله سبحانه:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (1) ) (2). فليس التعريف جامعاً.

و لأجل ذلك عدل الشهيد الثاني إلي تعريفه بشكل آخر و قال: إنّه اللفظ الدالّ علي الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة و لا تعدد. (3)

يلاحظ عليه: بانّه غير جامع أيضاً لخروج النكرة عن تعريفه إذ ليس مفادها الماهية بما هي هي كما في قوله: جئني برجل.

ص: 231


1- سوره 2 - آيه 275
2- .1 . البقرة:275.
3- .2 . تمهيد القواعد: 1/222.

و اعتذر المحقّق الخراساني عن هذه الإشكالات بانّها تعاريف شرح الاسم و ليست تعاريف حقيقية.

و يمكن أن يقال انّه لا مساس لهذه التعاريف بالمطلق في علم الأُصول لانّها مبنيّة علي كون الإطلاق من المداليل اللفظية فعادوا يفسّرونه بما عرفت; و لكن الحقّ انّ الإطلاق من المداليل العقلية و ذلك لوجود الفرق بين العام و المطلق، فانّ العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بموضوع، علي أقسام ثلاثة. فتارة يدلّ لفظه علي الشمول علي نحو الاستغراق، و أُخري علي نحو العام المجموعي، و ثالثة علي نحو العام البدلي، كلّ ذلك استلهاماً من اللفظ الموضوع و إن لم يتعلّق به الحكم. و علي ذلك فالعام بأقسامه الثلاثة من المداليل اللفظية.

و أمّا المطلق فيعتمد في استنباطه علي كون المتكلّم حكيماً غير ناقض لغرضه، إذ لو كان هناك قيد و كان المتكلّم في مقام البيان لجاء به، و علي ذلك يكون البحث عن الإطلاق في مباحث الألفاظ بحثاً استطراديّاً لكون مصبِّه هو اللفظ.

إذا عرفت ذلك فالأولي تعريف الإطلاق و التقييد بما يرجع إلي الحكم المتعلّق باللفظ، و يقال: إذا كان ما وقع تحت دائرة الحكم، تمامَ الموضوع للحكم بلا حيثية أُخري فهو مطلق لكونه مرسلاً عن القيد في موضوعيته، و إلاّ فهو مقيد.

فإذا كان هذا هو معني الإطلاق، فالمقوم للإطلاق و التقييد هو كون الشيء تمامَ الموضوع للحكم و عدمه، سواء أ كان الموضوع، دالاّ علي الماهية المطلقة، أو علي الفرد المتوفَّر وجوده من ذلك الجنس، أو علي الفرد المعين(العلم) إذا كان له أحوال و أوضاع، كما هو الحال في البيت العتيق و مشاهد الحجّ كعرفات و المزدلفة و الصفا و المروة حيث يصحّ التمسّك بإطلاق أدلّة هذه الموضوعات الشخصية.

و بذلك يتبين أنّ الإطلاق و التقييد أمران إضافيان حيث يمكن أن يكون

ص: 232

الحكم مطلقاً من جانب و مقيّداً من جانب آخر، كما إذا قال: أكرم إنساناً في المسجد، فبما انّ الموضوع نفس الإنسان من دون تقييده بصنف فهو مطلق، و بما انّ الإكرام مقيّد بكونه في المسجد فهو مقيد.

فإذا كان الميزان في الإطلاق و التقييد كون ما وقع تحت دائرة الحكم، تمام الموضوع من دون فرق بين كونه دالاً علي الطبيعة أو الفرد المنتشر أو العلم الشخصي فنحن في غني عن البحث في مفاهيم »اسم الجنس« و»علمه« و»النكرة« إلي غير ذلك من المباحث التي تطرّق إليها الأُصوليون (1) في ذلك المقام لما عرفت من وجود الفرق بين العموم و الإطلاق، فالعموم مستفاد من اللفظ، و الإطلاق مستفاد بحكم العقل من خلال كون الشيء تمام الموضوع، سواء أ كان الموضوع هو اسم الجنس أو علمه أو النكرة أو العلم الشخصي.

ثمّ إنّ الكلام في اسم الجنس جرّ القوم إلي البحث عن الماهيات و أقسامها الثلاثة المعروفة من »لا بشرط« و »بشرط شيء« و »بشرط لا«، لكنها بحوث فلسفية خارجة عن نطاق البحث الأُصولي، و البحث فيها إنّما يوجب التطويل بلا داع.

و قد بسطنا الكلام فيها في محاضراتنا الأُصولية. (2)0.

ص: 233


1- .1 . كالمحقّق الخراساني ومن جاء بعده وكان الجميع فيما حققوه عيالاً علي نجم الأئمّة الرضي الاسترابادي في شرح الكافية، فلاحظ.
2- .2 . المحصول في علم الأُصول: 2 / 593 - 600.

الفصل الثاني: المطلق عقيب التقييد، حقيقة

عرّفوا المطلق بانّه موضوع للفرد الشائع في جنسه علي وجه يكون الشيوع مأخوذاً في مفهومه، و بذلك يترتّب عليه أمران:

1. انّ الإطلاق عندهم من أقسام الدلالة اللفظية، و لا يحتاج في استفادة الإطلاق إلاّ إلي عدم القرينة علي التقييد كما هو الحال في عامة الدلالات اللفظية.

2. انّ المطلق بعد التقييد يكون مجازاً، لزوال الشيوع الذي هو مدلول لفظي للمطلق بعد التقييد.

و استقر رأي المشهور علي هذا إلي عصر سلطان العلماء (1) و هو أوّل من خالفهم و ذهب إلي انّ المطلق موضوع للماهية المبهمة من جميع الجهات إلاّ ذاتها و ذاتياتها، و ليس الشيوع و السريان جزءاً لمدلول المطلق، بحيث يدلّ عليه بالدلالة اللفظية، و يترتب علي ذلك أمران علي طرف النقيض من الأمرين السابقين أعني:

أ. كون المطلق عقيب التقييد حقيقة لعدم أخذ الشمول في معناه حتي

ص: 234


1- . هو الحسين بن رفيع الدين محمد بن محمود بن علي المرعشي الحسيني الآملي الأصل، الأصفهاني المنشأ، الوزير المعروف بسلطان العلماء و بخليفة السلطان أحد أعيان الإمامية في القرن الحادي عشر، ولد عام 1001 و توفي عام 1064 و له مؤلفات كثيرة لاحظ طبقات الفقهاء: 11/94 96 برقم 3371.

يستعمل في غير موضوعه.

ب. انّ الدلالة الإطلاقية دلالة عقلية تعتمد علي فعل المتكلّم الحكيم إذ لو كان هناك قيد لما تركه.

أقول: إنّ استعمال المطلق بعد التقييد حقيقة و إن قلنا بمذهب المشهور و أخذ الشمول و السريان في مدلوله، لما عرفت في مبحث العام و الخاص انّ المقام من قبيل تعدد الدالّ و المدلول و انّ كلّ لفظ مستعمل بالإرادة الاستعمالية في معناه، فإذا قال القائل: اعتق رقبة مؤمنة، فالرقبة استعملت في معناها الحقيقي الذي استبطن معني الشمول و السريان حسب مسلكهم و تقييده بالمؤمنة لا يوجب استعمالها في غير الشمول أي الرقبة المؤمنة، و قد عرفت تفصيل ذلك عند البحث في كون العام حقيقة بعد التخصيص. (1)

فإذا كان هذا حال التقييد المتصل فكيف الحال في التقييد المنفصل؟! و يرد علي مسلك سلطان العلماء أنّه و إن أصاب في نفي الشمول و السريان عن الإطلاق و اكتفي بكون المطلق هو الماهية المبهمة من جميع الجهات إلاّ ذاتها و ذاتياتها، لكنّك عرفت انّ دائرة المطلق أوسع ممّا ذكره، بل ربّما يكون النكرة و العلم الشخصي موضع مصبّ الإطلاق.

فالأولي هو حذف البحث عن مفاد المطلق و انّه هل هو الماهية بشرط السريان و الشمول أو الماهية المبهمة. و التركيز علي واقع المطلق و هو أن يكون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم سواء أ كان الموضوع ماهية ملحوظاً فيها الشمول و السريان أو ماهية مبهمة أو علماً.ص.

ص: 235


1- .1 . لاحظ: الفصل الثاني من المقصد الرابع أعني العام والخاص.

الفصل الثالث: في مقومات الإطلاق أو مقدّمات الحكمة

اشارة

قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الدلالة الإطلاقية دلالة عقلية و ليست دلالة لفظية، و علي ذلك لا يستقل العقل بكون ما وقع تحت دائرة الإطلاق تمام الموضوع إلاّ إذا ثبتت مقدمات ثلاث:

المقدّمة الأُولي: كون المتكلّم في مقام البيان

توضيحها: انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان تشريع حكم من الأحكام من دون نظر إلي خصوصيات موضوعه و شرائطه و عندئذ لا يعدّ الاخلال ببيان الشرائط مخلاً بالغرض و منافياً للحكمة.

و هذا نظير ما إذا قال الطبيب للمريض الذي رآه في الشارع و رأي فيه انحراف الصحة: »يجب عليك أن تشرب الدواء« فهو بصدد بيان لبّ غرضه، لا خصوصياته و جزئياته، و أمّا ما هو ذاك الدواء و ما خصوصياته؟ فهو موكول إلي وقت آخر، و لا يتحقق ذلك إلاّ باجراء الفحص و المعاينة و كتابة الوصفة، و في هذه الصورة لا يتمّ التمسّك بالإطلاق، إذ لا يعدّ الترك مخالفاً للغرض.

ص: 236

و علي ذلك لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله: »الغنم حلال« علي حلية الجلاّل منه، و لا المغصوب، و لا الموطوء، لانّ الدليل بصدد بيان حكم الطبيعة من حيث هي هي لا حكمها باعتبار عوارضها، فعدم ذكرها في المقام لا يخلّ بالمقصود.

و قد يكون في مقام بيان الحكم مع ما لموضوعه من الخصوصيات، فترك ذكر القيد عند ذاك آية كونه مطلقاً كما في قوله: لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع و السجود. (1) فعدم ذكر شيء وراء الخمسة، آية عدم كونه مخلاً عند النسيان.

المقدّمة الثانية: انتفاء القرينة

القرينة إمّا متّصلة أو منفصلة، فالمتصلة تمنع من انعقاد الإطلاق، و في الحقيقة يعد عدمها من مقوماته و محققاته، بخلاف القرينة المنفصلة فانّها لا تمنع عن انعقاد الإطلاق لأجل انفصالها، و إنّما تمنع عن حجية الإطلاق، و قد أوضحنا ذلك في المخصص المنفصل و المتّصل.

ثمّ إنّ عدم انصراف اللفظ إلي معني خاص من شعب هذه المقدّمة فانّ الانصراف علي قسمين بدويّ يزول بالتأمّل، و استمراري لا يزول به.

أمّا الأوّل فلا يمنع عن انعقاد الإطلاق و لا عن حجّية ظهوره لافتراض زواله بالتأمّل.

و أمّا الثاني فبما انّ الانصراف بحكم القرينة المنفصلة فعدمها من مقدّمات حجّية الإطلاق، كما إذا صار اللفظ لأجل كثرة استعماله في المعني منصرفاً إليه كما

ص: 237


1- .1 . الوسائل: 4، الباب10 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

في قوله(عليه السلام):»انّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسد«.

فاللفظ(حرام أكله) و إن كان يشمل الإنسان لحرمة أكل لحمه لكنّه منصرف عند العرف إلي الحيوان غير الإنسان، فمنصرف كلام الإمام هو تقسيم الحيوان العرفي إلي قسمين لا الحيوان بالمعني اللغوي الذي يشمل كلّ ذي روح.

المقدّمة الثالثة: انتفاء قدر المتيقّن في مقام التخاطب

لو كان في الكلام قدر متيقّن في مقام التخاطب بحيث يصحّ للمتكلّم أن يعتمد عليه في عدم الإتيان بالقيد يكون مخلاً بحجّية الإطلاق أو انعقاده. (1)

نعم فرق بين وجوده في مقام التخاطب فيخلُّ، و كونه في خارج مقام التخاطب فلا يخل; و ذلك لانّه لو كان القدر المتيقن بالمعني الثاني مخلاً بالإطلاق لزم عدم صحّة التمسّك بالإطلاق في مورد من الموارد إذ ما من مورد يكون للكلام قدر متيقّن في خارج مقام التخاطب.

ص: 238


1- . الوسائل:الجزء4، الباب10 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث4.

الفصل الرابع: في حمل المطلق علي المقيّد

اشارة

انّ المهم في المقام تمييز الموارد التي يجب هناك حمل المطلق فيها علي المقيد عما لا يجب.

فنقول: إذا ورد مطلق و مقيّد يكون بينهما تناف، كما إذا قال: »إن ظاهرت فاعتق رقبة، ثمّ قال: إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة«. حيث إنّ الأوّل يدلّ علي كفاية عتق مطلق الرقبة، و الثاني علي لزوم كونها مؤمنة يقع الكلام في كيفية رفع التنافي بينهما لانّ الحكم الواحد لا يمكن أن يكون له موضوعان مختلفان من حيث السعة و الضيق، فالمطلوب الأكيد الذي لا يعدل عنه المولي عند حصول الظهار إمّا هو عتق مطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة، و المشهور بين العلماء هو رفع التنافي بحمل المطلق علي المقيّد.

و من هنا يعلم انّ الداعي إلي حمله عليه هو وجود التنافي بين الحكمين، الذي هو وليد إحراز وحدة الحكم، فيقال انّ الحكم الواحد لا بدّ له من موضوع واحد، و هو يتحقّق بحمل المطلق علي المقيّد.

فإذا كان المدار للحمل هو إحراز وحدة الحكم فنقول: إنّ للمسألة صوراً يختلف حكمه حسب اختلاف إحراز وحدة الحكم و عدمه، و إليك بيان الصور:

الصورة الأُولي: إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين، و كان السبب واحداً كما في المثال السابق، فيحمل المطلق علي المقيّد، لانّ وحدة السبب كاشفة

ص: 239

عن وحدة الحكم، و لا يعقل لحكم واحد إلاّ موضوع واحد.

فإن قلت: إنّ هناك طريقاً آخر و هو حمل المقيّد علي أفضل الأفراد، و التخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة و الكافرة، و إن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

قلت: إنّ الرائج في دائرة التقنين هو فصل المقيّدات عن المطلقات، و المخصصات عن العمومات، إمّا لأجل قصور العلم و العثور علي لزوم التخصيص و التقييد بعد مضي زمن كما هو الحال في المجالس التقنينية البشرية، أو قيام المصلحة علي بيان الأحكام علي وجه التدريج كما هو الحال في التشريعات السماوية، فهذه قرينة تدعم كون حمل المطلق علي المقيّد أرجح من حمل المقيد علي أفضل الأفراد.

الصورة الثانية: إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين، و كان السبب في كلّ منهما مغايراً للآخر، كما إذا قال: إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة، و إن ظاهرت فاعتق رقبة، فلا وجه للحمل لعدم وحدة الحكم المستلزم لعدم التنافي بين الحكمين، لإمكان أن يكون لكلّ حكم موضوع خاص.

الصورة الثالثة: إذا كان السبب مذكوراً في واحد منها، سواء ذكر السبب في المطلق أو في المقيد، كما إذا قال: أعتق رقبة، و قال: إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة، فالحقّ عدم الحمل لعدم إحراز المنافاة، لاحتمال أن يكون هناك واجبان مستقلان أحدهما بعد الظهار و الآخر مطلقاً، سواء أ ظاهر أم لا.

الصورة الرابعة: إذا لم يذكر فيه السبب، و لها أقسام ثلاثة:

القسم الأوّل: أن يكون الدليلان مثبتين، كما إذا قال: اعتق رقبة و اعتق رقبة مؤمنة.

القسم الثاني: أن يكونا نافيين، كما إذا قال: لا تشرب المسكر، و لا تشرب الخمر.

ص: 240

القسم الثالث: أن يكون أحدهما مثبتاً و الآخر نافياً، كما إذا قال: اعتق رقبة، و لا تعتق رقبة كافرة.

و إليك الكلام في الأقسام الثلاثة:

أمّا الأوّل: فإن أحرزت وحدة الحكم بأيّ سبب أمكن، يحمل المطلق علي المقيّد بلا كلام، و إن كان إحراز وحدتها بلا ذكر السبب أمراً مشكلاً، لكن المفروض هو إحراز و حدّة الحكم.

و أمّا إذا لم تحرز وحدة الحكم فإنّ هناك وجوهاً ثلاثة:

أ:حمل المطلق علي المقيّد و امتثال التكليفين بفعل واحد أي بعتق الرقبة المؤمنة.

ب: حمل المقيّد علي أفضل الأفراد، و التخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة و الكافرة و إن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

ج: التحفّظ علي الوجوبين و القول بأنّ هنا تكليفين إلزاميين،و مقتضي ذلك وجوب القيام بعتق رقبتين يكفي في أحدهما عتق مطلق الرقبة، و يلزم في الثاني عتق رقبة مؤمنة.

فمقتضي القاعدة هو العمل بالوجه الثالث، لأنّ المكلّف بعد عتق الرقبة المؤمنة إذا قلنا في مقام الجمع بالوجه الأوّل، أو بعد عتق مطلق الرقبة إذا قلنا في مقام الجمع بالوجه الثاني، يشك في سقوط التكليف المعلوم في البين، و لا تحرز البراءة إلاّ بالعمل علي الوجه الثالث أي عتق رقبتين يشترط في أحدهما الإيمان دون الآخر.

و أمّا الثاني: أعني إذا كان الدليلان نافيين، كقوله: لا تشرب الخمر و لا تشرب المسكر فلا وجه لحمل المطلق علي المقيد بعد عدم إحراز وحدة الحكم،

ص: 241

فيبقي كلّ بحاله و لا تلزم اللغوية بعد حمل النهي علي شرب الخمر علي الحرمة المغلّظة.

و أمّا الثالث: و له نوعان:

النوع الأوّل: أن يكون المطلق نافياً و المقيد مثبتاً فلا محيص عن حمل المطلق علي المقيد لوجود التنافي بين الحكمين، نظير قولنا: لا تعتق رقبة، و اعتق رقبة مؤمنة.

النوع الثاني: أن يكون المطلق مثبتاً و المقيد نافياً، كما إذا قال: اعتق رقبة و لا تعتق رقبة كافرة فيحمل المطلق علي المقيد أيضاً بنفس الدليل، أي لوجود التنافي بين الحكمين.

تنبيهان

الأوّل: المطلق و المقيد في الأحكام الوضعية

إنّ الملاك في حمل المطلق علي المقيد هو إحراز وحدة الحكم و بالتالي وجود التنافي بين المطلق و المقيد من دون فرق بين التكليفية و الوضعية.

أمّا التكليفية فقد مرّ البحث فيها.

و أمّا الوضعية فربما لا يحرز التنافي كما إذا جعل المانع في أحد الدليلين مطلقَ أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و في دليل آخر خصوص وبره، فلا يحمل لعدم التنافي بين أن يكون الوبر مانعاً و كون مطلق أجزائه أيضاً مثله.

و ربما يحرز التنافي، كما إذا قال: لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه ثمّ قال:

ص: 242

صلّ في وبر الأسد. لوجود التنافي بين مانعية مطلق وبر ما لا يؤكل لحمه و عدم مانعية خصوص وبر الأسد.

الثاني: حكم المستحبات

ذهب المشهور في المستحبات إلي عدم الحمل بمعني عدم كون المقيد مقوِّماً للعمل الاستحبابي، و قد ذكروا له وجهين:

الوجه الأوّل: الغالب في المستحبات هو اختلاف درجات أفرادها من حيث الفضيلة فالمطلق و المقيد كلاهما مطلوبان لكن الفرد المقيد أفضل فيجوز الأخذ بالمطلق علي إطلاقه، و المقيد بقيده و لكلّ مرتبة فضلها.

الوجه الثاني: ثبوت التسامح في أدلّة السنن و كأنّ عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيد، و حمله علي تأكّد استحبابه، من التسامح فيها.

و الأولي أن يقال: انّ الأمر الاستحبابي في المقيّد لو كان ناظراً إلي الشرطية أو المانعية أو القاطعية وجب التقييد، كما أنّه إذا علم تعدّد المطلوب و كثرة المراتب فلا يجب و إلاّ فيتوقّف و لا محيص إلاّ من العمل بالاحتياط في مقام العمل، فمن نذر أن يزور الحسين(عليه السلام)في عرفة، و قد ورد دليل علي زيارته تحت السماء فدار أمر القيد بين الأمرين فلا يسقط التكليف إلاّ بزيارته تحت السماء.

ص: 243

الفصل الخامس: المجمل و المبين

اشارة

عرّف المجمل بأنّه ما لم تتضح دلالته و يقابله المبين.

و المقصود من المجمل ما جهل فيه مراد المتكلّم و مقصوده إذا كان لفظاً، أو جهل فيه مراد الفاعل إذا كان فعلاً.

و علي ذلك فالمجمل هو اللّفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له، و المبيّن ما له ظاهر يدلّ علي مقصود قائله أو فاعله.

و بذلك تظهر صحّة تقسيم المجمل إلي اللفظ و الفعل، و لأجل صحّة هذا التقسيم قالوا: إنّ فعل المعصوم في القربيّات يدلّ علي الاستحباب، و في العاديات علي الجواز، و لا يدلّ علي الوجوب، فلو صلّي مع سورة كاملة، أو جلسة الاستراحة، يكشف ذلك عن استحباب العمل لا عن وجوبه.

ثمّ إنّ لإجمال الكلام أسباباً كثيرة منها:

1. إجمال مفرداته كاليد الواردة في آية السرقة، قال سبحانه:( وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (1) ) (2)، فانّ اليد تطلق علي خصوص الأصابع، و علي الكف إلي الزند ،و عليه إلي المرفق، و عليه إلي المنكب، فالآية مجملة، فتعيين واحد من تلك المصاديق بحاجة إلي دليل.

ص: 244


1- سوره 5 - آيه 38
2- .1 . المائدة: 38 .

2. الإجمال في متعلّق الحكم المحذوف كما في كلّ مورد تعلّق الحكم بالأعيان كقوله سبحانه:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلي عَلَيْكُمْ (1) ) (2) فهل المتعلّق هو الأكل، أو البيع، أو جميع التصرفات؟ و منه يعلم وجود الإجمال في قوله سبحانه:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ (3) ). (4)

فهل المحرم أكلها، أو بيعها، أو الانتفاع منها بكل طريق؟ 3. تردّد الكلام بين الادّعاء و الحقيقة كما في قوله:»لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب« فهل المراد نفي الصلاة بتاتاً، أو نفي صحّتها، أو كمالها تنزيلاً للموجود بمنزلة المعدوم؟ و منه يظهر وجود الإجمال في مثل قوله: »لا صلاة إلاّ بطهور« أو »لا بيع إلاّ في ملك«.

و يمكن أن يكون بعض ما ذكرنا مجملاً عند فقيه و مبيّناً عند فقيه آخر، و بذلك يظهر أنّ المجمل و المبين من الأوصاف الإضافية.

تتميم

إذا وقفت علي معني المجمل و المبين، فلنذكر سائر العنوانات:

النص: و هو ما لا يحتمل سوي معني واحد، فلو حاول المتكلّم حمله علي غير ذلك المعني لا يقبل منه و يعد متهافتاً متناقضاً، مثل قوله سبحانه:( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (5) ) (6)، فإنّ دلالة الآية علي كون

ص: 245


1- سوره 5 - آيه 1
2- .1 . المائدة:1.
3- سوره 5 - آيه 3
4- .2 . النساء:11.
5- سوره 4 - آيه 11
6- . المائدة: 3.

نصيب الذكر ضعف نصيب الأُنثي ممّا لا تحتمل وجهاً آخر.

الظاهر: ما يتبادر منه معني خاص، لكن علي وجه لو حاول المتكلّم تأويله لقبل منه، و هذا كالعام الظاهر في العموم القابل للتخصيص و إرادة خلاف الظاهر منه و ربّما يعدّ منه ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فلو أُريد منها الندب بقرينة جاز فالتأويل في النص غير مقبول، و في الظاهر مقبول.

المحكم: هو الذي وصفه سبحانه بانّه أُمّ الكتاب كما قال :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1) ). (2)

و علي هذا فالمحكم هو الذي يرجع إليه في فهم المتشابه، كالآيات الدالّة علي الأُصول العقائدية و الأخلاقية التي لا يمسّها النسخ و التخصيص، نظير الآيات النازلة في تنزيهه سبحانه و صفاته و أفعاله.

المتشابه: ما احتمل أكثر من معني.و ليس ظاهراً في واحد منها، أو هو الذي خفي المراد منه في بادئ النظر. و يظهر المراد بارجاعه إلي الحكم.

المؤوّل: و هو ما أُريد منه خلاف ظاهره في بدء النظر، كقوله سبحانه:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (3) ) (4).و المراد هو مجيء أمره سبحانه و ظهور عظمته لقوله سبحانه في آية أُخري:( إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (5) ) (6) إلي غير ذلك من الآيات الرافعة للإجمال.

تمّ الكلام بحمد اللّه في الجزء الأوّل من كتابنا الوسيط بقلم مؤلّفه جعفر السبحاني 12 جمادي الآخرة من شهور عام 1421ه2.

ص: 246


1- سوره 3 - آيه 7
2- .2 . آل عمران:7.
3- سوره 89 - آيه 22
4- .3 . هود: 76.
5- سوره 11 - آيه 76
6- .1 . الفجر:22.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.