صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة المجلد 2

اشارة

الجزء الثاني

صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ج 2

تأليف :العلامة الشهيد السيد حسن السيد علي القبانچي النجفي

موسسه احياء التراث الشيعي

النجف الأشرف

فاعل خير رقمي: انجمن مددكاري امام زمان (عج)

ص: 1

اشارة

موسسه احياء التراث الشيعي

النجف الأشرف - شارع الرسول صلي الله عليه وآله- محلة الحويش

رقم الزقاق: 54 - رقم الدار 2

هاتف: 332811 و 332813

ص.ب 588

http://www.turathshiai.com

http://www.turathshiai.net

http://www.turathshiai.org

صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ج 2

العلامة السيد حسن القبانچي رحمة الله

المطبعة : تقارش

الطبعة: الأولي

سنة النشر : ربيع الأول 1426 ه-

عدد النسخ : 2000 نسخة

السعر: 5000 دينار

ردمك: 1-098-397-964 ISBN

الدورة :ISIBN 964-397-099 -x

جميع الحقوق محفوظة للمؤسسة

ص: 2

من كلام له عليه السلام:في تهامية الرسالة والتحذير من النار

اشارة

«تَالله لَقَد عُلّمتُ تَبليغَ الرِّسالات وَإتمَامَ العِداتِ وَتَمامَ الكَلماتِ وَعِندَنا أهلَ البَيتَ أبوابُ الحُكمَ وَضياءُ الأمرِ أَلا وَ انَّ شَرائِعَ الدَينِ واحِدةُ وَسُبُلَهُ قاصِدَةٌ مَن أخَذ بِها لَحَقَ وَغَنِمَ وَمَن وَقَفَ عَنها ضَلَّ وَ نَدمِ َاعمَلوا لِيَومٍ تُذخَرُ لَهُ الذِخائرُ و تُبلي فيه السَّرائِرُ ومَن لا يَنفُعُهُ حاضِرُ لُبّه فعازُبُهُ عَنهُ أعجَزُ وغائُبهُ أعوَر وَاتَّقُوا ناراً حَرُّها شَديدِ وَقعُرُهَا بَعيدٌ وَحليَتُها حَديدٌ، وشَرابُهَا صَديدٌ. الا و أنَّ الّلِسَانَ الصَّالِحَ يَجعَلُهُ الله تَعالي للَمَرءِ فِي النَّاسِ لَهُ مِنَ المالِ يُورِثهُ مَن لا يَحمَدُهُ.»

(شرح ابن أبي الحديد مج 2، ص 26، ط 1).

ضبط الألفاظ الغريبة :

(علّمت) في أكثر النسخ علي صيغة المجهول من باب التفعيل، وفي بعضها بالتخفيف علي المعلوم، قال الشارح المعتزلي: والرواية الأولي أحسن، و(الحكم) في أكثرالنسخ بالضم وسكون الكاف، وفي بعضها بالكسر وفتح الكاف جمع الحكمة، و(عزب) التي من باب قعد: بعد عني وغاب، و(عوز) الشيء - كفرح إذا لم يوجد، والرجل افتقر، وأعوزه الدهر أفقره.

الشرح:

جاء في منهاج البراعة (مج 8،ص 110 من الطبعة الحديثة): إن المقصود بهذا الكلام - كما يفهم من سياقه _ الإشارة إلي وجوب اتباعه

ص: 3

وملازمته والتمسك بذيل ولايته واتباع الطيبين من عترته وذريته، ووجوب أخذ معالم الدين وأحكام الشرع المبين عنهم صلوات الله عليهم.

وعقبه بذكر جملة من فضائله المخصوصة به المفيدة لتقدمه علي غيره، والدالة علي وجوب تقديمه، نظراً إلي قبح ترجيح المرجوح علي الراجح.

وغير خفي علي الذكي البصير أن كلاً من هذه الخصائص برهان واضح وشاهد صدق علي اختصاص الخلافة والولاية بهم عليهم السلام، وعلي أنها حق لهم دون غيرهم.

وافتتح كلامه عليه السلام بالقسم البار تحقيقاً للمقصد، فقال: (تالله لقد علمت تبليغ الرسالات) أي علمنيه رسول الله صلي الله عليه وآله بتعليم من الله سبحانه، وأعلمنيه بأمر منه تعالي، لا أنه علمه بوحي كما توهمه بعض الغلاة، لأن الأئمة عليهم السلام محدثون. .

والرسالة هو الإخبار عن مراد الله تعالي بكلامه بدون واسطة بشر، والمراد أنه عليه السلام علمه رسول الله صلي الله عليه وآله إبلاغ ما جاء به إلي الخلق علي اختلاف ألسنتهم وتعدد لغاتهم، سواء كان ذلك في حال حياة الرسول، كبعثه صلي الله عليه وآله له عليه السلام بسورة براءة إلي أهل مكة وعزله لأبي بكر، معللاً بقوله له صلي الله عليه وآله: أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني،(1) أو بعد وفاته صلي الله عليه وآله، فقد كان هو عليه السلام وأولاده الطاهرون عليه السلام أوعية علم النبي صلي الله عليه وآله وحملة سره و حفظة شرعه، مؤدين له إلي أمته. وكانوا عمدة نشر الأحكام وانتشار مسائل الحلال والحرام وانفتاح باب العلم في زمنهم عليه السلام، وكانوا مأمورين بالتبليغ والانذار كما كان رسول الله صلي الله عليه وآله مأموراً بذلك، ويشهد بذلك ما رواه الكليني والطبرسي والعياشي عن الصادق عليه السلام، في قوله تعالي: (وَأُوحِيَ إليَّ هذَا القُرانُ لأُنذِرَكُم بِه وَمَن بَلَغَ) الآية، قال: ومن بلغ أن يكون إماماً من آل محمد صلي الله عليه وآله، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله صلي الله عليه وآله (2)

ص: 4


1- مسند أحمد 1: ح 21؛ تفسير مجمع البيان 4:22؛ تفسير العياشي 1:356
2- الكافي 1: 416 ح 21؛ تفسير مجمع البيان 4: 22؛ تفسير العياشي 1: 356.

وفي غاية المرام عن الصدوق بإسناده عن يزيد بن معاوية العجلي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: قوله تعالي: (إنَّما أنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِ قَومٍ هادٍ) (1) فقال: المنذر رسول الله صلي الله عليه وآله ، وعلي الهادي، وفي كل وقت وزمان إمام منا يهديهم إلي ما جاء به رسول الله صلي الله عليه وآله (2)

وفيه أيضاً عن الصدوق مسنداً عن أبي هريرة قال: دخلت علي رسول الله صلي الله عليه وآله وقد نزلت هذه الآية: (إنَّما أنتَ مُنذِرٌ ولِكُلِ قَومٍ هادٍ) فقرأها علينا رسول الله صلي الله عليه وآله، قال: أنا المنذر، أتعرفون الهادي؟ قلنا: لا يا رسول الله. قال: هو خاصف التعل. فطولت الأعناق، إذ خرج علينا علي عليه السلام من بعض الحجر وبيده نعل رسول الله صلي الله عليه وآله، ثم التفت إلينا وقال: ألا إنه المبلغ عني، والإمام بعدي، وزوج ابنتي، وأبو سبطي، فنحن أهل بيتٍ أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيراً من الدنس . (3)

وفي البحار عن بصائر الدرجات باسناده عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلي الله عليه وآله، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا علي أنت تعلم الناس تأويل القرآن بما لا يعلمون. فقال علي عليه السلام : ما أبلغ رسالتك بعدك يا رسول الله؟ قال: تخبر الناس بما أشكل عليهم من تأويل القرآن .(4)

وفيه أيضاً من كشف الغمة، من كتاب محمد بن عبد الله بن سليمان،مسنداً عن أنس، قال: كنت أخدم النبي صلي الله عليه وآله فقال لي: يا أنس بن مالك يدخل علي رجل إمام المؤمنين، وسيد المسلمين، وخير الوصيين. فضرب الباب، فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام، فدخل بعرق، فجعل النبي صلي الله عليه وآله لا يمسح العرق عن

ص: 5


1- الرعد: 7.
2- رواه الصدوق في إكمال الدين: 667/ ح 10
3- بحار الأنوار 36: 316، ح 162
4- بحار الأنوار 23: 195/ ح 23؛ بصائر الدرجات: 215/ ح 3

وجهه ويقول: أنت تؤدي عني - أو تبلغ عني - فقال: يا رسول الله أو لم تبلغ رسالات ربك؟ فقال صلي الله عليه وآله: بلي، ولكن أنت تعلم الناس. (1)

قوله عليه السلام: و إتمام العدات أي إنجازها، يحتمل أن يكون المراد بها ما وعده الله سبحانه في حقه، فقد علمه رسول الله صلي الله عليه وآله بأن الله سيفي له بما أنزل عليه في القرآن حيث قال: (أفَمَن وَعَدناهُ وَعداً حُسناً فهُوَ لاقيه ) (2) جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في هذه الآية، قال: الموعود علي بن أبي طالب عليه السلام، وعده الله أن ينتقم له من أعدائه في الدنيا، ووعده الجنةله و لأوليائه في الآخرة.(3)

ولكن الأظهر أن يراد بها العدات والعهود التي عاهد عليها الله سبحانه ويشهد به قوله تعالي: (مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَليهِ فَمنهُم مَن قَضي نَحبَه وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبديلاً) (4) جاء عن أبي عبد الله عليه السلام عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: قال علي عليه السلام: كنت عاهدت الله و رسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة بن الحارث علي أمر وفينا به لله ورسوله، فتقدمني أصحابي وخلفت بعدهم لما أراد الله عزوجل، فأنزل الله سبحانه:( مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوُا الآية.) (5)

أو يراد بها مواعيد رسول الله صلي الله عليه وآله التي وعدها للناس، فقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله : أنت وصيي ووارثي وقاضي ديني ومنجز عدتي، (6) وعلمه صلي الله عليه وآله و كيفية أدائها ومن أين يؤديها.

ص: 6


1- كشف الغمة، وعنه بحار الأنوار 38: 17/ ح29
2- القصص: 61
3- بحار الأنوار 36:150-151/ح129
4- الأحزاب:23
5- بحار الأنوار 35: 410/ ح 5
6- انظر: مدينة المعاجز 1: 347/ ح 224؛ بحار الأنوار 38: 111/ ح46

فقد حدث صاحب كتاب غاية المرام عن محمد بن علي الحكيم الترمذي -من أعيان علماء العامة- في كتابه المسمي ب افتح المبين من كتاب الأوصال قال: وروي أن أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) قد أدي سبعين ألفاً من دينه صلي الله عليه وآله، و كان أكثره من الموعود. (1)

قصة أبي صمصام العبسي مع رسول الله صلي الله عليه وآله :

وفيه أيضاً من كتاب ثاقب المناقب، قال: حدثني شيخي أبو جعفر محمد بن حسين الشهرابي في داره بمشهد الرضا عليه السلام بإسناده إلي عطا، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال:

قدم أبو الصمصام العبسي إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فأناخ ناقته علي باب المسجد ودخل وسلم وأحسن التسليم، ثم قال: أيكم الفتي الغوي الذي يزعم أنه نبي؟

فوثب إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: يا أخا العرب أما تري صاحب الوجه الأقمر والجبين الأزهر، والحوض والشفاعة والتواضع والسكينة، والمسألة والإجابة، والسيف والقضيب، والتكبير والتهليل، والنور والشرف، والعلو والرفعة، والسخاء والشجاعة والنجدة، وذلك مولانا رسول الله صلي الله عليه وآله.

فقال الأعرابي: إن كنت نبياً فقل متي تقوم الساعة؟ ومتي يجيء المطر؟ وأي شيء في بطن ناقتي؟ وأيء شيء أكتسب غدا؟ ومتي أموت؟

فبقي رسول الله صلي الله عليه وآله ساكتاً لا ينطق بشيء، فهبط الأمين جبرئيل فقال: يا محمد اقرأ (إنَّ اللهَ عندَهُ علمُ السّاعَة ويُنَزِّلُ الغَيثَ ويَعلَمُ ما فِي الأُرحامِ وَما تَدرِي نَفسٌ ماذا تَكسِبُ غَداً وَما تَدري نَفسٌ بِأيِ أرضٍ تَموُتُ إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ) (2) قال الأعرابي: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأقر أنك رسول الله، فأي شيء لي عندك إن أتيتك بأهلي وبني عمي

ص: 7


1- غاية المرام 6: 331
2- لقمان: 34

مسلمين؟ فقال له النبي صلي اله عليه وآله: لك عندي ثمانون ناقة ځمر الظهور بيض البطون سود الحدق، عليها من طرائف اليمن ونمط الحجاز.

ثم التفت النبي صلي الله عليه وآله إلي علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: اكتب يا أبا الحسن بسم الله الرحمن الرحيم أقر محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأشهد علي نفسه في صحة عقله وبدنه وجواز أمره أن لأبي الصمصام عليه وعنده في ذمته ثمانين ناقة ځمر الظهور بيض البطون سود الحدق عليها من طرائف اليمن ونمط -ثوب من صوف ملون _ الحجاز، وأشهد عليه جمعاً من أصحابه.

وخرج أبو الصمصام إلي أهله، فقبض النبي صلي الله عليه وآله ، فقدم أبو الصمصام وقد أسلمت بنو عبس كلها، فقال: ما فعل رسول الله؟ قالوا: قبض. قال: فمن الوصي بعده؟ قالوا: ما خلف فينا أحداً. قال: فمن الخليفة بعده؟ قالوا: أبوبكر. فدخل أبو الصمصام المسجد فقال: يا خليفة رسول الله إن لي علي رسول الله صلي الله عليه وآله ديناً ثمانين ناقة حمر الظهور بيض البطون سود الحدق عليها من طرائف اليمن ونمط الحجاز. فقال أبو بكر: يا أخا العرب سألت ما فوق العقل، والله ما خلف فينا رسول الله صلي الله عليه وآله لا صفراء ولا بيضاء، خلف فينا بغلته الذلول ودرعة الفاضلة فأخذها علي بن أبي طالب، وخلف فينا فدكاً فأخذناها بحق، ونبينا صلي الله عليه وآله لا يورث.

فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه و ومد يده إلي أبي الصمصام فأقامه وجاء به إلي منزل علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يتوضأ وضوء الصلاة، فقرع سلمان الباب، فنادي علي عليه السلام : ادخل أنت وأبو الصمصام العبسي. فقال أبو الصمصام: أعجوبة ورب الكعبة، من هذا الذي سماني ولم يعرفني؟ فقال سلمان: هذا وصي رسول الله صلي الله عليه وآله، هذا الذي قال له رسول الله: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب، هذا الذي قال له رسول الله صلي الله عليه وآله : علي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبي فقد كفر.

ص: 8

وهذا الذي قال الله تعالي فيه (وجَعَلنا لَهُم لِسانَ صِدقٍ عَلياً.) (1)

وهذا الذي قال الله تعالي فيه: (أفَمَن كانَ مُؤمِنا كَمن كانَ فاسقاً لا يَستُوونَ.) (2)

وهو الذي قال الله تعالي فيه:(أجعَلتُم سَقايَة الحاجِ عَمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَن بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وجاهَدَ فِي سَبيلِ اللهِ لا يَستَوُونَ) (3)

وهذا الذي قال الله تعالي فيه: (يا أيُّها الرَّسولُ بَلِغ ما أنزِلَ إليكَ مِن ربّكَ.) (4)

وهذا الذي قال الله تعالي فيه: (فَمَن حاجَّكَ فيه مِن بَعد ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ أبناءَنا وأبناءكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم ) (5) الآية.

وهذا الذي قال الله تعالي فيه: (إنَّما يريدُ الله ليُذهِبَ عَنكُمُ الرِجسَ أهلَ الَبيتِ ويُطَهِرَكُم تَطهيراً.) (6)

وهذا الذي قال الله تعالي فيه: (إنَّما وَلِيُكُمُ اللهُ ورَسولُهُ والّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقيمُونَ الصّلاةَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ وهُم راكِعُونَ.) (7)

أدخل يا أبا الصمصام وسلم عليه، فدخل أبو الصمصام وسلم عليه ثم قال: إن لي علي رسول الله صلي الله عليه وآله ثمانين ناقة حمر الظهور بيض البطون سود الحدق، عليها من طرائف اليمن ونمط الحجاز. فقال علي عليه السلام: أمعك حجة؟ قال: نعم، وأخرج الوثيقة، فقال عليه السلام: يا سلمان ناد في الناس: ألا من أراد أن ينظر إلي قضاء دين رسول الله صلي الله عليه وآله فليخرج إلي خارج المدينة.

ص: 9


1- مريم:50
2- السجدة: 18
3- التوبة: 19
4- المائدة: 67
5- آل عمران: 61
6- الأحزاب: 33
7- المائدة: 55

فلما كان من الغد خرج الناس، وقال المنافقون: كيف يقضي الدين وليس معه شيء؟ غداً يفتضح، من أين له ثمانون ناقة حمر الظهور بيض البطون سود الحدق عليها من طرائف اليمن ونمط الحجاز؟ فلما كان الغد اجتمع الناس وخرج علي عليه السلام في أهل بيته ومحبيه وجماعة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله ، وأسر إلي الحسن عليه السلام سراً لم يدر أحد ما هو. ثم قال: يا أبا الصمصام امض مع ابني الحسن إلي كثيب الرمل، فمضي الحسن عليه السلام ومعه أبو الصمصام، وصلي الحسن ركعتين عند الكثيب و كلم الأرض بكلمات لا يدري ما هي، وضرب علي الكثيب بقضيب رسول الله صلي الله عليه وآله، فانفجر الكثيب عن صخرة ململمة مكتوب عليها سطران علي الأول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلي الآخر لا إله إلا الله علي ولي الله.وضرب الحسن عليه السلام تلك الصخرة بالقضيب فانفجرت عن خطام ناقة، فقال: قد يا أبا الصمصام، فقاد فخرج منها ثمانون ناقة حمر الظهور بيض البطون سود الحدق عليها من طرائف اليمن ونمط الحجاز، ورجع إلي علي عليه السلام فقال عليه السلام : استوفيت حقك يا أبا الصمصام؟ فقال عليه السلام: نعم، فقال عليه السلام: سلم الوثيقة، فسلمها إليه فخرقها عليه السلام ثم قال: هكذا أخبرني ابن عمي رسول الله صلي الله عليه وآله أن الله عزوجل خلق هذه النوق في هذه الصخرة قبل أن يخلق ناقة صالح بألفي عام (1) وتروي هذه القصة أيضاً بوجه آخر.

قال صاحب ثاقب المناقب: ويروي هذا الخبر علي وجه آخر، وهو ما روي أبو محمد الادريسي عن حمزة بن داود الديلمي، عن يعقوب بن يزيد الأنباري، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حبيب الأحول، عن أبي حمزة الثمالي، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال:

لما قبض النبي صلي الله عليه وآله وجلس أبو بكر نادي في الناس: ألا من كان له علي رسول

ص: 10


1- الثاقب في المناقب: 127 - 132/ ح127؛ غاية المرام 6: 335 - 337

الله صلي الله عليه وآله عدة أو دين فليأت أبا بكر وليأت معه بشاهدين، ونادي علي عليه السلام بذلك علي الاطلاق من غير طلب شاهدين، فجاء أعرابي متلثم متقلداً سيفه، متنكياً كنانته، وفرسه لا پري منه إلا حافره. وساق الحديث ولم يذكر الاسم والقبيلة، و كان ما وعده مائة ناقة حمراء بأزمتها وأثقالها موقرة ذهباً وفضة بعبيدها.

فلما ذهب سلمان بالأعرابي إلي أمير المؤمنين عليه السلام قال له حين بصر به مرحباً بطالب عدة والده من رسول الله صلي الله عليه وآله، فقال: ما وعد أبي يا أبا الحسن؟

قال: إن أباك قدم علي رسول الله صلي الله عليه وآله قال: أنا رجل مطاع في قومي إن دعوتهم أجابوك، وإني ضعيف الحال، فما تجعل لي إن دعوتهم إلي الاسلام فأسلموا؟ فقال صلي الله عليه وآله : من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة؟ قال: وما عليك أن تجمعهما لي يا رسول الله وقد جمعهما الله لأناس كثيرة. فتبسم النبي صلي الله عليه وآله وقال: أجمع لك خير الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فأنت رفيقي في الجنة، وأما في الدنيا فما تريد؟ قال: مائة ناقة حمر بأزمتها وعبيدها موقرة ذهباً وفضة، ثم قال: وإن دعوتهم فأجابوني وقضي علي الموت ولم ألقك فتدفع ذلك إلي ولدي؟ قال: نعم، علي أني لا أراك ولا تراني في دار الدنيا بعد يومي هذا، وسيجيبك قومك، فإذا حضرتك الوفاة فليصر ولدك إلي وليي من بعدي ووصيي، وقد مضي أبوك ودعا قومه فأجابوه، وأمرك بالمصير إلي رسول الله صلي الله عليه وآله، أو إلي وصيه، وها أنا وصيه ومنجز وعده.

فقال الأعرابي: صدقت يا أبا الحسن، ثم كتب عليه السلام له علي خرقة بيضاء وناول الحسن عليه السلام وقال: يا أبا محمد سر بهذا الرجل إلي وادي العقيق وسلم علي أهله واقذف الخرقة وانتظر ساعة حتي تري ما يفعل، فإن دفع إليك شيء فادفعه إلي الرجل. ومضيا بالكتاب.

قال ابن عباس: فسرت من حيث لم يرني أحد. فلما أشرف الحسن عليه السلام علي الوادي نادي بأعلي صوته: السلام عليكم أيها السكان البررة الأتقياء، أنا

ص: 11

ابن وصي رسول الله صلي الله عليه وآله، أنا الحسن بن علي سبط رسول الله صلي الله عليه وآله وابن رسول الله صلي الله عليه وآله ورسوله إليكم. وقد قذف الخرقة في الوادي، فسمعت من الوادي صوت: لبيك لبيك يا سبط رسول الله وابن البتول وابن سيد الأوصياء سمعنا وأطعنا، انتظر ليدفع إليك. فبينا أنا كذلك إذ ظهر غلام لم أدر من أين ظهر وبيده زمام ناقة حمراء تتبعها ستة، فلم يزل يخرج غلام بعد غلام، في يد كل غلام قطار حتي عددت مأة ناقة حمراء بأزمتها وأحمالها، فقال الحسن عليه السلام: ځذ بزمام نوقك وعبيدك ومالك وامض يرحمك الله. (1)

الكلمات التامات :

قوله سلام الله عليك: «و تمام الكلمات ».

فسّرها الشارح المعتزلي بتأويل القرآن وبيانه الذي يتم به، قال: لأن في كلامه تعالي المجمل الذي لا يستغني عن متمم ومبين يوضحه.

ويجوز أن يراد بالكلمات الكلمات القرآنية خصوصاً، أعني الآيات وما تضمنته من التأويل والتنزيل، والمفهوم والمنطوق، والظهر والبطن، والنكات والأسرار، وما فيها من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والجدل والمثل والقصص، والترغيب والترهيب، إلي غير ذلك، فإن تمام ذلك و كله عند أمير المؤمنين عليه السلام، والعلم بجميع ذلك مخصوص به وبالطاهرين من أولاده سلام الله عليهم أجمعين.

أو يراد بها مطلق كلمات الله النازلة علي الأنبياء والرسل في الكتب السماوية والصحف الإلهية.

ص: 12


1- الثاقب في المناقب: 133 - 134/ ح 128؛ غاية المرام 6: 338 – 339

أو أن يراد بها الأعم من هذه أيضاً، وهو الأنسب باقتضاء عموم وظيفتهم عليه السلام، فيكون المراد بها ما ورد في الأخبار من أن رسول الله صلي الله عليه وآله علم علياً عليه السلام كلمة تفتح له ألف كلمة، وألف كلمة تفتح كل كلمة ألف كلمة، وعبر عنها في أخبار أخر بلفظ الباب، ومن هنا كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن في صدري هذا لعلماً جماً علمنيه رسول الله صلي الله عليه وآله، لو أجد له حفظة يرعونه حق رعايته ويروونه عتي كما يسمعونه مني، إذاً لأودعتهم بعضه، يعلم به كثيراً من العلم، إن العلم مفتاح كل باب، و كل باب يفتح ألف باب. (1)

سؤال اليهود لعمر بن الخطاب:

جاء في كتاب غاية المرام عن محمد بن علي الحكيم الترمذي، عن صاحب الينابيع قال: سأل قوم من اليهود عمر في زمن خلافته عن مسائل بشرط إن أجابهم أو غيره من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله آمنوا به.

قالوا: ما قفل السماء؟ وما مفتاح ذلك القفل؟ وما القبر الجاري؟ ومن الرسول الذي وعظ قومه ولم يكن من الجن ولا من الإنس؟ وما الخمسة الذين يسيرون في الأرض ولم يخلقوافي أرحام الأمهات؟ وما يقول الديك في صوته والدراج في صديده والقمري في هديله والفرس في صهيله و الحمار في نهيقه والضفدع في نقيقه؟ فأطرق عمر زمانأ ثم رفع رأسه وقال: لا أدري. فغدي سلمان وأخبر علياً بالقصة، فأتي فلما رآه عمر استقبله وعانقه وأخبره بالقصة فقال (كرم الله وجهه): لا تبال فإن رسول الله صلي الله عليه وآله علمني ألف باب من العلم، يتشعب منه ألف باب آخر. قال عمر: فاسألوه عنها. فقال عليه السلام في جوابهم:

أما قفل السماء فهو الشرك، وأما مفتاح ذلك القفل فقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. قالوا: صدق الفتي. ثم قال: وأما القبر الجاري فهو الحوت

ص: 13


1- الفصول المهمة 1: 564/ ح 846؛ ينابيع المعاجز 141

الذي كان يونس في بطنه حيث دار به في سبعة أبحر، وأما الرسول الذي لم يكن من الجن والانس فنملة سليمان كما قال الله تعالي:( قالَت نَملَةٌ يا أيُّها النَملُ ادخُلُوا مَساكِنَكُم لا يَحطِمَنكَّم سُليمانُ وَجُنُودُهُ وهُم لا يَشعُرُونَ) (1) قال: وأما الخمسة الذين لم يخلقوا في أرحام الأمهات: فآدم و حوا وناقة صالح و كيش إبراهيم وثعبان موسي، وأما الديك فيقول: اذكروا الله أيها الغافلون، وأما الدراج فيقول: الرحمن علي العرش استوي، وأما القمري فيقول: اللهم العن مبغضي محمد و آل محمد، وأما الفرس فيقول عند الغزو: اللهم انصر عبادك المؤمنين علي عبادك الكافرين، وأما الحمار فيلعن العشارين ولا ينهق إلا في وجه الشيطان، وأما الضفدع فيقول: سبحان ربي المعبود في لجج البحار. فآمنوا لما سمعوا ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام. (2)

أهل البيت عليهم السلام باب الحكمة:

قوله عليه السلام : وعندنا أهل البيت أبواب الحكم، يجوز أن يراد بالحكم القضاء والفصل بين الناس في الخصومات والدعاوي، وأن يراد به الحكم الشرعي الفرعي، أعني خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين.

فعلي الأول فالظاهر أن المراد بأبوابه هو طرقه ووجوهه، فإنهم عليهم السلام كانوا عالمين بهاعارفين بتمامها، يحكمون في القضايا الشخصية علي ما تقتضيه المصلحة الكامنة الظاهرية أو الواقعية.

ففي بعضها كانوا يحكمون بظاهر الشريعة علي ما يقتضيه اليمين والبينة.

ص: 14


1- سورة النمل (27): الآية 18
2- غاية المرام5 : 216 - 217، عن الحكيم الترمذي في شرح الرسالة الموسومة ب الفتح المبين في كشف حق اليقين؛ ورواه أيضاً في التحصين لابن طاووس: 642 - 644؛ بحار الأنوار 61: 35 - 36

وفي بعضها يمر الحق علي وجه التدبير واستخراج وجه الحيلة والإحتيال في إعمال الحق واستخراج الأفراد بالحقوق الباطنة بلطائف الفكر، كما كان يفعله أمير المؤمنين عليه السلام في أيام خلافة عمر وغيرها كثيراً، مثل قضائه في المرأة التي استودعها رجلان وديعة (1)، وفي المرأة التي توفي عنها زوجها وادعي بنوها أنها فجرت (2) ، وفي الجارية التي افتضتها سيدتها اتهاماً ورميأَ لها بالفاحشة (3) ، ومثل أنه توفي رجل وخلف إبناً وعبداً، فادعي كل واحد منهما أنه الابن وأن الآخر عبدله، فأتيا أمير المؤمنين عليه السلام فتحاكما إليه، فأمر عليه السلام أن يثقب في حائط المسجد ثقبان، ثم أمر كل واحد منهما أن يدخل رأسه في ثقب، ففعلا،ثم قال: يا قنبر جرد السيف - وأشار إليه: لا تفعل ما آمرك به - ثم قال: اضرب عنق العبد، قال: فنحي العبد رأسه، فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام وقال للآخر: أنت الابن وقد أعتقته وجعلته مولي لك. (4)

وفي بعضها بالحكم الواقعي المحض، وبه يحكم القائم من آل محمد عليه السلام وعليهم بعد ظهوره، وهو المعبر عنه بحكم داود في الأخبار، فإن داود عليه السلام كان يعمل زماناً علي مقتضي علمه بالوحي من دون أن يسأل عن البيئة، ثم إن بني اسرائيل اتهموه لبعده عن طور العقل، فرجع إلي العمل بالبينات.

قضاء علي عليه السلام بين النبي صلي الله عليه وآله وأعرابي:

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يحكم بهذا الحكم أحياناً، مثل ما روي عنه في محاكمة رسول الله صلي الله عليه وآله مع الأعرابي .

ص: 15


1- انظر: مناقب آل أبي طالب 2: 191؛ بحار الأنوار 40: 317
2- بحار الأنوار40: 307 ح/81
3- بحار الأنوار 40: 296 ح 70
4- من لا يحضره الفقيه 3: 105 - 106/ ح 3425؛ بحار الأنوار 40: 308 - 309

قال في الفقيه: جاء أعرابي إلي النبي صلي الله عليه وآله فادعي عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منها، فقال صلي الله عليه وآله: قد أوفيتك. فقال اجعل بيننا وبينك رجلاً يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : احكم بيننا. فقال للأعرابي: ما تدعي علي رسول الله؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منها. فقال ما تقول يا رسول الله؟ قال صلي الله عليه و آله : قد أوفيته. فقال للأعرابي: ما تقول؟ قال: لم يوفني. فقال لرسول الله صلي الله عليه وآله : ألك بينة علي أنك قد أوفيته؟ قال: لا، قال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال نعم. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: لأتحاكمن مع هذا إلي رجل يحكم بيننا بحكم الله عزوجل فأتي رسول الله صلي الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه الأعرابي، فقال علي عليه السلام: ما لك يا رسول الله؟ فقال: يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابي، فقال علي عليه السلام : يا أعرابي ما تدعي علي رسول الله؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه. فقال: ما تقول يا رسول الله؟ فقال: قد أوفيه ثمنها. فقال: يا أعرابي أصدق رسول الله فيما قال؟ قال لا ما أوفاني شيئاً. فأخرج علي عليه السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: لم فعلت ذلك يا علي؟ فقال: يا رسول الله نحن نصدقك علي أمر الله ونهيه وعلي أمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عزوجل، ولا نصدقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي، إني قتلته لأنه كذبك لما قلت له «أصدق رسول الله فيما قال؟» فقال «لا ما أوفاني شيئاً».فقال رسول الله : صلي الله عليه وآله أصبت يا علي، فلا تعد إلي مثلها. ثم التفت صلي الله عليه وآله إلي القرشي - وكان قد تبعه -فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به. (1)

وعلي الثاني - أي علي كون المراد بالحكم الأحكام الشرعية -فالمراد بأبوابه هو طرق الإفتاء ووجوه بيان المسائل علي ما تقتضيه المصلحة، فيفتون بعض الناس بالحكم الواقعي، وبعضهم بالتقية حقناً لدمائهم أو لدماء السائلين.

وكيف كان، فقد وضح وظهر مما قررنا أن الأئمة عليهم السلام ولا عندهم أبواب

ص: 16


1- من لا يحضره الفقيه 3: 105 - 106/ ح 3425؛ عوالي الثالي 3: 518 - 519

الحكم بأي معني أخذ الحكم، وأنهم عارفون بها محيطون بأقطارها، وهذا الوصف مخصوص بهم لا يوجد في غيرهم، لأن معرفة المصالح الكامنة لا تحصل إلا بتأييد إلهي وقوة ربانية مخصوصة بأهل العصمة والطهارة.

ولذلك _ أي لقصد الاختصاص والتخصيص- قدم عليه السلام عقله المسند وقال: «وعندنا أبواب الحكم».

(وضياء الأمر) والمراد بالأمر إما الولاية كما كتي به عنها كثيراً في أخبار أهل البيت عليهم السلام، وفي قوله تعالي: (وأُولِي الأُمرِ مِنكُم)، والضياء حينئذ بمعناه الحقيقي، أي عندنا نور الإمامة والولاية، وأما الأوامر الشرعية فالضياء استعارة للحق، لأن الحق يشبه بالنور كما أن الباطل يشبه بالظلمة، قال سبحانه:

(اللهُ وَلِيُّ الّذينَ امَنوا يُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلي النّورِ والّذينَ كَفَروا أولياؤهُمُ الطاغُوتُ يُخرجُونَهُم منَ النُور إلي الظُلماتِ) (1) فالمقصود أن الأئمة عليهم السلام عندهم حق الأوامر الشرعية والتكاليف الإلهية، وإليه أشير في قوله سبحانه:

(أَطيعُوا اللهَ وَأطيعُوا الرَسُولَ وأوُلِي الأُمرِ مِنكُم). (2)

وأما مطلق الأمور المقدرة في الكون كما قال تعالي:

(تَنزَّلُ المَلائِكَةُ والرُوحُ فيها بِإذنِ ربّهم مِن كُل أمرٍ). (3)

أي تنزل إلي ولي الأمر بتفسير الأمور.

ثم إنه عليه السلام بعد ما ذكر جملة من فضائله وفضائل آله الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين أردف ذلك بالإشارة إلي وجوب اتباعهم وأخذ معالم الدين عنهم عليهم السلام فقال:

«ألا وإن شرايع الدين»و هي طرقه، أي قواعده و قوانينه «واحدة وبله قاصدة»أي معتدلة مستقيمة، وهي ما دل عليها أهل بيت العصمة والطهارة،

ص: 17


1- البقرة: 257
2- النساء:59
3- القدر: 4

لأنهم أولياء الدين وأبواب الايمان وأمناء الرحمن والأدلاء علي الشريعة والهداة إلي السنة. من أخذ بها، واتبع أئمة الهدي سلك الجادة الوسطي والحق بالحق «وغنم» النعمة العظمي، «ومن وقف عنها»وانحرف عن الصراط الأعظم والسبيل الأقوم وأخذ في أمر الدين بطرق الأقيسة ووجوه الاستحسانات العقلية، أو رجع فيه إلي الهمج الرعاع وأئمة الضلال العاملين فيه لعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة «ضل وندم».

ثم أمر بتحصيل الزاد ليوم المعاد فقال عليه السلام: «اعملوا ليوم تذخر له الذخائر» وهي الأعمال الصالحة «وتبلي فيه السرائر، الغرض بالوصف إما تخصيص الموصوف أو التهويل حتا علي العمل، كما في قوله سبحانه:

(في يَومٍ كانَ مِقدارُهُ خَمسيِنَ ألفَ سَنَةٍ). (1)

والجملة الثانية مأخوذة من الكتاب العزيز، قال تعالي: (يومَ تُبلَي الَّسرِائرُ) (2) أي تختبر، والسرائر: ما أسر القلوب من العقائد والنيات وغيرها وما خفي من الأعمال.

قال الطبرسي: والسرائر أعمال بني آدم، والفرائض التي أوجبت عليه،وهي سرائر في العبد تختبر تلك السرائر يوم القيامة حتي يظهر خيرها وشرها.

عن معاذ بن جبل قال: سألت النبي صلي الله عليه وآله و ما هذه السرائر التي تبلي بها العباد يوم القيامة؟ قال صلي الله عليه وآله : سرائر كم هي أعمالكم من الصلاة والزكاة والصيام والوضوء والغسل من الجنابة و كل مفروض، لأن الأعمال كلها سرائر خفية، فإن شاء قال صليت ولم يصل وإن شاء قال توضأت ولم يتوض، فذلك قوله: (يَومَ تُبلي السَّرائرُ) (3) هذا ولما كان كمال القوة العملية لا يحصل إلا بكمال القوة النظرية أردفه بقوله عليه السلام:

«ومن لا ينفعه حاضر به فعازبه»أي بعيده «أعجز وغايبه أعوز» أي أعدم

ص: 18


1- السجدة: 5
2- الطارق: 9
3- تفسير مجمع البيان 10: 323

للمنفعة، يعني أن من لا ينفعه به الحاضر وعقله الموجود فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر ولا موجود عنده من العقل أولي وأحري.

وقيل في تفسيره بوجوه أخر: الأول من لا يعتبر بلبه في حياته فأولي بأن لا ينتفع به بعد الموت. الثاني أن من لم يعمل بما فهم وحكم به عقله وقت إمكان العمل، فأحري أن لا ينتفع به بعد انقضاء وقته، بل لا يورثه إلا ندامة وحسرة. الثالث أن من لم يكن له من نفسه رادع وزاجر فمن البعيد أن ينزجر ويرتدع بعقل غيره وموعظة غيره، كما قيل: (وزاجر من النفس خير من عتاب العواذل).(1)

ولما حث علي العمل أكده بالتحذير من النار، فقال عليه السلام: «واتقوا ناراً حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد، وشرابها صديد» لا يخفي ما في هذه الفقرات من حسن الخطابة، حيث ناط بكل لفظة ما يناسبها ويلايمها، لو نيطت بغيرها لم تلائم، والاضافة في القرينة الأولي علي أصلها، وفي الأخيرة لأدني المناسبة، وفي الوسطين تحتمل الأول والثاني، واستعارة الحلية للقيود والأغلال من باب التحكم، والقرينة الأخري مأخوذة عن قوله سبحانه:( يُسقي مِن ماءٍ صَديدٍ)، (2) وهو القيح والدم، وقيل: هو القيح كأنه الماء في رقته والدم في شكله، وقيل: هو ما يسيل من جلود أهل النار. و كيف كان فتوصف النار بهذه الأوصاف الأربعة للتحذير والترهيب منها، كما أن في ذكر حلية أهل الجنة وشرابهم في قوله تعالي:

(وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقاهُم ربُّهُم شَراباً طَهُوراً .) (3)

ترغيباً و تشويقاً إليها.

ص: 19


1- وتمام البيت: وأقصرت عما تعهدين و زاجرٌ*** من النفس خيرٌ من عتاب العواذل انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 397
2- ابراهيم:16
3- الإنسان: 21

ثم قال عليه السلام: «ألا وإن اللسان الصالح، أي الذكر الجميل، تسمية للشيء باسم مسببه ايجعله الله للمرء في الناس خير له من مال يورثه من لا يحمده» والمراد أن تحصيل مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال من البذل والانفاق ونحوهما مما يوجب الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبي خير من تحصيل المال و جمعه و توريثه من لا يشكره عليه، أي وارثه الذي لا يعد ذلك الأيراث فضلاً ونعمة الإيجابه العذاب الأليم والندم الطويل، وهو شاهد بالعيان معلوم بالوجدان.

ص: 20

من خطبة له عليه السلام: في بيان فضله عليه السلام ووفاة النبي صلي الله عليه وآله:

اشارة

وَلَقد عَلِمَ المُستَحفَظُونَ مَن أصحَابِ مُحَمَّدٍ صلي الله عليه وآله أنّي لَم أرُدَ عَلَي اللهِ ولا عَلي رَسُولِه سَاعةً قَطُّ وَلَقَد وَاسَيتُهُ بِنَفسِي فِي المَواطِنِ التِي تَنكُصُ فيهَا الاَبطالُ وتَتاَخَرُ فيها الأقدَامُ نَجدَةً أكرَمَني اللهُ بِها وَلَقَد قُبضَ رسول الله صلي اللهعليه وآله وانَّ رَأسَهُ لَعَلي صَدري وَلَقَد سَالِت نَفسُهُ في كَفي فَاَمرَرتُها عَلي وَجهِي وَلَقد وُليتُ غُسلَهُ صلي الله عليه وآله والملائكَةُ أعوانِي فَضَجَّت الدَّارُ والافنيَةُ مَلا يَهبِطُ و ملا يَعرُجُ وما فارَقَت سَمعي هَينَمَةُ مِنهُم يَصَلونَ عَليه حَتَّي واريناهُ فِي ضَريحَه فمَن ذَا أحَقُّ به مِني حَياً و ميتاً فَانفَذُوا عَلي بَصَائِرِكُم وَلتَصدُقَ نيَّاتُكُم فِي جِهَادِ عَدُوَكُم فَوَ الذِي لا إله إلّا هُو إنّي لعَلي جادَّةِ الحَقِّ وانَّهُم لَعَلي مَزلَةِ البَاطَلِ أَقُولُ ما تَسمَعُونَ وَأستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

(شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد مج 2، ص 591، ط الأولي).

ضبط الألفاظ الغريبة:

(المستحفظون) بصيغة المفعول من استحفظه الشيء، أي أودعه عنده وطلب منه أن يحفظه، فهو مستحفظ وذاك مستحفظ، و(واسيته) من المواساة، يقال: واسيته وآسيته، وبالهمزة أفصح، و(نكص) عن الشيء نكوصاً من باب قعد: أحجم عنه، ونكص علي عقبيه: رجع، قال تعالي: (فَلَمّا تَراءَتِ الفِئتانِ نَكَصَ عَلي عَقَبَيهِ) (1) و(النجدة) البأس والشدة والشجاعة، و (النفس) بسكون الفاء: الدم، وبالتحريك واحد الانفاس، و(فناء)

ص: 21


1- الأنفال: 48

الدار وزان كساء: ما اتسع أمامها أو ما امتد من جوانبها، والجمع أفنية وفني، و (الضجيج) الصياح عند المكروه والجزع، و(الهينمة) بفتح الهاء: الصوت الخفي، وقيل الكلام الخفي لا يفهم، و(الضريح) القبر أو الشقة وسطه، والأول هو المراد هنا، و(المزلة) الموضع الذي تزل فيه قدم الإنسان كالمزلقة.

الشرح:

إن هذه الخطبة الشريفة مسوقة لبيان جملة من مناقبه الجليلة وخصائصه المختصة به عليه السلام، المفيدة لمزيد اختصاصه برسول الله صلي الله عليه وآله و وقربه منه، استدلالأً بذلك علي أنه أحق وأولي بالخلافة والقيام مقامه صلي الله عليه وآله، وأنه علي الحق وغيره علي الباطل، وغرضه عليه السلام تنبيه المخاطبين علي وجوب إطاعته فيما يأمرهم به من جهاد الأعداء المبطلين.

خمس فضائل لعلي عليه السلام:

وذكر عليه السلام خمساً من فضائله، وصدر كلام بالقسم البار تأكيداً للغرض المسوق له الكلام، و تنبيهاً علي أن اتصافه بها جميعاً حق لا يعتريه ريب ولا يدانيه شك.

أولها: عدم الرد علي النبي صلي الله عليه وآله هود والتسليم له

ما أشار إليه بقوله: «ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلي الله عليه وآله و أني لم أرد علي الله ولا علي رسوله ساعةً قط» المراد بالمستحفظين خيار الصحابة المطلعون علي أسرار رسول الله صلي الله عليه وآله ومعجزاته و كراماته وعهوده ومواثيقه والملاحم الواقعة في زمانه صلي الله عليه وآله و ونحو ذلك مما يتعلق به صلي الله عليه وآله في نفسه وفي أوصيائه وأتباعه من الأمور المعظمة التي يهتم بها في الشرعية ولها مدخل في قوام أركان الدين وإعلاء لواء الشرع المبين، الذين كلفوا بحفظ ذلك كله، وأمروا بأن يبلغوها ويؤذوها في مقام الضرورة والحاجة .

وإنما خص علم ماذكره بهؤلاء مع عدم اختصاصه بهم لأن هؤلاء بمقتضي تصلبهم في الدين لا يكتمون الشهادة ولا يغيرونها ولا يبدلونها في

ص: 22

مقام الحاجة للأغراض الدنيوية الفاسدة كما كتمها جمع منهم مثل زيد بن أرقم، وأنس بن مالك ونظرائهم .

حدث العلامة المجلسي في البحار عن الخصال والأمالي عن جابر الجعفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

خطبنا علي بن أبي طالب عليه السلام فحمد الله وأثني عليه ثم قال: «أيها الناس إن قدام منبر كم هذا أربعة رهط من أصحاب محمد صلي الله عليه وآله، منهم أنس بن مالك، والبراء بن عازب الأنصاري، والأشعث بن قيس الكندي، وخالد بن يزيد البجلي، ثم أقبل بوجهه علي أنس بن مالك فقال: يا أنس، إن كنت سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول «من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه»ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية فلا أماتك الله حتي يبتليك ببر ص لا تغطيه العمامة.

وأما أنت يا أشعث، فإن كنت سمعت من رسول الله وهو يقول «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية فلا أماتك الله حتي يذهب بكريمتيك .

وأما أنت يا خالد بن يزيد، إن كنت سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ثم لم تشهد لي اليوم بالولاية فلا أماتك الله إلا ميتة جاهلية.

وأما أنت يا براء بن عازب، إن كنت سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» ثم لم تشهد لي بالولاية فلا أماتك الله إلا حيث هاجرت منه.

قال جابر بن عبد الله الانصاري: والله لقد رأيت أنس بن مالك قد ابتلي ببرص يغطيه بالعمامة فما يستره.

ولقد رأيت الأشعث بن قيس وقد ذهبت كريمتاه وهو يقول: الحمد لله

ص: 23

الذي جعل دعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالعمي في الدنيا، ولم يدع علي بالعذاب في الآخرة فأعذب.

وأما خالد بن يزيد فإنه مات، فأراد أهله أن يدفنوه وفر له في منزله فسمعت بذلك كندة فجاءت بالخيل والإبل فعقرتها علي باب منزله، فمات ميتة جاهلية.

وأما البراء بن عازب فإنه ولاه معاوية اليمن فمات بها ومنها كان هاجر(1)

فقد ظهر بذلك أن المستحفظين هم المكلفون بحفظ الأمور المهمة المعتد بها في أمر الدين، وأن تخصيصهم بالعلم لعدم كتمانهم لما حملوه لو رجع الخاطئون إليهم.

وأما أنه عليه السلام ما رد علي الله ورسوله أبدأ فهو معلوم محقق لا خفاء فيه، بل من ضروريات المذهب، لملكة العصمة المانعة من مخالفته لله ولرسوله صلي الله عليه وآله.

رد عمر علي رسول الله صلي الله عليه وآله :

وهذا القول إيماء إلي ما كان يفعله بعض الصحابة من التسرع بالقول والاعتراض علي الرسول صلي الله عليه وآله، كما نقل عن عمر يوم الحديبية عندما سطر كتاب الصلح أنه أنكر ذلك وقال لرسول الله صلي الله عليه وآله: ألسنا علي الحق؟ قال: بلي، قال: أو ليسوا الكافرين؟ قال: بلي. قال: فكيف نعطي الدنية في ديننا؟ والله لو وجدت أعوانا لم أعط الدنية أبداً، فقال له أبو بكر: ويخك الزم غرزه، فوالله إنه الرسول الله وإن الله لا يضيعه، ثم قال له: أقال لك أنه سيدخل مكة هذا العام؟ فقال لا. قال: فسيدخلها، فلما فتح النبي صلي الله عليه وآله مكة وأخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال: هذا الذي وعدتم به. (2)

قال ابن أبي الحديد بعد نقل هذا الخبر: واعلم أن هذا الخبر صحيح لاريب فيه،

ص: 24


1- الخصال للصدوق: 219 - 220/ ح 44؛ أمالي الصدوق: 184 - 185/ ح 190؛ بحارالأنوار 31: 446 - 447/ ح3 و 4
2- شرح نهج البلاغة 10: 180؛ بحار الأنوار 20: 333

والناس كلهم رووه، وليس عندي بقبيح ولا مستهجن أن يكون هذا الشخص سأل رسول الله صلي الله عليه وآله عما سأله عنه علي سبيل الاسترشاد والتماساً لطمأنينة النفس، فقد قال الله تعالي لخليله إبراهيم: (أوَ لَم تُؤمِن قالَ بَلي وَلكِن لِيَطمَئنَّ قَلبي) (1) وقد كانت الصحابة تراجع رسول الله صلي الله عليه وآله في الأمور وتقول له: أهذا منك أم من الله؟ كقول السعدان يوم الخندق، وقول الأنصار يوم بدر، وقد كانت من عمر أمور دون هذه القصة، كقوله: دعني أضرب عنق أبي سفيان، وقوله: دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي، وقوله: دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة، ونهي النبي صلي الله عليه وآله ورد عن التسرع إلي ذلك، وجذبه ثوب رسول الله صلي الله عليه وآله حين قام علي جنازة ابن أبي سلول يصلي، وقوله: وكيف تستغفر لرئيس المنافقين ؟ وليس في ذلك جميعه ما يدل علي وقوع القبيح منه، وإنما الرجل كان مطبوعاً علي الشدة والخشونة، وكان يقول ما يقول علي مقتضي السجية التي طبع عليها، وعلي أي حال كان لقد نال الإسلام بولايته وخلافته خيراً كثيراً. (2)

أقول: والعجب من الرجل كيف أعمي الله بصيرته كلما ذكر شيئاً من رذائله وقبائحه يجيب مرة بأن هذه وإن كانت رذيلة إلا أن له فضائل جمة تنغمر هذه الرذيلة تحتها، وأخري ينفي القبيح عما فعله، وليس هذا إلا شدة العصبية بحيث صار قلبه مسوداً، نعوذ بالله من الختم والطبع، كما قال سبحانه: (ختَم اللهُ عَلي قُلُوبِهم وعَلي سَمعِهِم وعَلي أبصَارِهِم غِشاوَةٌ ) (3) وقول: (وَمَن لَم يَجعَل اللهُ لهُ نُوراً فَما لَه مِن نورٍ) .(4)

الثانية: المواساة النبي صلي الله عليه وآله

ما أشار إليه بقوله عليه السلام: «ولقد واسيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام نجدةً وشجاعة أكرمني الله بها وجعلها مخصوصة بي وآثرني بها علي غيري.

ص: 25


1- البقرة: 260
2- شرح نهج البلاغة 10: 180
3- البقرة: 7
4- النور: 40

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: وهذا يعني المواساة _ مما اختص عليه السلام بفضيلته غير مدافع، ثبت معه يوم أحد وفر الناس، وثبت معه يوم حنين وفر الناس، وثبت تحت رايته يوم خيبر حتي فتحها وفر من كان بعث بها من قبله. وروي المحدثون أن رسول الله صلي الله عليه وآله لما ارتث - أي حمل من المعركة جريحاً يوم أحد قال الناس: قتل محمد، رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلي إلا أنه حي فصمدت له، فقال لعلي عليه السلام : اكفني هذه، فحمل عليها وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة أخري فقال: يا علي اكفني هذه، فحمل عليها فهزمها وقتل رئيسها،ثم صمدت له كتيبة ثالثة فكذلك، فكان رسول الله صلي الله عليه وآله بعد ذلك يقول: قال لي جبرئيل: يا محمد إن هذه المواساة. فقلت: وما يمنعه وهو مني وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما.

وروي المحدثون أيضا أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحاً من جهة السماء ينادي «لا سيف إلا ذوالفقار ولا فتي إلا علي».فقال رسول الله صلي الله عليه وآله و لمن حضره: ألا تسمعون؟ هذا صوت جبرئيل .

وأمايوم ځنين فثبت معه في نفر يسير من بني هاشم بعد أن ولي المسلمون الأدبار، وحامي عنه وقتل قوماً من هوازن بين يديه حتي ثابت إليه الأنصار وانهزمت هوازن وغنمت أموالها. وأما يوم خيبر فقصته مشهورة انتهي كلام ابن أبي الحديد المعتزلي. (1)

قال الميرزا الخوئي: أقول: أول مواساته عليه السلام مبيته علي فراش خاتم الأنبياء حتي باهي الله به ملائكة السماء، فوهب نفسه لله تعالي وبذلها لنبيه المصطفي وبات علي فراشه لينجو به من كيد الأعداء وتتم له بذلك السلامة والبقاء، وينتظم له به الغرض في الدعوة إلي الحنيفية البيضاء، فكان ذلك سبب نجاة النبي صلي الله عليه وآله وبقائه وحقن دمه حتي صدع بأمر ربه.

ص: 26


1- شرح نهج البلاغة 10: 182

ولولاه عليه السلام لما تم لرسول الله صلي الله عليه وآله و التبليغ والأداء، ولا استدام له العمر والبقاء، ولظفر به الحسدة والأعداء، فلما أصبحوا وعرفوا تفرقوا عنه وانصرفوا، وقد ضلت لهمالحيل وانقطع بهم الأمل، وانتفض ما بنوه من التدبير، وخابت لهم الظنون .

وكان بذلك انتظام الإيمان، وإرغام الشيطان، وخذلان أهل الكفر والعدوان، وهذه منقبة لم يشركه عليه السلام فيها أحد من أهل الإسلام، وقد أنزل فيه محكم التبيان، وهو قول الله تعالي: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالعِبادِ )(1)

وأما مواساته له صلي الله عليه وآله في مواطن جهاده ومواطن جده واجتهاده، و مقامات جداله بالسنة الأستة وجلاده فهو فوق حد الاحصاء، متجاوز عن حد العدة والاستقصاء:

منها غزوة بدر:

التي هدت قوي الشرك وقذفت طواغيته في قليب الهلك، ودوخت مردة الكفار وسقتهم كاسات الدمار والبوار، ونقلتهم من القليب إلي النار.

فيومها اليوم الذي لم يأت الدهر بمثله، وأفاض الله فيه من أحسن فضله، أنزل فيه الملائكة لتأييد رسوله تفضيلاً له علي جميع سله، وحباه من علو القدر ما لم ينله أحد من قبله، وأشرب صناديد قريش كأس أسره وقتله، وجبرئيل ينادي: إقدم حيزوم، الإظهار دينه علي الدين كله، وأمير المؤمنين عليه السلام كان فارس تلك الملحمة، فما تعد الأسد الغضاب بشسع نعله، ومسعر تلك الحرب العوان، ينصب علي الأعداء انصباب السحاب ووبله، ونار سطوته ونجدته تتسعر تسر النار في دقيق الغضا وجزله. فكان نصف القتلي يومئذ علي يده من دون شركة غيره له.

منها غزوة أحد:

قال في كشف الغمة في حديث عمران بن حصين، قال: لما تفرق الناس عن

ص: 27


1- البقرة: 207

رسول الله صلي الله عليه وآله جاء علي عليه السلام متقلداً بسيفه حتي قام بين يديه، فرفع رأسه إليه وقال له: مالك لم تفر مع الناس؟ فقال: يا رسول الله أرجع كافراً بعد إسلامي؟! فأشار إلي قوم انحدروا من الجبل فحمل عليهم فهزمهم، فجاء جبرئيل وقال: يا رسول الله قد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله : ما يمنعه من ذلك وهو مني وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما.(1)

قال في كشف الغمة: وروي عن عكرمة قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: لما انهزم الناس عن رسول الله صلي الله عليه وآله يوم أحد لحقني من الجزع عليه مالم أملك نفسي، وكنت أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله صلي الله عليه وآله ليفر، وما رأيته في القتلي، وإنه رفع من بيننا إلي السماء، فكسرت جفن سيفي وقلت: لأقاتلن به حتي أقتل، وحملت علي القوم فأفرجوا، فإذا أنا برسول الله صلي الله عليه وآله وقد وقع مغشياً عليه، فنظر إلي وقال: ما فعل الناس با علي؟ قلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر وأسلموك، فنظر إلي كتيبة قد أقبلت فقال: ردهم عني. فحملت عليهم أضربهم يميناً وشمالاً حتي فروا، فقال صلي الله عليه آله : أما تسمع مديحك في السماء؟ إن ملكاً اسمه رضوان ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتي الا علي، فبكيت سروراً وحمدت الله علي نعمته. (2)

وقد ذكر أهل السير قتلي أحد من المشركين، وكان جمهورهم قتلي أمير المؤمنين عليه السلام، وانصرف المشركون إلي مكة، وانصرف النبي صلي الله عليه وآله و إلي المدينة، فاستقبلته فاطمة ومعها إناء فيه ماء، فغسل به وجهه، ولحقه أمير المؤمنين عليه السلام وقد خضب الدم يده إلي كتفه ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة وقال: خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم، وقال:

ص: 28


1- كشف الغمة 1: 193
2- كشف الغمة1: 194

أفاطم هاك السيف غير ذميم ***فلست بر عديد ولا بمليم

أميطي دماء الكفر عنه فإنه***سقي آل عبد الدار كأس حميم

العمري لقد أعذرت في نصر أحمد ***وطاعة رب العباد عليم

وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: خُذيه يا فاطمة، فقد أدي بعلك ما عليه وقد قتل

الله صناديد قريش بيده. (1)

منها: وقعة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق:

قال الشيخ المفيد في الإرشاد: وقد روي قيس بن الربيع قال: حدثنا أبو هارون العبدي، عن ربيعة السعدي قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبد الله إنا لنتحدث عن علي عليه السلام ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة: إنكم لتفرطون في علي عليه السلام، فهل أنت تحدثني بحديث فيه. قال حذيفة: يا ربيعة وما تسألني عن علي، فوالذي نفسي بيده لو وضع جميع أعمال أصحاب محمد صلي الله عليه وآله في كفة الميزان منذ بعث الله محمداً إلي يوم الناس هذا، ووضع عمل علي عليه السلام في الكفة الأخري لرجح عمل علي عليه السلام علي جميع أعمالهم. فقال ربيعة:هذا الذي لا يقام ولا يقعد. فقال حذيفة: بالكع وكيف لا يحمل؟ وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمد صلي الله عليه وآله يوم عمرو بن عبدود وقد دعا إلي المبارزة فأحجم الناس كلهم ما خلا علياَ عليه السلام فإنه برز إليه وقتله الله علي يده، والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرأً من عمل أصحاب محمد صلي الله عليه وآله به إلي يوم القيامة. (2)

قال في كشف الغمة: رأيت في بعض الكتب أن النبي صلي الله عليه وآله قال حين بارز علي عمرو بن عبدود: خرج الإسلام كله إلي الشرك كله.

ص: 29


1- الإرشاد للمفيد 1: 90؛ بحار الأنوار 20: 88
2- الإرشاد 1: 103

وقال الدميري في كتابه (حياة الحيوان في مادة (حيدرة): جاء في بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه الي لما بارز عمراً قال رسول الله صلي الله عليه وآله : «اليوم برز الإيمان كله للشرك كله».(1)

منها غزوة وادي الرمل :

وتسمي غزوة ذات السلاسل - وإنما سميت بذلك لأنه عليه السلام شد أسراهم في الحبال مكتفين كأنهم في السلاسل وقد كان الفتح فيها الأمير المؤمنين عليه السلام خاصة بعد أن كان فيها من غيره من الإفساد ما كان، وفيها نزلت علي النبي صلي الله عليه وآله سورة العاديات فتضمنت ذكر ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام فيها.

قال الشيخ المفيد: روي عن أم سلمة قالت: كان نبي الله صلي الله عليه وآله قائلاً في بيتي إذ انتبه فزعاً من منامه، فقلت له: الله جارك. قال: صدقت والله جاري، لكن هذا جبرئيل يخبرني أن علياً قادم، ثم خرج إلي الناس فأمرهم أن يستقبلوا علياً عليه السلام، فقام المسلمون له صفين مع رسول الله صلي الله عليه وآله ، فلما بصر بالنبي صلي الله عليه وآله ترجل عن فرسه وأهوي إلي قدميه يقبلهما، فقال له صلي الله عليه وآله: اركب فإن الله تعالي ورسوله عنك راضيان. فيكي أمير المؤمنين عليه السلام فرحاً وانصرف إلي منزله، وتسلم المسلمون الغنائم.. إلي أن قال: ثم قال له رسول الله صلي الله عليه وآله : يا علي لولا أنني أشفق أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصاري في عيسي ابن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملامنهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك. (2)

منها غزوة الحديبية:

وفيها أقبل سهيل بن عمرو إلي النبي صلي الله عليه وآله، فقال له: يا محمد إن أرقاءنا لحقوا بك، فارددهم علينا، فغضب رسول الله صلي الله عليه وآله ، حتي تبين الغضب في وجهه ثم قال: لتنتهين يا

ص: 30


1- كشف الغمة 1: 205
2- الإرشاد 1: 116

معاشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه بالايمان يضرب رقابكم علي الدين، فقال بعض من حضر: يا رسول الله أبوبكر ذلك الرجل؟ فقال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة. فتبادر الناس إلي الحجرة ينظرون من الرجل، فإذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. رواه المفيد في الإرشاد، (1) ورواه في كشف الغمة،(2) وفي صحيح الترمذي (3) نحوه.

منها غزوة خيبر:

قال المفيد: ثم تلت الحديبية خيبر، وكان الفتح فيها الأمير المؤمنين عليه السلام بلا ارتياب، فظهر من فضله في هذه الغزاة ما أجمع عليه نقلة الرواة. (4)

جاء في كتاب (كشف الغمة): قال ابن طلحة: و تلخيص المقصد فيها علي ماذكره أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب السيرة النبوية، يرفعه بسنده عن ابن الأكوع، قال:

بعث النبي صلي الله عليه وآله أبا بكر برايته _ وكانت بيضاء - إلي بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث عمر بن الخطاب فكان كذلك، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله علي يديه، ليس بفرار، قال سلمة: فدعا علياً عليه السلام وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتي يفتح الله عليك، فخرج يهرول وإنا خلفه نتبع أمره، حتي ركّز رايته في رخم من حجارة تحت الحصن، فاطلع عليه يهودي من الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن

ص: 31


1- الإرشاد 1: 122
2- كشف الغمة 1: 210
3- سنن الترمذي :5: 298 ح 3799
4- الإرشاد 1: 124

أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم حصنتا وما أنزل علي موسي، قال: فما رجع حتي فتح الله علي يديه. (1)

منها فتح مكة:

قال المفيد رضي الله عنه: وفيما ذكرناه من أعمال أمير المؤمنين عليه السلام في قتل من قتل من أعداءه بمكة وإخافة من أخاف، ومعونة رسول الله علي تطهير المسجد من الأصنام، وشدة بأسه في الله، وقطع الأرحام في طاعة الله عزوجل أول دليل علي تخصيصه من الفضل بما لم يكن لأحد منهم سهم فيه. (2)

منها غزوة حنين:

فاستظهر فيها رسول الله صلي الله عليه وآله و بكثرة الجمع، فخرج رسول الله صلي الله عليه وآله ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فظن أكثرهم أنهم لن يغلبوا لما شاهدوا من كثرة جمعهم وعددهم وعدتهم، وأعجب أبا بكر الكثرة يومئذ فقال: لن تغلب اليوم من قلة، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه.

فلما التقوا لم يلبثوا وانهزموا بأجمعهم، فلم يبق مع النبي صلي الله عليه وآله إلا تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، وقتل الله رحمة الله، وثبت التسعة الهاشميون رئيسهم أمير المؤمنين عليه السلام، ورجعوا بعد ذلك وتلاحقوا، و كانت الكثرة لهم علي المشركين، فأنزل الله في إعجاب أبي بكر بالكثرة (وَيَومِ حُنَينٍ إذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَيناً وَضاقَت عَليكُمُ الأُرضُ بِما رَحُبَت ثُمَ وَليتُم مُد بِرينَ ثُم أنزَل اللهُ سَكينتُهُ عَلي رسُولِهِ وعَلي المُؤمِنينَ ) (3) يريد علياً ومن ثبت معه من بني هاشم. (4)

ص: 32


1- كشف الغمة 1: 211
2- الإرشاد 1:138
3- التوبة: 25 و 26
4- الإرشاد 1: 140 - 141

هذا قليل من كثير، ويسير من جم غفير من مناقبه ومفاخره ومجاهداته ومواساته لرسول الله صلي الله عليه وآله.

وهذا معني قوله عليه السلام: «ولقد واسيه في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام»

الثالثة: النبي صلي الله عليه وآله في مرض الموت

ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «ولقد قبض رسول الله صلي الله عليه وآله وإن رأسه لعلي صدري»

قيل: لعله عليه السلام أسنده صلي الله عليه وآله إلي صدره عند اشتداد مرضه، وقيل: إنه كان رأسه علي ركبته، فيكون رأسه صلي الله عليه وآله في صدره عند إكبابه عليه، والأول أظهر.

ويؤيده ما في البحار عن أمالي الشيخ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كنت عند رسول الله صلي الله عليه وآله في مرضه الذي قبض فيه، و كان رأسه في حجري، والعباس يذب عن وجه رسول الله صلي الله عليه وآله، فأغمي عليه إغماء ثم فتح عينيه فقال: يا عباس يا عم رسول الله اقبل وصيتي واضمن ديني وعداتي. فقال العباس: يا رسول الله أنت أجود من الريح المرسلة، وليس في مالي وفاء لدينك وعداتك. فقال النبي صلي الله عليه وآله ذلك ثلاثأ يعيده عليه و العباس في كل ذلك يجيبه بما قال أول مرة.

قال: فقال النبي صلي الله عليه وآله : لأقولها لمن يقبلها ولا يقول يا عباس مثل مقالتك. فقال: يا علي اقبل وصيتي واضمن ديني وعداتي.

قال: فخنقتني العبرة وارتج جسدي ونظرت إلي رأس رسول الله صلي الله عليه وآله يذهب ويجيء في حجري، فقطرت دموعي علي وجهه ولم أقدر أن أجيبه، ثم ثني فقال: اقبل وصيتي واضمن ديني وعداتي. قال، قلت: نعم بأبي وأمي. قال: أجلسني. فأجلسته، فكان ظهره في صدري فقال: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة ووصيي وخليفتي في أهلي. ثم قال: يا بلال هلم سيفي ودرعي وبغلتي وسرجها ولجامها ومنطقتي التي أشد بها علي درعي. فجاء بلال بهذه الأشياء فوقف بالبغلة بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله فقال: ياعلي قم فاقبض. فقال: قمت

ص: 33

وقام العباس فجلس مكاني، فقمت فقبضت ذلك، فقال: انطلق به إلي منزلك، فانطلقت ثم جئت فقمت بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله بعد قائماً، فنظر إلي ثم عهد إلي خاتمه فنزعه ثم دفعه الي فقال: هاك يا علي، هذا لك في الدنيا والآخرة. والبيت غاص من بني هاشم والمسلمين.

فقال: يا بني هاشم، يا معشر المسلمين، لا تخالفوا علياً فتضلوا، ولا تحسدوه فتكفروا، يا عباس قم من مكان علي عليه السلام فقال: قيم الشيخ وتجلس الغلام ؟ فأعادها ثلاث مرات. فقام العباس فنهض مغضباً وجلست مكاني.

فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا عباس ياعم رسول الله، لا أخرج من الدنيا وأناساخط عليك فيدخلك سخطي عليك النار، فرجع وجلس . (1)

ومن الأمالي أيضاً عنه عليه السلام في حديث، قال: فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا علي أجلسني، فأجلسته وأسنده إلي صدري، قال علي عليه السلام: فلقد رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله ليثقل ضعفاً وهو يقول يسمع أهل البيت أعلاهم وأدناهم: إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب عليه السلام ، يقضي ديني وينجز وعدي. يا بني هاشم يا بني عبد المطلب لا تبغضوا علياً ولا تخالفوا عن أمره فتضلوا، ولا تحسدوه و ترغبوا عنه فتكفروا، أضجعني يا علي، فأضجعته، الحديث.(2)

وفي البحار من الأمالي أيضاً بإسناده عن ابن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: دخلت علي نبي الله وهو مريض، فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق، والنبي نائم، فلما دخلت عليه صلي الله عليه وآله قال الرجل: أدن إلي ابن عمك فأنت أحق به مني، فدنوت منهما، فقام الرجل وجلست مكانه ووضعت رأس النبي صلي الله عليه وآله ولد في حجري كما كان في حجر الرجل، فمكث ساعة، ثم إن النبي صلي الله عليه وآله استيقظ فقال: أين الرجل الذي كان رأسي في حجره؟

ص: 34


1- أمالي الطوسي: 572 - 573/ ح 1185؛ بحار الأنوار 22: 499 – 500/ ح46
2- أمالي الطوسي: 600- 602ح 1244؛ بحار الأنوار 22: 500 - 501/ ح 47

فقلت: لما دخلت عليك دعاني إليك ثم قال: ادن إلي ابن عمك فأنت أحق به متي، ثم قام فجلست مكانه. فقال النبي صلي الله عليه وآله : فهل تدري من الرجل؟ قلت: لا بأبي وأمي، فقال النبي صلي الله عليه وآله: ذاك جبرئيل كان يحدثني حتي خف عني وجعي، ونمت ورأسي في حجره. (1)

وفاة النبي صلي عليه وآله :

وأما كيفية وفاته صلي الله عليه وآله ففي البحار عن أمالي الصدوق بإسناده عن ابن عباس قال: لما مرض رسول الله صلي الله عليه وآله وعنده أصحابه، قام إليه عمار بن ياسر فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله فمن يغسلك ما إذا كان ذلك منك؟ قال: ذلك علي بن أبي طالب، لأنه لا يهم بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة علي ذلك.

فقال له: فداك أبي وأمي يارسول الله، فمن يصلي عليك ما إذا كان ذلك منك. قال: مه رحمك الله.

ثم قال صلي الله عليه وآله لعلي عليه السلام: يا ابن أبي طالب إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وأنت غسلي، و كفني في طمري هذين أو في بياض مصر وبرد يمان، ولا تغال في كفني، واحملوني حتي تضعوني علي شفير قبري، فأول من يصلي علي الجبار جل جلاله من فوق عرشه، ثم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله جل وعز، ثم الحاقون بالعرش، ثم سكان أهل سماء فسماء، ثم جل أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون، ومون إيماءوتسلمون تسليماً، لا تؤذوني بصوت نادبة ولا مرنة.

ثم قال: يا بلال هلم علي بالناس، فاجتمع الناس، فخرج رسول الله صلي الله عليه وآله متعصباً بعمامته متوكئأ علي قوسه حتي صعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال: معاشر أصحابي أي نبي كنت لكم؟ ألم أجاهد بين أظهركم؟ ألم تكسر

ص: 35


1- أمالي الطوسي: 385 ح 836؛ بحار الأنوار 22: 506 -507/ ح 8

رباعبتي؟ ألم يعقر جبيني؟ ألم تسل الدماء علي حر وجهي حتي كنفت لحيتي؟ ألم أكابد الشدة والجهد مع جهال قومي؟ ألم أربط حجر المجاعة علي بطني؟!

قالوا: بلي يا رسول الله، ولقد كنت له صابراً وعن منكربلاء الله ناهياً، فجزاك الله عنا أفضل الجزاء.

قال: وأنتم فجزاكم الله، ثم قال: إن ربي عزوجل حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم بالله أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلا قام فليقتص منه، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة علي رؤوس الملائكة والأنبياء.

فقام إليه رجل من أقصي القوم يقال له سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت علي ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأ. فقال صلي الله عليه وآله : معاذ الله أن أكون تعمدت ثم قال: يا بلال قم إلي منزل فاطمة فأتني بالقضيب الممشوق.

فخرج بلال وهو ينادي في سلك المدينة: معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة، فهذا محمد صلي الله عليه وآله يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة.

وطرق بلال الباب علي فاطمة عليهاالسلام وهو يقول: يا فاطمة قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق. فأقبلت فاطمة وهي تقول: يا بلال وما يصنع والدي بالقضيب وليس هذا يومالقضيب؟ فقال بلال: يا فاطمة أما علمت أن والدك قد صعد المنبر وهو يودع أهل الدين والدنيا. فصاحت فاطمة عليها السلام وقالت: واغماه الغمك يا أبتاه، من للفقراء والمساكين وابن السبيل يا حبيب الله وحبيب القلوب، ثم ناولت بلالاً القضيب، فخرج حتي ناوله رسول الله صلي الله عليه وآله.

فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : أين الشيخ؟ فقال الشيخ: ها أناذا يا رسول الله بأبي أنت

ص: 36

وأمي، فقال: فاقتص مني حتي ترضي، فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف عن بطنه، فقال الشيخ: بأبي أنت وأمي أتأذن لي أن أضع فمي علي بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله صلي الله عليه وآله من النار.

فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: با سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول الله، فقال صلي الله عليه وآله: اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفي عن محمد نبيك.

ثم قام رسول الله صلي الله عليه وآله فدخل بيت أم سلمة وهو يقول: رب سلم أمة محمد من النار، ويستر عليهم الحساب، فقالت أم سلمة: يا رسول الله مالي أراك مغمومأً متغير اللون؟ فقال صلي الله عليه وآله : نعيت إلي نفسي هذه الساعة، فسلام لك في الدنيا فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد أبداً، فقالت أم سلمة: واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمد. ثم قال صلي الله عليه وآله : ادع لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة، فجائت فاطمة وهي تقول: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء يا أبتاه، ألا تكلمني كلمة فإني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأري عساكر الموت تغشاك شديداً.

فقال لها: يابنية إني مفارقك فسلام عليك مني. قالت: يا أبتاه فأين الملتقي يوم القيامة؟ قال صلي الله عليه وآله: عند الحساب. قالت: فإن لم ألقك عند الحساب؟ قال: عند الشفاعة لأمتي. قالت: فإن لم ألقك عند الشفاعة لأمتك؟ قال: عند الصراط، جبرئيل عن يميني و ميكائيل عن يساري، والملائكة خلفي وقدامي ينادون «رب سلم أمة محمد من النار ويستر عليهم الحساب».قالت فاطمة: فأين والدتي خديجة؟ قال: في قصر له أربعة أبواب إلي الجنة.

ثم أغمي علي رسول الله صلي الله عليه وآله، فدخل بلال وهو يقول: الصلاة رحمك الله، فخرج رسول الله صلي الله عليه وآله وصلي بالناس وخفف الصلاة.

ثم قال: ادعوا لي علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فجاءا، فوضع صلي الله عليه وآله يده علي عاتق علي والأخري علي أسامة، ثم قال: انطلقابي إلي فاطمة، فجاءا به

ص: 37

حتي وضع رأسه في حجرها فإذا الحسن والحسين يبكيان ويصطرخان وهما يقولان: أنفسنا لنفسك الفداء، ووجوهنا لوجهك الوقاء.

فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: من هذان ياعلي؟ فقال عليه السلام : ابناك الحسن والحسين، فعانقهما وقبلهما، وكان الحسن عليه السلام علي أشد بكاء، فقال عليه السلام كف با حسن فقد شققت علي رسول الله صلي الله عليه وآله.

فنزل ملك الموت فقال: السلام عليك يا رسول الله قال: وعليك السلام يا ملك الموت، لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك يانبي الله؟ قال: حاجتي أن لا تقبض روحي حتي يجيئني جبرئيل فيسلم علي وأسلم عليه.

فخرج ملك الموت وهو يقول: يا محمداه، فاستقبله جبرئيل في الهواء فقال: يا ملك الموت قبضت روح محمد؟ قال: لا يا جبرئيل، سألني أن لا أقبضه حتي يلقاك فتسلم عليه ويسلم عليك، فقال جبرئيل: يا ملك الموت أما تري أبواب السماء مفتحة لروح محمد صلي الله عليه وآله؟ أما تري الحور العين قد تزينت لروح محمد صلي الله عليه وآله؟

ثم نزل جبرئيل فقال: السلام عليك يا أبا القاسم، فقال: وعليك السلام يا جبرئيل، ادن مني حبيبي جبرئيل، فدنا منه، فنزل ملك الموت فقال له جبرئيل: يا ملك الموت احفظ وصية الله في روح محمد، وكان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت أخذ بروحه، فلما كشف الثوب عن وجه رسول الله صلي الله عليه وآله به نظر إلي جبرئيل فقال اله: عند الشدائد لا تخذلني، فقال: يا محمد إنك ميت وإنهم ميتون، كل نفس ذائقة الموت. فروي عن ابن عباس أن رسول الله صلي الله عليه وآله في ذلك المرض كان يقول: ادعوالي حبيبي، فجعل يدعي له رجل بعد رجل فيعرض عنه، فقيل لفاطمة عليها السلام: إمضي إلي علي، فما نري رسول الله يريد غير علي، فبعثت فاطمة إلي علي عليه السلام ، فلما دخل فتح رسول الله صلي الله عليه وآله عينيه وتهلل وجهه ثم قال: إلي يا علي، إلي يا علي، فما زال صلي الله عليه وآله من يدنيه حتي أخذه بيده وأجلسه عند رأسه.

ثم أغمي عليه، فجاء الحسن والحسين عليهما السلام يصيحان ويبكيان حتي وقعا

ص: 38

علي رسول الله صلي الله عليه وآله فأراد علي أن ينحيهما عنه صلي الله عليه وآله ، فأفاق رسول الله صلي الله عليه وآله ثم قال: يا علي دعني أشمهما ويشماني، وأتزود منهما ويتزودان مني، أما إنهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلماً، فلعنة الله علي من يظلمهما، يقول ذلك ثلاثاً.

ثم مديده إلي علي فجذبه إليه حتي أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه، ووضع فاه علي فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتي خرجت روحه الطيبة صلي الله عليه وآله، فانسل علي من تحت ثيابه وقال: أعظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله إليه، فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء، فقيل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الذي ناجاك به رسول الله صلي الله عليه وآله و حين أدخلك تحت ثيابه؟ فقال: علمني ألف باب، كل باب يفتح ألف باب.

وقد كان جبرئيل ينزل علي النبي صلي الله عليه وآله في مرضه الذي قبض فيه في كل يوم وليلة فيقول: السلام عليك، إن ربك يقرؤك السلام فيقول: كيف تجدك وهو أعلم بك، ولكنه أراد أن يزيدك كرامة وشرفاً إلي ما أعطاك علي الخلق، وأراد أن تكون عيادة المريض شنة في أمتك.

فيقول النبي صلي الله عليه وآله إن كان وجعاً: يا جبرئيل أجدني وجعاً، فقال له جبرئيل: اعلم يا محمد أن الله لم يشدد عليك، وما من أحد من خلقه أكرم عليه منك، ولكنه أحب أن يسمع صوتك ودعاءك حتي تلقاه مستوجباً للدرجة والثواب الذي أعد لك والكرامة والفضيلة علي الخلق.

وإن قال له النبي صلي الله عليه وآله: أجدني مريحاً في عافية، قال له: فاحمد الله علي ذلك، فإنه يحب أن تحمده و نشكره ليزيدك إلي ما أعطاك خيراً، فإنه يحب أن يحمد ويزيد من شكر.(1)

وفي البحار من المناقب عن سهل بن أبي صالح، عن ابن عباس، أنه

ص: 39


1- بحار الأنوار 22: 507 - 511/ح9؛ أمالي الصدوق: 732 - 737ح 1004

أغمي علي النبي صلي الله عليه وآله في مرضه فدق بابه، فقالت فاطمة: من ذا؟ قال: أنا رجل غريب أتيت أسأل رسول الله، أتأذنون لي في الدخول عليه؟ فأجابت: امض - رحمك الله _ لحاجتك، فرسول الله عنك مشغول.

فمضي ثم رجع فدق الباب وقال: غريب يستأذن علي رسول الله صلي الله عليه وآله أتأذنون للغرباء؟ فأفاق رسول الله صلي الله عليه وآله من غشيته وقال: يا فاطمة أتدرين من هذا؟ قالت: لا يا رسول الله، قال: هذا مفرق الجماعات ومنغص اللذات، هذا ملك الموت، ما استأذن - والله - علي أحد قبلي ولا يستأذن علي أحد بعدي، استأذن علي لكرامتي علي الله، ائذني له، فقالت: ادخل رحمك الله، فدخل كريح هفافة وقال: السلام علي أهل بيت رسول الله.

ثم قال: يانبي الله إني رسول الله إليك، قال: وأي رسل الله أنت؟ قال: أنا ملك الموت أرسلني إليك خيرك بين لقائه والرجوع إلي الدنيا، فقال له النبي صلي الله عليه وآله: فأمهلني حتي ينزل جبرئيل فأستشيره.

ونزل جبرئيل فقال: يا رسول الله الآخرة خير لك من الأولي ولسوف يعطيك ربك فترضي، لقاء الله خير لك، فقال صلي الله عليه وآله: لقاء ربي خير لي، فامض لما أمرت به، فقال جبرئيل لملك الموت: لا تعجل حتي أعرج إلي السماء وأهبط، قال ملك الموت: لقد صارت نفسه في موضع لا أقدر علي تأخيرها، فعند ذلك قال جبرئيل: يا محمد هذا آخر هبوطي إلي الدنيا، إنما كنت أنت حاجتي فيها.(1)

وصاحت فاطمة وصاح المسلمون وصاروا يضعون التراب علي رؤوسهم. ومات صلي الله عليه وآله لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة صلي الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.

الرابعة: قبض روح صلي الله عليه وآله

ما أشارعليه السلام بقوله: ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها علي وجهي.

ص: 40


1- بحار الأنوار 22: 533 - 534؛ مناقب آل أبي طالب 3: 116

المراد بالنفس هنا نفسه الناطقة القدسية التي هي مبدء الفكر والذكر والعلم والحلم والنباهة، ولها خاصية الحكمة والنزاهة، فيكون محصل المراد بالكلام أن روحه الطيبة الكاملة التي هي المصداق الحقيقي لقوله: (قُلِ الرُّوحُ مِن أمرِ ربّي) ،والمقصود الأصلي بقوله: (ونفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي) لما فارقت جسده الطاهر فاضت بيدي فمسحت بها علي وجهي.

وإنما مسح بها علي وجهه إما تيمنأً أو لحكمة عظيمة لا نعرفها.

لما كانت هذه الخطبة الشريفة التي نحن في شرحها مسوقة لذكر مناقبه وخصائصه الجميلة المخصوصة به، المفيدة لكونه أحق وأولي بالخلافة والإمامة من غيره، أحببت أن أورد رواية متضمنة لجملة من كراماته وبناته التي لم يشر كه فيها أحد، تأكيداً للغرض المسوق له الخطبة الشريفة وتكميلاً له، وهي :

سبعون منقبة لعلي عليه السلام:

ما رواه في البحار من الخصال عن القطان والسنان والدقاق والمكتب والوراق جميعاً عن ابن زكريا القطان، عن ابن حبيب، عن ابن بهلول، عن سليمان بن حكيم، عن ثور بن يزيد، عن مكحول، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلي الله عليه وآله أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا وقد شركته فيها وفضلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم. قلت: يا أمير المؤمنين فأخبرني بهن، فقال عليه السلام:

إن أول منقبة لي أني لم أشرك بالله طرفة عين ولم أعبد اللات والعزي.

والثانية: أني لم أشرب الخمر قط.

والثالثة: أن رسول الله صلي الله عليه وآله استوهبني من أبي في صباي، فكنت أكيلهوشريبه ومؤنسه و محدثه.

ص: 41

والرابعة: أني أول الناس إيماناً وإسلاماً.

والخامسة: أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي.

والسادسة: أني كنت آخر الناس عهداً برسول الله صلي الله عليه وآله ووليته في حفرته .

والسابعة: أن رسول الله صلي الله عليه وآله أنا مني علي فراشه حيث ذهب إلي الغار، وسجاني ببرده، فلما جاء المشركون ظنوني محمدأً، فأيقظوني وقالوا: مافعل صاحبك؟ فقلت: ذهب في حاجته، فقالوا: لو كان هرب لهرب هذا معه.

وأما الثامنة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله علمني ألف باب من العلم، يفتح كل باب ألف باب، ولم يعلم ذلك أحدا غيري.

وأما التاسعة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال لي: يا علي إذا حشر الله عزوجل الأولين والآخرين نصب لي منبراً فوق منابر النبيين، ونصب لك منبراً فوق منابر الوصيين فترتقي عليه.

وأما العاشرة: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: لا أعطي في القيامة شيئاً إلا سألت لك مثله.

وأما الحادية عشرة: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: أنت أخي وأنا أخوك، يدك في يدي حتي ندخل الجنة.

وأما الثانية عشرة: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: يا علي مثلك في أمتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجي، و من تخلف عنها غرق.

وأما الثالثة عشرة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله عممني بعمامة نفسه بيده، ودعي لي بدعوات النصر علي أعداء الله، فهزمتهم بإذن الله عزوجل .

وأما الرابعة عشرة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أمرني أن أمسح يدي علي ضرع شاة قد يبس ضرغها، فقلت: يا رسول الله بل امسح أنت، فقال: يا علي فعلك فعلي، فمسحت

ص: 42

عليها يدي فدتر علي من لبنها، فسقيت رسول الله صلي الله عليه وآله شربة، ثم أتت عجوز فشكت الظماء فسقيتها، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: إني سألت الله عزوجل أن يبارك في يدك ففعل.

وأما الخامسة عشرة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أوصي إلي وقال: يا علي لا يلي غسلي غيرك، ولا يواري عورتي غيرك، فإنه إن رأي عورتي غيرك تفقأت عيناه، فقلت له: كيف لي بتقليبك يا رسول الله؟ فقال: إنك ستعان، والله ما أردت أن أقلب عضواً من أعضائه إلا قلب لي.

وأما السادسة عشرة: فإني أردت أن أجرده عليه السلام فنوديت: يا أخ محمد لا تجرده، فغسلته والقميص عليه، فلا والله الذي أكرمه بالنبوة وخصه بالرسالة ما رأيت له عورة، خصني الله بذلك من بين أصحابه.

وأما السابعة عشرة: فإن الله عزوجل زوجني فاطمة وقد كان خطبها أبو بكر وعمر، فزوجني الله من فوق سبع سماواته، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: هنيئاً لك با علي، فإن الله عزوجل قد زوجك فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وهي بضعة مني، فقلت: يا رسول الله أو لست منك؟ قال: بلي يا علي، أنت مني وأنا منك كيميني من شمالي، لا أستغني عنك في الدنيا والآخرة.

وأما الثامنة عشرة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: يا علي أنت صاحب لواء الحمد في الآخرة، وأنت يوم القيامة أقرب الخلائق مني مجلساً، يبسط لي ويبسط لك، فأكون في زمرة النبيين، وتكون في زمرة الوصيين، ويوضع علي رأسك تاج النور وإكليل الكرامة، يحف بك سبعون ألف ملك حتي يفرغ الله عزوجل من حساب الخلائق.

وأما التاسعة عشرة: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال لي: ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فمن قاتلك منهم فإن لك بكل رجل منهم شفاعة في مائة ألف من شيعتك، فقلت: يا رسول الله فمن الناكثون؟ قال: طلحة والزبير، سيبا يعانك بالحجاز وينكتان بالعراق، فإذا فعلا ذلك فحاربهما، فإن في قتالهما

ص: 43

طهارة لأهل الأرض، قلت: فمن القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه، قلت: فمن المارقون؟ قال: أصحاب ذي الثدية، وهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فاقتلهم فإن في قتلهم فرجاً لأهل الأرض وعذاباً مؤجلاً عليهم، وذخراً لك عند الله عزوجل يوم القيامة.

وأما العشرون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: «مثلك في أمتي مثل باب حطة في بني إسرائيل، فمن دخل في ولايتك فقد دخل الباب كما أمره الله عزوجل.

وأما الحادية والعشرون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، ولن يدخل المدينة إلا من بابها، ثم قال: يا علي إنك سترعي ذمتي، وتقاتل علي نتي، و تخالفك أمتي».

وأما الثانية والعشرون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: «إن الله تبارك وتعالي خلق ابني الحسن والحسين من نور ألقاه إليك وإلي فاطمة، وهما يهتزان كما يهتز القرطان إذا كانا في الأذنين، ونورهما متضاعف علي نور الشهداء سبعين ألف ضعف، يا علي إن الله عزوجل قد وعدني أن يكرمهما كرامة لا يكرم بها أحداً ما خلا النبيين والمرسلين ».

وأما الثالثة والعشرون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أعطاني خاتمه في حياته ودرعه ومنطقته، وقلدني سيفه وأصحابه كلهم حضور وعمي العباس حاضر، فخضني الله عزوجل بذلك دونهم.

وأما الرابعة والعشرون: (فإن الله عزوجل أنزل علي رسوله (يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا إذا ناجَيتُمُ الرسولَ فَقَدمُوا بَينَ يَدَي نَجواكُم صَدَقَةً) (1) فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلي الله عليه وآله أصدق قبل ذلك بدرهم، ووالله ما فعل هذا أحد من أصحابه قبلي ولا بعدي، فأنزل الله عزوجل (أاَشفَقتُم أَن تُقَدَمُوا بَينَ

ص: 44


1- المجادلة: 12

يَدَي نَجواكُم صَدَقاتٍ فَإذلَم تَفعَلوا وَتَابَ اللهُ عَلَيكُم) (1) الآية، فهل تكون التوبة إلا من ذنب كان؟

وأما الخامسة والعشرون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و.آله يقول: «الجنة محرمة علي الأنبياء حتي أدخلها أنا، وهي محرمة علي الأوصياء حتي تدخلها أنت، يا علي إن الله تبارك و تعالي بشرني فيك بشري لم يبشر بها نبياً قبلي، بشرني بأنك سيد الأوصياء، وأن ابنيك الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة يوم القيامة.

وأما السادسة والعشرون: فإن جعفراً أخي الطيار في الجنة مع الملائكة، المزين بالجناحين من در و ياقوت و زبرجد .

وأما السابعة والعشرون: فعمي حمزة سيد الشهداء.

وأما الثامنة والعشرون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: «إن الله تعالي وعدني فيك وعداً لن يخلفه، وجعلني نبياً وجعلك وصياً، وستلقي من أمتي من بعدي ما لقي موسي من فرعون، فاصبر واحتسب حتي تلقاني، فأوالي من والاك وأعادي من عاداك»

وأما التاسعة والعشرون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: «يا علي أنت صاحب الحوض لا يملكه غيرك، وسيأتيك قوم فيستسقونك فتقول: لا ولا مثل ذرة، فينصرفون مسودة وجوههم، وسترد عليك شيعتي وشيعتك فتقول: رووا رواء مرويين، فيردون مبيضة وجوههم »

وأما الثلاثون: فإني سمعته صلي الله عليه وآله يقول: تحشر أمتي يوم القيامة علي خمس رايات: فأول راية ترد علي راية فرعون هذه الأمة وهو معاوية، والثانية مع سامري هذه الأمة عمرو بن العاص، والثالثة مع جاثليق هذه الأمة وهو أبو موسي الأشعري، والرابعة مع أبي الأعور السلمي، وأما الخامسة فمعك يا علي، تحتها المؤمنون وأنت إمامهم، ثم يقول الله تبارك وتعالي للأربعة (ارجِعُوا

ص: 45


1- المجادلة: 13.

وَراءَكُم فَالتَمَسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَينَهُم بِسورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فيهِ الرَّحمَةُ ) (1) وهم شيعتي ومن والاني وقاتل معي الفئة الباغية والناكثة عن الصراط، وباب الرحمة هم شيعتي، فينادي هؤلاء: (ألَم نكُن مَعَكُم قالُوا بَلي وَلِكنَّكُم فَتنسِتُم أنفُسَكُم وتَرَّبَصتُم وَارتَبتُم وغَرَّتكُمُ الأُمانِيُ حَتي جاءَ أمرُ اللهِ وغَرَّكُم بالله الغَرورُ فَاليَومَ لا يؤخَذ منكم فِدَيه وَلا مِنَ الَّذينَ كَفَروا مَأواكُمُ النّار هي مؤلاكُم و بئس َ المَصيرُ)، (2) ثم ترد أمتي وشيعتي فيروون من حوض محمد صلي الله عليه وآله و بيدي عصا عوسج أطرد بها أعدائي طرد غريبة الإبل.

وأما الحادية والثلاثون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: لولا أن يقول فيك الغالون من أمتي ما قالت النصاري في عيسي ابن مريم، لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك يستشفون.

وأما الثانية والثلاثون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: إن الله تبارك وتعالي نصرني بالرعب، فسألته أن ينصرك بمثله، فجعل لك من ذلك مثل الذي جعله لي.

وأما الثالثة والثلاثون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله التقم أذني وعلمني ما كان وما يكون إلي يوم القيامة، فساق الله لك ذلك إلي لسان نبيه.

وأما الرابعة والثلاثون: فإن النصاري ادعوا أمراً، فأنزل الله عزوجل (فَمَن حاجَّكَ فِيهِ من بَعدِ ما جاءَكُ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ أَبناءَنا وَأبناءكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم) (3) فكانت نفسي نفس رسول الله ، صلي الله عليه وآله والنساء فاطمة، والأبناء الحسن والحسين، ثم ندم القوم فسألوا الإعفاء فأعفاهم، والذي أنزل التوراة علي موسي والفرقان علي محمد لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير.

ص: 46


1- الحديد:13
2- الحديد: 14 و 15.
3- آل عمران: 61

وأما الخامسة والثلاثون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله وجهني يوم بدر فقال: ائتني بكف حصيات مجموعة في مكان واحد، فأخذتها ثم شممتها فإذا هي طيبة تفوح منها رائحة المسك، فأتيته بها فرمي بها وجوه المشركين، وتلك الحصيات أربع منها كن من الفردوس وحصاة من المشرق وحصاة من المغرب وحصاة من تحت العرش، مع كل حصاة مأة ألف ملك مددأً لنا، لم يكرم الله عزوجل بهذه الفضيلة أحداً قبل ولا بعد.

وأما السادسة والثلاثون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: ويل القاتلك! إنه أشقي من ثمود ومن عاقر الناقة، وإن عرش الرحمن يهتز لقتلك، فأبشر يا علي فإنك في زمرة الصديقين والشهداء والصالحين.

وأما السابعة والثلاثون: فإن الله تبارك وتعالي قد خصني من بين أصحاب محمد صلي الله عليه وآله بعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام، وذلك مما من الله به علي وعلي رسوله صلي الله عليه وآله، وقال لي الرسول : يا علي إن الله عزوجل أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأعلمك ولا أجفوك، وحق علي أن أطيع ربي، وحق عليك أن تعي.

وأما الثامنة والثلاثون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله بعثني بعثاً ودعا لي بدعوات وأطلعني علي ما يجري بعده، فحزن لذلك بعض أصحابه صلي الله عليه وآله وقال: لو قدر محمد أن يجعل ابن عمه نبياً لجعله، فشرفني الله بالاطلاع علي ذلك علي لسان نبيه.

وأما التاسعة والثلاثون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: كذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً، لا يجتمع حبي وحبه إلا في قلب مؤمن، إن الله عزوجل جعل أهل حبي وحبك يا علي في أول زمرة السابقين إلي الجنة، وجعل أهل بغضي وبغضك في أول الضالين من أمتي إلي النار.

وأما الأربعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله وجهني في بعض الغزوات إلي ركي فإذا ليس فيه ماء، فرجعت إليه فأخبرته، فقال: أفيه طين؟ فقلت: نعم، فقال:

ص: 47

إيتني منه، فأتيت منه بطين فتكلم فيه ثم قال: ألقه في الركي، بألقيته فإذا الماء قد نبع حتي امتلأ جوانب الركي، فجئت إليه فأخبرته، فقال لي: وفقت با علي، وبير كتك نبع الماء، فهذه المنقبة خاصة لي من دون أصحاب النبي صلي الله عليه وآله.

وأما الحادية والأربعون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: أبشر يا علي! فإن جبرئيل عزوجل أتاني فقال لي: يا محمد إن الله تبارك وتعالي نظر إلي أصحابك فوجد ابن عمك وختنك علي ابنتك فاطمة خير أصحابك، فاجعله وصيك والمؤدي عنك.

وأما الثانية والأربعون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: أبشر يا علي! فإن منزلك في الجنة مواجه منزلي، وأنت معي في الرفيق الأعلي في أعلي عليين، قلت: يا رسول الله وما أعلي علون؟ فقال: قبة من درة بيضاء لها سبعون ألف مصراع، مسكن لي ولك يا علي.

وأما الثالثة والأربعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: إن الله عزوجل رسخ حبي في قلوب المؤمنين، وكذلك رسخ حبك يا علي في قلوب المؤمنين، ورسخ بغضي وبغضك في قلوب المنافقين، فلا يحبك إلا مؤمن تقي، ولا يبغضك إلا منافق كافر.

وأما الرابعة والأربعون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: لن يبغضك من العرب إلا دعي، ولا من العجم إلا شقي، ولا من النساء إلا سلقلقية.

وأما الخامسة والأربعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله دعاني وأنا أرمد العين، فتفل في عيني وقال: اللهم اجعل حرها في بردها، وبردها في حرها، فوالله ما اشتكت عيني إلي هذه الساعة.

وأما السادسة والأربعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أمر أصحابه و عمومته بسد الأبواب وفتح بابي بأمر الله عزوجل، فليس لأحد منقبة مثل منقبتي.

وأما السابعة والأربعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أمرني في وصيته بقضاء ديونه وعداته، فقلت: يا رسول الله قد علمت أنه ليس عندي مال، فقال: سيعينك الله، فما أردت

ص: 48

أمراً من قضاء ديونه وعداته إلا يستره الله لي، حتي قضيت ديونه وعداته، وأحصيت ذلك فبلغ ثمانين ألفاً، وبقي بقية فأوصيت الحسن أن يقضيها.

وأما الثامنة والأربعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أتاني في منزلي ولم يكن طعمنا منذ ثلاثة أيام، فقال: يا علي هل عندك من شيء؟ فقلت: والذي أكرمك بالكرامة واصطفاك بالرسالة ماطعمت وزوجتي وابناي منذ ثلاثة أيام، فقال النبي صلي الله عليه وآله: يا فاطمة ادخلي البيت وانظري هل تجدين شيئاً؟ فقالت: خرجت الساعة، فقلت: يا رسول الله أدخله أنا؟ فقال: ادخل باسم الله ، فدخلت فإذا بطبق موضوع عليه رطب وجفنة من ثريد، فحملتها إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فقال: يا علي رأيت الرسول الذي حمل هذا الطعام؟ فقلت نعم، فقال: صفه لي، فقلت: من بين أحمر وأخضر وأصفر، فقال صلي الله عليه وآله: تلك خطط جناح جبرئيل عليه السلام مكللة بالدر والياقوت، فأكلنا من الثريد حتي شبعنا فما رأي الأخدش أيدينا وأصابعنا، فخصني الله عزوجل بذلك من بين أصحابه (الصحابة).

وأما التاسعة والأربعون: فإن الله تبارك و تعالي خص نبيه بالنبوة، وخصني النبي صلي الله عليه وآله بالوصية، فمن أحبني فهو سعيد يحشر في زمرة الأنبياء عليهم السلام.

وأما الخمسون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما مضي أتي جبرئيل فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فوجهني علي ناقته العضباء، فلحقته بذي الحليفة فأخذتها منه، فخصني الله عزوجل بذلك منه.

وأما الحادية والخمسون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أقامني للناس كافة يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين.

وأما الثانية والخمسون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: يا علي ألا أعلمك كلمات علمنيهن جبرئيل؟ فقلت: بلي، قال: يا رازق المقلين ويا راحم المساكين ويا أسمع السامعين ويا أبصر الناظرين ويا أرحم الراحمين، ارحمني وارزقني.

ص: 49

وأما الثالثة والخمسون: فإن الله تبارك وتعالي لن يذهب بالدنيا حتي يقوم منا القائم يقتل ولا يقبل الجزية، ويكسر الصليب والأصنام و تضع الحرب أوزارها، ويدعو إلي أخذ المال فيقسمه بالسوية ويعدل في الرعية.

وأما الرابعة والخمسون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: يا علي سيلعنك بنو

أمنية، ويرد عليهم ملك بكل لعنة ألف لعنة، فإذا قام القائم عليه السلام لعنهم أربعين سنة.

وأما الخامسة والخمسون: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله قال: سيفتتن فيك طوائف من أمتي فتقول: إن رسول الله صلي الله عليه وآله لم يخلق شيئا فيما إذا أوصي علياً، أو ليس كتاب الله ربي أفضل الأشياء بعد الله عزوجل؟ والذي بعثني بالحق لأن لم تجمعه بإتقان لم يجمع أبدا، فخني الله لا بذلك من دون الصحابة.

وأما السادسة والخمسون: فإن الله تبارك و تعالي خصني بما خص به أولياءه وأهل طاعته، وجعلني وارث محمد صلي الله عليه وآله ، فمن ساءه ساءه، ومن سره سره، وأومي بيده نحو المدينة.

وأما السابعة والخمسون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله كان في بعض الغزوات ففقد الماء، فقال لي: يا علي قم إلي هذه الصخرة وقل: أنا رسول رسول الله صلي الله عليه وآله تفجري إلي ماء، فوالله الذي أكرمه بالنبوة لقد أبلغتها الرسالة فطلع منها مثل ثدي البقر، فسال من كل ثدي منهاماء، فلما رأيت ذلك أسرعت إلي النبي د فأخبرته فقال: انطلق يا علي فخذ من الماء، فجاء القوم حتي ملأوا قربهم وأدواتهم وسقوا دوابهم وشربوا وتوضوا، فخصني الله ولا بذلك من دون الصحابة.

وأما الثامنة والخمسون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أمرني في بعض غزواته وقد نفد الماء وقال: يا علي انت بتور،(1) فأتيته به، فوضع يده اليمني ويدي معها في التور فقال: انبع، فنبع الماء من بين أصابعنا.

ص: 50


1- التور: من الأواني. (لسان العرب4 : 96، مادة «تور»

وأما التاسعة والخمسون: فإن رسول الله -صلي الله عليه وآله وجهني إلي خيبر، فلما أتيته وجدت الباب مغلقا فزعزعته شديدة فقلعته ورميت به أربعين خطوة فدخلت، فبرز إلي مرحب فحمل علي وحملت عليه وسقيت الأرض دمه، وقد كان صلي الله عليه وآله وجه رجلين من أصحابه فرجعا منكسفين .

وأما الستون: فإني قتلت عمرو بن عبدود، وكان يعد بألف رجل.

وأما الحادية والستون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: يا علي مثلك في أمتي مثل (قُل هُو اللهُ أحَدٌ) فمن أحبك بقلبه وأعانك بلسانه فكأنما قرأ ثلثي القرآن، ومن أحبك بقلبه ولسانه ونصرك بيده فكأنما قرأ القرآن كله.

وأما الثانية والستون: فإني كنت مع رسول الله صلي الله عليه وآله في جميع المواطن والحروب، و كانت رايته معي.

وأما الثالثة والستون: فإني لم أفر من الزحف قط، ولم يبارزني أحد إلا سقيت الأرض من دمه.

وأما الرابعة والستون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أتي بطير مشوي من الجنة فدعي الله عزوجل أن يدخل عليه أحب الخلق إليه، فوفقني الله تعالي للدخول عليه حتي أكلت معه من ذلك الطير.

وأما الخامسة والستون: فإني كنت أصلي في المسجد فجاء سائل فسأل وأنا راكع، فناولته خاتمي من اصبعي، فأنزل الله تبارك وتعالي (انَّما ولّيُكُم اللهُ وَرسُولُهُ والَّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكاةَ وهُم راكِعُونَ). (1)

وأما السادسة والستون: فإن الله تبارك وتعالي رد علي الشمس مرتين،ولم يردها علي أحد من أمة محمد غيري.

وأما السابعة والستون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله أمر أن أدعي بإمرة المؤمنين في حياته وبعد موته، ولم يطلق ذلك لأحد غيري.

ص: 51


1- المائدة: 55

وما الثامنة والستون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: يا علي إذا كان يوم القيامة ناديمناد من بطنان العرش: أين سيد الأنبياء؟ فأقوم، ثم ينادي: أين سيد الأوصياء؟ فتقوم، ويأتيني رضوان بمفاتيح الجنة، ويأتيني مالك بمقاليد النار، فيقولان: إن الله جل جلاله أمرنا أن ندفعها إليك، ويأمرك أن تدفعها إلي علي بن أبي طالب، فتكون يا علي قسيم الجنة والنار.

وأما التاسعة والستون: فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: لولاك ما غرف المنافقون من المؤمنين .

وأما السبعون: فإن رسول الله صلي الله عليه وآله نام ونومني وزوجتي فاطمة وابني الحسن والحسين وألقي علينا عباءة قطوانية،(فأنزل الله تبارك وتعالي إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ ويُطَهِرَكُم تَطهِيراً)(1) وقال جبرئيل عليه السلام: أنا منكم يا محمد،فكان سادسنا جبرئيل. (2)

ص: 52


1- الأحزاب: 33
2- بحار الأنوار: 31/ 432 - 446/ ح 2؛ الخصال للصدوق 2: 572 - 580/ ح 1؛ أبواب السبعين وما فوقه

من كتاب له عليه السلام إلي معاوية جواباً:

يذكر فيه مثالب معاوية ومناقب أهل البيت عليه السلام

أمَّا بَعدُ فَقَد أتَانِي كِتابُكَ تَذكُرَ فيه اصطفَاءَ الله محَمَّداًصلي الله عليه وآله لدينه وَتأييِدَهُ إيّاهُ لمَن أيدَهُ مَن أصحَابِه فَلقَد خبَّاَ لنَا الدَّهرُ مِنكَ عَجَبا إذ طَفقتَ تُخبَرُنَا بِبَلاء اللهِ تَعاليَ عِندَنا و نعمتِهِ عَلَينا في نَبينا فَكنتَ في ذلكَ كَناقِل التَّمرِ إلي هَجَرَ أو دَاعِي مُسَدّده إلي النّضالَ وَزَعمتَ أن أفضَلُ الناس فِي الاسلامِ فُلانٌ وفُلان فَذكَرتَ أمراً إن تمَّ اعتَزلكَ كُلُهُ وإن نَقَصَ لَم يَلحَقكَ ثَلمُهُ وما أنتَ والفاضِلَ والمَفضُولَ والسَّائسَ والمَسُوسَ وما لِلطُلُقاء والتَمييزَ بَينَ المُهاجِرينَ الأوَّلينَ ترتيبَ دَرَجاتِهم وتَعريفَ طبَقاتَهم هيهاتَ لَقَد حَنَّ قدحٌ لَيسَ مِنهَا وطَفقَ يَحكُمُ فيهَا مَن عَليهِ الحُكمُ لَها ألاتربَعُ أيُّها الإنسانُ عَلَي ظلعكَ وتعرِفُ قُصُورَ ذرعِكَ ويتاخَّرُ حَيثُ أځَّرَكَ القدرُ فما عليكَ غَلبةُ المَغلوب ولا ظَفَرُ الظافِرِ وانكَ لَذهَّابٌ في التبه ورواغٌ عَنِ القَصدِ ألا تَرَي غَيرَ مُخبِرٍ لَكَ وَلَكن بنعمة الله اُحَدَثُّ أن قَوماً استَشهدُوا فِي سَبيلِ الله تَعالي مِنَ المُهاجِرينَ والانصارِ ولَكُل فَضلٌ حتَّي إذا استشهد شَهيدا قيل سَيّدُ الشُهدَاء وخصَّه رسُولُ اللهِ صلي الله عليه وآله سَبعينَ تَكبيرةً عِندَ صَلاتِه عليه أوَ لَاَريَ أنَّ قَوماً قُطِعَت أيَديهِم في سَبيلِ الله وَلَكل فضلٌ حَتّي إذا فُعِل بِوأحدِنا ما فُعل بِواحدهم قيل الطيارُ في الجَّتةَ و ذو الجناحَينِ ولولا ما نَهي اللهُ عَنهُ مَن َتزكية المَرء نفسَهُ لَذكَرَ ذاكرٌ فَضائِلَ جَمَّه تَعرفُهَا قَلوبُ المُؤمِنينَ ولا تَمُجُّها آذانُ السّامِعينَ). (1) إلي آخر الكتاب.

ص: 53


1- شرح نهج البلاغة 15: 181. ومن الطبعة الأولي ج3/ 445

الشرح:

قال العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (علي والقرآن):

لا يستطيع الإنسان _ أي إنسان أن يتجرد عن ذاته وانطباعته، وأن پسند معلوماته وتصوراته إلي الواقع بعيدة عن شخصه ومعطياته مهما حاول واجتهد، إلا إذا استطاع أن يوجد علمأ بدون عالم، ورسمأ بدون رسام، وهو مستحيل كاستحالة وجود القيام بلا قائم، والكتابة بلا كاتب».

وعلي هذا فإذا حصلت لنا المعرفة بشيء وتحدثنا عنه فإنما نتحدث عن وعينا وعن الصورة التي تمثلناها لذلك الشيء، وقد تأتي مطابقة وقد تكون مخالفة، حيث لا تلازم بين الواقع والشعور الذي يعكسه، فالواقع مستقل عن الفكر لا يستدعي معرفة الواقع.

وهذا المبدأ يطرد في الجميع إلا في الأنبياء الذين تلقوا الوحي من الله، وإلا في الأولياء الذين أحاطوا علما بكتاب الله وأخذوا عن الأنبياء بلا واسطة، كالإمام علي عليه السلام، فإن علمه عين الواقع لا ينفك عنه بحال، ومن هنا قال: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناه حيث لا جديد يوجب الزيادة.

فالذي يحج إلي مكة المكرمة لا يزداد معرفة بأصل وجودها بعد أن يصل إليها، وهكذا علوم الإمام تمثل الحقيقة تمثيلا صحيحة بعيدة كل البعد عن الخطأ والإلتباس.

والانسان الذي يعتمد كتاب الله وماتواتر عن النبي صلي الله عليه وآله فعلمه عن الحق واليقين، وعلي هذا الأساس نتكلم في هذا البحث عن صفات الإمام وخصائصه وفضائله، فما دل عليه الكتاب والحديث المروي بطريق الشيعة والسنة أثبتناه، ولا شأن لنا بغيره.

علي أخوالرسول:

قال ابن حجر في كتاب الصواعق المحرقة (ص 122 طبعة سنة 1375) قال النبي صلي الله عليه وآله: «خير أخوتي علي، وخير أعمامي حمزة».وفي ص 120 منه أنه قال لعلي: «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

ص: 54

قال الثعلبي في العرائس (ص 149): قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار: إن الله أهبط تابوتة علي آدم عليه السلام من الجنة حين أهبط إلي الأرض فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرسل منهم، وآخر البيوت بيت محمد صلي الله عليه وآله من ياقوتة حمراء (إلي أن قال): وبين يديه علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) شاهر سيفه علي عاتقه، ومكتوب علي جبهته «هذا أخوه وابن عمه المؤيد بالنصر من عند الله ».

وقال محب الدين الطبري في ذخائر العقبي (ص 92)، عن أنس بن مالك قال: صعد رسول الله صلي الله عليه وآله و المنبر فذكر قولا كثيرة ثم قال: أين علي بن أبي طالب؟ فوثب إليه فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فضمه إلي صدره وقبل بين عينيه وقال بأعلي صوته: معاشر المسلمين هذا أخي وابن عمي وختني، هذا لحمي ودمي وشعري، هذا أبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، هذا مفرج الكروب عتي، هذا أسد الله وسيفه في أرضه علي أعدائه، علي مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين، والله بريء منه وأنا منه بريء ».

وذكر البيهقي في كتابه «المحاسن والمساوي»(جزء أول ص 35) عن الزهري في حديث حول حرب الجمل: فقالت عائشة لرجل من ضبة وهو آخذ بخطام جملها أو بعيرها: أين تري علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ؟ قال: ها هو ذا واقف رافع يده إلي السماء، فنظرت فقالت: ما أشبهه بأخيه، قال الضبي: ومن أخوه ؟ قالت: رسول الله صلي الله عليه وآله، قال: فلا أراني أقاتل رجلا هو أخو رسول الله صلي الله عليه وآله، فنبذ خطام راحلتها من يده ومال إليه».

آيات في حق علي عليه السلام:

وفي مسند أحمد بن حنبل، والرياض النضرة لمحب الدين الطبري (ج 2 ص 209)، وتاريخ بن عساكر (مج 6 ص 201)، و تذكرة الخواص لسبط بن

ص: 55

الجوزي ص 14، وفي كنز العمال (مج 6 ص 390)، وفي كفاية الشنقيطي (ص 35)، هؤلاء كلهم رووا عن زيد بن أبي أوفي قال: لما آخي النبي صلي الله عليه وآله بين أصحابه، وآخي بين عمر وأبي بكر (إلي أن قال): فقال علي عليه السلام: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك مافعلت غيري، فإن كان هذا من سخط علي فلك العتبي والكرامة، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسي غير أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي. قال: وما أرث منك يا رسول الله ؟ قال: ما ورث الأنبياء من قبلي. قال: وما ورث الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي، ثم تلا رسول الله صلي الله عليه وآله إخواناً عَلي سُرُرٍ مُتَقابِلينَ. (1)

إلي كثير وكثير من هذه الأحاديث، ولو ذهبنا إلي جمع شوارد هذا الباب لجاء منه كتاب ضخم.

هذه الأخوة بالمعني الخاص الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام ولا يدعيها غيره إلا كذاب كما ورد في الحديث الذي جاء في مناقب أحمد، وتاريخ ابن عساكر، و كفاية الكنجي، وتذكرة سبط ابن الجوزي وصححه ورد علي جده في تضعيفه سنده، وفي المرقاة في شرح المشكاة (ص 569) هؤلاء كلهم رووا عن جابر بن عبد الله وسعد بن المسيب، قالا: إن رسول الله صلي الله عليه وآله آخي بين أصحابه، فبقي رسول الله صلي الله عليه وآله مد وأبو بكر وعمر وعلي، فآخي بين أبي بكر وعمر، وقال لعلي: أنت أخي وأنا أخوك، فإن ناكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله، لايدعيها بعدك إلاكذاب ».

ص: 56


1- الحجر: 47

علي عليه السلام هو الشاهد:

علي هو الشاهد في الآية 17 من سورة هود أفَمَن كانَ عَلي بَيِنَةٍ مِن رَبّه ويَتلُوُه شاهِدٌ مِنهُ.(1)

قال الرازي: في تفسير الشاهد وجوه: ثالثها أنه علي، والمراد تشريفه بأنه بعض من محمد. وقال السيوطي في الدر المنثور،(2) والطبري في تفسيره:(3) رسول الله صلي الله عليه وآله علي بينة من ربه وعلي شاهد منه ».

علي صاحب النجوي في قوله تعالي: يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا إذا ناجَيتُمُ الرَّسولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَي نَجواكُم صَدَقةً ذلِكَ خَيرٌ لَكُم وَأَطهَرُ (4)

أجمع المفسرون الشيعة والسنة علي أن هذه الآية لم يعمل بها أحد إلا الإمام علي، وذلك أن المسلمين أكثروا السؤال علي الرسول حتي شقوا عليه، فأمرهم الله بهذه الآية أن يتصدقوا قبل أن يسألوا، فأحجموا إلا الإمام تصدق وسأل، ثم سخت الآية، وقال الإمام عليه السلام: كنت إذا سألت النبي صلي الله عليه وآله أجابني، وإذا سكت ابتدأني. (5)

علي هو سابق الأمة في قوله تعالي: وَالسَّابِقُونَ السَّابقُونَ أولئِكَ المُقَربونَ. (6)

قال الفضل بن روزبهان - وهو من كبار العلماء عند السنة في كتاب إبطال الباطل جاء في رواية أهل السنة: سباق الأمم ثلاثة: مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، ولا شك أن علياً عليه السلام سابق في الإسلام وصاحب السابقة والفضائل التي لا تخفة.

ص: 57


1- هود: 17
2- تفسير الدر المنشور 3: 324
3- تفسير الطبري 12: 22.
4- المجادلة: 13
5- 5) السنن الكبري للنسائي 5: 142/ ح 8504؛ سنن الترمذي 2:300 - 301، ح 3805؛ المصنف لابن أبي شيبة 7: 495 ح 6؛ المعجم الكبير للطبراني 6: 213
6- الواقعة: 10

وجاء في الجمع بين الصحاح الستة أن طلحة بن شيبة قال مفتخرة: أنا أولي بالبيت لأن المفتاح بيدي، وقال العباس: أنا أولي أنا صاحب السقاية، فقال علي: أنا أول الناس إسلاماً وأكثرهم جهاداً، فنزلت هذه الآية لبيان أفضلية الإمام علي الجميع: أجَعَلتُم سِقايَة الحاجِّ وعِمارَةَ المَسجدِ الحرامِ كَمَن آمَنَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وجاهَدَ فِي سَبيلِ اللهِ لايَستُووُنَ عندَ اللهِ واللهُ لا يَهدِي القَومَ الظالَمِينَ . (1)

علي عليه السلام والوليد:

علي هو المؤمن في قول الله عزوجل : اَفَمَن كَانَ مُؤمناً كَمن كان فاسِقاً لايَستَووُنَ . (2)

أخرج الطبري في تفسيره (ج 21 ص 22) بإسناده عن عطاء بن يسار، قال: كان بين الوليد وعلي عليه السلام كلام، فقال الوليد: أنا أبسط منك لسانا وأحد منك سنان وارد منك للكتيبة، فقال علي: اسكت فإنك فاسق، فأنزل الله فيهما: َفَمَن كَانَ مُؤمناً كَمن كان فاسِقاً لايَستَووُنَ .

وفي الأغاني (ج 4 ص 185) و تفسير الخازن (مج3 ص 470): كان بين علي والوليد تنازع و كلام في شيء، فقال الوليد لعلي: اسكت فإنك صبي وأنا شيخ، والله إني أبسط منك لسان وأحد منك سنانا وأجمع منك جنانأ وأملأ منك حشوة في الكتيبة، فقال له علي: أسكت فإنك فاسق، فأنزل الله هذه الآية.

وأخرجه محب الدين الطبري في الرياض النضرة (ج 3 ص 206) عن ابن عباس وقتادة من طريق الحافظين السلفي والواحدي، وفي ذخائر العقبي (ص 88) والخوارزمي في المناقب (ص 188) والكنجي في الكفاية (ص 55) و النيشابوري في تفسيره، وابن كثير في تفسيره (مج 3 ص 462) قال: ذكر عطاء بن يسار والسدي وغيرهما أنها نزلت في علي ابن أبي طالب وعقبة، وذكرها غير هؤلاء من الأساطين.

ص: 58


1- التوبة: 20
2- السجدة: 18

قال حسان بن ثابت في ذلك علي ما ذكر أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرته (ص 115) والكنجي الشافعي في الكفاية (ص 50) وابن طلحة الشافعي فيمطالب السؤل (ص 20) - وقال: فشت هذه الأبيات من قول حسان وتناقلها سمع عن سمع ولسان عن لسان:

أنزل الله والكتاب عزيز*** في علي وفي الوليد قرانا

فتبوا الوليد من ذاك فسقاً *** وعلي مبؤاً إيمانا

ليس من كان مؤمناً عرف الله *** كمن كان فاسقاً خوانا

فعلي يلقي لدي الله عزاً*** ووليد يلقي هناك هوانا

سوف يجزي الوليد بيزياً وناراً *** وعلي لا شك يجزي جنانا

رواها ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج (مج 2 ص 103 ط الاولي).

علي هو الأذن الواعية في قوله عزوجل: (وتَعِيَها أذُنُ واعيةٌ) (الحاقة: آية 12).

قال الفضل بن روزبهان في كتاب إبطال الباطل: روي المفسرون _ السنة _ أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلي الله عليه وآله لعلي عليه السلام: سألت الله أن يجعلها أذنك. قال علي: فما نسيت بعد هذا شيئاً، وهذا يدل علي علمه وحفظه وفضيلته».

وفي كتاب ذخائر العقبي للمحب الطبري (ص 61 طبعة سنة 1356 ه) قال الرسول صلي الله عليه وآله للإمام علي: يا علي ما سألت الله عزوجل شيئاً من الخير إلا سألت لك مثله، ولا استعذت الله من الشر إلا استعذت لك مثله.

علي وقول الله عزوجل: (هُوَ الَّذي أيَّدَكَ بِنَصرِهِ وبِالمؤمنينَ) _ (الأنفال: آية 63).

أخرج الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن مسلم الشافعي، أخبرنا أبو القاسم بن العلاوأبو بكر محمد بن عمر بن سليمان العريني النصيبي، حدثنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المهدي، حدثنا عباس بن بكار، حدثنا خالد بن أبي عمر الأسدي، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: مكتوب علي العرش «لا إله إلا الله وحدي لا شريك

ص: 59

لي، ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلي»وذلك قوله عزوجل في كتابه الكريم: (هُو الّذِي أيَدَكَ بِنَصرِهِ وبالمُؤمنينَ) (1) علي وحده. (2)

ورواه بإسناده الكنجي الشافعي في كفايته (ص 110) ثم قال: قلت: ذكره ابن جرير في تفسيره، وابن عساكر في تاريخه في ترجمة علي عليه السلام، ورواه الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور (مج 3 ص 199) نقلاً عن ابن عساكر، والقندوزي في ينابيعه (ص 94) نقلاً عن الحافظ أبي نعيم بإسناده عن أبي هريرة.

وصدر الحديث أخرجه جمع من الحفاظ، منهم الخطيب البغدادي في تاريخه (مج 11 ص 173) بإسناده عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلي الله عليه وآله : لما عرج بي رأيت علي ساق العرش مكتوباً «لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي نصرته بعلي».

اقتران اسم علي عليه السلام باسم رسول الله صلي الله عليه وآله:

وروي السيد الهمداني في مودة القربي، في المودة الثامنة عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إني رأيت اسمك مقروناً باسمي في أربعة مواطن: لما بلغت بيت المقدس في معراجي إلي السماء وجدت علي صخرة بها «لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي وزيره، ولما انتهيت إلي سدرة المنتهي وجدت عليها «إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، محمد صفوتي من خلقي، أيدته بعلي وزيره ونصرته به»، ولما انتهيت إلي عرش رب العالمين فوجدت مكتوباً علي قائمه «إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد حبيبي من خلقي، أيدته بعلي وزيره ونصرته به، فلما وصلت الجنة وجدت مكتوباً علي باب الجنة «لا إله إلا أنا ومحمد حبيبي من خلقي أيدته بعلي وزيره ونصرته به».

علي في قوله تعالي: (يا أيُّها النَّبيُّ حَسبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمنينَ) (الأنفال: آية 64).

ص: 60


1- الأنفال: 62
2- تاريخ ابن عساكر 2: 353/ ح 864 و 865 ط الثانية

أخرج الحافظ أبو نعيم في فضائل الصحابة بإستاده أنها نزلت في علي وهو المعني بقوله: (المُؤمِنينَ).

علي في قوله تعالي: (مِنَ المُؤمِنينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَليهِ فَمِنهُم مَن قَضي نَحبَهُ ومِنهُم مَن يَنتَظِرُ وما بَدَّلوُاتَبديلاً ) (الأحزاب آية 23).

أخرج الخطيب الخوارزمي في المناقب (ص 188)، وصدر الكنجي في الكفاية ص 122 نقلاً عن ابن جرير وغيره من المفسرين، أنه نزل قوله: (فَمِنهُم مَن قَضي نَحبَهُ) في حمزة وأصحابه كانوا عاهدوا الله تعالي لا يولون الأدبار، فجاهدوا مقبلين حتي قتلوا، (وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ) علي بن أبي طالب مضي علي الجهاد ولم يبدل ولم يغير الآثار.

وفي الصواعق لابن حجر (ص 80)، سئل علي عليه السلام وهو علي المنبر بالكوفة عن قوله تعالي: (مِنَ المُؤمنينَ رِجالٌ صَدقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عليهِ) الآية فقال: اللهم غفراً، هذه الآية نزلت في وفي عمي حمزة وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فأما عبيدة فقضي نحبه شهيداً يوم بدر، وحمزة قضي نحبه شهيداً يوم أحد، وأما أنا فأنتظر أشقاها يخضب هذه من هذه _ وأشار إلي الحيته ورأسه _ عهد عهده إلي حبيبي أبو القاسم محمد صلي الله عليه وآله.

تصدق علي عليه السلام بالخاتم:

علي في قوله تعالي:( إنّما وَليُكُمُ اللهُ ورَسُولُه والَّذينَ آمنُوا الّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزّكاةَ وهُم راكِعُونَ) (المائدة: 55).

أخرج أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: أما إني صليت مع رسول الله صلي الله عليه وآله يوماً من الأيام الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يديه إلي السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد نبيك محمد صلي الله عليه وآله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي رضي الله عنه في

ص: 61

الصلاة راكعاً، فأومأ إليه بنصره اليمني وفيه خاتم، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره وذلك بمرأي من النبي صلي الله عليه وآله، وهو في المسجد، فرفع رسول الله صلي الله عليه وآله طرفه إلي السماء وقال: اللهم إن أخي موسي سألك فقال: (ربّ اشرَح لي صَدري وَيَسِرلي أمري وَاحلُل عُقدَةً مِن لِسانِي يَفقَهُوا قَولِي وَاجعَل لي وَزيراً مِن أَهلي هارُونَ أخِي اشدُد بِه أزرِي وَأَشرِكةُ فِي أَمرِي) فأنزلت عليه قرآناً (سَنَشُدُ عَضُدَك بِأخِيكَ ونَجعَل لَكُما سُلطاناً فَلا يَصلُون إليكُما) اللهم وإني محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به ظهري، قال أبوذر رضي الله عنه : فما استم دعاؤه حتي نزل جبرئيل عليه السلام من عند الله عزوجل و قال: يا محمد اقرأ (إنّما وَليُكُمُ اللهُ ورسُولُهُ والَّذينَ آمَنوُا ) الآية. (1)

وفي تصدق علي عليه السلام بخاتمه وهو راكع يقول حسان بن ثابت:

من ذا بخاتمه تصدق راكعاً *** وأسرها في نفسه إسرارا

من كان بات علي فراش محمدٍ *** ومحمد أسري يؤم الغارا

من كان في القرآن مي مؤمناً *** في تسع آياتٍ لين غزارا

ذكرها أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرته (ص 10)والكنجي في الكفاية (ص 123).

أخرج هذه الآثار ونزول الآية فيها جمع كثير من أئمة التفسير والحديث، منهم: الطبري في تفسيره (ج 6 ص 165) من طريق ابن عباس وعتبة بن أبي حكيم ومجاهد، والرازي في تفسيره (ج3 ص 431)، والخازن في تفسيره (مج 1 ص 496)، وأبو البركات في تفسيره، والنيشابوري في تفسيره (3 ص 461) و كثير من الحفاظ ورجال الحديث.

ص: 62


1- تفسير الثعلبي فصول المهمة لابن الصباغ 123، ف 1

مفاخرة علي عليه السلام والعباس وشيبة:

علي في قوله تعالي: (أجَعَلتُم سقايَةَ الحاجِ وَعَمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ باللهِ واليَومَ الآخِرِ وجاهَدَ في سَبيلِ اللهِ لايستوُونَ عندَ اللهِ). (1)

أخرج الطبري في تفسيره (ج 10 ص 59) بإسناده عن أنس أنه قال: قعد العباس وشيبة (ابن عثمان) صاحب البيت يفتخران، فقال له العباس: أنا أشرف منك، أنا عمرسول الله ووصي أبيه وساقي الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك، أنا أمين الله علي بيته وخازنه؟ أفلا ائتمنك كما ائتمني؟ فهما علي ذلك يتشاجران، حتي أشرف عليهما علي، فقال له العباس: إن شيبة فاخرني فزعم أنه أشرف مني، فقال: فما قلت له يا عماه؟ قال: قلت أنا عم رسول الله ووصي أبيه وساقي الحجيج، أنا أشرف منك، فقال لشيبة: ماذا قلت أنت يا شيبة؟ قال: قلت: أنا أشرف منك، أنا أمين الله علي بيته وخازنه، أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟ قال: فقال لهما: اجعلاني معكما فخراً، قالا: نعم، قال: فأنا أشرف منكما، أنا أول من آمن بالوعيد من ذكور هذه الأمة، وهاجر وجاهد، وانطلقوا ثلاثتهم إلي النبي صلي الله عليه وآله فأخبر كل واحد منهم بمفخره، فما أجابهم النبي بشيء، فانصرفوا عنه، فنزل جبرئيل عليه السلام بالوحي بعد أيام فيهم، فأرسل النبي صلي الله عليه وآله إليهم ثلاثتهم حتي أتوه، فقرأ عليهم( أجَعَلتُم سقايَةَ الحاجِ وَعَمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ باللهِ واليَومَ الآخِرِ) الاية.

وحديث هذه المفاخرة ونزول الآية فيها أخرجه كثير من الحفاظ والعلماء مجملاً ومفصلاً، منهم: القرطبي في تفسيره والرازي في تفسيره والخازن في تفسيره و غير هؤلاء .

علي في قوله تعالي: (إنَّ الّذينَ آمَنوُا وَعَمِلُوا الصَّالحاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحمنُ وُدّا).(2)

أخرج أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده عن البراء بن عازب قال:

ص: 63


1- التوبة: 19.
2- مريم: 96

قال رسول الله صلي الله عليه وآله لعلي عليه السلام: قل اللهم اجعل لي عنك عهداً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزل الله هذه الآية.(1)

ورواه أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرته (ص 10) وقال: وروي عن ابن عباس أن هذا الود جعله الله العلي في قلوب المؤمنين. وأخرج الخطيب الخوارزمي في مناقبه (ص 188) حديث ابن عباس وبعده بالإسناد عن علي عليه السلام أنه قال: لقيني رجل فقال: يا أبا الحسن والله إني أحبك في الله، فرجعت إلي رسول الله صلي الله عليه وآله، فأخبرته بقول الرجل، فقال: لعلك يا علي اصطنعت إليه معروفاً، قال: فقلت: والله ما اصطنعت إليه معروفاً، فقال رسول الله: الحمد لله الذي جعل قلوب المؤمنين تتوق إليك بالمودة، فنزل قوله: (إنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ سَيجعَل لَهُم الرَّحمنُ ودّاً). وأخرجه صدر الحفاظ الكنجي في الكفاية (ص 121)، وأخرجه محب الدين الطبري في رياضه (ج 2 ص 207) أنه لا يبقي مؤمن إلا وفي قلبه ود العلي وأهل بيته.

علي عليه السلام وشيعته خير البرية :

علي في قوله تعالي: (إنَّ الَّذين آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحاتِ أولئكَ هُم خَيرُ البَريَّة).(2)

أخرج الطبري في تفسيره (ج 3 ص 146) باسناده عن أبي الجارود، عن محمد بن علي في قوله عزوجل (أولِئكَ هُم خَيرُ البَرِيَة) فقال: قال النبي صلي الله عليه وآله: أنت يا علي وشيعتك.

وروي الخوارزمي في مناقبه (ص 66) عن جابر قال: كنا عند النبي صلي الله عليه وآله فأقبل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: قد أتاكم أخي، ثم التفت إلي الكعبة فضربها بيده ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة، إنه أولكم إيماناً معي،وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله،

ص: 64


1- تفسير الثعلبي؛ وعنه: مناقب آل أبي طالب 2: 289؛ العمدة لابن البطريق: 289/ ح 471
2- البينة: 7

وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية. قال: وفي ذلك الوقت نزلت فيه (إنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحاتِ أولئِكَ هُم خَيرُ البَريَّةِ)، وكان أصحاب النبي صلي الله عليه وآله: إذا أقبل علي قالوا: قد جاء خير البرية.

سأل سائل بعذاب واقع:

علي في قوله تعالي: (سَألَ ساِئلٌ بعَذابٍ واقِعٍ لِلكافِرينَ لَيسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِيِ المَعارِجِ) ، - سورة المعارج - أذعنت به الشيعة، وجاء مثبتاً في كتب التفسير والحديث لمن لا يستهان بهم من علماء أهل السنة، ودونك منصوصها: كما جاء في المجلد الأول من الغدير:

الحافظ أبو عبيد الهراتي المتوفي بمكة سنة 223، روي في تفسيره غريب القرآن قال: لما بلغ رسول الله صلي الله عليه وآله بغدير خم مابلغ وشاع ذلك في البلاد، أتي جابر بن النضر بن حارث بن كلدة العبدي، وفي رواية الثعلبي التي أصفق العلماء علي نقلها سماه الحارث بن النعماء الفهري، ولا يبعد صحة ما في هذه الرواية من (جابر بن النضر) حيث أن جابراً قتل أمير المؤمنين عليه السلام والده النضر صبراً بأمر من رسول الله صلي الله عليه وآله و لماأسر يوم بدر الكبري.

الغرض، جاء فقال: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتي رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولي جابر يريد راحلته وهو: يقول اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً، فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتي رماه الله بحجر فسقط علي هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالي: (سَألَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) الآية.

وروي هذه القصة أيضاً أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفي

ص: 65

351 في تفسيره شفاء الصدور، وأبو إسحاق الثعلبي النيشابوري المتوفي 427 في تفسيره الكشف والبيان، والحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب دعاة الهداة إلي أداء حق الموالاة، وأبو بكر يحيي القطربي المتوفي 567 في تفسيره في سورة المعارج، وشمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفي 654 في تذكرته (ص 19)، والشيخ إبراهيم اليمني الوصابي الشافعي في كتابه الإكتفاء في فضل الأربعةالخلفاء. وشيخ الإسلام الحمويني المتوفي 722 في كتابه فرائد السمطين في الباب الثالث عشر، والشيخ محمد الزرندي الحنفي في كتابيه معارج الوصول ودرر السمطين، إلي كثير وكثير من فطاحل علماء السنة. انتهي نقلا عن كتاب الغدير.

وهذه الآيات جزو من كل، وقليل من كثير، فقد جاء في كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر نقلاً عن ابن عباس (ص 125 طبعة 1375)«أن ما من آية في القرآن إلا وعلي أميرها وشريفها، وكذا ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر علياً إلا بخير، وإن ابن عساكر قال: ما نزل في أحد من كتاب الله تعالي ما نزل في علي، ولقد بلغت الآيات فيه ثلاثمائة آية»

ولو فرضنا أنه لم تنزل آية واحدة بالخصوص في علي، فإن كل ما في القرآن من ثناء علي عامل بخير من أي نوع كان فإنه يشمل علياً ويدل عليه صراحة، لأنه السباق في جميع المكرمات.

ولقد أثار دهشتي ظاهرة فريدة في بابها، فاجأتني وأنا أبحث وأنقب في مصادر هذه الصفات، وهي أن ابن حجر صاحب الصواعق وكثير غيره من شيوخ السنة مع اعترافهم بفضائل علي وإعلانها فضيلة فضيلة ومنقبة منقبة يتحاملون علي شيعة الإمام بما فيهم الإمامية ويعدونهم من أهل البدع والزيغ، ونقدم مثالاً واحداً من هذا التحامل، لأن المقام لا يتسع للمزيد.

ص: 66

قال الفضل بن روزبهان في (كتاب إبطال الباطل): كل ما ذكره الشيعة من الفضائل والمناقب لمولانا علي بن أبي طالب فنحن لا ننكره، لأن فضائل أهل البيت لا تحصي ولا ينكرها إلا منكر نور الشمس والقمر. ولكنه في نفس الكتاب المذكور قال: إن كتب الشيعة من موضوعات يهودي كان يريد تخريب بناء الإسلام، فعملها وجعلها وديعة عند الإمام جعفر الصادق، فلما توقي حسب الناس أنها كلامه...

كنا نظن أن مبدأ (إكذب، واكذب، ثم اكذب فلا بد أن تجد من يصدقك) مبدأ حديث من مخترعات الغرب والاستعمار، وإذا به قديم، وربما نقله الغربيون من الشرق عن ابن روزبهان وأمثاله فيما نقلوا من فلسفات وحضارات..

إن الشيعة اتصلوا بالإمام جعفر الصادق عليه السلام مباشرة، ونقلوا عنه مشافهة، وكل راو من رواتهم يقول: سألت الإمام وحدثني الإمام، ولم يدع واحد من الشيعة أنه وجد عند الصادق بعد وفاته كتاباً وأوراقاً له ولا لغيره، وهذه كتب الشيعة في الحديث والفقه والتفسير بمنظر لكل بصير.

قال مرترزقة هذا القول منذ مئات السنين لغاية الكبد والدس، ونقله أحمد أمين وأضرابه جهلاً أو تحاملاً وهم يعيشون في عصر الفضاء والسماء.

وغريبة الغرائب أن كل شيء في الدنيا تغير إلا الكذب علي الشيعة والافتراء علي مذهب التشيع، منذ زمن مضي وانقضي كتب شيخ سوء أو فقيه شر أن الشيعة بما فيهم الإمامية - يغالون، وأنهم أخذوا دينهم عن ابن سبأ اليهودي، رمي هذا المفتري رميته ولكن بعد أن شق طريق الضلال والتضليل.

لقد اشتري السفاكون من أرباب الأقلام دينهم وضمائرهم ليتقولوا علي الأبرياء الأقاويل، وجاء المتأخر فرأي الكلمة المطبوعة ل(السلف الصالح) فقدسها وركع لها وسجد دون تمحيص وتحقيق، وأخذ يرددها فكرة وأسلوباً، بل نقلها بالحرف الواحد كأنها وحي منزل.

ص: 67

إن العالم المنصف إذا تكلم عماتدين به طائفة من الطوائف اعتمد علي الكتب المعتبرة عنها وماثبت من مذهبها، أما النقل عن خصومها وبخاصة خصوم العقيدة والمذهب، فهو تماماً كالحكم علي المدعي عليه بمجرد إقامة الدعوي وقبل الاستماع إلي الشهود والبينات.

ومن الصدف أتي كلما قرأت افتراء علي الشيعة تذكرت كلمة لسيبويه: اجتمع هذا النحوي الشهير بنفر من نحاة الكوفة فناظروه في مسائل نحوية وطال بينه وبينهم الجدال والنقاش ولكن علي غير طائل، فسأله سائل عن سبب عجزه عن إقناعهم فقال: أخطئهم علي مذهب العرب، ويخطئوني علي مذهبهم، أي أنه تكلم هو علي مقاييس منطقية و تكلموا علي غير أساس.

ص: 68

خطبته عليه السلام المعروفة بخطبة اللؤلؤة :

فيها يتعرض لحوادث المستقبل ويذكر فيها الإمام المهدي

علي بن الحسين بن محمد بن مندة، قال: حدثنا محمد بن الحسين المعروف بأبي الحكم، قال: حدثنا إسماعيل بن موسي بن إبراهيم، قال: حدثني سليمان بن حبيب، قال: شريك عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس، قال: خطبنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام علي منبر الكوفة خطبة اللؤلؤة، فقال فيما قال في آخرها:

(ألا وإني ظاعن عن قريب ومنطلق إلي المغيب، فارتقبوا الفتنة الأموية والمملكة الكسروية، وإماتة ما أحياه الله، وإحياء ما أماته الله، واتخذوا صوامعكم بيوتكم، وعضوا علي مثل حجر الغضا، واذكروا الله كثيراً ، فذكره أكبر لوكنتم تعلمون.

ثم قال: تبني مدينة يقال لها الزوراء بين دجلة ودجيل والفرات، فلو رأيتموها مشيدة بالجص والآجر، مزخرفة بالذهب والفضة واللازورد المستسقي والمرمر والرخام وأبواب العاج والأبنوس والخيم والقباب والستارات، وقد عليت السلاح والعرعر والصنوبر والشب، وشيدت بالقصور، وتوالت عليها ملوك بني الشيصبان أربعة وعشرون ملكاً علي عدد سني الملك، فيهم السفاح والمقلاص، والجموح والجذوع، والمظفر والمؤنث والمزار والكبش والمهور، والعيار والمصطلم والمستصعب والعلام والرهباني والخليع والسيار والمترف والحديد والأكتب والمسرف والأكلب والوسيم والصيلام والعينوق، وتعمل القبة الغبراء ذات القلاة الحمراء، وفي عقبها قائم الحق يسفر عن وجهه بين أجنحة الأقاليم كالقمر المضيء بين الكواكب الدرية.

ألا وإن لخروجه علامات عشرة: أولها طلوع الكوكب ذي الذنب ويقارب منالحادي، وقع فيه هرج و مرج وشغب، وتلك علامات الحصب، ومن العلامة إلي العلامة

ص: 69

عجب، فإذا انقضت العلامات العشرة إذ ذاك يظهر منا القمر الأزهر وتمت كلمة الاخلاص لله علي التوحيد...) إلي آخر الخطبة.

عن كفاية الأثر (ص 316) والبحار (مج9 ص 157) وفي الثالث منه أيضاً (ص 171).

ضبط الألفاظ الغريبة:

جاء في تاج العروس أن (الشيصبان) اسم للشيطان،(1) والمشهور أن عدد خلفاء بني العباس كان سبعة وثلاثين، ولعله عليه السلام إنما عد منهم من استقر ملكه وامتد، لا من تزلزل سلطانه وذهب ملكه سريعاً: كالأمين، والمنتصر، والمستعين، والمعتز وأمثالهم.

( والكديد) أما كناية عن المعتر فالمراد نسبة أعوام عمره، فإن عمره حين مات كان أربعاً وعشرين سنة، فيكون ما ذكره عليه السلام عند العد علي خلاف الترتيب، أو كناية عن المقتدر، ويكون بنسبة مدة خلافته و كانت أربعاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وثمانية عشر يوماً، وكان ثامن عشرهم، وفي العد أيضاً العديد هو الثامن عشر.

الشرح:

من الجلي البين الذي هو بمطلع الأكمة عند الناس أن العباسيين كانت سير تهم معاكسة للدين الإسلامي، وأفعالهم مخالفة لما جاء به محمد صلي الله عليه وآله، من تغيير الأحكام الإسلامية ورفض السنن وقتل النفوس الزكية من أولاد محمد وعترته الأطهار وغيرهم من أبرار الناس وأخيارهم.

فكم من عجنت طينته بماء الوحي وغرس بماء الرسالة حتي فاح منهما مسك الهدي وعنبر التقي، جعلوا جسمه دريئة للسيوف، وحشاه طعمة للسم والحتوف.

ص: 70


1- تاج العروس 1: 316

جرائم بني العباس:

إليك نموذجاً مصغراً لما فعلته هذه الدولة وما ارتكبته من الجرائم الفظيعة منذ بدء حكومتها إلي انتهائها، فهذا أبو العباس السفاح (لقب بهذا اللقب لكثرة سفكه الدماء) لما تربع علي دست الخلافة وجلس علي منصة الحكم وانقادت إليه أزمة الأمور، قال المقريزي في النزاع والتخاصم: فكان أول ما فعله أن ولي ابن أخيه إبراهيم بن يحيي بن محمد بن علي بن عبد الله سنة ثلاث وثلاثين ومائة الموصل، فدخلها في اثني عشر ألفاً، فأول ما بدأ به أن دعا أهل الموصل فقتل منهم اثني عشر رجلاً، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح، فنادي: من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون إليه، فأقام الرجال علي أبواب الجامع وقتل الناس فيه قتلاً ذريعاً تجاوز فيه الحد وأسرف في المقدار، فيقال أنه قتل أحد عشر ألف إنسان من له خاتم، سوي من ليس في يده خاتموهم عدد كثير، بحيث لم ينج من رجال الموصل - مع كثرتهم - إلآ نحو أربعماءة رجل صدموا الجند فأفرجوا لهم، فلما كان الليل سمع صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن، فأمر من الغد بقتلهن، فأقام رجاله ثلاثة أيام يقتلون النساء والصبيان، و كان في عسكره قائد معه أربعة آلاف عبد زنجي فأخذوا النساء قهراً، فلما فرغ إبراهيم من قتل الناس في اليوم الثالث ركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف المسلولة فأخذت إمرأة بزمام دابته فأراد أصحابه قتلها فكفهم عنها، فقالت له: ألست من بني هاشم؟ ألست ابن رسول الله صلي الله عليه وآله؟ أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنوج؟ فلم يجبها وبعث معها من بلغها مأمنها، ثم جمع من الغد الزنوج للعطاء وقتلهم عن آخرهم، فكانت هذه فعلة لم نسمع بأقبح منها إلا ما كان من السفاح.(1) ولعمري لقد فاق فرعون في فساده وأربي عليه في عتوه وعناده، وإن السفاح بما فعله ابن أخيه قد صار يسوم أمة محمد صلي الله عليه وآله من سوء العذاب أشد وأقبح ما كان فرعون يسوم بني إسرائيل منه، فكيف بها إذا ضمت مع ما

ص: 71


1- النزاع والتخاصم للمقريزي: 139 - 140

حكاه البلاذري قال: كان أبو العباس - يعني السفاح - يسمع الغناء، فإذا قال للمغني: أحسنت! لم ينصرف من عنده إلا بجائزة وكسوة، فقيل له: إن الخلافة جليلة، فلو حجبت عنك من يشاهدك علي النبيذ، فاحتجب عنهم و كانت صلاته قائمة لهم، فأين هذا من هدي النبوة وسيرة أئمة الهدي فما أبعده عن هداهم، ولله در القائل:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل *** ونزلت بالبيداء أبعد منزل

لا يفترق العباسيون عن بني أمية في شيء، لا في الظلم والقسوة، ولا في الفسوق والفجور، ولا في الاستهتار والزندقة، فالغاية واحدة عند الجميع، وهي الانتفاع والاستقلال، والمبدأ واحد وهو اللامبالاة بالدين والقيم، فالكل ركب متون الأهواء وسلك طريق الضلال، من قطع الرؤوس، ونصب المشانق، وهدم الدور علي الأحياء، وما إبراهيم وأخوه السفاح إلا كمعاوية، وما المنصور والرشيد إلا كهشام، وما المتوكل إلا كيزيد بن معاوية، فلقد عرفنا حاكمين يتخذون من القتل وسيلة لتوطيد سلطانهم، أو لحفظ الأمن بزعمهم،أما من ذكرناه من الأمويين وسنذكره من العباسيين فقد كان يقتل لا لسبب إلا بدافع من الغدر والاسراف في القتل.

حين ضاق الناس ذرعاً بالأمويين، وبلغ الاستياء ذروته من سياستهم، أرسل إبراهيم الإمام _ أخو السفاح _ أبا مسلم الخراساني إلي خراسان وقال له فيما قال: احفظ وصيتي: انظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله!... (1)

وبعد أن نقل المقريزي هذا الكلام من كتاب (النزاع والتخاصم) قال معقباً: (فأين أعزك الله _ هذه الوصية من وصايا الخلفاء الراشدين العمالهم، وتالله لو توجه أبر مسلم

ص: 72


1- تاريخ الطبري 6: 14 - 15

إلي أرض الحرب ليغزو أهل الشرك بالله لما جاز أن يوصي بهذا، فكيف وإنما توجه إلي دار الإسلام وقتال أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من العرب، لينتزع من أيديهم ما فتحه آباؤهم من أرض الشرك، ليتخذوا مال الله دولاً، وعبيده خولاً؟! وقد عمل أبو مسلم بوصية إبراهيم.(1)

وأي فرق بين قول إبراهيم العباسي:واقتل من شككت فيه وقول معاوية الأموي حين كتب إلي عماله: (انظروا من اتهمتموه بموالاة أهل البيت فنكلوا به واهدموا داره).

المنصور والعلويون:

جاء في كتاب «الشيعة والحاكمون»:

كان البيت العباسي بيت جهل وخمول بعد عبد الله بن عباس، ولولا انتسابهم إلي عم الرسول لم يرد لأحد منهم ذكر في التاريخ، أما البيت العلوي فكان في جميع الأدوار بيت العلم والدين، ومهوي أفئدة المسلمين،فمن علي أمير المؤمنين إلي ولديه الحسين، ومنهما إلي الإمام زين العابدين، ومنه إلي الصادقين: محمد الباقر وجعفر الصادق الخ.

وكان العباسيون يعتزون بقرابتهم من علي بن أبي طالب وأبنائه سلام الله عليهم كاعتزازهم بالنبي الكريم صلي الله عليه وآله، وكانوا يحضرون مجالس أبناء علي متأدبين متعلمين، وكان محمد بن عبد الله بن الحسن يأخذ المنصور بركابه ويسوي ثيابه علي السرج.

وحين اضطربت أمور بني أمية اجتمع بنو العباس وعقدوا البيعة لمحمد بن عبد الله بن الحسن، وكان فيمن بايعه إبراهيم والسفاح والمنصور، وكان المنصور أشدهم حماساً لهذه البيعة، وأرسل المجتمعون إلي الإمام جعفر

ص: 73


1- النزاع والتخاصم: 135

الصادق عليه السلام، فلما حضر رغبوا إليه في أن يبايع محمدأ، فقال: إن هذا الأمر لا يتم إلا لهذا وضرب علي ظهر السفاح - ثم لهذا-وأشار إلي المنصور - وقال لعبد الله بن الحسن: إن ولديك إبراهيم ومحمد سيقتلهما المنصور، ثم نهض وخرج من المجلس.(1) (مقاتل الطالبيين).

ولما دارت الدوائر علي الأمويين واستخلف المنصور اختفي محمد بن عبد الله بن الحسن خوفاً علي نفسه، فطلبه المنصور من أبيه وحاول قتله بكل وسيلة ليتخلص من البيعة التي في عنقه، واجتهد في البحث عنه وعن أخيه إبراهيم، ونصب العيون وبذل الأموال، فعرف مكانهما، ولم يعد أمامهما إلا الاستسلام أو الخروج، فخرج محمد في المدينة وإبراهيم في البصرة وحاربا حتي قتلا، وكان محمد عرف بصاحب النفس الزكية، وقتل معه خلق كثير من أبناء الأنصار والمهاجرين وأبناء جعفر بن أبي طالب ومن أبناء الحسين، وقتل معه الحسين وعلي ابنا زيد بن علي بن الحسين.

قال المسعودي: إن المنصور أكل عجة من مخ وسكر فاستطابها وقال: أراد إبراهيم أن يمنعني من هذا وأشباهه.

من أجل هذه العجة قتل المنصور أبناء الرسول الألوف من الأبرياء...

قال المسعودي، والمقريزي(في النزاع والتخاصم): جمع المنصور أبناء الحسن وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم وحملهم في محامل مكشوفة وبغيروطاء، تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين، ثم أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار، وأشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزأوا القرآن خمسة أجزاء، فكانوا يصلون علي فراغ كل واحد من حزبه، و كانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة وتورمت أجسادهم، ولا يزال الورم من القدم حتي يبلغ الفؤاد، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعاً.

ص: 74


1- مقاتل الطالبين: 172

وقال ابن الأثير ج 4: دعا المنصور محمد بن عبد الله العثماني و كان أخاً لأبناء الحسن من أمهم، فأمر بشق ثيابه حتي بانت عورته، ثم ضرب مئة وخمسون سوطاً، وأصاب إحدي عينيه سوط فسالت علي وجهه، ثم قتله، كذا في (النزاع والتخاصم).(1)

وقال ابن الأثير في الصفحة نفسها، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن، وكان أحسن الناس صورة، فقال له: أنت الديباج الأصغر؟ لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً، ثم أمر به فقتني عليه أسطوانة وهو حي فمات فيها!..

كان معاوية بن أبي سفيان يدفن الأحياء خنقاً تحت الأرض، وكان المنصور يقيم عليهم البناء فوق الأرض، وهذا هو الفارق الوحيد بين خليفة الشام وخليفة العراق، بينالأموي والعباسي، علي أننا لا نعرف أموياً واحداً سجن جماعة تحت الأرض وتركهم يموت الواحد منهم بعد الآخر بين الفضلات والقذارات، ولهذا قال الشاعر:

والله ما فعلت أمنية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس

وفي كتاب ( النزاع والتخاصم) أنه كان للقاسم بن إبراهيم طباطبا ضيعة بالمدينة يقال لها الرس، فلم يسمح له المنصور بالمقام بها حتي طلبه فقفز إلي السند وقال:

لم يروه ما أراق البغي من دمنا *** في كل أرض فلم يقصر من الطلب

ولم يطف غليلاً في حشاه سوي *** أن لا يري فوقها ابناً لبنت نبي

وكان يفر من بلد إلي بلد، يسير حافياً والدم يسيل من قدميه، ومن قوله وهو مشرد:

عسي جابر العظم الكسير بلطفه*** سيرتاح للعظم الكسير فيجير

عسي الله لا تيأس من الله إنه *** ييسر منه ما يعز ويعسر (2)

ص: 75


1- الكامل في التاريخ 3: 579، حوادث سنة 145ه، النزاع والتخاصم: 142 و 143
2- النزاع والتخاصم: 144

وفي كتاب (النزاع والتخاصم): أن المنصور دل امرأة ابنه المهدي وولي عهده علي بيت واستحلفها أن لا تفتحه إلا بعد وفاته بحضور زوجها، وبعد هلاكه فتحه المهدي وإذا فيه رؤوس من قتل من الطالبين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وفيهم أطفال».

قال المقريزي: أني هذا الجور والفساد من عدل الشريعة المحمدية وسيرة أئمة الهدي ؟! أين هذه القسوة الشنيعة مع القرابة من رحمة النبوة، وتالله ما هذا من الدين في شيء. بل هو من باب قول الله سبحانه: (فَهَل عَسَيتُم إن تَوَلَيتُم أن تُفسِدوُا فِي الأرضِ وتَقُطِعوا أرحامَكُم أولئِكَ الَّذينَ لَعَنهُمُ اللهُ فَأَصمَهُم وأعمي أبصارَهُم). (1)

هذا عمل من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر والكتاب المنير، وأنه أمير المؤمنين خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين ؟! وهكذا يفعل مالا تفعله الوحوش والذئاب ويتوكأ علي الأنساب.

الإمام جعفر الصادق عليه السلام والمنصور:

أول من أطلق لقب الصادق علي الإمام جعفر بن محمد هو المنصور بعد أن تحقق قوله بأن المنصور سيملك بقتل محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن كما قدمنا، وكان الإمام الصادق عليه السلام في عهد المنصور يوصي شيعته ويقول لهم: عليكم بالطاعة والصمت فإنكم في سلطان من مكرهم لتزول منه الجبال. (2)

ولكن المنصور لا يرضيه الصمت من الإمام والطاعة من الشيعة مادام الناس يعتقدون بإمامته وتفضيله علي المنصور والناس أجمعين.

قال محمد الاسقنطوري: دخلت يوماً علي الدوانيقي - أي المنصور - فوجدته في فكر عميق، فقلت له: ما هذا الفكر؟

ص: 76


1- محمد: 22 و 23 / النزاع والتخاصم: 144
2- أمالي الطوسي: 667/ ح1398

قال: قتلت من ذرية فاطمة بنت محمد ألفاً أو يزيدون، وتركت سيدهم ومولاهم، فقلت: ومن ذلك؟ قال:قد عرفت أنك تقول بإمامته وأنه إمامي وإمامك وإمام جميع هذا الخلق، ولكن الآن أفرغ منه. (1)

وتدلنا هذه الرواية علي انتشار التشيع لعلي وأولاده حتي بين حجاب المنصور وحواشيه، بل إن الربيع وزير المنصور كان شيعياً.

كلمات تكفي الإمام الصادق عليه السلام شرً المنصور:

جاء في كتاب «الشيعة والحاكمون»:

لماحج المنصور مر بالمدينة، فقال للربيع: علي بجعفر بن محمد! قتلني الله إن لم أقتله، فمطل به، ثم ألح فيه فحضر، فلما دخل همس الإمام بشفتيه ثم تقرب وسلم، فقال المنصور: لا سلم الله عليك يا عدو الله! تعمل علي الغوائل في ملكي! قتلني الله إن لم أقتلك، فقال الإمام: إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت علي ارث منهم وأحق بالتأسي بهم. فنكس المنصور رأسه ثم رفعه وقال: يا أبا عبد الله أنت القريب القرابة، وذو الرحم الواشجة، ثم عانقه وأجلسه معه علي فراشه وأقبل عليه سائله ويحادثه، ثم قال: عجلوا لأبي عبد الله اذنه و كسوته وجائزته.

ولما خرج الإمام تبعه الربيع وقال: إني منذ ثلاثة أيام أدافع عنك وأداري عليك، ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك، وقد انجلي الأمر، وأنا خادم سلطان ولا غني عنه، فأحب أن تعلمنيه.. قال الإمام: قل: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكفني بكنفك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها علي قل عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليتني بها قل عندها صبري فلم تخذلني، اللهم بك أدرأ في نحره، وأعوذ بخيرك من شره. (2)

ص: 77


1- الثاقب في المناقب: 208/ ح 184، عيون المعجزات: 80
2- تاريخ دمشق لابن عساكر 18: 86 – 87

وكان المعلي بن خنيس من الشيعة المقربين لدي الصادق، وكان مولاه وو كيله، فكتب المنصور إلي عامله علي المدينة _ وهو داود بن عروة _ بقتله، فاستدعاه داود وقال له: اكتب أسماء الشيعة وإلا ضربت عنقك، فقال: أبالقتل تهددني؟! والله لو كان اسم أحدهم تحت قدمي ما رفعتها،فضرب عنقه وصلبه، فعز ذلك علي الإمام الصادق ودعي علي داود، وما انتهي من دعائه حتي ارتفع الصياح وجاء الخبر بهلاكه. (1)

وأيضاً كتب المنصور إلي عامله أن يحرق علي الإمام الصادق داره، ثم دس إليه السم فمات مسموماً.

قتل المنصور من أبناء علي وفاطمة ألفاً أو يزيدون باعترافه، وقتل من شيعتهم ما لا يعد ولا يحصي، وتفتن في ظلمهم، واخترع أنواعاً من القتل وألواناً من التنكيل، تماماً كما يتفتن علماء القرن العشرين باختراع الوسائل التي تخفف آلام البشرية وتيسر العسير من شؤونهم، فمن الضرب بالسياط علي الأعين حتي تسيل، إلي هدم البيوت علي الأحياء، إلي رصفهم مع الأعجاز في الجدران، إلي تسميمهم بالفضلات والقذارات، إلي ما لا نهاية.

ومهما يكن فيجب أن لا ننسي أن المنصور كان يؤمن بالله،وأنه قرابة نبي الرحمة... والحق أن المنصور أدي رسالته كحاقد علي الفضيلة وأهلها!...

وبالتالي، فإن استقرائي لسيرة الخلفاء المسلمين قد بعث في شعوراً بأن الإسلام لولا المنصور وأمثاله من الحاكمين لعم الناس أجمعين واعتنقوه تلقائياً بدون دعوة ودعاية، ولما وجد علي هذه الكرة إنسان غير مسلم.

جرائم المهدي بن المنصور:

جاء في كتاب «الشيعة والحاكمون»:

مات المنصور وقام ولده محمد الملقب بالمهدي، وبقي في الحكم من

ص: 78


1- الإرشاد للمفيد 2: 185

سنة ثمان وخمسين ومئة إلي سنة تسع وستين ومئة، وكان أبوه قد أتم المهمة وانتهي من تنفيذ ما أعده من خطط الاغتيال والفتك بقري الخير والصلاح، ولم ينج منه إلا إثنان: علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأخذه المهدي وسجنه، ثم دس إليه السم فتفسخ لحمه وتباينت أعضاؤه.

قصة عيسي بن زيد:

و عيسي بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، تواني من المهدي خوفاً علي نفسه، قال أبو الفرج في (مقاتل الطالبيين): كان عيسي أفضل من بقي من أهله ديناً، وعلماً، وورعاً، وزهداً، و تقشفاً، وأشدهم بصيرة في أمره ومذهبه، مع علم كثير ورواية للحديث وطلب له، صغيره وكبيره. (1)

هرب عيسي من المهدي واختبأ في دار بعض الشيعة - وهو علي بن صالح - ثم رأي أن يتخذ عملاً يعتاش منه ولا يكون كلاً علي أحد، وكان أهل الكوفة ينقلون الماء من الفرات إلي بيوتهم علي الجمال وسائر الحيوانات، فاتفق عيسي مع صاحب الجمل علي أن يستقي علي الجمل ويدفع له يوم أجراً معيناً ويتقوت هو بما يبقي، وهكذا بقي أمد طويلاً وهو متنكر، وتزوج امرأة من فقراء الكوفة لا تعرفه هي ولا أهلها.

وكان لعيسي أخ اسمه الحسين بن زيد، وله ولد يدعي يحيي، فقال يحيي يوماً لأبيه: يا أبه إني أشتهي أن أري عمي عيسي فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقي مثله من أشياخه. فقال له: إن هذا الأمر يثقل عليه، وأخشي أن ينتقل من منزله كراهية لقائك إياه فتزعجه، فما زال يحيي يلح علي أبيه حتي طابت نفسه وقال له: اذهب إلي الكوفة فإذا بلغتها فسل عن دور بني حي،وهناك سكة تسمي كذا، وستري داراً لها باب صفته كذا، فاجلس بالقرب منها، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه، قد أثر السجود في جبهته، عليه

ص: 79


1- مقاتل الطالبيين: 269

جبة صوف، يسقي الماء علي جمل، لا يضع قدماً ولا يرفعها إلا ذكر الله ودموعه تنحدر، فقم وسلم عليه وعانقه، فإنه سيذعر منك كما يذعر من وحش، فعرفه نفسك وانتسب له، فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلاً ويسألك عنا جميعاً ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه ولا تطل عليه، ودعه فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عدت إليه تواري عنك واستوحش منك وانتقل من موضعه وفيه من ذلك مشقة.

قال يحيي: ذهبت إلي الكوفة وفعلت ما أمرني به أبي، وحين عانقت عمي عيسي ذعر مني كمايذعر الوحش من الإنس، فقلت: ياعم يحيي بن الحسين بن زيد أنا ابن أخيك، فضمني إليه وبكي، ثم أناخ جمله وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلاً رجلاً وامرأة امرأة وصبياً صبياً، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي علي هذا الجمل الماء فأصرف ما اكتسب من أجرة الجمل إلي صاحبه وأتقوت باقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلي البرية فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوته.

وقد تزوجت إلي رجل ابنته وهو لا يعلم من أنا إلي وقتي هذا، فولدت مني بنتاً فنشأت وبلغت وهي أيضاً لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء وهو رجل من جيراننا فإنه أيسر منا وقد خطبها، وألحت علي فلم أزل أستكفي الله أمرها حتي ماتت البنت بعد أيام، فلم أجدني آسي علي شيء من الدنياأساي علي أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله صلي الله عليه وآله. قال يحيي: ثم أقسم علي عمي أن انصرف ولا أعود إليه وودعني. (1)

هذه أمثولة تعبر عن منهج حكومات الجور والظلم: يعاني فيها الطيبون الأخيار ضروب الفواجع والشقاء، ويعيش فيها الخونة والجهلاء آمنين مترفين يجدون كل عون وحماية!.. إن البلد الطيب الأمين يحمل القريب والغريب، وتفيض خيراته علي

ص: 80


1- مقاتل الطالبيين: 270 - 271

المواطنين والمهاجرين علي السواء، أما البلد الخبيث بحكامه وقادته فهو شر وبلاء علي العلماء والأبرياء، ونعمة ورخاء علي أهل الجهل والأدعياء.

لم يستطع عيسي بن زيد بن علي بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله، لم يستطع هذا العالم المخلص المحدث الورع الزاهد أن يظهر نفسه في بلد الإسلام، وحاكمه خليفة المسلمين، وعاش خائفاً مستتراً يخدم الناس وينقل الماء إلي البيوت بأجر زهيد، عاش ابن رسول الله في خلافة المهدي يلتقط ما يرمي به الناس من قشور الخضار والفاكهة يتقوته هو وزوجته وابنته التي كبرت ثم ماتت ولم تعرف مكانها من رسول الله، عاش مشرداً متنكراً ينفر من الإنس كما ينفر من الوحش، لا لشيء إلا أنه عالم زاهد يعرف الحق ويعمل به. وعاش المختتون والعاثرات وأهل الفسق والفجور في دعة وأمان، تسهل لهم الأمور، وتغدق عليهم الأموال.

قال المسعودي: بسط المهدي يده في العطاء فأذهب جميع ما خلفهالمنصور، و كان 16 مليون درهم و 14 مليون دينار.

و قال لي بعض أساتذة الفلسفة في القاهرة: إن الشيعة يقولون بالتقية. قلت: لعن الله من أحوجهم إليها، لقد خرج موسي الكليم من مصر خائفاً يترقب وقال: (ربِّ نَجِّني مِنَ القَّومِ الظَّالمينَ) (1) وقال النبي صلي الله عليه وآله : «بئس القوم قوم يعيش المؤمن من بينهم بالتقية»(2) إنكم تنادون بحرية الرأي والعقيدة، ثم إذا رأيتم مظلوماً سكت عن رأيه خوفاً من حكام الجور نعيتم علي المظلوم وسكتم عن الظالم، وصدق من قال: ما اختلف الناس ولكن اطرد القياس».

المهدي ويعقوب بن داود بن طهمان:

استعمل المهدي يعقوب بن داود بن طهمان حتي استوزره وفوض إليه أمر الخلافة، وكان يعقوب ممن له الميل في محبة علي وذريته.

ص: 81


1- القصص:21
2- الجامع الصغير للسيوطي 1: 491ح 3186

قال الطبري محمد بن جرير في (تاريخ الأمم والملوك): كان المهدي يجلس عنده مواليه وأصحابه فيشربون النبيذ، و كان يعقوب يعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، قال يعقوب: كنت أعظه وأقول له:إنه ليس علي هذا استوزرتني ولا علي هذاصحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع،وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضاً من آخرتي، قال فكان يقول لي:اللهم غفراً، اللهم أصلح قليه، فقال له شاعره:

فدع عنك يعقوب بن داود جانباً ***وأقبل علي صهباء طيبة النشر(1)

وكان يعقوب سمحاً جواداً كثير البر واصطناع المعروف، جاءته امرأة من اليمامة جعدية مملوكة لبني جعدة يقال لها وحشية، قد كاتبت علي ولدها وأخيها وأهل بيتها بألف دينار، فوقفت بين يديه فقالت:

أما ومعلم التوراة موسي *** ومرسي البيت في حرم الإلال

و باعث أحمد فينا رسولاً *** فعلمنا الحرام من الحلال

لشهراً نحو يعقوب سرينا *** فأذاني له وقت الهلال

أغثني با فداك أبي وأمي *** وعمي لا أحاشيه وخالي

يبشرني بنجحي كل طير *** جرت لي عن يميني أو شمالي

فقال لها: صدقت طيرك، فأعطاها ألف دينار وقال: ارحلي فاشتري أهلك وولدك وأقدميهم، ففعلت، فما زالت في عيال يعقوب هي وأهلها أجمعون حتي ماتت.(2)

روي الطبري عن إبراهيم المسعودي: قال المهدي: وصف لي يعقوب بن داود في منامي فقيل لي أن اتخذه وزيراً، فلما رآه قال: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيراً وما زال يقربه ودنيه حتي غلب علي أمره، فقال بشار يهجي المهدي:

ص: 82


1- تاريخ الطبري 6: 386
2- تاريخ بغداد 14: 264

بني أمية هبوا طال نومكم *** إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا *** خليفة الله بين الدف والعود (1)

فجعلت السعاة تسعي إلي المهدي ويحسنون له عزله وقتله، وكانوا يخلون بالمهدي ليلاً فيقولون له بعد أن يشددوا علي يعقوب وينصرفوا عنه علي أن يصبح فيثور بيعقوب، فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه المهدي تبسم، فجاء رجل إلي السعاة وقال لهم: أنا أعرف الطريق الذي أقتله به، ثم جاء المهدي وقال: إن هذا يقتلك، قال: يقتلني؟ قال نعم: لأنه خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن علي أبيك المنصور وقد حبسه أبوك، وإنه علوي الرأي وسيقتلك ويعطي الخلافة العلويين، فإن كنت تكذبني فادفع إليه أحد العلويين ليقتله، فإن قتله فهو منك وإلا فصدقني فيما قلت. قال: نعم ما جئت به من الرأي

قال يعقوب: بعث إلي المهدي يوماً فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور، علي بستان فيه شجر، ورؤس الشجر علي صحن المجلس، وقد اكتسي ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها ولا أشط قواماً ولا أحسن اعتدالاً، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك، فقال لي: يعقوب، قلت: بلي. قال: كيف تري مجلسنا هذا؟ قلت: يا أمير ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط الأمير، قال: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر للأمير وعلي السمع والطاعة، قال: والله ؟ قلت: والله ثلاثاً، قال: وحياة رأسي؟ قلت: وحياة رأسك، قال: فضع يدك عليه واحلف به، قال: فوضعت يدي عليه وحلفت له به لأعملن بما قال ولأقضين حاجته، قال: فلما استوثق مني في نفسه قال: هذا فلان بن فلان من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته وتريحني منه وتعجل ذلك، قال: قلت أفعل، قال: فخذه إليك، فحولته إلي وحولت الجارية وجميع ما

ص: 83


1- تاريخ الطبري 6: 382 - 383

كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم، قال: فحملت جله ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلي العلوي فأدخلته علي نفسي وسألته عن حاله فأخبرني بها وبمجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إباءة، قال: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب، تلقي الله تعالي بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد؟ قال: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟ قال: نعم إن فعلت خيراً شكرتك ولك عندي دعاء واستغفار، قال: فقلت له: أي الطرق أحب إليك؟ قال: طريق كذا و كذا الذي اتفقوا عليه في وقت كذا وكذا من الليل، فقلت له: إذاً احمل معك هذا المال واسلك الطريق، وإذا بالجارية قد حفظت علي قولي فبعثت به مع خادم لها إلي المهدي وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته علي نفسك وفعل كذا وكذا حتي ساقت الحديث كله، قال: وبعث المهدي من وقته ذلك فشحن ذلك الطريق الذي وصفة العلوي برجاله، فلم يلبث أن جاؤه بالعلوي والمال علي السجية التي حكتها الجارية، قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم فإذا برسول المهدي يستحضرني، وكنت خالي الذرع غير ملقي إلي أمر العلوي، فدخلت علي المهدي فوجدته علي كرسي بيده مخصرة، فقال: يعقوب، قلت: نعم، قال: ما حال الرجل العلوي؟ قلت: يا أمير قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قلت: نعم، قال: والله ؟ قلت: والله، قال: قم فضع يدك علي رأسي، قال: فوضعت يدي علي رأسه وحلفت له به، فقال: يا غلام أخرج إلينا ما في هذا البيت، ففتح بابه عن العلوي، قال: فبقيت متحيراً وسقط في يدي وامتنع مني الكلام فما أدري ما أقول، فقال لي المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئراً فديت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام، حتي طالت شعري واسترسل كهيئة شعور البهائم، فمكثت خمسة عشر سنة و كان يدلي إلي في كل يوم رغيف و كوز من ماء وأؤذن بأوقات الصلاة، فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة أتاني آت في منامي فقال:

حنا علي يوسف رب فأخرجه *** من قصر جب وبيت حوله غمم

ص: 84

فحمدت الله لما سمعته وقلت: أتي الفرج، ثم مكثت حولاً لا أري شيئاً،فلما كان رأس الحول أتاني ذلك الآتي فقال لي:

عسي فرج يأتي به الله إنه *** له كل يوم في خليقته أمر

ثم أقمت حولاً لا أري شيئاً، فلما كان آخر الحول أتاني أيضأ ذلك الآتي فقال:

عسي الأمر الذي أمسيت فيه *** يكون وراءه فرجٌ قريبٌ

فيأمن خائف ويفك عانٍ*** ويأتي أهله النائي الغريب

قال: فلما أصبحت نوديت، فظننت أني أوذن بالصلاة، فدلي لي حبل أسود وقيل لي: أشدد به وسطك، ففعلت فأخرجوني، فلما قابلت الضوء غشي بصري، فانطلقوا بي فأدخلت علي الرشيد فقيل لي: سلم علي أمير المؤمنين، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته المهدي، قال: لست به، قلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الهادي، قال: لست به، قلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الرشيد، فقال الرشيد: وعليك السلام فأنا الرشيد، يا يعقوب بن داود، إنه والله ماشفع فيك إلي أحد، غير أني حملت الليلة صبية لي علي عنقي فذكرت حملك إياي علي عنقك، فرثيت لك من المحل الذي كنت به، فأخرجتك، فسل حاجتك، قال: قلت: المقام بمكة، ففعل الرشيد ذلك، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقلت: ما بقي مستمع لشيء ولا بلاغ، قال: فراشداً، فخرجت فكان وجهي إلي مكة، ثم لم يزل بمكة ولم تطل أيامه بها حتي مات رحمه الله. (1)

الهادي العباسي

جاء في كتاب (الشيعة والحاكمون): توفي المهدي وبويع موسي

ص: 85


1- تاريخ الطبري6 : 384 - 386

الملقب بالهادي، قال المسعودي: كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان قسي القلب شرس الأخلاق. وفي عهده كان علي المدينة رجل من ولد عمر بن الخطاب اسمه عبد العزيز، فتحامل علي الطالبيين وأساء إليهم وسامهم صنوف العذاب، فحجر عليهم أن يخرجوا من المدينة، وطالبهم أن يثبتوا وجودهم ويعرضوا عليه أنفسهم كل يوم، وكان يلصق بهم تهمة معاقرة الخمرة زوراً وبهتاناً، ويقيم عليهم الحد ويشهر بهم، وأرسل يوماً في طلب الحسين بن علي بن الحسن وأسمعه كلاماً قاسياً وتهدده وتوعده مما أدي إلي خروجه، فقل هو وأكثر من كان معه بمكان يسمي فخ علي بعد ستة أميال من مكة المكرمة، وأقام القتلي ثلاثة أيام لم يواروا حتي أكلتهم السباع والطير، ومن أسر منهم قتل صبراً، عن مروج الذهب للمسعودي.

وبالرغم من قصر أيامه فقد استطاع أن يقوم بعمل تاريخي ويسجل اسمه مع جلادي الشعوب وقتلة أولاد الأنبياء.

قال الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: إن أم الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتل المنصور أباها وأخوتها وعمومتها وزوجها علي بن الحسن، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين، و كانت تلبس المسوح علي جسدها، لا تجعل بينها وبينه شيئا حتي لحقت بالله عزوجل. (1)

هارون الرشيد

جاء في كتاب (الشيعة والحاكمون): تولي الرشيد الحكم بعد أخيه الهادي سنة سبعين ومئة، ومات سنة ثلاث وتسعين ومئة، ولم يشتهر أحد من العباسيين شهرة الرشيدو ابنه المأمون، فلقد كانا من أعظم ملوك العالم شأناً وأسماهم مكانة، ولم يبرهما عباسي ولا أموي في تشجيع العلوم والآداب،

ص: 86


1- مقاتل الطالبين: 285

ولعبت قصص ألف ليلة وليلة دوراً كبيراً في شهرة هارون الرشيد، وألبسته أساطيرها ثوبا مضافاً من العظمة والجلال، أما شهرته في إدارة الملك وما إليها من بناء المساجد والكليات والمستشفيات والمنازل والقناطر والطرق المعبدة وشبكة الجداول، أما هذه الادارة والأعمال فتعزي إلي مهارة البرامكة الذين وكل إليهم مهام الدولة خلال السبع عشرة سنة. وكانت مقدرة هذه الأسرة ونزاهتها وإخلاصها السبب الوحيد لهلاكها وإنزال النكبة بها علي يد الرشيد المعروفة بنكبة البرامكة، أما قصة العباسة وجعفر البرمكي وحملها منه سراً فإنها من نسج الخيال للتغطية وتبرير الظلم والتنكيل.

قال صاحب شافية أبي فراس نقلاً عن كتاب ( ثمرات الأوراق): إن الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان و الشطرنج والنرد، أما سياسته مع العلويين وشيعتهم فتدل الأرقام أنه كان مصمماً علي أن لا يبقي منهم علي الأرض دياراً، ونذكر فيما يلي طرفاً منها:

ستون شهيداً:

جاء في كتاب (عيون أخبار الرضا): إن حميد بن قحطبة الطائي الطوسي قال:

طلبني الرشيد في بعض الليل وقال لي فيما قال: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، فجاء بي الخادم إلي دار مغلقة ففتحها وإذا فيها ثلاثة بيوت وبئر، ففتح البيت الأول وأخرج منه عشرين نفساً عليهم الشعور والذوائب، وفيهم الشيوخ والكهول والشبان، وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال، وقال لي: يقول لك أمير المؤمنين: اقتل هؤلاء، وكانوا كلهم من ولد علي وفاطمة، فقتلتهم الواحد بعد الواحد والخادم يرمي بأجسادهم ورؤوسهم في البئر، ثمّ فتح البيت الثاني وإذا فيه أيضأ عشرون من نسل علي وفاطمة، وكان مصيرهم كمصير الذين كانوا في البيت الأول، ثم فتح البيت الثالث وإذا فيه عشرون،فألحقهم بمن مضي، وبقي منهم شيخ وهو الأخير فقال: تباً لك يا ميشوم أي

ص: 87

عذر لك يوم القيامة عند جدنا رسول الله !.. فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إلي الخادم مغضباً وهددني، فقتلت الشيخ ورمي به في البئر! .. (1)

الأسطوانات:

نقل صاحب (مقاتل الطالبيين) عن إبراهيم بن رياح أن الرشيد حين ظفر بيحيي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بني عليه أسطوانة وهو حي، وقدورث الرشيد طريقة البناء علي الأحياء من جده المنصور. (2)

قال صاحب عيون (أخبار الرضا): لما بني المنصور الأبنية ببغداد جعل يطلب العلوية طلباً شديداً ويضع من ظفر به منهم في الأسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر، فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه وله شعر أسود وهو من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، فسلمه إلي الباني الذي كان يبني له وأمره أن يجعله جوف أسطوانة ويبني عليه، ووكل عليه من يراعي ذلك، وحين أراد الباني أن يدخله حياً في الاسطوانة أخذته الرقة والرحمة، فترك في الأسطوانة فرجة يدخل منها الريح، وقال للغلام: لا بأس عليك، فاصبر فإني سأخرجك في جوف الليل إذا جن.

ولما دخل الليل أتاه وأخرجه من الاسطوانة وقال له: اتق الله في دمي ودم الفعلة الذين معي، وغيب شخصك فإني أخرجتك خوفاً أن يكون جدك خصمي يوم القيامة، قال له الغلام: سأفعل ولكن لي أم، وهي في مكان كذا فاذهب إليها وعرفها أني قد نجوت وأن عودي إليها غير ممكن، قال الباني: ذهبت إلي الموضع الذي دلني عليه فسمعت دوياً كدوي النحل من البكاء فعلمت أنها أمه، فدنوت منها وعفتها الخبر وأعطيتها شيئاً من شعره وانصرفت. (3)

ص: 88


1- عيون أخبار الرضا 1: 108؛ بحار الأنوار 48: 176- 178
2- انظر مقاتل الطالبين: 319 - 320
3- عيون أخبار الرضا 2: 102

يحيي والرشيد:

ولما اشتد الرشيد علي العلويين خرج عليه يحيي بن عبد الله بن الحسن بالديلم. قال ابن الأثير في الجزء الخامس من الكامل، والاصفهاني في مقاتل الطالبيين ما ملخصه، أن يحيي استتر مدة يجول في البلدان ويطلب موضعاً يلجأ إليه حتي بلغ الديلم، وقد ظهر هناك واشتدت شوكته وأتاه الناس من الأمصار، فانتدب إليه الرشيد الفضل بن يحيي في خمسين ألف مقاتل، فراسل الفضل يحبي في الصلح فأجابه إليه لما رأي من تفرق أصحابه وخلافهم عليه، واشترط يحيي أن يكتب له الرشيد أماناً بخطه يشهد عليه القضاة والفقهاء وجلة بني هاشم ومشايخهم، فكتب الرشيد الأمان علي مارسم يحيي، و أشهد الشهود الذين التمسهم، وجعل الأمان علي نسختين: إحداهما مع يحيي والأخري مع الرشيد.

وحين قدم يحيي علي الرشيد أكرمه وأجازه بمئتي ألف دينار وخلع وغيرها، ولكن الرشيد لم يذهب ما في نفسه وقال له يوماً: أينا أقرب إلي رسول الله أنا أو أنت؟ قال: أعفني، قال: لابد من الجواب، فقال له يحيي: لوعاش رسول الله وخطب ابنتك أكنت تزوجه؟ قال: أي والله، قال يحيي: لو عاش رسول الله فخطب إلي أكان يحل لي أن أزوجه؟ قال الرشيد: لا، فقال يحيي: هذا جواب ما سألت، فغضب الرشيد وقام من مجلسه.

شيوخ السوء :

أراد الرشيد أن يغدر بيحيي وينقض العهد الذي خطه بيمينه وأشهد فيه علي نفسه فلم يجد مبرراً ولا عذراً يعتذر به، فأمسك وسكت علي مضض، وأخيراً فقد الصبر فالتجأ إلي شيخ من شيوخ السوء الذين يبيعون العلل والحيل ويتسابقون إلي عرضها علي من يدفع الثمن، تماماً كما يفعل البزاز والبقال والفحام، فأتاه الشيخ أبو البختري وهب بن

ص: 89

وهب بأن هذا العهد باطل منتقض، وأن يحيي يحل قتله ودمه، وأخذ العهد ومزقه، فأعطاه مليون و ستمئة ألف، وولاه القضاء.

وإستناداً إلي هذه الفتوي أخذ الرشيد يحيي وضربه مئة عصا، ويحيي يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله، ثم زجه في سجن مظلم، وفي اليوم الثاني أحضره وضربه مئة عصا، ثم رده إلي السجن وضيق عليه من الطعام والشراب، و أخيراً بني عليه أسطوانة وهو حي حتي مات. (1)

والشيخ أبو البختري موجود في كل عصر، في عصر الرشيد وقبله وبعده، جاء في حاشية الكامل لابن الأثير (ج 4 ص 191 طبعة 1357 ه): إن يزيد صاحب حبابة وسلامة القس شهد له أربعون شيخاً أنه ما علي الخلفاء من حساب ولا عذاب، وإني لأعرف اليوم شيوخاً بأسمائهم وسيماهم ناصروا أمثال الرشيد ويزيد في الفسق والفجور ضد من أوقف نفسه لله وسهر الليل لتأييد دين الله والذب عن أولياء الله.

الإمام الكاظم عليه السلام والرشيد :

جاء في القران الكريم أن الأئمة علي نوعين: أئمة حق وهداية، وأئمة باطل و غواية، قال الله تعالي: (وَجَعَلناهُم أئمَةً يَهدُونَ ِأَمرِنا وأَوحَينَا إِليهِم فِعلَ الخَيراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدينَ). (2)

وهذه هي صفات علي والأئمة من ولده.

وقال سبحانه (وجَعَلناهُم أئمةَ يَدعُونَ إلي النّارِ ويَومَ القيامَةِ لايُنصَرُونَ) . (3)

وهذه صفات الرشيد وأسلافه الأمويين والعباسيين، ومن هنا كان الصراع بين الكاظم والرشيد حقيقي وواقعي. إمام يدعو إلي الله وجنته، وإمام يدعو إلي

ص: 90


1- انظر مقاتل الطالبيين: 318 - 320
2- الأنبياء: 73
3- القصص: 41

الشيطان وغوايته، فكيف يجتمعان؟! أما المجاملة والابتسام فرماد وتحته نار مادام القلب يرتعد من الكراهية والبغضاء. وإليك هذه القصة:

جاء في عيون أخبار الرضا: أن المأمون قال: ما زلت أحب أهل البيت وأظهر للرشيد بغضهم تقرباً إليه، فلما حج الرشيد كنت معه، ولما كان بالمدينة دخل عليه الإمام موسي بن جعفر فأكرمه وجثي علي ركبته، وعانقه يسأله عن حاله وعياله، ولما قام الإمام نهض الرشيد وودعه بإجلال واحترام، فلما خرج سألت أبي وقلت له: من هذا الذي فعلت معه شيئاً لم تفعله بأحد سواه؟ فقال لي هذا وارث علم النبيين، هذا موسي بن جعفر، فإن أردت العلم الصحيح فعند هذا . (1)

عانق الإمام وأكرمه وجلس متأدباً بين يديه وشهد له بأنه وارث علم النبيين، ولكن أي جدوي بهذه الشهادة وذلك الإكرام مادام يدعو إلي الجنة، والرشيد يدعو إلي النار؟! إن علم النبيين لم يشفع للإمام عند الرشيد حين رأي من حب الناس له وتعلقهم به ما رأي، فاستعرت في قلبه نيران الحقد وسيطرة عليه الأنانية، فقتل من أبناء النبيين ما لا يبلغه الاحصاء...

وما ذنب الإمام الكاظم إذا أحب الناس العلم وأهله، والحق ومن انتصر له ؟!.. وهل يجب عليه أن يكون جاهلاً مخنثاً مستهتراً حتي يرضي الرشيد عنه كما رضي عن مخارق وأمثاله؟! وإذا كان لك عدو لا يرضيه إلا موتك، فهل تقتل نفسك وتنتحر حتيلا يغضب عليك؟!.. إن الإمام الكاظم لم يخرج علي حاكم ولا دعا أحداً إلي مبايعته، ولم يحرك ساكناً ضد الرشيد ولا غيره، وكل ذنبه أنه وارث علم النبيين، وأنه إمام حق وهدي، والرشيد إمام باطل وضلال.

أرسل الرشيد جلاوزته إلي الإمام موسي بن جعفر، وكان يتعبد عند قبر جده، فأخرجوه منه وقيدوه، وأرسله الرشيد إلي البصرة، و كان عليها عيسي بن

ص: 91


1- عيون أخبار الرضا 1: 87/ ح 12

جعفر بن المنصور، فحبسه عنده سنة، ثم كتب عيسي إلي الرشيد أن خذه مني وسلمه إلي من شئت وإلا خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما قدرت علي ذلك، فحبسه ببغداد عند الفضل بن الربيع، ثم عند الفضل بن يحيي، ثم عند السندي بن شاهك وأخيراً تخلص منه بالسم، وقيل أن السندي لفه في بساط وقعد الفراشون علي وجهه فانتقل إلي ربه خنقاً.

الإمام الرضا عليه السلام والرشيد؛

قال السيد الأمين في كتاب أعيان الشيعة (مج 1 ص60 الطبعة الأولي): بعد حياة الإمام الكاظم أرسل الرشيد أحد قواده إلي المدينة - وهو الجلودي - وأمره أن يهجم علي دور آل أبي طالب ويسلب نساءهم ولا يدع علي واحدة منهن إلآ ثوباً واحداً فامتثل الجلودي حتي وصل إلي دار الإمام الرضا، فجعل الإمام النساء كلهن في بيت واحد ووقف علي باب البيت، فقال الجلودي: لا بد من دخول البيت وسلب النساء، فتوسل إليه وحلف له أنه ياتيه بكل ما عليهن من حلي وحلل علي أن يبقي الجلودي مكانه، ولم يزل يلاطفه حتي أقنعه، ودخل الإمام وأخذ جميع ما علي النساء من ثياب ومصاغ وجميع ما في الدار من أثاث وسلمه إلي الجلودي فحمله إلي الرشيد، وحين ملك المأمون غضب علي هذا الجلودي وأراد قتله، وكان الإمام الرضا حاضراً، فطلب من المأمون أن يعفو عنه ويهبه له، فظن الجلودي أن الإمام يحرض المأمون علي قتله لما سبق من إساءته، فقال الجلودي للمأمون: أسالك بالله أن لا تقبل قوله في، فقال المأمون والله لا أقبل قوله فيك، اضربوا عنقه، فضربت. وهناك مظالم أخري للرشيد مع العلويين وشيعتهم نتركها خوف الاطالة، ولأن الشاهد يدل علي الغائب، وهو كاف واف للتعبير عن حقيقة الرشيد وسياسته.

الأمين:

جاء في كتاب (الشيعة والحاكمون): مات هارون الرشيد بطوس سنة ثلاث

ص: 92

وتسعين ومئةه وفيها بويع لابنه الأمين، ودامت خلافة الرشيد ثلاثاً وعشرين سنةو شهراً،و كانت خلافة الأمين أربع سنين وأشهر. وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم، لتشاغله بما كان فيه من اللهو والادمان له، ثم الحرب بينه وبين المأمون حتي قتل، فلم يحدث علي أحد منهم - أي من آل أبي طالب في أيامه حدث بوجه ولا سبب. (1)

المأمون :

قتل المأمون أخاه الأمين واستقام الأمر وانبسط التشيع في عهده وعهد أبيه، وانتشر في كل بقعة من بقع الإسلام، حتي امتدت جذوره إلي البلاط الملكي، فكان الفضل بن سهل ذو الرياستين وزير المأمون شيعياً، وطاهر بن الحسين الخزاعي قائد المأمون الذي فتح له بغداد وقتل أخاه الأمين شيعياً، وكثير سواهما، حتي أن المأمون خشي عاقبة هذين فقتل الفضل وولي طاهراً إمارة هرات، أي عزله من قيادة الجيش إلي وظيفة أدني، و كانت الطاهرية كلها تتشيع، كما قال ابن الأثير في حوادث عام 350.

وقد ساعد إمعان السلطة في الفساد والمظالم علي هذا الانتشار، فكلما أمعن الحاكمون في الجور كلما تحرك ساكن الأمة وازداد تمسكها بأهل البيت الطاهر، ونتج عن قتل كل واحد منهم اعتناق الألوف لمذهب التشيع، وحسبك دليلاً علي ذلك أن السندي بن شاهك خادم الرشيد حين سقي الإمام الكاظم السم دعا ثمانين رجلاً من الفقهاء والوجهاء وأدخلهم علي الإمام وقال لهم: انظروا هل حدث به حدث، فإن الناس يزعمون أنه فعل به مكروه، لقد خاف الرشيد من الرأي العام والناس، لا من الله، فدعاهم إلي النظر ليشهدوا علي أنه لا جرح ولا ضرب ولا أي أثر للقتل، ثم وضعت جنازة الإمام علي الجسر ببغداد حيث يقيم أكثر الشيعة ونودي عليه: هذا موسي بن جعفر قد مات

ص: 93


1- مقاتل الطالبيين: 338

فانظروا إليه، فهاج الشيعة وكادت الفتنة تقع، فتداركها سليمان بن جعفر عم الرشيد، فأخذ الجنازة من الشرطة وشيعها بموكب حافل، ومشي حافياً حاسراً، لا حباً للإمام ولا صلة للرحم كما زعم، بل خوفاً من الثورة علي ابن أخيه هارون وسلطان العباسيين.

ولما جاء المأمون إلي الحكم ورأي ما رأي من كثرة الشيعة وإقبال الناس علي الإمام الرضا ونقمتهم علي أبيه والحاكمين من أسلافه، حاول أن يداهن ويستميل الرأي العام، فأظهر التشيع كذباً ونفاقاً، وأخذ يدافع ويناظر عن إمامة علي أمير المؤمنين وأنه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر، وهو لا يؤمن بشيء إلا بتثبيت ملكه وتوطيد سلطانه، والغريب أن حيل المأمون قد انطلت علي كثير من الشيعة، فظنوا به خيراً، والحقيقة أن الرشيد والمأمون بنيا علي أساس واحد وهو الاحتفاظ بالسلطة وإن اختلف شكل البناء، فلقد دس الرشيد السم إلي الإمام الكاظم، ودس المأمون السم للإمام الرضا، ولكن المأمون كان قد استفاد من أخطاء أبيه الرشيد الذي جاهر بالعداء لأهل البيت وسجن الإمام علناً ثم اغتاله بأسلوب يدينه وثبت عليه التبعات، ويثير السخط والاستياء، استفاد المأمون من أخطاء أبيه فأحكم الخطط لإخفاء جرائمه ومآثمة، وقصّته مع الإمام الرضا عليه السلام تدل علي ذلك بوضوح، وهذه خلاصتها:

الإمام الرضا عليه السلام والمأمون :

كان الإمام علي بن موسي بن جعفر عليه السلام خيربني آدم في عصره علي الاطلاق، وأعظم منزلة عند الله والناس، نقل المؤرخون وأهل السيرأن الإمام الرضا كان إذا مر ببلد ازدحم خاصة الناس وعامتهم في الطرقات، وأخذ الفقهاء والعلماء بركابه ولجام دابته، يسألونه أن يفيض عليهم من علمه ويحدثهم عن آبائه كما حصل لهحين مر بنيشابور. وخرج في أحد الأعياد للصلاة فامتلأت الطرقات والسطوح بالرجال والنساءوالصبيان، ولما بلغ الجادة رفع رأسه إلي

ص: 94

السماء وكبر فخيل إلي الناس أن الهواء والحيطان والأرض والسماء تجاوبه، وضجوا بالبكاء والصياح، وبلغ المأمون ذلك، فقال الفضل بن سهل: إن بلغ الرضا المصلي علي هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله الرجوع، فبعث إليه المأمون يسأله أن يرجع، فرجع.

وقد حاول المأمون أن يحط من قدر الرضا عند الناس ويظهر لهم أنه ما زهد في الدنيا إلا بعد أن زهدت فيه وامتنعت عنه، ولو وجد السبيل إليها لتقبلها بغبطة وسرور.

في المجلد 12 من الوسائل ص 147 أن المأمون اجتمع مع الرضا فقال له: يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني، فقال الرضا عليه السلام : بالعبودية لله عزوجل أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنياء وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، و بالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزوجل فقال له المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا عليه السلام: إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله لا بد لك من قبول هذا الأمر، فقال: لست أفعل ذلك طائعاً أبداً، فما زال يجهد به أياماً حتي يئس من قبوله، فقال: إن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك، فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي، فقال الرضا عليه السلام: والله لقد حدثني أبي عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن رسول الله صلي الله عليه و آله أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم مظلوماً،تبكي علي ملائكة السماءوالأرض، وأدفن في أرض غربة إلي جنب هارون الرشيد، فبكي المأمون وقال: يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر علي الإسائة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا عليه السلام: أما أني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت، فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس أنك زاهد في الدنيا، فقال له الرضا عليه السلام: والله ما

ص: 95

كذبت منذ خلقني الله عزوجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: الأمان علي الصدق، قال: لك الأمان، قال: تريد أن يقول الناس أن علي بن موسي الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، أما ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟ قال: فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبدأ بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن لم تقبل ولاية العهد وإلا أجبرتك علي ذلك، فإن لم تفعل وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا عليه السلام: قد نهاني الله أن ألقي بيدي التهلكة، فإن كان الأمر علي هذا فأفعل ما بدا لك، وإنما أقبل ذلك علي أن لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً. فرضي بذلك منه وجعله ولي عهده علي كراهية منه عليه السلام لذلك».

وبالتالي فإن موقف المأمون من الإمام الرضا كموقف أبيه الرشيد من الإمام الكاظم وموقف جده المنصور من الإمام الصادق وموقف معاوية بن أبي سفيان من الإمام الحسن، لقد هانت دماء الأبرياء والأولياء علي حكام الجور من أجل الملك، وهانت علي المصلحين نفوسهم في سبيل الحق، ولذا نوالي هؤلاء، ونبرأ من أولئك.

المتوكل وعداؤه لأهل البيت عليه السلام:

في كتاب (الشيعة والحاكمون): «أن المتوكل كان معروفاً في اللهو والمجونو معاقرة الخمر، قال المسعودي: هو أول خليفة من بني عباس ظهر في مجلس اللعب و المضاحك والهزل».وقال السيد أمير علي في كتاب (مختصر تاريخ العرب): وفي عهده بدأ انحلال الامبراطورية العربية، وتسرب الفساد في جسم الدولة، وأمر الناس بالتمسك بالتقليد، وأقصي أحرار الفكر عن الوظائف، وتغلب عليه الأتراك، وأصبحوا أصحاب الأمر والنهي .

وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبين: كان المتوكل شديد الوطأة علي آل أبي طالب، غليظاً علي جماعتهم، شديد الغلظة والحقد عليهم، وسوء الظن

ص: 96

والتهمة لهم... واستعمل علي المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرض للناس، ومنع الناس من البربهم، وكان لا يبلغه أن أحداً وصل منهم بشيء وإن قل إلا أنهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتي كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم يرقعته ويجلسن علي مغازلهن عواري حاسرات».(1)

هكذا شاء أمير المؤمنين المتوكل علي الله أن تقبع العلويات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة، وأن تختال الفاجرات العاهرات بالحلي وحلل الديباج بين الإماء والعبيد.

لقد أرسل الرشيد إلي بنات الرسول من يسلب الثياب عن أبدانهن، أما المتوكل فقد شدد وضيق عليهن حتي ألجأهن إلي العري، وهكذا تتطور الفلسفات والمناهج مع الزمن علي أيدي القرشيين العرب أبناء الأمجاد والأشراف!

لقد تفرق العلويون أيام المتوكل (نيرون العرب) كما سماه بعض المؤرخين، فمنهم من تواري حتي مات في حال تواريه، كأحمد بن عيسي بن الحسين، وعبد الله بن موسي الحسيني، ومنهم من ثار من الضغط والجور محمد بن صالح، ومحمد بن جعفر.

ولم يكتف المتوكل بتنكيل الأحياء حتي اعتدي علي قبور الأموات، فهدم قبر الحسين عليه السلام وما حوله من المنازل والدور ومنع الناس من زيارته، ونادي مناديه: من وجدناه عند قبر الحسين حبسناه في المطبق - سجن تحت الأرض - فقال الشاعر:

تالله إن كانت أمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها *** هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا علي أن لا يكونوا شايعوا*** في قتله فتتبعوه رميما (2)

ص: 97


1- مقاتل الطالبيين: 396
2- البداية والنهاية لابن كثير 11: 143

وكان المتوكل يقرب علي بن جهم لأنه كان يبغض علية أمير المؤمنين، وكان ابن الجهم هذا مأبوناً، سمعه يوماً أبو العيناء يطعن علي الإمام فقال له: إنك تطعن عليه لأنه قتل الفاعل والمفعول من قوم لوط، وأنت أسفلهما (ابن أبي الحديد ج 1 ص

363).

وكان ابن السكيت من كبار العلماء والأدباء في زمانه، وقد ألزمه المتوكل تعليم ولده المعتز، فقال له يوماً: أيهما أحب إليك:ابناي هذان المعتزوالمؤيدأو الحسن والحسين؟ فقال ابن السكيت: والله إن قنبراً خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك! فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات.

وكان عند المتوكل مخنث يدعي عبادة، فيشد علي بطنه مخدة ويرقص بين يدي المتوكل والمغتون يغنون «أقبل البطين خليفة المسلمين» وهم يعنون علياً أمير المؤمنين، والمتوكل يشرب ويضحك. وفعل ذلك يوماً وابنه المنتصر حاضر، فقال لأبيه: إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك، فكل أنت لحمه إذا شئت ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله! فقال المتوكل للمغنين: غنوا۔

غار الفتي لابن عمه *** رأس الفتي في حر أمه

وسمعه يوماً يشتم فاطمة بنت الرسول، فسأل أحد الفقهاء فقال له: قد وجب عليه القتل، إلا أن من قتل أباه لم يطل عمره، فقال المنتصر: لا أبالي إذا أطعت الله بقتله ألا يطول عمري، فقتله فعاش بعده سبعة أشهر.

لقد أمر القرآن بمودة أهل البيت، وجعلها أجرأً وشكراً لمحمد علي ما أسداه الأمته من الخير، فكانت النتيجة أن أقرب الناس إليه الذين حكموا وتحكموا برقاب الناس باسمه هم الذين استباحوا من دماء أبنائه والتنكيل بهم ما لا يقبل المزيد. إن الذين أنكروا محمداً ورسالته أهون علي الإسلام بكثير من المتوكل وأمثاله الذين أظهروا الإسلام ثم كادوا له وخالفوه مخالفة المضاد المعاند و العدو الحاقد.

ص: 98

ونكتفي بما ذكرناه عن العباسيين، فإن فيه الدلالة الكافية الوافية علي قبح سيرتهم وسوء سياستهم التي تتلخص بكلمتين: اجتراء علي الشر والحرام، وشغف بالظلم والفساد، واحتقار للدين والإنسانية، والمصدر الوحيد لهذه السيئات والمنكرات هو حكم الفرد واستقلاله في شؤون الدولة، واستهتاره بحقوق الجماعة.

ص: 99

ص: 100

ومن كلام له عليه السلام :

في النهي عن غيبة الناس

(انَما يَنبَغِي لاَهلِ العصمَةِ وَالمَصنُوعِ إلَيهِم فِي السَّلامَة أَن يَرحَمُوا أهلَ الذُنُوبِ وَالمَعصِيَةِ وَيكُونَ الشُكرُ هُوَ الغالِبُ عَلَيهِم والحَاجِزَ لَهُم عَنهُم فَكَيفَ بِالعائِبَ الَّذي عَابَ أَخَاهُ وَعَيَّرَهُ بِبَلوَاهُ أَمَا ذَكَرَ مَوضِعَ سَترٍ الله عَلَيه مِن ذُنوبِه مِمَّا هُوَ أعظَمُ مِنَ الذَّنبِ الَّذَي عَابَه بِه وَكيفَ يَذَمُّهُ بّذَنبٍ قَد رَكِبَ مِثلَهُ فَإن لَم يَكُن رَكِبَ ذلكَ الذَّنبَ بِعَينِهِ فَقَد عَصِيَ اللهَ فِيمَا سَواهُ مِمَّا هُوَ أعظَمُ مِنهُ وَايمُ الله لَئِن لَم يَكُن عَصاهُ فِي الكَبيرِ وَعَصاهُ فِي الصَّغيرِ لَجَرَاءَتُةُ عَلَي عَيبِ النَّاسِ أَكبَرُ يا عَبدَ الله لا تَعجَل في عَيبِ أحَدٍ بذَنبِهِ فَلَعَلَهُ مَغفوُرٌ لَهُ وَلا تَأمَن عَلَي نَفسِكَ صَغيرَ مَعصِيَةٍ فَلَعَلك مُعَذَّبٌ عَلَيهِ فَليَكُفُف مَن عَلَمَ مِنكُم عَيبَ غَيرِهِ لمَا يَعلمُ مِن عَيبِ نَفسِهِ وَليَكُن الشُكرُ شاغِلاً لَهُ عَلَي مُعافَاتِهِ ممَّا ابتُلِيَ بِهِ غَيرُهُ). (1)

الشرح:

من المألوف في الأوساط العادية أن يتفشي النقد للأشخاص، وليس ذلك النقد يستند إلي ناحية تبرره، وإنما هو التحدث عن معائب الناس، والافاضة في ذكر النقائص وشرح المعائب، ولن تجد في الحياة الانسانية من استوفي الكمال في جسمه، وفي خلقه، وفي أعماله، فكل إنسان إذا فتش نفسه يجد مساغاً للقول ونافذة يلج منها الناقدون من دون مشقة أو عناء.

ص: 101


1- شرح النهج لابن أبي الحديد مج 2، ص 412، ط 1. ومن الطبعة الأولي ج 413/2

الغيبة وأثرها النفسي والاجتماعي:

ليس في هذه الأندية سوي الغيبة، وهي أن تذكر إنساناً بما يخدش شعوره ويجرح عاطفته إذا سمعه أو نقله ناقل .

إن هؤلاء الذين يألفون الغيبة لا يحسبون أنهم يعيشون في مجتمع، فالغيبة لابد أن تصل إلي صاحبها، فيتغير لك قلبه، وتمقتك طبائعه، ويجتنب صحبتك، ويغض طرفه عمن يعيبك، ولا تحسب أنك بمنجاة أن لا يعيبك مغتاب ولا يهاجمك مهاجم، وقد يتفنن الناس في الغيبة، فقد يعيبونه في تشويه في جسده أو بمحاكاة في عرج أو انتفاخ بطن، أو تقليده فيما نقص بأعين الناس من خشونة صوت وإمالة عنق، وقد يرمزون بألقاب و كني يتعارفونها فيما بينهم. هذه نماذج تراها وتسمعها، وهناك في واقع الحياة العامة أشكال وصور أخري تستطيع أن تعرفها بنظرة سطحية.

العاقل الفطن يتصون عن الغيبة، حيث إن الغيبة تباعد بين القلوب، وتقطع الروابط بين الناس من حب ومودة وصداقة. وقد تكون صدرت عن دواع غير أصيلة في النفس، وأما إذا صدرت من دواع أصيلة فهناك يكون فاعلها بؤرة شر، حيث إن بواعثها الأصيلة أصول الشرور كالحسد والكبر والحرص والحقد، ومن توجد في نفسه هذه العناصر اللئيمة والمبادئ الأثيمة فهو يعيش وحده تكفيه أدواؤه، ويقضي عليه بلاؤه.

وبالتالي، إن هذا الكلام له عليه السلام كما نبه عليه السيد الرضي رضي الله عنه وارد في مقام النهي عن غيبة الناس، وهي من أعظم الموبقات الموقعة في الهلكات، والموجبة الانحطاط الدرجات، لأن المفاسد التي تترتب علي ارتكابها أكثر منالمفاسد التي تترتب علي سائر المنهيات، وضررها ضرر نوعي، وضرر سائر المعاصي شخصي غالباً.

بيان ذلك كما قاله الشارح البحراني: أنه لما كان من المقاصد المهمة اجتماع النفوس علي هم واحد وطريقة واحد، وهي سلوك سبيل الله بسائر وجوه الأوامر والنواهي، ولن يتم ذلك إلا بتعاون هممهم وتصافي بواطنهم

ص: 102

واجتماعهم علي الألفة والمحبة، حتي يكونوا بمنزلة عبدٍ واحد في طاعة مولاه، ولن يتم ذلك إلا بنفي الضغائن والأحقاد والحسد ونحوه، و كانت الغيبة من كل منهم لأخيه مثيرةً لضغنه، ومستدعيةً منه مثلها في حقه، لاجرم كانت ضد المقصود الكلي للشارع، فكانت مفسدة كلية».

قال الخوئي ميرزا حبيب الله: هذا هو محصل قوله سبحانه (وَتَعاوَنُوا عَلَي البِرِ وَالتَّقوي وَلا تَعاوَنُوا عَلي الإِثمِ وَالعُدوانِ). (1)

وسنذكر لك معني الغيبة والأدلة الواردة في ذمها ومفاسدها بعد الفراغ من شرح ما رواه السيد رضي الله عنه. قول عليه السلام : وإنما ينبغي لأهل العصمة وهم الذين عصمهم الله من المعاصي ووقاهم من الجرائر بجعل نفوسهم الأمارة مقهورة لقوتهم العقلانية بما عرفهم من معائب المعاصي ومنافع الطاعات، فحصل لهم بذلك ملكة الارتداع عن الذنوب والامتناع عن اقتحام المحارم، وهم.

المصنوع إليهم في السلامة :

أي الذين اصطنع الله سبحانه إليهم وأنعم عليهم بالسلامة من الانحراف عن صراطه المستقيم والاعتساف عن نهجه القويم، ومن الخروج من النور إلي الظلمات والوقوع في مهاوي الهلكات.

أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية.

لما رأوا منهم الخطيئة والعصيان والغرق في بحر الذل والهوان، والتيه في وادي الضلال والخذلان، والرحمة منهم إنما تحصل بانقاذهم الغريق من البحر العميق، وإرشاد التائه إلي الرشاد بالتنبه علي السداد في العمل والاعتقاد.

ويكون الشكر منهم علي ما اصطنع الله إليهم هو الغالب عليهم يعني أن اللازم علي أهل العصمة أن يكون شكرهم علي نعم الله سبحانه - ومن

ص: 103


1- المائدة: 2

أعظمها عصمته لهم من الاقتحام في المعاصي - هو الغالب عليهم دون غيرهم، والشاغل لهم عن حصائد الألسنة وعن التعريض بعيوب الناس، والحاجز لهم عنهم، وعن كشف سوآتهم وعوراتهم.

وإذا كان اللازم علي أهل العصمة مع ما هم عليه من العصمة وترك المعاصي ذلك (فكيف) بمن هو دونهم من اسراء عالم الحواس والآخذين بهوي الأنفس والمتورطين في الجرائم وموبقات العظائم، أعني (الغائب الذي عاب) واغتاب (أخاه) بما يكرهه (وعيره) و قرعه (بيلواه) يعني أن اللائق بحال أهل العصمة إذا كان ترك التعرض بعيوب الناس، فغيرهم مع ما عليهم من العيب أولي بترك التعرض وأحري.

وقوله عليه السلام: أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه.

توبيخ ولوم لهم علي ترك الذكر، وتحضيض علي تداركه في المستقبل، يعني أنه ينبغي له أن يذكر مكان ستر الله عليه ذنوبه مع علمه وإحاطته سبحانه بها صغائرها و كبائرها وبواطنها وظواهرها وسوالفها و حوادثها، وقد ستر عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذي عابه به، فإذا ذكر معاملة الله سبحانه مع عبده هذه المعاملة وستره عليه جرائمه وجرائره له مع علمه بجميع ما صدر عنه من الخطايا والذنوب، فكيف به وكيف يذمه بذنب قد ركب مثله، ولا يذم نفسه فإن لم يكن ركب مثل ذلك الذنب بعينه فقد عصي الله سبحانه فيما سواه مما هو أعظم منه وأيم الله قسماً حقاً لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير لجرأته، علي عيب الناس وغيبتهم أكبر.

ومحصل المراد أنه لا يجوز لأحد أن يعيب أخاه، لأنه إما أن يكون بذنب وقد ارتكب الغائب مثله أو أكبر منه أو أصغر، فإن كان بذنب قد ارتكب مثله أو أكبر كان له في عيب نفسه شغل عن عيب غيره.

ص: 104

وفيه قال الشاعر:

إذا جريت مع السفيه كما جري *** فكلاكما في جريه مذموم

وإذا عتبت علي السفيه ولمته *** في مثل ما تأتي فأنت ظلوم

لا تنه عن خُلُق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

وإن كان بذنب ارتكب أصغر منه فهو ممنوع أيضاً، لأن جرأته علي الغيبة وإقدامه عليها أكبر المعاصي باعتبار ما يترتب عليها من المفاسد والمضار الدنيوية والأخروية.

ثم نادي عليه السلام نداء استعطاف فقال: «يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعله مغفور له، ولعله تائب عنه ولا تأمن علي نفسك صغير معصية فلعلك معذب عليه و معاتب به.

ثم أكد لهم الوصية بقوله: فليكفف من علم منكم عيب غيره عن غيبته و توبيخه وتفضيحه لمكان ما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له علي ما أنعم الله سبحانه به عليه من معافاته و عصمته له مما ابتلي به غيره.

تنبيه: في تحقيق معني الغيبة والأدلة الواردة في حرمتها

وما يترتب عليها من العقوبات ودواعيها ومستثنياتها وعلاجها و كفارتها.

وقد حقق الكلام فيها علماؤنا البارعون (قدس الله أرواحهم) في كتب الأخلاق والفقه في مقدمات أبواب المعايش بما لا مزيد عليه، بل أفرد بعضهم لتحقيقها رسالة مستقلة، فأحببنا أن نورد بعض ما فيها حسب ما اقتضته الحال، لكونها من أعظم عثرات الإنسان وأوبق آفات اللسان، فأقول وبالله التوفيق: الكلام في المقام في أمور:

الأمر الأول: في تحقيق معناها

فأقول: قال الفيومي: اغتابه اغتياباً: إذا ذكره بما يكره من العيوب وهو حق والاسم الغيبة، فإن كان باطلاً فهو الغيبة في بهت، وفي القاموس: غابه عابه وذكره بما فيه

ص: 105

من السوء، كاغتيابه، والغيبة _ بالكسر - فعلة منه. وعن الصحاح: الغيبة أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه لو سمعه، فإن كان صدقاً سمي غيبة، وإن كان كذباً مي بهتاناً.

وعن النبي صلي الله عليه وآله _ وقد سأله أبو ذر عن الغيبة -: إنها ذكرك أخاك بما يكرهه. (1)

وفي رواية أخري عنه صلي الله عليه وآله: أتدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلي الله عليه وآله: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. (2)

والظاهر أن يكون المراد بالذكر في كلامه وكلام غيره - كما فهمه الأصحاب الأعم من الذكر القولي، وإن كان عبارة الصحاح تفيد الاختصاص، فكل ما يوجب التذكر للشخص من القول والفعل والاشارة وغيرها فهو ذكر له، وممن صرح بالعموم ثاني الشهيدين وصاحب الجواهر وشيخنا العلامة الأنصاري في المكاسب.

قال الغزالي: إن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والاشارة والايماء والغمز والهمزوالكتابة والحركة و كل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، فمن ذلك قول عائشة: دخلت علينا امرأة، فلما ولت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال صلي الله عليه وآله: اغتبتها. ومن ذلك المحاكاة، كأن يمشي متعارجاً أو كما يمشي، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، ولما رأي صلي الله عليه وآله عائشة حاكت امرأة قال صلي الله عليه وآله: ما يسرني أني حاكيت إنساناً ولي كذا و كذا و كذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسائين.

قال شيخنا العلامة الأنصاري: ومن ذلك تبين المطلب الذي ذكره بعض المصنفين بحيث يفهم منه الأزراء بحال ذلك المصنف، فإن قولك إن هذا المطلب بديهي البطلان تعريض لصاحبه بأنه لا يعرف البديهيات، بخلاف ما

ص: 106


1- أمالي الطوسي: 537؛ مكارم الأخلاق للطبرسي: 470
2- عوالي الليالي 1: 275؛ بحار الأنوار 72: 222

إذا قيل إنه مستلزم لما هو بديهي البطلان، لأن فيه تعريضأ بأن صاحبه لم ينتقل إلي الملازمة بين المطلب وبين ما هو بديهي البطلان، ولعل الملازمة نظرية.(1)

هذا والمرادمن الأخ في النبويين كما صرح به غير واحد من الأعلام _ هو المسلم، فإن غيبة الكافر وإن تسمي غيبة في اللغة إلا أنها لا يترتب عليها حكم الحرمة، إذ لا أخوة بينه وبين المسلم، بل لا خلاف في جواز غيبتهم وهجوهم وسبهم ولعنهم وشتمهم مالم يكن قذفاً، وقد أمر رسول الله صلي الله عليه وآله حساناً بهجوهم، وقال: إنه أشد عليهم من رشق النبال. وبذلك يظهر اشتراك المخالفين للمشركين في جواز غيبتهم، كما يجوز لعنهم لانتفاء الأخوة بينهم وبين المؤمنين، ولذلك قال ثاني الشهيدين في حدها: هو القول وما في حكمه في المؤمن بما يسوءه لو سمعه مع اتصافه به.

اختصاص حرمة الغيبة بين المؤمنين:

وفي جامع المقاصد: وحدها علي ما في الأخبار أن يقول المرء في أخيه ما يكرهه لو سمعه مما فيه، ومن المعلوم أن الله تعالي عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله (إنَمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ) (2) دون غيرهم، و كيف تتصور الأخوة بين المؤمن والمخالف بعد تواتر الروايات وتظافر الآيات في وجوب معاداتهم والبرائة منهم. فانقدح بذلك فساد ما عن الأردبيلي والخراساني رحمهما الله من المنع عن غيبة المخالف نظراً إلي عموم أدلة تحريمها من الكتاب والسنة، لأن قوله تعالي (ولا يغتب) خطاب للمكلفين أو خصوص المسلمين، وعلي التقديرين فيعم المخالف، والسنة أكثرها بلفظ الناس والمسلم، وهما معاً شاملان للجميع، ولا استبعاد في ذلك، إذ كما لا يجوز أخ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه.

ص: 107


1- المكاسب 1: 331
2- الحجرات: 10

ووجه ظهور الفساد أن ذيل الآية مفيد لاختصاص الخطاب بالمؤمنين، الأن تعليل النهي عنها بأنها بمنزلة أكل لحم الأخ يدل علي اختصاص الحرمة بمن كان بينه وبين المغتاب أخوة كما أشرنا.

قال شيخنا العلامة: وتوقم عموم الآية كبعض الروايات المطلق المسلم مدفوع بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم وعدم جريان أحكام الإسلام عليهم إلا قليلاً مما يتوقف استقامة نظام معاش المؤمنين عليه، مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرطوبة، وحل ذبائحهم ومناكحهم، وحرمة دمائهم، لحكمة دفع الفتنة وفسادهم لأن لكل قوم نكاحاً أو نحو ذلك.

وقال صاحب الجواهر بعد نقل كلام الأردبيلي: ولعل صدور ذلك منه الشدة تقاته وورعه، لكن لا يخفي علي الخبير الماهر الواقف علي ما تظافرت به النصوص -بل تواترت -من لعنهم وسبهم وشتمهم وكفرهم وأنهم مجوس هذه الأمة وأشرمن النصاري و أنجس من الكلاب، أن مقتضي التقدس والورع خلاف ذلك، وصدر الآية (الَّذينَ آمَنُوا) وآخرها بأكل لحم الأخ (إلي أن قال): وعلي كل حال فقد ظهراختصاص الحرمة بالمؤمنين القائلين بإمامة الأئمة الإثني عشر دون غيرهم من الكافرين و المخالفين ولو بإنكار واحد منهم.

ثم الظاهر من المؤمن المغتاب - بالفتح - أهم من أن يكون حياً أو ميتاً، ذكراً أو أنثي، بالغاً أو غير بالغاً، مميزاً أو غير مميز، وقد صرح بالعموم شيخنا السيد العلامة طاب رمسه في مجلس الدرس، ومثله كشف الريبة، حيث صرح بعدم الفرق بين الصغير والكبير، وظاهره الشمول لغير المميز أيضاً.

وقال شيخنا العلامة الأنصاري: الظاهر دخول الصبي المميز المتأثر بالغيبة لو سمعها لعموم بعض الروايات المتقدمة وغيرها، الدالة علي حرمة اغتياب الناس وأكل لحومهم مع صدق الأخ عليه، كما يشهد به قوله تعالي:

ص: 108

(وان تُخالِطُوهُم فَإخوانُكُم )(1) ومضافاً إلي إمكان الاستدلال بالآية وإن كان الخطاب للمكلفين بناء علي عدة أطفالهم منهم تغليبأً، وإمكان دعوي صدق المؤمن عليه مطلقاً أو في الجملة. (2)

وعلي ما ذكرناه من التعميم فلابد أن يراد من السماع في تعريفهم لها بأنها ذكر المؤمن بما يسوءه لو سمعه الأعم من السماع الفعلي، والمراد بالموصول فيما يسوءه ما يكره ظهوره، سواء كره وجوده كالجذام والبرص ونحوهما أم لا كالميل إلي القبائح.

والمستفاد من بعض الروايات كغير واحد من الأصحاب عدم الفرق في مايكره بين أن يكون نقصاً في الدين أو الدنيا أو البدن أو النسب أو الخلق أو الفعل أو القول أو ما يتعلق به من ثوبه أو داره أو دابته أو غير ذلك.

أما في الدين فكقولك: هو سارق، أو كذاب، أو شارب الخمر، أو خائن، أو ظالم، أو متهاون بالصلاة أو الزكاة،أو لا يحسن الركوع أو السجود،أو لا يحترزمن النجاسات، أو ليس باراً بوالديه.

وأما في الدنيا فكقوله: إنه قليل الأدب متهاون بالناس، أو لا يري لأحد علي نفسه حقاً، أو يري لنفسه الحق علي الناس، أو أنه كثير الكلام، أو كثير الأكل، أو كثير النوم ينام في غير وقته.

وأما البدن فكما تقول: إنه طويل أو قصير أو أعمش أو أحول أو أقرع أو لونه أصفر أو أسود ونحن ذلك مما يسوئه.

وأما النسب فكقولك: أبوه فاسق أو خسيس أو حجام أو زبال أو ليس بنجيب.

وأما الخلق فبأن تقول: إنه سيء الخلق بخيل متكبر مختال مراء شديد الغضب جبان عاجز ضعيف القلب متهور وما يجري مجري ذلك.

ص: 109


1- البقرة: 220
2- المكاسب 1: 319 - 320

وأما الفعل فإما أن يكون متعلقاً بالدين أو الدنيا، وقد مر مثالهما.

وأما القول: فكقولك: إنه كذاب أو سباب أو أنه نمام أو أعجم أو ألكن أو ألثغ أو أليغ ونحو ذلك.

وأما في ثوبه: فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب ونحوها.

وأما في داره فكما تقول: إنه مفحص قطاة، أي في الصغر، أو كدير النصاري أو نحوهما.

وأما في دابته فكقولك لحصانه: إنه برذون، أو لبغلته إنها بغلة أبي دلامة أي كثيرة العيوب.

الثاني: في الأدلة الدالة علي حرمة الغيبة

وما ترتب عليها من الذم والعقوبة فأقول: إنها محرمة بالأدلة الأربعة - أعني الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فأما الإجماع فواضح، وأما العقل فلأنها موجبة لفساد النظام وانفصام عروة الانتظام، وعليها بني القبائح، ومنها يظهر العدو المكاشح، علي ما مر توضيحه في شرح كلام الإمام عليه السلام.

الدليل القرآني:

وأما الكتاب فمنه قوله تعالي: (وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضاً أَيحِبُ أَحَدَكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخيهِ مَيتاً فَكَرَهتُمُوهُ واتَّقوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوابٌ رَحِيمٌ) (1) فجعل سبحانه المؤمن أخاً، وعرضه كلحمه، والتفكه به أكلاً، وعدم شعوره بذلك بمنزلة حالة موته.

قال الفخر الرازي: الحكمة في هذا التشبيه الاشارة إلي أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولي، لأن

ص: 110


1- الحجرات: 12

ذلك آلم، وقوله لحم أخيه آكد في المنع، لأن العدو يحمله الغضب علي مضغ لحم العدو، فقال تعالي أصدق الأصدقاء من ولدته أمك، فأكل لحمه أقبح ما يكون، وقوله تعالي ميتاً إشارة إلي دفع وهم، وهو أن يقال: القول في الوجه يؤلم فيحرم، وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال: أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم، ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم، كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لألمه ذلك..

ومن الكتاب أيضا قوله سبحانه: (وَيلٌ لِكُلِ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (1) قال الليث: الهمزة هو الذي يعيبك بوجهك، واللمزة الذي يعيبك بالغيب، وقيل: الهمز ما يكون باللسان والعين والاشارة، واللمز لا يكون إلا باللسان، وقيل: هما بمعني واحد.

ومنه أيضاً قوله: (لا يُحِبُ اللهُ الجَهرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَولِ إلَّا مَن ظُلمَ) (2) وقوله:(إنَّ الَّذينَ يُحبُونَ أَن تَشيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذيِنَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَليمٌ )(3) روي في الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزوجل:(إنَّ الَّذينَ يُحِبُونَ أَن تَشيعَ الفاحِشَةُ). (4)

الدليل الروائي:

وأما السنة فيدل عليها منها أخبار لا تحصي:

مثل ما رواه في الكافي عن ابن إبراهيم عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه . (5)

ص: 111


1- الهمزة: 1
2- النساء: 148
3- النور: 19
4- الكافي 2: 357/ ح 2
5- الكافي 2: 357 ح 1

قال: وقال رسول الله صلي الله عليه وآله : الجلوس في المجلس انتظار (1) الصلاة عبادة ما لم يحدث، قيل: يا رسول الله وما يحدث ؟ قال: الاغتياب.(2)

وفيه مسنداً عن مفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: من روي علي مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلي ولاية الشيطان فلا يقبلهالشيطان. (3)

وفي الوسائل من المجالس بإسناده عن أبي بصير، عن النبي صلي الله عليه وآله في وصية له قال: يا أبا ذر إياك والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، قلت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأن الرجل يزني فيتوب إلي الله فيتوب الله عليه، والغيبة لا تغفر حتي يغفرها صاحبها، يا أبا ذر سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، قلت: يا رسول الله وما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكرهه، قلت: يا رسول الله فإن كان فيه الذي يذكر به؟ قال: اعلم أنك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته. (4)

وفي الوسائل أيضاً عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد مسنداً عن زيد بن علي، عن آبائه عليهم السلام، عن النبي صلي الله عليه وآله قال: تحرم الجنة علي ثلاثة: علي المنان، و علي المغتاب، وعلي مدمن الخمر.(5)

وفيه أيضاً عن أبي عبد الله الشامي، عن نوف البكالي أنه قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السلام وهو في رحبة مسجد الكوفة فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقلت: يا

ص: 112


1- في بعض المصادر: الانتظاره، وفي بعضها انتظاراً للصلاة.
2- الكافي 2: 357/ ح 1
3- الكافي 2: 358/ ح 1
4- وسائل الشيعة 12: 281 ح 16308
5- وسائل الشيعة 12: 281 ح 16209

أمير المؤمنين عظني، فقال: يانوف أحسن حسن إليك.. إلي أن قال: قلت: زدني قال: اجتنب الغيبة فإنها أدام كلاب النار، ثم قال: يانوف كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة. (1)

وفي المكاسب لشيخنا العلامة الأنصاري (طاب رمسه) عن النبي صلي الله عليه وآله أنه خطب يوماً فذكر الربا و عظم شأنه فقال: إن الدرهم يصيبه الرجل أعظم من ستة وثلاثين زنية، وإن أربي الربا عرض الرجل المسلم.

وعنه صلي الله عليه وآله: من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين صباحاً، إلا أن يغفر له صاحبه.

وعنه صلي الله عليه وآله: من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنة، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب خالدأ في النار وبئس المصير.

وعنه صلي الله عليه وآله: كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة، فاجتنب الغيبة فإنها أدام كلاب النار.

وعنه صلي الله عليه وآله: من مشي في غيبة أخيه و كشف عورته كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم.

وروي أن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة، وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار.

وعنه صلي الله عليه وآله : إن الغيبة حرام علي كل مسلم، وإن الغيبة لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.(2)

قال شيخنا قدس سرُّه: وأكل الحسنات إما أن يكون علي وجه الاحباط لاضمحلال ثوابها في جنب عقابه، أو لأنها تنقل الحسنات إلي المغتاب كما في غير واحد من الأخبار، ومن جملتها النبوي: يؤتي بأحد يوم القيامة فيوقف بين يدي الرب عزوجل يدفع

ص: 113


1- وسائل الشيعة 12: 283 ح 16315
2- وردت هذه الأحاديث في المكاسب 1: 316- 317

إليه كتابه، فلا يري حسناته فيه، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي لا أري فيه حسناتي، فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسي، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتي بآخر ويدفع إليه كتابه فيري فيه طاعات كثيرة فيقول: إلهي ما هذا كتابي، فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقال له: إن فلاناً اغتابك، فدفعت حسناته إليك. (1)

وفي عقاب الأعمال بإسناده عن أبي بردة قال: صلي بنا رسول الله صلي الله عليه وآله ثم انصرف مسرعاً حتي وضع يده علي باب المسجد، ثم نادي بأعلي صوته: يا معشر الناس لا يدخل الجنة من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلي قلبه، لا تتبعوا عورات المؤمنين، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فيفضحه ولو في جوف بيته. (2)

وفيه أيضاً بإسناده عن حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: أربعة يؤذون أهل النار من الأذي، يسقون من الحميم والجحيم، ينادون بالويل والثبور، فيقول أهل النار بعضهم لبعض: مالهؤلاء الأربعة قد آذونا علي ما بنا من الأذي: فرجل معلق عليه تابوت من جمر، ورجل تجري أمعاؤه صديداً ودماً أسود نتناً، ورجل يسيل فوه فيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا علي ما بنا من الأذي؟ فيقول: إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لا يجد لها في نفسه أداء ولا وفاء ثم يقال للذي تجري أمعاؤه: ما بال الأبعد قد آذانا علي ما بنا من الأذي؟ فيقول: إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده، ثم يقال للذي يسيل فوه قيحاً ودماً: ما بال الأبعد قد آذانا علي مابنا من الأذي؟ فيقول: إن الأبعد كان يحاكي فينظر إلي كل كلمة خبيثة ويحاكي بها ثم يغتاب الناس، ثم يقال للذي

ص: 114


1- المكاسب 1: 317 - 318
2- ثواب الأعمال و عقاب الأعمال: 241، عقاب من تتبع عورة المؤمن.

يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا علي ما بنا من الأذي؟ فيقول: إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة.(1)

وفي الأنوار النعمانية للمحدث الجزائري عن النبي صلي الله عليه وآله أنه قال: مررت ليلة أسري بي إلي السماء علي قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم.(2)

وفيه أيضاً: وروي أنه أمر بصوم يوم وقال: لا يفطرن أحد حتي آذن له، فصام الناس حتي أمسوا، جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فأذن لي لأفطر فيأذن له، والرجل والرجل حتي جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلي ظلتا صائمتين فإنهما تستحيان أن يأتيانك فأذن لهما أن تفطرا، فأعرض عنه، ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فقال صلي الله عليه وآله : إنهما لم تصوما، و كيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستقيئا، فرجع إليهما فأخبرهما فاستقائنا فقائت كل واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلي النبي صلي الله عليه وآله: فأخبره، فقال صلي الله عليه وآله: والذي نفس محمد بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار. (3)

وفي رواية أنه لما أعرض عنه جائه بعد ذلك وقال: يا رسول الله إنهما والله لقد قائتا و كادتا أن تموتا، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : ائتوني بهما، فجاء تا، فدعي بقدح فقال لإحداهما: قيئي! فقاءت من قيح ودم صديد حتي ملأت القدح؛ وقال للأخري: قيئي، فقاءت كذلك، فقال صلي الله عليه وآله : إن هاتين صامتا عما أحل الله وأفطرنا علي ما حرم الله عليهما: جلست إحداهما إلي الأخري فجعلنا تأكلان لحوم الناس. (4)

وروي الغزالي في إحياء علوم الدين عن أنس مثلها.

ص: 115


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 246 - 247
2- رواه المجلسي في بحار الأنوار 72: 222
3- انظر تفسير ابن كثير4 :230؛ الدر المنثور للسيوطي 6: 96
4- انظر أيضأ تفسير ابن كثير4 : 230؛ تفسير الدر المنثور6 : 95

قال شيخنا العلامة (طاب رمسه): ثم إنه قد يتضاعف عقاب المغتاب إذا كان ممن يمدح المغتاب في حضوره، وهذا وإن كان في نفسه مباحاً، إلا أنه إذا انضم مع ذمه في غيبته مي صاحبه «ذا اللسانين»يوم القيامة وتأكد حرمته، ولذا ورد في المستفيضة أنه يجيء ذو اللسانين يوم القيامة وله لسانان من نار؛ فإن لسان المدح في الحضور وإن لم يكن لساناً من نار، إلا أنه إذا انضم إلي لسان الذم في الغياب صار كذلك.

وفي المجالس بسنده عن حفص بن غياث، عن الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله : من مدح أخاه المؤمن في وجهه واغتابه من ورائه فقد انقطعت العصمة بينهما.

وعن الباقر عليه السلام : بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أعطي حسده، وإن ابتلي خذله. (1)

الثالث: في دواعي الغيبة

وهي كثيرة، وقد أشار إليها الصادق عليه السلام إجمالاً بقوله: الغيبة تتنوع عشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتصديق خبر بلا كشف، وتهمة، وسوء ظن، وحسد، وسخرية، و تعجب، وتبرم، و تزين. رواه في المكاسب (2) والأنوار النعمانية.

وأما تفصيلها فقد نبه عليها أبو حامد الغزالي في إحياء العلوم فقال: فالأول: تشفي الغيظ وذلك إذا جري سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفي بذلك بذكر مساويه فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن دين رادع، وقد يمتنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب، بالباطن فيصير حقداً ثابتاً، فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي، فالحقد والحسد من البواعث العظيمة علي الغيبة.

الثاني: موافقة الأقران و مجاملة الرفقاء ومساعدتهم علي الكلام، فإنهم

ص: 116


1- المكاسب للأنصاري 1: 363 - 364
2- المكاسب 1: 331

إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيري أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويري ذلك من حسن المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلي أن يغضب بغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء، فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوئ.

الثالث: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة، فيبادره قبل أن يقبح هو حاله، ويطعن فيه ليسقط أثرشهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا عن أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن ينسب إلي شيء فيريد أن يتبرأ منه، فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل، فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك، وغرضه في ضمن ذلك فضل نفسه ويوهم أنه أفضل منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتي يكفوا عن الكرامة والثناء عليه.

السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتوجيه الوقت بالذكر وتزيين الوقت بالذكر، فيذكر غيره بما يضحك الناس علي سبيل المحاكاة، ومنشؤه التعجب والتعجيب.

الثامن: السخرية والاستهزاء استحقارأً له، فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزء به.

التاسع: الرحمة وهو مأخذ دقيق ربما يقع فيه الخواص، وهو أن يغتم بسبب ما

ص: 117

يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقاً في دعوي الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر عن ذكر اسمه، فيصير بذكره مغتاباً، فيكون غمه ورحمته خيراً، لكنه ساقه الشيطان إلي شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن من دون ذكر اسمه، فهيجه الشيطان علي ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه و ترحّمه.

العاشر: الغضب لله تعالي، وهو كسابقه في غموض إدراكه وخفائه علي الخواص فضلاً عن العوام، فإنه قد يغضب علي منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه، فيظهر غضبه ويذكر اسمه، و كان الواجب أن يذكر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهر علي غيره أو يستره ولا يذكر اسمه بالسوء.

الرابع: في عدم جواز استماع الغيبة

قال شيخنا في المكاسب: يحرم استماع الغيبة بلا خلاف، فقد ورد أن السامع للغيبة أحد المغتابين، والأخبار في حرمته كثيرة، إلا أن ما يدل علي كونه من الكبائر كالرواية المذكورة ونحوها ضعيفة السند. (1)

أقول: ومن جملة الأخبار الدالة علي حرمته ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال بإسناده عن أبي الورد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره الله وأعانه في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر علي نصرته حقره الله عزوجل في الدنيا والآخرة. (2)

وفيه أيضاً في حديث طويل عن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: ومن رد عن أخيه غيبة سمعها في مجلس رد الله عزوجل الله عنه ألف باب من الشرفي الدنيا والآخرة، وإن لم يرد عنه كان عليه كوزر من اغتاب. (3)

ص: 118


1- المكاسب 1: 359
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 250، عقاب من اغتيب عنده المؤمن.
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 280 - 285، عقاب مجمع عقوبات الأعمال. فلم ينصره

وفي الوسائل عن الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه عليه السلام في حديث المناهي، أن رسول الله صلي الله عليه وآله نهي عن الغيبة والاستماع إليها، ونهي عن النميمة والاستماع إليها، وقال: لا يدخل الجنة قتات _ يعني نماماً _ ونهي عن المحادثة التي تدعو إلي غير الله عزوجل ونهي عن الغيبة وقال: من اغتاب امرءاً مسلماً بطل صومه، ونقض وضوءه، يوم القيامة تفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذي بها أهل الموقف، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلاً لما حرم الله عزوجل ألا ومن تطول علي أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردها عنه، رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة، فإن لم يردها وهو قادر علي ردها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة. (1)

قال شيخنا: ولعل وجه زيادة عقابه أنه إذا لم يرده تجرأ المغتاب علي الغيبة، فيصر علي هذه الغيبة وغيرها، ثم قال: والظاهر أن الرد غير النهي عن الغيبة، والمراد به الانتصار للغائب بما يناسب تلك الغيبة، فإن كان عيباً دنيوياً انتصر له بأن العيب ليس إلا ما عاب الله به من المعاصي التي من أكبرها ذكرك أخاك بما لم يعبه الله به، وإن كان عيباً دينياً وجهه بمحامل تخرجه عن المعصية، فإن لم يقبل التوجيه انتصر له بأن المؤمن قد يبتلي بالمعصية، فينبغي أن يستغفر له ويهتم له لا أن يعير عليه، لأن تعبيرك إياه لعله أعظم عند الله من معصيته ونحوه.(2)

ثم اعلم أن المحرم إنما هو سماع الغيبة المحرمة دون ماعلم حليتها ولو كان متجاهراً عند المغتاب مستوراً عند المستمع، وقلنا بجواز الغيبة حينئذ للمتكلم،فالأقوي جواز الاستماع لأنه قول غير منكر، فلا يحرم الإصغاء إليه للأصل، والرواية الدالة علي

ص: 119


1- وسائل الشيعة 12: 282ح/16312
2- المكاسب للأنصاري 1:362 - 363

كون السامع أحد المغتابين تدل علي أن السامع للغية كقائل تلك الغيبة، فإن كان القائل عاصيا كان المستمع كذلك، فيكون دليلاً علي الجواز فيما نحن فيه.

الخامس: في مستثنيات الغيبة

إن الموارد التي يجوز فيها الغيبة جوازاً بالمعني الأعم، فإن المستفاد من الأخبار أن حرمتها إنما هو لأجل ما فيها من هتك عرض المؤمن وانتقاصه و تأديه، فلو لم توجب هتكاً لكونه مهتوكاً بدونها، ككونه متجاهراً بالفسق أولم يقصد بها الانتقاص بالذات فلا.

قال في جامع المقاصد: وضابط الغيبة كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن والتفكّه به أو إضحاك الناس منه، وأما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم، كنصيحة المستشير والتظلم... الخ. (1)

قال الشيخ العلامة: حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن و تأذيه منه، فإذا فرض هناك مصلحة راجعة إلي المغتاب بالكسر أو الفتح أو ثالث، دل العقل أو الشرع علي كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب كون الحكم علي طبق أقوي المصلحتين كما هو الحال في كل معصية من حقوق الله و حقوق الناس. (2)

إذا عرفت ذلك فنقول: إن مسوغاتها أمور:

الأول: التظلم، أي تظلم المظلوم بذكر ظلم الظالم عند من يرجو رفع الظلم منه، قال سبحانه:(لا يُحِبُ اللهُ الجَهرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَولِ إِلا مَن ظُلِمَ)(3) فعن تفسير القمي: أي لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم والسوئة ويظلم إلا من ظلم، فأطلق أن يعارض بالظلم. (4)

ص: 120


1- جامع المقاصد 4: 27
2- المكاسب للشيخ الأنصاري 1: 342
3- النساء: 148
4- تفسير القمي 1: 157

قال شيخنا العلامة: ويؤيد الحكم فيه أن في منع المظلوم من هذا الذي هو نوع من التشقي حرجاً عظيماً، ولأن في تشريع الجواز مظنة ردع للظالم، وهي مصلحة خالية عن مفسدة، فيثبت الجواز لأن الأحكام تابعة للمصالح، ويدل عليه ما روي عن النبي صلي الله عليه وآله : مطل الواجد يحل عقوبته وعرضه. (1)

الثاني: نصح المستشير، فإن النصيحة واجبة للمستشير، فإن خيانته قد تكون أقوي مفسدة من مفسدة الغيبة، فقد قال النبي صلي الله عليه وآله لفاطمة بنت قيس المشاورة في خطابها: معاوية صعلوك لا مال له، و أبو الجهم لا يضع العصا علي عاتقه. (2)

قال شيخنا: و كذلك النصح من غير استشارة، فإن من أراد تزويج إمرأة وأنت تعلم بقبائحها التي توجب وقوع الرجل في الغيبة والفساد لأجلها، فلا ريب أن التنبيه علي بعضها - وإن أوجب الوقيعة فيها - أولي من ترك نصح المؤمن، مع ظهور عدة من الأخبار في وجوبه. (3)

الثالث: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان حقي فكيف طريقي في الخلاص؟ قال أبو حامد: أو أخوه أو زوجته، ولكن التعيين مباح بهذا القدر، وقيده شيخنا العلامة بما إذا كان الاستفتاء موقوفاً علي ذكر الظالم بالخصوص، وإلا فلا يجوز، وظاهر الأخبار كظاهر كثير الأصحاب هو الاطلاق.

واستدلوا عليه بما روي عن هند زوجة أبي سفيان أنها قالت للنبي صلي الله عليه وآله: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، أفأخذ من غير علمه؟ فقال صلي الله عليه وآله: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، فذكرت الظلم والشح لها لولدها، ولم يزجرها إذ كان قصدها الاستفتاء.

وبصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وآله

ص: 121


1- بحار الأنوار 72 :231
2- جواهرالكلام 66:22 ؛ بحار الأنوار 72: 232
3- المكاسب 1: 352

فقال: إن أمي لا تدفع يد لامس، فقال صلي الله عليه وآله : احبسها، قال: قد فعلت، فقال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، قال: فقيدها فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله عزوجل واحتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل. (1)

الرابع: تحذير المسلم من الشر وعن الوقوع في الضرر لدنيا أودين، لأن مصلحة دفع فتنة الشر والضرر أولي من هتك شر المغتاب، مثل من يريد أن يشتري مملوكاً وأنت تعلم بكونه موصوفاً بالسرقة أو بعيب آخر، فسكوتك عن ذكر عيبه إضرار بالمشتري، وكذلك المبتدع الذي يخاف من إضلاله الناس، فإذا رأيت من يتردد إلي مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدي إليه بدعته أو فسقه فلك أن تكشف مساويه.

ويدل عليه ما عن الكافي بسنده الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، وتحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة. (2)

هذا وربما يجعل هذا المورد من باب نصح المستشير بعد تعميمه بالنسبة إلي النصح المسبوق بالاستشارة وغيره.

الخامس: قصد ردع المغتاب عن المنكر الذي يفعله إذا لم يمكن الردع إلا به، فإنه أولي من ستر المنكر عليه، فهو في الحقيقة إحسان في حقه، مضافاً إلي عموم أدلة النهي عن المنكر.

السادس: باب الترجيح والتعديل في الرواية لأجل معرفة قبول الخبر وعدمه ومعرفة صلاحيته للمعارضة وعدمها، وإلا لأنسد باب التعادل والترجيح الذي هو أعظم

ص: 122


1- المكاسب 1: 352 - 353
2- الكافي 2: 375 ح 4

أبواب الاجتهاد وجرت السيرة عليه من قديم الزمان كجريانها علي الجرح في باب الشهادة و علي ترجيح ما دل علي وجوب إقامتها علي ما دل علي حرمة الغيبة علي وجه الإشكال فيه، وإلا لضاعت الحقوق في الدماء والأموال وغيرها، ولغلب الباطل، ويلحق بذلك الشهادة بالزنا وغيره لإقامة الحدود.

السابع: دفع الضرر عن المغتاب في دم أو عرض أو مال، وعليه يحمل ما ورد في ذم زرارة من عدة أحاديث،وقد ورد التعليل بذلك في بعض الأحاديث، ويلحق بذلك الغيبة للتقية علي نفس المتكلم أو ماله أو عرضه، فإن الضرورات تبيح المحظورات.

الثامن: ذكر الشخص بعينه الذي صار بمنزلة الصفة المميزة التي لا يعرف إلا بها، كالأعمش والأعرج والأشتر والأحول ونحوها، فلا بأس بها إذا صارت الصفة في اشتهار يوصف بها الشخص إلي حيث لا يكره ذلك صاحبها، وعليه يحمل ما صدر عن العلماء الأعلام.

التاسع: إظهار العيوب الخفية للمريض عند الطبيب للمعالجة.

العاشر: رد من ادعي نسباً ليس له، فإن مصلحة حفظ الأنساب أولي من مراعاة حرمة المغتاب.

الحادي عشر: إذا علم إثنان عن رجل معصية وشاهداها، فأجري أحدهما ذكره في غيبة ذلك العاصي جاز، لأنه لا يؤثر عند السامع شيئا، وإن كان الأولي تنزيه اللسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض الصحيحة،خصوصاً مع احتمال نسيان المخاطب لذلك أو خوف اشتهاره.

الثاني عشر: غيبة المتجاهر بالفسق في ما تجاهر به، فإن من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق، وقد قال الإمام عليه السلام : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة، (1) وفي رواية أخري: من ألقي جلباب

ص: 123


1- أمالي الصدوق: 93/ ح 68؛ وسائل الشيعة 12: 289/ ح 16327

الحياء فلا غيبة له. (1) وأما جواز غيبته في غير ما تجاهر به فقد منع منه الشهيد الثاني، وحكي عن الشهيد الأول أيضاً، واستظهر الفاضل النراقي الجواز.

قال شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره: ظاهر الروايات النافية لاحترام المتجاهر وغير الساتر هو الجواز.

واستظهره في الحدائق من كلام جملة من الأعلام، وصرح به بعض الأساطين. قال شيخنا العلامة: وينبغي إلحاق ما يتستر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح، فمن تجاهر والعياذ بالله باللواط جاز اغتيابه بالتعريض للنساء الأجانب، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بشرب الخمر، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكل قبيح، ولعل هذا هو المراد بمن ألقي جلباب الحياء، لا من تجاهر بمعصيةخاصة وغدا مستوراً بالنسبة إلي غيرها كبعض عمال الظلمة. (2)

هذا،وهذه الموارد المذكورة هو المعروف استثناؤها بين جمع من الأصحاب،وبعضهم قد زادوا عليها، وبعضهم قد نقصوا، ولا حاجة إلي الأطناب بعد ما عرفت أن مدار الحرمة علي قصد الانتقاص والأذي بالذات، والله أعلم.

السادس: في معالجة الغيبة

وعلاجها إنما هو بالعلم بما يترتب عليها من المفاسد الدنيوية والأخروية، وبالتدبيرفي المضار المترتبة عليها عاجلاً و آجلاً.

أما المضار الدنيوية: فهو أنها تورث العداوة والشحناء، وتوجب غضب المغتاب، فيكون في مقام المكافاة والمجازاة لشنيع قولك، فيغضبك ويؤذيك ويهينك، ومن ذلك ينبعث الفساد، وربما يؤول الأمر إلي ما لا يمكن علاجه، بل قد يؤول إلي القتل والجرح والاستيصال وإتلاف الأموال وغيرها.

وأما المضار الأخروية: فيحصل التنبه عليها بالتفكر والتدبر في الآيات

ص: 124


1- تحف العقول: 45، الاختصاص للمفيد: 242
2- المكاسب 1: 345 - 346

والأخبار الواردة في ذمها وعقوبتها، وبالعلم بأنها توجب دخول النار وغضب الجبار ومقته، وتحبط الحسنات و تنقلها إلي ميزان حسنات المغتاب، فإن لم تكن له حسنةنقل الله من سيئات خصمه بقدر ما استباحه من عرضه، قال صلي الله عليه وآله : ما النار في اليبس أسرع من الغيبة في حسنات العبد. (1)

وإن كانت الغيبة في العيب بالخلق فليعلم أنه عيب علي الخالق، فإن من ذم الصنعة فقد ذم الصانع. قيل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه، وروي أن نوحا عليه السلام مر علي كلب أجرب فقال: ما هذا الكلب؟ فنطق وقال: يا نبي الله هكذا خلقني ربي، فإن قدرت أن تغير صورتي بأحسن من هذه الصورة فافعل، فندم نوح علي ما قال وبكي أربعين سنة، فسماه الله نوحاً، وكان اسمه عبد الملك أو عبد الجبار.

وروي أيضاً أنه مر عيسي عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عليه السلام ما أشد بياض أسنانه، كأنه نهاهم عن غيبة الكلب وتعيبه، (2) فانظر إلي عظم الخطر في تعيب الناس، فإذا لم يرض أولياء الدين بعيب ميتة حيوان، فكيف بعيب النفوس المحترمة. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: طوبي لمن شغله عيب نفسه عن عيوب الناس. (3) فإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك، قال الشاعر:

وأجرء من رأيت بظهر غيب *** علي عيب الرجال وذو العيوب

فلربما تبصر في عين أخيك القذي ولا تبصر الجذع في عينيك.

ومصروفة عيناه عن عيب نفسه *** فإن لاح عيب من أخيه تبصرا

وقد قيل للربيع بن خيثم: ما نراك تعيب أحدأً: قال: لست راضياً عن نفسي فأتفرغ لذكر عيوب الناس، ثم قال:

ص: 125


1- بحار الأنوار 72: 229
2- مستدرك الوسائل 9: 121ح10417
3- بحار الأنوار 72: 229

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها *** لنفسي في نفسي عن الناس شاغل

نعوذ بالله من زلات البيان وهفوات اللسان وسقطات الألفاظ ورمزات الألحاظ..

السابع: في كفارة الغيبة

قال المحدث الجزائري قدس سره: اعلم أن الواجب علي المغتاب أن يندم ويتوب ويأسف علي مافعل ليخرج من حق الله تعالي، ثم يستحل المغتاب فيحله ليخرج عن مظلمته، وينبغي أن يستحله وهو نادم حزين، وإلا فالمرائي قد يطلب المحالة فيكون عليه ذنب آخر، وقد ورد في كفارته حديثان :

أحدهما: قوله عليه السلام: كفارة من اغتبته أن تستغفر له.(1) وفي حديث آخر: كما ذكرته.(2) ومعني قوله كلما ذكرته علي طريقة الغيبة أو كلماعن في خاطرك أو جري ذكره علي لسانك بعد المحالة الأولي .

الثاني: قوله صلي الله عليه وآله: من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فيتحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد علي سيئاته.(3)

وجمع بين الحديثين شيخنا الشهيد الثاني قدس الله روحه بحمل الاستغفار له علي من يبلغ غيبة المغتاب، فينبغي الاقتصار علي الدعاء له والاستغفار، لأن في محالته إثارة للفتنة وجلباً للضغائن، وفي حكم من لم يبلغه من لم يقدر علي الوصول إليه لموت أو غيبة، وحمل المحالة علي من يمكن الوصول إليه مع بلوغه.

قال الجزائري: ويمكن الجمع بينهما بوجهين:

أحدهما: أن الاستغفار له كفارة معجلة تكون مقارنة للغيبة، والمحالة متأخرة عنه

ص: 126


1- بحار الأنوار 72: 313، ح 27
2- بحار الأنوار 72: 341/ ح 4
3- بحار الأنوار 72: 343

غالباً، فيجب عليه المبادرة بذلك لعدم توقفه علي التمكن وعدمه، والمحالة إذا تمكن بعد هذا، فيكون الواجب اثنين لا واحد كما هو مذكور في القول الأول.

الثاني: حمل الاستغفار له علي الاستحباب، والواجب إنما هو المحالة لا غير، وإذا جاء إلي المغتاب فينبغي أن لا يظهر له الكلام الذي اغتاب خوفاً من إثارة الشحناء و تجديد العداوة، بل يقول له: يا أخي لك حقوق عرضية وأريد أن تحالني منها، ونحو ذلك من العبارات المجملة، ويستحب للمعتذر إليه قبول العذر والمحالة استحباباً مؤكداً، انتهي.

أقول: والأظهر في وجه الجمع ما حكاه عن الشهيد، بل وهو الأقرب.

والتحقيق ما حققه شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره في المكاسب، حيث قال: مقتضي كون الغيبة من حقوق الناس توقف رفعها علي إسقاط صاحبها، أما كونها من حقوق الناس فلأنه ظلم علي المغتاب، وللأخبار في أن من حق المؤمن علي المؤمن أن لا يغتابه، وأن حرمة عرض المسلم كحرمة دمه وماله، وأما توقف رفعها علي إبراء ذي الحق فللمستفيضة المعتضدة بالأصل، ثم ذكر جملة من المستفيضة.

ثم قال: ولا فرق في مقتضي الأصل والأخبار بين التمكن من الوصول إلي صاحبه وتعذره، لأن تعذر البراءة لا يوجب سقوط الحق كما في غير هذا المقام، لكن روي السكوني عن أبي عبد الله، عن النبي صلي الله عليه وآله: إن كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كلما ذكرته،(1) ولو صح سنده أمكن تخصيص الاطلاقات المتقدمة به، فيكون الاستغفار طريقاً إلي البراءة مع احتمال العدم أيضاً، لأن كون الاستغفار كفارة لا يدل علي البراءة، فلعله كفارة الذنب من حيث كونه حقاً لله، نظير كفارة قتل الخطأ التي لا توجب براءة القاتل إلا أن يدعي ظهور السياق في البراءة.

ثم ذكر كلام الشهيد الثاني قدس سره وجمعه بين الخبرين المتقدمين المتعارضين علي ما تقدم ذكره في كلام المحدث الجزائري قدس سره، ثم أورد عليه بأنه إن صح النبوي - أي مارواه السكوئي عن أبي عبد الله عليه السلام، عن النبي صلي الله عليه وآله

ص: 127


1- بحار الأنوار 72: 341/ ح 4

مسنداً فلا مانع عن العمل به بجعله طريقاً إلي البراءة مطلقاً في مقابل الاستبراء، وإلا تعين طرحه والرجوع إلي الأصل وإطلاق الأخبار المتقدمة، وتعذر الاستبراء أو وجود المفسدة فيه لا يوجب وجود مبرء آخر.

نعم أرسل بعض من قارب عصرنا عن الصادق عليه السلام: إنك إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحل منه، وإن لم يبلغه فاستغفر الله له. (1)

وفي رواية السكوني المروية في الكافي في باب الظلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله : ومن ظلم أحداً ففاته فليستغفرالله له فإنه كفارة له. (2)

والانصاف أن الأخبار في هذا الباب كلها غير نقية السند، و أصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الاستحلال ولا الاستغفار، وأصالة بقاء الحق الثابت للمغتاب بالفتح - علي المغتاب بالكسر ۔ تقتضي عدم الخروج منه إلا بالاستحلال خاصة، لكن المثبت لكون الغيبة حقاً بمعني وجوب البراءة منه ليس إلا الأخبار الغير النقية السند، مع أن السند لو كان نقياً كانت الدلالة ضعيفة الذكر حقوق أخر في الروايات لا قائل بوجوب البراءة منها، فالقول بعدم كونه حقاً للناس بمعني وجوب البرائة نظير الحقوق المالية لا تخلو من قوة، وإمكان الاحتياط في خلافه، بل لا يخلو عن قرب من جهة كثرة الأخبار الدالة علي وجوب الاستبراء منها، بل اعتبار سند بعضها، والأحوط الاستحلال إن تيسر، وإلا فالاستغفار غفر الله لنا ولمن اغتبنا بحق محمد و آله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).(3)

انتهي مانقلناه حرفياً عن كتاب (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) للسيد العلامة ميرزا حبيب الله الخوئي تغمده الله برحمته.

ص: 128


1- بحار الأنوار 72: 342/ ح 4
2- بحار الأنوار 72: 313، ح 27
3- المكاسب 1: 336 - 341

ومن كلام له عليه السلام :

في العرفان والسلوك إلي الله

قَد أحيَا عَقلَهُ وَأمَاتَ نَفسَهُ حَتَّي دَقَّ جَليلُهُ و لَطُفِ غَليظُهُ وَبَرَقَ لَهُ لامِعٌ كَثيرُ البَرقِ فاَبانَ لَهُ الطَّريقَ وَسَلَكَ بِه السَّبيلِ وتَدافَعَتهُ الأبوابُ إلي بَابِ السَّلامَةِ ودارِ الِإقامَةِ وَثَبَّت رِجلَاهُ بِطُمانينةِ بَدَنِهِ فِي قَرارِالأَمنِ و الرَّاحَةِ بِمَا استَعمَل قَلبَهُ وَأَرضَيَ ربَّهُ. (ابن أبي الحديد مج 3 ص 42، ط الأولي).

ضبط الألفاظ اللغوية:

دقّ، الشيء يدق دقّة - من باب ضرّ- خلاف غلظ فهو دقيق، وغلظ الشيء بالضم غلظاً وزان عنب والاسم الغلظة وهو غليظ، و(أبان) وبين وتبين واستبان كلها بمعني الوضوح والانكشاف، وجميعها تستعمل لازماً معتدياً، إلا بأن الثلاثي فلا يستعمل إلا لازماً، قاله الفيومي.

الشرح

جاء في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (مج 14 ص 192):

إن هذا الكلام علي غاية وجازته جامع لجميع صفات العارف الكامل، لكيفية سلوكه و كمال أمره، ولعمري إنه لا يوجد كلام أوجز من هذا الكلام في أداء هذا المعني، وهو في الحقيقة قطب دائرة العرفان و عليه مدارها، وفي الإيجاز الذي هو فن نفيس من علم البلاغة تالي كلام الملك الرحمن، مثل

ص: 129

قوله:(لِكَيلا تَأسَوا عَلي ما فاتَكُم وَلا تَفرَحُوا بِما آتاكُم) (1) الجامع للزهد كله، وقوله:(خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ و أَعرِض عَنِ الجَاهِلينَ) (2) الجامع لمكارم الأخلاق جميعاً، وشرحه يحتاج إلي بسط في المقال، فأقول مستعيناً بالله ووليه عليه السلام:

قوله عليه السلام: قد أحيا عقله وأمات نفسه، المراد بعقله العقل النظري والعملي، وبنفسه النفس الأمارة بالسوء، والمراد بحياة الأول كونه منشئاً للآثار المترتبة عليه، مقتدراً علي تحصيل الكمالات والمعارف الحقة ومكارم الأخلاق المحصلة للقرب والزلفي لديه تعالي، وبموت الثاني بطلان تصرفاته وآثاره المبعدة عنه عزوجل بحذا فيرها، فإن الحياة والموت عبارة أخري عن الوجود والعدم لا أثر له أصلاً.

وأراد بإحيائه الأول وإماتته الثاني تقويته وتغليبه له عليه، بحيث يكون الأول بمنزلة سلطان قادر قاهر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والثاني بمنزلة عبد ذليل مقهور لا يرد ولا يصدر إلا بإذن مولاه.

ولا يحصل تقوية الأول وتذليل الثاني إلا بملازمة الكمالات العقلانية والمجاهدة والرياضة النفسانية، والمجاهدة عبارة عن ذبح النفس بسيوف المخالفة، كما قال تعالي:(وأمَّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهَي النَّفسَ عَنِ الهَوَي فَإنَّ الجَنَّة هِي المَأوَي)، (3) وقال رسول الله صلي الله عليه وآله لما بعث سرية ورجعوا: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. (4)

وقال بعض أهل العرفان: جاهد نفسك بأسياف الرياضة، والرياضة علي أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذي من جميع الأنام، فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن

ص: 130


1- الحديد: 23
2- الأعراف: 199
3- النازعات: 40 و41
4- الكافي 5: 12/ ح3

قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذي البلوغ إلي الغايات، وليس علي العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء، والصبر علي الأذي، وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام، وهاجت منها حلاوة فضول الكلام، جردت عليها سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام، حتي تنقطع عن الظلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها، فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية، فتجول في ميدان الخير، وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفاره في الميدان، و كالملك المتنزه في البستان.

وقال أيضاً: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، و من النفس بترك الشهوات.

شروط السالك :

وتفصيل ذلك علي ما قرر في علم السلوك أن للسالك الطريق الحق المريد للوصول إلي حظيرة القدس شروطأ و وظائف لابد من ملازمتها.

أما الشروط التي لابد من تقديمها في الارادة: فهي رفع الموانع والحجب التي بينه وبين الحق، فإن حرمان الخلق من الحق سببه تراكم الحجب ووقوع السد علي الطريق، قال الله تعالي:(وَجَعلنا مِن بَينِ أيدِيِهم سَدًّا وَمِن خَلفِهِم سَدًّا فَأغشَيناهُم فَهُم لا يُبصِروُنَ). (1)

والسد بين المريد وبين الحق ثلاثة: المال، والجاه، والمعصية، ورفع حجاب المال إنما يحصل بالخروج منه إلا قدر الضرورة، فما دام يبقي له درهم ملتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عزوجل، ورفع حجاب الجاه إنما يحصل بالبعد من موضع الجاه والهرب منه وإيثار خمول الذكر، ورفع حجاب المعصية إنما يحصل بالتوبة والندم علي ما مضي من المعاصي وتدارك ما فات من العبادات ورد المظالم وإرضاء الخصوم.

ص: 131


1- يس :9

وظائف السالك:

وإذا قدم هذه الشروط فلابد له من المواظبة علي وظائف السلوك، وهي خمس: الجوع، والصمت، والسهر، والعزلة، والذكر.

الجوع:

أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه ويلطفه، وفي بياضه وتلطيفه نوره، ويذيب شحم الفؤاد، وفي ذوبانه رقته، ورقته مفتاح انكشاف الحجب، كما أن قساوته سبب الحجاب، ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو الشيطان، فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات، ولذلك قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم في العروق، فضيقوا مجاريه بالجوع. (1)

ففائدة الجوع في كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء علي النفس الأمارة بالسوء أمر ظاهر، لأن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوي، ومادة القوي والشهوات لا محالة الأطعمة،فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة،و يكسر سورة النفس الأمارة، كالدابة الجموح إذا شبعت شردت وجمحت لا يمكن ضبطها باللجام، وإذا جاعت ذللت وانقادت، وكان يقال: ينابيع الحكمة من الجوع وكسر عادية النفس بالمجاهدة، وقال يحيي بن معاذ: لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.

وقال سهل بن عبد الله: لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية والجهل، وجعل في الجوع الطاعة والحكمة. وقال يحيي بن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين تكرمة.

قال ابن أبي الحديد:واعلم أن السبب الطبيعي في كون الجوع مؤثراً في صفاء النفس، أن البلغم الغالب علي مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وإبطاء الفهم لكثرة

ص: 132


1- عوالي اللثالي 1: 273/ ح 97؛ بحار الأنوار 60: 332

الأرضية فيه وثقل جوهره وكثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري وتمنع نفوذ الأرواح، ولا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم، لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد، فكلما انقطع الغذاء استمر عملها في البلغم الموجود في البدن، فلا تزال تعمل فيه و تذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتي يفني كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة، ولا يبقي إلا الرطوبات الأصلية، فإن استمر انقطاع الغذاء أخذت الحرارة والقوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن، فإن كان ذلك يسيراً وإلي حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الاضرار، وكان ذلك هو غاية الرياضة التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: حتي دق جليله ولطف غليظه، وإن أفرط وقع الحيف والاجحاف علي الرطوبة الأصلية وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول، وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين. (1)

وبالتالي فالشبع يورث القسوة والشهوة والسبعية، والجوع يوجب الرقة وانكسار الشهوة والصولة، وهو مشاهد بالتجربة، ومن هنا قيل: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وقال النبي صلي الله عليه وآله: من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه، (2) وقال أيضاً: أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع، وطهروها بالجوع تصفو و ترق. (3)

الصمت :

وأما الصمت فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة، لأن الكلام يشغل القلب، وميل القلوب إلي الكلام عظيم، فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر، وفي الحديث: طوبي لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة 11: 137
2- وجاء في بحار الأنوار 74: 29: يا أحمد، إن العبد إذا أجاع بطنه وحفظ لسانه علمته الحكمة، وإن كان كافراً تكون حكمته حجةعليه ووبالاً
3- تذكرة الموضوعات للفتني: 151

من كلامه. (1) هذا في الكلام المباح وأما الكلام الغير المباح من الكذب والنميمة والبهت وغيرها فبينه وبين السلوك إلي الحق بون بعيد بعد المشرقين.

والسهر:

وأما السهرفإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره، ولذلك مدح الله سبحانه المستغفرين بالأسحار، لأنها أوقات صفاء الذهن ونزول الرحمة والألطاف الإلهية، فيضاف صفاء السهر إلي الصفاء الحاصل من الجوع، فيصير القلب كالكوكب الدري والمرآة المجلوة مستعداً لإفاضة الأنوار الإلهية، فيلوح فيه سبحات جمال الحق، ويشاهد رفعة الدرجات الأخروية وعظم خطرها وخسة الزخارف الدنيوية وحقارتها، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وشوقه إلي الآخرة، والسهر أيضاً من خواص الجوع، وبالشبع غير ممكن.

(العزلة والخلوة):

وأما العزلة والخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب بمنزلة حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة من مجاري الحواس، والمقصود بالرياضة تفريغ مياه الحوض من الطين الحاصل منها، فينفجر أصل الحوض فينبع منه ماء نظيف سائغ صاف، ولا يمكن نزح ماء الحوض والأنهار إليه مفتوحة، فيتجدد في كل حال أكثر مما ينتقص.

قال الرضا (عليه التحية والثناء): إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: طوبي لمن أخلص لله العبادة ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسع أذناه الحديث.(2)

فلا بد من ضبط الحواس إلآ عن قدر الضرورة، ولا يتم ذلك إلا بالعزلة والخلوة.

ص: 134


1- مستدرك الوسائل 9: 27؛ بحار الأنوار 68: 283/ ح 34
2- بحار الأنوار 67: 229

قال بعض السياحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلي الحق؟ قال: أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق. وقلت له مرة: دلني علي عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالي علي الدوام، فقال لي: لا تنظر إلي الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تسمع كلامهم، فإن في سماع كلامهم قسوة، قلت: لا بدلي من ذلك، قال: فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لابد لي من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قال: قلت: لعله يكون، قال: يا هذا أتنظر إلي الغافلين و تسمع كلام الجاهلين و تعامل البطالين و تريد أن تجد قلبك مع الله تعالي علي الدوام ؟! ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة.

وقد عرفت أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة هوي النفس، فإذا حصل للسالك هذه المقدمات اشتغل بذكر الله تعالي بالأذكار الشرعية، من الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية المأثورة والتسبيح والتهليل وغير ذلك بلسانه وقلبه، فلا يزال يواظب عليها حتي لا يبقي علي قلبه ولسانه غير ذكره تعالي، ولا يكون له منظور غيره أصلاً، فعند ذلك يتجلي له من أنوار جماله وسبحات عظمته وجلاله ما لا يحيط به لسان الواصفين، ويقصر عنه نعت الناعتين.

شعر عرفاني:

ومما ينسب للإمام زين العابدين وسيد الساجدين في هذا المقام:

نسمات هواك لها أرج *** تحيي وتعيش بها المهج

وينشر حديثك يطوي الغم *** عن الأرواح ويندرج

وببهجة وجه جمال جلال *** كمال صفاتك أبتهج

لا كان فؤاد ليس يهيم *** علي ذكراك وينزعج

ص: 135

لا أعتب قلب الغافل عنك *** فليس علي الأعمي حرج

ما الناس سوي قوم عرفوك *** وغيرهم همج همج

قوم فعلوا خيراً فعلوا *** وعلي درج العليا درجوا

فهموا المعني فهم المعني ***فبذكر الله لهم لهجوا

دخل الفقراء إلي الدنيا***وكما دخلوا منها خرجوا

شربوا بكؤوس تفكرهم ***من صرف هواه وما مزجوا

يا مدعياً لطريقهم*** قوم فطريقك منعوج

تهوي ليلي وتنام الليل *** وحقك ذا طلب سمج

سيماء الشيعة:

جاء في كتابنا مسند الإمام علي عليه السلام:

روي صاحب الوسائل من أمالي ابن الشيخ قال: روي أن أمير المؤمنين عليه السلام خرج ذات ليلة من المسجد وكانت ليلة قمراء، فأم الجبانة ولحقه جماعة يقفون أثره، فوقف عليهم ثم قال: من أنتم؟ قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين، فتفرس في وجوههم قال: فما لي لا أري عليكم سيماء الشيعة؟ قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين ؟ قال عليه السلام: صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، حدب الظهور من القيام، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاء من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين. (1)

وقال عليه السلام:(فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ الله تَقيَّة ذِي لُب شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلبَهُ وأنصَبَ الخَوفُ بَدنَهُ وَأَسهَرَ التَّهجُّدُ غِرارَ نُومه وأَظمَاَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَومِهِ وظَلَفَ الزُهدُ شَهَواتِه وَأَوجَفَ الذِكرُ بِلسانِه وقَدَّمَ الخَوفَ لَامانِه وتَنكَبَ المَخالَجَ عَن وَضَحِ السَّبيلِ وَسَلَكَ أقصَدَ المَسَالِكَ إِلَي النَهجِ المَطلوبِ). (2)

ص: 136


1- وسائل الشيعة للحر العاملي 1: 92 ح 218، نقلاً عن أمالي الشيخ الطوسي ص: 219
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 263

ثم لا يخفي أن مطلوبية الاعتزال والخلوة إنما هي للفراغ للذكر والخلوة والعبادة وكون المعاشرة مانعة منه، وأما إذا تكن لم المعاشرة مانعة منه بل تبعثه علي سلوك الصراط المستقيم، كالجمعة والجماعة وزيارة الاخوان المؤمنين والاجتماع في مجالس الذكر ونحوها فهي من أعظم العبادات، وسلوك نهج الحق.

وأما غيرها مما ذكره الصوقية من الآداب والوظائف في المجاهدة والرياضة و كيفية السلوك،مثل قولهم بالجلوس في بيت مظلم والخلوة أربعين يوماً واشتراطهم الاعتصام بالشيخ و كون السلوك بإرشاده، وقولهم بالمداومة علي ذكر مخصوص ألقاه الشيخ إلي المريد من الأذكار الفتحية أو غيرها من الأذكار المبتدعة أو من الأذكار الشرعية لكن علي هيئة مخصوصة وعدد مخصوص لم يرد به نص، وقولهم بأن المريد إذا أتم مجاهدته ولم يبق في قلبه علاقة تشغله يلزم قلبه علي الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة، بل يقتصر علي الفرائض والرواتب ويكون ورده ورداً واحداً وهو ملازمة القلب لذكر الله بعد الخلو عن ذكر غيره، فعند ذلك يلزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويلقنه ذكراً من الأذكار حتي يشغل به لسانه وقلبه، فيجلس ويقول مثلاً: الله الله، أو سبحان الله، أو ما يراه الشيخ من الكلمات، فلا يزال يواظب عليه حتي تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية علي اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتي يسقط الأثر عن اللسان وتبقي صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال كذلك حتي تمحي عن القلب حروف اللفظ وصورته وتبقي حقيقة معناه لازمة للقلبحاضرة معه غالبة عليه قد فرغ من كل ما سواه ونحو ذلك مما قالوه فشيء لم يرد به إذن من الشارع، بل هو من مبتدعاتهم التي أبدعوها، اللهم إلا أن يستدل علي الأخير - أعني المواظبة علي الذكر باللسان والقلب _ علي ما وصل بعمومات أدلة الإكثار من ذكر الله والتفكر في الله.

ص: 137

ص: 138

ومن خطبة له عليه السلام :

في التحذير من الدنيا والاعتبار بالأمم السالفة ووحشة القبر

(دارٌبِالبَلاء مَحفُوفَةٌ وبَالغَدر مَعرُوفَةٌ لا تَدوُمُ أحوالُهَا وَلَا يَسلَمُ نُزَّالُهُا أحوَالٌ مُختلَفَةٌ وتاراتٌ مُتصَرِفَةٌ العَيشُ فِيهَا مَذمُومٌ والأمَانُ مِنهَا مَعدومٌ وإنَّمَا أهلُهَا فيهَا أغرَاضٌ مُستَهدَفَةٌ تَرميهِم بِسهَامِهَا وتُفنيهِم بِحمامِها وَاعلمُوا عِبادَ الله أنَّكُم ومَا أنتُم فيه مِن هَذِه الدُنيا عَلي سَبيلِ مَن قَد مَضَي قَبلكُم مِمَّن كانَ أطوَلَ مِنكُم أعمَاراً وَأعمَرَ دياراً وَ آثاراً أَصبَحَت أَصوَاتَهُم هَامِدَةً وَ رَيَاحُهُم رَاكَدَةً وَأَجسَادُهُم بَالَيَةً وديَارُهُم خَاليَةً وَآثَارُهُم عَافيَةً فَاستَبدَلوُا بالقُصُورِ المَشيَّدَةِ وَالنَّمارِقِ المُمَهَّدَة الصُخُورَ وَالأحجَارَ المُسَنَّدَةَ والقُبُورَ اللاطئةَ المُلَحَدَةَ الَّتي قَد بُنِيَ عَلَي الخَرَابَ فَنَاؤُهَا وَشُيِدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُهَا مُقتَربٌ وَساكِنُهَا مُغتَربٌ بَينَ أهلِ مَحَلَة مُوحِشينَ وأهلِ فَراغَ مُتشَاغِلينَ لا يستَانِسُونَ بِالأَوطانِ وَلا يَتواصَلوُنَ تَواصُلَ الجِيرَان عَلَي ما بَينهُم مِن قُربَ الجَوارِ وَدُّنُوً الدَّارِ وَكَيفَ يَكُونُ بَينَهُم تَزاوُرٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلكَلِه البَلي وَأَكَلَّتُهُم الجَنادِلُ وَالثَّرَي وَكَاَن قَد صَرتُم إلي مَا صَارُوا إليه وَارتَهَنَكُم ذلكَ المَضجَعُ وَضَمَّكُم ذَلكَ المُستَودَعُ فَكَيفَ بِكُم لَو تَناهَت بِكُمُ الأمُورُ وبُعثِرَتِ القُبُورُ، وَرُدُّوا إليَ اللهِ مَولاهُمُ الحَقِّ وضَلَّ عَنهُم مَا كانُوا يَفتَرُونَ).(1) (شرح ابن أبي الحديد مج 3، ص 8 ط الأولي).

ضبط الألفاظ الغريبة:

(بالبلي محفوفة) أي قد أحاط بها من كل جانب. وسلم المسافر يسلم: نجا وخلص من الآفات. و(تارات) جمع تارة وهي المرة الواحدة، و (الأغراض)

ص: 139


1- يونس: 30

جمع الغرض وهو الهدف ترمي إليه السهام. و ( المستهدفة) أي منتصبة للرمي إليها. و(المشيدة) بضم الميم وتشديد الياء وفتحها كما في قوله تعالي(ولَؤكُنتُم في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةَ) (1) أي قصور مصونة وقيل محصنة، و (النمرق) والنمرقة بتثليث النون وضم الراًء: الوسادة وهي المتكأ، والجمع نمارق، قال تعالي:(وَنَمارِقُ مَصفُوفَةٌ). (2) والقبور الملحدة ذوات اللحود.

الشرح:

إن الغرض من هذه الخطبة الشريفة التنفير عن الدنيا والتحذير منها والتنبيه علي مساويها ومخازيها الموجبة للنفرة والحذر.

خداع الدنيا:

قال عليه السلام : «دار بالبلاء محفوفة» أي حُفت بالمكاره والبليات، وأحاطت بها من كل جانب الآلام والآفات، وفي نسبة محفوفة، إلي الدار توسع، والمراد كون أهلها محفوفة بها.

وبالغدر معروفة، قال الشارح البحراني: استعار لفظ الغدر عما يتوهم الإنسان دوامها عليه من أحوالها المعجبة له،كالمال والصحة والشباب، فكأنه في مدة بقاءتلك الأحوال قد أخذ منها عهداً، فكأن التغير العارض لها المستلزم الزوال تلك الأحوال أشبه شيء بالغدر.

قال الميرزا الخوئي صاحب منهاج البراعة: مراده عليه السلام أنها مشهورة بالغدر والخداع، معروفة بالمكر والغرور، غير مختفية حيلتها ومكيدتها علي أهل البصيرة، لأنها بكونها حلوة خضرة محفوفة بالشهوات و مهيأة للآمال والأمنيات، أعجبت الناس بشهوتها العاجلة، وتحبيت اليهم بلذاتها الحاضرة،

ص: 140


1- النساء: 78
2- الغاشية: 15

و تزينت بالغرور، فاغتر بها كل من كان غافلاً عن مكيدتها، وافتتن بحبها كل من كان جاهلاً بحقيقتها، حتي إذا أوقعتهم في حبائل محبتها أبدت كل ما كان مضمراً في باطنها من مكرها وحيلتها، فلم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطناً إلا منحته من ضرائها ظهرأً، ولم ينل أحد من غضارتها رغباً إلا أرهقته من نوائبها تعبأً، فكم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته حقيراً، وذي نخوة قد ردته ذليلاً.

وكفي في إيضاح غدرها ما قاله بعض قدماء أهل الحقيقة والبصيرة: من أنها الآخذة ما تعطي والمورثة بعد ذلك التبعة، السلابة لمن تكسو والمورثة بعد ذلك العري، الواضعة لمن ترفع والمورثة بعد ذلك الجزع، التاركة لمن يعشقها والمورثة بعد ذلك الشقوة، المغوية لمن أطاعها، الغدارة بمن ائتمنها، هي المحبوبة التي لا تحب أحداً الملزومة التي لا تلزم أحداً،يوف إليها وتغدر، ويصدق لها وتكذب، وينجزلها فتختلف، هي المعوجة لمن استقام بها، والمتلاعبة بمن استمكنت منه.

بينا هي تطعمه إذ حولته مأكولاً، وبينا هي تخدمه إذ جعلته خادماً، وبينا هي تضحكه إذ ضحكت منه، وبينا هي تشمه إذ شمت منه، وبينا هي تبكيه إذ بكت عليه، وبينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة، وبينا هو فيها عزيز إذ أذلته، وبينا هو فيها مكرم إذ أهانته، وبينا هو فيها معظم إذ حقرته، وبينا هو فيها شبعان إذ أجاعته، وبينا هو فيها حي إذ أمانته.

فأفٍ لها من دار هذه صفتها، تضع التاج علي رأسه غدوة و تعفرخده بالتراب عشية، وتحلي الأيدي بالأسورة عشية، وتجعلها في الأغلال غدوة، تعقد الرجل علي السرير غدوة، وترمي به في السجن عشية، تفرش له الديباج عشية، وتفرش له التراب غدوة، وتجمع له الملاهي والمعازف غدوة، وتجمع عليه النوائح والنوادب عشية، تحبب إلي أهله قربه عشية، وتحبب إليهم بعده غدوة، تطيب ريحه غدوة، وتنتن ريحه عشية.

ص: 141

فهو في كل ساعة متوقع لسطوتها، غير آمن غدرها وخديعتها، غير ناج من بلائها وفتنتها، تمتع نفسه من أحاديثها وعينه من أعاجيبها ويده مملوءة من جمعها، ثم تصبح الكف صفراً و العين هامدة ذهب ما ذهب، وهو ما هوي...(1)

ومن ذلك كله علم آنها (لا تدوم أحوالها) بل تصير حياتها موتاً، وغناؤها فقراً، وفرحها ترحاً، وصحتها سقماً، وقوتها ضعفاً، وعزهاذلاً، إلي غير هذه من حالاتها المتبدلة المتغيرة.

قوله عليه السلام: ولا تسلم نزالها، أي لا يسلم النازل في تلك الدار من آلامها و آفاتهاوصدماتها، بل هو في كل آن مترقب لاصابة مكروه، وجل من كل بلاء .

فإن كل ذي جسد فيها لا ينفك جسده من أن الحر يذيبه، والبرد يجمده، والسموم يتخلله، والماء يغرقه، والشمس تحرقه، والهواء يسقمه، والسباع تفترسه، والطير تنقره، والحديد يقطعه، والصدم يحطمه.

ثم هو معجون بطينة من ألوان الأسقام والأوجاع والأمراض، فهو مرتهن بها مترصد لها دائماً، لكونه مخلوقاً من الأخلاط الأربعة التي لو غلب أحدها علي الآخر أحدث أنواعاًمن المرض، ألا تري أن أصح الأخلاط وأقربها إلي الحياة هو الدم، فإذا خرج عن حد الاعتدال يموت صاحبه بموت الفجأة والطاعون والأكلة والسرسام.

هذه كله مع ماله من مقارنة الآفات السبع التي لا يتخلص منها ذو جسد وهي الجوع، والظمأ، والحر، والبرد، والخوف، والجوع، والمرض، والموت.

أحوالها (أحوال مختلفة) إن اعذوذب منها جانب واحاولي أمر منها جانب فأوبي، لم تطل علي أحد فيها ديمة رخاء إلا هتنت عليه مزنة بلاء، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح علي قوادم خوف.

(وتارات متصرفة) يعني أن حالاتها تتغير بأهلها تارة بعد أخري، ومرة

ص: 142


1- كمال الدين للصدوق: 577، من كلام للناسك مع أحد ملوك الهند

بعد مرة، فإنها تنقل أقواماً من الجدب إلي الخصب، ومن الرجلة إلي الركب، ومن البؤس إلي النعمة، ومن الشدة إلي الرخاء، ومن الشقاء إلي الراحة، ثم تنقلب بهم فتسلبهم الخصب، وتنزع منهم النعمة والراحة.

و محصله آنها دار تصرف و انتقال و تقلب من حال إلي حال، صختها تتبدل بالسقم، وشبابهابالهرم، وغناها بالفقر، وفرحها بالترح، و سرورها بالحزن، وعزها بالذل، وأمنها بالخوف.

بينايري المرء فيها مغتبطأً محبوراً وملكاً مسروراً في خفض ودعة ونعمة ولذة وأمن وسعة، في بهجة من شبابه و حداثة من سته، وبهاء من سلطانه، وصحة من بدنه، إذ انقلبت به الدنيا أشر ما كان فيها قلباً، وأطيب ما كان فيها نفساً، وأقر ما كان فيها عيناً، وألذ ما كان فيها عيشاً، فأخرجتهمن ملكها وغبطتها وخفضها ودعتها وبهجتها، فأبدلته بالعز ذلاً، وبالسرور حزناً، وبالنعمة نقمة، وبالغني فقراً، وبالسعة ضيقاً، وبالشباب هرمة، وبالشرف ضعة، وبالحياة موتاً.

ففارق الأحبة وفارقوه، وخذله إخوانه وتركوه، وصار ما جمع فيها مفرقاً، وما عمل فيها متبرءاً، وما شيد فيها خراباً، وصار اسمه مجهولاً، وذكره منسياً، وحسبه خاملاً، وجسده بالياً، وشرفه وضيعاً، ونعمته وبالاً، و كسبه خساراً، وورث أعداؤه سلطانه، واستذلوا عقبه، واستباحوا حريمه، وتملكوا أمواله،و نقضوا عهده، وملكوا جنوده، فأفٍ الدار حالها هذا وشأن ساكنها ذلك، وفقنا الله تعالي للزهد فيها والاعراض عنها. وبما ذكرنا ظهر أن (العيش فيها مذموم) وأراد بالعيش الترفه فيها والتنعم بلذاتها والالتذاذ بشهواتها، وإنما كان هذا مذموماً لكونه شاغلاً عن التوجه إلي الحق وعن الالتفات إلي الآخرة، ومعقباً للندم والحسرة الطويلة والعذاب الشديد يوم القيامة.

وقد وقع ذم هذا في كتاب الله تعالي وعلي ألسنة الأنبياء والرسل متجاوزاً عن حد الاحصاء، قال تعالي:(واعلَموُا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهوٌ وزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُم وتَكاثُرٌ فِي الأُموالِ والأُولادِ كَمَثِل غَيثٍ أَعجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَ يَهيجُ فَتَراهُ مُصفَراً

ص: 143

ثُمَّ يَكُونُ حَطاماً وفِي الآخِرَة عَذابٌ شَديدٌ).(1) وقال أيضاً:(مَن كانَ يُريدُ الحَياةَ الدُّنيَا وَزينَتَها نُوَف إلَيهِم أَعمَالَهُم فيها وهُم فيها لا يُبخَسونَ أولئكَ الَّذينَ ليسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إلا النَّارُ وَحَبَطِ مَا صَنَعوُا فِيها وباطلٌ ما كانوا يَعملونَ). (2)

مثال الدنيا:

وقد وقع تشبيه المتنعم باللذات الدنيوية والمتلذذ بشهوتها، الملهية له عن التوجه إلي عاقبة أمره والالتفات إلي مآل حاله في كلام الحكماء، برجل حمل عليه فيل مغتلم، فانطلق مولياً هارباً، فاتبعه الفيل فغشيه حتي اضطره إلي بئر، فتدلي فيها وتعلق بغصين نابتين علي شفير البئر، فإذا في أصلها جرذان يقرضان الغصنين، أحدهما أبيض والآخر أسود، فلما نظر إلي تحت قدميه فإذا رؤوس أربع أفاع قد طلعن من حجرهن، فلما نظر إلي قعر البئر إذا تنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه، فلما رفع رأسه إلي الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل، فألهاه ما طعم منه وما نال من لذة العسل وحلاوته عن الفكر في أمر الأفاعي اللواتي لا يدري متي يبادرنه، وألهاه عن التنين الذي لا يدري كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته.

أما الفيل فهو الأجل، وأما البئر فالدنيا المملوءة من الآفات والبلايا والشرور، وأما الغصنان فالعمر، وأما الجرذان فالليل والنهار يسرعان في قطع العمر، وأما الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة التي هي السموم القاتلة من المرة والبلغم والريح والدم التي لا يدري صاحبها متي تهيج به،وأما التنين الفاغرفاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب، وأما العسل الذي اغتر بأكله فما ينال الناس من عيش الدنيا ولذتها وشهواتها ونعيمها ودعتها،من لذة الطعام والشراب واللباس والشم واللمس والبصر، هذا هوالعيش المذموم.

ص: 144


1- الحديد: 20
2- هود: 16

العيش الممدوح:

ويقابله العيش الممدوح: وهو العيش الهنيء الذي أشير إليه في الحديث القدسي المروي في البحار من إرشاد القلوب للديلمي، عن أمير المؤمنين عليه السلام : إن الله تعالي شأنه قال للنبي صلي الله عليه وآله ليلة المعراج في جملة مخاطباته: يا أحمد هل تدري أي عيش أهني وأي حياة أبقي؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنيء فهو الذي لايفتر صاحبه عن ذكري، ولا ينسي نعمتي،ولا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأما الحياة الباقية فهي التي تعمل لنفسه حتي تهون عليه الدنيا و تصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي علي هواه، ويبتغي مرضاتي، ويعظم حق عظمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة أو معصية، وينقي قلبه عن كل ما أكره، ويبغض الشيطان و وسواسه، ولا يجعل لإبليس علي قلبه سلطاناً ولا سبيلاً، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حباً، حتي أجعل قلبه لي وفراغه واشتغاله وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها علي أهل محبتي من خلقي، وأفتح عين قلبه وسمعه، حتي يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلي جلالي وعظمتي، وأضيق عليه الدنيا و أبغض إليه ما فيها من اللّذات، وأحذره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعي علي غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فراراً، وينقل من دار الفناء إلي دار البقاء، ومن دار الشيطان إلي دار الرحمن. يا أحمد لأزينته بالهيبة والعظمة، فهذا هو العيش الهنيء والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين... الحديث. (1)

عدم الأمان في الدنيا:

والأمان فيها معدوم) لأنها إذا كانت بالبلاء محفوفة وبالخديعة موصوفة، مختلفة الحالات _ متصرفة التارات _ حسبما عرفت تفصيلاً

ص: 145


1- البحار للمجلسي 74: 21 - 28/ح6، نقلاً عن إرشاد القلوب للديلمي

وتوضيحاً _ فكيف يؤمن من بوائقها ويطمئن من طوارقها؟ وكيف يسلم من فجعتها ويستراح من خدعتها، ويتخلص من غيلتها؟!

فهي غارة ضرارة حائلة زائلة نافذة بائدة أكالة غوالة، حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ملكها مسلوب، ومالها منهوب، وعزيزها مغلوب، وموقورها منكوب، كيف لا وقد رأينا تنكّرها لمن أمن بها ودان لها واطمئن إليها حتي ظعنوا عنها فراق الأبد، هل زودتهم إلا السغب، أو أحلتهم إلا الضنك، أو تورث لهم الظلمة، أو أعقبتهم إلا الحسرة والندامة، فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها علي وجل.

قوله عليه السلام وإنماأهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها، واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا من متاعها وحطامها وزبرجها وزخارفها (علي سبيل من قد مضي قبلكم) من أهل الديار الخالية والربوع الخاوية.

التاريخ وطول العمر:

ممن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية.

منهم عوج بن عناق كان جباراً عدواً لله، له بسطة في الجسم والخلق.(1)

ومنهم عاد قوم هود، فقد كانت بلادهم في البادية و كان لهم زرع ونخل كثير، ولهم أعمار طويلة، فعبدوا الأصنام وبعث الله إليهم هوداً يدعوهم إلي الإسلام وخلع الأنداد، فأبوا فأهلكهم الله.(2)

ومنهم شداد بن عاد الذي بني إرم ذات العماد في مدة ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، قال في إكمال الدين: وجدت في كتب معمر

ص: 146


1- راجع قصته في البحار للمجلسي 11: 243 ح 36، باب 5
2- مجمع البيان للطبرسي 4: 287

أنه ذكر عن هشام بن سعيد الرحال، قال: إنا وجدنا حجراً بالاسكندرية مكتوباً فيه: أناشداد بن عاد،أناشيدت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وجدت الأجناد، وشددت بساعدي الواد. (1)

ومنهم لقمان بن عاد وكان من بقية عاد الأولي، فقد روي أنه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. (2)

ومنهم فرعون ذو الأوتاد، قال في مجمع البيان: قال الضحاك: إنه عاش أربعمائة سنة، و كان قصيراً ذميماً، وهو أول من خضب السواد. (3)

ومنهم عمروبن عامرالملقب بمزيقنا وماء السماء، ملك أرض سبأ، فقد عاش ثمانمائة سنة، أربعمائة سنة سوقة في حياة أبيه، وأربعمائة سنة ملكاً، وكان يلبس كل يوم حليتين في سني ملكه، فإذا كان بالعشي مزق الحليتين حتي لا يلبسها أحد غيره، سُمي مزيقيا وسمي بماء السماء أيضاً لأنه كان حياة أينما نزل كمثل ماء السماء . (4)

ومنهم هبل بن عبد الله بن كنانة، عاش ستمائة سنة. (5)

ومنهم جلهمة بن أدد، ويقال له طيء وإليه تنسب قبيلة طيء كلها، وكان له ابن أخ يقال له: يحابر بن ملك بن أود، وقد عاش كل منهما خمسمائة سنة. (6)

ومنهم عبيد بن الأبرص، عاش ثلاثمائة سنة حتي قال:

فنيت وأفناني الزمان وأصبحت *** لدي بنو نعش وزهر الفراقد (7)

ص: 147


1- كمال الدين للصدوق: 555
2- كتاب الغيبة للطوسي: 114/ ح 87
3- مجمع البيان للطبرسي 7: 414
4- كمال الدين للصدوق: 560
5- البحار للمجلسي 51: 240
6- كتاب الغيبة للطوسي: 124
7- كمال الدين للصدوق: 558

ومنهم عزيز مصر الذي كان في زمن يوسف و أبوه وجده، وهو الوليد بن الريان بن دومغ، و كان عمر العزيز سبعمائة سنة وعمر الريان ألف وسبعمائة سنة، وعمر دو مع ثلاثة آلاف سنة. (1)

ومنهم الضحاك صاحب الحيتين عاش ألف ومأتي سنة. (2)

ومنهم أفريدون العادل عاش فوق ألف سنة. (3)

ومنهم الملك الذي أحدث المهرجان، فقد زعمت الفرس أنه عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة. (4)

ذوالقرنين:

ومنهم الاسكندر عاش خمسمائة عام، وقد ملك الدنيا بأسرها وأخذ بقرني الشمس شرقها ومغربها، وقد ذكر الله تعالي قصته في القرآن في سورة الكهف بقوله:

(ويَسئلُونَكَ عَن ذِي القَرنَينِ قُل سَاتلُوا عَليكُم مِنهُ ذِكراً إنا مَكَّنَّا لهُ فِي الأرضِ وأتيناهُ مِن كُلِ شَيءٍ سَبَباً فأتَبعَ سَبَباً حَتي إذا بَلغَ مَغربَ الشمسَ وجَدَهَا تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمئَةَ ووَجَد عندَها قَوماً قُلنا يَا ذَا القَرنَينِ إمَّا أَن تَعَذبَ وامَّا أَن تَتَخد فيهِم حُسناً قالَ أما مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نعَذبُهُ ثُّمَ يُرَّدُ إلي ربِّه فَيُعَذِبُهُ عَذاباً نُكراً وأمَّا مَن آمَنَ وَعَمَلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الحُسنيَ وسَنَقوُلُ لهُ مِن أمرِنا يُسراً ثُمَّ أتبعَ سَبباً حَتي إذا بَلغَ مَطلعَ الشَمسٍ وَجَدها تَطلُعُ عَلي قَومٍ لَم نَجعَل لَهُم مِن دُونها سّراً كذلك وقَد أحَطنا بما لَديهِ خُبراً ثُمَّ أتَبعَ سَبباً حَتي إذا بَلغَ بَينَ السَّدينِ وَجَدَ مِن دونهِما قَوماً لا يَكادُونَ يَفقهُون قَولاً قالُوا يا ذَا القَرنَينِ الله يَأجُوجَ ومَأجُوجَ مُفسِدونَ في الأرضَ فَهَل نَجعَل لَكَ خَرجاً عَلي أن تَجعَل بينَنا وَبينَهم سَدّاً قالَ ما مَكَني فيه ربِّي خَيرٌ فأَعِينُوني بقُوَّةِ أَجعَل بَينَكُم

ص: 148


1- المصدر السابق: 563
2- الغيبة للطوسي: 123
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق

وبَينَهُم رَدماً آتُوني زُبَرَ الحَديدِ حَتَّي إذا ساوي بَينَ الَّصدَفَينِ قالَ انفُخُوا حَتَّي إذا جَعَلَهُ ناراً قالَ أتُونِي أُفرِغ عَليهِ قَطراً فَمَا اسطاعُوا أَنَ يَظهَرُوُه وما استطاعُوا لهُ نَقبًا قال هذا رحمَةٌ مِن ربّي فإذا جاءَ وَعدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكَاءَ وكَانَ وَعدُ رَبّي حَقّاً). (1)

تفسير: قال الطبرسي رحمة الله في قوله تعالي:(إنّا مَكَّنَّا لَه فِي الأُرضِ)، أي بسطنا يده في الأرض وملكناه حتي استولي عليها. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: سخر الله له السحاب فحمله عليها، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، فهذا معني تمكينه في الأرض،(واتَيناهُ مِن كُلّ شَيء سَبَباً) أي وأعطيناه من كل شيء علماً وقدرة وآلة يتسبب بها إلي إرادته (فَأتبَعَ سَبَباً) أي فأتبع طريقاًوأخذ في سلوكه، أو فأتبع سبباً من الأسباب التي أوتيها في المسير إلي المغرب حَتّي إذا بَلَغَ مَغربَ الشَمسِ أي آخر العمارة من جانب المغرب، وبلغ قوماً لم يكن وراءهم أحد إلي موضع غرب الشمس (وجَدَهَا تَغرُبُ) أي كأنها تغرب (فِي عَينٍ حَمئةٍ) وإن كانت تغرب وراءها، لأن الشمس لا تزال الفلك ولا تدخل عين الماء، ولكن لما بلغ ذلك الموضع تراءي له كأن الشمس تغرب في عين، كما أن من كان في البحر يراها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء، والعين الحمئة: هي ذات الحمأ، وهي الطين الأسود المنتن، والحامية الحارة (إمَّا أَن تُعَذِبَ) أي بالقتل من أقام منهم علي الشرك (وإمَّا أن تتَّخِذَ فيِهم حُسناً) أي تأسرهم وتمسكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدي (أمَّا مَن ظَلَمَ) أي أشرك(فَسَوفَ نُعَذبُهُ )أي نقتله إذا لم يسلم (ثُّمَ يُرَدُّ إلي رَبِّه فَيُعذُبُه عَذاباً نُكراً)أي منكراً غير معهود في النار (وأمَّا مَن آمَنَ وعَمَل صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الحُسنَي)أي المثوبة الحسني، جزاءاً(وسَنَقولُ لَه مِن أمرِنا يُسرا) أي قولاً جميلاً، وسنأمره بما يتيستر عليه،(ثُمَّ أَتبَعَ سَببَاً) أي طريقاً آخر من الأرض يوصله إلي مطلع الشمس (حَتَّي إذا بَلِغَ مَطلَعَ الشَّمسِ )أي إبتداء العمارة من جانب المشرق. (2)

ص: 149


1- الكهف: 83 - 98
2- مجمع البيان للطبرسي 6: 382

وكذلك قال البيضاوي: أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وېسطة الملك، أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار(وقَد أحَطنا بِما لَديهِ) من الجنود والآلات والعدد والأسباب(خُبراً) أي علماً تعلق بظواهره وخفاياه، والمراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير(ثُمَّ أتَبعَ سَبَبا)ً يعني طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلي الشمال(حَتَّي إذا بَلَغَ بينَ السَّدَينِ) بين الجبلين المبني عليهما سده، وهما جبلا أرمينية وأذربايجان، وقيل: جبلان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج (لا يَكادُونَ يَفقَهُونَ قَولاً) لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم (قالوُا يا ذَا القَرنَتَينِ) أي قال مترجمهم (فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرجاً) أي جعلاً نخرجه من أموالنا؟(قالَ ما مَكَّني فِيِه ربِّي خَيرٌ) أي ما جعلني فيه مكيناً من المال والملك خير مما تبذلون لي من الخراج ولا حاجة بي إليه (فأَعينُوني بِقُوَةٍ) و أي بفعلة، أو بما أتقوي به من الآلات (رَدماً) أي حاجزاً حصيناً وهو أكبر من السد(زُبَرَ الحَديدِ) أي قطعه(بَينَ الصَّدَفَينِ) أي بين جانبي الجبلين بتنضيدها (قالَ انفُخُوا) أي قال للعملة: انفخوا في الأكوار والحديد(حَتّي إذا جَعَلَهُ) أي جعل المنفوخ فيه(ناراً) أي كالنار بالاحماء (قالَ آتُونِي أُفرِغ عَليهِ قطراً) أي آتوني قطراً، أي نحاساً مذاباً أفرغ عليه قطراً، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه(فَمَا استَطاعُوا أَن يَظهَرُوهُ) أي أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وانملاسه (وَمَا استَطاعُوا لَهُ نَقباً) لثخنه وصلابته، قيل حفر للأساس حتي بلغ الماء، وجعله من الصخرة والنحاس المذاب عليها فاختلط والتصق بعضها ببعض وصار جبلاً صلداً، وقيل بناه من الصخور مرتبطاً بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها (قال هذا) السد أو الإقدار علي تسوينه (رَحمَةٌ مِن ربِّي) علي عباده (فَإِذا جَاءَ وَعدُ رَبِّي) وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة (جَعَلَهُ دَكّا) مدكوكاً مسوياً بالأرض. (1)

ص: 150


1- أنوار التنزيل البيضاوي 2: 11 - 12، كما في البحار 12: 172 - 173

قال الطبرسي رحمة الله: قيل: إن هذا السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط، وقيل إنه وراء دربند وخزران من ناحية أرمينية و آذربيجان، وقيل: إن مقدار ارتفاع السد مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعاً... وجاء في الحديث أنهم يدأبون في حفره نهارهم، حتي إذا أمسوا و كادوا يبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غداً ونفتحه ولا يستثنون، فيعودون من الغد وقد استوي كما كان، حتي إذا جاء وعد الله قالوا: غداً نفتح ونخرج إن شاء الله، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس فيخرقونه فيخرجون علي الناس فينشفون المياه، و تتحصن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلي السماء فترجع وفيها كهيئة الدماء فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً (أي دود يدخل في أنوف الإبل والغنم) في أقفائهم فتدخل في آذانهم فيهلكون بها، فقال النبي صلي الله عليه وآله: والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكراً. (1)

محمد بن هارون الزنجاني، عن معاذ بن المثني العنبري، عن عبد الله بن أسماء، عن جويرية، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن وهب قال: وجدت في بعض كتب الله عزوجل أن ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق علي وجهه، فبينا هو يسير وجنوده إذ مر علي شيخ يصلي، فوقف عليه بجنوده حتي انصرف من صلاته، فقال له ذو القرنين: كيف لم يردعك ما حضرك من جنودي؟ قال: كنت أناجي من هو أكبر جنود منك وأعز سلطاناً و أشد قوة، ولو صرفت وجهي إليك لم أدرك حاجتي قبله، فقال له ذو القرنين: هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي، وأستعين بك علي بعض أمري؟ قال: نعم إن ضمنت لي أربع خصال: نعيماً لا يزول، وصحة لاسقم فيها، وشباباً لا هرم فيه،

ص: 151


1- مجمع البيان للطبرسي 6: 389

وحياة لاموت فيها، فقال ذو القرنين: وأي مخلوق يقدر علي هذه الخصال؟ فقال الشيخ: فإني مع من يقدر عليها ويملكها وإياك.

ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين: أخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عزوجل قائمين، وعن شيئين جاريين، وشيئين مختلفين، وشيئين متباغضين. فقال له ذو القرنين: أما الشيئان القائمان فالسماوات والأرض، وأما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر،وأماالشيئان المختلفان فالليل والنهار،وأما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة. فقال: انطلق فإنك عالم، فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتي مر بشيخ يقلب جماجم الموتي، فوقف عليه بجنوده فقال له: أخبرني أيها الشيخ لأي شيء تقلب هذه الجماجم؟

قال: لأعرف الشريف من الوضيع، والغني من الفقير فما عرفت، وإني لأقلبها منذ عشرين سنة. فانطلق ذو القرنين وتر كه فقال: ما عنيت بهذا أحداً غيري.

فبينا هو يسير إذ وقع علي الأمة العالمة من قوم موسي الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، فلما رآهم قال لهم: أيها القوم أخبروني بخبركم فإني قد درت الأرض شرقها وغربها وبرها وبحرها وسهلها وجبلها ونورها وظلمتها فلم ألق مثلكم، فأخبروني ما بال قبور موتاكم علي أبواب بيوتكم؟ قالوا: فعلنا ذلك لئلا ننسي الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا، قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟

قالوا: ليس فينا لص ولا ظنين، وليس فينا إلا أمين. قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالم. قال: فما بالكم ليس بينكم حكام؟ قالو: لا نختصم. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكاثر. قال: فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قبل أنا متواسون متراحمون. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم لا تسبون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا أنفسنا بالحلم. قال: فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال: فأخبروني لم ليس

ص: 152

فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقسم بالسوية. قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا: من قبل الذل والتواضع. قال: فلم جعلكم الله عزوجل أطول الناس أعماراً؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطي الحق ونحكم بالعدل. قال: ما بالكم لا تقحطون؟ قالوا: من قبل أنا لا تغفل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من قبل أنا وطنا أنفسنا علي البلاء فقوينا أنفسنا. قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل أنا لا نتوكل علي غير الله عزوجل ولا نستمطر بالأنواء والنجوم. قال: فحدثوني أيها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالو: وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم، ويواسون فقيرهم، ويعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلي من أساء إليهم، ويستغفرون لمسيئهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أمانتهم، ويصدقون ولا يكذبون، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم. فأقام عندهم ذو القرنين حتي قبض، وكان له خمسمائة عام. (1)

روي الصدوق عن أبي جعفر عليه السلام قال: حج ذو القرنين في ستمائة ألف فارس، فلما دخل الحرم سبقه بعض أصحابه إلي البيت، فلما انصرف قال: رأيت رجلاً ما رأيت رجلاً أكثر نوراً ووجهاً منه، قالوا: ذلك إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام قال: أسرجوا فأسرجوا ستمائة ألف دابة في مقدار ما يسرج دابة واحدة، ثم قال ذو القرنين: نمشي إلي خليل الرحمن، فمشي ومشي معه أصحابه حتي التقيا، قال إبراهيم عليه السلام : بم قطعت الدهر؟ قال: بإحدي عشرة كلمة: سبحان من هو باق لا يفني، سبحان من هو عالم لا ينسي، سبحان من هو حافظ لا يسقط، سبحان من هو بصير لا يرتاب، سبحان من هو قيوم لا ينام، سبحان من هو ملك لا يرام، سبحان من هو عزيز لا يضام، سبحان من هو محتجب لا يري، سبحان من هو واسع لا يتكلف، سبحان من هو قائم لا يلهو، سبحان من هو دائم لا يسهو. (2)

ص: 153


1- الأمالي للصدوق: 235/ ح 7/251
2- رواه أيضاً الراوندي في قصص الأنبياء: 125/ ح 124

وجاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان، و كافران، فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: نمرود وبخت نصر. (1)

الاسكندر والملكة الذكية :

فالاسكندر ملك الأرض شرقها وغربها ولم يبق قطر إلا وقد استولي عليه، فذكروا له يوماً بأن مملكة في الاقليم الفلاني لم تملكه ولم تستولي عليه، فقال: نسير إليه، وكان الذي يملك ذلك الاقليم امرأة بصيرة حاذقة من الفهم والذكاء فوق ما يوصف، فعرفت أن الاسكندر لا يتركها وشأنها، فقالت يوماً للمصورين: من رأي منكم الاسكندر فليصور لي صورته، فخطوا لها صورته، فجعلتها أمامها في المقصورة المطلة علي مدخل البلد، فكانت تنظر مرة إلي الصورة ومرة إلي الشارع الرئيسي حذراً من أن يدخل الاسكندر البلد من غير أن تظفر به، فسار الاسكندر بجيشه الجرار الذي لا يقابله شيء حتي حاذي المملكة، فأقام الجيش علي بعد مسافة وغير لباس الملك ولبس ملبوس الناس المتعارف كي لا يعرف، وكانت هذه عادته ليختبر القطر الذي يقصده فيعلم معداته واستعداده وقواه الحربية،فدخل بهذه الهيئة البلد، ولما نظرت إليه عرفته، فقالت للشرطة: انزلوا إلي ذلك الرجل بسرعة واقبضوا عليه قبل أن يدخل البلد، فزجوه في السجن وامنعوا عنه الطعام والشراب ليله ونهاره، وما أسرع ما ألقي القبض عليه وزج في السجن من دون معرفة سابقة، ولا يعلم السبب لذلك، فكان يطلب منهم الطعام والشراب فلا يعيروه سمعاً، حتي ضعف وأخذ بالارتعاش، فأخبروها بذلك، وكان في قصرها غرف واسعة فأمرت بأن توضع في إحداهن مائدة ويملؤوها بنفائس المجوهرات من اليواقيت والفلزات، ووضعت في آخرها قرص شعير يابس وإناء فيه قليل من الماء، وأمرت بأن توضع في إحدي الغرف مائدة تملي بأنواع الطعام وما خلق الله من أنواع الفواكه، ولما كمل ذلك أخبروها بأن في جميع ما أمرت به، فقالت: علي به، فلما مثل

ص: 154


1- الخصال للصدوق: 255 ح 130

بين يديها قالت له: من أنت؟ قال: رجل سائح، فقالت: أفهم ما تقول رجل سائح فمن أنت ؟ فقال أيضاً: رجل سائح في البلدان، فقالت: سبحان الله أقول له من أنت فيجيب رجل سائح في البلدان، فقالت: أنت رجل سائح؟ قال: بلي، قالت: فهل رأيت أثناء سياحتك صاحب هذه الصورة وهل تعرفه؟ قال: لا - أي لا أخبرك _ فقالت: علي بمرآة،ثم قالت:ضعوهاإلي جنب الصورة،فقالت له: قف أمام المرآة وانظر الصورتين هل تحس بفارق بينهما، فقال: دعينا من هذا القول وعجلي لنا بالطعام والشراب فقد ضعفت، فقالت: ولم لم تقل من أول الأمر إني الاسكندر لتدفع عنك هذه المشقة، ثم جائت به إلي المائدة التي فيها المجوهرات فقالت له: كل، فقال: إن هذه لا تؤكل، ولما وقع بصره علي قرص الشعير في آخر المائدة أسرع إليه فأكله وشرب عليه الماء، فانتظرته إلي أن فرغ، فأسرعت إليه وقالت: ما صنعت؟ هذا ليس بطعام لك ولا مأكولك، فذهبت به إلي مائدة الطعام وقالت: له كل، فقال: إني شبعت، فقالت له: كيف وقد أعطاك الله الدنيا بأسرها فلم تشبع حتي جئت تزاحمني علي ما أملك؟! فقال: والله لقد جبت الدنيا بأسرها فما رأيت أذكي منك ولا أبصر بالأمور، فالقطر وما فيه لك وها أنا منصرف عنك، فقالت: احملوا معه هذه المجوهرات لعله يشبع.

ذو القرنين وبلقيس:

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن مجاهد قال: إن ذا القرنين ملك الأرض كلها إلا بلقيس صاحبة مأرب، فإن ذا القرنين كان يلبس ثياب المساكين ثم يدخل المدائن فينظر من عورتها قبل أن يقتل أهلها، فأخبرت بذلك بلقيس، فبعثت رسولاً ينظر إليه فيصور لها صورته في ملكه حين يقعد، وصورته في ثياب المساكين، ثم جعلت كل يوم طعم المساكين وتجمعهم، فجاءها رسولها في صورته، فجعلت إحدي صورتيه تليها والأخري علي باب الأسطوانة، فكانت تطعم المساكين كل يوم فإذا فرغوا عرضتهم واحداً واحداً فيخرجون، حتي جاء ذو القرنين في ثياب المساكين فدخل

ص: 155

مدينتها ثم جلس مع المساكين إلي طعامها، فقربت إليهم الطعام فلما فرغوا أخرجتهم واحداً واحداً وهي تنظر إلي صورته في ثياب المساكين، حتي مر ذو القرنين فنظرت إلي صورته فقالت: أجلسوا هذا وأخرجوا من بقي من المساكين، فقال لها: لم أجلستيني وإنما أنا مسكين؟قالت:لا أنت ذو القرنين، هذه صورتك في ثياب المساكين، والله لا تفارقني حتي تكتب لي أمانة بملكي أو أضرب عنقك، فلما رأي ذلك كتب لها أماناً، فلم ينج أحد منه غيرها ( تفسير السيوطي مج 4 ص 247 ط 1).

الاسكندر وفيلسوف الهند:

وذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب (مج 1 ص 182 ط سنة 1346 ه مطبعة البهية بمصر): ولماقتل الاسكندر فور صاحب مدينة المانكير من ملوك الهند، وانقاد إليه جميع ملوك الهند حسب ما ذكرنا من حمل الأموال والخراج إليه، بلغه أن في أقاصي أرض الهند ملكاً من ملوكهم ذا حكمة وسياسة وديانة وإنصاف للرعية، وأنه قد أتي عليه من عمره مثون من السنين، وأنه ليس بأرض الهند من فلاسفتهم وحكمائهم مثله، يقال له كند، وكان قاهراً لنفسه، مميتاً لصفاته من الشهوة الغضبية وغيرها، حاملاً لها علي خلق كريم وأدب زائن، فكتب إليه كتاباً يقول فيه: أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا، فإن كنت قائمأ فلا تقعد، وإن كنت ماشيأ فلا تلتفت، وإلا مزقت ملكك وألحقتك بمن مضي من ملوك الهند.

فلما ورد عليه الكتاب أجاب الاسكندر بأحسن جواب وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه قد اجتمع له قبله أشياء لا يجتمع عند غيره مثلها إلا من صارت إليه عنده، فمن ذلك ابنة له لم تطلع الشمس علي أحسن صورة منها، وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن تسأله، لحدة مزاجه وحسن قريحته واعتدال بنيته واتساعه في علمه،وطبيب لا تخشي معه داء ولا شيئا من العوارض إلا ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع بهذه البنية وحل

ص: 156

العقدة التي عقدها المبدع لها المخترع لهذا الجسم الحي، وإن كانت بنية الإنسان وهيكله قد تصبت في هذا العالم عرضاً للآفات والحتوف والبلايا، وقدح عندي إذا أنا ملأته شرب منه عسكرك بجميعه ولا ينقص شيء، ولا يزيده الوارد عليه إلا دهاقاً، وأنا منفذ جميع ذلك إلي الملك وصائر إليه.

فلما قرأ الاسكندر الكتاب ووقف علي ما فيه، قال: تكون هذه الأشياء الأربعةعندي ونجاة هذا الحكيم من صولتي أحب إلي من أن لا تكون عندي ويهلك.

فأنفذ إليه الاسكندر جماعة من حكماء اليونانيين في عدة من الرجال، وتقدم إليهم: إن كان صادقاً فيما كتب به فاحملوا ذلك إلي ودعوا الرجل في موضعه، وإن تبينتم أن الأمر بخلاف من ذلك وأنه أخبر عن الشيء علي خلاف ماهو به فقد خرج عن حد الحكمة، فأشخصوه إلي، فمضي القوم حتي انتهوا إلي الملك، فتلقاهم بأحسن لقاء وأنزلهم أحسن منزل، فلما كان في اليوم الثالث جلس لهم مجلساً خاصاً للحكماء منهم دون من كان معهم من المقاتلة، فقال بعض الحكماء لبعض: إن صدقنا في الأولي صدقنا فيما بعدها مما ذكر.

فلما أخذت الحكماء مراتبها واستقرت بها مجالسها، أقبل عليهم مباحثاً لهم في أصول الفلسفة والكلام في الطبيعيات وما فوقها من الإلهيات، وعلي شماله جماعة من حكمائه وفلاسفته،فطال الخطب في المبادي الأول وتشاح القوم ونظروا في موضوعات العلماء وترتيبات الحكماء علي غير مراء، وتناهي بهم الحكماء إلي غاية كان إليها صدورهم من العلويات، ثم أخرج الجارية فلما ظهرت لأبصارهم رمقوها بأعينهم، فلم يقع طرف واحد منهم علي عضو من أعضائها مما ظهر فأمكنه أن يتعدي ببصره إلي غيره، وشغله تأمل ذلك وحسنه عن تأمل حسن شكلها وإتقان صورتها، فخاف القوم علي عقولهم لما ورد عليهم عند النظر إليها، ثم إن كل واحد منهم رجع إلي نفسه وفهمه وقهر سلطان هواه ودواعي طبعه، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدم الوعد به، وسير هم وسير الفيلسوف والطبيب والجارية والقدح معهم وشيعهم مسافة من أرضه.

ص: 157

فلما وردوا علي الاسكندر وأمر بإنزال الطبيب والفيلسوف، ونظر إلي الجارية فحار عند مشاهدتها وبهرت عقله، وأمر قيمة جواريه بالقيام عليها، ثم صرف همته إلي الفيلسوف وإلي علم ما عنده وإلي علم الطبيب ومحله من صنعة الطب و حفظ الصحة،وقص الحكماء عليه ماجري لهم من المباحثة مع الملك الهندي ومن أحضره من فلاسفته وحكمائه، فأعجبه ذلك وتأمل أغراض القوم ومقاصدهم والغاية التي إليها كان أصدرهم،وأقبل ينظر إلي مطاردة الهند في عللها ومعلولاتها ومايصفه اليونانيون من عللها وصحة قياسها علي ما قدمنا من أوضاعها، ثم أراد محنة الفيلسوف علي حسب ما أخبر عنه، فخلا بنفسه وأجال فكره، فسنح له سائح من الفكر بإيقاع معني يختبره به فدعا بقدح فملأه سمناً وأدهقه ولم يجعل للزيادة عليه سبيلاً ودفعه إلي رسولٍ له وقال اله: امض به إلي الفيلسوف ولا تخبره بشيء، فلما ورد الرسول بالقدح ودفعه إلي الفيلسوف قال بصحة فهمه وتبينه للأمور المتقنة المحكمة في نفسه: لأمر ما بعث هذا الملك الحكيم بهذا السمن إلي، وأجال فكره وسبر المراد به، ثم دعا بنحو ألف ابرة فغرز أطرافها في السمن وأنفذها إلي الاسكندر، فأمر الاسكندر بسبكها كرة مدورة ململمة متساوية الأجزاء وأمر بردها إلي الفيلسوف، فلما نظر إليها الفيلسوف وتأمل فعل الاسكندر فيها، أمر ببسطها وبأن يتخذ منها مرآة بحضرته وصقلها، فصارت جسماً صقيلاً ترد صورة من قابلها من الأشخاص لشدة صفائها وزوال الدون عنها وأمر بردها إلي الاسكندر، فلما نظر إليهاوتأمل حسن صورته فيها، دعا بطست فجعل المرآة فيه وأمر بإراقة الماء فيه عليها حتي رسبت وأمر بحمل ذلك إلي الفيلسوف.

فلما نظر الفيلسوف إلي ذلك أمر بالمرآة فجعل منها مشربة كالطر جهارة وجعلها في الطست فوق الماء فطفت فوقه وأمر بردها إلي الاسكندر، فلما نظر الاسكندر إلي ذلك أمر بتراب ناعم فملئت منه وردها إلي الفيلسوف، فلما نظر الفيلسوف إلي ذلك تغير لونه وحاله وجزع وتغيرت صفاته وأسبل دموعه علي خده و كثر شهيقه وطال أنينه وظهر حنينه، وأقام بقية يومه غير منتفع بنفسه، ثم أفاق من ذلك الحال وزجر نفسه وأقبل عليها

ص: 158

كالمعاتب لها وقال: ويحك يا نفسي ما الذي قذف بك في هذه السلافة؟ وأصار بك إلي هذه الغمة؟ووصلك بهذه الظلمة؟أنسيت وأنت في النورتسرحين وفي العلوم تمرحين، و تنظرين في الضياء الصادق وتتفسحين في العالم المشرق، أنزلت إلي عالم الظلم والمعاندة والغشم والمفاسدة، تخطفك الخواطف وتنتهرك العواصف، قد حرمت علم الغيوب والكون في العالم المحبوب، ورميت بشدائد الخطوب ورفضت كل مطلوب، أين مصادر الطبية وراحتك القوية، حللت في الأجساد فقوي عليك الكون والفساد. حللت يا نفس بين السباع القاتلة والأفاعي المهلكة والنيران المحرقة والريح العاصفة، وصرتك الأعمار علي قرارات الأجسام، لا تشاهدين إلا غافلاً، ولا ترين إلا جاهلاً قد زهد في الخيرات ورغب عن الحسنات.

ثم رفع طرفه نحو السماء فرأي النجوم تزهر، فقال بأعلي صوته: يا لك من نجوم سائرة وأجسام زاهرة، من عالم شريف طلعت، ولشيء ما وضعت، إنك من عالم نفيس قد كانت النفس في أعاليه ساكنة وفي أكنافه قاطنة، فقد أصبحت عنه ظاعنة.

ثم أقبل علي الرسول وقال: څذه ورده إلي الملك - يعني التراب - ولم يحدث فيه حادثة، فلما ورد الرسول علي الاسكندر وأخبره بجميع ما شاهد فتعجب الاسكندر من ذلك وعلم مرامي الفيلسوف ومقاصده وغاية مراده فيما وقع بالنفوس من النقلة مما علا من العوالم إلي هذا العالم، ولما كان في صبيحة تلك الليلة، جلس له الاسكندر جلوساً خاصأً ودعابه ولم يكن رآه قبل ذلك، فلما أقبل ونظر إلي صورته و تأمل قامته وخلقته، نظر إلي رجل طويل الجسم رحب الجبين معتدل البنية، فقال في نفسه: هذه بنية تضاة الحكمة، فإذا اجتمع لحسن الصورة وحسن الفهم كان أوحد زمانه، ولست أشك أن هذا الشخص قد علم كل ما راسلته به وأجابني عليه من غير مخاطبة ولا موافقة ولا مباحثة، فليس في وقته أحد يدانيه في حكمته، ولا يلحقه في علمه.

وتأمل الفيلسوف الاسكندر فأدار اصبعه السبابة علي وجهه ووضعها

ص: 159

علي أرنبة أنفه وأسرع نحو الاسكندر وهو جالس علي غير سرير ملكه، فحياه بتحية الملوك، فأشار إليه الاسكندر بالجلوس، فجلس حيث أمره، فقال له الاسكندر: ما بالك حين نظرت إلي ورميت بطرفك نحوي أدرت اصبعك حول وجهك ووضعتها علي أرنبةأنفك؟ قال: تأملتك أيها الملك بنورية عقلي وصفاء مزاجي فتبينت فكرتك وتأملك لصورتي وأنها قلما تجتمع مع الحكمة، فإذا كان ذلك كان صاحبها أوحد زمانه، فأدرت أصبعي مصداقاً لما سنح لك، وأريتك مثالاً شاهداً، كما أنه ليس في الوجه إلآ أنف واحد، فكذلك ليس في دار مملكة الهند غيري، ولا يلحق أحد من الناس بي في حكمتي.

فقال له الاسكندر: ما أحسن مانأتي لك ما ذكرت وانتظم لك بحسن الخاطر ما صنعت، فدع عنك هذا. ما بالك حين أنفذت إليك قدحاً مملوءاً سمناً غرزت فيه إبراً ورددته إلي؟ قال الفيلسوف: علمت أيها الملك أنك تقول: إن قلبي امتلا، وعلمي قد انتهي كامتلاء هذا الإناء من السمن، فليس لأحد من الحكماء فيه مستزاداً، فأخبرت الملك أن علمي يستزيد في علمه ويدخل فيه دخول هذه الابر في هذا الإناء، قال: فأخبرني ما بالك حين عمل من الابر كرة وأقدمتها إليك صيرتها مرآة ورددتها إلي صقيلة؟ قال: علمت أيها الملك أنك تريد أن قلبك قد قسا من سفك الدماء والشغل بسياسة هذا العالم كقسوة هذه الكرة، فلا يقبل العلم ولا يرغب في فهم الغابات والعلوم والحكمة، فأخبرتك مجيباً ممثلاً بسبك الكرة والحيلة في أمرها بجعلي منها مرآة صقيلة مؤدية إلي الاجسام عند المقابلة لحسن الصفاء، قال له الاسكندر: صدقت، قد أجبتني عن مرادي، فأخبرني أيها الفيلسوف حين جعلت المرآة في الطست ورسبت في الماء جعلتها قدحاً فوق الماء طافية ثم رددتها إلي؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تريد بذلك أن الأيام قد انقضت وقصرت، وأن الأجل قد قرب، ولا يدرك العلم الكثير في المهل القليل إلي قلبه وتقريبه من فهمه كاحتيالي للمرآة من بعد

ص: 160

كونها راسبة في الماء حتي جعلتها طافية عليه، قال له الاسكندر: وصدقت، فأخبرني ما بالك حين ملأت الاناء تراباً رددته إلي ولم تحدث فيه حادثة كفعلتك فيما سلف؟ قال: علمت أنك تقول: ثم الموت وإنه لا بد منه، ثم لحوق هذه البنية بهذا العنصر البارد اليابس المعتل الذي هو الأرض ودثورها وتفرق أجزائها، ومفارقة النفس الناطقة الصافية الشريفة اللطيفة لهذا الجسد المرئي.

قال الاسكندر: صدقت، ولأحسنن إلي الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة، وأقطعه قطائع واسعة، فقال له الفيلسوف: لو أحببت المال لما أردت العلم، ولست أدخل علي علمي ما يضاده وينافيه، واعلم أيها الملك أن الغنية توجب الخدمة، ولسنا نجد عاقلاً من خدم غير ذاته واستعمل غير ما يصلح نفسه، والذي يصلح النفس الفلسفة، وهي صقالها وغذاؤها، وتناول الحيوانية وغيرها من الموجودات ضد لها، والحكمة سبيل إلي العلو وسلم إليه، ومن عدم ذلك عدم القربة من بارئه.

واعلم أيها الملك أن بالعدل ركب جميع العالم بجزئياته ولا يقوم بالجور، والعدل ميزان الباري جل وعز، فكذلك حكمته مبرأة عن كل ميل وزلل، وأشبه الأشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم الإحسان إلي الناس، وقد ملكت أيها الملك بسيفك وصولة ملكك وتأنيك في أمورك وانتظام سياستك أجسام رعيتك، فتحر أن تملك قلوبهم بإحسان إليهم وإنصافك لهم وعدلك فيهم، فهي خزانة سلطانك، فإنك إن قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاحترز من أن تقول تأمن من أن تفعل.

فالملك السعيد من تمت له رياسة أيامه، والملك الشقي من انقطعت عنه، فمن تحري في سيرته العدل استنار قلبه بعذوبة الطهارة. وأما القدح فامتحنه حين أدهقه بالماء وأورد عليه الناس فلم ينقص شربهم منه شيئاً و كان معمولاً بضرب من خواص الهند والروحانية والطبايع التامة والتوهم وغير ذلك من العلم مما يدعيه الهند، وقد قيل أنهكان لآدم أبي البشر عليه السلام بأرض سرنديب من بلاد الهند مبارك له فيها، فورث عنه وتداولته الملوك إلي أن انتهي إلي كند هذا الملك العظيم سلطانه وما كان عليه من الحكمة، وقيل غير ذلك من الوجوه.

ص: 161

(في المجلد الثاني من كتاب الشاهنامه للفردوسي ص 16 ط مصر وقد ترجمها إلي اللغة العربية نثراً الفتح بن علي البنداري).

ذكر طواف الاسكندر في أقطار العالم وما رآي فيها من العجائب :

قال صاحب الكتاب: ثم أن الاسكندر سار في عساكره إلي أن وصل إلي مدينة البراهمة، فلما علموا بوصوله خلصوا نجياً، واجتمع رأيهم علي أن كتبوا إليه كتاباً يقولون فيه: أيها الملك ماذا تريد من مدينة سكانها عباد الله؟

فإن كنت تريد منهم المال فما أنقص عقلك، وهم قوم ليس عندهم سوي الصبر والعلم، وذلك مما لا يسلبونه.

ولو أقمت ها هنا لاحتجت أن تأكل الحشيش كما يأكلون.

وكان الواصل بهذا الكتاب إلي الاسكندر رجلاً حافياً حاسراً ملتحفاً بازار منسوج من الحشيش، فلما قرأ الكتاب ترك العسكر في مكانه، وركب في جماعة من فلاسفته، وصار إليهم إلي مدينتهم، فاستقبلوه وأحضروه من قوتهم الذي كانو يزجون به وقتهم،ودعوا له وأثنوا عليه، فرآهم قوماً حفاة عراة قد ستروا عوراتهم بازر من الحشيش، ورأي فيهم عابداً قد اتزر بجلد غزال، فخاطبهم الاسكندر في أمر ملبوسهم، فقال: من ولد عرياناً فلا ينبغي له أن يكون حريصاً علي الملبوس، علي أنه إذا واراه التراب فهو علي خوف من العذاب والبؤس، فسأله الاسكندر عن أعظم الذنوب فقال: الحرص علي الدنيا، وإن أردت أن تقف علي حقيقة ذلك فاعتبر بنفسك، فإنك مع احتوائك علي جميع ممالك الأرض طالب إليها الزيادة، غير قانع بعظيم ما أوتيت من الملك والسيادة، ثم قال لهم: ارفعوا إلي حوائجكم فلن ادخر عنكم شيئاً، وأسعفكم بمطالبكم عفواً، فقال له أحدهم: أيها الملك! أغلق دونا باب الشيب والموت، فقال له: كيف تسلم من الموت وهو لا محالة يهدم بناء عمرك وإن كان من

ص: 162

حديد؟ وكيف تنعم بالشباب ومشرعه لا بد أن يكدر برنق المشيب؟ فقال له البرهمي: إذا كنت تعلم أنه لا مفر من الموت ولا سلامة من غصة الشيب، فما بالك قد صرت تطلب الاحتواء علي العالم بجهدك، وتعرض للسم القاتل نفسك، وتتعب لغيرك، و تجمع لمن يفرقه من بعدك؟ والشيب بين يدي الموت نذير، وإذا طمعت في الحياة بعده فليس لك عذير، ثم أن الأسكندر وهب لهم هبات كثيرة فما قبلوها، واستعرضهم

حوائجهم فما عرضوها. فانصرف عنهم.

وسار حتي وصل إلي بحر عظيم فرأي عنده رجالاً متنقبين كالنساء لا يعرف لسانهم عربي ولا فهلوي. ليس لسانهم العربي ولا الفارسية القديمة ولا الفهلوية ولاالتركية ولا الصينية، وكان قوتهم من السمك وحيوان البحر، ثم أنه لمح وسط البحر جبلا أصفر كالشمس، فأمر بإلقاء سفينة في الماء ليركبها ويشاهد عجائب ذلك الجبل. فمنعه من ذلك بعض الفلاسفة وقال: لا تخاطر بنفسك، وليركبها غيرك ممن يأتي بخبره.

فأركب تلك السفينة ثلاثين شخصاً من الروم وغيرهم، فلما قربت السفينة الجبل تحرك، وإذا به حوت، فالتقم السفينة بمن فيها وانساب في البحر، فتعجب وقال: العلماء حفظة أرواح الملوك، فطوبي لمن عرف قدرهم واتبع أمرهم.

فسار الاسكندر إلي أرض قصباء عظيمة القصب كأنها أشجار الدلب عظماً وفيها غدير عظيم ماؤه زعاق كأنه سم ذعاف، فعبر منه وانتهي إلي ساحل بحر آخر عظيم، فصادف أرضاً طيبة العرف كأنها تتأرج بأريج المسك، وماء عذب المذاق في حلاوة الشهد، فنزلوا واستراحوا وأراحوا، فبينما هم من منزلهم إذ خرجت من الماء أفاع كثيرة، وطلعت من الأجمة عقارب كالفأر ملتهبة، فأتتهم من جميع جوانبهم فحول من الخنازير ذوو أنياب كالحراب، وضواري سباع ما لأحد بها طاقة، فهلك من الأكابر والامراء خلق كثير، فارتحلوا وانحازوا عن ذلك المكان، وطرحوا فيما كان هناك من القصب حتي احترق، وقتلوا كثيراًمن تلك السباع .

فسار من ذلك المكان إلي أرض الحبشة، فاجتمعت منهم آلاف مؤلفة من كل

ص: 163

غرابي ترتج الأرض بنعيبه، ويمتلئ الجو بتعيقه، فقاتلوه برماح أستتها من العظام فقتلوا كثيراً من أصحابه، فأمر عند ذلك رجاله بالجد في قتالهم، فتدبجوا وصافوهم فكانت الدبرة علي الحبشة وأفناهم القتل، ولما جن الليل سمعوا صوت الكركدن فتصدي لهم وهو حيوان أعظم من الفيل له قرن في أم رأسه في لون النيل، فأهلك خلقاً من أصحابه،ثم رشقوه بالسهام فانه كأنه جبل من حديد.

ثم لما أصبح رحل وسار حتي وصل إلي أرض فيها خلق عراة كأنهم أشجار باسقة، فلما رأوا الاسكندر صاحوا واجتمعوا وقاتلوهم بالحجارة وأمطروها عليهم، فواقعهم أصحاب الاسكندر وقتلوهم حتي لم يبق منهم إلا قليل.

وسار حتي وصل إلي مدينة كبيرة بين يديها جبل عظيم يكاد يمس السماء فاستقبله أهلها بالتحف والمبار والخدم، فأحسن إليهم، ثم سائلهم عن الطريق فقالوا: أيها الملك كان الطريق علي هذا الجبل، وقد قطعه الآن ثعبان عظيم لا يتجاسر معه أحد علي العبور فيه، وله علينا كل يوم وظيفة خمسة ثيران تلقيها إليه فيبتلعها وينكف بذلك عن أن يتقدم إلي هذا الجانب، فأمر الاسكندر بخمسة ثيران فذبحت وسلخت جلودها و حشيت سماً ونفطاً، فأمر بإصعادها إلي الجبل وإلقائها إلي الثعبان، فابتلعها فلم يلبث أن تقطعت أمعاؤه من السم، وصعد بخار السم والنفط إلي دماغه فأخذ يضرب رأسه علي الجبل حتي انفلق وتشقق، فقطعوه بالسيوف.

وعبر الاسكندر بعساكره وسار حتي وصل إلي جبل آخر عال في السماء،فأصعدوا فيه فرأوا علي رأس الجبل تختاً من الذهب منصوباً وعليه شيخ ميت مسجي بديباج، علي رأسه تاج مرصع بجواهر تزهر العيون، فلم يتجاسر أحد علي القرب منه، وكان كل من يقدم إليه تأخذه الرعدة في مكانه ويموت في وقته، فلما صعد الاسكندر ذلك الجبل ورأي التخت سمع هاتفاً يقول: أيها الملك قد جهدت زماناً طويلاً وأفنيت من الملوك كثيراً، وقد دنا وقتك وحان حينك، فعظم عليه ذلك واصفر لونه.

وسار قاصداً قصد مدينة هروم، وهي مدينة سكانها بنات أبكار لا يمكن

ص: 164

أحداً من القرب من المدينة، لم يخلق للواحدة منهن إلآ ثدي واحد وهو الأيمن فحسب، وهن في الأيسر كالرجال. قال: فكتب الاسكندر إليهن كتاباً يدعوهن إلي الطاعة ويذكر أنه ما جاء لقصد قتالهن ولا لنهب بلادهن، وأنه لم يرد سوي رؤية المدينة والاعتبار بأحوالها، ونفذ الكتاب فيلسوفاً وأمره أن يلاطفهن في الخطاب ويرجع إليه بالجواب، فصادف الرسول أهل المدينة نساء كلهن ليس فيها رجل، فاستقبلته علي الخيول في آلات الحرب، فقرأن الكتاب وقلن في جوابه: إنك رجل كبير وصيتك عال رفيع فلا تفسدته بأن يقال أنك قاتلت النساء وانهزمت منهن، فإن ذلك يجر عليك عاراً لا يزول أبداً، ولكن إن جئت للتطواف في مدينتنا والنظر إليها والوقوف علي أحوالها، أكرمنا مقدمك وتلقينا بالجميل موردك، وختمن الكتاب وأنفذنه علي يدي امرأة عاقلة في ملابس الملوك ومعها عشر فوارس منهن، فلما أتت الاسكندر ووقف علي ما صحبها من الجواب أكرمها وقال: مالي حاجة في مدينتكن سوي النظر إليها، إذا حصل ذلك عبرت و تجاوزت إلي طرف آخر. فعادت وأعلمت صواحبها بما جري، فاجتمعن واتفقن علي إعداد تحف برسم الملك، من التيجان المرصعة والجواهر النفيسة وغير ذلك مما يصلح أن يخدم الملوك.

ثم رحل الاسكندر من منزله وسار، فهاج عليهم بعد مرحلتين هواء شديد و تغيمت السماء وسقط عليهم ثلج أهلك خلقاً من أصحاب الاسكندر، فسار في ذلك الزمهرير منزلين، ثم شاهدوا دخاناً مرتفعاً في السماء وسحاباً أسود كأنه يمطر النار، فحمي الهواء وعظم الحر حتي حميت الدروع علي أكتاف الرجال فأحرقتها، فسار علي ذلك فوصل إلي مدينة فيها ناس سود الوجوه كالسبج، هدل الشفاه، تتوقد النار من أحداقهم وتخرج من أفواههم، فاستقبلوا الاسكندر وخدموه بفيلة عظيمة وتحف كثرة وقالوا: إنا لم نر أحداً وصل إلي هذه المدينة، ولم نر راكب فرس قط، فأقام الملك فيها شهراً.

ص: 165

ثم سار قاصداً قصد مدينة النساء، فعبر إليه البحر جلائل أهلها في ألفين من فوارسهن مستقبلات له، فقدمن إليه برسم الهدية تيجاناً مرصعة وجواهر نفيسة وثياب وشي، ثم ركب الاسكندر ووصل إلي المدينة فأكرمن مقدمه ونشرن عليه نثارات، وخدمنه بتحف ومبرات، ولما رأي المدينة وأهلها، ووقف علي أحوالها، خلع عليهن وأحسن إليهن وار تحل.

وصول الاسكندر مغرب الشمس:

وسار قاصدأ قصد مغرب الشمس، فوصل إلي مدينة فيها ناس حمر الوجوه صفر الشعور، فسايلهم الاسكندر عمن يعرف عجائبها؟ فقال له من أهل تلك المدينة شيخ طاعن في السن: إن وراء مدينتنا عيناً كبيرة فيها تغرب الشمس وتغيب، ووراء هذه العين ظلمات، وفيها من العجائب مالا يحيط به الوصف، وقد قال بعض عبادنا: إن فيها عيناً يقال لها عين الحياة، من شرب منها يخلد ولا يموت، لأن مدد مائها من أنهار الفردوس، ومن اغتسل فيها تساقطت عنه ذنوبه، فقال له الاسكندر: كيف تسلك الدواب طريق هذه الظلمة؟ فقال: من أراد أن يسلك طريقها لا ينبغي أن يركب إلا مهراً.

فأمر الاسكندر بجمع الخيل فاختار منها عشرة آلاف مهر رباع قوي، وسار في عساكره حتي وصل إلي مدينة كبيرة فيها نعم كثيرة وبساتين وسيعة وقصور رفيعة فنزل فيها، وصار وحده إلي مغرب الشمس، فبقي ينتظر غروبها، فلما كان عند الغروب شاهد قرص الشمس وهو يغيب في تلك العين، فجعل يسبح الله تعالي ويقدسه، ثم انصرف إلي معسكره فانتخب من أصحابه من عرفه بالعقل والصبر، وتزود لأربعين يوماً، واختار من يصلح أن يتقدم أمامهم ويسير بين أيديهم، فوقع الاختيار علي الخضرصلوات الله وسلامه عليه فإنه كان سيد الجماعة وصاحب الرأي فيماهم بصدده، ففوض الاسكندر إليه أمره، وقال:

ص: 166

أيها الرجل المتيقظ ! نبه قلبك لهذا الأمر، فإنا إن عثرنا علي ماء الحياة بقينا نعبد الله تعالي إلي آخر الأبد.

وإن معي خرزتين تتقدان كالشمس في جنح الليل، فخذ إحداهما وسر قدام القوم، وتكون الأخري معي، وأنا والعسكر نقتفي أثرك، ونبصر ماذا قسم الله تبارك وتعالي لنا.

الخضر وعين الحياة :

فتقدم الخضر وسار الاسكندر في أثره حتي سار في الظلمات مرحلتين، ولما كان المنزل الثالث عرض لهم في الظلمات طريقان فسار الخضر في احدي الطريقين ووصل إلي عين الحياة فشرب منه واغتسل وفاز بالمطلوب، وضل الاسكندر عنه فسلكالطريق الآخر فأفضي به إلي الضوء، وخرج من الظلمة فرأي جبلاً شاهقاً في السماء علي رأسه أشجار من العود، وعلي كل شجرة طائر أخضر، فلما رأته الطيور نطقن بإذن الله باللسان الروحي، فدنا من طائر وأصغي يسمع كلامه فقال له: ماذا تريد أيها الثعبان (أو التعبان) من الدنيا الفانية، وأنت لو بلغت السماء لم يكن لك بد من الموت، ثم قال للاسكندر: هل حدث الزنا؟ وهل استعمل الآجر في البناء؟ فقال: نعم، فقال: وهل قرع سمعك صوت المزهر وصياح السكران ونغم الغناء؟ فقال: نعم، فنزل إليه الطائر عند ذلك وقال: أما أكثر العلم مع السداد أم الجهل مع الفساد؟ فقال: العالم بين الناس عزيز، فرجع الطائر إلي مكانه وقال له: هل يسكن العباد في بلادكم الجبال؟ فقال: وهل لهم سكن إلا في الجبال. ثم قال له: اصعد إلي رأس هذا الجبل وحدك راجلا ليس معك أحد فأبصر ما هنالك.

فصعد الاسكندر وحده فرأي إسرافيل عليه السلام علي رأس ذلك الجبل وبيده الصور، وقد نفخ شدقيه وملأمن الدموع عينيه ينتظر حتي يأتيه الأمر

ص: 167

فينفخ، قال فلما نظر إلي وجه الاسكندر صاح عليه وقال: يا عبد الحرص لا تجهدن هذا الجهد فسوف يأتيك الأمر بالمسير، ويقرع سمعك النداء بالرحيل، فقال الاسكندر: لم يقسم لي غير الحركة والطواف في أقطار الأرض، ثم نزل من الجبل حليف كآبة ورنين وعاد القهقري إلي الظلمات، فلما توغلها هتف هاتف من الجبل الأسود الذي كان هنالك وقال: من يحمل من حجارة هذا المكان يندم، ومن لا يحمل منها فهو أيضاً يندم، فحمل منها بعضهم وأعرض عنها بعضهم، فلما خرجوا من تلك من الظلمات رأوا تلك الحجارة جواهر ويواقيت، فندم من حمل حيث لم يستكثر، وندم من لم يحمل حيث لم يحمل.

وصول الاسكندر إلي مشرق الشمس وقصة يأجوج ومأجوج :

قال: ثم إن الاسكندر أقام بعد خروجه من الظلمات مقدار أسبوعين، ثم ارتحل متوجاً نحو المشرق، فسار حتي انتهي إلي مدينة كبيرة، فاستقبله أكابر أهلها فأكرمهم الاسكندر وأحسن إليهم، ثم سايلهم عن عجائب ما هنالك، فأجهشوا إليه بالبكاء وقالوا: أيها الملك: إن أمامنا أمراً عظيماً لا بد لنا عن عرضه علي رأيك، ونحن منه في عناء وتعب شديد، وذلك أن وراء هذا الجبل يأجوج ومأجوج وهم يفسدون في أرضنا ويعيشون في بلادنا، وهم في خلقهم بحيث لا تتجاوز قامة أحدهم شبراً، ومع ذلك فقد ملأوا الأرض فساداً وشراً، ولهم وجوه كوجوه الإبل وأنياب كأنياب الخنازير، ألسنتهم سود وأعينهم حمر، وعلي أبدانهم شعور في لون النيل، ولهم آذان كآذان الفيلة، إذا نام أحدهم افترش إحدي أذنيه والتحف بالأخري، لا تموت الأنثي منهم حتي تلد ألف مولود، وهم في الكثرة بحيث لايعرف عددهم الا اللّه عزوجل واذا كان فصل الربيع وجاش البحر وأرعد الجواحتمل السحاب التنين من البحر فألقاه إليهم، فيجتمعون إليه ويأكلون منه حتي تعبل أجسامهم وتسمن أبدانهم، ويكون ذلك

ص: 168

من السنة إلي السنة، وفي سائر السنة يجترئون بنبات الأرض وبما يختطفونه من كل جانب، وإذا كانت أيام الشتاء اعتراهم الضعف حتي يصير صوت أحدهم في رز صوت الحمام، وإذا أقبلت أيام الربيع عادوا كالذئاب الضارية.

فإن أنعم الملك بالتدبير في كفاية شرهم وكف معرتهم شكر سعيه بكل السان، ودام ذكره إلي آخر الزمان.

فتعجب الاسكندر مما أوردوا واهتم لذلك، ثم غاص في بحر الفكر فقال لهم: إني أعاونكم مني بالأموال والكنوز، فعاونوني بنفوسكم حتي أعمل دونهم سداً بقدرة الله الذي لا إله إلا هو سبحانه وتعالي، فدعوا له وقالوا: إنا كلنا عبيدك فيما تأمر به، فجاء الاسكندر في علماء فلاسفته وأصحاب رأيه،فنظر إلي الجبل فأمر باستدعاء الحدادين والفعلة، وأمر باحضار النحاس والرصاص والجص والحجارة والحطب، فجمعوا في كل واحد مالا يحيط به الحصر، وحشر صناع الأقاليم فسد ما بين الجبلين بسدين من قرار الأرض إلي رأس الجبل، وجعلوا الأساس في عرض مائة ذراع، فكانوا يصفون من زبر الحديد صفا في مقدار ذراع، ويضعون عليه الفحم والنحاس، ويجعلون الكبريت فوقه، ثم صفا آخر فوقه كذلك، ثم آخر وآخر حتي انتهي إلي رأس الجبل وساوي ما بين الصدفين، ثم خلطوا النفط والدهن وأفرغوه علي رأس الجميع، ثم صبوا عليه الفحم، ثم ألقوا فيه النار.

واجتمع عليه مائة ألف حداد ينفخون فيه، فارتفع الدخان في السماء وتمكنت النار فية وبقيت كذلك تتقد زمانأً حتي تراصت الأجزاء وتهدم البناء، فتخلص العالم بالسد الاسكندري من شريأجوج ومأجوج وعادتهم ولله الحمد، قال: وطول هذا السد خمسمائة ذراع في عرض خمسمائة ذراع.

ولما أحكم الاسكندر ذاك ارتحل من تلك المدينة وسار مسيرة شهر فوصل إليجبل من اللازورد علي رأسه بيت من الياقوت الأصفر، فيه قناديل معلقة من البلور، وفي

ص: 169

وسطه عين ماء مالح فيه جوهر أحمر، له أشعة تنبث أنوارها علي الماء فيمتلي البيت منه بالأضواء، وعند العين تخت من الذهب منصوب، عليه شخص مسجي مضطجع، رأسه كراس خنزير، وبدنه كبدن إنسان، قد فرش تحته الكافور، و كان من أخذ شيء من ذلك البيت تأخذه الرعدة ويموت في مكانه.

فسمع الاسكندر هاتفاً من تلك العين يقول: أيها الرجل الحريص، لا تحرصن هذا الحرص كله فقد رأيت مالم يره أحد، فالواجب أن تصرف الآن عنانك فقد دنت أيامك، وشارف الانقضاء ملكك.

ففزع الاسكندر وأسرع الانصراف إلي معسكره.

ثم ارتحل وسار حتي خرج من البرية وانتهي إلي مدينة آهلة ففرح حين سمع صوت الإنس واستأنس، فتلقاه أهل المدينة وأظهروا السرور بمقدمه ونثروا عليه النار الكثير، وقالو: نحمد الله حين جعل عبورك علينا، فإنه لم يأت هذه المدينة عسكر قط، ولا سمع فيها اسم ولا ذكر لملك، فسايلهم عن عجائب مدينتهم؟ فقال بعضهم: أيها الملك! إن هاهنا عجباً لا يوجد في العالم مثله، وذلك أن هاهنا شجرتين ذكر وأنثي، ينطق الذكر بالنهار والأنثي بالليل، فركب الاسكندر واستصحب ترجماناً منهم في جماعة من أصحابه، فسأل الترجمان وقال: متي تتكلم الشجرة؟ فقال: إذا عبر تسع ساعات من النهار تكلم الذكر، وإذا جن الليل تكلمت الأنثي، فقال له: وإذا تجاوزنا ما بين الشجرتين فما الذي نراه بعدهما؟ قال: إن الدنيا تنتهي عند ذلك، وما بعدها يسمي طرف العالم.

ولما قرب من الشجر تين رأي الأرض ملأي من جلود السباع، فسأله عن ذلك فقال: إن لهاتين الشجر تين عباداً يعبدونهما، وإذا جاؤها للعبادة فلا يأكلون إلا لحوم السباع، قال: فلما انتصف النهار سمع الاسكندر من إحدي الشجر تين صوتاً أزعجه فسأل الترجمان عما قالت؟ فقال: إنها تقول: ما بال الاسكندر يجول في أقطار الأرض وقد استوفي نصيبه من العيش، وعند استكمال أربع عشرة سنة من سلطانه يحين حين

ص: 170

ارتحاله، فبكي الاسكندر وامتلا هماً وحزناً وبقي واجماً لا يتكلم إلي نصف الليل. فتكلمت الشجرة الأنثي، فسأله عما قالت، فقال: إنها تقول: إنك تجول حول الأرض من حرصك، ولم يبق إلا قليل من عمرك، فلا تتعب نفسك ولا تضيق عليها أمرك، فقال له الاسكندر: سلها هل تكون أمي حاضرة عند رأسي إذا أتاني أمر ربي؟ فسألها عن ذلك فقالت: شد رحالك وأقصر عن ظنك فإنه لا تحضرك أمك ولا قرابتك ولا نساءبلدك، ولا تموت إلا غريباً في بلاد غيرك.

فانصرف الاسكندر وقيد القلب منخزل النفس نحو معسكره.

فقدم إليه أهل تلك المدينة جواشن و دروعاً وتحفاً كثيرة فيها مائة بيضة من الذهب، وزن كل بيضة ستون مناً، وصورة كركدن من الذهب مرصعة بالجوهر، فقبل هداياهم.

الاسكندر وملك الصين:

وارتحل نحو العين فلما قرب منها نزل في عسكره واستحضر الكاتب فأمره أن يكتب إلي بغبور كتاباً مملوءاً بالوعد والوعيد، وختمه، واستصحب بعض ثقاته وأصحاب رأيه، وركب منهم في خمسة فرسان حتي أتي ملك الصين في زي رسول، فلما وصل إليه أكرمه وأنزله في موضع يليق به، ثم لما كان من غده أنفذ إليه مركوباً خاصاً بالات الذهب واستحضره، فحضر وأدني إليه الرسالة، ودعاه أن يبادر إلي خدمة الاسكندر ويسارع إلي حضرته، وإن لم يفعل ذلك فلينفذ إليه طوائف الصين من فيل وأسلحة وثياب وذهب وفضة ليصرفه بذلك عن أذاه، فضحك بغبور وسأله أن يصف له الاسكندر وينعت له صورته وشكله، ويصف مكارمه وسيرته.

فاندفع الرسول يورد ذلك ويسرده، ثم أنه استحضر الطعام والشراب، ولما ثملوا صرف الرسول وقال: سنجيب غداً عن رسالة صاحبك، فانصرف إلي منزله وهو بين الصاحي والسكران و بيده أترجة، ولما طلعت الشمس من غده ركب إلي حضرة بغبور فسايله ولاطفه، ثم استحضر الكاتب وأجاب في كتب الاسكندر، وفتح أبواب خزائنه

ص: 171

وأخرج خمسين تاجأً مرصعاً بالجواهر وعشرة تخوت من العاج، وأوقر ألف جمل من الديباج والخز والحرير والكافور والمسك والعنبر إلي غير ذلك من الذهبيات والفضيات وجلود السنجاب والقاقم والسمور.

ثم اختار رجلاً من أكابر الصين موصوفاً بالعقل والرأي، ونفذه بكل ذلك في صحبة الرسول. فلما انتهي إلي ساحل البحر بادر الملاح فحمله في مركب وعبر به إلي المعسكر، فلما أحس أصحابه بوصوله استقبلوه، ولما رأوه ترجلوا وسجدوا بين يديه، فعلم رسول بغبور أنه هو الاسكندر نفسه، فنزل وسجد له. ثم لما أصبح جلس مجلسه من تخت السلطنة، فخلع علي رسول بغبور وأعطاه عطايا كثيرة وصرفه إلي صاحبه، ثم أقام الاسكندر في ذلك الموضع شهراً من الزمان.

فلما برد الهواء ارتحل وسار حتي وصل إلي مدينة جغوان ورحل منها قاصداً قصد السند. فركب ملكهم - وكان يسمي بنداه _ في رجاله السود برزوا إلي قتاله في أمثال الأسود، فجرت ملحمة أفنت السودان عن آخرهم وأتي الأسر والنهب علي نسائهم وذراريهم. ثم سار الاسكندر إلي نيمروز، وصار منها إلي اليمن، فاستقبله صاحب اليمن بالهدايا الجليلة والتحف الكثيرة، فأكرمه الاسكندر وأحسن إليه.

ثم ارتحل من اليمن قاصدأً قصد بابل، فوصلً في طريقه إلي جبل عظيم فأتعبهم العبور فيه، فلما قطعوه وأسهلوا أفضوا إلي بحر عظيم، فعثر بعض أصحابه في ساحله علي رجل متسربل البدن بالشعر، له أذنان كآذان الفيلة، فاجترؤه إلي خدمة الاسكندر، فقال له الاسكندر: ما اسمك ومن أنت؟ فقال: أيها الملك إن أبي وأمي سمياني بستر كوش يعني لحافي الأذن، فقال له: ما هذا الذي نري في وسط البحر؟ فقال: مدينة طيبة، وفيها خلق طعامهم من السمك وأبنيتهم من عظام السمك، فإن أمر الملك عبرت إليهموأخبرتهم بمقدمه وحملت منهم جماعة إلي خدمته.

فأذن له الملك في ذلك، فعبر إليهم في ساعة وانصرف ومعه ثمانون شخصاً من عقلاء تلك المدينة في ملابس الخز والحرير، بعضهم شبان وبعضهم شيوخ، مع كل شيخ

ص: 172

منهم جام مملوء من الدر، ومع كل شاب تاج من الذهب، فحضروا بين يدي الملك فخدموه وسايلهم عن أمور أجابوه عنها، وأقاموا في منزله علي البحر إلي طلوع الفجر من الغد، فارتحل متوجاً نحو بابل وقد علم أن أجله قد قرب.

وكان يخاف من الكيانيين علي بلاد الروم بعد موته، فعزم ألا يبقي منهم أحداً، فكتب كتاباً إلي الحكيم أرسطاطاليس وذكر فيه حاله وماهم به، ثم استقدم جميع أكابر الكيانة من أوطانهم وأمرهم بالمبادرة إلي حضرته، فوصل كتاب أرطاطاليس وهو يقول فيه: قد آن لك أن ترتدع عن الشر، فاستسلم لأمر الله ، وفوض إليه أمورك، ولا تزرع في ملكك غير الحسن، وما أشرت إليه فلا تجزع منه ولا تهتم له، فإنالم نولد إلا للموت، وما استصحب أحد فارق الدنيا مالاً ولا ملكاً، وإياك أن تمس أحداً من الكيانية فإنه لا يحسن غرس العداوة في القلوب، فاتق الله ولا تسفك دماء الأكابر فإنه يثمر اللعن إلي يوم القيامة، ولا يورث غير الحسرة والندامة، والرأي أن تستحضر أكابر بيت الملك، وتملك كل واحد منهم بلداً أو إقليماً، ولا تجعل لبعضهم علي بعض حكماً ولا يداً، ولا تسمين منهم للسلطنة أحداً حتي تشغلهم بحربهم عن بلاد الروم.

فلما قرأ الاسكندر كتاب الحكيم استحضر الأكابر الكيانية وأجلسهم في مراتبهم في خدمته، ثم فرق عليهم الممالك، وأمرهم أن يكتب كل واحد منهم كتاب عهد يعاهد فيه علي ألا يطلب الزيادة علي ما في يده، ولا يتعرض لمملكة غيره، ويجتزي بما في حكمه وتحت يده، فاستتب منهم ذلك فسموا ملوك الطوائف.

ذكر وفاة الاسكندر:قال في الشاهنامة:

ثم إنه وصل إلي بابل فاتفق أنه ولد في تلك الليلة مولود له رأس كرأس الأسد، وحافر كحافر الدواب، وذنب كذنب الثور، لا يشبه الإنس إلآ في صدره وكتفه، فلما وضعته أمه مات في الحال، فحملوه إلي حضرة الملك فتطير منه واستحضر المنجمين

ص: 173

وسألهم عن طالع ذلك المولود وما تدل عليه أحكام النجوم في ولادته، فاظلمت الدنيا في عيونهم لما فهموه، وكتموا الاسكندر ما علموه، فأوعدهم وهددهم، فقال له بعض المنجمين: أيها الملك! إنك ولدت علي طالع الأسد، فإذ قد رأيت رأس المولود الميت مثل رأس الأسد فقد دل علي زوال ملكك وانتهاء عمرك،واتفقت كلمة سائرالمنجمين علي ذلك.

فاغتم الاسكندر ثم قال: إنه لا بد من الموت، ولست أهتم لذلك، ثم مرض في يومه ذلك وهو ببابل، فاستحضر كاتبه وكتب إلي أمه كتاباً يعزيها فيه عن نفسه ويوصي إليها ويأمرها بالصبر والرضاء بما قدر له من قصر العمر، والتسليم لقضاء الله النافذ في الخلق، وقال: إني قد أمرت أكابر الروم إذا انصرفوا من هذه البلاد بالتمسك بطاعتك والانقياد لأمرك.

وأما أكابر إيران الذين كان يخاف علي بلاد الروم من معرتهم، فقد ملكت كل واحد منهم إقليماً من الأقاليم حتي يمنعه الشغل بما في يده عن بلاد الروم. وإذا مت فادفتوني في تراب مصر وفرقوا من خزائني مائة ألف دينار في هذه السنة علي المشتغلين بأنفسهم من عباد الله، وروشنك - يعني زوجته _ إن ولدت ابناً فهو ملك الروم لا غير، وإن ولدت بنتاً فلتزوج من ابن فيلقوس، واتخذيه ولداً، وجددي به ذكر الاسكندر أبداً، وأما إبنة كيد ملك الهند فردوها إن أرادت إلي أبيها مع خزائنها التي جائت معها، في عمارتيها ومع تاجها و تختها، وأنا قد استسلمت للموت عن رأس العجز بعد أن فرغت من أشغالي كلها.

وقد أمرت أن يعمل لي تابوت من الذهب، ويملأ من العسل، ثم أضجع فيه مكفناً في الديباج والحرير، وعند الانتهاء إلي ذلك ينتهي الكلام، ثم احفظي وصيتي ولا تخالفي موعظتي، ولا تمسكي من الأموال التي جمعتها من الهند والصين وسائر الأقاليم أكثر من القوت، وفرقي الباقي علي المحتاجين.

ثم حاجتي إليك ألا تجزعي علي ولا تؤذي نفسك، واشفعي إلي الله

ص: 174

عزوجل و أغيثيني بدعائك فإنه لا يأخذ بيدي غير ذلك ثم ختم الكتاب ونفذه إلي الروم علي يدي بعض المسرعين.

قال: ولما علم العسكر بمرض الاسكندر تسارعوا إلي خدمة تخته واجتمعوا علي بابه وضجوا من وراء حجابه، فأمر الاسكندر بإخراج تخته من أيوانه إلي الفضاء، فلما رأوه علي ما به من الضعف أجهشوا إليه بالنحيب والبكاء، فقال لهم الاسكندر: استشعروا الخوف وتسربلوا لباس الحياء، ولا تعدلوا عن المحجة البيضاء، واحفظوا وصيتي، ولا تخلعوا ربقة طاعتي. فلما فرغ من كلامه خرجت روحه، فوقع العويل والنحيب في العسكر، وقام الصراخ عليه، فأحرقوا داره التي كانت مستقره، وحذفوا من دوابه ألف فرس، ثم جاؤا بتابوت من الذهب مملوء من العسل وغسله سكوباً بالماورد، وغمره بالكافور، وكفنه في ثوب ديباج مذهب، ووضعه في وسط العسل من الرأس إلي القدم، وأطبقوا عليه التابوت.

فلما رفعوه من ذلك المكان اختلفت الفرس والروم، فقالت الفرس: لا دفن الاسكندر إلا حيث مات، وقالت الروم: لايدفن الأحيث ولد، فقال شيخ من فارس: إن هاهنا موضعاً يقال له جرم (أو خرم) وهناك جبل من سأله عن شيء أجابه عنه بإذن الله عزوجل، فاسألوا الجبل حتي يحكم بينكم، فتوجهوا نحو الجبل فسألوا فأجاب وقال: ما لكم تحبسون تابوت الملك؟ إن تراب الاسكندر في الارض الاسكندرية التي بناها في حياتة، فبادروا عند ذلك الي حمله وحملوه إلي الإسكندرية، فلما وصلوا إليها خرج الخلائق واجتمعوا علي تابوته، حتي لو حسبهم المهندس لوجدهم يزيدون علي مائة ألف.

فجاء الحكيم الأوسط (أرسطاطاليس) ووضع يده علي تابوته وقال: أين رأيك وعقلك أيها الملك حتي صار مسكنك هذا المكان الضيق؟ وكيف أفضيت بنضارة الشباب إلي مضاجعة التراب؟

ص: 175

وقال آخر: أيها الملك! مازلت تدفن الذهب حتي دفنت فيه، ووقعت في خطب لا سبيل إلي تلافيه.

واجتمعت علماء الروم فخاطبه كل واحد منهم بحكمة، و أبنه بموعظة.

ثم جاءت أمه ووضعت وجهها علي تابوته وهي تبكي وتنتحب وتقول: ما أبعدك مني مع قربك! وما أعظم خطبك علي صحبك!.

ثم جاءت زوجته روشنك بنت دارا وطفقت تبكي وتندبه وتنتحب وتنوح عليه، ثم دفنوه ولم تكن أيامه إلا كبرق ومض، وطرف غمض.

وهذا آخر الخبر عن قصة الاسكندر، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله علي سيدنا محمد و آله أجمعين.

يقول مؤلف الكتاب الفقير إلي عفو ربه وغفرانه حسن السيد علي القبانجي النجفي: هذا آخر ما نقلناه عن الشاهنامه وذلك في سنة 1410 ه في النجف الأشرف علي ساكنها أفضل التحيات

ثلاثون قولاً قيل عند موت الاسكندر:

ذكر المسعودي في المجلد الأول من كتابه «مروج الذهب»:

إنه لما مات الاسكندر، طافت به الحكماء ممن كان معه من حكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم من علماء الأمم، وكان يجمعهم ويستريح إلي كلامهم، ولا يصدر الأمور إلا عن رأيهم، وجعل بعد أن مات في تابوت من الذهب ووضع بالجوهر بعد أن طلي جسمه بالأطلية الماسكة لأجزائه.

فقال عظيم الحكماء والمتقدم فيهم: ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون للخاصة معزياً وللعامة واعظاً، وقام فوضع يده علي تابوت فقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، ثم قام حكيم ثان فقال: هذا الاسكندر الذي كان يخبئ الذهب فصار الذهب يخبؤه. وقال الحكيم الثالث: ما أزهد الناس في هذا

ص: 176

الجسد وأرغبهم في هذا التابوت. وقال الحكيم الرابع: من أعجب العجب أن القوي قد غلب والضعفاء لاهون مغترون. وقال الخامس: يا ذا الذي جعل أجله ضماناً وجعل أمله عياناً، هلا باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، هلا حققت من أملك الامتناع عن فوت أجلك. وقال السادس: أيها الساعي المنتصب جمعت ماخذلك عن الاحتياج فغودرت عليك أوزاره وفارقت أيامه، فمغناه لغيرك ووباله عليك. وقال السابع: قد كنت لنا واعظأً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك، فمن كان له عقل فليعقل، ومن كان مغتراً فليغتر. وقال الثامن: رب هائب لك كان يغتابك من ورائك وهو اليوم بحضرتك لا يخافك. وقال التاسع: رب حريص علي سكوتك إذ لا تسكت وهو اليوم حريص علي كلامك إذ لا تتكلم. وقال العاشر: أماتت هذه النفس لئلا تموت وقد ماتت.

وقال الحادي عشر وكان صاحب خزانة كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك، فاليوم لا أقدر علي الدنو منك. وقال الثاني عشر: هذا اليوم عظيم العبر أقبل من شره ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً فمن كان باكياً علي من زال ملكه فليبك. وقال الثالث عشر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب. وقال الرابع عشر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً، ليت شعري كيف حالك فيما احتوي عليك منها. وقال الخامس عشر: عجب لمن

السادس عشر: أيها الجمع الحافل والملتقي الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره و تنقطع لذته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغي والفساد. وقال السابع عشر: انظروا إلي حلم النائم كيف انقضي، وظل الغمام كيف انجلي وقال الثامن عشر: قد رأيتم أيها الجمع هذا الملك الماضي فليتعظ به الآن هذا الباقي. وقال العشرون: هذا الذي دار كثيراً والآن يقر طويلاً.

ص: 177

وقال الحادي والعشرون: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت، فليتكلم الآن كل ساكت. وقال الثاني والعشرون: سيلحق بك من سره موتك كما لحقت من سرك موته. وقال الثالث والعشرون: ما لك لا تقل عضواً من أعضائك وقد كنت تستقل ملك الأرض! بل ما لك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان الذي أنت به وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد؟ وقال الرابع والعشرون - وكان من ساك الهند وحكمائها : إن دنياً يكون هكذا آخرها فالزهد أولي أن يكون في أولها. وقال الخامس والعشرون - وكان صاحب مائدته : قد فرشت النمارق وتضدت الوسائد وهيئت الموائد، ولا أري عميد المجلس. وقال السادس والعشرون - وكان صاحب بيت ماله : قد كنت تأمرني بالجمع والادخار، فإلي من أدفع ذخائرك؟ وقال السابع والعشرون - وكان خازناً من خزانه : هذه مفاتيح خزائنك فمن يقبضها قبل أن أؤخذ بما لم آخذ منها. وقال الثامن والعشرون: هذه الدنيا الطويلة العريضة طويت منها في سبعة أشبار التاسع والعشرون: قول زوجته روشنك بنت دارا ملك فارس: ما كنت أحب أن غالب دارا الملك يغلب، وإن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شرابه فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة. القول الثلاثون ما يحكي عن أمه أنها قالت حين جاءها نعيه: لئن فقدت من ابني أمره، فما فقدت من قلبي ذكره.

وقبض الأسكندر وهو ابن ست وثلاثون سنة، وكان ملكه تسع سنين.

قصة أخري في وفاة الاسكندر:

ولما تم للاسكندر ملك الدنيا، وقبض علي جميع ما في الأرض، وعاد متوجهاً إلي الاسكندرية إلي أمه فلما وصل إلي شهر زورا أحس بالموت - أي اعتل علة الموت ،فقال للحكماء الذي كانوا معه - وهم أربعمائة حكيم - إني لمائت، فإذا مت فاطلوا جسدي بالصبر، واجعلوني في تابوت من ذهب، وأخرجوا يدي من التابوت وهي مبسوطة - يشير بذلك إلي أني خرجت من الدنيا بلا شيء، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام مشيراً إلي ذلك:

ص: 178

وفي قبض كف الطفل عند ولادة *** دليل علي الحرص المؤبد في الحي

وفي بسطها عند الممات دلالة ***ألا فانظروني قد خرجت بلا شي

قال الاسكندر: فإذا تم ذلك فابعثوا رسولاً إلي أمي يخبرها أن تولم وليمة وتدعو لها كل من لم يصب بمصيبة _ أراد أن يعلم أمه بموته قبل أن يعلمها أحد . فلما جاء الرسول إليها، قالت له: أين ولدي؟ قال: هو خلفي، ولكن أوصي أن تصنعي وليمة وتدعين إليها كل من لم يصب بمصيبة، فصنعت ذلك وأمرت المنادي ينادي في الناس أن يحضر الوليمة كل من لم صب بمصيبة، فلم يأتها أحد من الناس. قالت: ما لي لا أري أحد من الناس؟ قالوا: من يأتي وليس أحد من الناس إلا وأصيب بمصائب، فلا يأتي أحد، فقالت: إن ولدي قد مات، ثم حمل إلي أمه بالاسكندرية فطاف به من معه من الحكماء الذي كان يجمعهم ويستريح إلي كلامهم، فتقدم كبير الحكماء وقال: ليتكلم كلواحد منكم بكلام يكون موعظة للعامة وتعزية للخاصة، ووضع يده علي التابوت وقال: أصبح أسر الأسراء أسيراً. وقال آخر: هذا الذي كان يخبئ الذهب فصار الذهب يخبؤه، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا بموعظة أبلغ من الموت. وقال آخر: رب هائب لك من وراء الغيب وهو اليوم بحضرتك فلا يهابك. وقال صاحب دار حكمته: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك، واليوم لا أقدر علي الدئو منك. وقال آخر: يا عظيم السلطان قد اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذئاب. وقال آخر: مالك لا تقل عضواً من أعضائك وكنت تستقل بملك الأرض، وقال صاحب مائدته: قد فرشت النمارق ونضدت النضائد ولا أري عميد القوم، وقال صاحب بيت المال: قد كنت تأمرني بالادخار، فإلي من أدفع ذخائرك؟ وقالت زوجته روشنك: ما كنت أحسب أن غالب دارا

ص: 179

يغلب، وإن الكلام الذي سمعته من الجماعة لا يخلو من شماتة، وإن الكأس الذي شربت به _ أي كأس الموت لابد وأن تشرب به الجماعة، وقالت أمه: إن فقد من عيالي شخصه لم يفقد من قلبي ذكره.

ذكر ابن أبي الحديد في المجلد الثاني من شرح النهج ص 434: من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الأسكندر فقال أحدهم: حركنا بسكونه. وقال الآخر: قد كان سيفك لا يجف، و كانت مراقبك لا ترام، وكانت نقماتك لا تؤمن، وكانت عطاياك يفرح بها، وكان ضياؤك لا ينكسف، فأصبح ضوؤك قد خمد، وأصبحت نقماتك لا تخشي، وعطاياكلا ترجي، ومراقبك لا تمنع، وسيفك لا يقطع. وقال الآخر: انظرا إلي حلم المنام كيف انجلي، وإلي ظل الغمام كيف انسري، وقال آخر: ما كان أحوجه إلي هذا الحلم وإلي هذا الصبر والسكون أيام حياته. وقال آخر: القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة طويت في ذراعين. وقال الآخر: أصبح آسر الاسراء أسيراً، وقاهر الملوك مقهوراً، كان بالأمس مالكاً فصار اليوم هالكاً.

ص: 180

ومن خطبة له عليه السلام :

في التحذير من الغفلة عما بعد الموت

فًإنَّكُم لَو قَد عَايَنتُم مَا قَد عَايَنَ مَن مَاتَ مِنكُم لَجَزِعتُم وَوَهلُتُم و سَمِعتُم وأطَعمتُ وَلَكِن مًحجُوبٌ عَنكُم مَا قَد عَاينَوا وقَريبٌ مَا يُطرحُ الحجَابُ ولَقَد بُصِرتُم اِن أَبصَرتُم وأسمِعتُم إِن سَمِعتُم وَ هُديتُم اِن اهتَديتُم وبِحَق أقُولُ لَكُم لَقَد جَاهَرَتكُم العِبَرُ وَ زُجَرتُم بِما فِيهِ مُزدَجَرٌ مَا يُبَلَغُ عَنِ اللهِ بَعدَ رُسُلِ السَّمَاء الا البَشَرُ. (شرح النهج مج 1 ص 99)

الشرح:

من جملة حكم الله تعالي أن أخفي علي خلقه ما يجري عليهم حين الموت وبعده، وفي عالم البرزخ، لمصالح لا يعلمها إلا هو، ولا يعلم الإنسان ما يجري عليه غداً في حياته، فكيف يعلم ما يجري عليه بعد موته، والموت انتقال من هذا العالم إلي عالم آخر، وشتان بين العالمين.

والأخبار والأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تبين وتشير إشارة إجمالية إلي ما يشاهده الإنسان حين الاحتضار وبعد الموت من التجهيز والتغسيل والتكفين والدفن وسؤال منكر ونكير، وأين تذهب الأرواح وتنعم وتعذب، وأين تجتمع الأرواح، وهل تشعر الروح وتعقل وتسمع وتبصر، وهل لها علاقة بالبدن بعد أن صار تراباً واستحال إلي مادة أخري. (1)

ص: 181


1- راجع الكافي للكليني 3: 231، باب (أن الميت يمثل له ماله وولده وعمله قبل موته)، ح 41، و 235، باب (المسألة في القبر...) / ح 1 - 18

حقيقة الموت:

ولنا مجال في المستقبل لبيان هذا السر وشرحه علي ضوء الأخبار والأحاديث. والآن نقول: إن الموت هو انتقال إلي عالم غير مرئي، وهذا الانتقال مخوف مرعب، وهو مفارقة الروح للبدن بصورة مؤقتة، ومفارقة الإنسان عن كل ما يحب من الأهل والاولاد والمال، فإذا انتقل إلي ذلك العالم ورأي أرواح ملايين الملايين من البشر كيف تعذب وكيف تنعم، ورأي أرواح الأنبياء والأولياء وأرواح الفراعنة والكفار والمشركين، وما هناك من صياح وصراخ وعجيج وضجيج وبكاء وعويل و غير ذلك غلب عليه الخوف والفزع، ولهذا يقول عليه السلام: فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم كما هو شأن الأنبياء والأولياء، فإنهم بسبب علمهم واطلاعهم علي ذلك العالم كانوا يبكون البكاء الشديد ويبيتون الليالي خائفين وجلين، والناس لو كانوا يعلمون ذلك لما وجد إنسان عاصي، ولكان الناس كلهم مؤمنين متقين، ولهذا قال عليه السلام: وسمعتم وأطعتم. ولو كان الناس كلهم يعلمون ويطلعون علي ذلك العالم الاخت النظام الاجتماعي، ولما زرع الزارع، وما اتجر التاجر، وصارت الأشغال معطلة والحالة مضطربة، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب فإن الروح إذا خرجت من البدن وطارت من قفص الجسد ظهر لها كل ما كان محجوباً مخفياً، ثم قال عليه السلام: ولقد صرتم إن أبصرتم أي صرتم مبصرين، أي لكم عيون إن نظر تم بها، وأسمعتم إن سمعتم أي جعل لكم السمع إن كنتم تسمعون كلام الله ومواعظه البالغة و نصائح الأنبياء والأوصياء المنجية وهديتم إن اهتديتم أي علمتم الطريق إن وصلتم إلي المطلوب والمقصود، ومشيتم في الطريق المؤدي إلي رضوان الله «بحق أقول: لقد جاهرتكم العبر» أي العبر - وهي ما يعتبر به الإنسان _ قد أعلنت لكم بشأن الدنيا بما جري علي الأمم السالفة والفراعنة والقياصرة والعمالقة وسائرالملوك والسلاطين، وأجهرت العبر بما حل بآبائكم وبسائر الناس من المصائب

ص: 182

والنوائب والشدائد. (وزجرتم بما فيه مزدجر) كل ما كان فيه زجر، كالنهي الأكيد عن المعاصي، والأمر الشديد بالواجبات قد زجركم الله به، وما يبلغ عن الله بعد الملائكة ملائكة الوحي ورسل السماء إلا الأنبياء والأوصياء ومن سلك طريقتهم وبلغ عنهم.

قال العلامة ابن ميثم رضي الله عنه في شرح هذه الفقرات: واعلم أن الإنسان ما دام ملتحفاً بجلباب البدن فإنه محجوب بظلمة الهيئات البدنية والمعارضات الوهمية والخيالية عن مشاهدة أنوار عالم الغيب والملكوت، وذلك الحجاب أمر قابل للزيادة والنقصان والقوة والضعف، والناس فيها علي مراتب، فأعظمهم حجباً وأكثفهم حجاباً الكفار كما أشارإليه القرآن الكريم مثلا في حجبهم (أَو كَظُلُماتٍ فِي بَحرٍ لُجِي يَغشَاهُ مَوجٌ مِن فَوقِهِ مَوجٌ مِن فَوقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ) الآية،(1) فمثل الكافر كرجل وقع في بحر لجي صفته كذلك، فأشار بالبحر اللجي إلي الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة، فالموج الأول موج الشهوات الداعية إلي الصفات البهيمية، وبالحري أن يكون هذا الموج مظلماً، إذ بك الشيء عمي ويصم، والموج الثاني موج الصفات السبعية الباعثة علي الغضب والعداوة والحقد والحسد والمباهاة، فبالحرية أن يكون مظلماً، لأن الغضب غول العقل، وبالحري أن يكون هو الموج الأعلي، لأن الغضب في الأكثر مستولي علي الشهوات، حتي إذا هاج أذهل عنها، والسحاب هو الاعتقادات الباطلة والخيالات الفاسدة التي صارت حجباً لبصيرة الكافر عن إدراك نور الحق، إذ خاصية الحجاب أن يحجب نور الشمس عن الأبصار الظاهرة، وإذا كانت هذه كلها مظلمة، فبالحري أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض.

وأما أخقهم حجباً وأرقهم حجاباً فهم الذين بذلوا جهدهم في لزوم أوامر الله ونواهيه، وبالغوا في تصفية بواطنهم وصقال ألواح نفوسهم وإلقاء

ص: 183


1- النور: 40

حجب الغفلة وأستار الهيئات البدنية، فأشرقت عليهم شموس المعارف الإلهية، وسالت إلي أودية قلوبهم مياه الجود الرباني المعطي لكل قابل ما يقبله، فهؤلاء وإن كانوا قد بلغوا الغاية من الجهد في رفع الحجب و غسل درن الباطل عن نفوسهم، إلا أنهم ما دامت الأبدان فهم في أغطية من هيئاتها وحجب من أستارها، وإن ضعفت تلك الحجب ورقت تلك الأغشية، وما بين هاتين المرتبتين درجات من الحجب متفاوتة ومراتب متصاعدة ومتنازلة، وبحسب تفاوتها يكون تفاوت النفوس في الاستضاءة بأنوار العلوم وقبول الانتقاش بالمعارف الإلهية والوقوف علي أسرار الدين، وبحسب تفاوت هذه الحجب يكون تفاوت ورود النار، كما قال تعالي:(وَإِن مِنكُم إِلَّا وارِدُهَا)(1) ولن يخلص الإنسان من شوائب هذه الحجب وظلمتها إلا بالخلاص عن هذا البدن وطرحه، وحينئذٍ (تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمَلَت مِن خَيرٍ مُحضَراً ومَا عَمَلَت مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وبَينَهُ أَمَداً بَعيداً)، (2) فتكون مشاهدة بعين اليقين ما أعدلها من خير وما هيء لها من شر بحسب استعدادها بما كسبت من قبل، فأما قبل المفارقة فإن حجاب البدن مانع لها عن مشاهدة تلك الأمور كما هي، وإن حصلت علي اعتقاد جازم برهاني أو نوع من المكاشفة الممكنة كما في حق كثير من أولياء الله، إلا أن ذلك الوقوف والاطلاع يكون كالمشاهدة، لا أنها مشاهدة حقيقية خالصة، إذ لا تنفك عن شائبة الوهم والخيال، ولذلك قال صلي الله عليه وآله حاكياً عن ربه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر بله ما أطلعتهم عليه)(3) أي وراء ما أطلعتهم عليه، وهو إشارة إلي طور المشاهدة الخالصة عن الشوائب التي هي عين

ص: 184


1- مريم: 71
2- آل عمران: 30
3- بحار الأنوار8: 92. وبله، من أسماء الأفعال بمعني دع واترك

اليقين بعد الموت، وقد يسمي ما أدركه أهل المكاشفات بمكاشفاتهم في حياتهم الدنيا عين اليقين، فأما إدراك من دون هؤلاء لتلك الأمور فما كان منها مؤكدأً بالعقوبة بالشعور بعدم إمكان النقيض فهو علم اليقين، وقد يختص علم اليقين في عرف الصوفية بما تميل النفس إلي التصديق به ويغلب عليها ويستولي حتي يصير هو المتحكم المتصرف فيها بالتحريض والمنع، فيقال: فلان ضعيف اليقين بالموت، إذا لم يهتم بالاستعداد له، فكأنه غير موقن به مع أنه لا يتطرق إليه فيه شك.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ما رأيت إيماناً مع يقين أشبه منه بشك إلا هذا الإنسان، إنه كل يوم يودع، والي القبور يشيع، وإلي غرور الدنيا يرجع، وعن الشهوات واللذات لا يقلع، فلو لم يكن لابن آدم ذنب يتوقعه ولا حساب يوقف عليه إلآ موت يبدد شمله ويفرق جمعه ويؤتم ولده لكان ينبغي له أن يحاذر ما هو فيه بأشد التعب، ولقد غفلنا عن الموت غفلة أقوام غير نازل بهم، وركنا إلي الدنيا وشهواتها ركون أقوام لا يرجون حساباً ولا يخافون عقاباً). (1)

وقيل له عليه السلام : صف لنا الموت، فقال: علي الخبير سقطتم، هو أحد ثلاثة أمور يرد عليه: أما بشارة بنعيم الأبد، وأما بشارة بعذاب الأبد، وأما تحزين وتهويل وأمر مبهم لا يدري من أي الفرق هو، فأما ولينا المطيع لأمرنا فهو المبشر بنعيم الأبد، وأما عدونا المخالف علينا فهو المبشر بعذاب الأبد، وأما المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف علي نفسه لا يدري ما يؤول إليه حاله، يأتيه الخبر مبهمة مخوفاً، ثم لن يسويه الله عزوجل بأعدائنا، لكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا ولا تتكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله عزوجل، فإن المسرف من لا تلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة. (2)

ص: 185


1- فلاح السائل لابن طاووس: 214
2- معاني الأخبار للصدوق: 287، باب (معني الموت)، ح /2

وكتب عليه السلام لمحمد بن أبي بكر: (عباد الله إن الموت ليس منه فوت، فاحذروا قبل وقوعه وأعدوا له عدته، فإنكم طرد الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوي خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، وكفي بالموت واعظاً وكان رسول الله صلي الله عليه وآله كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فإنه هادم اللذات، حائلبينكم وبين الشهوات).(1)

حالات ذكر الموت:

نقلاً من كتابنا «علي والأسس التربوية»:

للإنسان في ذكر الموت حالان: حال قبله، وأخري عنده:

الحالة الأولي: قبل الموت

ينبغي للانسان قبل الموت أن يكون دائم الذكر له، ولذلك كان من أول هداية الأنبياء للناس تذكيرهم الموت وحثهم علي دوام تذكره، ومن أكبر هم الفلاسفة تفكيرهم به، وبسط القول في أن الحياة باطلة والموت حق قال رسول الله صلي الله عليه وآله : أكثروا من ذكر هادم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه عليه، ولا في سعة إلا ضيقها عليها (2) وقد أخذ أهل الصين عن فلاسفتهم ستة أجروها بينهم مجري العادة في وجوب تذكر الموت كل حين، فإذا ولد الطفل عندهم صنعوا له نعشاً بقدره، ووضعوه بجانب المهد يجددونه علي مقدار النمو في الطفل، ولا يزالون يفعلون ذلك حتي إذا بلغ أشده وضعوا النعش بجانب السرير إلي أن يحل يوم أجله، فيحملونه عليه،

ص: 186


1- الأمالي للطوسي: 24:31/31
2- كنز العمال للمتقي الهندي 15: 700 ح 42798

يشيرون بذلك إلي أن يوم الولادة ويوم الوفاة أمران متلاصقان وحبلان متصلان، وأن الإنسان يمشي في هذه الدنيا و كأنه عابر جسر: عن يمينه الموت، وعن شماله الحياة، وأنه كما يدب بنموه في الحياة يدب بأنفاسه نحو الممات، وأنه يجب علي العاقل أن يحضره علي الدوام ذكر الموت كما يحضره ذكر الحياة، وأن اليقين كل اليقين في أعواد النعش، والشك كل الشك في أساطين القصر، وهم يلبسون السواد حداداً في يوم الولادة، والبياض فرحاً عند حلول الأجل، ولم يعتبروه شراً بل هو الخير كله عندهم، فمن منتهي غباوة الانسان وجهله ان يتّخذ في كل منبت شعرة من جسمه حبلاً من الأمل يعلقه بالبقاء في الحياة الدنيا ويمحو عن ذاكرته كل سبب يربطه بصفائح القبر، فما الدنيا في الآخرة - كما روي عن رسول الله صلي الله عليه وآله : «إلآ مثل ما يجعل الواحد إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع. (1)

ما عليه الناس في هذه الحالة:

الناس في الحالة السابقة ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم لا يذكره البتة، وقسم يذكره رعباً وخشية، وآخر يذكره عقلاً وحكمة.

القسم الأول: هو ذلك الأحمق الذي لا يتذكر الموت ولا يجري له علي خاطر، كأنه قد رسخ في ذهنه أن لا فناء، فلا يحس هذه الحقيقة إلا عند المشاهدة، ولا يذكر الموت إلا ريثما تنقضي تلك المشاهدة، كأن يشتد به المرض أو يختطف الموت أحد أهله أو جيرانه.

فهو لا يفكر في الموت وما بعده إلا نظراً في حال أولاده وتركاته عند موته، ولا ينظر ويتدبر في أحوال نفسه وعندما يري جنازة إلا بقوله بلسانه (إنا لله وإنا إليهراجعون) ولا يرجع إلي الله بأفعاله، بل بأقواله فقط، فيكون كاذباً فيها تحقيقاً.

ص: 187


1- البحار للمجلسي، 70: 119 ح 110

القسم الثاني: وهو ذلك الذي يذكر الموت دائماً لخشيته من وقوعه وخوفه من نزوله، فيتولا الرعب ويستولي عليهم الفزع، وأكثر ما يذكرونه إذا خلوا من أشغالهم وانتقلوا إلي أوقات فراغهم، فيكدرون صفاء هنائهم، ويسودون بياض معيشتهم، وأشد ما يكون عذابهم من ذكري الموت إذا أردف الله عليهم النعمة إثر النعمة، وزادهم من متاع الدنيا وزينة الحياة، فتراهم في هم دائم وعناء مقيم للتوقي من الأخطار والتحرز من أسباب الهلاك، ويتغالون في ذلك التوقي إلي حال الجنون، فيحاذرون هبوب النسيم وحرارة الضياء، ويتوهمون في كل لقمة تخمة، وفي كل جرعة غة، حتي تمرض الأجسام من تلك الوساوس والأوهام التي قد تؤدي إلي الموت الزؤام.

القسم الثالث: وهو العاقل الكيس الذي لا يفارقه ذكر الموت، كالمسافر إلي مقصد الحج مثلاً، فإنه لا يفارق ذكر المقصد، وأشغال المنازل في الحل والترحال لا تنسية مقصوده، وذلك لأنه يعلم أن ذكر الموت يطرد فضول الأمل، ويكف غرب المني، ويهون المصائب، ويحول بين الإنسان والطغيان.

ومن ذكر الموت تتولد القناعة بما رزق، والمبادرة إلي التوبة وترك المحاسدة والحرص علي الدنيا، والنشاط في العبادة، ولا ينبغي أن يهمل الإنسان نفسه من تذكرالموت كل يوم، فيصبح في كل يوم علي تقدير الاستعداد للرحلة. فكل من ينتظر أن يدعوه ملك من الملوك كل ساعة ينبغي أن يكون مستعداً للاجابة، فإن لم يكن فربما يأتيه الرسول وهو غافل فيحرم السعادة، فما من وقت إلا والموت فيه ممكن.

الحالة الثانية: عند الموت

هي حال الإنسان عند الموت، والناس عنده ثلاثة أقسام أيضاً:

الاول: ذو بصيرة و علم ان الموت يعتقه والحياة تسترقّه، وان الانسان وان طالفي الدنيا مكثه فهو كخطفة برق لمعت في أكناف السماء ثم عادت للاختفاء، فلا يثقل

ص: 188

عليه الخروج من الدنيا إلا بقدر ما يفوت من خدمة ربه عزوجل والازدياد من تقربه والاشفاق مما يقول أو يقال له، كما قال بعضهم لما قيل له: لم تجزع؟ قال: لأني أسلك طريقاً لم أعهده، وأقدم علي رب لم أره، ولا أدري ما أقول وما يقال لي. ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت، بل إذا عجز عن زيادة العبادة ربما اشتاق إليه. وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك وزهدت في القرب منك، فقد قال نبيك وصفيك صلي الله عليه وآله: من أحب لقاء الله أحب الله القاءه، ومن كره لقاء الله فقد كره الله لقاءه۔(1)

والثاني: رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة، منهمك في الدنيا منغمس في علائقها، رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ويئس من الدار الآخرة كما يئس الكفار من أصحابالقبور، فإذا خرج إلي دار الخلود أضر ذلك له كما تضر ومصباح الملأ الأعلي، فكان كما قال الله تعالي:(وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أعمِي فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أعمي وأَضَلُ سَبيلاً) (2) فالدنيا سجن الأول وجة الثاني، والأول كعبد دعاه مولاه فأجابه طوعاً وقدم عليه مسروراً يتوافر علي خدمته. والثاني كعبد آبق رد إلي مولاه مأسوراً، وقيد إلي حضرته مقهوراً، فبقي ناكس الرأس بين يدي مولاه، مختزياً من جنايته، وشتان بين الحالين.

والثالث: رتبة بين الرتبتين: رجل عرف غوائل هذا العالم وكره صحبته ولكن أنس به وألفه، فإذا خرج ورأي ما اتخذ الله الصالحين لم يتأسف علي ما كره فواته، بل قال:(الحَمدُ للهِ الَّذِي أذهَبَ عَنَّا الحَزَن إِنَّ ربَّنا لَغَفُورٌ شَكورٌ الَّذيِ أَحَلنا دارَ المٌقامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَسمَّنا فيهَا نَصَبٌ ولَا يَمسَنا فيِها لُغُوبٌ). (3)

ص: 189


1- الكافي 3: 134، ح 12
2- الإسراء: 72
3- فاطر: 34 و 35

ولا يبعد أن يكره الإنسان مفارقة شيء ثم إذا فارقه لا يتأسف عليه، فالصبي وقت الولادة يبكي لما يناله من ألم الانتقال، ثم إذا عقل لا يتمني العود إليه، والموت ولادة ثانية يستفاد بها كمالاً لم يكن له قبل، بشرط ألا يكون تقدم قبل ذلك الكمال من الآفات والعوارض ما أبطل قبول المحل للكمال، كما أن الولادة سبب لكمال مغبوط لم يكن عند الاجتنان، بشرط ألا يصيبه وقتئذ من الأسباب والعلل ما يمنع قبول الكمال.

والموت من العقائد الراسخة والاعتقادية يكاد يكون عاماً بين الأمم والأجيال، فلا تكاد تخلو كل أمة أياً كانت من اعتقاد بموت، ولكن هذه الفكرة وأوصاف الموت تختلف بين هذه الأمم اختلافاً كبيراً. والقرآن يصف الموت بأوصاف نلخصها مما ورد فيه، فهو ليس موتاً لا حياة بعده، ولا هو من البساطة بصفة يشبه النوم، وإنما هو انتقال من دار إلي أخري، فهو موت بعده حياة أخري وراء هذه الحياة، ويومها يوم القيامة يوم الدين (ثٌمَّ إنَّكُم بَعدَ ذَلكَ لَمَيتُّون) (1) (ثُمَّ انَكُم يَومَ القِيامَةِ تُبعَثُونَ) (2) (كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ ثُمَّ إِلينَا تُرجَعُونَ).(3)

وليس من الموت من مهرب أو ملجأً مهما عظم شأنه (أينَمَا تَكُونُوا يُدرِكُكُم ُالمَوتُ ولَو كُنتُم فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدةٍ). (4)

وليس الموت ينظر إلي الناس بعين التمييز بين الأفراد الواطئة والطبقات الراقية، بل هو ينظر إليهم كموجودات طبيعية تعرض عليها عوارض الطبيعة (إنَّكَ مَيِتٌ وإِنَّهُم مَيِّتونَ). (5)

ص: 190


1- المؤمنون: 15
2- المؤمنون: 16
3- العنكبوت: 57
4- النساء: 78
5- الزمر:

ومن كلام له عليه السلام قبل موته:

في المحافظة علي الشهادتين والاعتبار بموته

(أيُها النَّاسُ كُلُّ امرِئ لَاقٍ ما يَفرُّ مِنهُ فِي فَراره الأجلُ مَساقُ النَّفسِ والهَربَ مِنه مُوافاتُه كَم أَطرَدتُ الأيَّامَ أبَحَتها عَن مَكنُون هَذا الأَمرَ فَأبي اللهُ إلا إِخفَاءَهُ هَيهاتَ عَلمٌ مَخزونٌ امَّا وَصِيَّتي فللّه لا تُشرِكُوا بِه شَيئاً ومحَمَداً صلي الله عليه وآله فلا تُضَيعوا سُنَه أقيمُوا هَذينِ العَمُودين وأَوقدوُا هَذين المِصباحَين وخَلاكُم ذمٌ ما لم تَشرُدوا حُمل كُلُّ امري منكم مَجهُودةُ وخُففَ عن الجَهَلة ربٌ رحيمٌ ودينٌ قويمٌ وامامٌ عليمٌ أنا بالأمسِ صاحبُكُم وأنا اليَوم عبرةٌ لكُم وغداً مُفارقكُم غَفَر اللهُ لي وَلكُم ان تثبت أوطاة في هَذه المزلة فذاك إن تدحَض القَدَم فإنّا كُنا في أفياء أغصَان ومَهاب ريَاحٍ وتَحتَ ظَلِ غمَام ٍاضمَحَل في الجَو متَلَفقَها وما في الأرضِ مَخطَها وأنَّما كنتُ جاراً جاوَرَكُم بدني أياماً و بين مني جثَّةً خلاءً ساكنَة بَعد حراك وصامَتة بعد نُطقٍ ليعظكُم هُدُوي و خفوتُ إطراقي و سكونُ أطرافي فإنَّه أًوعَظِ للمُعتبرينَ منَ الَمنطقِ البَليغِ والقَولِ المسموعَ وداعي لَكُم وداعُ امري مُرصِدٍ للتلاقي غداً تَرونَ ايامي ويكشَفَ لَكم عن سراثِري وتَعرفونني بعدَ خُلو مكانيً وقِيام غَيرِي مَقامي). (1)

الشرح:

إن هذا الكلام قاله عليه السلام لما ضربه ابن ملجم المرادي عليه لعائن الله، وهو مسوق في معرض الوعظ والاعتبار والتوصية والتذكير، فحذر الناس

ص: 191


1- نهج البلاغة، ج 2: 34 -خ149

ونبههم علي لحوق ضرورة الموت المنفور منه طبعاً: أيها الناس كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره، فإنه لما كان الإنسان دائماً فاراً من الموت و متوقيأً له، وكان لا بد منه، لا جرم كان ضروري اللقاء له في فراره، والأجل قد يراد به غاية الحياة الدنيا كما قال تعالي:(فَإذا جاءَ أجَلَهُم لا يَستَأخِرونَ ساعةً ولا يستقدمونَ)(1) وقد يراد به المدة المضروبة للقاء الإنسان وهي مدة عمره، وإياه عني عليه السلام بقوله: الهرب منه - أي من الأجل - موافاته وذلك أن الفار من الموت مثلا بالحركات والعلاجات ونحوها تستلزم حركاته في ذلك فناء الأوقات و تصرمها، وقطع تلك الأوقات مستلزم لملاقاته وموافاته.

وقوله صلوات الله عليه: كم اطردت الأيام أي صيرتها طريدة إلي أن أتبع بعضها بعضاً بالبحث وتعرف مكنون هذا الأمر - أي الذي وقع له من القتل - وذلك المكنون هو وقته المعين بالتفصيل ومكانه، فإن ذلك مما استأثر الله تعالي بعلمه كقوله تعالي:(إنَّ اللهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعَة) (2) وقوله:(وَما تَدرِي نَفسَ بأيِ أرضَ تَمُوتُ) (3) وإن كان قد أخبره الرسول صلي الله عليه وآله بكيفية قتله مجملاَ كما روي عنه صلي الله عليه وآله أنه قال له: ستضرب علي هذه _وأشار إلي هامته - فتخضب منها هذه _ وأشار إلي لحيته.(4) وعنه صلي الله عليه وآله أنه قال له: أتعلم من أشقي الأولين؟ قال: نعم، عاقر الناقة، فقال له: أتعلم من أشقي الآخرين؟ قال: لا، قال: من يضربك ها هنا فيخضب هذه.(5)

وأما بحثه هو صلوات الله عليه عن تفصيل الوقت الذي يقتل فيه والمكان الذي

ص: 192


1- الأعراف: 34
2- لقمان: 34
3- لقمان: 34
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 117
5- بحار الأنوار 11: 393 نقلا عن تفسير الثعلبي.

يقتل فيه ونحوهما من القرائن المشخصة، وذلك البحث أما بالسؤال من الرسول صلي الله عليه وآله مدة حياته وكتمانه إياه، أو بالفحص والتفرس من قرائن أحواله في سائر أوقاته مع الناس، فأبي الله تعالي إلا أن تخفي عنه تلك الحال.

هذا ما ذهب إليه الشارح المعتزلي والبحراني، ويظهر من قول المعتزلي أنه زعم أن مراده عليه السلام بمكنون هذا الأمر وقت قتله ومكانه المعينان بالتفصيل.

وحذا حذوه الشارح البحراني حيث قال: وذلك المكنون هو وقت قتله المعين بالتفصيل ومكانه، فإن ذلك مما استأثر الله به.

علم علي عليه السلام بزمان ومكان قتله:

لا يكاد ينقضي العجب من هذين الفاضلين كيف توهما أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن عالماً بزمان موته ولا بمكانه إلا إجمالاً، وأنه لم يكن يعرفهما تفصيلاً، إن هذا إلا وهم فاسد.

أما الشارح المعتزلي فمع روايته الأخبار الغيبية له عليه السلام وإذعانه علي صحتها كبف خفي عليه وجه الحق، وكيف يتصور في حق من هو عالم بما كان وما يكون، ومن يقول: فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة أو تضل مائة إلا أنبئتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت منهم موتاً أنه لم يكن يعرف زمان موته ومكانه!!۔

وأما الشارح البحراني: فمع كونه من فضلاء علماء الإمامية - قدس الله ضرائحهم - كيف قصرت معرفته عن علم الأئمة عليهم السلام بما كان وما يكون وما هو كائن، ولمعرفتهم عليهم السلام بوقت موتهم وموت شيعتهم، وأنهم يعلمون علم المنايا والبلايا والأنساب، وهذه الأخبار قريبة من التواتر بل متواترة، وقد روي المخالف والمؤالف قول أمير المؤمنين عليه السلام للحارث الأعور الهمداني

ص: 193

يا حار همدان من تمت يرني ***من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرقه وأعرفه *** بنعته واسمه وما فعلا (1)

فإن من كان حاضراً عند كل ميت، عارفاً بوقت موته كيف لا يعرف وقت موت نفسه ؟! وقد عقد الكليني محمد بن يعقوب رضي الله عنه في كتابه - أصول الكافي - باباً خاصاً في ذلك وقال: باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متي يموتون.(2) وروي في ذلك الباب عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا عليه السلام إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها، والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لما سمع صباح الأوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول أم كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبي عليها، وكثردخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف أن ابن ملجم قاتله بالسيف؟ فقال الرضا عليه السلام : ذلك كان، ولكنه خير في تلك الليلة لتمضي مقاديرالله عزوجل. (3)

قال المجلسي: الظاهر من سائر الأخبار أنه عليه السلام كان عالماً بشهادته ووقتها، وكان ينتظرها ويخبر بوقوعها ويستبطئها في الليلة التي وعدها، ويقول: ما منع قاتلي من قتلي؟ انتهي .

فقد ظهر واضح بذلك كله أنه كان يعرف تفضيلاً زمان قتله ومكانه.

فإن قلت: سلمنا هذا كله وذلك، ما تصنع بقوله عليه السلام: كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبي الله إلا إخفاءه؟

قلت: يمكن توجيهه بأن يكون المراد بهذا الأمر خفاء الحق ومظلومية أهله وظهور الباطل وغلبة أصحابه وكثرة أعوانه، لأنه عليه السلام سعي في أول الأمر في أخذ

ص: 194


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 299
2- الكافي للكليني 1: 258، باب (أن الأئمة يعلمون متي يموتون...)
3- المصدر السابق: ح4

حقه غاية السعي فلم يتيسر، وجرت أمور لم تكن تخطر ببال أحد وقوع مثلها، وفي آخر الأمر لما انتهي إليه وحصل له الأنصار والأعوان وجاهد في الله حق الجهاد وغلب علي المنافقين سنحت فتنة التحكيم التي كانت من غرائب الأمور، ثم بعد ذلك لما جمع العساكر وأراد الخروج إليهم وقعت الطامة الكبري، فالمراد بالمكنون سپر ذلك وسببه، فظهر لي وأبي الله إلا إخفاءه عنكم لضعف عقولكم عن فهمه، إذ هي من غومض مسائل القضاء والقدر.

وهذا التوجيه أورده المجلسي في مرآة العقول نقلا عن بعضهم واستحسنه.

وبالتالي فإن المراد بالأمر المكنون في كلامه عليه السلام سر غلبة الباطل علي الحق وعلة مظلومية أهل الحق .

والمراد بإخفاء الله إياه إخفاؤه منهم لا منه عليه السلام، فيكون هذا الكلام منه نظير قوله:

بل اندمجت علي مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة. (1)

وقوله عليه السلام: هيهات علم مخزون أي بعد الاطلاع علي ذلك السر فإنه علم مخزون، ومن شأن المخزون أن يستر ويخفي.

وصايا أمير المؤمنين عليه السلام:

ثم شرع عليه السلام بالوصية فقال: أما وصيتي فالله لا تشركوا به شيئاً، ومحمد صلي الله عليه وآله فلا تضيعوا سنته فبدأ بالأهم فالأهم، فالأول هو الإخلاص لله بالإعراض عن كل ما سواه، وفي ذلك لزوم أوامره ونواهيه وسائر ما نطق به كتابه العزيز، والثاني: لزوم سنةمحمد صلي الله عليه وآله وعدم إهمالها، وهو لزوم شرائع الدين وسلوك نهج الشرع المبين. ثم أكد الأمر باتباع التوحيد المطلق والسنة

ص: 195


1- نهج البلاغة 1: 39 الخطبة الخامسة

النبوية بقوله: «أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين واستعار لهما لفظ العمودين لأن مدار الإسلام ونظام أمور المسلمين في المعاش والمعاد علي توحيد الله سبحانه ولزوم ما جاء له رسوله، كما أن مدار الخيمة وقيامها بالعمد، والمراد بإقامتهما الاعتقاد بهما والعمل بمقتضيات الإيمان بهما، ووجه الثانية: أن توحيد الله والاقتداء بما جاء به رسوله مستلزمان للهداية في طريقه من ظلمات الجهل، قائدان إلي جواره في جنات النعيم، وهو المطلوب الحقيقي، كما يهدي المصباح في الظلام علي الطريق المطلوب.

وقوله عليه السلام: وخلاكم ذم مالم تشردوا أي سقط عنكم ذم وتجاوز كم فلا ذم يلحقكم ما لم تتفرقوا.

قال المجلسي - في مرآة العقول : والغرض النهي عن التفرق واختلاف الكلمة، أي لا ذم يلحقكم ما دمتم متفقين في أمر الدين، متمسكين بحبل الأئمة الطاهرين، أو المراد النهي عن الرجوع عن الدين وإقامة سننه.

ثم لما كان قد أمرهم عليه السلام بلزوم هذين الأمرين اللذين يدور عليهما التكليف، بين لهم بقوله: حمل كل امرئ منكم مجهوده، وخفف عن الجهلة، رب رحيم ودين قويم وإمام عليم.

هذا الكلام بظاهره يعطي أن الله سبحانه كلف كل أحد بما هو مبلغ طاقته ونهاية وسعه، فبين عليه السلام أن التكليف علي حسب العلم يتفاوت، فكل امر من العلماء وأهل النباهة ومن هو بصدد العلم مجهوده وطاقته منه علي الأدلة و تعليماً، وأما الجهال كالنساء وأهل البادية والزنج ونحوهم من أهل الغباوة فتكليفهم دون ذلك، وهو بالمحسوس من العبادات دون الأمر في التفكير في مقاصدها.

وعقب عليه السلام وصيته بالتنبيه علي مجاري حالاته لاعتبار الحاضرين واتعاظ المشاهدين، فقال: «أنا بالأمس صاحبكم» في الحرب ومنازعة الأقران

ص: 196

وصاحب الأمر والنهي فيهم، واليوم عبرة لهم بحال مصرعه وضعفه عن الحراك، وغداً مفارقهم بالموت.

دخول حبيب علي علي عليه السلام في مرضه:

روي الصدوق في أماليه: عن حبيب بن عمرو قال: دخلت علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في مرضه الذي قبض فيه، فحل عن جراحته، فقلت: يا أمير المؤمنين ما جرحك هذا بشيء وما بك من بأس، فقال لي: يا حبيب أنا والله مفارقكم الساعة، فبكيتعند ذلك وبكت أم كلثوم وكانت قاعدة عنده، فقال لها: ما يبكيك يا بنية؟ فقالت: ذكرت يا أبه أنك تفارقنا الساُعة فبكيت، فقال لها: يا بنية لا تبكين، فوالله لو ترين ما يري أبوك ما بكيت، قال حبيب: فقلت له: وما الذي تري يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا حبيب أري ملائكة السماوات والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلي أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول الله صلي الله عليه وآله جالس عندي يقول: أقدم فإن ما أمامك خير لك مما أنت فيه. قال حبيب: فما خرجت من عنده حتي توفي من الغد. (1)

دخول عمرو بن الحمق علي علي عليه السلام في مرضه:

وفي كتابنا ۔ مسند الإمام علي عليه السلام نقلاً عن الخرائج والجرائح - عن عمرو بن الحمق الخزاعي قال: دخلت علي علي عليه السلام حين ضرب الضربة بالكوفة، فقلت: ليس عليك بأس، إنما هو خدش. قال: لعمري إني مفارقكم، ثم قال: إلي السبعين بلاء، قالها ثلاثاً، قلت: فهل بعد البلاء رخاء؟

فلم يجبني وأغمي عليه، فبكت أم كلثوم فلما أفاق قال: لا تؤذيني يا أم كلثوم، فإنك إن تري ما أري لم تبك، إن الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيون يقولون: انطلق فما أمامك خير لك مما أنت فيه،

ص: 197


1- الأمالي للصدوق: 396، ح 4/510

فقلت: يا أمير المؤمنين إنك قلت إلي السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال: نعم، وإن بعد البلاء رخاء، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. (1)

دخول الأصبغ علي علي عليه السلام:

وفي كتاب «الروضة» بالإسناد يرفعه إلي الأصبغ قال: لما ضرب أمير المؤمنين عليه السلام الضربة التي كانت وفاته فيها اجتمع إليه الناس بباب القصر، وكان يراد قتل ابن ملجم - لعنه الله _ فخرج الحسن عليه السلام فقال: معاشر الناس إن أبي أوصاني أن أترك أمره إلي وفاته، فإن كان له الوفاة وإلا نظر هو في حقه، فانصرفوا رحمكم الله، قال: فانصرف الناس ولم أنصرف، فخرج ثانية وقال لي: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين؟ قلت: بلي ولكني رأيت حاله فأحببت أن أنظر إليه فأستمع منه حديثاً، فاستأذن لي رحمك الله، فدخل ولم يلبث أن خرج فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا أمير المؤمنين معصب بعصابة صفراء وقد علت صفرة وجهه علي تلك العصابة، وإذا هو يرفع فخذاً ويضع أخري من شدة الضربة وكثرة السم، فقال لي: يا أصبغ، أما سمعت قول الحسن عن قولي؟ قلت: بلي يا أمير المؤمنين، ولكني رأيتك في حالة فأحببت النظر إليك وأن أسمع منك حديثاً. فقال لي: أقعد فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا:

اعلم يا أصبغ أني أتيت رسول الله صلي الله عليه وآله عائداً كما جئت الساعة، فقال لي: يا أبا الحسن أخرج فنادي في الناس الصلاة جامعة واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس: ألا من عق والديه فلعنة الله عليه، ألا من أبق من مواليه فلعنة الله عليه، ألا من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه، يا أصبغ ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله صلي الله عليه وآله، فقام من أقصي المسجد رجل

ص: 198


1- الخرائج والجرائح للراوندي 1: 178، باب 2/ ح 11

فقال: يا أبا الحسن تكلمت بثلاث كلمات وأوجزتهن فاشرحهن لنا، فلم أرد جواباً حتي أتيت رسول الله صلي الله عليه وآله فقلت ما كان من الرجل.

قال الأصبغ: ثم أخذ بيدي وقال: يا أصبغ أبسط يدك، فبسطت يدي، فتناول أصبعاً من أصابع يدي وقال: يا أصبغ كذا تناول رسول الله صلي الله عليه وآله أصبعاً من أصابع يدي كما تناولت أصبعاً من أصابع يدك، ثم قال: يا أبا الحسن، ألا وإني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت موليا هذه الأمة، فعلي من أبق عنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت أجيرا هذه الأمة فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه، ثم قال: قل آمين فقلت: آمين. قال الأصبغ: ثم أغمي عليه فلما أفاق فقال لي: أقاعد أنت يا أصبغ؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: أزيدك حديثاً آخر؟ قلت: نعم زادك الله من مزيدات الخير، قال: يا أصبغ، لقيني رسول الله صلي الله عليه وآله في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا أبا الحسن أراك مغموماً، ألا أحدثك بحديث لا تغتم بعده أبدأ؟ قلت: نعم. قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله منبرأ يعلو منابر سائر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله أصعد فوقه، ثم يأمرك الله أن تصعد دوني بمرقاة، ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا علي المنبر لا يبقي أحد من الأولين والآخرين إلا حضر، فينادي الملك الذي دونك بمرقاة: معاشر الناس ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا رضوان خازن الجنان، ألا إن الله بمنه و كرمه وفضله وجلاله أمرني أن أدفع مفاتيح الجنة إلي محمد، وإن محمداً أمرني أن أدفعها إلي علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه.

ثم يقوم ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة منادياً يسمع أهل الموقف: معاشرالناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا مالك خازن النيران، ألا إن الله بمنه وفضله وكرمه وجلاله أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلي محمد، وإن محمداً أمرني أن أدفعها إلي علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه، فأخذ مفاتيح الجنان والنيران، ثم قال: يا علي فتأخذ

ص: 199

بحجزتي، وأهل بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بجزة أهل بينك، قال: فصفقت بكلتا يدي: وإلي الجنة يا رسول الله؟ قال: أي ورب الكعبة. قال الأصبغ: فلم أسمع من مولاي غير هذين الحديثين ثم توفي صلوات الله عليه.(1)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: لما احتضر أمير المؤمنين عليه السلام جمع بنيه فأوصاهم، ثم قال: (يا بني إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة وتتناجي بها، وكذلك هي في البغض، فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه، وإذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه).(2)

وعن الحسن بن علي عليه السلام قال: دخلت علي أمير المؤمنين عليه السلام وهو يجود بنفسه لما ضربه ابن ملجم فجزعت لذلك، فقال لي: أتجزع؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأنا أراك علي حالك هذه، فقال: ألا أعلمك خصالاً أربع إن أنت حفظتهن فلك النجاة، وإنأنت ضيعتهن فاتك الداران؟ يا بني لا غني أكبر من العقل، ولا فقر مثل الجهل، ولا وحشة أشد من العجب، ولا عيش ألذ من حسن الخلق.(3)

دخول صعصعة علي علي عليه السلام:

وفي كتابنا ۔ مسند الإمام علي- نقلاً عن المناقب عن صعصعة بن صوحان أنه دخل علي أمير المؤمنين عليه السلام لما ضرب فقال: يا أمير المؤمنين أنت أفضل أم آدم أبو البشر؟ قال علي عليه السلام: تزكية المرء نفسه قبيح، لكن قال الله تعالي لآدم:(يا آدَمُ اسكُن أنتَ وزَوجُكَ الجَنَّة وكُلا مِنها رَغَداً حَيثُ شِئتُما ولَا تَقرَبا هذِهِ الشَجَرةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمينَ) وأنا أكثر الأشياء أبا حنيها الله لي

ص: 200


1- بحار الأنوار 42 :44 - 46
2- أمالي الطوسي: 595/ ح 1232
3- بحار الأنوار 75: 111

وتركتها وما قاربتها. ثم قال: أنت أفضل يا أمير المؤمنين أم نوح؟ قال علي عليه السلام: إن نوحاً دعا علي قومه، وأنا ما دعوت علي ظالمي حقي، وابن نوح كان كافراً وابناي سيدا شباب أهل الجنة، قال: أنت أفضل أم موسي؟ قال عليه السلام: إن الله تعالي أرسل موسي إلي فرعون فقال:(إنّيِ أَخافُ أَن يُكَذِبُونِ) (1) حتي قال الله تعالي:(لا تَخَف إنّي لاتَخَف لَدَيَّ المُرسَلونَ) (2) وقال (ربِّ إنّي قَتَلتُ مِنهُم نَفساً فَأَخافُ أَن يَقتُلونِ) (3) وأنا ما خفت حين أرسلني رسول الله صلي الله عليه وآله بتبليغ سورة براءة أن أقرأها علي قريش في الموسم مع أني كنت قتلت كثيراً من صناديدهم، فذهبت إليهم وقرأتها عليهم وما خفتهم، ثم قال: أنت أفضل أم عيسي ابن مريم؟ قال عليه السلام: عيسي كانت أمه في بيت المقدس فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلاً يقول: اخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وأما أمي فاطمة بنت أسد لما قرب وضع حملها كانت في الحرم، فانشق حائط الكعبة وسمعت قائلاً يقول: ادخلي، فدخلت في وسط البيت وأنا ولدت به، وليس لأحد هذه الفضيلة لا قبلي ولا بعدي. (4)

وفي كتاب - معاني الأخبار - عن أنس بن مالك قال: كنت عند علي بن أبي طالب عليه السلام في الشهر الذي أصيب فيه _ وهو شهر رمضان _ فدعا ابنه الحسن عليه السلام ثم قال له: «يا أبا محمد أعلي المنبر فاحمد الله كثيراً وأثن عليه، واذكر جدك رسول الله صلي الله عليه وآله بأحسن الذكر وقل: لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله عبدا أبق من مواليه، لعن الله غنياً ضلت عن الراعي، وانزل، فلما فرغ من خطبته ونزل

ص: 201


1- الشعراء: 12
2- النمل: 10
3- القصص: 33
4- اللمعة البيضاء: 99

اجتمع الناس إليه فقالوا: يا بن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا الجواب فقال: الجواب علي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال أمير المؤمنين: إني كنت مع النبي صلي الله عليه وآله في صلاة صلاها، فضرب بيده اليمني إلي يدي اليمني فاجتذبها فضمها إلي صدره ضماً شديداً، ثم قال لي: يا علي، قلت: لبيك يا رسول الله قال: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل آمين، قلت: آمين، ثم قال: أنا وأنت موليا هذه الأمة، فلعن الله من أبق عنا، قل آمين، قلت: آمين، ثم قال: أنا وأنت راعيا هذه الأمة، فلعن الله من ضل عنا، قل آمين، قلت: آمين. قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: وسمعت قائلين يقولان معي آمين فقلت: يا رسول الله ومن القائلان معي آمين؟ قال: جبرئيل و ميكائيل عليهم السلام. (1)

وفي كتاب _ الخرائج والجرائح - عن أبي جعفر عليه السلام قال: جمع أميرالمؤمنين عليه السلام بنيه - وهم اثنا عشر ذكراً- فقال لهم: إن النبي يعقوب عليه السلام كان له من البنين اثنا عشر ذكراً فلما حضره الموت جمعهم وقال لهم: إنّي أوصي إلي يوسف فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أوصي إلي الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا، فقال له عبد الله ابنه: أدون محمد بن علي؟ - يعني محمد بن الحنيفة _ فقال عليه السلام: أجرأةً علي في حياتي، كأني بك وقد وجدت مذبوحاً في فسطاطك لا يدري من قتلك.

وقد صدقت الحوادث هذه النبوءة فإنه لما كان في زمان المختار أتاه عبد الله فقال له: أعطني قيادة الجيش، قال له المختار: لست هناك، فغضب ولحق بمصعب بن الزبير وهو بالبصرة _ فقال له: ولني قتال أهل الكوفة، فكان في مقدمة مصعب بن الزبير، فالتقوا بحوراء فلما حجز الليل بينهم أصبحوا فوجدوه مذبوحاً في فسطاطه لا يدري من قتله.(2)

ص: 202


1- معاني الأخبار: 118/ح1
2- الخرائج والجرائح 1: 183 - 184/ ح 17

وفي أصول الكافي عن سليم بن قيس قال: شهدت وصية أمير المؤمنين صلوات الله عليه حين أوصي إلي ابنه الحسن عليه السلام وأشهد علي وصيته الحسين عليه السلام ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له: يا بني أمرني رسول الله صلي الله عليه وآله أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصي إلي رسول الله ودفع إلي كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلي أخيك الحسين عليه السلام ، ثم أقبل علي ابنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله صلي الله عليه وآله أن تدفعها إلي ابنك هذا - وأخذ بيد علي بن الحسين - ثم قال لعلي بن الحسين، وأمرك رسول الله صلي الله عليه وآله أن تدفعها إلي ابنك محمد بن علي، وأقرأه من رسول الله ومني السلام.(1)

وفي كتاب (مسند الإمام علي صلوات الله عليه): عن علي بن الحسين ومحمد بن علي عليه السلام أنهما ذكرا وصية علي صلوات الله عليه - وساقا الحديث إلي أن قالا: قال صلوات الله عليه: «أيها الناس هل فيكم أحد يدعي قبلي جوراً في حكم أو ظلماً في نفس أو مال، فليقم أنصفه من ذلك؟ فقام رجل من القوم فأثني عليه ثناءً حسناً وأطراه وذكر مناقبه في كلام طويل، فقال علي صلوات الله عليه: أيها العبد المتكلم، ليس هذا حين إطراء وما أحب أن يحضرني أحد في هذا المحضر بغير النصيحة، والله الشاهد علي من رأي شيئاً يكرهه فلم يعلمنيه، فإني أحب أن استعتب من نفسي قبل أن تموت، إلي أن قال: أيها الناس أنا أحب أن أشهد عليكم ألا يقوم أحد فيقول أردت أن أقول فخفت فقد أعذرت بيني وبينكم، اللهم إلا أن يكون أحد يريد ظلمي والدعوي قبلي بما لم أجر، أما أني لم أستحل من أحد مالأً ولم أستحل دماً بغير حق، إلي أن قالا: ثم لم يزل يقول: اللهم اكفنا عدوك الرجيم، اللهم إني أشهدك أنك لا إله

ص: 203


1- الكافي 1: 297 - 298/ ح 1

إلا أنت، وأنت الواحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فلك الحمد عدد نعمائك لدي وإحسانك عندي، فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين، ثم لم يزل يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله عدة لهذا الموقف ولما بعده من المواقف، اللهم أجز محمد عنا أفضل الجزاء، وبلغه منا أفضل السلام، اللهم وألحقني به ولا تكل بيني وبينه إنك سميع الدعاء غفور رحيم، ثم نظر إلي أهل بيته فقال: حفظكم الله وحفظ فيكم نبيكم واستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام، ثم لميزل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتي قبض صلوات الله عليه.(1)

روي المجلس في البحار: قال صلوات الله عليه في وصيته: ثم تقدم با أبا محمد صل علي بابني، وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك لأحد غيري إلا علي رجل يخرج في آخر الزمان اسمه القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.(2)

وروي الشيخ المفيد: لما حضرت امير المؤمنين صلوات الله عليه الوفاة قال الحسن والحسن عليهم السلام: إذا أنا مت فاحملاني علي سريري، ثم أخرجاني واحملا مؤخر السرير فإنكما تكفيان مقدمه، ثم ائتيابي الغريين فإنكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً، فاحتفرا فيها فإنكما تجدان فيها ساجة، فادفناني فيها.

قال: فلما مات صلوات الله عليه أخرجناه وجعلنا نحمل مؤخر السرير وتكفي مقدمه، وجعلنا نسمع دوياً وحفيفاً حتي أتينا الغريين، فإذا صخرة بيضاء يلمع نورها، فاحتفرنا فإذا ساجة مكتوب عليها هذه مما ادخرها نوح لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فدفناه فيها وانصرفنا ونحن مسرورون باكرام الله عزوجل لأمير المؤمنين عليه السلام.(3)

ص: 204


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي 2: 349 - 356
2- بحار الأنوار 42: 215
3- الإرشاد 1: 23 _ 24

من كلام له عليه السلام كان يوصي به أصحابه:في بيان أهمية الصلاة

اشارة

(تَعاهَدوا أمرَ الصَّلاةِ وحَافَظُوا عَليَها وَاستَكثُرُوا مِنهَا وَتَقرَّبوا بِهَا فَإَّنّهَا كانَت عَليَ المؤمنينَ كِتاباً مَوقُوتاً أَلا تَسمَعوُنَ إليَ جَوابِ أهلِ النّارَ حينَ سُئلوا ما سَلَككُم في سَقَرَ قالُوا لَم نَكُ مِنَ المُصَلينَ وإنَّها لتَحُتُ الذُّنوب حتَّ الوَرقِ وَتَطُلقَها إطلاقَ الربَّق وشَبَهَها رسول الله صلي الله عليه وآله بالحَمَّة تَكونُ عَلي باب الرَّجُل فَهو منهَا فِي اليَوم والليلَة خَمسَ مَرَّاَت فمَا عَسي أَن تَبقَي عليه مِنَّ الدَّرَن وقَد عرفَ حَقَها رِجالَ منَ المؤمنَين الذينَ لا تَشغَلُهُم عنها زينَة مَتاعٍ ولاقُرَّة عَينٍ مِن وَلد ولا مالٍ يَقولُ الله سُبحَانهُ: رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجارةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ الله وَإِقامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزَّكاةِ ) ...

(شرح النهج لابن أبي الحديد مج2 ص 569).

الشرح:

قوله عليه السلام: تعاهدوا أمر الصلاة أي جددوا العهد بها وراقبوا عليها في أوقاتها المخصوصة ولا تضيعوها ولا تغفلوا عنها، لأنها عماد الدين ومعراج المؤمنين، و قربان كل تقي ومؤمن نقي، وأول ما يحاسب به العبد، إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها.

وقد ذم الله أقواماً توانوا عنها واستهانوا بأوقاتها فقال:(ويلٌ لِلمُصلينَ الَّذينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ قال أمير المؤمنين عليه السلام : يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها). (1)

ص: 205


1- الخصال للصدوق: 621

وحافظوا عليها، أي علي أوقاتها ورعاية آدابها وستنها وحدودها و مراسمها وشروطها وأركانها، فلقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله: من ترك صلاته متعمداً فقد هدم دينه(1) وقال: لا تضيعوا صلاتكم فإن من ضيع صلاته حشره الله تعالي مع قارون وفرعون وهامان لعنهم الله وأخزاهم، و كان حقاً علي الله أن يدخله النار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ علي صلاته.(2)

وقال أبو جعفر عليه السلام: إن الصلاة إذا ارتفعت في أول وقتها رجعت إلي صاحبها وهي بيضاء مشرقة تقول: حفظتني حفظك الله، وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت إلي صاحبها وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعتني ضيعك الله.(3)

وقد أمر الله عزوجل بمحافظتها في الكتاب العزيز بقوله:(حافِظُوا عَلَي الَّصلواتِ والصَّلاةِ الوُسطي وقُومُوا لله قانِتينَ).(4) قال أمين الإسلام الطبرسي: أي داوموا علي الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها.

وزبدة القول: إن الصلاة جوهر الدين، والدين أمر فطري كما صرح به الكتاب والسنة.

إن الصلاة شكر لإحسان المنعم، وشعور الإنسان بالشكر للمحسن شعور قديم. ومن الأمثال العربية المعروفة فيه قولهم: (الإنسان عبد الاحسان).

إن الصلاة خضوع لمكون عظمة السماء والأرض، والخضوع للعظماء أمر ارتكازي في جبلة كل فرد من الناس.

والصلاة هي من أهم مزايا الأنبياء و صفات رسل الله التي جاءت في القرآن الكريم، والتي مدحهم بها الله تعالي..، وفي هذا إشارة إلي وحدة الأديان السماوية في

ص: 206


1- جامع الأخبار: 86، وعنه في البحار، ج 82 202، ح1
2- جامع الأخبار: 87، وعنه البحار، ج 79: 203، ح 2
3- الكافي للكليني 3: 268، ح 4
4- البقرة: 238

الأثر والغاية، وإن أكثر الأحكام التي جاء بها القرآن كانت متبعة لدي الأنبياء المتقدمين، ومن جهة أخري فيه إشارة بالحث علي السير بطريقتهم والتمسك بصفاتهم وأفعالهم التي منها الصلاة، كما تجد ذلك في الآيات التالية:

قال الله تعالي، يمدح إسماعيل عليه السلام: (وَاذكُر فِي الكِتابِ إسماعيلَ إنَّه كانَ صادِقَ الوَعدِ وَكانَ رسولاً نَبَّياً وَكانَ يأمُرُ أَهلَهُ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ وَكانَ عِندَ ربَّه مَرضّياً). (1)

وقال تعالي علي لسان إبراهيم عليه السلام حين دعي ربه:(ربِّ اجعَلنِي مُقيَم الصَّلاةٍ وَمَن ذُريَّتي ربَّنا وتَقَبل دُعاء). (2) وقال تعالي حكاية عن عيسي:(وَجَعلَني مبارَكاً أًينَ مَاكنتُ وَأوصانِيبالصَّلاة والزَّكاةِ ما دُمتُ حَيَّاً) (3) وقال تعالي علي لسان لقمان يوصي ولده: (يابُنَيَّ أقِمِ الصَّلاةَ وَأمُر بِالمَعروفِ). (4)

ففي هذه الآيات الكريمة تجد أثر الصلاة عند قدماء الأنبياء وأهميتها الكبيرة في نفوسهم، حيث كان إسماعيل عليه السلام أول ما يأمر أهله بالصلاة، وإبراهيم عليه السلام يدعو ربه لأن يكون في المقيمين للصلاة، وعيسي عليه السلام يفتخر حيث أوصاه تعالي بالصلاة، ولقمان عليه السلام يؤكد في وصيته لولده بالمحافظة علي الصلاة.

وكانت الصلاة هواية نبينا محمد صلي الله عليه وآله ومعشوقته الكبري، حتي قال لأصحابه:حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعل قرة عيني الصلاة (5) فتري قد جعلها قرةعينه ونور بصره لمنزلتها عنده وكبرها في نفسه وأهميتها لديه.

الصلاة هي سفينة شاطئ الأمان وسبيل مجتمع السلام وباب جنة الخلد. هذه الصلاة جعلها الله تعالي في القرآن الكريم سبب من أسباب الفلاح، قال

ص: 207


1- مريم: 54 و 55
2- إبراهيم: 40
3- مريم: 31
4- لقمان: 17
5- الخصال للصدوق: 165، ح 218

تعالي في سورة المؤمنون: (قَد أفلَحَ المُؤمنوُنَ الَّذين هُم فِي صَلاتِهِم خاشِعونَ) (1) وقال تعالي في سورة الأعلي: (قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّي وذَكَرَ اسمَ ربِّه فَصَلي). (2)

والصلاة هي أهم مظهر من مظاهر الإسلام، وأعظم ركن منه، وهي لباسه التي يعرف إسلامه بها وإيمانه منها، وهي جنسيته التي بها يعلم انتماؤه إلي دولة الإسلام، وأنه من أتباع محمدصلي الله عليه وآله ، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لكل شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة (3) فتري قد جعل الصلاة وجه الدين ولباس الشريعة. وفي حديث آخر جعلها الحد الفاصل بين الكفر والإيمان فقال: مَا بيَن الكفر والإيمان إلا ترك الصلاة.(4)

والإمام الخامس محمد الباقر عليه السلام شبه الصلاة في الدين بالعمود للخيمة، فقال عليه السلام :الصلاة عمود الدين، مثلها كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب والأوتاد، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب».(5)

وأبعد رسول الله صلي الله عليه وآله تارك الصلاة منه، ونفي أن يكون من المسلمين، وإن ادعي ذلك، وحرمه من شفاعته يوم الحساب الأكبر، فقال وهو علي فراش الموت: ليس مني من استخف بصلاته، لا يرد علي الحوض لا والله.(6) وأكد هذا المعني الإمام الصادق عليه السلام فقال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة.(7)

وشرعت الصلاة لأجل تأييد قوة الخير ودعم الفضيلة وطرد الرذيلة وإزالة الشر في قلب الإنسان، لأنه عندما وجد، وجد معه قوتان: قوة الخير وقوة الشر، كما قال

ص: 208


1- المؤمنون: 1 و 2
2- الأعلي: 14 و15
3- الكافي للكليني 3: 270، ح16
4- ثواب الأعمال للصدوق: 231
5- المحاسن للبرقي 1: 44/ ح 60
6- الكافي للكليني 3: 268/ ح7
7- الأمالي للصدوق: 572/ ح 779

تعالي:(نَفسٍ وَما سَوَّاها فَألهَمَها فُجُورَها وتَقواها) (1) وجعل الله بين القوتين صراعاً ونزاعاً، كما جعل بيد المرء زمامهما، لأجل امتحان البشر وأن يدخلوا الجنة أو النارأزاء عمل يعملونه في دار الحياة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

وشرعت الصلاة لتحذير الإنسان من هوي النفس ومغرياتها وشياطينها، وشرعت التقف إلي جنب العقل ناصراً ومرشداً ومعيناً، ولدعم الفضيلة وقوتها المستودعة في الإنسان، ولا شك أن الصلاة هي أقوي أفعال الدين لمكافحة إرادة النفس وشيوع الرذيلة وانتشار الشر، ولهذا السر شرع تكرار الصلاة مرات مختلفة في اليوم، لتضعف بذلك هوة الشر وتنكسر شوكتها، ولعل من هذا المعني أخذ اسم – المحراب - المكان المصلي، حيث فيه يحارب المصلي الهوي والنفس والشيطان.

والصلاة هي روح الدين الإسلامي، والدين الذي بابه الصلاة مدرسة تعليمية كبري تتلقي برنامجها من الله تعالي وينزل منهاجها من السماء، فيوقف البشر في الأرض علي خفايالم تدركها عقولهم، ويوصلهم إلي نقاط في الإرشاد العالي لا يمكن أن تتوصل إليها أفكارهم مهما بلغوا من التقدم والرقي، والجدير بالذكر أن التقدم المادي الذي يعرفه أهل الأرض لا يزيدهم إلا تأخراً عن روحية السماء وحقيقة الحياة.

وتمتاز الصلاة بإطلاقها سراح الفكر بالتجوال الفكري الصحيح، وبحتها علي العمل الناتج والتمرين علي حركة الفكر والجسد معاً، والإسلام طالما حث علي ذلك، ومن حثه علي الأول قوله صلي الله عليه وآله: (تفكير ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة) (2) ومن الثاني قوله تعالي: (وقُلِ اعمَلُوا فَسَيَري اللهُ عَمَلكُم ورسُولُه والمُؤمنُونَ). (3) والصلاة حوت كلا العملين و جمعت بين الجنسين، و اشارات الي كلٌ

ص: 209


1- الشمس: 7 و8
2- مشكاة الأنوار للطبرسي: 544
3- التوبة: 105

من الجهدين بصورة عملية كاملة لا نظرية فحسب، ومن هنا جاء النقص إلي أكثر المسلمين اليوم، حيث اعتبروا الصلاة كعمل خارجي خال من التفكير بالغرض الذي شرعت لأجله الصلاة، وقد ورد في الحديث عن آل البيت عليهم السلام إنَّ الله لا يقبل من العبد صلاته إلا ما أقبل عليه فيها. (1)

وقد أشار الإمام الرضا عليه السلام إلي تلك الفوائد، كما بين بعض أسرار مشتملات الصلاة في حديث نذكره بطوله، قال عليه السلام: إنما أمر الله بالوضوء ليكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار وعند مناجاته إياه مطيعاً له فيما أمره، نقياً من الأدناس والنجاسة؛ مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد التعاس، وإنما وجب علي الوجه واليدين والرأس والرجلين، لأن العبد إذا قام بين يدي الجبار فإنما ينكشف من جوارحه ويظهر ما وجب فيه الوجوه، وذلك بوجهه يسجد ويخضع، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويبتهل، وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده، وبرجليه يقوم ويقعده.(2)

والصلاة هي وديعة السماء في الأرض وأمانة الله عند خلقه، وقد أمرهم بالاهتمام بها والمحافظة عليها، فقال تعالي:(حافِظُوا عَلَي الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ الوُسطي وقُومُوا للهِ قانِتيِنَ) .(3)

وهذه الأمانة هي التي تعرفنا بالدين الحنيف، وتعلمنا المحافظة علي أموال الناس وعلي حقوقهم الفردية والاجتماعية؛ لأن الإسلام أعطي المرء حقوقه من نتاج الحياة، وجعل سياجاً قوياً يفصل بين تلك الحقوق، وحرم التعدي والنهب والكذب، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : (لا يحلّ مال امرئ إلاّ من طيب نفس). (4)

والإمام زين العابدين عليه السلام ضرب للمسلمين مثلاً علياً في المحافظة

ص: 210


1- المحتضر لابن سليمان الحلي: 37
2- عيون أخبار الرضا للصدوق 1: 111، باب 34 ح 1
3- البقرة: 238
4- البحار للمجلسي 73: 348

علي الأمانات، حيث يقول: والله لو أن قاتل أبي الحسين ائتمني علي السيف الذي قتل به لأذيته إليه».(1)

فالصلاة والدين يعلمان المرء كيف يعيش في الحياة عيشة فيها السعادة للفرد والجماعة، وكيف يحافظ علي الحقوق والأموال، وكيف يؤدي الودايع والأمانات، لأن المحافظة علي الأمانة الكبري - وهي الصلاة - تستلزم المحافظة علي الأمانة الصغري وتدرب علي تأديتها. ولعل أول من أطلق الأمانة علي الصلاة من الناس هو أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعد إشارة القرآن الكريم إلي ذلك، حيث كان صلوات الله عليه إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل، فيقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت الصلاة، وقت أمانة عرضها الله تعالي علي السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها (2) وهو بهذا يشير إلي قوله تعالي:(إنّا عَرَضنَا الأمَانَة عَلي السَّماواتِ والأرضِ والجِبالِ فأبَينَ أَن يَحمِلنَها و الآية). (3)

وقد بين الإسلام ما للصلاة من أثر كبير في إدراك النجاح وتحصيل الفلاح، قال الله تعالي: (قَد أفلَحَ المُؤمنُونَ الَّذينَ هُم في صَلاتِهِم خاشِعُونَ)(4) وفي الحديث الشريف عن أعرابي جاء إلي رسول الله صلي الله عليه وآله قال له صلي الله عليه وآله : أسلم تسلم، قال: وما الإسلام؟ قال صلي الله عليه وآله : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، إلا أن تتطوع، قال: ثم ماذا؟ قال: صوم رمضان إلا أن تتطوع.... الخ، فوتي الأعرابي وهو يقول: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، فلما بلغ قوله النبي صلي الله عليه وآله قال: أفلح الأعرابي إن صدق. (5)

ص: 211


1- أمالي الصدوق: 319 ح 374
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 1: 389
3- الأحزاب: 72
4- المؤمنون: 1 و 2
5- صحيح البخاري 20: 225

وبحسب البعض أن الصلاة صخرة عثرة في طريق الحياة، وأن الدين عدو الدنيا، وهذا وهم فاسد وافتراء وكذب علي الدين والإسلام؛ لأن القرآن يقرر عكس هذا حيث يقول تعالي:(قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ الله الَّتي أخرَجَ لِعبادِه والطَيِّبات مِنَ الرِزقِ قُل هِيَ للَّذين آمنوا فِي الحَياةِ الُّدنيا خالصَةً يَوم َالقيامَةِ) (1) وقوله تعالي: (وَلا تَنسَ نَصيَبَك مِنَ الدُنيا) (2) ، ولم يكتف بآية أو آيتين بل أورد سلسلة من الآيات الكريمة في الموضوع نفسه قائلاً:(يا أيُهَا الرُّسُل كُلُوا مِن الطَيبَّات).(3) (لا تُحَرِمُوا طَيبَّات ما أَحَل الله لَكُم ).(4) (وكُلوُا مِمَّا رَزَقَكُم اللهُ حَلالاً طيبًا).(5) (كُلُوا مِن طَيِباتِ مَا رَزَقناكُم) (6) (أُحِلَ لَكُمُ الطَّيباتُ).(7) (كُلُوا مِمَّا في الأرضِ حلالاً طَّيباً.) (8)

وفي الحديث الشريف: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدأً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً (9) وقال صلي الله عليه وآله من لا دنيا له لا دين له. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه ويقضي به دينه ويصل به رحمه.(10) وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: إني لأبغض الرجل أن يكون كسلاناً في أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل.(11) والأخبار في الحث علي تحصيل الدنيا وإصلاح أمر العيشة بحد التواتر.

ص: 212


1- الأعراف: 32
2- القصص: 77
3- المؤمنون: 51
4- المائدة: 78
5- المائدة: 88
6- البقرة: 57
7- المائدة: 4
8- البقرة: 168
9- كفاية الأثر للخزاز القمي: 228
10- الكافي للكليني 5: 72، ح:5
11- الكافي للكليني 5: 85 ح 4

وبالتالي قصدنا بهذا البحث التقريب لأفكار شبابنا المسلمين وجيلنا الناشئ الجديد الذي جعل الصلاة وراء ظهره. هذا الجيل الذي عليه كل آمالنا في الدعوة الاستمرار رسالة الإسلام وتبليغها للعالم البعيد، ونشر دعوة السماء الحقة في الأرض، وبث فكرة نبي الإسلام في العالم، وتطبيق نظام القرآن بين الناس، والقيام بالعبادات الإلهية فرادي وجماعات. نسأل الله تعال أن يوفق الجميع لمراضيه.

الصلاة تحت الذنوب:

قوله صلوات الله عليه: إنها لتحت الذنوب حت الورق. إلي قوله: فما عسي أن يبقي عليه من الدرن۔

يدل هذا الكلام بظاهره علي أن الصلاة حسنة لا تضر معها سيئة، وأن الله يغفر سينات المصتي مهما تضاعفت و تنوعت.. وليس من شك أن هذا الظاهر يصطدم مع حكم العقل والبديهة، ومع قوله تعالي:(فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرةًا خَيراً يَرَهُ وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَةً شَراً يَرَهُ.)(1)

فما هو وجه الجمع؟

الجواب: لا أحد يجرأ علي الزعم والادعاء أنه منزه عن التقصير والخطأ إلا جاهل مغرور حاشا الأنبياء.. والخطيئة أنواع، ولكل نوع درجات، فهناك حق الله وحق الناس، وهناك الكبيرة والصغيرة، وبعض الخطايا تقبل المغفرة والتسامح ويختصر فيها علي اللوم والعتاب أو التوبيخ.

وبعضها يوجب العقاب الخفيف، وثالثة العقاب الوسط، ورابعة العذاب الأكبر، وأفحش الخطايا علي الإطلاق الشرك بالله، والاعتداء علي حريات الناس بكم الأفواه و تعذيب الأرواح والأجسام ونهب الثروات وما إلي ذلك من الجرائم التي يرتكبها

ص: 213


1- الزلزلة: 7 و8

الأقوياء ضد الضعفاء الذين لا قدرة لهم ولا حيلة ولا وسيلة. وهذا النوع من الذنوب لا يغفر إطلاقاً، وإن صلي المذنب الظالم وصام وحج إلي بيت الله الحرام.

وما عدا هذا النوع من الذنوب يقبل الغفران، شريطة أن لا يكون فيه شائبة اعتداء علي الآخرين، وإن كانت مثقال ذرة. ومن الأمثلة التي تقبل التسامح والمغفرة سقطات اللسان مع عدم الإضرار بالآخرين، وأكل الخبائث أو شربها بلا ضرورة، وصناعة التماثيل، والنظرة الآثمة، والعصبية إذا لم يترتب عليها فساد؛ بل وحلق اللحية، والإسراف في الأموال علي القول بالتحريم .

وغير بعيد أن يكون المراد بالذنوب التي تحتها الصلاة و تطهر المصلي منها هذا النوع بالخصوص، ومن الجائز أيضاً أن يكون القصد من حت الذنوب أن الصلاة من طبيعتها تحث المصلي علي التوبة التي تطهره من الذنوب. ويومي إلي ذلك ويؤيده قوله تعالي:(إنَّ الصَّلاةَ تَنهي عَنِ الفَحشاء والمُنكَر) (1) أي تنهي المصلي عنهما بمجرد الدعوة والإرشاد، ولا تدفعه عنهما قسراً، أو تخلق في نفسه النفور منهما قهراً. لأن هذا لم يحدث بشهادة العيان، وليس من شك أن إهمال التوبة من المنكرات، فيشمله نهي الصلاة عن المنكر.

قوله صلوات الله عليه: وقد عرف حقها رجال من المؤمنين، الذين وجدوا حلاوة الإيمان بالله، وبرد اليقين، وجلال القرب منه، وعقلوا أسرار الصلاة وأهدافها، وأن الله سبحانه يكتب لهم من ثوابها علي قدر محافظتهم عليها واهتمامهم بها، وإذن فلا عجب إذا أعطوها عن طيب نفس كل همهم واهتمامهم، وجعلوها شغلهم الشاغل حتي عن الولد والمال.

ونحن نعرف الكثير من عظمة الصلاة عند الله، وأنها عمود الدين و قربان كل تقي.. وأيضاً نتحدث عن فضلها ونكتبه ونذيعه، ولكن صلاتنا -

ص: 214


1- العنكبوت: 45

وبالسوء العمل - أشبه بحركة آلية أو تلقائية.. أبدأً لا شيء فيها من الخضوع والخشوع، نحن نصلي - والله _ بقصد القربة لله، ولكن بماذا نفكر أثناء الصلاة؟.. بالتافهات وزينة الحياة. قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إن خير أعمالكم الصلاة (1) وتقول أنفسنا الأمارة: لا، إن خير أعمالكم الشهرة والسمعة، والجمع للوارث التارك للصلاة، اللهم هدايتك وغفرانك.

ص: 215


1- كنز العمال للمتقي الهندي 3: 44/ ح 5399

فصل ووصل

الصلاة وطرق التقدم الثلاثة

بسم الله الرحمن الرحيم

(أنَّا أَعطَيناكَ الكَوثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحَر انَّ شانِئَكَ هُوَ الأبتَر).

إن سورة الكوثر أقصر سورة في القرآن الكريم لعرض خير الفضائل والتبشير بها بغاية الايجاز، وذلك بعض ما امتاز به الكتاب المجيد.

تتألف هذه السورة من ثلاثة آيات: تحتوي الأولي والثالثة علي جملة واحدة، أما الثانية فعلي جملتين! وتعني الآية الأولي (إنَّا أَعطَيناكَ الكَوثَر) يا رسول الله لقد منحناك الخير، وتعني الآية الثالثة (إنَّ شَانِئكَ هُوَ الأبتَر): إن عدوك الذي يروم محوك سوف يحرم من كل خير. والباقي (فَصَلِّ لرَّبكَ وانحَر) تعني أقم الصلاة وقدم الضحية.

وهذه هي الطرق الوحيدة للوصول إلي الخير. وقد بين الله سبحانه غاية الدين الجوهرية والسبيل إلي نيلها بصورة واضحة مجملة.

إن غاية الدين أو الإيمان لا تتعدي جلب السعادة والخير للعالم، وقد فسر ابن عباس وابن جبير الكوثر بالخير.(1) وفي الواقع أن المقصود بهذه الكلمة خير المادة وخير الروح.

ولا ريب في أن هذا الوحي الإلهي وإن كان قد خوطب به النبي الكريم محمد صلي الله عليه وآله ولكنه في الحقيقة موجه إلي كل مؤمن؛ بل إن كل وحي مذكور في القرآن موجه في الواقع إلي كافة المؤمنين. فمعني السورة إذن: أيها الإنسان لقد منحناك كل خير بوحينا، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالصلاة والتضحية، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لإيصال البشر إلي الرفعة والسمو المادي والمعنوي.

ص: 216


1- الدر المنثور للسيوطي 2: 133

لقد تحقق لدي العالم بعد طول الاختبار أنه ما من أمة تستطيع التقدم إلا بالتضحية، فكلما زادت من هذه زيد لها من ذلك، ولكن الظاهر أن الله تعالي قد قدم الصلاة عليها.

إن التضحية عمل، وفي الحق أن التقدم والرفعة يتوقفان علي أعمال الإنسان، بمعني أن الإنسان ينال الشيء بعد أن يسعي إليه(وَأنَّ لَيسَ لِلإِنسَانِ إلَّا ما سَعيَ) (1) كما أن أعمال الإنسان نتيجة لاحساسه وعواطفه و آماله، وبدونها لا يقدم علي أي عمل.

إن العواطف تؤدي إلي أعمال مثلها إن رديئة فرديئة، أو حسنة فحسنة، فالقتل بسبب الطمع ومعاونة ذوي الحاجة سلوكان يؤدي إليهما نوعان من الأفكار رديء وحسن.

وإن القرآن الكريم والنبي محمدصلي الله عليه وآله هما اللذان نبها إلي ذلك، قال الله تعالي في كتابه المجيد:(أقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تنَهي عَنِ الفَحشاء والمُنكرِ ولَذَكَر اللهِ أكبَرُ).(2)

إن غاية المجد والرفعة لتكمن في نبل وسمو أفكارنا وعواطفنا وشعورنا، وهذا هو السبب في أن الصلاة تعتبر علاجاً شاملاً لكل شرور البشر(قَد أفلَحَ المُؤمنوُنَ الذيَّنَ هُم فِي صَلاتهِم خاشِعُونَ )(3) ويصف الحديث الصلاة بأنها نهر جار يطهر ما أرجاسنا، وقد وصفت بحق بأنها معراج المؤمنين، وهي في الواقع أيسر سبيل لبلوغ هذه الرفعة؛ بل إن الأمر بالصلاة قد عاصر المعراج - أي صعود النبي محمد صلي الله عليه وآله إلي السماء، حيث فيه تلقي الأمر من الله تعالي بالصلاة.

إن الكلمات المقدسة التي نكررها عادة في صلاتنا هي «الله أكبر»، وبذلك تفتح الصلاة بهذا التكبير لله، كما أن الإنسان يقر عند وقوفه أمام الله بأن لا قيمة لأية عظمة في الدنيا أزاء عظمة الله، وهذا الشعور بالله يستتبع تحولاً وانقلاباً لا نظير لهما في

ص: 217


1- النجم: 39
2- العنكبوت: 45
3- المؤمنون: 1 و 2

الصلاة التي نقيمها، وإن الإنسان إذ يشعر شعوراً دافقاً بضعته أمام الخالق؛ إذ يسجد أمامه ويعقر جبهته بالتراب، وفي كل لحظة يكرر من أعماق قلبه «الله أكبر»ليقوي في نفسه الشعور بقوة الله وتتمكن جذوره في قلبه.

إن أول خطو الإنسان نحو التقدم الروحي بعد مدح الله تعالي والاقرار بعظمته يكمن في الابتداء بالصلاة حيث يعترف الإنسان بضعفه، ويتوق أن ينطلق ليسمو.

وما الصلاة إلا دعاء، وليس الدعاء إلآ تلاوة بعض الكلمات المرسومة ولكن الدعاء ما أريد به أن يخلق حركة في صميم عقل الإنسان. إنه رغبة حافز ونشاط، بل دافع يعبر عنه بكلمات، و يكمن خلف هذا النشاط ووراء هذه العواطف قوة عظيمة تعبر عن طبيعتها أمام الله، فيشع من حنايا ضمائرنا نور، وتجيش نفوسنا بثورة، وفي خلال هذه الثورة نتضرع بطلب الرحمة من الله القدير، وإن هذه القوة الإلهية تعين الضعيف فترتوي بها روحه وتقوي.

وفي الصلاة اعتراف بسيطرة الإله الجبار علي خلقه، وأنه لا يسيطر علي أجسامنا فحسب، ولكنه يحكم عقولنا وضمائرنا أيضاً.

وفي الصلاة رابطة بين الله والإنسان، وفي الصلاة اعتراف الإنسان بالعبودية لله تعالي، فيقوم بطبيعة الحال بواجبات هذه العبودية للإله.

إن الصلاة هي التي تبين بواعث الإنسان الحقيقية واعترافه بذنبه وخطاياه وضعفه، وإنه ليبدي رغبته في أن يرتفع من هذه الوهدة، ويطلب المعونة من الله تعالي للخلاص منها ومن انحطاطه وطاعته الأفكار السوء.

هكذا تخلق الصلاة في الإنسان نشاطاً وقوة بحيث يمتنع عن ركوب الخطايا والمآثم، وربما أبعدت عنه المعاصي بعد ما بين المشرق والمغرب، وجعلت روحه نقية نقاء القماش الأبيض من الأوضار والأقذار، وقد يغفر الله للانسان ما ارتكب من ذنب ويمحوه كما يغسل الماء أي شيء.

وعندما يصلي الإنسان لربه الصلاة الحقيقية تشع من داخل نفسه رغبة

ص: 218

بأن يتنزه عن الظلم والقسوة والكذب والدعاوي الخادعة، و من كل الظنون السيئة والأعمال الرديئة، وبذلك يقف سداً منيعاً ضد نزعات الشيطان.

وقد أضفي الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله أهمية خاصة علي الصلوات، وقد وصفت في الوحي بأنها طعام الروح،(وَرِزقُ ربِّكَ خَيرٌ وأبقَي) (1) و وسيلة لاستمداد المعونة من عند الله،(استَعينُوا بِالصَّبرِ والصَّلاةِ)، (2) وإنها أسلوب لكبح جماح النفس واجتثات الرذائل والنوازع المنحطة من جذورها، (إنَّ الصَّلاةَ تنَهِي عَنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ)، كما أنها واسطة للنجاح في الدنيا والآخرة، (قَد أفلَحَ المُؤِمنوُنَ الَّذينَ هُم فِي صَلاتِهِم خاشِعونَ).

كان الفساد والانحطاط فاشيين في العرب قبل الإسلام، وقد استقامت أخلاقهم في ضمن مدة قصيرة وهي ثلاثة وعشرون عاماً في الإسلام، وانتشروا في الأرض متقمصين أثواباً من القداسة، يبشرون بالأخلاق السامية والشهامة، ومرد ذلك كله إلي الصلاة؛ إذ لم تكن هناك مدارس و جامعات ولا أية واسطة لترقية الزراعة والتجارة، وإنما هي سبحان ربي العظيم وبحمده وسبحان ربي الأعلي وبحمده غذت أرواحهم وأوصلت كل واحد منهم إلي ذروة المجد الذي لا يمكن نيله بواسطة أخري.

إن نيل الفضائل عمل جبار، وما أندر أن تتصاحب العظمتان الدنيوية والأخلاقية.

وما ينال الفضائل إلا الذين ينحنون أمام الله، ويصغون باهتمام إلي أقوال رسله، بينما. تنحني أمامهم الأمم متطلعة إلي أمجادهم الدنيوية والخلقية والروحية التي لم يسبق لها مثيل، ذلكم هو تأثير سبحان ربي العظيم وبحمده وسبحان ربي الأعلي وبحمده عندما تتلي من أعماق القلوب.

ص: 219


1- طه: 131
2- البقرة: 153

هذه ناحية من نواحي الصلاة نحو التقدم المادي والروحي، وهناك شكل ثان للتقدم الذي تعبد الصلاة إليه الطريق: فهو التقدم الجمعي أو الاجتماعي، وحجر الزاوية فيه سورة الفاتحة.

إن الانحناء أمام الله يرفع من شأن الأفراد؛ ولكن الانتظام بصفوف مرتبة أمامه يدفع للنجاح الجمعي.

إن الصلابة والجمود يقللان من أثر الصلاة في تقدم الفرد، إذ يجب الإفصاح عن كل ما يطرأ علي ذهن الإنسان عند الصلاة؛ لأن فيها يتلائم العمل والتعبير.

ويشتد تأثير الصلاة إذا اقترنت بحركات جسمية تنبئ عن تواضع عظيم أمام الله، وقد قال الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وآله : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.(1)

إن آية (الحَمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ) حجر الزاوية في التقدم الجمعية، وتتحد عند تلاوتها أفكار الإنسانية جمعاء في الخضوع لله، ويشعر الإنسان باتصاله التام بالجنس البشري، علي الرغم من انتسابه إلي عائلته وعنصره وأمته وبلاده، فهو يشعر بشعورهم ويتمني خلودهم جميعاً، وإذا حل الهدم والتخريب والموت بأفراد جنسه في أية بقعة من بقاع الأرض يغشي قلبه أسي، ويردد في غمرة هذا الألم (الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ) ويدعو الله ضارعاً طالباً خير كل ذي حياة في هذا الوجود، وتلك نفس الصرخة التي تخرج من قلوب القديسين والحكماء والأنبياء، فتغدو بلسماً شافياً لأدواء الأمم.

إن رفع السلاح ضد العدو ضرورة ماسة، ولكن هناك سلاحاً آخر هو سلاح الصلاة الجبار الذي فرضه الله تعالي علي المسلمين، إن أي انتصار ناله المسلمون في بدر لم يكن بسبب تفوق قوتهم أو عددهم، ولكن بسبب الصلاة التي صلوها، ودعاء المضطر الذي دعوه طيلة تلك الليلة.

ويشبه حالة المسلمين اليوم ونقصهم في القوة والنفوذ، ولو أفادوا من

ص: 220


1- مسند أحمد 2: 421

سلاح الدعاء الذي لا يخيب وخشعوا أمام الله تعالي طالبين منه النصر لفتح سبحانه لهم أبواباً من حيث لا يحتسبون النصر.

إن في القنبلة الذرية . والحقيقة أولي أن تقال _ لباساً شديداً، وفي مقدورها أن تدمر مدناً وأقطاراً، ولكن الدموع المسفوحة أمام الله القوي الجبار أكثر بأساً ويمكن أنتغير مجري الحوادث بصورة مدهشة تبلغ حد الإعجاب.

وتمهد الصلاة السبيل - فضلاً عن التقدم الفردي والجمعي - إلي تقدم ثالث: هو نشر الإسلام والأخذ بنصرة الحق، ولا خير في التقدم الفردي أو الجمعي ما لم يكن في نفوسنا ميل لهذا التقدم الثالث.

الصلاة لغة واصطلاحاً:

إن لفظ الصلاة من الأسماء الشرعية، ولا شبهة في أنها عربية، فلا يجوز أن يكون الشرع ارتجلها ابتداء من غير نقل، وإلا لم يصح قوله تعالي: (إنَّا أنزَلنَاهُ قُرآناً عَرَبياً)(1) فلا بد أن يكون له في اللغة معني آخر.

فاختلفوا في أصله، فقيل: الدعاء، وقيل أصلها من الصلا. وهي عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود. (2)

وعلي القول الأول أكثر العلماء، إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه. وقال بعض الصوفية: اشتقاق الصلاة قيل من الصلي النار، والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها تعرض علي النار ثم تقوم، وفي العبد اعوجاج لوجود نفسه الأمارة بالسوء، وسبحات وجه الله الكريم - أي أنواره _ التي لو كشف حجابها لأحرقت من أدركته، يصيب بها المصلي من رهج السطوة الإلهية والعظمة الربانية ما يزول به اعوجاجه؛ بل يتحقق به معراجه، فالمصلي كالمصطلي بالنار، ومن اصطلي بنار الصلاة وزال بها اعوجاجه لا يعرض علي نار جهنم إلا تحلة القسم.

ص: 221


1- يوسف: 2
2- مجمع البيان للطبرسي، ج 1: 189

روي الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه، أنه قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ما من صلاة يحضر وقتها إلا نادي ملك بين يدي الناس: أيها الناس قوموا إلي نيرانكم التي أوقدتموها علي ظهور كم فأطفؤها بصلاتكم. (1)

وقد ورد أن الله تعالي إذا تجلي لشيء من خلقه خضع له،(2) ومن تحقق الصلة في الصلاة تلمع له طوابع التجلي فيخشع، والفلاح للذين هم في صلاتهم خاشعون، وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح، وشهد القرآن بالفلاح للمصلين.

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الصلاة مرضاة الرب، وحب الملائكة، وسنة الأنبياء، ونور المعرفة، وأصل الإيمان، وإجابة الدعاء، وكراهة الشيطان، وشفيع بين صاحبها وملك الموت، وسراج في القبر، وفراش تحت جنبه، وجواب منكر ونكير، ومؤنس في السراء والضراء، وصائرة معه في قبره إلي يوم القيامة. (3)

وأقبل أمير المؤمنين صلوات الله عليه ذات يوم علي الناس فقال: أية آية في كتاب الله أرجي عندكم؟ فقال بعضهم:(إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرِكَ بِه ويَغفِرُ مَا دُونَ ذلكَ لِمَن يَشاءُ) (4) قال: حسنة وليست إياها. فقال بعضهم:(وَمَن يَعمَل سُوءاً أَو يَظلِم نَفسَه ثُمَّ يَستَغِفِر اللهَ يَجِد اللهَ غَفُوراً رحيماً) (5) فقال: حسنة وليست إياها، فقال بعضهم:(يا عِباديَ الَّذينَ أسرَفُوا عَلي أنفُسِهِم لا تَقنَطوُا مِن رَحمَة اللهِ إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جَميعاً إنَّه هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ) (6) قال: حسنة وليست إياها، وقال بعضهم:(والَّذين إذا فَعَلوا فاحِشَة أو ظلَمَوا أنفُسَهُم ذكَروُا اللهَ فاستَغفِرُوا لِذنُوبهِم)،(7) قال: حسنة وليست إياها، ثم أحجم الناس، فقال: ما لكم يا

ص: 222


1- من لا يحضره الفقيه، ج 1: 208، ح624
2- الإصابة لابن حجر، ج5: 313
3- الخصال للصدوق: 522/ ح 11، رواه بلفظ آخر...
4- النساء: 48
5- النساء: 110
6- الزمر: 53
7- آل عمران: 135

معشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء، قال صلوات الله عليه: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله و يقول:(أرجي آية في كتاب الله وَأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفي الّنهارِ وَزلفاً مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَّيناتِ) (1) وقال: يا علي والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيرً، إن أحدكم ليقوم إلي الوضوء فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتي عند الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار علي باب أحدكم، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم، أكان يبقي في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي.(2)

وقال الإمام الباقر عليه السلام: يا باغي العلم صل قبل أن لا تقدر علي ليل ولا نهار تصلفيه، إنما مثل الصلاة لصاحبها كمثل رجل دخل علي ذي سلطان فأنصت له حتي فرغ من حاجته، وكذلك المرء المسلم بإذن الله عزوجل، ما دام في الصلاة لم يزل الله عزوجل ينظر إليه حتي يفرغ من صلاته. (3)

وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه مع جماعة من أصحابه تحت شجرة، فأخذ غصناً منها فنفضه فتساقط ورقه، فقال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: خبرنا، قال: كنا مع رسول الله صلي الله عليه وآله في ظل شجرة فأخذ غصناً منها فنفضه فتساقط ورقه، فقال: ألا تسألوني عما صنعت؟ قلنا: خبرنا يا رسول الله، قال: إن العبد المسلم إذا قام إلي الصلاة تحاتت عنه خطاياه كما تحاتت ورق هذه الشجرة. (4)

ص: 223


1- هود: 114
2- مجمع البيان للطبرسي 5: 345
3- دعائم الإسلام للقاضي المغربي 1: 134
4- البحار للمجلسي 79: 208، ح 16

ص: 224

جاء في خطبته عليه السلام المعروفة بالقاصعة:

وفيها يذكر موضعه وقربه من رسول الله صلي الله عليه وآله

(وَقَد عَلِمتُم مَوضِعِي مِن رَسُولِ الله صلي الله عليه وآله بِالقَرَابَة القَربيَةِ وَالمَنزِلَة الخَصِيصَةِ وَضَعَني فِي حِجرِه وأنَا وَلَدٌ يَضمُنُي إلَي صَدرِهِ ويَكنُفني فِي فَراشِه ويُمسُّني جَسَدهُ و يُشِمُني عَرفَهُ وكانَ يَمضَعُالشَّيء ،ثُمَّ يُلقمُنيه ومَا وَجَد لي كَذَبة في قَولٍ ولا خَطلَةً في فِعلٍ و قَرَنَ اللهُ بِهِ صلي الله عليه وآله مِن لَدُن أَن كانَ فَطيماً أعظَمَ مَلَكٍ مِن ملائكتِه يَسلُكُ بِه طَريقَ المَكارِمِ ومَحاسنَ أخلاقَ العَالِمٍ ليلهُ ونَهارَه ولَقَد كُنتُ أتبَعُهُ اتَباعَ الفَصيل أثَرَ أُمَهَ يَرفَعُ لِي في كُلِ يَومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَماً ويَأمُرُني بِالاِقتداَء بِه وَلَقد كانَ يُجاوِرُ فِي كُلِ سَنَة بِحِراءَ فَاراهُ ولا يَرَاهُ غَيري وَلَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإسلامٍ رسول الله صلي الله عليه وآله وخَديجَةَ وانَّا ثالثُها اَريَ نُورَ الوَحيِ والرِّسالةَ وَ اَشُّمُ ريحَ النُّبُوَّةِ ولَقد سَمِعتُ رَنَّةَ الشَيطانُ حِينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيه صلي الله عليه وآله فَقُلتُ يا رَسولَ اللهِ مَا هَذه الرَّنَّه فَقالَ هَذا الشَيطانُ قَد أَيِسَ مِن عِباَدِته اِنَّكَ تَسمَعُ مَا أَسمَعُ و تَريَ مَا أرَي إلَّا أنكَ لَستَ بِنبيٍ وَلَكنَّكَ لوَزيرٌ وإنكَ لَعَلي خَيرٍ) .

(شرح النهج لأبن أبي الحديد مج 3 ص 250 ط الأولي بمصر).

ضبط الألفاظ اللغوية:

هذه الخطبة خطب بها صلوات الله عليه بعد انقضاء أمر النهروان، والعرف بالفتح الريح الطيبة. ومضغ الشيء يمضغه بفتح الضاد، والخطلة في الفعل الخطأ فيه وإيقاعه علي غير وجهه، وحراء اسم جبل بمكة معروف، والرئة الصوت.

ص: 225

والقرابة القريبة بينه وبين رسول الله صلي الله عليه وآله دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره، ثم حامي عنه ونصره عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم، ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلي النسل الأطهر دون غيره من الأصهار.

الشرح:

علي وليد الكعبة :

قال العلامة الحلي رضي الله عنه في كشف الحق: ولد علي صلوات الله عليه يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة في الكعبة، ولم يولد فيها أحد سواه لا قبله ولا بعده، وكان عمر النبي صلي الله عليه وآله و يوم ذلك ثلاثين سنة، وكان صلي الله عليه وآله يو جره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله علي صدره ويقول: هذا أخي ووليي وناصري وصفي وذخري و كهفي وصهري ووصي وزوج كريمتي وأميني علي وصيتي وخليفتي، وكان يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها.(1)

يحدثنا الكليني أعلا الله مقامه في كتابه (أصول الكافي) في باب مولد علي صلوات الله عليه عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لما ولد رسول الله صلي الله عليه وآله فتح لأمته بياض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلي أبي طالب عليه السلام ضاحكة مستبشرة فأعلمته ما قالت آمنة، فقال أبو طالب: و تتعجبين من هذا، إنك لتحبلين وتلدين وصيه ووزيره، ثم قال لها: اصبري سبتاً أبشرك بمثله إلآ النبوة، قال: السبت ثلاثون سنة، وكان بين مولد رسول الله صلي الله عليه وآله و مولد أمير المؤمنين ثلاثون سنة.(2)

ص: 226


1- كشف الحق للعلامة الحلي: 109 (ط: بغداد).
2- الكافي للكليني 1: 452، باب (مولد أمير المؤمنين عليه السلام ح 3)

وفي كتاب (روضة الواعظين) قال جابر بن عبد الله الأنصاري: سألت رسول الله صلي الله عليه وآله عن ميلاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال صلي الله عليه وآله : آه آه لقد سألتني عن خير مولود ولد بعدي علي سنة المسيح عليه السلام ، إن الله خلقني وعلياً من نور واحد قبل أن خلق الخلق بخمسمائة ألف عام، فكنا نسيح الله تعالي و نقدسه، فلما خلق الله آدم عليه السلام قذفنا في صلبه، فاستقررت أنا في جنبه الأيمن وعلي في الأيسر، ثم نقلنا من صلبه في الأصلاب الطاهرة إلي الأرحام الطيبة، فلم نزل كذلك حتي أطلعني الله تعالي من طهر طاهر - وهو عبد الله بن عبد المطلب - فاستودعني خير رحم وهي آمنة، ثم أطلع الله تعالي علياً من طهر طاهر - وهو أبو طالب عليه السلام - واستودعه خير رحم وهي فاطمة بنت أسد، ثم قال صلي الله عليه وآله: يا جابر ومن قبل أن يقع علي في بطن أمه كان في زمانه رجل عابد راهب يقال له المثرم بن دعيب، وكان مذكوراً في العبادة، وقد عبد الله تعالي مائة وتسعين سنة ولم يسأله حاجة، فسأل ربه يوماً أن يريه وليا له، فبعث الله تعالي بأبي طالب إليه، فلما أن بصر به المثرم قام إليه وقبل رأسه وجلس بين يديه فقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: رجل من تهامة، فقال: من أي تهامة؟ قال: من مكة. قال: ممن؟قال: من عبد مناف، قال: من أي عبد مناف؟ قال: من بني هاشم، فوثب إليه الراهب فقبل رأسه ثانياً وقال: الحمد الله الذي أعطاني مسألتي ولم يمتني حتي أراني وليه، ثم قال: أبشر يا هذا فإن العلي الأعلي قد ألهمني إلهاماً فيه بشارتك، قال أبو طالب عليه السلام: وما هو؟ قال: ولد يخرج من صلبك هو ولي الله تعالي، وهو إمام المتقين ووصي رسول رب العالمين، فإن أدركت ذلك الولد فاقرأه مني السلام وقل له: إن المثرم يقرأ عليك السلام وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأنك وصيه حقاً، بمحمد صلي الله عليه وآله يتم النبوة وبك يتم الوصية، فبكي أبو طالب وقال: ما اسم هذا المولود؟ قال: اسمه علي، فقال أبو طالب: إني لا أعلم حقيقة ما تقول إلا ببرهان بين ودلالة واضحة، قال المثرم: فما تريد أن أسأل الله تعالي لك أن يعطيك في مكانك هذا ما يكون دلالة لك؟ قال أبو طالب: أريد طعاماً من الجنة في وقتي هذا

ص: 227

فدعا المثرم ربه بذلك فما استتم دعاؤه حتي أتي بطبق عليه من فاكهة الجنة رطب وعنب ورمان، فتناول أبو طالب رمانة ونهض فرحاً مسروراً ورجع من ساعته إلي منزله فأكلها، فتحولت ماءاً في صلبه، فجامع فاطمة بنت أسد فحملت بعلي صلوات الله عليه.

وارتجت الأرض وزلزلت بهم أياماً حتي لقيت قريش شدة وفزعوا وقالوا: قوموابآلهتكم إلي ذروة جبل أبي قبيس، فأقبلوا بآلهتهم إلي أبي قبيس، فجعل يرتج ارتجاجأً حتي تدكدت بهم صم الصخور وتناثرت و تساقطت الآلهة علي وجهها، فلما بصروا ذلك قالوا: لا طاقة لنا بما حل بنا، فصعد أبو طالب إليهم وهو غير مكترث بما هم فيه، فقال: أيها الناس إن الله تعالي قد أحدث في هذه الليلة حدثاً وخلق فيها خلقاً إن لم تطيعوه وتقروا بولايته وتشهدوا بإمامته لم يسكن ما بكم ولا يكون لكم بتهامة مسكن، فقالوا: يا أبا طالب إنا نقول بمقالتك، فبكي أبو طالب ورفع الله تعالي يديه وقال: إلهي وسيدي أسألك بالمحمدية المحمودة والعلوية العالية وبالفاطمية البيضاء إلا تفضلت علي تهامة بالرأفة والرحمة، قالوا: فوالذي فلق الحبة وبرء النسمة لقد كانت العرب تكتب هذه الكلمات فتدعو بها عند شدائدها في الجاهلية وهي لا تعلمها ولا تعرف حقيقتها، فلما كانت الليلة التي ولد بها أمير المؤمنين صلوات الله عليه أشرقت السماء بضيائها وتضاعف نور نجومها، وأبصرت من ذلك قريش عجباً، فهاج بعضهم في بعض قالوا: في السماء حادثة، وخرج أبو طالب يتخلل سكك مكة وأسواقها ويقول: أيها الناس تمت حجة الله، وأقبل الناس يسألونه عن علة ما يرونه من إشراق السماء وتضاعف نور النجوم، فقال: أبشروا فقد ظهر في هذه الليلة ولي من أولياء الله تعالي يكمل الله فيه خصال الخير ويختم به الوصيين وهو إمام المتقين، وناصر الدين، وقامع المشركين، وغيظ المنافقين، وزين العابدين، ووصي رسول رب العالمين، ولم يزل يكرر هذه الكلمات والألفاظ إلي أن أصبح (1)

ص: 228


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 77

وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول: إن فاطمة بنت أسد ضربها الطلق وهي تطوف بالبيت فدخلت الكعبة فولدت علياً صلوات الله عليه. (1)

وذكر شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه في أماليه: إن العباس بن عبد المطلب و يزيد بن قعنب كانا جالسين مابين فريق بني هاشم إلي فريق عبد العزي بأزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم - أم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وكانت حاملة بأمير المؤمنين لتسعة أشهر، وكان تمام اليوم، فوقفت بأزاء البيت الحرام وقد أخذها الطلق فرمت بطرفها نحو السماء وقالت: أي رب إني مؤمنة بك وبما جاء به من عندك الرسول وبكل نبي من أنبيائك وبكل كتاب أنزلت، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بني البيت العتيق، فأسألك بحق هذا البيت ومن بناه، وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني ويؤنسني بحديثه، وأنا مؤمنة أنه إحدي آياتك ودلائلك لما يترت علي ولادتي.

قال العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب: لما تكلمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء رأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت من أبصارنا، ثم عادت الفتحة والتزقت بإذن الله تعالي، فرمنا أن نفتح الباب لتصل إليها بعض نسائنا فلم ينفتح الباب، فعلمنا أن ذلك أمر من الله تعالي، وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام وأهل مكة يتحدثون بذلك في أفواه السكك وتتحدث المخدرات في خدورهن. قال: فلما كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه، فخرجت فاطمة وعلي صلوات الله عليه علي يديها، وهي تقول: معاشر الناس إن الله عزوجل اختارني من خلقه وفضلني علي المختارات ممن مضي منكن قبلي.

ص: 229


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 100

وقد اختار الله آسية بنت مزاحم فإنها عبدت الله سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطراراً، ومريم بنت عمران حيث هانت ويسرت عليها ولادة عيسي فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتي تساقط عليها رطبا جنياً، وإن الله اختارني وفضلني عليها وعلي كل من مضي قبلي من نساء العالمين، لأني ولدت في بيته العتيق وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما أردت أن أخرج وولدي علي يدي هتف بي هاتف وقال: يا فاطمة سميه علياً، فأنا العلي الأعلي، وإني خلقته من قدرتي وعزتي وجلالي، واشتققت اسمه من اسمي وأدبه بأدبي، وفوضت إليه أمري، وأوقفته علي غامض علمي، وولد في بيتي، وهو أول من يؤذن فوق بيتي، ويكسر الأصنام ويرميها علي وجهها، ويعظمني ويهلني، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من خلقي محمد رسولي، ووصيه، فطوبي لمن أحبه ونصره، والويل لمن عصاه وخذله وجحد حقه.

فلما رآه أبو طالب سره: قال علي صلوات الله عليه: السلام عليك يا أبه ورحمة الله وبركاته، قال: ثم دخل رسول الله صلي الله عليه وآله اهتز له أمير المؤمنين وضحك في وجهه وقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (قَد افلَحَ المُؤمنونَ الَّذينَ هُم فِي صَلاتِهِم خاشِعونَ) إلي آخر الآيات، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله : قد أفلحوا بك، وقرأ تمام الآيات إلي قوله:(أولئِكَ هُم الوارِثونَ الَّذينَ يَرَثونَ الفِردَوسَ هُم فِيها خالِدونَ) فقال رسول الله: أنت - والله _ أميرهم، تميرهم من علومك فيمتارون، وأنت - والله - دليلهم وبك يهتدون، ثم قال صلي الله عليه وآله لفاطمة: إذهبي إلي عمه حمزة فبشريه به، قالت: فإذا خرجت أنا فمن يرويه؟ قال صلي الله عليه وآله: أنا أرويه، قالت فاطمة: أنت ترويه؟ قال: نعم، فوضع رسول الله لسانه في فيه فانفجرت منه اثنتا عشر عيناً. (1)

ص: 230


1- أمالي الطوسي: 707/ ح 1511

قصيدة العمري في مدح علي عليه السلام :

يقول عبد الباقي العمري في مدح أمير المؤمنين صلوات الله عليه:

أنت العلي الذي فوق العلا رفعا*** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

وأنت ذاك البطين الممتلي حكماً*** معشارها فلك الأفلاك ما وسعا

وأنت يعسوب نحل المؤمنين إلي*** أي الجهات انتحي يلقاهم تبعا

وأنت نقطة باءٍ مع توحدها*** بها جميع الذي في الذكر قد جمعا

وأنت عين يقين لم يزده به*** كشف الغطاء يقيناً أنه انقشعا

لله در فتي الفتيان منك فتيً*** ضرع الفواطم في مهد الهدي رضعا

لقد ترعرعت في حجر عليه لذي***حجر براهين تعظيم بها قطعا

ربيب طاها حبيب الله أنت ومن ***كان المربي له طاها فقد برعا

رعاه مولاه من راع لأمته*** بهذه وأبيك الحق فيك رعي

قال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي المفر في شرح قول العمري:

أنت العلي الذي فوق العلا رفعا *** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

ما لفظه: وفي كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة... إلي قوله: ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه، وأحري بإمام الأئمة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين. (1)

وأيد قوله العلامة الشريف السيد حيدر الحسيني العبدلي الآملي أنه قال:ولد صلوات الله عليه في الكعبة بالحرم الشريف، فكان شرف مكة وأصل بكة، لامتيازه

ص: 231


1- راجع الغدير للأميني، ج 6، 22

بولادته في ذلك المقام المنيف، فلم يسبقه أحد ولا يلحقه أحد بهذه الكرامة، ولا بلغ أحد ما بلغ من السيادة والنباهة عامة، وهو بالأصالة صاحب الإمامة الإبراهيمية.(1)

وبمقربة من هذا القول ما قاله العلامة البارع السيد محمد الهادي الموسوي في كتاب أصول العقائد: كان مولده صلوات الله عليه في جوف الكعبة، ولم يشرف الموليسبحانه أحدا من الأنبياء والأوصياء بهذا الشرف، فهو مخصوص به صلوات الله عليه.

وقول الوزير الإربلي في (كشف الغمة): ولم يولد في البيت أحد سواه لا قبله ولا بعده، وهي فضيلة خصه الله بها إجلالاً له، وإعلاء لرتبته، وإظهاراً لتكرمته.(2)

وقول الحافظ الثقة رشيد الدين محمد بن علي السروي قال: فالولد الطاهر من الطاهر ولد في الموضع الطاهر، فأني توجد هذه الكرامة لغيره، فأشرف البقاع الحرم، وأشرف الحرم المسجد، وأشرف بقاع المسجد الكعبة، ولو يولد فيها مولود سواه، فالمولود فيها يكون غاية الشرف.(3)

كلمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

وهناك محاضرة لسماحة الحجة المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (تغمده الله برحمته) ألقاها ببغداد عاصمة العراق في مسجد براثا بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال (قدس الله روحه):

إنما المناسب في هذا المقام هو التعرض لولادته صلوات الله عليه في هذه الليلة المباركة، وإنما نتعرض لشأن واحد من شؤون ولادته صلوات الله عليه وهو ولادته في الكعبة علي أشهر الروايات، ولعل غيرها من مدسوسات

ص: 232


1- الكشكول في ما جري علي آل الرسول: 189
2- كشف الغمة للأربلي، ج 8:1
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، ج 2: 23

النواصب الذين يريدون أن يستروا ضوء الشمس بأكفهم، وولادته صلوات الله عليه في الكعبة طفحت بها الكتب ونظمها الشعراء حديثاً وقديماً، وآخرهم عبد الباقي الشهير في مستهل قصيدة له:

أنت العلي الذي فوق العلا رفعا*** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

وهي منقبة لم يشاركه فيها أحد في الإسلام. وقد ذكروا أن مريم لما جاءها المخاض بعيسي عليه السلام أوت إلي بيت المقدس لتضعه فيه، فنوديت: اخرجي يا مريم فهذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وفاطمة بنت أسد لما أحست بالطلق - وهي في الكعبة _ انسدت أبوابها ولم تقدر علي الخروج حتي وضعت علياً صلوات الله عليه.

ولعل في هذه الحادثة الظريفة أسراراً ورموزاً أجلها وأجلاها:

إن الله سبحانه كأنه يقول: أيتها الكعبة إني سأطهرك من رجس الأوثان وعبادة الأصنام والأنصاب والأزلام بهذا المولود فيك، وهكذا فإن النبي صلي الله عليه وآله دخلها عالم الفتح والأصنام منضودة ومعلقة علي جدرانها، ولكل قبيلة من قبائل العرب صنم، فأصعد علياً صلوات الله عليه علي منكبيه وصار يحطمها ويرمي بها إلي الأرض، والنبي صلي الله عليه وآله يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، وقد نظم الشافعي هذه الفضيلة بأبيات مشهورة تنسب له يقول في آخرها:

وعلي واضع أقدامه ***في محل وضع الله يده (1)

فإن النبي صلي الله عليه وآله كان يحدث عن المعراج قائلاً: إن الله عز شأنه وضع يده علي كتفي حتي وجدت بردها بين ثديي. (2)

ص: 233


1- شرح إحقاق الحق للمرعشي النجفي 8: 681 ( الهامش).
2- فتح القدير للشوكاني 4: 444، المعجم الكبير للطبراني، 20: 109، ولا يخفي أن وضع الله سبحانه و تعالي بده علي كتف النبي صلي الله عليه وآله من باب التجليات الأسمائية لله عزوجل بطريق اللمس، لأن الله سبحانه ليس جسمة وليس كمثله شيء. انظر للتفصيل: شرح الأسماء الحسني للمولي هادي السبزواري 2: 53

وفي ولادته صلوات الله عليه رمز آخر لعله أدق وأعمق: وهو أن حقيقة التوجه إلي الكعبة التوجه إلي ذلك النور المتولد فيها، ولو أن القصد مقصور علي محض التوجه إلي البنية وتلك الأحجار لكان أيضاً نوع من عبادة الأصنام (معاذ الله)، ولكن التناسب يقضي بأن البدن - وهو تراب - يتوجه إلي الكعبة التي هي تراب، والروح التي هي جوهر مجرد - تتوجه إلي النور المجرد، و كل جنس لاحق بجنسه، النور للنور، والتراب للتراب، وإلي بعض هذا أشار بعض شعراء الفاطميين إذ يقول:

بشر في العين إلا أنه ***من طريق العقل نور وهدي

جل أن تدر كه أبصارنا ***وتعالي أن تراه جسدا

فهو في التسبيح زلفي راكع*** سمع الله به من حمدا

تدرك الأفكار منه جوهراً*** كاد من إجلاله أن يعبدا

فهو الكعبة والوجه الذي ***وحد الله به من وحدا(1)

وهذا الطراز من الشعر وإن كان فيه شيء من الغلو ففيه كثير من الحقيقة، وفيه لمعات من التوحيد.

نعم نتوجه بأبداننا في صلاتنا إلي الكعبة وبأرواحنا إلي النور، إلي النور الذي أشرق وأضاء فيها، نتوجه إليه فنجعله الوسيلة إلي الله تعالي كما قال عز شأنه: (اَتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إلَيهِ الوَسيلَةَ)،(2) نتوجه إليه كي يوجهنا إلي الخير والسداد، فالتوجه مناإليه والتوجيه منه لناه.

ولادة علي عليه السلام في الكعبة في الشعر الإسلامي:

يقول العلامة الورع الشيخ حسين نجف المتوفي سنة 1252 من قصيدة علوية:

ص: 234


1- هذه الأبيات من شعر الأخفش في مدح الخليفة الفاطمي
2- المائدة: 35

جعل الله بيته لعلي***مولداً يا له علي لا يضاهي

لم يشاركه في الولادة فيه***سيد الرسل لا ولا أنبياها

علم الله شوقها لعلي***علمه بالذي به من هواها

إذ تمنت لقاءه وتمني ***فأراها حبيبه وأراها

ما ادعي مدع لذلك كلا***من تري في الوري يروم ادعاها

فاكتست مكة بذاك افتخاراً***وكذا المشعران بعد مناها

بل به الأرض قد علت إذ حوته*** فغدت أرضها مطاف سماها

أو ما تنظر الكواكب ليلاً***ونهاراً تطوف حول حماها

وإلي الحشر في الطواف عليه *** وبذاك الطواف دام بقاها (1)

للمولي محمد مسيح المعروف (بمسيحا الشيرازي) المتوفي سنة 1127 في قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين.

ما كان رباً ولكن ليس من بشر*** وليس يشغله شأن عن الشأن

هو الذي كان بيت الله مولده ***فطهر البيت من أرجاس أوثان

هو الذي من رسول الله كان له*** مقام هارون من موسي بن عمران

هو الذي صار عرش الرب ذا شنف*** إذ صار قرطيه إيناه الكريمان(2)

وقال صاحب الفضيلة والأدب ميرزا محمد تقي التبريزي الشهير بحجة الإسلام، المتوفي في سنة 312 من لامية علوية:

سير حنانيك في البلاد وباحث ***عن بطون الكرام جيلاً فجيلا

فانظرن هل تري لتيم بن مر*** أو عدي يا سعد فيها محلاً

ص: 235


1- الغدير للأميني 6: 29
2- الغدير للأميني 11: 368

لا ومن شق جانب البيت حتي***دخلت فيه أمه وهي حبلي

فتخلت عن أسجح هاشمي ***بوركت حاملاً وبوركت حملا

وسما غارب النبي فنځي *** عنه أصنامهم وحسبك نبلا

يتحدث إلينا المجلسي - أعلا الله مقامه في البحار عن محمد بن العباس مرفوعاً إلي محمد بن زياد، قال: سأل ابن مهران عبد الله بن العباس عن تفسير قوله تعالي:(وإنَّا لنَحنُ الصَّافُونَّ وإنَّا لَنَحنُ المُسَبحُونَ) (1) فقال ابن عباس: إنا كنا عند رسول الله صلي الله عليه وآله فأقبل علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فلما رآه النبي تبسم في وجهه وقال: مرحباً بمن خلقه الله تعالي قبل آدم عليه السلام بأربعين ألف عام. فقلت: يا رسول الله أكان الابن قبل الأب؟ قال صلي الله عليه وآله : نعم، إن الله تعالي خلقني وخلق علياً قبل أن يخلق آدم بهذه المدة، خلق نوراً فقسمه نصفين، فخلقني من نصفه و خلق علياً من النصف الآخر قبل الأشياء كلها، ثم خلق الأشياء فكانت مظلمة، فنورها من نوري ونور علي، ثم جعلنا عن يمين العرش، ثم خلق الملائكة، فسبحنا وسبحت الملائكة، وهلنا فهالت الملائكة، و كبرنا فكبرت الملائكة، فكان ذلك من تعليمي و تعليم علي، وكان ذلك في علم الله السابق أن لا يدخل النار محب لي ولعلي، ولا يدخل الجنة مبغض لي ولعلي، ألا وإن الله تعالي خلق الملائكة بأيديهم أباريق اللجين مملؤة من ماء الحياة من الفردوس، فما أحد من شيعة علي إلاوهو طاهر الوالدين تقي نقي مؤمن بالله تعالي، فإذا أراد أبو أحدهم أن يوافع أهله جاء ملك من الملائكة الذين بأيديهم أباريق ماء الجنة فيطرح من ذلك الماء في آنيته التي يشرب منها، فيشرب من ذلك الماء فينبت الماء في قلبه كما ينبت

ص: 236


1- الصافات: 166 و 167

الزرع، فهم علي بينة من ربهم ومن نبيهم ومن وصيه علي ومن ابنتي الزهراء ثم الحسن ثم الحسين عليه السلام ثم الأثمة من ولد الحسين. فقلت: يا رسول الله من الأئمة؟ قال صلي الله عليه وآله : أحد عشر مني، وأبوهم علي بن أبي طالب ثم قال صلي الله عليه وآله : الحمد لله الذي جعل محبة علي والإيمان به سببين. (1)

يقول العمري في مدح أمير المؤمنين صلوات الله عليه مخمساً لهمزية التميمي:

كنت في جيب الغيب معني يصان*** حين لا أعصر ولا أحيان

أيقل الأسرار منك مكان*** ولقد كنت والسماء دخان

و ما بها فرقد ولاجوزاء

بك ليل العماء ضاء بلائي ***فاستضاء الوجود من ظلمة الغي

درة كنت والجواهر لا شي ***في دجي بحر قدرة بين بردي

صدف فيه الوجود الضياء

نقطة أفرغت وليس وعاء*** ملئت حكمة ولا إجلاء

تحت باء لها العباء غطاء*** لا الخلا يوم ذاك فيها خلاء

فيسمي ولا الملاء ملاء

طالما للأملاك كنت دليلا*** ولناموسهم هديت سبيلا

يوم نادي رب السما جبرئيلا*** قائلاً: من أنا فروي قليلا

وهو لولاك فاته الاهتداء (2)

علي عليه السلام معلم جبرئيل:

وذكر المجلسي أيضاً في (البحار) أن النبي صلي الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم

ص: 237


1- البحار 24: 89/ ح 4
2- الغدير للأميني 7: 252.

و جبرئيل بين يديه إذ دخل أمير المؤمنين صلوات الله عليه فلما نظر اليه جبرئيل عليه السلام تصاغر بين يديه، فقال له النبي صلي الله عليه وآله: ما سبب ذلك؟ قال: لأن العلي علي حق التعليم، قال: كيف هو؟ قال: اعلم يا رسول الله لما خلقني الله تعالي سألني: من أنا ومن أنت؟ تحيرت في الجواب، قلت: أنا أنا وأنت أنت، فأعاد القول علي الجليل جل وعلا، أيضاً لم أعلم ما أقول، فلاح شخص هذا - يعني أمير المؤمنين - فقال: قل الجواب أنت ربي الجليل وأنا عبدك الذليل جبرئيل، فلما أجبت ربي بهذا قربني، وذلك من تعليم علي صلوات الله عليه وأنا من ذلك أعظمه، قال له النبي صلي الله عليه وآله: كم مضي من عمرك؟ قال: لا أعلم، سوي أني أعلم في السماء السابعة تخرج نجمة في كل ثلاثين ألف سنة مرة واحدة وأنا رأيتها ثلاثين ألف مرة، قال: فقال النبي صلي الله عليه وآله : يا علي أدن مني، فدني منه فرفع عمامة أمير المؤمنين وحك جبهته بجبهته فلاحت نجمة منيرة بجبين أمير المؤمنين صلوات الله عليه فخر جبرئيل ساجداً وهو يقول: سبوح قدوس هي هي والله تلك النجمة.

وهذه النجمة المنيرة خمد ضوءها وأظلم سناؤها عندما ضرب علي علي أم رأسه بالسيف حتي وصل السيف إلي موضع سجوده، فسالت دماؤه علي كريمته المباركة، فسقط في محرابه وهو يقول: فزت ورب الكعبة.

ص: 238

من كتاب له عليه السلام إلي معاوية ابن أبي سفيان:

ايحذره فيه من سيئات عمله

(وَكَيفَ أنتَ صَانعٌ إذاَ تَكَشَّفَت عَنكَ جَلاَبِيبُ مَا أنتَ فيه مِن دُنيَا قَد تَبَهَجَت بِزينَتَها وخَدَعَت بِلِذَتِهَا دَعَتكَ فَأجَتَهَا وَقَادَتكَ فَاتَّبَعتَها و امرَتكَ فَأَطَعتَهَا وإنَّه يُوشِكُ أَن يَقفِكَ وَاقفٌ عَلي مَا لاَ يُنجِيكَ مِنهُ مجَنٌّ فاقعَس عَن هَذا الأمرِ وخُذ اُهبَةَ الحِسابي وشَمَر لَمَا قَد نَزَلَ بِكَ وَلاَ تُمَكِنِ الغُوَاةَ مِن سَمعِكَ وَالا تَفعَل أُعلِمكَ مَا أغفَلتَ مِن نَفسِكَ فَانَّكَ مُترَفٌ قَد أَخَذَ الشَّيطانُ مِنكَ مَأخَذَهُ وبَلَغِ فيكَ اَمَلهُ وَجَري مِنكَ مَجرَي الرُّوحِ والدَّمِ ومَتَي كُنتُم يا مُعاوَيةُ سَاسَةَ الرَّعيَّةِ وَوُلاةَ أَمرِ الامَّةِ بِغَيرِ قَدَمٍ سَابِقٍ ولاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ ونَعُوذُ بِاللهِ مِن لزُومِ سَوابِقِ الشَّقَاء وَأُحَذِرُكَ أَن تَكونَ مُتَمادِياً فِي غَرَةِ الأمنِيةِ مُختَلِفَ العَلانِيَةِ وَالَّسرِيرَةِ ).

(شرح ابن ابي الحديد مج 3 ص 409).

ضبط الألفاظ اللغوية:

الجلابيب) جمع جلباب وهي الملحفة في الأصل، واستعير لغيرها من الثياب. قوله: وتبهجت بزينتها: صارت ذات بهجة أي زينة وحسن. ويقفك واقف يعني الموت. قوله: (فاقعس) عن هذا الأمر أي تأخر. وأهبة الحساب عدته، (وتأهب) استعد وشمر لما قد نزل بك، أي جد واجتهد وخف. (والغواة جمع غوي وهو الضال. قوله: وإلا تفعله يقول: وإن كنت لا تفعل ماقد أمرتك ووعظتك به فإني أعرفك من نفسك ما أغفلت معرفته: إنك مترف - والمترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته. قد أخذ الشيطان منك

ص: 239

مأخذه أي تناول الشيطان منك لبك وعقلك. قوله: وجري منك مجري الروح والدم، هذه كلمة رسول الله صلي الله عليه وآله إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم. (1)

الشرح: علي ومعاوية

لم تنفع عظات علي صلوات الله عليه في معاوية ولم تؤثر فيه ولم تأخذ مفعولها من نفسه، وكيف يتعظ من اتخذ إلهه هواه (أَفَرَأيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَههُ هَواهُ) (2) كيف يرعوي من طبع الشيطان علي قلبه فأنساه ذكر الله(وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَنِ نُقَيِض لَهُ شَيطاناً فَهُوَ لَه قَرِينٌ) (3) فهو مختلف السريرة والعلانية، يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي عن عمرو بن هند، عن أبيه، أن علياً صلوات الله عليه لما نظر إلي أصحاب معاوية وأهل الشام قال: والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا عليه أعواناً رجعوا إلي عداوتهم لنا، إلا أنهم لم يتركوا الصلاة. (4)

وعن حبيب بن ثابت قال: لما كان قتال صفين قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان ألم يقل رسول الله صلي الله عليه وآله: قاتلوا الناس حتي يسلموا، فإذا أسلموا عصموا دماءهم وأموالهم؟ قال: بلي ولكن - والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتي وجدوا عليه أعواناً.(5)

ص: 240


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 15: 81
2- الفرقان: 43
3- الزخرف: 36
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد4 : 31
5- المصدر السابق.

قال ابن أبي الحديد في ج 2، 97 من شرح النهج عن الحكم بن عمير الثمالي - كانت أمه بنت أبي سفيان _ قال رسول الله صلي الله عليه وآله لمعاوية: كيف بك إذا وليت؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال رسول الله: أنت الحطم ومفتاح الظلم حصباً وحقباً، تتخذ الحسن قبيحاً، والسيئة حسنة، يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، أجلك يسير وأمرك عظيم. فكان كما قال صلي الله عليه وآله فهو مفتاح الظلم ورأس الجور.

ولما رجع أمير المؤمنين صلوات الله عليه من حرب البصرة ودخل الكوفة وكان معه أشراف الناس وذلك لاثنتي عشر ليلة خلت من رجب، فاستقبله أهل الكوفة وفيهم قرآنهم وأشرافهم، فدعوا له بالبركة وقالوا: يا أمير المؤمنين أتنزل القصر؟ قال: لا ولكني أنزل الرحبة، فنزلها حتي دخل المسجد الأعظم فصلي فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثني عليه وصلي علي رسوله، ثم قال: أما بعد يا أهل الكوفة، فإن لكم في الإسلام فضلاً مالم تبدلوا وتغيروا، ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوي وطول الأمل، أما اتباع الهوي فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب، ولا عمل، الحمد لله الذي نصر وليه، وخذل عدوه، وأعز الصادق المحق، وأذل الناكث المبطل، فقام جماعة ممن تخلف عن وقعة الجمل منهم سليمان بن صرد الخزاعي واعتذروا عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقبل عذرهم، ونزل بالكوفة علي جعدة بن هبيرة المخزومي - وجعدة ابن أخت أم هاني بنت أبي طالب كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فأولدها جعدة وكان شريفاً - وبعد أن نزل صلوات الله عليه علي باب المسجد فدخل وصلي و تحول فجلس إليه الناس، ولما لحقه ثقله قالوا له: انزل القصر، قال: قصر الخبال لا تنزلوا فيه، واتخذ الكوفة دار خلافته.

قال الشني في ذلك:

ص: 241

@

قل لهذا الإمام: قد خبت الحرب***وتمت بذلك النعماء

وفرغنا من حرب من نقض العهد ***وبالشام حية رقطاء

تنفث السم ما لمن نهشته*** فارمها قبل أن تعض شفاء

إنه والذي يحج له الناس***ومن دون بيته البيداء

الضعيف النخاع إن رمي اليوم***بخيل كأنها أشلاء

إن تذره فما معاوية الدهر ***بعطيك ما أراك تشاء

ولنيل السماء أقرب من ذاك***ونجم العيون والعواء

فاغه بالجد والحديد إليهم *** ليس والله غير ذاك دواء(1)

الوفود علي معاوية:

ووفد علي معاوية ممن خالف أمير المؤمنين صلوات الله عليه جماعة كمروان بن الحكم والوليد بن عقبة وعبيد الله بن عمر، أما الوليد فلحق بالمدينة وجعل يكاتب معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان ويحرضه وينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة، ويرسل إليه بقوله:

ألا أبلغ معاوية بن حرب*** فإنك من أخي ثقة مليم

قطعت الدهر كالدم المعتي*** تهدر في دمشق ولا تريم

فإنك والكتاب إلي علي***كدابغة وقد حلم الأديم

لك الويلات أقحمها عليهم*** فخير الطالب الترة الغشوم

فكتب معاوية إليه الجواب بيتاً من شعر أوس بن حجر:

ومستعجب مما يري من أناتنا*** ولو زينته الحرب لم يترمرم (2)

وقدم بعد ذلك علي معاوية وشهد معه صفين.

ص: 242


1- شرح نهج البلاغة 3: 108، ط مكتبة المرعشي النجفي - قم
2- شرح نهج البلاغة 3: 95

عبيد الله بن عمر:

وأما عبيد الله عمر لما ألزمه أمير المؤمنين صلوات الله عليه قتل الهرمزان وعرف أنه يقيده به توجه إلي معاوية، فقال معاوية لعمرو بن العاص إن الناس قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر، فقد رأيت أن أقيمه خطيباً يشهد علي علي بقتل عثمان وينال منه.

فقال: الرأي ما رأيت، فبعث إليه فأتاه، فقال له: يا بن أخي إن لك اسم أبيك، فانظربملء عينيك وانطق بملء فيك فأنت المأمون المصدق، فاصعد المنبر واشتم علياً واشهد عليه أنه قتل عثمان. فقال: أيها الأمير أما شتمه فإن أباه أبو طالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فما عسي أن أقول في حسبه، وأما بأسه فهو الشجاع المطرق وقد عرفت أيامه، ولكتي ملزمه دم عثمان، فقال عمر بن العاص: قد وأبيك - إذن نكات القرحة، فلما خرج عبيد الله قال معاوية: أما والله لولا قتله الهرمزان ومخافته علياً علي نفسه ما أتانا أبدا، ألا تري تقريظه علية، فقال عمرو: يا معاوية لم تغلب فاخلب، قال: فخرج حديثهما إلي عبيد الله فقام خطيبة وتكلم بحاجته فلما انتهي إلي علي صلوات الله عليه أمسك ولم يقل شيئا، فلما نزل بعث إليه معاوية يقول: يا بن أخي إنك بين عي وخيانة، فبعث إليه: إني كرهت أن أقطع الشهادة علي رجل لم يقتل عثمان، وعرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها، فهجره معاوية واستخف به وفسقه، فقال عبيد الله:

معاوي لم أحرص بخطبة خاطب*** ولم أك عياً في لؤي بن غالب

ولكنني زاولت نفساً أبية*** علي قذف شيخ بالعراقين غائب

وقذفي علياً بابن عفان جهرة *** كذاب وما طبعي سجايا المكاذب

ولكنه قد حزب القوم جهله ***ودبوا حواليه دبيب العقارب

فما قال أحسنتم ولا قد أسأتم ***وأطرق إطراق الشجاع المواثب

فأما ابن عفان فأشهد أنه*** أصيب بريئاً لابساً ثوب تائب

وقد كان فيها للزبير عجاجة*** وطلحة فيها جاهد غير لاعب

وقد أظهرا من بعد ذلك توبة*** فيا ليت شعري ما هما في العواقب

ص: 243

فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه . (1)

وأرسل أمير المؤمنين صلوات الله عليه جرير بن عبد الله إلي معاوية يدعوه إلي البيعة وإلا ينازله الحرب، فأبي معاوية أن يبايع وعزم علي الحرب.

ولما عزم أمير المؤمنين صلوات الله عليه علي المسير إلي الشام دعا رجلاً فأمره أن يتجهز ويسير إلي دمشق، فإذا دخلها أناخ راحلته بباب المسجد وأن لا يلقي من ثياب سفره شيئاً، فإن الناس إذا رأوه وعليه آثار الغبرة يسألونه، فإذا سألوه فليقل لهم: تركت علياً قد نهد إليكم بأهل العراق، فانظر ما يكون من أمرهم، ففعل الرجل ذلك فاجتمع الناس عليه وسألوه فقال لهم ذلك، فكثروا عليه يسألونه، فأرسل إليه معاوية أبا الأعور السلمي يسأله عن ذلك، فأخبره بأن علياً قد نهد إليهم بأهل العراق، فأتي معاوية فأخبره بمقالته، وأن علياً قد نهد إليهم بأهل العراق، فنادي معاوية الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس وقال لهم: إنت علياً قد نهد إليكم في أهل العراق فماذا ترون؟ فضرب الناس بأذقانهم علي صدورهم لا يتكلمون، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: عليك أم رأي وعلينا أم فعال - وهي لغة حمير - فنزل ونادي في الناس بالخروج إلي معسكرهم. وعاد الرجل إلي علي صلوات الله عليه فأخبره بما رآه فنادي صلوات الله عليه الصلاة جامعة، ثم قام فخطب الناس فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان قد بعثه إلي الشام وأخبره أن معاوية قد نهد إلي العراق في أهل الشام فما الرأي؟ فاضطرب أهل المسجد، هذا يقول: الرأي كذا وهذا يقول الرأي كذا وكثر اللغط واللجب، فلم يفهم أمير المؤمنين من كلامهم شيئاً ولم يدر المصيب من المخطئ، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن آكلة الأكباد يعني معاوية. (2)

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة 3: 102
2- شرح نهج البلاغة لابن أبيالحديد 3: 95

في إرسال صعصة بن صوحان إلي معاوية:

قال المسعودي في تاريخه (مروج الذهب): ذهب إلي داره وقال لآذنه: من في الباب من وجوه العرب؟ فذكر له جماعة منهم صعصعة بن صوحان العبدي رضي الله عنه فقال صلوات الله عليه: فأذن لهم، فدخلوا وسلموا عليه بالخلافة، فقال لهم: أنتم وجوه أصحابي عندي ورؤساء القبائل، فأشيروا علي في أمر هذا الغلام المترف يعني معاوية _ فافتت بهم المشورة، فقال صعصعة: إن معاوية أترفه الهوي وحبيت إليه الدنيا فهانت عليه مصارع الرجال وابتاع آخرتهم بدنياه، فإن تعمل فيه برأي ترشد و تصب وبالله التوفيق ورسوله وبك يا أمير المؤمنين، الرأي أن ترسل إليه عيناً من عيونك وثقة من ثقاتك بكتاب تدعوه إلي بيعتك، فإن أجاب وأناب كان له مالك وعليه ما عليك، وإلا جاهدته وصبرت لقضاء الله تعالي حتي يأتيك اليقين.

قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: عزمت عليك يا صعصعة إلا كتبت الكتاب بيدك ورحلت إليه بنفسك، واجعل صدر الكتاب تخويفاً وتحذيراً وعجزه استتابة، وليكن فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن عبديه أمير المؤمنين علي إلي معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك أما بعد واكتب ما أشرت به علي، واجعلعنوان الكتاب ألا إلي الله تصير الأموره.

قال: فخرج بالكتاب و تجهز وسار حتي ورد دمشق الشام فأتي باب معاوية، فقال لآذنه: استأذن لرسول أمير المؤمنين علي، وبالباب أردفة (أي جماعة من بني أمية، فأخذته الأيدي من كل جانب ومكان وهو يقول: سبحان الله أتقتلون رجلاً يقول ربي الله، وكثرت الجلبة واللغط، فاصل ذلك بمعاوية، فوجه بمن يكشف الناس عنه فكشفوا عنه، فأذن لهم بالدخول فدخلوا عليه، فقال: من هذا الرجل؟ قالوا: رجل من العرب يقال له صعصعة بن صوحان معه كتاب من علي بن أبي طالب، فقال: والله لقد بلغني أمره، هذا

ص: 245

أحد سهام علي و خطباء العرب، ولقد كنت إلي لقائه شيقاً، باغلام ائذن له بالدخول، فأذن له بالدخول فدخل عليه وقال: السلام عليك يا بن أبي سفيان، هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.

فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو في إسلام لقتلتك، ثم اعترضه معاوية بالكلام وأراد أن يستخرجه لينظر قريحته أطبعاً أم تكلفاً، قال: من الرجل؟ قال: من نزار. قال: وما كان نزار؟ قال: كان إذا غزي نكس، وإذا ألقي افترس، وإذا انصرف احترس، قال: فمن أي أولاده أنت؟ قال: من جديلة، قال: وما كان جديلة؟ قال: كان في الحرب سيفاً قاطعاً، وفي المكرمات غيثأً نافعاً وفي اللقاء لباً ساطعاً، قال: فمن أي أولاده أنت؟ قال: من عبد القيس. قال: وما كان عبد القيس؟ قال: كان أبيضاً حسيباً وهاباً لضيفه ما يجد، ولا يسائل عما فقد، كثير الموق طيب العرق، يقوم لضيفه مقام الغيث من السماء.

قال: ويحك يابن صوحان فما تركت لهذا الحي من قريش مجداً ولا مكرمة. قال: بلي والله يابن أبي سفيان، تركت لهم ما لا يصلح إلا لهم، تركت لهم الأبيض والأحمر والأصفر والأشقر والسرير والمنبر والملك إلي المحشر، وأني لا يكون كذلك وهم منار الله تعالي في الأرض ونجومه في السماء، ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل علي قريش كلها، فقال: صدقت يابن صوحان، إن ذلك لكذلك. فعرف صعصعة رضي الله عنه ما أراد، فقال: ليس لك ولا لقومك فيه إصدار ولا إيراد، بعدتم عن أنفس المرعي، وعلوتم عن عذب الماء. قال: فلمن ذلك ويلك يا بن صوحان؟ قال: الويل لأهل النار، ذلك لبني هاشم دونك. فالتفت معاوية إلي أصحابه وقال: أخرجوه، فقال صعصعة: الصدق ينبيء عنك لا الوعيد، من أراد المشاجرة قبل المحاورة. فقال معاوية: وددت أني من صلبه، ثم التفت إلي بني أمية وقال: هكذا فلتكن الرجال، ثم قال: يابن صوحان إنك ذو معرفة بالعرب وبحالها، أخبرني عن أهل البصرة

ص: 246

وإياك والتحامل علي قوم لقوم. قال صعصعة: البصرة واسطة العرب، ومنتهي الشرف والسؤدد، وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره، وقد دارت بهم سروات العرب دوران الرحي علي القطب. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. قال: الكوفة قبة الإسلام وذروةالكلام ومصان ذوي الأعلام، إلا أن بها أجلافاً تمنع ذوي الأمر بالطاعة وتخرجهم عن الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة. قال معاوية: فأخبرني عن أهل الحجاز. قال: أسرع الناس إلي فتنة وأضعفهم عنها وأقلهم عناءً فيها، غير أن لهم ثباتاً في الدين وتمسكاً بعروة اليقين، يتبعون الأئمة الأبرار، ويخلعون الفسقة الفجار.

فقال معاوية: من البررة ومن الفجرة؟ فقال صعصعة: ترك الخداع من كشف القناع: علي وأصحابه من البررة، وأنت وأصحابك من الفجرة. فبان الغضب في وجه معاوية، إلا أنه أحب أن يمضي صعصعة بكلامه، قال: أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر، قال: أسد مضر بسلاء بني غيلين، إذا أرسلتها افترست، وإذا تركتها احترست. فقال معاوية: هنالك يا بن صوحان العز الراسي، فهل في قومك مثل هذا؟ فقال صعصعة رضي الله عنه: إن هذا لأهله دونك، ومن أحب عمل قوم محشر معهم. قال: فأخبرني عن ديار ربيعة، ولا يستخفنك الجهل وسابقة الحمية بالتعصب لقومك. فقال: والله ما أنا منهم براض ولكني أقول فيهم وعليهم، هم والله أعلام الليل وأذناب في الدين، والميل لمن تغلب، رأيتها إذا رشحت خوارج الدين برازخ اليقين، من نصروه فلج، ومن خذلوه زلج. ثم أمسك معاوية، فقال له صعصعة: سل وإلا أخبرتك بما عنه تحيد، قال: وما ذاك؟ قال: أهل الشام، قال: أخبرني عنهم، قال: هم أعصي الناس للخالق، وأطوعهم للمخلوق، عصاة الجبار وخلفة الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار .(1)

ص: 247


1- مروج الذهب للمسعودي 3: 51

أجل كانوا مصداقاً لقول صعصعة يوم دخول سبايا آل رسول الله إلي الشام، فإنهم عصوا الخالق وأطاعوا المخلوق، فخرجوا وبأيديهم الطبول والدفوف فرحين مستبشرين بقتل الحسين عليه السلام.

يقول سهل الساعدي: خرجت من شهر زورا أريد بيت المقدس فصادف خروجي أيام قتل الحسين عليه السلام، فدخلت الشام فرأيت الدكاكين مغلقة والأعلام منشورة والرايات مشهورة والناس أفواج قد امتلأت بهم السكك والأسواق، وهم في أحسن زينة فرحين مستبشرين، فقلت لبعضهم: الأهل الشام عيد لا نعرفه؟ (1)

ص: 248


1- مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 2: 60

وفي كتاب له عليه السلام إلي عثمان بن حنيف الأنصاري:

وفيه يعنفه علي قبوله دعوة وليمة ويذكر فيه زهده عليه السلام:

وكان عامله علي البصرة وقد بلغه أنه دعي إلي وليمة قوم من أهلها فمضي إليها: أمَّا بَعدُ يَا ابنَ حُنَيفٍ فَقَد بَلَغَني أَنَّ رَجُلاً مِن فيَة أهلِ البَصرَةِ دَعَاكَ إلي مَأُدُبَة فَأَسرَعتَ إليهَا تُستَطابُ لكَ الأَلوانُ وَنتَقُل إليكَ الجَفَانُ وَمَا ظَنَنتُ أنِكَ تُجيبُ إلي طَعامِ قَومٍ عائلُهُم مجفُوٌ وغَنيُّهُم مَدعُوٌ فَانظُر إلي مَا تَقضَمُهُ مِن هَذا المَقضَمِ فَمَا اشَتَبَه عَليكَ عَلمُهُ فَلفَظَةُ وَما أَيقَنتَ بطَيِبِ وُجوهِه فَنَل مَنه.

الّا وَانَّ لكُلِ مامومٍ يَقتَدي بِه ويَستَضَيءُ بِنُورِ عِلمِهِ الَّا و اِنَّ امَامَكُم قَد اكتَفَي مِن دُنياهُ بِطَمريه ومَن طُعمه بقُرصَيه الا و انَّكُم لا تَقدَروُنَ عليَ ذلكَ ولكِن اعيُوني بِوَرَعٍ واجتَهادٍ وعَفةٍ .سَدادٍ فَوَالله مَا كَنَزتُ مِن دُنياكُم تبراً ولا ادَّخَرتُ مِن غَناثِمِها و فَراً ولا اعددَت لِبالي ثَوبي طَمراً ولا حُزتُ مِن اَرضِها شِبراً ولا اَخَذتُ مِنهُ الا كَقُوت اتَان دَبِرةٍ و لَهي في عيني اَوهي و اوهَنُ مِن عَفصَةٍ مَقَرَةٍ.

(شرح ابن أبي الحديد مج 4 ط 1 ص 76)

ضبط الألفاظ الغريبة:

المأدبة) بضم الدال: الطعام يدعي إليه القوم. وفتية أهل البصرة، جمع فتي أي من شبابها أومن أسخيائها. (والعائل) الفقير. (والجفان) قصاع كبار.والقضم) الأكل بأدني الفم. (والطمر) الثوب البالي الحلق. الطعم - بالضم - الطعام، والوفر المال الكثير، والتبر الذهب.

ص: 249

الشرح:

عثمان بن حنيف بضم الحاء - ابن واهب بن الحكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري الأوسي أحد الأمجاد من الأنصار، أخذ من النبي صلي الله عليه وآله العلم والتربية وبلغ الدرجة العالية فنال مناصب كبري.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: عمل لعمر ثم لعلي صلوات الله عليه وولاه عمر مساحة الأرض وجبايتها بالعراق، وضرب الخراج والجزية علي أهلها، وولاه علي صلوات الله عليه علي البصرة، فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها . (1)

ويظهر من ذلك أنه كان رجلاً بارعاً في علم الاقتصاد والسياسة معاً فاستفاد منه عمر من الناحية الاقتصادية، وفوض إليه أمر الخراج والجزية، وهو من أهم الأمور في هذا العصر، وخصوصا في أرض العراق العامرة.

وكان من خواص علي صلوات الله عليه ومن السابقين الذين رجعوا إليه وأخلصوا له، قال في الرجال الكبير بعد ترجمته: هو من السابقين الذين رجعوا إلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه و كلمة السابقين في وصفه مأخوذ من قوله تعالي في سورةالبرائة آية 100 - (والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ والَّذينَ اتبَعوُهُم بِإحسانِ رَضيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنه وأَعَد لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَها الأنهارُ خالدينَ فيِها أبَداً ذلكَ الفَوزُ العَظيم) و كفي له بذلك مدحاً وإخلاصاً له صلوات الله عليه فإن الآية تخصص السابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين بهذه الفضيلة التي لا فضيلة فوقها، والسبق والتقدم إنما هو بقبول ولاية أمير المؤمنين، فإنها ميزان الإيمان والاخلاص لله ورسوله، ودليل البرائة من النفاق والمطامع الدنيوية.

ومؤاخذته صلوات الله عليه بمجرد إجابة دعوة من بعض فتيان البصرة، وتشديده في توبيخه بهذه الجمل البالغة في الطعن والمذمة دليل آخر علي علو رتبته وسمو درجة إيمانه، وأنه لا ينبغي من مثله إجابة مثل تلك الدعوة والاشتراك في حفلة

ص: 250


1- شرح نهج البلاغة، ج 206:16

ضيافة تقعد لكسب الشهرة او جلب المنفعة او الانهماك في اللذة والغفلة او الاستمتاع بلأغذية اللذيذة، فظاهر الكتاب الموجه إلي عثمان بن حنيف بالعتاب توبيخ عنيف علي ارتكابه خلافاً عظيماً يستحق به هذا التوبيخ الشديد الذي هو آلم من الضرب بالسوط أو الحبس إلي حين الموت، فلا بد من التدبر في أمور:

محطات للتأمل :

الأول: ماهو جوهر هذا الخلاف الذي ارتكبه هذا الوالي الذي فوض إليه إدارة أمور ثغر هام من الثغور الإسلامية في هذا الزمان، فالبصرة أحد الثغور الهامة الإسلامية في تينك العصور تضاهي مركزية الكوفة ومصر والشام، وقد انتخبه صلوات الله عليه واليأً له، وفوض إليه إدارة شؤونه وسياسة نظامه في هذا الموقف الرهيب، فكيف يوبخه ويؤتبه بهذه الجمل القاسية التي ملؤها الوهن والاستضعاف، فهذا الخلاف يحتمل وجوهاً :

1_ أنه مجرد إجابة دعوة الاشتراك في وليمة لذيذة هيئت للتفريج والأنس مع الأحباب والأقران.

2_ أعدت هذه الوليمة علي حسب استمالة الوالي والنفوذ فيه للاستفادة منه في شتي المقاصد المرجوعة إليه، وللاعتماد عليه في تنفيذ الحوائج، كما هو عادة ذوي النفوذ والجاه في كل بلد، فإن شأنهم تسخير عمال الدولة بالتطميع والاحسان للاستمداد منهم في مقاصدهم.

3- أن هذه الوليمة أعدت من عصابة مخالفة لعلي صلوات الله عليه وموالية المعاوية وأعوانه، فهي حفلة مؤامرة ضد علي صلوات الله عليه والهدف منها جلب الوالي إلي الموافقة مع مقاصد سياسية هامة، وصرف عثمان بن حنيف عن موالاته صلوات الله عليه إلي معاوية، كما فعل معاوية مع زياد بن أبيه بعد ذلك، فإنه أحد أعوان علي وأحدولاته المسيسين وله يد في تقوية حكومته، فاستجلبه معاوية

ص: 251

بالمكايد والمواعيد، وأثبته أخاً له لجلبه من موالاة علي صلوات الله عليه إلي معاوية واستفاد منه أكثر استفادة في حكومته.

وما ذكره صلوات الله عليه في كتابه هذا يناسب الوجه الثالث، فإنه موقف خطريحتاج إلي الحذر منه أشد الحذر، فشرع صلوات الله عليه يوبخ عثمان في قبول هذه الدعوة والإسراع إليها وتقبل ما أعدوه له من البذل من إعداد الأطعمة الطبية المختلفة الألوان و تقديم الأقداح الكبيرة في الخوآن.

وأشار صلوات الله عليه إلي أن هذه الوليمة مما لم يقصد بها رضا الله وإكرام والي ولي الله، وإلا فيشترك فيها ذوو الحاجة والفقراء من الجيران وسائر المسلمين، ولم يخصصوا الدعوة بالأغنياء وذوي النفوذ والثروة.

ثم أشار صلوات الله عليه إلي أن الحاضرين حول هذا الخوان من الغافلين المنهمكين في اللذات المادية، فعبر عن الخوان بالمقضم، وهو ما يعد فيه علي الدابة من التبن والشعير، وتعبيره يعم كل خوان ومطعم مهيأ لأمثال هؤلاء المفتونين بأمر الدنيا.

وقوله صلوات الله عليه: فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه يستفاد منه أنه قرر علي عماله احتياطاً في الدين فوق حد العدالة التي كانت شرطاً في التصدي لهذه المناصب الجليلة.

ثم أنه صلوات الله عليه توجه إلي بيان أمر لعماله أو مطلق شيعته، ولخصه في كلمتين:

1_ الاقتداء بالأمام في العمل والسيرة.

2_ الاستضاءة من نور علمه والأخذ بدستوره في كل الأمور، والاقتداء بالإمام عملاً وأخذ دستور العمل منه كلاهما سلوك طريق النجاة، ولكن الثاني أعم، فإنه يشمل الغائب عن محضر الإمام، ويشمل التكاليف الخاصة بالمأموم دون الإمام وهي كثيرة جداً.

ص: 252

ثم لخص صلوات الله عليه سيرته في كلمتين لتكون مدار العمل لعماله وللاقتداء به صلوات الله عليه.

1_ الاكتفاء من رياش الدنيا ولباسها وزينتها بطمرين أي ثوبين باليين: أزار ورداء من غير صوف يلبسه أحوج الناس.

2_ الاكتفاء من طعامها وغذائها ولذائذها بقرصين من خبز الشعير اليابس الفارغ عن الأدام.

وقد مثل صلوات الله عليه في هذه الكلمتين الزهد بأدق مما فيه وأشق ما فيه، بحيث جعله من كراماته وأنه مما لا يقدر علي العمل به غيره، فقال: ألا وإنكم لا تقدرون علي ذلك.

البرنامج التربوي:

ثم نظم برنامجاً تربوياً لعماله ومن يتصدي لإدارة أمور حكومته في أربع مواد

1_الورع: وهو تحصين النفس عن الرذائل والاجتناب عن المحارم والمحرمات، لأن الورع عن المحارم أعظم المنجيات وعمدة ما ينال به إلي السعادات ورفع الدرجات، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: خَيرَ دينكم الورع، (1) وقال صلي الله عليه وآله: من لقي الله سبحانه ورعاً أعطاه الله ثواب الإسلام كله، وفي بعض الكتب السماوية: وأما الورعون فإني أستحي أن أحاسبهم، وقال الإمام الباقر عليه السلام: إن أشد العبادة الورع،(2) وقال الإمام الصادق عليه السلام: أوصيك بتقوي الله والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه. (3) وقال: اتقوا الله

ص: 253


1- مستدرك الوسائل 11: 270/ ح 12973
2- الكافي 2: 77/ ح5
3- الكافي 2: 76/ ح 1

أصحابي من اشتد ورعه وعمل لخالقه ورجا ثوابه، هؤلاء أصحابي.(1) وقال: ألا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا بنه يرحمكم الله، وكيدوا أعداءنا به ينعشكم الله.(2)

وقال الإمام الباقر عليه السلام: أعينونا بالورع، فإن من لقي الله تعالي منكم بالورع كان له عند الله فرجاً، إن الله عزوجل يقول: (ومَن يُطِعَ اللهَ والرَّسولَ فأَوُلئك مَعَ الَّذينَ أنعَمَ اللهُ عَليَهم مِن الَّنبيَينَ والصِّديقينَ والشُّهداء والصالِحينَ وحَسَنُ أولئكَ رَفيقاً فمنّا النبي ومنا الصديق والشهداء والصالحين).(3)

وقال عليه السلام: قال الله عزوجل: يا ابن آدم اجتنب ما حرم عليك تكن من أورع الناس.(4)

وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن الورع من الناس فقال: الذي يتورع عن محارم الله عزوجل (5)

2_ الاجتهاد في تحري الحقيقة، والعمل علي مقتضي الوظيفة وتحمل الكد والأذي في سبيل الحق.

3_العفة: وهي ضبط النفس عما لا يحل ولا ينبغي من المشتهيات وما فيه الرغبات.

والأخبار في مدح العفة وفضيلتها كثيرة، قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أفضل العبادة العفاف.(6) وقال الإمام الباقر عليه السلام: ما من عبادة أفضل من

ص: 254


1- بحار الأنوار 67: 298/ ح6
2- الكافي 2: 78/ ح13
3- الكافي 2: 78/ ح 12
4- الكافي 2: 77/ ح 12
5- الكافي 2: 77/ ح 8
6- الكافي 2: 79/ ح3

عفة بطن وفرج.(1) وقال: ما عبد الله بشئ أفضل من عفة بطن وفرج.(2) وقال: أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج؟(3)

4- السداد: وهو تحكيم المعرفة بالأمور، والأخذ باليقين، وتحكيم العمل والدقة في تقرير شرائطه و كيفياته وعدم التسامح فيه.

وقد بقي في المقام نكتة، وهي أنه ربما يزهد بعض الناس في معاشهم حباً لجمع المال وادخاره، فيعيشون عيش الفقراء ويكنزون الذهب والفضة ويقتنون العقار والدار، فقال صلوات الله عليه:

زهد علي والأنبياء عليه السلام:

فوالله ما كنزت من دنياكم تبرأً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، وهذا أقصي حد في الزهد وغاية ما يتصور من الأعراض عن الدنيا.

وكفي للزهد فضيلة ومدحاً أنه أعرف صفات الأنبياء والأولياء، ولم يبعث نبي إلا به، ولو لم يتوقف التقرب إلي الله والنجاة في دار الآخرة عليه لما ضيق عظماء نوع الإنسان وأعرف الناس بحقيقة الحال علي أنفسهم في فطامها عن شهوات الدنيا ولذاتها.

فانظر إلي كليم الله موسي عليه السلام كيف كان غالب قوته نبت الأرض وأوراق الأشجار، وكان ضعف بدنه من كثرة رياضته، بحيث تري الخضرة من صفاق بطنه كما أخبر به أمير المؤمنين صلوات الله عليه في نهج البلاغة.(4)

ص: 255


1- الكافي 2: 80/ ح 7
2- الكافي 2: 79) ح 1
3- الكافي 2: 79 ح4
4- نهج البلاغة 2: 55/خ 160

ثم انظر إلي روح الله عيسي عليه السلام كيف يلبس الشعر ويأكل الشجر، ولم يكن لهولد يموت ولا بيت يخرب، ولا يدخر لغد، أينما يدركه المساء نام.(1) وقال له الحواريون يومة: يا نبي الله لو أمرتنا أن نبني بيتاً تعبد الله فيه، قال: اذهبوا فابنوا بيتاً علي الماء، فقالوا: كيف يستقيم بنيان علي الماء؟ قال: كيف تستقيم عبادة علي حب الدنيا؟(2)

وروي أنه اشتد به يوماً المطر والرعد والبرق فجعل يطلب بيتاً يلجأً إليه، فرفعت إليه خيمة من بعيد، فأتاها فإذا فيها إمرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي جعلت لكل شيء مأوي ولم تجعل لي مأوي، فأوحي الله إليه: مأواك في مستقر من رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة ألف حوراء خلقتها بيدي، ولأطعمك في عرسك أربعة آلاف عام، يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرة مناديا ينادي: أين الزهاد في الدنيا؟ زوروا عرس الزاهد عيسي ابن مريم.(3)

ثم انظر إلي يحيي بن زكريا حيث يلبس المسوح حتي ثقب جلده تركاً للتنعم بلين اللباس واستراحة حس اللمس، فسألته أمه أن يلبس مكانها جبة من صوف ففعل، فأوحي الله إليه: يا يحيي آثرت علي الدنيا، فبكي ونزع الصوف وعاد إلي ما كان عليه. (4)

ثم افتح بصيرتك و تأمل في سيرة رسول الله صلي الله عليه وآله وزهده في الدنيا، فإنه لبث في النبوة ما لبث ولم يشبع هو وأهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية، ولم يشبعوا عشية إلا جاعوا غدوة، ولم يشبع من التمر هو وأهل بيته حتي فتح الله

ص: 256


1- راجع ما روي في الأخبار للصدوق: 252 باب (معني الزهد) ح5
2- البحار 14: 327 ح 53
3- مصدر السابق
4- فيض القدير للمناوي 2: 368

عليهم خيبر، وقرب إليه يوماً طعاماً علي مائدة فيها ارتفاع فشق ذلك عليه حتي تغير لونه، فأمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام علي الأرض، وكان ينام علي عباءة مثنية فتنوهاله ليلة بأربع طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال: منعتموني قيام الليلة هذه بهذه العباءة، اثنوها بائنتين كما كنتم تثنونها، وكان يضع ثيابه الغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوباً يخرج به إلي الصلاة حتي تجف ثيابه فيخرج بها إلي الصلاة. وروي أن امرأة من بني ظفر صنعت له صلي الله عليه وآله كساءين أزاراً ورداءً وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر، فخرج إلي الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره، قد عقد طرفيه إلي عنقه فصلي كذلك.

وشدة زهد علي صلوات الله عليه و تركه الدنيا أشهر من أن يحتاج إلي بيان، وكذا من بعده من الأئمة الراشدين والأصحاب والتابعين وغيرهم من أكابر الدين والسلف الصالح، فليعتبر الإنسان وليقتد بهداهم)أولَئِكَ الَّذينَ هَدَي اللهُ فَبِهداهُمُ اقتَدهِ) (1) ولا تغتر بالدنيا فإنهاغزارة مكارة سكارة، تضحك الإنسان قليلاً وتبكيه طويلاً، كما وصفها أمير المؤمنين عليه السلام. (2)

قصة عيسي عليه السلام وصاحب الرغيف الثالث:

ومن النكت والأمثلة الظريفة ما ذكره صاحب المستظرف في باب الزهد:

روي أن عيسي عليه السلام كان معه صاحب في بعض سياحاته فأصابهما الجوع وقد انتهيا إلي قرية، فقال عيسي عليه السلام لصاحبه: انطلق فاطلب لنا طعاماً من هذه القرية، وأعطاه ما يشتري به، فذهب الرجل وقام عيسي يصلي، فجاء الرجل بثلاثة أرغفة، فقعد ينتظر انصراف عيسي من الصلاة، فأبطأ عليه فأكل رغيفاً و كان عيسي عليه السلام رآه حين جاء ورأي الأرغفة ثلاثة، فلما انصرف من صلاته لم يجد إلا رغيفين فقال له:

ص: 257


1- الأنعام: 90
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 4: 139

أين الرغيف الثالث؟ فقال الرجل: ما كانا إلا رغيفين فأكلاهما، ثم مرا علي وجوههما حتي أتيا علي ضباء ترعي فدعا عيسي واحداً منهما فجاءه فذكاه وأكلا منه، فقال له عيسي عليه السلام: بالذي أراك هذه الآية، من أكل الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا اثنين، ثم مرا علي وجوههما حتي جاءا قرية، فدعا عيسي ربه أن ينطق له من يخبره عن حال هذه القرية، فأنطق الله له لبنة، فسألها عيسي فأخبرته بكل ما أراد وصاحبه يتعجب مما رأي، فقال له عيسي عليه السلام: بحق من أراك هذه الآية، من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال: ماكانا إلا اثنين، فمرا علي وجوههما حتي انتهيا إلي نهر عجاج، فأخذ عيسي عليه السلام بيد الرجل ومشي به علي الماء حتي جاوز النهر، فقال الرجل: سبحان الله، فقال عيسي: بالذي أراك هذه الآية، من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال الرجل: ما كانا إلا اثنين، فمرا علي وجوههما حتي أتيا قرية عظيمة خربة، وإذا قريب منها ثلاث لبنات عظام - وقيل: ثلاثة أكوام من الرمل - فقال لها: كوني ذهباً بإذن الله، فكانت، فلما رآها الرجل قال: هذا مال، فقال عيسي عليه السلام: نعم واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف الثالث، فقال الرجل: أنا صاحب الرغيف الثالث: فقال عيسي عليه السلام هي لك كلها، ثم فارقه عيسي، وأقام الرجل ليس معه ما يحملها عليه، فمر به ثلاثة نفر فقتلوه، فقال إثنان منهما للثالث: انطلق إلي القرية فأتنا بطعام، فانطلق فلما غاب قال أحدهما للآخر: إذا جاء قتلناه واقتسمنا المال بيننا، فقال الآخر: نعم، وأما الذي ذهب ليشتري الطعام فإنه أضمر لصاحبيه السوء وقال: أجعل لهما في الطعام سماً، فإذا أكلاه ماتا و آخذ المال النفسي، فوضع السم في الطعام وجاء، فقاما إليه فقتلاه وأكلا الطعام فماتا، فمر بهم عيسي عليه السلام وهم مصروعون حولها فقال: هكذا الدنيا تفعل بأهلها. (1)

ص: 258


1- الدر المنثور للسيوطي، ج 2: 34، رواه بلفظ آخر

ومن كلام له عليه السلام :

يتعرض فيه لأرض فدك ويذكر فيه مجاهدة نفسه عله السلام

(بَلَي كَاَنَت فِي أَيدِينَا فَدَكَ مِن كُلِّ مَا أظَلَّهُ السَّماءُ فَشَحَّت عَلَيهَا نُفُوسُ قَومٍ وَسَخَت عَنهَا نُفُوسُ قَوم آخَرينَ ونَعمَ الحَكَمُ اللُه وَمَا أصنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيرِ فَدَك والنَفسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنقَطعُ فِي ظُلمَته آثارُهَا وَتَغِيبُ أخبَارُها وتَغيبُ اَخبَارُها و حُفرَةٌ لَو زِيدَ فِي فَسحَتهَا وَأوسَعَت يَداَ حَافِرهَا لَأضغَطَهَا الحَجَرُ وَالمَدَرُ وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرابُ المُتَراكِمُ وَإنَّما هِيَ نَفسِي أَرُوضُهَا بِالتَقوَي لَتأتِي آمَنَةً يَومَ الخَوفِ الاكبَرِ وَتَثبُتَ عَلي جَوانِبِ المَزلَقِ) .(1)

الشرح:

قوله صلوات الله عليه: بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء

فدك تاريخياً :

فدك قرية في الحجاز، وبينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، وهي أرض يهودية في مطلع تاريخها الإسلامي، وكان يسكنها طائفة من اليهود، ولم يزالوا علي ذلك حتي السنة السابعة، حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها، فصالحوا رسول الله صلي الله عليه وآله علي النصف من فدك، وروي أنه صالحهم عليها كلها.

وابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت ملكاً لرسول الله صلي الله عليه وآله لأنها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولما ملك صلي الله عليه وآله فدك أنزل الله تعالي عليه (وَآتِ ذاَ

ص: 259


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 208

القٌربي حَقَّهُ)،(1) فقال صلي الله عليه وآله : ادعوا لي فاطمة، فدعيت له، فقال: يا فاطمة هذه فدك وهي مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، فخذيها لك ولذريتك، فملكتها فاطمة، فكانت في يدها مدة حياة رسول الله صلي الله عليه وآله تتصرف فيها، إلي أن توفي أبوها رسول الله صلي الله عليه وآله، فانتزعها الخليفة الأول منها علي حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة وغيره من المؤرخين،(2) وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة يوم ذاك، إلي أن تولي الخلافة عثمان بن عفان فأقطعها مروان بن الحكم، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشيء، ولكن الشيء الثابت هو أن أمير المؤمنين علياً صلوات الله عليه انتزعها من مروان _ علي تقدير كونها عنده في خلافة عثمان بن عفان - كسائر ما نهبه بنو أمية في أيام خليفتهم.

ولما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة أمعن في السخرية وأكثر الاستخفاف بالحق المهضوم، فأقطع مروان بن الحكم ثلث فدك، وعمر بن عثمان ثلثها، و يزيد ابنه ثلثها الآخر، فلم يزالوا يتداولونها حتي خلصت كلها المروان بن الحكم أيام ملكه، ثم صفت لعمر بن عبد العزيز بن مروان، فلما تولي هذا الأمر رد فدكأً علي ولد فاطمة عليه السلام وكتب إلي واليه علي المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم بأمره بذلك، فكتب إليه: إن فاطمة سلام الله عليها قد ولدت في آل عثمان و آل فلان وفلان، فعلي من أرد منهم؟ فكتب إليه: أما بعد، فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها، فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة عليه السلام من علي صلوات الله عليه.(3)

فنقمت بنو أمية ذلك علي عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا له: هجنت فعل الشيخين، وقيل أنه خرج إليه عمرو بن قيس في جماعة من أهل

ص: 260


1- الإسراء: 26
2- الصواعق المحرقة: 38
3- بحار الأنوار 29: 212؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 278

الكوفة فلما عاتبوه علي فعله قال لهم: إنكم جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت إن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: فاطمة بضعة مني، يسخطها ما يسخطني، ويرضيني ما يرضاها، وإن فدك كانت صافية علي عهد أبي بكر وعمر، ثم صار أمرها إلي مروان فوهبها لعبد العزيز أبي فورثتها أنا وأخوتي عنه، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها، فمن بائع وواهب حتي اجتمعت لي، فرأيت أن أردها علي ولد فاطمة. فقالوا له: فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل واقسم الغلة، ففعل .(1)

ثم انتزعها يزيد بن عبد الملك من أولاد فاطمة، فصارت في أيدي بني مروان حتي انقرضت دولتهم.

فلما قام أبو العباس السفاح بالأمر وتقلد الخلافة ردها علي عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من بني الحسن، وردها المهدي بن المنصور علي الفاطميين، ثم قبضها موسي بن المهدي من أيديهم.

ولم تزل في أيدي العباسيين حتي تولي المأمون الخلافة، فردها علي الفاطميين سنة (210)، ولما بويع المتوكل علي الله انتزعها من الفاطميين وأقطعها عبد الله بن عمر البازيار، وكان فيها إحدي عشرة نخلة غرسها رسول الله صلي الله عليه وآله بيده الكريمة، فوجه عبد الله بن عمر البازيار رجلاً يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلي المدينة فصرم تلك النخيل، ثم عاد ففلج.

وينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل ومنحه إياها عبد الله بن عمر البازيار. هذه إلمامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم علي خط ولا يجمع علي قاعدة، وإنما حاكت أكثره الأهواء وصاغته

ص: 261


1- نفس المصدر

الشهوات علي ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية، وعلي هذا فلم يخل هذا التاريخ من اعتدال واستقامة في أحايين مختلفة وظروف متباعدة، بحيث تؤول فدك إلي أهلها وأصحابها الأولين.

ويلاحظ أن مشكلة فدك كانت قد حازت أهمية كبري بنظر المجتمع الإسلامي وأسياده، ولذا تري حلها يختلف باختلاف سياسة الدولة، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو أهل البيت مباشرة، فهو إذا استقام اتجاهه واعتدل رأيه رد فدكأً علي الفاطميين، وإذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أول القائمة من أعمال ذلك الخليفة. ويدلنا علي مدي ما بلغته فدك من القيمة المعنوية في النظر الإسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي أنشأها حينما رد المأمون فدكاً:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** برد مأمون هاشما فدكا (1)

القيمة الاقتصادية لفدك:

ويظهر من هذا الاهتمام بأمر فدك أنها لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعة متواضعة كما يظن البعض؛ بل الأمر الذي يطمئن إليه أنها كانت تدر علي صاحبها أموالاً طائلة تشكل ثروة مهمة، وليس علي بعد هذا أن أحدد الحاصل السندي منها وإن ورد في بعض طرقنا الارتفاع به إلي أعداد عالية جداً.

ويدل علي مقدار القيمة المادية لفدك أمور:

الأول: أن عمر منع أبا بكر من ترك فدك للزهراء لضعف المالية العامة مع احتياجها إلي التقوية لما يتهدد الموقف من حروب الردة وثورات العصاة.

ومن الجلي أن أرضاً يستعان بحاصلاتها علي تعديل ميزانية الدولة وتقوية مالياتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لابد أنها ذات نتاج عظيم.

ص: 262


1- السقيفة وفدك للجوهري: 107؛ شرح نهج البلاغة 16: 217

الثاني: قول الخليفة لفاطمة سلام الله عليها في محاورة له معها حول فدك: إن هذا المال لم يكن للنبي صلي الله عليه وآله ، وإنما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله، فإن تحميل الرجال لا يكون إلا بمال مهم تتقوم به نفقات الجيش.

الثالث: ما سبق من تقسيم معاوية فدكاً أثلاثاً، وإعطائه لكل من يزيد ومروان وعمرو بن عثمان ثلثاً، فإن هذا يدل بوضوح علي مدي الثروة المجتناة من تلك الأرض، فإنها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع علي أمراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض والأموال الطائلة.

الرابع: التعبير عنها بقرية - كما في معجم البلدان (1) - وتقدير بعض نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري - كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.(2)

هذه ناحية موجزة من نواحي فدك تعطيك صورة مصغرة عنها وعن ضخامة ثرائها.

ومن ناحية أخري ما كان من أمر فاطمة سلام الله عليها لما انتزع أبو بكر منها فدكاً وبلغها ذلك لاثت خمارها وتجلببت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلي الله عليه و آله حتي دخلت علي أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضرب بينها وبينهم ربطة بيضاء، فجلست ئم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فأمهلتهم طويلاً حتي سكنت فورتهم.

خطبة فاطمة عليها السلام :

لما منعت فاطمة الزهراء علي أبيها وعليها أفضل الصلاة والسلام فدكاً بعد وفاة

ص: 263


1- معجم البلدان للحموي 4: 238
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 236

النبي صلي الله عليه وآله خطبت خطبة طويلة عظيمة جليلة غاية في الفصاحة والبلاغة والمتانة بمحضر من المهاجرين والأنصار تتضمن أبلغ الحجج علي القوم وأقواها وأمتنها.

وقد رواها الفريقان بأسانيدهم ورواياتهم ببعض التفاوت. وفي كتاب كشف الغمة أنها من محاسن الخطب وبدائعها، عليها مسحة من نور النبوة، وفيها عبقة من أرج الرسالة وقد أوردها المؤالف والمخالف.

قال: ونقلها من كتاب السقيفة _ لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة علي مؤلفها، روي عن رجاله من عدة طرق، قرئت عليه في ربيع الآخر سنة 322 هجرية. (1)

وذكرها عمر رضا كحاله في كتابه أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام في المجلد الثالث المطبوع بالمطبعة الهاشمية بدمشق سنة 1359 هجرية. وقد تكفل بسرد أحوالها سلام الله عليها علي أحسن ما يكون، وذكر خطبها الثلاثة علي أتم ما يرام، واحتجاجها علي أبي بكر وعمر وغضبها عليهما.

وذكرها الخوارزمي في كتابه بلاغات النساء المطبوع بالمطبعة الحيدرية في النجف الأشرف. وذكر فصلاً منها الشيخ أحمد مفتاح في كتابه «مفتاح الأفكار في النثر المختار»المطبوع في مصر بمطبعة جريدة الإسلام سنة 1314 هجرية ص147، وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي فصلاً طويلاً منها في كتابه «شرح نهج البلاغه المطبوع بمصر في الجلد الرابع ط الأولي، بسند متسلسل.

ونحن ننقلها عن كتاب «الاحتجاج»للطبرسي

قال: روي عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه عليه السلام، أنه لما أجمع أبو بكر علي منع فاطمة فدكاً وبلغها ذلك لاتت خمارها علي رأسها واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها

ص: 264


1- كشف الغمة 2: 108

مشية رسول الله صلي الله عليه وآله، فدخلت عليه وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارج المجلس، ثم أمهلتهم هنيهة، حتي إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتھم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة علي رسوله أبيها صلي الله عليه وآله فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت:

نص الخطبة المتضمنة الاحتجاج علي القوم والتظلم منهم بمحضر من المهاجرين والأنصار:

الحمد لله علي ما أنعم، وله الشكر علي ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، و تمام نعم والاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأي عن الجزاء أمدها، و تفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد الخلائق بإجزالها، وثي بالندب إلي أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمةً جعل الاخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلي تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلآ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً علي طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبداً البريته، وإعزازاً لدعوته، ثم جعل الثواب علي طاعته، ووضع العقاب علي معصيته، ذيادة (1) لعباده عن نقمته، وحياشة لهم إلي جنته.

وأشهد أن أبي محمدأ صلي الله عليه وآله عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبسر الأهاويل مصونة، وبغاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالي بمآل

ص: 265


1- الذيادة: الطرد والمنع

الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور، ابتعثه الله تعالي إتماماً لأمره، وعزيمة علي إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأي الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً علي نيرانها، عابداً لأوثانها، منكرة له مع عرفانها، فأنار الله تعالي بأبي محمد صلي الله عليه وآله ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، و جلي عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلي الدين القويم، ودعاهم إلي الصراط المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار، محمد صلي الله عليه وآله عن تعب هذا الدار في راحة، قد ف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار صلي الله عليه وآله ، علي أبي نبيه وأمينه علي وحيه وصفيه وخيرته من الخلق ورضيه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

ثم التفتت إلي أهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه وحمله دينه ووحيه، وأمناء الله علي أنفسكم، وبلغاؤه إلي الأمم، وزعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق والقرآن الصادق والنور الساطع والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبط به أشياعه، قائد إلي الرضوان أتباعه، مؤد إلي النجاة استماعه، به نال حجج الله المنورة وعزائمة المفسرة ومحارمة المحذرة وبيناته الجالية وبراهينه الكافية وفضائله المندوبة ورخصة الموهوبة وشرائعه المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للاخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنفاق، والصبر معونة علي استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامة، و بر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر، والقصاص

ص: 266

حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضأً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجابياً للعقة، وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، ألا فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنما يخشي الله من عباده العلماء.

ثم قالت سلام الله عليها: أيها الناس، اعلموا أني فاطمة وأبي محمد، أقول عوداً وبدءاً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً،( لَقَد جَاءَكُم رَسوُلٌ من أنفُسَكُم عَزيزٌ عَليهِ مَا عَنتم حَريصٌ عَليكُم بالمُؤمِنينَ رَؤفٌ رَحيمً )(1) فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارياً ثبجهم، آخذاً بكظمهم، داعياً إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجد الأصنام وينكث الهام، حتي انهزم الجمع وولوا الدبر، حتي تفري الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقدة الكفر والشقاق، وفهتهم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وكنتم علي شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطي الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون القت، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالي بأبي محمد صلي الله عليه وآله بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذوبان العرب ومردة أهل الكتاب (كُلَّمَا أوقَدوُا ناراً لِلحَزبِ أطفَأَهَا اللهُ)،(2) أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتي يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لبها بسيفه، محدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمراً ناصحاً مجد كادحاً، وأنتم في رفاهية من العيش

ص: 267


1- التوبة: 128
2- المائدة: 64

وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال، فلما اختار الله لنبيه صلي الله عليه وآله دار أنبيائه ومأوي أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين يخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجد كم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، بداراً زعمتم خوف الفتنة (اَلا فِي الفِتنَةَ سَقَطُوا و جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بالكافِرينَ) ،(1) فهيهات منكم وكيف بكم وأني تؤفكون، وهذا كتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة،وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تدبر ون؟أم بغيره تحكمون؟(بِئسً لِلظَّالِمينَ بَدلاً) (2) (وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِيناً فَلَن يُقبَل مِنهُ وهُو فِي الآخِرَة ِمِن الخاسِرينَ) (3) ثم لم تلبثوا إلا ريثما تسكن نفرتها ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي وإطفاء نور الدين الجلي وإهماد شنن النبي الصفي، تشربون حسوأً في ارتغاء، وتمشون الأهله وولده في الخمرة والضراء، ونصبر منكم علي مثل حز المدي ووخز السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي، (أَفَحُكمَ الجَاهِليَةِ يَبغُونَ وَمَن أحسَنَ مِنَ اللهِ حُكماً لِقَومٍ يوقنُونَ).(4)

إيهاً معاشر المسلمة أأبتر إرث أبي؟! الله يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فرياً، أفعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه

ص: 268


1- التوبة: 49
2- الكهف: 50
3- آل عمران: 85
4- المائدة: 50

وراء ظهور كم إذ يقول جل وعلا:(وَوَرَثَ سُليمانُ داؤدَ) (1) وقال فيما اقتص من خبر يحيي بن زكريا (فَهَب لِي مِن لَدُنكَ وَلياً ويَرِثُ مِن آل يَعقُوبَ) (2) وقال تعالي: (يُوَصيكُم ُاللهُ فِي أَولادِكُم لِلذَّكرِ مِثلُ حَظِ الأنثيَينِ)(3) وزعمتم أن لا إرث لي من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون أهل مكتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟! فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون (لِكُلِ نَباٍ مُستَقَرَةٌ) (4) (و سَوفَ تَعلَمُونَ مَن يَأتِيَه عَذابٌ يُخزِيهِ ويَحُّل عَليهِ عَذابٌ مُقيمٌ) .(5)

ثم رنت بطرفها نحو الأنصار فقالت: يا معشر البقية وأعضاد الملة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلي الله عليه وآله أبي يقول: المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة علي ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد فخطب جليل استوسع وهنه، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض الغيبته، واكتابت خيرة الله لمصيبته، و كسفت الشمس والقمر وانتشرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك - والله - النازلة الكبري والمصيبة العظمي التي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً وتلاوة وإلحاناً، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم، (وَما مُحمَّدٌ إلَّا رسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِه الرُّسُلُ أَفَإنَ مَاتَ

ص: 269


1- النمل: 16
2- مريم: 5 و6
3- النساء: 11
4- الأنعام: 67
5- الزمر: 39 و 40

أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلي أعقابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلي عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرُّ اللهَ شيئاً وسَيَجزِيَ اللهُ الشَّاكرينَ)(1) إيهاً بني قيلة، اأهضم تراث أبي وأنتم بمرأي مني ومسمع ومنتدي ومجمع، تلبسكم الدعوةو تشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة والأداة والقوة، و عندكم السلاح والجئة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي اختيرت، والخيرة التي اختبرت لنا أهل البيت، ناوأتم العرب، وبادهتم الأمور، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، و كافحتم البهم، فلا نبرح و تبرحون، نأمر كم فتأتمرون، حتي إذا دارت بنا رحي الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت نعرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت عدوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأتي حرتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان، بؤساً لقوم (نَكَثُوا أَيمَانَهُم وهَمُّوا بِإخراجِ الرَّسولِ وهُم بَدَؤُكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ اَتَخشَونَهُم فَاللهُ أحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤمنينَ). (2)

ألا قد أري أن قد أخلدتم إلي الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، ور كنتمإلي الدعة، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، ولفظتم الذي سوغتم، (إِن تَكفُرُوا أنتُم وَمَن فِي الأرضِ جَميعاً فَإنَّ اللهَ لَغَنيٌ حَميدةٌ). (3)

ألا وقد قلت ما قلت علي معرفة مني بالخذلة التي خامر تكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس وبئة الصدر ونفثة الغيظ وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب الله وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع علي الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون (وَسَيَعلَمُ

ص: 270


1- آل عمران: 144
2- التوبة: 13
3- إبراهيم: 8

الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَ مُنقَلَبٍ ينَقَلبُونَ) (1) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد (اعمَلُوا عَلي مَكانَتِكُم اِنَّا عامِلُونَ) (انتَظَرُوا انَّا مُنتَظِرونَ).

ثم انكفأت وأمير المؤمنين صلوات الله عليه يتوقع رجوعها إليه، ويتطلع طلوعها عليه، فلما استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين: يا ابن أبي طالب اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي محافة يبتزني نحيلة أبي وبلغة ابني، لقد أجهد في خصامي، وألفيته الألد في كلامي، حتي حبستني قبلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولامانع، ولا ناصر ولا شافع، خرجت كاظمة، وعدت راغمة، أضرعت خدك يوم أضعت جدك، افترست الذئاب وافترشت التراب، ما كففت قائلاً ولا أغنيت طائلاً، ليتني مت قبل منيتي ودون ذلتي، عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً، ويلاي في كل شارق، ويلاي في كل غارب، مات العمد، ووهن العضد، شكواي إلي أبي، وعدواي إلي ربي، اللهم إنك أشد قوة وحولاً وأشد بأساً وتنكيلاً.

فقال لها أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لا ويل لك بل الويل لشانئك، فنهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة، فما ونيت عن ديني، ولا أخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون و كفيلك مأمون، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك، فاحتسبي الله. فقالت: حسبي الله و أمسكت.(2)

ولم تزل سلام الله عليها عليلة مريضة صاحبة فراش منهدة الركن يغشي عليها ساعة بعد ساعة، حتي إذا دنت منها الوفاة وجهت خلف أمير المؤمنين صلوات الله عليه من يحضره، فجاء أمير المؤمنين فأخذ رأس الزهراء ووضعه في حجره، وألقي الرداء من علي عاتقه وحل أزراره، ثم ناداها: يا فاطمة كلميني، فلم تكلمه فناداها: يا ابنة خير من وطئ الحصي كلميني، فلم تكلمه فقال: فاطمة كلميني أنا ابن عمك علي،

ص: 271


1- الشعراء: 227
2- الاحتجاج للطبرسي 1: 131 - 146؛ بحار الأنوار 29: 220 - 230

عند ذلك أفاقت وقالت: يا ابن العم قرب الأجل، فقال: يا فاطمة تجديه؟ قالت: أجد الموت الذي لابد منه، وفي قلبي وصايا، قال: أوصي بها تجديني وفياً إن شاء الله، فقالت: يا ابن العم أولا سألتك بالله هل رأيتني خائنة أم خالفتك منذ عاشرتك؟ قال:

حاشا لله يا بنت رسول الله، أنت أبر وأتقي، فقالت له: يا ابن العم الأولي من وصاياي أني رأيت الملائكة صوت لي نعشاً، قال: صفيه، فوصفته له. قال: أصنعه إن شاء الله، فقالت: والثانية يا ابن العم إن الرجل لا يستقيم بلا زوجة، فإذا أردت الترويج فعليك ببنت أختي أمامة، فإنها تكون لولدي الحسنين مثلي، واجعل لها يوماً وليلة ولولدي يوماً وليلة، ولا تصح في وجهيهما فإنهما يصبحان يتيمين، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقداني. والثالثة يا ابن العم إذا أنا قضيت نحبي غسلني وكفني ولا تدع أحدأً من هؤلاء الذين ظلموني يشهد جنازتي، وادفني ليلاً إذا هدأت الأصوات ونامت العيون. ثم قضت نحبها صابرة مظلومة، فألقي أمير المؤمنين الرداء علي وجهها ودموعه تجري، عند ذلك صرخ الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة وصار كيوم مات فيه رسول الله صلي الله عليه وآله: فأقبل الناس يهرعون أفواجاً أفواجاً، واجتمعوا علي باب أمير المؤمنين حتي صاروا كعرف الفرس، فخرج إليهم أبو ذر وقال: أيها الناس انصرفوا إن الزهراء قد أخر إخراجها، ولما تناصف الليل قام أمير المؤمنين وأخذ في تجهيزها، فكان هو يغسلها، والحسن يصب الماء، والحسين يناوله الماء، وأسماء بيدها الضياء.

قالت أسماء: بينما أمير المؤمنين يغسل فاطمة إذ صاح بي: أسماء علي بالضياء، فأتيته به، فأخذ الضياء من يدي وجعل يتأمل وينظر في أضلاع الزهراء، ثم رمي الضياء من يده وجلس علي الأرض يبكي، فأقبلت عليه، قلت له: سيدي فيم بكاؤك الآن حزناً علي فاطمة؟ قال: لا يا أسماء وإن عز علي فراقها، لكن لما وضعتها علي المغتسل رأيت ضلعها مكسوراً ومتنها قد اسود من ألم السياط، وكانت تخفي علي ذلك مخافة أن يشتد بي وجدي. (1)

ص: 272


1- انظر خبر وفاتها عليها السلام في البحار 43: 174

في وصيته الكبري لولده الحسن عليه السلام :

في نفي الشريك وافتقار العبد إلي الله

(اعلَم يَا بُنَيَ أَنَّه لَو كَانَ لِرَبّكَ شَريكٌ لَاَتَتكَ رُسلُهُ ولَرَأيتَ آثارَ مُلكه وسُلطَانِهِ ولَعَرَفتَ أَفعَالَهُ وَصفَاتِه ولَكَنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ كَمَا وَصَف نَفسَهُ لا يُضادُّهُ فِي مُلكِه أَحَدٌ ولا يَزُولُ أَبداً وَلَم يَزَل أوَلٌ قَبلَ الأشيَاءَ بِلاً اَوَّلية وَآخرٌ بَعدَ الأشيَاءِ بِلا نَهَايَةٍ عَظُمَ عَن أَن تَثبَتَ رُبويتَّهُ بإحَاطَة قَلبٍ أو بَصَرٍ فَإذا عَرَفتَ ذَلكَ فَافَعل كَما يَنبغَي لِمثلَكَ أَن يَفعَلَهُ فِي صغَرِ خَطرِه وَقِلَّة مَقدِرَتَه وَكَثرَةِ عَجزِهِ وَعَظيمِ حاجَتِه إلي رَبِّه فِي طَلَب طاعَتِه والخَشيَة مِن عُقوبَته والشَّفَقةَ مِن سُخطَه فإنَه لَم يأمُركَ الا بِحَسنٍ وَلَم يَنهَكَ إلا عَن قَبيحٍ ).(1)

الشرح: التوحيد ونفي الشريك

لأهل العلم في التدليل علي توحيد الله تعالي شأنه مسالك وطرق، بعضها واضح وبعضها خفي، وما خفي منها فإنما هو لابتنائه علي أمور ومسائل قد تكون دقيقة في نفسها، وقد تكون دقيقة باعتبارأن الأفهام لم تمارسها ولم تألف الدنو إليها والاقتراب منها ولا الحوم حولها.

نري الله تعالي في كتابه يقيم الدليل علي توحيده بأنه لو كان غيره الفسدت السماوات والأرض. ونري أمير المؤمنين علي صلوات الله علياً يستدل علي توحيد الله بأنه لو كان غيره لأتتنا رسله، و لرأينا آثار ملكه وسلطانه.

ص: 273


1- نهج البلاغة 3: 37، رقم 31

و نجد أرسطاطاليس (من فلاسفة اليونان) يستدل علي توحيد الله ووحدته بوحدة العالم الموجود منه.

ونجد صاحب الأسفار (من فلاسفة المسلمين) يستدل علي وحدته تعالي بوجوب وجوده و امكان وجود غيره.

وآخر يقول بأن واجب الوجود واحد، ويجب في الإله أن يكون واحداً، لاستحالة أن يكون الإله غير واجب الوجود.

والشاعر يقول:

وفي كل شيء له آية*** تدل علي أنه واحد

إلي غير ذلك من المسالك والمناهج التي تري أن بعضها أضوء وأنور من بعض، والله تعالي لا يريد أن يفرض القول بوحدانيته فرضاً بلا دليل وبلا برهان، بل يريد أن يكون الإيمان بوحدانيته والتصديق بألوهيته دون غيره بالدليل الواضح والبرهان الجلي بصورة لا تزعزعها الشبه ولا تزلزلها التشكيكات.

وإن مسألة التوحيد مسألة شغلت بال العالم قديماً وحديثاً، ولا تزال محل النقض والابرام بين الموحدين من المسلمين وبين غيرهم؛ بل بين المسلمين أنفسهم، فإن كثيراً من الفرق الإسلامية كالمجسمة والمشبهة والغالية نبوا وابتعدوا عن القول بالتوحيد؛ بل ربما انغمس في دنس الشرك من يري نفسه موحدة من حيث لا يعلم.

ففي الحديث ولو أن أحدا قال لشيء فعله الله أو فعله رسوله صلي الله عليه وآله ألا فعل خلاف ذلك؟ أو وجد ذلك في نفسه غد مشركاً، ثم تلي قوله: (فَلاَ وَرَبِّك لا يُؤمِنونَ حَتيَ يُحكمُوكَ فِيمَا شَجَر بَيَنهُم ثُمَّ لا يَجَدوا فِي أنفُسَهم حَرَجاً مِما قَضَيتَ ويُسَلَموا تَسليماً )(1)

ولعل إلي هؤلاء يشير الله سبحانه بقوله: (ويَومَ نَحشُرُهم جَميعاً ثُمَّ نَقُولُ

ص: 274


1- النساء: 65

الَّذينَ أشرَكُوا أينَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذينَ كُنتُم تَزعُمُونَ ثُمَّ لم تَكُن فتنَتُهُم إلَّا أَن قالُوا واللهِ ربّنا ما كُنَّا مُشرِكينَ انظُر كَيفَ كَذبُوا عَلي أنفُسِهم وَضلَّ عَنهُم ما كانُوا يَفترُونَ). (1)

فهؤلاء لا يجوز أن يكونوا ممن دخل في الشرك صريحاً، بل من دخل فيه من حيث لا يعلم، وانغمس في حماته من حيث لا يشعر، أتي من قبل إهماله و تفريطه في أمر دينه، ولذلك لم يكن معذوراً.

ومن هنا يتبين لك أن الشرك ذو شعب متعددة وأطراف مترامية، وأن غير المتحفظ لا يأمن من الولوج فيه والدخول في بعض شعبه وأطرافه.

ونحن إذ نتقدم للتكلم فيه إنما نتقدم لنبري النفوس منه ونطهرها من رجسه، ونحيد بها عن الانغماس في حماته، وعن الدنو والاقتراب من مدارجه وموالجه، والله هو المسئول للإعانة علي توضيح ذلك وإفهامه.

قد تفتن المفسرون في التعبير عن المشار إليه بقوله تعالي: (لَو كانَ فِيهِما الهَةٌ إلاَّ اللهُ لَفَسدَتا) . (2)

قال البيضاوي في معني (الفسدتا): أي السماوات والأرض لبطلتا، لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع. (3)

وقال الزمخشري في كشافه عند ذكر الآية: لو كان يتولاهما (أي السماوات والأرض، ويدبر أمرهما آلهة شتي غير الواحد الذي هو فاطر هما لفسدتا. وفيه دلالة علي أمرين: أحدهما وجوب أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده لقوله: (إلا الله).

فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أن الرغبة تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف، وقد جاء عن عبد

ص: 275


1- الأنعام: 22 و 23
2- الأنبياء: 22
3- تفسير البيضاوي 4: 88

الملك بن مروان حين قتل عمر بن سعيد الأشدق، قال: كان - والله - أعز علي من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول.

وقال صاحب مجمع البيان عند ذكر الآية: (لَوكانَ فِيهِما الهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدتَا): معناه لو كان في السماء والأرض آلهة سوي الله لفسدتا وما استقامتا، وفسد من فيهما ولم ينتظم أمرهم، وهذا هو دليل التمانع الذي بني عليه المتكلمون مسألة التوحيد. قال: وتقرير ذلك أنه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين، والقدم من أخص الصفات، والاشتراك فيه يوجب التمائل، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيين، ومن حق كل قادرين أن يصح كون أحدهما مريداً لضد ما يريده الآخر من إماتة وإحياء أو تحريك و تسكين أو إفقار وإغناء ونحو ذلك، فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو أما أن يحصل مرادهما وذلك محال، وأما أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين، وأما أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر، فينتقض كون من لم يقع مراده قادراً، فإذاً لا يجوز أن يكون الإله إلا واحداً.(1)

تنبه إلي أن المفسرين لا يريدون الاستدلال علي التوحيد بالآية، إنما يريدون الاستدلال بالبرهان العقلي الذي أشارت إليه الآية، وإن كثيراً من الآيات تنبه إلي البراهين العقلية و تشير إليها ليؤخذ بها و يعتمد عليها.

وكان الله سبحانه يريد أن يدعم الحق ويثبته ويجعله محكماً قاراً باقامة الأدلة والبراهين عليه من ناحيتي العقل والنقل، يريد أن يستعمل الإنسان عقله ويستر شده - و هو رسوله الباطني - كما يسترشد الأنبياء والرسل، ويجتمع به كما يجتمع بهم في مهمات مسائله ومعاضل أحكامه. لا يريد الله أن يفرض علي الإنسان فيما يرجع إلي أصول دينه وحقائق عقيدته الأمر فرضاً، ويجبره علي العلم والاعتقاد إجباراً، علماً منه

ص: 276


1- مجمع البيان للطبرسي 7: 80

سبحانه أن الاعتقاد من الأفعال القلبية، والقلب لا تجبر علي شيء من فعله. يريد الله بالإنسان أن يمشي علي بينة ويسير علي ضوء، ولا يحكم إلا بدليل وبرهان، وذلك شأن الدين الحق وهو الهادي إليه.

إن محل الشاهد وموضع القصد من هذا الكلام الجملة الأولي من كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وإنما أتينا بهذه الفقرة لما فيها من الارتباط بهذا القصد من توجيه القلب وأخذه بالموعظة ليحرص علي الاستفادة منه، وهو كلام واضح في الدلالة علي توحيد الله تعالي. أجل لو كان الله سبحانه شريك لوجب في ذلك الشريك أن يكون عالماً حكيماً، إذ لا يجوز في الإله المستحق للعبودية أن يكون جاهلاً سفيهاً، فإن الجاهل السفيه يستحق الطرد والأبعاد والاهانة والتحقير، إذاً لا بد أن يكون عالماً حكيماً، والعلم والحكمة تقتضي أن يبعث للناس رسولاً يدعوهم إليه ويدلهم عليه، وإلا لانتفي عنه العلم وبطلت الحكمة، ولو بعث رسلاً لأتتنا ودلتنا وأرشدتنا.

وحيث أنه لم يأتنا عن غير الله رسول فلا رسول، وإذ لا رسول لغير الله فلا مرسيل غير الله، ولا إله سوي الله.

وهذا معني قوله صلوات الله عليه: لو كان لربك شريك لأتتنا سلهه فإن إتيان الرسل لازم، وانتفاء اللازم يستدعي انتفاء الملزوم. ومثله قوله صلوات الله عليه: ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، فإنه لو كان الله شريك لكان عالماً حكيماً قادراً، ولو كان كذلك لكان له ملك وسلطان، ولو كان له ملك وسلطان لرأينا آثار ملكه وسلطانه، ولما انتفت هذه اللوازم كلها انتفي ملزومها، وإلا لوجب الملزوم بلا لازمه، وهو محال.

وكذلك قوله صلوات الله عليه: ولعرفت أفعاله وصفاته، فإنه لو كان لله شريك لكان له أفعال وصفات، قضاء لحق العلم والحكمة والقدرة، ولو كانت

ص: 277

لعرفناها لوجوب ظهورها، ولكن لا نعرف خالقاً غير الله ولا مدبراً لهذا الكون سوي الله، وانتفاء المعرفة عن غير أفعال الله يدل علي انتفاء غير الله.

قوله صلوات الله عليه: ولكنه إله واحد كما وصف نفسه .

لقد استفاضت الآيات القرآنية بالنص علي التوحيد، ويكاد أن يكون القسم الأوفر من بين الآيات، ويكفيك منها أمره تعالي نبيه نبي الرحمة أن يقول:(قُل هُو اللهُ أحَدٌ) و (هُوَ اللهُ الواحِدُ القَهَارُ).

قوله صلوات الله عليه: لا يضاده في ملكه أحد.

إمكان المضادة في الملك فرع الكفاءة والمقدرة بين الإلهين المتصور تقارنهما، وإذ قامت عندنا البراهين القاطعة علي نفي الشريك، فليس هناك من يضاده أو ينازعه في الملك.

حقوق الله وأداء الواجب:

قوله صلوات الله عليه: اعظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصره لأن المثبت بالقلب يستدعي أن يكون محاطاً به، والإدراك بالبصر يستلزم كون المرئي جسماً، ومقام الرب سبحانه فوق كلهذه التصورات.

قوله صلوات الله عليه: فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إلي ربه، في طلب طاعته، والخشية من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح.

أخذ صلوات الله عليه يعدد وجوه حاجة ولده المحبوب إلي المولي سبحانه، وما يجب أن يكون مثله من الحال من الطاعة والتحلي بالصفات الفاضلة، ومكارم الأخلاق، ومن أهمها معرفة أداء الواجب نحو خالقه ونحو المخلوق.

فإن أداء الواجب بالغ الخطورة عظيم الشأن، يتطلب من العزيمة أن تكون علي

ص: 278

أتمها، إذ في أداء الواجب مجاهدة للنفس الأمارة بالسوء أي مجاهدة، ومغالبة لها أي مغالبة، فمن لم يرزق جلد العزيمة ومضاءها فلن يستطيع مع أداء الواجب صبراً.

وأداء الواجب علي وجه الدقة كلمة تحمل بين جنبيها جمعأً من الفضائل، فهي في الحقيقة أم الفضيلة الولود. أليس من الواجب أن تعرف حقوقك فتطلبها من مظانها، وتعرف حقوق غيرك عليك فتؤديها علي وجهها، وماذا بعد ذلك من الفضائل لا يتصل بنسب إلي حق لك أو حق عليك.

إن الأمم لتترقي شؤونها الاجتماعية ومدنيتها الخلقية بمقدار رقي هذه الفضيلة: فضيلة أداء الواجب في نفوس أناسها، فإنه إن طويت الضلوع علي هذه الفضيلة فقد ضعف الخلاف بين الفرد والفرد، و متي تم ذلك فقد قويت الأواصر بين الطبقة وأختها، ومتي التقت طبقات الأمة فلا عادي ولا معدو عليه، فهي واصلة إلي غايتها التي لا غاية وراءها في مدنية الخلق والاجتماع، وما حاجة الأمة حينئذ إلي التقاضي والتشاكي؟ وذلك هو المثل الأعلي الذي يتوخاه الإمام علي صلوات الله عليه لحياة الأمم .

ما هي الواجبات

من أجل ذلك وجب أن نبين للناس ما هو واجب لهم وما هو واجب عليهم، رضوا أم غضبوا، كرهوا أم أحبوا (لِيَهلكَ مَن هَلَكَ عَن بَينَةٍ ويَحيي مَن حَيَّ عَن بَينَةِ). (1)

1- معرفة الله تعالي

معرفة يصح بها الاعتقاد، فيكون علي بصيرة من ربه، ويعرف معني كلمة التوحيد التي جاء بها الأنبياء من لدن آدم إلي خاتمهم محمد صلي الله عليه وآله، بالتبشير بها وإيقاظ العقل البشري للايمان بقوتها و آثارها في الكون، وأن كل ما عداها زيغ وبهتان مبين.

ص: 279


1- الأنفال: 42

2_ أوامر الدين ونواهيه:

إن لكل دين من الأديان تكاليف وواجبات تكفل حفظ مظهره وتبسط سلطانه في الناس، وإن أوامر الدين الإسلامي من صلاة وصيام وحج وزكاة وما إلي ذلك ما هي إلا أعلام خفاقة تهوي إليها النفوس، وتنتظم القلوب فتلبسها ثوب الدين، وتعصمها من الشرور، فتكون جنود الله في الأرض تعبده وتأخذ نفسها بمرضاته.

وإذا كان كل من ينتسب إلي عظيم أو زعيم يحمل شارته ويفاخر الناس بنبالته، فما أجدر المسلم أن يكون سمات الإسلام أظهر شيء لديه، ثم هي طهارة للنفوس وتهيئة لها للكمال.

فالصلاة تغسل أدران الشيطان من نفس الإنسان، وتعوده الخير والتواضع، وتحول بينه وبين المحظورات، وكذلك بقية التكاليف تذكر الإنسان بعظمة ربه،وترسم أمام ناظريه الحلال والحرام، فيعرف ما يأخذ وما يدع. وليس هناك دين من غير عمل، فالمسلمون القائمون باسم الإسلام دون العمل بأوامره منعوا أنفسهم موارد السعادة، ومكتوالغريزة النفس الجامحة أن تتغلب علي عقولهم، إذ لا تجد من جنود الدين الروحية حاجزاً، وحرمت قائداً حكيماً يهديها سواء السبيل.

3- مجاهدة النفس،

ويا لله من مجاهدة النفوس، ولن يقدر علي ذلك إلا أولو العزم وذوو النفوس المسلمة حقاً، من أجل ذلك عدها النبي صلي الله عليه وآله أكبر عند الله من خدمة الإسلام بحد السيف، فقال بعد أن عاد من إحدي غزواته: رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر(1) ، ومغالبة النفس إنما تصدر عن قوة الإرادة والإخلاص لله.

4- العناية الدينية:

من الحتم علي المسلم أن يحوط دينه بعنايته، ويرد هجمات العدو عنه، وهذه جيوش المبشرين من أوربيين وأمريكان تغزو

ص: 280


1- البحار للمجلسي 67: 71 ح 21، نقلاً عن جامع الأخبار: 118

دين الإسلام باسم الانسانية والعلم ومعالجة المرضي، فيتخذون سذاجة الطفل سبيلاً إلي محو دينه وإدخال العقائد المسيحية عليه بصنوف الحيل وألوان الإغراء، ويستضعفون المرضي المساكين الذين استسلموا بسبب قسوة المرض، فلا يعالجونهم إلا أن يسقوهم مع الدواء التثليث.

5- الأخوة الإسلامية

وحمية الدين لمناصرة المسلمين وإن بعدت ديارهم وتباينت أوطانهم، (إنَّمَاالمُؤمنُونَ إِخوةٌ) (1)والرسول الكريم كأنه كان ينظر بنور الله إلي تاريخ المسلمين في مستقبلهم إلي أن تقوم الساعة، فخاف عليهم أن يكون بأسهم بينهم شديداً، وأن تكون قلوبهم شتي، وكان يوجس خيفة كلما ج الحديث مع أصحابه إلي الرابطة الإسلامية، فيوصيهم بالأخوة من حين لآخر فيقول: المسلم أخو المسلم،(2) ويقول: المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم، يسعي بذمتهم أدناهم، وهم يد علي من سواهم.(3)

ص: 281


1- الحجرات: 10
2- سنن الترمذي 3: 218ح 1992، سنن ابن ماجة 1: 685 ح 22119
3- الكافي للكليني 1: 402/ح 1 و 2

ص: 282

ومن وصيته عليه السلام للحسن والحسين عليهاالسلام : لما ضربه ابن ملجم لعنه الله

وفيها يوصي بالتقوي ونظم الأمر والاهتمام بفروع الدين

(أُوصيكُما بتَقوَي اللَّه والّا تَبغيَا الدُّنيا وان بَغَتكمَا ولا تأسَفا عَلي شَيء مِنها زُويَ عَنكُما وقُولا بالحَقِ وأعمَلَا للاَجرِ وكونا للظّالِمَ خَصماً ولِلمظلُومِ أُوصِيكُمَا وجَميِعَ وَلَدي وأهلي وَمَن بَلَغِهُ كِتابِي بِتَقوَي الله وَنَظمِ أَمرِكُم وَصَلاحِ ذاتِ بَينَكُم فَإنِّي سَمِعتُ جَدَّكُمَا صلي الله عليه وآله يَقُولُ صَلاحُ ذاتِ البَينِ أفضَلُ مِن عامَةِإلصَّلاة والصِّيامِ الله الله فِي الأيتَامَ فلَا تُغُّبوا أفوَاهَهُم ولا يَضيعُوا بحَضرَتَكم والله الله فِي جَيرانَكُم فإنهُم وَصَّيةُ نَبيّكُم مَا زالَ يُوصِيَ بِهم حَتي ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُورِثُهُم والله الله في القُرانِ لإسَبقُكُم بالعَمَل به غَيرُكُم والله الله في الصَّلاةِ فإنَّها عَمُودُ دينكُم واللَه اللهَ في بَيت ربّكُم لا تُخَلُّو مَا بَقيتُم فإنَّه إَن تُرِكَ لم تَناظَرُوا والله الله في الجِهادِ بِأموَالَكُم وأنفُسَكُم وألسنَتكُم في َسَبيلِ اللهِ وعَليكُم بالتَّواصُل والتبَاذُل وإيَّاكُم والتَّدابرَ والتَقاطُعَ لا تَترُكُوا المرَ بالمَعرُف وانَّهي عَنِ المُنكَر فَيُولي عَليكُم شَرارَكُم ُثُمَّ تَدعُونَ فلا ُيستَجابُ لَكُم.

ثُمَّ قالَ يا بَني عَبد المُطَلِب لا الفيَنَّكُم تخوُضونَ دماءَ المسلِمينَ خَوضاً تَقولونَ قُتِلَ اميرُ المومنينَ الا لا تقتُلُنَّ بي الا قاتِلي انظُرُوا اذا انَّا متُ من ضَرَبتَه هذه فاضرُبوهُ ضَربَةٍ بضَربَةٍ تُمثَلوا بالرَّجُل فَإني سَمِعتُ رَسول الله صلي الله عليه وآله يَقولُ إيَّاكُم والمُثلة ولَو بالكَلَب العَقُورَ).

(شرح ابن أبي الحديد مج 4، ص 111، ط 1)

الشرح:

هذه وصية عامة لأهل بيته وغيرهم من المسلمين، نظمها في اثنتي عشرة مادة وقدم عليها وصية خاصة لولديه الحسن والحسين عليهماالسلام في ست مواد تالية:

ص: 283

1- ملازمة التقوي 2- ترك طلب الدنيا وإن أقبلت 3- ترك التأسف علي فوت أمور الدنيا مهما كانت 4- ملازمة القول بالحق 5- العمل للثواب وإدراك أجر الآخرة 6 - الخصومة مع الظالم وعون المظلوم للدفاع عنه.

وأما وصاياه العامة:

التقوي:

1- ملازمة التقوي: وهي فضيلة أراد بها القرآن إحكام ما بين الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه، ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في أكثر آيات القرآن الأخلاقية والاجتماعية، والمراد بها أن يتقي الإنسان ما يغضب ربه وما فيه ضرر لنفسه أو ضرار لغيره. فالتقوي في أصل معناها جعل النفس في وقاية، ولا تجعل النفس في وقاية إلا بالنسبة لما يخاف، فخوف الله أصلها، والخوف يستدعي العلم بالمخوف، ومن هنا كان الذي يعلم بالله هو الذي يخشاه، و كان الذي يخشاه هو الذي يتقيه.

فالمتقون هم الذي يقون أنفسهم عذاب الله وسخطه في الدنيا والآخرة، وذلك بالوقوف عند حدوده وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهو لا يأمر إلا بما فيه خير للإنسانية، ولا ينهي إلا عما يضرها.

عني القرآن بالتقوي عناية كبري، وأكثر من الأمر وتوجيه النفوس إليها، وكانت له في ذلك أساليب مختلفة.

أمربتقوي الله: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ حَقَ تُقاتِه ولا تَمُوتُنَّ إلا وانتُم مُسلمونَ).(1) وذلك يكون بالتوجيه إلي الله وحده في العبادة، واجتناب ما يأباه من الشرك ودعوي النبوة له والخروج عن شرائعه وأحكامه العادلة.

ووصف القرآن التقوي بأنها صيانة النفس عن كل ما يضر ويؤذي،

ص: 284


1- آل عمران: 102

سواء كان متصلاً بها أم بجميع الخلق، والابتعاد عن كل ما يحول بين الإنسان والغابات النبيلة التي بها كماله في جسمه وروحه، ولهذا وصف الله المتقين بأنهم من تحلوا بالفضائل الانسانية الحقة، قال الله تعالي: (لَيسَ البِرَّ أَن تُولوا وُجُوهَكُم قَبل المَشرق والمَغرب وَلكنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بالله واليَومِ الآخِر والملائكة والكتابِ والنَبيّينَ واتي المالَ عَلي حُبَّه ذَوِي القُربي واليَتامي والمَساكينَ وأبنَ السَبيلَ والسَّائلينَ وفِي الرقاب وأقام الصَّلاة وآتَي الزَّكاة والمُوفونَ بعَهدهم إذا عاهَدوا والصَّابرينَ في البأَساءَ والضَّراء وحينَ البَأسِ أولئكَ الَّذين صَدقُوا وأولئكَ هُمُ المُتَّقون). (1) فالمتصفون بهذه الصفات السامية هم الذين وصفهم الله بصفة التقوي. ولا تقتصر التقوي في القرآن علي هذه الصفات، بل يضاف إليها الصفات التالية:

فالعدل من التقوي، قال الله تعالي:( اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ للِتَقويِ).(2)

والعفو من التقوي أيضاً، قال الله تعلي: (وَأن تَعفوُا أَقرَبُ للتَقوَي) .(3)

والاستقامة مع الأعداء هي من التقوي (فَمَا استَقامُوا لَكم فاستَقيمُوا لَهُم إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ).(4)

ثمرات التقوي:

ذكر القرآن أن التقوي تجعل الإنسان في أمن من الخوف والحزن يوم القيامة،والنصر والتوفيق في هذه الحياة (اَلا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَليهِم وَلا هُم يَحزَنونَ الَّذينَ آمَنوا وكانُوا يَتَقونَ لهُمُ البُشري فِي الحيَاة الدُّنيا وفِي الآخرةِ).(5)

ص: 285


1- البقرة: 177
2- المائدة:8
3- البقرة: 237
4- التوبة: 7
5- يونس: 62 - 64

ومن ثمراتها الشواب العظيم والتعليم في الآخرة (للَّذينَ أتَقُوا عِندَ رَبهم جَناتٌ تَجري مِن تَحتَها الأنهارُ) .(1)

ومن ثمراتها أيضاً نيل رحمة الله، قال الله تعالي: (ورَحمَتي وسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسأكتُبُها للَّذين يَتقونَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُم بِاياتنا يؤمنونَ ).(2)

ويذكرها القرآن في معرض تفريج الأزمات وحل المشكلات (ومَن يَتَق الله يَجعَل لَه مَخرجاً ويَرزُقُهُ مِن حَيثُ لا يَحتسبُ).(3) ويقول سبحانه: (وَ مَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَه مِن امرهِ يُسراً).(4)

وفي معرض النصر والتأييد (انَّ الأُرضَ للهُ يُورثُها مَن يَشاء من عبادِه والعاقَبة للمُتقينَ). (5)

وفي معرض تنوير البصيرة (يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا إن تَتَّقوا الله يَجعَل لَكُم فُرقاناً).(6) فالفرقان مايفرق به بين شيئين ملتبسين أو أشياء مشتبهة، فثمرة التقوي هي نور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل، واختيار طريقة النجاة.

هذه هي التقوي وصفات المتقين وثمرتها في الأفراد والجماعات، لهذا ليس بمستغرب أن يوليها القرآن عناية فائقة ويدعو إليها كما جاء في هذه الآية البليغة والتي تدل علي عمق الروحية الإسلامية، (وَتَزَوَدُوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوي ).(7)

ولو أن العالم عرف التقوي وقام بواجبها لا نطفأت ثورة الشر، وساد السلام في ربوعه.

ص: 286


1- آل عمران: 15
2- الأعراف: 156
3- الطلاق: 2 و3
4- الطلاق:4
5- الأعراف: 128
6- الأنفال: 29
7- البقرة: 197

2- من وصاياه العامة صلوات الله عليه:

التزام النظم في كل الأمور، فإن عدم رعاية النظم يوجب عدم الوصول إلي المآرب والحوائج.

إصلاح ذات البين:

3- إصلاح ذات البين، وترك الخصومة والنزاع والنفاق.

فالاصلاح بين الناس صفة من أرفع الخصال في النفس الإنسانية التي لا تصدر إلا من قلوب نبيلة أحبت الغير وسعت إلي الدفاع عنه. وهل مثل الإصلاح بين الناس يؤتي من خير ونفع للمجتمع، والذي يجعل الناس وحدة تسعي لبعضها البعض، لهذا أمر الله به بعد أن وصف الرباط بين المؤمنين وهو الأخوة الدينية بقوله:(إنَّما المُؤمنونَ إخوَةٌ فَأصلَحُوا بَينَ أخَويكُم).(1)

ودعا إلي الإصلاح بين طوائف المؤمنين (وإنَّ طائفتانِ مِن المُؤمنينَ اقتَتَلوا فَأصلَحُوا بَينها).(2) ودعا إلي الإصلاح بين الزوجين (وَإن خَفتُم شِقاقَ بَينِهِما فَابعثُوا حَكَماً مِن أهلهِ وَ حَكماً مِن أهلِها إن يُريدا إصلاحاً يُوفَقِ الله بَينَهُما).(3)

وبين الله ثواب الاصلاح بين الناس بهذه الآية البليغة(لا خَيرَ في كثيرٍ مِن نَجوهُم إلا مَن أمَرَ بِصَدقَة أَو مَعروفٍ أو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ ومَن يَفعَلِ ذلكَ ابتغاءَ مَرضاتِ الله فَسَوفَ نُؤتيه أَجراً عَظيماً) (4)

والمعني: أن كثيراً من التناجي بين الناس لا خير فيه لما يحصل به كثير من الاثم، مما يغتاب به الغير والطعن فيه، أو مما يحاك به من المؤامرات ضد أفراد معينين

ص: 287


1- الحجرات: 10
2- الحجرات: 9
3- النساء: 35
4- النساء: 114

يسبقونهم في السلطة والنفوذ بقصد الاستعلاء عليهم، ثم حدد القرآن السبيل الذي يجب أن يسلكه الناس في تناجيهم، وهو تأمين حاجات الطبقة الفقيرة والأمر بالخير والاحسان والاصلاح بين الناس، ومن يفعل هذه الأعمال لوجه الله وطلب مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل.

هذا النص القرآني يحمل أروع معاني السمو الخلقي الذي تفتقر إليه الجماعة للحصول علي الاستقرار الذي تنشده.

وإن الإنسانية اليوم لم تكثر فيها البلبلة والتنازع إلا بإغفالها العمل بهذه التعاليم السامية.

وبالتالي قال رسول الله صلي الله عليه وآله: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، (1) ووجه الأفضلية هنا واضح، فإن أهم المطالب للشارع صلي الله عليه وآله جمع الخلق علي سلوك سبيل الله وانتظامهم في سلك دينه، ولن يتم ذلك مع تنازعهم وتنافر طباعهم وثوران الفتنة بينهم، فكان صلاح ذات البين مما لا يتم أهم مطالب الشارع إلا به، وهذا المعني غير موجود في الصلاة والصيام الإمكان المطلوب المذكور بدونهما، فتحققت أفضليته من هذه الجهة.

رعاية الأيتام :

4- في حفظ مالهم وتربيتهم في قوله صلوات الله عليه: الله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم.

قال ابن أبي الحديد: والظاهر أنه لا يعني بالأيتام الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم، لأن الأوصياء أولئك محرم عليهم أن يصيبوا من أموال اليتامي إلا القدر النزر جدا عند الضرورة، ثم يقضونه مع التمكن، ومن هذه حاله لا يحسن أن يقال له لا تغبوا أفواه أيتامكم، وإنما الأظهر أنه يعني الذين مات آباؤهم وهم فقراء، يتعين

ص: 288


1- نهج البلاغة 2: 76، الرقم 47، أمالي الطوسي: 522/ ح1153

مواساتهم ويقبح القعود عنهم كما قال تعالي:(ويُطعِمونَ الطَعامَ عَلي حُبه مِسكيناً ويَتيماً وأسيراً)(1) واليتيم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم؛ لأن الآباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد بل العناية للأم لأنها الرحيمة المشفقة، وأما الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد، فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله، والأم بمعزل عن ذلك، (2) وما ينسب لأمير المؤمنين صلوات الله عليه:

ما إن تأوهت من شيء رزئت به*** كما تأوهت للأيتام في الصغر

قد مات والدهم من كان يكفلهم*** في النائبات وفي الأسفار والحضر(3)

ولا يسمي الصبي يتيماً إلا إذا كان دون البلوغ، فإذا بلغ زال اسم اليتيم عنه، واليتامي أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيز.

لرعاية الجيران:

5- رعاية الجيران في قوله صلوات الله عليه: والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتي ظننا أنه سيورثهما.

فإن الجار بمنزلة الملتجأ المأمون بالنسبة إلي جاره، ومن حقه كف السوء عنه والاحسان إليه والاعانة بالنسبة إليه.

وحق الجوار قريب من حق الرحم، إذ الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة، فمن قصر في حقه عداوة أو بخلا فهو آثم، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة ومنهم من له حقان: حق الإسلام وحق الجوار، ومنهم من له حق واحد: الكافر

ص: 289


1- الإنسان: 8
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 7
3- مناقب ابن شهر آشوب 2: 159

له حق الجوار(1) فانظر كيف أثبت للكافر حق الجوار. وقال صلي الله عليه وآله: لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه (2) وقيل له: فلانة تصوم الناهر وتقوم الليل و تتصدق وتؤذي جارها بلسانها، فقال صلي الله عليه وآله : لا خير فيها، هي من أهل النار.(3)

وعن علي صلوات الله عليه أن رسول الله صلي الله عليه وآله كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم(4) وحرمة الجار علي الجار كحرمة أمه، وقال الإمام الصادق عليه السلام: حسن الجوار زيادة في الأعمار وعمارة في الديار،(5) وقال: ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره(6) وقال عليه السلام : علي قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع(7) وقال: إن يعقوب عليه السلام لما ذهب عنه بنيامين نادي: يا رب أما ترحمني، أذهبت عيني وأذهبت ابني؟ فأوحي الله تبارك وتعالي إليه: لو أمتهما لأحيتهما لك حتي أجمع بينك وبينهما، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشويتها وأكلت، وفلان إلي جانبك صائم لم تنله منها شيئاً.(8) وفي رواية أخري: فكان بعد ذلك يعقوب ينادي مناديه كل غداة ومساء من منزله علي فرسخ: ألا من أراد الغداء أو العشاء فليأت إلي يعقوب (9) وفي بعض الأخبار: أن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة ويقول: سل يا رب هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني؟ (10)

ص: 290


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 389
2- الكافي للكليني 2: 668/ ح 1
3- مشكاة الأنوار للطبرسي: 375
4- الكافي للكليني 2: 666/ ح 2
5- المصدر السابق: ح7
6- المصدر السابق: ح 11
7- المصدر السابق: ح 14
8- المصدر السابق: ح 4
9- المصدر السابق: ح 5
10- كنز العمال 9: 57/ ح 24930، الدر المنثور للسيوطي 5: 248

وقال صلي الله عليه وآله: جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهر، وعنه صلي الله عليه وآله: من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة، إن رأي حسنة دفنها، وإن رأي سيئة أذاعها وأفشاها، (1) ومن أدعيتهم: اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة، ومن ولد يكون علي كلاً، ومن حليلة تقرب الشيب، ومن جار تراني عيناه وترعاني أذناه، إن رأي خيراً دفنه، وإن سمع شراً طار به.(2)

حدود الجوار وحقه:

معرفة الجوار موكولة إلي العرف، فأي دار يطلق عليها الجار عرفاً يلزم مراعاة حقوق أهلها، والمستفاد من بعض الأخبار أن كل أربعين داراً من كل واحد من الجوانب الأربعة جيران، ثم لا ينحصر حق الجار في مجرد كف الأذي، إذ ذلك يستحقه كل أحد، بل لا بد من الرفق وإهداء الخير والمعروف و تشريكه فيما يملكه ويحتاج له من المطاعم، وينبغي أن يبدأه بالسلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهتته في الفرح، ويصفح عن زلاته، ويستر ما اطلع عليه من عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع علي جداره، ويغض بصره عن حرمه ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، إلي غير ذلك مما نديت إليه الشريعة الغراء .

الاهتمام بالقرآن:

6- وصيته بملازمة القرآن تعليماً وتعلماً، وملازمة العمل به وبأحكامه، كما في قوله صلوات الله عليه:

والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم، وقد حذر من المسامحة في ذلك إلي حيث يسبق غير المسلمين بأحكام العامة من الصدق والتعاون والجد في العمل، حتي تقدموا علي المسلمين في كثير من الأمور.

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8:17
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8:17

الاهتمام بالصلاة :

7_ الوصية بملازمة الصلاة في قوله صلوات الله عليه: والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم.

ذلك أن الصلاة عمود الدين وملاك تربية المسلمين وجمعهم و تأليف قلوبهم ووحدتهم، وأنها بتمام شروطها سبب لحصول أنوار في القلب، تكون الأنوار مفاتيح للعلوم الباطنة، وإنما يفيض منها علي كل مصل علي قدر صفائه من كدورات الدنيا، ويختلف ذلك بالقلة والكثرة والقوة والضعف والجلاء والخفاء، ويختلف أيضاً بما ينكشف من العلوم، فينكشف لبعضهم من صفات الله وجلاله، ولبعضهم من عجائب أفعاله، ولبعضهم دقائق علوم المعاملة، ولبعضهم غير ذلك، وأولي بالظهور والأفاضة لكل شخص ما يهمه ويكون في طلبه، وإلي ما ذكرنا من ترتب الافاضات العلوية علي الصلاة الخالصة لوجه الله المؤداة بالشروط المذكورة أشار النبي صلي الله عليه وآله بقوله: «إن العبد إذا قام في الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبين عبده، وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلي الهواء، يصلون بصلاته، ويؤمنون علي دعائه، وإن المصلي لينشر عليه البر من أعنان السماء إلي مفرق رأسه، ويناديه منادٍ: لو علم المصلي من يناجي ما التفت، وإن أبواب السماء تفتح للمصلين، وإن الله يباهي ملائكته بصدق المصلي .(1)

فإن رفع الحجاب وفتح أبواب السماء كناية عن إفاضة العلوم الباطنة عليه.

وورد في التوراة:

يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدي مصلياً باكياً، فأنا الله الذي اقتربت من قلبك، وبالغيب رأيت نوري. (2)

ص: 292


1- جامع السعادات للنراقي 3: 287
2- المصدر السابق

وورد أن العبد إذا صلي ركعتين عجبت منه عشرة صفوف من الملائكة، كل صف منهم عشرة آلاف، وباهي الله به مائة ألف.(1)

وذلك لأن العبد جمع في الصلاة بين القيام والقعود والركوع والسجود والذكر باللسان وغير ذلك، وليس لملك من الملائكة هذا النوع من العبادة الجامعة بين الكل، بل هذهالأفعال موزعة عليهم، فبعضهم قائمون لا يركعون إلي يوم القيامة، وبعضهم ساجدون لا يرفعون إلي يوم القيامة، وهكذا الراكعون والقاعدون، فإن ما أعطي الملائكة من القرب والرتبة لازم لهم، مستمر علي حالة واحدة لا تزيد ولا تنقص، وليس لهم مرتبة الترقي من درجة إلي أخري،وباب المزيد مسدود عليهم، ولذلك قالوا:(وَمَا مِنَّا إلَّا لَه مَقامٌ مَعلومٌ) (2) بخلاف الإنسان فإن له الترقي في الدرجات والتقلب في أطوار الكمالات، ومفتاح مزيد الدرجات هي الصلاة، قال الله سبحانه: (قَد أفلَحَ المُؤمنونَ الَّذين هُم في صَلاتِهِم خاشِعونَ) (3) فمدحهم بعد الإيمان بصلاة مخصوصة وهي المقرونة بالخشوع،ثم ختم أوصاف المفلحين بالصلاة أيضاً فقال في آخرها: (والَّذينَ هُم عَليَ صَلاتِهِم يحافِظونَ) (4) ثم قال في ثمرة تلك الصفات: (أولئكَ هُمُ الوَارِثونَ الَّذينَ يَرثُونَ الِفردُوسَ هُم فيِها خالِدونَ )(5) فوصفهم بالفلاح أولاً، وبوراثة الفردوس آخراً، فالمصلون هم ورثة الفردوس، وورثة الفردوس هم المشاهدون لنور الله بقربه ودنوه بالقلب، و كل عاقل يعلم أن مجرد حركة اللسان والجوارح مع غفلة القلب لا تنتهي درجته إلي هذا الحد.

ص: 293


1- المصدر السابق.
2- الصافات: 164
3- المؤمنون: 1 و 2
4- المؤمنون: 9-11
5- المؤمنون: 9-11

شعيرة الحج:

8_ الوصية بملازمة إقامة شعائر الحج في قوله صلوات الله عليه: والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظرواه .

ذلك ليجتمع جميع المسلمين في هذا المعبد الإسلامي العام، فيتعارفون ويتعاونون ويشد بعضهم أزر بعض، فإن الحج عمود الاجتماع الإسلامي، فلو ترك تنثلم الوحدة الإسلامية ولا يناظر المسلمون.

الحج في الشرع الإسلامي قصد البيت الحرام بمكة للعبادة، والحج من الشئون الدينية التي كانت تعرف من لدن أقدم العصور عند جميع الأمم.

وكان العرب قبل الإسلام - كسائر الأمم - يحجون إلي البيت الحرام الذي بناه إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام في مكة.

فلما جاء الإسلام أقر الحج، ولكنه لم يدعه علي ما كان عليه في عهد الجاهلية، فإن العرب كانوا يطوفون بالبيت الحرام عراة الأجساد مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفقون، وقد سجل الله عليهم هذه الحالة، فقال مستهزئاً بهم:(وَما كَانَ صَلاتُهُم عِندَ البَيتِ إلا مُكاءً وتَصدِيَةً) (1) كما أنه لما قوي الإسلام أمر الرسول صلي الله عليه وآله أن لا يدخل البيت الحرام عريان.

قصة بناء الكعبة:

الكعبة هي الموطن الأساسي لأداء فريضة الحج، لذا يجدر بنا أن نلم بقصة بنائها:

إن بناء الكعبة يرجع إلي عصر إبراهيم الخليل عليه السلام، فقد فشت عبادة الأصنام في ذلك الزمن وهجر الناس عبادة الله، فهاجر إبراهيم من بلاد الشام موطن آبائه وأجداده ومعه زوجه هاجر وولده إسماعيل، واتجه جنوباً حتي حط رحله في بادية الحجاز بعيداً عن الناس، ليكون أسرة تعبد الله وحده.

ص: 294


1- الأنفال: 35

وعندما شب إسماعيل وبلغ أشده أمر الله تعالي إبراهيم أن يقيم مصلي لتجتمع حوله الناس لعبادة الله ولذكره وشكره علي ما أنعم عليهم، وقد ذكر الله ذلك الحادث بقوله:(وَ إذ يَرفَعُ إبراهِيمَ القَواعِد مِن الَبيتُ وإسماعِيلُ ربَّنا تَقَبَّل منَّا إنَّك أنتَ السَّميعُ العَليمُ). (1)

فلما أتم إبراهيم البناء مع ابنه إسماعيل أمرهما الله أن يحافظا عليه وبعدا عنه كل رجس، سواء كان مادياً - كالأقذار - أم معنوياً كالاشراك بالله، قال الله تعالي:(وَعَهِدنا إلي إبراهِيمَ وإسماعِيلَ أَن طَهِرا بَيتيَلِلطائفيينَ والعاكِفينَ والرَّكعَ السُّجودِ) (2) فالكعبة هي أول بيت وضع للناس لعبادة الله وحده، كما يقول الله تعالي:(إنَّ أَوَّل بَيتٍ وُضِعَ للنَّاسِ للَّذي ببَكَة مباركاً وهُديً لِلعالَمينَ فِيه آياتٌ بَيناتٌ مَقام إبراهيمَ وَمَن دَخَله كانَ آمِنا) .(3)

مات إبراهيم وتبعه إسماعيل عليها السلام، وطال الزمن فأدخل الناس في أمور الحج أشياء منكرة من الشرك وعبادة الأصنام، لهذا بعث الله محمداً صلي الله عليه السلام للقضاء علي الشرك، وللرجوع إلي توحيد الله كما دعا إليه إبراهيم عليه السلام، قال الله تعالي مخاطباً أمة محمداً صلي الله عليه وآله:(هُوَ اجتَباكُم ومَا جَعَل عَليكُم في الدّينِ مِن حَرجٍ مِلَةَ أبيكُم إبراهيمَ هوسَماكُم المُسلمينَ مِن قَبلُ) (4) فالإسلام يعتبر الحج وسيلة لا غاية لتحقيق الفوائد الروحية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية، وتنطق بذلك هذه الآية (وَأذِن فِي الَّناسِ بالحَجِ يَأتوكَ رجالاً وَعَلي كُل ضامِرٍ يَأتينَ مِن كُل فَجٍ عَميقٍ ليشهَدوا مَنافعَ لَهم وذيَكُروا اسمَ الله في أيَّامٍ مَعلوماتٍ عَلي ما رَزقَهُم مِن بهيمَةِ الأنعامِ فَكلوا مِنها وأطعِموا البائِسَ الفَقيرَ).(5)

ص: 295


1- البقرة: 127
2- البقرة: 127
3- آل عمران: 96 و 97
4- الحج: 78
5- الحج: 27 و 28

تأمل قوله تعالي:(لِيشهَدوا مَنافِعَ لَهُم)وقد فسر العلماء المنافع بأنها دينية ودنيوية معاً، والدين والدنيا في نظر القرآن مترابطان ترابط الروح بالجسد، فإذا كان الدين يمه الروح بالإيمان الصحيح والآداب، فإن أمور الدنيا تمده بأسباب البقاء ودواعي الارتقاء. فلو أردنا أن نستقصي ما يمكن أن يثمره الحج للمسلمين كافة من وجوه المنافع الأدبية والمادية لضاق بنا المجال، فإن لم يكن فيه إلا تعارف الشعوب الإسلامية وإلمام بعضها بحاجات بعض لكفاها ذلك للوصول إلي مستوي رفيع بين شعوب العالم، ولكن ويا للأسف لا تزال الأمم الإسلامية تجهل أو تهمل هذه النواحي العظيمة الجديرة بالالتفات والاهتمام.

فالحج مؤتمر عام لتوحيد غابات المسلمين وتوجيههم إلي مصادر الحياة الصحيحة، بما يقتبسه بعض شعوبهم من ثقافات البعض الآخر، مما يكونون قد هدوا إليه دون غيرهم، سواء كان ذلك في عالم العلم أو العمل.

شهادة الدكتور فيليب حتي في الحج في كتابه تاريخ العرب عند كلامه عن الحج عند المسلمين:

ولا يزال الحج علي مر العصور نظاماً لا يباري في تشديد غري التفاهم الإسلامي، والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين، وبفضله يتستي لكل مسلم أن يكون رحالة مرة في حياته علي الأقل، وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعاً أخوياً، ويوحد شعوره مع شعور سواه من القادمين من أطراف الأرض، وبفضل هذا النظام يتيسر للزنوج والبربر والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم، أغنياء كانوا أو فقراء، عظماء أو صعاليك،أن يتآلفوا لغة وإيماناً وعقيدة، وقد أدرك الإسلام نجاحاً لم يتفق لدين آخر من أديان العالم في القضاء علي فوارق الجنس واللون والقومية خاصة بين أبنائه، فهو لا يعترف بفاصل بين أفراد البشر إلا الذي يقوم بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، ولا شك أن الاجتماع في مراسم الحج أدي خدمة كبري في هذا السبيل.

ص: 296

أسرار الحج:

ولنختم الكلام بما ورد عن مولانا الصادق عليه السلام في أسرار الحج ودقائقه تبركاً بكلامه وتشريفاً للختام :

روي في مصباح الشريعة(1) عنه عليه السلام وعلي آبائه وأولاده الطاهرين أنه قال: إذا أردت الحج فجرد قلبك لله تعالي من شغل كل شاغل وحجاب كل حاجب، و فوض أمورك كلها إلي خالقك، وتوكل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد علي زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً، فإن من ادعي رضا الله واعتمد علي من سواه صيره عليه وبالاً وعدواً ليعلم أنه ليس له قوة وحيلة ولا حد إلا بعصمة الله وتوفيقه، فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحية، وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه ، صلي الله عليه وآله وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاوة وإيثار الزاد علي دوام الأوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأحرم من كل شيء يمنعك عن ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبة بمعني إجابة صادقة صافية خالصة زاكية لله تعالي في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقي، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبر من حولك وقوتك، واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلي مني، ولا تتمن ما لا يحل لك ولا تستحقه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدد عهدك عند الله تعالي بوحدانيته، وتقرب إليه واتقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلي الملأ الأعلي بصعودك علي الجبل، واذبح حنجرة الهوي والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي

ص: 297


1- مصباح الشريعة: 142، باب 21

الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلائته من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودر حول البيت متحققأ لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضاً بقسمته وخضوعاً لعزته، وودع ما سواه بطواف الوداع، وصفة روحك وسرك للقائه يوم تلقاه بوقوفك علي الصفا والمروة، وكن بمرأي من الله، نقياً أوصافك عند المروة، واستقم علي شرط حجتك هذه ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبته له إلي يوم القيامة، واعلم بأن الله تعالي لم يفرض الحج ولم يخصه من جميع الطاعات بالاضافة إلي نفسه بقوله تعالي: (وَلله عَليَ النَّاسِ حجُ البَيتِ مَنِ استطَاعَ إليهِ سَبيلاً) ولا شرع نبيه ستته في خلال المناسك علي ترتيب ما شرعه إلا للاستعداد والاشارة إلي الموت والقبر والبعث والقيامة وفضل بيان السبق من الدخول في الجنة أهلها ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحج من أولها إلي آخرها لأولي الألباب وأولي النهي «انتهي كلامه عليه السلام. (1)

9- الوصية بالجهاد بالمال والنفس واللسان بقوله صلوات الله عليه:

والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله.

الأمة الإسلامية مكلفة بتحقيق العدالة في الأرض، وهذا التكليف يقتضي من المسلمين أن يكافحوا الظلم والبغي حيث كان ويزيلوا أسبابه، لا ليملكوا الأرض ويستولوا علي المرافق ويستذلوا الأنفس؛ بل لتحقيق كلمة الله في الأرض خالصة من كل غرض، وهذا ما يطلق عليه في الإسلام (الجهاد في سبيل الله) و(القتال في سبيل الله).

وسبيل الله هو سبيل الحق، فكل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو في سبيل الله، وكل قتال لدفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين ونصرة الحق فهو من القتال في سبيل الله، وكل طريق للوصول إلي الحق أو حمايته أو الدفاع عنه فهو من بل الله سبحانه و تعالي.

ص: 298


1- مصباح الشريعة: 47 - 50؛ بحار الأنوار 96: 124 و 125

والقرآن يدعو في كثير من الآيات للقتال في سبيل الله خالصاً من أي غرض دنيوي. أنظر إلي هذه الآيات التي نزلت علي الرسول وهو في المدينة المنورة والتي تبين أهداف القتال:

(فَليُقاتِل فِي سبَيل الله الَّذين َيَشرونَ الحياةَ الدُّنيا بالأخرةِ وَمَن يُقاتل في سَبيلِ الله فِيُقتَل أو يَغلِب فَسَوفَ نؤتيهِ أَجراً عَظيماً ومَا لَكم لا تُقاتِلون في سبيل الله والضعفين منَ الرِّجال والنساءَ وَالولدانِ الَّذين يَقولونَ ربنَّا أخرجنا مِن هَذه القَريةِ الظالِمِ أهلُها وَاجعَل لَنا من لَدُنك ولياً واجعَل لَنا مِن لَدنكَ نَصيراً).(1)

ففي هاتين الآيتين لفت لطيف إلي أن الحرب في الإسلام ليست للتحكم في الرقاب ولإذلال العباد، بل هي في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المؤمنين الساكنين في مكة الذين استذلهم أهل مكة الكفار، و آذوهم أشد الإيذاء ليمنعوهم من الهجرة، وليفتنوهم عن دينهم، هؤلاء المستضعفون الذين فقدوا النصير واستغاثوا بالله، فعليكم أيها المؤمنون أن تنصروهم وترفعوا عنهم الظلم.

ثم قال تعالي بعد ذلك عقب الآيتين اللتين ذكرناهما:(الَّذينَ آمَنوا يُقاتلونَ فِي سَبيل الله والَّذين كفَروا يُقاتلون في سَبيل الطَّاغوتِ فقاتِلوا أولياءَ الشَّيطانِ إنَّ كيَد الشَّيطانِ كان ضَعيفاً)(2) والطغيان حسب ما نصت عليه معاجم اللغة هو مجاوزة الحد، وكل شيء جاوز المقدار والحد في العصيان فهو طاغ، يقال: طغي السيل: ارتفع حتي جاوز الحد في الكثرة، وكذلك إذا تجاوز الإنسان الحد وعلا في الأرض يفسد فيها ويستعبد الناس ويسلبهم حقوقهم ويحرمهم ثمرات الأرض وخيراتها، فذلك هو القتال في سبيل الطاغوت الذي ندد به الله وجعله شعار الكفار.

أما القتال في سبيل الله فهو الذي غايته أن يرفرف القانون الإلهي العادل علي

ص: 299


1- النساء: 74 و 75
2- النساء: 76

العالمين، دون أن يكون هناك غاية شخصية أو علو في الأرض كما أمر به تعالي (تلكَ الدَّارُ الآخِرةٌ نَجعَلها اللَّذين لا يُريدُونَ عُلواً في الأرض وَلا فَساداً والعاقِبةُ للمتقينِ) .(1)

وقد ورد في الحديث أنه قال أعرابي للنبي صلي الله عليه وآله : الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليري مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال صلي الله عليه وآله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.(2)

فالإسلام في جهاد دائم لا ينقطع أبداً لتحقيق كلمة الله في الأرض، أي التحقيق النظام الصالح الذي يسعد البشرية، والأمة الإسلامية منتدبة لرفع الظلم عن الأفراد والجماعات في أقطار الأرض كافة، بقطع النظر عن ألوانهم وأجناسهم وأديانهم، قال الله تعالي مخاطباً أمة محمد صلي الله عليه وآله :(وَكَذلكَ جَعلناكُم اُمةً وَسطاً لِتكُونوا شُهداءَ عَلي النَّاسِ ويَكونَ الرَّسولُ عَليكُم شَهيداً) .(3)

أي لتكونوا شهداء علي الناس في تقصيرهم وغلوهم، فتقوموا بإصلاح عوجهم.

وليس في هذا الأمر إظهار فضل أمة علي أمة أخري أو جرح كبرياء أمة من الأمم،لأن الله الذي وضع هذا الانتداب لم يجعله ميزة لشعب من الشعوب ولا وقفاً علي جنس من الأجناس، ولكنه جعله للجماعة التي ندين بأصوله مهما كان لون هذه الجماعة أو جنسيتها، ولهذا كانت دعوة الإسلام في سبيل الاصلاح عامة لكافة الجنس البشري لا تختص بأمة دون أمة، ولا بطائفة دون طائفة، ونصوص القرآن واضحة في أن الإسلام دين عام للناس كافة، قال الله تعالي مخاطباً رسوله محمداً:(قُل يا أيُّها النَّاسُ إنّي رسولُ الله إليكم جَميعاً الَّذي لَه مُلك السَّماواتِ والأرضِ لا إله إلا هويُحيي ويُميتُ فامنوا بالله ورسوله

ص: 300


1- القصص: 83
2- الجامع الصغير للسيوطي 2: 627/ الرقم 8891
3- البقرة: 143

الَّنبي الأُمي الَّذي يؤمِن باللهِ وكَلماته واتَّبعُوهُ لَعلَكُم تَهتدونَ .(1) وقال سبحانه: وما أرسَلناكَ إلا كَافةً للنَّاسَ بشيراً ونَذيراً وَلَكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ).(2)

الاستعداد للحرب:

ومن مزايا الشريعة الإسلامية أنها شريعة عملية تواجه الحقائق البشرية بالحل العملي، فما دامت الموعظة الحسنة لا ترد الظلم والاعتداء، وما دام أعداء الإسلام لا يرضون حسن الجوار والعهد القائم علي الانصاف وحرية العقيدة، فإن الحرب واقعة بين الناس؛ ولهذا أمر الإسلام بالاستعداد لها، وأخذ الأهبة للحرب، قال الله تعالي:(وَأعِدوا لهم مَا استَطَعتُم مِن قُوَةِ وَمِن رباطِ الخَيلِ تُرهبونَ به عَدّو الله وعَدوُكم وآخرينَ مِن دونَهم لا تَعلمُونَهم الله يَعلَمُهُم ومَا تنفقوا مِن شَيء فِي سَبيل الله يُوَفَّ إليكُم وأنتم لا تُظلمونَ ). (3)

أمر الله المسلمين في هذه الآية بأن يستعدوا لأعدائهم بكل ما يستطيعون من قوة، وهو أمر لا يختص بزمان ولا بفريق من الناس، ولفظ القوة عام في كل ما يتقوي به علي حرب العدو، وكل ما هو آلة للحرب من الحصون وأسلحة البر والبحر والهواء علي اختلاف أنواعها وأشكالها بحسب الأزمنة والأمكنة المختلفة، ومصانع الذخيرة وكل ما يفيد في صلاحية الأمة للحرب، كإنشاء معاهد لتعليم فنون الحرب، وغير ذلك مما يجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب.

ومعني قوله تعالي: (وَمِن رباطِ الخَيلِ ) يعني حبسها واقتناءها، وقد أمر الله بإعداد رباط الخيل لأن الخيل كانت مركب الحرب في زمن الرسول، فإذا تغير الزمان وصار مركب الحرب سفناً حربية وطائرات وسيارات مصفحة، وجب علي المسلمين أن

ص: 301


1- الأعراف: 158
2- سبأ: 28
3- الأنفال: 60

يعدوا ذلك، لأن الأمر بإعداد رباط الخيل ليس لذات الخيل، بل لأنها مركب الحرب، فإذا صار مركب الحرب شيئاً غيرها أقوي منها انتقل الأمر إليه.

والقصد من إعداد هذه القوي إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي علي بلاد الأمة الإسلامية ومصالحها، ولأجل أن تكون آمنة في عقر دارها، وهذا ما يسمي في غرف هذا العصر بالسلم المسلح، وقد أوجبه الإسلام قبل أن يعرفه أهل أوروبا بزمن طويل، وهذا معني قوله تعالي: (تُرهِبونَ بِه عَدوَّ الله و عَدُوُّكُم).

وصايا عامة أثناء الحرب:

وعند اندلاع الحرب تتجلي لنا ناحية رائعة في تعاليم الإسلام التي يفرضها علي أتباعه، والتي هي عماد النصر للشعوب الآخذة به، قال الله تعالي:(يا أيها الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُم فَاثبتَوا وَاذكُروا الله كَثيراً لَعَلكم تُفلحونَّ وأطيعُوا الله ورسُوله ولا تنَازَعوا فَتَفشَلوا وتَذهَبَ ريحُكُم واصبِروا إن الله مَع الصَّابرينَ). (1)

اشتملت هاتان الآيتان علي خمس وصايا، وهي:

أولاً: الثبات عند لقاء العدو وعدم الفرار من المعركة؛

والنظام الحربي المعاصر يقضي بقتل الجندي الفار من القتال حال فراره، وذلك خشية أن تنتقل عدوي فراره إلي غيره، فتحدث البلبلة والجزع في صفوف المقاتلين، فيكون داعياً لهم علي الهزيمة.

ثانياً: ذكر الله في حالة الحرب؛

فذكر الله في حالة الحرب له تأثير فعال في النصر، لأن الإيمان يمد المحارب بقوة معنوية هائلة تسند القوة المادية فتدعمها ويكون لها الحكم الفصل في المعركة

ثالثاً: الطاعة؛

طاعة الله أولا، وذلك ما أمرهم به من الوصايا التي تنهض

ص: 302


1- الأنفال: 45 و46

بحالهم، وعدم معصيته. وإطاعة الرسول فيما يأمر به من شؤون القتال، فقد كان الرسول هو قائدهم في أغلب المعارك التي خاضوها ضد الكفار.

رابعاً: عدم التنازع،

فالنزاع في حال القتال مدعاة للفشل وتغلب الأعداء عليهم.

خامساً: الصبر علي ما يكرهون من شدة،

وما يلاقون من بأس العدو وكثرة عدده،فإن الله مع الصابرين بالمعرفة والتأييد، والصبر في الحرب من أعظم الوسائل لنيل النصر.

10 _ التواصل وحفظ الرابطة مع الإخوان المسلمين في شتي البلاد الإسلامية، وبذل العون بالمال والحال بعضهم مع بعض في قوله صلوات الله عليه: وعليكم بالتواصل والتباذل.

التواصل والتزاور من ثمرات النصيحة والمحبة، وثوابه أكثر من أن يحصي، فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «حدثني جبرئيل عليه السلام أن الله عزوجل أهبط إلي الأرض ملكاً، فأقبل ذلك الملك يمشي حتي وقع إلي باب عليه رجل يستأذن علي رب الدار، فقال له الملك: ما حاجتك إلي ربة هذه الدار؟ قال: أخ لي مسلم زرته في الله تبارك وتعالي، فقال له الملك: ما جاء بك إلا ذاك؟ فقال: ما جاء بي إلا ذاك، قال: فإني رسول الله إليك، وهو يقرئك السلام ويقول: وجبت لك الجنة. وقال الملك: إن الله عزوجل يقول: يقول: أيما مسلماً زار مسلمة فليس إياه زار؛ بل إياي زار، و ثوابه علي الجنة.(1)

وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: القاء الاخوان مغنم جسيم وإن قلوا.(2)

وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: إن الله لك جنة لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم علي نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في الله، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله.(3)

ص: 303


1- الكافي 2: 176/ ح3
2- الكافي 2: 179/ ح16
3- الكافي 2: 178/ ح 11

وقال عليه السلام: أيما مؤمن خرج إلي أخيه يزوره عارفاً بحقه كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة؛ (1) والأخبار الواردة بهذا المضامين كثيرة.

11 - ترك التدابر والهجر والقطيعة، فإنه يوجب المقت والعداوة وسوء الظن والتخاذل، في قوله صلوات الله عليه: وإياكم والتدابر والتقاطع.

ذلك أن التدابر والتقاطع من رذائل الأعمال وذمائم الأفعال، ومن نتائجهما العداوة والحقد، أو الحسد أو البخل.

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: أيما مسلمين تهاجرا، فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام ولم يكن بينهما ولاية، فأيهما سبق الكلام لأخيه كان السابق إلي الجنة يوم الحساب.(2)

وقال صلي الله عليه وآله : لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.(3)

وقال الصادق عليه السلام: لا يفترق رجلان علي الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة، وربما استحق ذلك كلاهما، فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا للظالم، فما بال المظلوم؟ قال: لأنه لا يدعو أخاه إلي صلته، ولا يتعامس(4) له عن كلامه، سمعت أبي عليه السلام يقول: إذا تنازع اثنان فعاد أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلي صاحبه، حتي يقول لصاحبه أي أخي أنا الظالم حتي يقطع الهجران بينه وبين صاحبه، فإن الله تبارك وتعالي حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم. (5)

ص: 304


1- الكافي 2: 184/ ح 184
2- الكافي 2: 345/ ح5
3- من لا يحضره الفقيه 4: 380 ح5809
4- تعامس: تغافل
5- الكافي 2: 344 ح 1

وقال عليه السلام: لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكت ركبتاه و تخلعت أوصاله ونادي: يا ويله ما لقي من الثبور.(1)

وقال الإمام الباقر عليه السلام: إن الشيطان يغري بين المؤمنين مالم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقي علي قفاه وتمدد ثم قال: فزت، فرحم الله امرءاً ألف بين وليين لنا، يا معشر المؤمنين تآلفواو تعاطفوا.(2) والأخبار الواردة في ذم الهجران والتباعد كثيرة.

12 _ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

في قوله صلوات الله عليه: لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولي عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله التعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشري الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلي يوم التناد.

والأدلة علي لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة في الشريعة الإسلامية، حتي لقد عدت بحق شريعة الأمر بالتواصي بالحق والتناهي عن المنكر، فقد قال الله تعالي:

(والعَصراِنَّ الإنسان لَفي خُسرٍ إلَّا الَّذينَ آمنوا وعَملوا الصَّالحاتِ وتَواصَوا بالحَقِ وتَواصَوابالصَّبر). (3)

وقال تعالي في سورة آل عمران: (وَلتَّكُن مِنكُم أُمَّةُ يَدعُونَ إليَ الخَيرِ

ص: 305


1- الكافي 2: 346/ ح 7
2- الكافي 2: 345/ ح6
3- العصر: 1 - 3

ويَأمُرُونَ بِالمَعروفِ ويَنهَونَ عَنِ المُنكَر وأُولئكَ هُمُ المُفلحونَ (1) وقال تعالي: كُنتُم خيرَ أُمَةٍ أخرِجَت لِلنَّاس تأمُرونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَن المُنكَر وتؤمنونَ بالله). (2)

وقد روي أن النبي صلي الله عليه السلام قال: ما أعمال البرّ عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي .(3)

وقال صلي الله عليه وآله : إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.(4)

والأخبار متضافرة بما كان عليه سلف هذه الأمة من القيام بذلك الحق، لا يهابون في ذلك سلطان ذي سلطان، ولا تأخذهم رأفة في دين الله ولا هوادة في إقامة حقه والأخذ بناصر دينه. وكل شيء هن في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وكل عذاب سهل مقبول إذا كان من كلمة حق قالوها، لا يمنعهم من أن يصدموا بها أقوي الحكام عتواً وأشدهم قسوة، وأبعدهم في الأذي منالاً.

وما أخبار وعاظ التابعين مع الحجاج وأشباهه من حكام بين أمية ببعيدة عن الأذهان: كانوا لا يتخذون فيما يفعلون تقية، ولا يرضون في دينهم بالدنية:

الحسن البصري يمدح علياً عليه السلام:

يروي أن الحجاج جمع بعض علماء العراق وفيهم الحسن البصري والشعبي، وأخذ يحادثهم، فذكر علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فنال منه وجاراه من معه تقريباً له، وأمناً من شره، إلا الحسن البصري فصمت علي مضض وعض علي إبهامه إذ علي مرجل غضبه، فالتفت إليه الحجاج وقال: يا

ص: 306


1- آل عمران: 104
2- آل عمران: 110
3- وردت الفقرة الثانية من الحديث في بحار الأنوار 97: 89 منسوبة إلي أمير المؤمنين عليه السلام
4- الخصال للصدوق: 6/ ح16

أبا سعيد مالي أراك ساكتاً؟ قال: ما عسيت أن أقول؟ قال: أخبرني عن رأيك في أبې تراب، قال: سمعت الله جل ذكره يقول: (مَا جَعلنا الَقبلَة التَّي كُنتَ عَليها الإلنَعلَم مَن يَتَبَع الرسُول ممَّن يَنقلبُ عَلي عَقَبيه وَإن كَانت لَكبَيرةً إلَّا عَليَ الَّذين هَدي الله ومَا كَانَ الله ليُضيعَ إيمانَكُم إن الله بالنَّاس لرؤفٌ رحيمٌ)(1) فعلي ممن هدي الله من أهل الإيمان،فأقول: ابن عم النبي صلي الله عليه وآله وختنه علي ابنته، وأحب الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه، ولا يحول بينه وبينها، وأقول: إن كانت لعلي هنات فالله حسبه، والله ما أجد فيه قولا أعدل من هذا.

فبسر وجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضباً فدخل بيتاً خلفه وخرج الجمع، فقال عامر الشعبي: أغضبت الأمير وأوغرت صدره، فقال: إليك عتي ياعامر، يقول الناس: عامر الشعبي عالم أهل الكوفة أتي شيطاناً من شياطين الإنس فكلمه بهواه وقاربه في رأيه، ويحك يا عامر! هل اتقيت إن سئلت فصدقت أو سكت فسلمت!! قال الشعبي: يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها، قال الحسن: فذاك أعظم في الحجة عليك وأشد في التبعة.

وبعث الحجاج إلي الحسن، فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول: قاتلهم الله قتلوا عباد الله علي الدينار والدرهم. قال: نعم، قال: ما حملك علي هذا؟ قال: ما أخذه الله علي العلماء من المواثيق البينه للناس ولا يكتمونه. قال: يا حسن أمسك عليك لسانك، وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك. (2) هكذا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الفريضة التي لو أخذنا بها كما أخذ ذلك السلف الصالح لارتبط حاضر الأمة بماضيها، ولاتصلت نفوس الحاضرين بنفوس السابقين بتلك الأمراس النورانية.

ص: 307


1- البقرة: 143
2- إحياء علوم الدين 2: 346؛ نقلاً عن نفحات الأزهار 14: 276

ص: 308

ومن خطبة له عليه السلام :

يوصي فيها بتقوي الله والتذكير بالموت

(فانَّ تَقوَي الله مِفتَاحُ سَدادٍ وذَخيرَةٌ مَعاد وَعِتقٌ مِن كُل مَلكَة ونَجاةٌ مِن كُل هَلكَة بِها يَنجَح الطَّالب وَينجُو الهَاربُ وتنُالَّ الرَّغائبُ فاعمَلوا وَالعَمل يُرفَع والتُوبَة يَنفَعُ والدُّعاءُ يُسمَعُ والحالُ هَادئةٌ وأقلام جاريةٌ وبادِروا بالأعمَال عُمُرا ناكساً أَو مَرَضاً حابساً أو مَؤتاً خالساً فإنَّ المَوتَ هادَمٌ لذاتَكُم زائرٌغيرُ محبوبٍ و قَرنٌ غيرُ مغلوبٍ و واترٌغيرُ مطلوبٍ قد اعلَقَتكُم حبائلُهُ و تكَنَّفتَكُم غوائلَهُ و اقصَدَتكُم مَعابِلُهُ وعَظَمَت فيكُم سَطوَتُهُ و تتابَعَت علَيكم عَدوَتُهُ قَلَّت عنكُم نبوَتُهُ فيُوشَكُ أَن تَغشَاكُم دَواجِي ظلَلِه واحتِدامُ عِلله وحَنَادِسُ غَمَراتَه وَغَواشِي سَكَرَاتِه وَأَليمُ إِرهَاقِه ودُجُوُّ أطبَاقِهِ وجُشُوبَةُ مَذاقِهِ).

(شرح ابن أبي الحديد مج 3، ص 181، ط الأولي).

الشرح:

هذه الخطبة الشريفة من محاسن خطبه صلوات الله عليه وفيها من نكات البلاغة وفنون البديع ما لا يخفي علي المصقع البارع.

حث فيها علي التقوي، ومن البديهي أن المثل الأعلي للحياة الانسانية في الإسلام وعند الإمام هو التقوي، فقل أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الأمر بالتقوي - تقوي الله – وقل أن ترد خطبة أو كلمة في نهج البلاغة لم يرد فيها الأمر بالتقوي، تقوي الله. فالقرآن أمرنا بالتقوي وفضلها، ومدح المتقين، والإمام أمر بالتقوي ووصفها ومدح المتقين :

ص: 309

ولم يهتم عليه السلام بشيء من الفضائل كاهتمامه بالتقوي، لأن تقوي الله تعالي أصل الانسانية الكاملة والسعادة الأبدية، وبها يتم نظام الدنيا والآخرة.

في أصل الأصول ومحور الأخلاق الفاضلة.

التقوي أصل جميع الفضائل:

وتعتبر التقوي هي الوسط في جميع الفضائل، وهي المدينة الفاضلة التي وعد بهما الأنبياء والمرسلون.

ولها درجات لا تتناهي، وفي بعض الدرجات يصل العبد إلي مرتبة تجلي الحق تعالي في مشاعر العبد وقواه، وذلك التجلي يبقي ويدوم ولا يفني وإن تبدلت العوالم وتغيرت.

وقال صلوات الله عليه :

(عِبادَ الله أُوصيكُم بتَقويَ الَلهِ فإَّنها حقُ الله عَليَكُم والمُوجبَةُ عَلي الله حَقَّكُم وأن تَستَعينُوا عليها بالله وتَستَعينوا بها علي الله فَإنَّ التَّقوي فِي اليَوم الحِرز والجُنَّةُ وفي غَدٍ الطَريقُ الي الجَنَّة مسلَكها واضِحٌ وسَالِكُها رابِحٌ و مُستَودَعُها حافِظٌ لَم تَبرَحَ عَارضَةً نَفسَها عَلي الُأمَم المَاضينَ مِنكُم والغَابِرينَ لِحَاجَتهم إلَيها غداً إذا أَعادَ اللهُ ما اَبَدي و اخَذَ ما اعطي وَ سَاَلَ عمَّا اَسَدي فما اقَلَ مَن قَبلَها وحَمَلَها حَقَّ حَملَها اولئكَ الاقَلون عدداً وهُم أهلُ صفَة الله سُبحَانَه إذ يَقولُ وقَليلٌ مِن عِباديَ الشَّكورُ فَاَهطَعُوا بأسمَاعَكُم إليها وأَلِظوا بِجِدِّكم عَليهَا وَاعتاضُوها مِن كُل سَلفٍ خَلَفاً ).(1)

وقال صلوات الله عليه:

(أمَّا بَعد فَإني أُوصيكُم يتَقوَي الله الَّذي ابتَداَ خَلقَكُم وإلَيه يَكُونُ مَعَاكُم و به نَجاحُ طَلَبتكُم وإليه مُنتَهي رَغَبتَكُم ونحوَه قَصد سَبيلكُم وإليه مَرامي مَفزَعكُم فإنَّ تَقوَي الله دَواءُ داء قُلوبِكُم وبَصَرُ عَمَي أفئِدتِكم وشِفاءُ مَرَض أجسادِكُم وصلاحُ فَسادِ

ص: 310


1- شرح نهج البلاغة 13: 115

صُدورِكُم وَطُهورُ دَنَس أنفُسِكُم وَجَلاءُ عَشَا أبصارِكُم وأمنُ فَزَعِ جَأشِكُم وَضياءُ سَوادِ ظُلمَتكُم فَاجعَلُوا طَاعَةَ الله شعَارٍ دُونَ دِثَارِكُم ودَخيلاً دُونَ شَعارِكُم ولَطيفاً بَينَ أضلاَعِكُم وأميراَ فوقَ أمُورِكُم ومَنهلاً لِحينَوُودِكُم وَشَفيعاً لَدَركَ طَلبكُم وجُنَّة لِيومٍ فَزَعكُم ومصابيحَ لُبطونَ قُبُوركُم وَ سَكَناً لَطولِ وَحشَتِكُم و نَفساً لَكَربِ مَواطِنِكُم فَإنَّ طاعَة اللهِ حَرز مَن مَتالِفَ مُكتَنفَة ومَخَاوفَ مُتوَقَعة وأُوارِ نيَرانٍ مُوقَدَةٍ فَمَن أَخَذ بالتَّقوي عزَبَت عنهُ الشَّدائد بَعدَ دُنُوهاً واحلوُلَت لَهُ الأمُورُ بَعدَ مَرارتَها وانفَرَجَت عَنهُ الأمواجُ بَعد تَراكُمهَا وأسهَلَت لَه الصَّعابُ بَعد إنصابِهَا وَهَطَلت عليه الكَرامَة بَعد قُحُوطِها. وَتَحَدَبَّت عَليه الرَّحمَة بَعدَ نُفُورِها وتَفَجَرَت عَليه النِّعمُ بَعدَ نُضُوبِهَا وَوبَلَت عليه البَرَكَةُ بَعد إرذاذِهَا). (1)

ولكن ما هي التقوي :

إن الإمام صلوات الله عليه لم يتعرض لوصف التقوي من داخل إذا صح التعبير، بل اكتفي - علي كثرة ما قاله فيها - بوصفها من خارج: ميزاتها وفضلها وثمرتها، وأصحابها، أما هي بذاتها: مقوماتها، طبيعتها، فأمر لم يتعرض له الإمام صلوات الله عليه، وإنما تعرض له القرآن. ولعل الإمام ترك الكلام في هذه الجهة اعتماداً علي ما جاء في القرآن، واعتمادا علي أن المسلمين إذ ذاك كانوا - ولا شك _ يعون ما هي التقوي، فاكتفي بتشويقهم إلي الأخذ بها والاعتصام بحبلها، أو أن الإمام قد تكلم في هذا الموضوع وأعطاه حقه من البيان، ولكن الشريف الرضي رحمه الله لم يقع علي شيء منه، أو وقع عليه ولم يكن بين ما اختاره. وعلي أي حال ففيما قدمه لنا القرآن غني وكفاية.

آيات في التقوي:

قال الله تعالي: (ذلكَ الكِتابُ لا ريبَ فِيه هُديً اللمُتَقينَ الَّذين يؤمنونَ بالغَيبِ

ص: 311


1- شرح نهج البلاغة 10: 188 و 189

و يُقيمُونَ الصَّلاةَ وممَّا رَزَقناهُم و الَّذين يؤمنونَ بِما أُنزلَ إليكَ وَما أنزلَ مِن قَبلِكَ وبالآخرَةِ هُم يُوقِنونَ أولئك علَي هُديً مِن رَبِّهم وأولئك هُمُ المُفلحونَ).(1)

وقال تعالي: (لَيسَ البرَّ أَن تُولَوا وُجوهَكُم قبَل المَشرق والمَغرب وَلكَّن البرَّ مَن آمَن بالله وَاليَومِ الآخرِ والمَلائكةِ والكتابَ والنَبيَنَ وأتي المال عَلي حُبَّه ذَوي القُربي واليَتامَي والَمساكينَ وابن السَّبيلَ والسَّائلينَ وفِي الرَّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وأتي الزَّكاةَ والمُوقونَ بِعَهدهم إذا عاهَدوا والصَّابرينَ فِي البَأسَاء والضَرَّاء وحينَ البأسِ أولئك الَّذينَ صَدقُوا وأولئكَ هُمُ المُتَقُون).(2)

وقال تعالي: (وَسارَعوا إلي مَغفرةَ مِن ربّكُم وجَنَّة عَرضِها السَّماوات والأرضُ أُعدَّت للمتَقينَ الَّذينَ يُنفَقونَ في السَّراء والضَرَّاء والكاظِمينَ الغَيظَ والعَافِينَ عَن النَّاس والله يُحبُّ المُحسنينَ).(3)

وقال تعالي: (وَلا يَجرمَنكُم شَنآنُ قَومٍ عَلي ألا تعَدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أقرَبُ للتَّقوي).(4)

وروي عن النبي صلي الله عليه وآله أنه قال: جِماع التقوي في قوله تعالي:(إنَّ الله يَأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاء ذي القربي ويَنهي عَن الفَحشاء وَالمُنكَر والبَغي يَعظُكُم لَعلَكُم تَذكَرونَ).(5)

وقال صلي الله عليه وآله : من اتقي الله عاش قوياً، وصار في بلاد عدوه آمناً. (6)

وقال صلي الله عليه وآله: خصلة من لزمها أطاعته الدنيا والآخرة، وربح الفوز بالجنة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التقوي، من أراد أن يكون أعز الناس فليتق الله عزوجل، ثم تلا(وَمَن يَتَقِ اللهَ يَجعَل لَه مَخَرجاً) (7) الآية. (8)

ص: 312


1- البقرة: 2 - 5
2- البقرة: 177
3- آل عمران: 133 و 134
4- المائدة: 8
5- النحل: 90/ روضة الواعظين: 437
6- بحار الأنوار 67: 283
7- الطلاق: 2
8- بحار الأنوار 67: 283

من هذه النصوص الإلهية، وغيرها أكثر منها، تعرف طبيعة التقوي أنها الفضيلة في أرفع معانيها وأجل صورها، أنها الايمان بالله في أظهر حالاته وأسمي معانيه، وبذل المال لمن أعوزه المال، ولكن كيف؟ بذل المال علي حبه... حب الله تعالي، فلا امتنان علي المعطي ولا إفضال. ومتي؟ إنها بذله في السراء والضراء، وهي الصبر في جميع المواطن وفي جميع الأحوال، وهي كظم الغيظ، وهي العفو عن الناس، وهي العدل فيهم والاحسان إليهم، وهي وهي...

هذه هي التقوي، فإذا حققت التقوي في نفسك وعيت وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تلم به من فعل أو قول، وتحريت الفضيلة أني كانت، فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حية تعمل بحرارة وإخلاص علي رفع مستوي الكيان الإجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرت في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، وتكون قد حققت في نفسك المثل الأعلي الذي نصبه الإسلام.

التفاضل بالتقوي لا بكثرة المال:

فالمال لا يكسب قيمة إلا إذا بذل حيث أجاز الله أن يبذل، وإلا إذا اخذ وسيلةً إلي رضوان الله.

أما أولئك الذين لا يبذلون أموالهم فلا جدوي منهم للجماعة، ولذلك فلا مزية لهم علي غيرهم من الناس الذين لا مال لهم، والسلامة لا قيمة لها حين لا يكون صاحبها متقيأً لله. والقوة لا قيمة لها حين لا يستخدمها صاحبها في مرضاة الله، والسلطان لا يكسب صاحبه قيمة إلا إذا كان ذا تقوي.

هناك أغنياء وفقراء، وحاكمون و محكومون، وأقوياء وضعفاء، وأناس تحدروا من سلالات لها ماض عريق، وآخرون ليس لهم ماض مذكور، ولكن كل هذا لا يرفع من صاحبه ولا يضع إلا إذا اقترن بالتقوي أو عري

ص: 313

عنها. وتعاليم الإسلام صريحة في ذلك لا لبس فيها ولا غموض، فهي تنص علي أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوي.

قال الله تعالي: (إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقاكُم).(1)

وقال النبي صلي الله عليه وآله :لا فضل لعربي علي عجمي إلا بالتقوي.(2)

وقال الإمام علي صلوات الله عليه: لا تضعوا من رفعته التقوي، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا.(3)

وإذن فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع.

وهكذا تكون الرغبة في الخير ورضوان الله، ومساعدة الضعفاء وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقرباً إلي الله هي رائد كل إنسان وعي مبادئ الإسلام.

وهكذا تكون الطبقات مظهر حبٍ ورحمة وتآزر وإيثار وتعاون علي البر والتقوي، بدل أن تعبر عن تفسخ و انحلال.

هذا هو المثل الأعلي للحياة في الإسلام وعند الإمام.

مراتب التقوي ثلاث:

الأولي: التوقي عن العذاب المخلد بالتبرئ عن الشرك، وعليه قوله تعالي: (وَألزَمَهُم كَلمَة التَّقوي). (4)

الثانية: التجنب عن المآثم كلها كبيرها وصغيرها، وهو المتعارف في الشرع، وعليه قوله تعالي: (وَلَو أنَّ اَهلَ القُري امنَوا واتَّقوا) . (5)

ص: 314


1- الحجرات: 13
2- مسند أحمد 411:5 ؛ تفسير القرطبي 16: 342
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 116
4- الفتح: 26
5- الأعراف: 96

الثالثة: هي التنزه عما يشغل عن الحق تعالي بالكلية، وهي التقوي الحقيقية المطلوبة بقوله تعالي: (اتَّقوا اللَه حَقَّ تُقاتِهِ ).(1)

وكانت الدعوة إلي التقوي من أهم ما دعا إليه الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله بعد الدعوة إلي الإيمان والإسلام، وقضي كل أيامه وهو ينصح المؤمنين بالتزامها والتزود منها؛ لأنها أساس التعبد وأصل الطاعة، وبها تؤتي الأعمال علي أتم الوجوه، حيث يقول الله تعالي: (وَتَزَوَّدوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوي وَاتَّقونِ يا أوليِ الألبابِ.) (2)

وأخبر جل وعلا بأن جميع الأعمال التعبدية لم تشرع إلا لتكون وسائل إلي التقوي بما تطبعه في النفس من ملكة مراقبة الله، فتكون تقية نقية راضية مرضية.

ولقد حسبها بعض الناس درجة من الصلاح لا تنال إلا بالتفرغ للصلوات وملازمة المساجد والانقطاع عن الدنيا والزهد في كل ما فيها من الملذات، مما يكون دليله في الظاهر الفقر والمسكنة وليس مرفوع الثياب. وهذا خطأ لا يقره الإسلام، فالتقوي في اللغة مشتقة من اتقي فلاناً أي حذره وخافه؛ فتقوي الله مخافته وتجنب كل ما يغضبه.

وهي أثر الايمان الكامل بالله، وهي النتيجة الطبيعية التي يصل إليها كل من يؤمن بأن الله الذي خلقه وأبدع كل دقيق في جسمه قادر علي تعذيبه عاجلاً و آجلاً إذا هو أقدم علي معصيته واستهان بأوامره، كما يوقن بعلمه تعالي بكل شيء يصدر منه، بحيث يتصوره مشرفاً عليه حتي في خلواته، ورقيباً علي جميع حركاته وسكناته، فيحمله هذا علي محاسبة نفسه عن كل فعل، فلا يقدم علي أي أمر فيه معصية خالقه أو الاضرار بمصالح عباده، وفي هذا يقول تعالي: (إنَّ الَّذينَ اتَّقوا إذا مَسَهُم طائفٌ مِنَ الشَّيطانِ تَذَكَّروا فَإذا هُم

ص: 315


1- آل عمران: 102
2- البقرة: 197

مُبصِرونَ) (1) وذكر العصاة بعلمه بكل ما يصدر منهم، وتوعدهم بعذابه، حيث قال: (أًرًأيتً إن كَذَبَ وتَوَلي ألَم يَعلَم بأنَّ الله يَري كلاَ لئِن لَم يَنتَه لَنسفَعاً بالنَّاصيَةِ). (2)

وأمرنا أن نتخير في أعمالنا ما ينفعنا في الحياة الأخري، حيث قال:(يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا الله ولتَنظُر نَفسٌ ما قَدَمَت لِغَد واتَّقوا الله إنَّ الله خَبيرٌ بِما تَعمَلون).(3)

وأخبرنا بأنه قد أعد الجنة في الآخرة للمتقين، ووصفهم لنا بأعمالهم المنبعثة عن قوة إيمانهم بقلوبهم، إشارة إلي أن التقوي هي في الأمور التي يشعر بها الإنسان في نفسه، فيدرك مبلغ قربه من ربه ورضائه عنه، ولو لم تدل علي ذلك مظاهره، حيث يقول تعالي: (وَسَارعوا إلي مَغفرةٍ مِن ربكم وجَنَّة عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتقين الَّذين يُنفقونَ في السَّراء والضَرَّاء والكاظمين الغيظً والعافينَ عَن النَّاس والله يُحبُ المُحسنينَ والذين إذا فَعَلوا فاحشَةً أو ظَلَموا أنفُسَهُم ذَكروا الله فَاستغَفروا لذُنوبِهِم ومَن يَغفرُ الذُنوبَ إلا الله ولَم يُصِروا عَلي ما فَعَلوا وهُم يعلمون أولئك جَزاؤُهُم مغفرةٌ مِن رَبِّهِم وجَنَّاتٌ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها ونَعمَ أجرُ العامِلينَ) .(4)

كيف تحقق التقوي :

وهذا صريح في أن التقوي ليست بكثرة الصلاة والصوم وأمثالهما من العبادات الظاهرة، وليست هي بالتقشف والدروشة، وإنما تتحقق بخمس خصال هي:

1 - حب البذل والاتفاق في سبيل الله في حالتي الشدة والرخاء .

2- ضبط النفس ومقاومة هواها فيما يغضب موالاها.

3 _ الأخذ بمبدأ التسامح والعفو عند المقدرة.

ص: 316


1- الأعراف: 201
2- العلق: 13 - 15
3- الحشر: 18
4- آل عمران: 133 - 136

4_ الإحسان إلي المسيء

5- مراقبة الله ودوام الخوف منه، والرجوع إليه من أثر المعاصي بالندم والإستغفار، وعدم الإصرار علي فعل السيئات.

فالتقوي - بهذا الاعتبار - من الأمور التي لا تمنع المسلم في هذه الحياة من العمل للدنيا، ولا تحرمه من التمتع بملذاتها المشروعة، بل إنما تدعوه فقط إلي مراقبة الله والخوف منه والثقة به والرجوع إليه بطلب الرحمة والغفران في كل وقت، لا سيما عند كل زلة ومعصية، ومن أجل هذا حرص الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله علي أن يمكن في قلوب أتباعه خوف الله واليقين بقدرته علي كل شيء إلي حد ينتفي معه الخوف من غيره، وحصر الأمل فيه جل وعلا دون سواه، باعتباره هو وحده صاحب السلطان المطلق القادر علي وقاية كل من يريد وقايته في كل مكروه، ونصرة من يريد نصرته بما يملك من قوي خفية وظاهرة، حيث يقول تعالي:

(يا أيُها الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حَقَّ تُقاتِه ولا تَمُوتُنَّ إلّا وأنتُم مُسلِمونَ).(1) وحق التقوي هو خوف الله أكثر من كل ما سواه، وإلي هذا أشار تعالي بقوله: (أتَخشَوهُم فَالله أَحَقُّ أن تَخشَوهُ إن كنتُم مُؤمنينَ).(2) وحق التقوي هو أن يؤثر الإنسان عفو الله وغفرانه وثوابه في الآخرة عن كل شيء في الدنيا؛ بل يتحمل في سبيل ذلك مر العذاب، ولذلك امتدح الله في كتابه أولئك السحرة الذين آمنوا بالله إيماناً لم يبالوا معه بالجهر بعقيدتهم برغم ما توعدهم به فرعون من ألوان العذاب، حيث قالوا: (امَنَّا برَبِّ هارُونَ وَمُوسي قال آمنتُم لَه قَبلَ أَن آذَن لَكُم إنه لَكبَيركُم الذي عَلَمكم السحرَ فلاقَطعنَّ أيديَكُم وأَرجُلَكُم مِن خَلاف ولأصلَبنَكم في جُذوعِ النَّخل ولتعلَمَنَّ أينا أَشَد عذاباً وأبقي قالوا لن نؤثرَكَ عَلي ما جاءَنا مِنَ الَبيِّناتِ.

ص: 317


1- آل عمران: 102
2- التوبة: 13

والَّذي فَطَرنا فَاقضِ ما أنتَ قاضٍ إنَّما تَقضي هذه الحَياةَ الدُّنيا أنا آمَّنا برَّينا ليَغفِرلَنا خَطايانا ومَا أكرَهنا عَليه مِنَ السِّحرِ والله خَيرٌ وأبقي).(1)

ولقد أشار سبحانه وتعالي إلي ما يترتب علي التقوي وخوف الله من مجانبة النفس للشهوات الممقوتة، وما يكون جزاؤها علي ذلك في الآخرة بقوله:(وامَّا مَن خافَ مَقام َرَبه ونَهي النَفسَ عَنِ الهَوي فَإنَّ الجَنَّة هِيَ المأوي).(2)

(وأُزلِفتِ الجنَّة للمتَقينَ غَير بَعيدٍ هذا ما تُوعَدونَ لكُل أوَابٍ حَفيظٍ مَن خَشِي الرَّحمن بالغيب وجاءَ بِقلبٍ مُنيبٍ).(3)

ولم يَكتفِ الله بهذا في حض الناس علي التقوي، بل إنه تعالي أكد لهم تخليص المتقين في الدنيا من كل ما يعترضهم من مشاكل الحياة، وتيسير سبيل الرزق لهم من حيث لا يأملون، حيث يقول:(وَمَن يتَق الله يَجعَل لَه مَخرَجاً ويَرُزقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ ومَن يَتوكَل عَلي الله فَهو حَسبُه إن الله بالغُ أَمرِه قَد جَعَل الله لِكُل شَيءٍ قَدراً) .(4)

ذلك لأن التقوي معناه دوام ذكر الله تعالي و مراقبته في جميع الأحوال وحصر الأمل فيه، وهذا من شأنه أن يمنع الإنسان عن الإقدام علي كل أمر يعصي الله به ويضر أحدا من خلقه، ويجعله كريم الخلق والعادات، وكل هذا مما يسبب عون الله للانسان وتأييده في كل موقف، وشموله برحمته وحسن رعايته، وخوف الله يقتضي تجريد قلب الإنسان منخوف غيره، ويعود هذا عليه بأعظم الفوائد في هذه الحياة.

ص: 318


1- طه: 70- 73
2- النازعات: 40 و41
3- ق: 31 - 33
4- الطلاق: 2 و 3

قرأت في كتاب الرعاية لحقوق الله:

قد روي في الحديث: إن المنادي ينادي يوم القيامة: (يا عباد لاخؤفٌ عَليكُم اليَومَ ولا أنتُم تَحزَنونَ)(1) فترفع الخلائق رؤوسهم يقولون: نحن عباد الله عزوجل ثم ينادي الثانية:(الَّذين آمَنوا بِآياتنِا وكَانوا مُسلمينَ)(2) فينكس الكفار رؤوسهم ويبقي الموحدون رافعي رؤوسهم، ثم بنادي الثالثة:(الَّذينَ آمَنوا وكانُوا يتقونَ)(3) فينكس أهل الكبائر رؤوسهم ويبقي أهل التقوي رافعي رؤوسهم، قد أزال الكريم عنهم الخوف والحزن كما وعدهم، لأنه أكرم الأكرمين لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة. (4)

ص: 319


1- الزخرف: 68
2- الزخرف: 69
3- يونس: 63
4- تفسير القرطبي 16: 110

ص: 320

ومن خطبة له عليه السلام :

وفيها يسبح الله ويذكر نعيم الجنة

(سُبحانَكَ خالقاً ومَعبوداً بحُسن بَلائِكَ عِندَ خَلقكَ خَلَقتَ دَاراً وجَعَلَت فيهَا مَأدُّبَّةً مَشرباً وَمَطعَماً وأزواجاً و خَدَماً وقُصوراً وأَنهاراً، وَزُوعاً وثَمارأً ثُمَّ اَرسَلتَ دَاعياً يَدعُو إليهَا فَلا الدَّاعيَ أَجَابُوا وَلا فِيمَا رَغَبتَ رَغبُوا ولا إليَ مَا شَوَّقَتَ إليَه اشتاقوا أقبَلوا عَلي جِيفةٍ قَدِ افتَضَحوا بِأكلَها واصطَلَحُوا عَلي حُبَها و مَن عَشَق شَيئاً أعشَي بَصَرهُ وأمرَضَ قَلبَه فَهُو يَنظَرُ بَعينٍ غَيرِ صَحيحَة ويَسمَع بأذن غيرِ سميعَةٍ قَد خَرَقَت الشَّهَواتُ عَقلهُ وَاماتَت الدُّنيا قلبَه وولهَت عليها نفسُهُ فهُو عَبدٌ لَها و لَمَن فِي يَديه شَيٌ مِنهَا حيثُمَا زالَت زالَ إليها وحيثُما أقبَلت أقبلَ عَليها لا يَنزَجر من الله بَزاجر ولا يَتعظُ مِنهُ بِواعِظ وهُو يَري المأخوذينَ عَلي الغرَّة حيثُ لا إقالَةَ رجعةِ كَيف نزَلِ بِهم مَا كانوا يَجهَلونَ وجاءَهُم مِن فَراقِ الدُّنيا مَا كانوا يَامَنونَ قَدمُوا مِن الاخرةِ عَلي ما كانوا يُوعدونَ فَغيرُ مَوصُوف ما نزل بِهِم اجتَمَعَت عَلَيهِم سَكَرَةٌ المَوت وحَسرَةٌ الفَوتَ فَفتَرَت لَها أطرافُهُم وتَغَيَّرَت لها ألوَانَهم ثُمَّ ازدادَ المَوتُ فيهِم وُلوُجا فحِيل بَينَ أَحَدهم وبَينَ منطَقةَ وانَّه لبينَ اهله يَنظُرُ ببصَرهِ ويَسمَعُ بأذُنه عَلي صِحَّة مِن عقلِه وبَقاءَ مَن لُبه يُفكِرُ فَيمَ أَفنَي عُمُرُه وفيمَ اذهَبَ دَهرَةٌ ويتَذكَراموالاً جَمَعَها أغمَض في مَطالبَهَا وأَخَذَهَا مِن مُصَرَّحاتَها و مُشتَبَهاتَها قَد لِزمتُه تَبَعاتُ جَمعِها و أشرَفَ عَلي فَراقَها تَبقَي لِمَن وَراَءهُ يَنعَمونَ فيهَا و يَتَمَتعُونَ بها فيَكون المَهنَاُ لغَيرِه والعبءُ عَلي ظَهرِهِ والمَرءِ قَد غَلَقَت رُهونهُ بها فَهُوَ يَعَضُ يَدَهُ نَدَامَةً عَلي مَا أصحَرَلَه عِندَ المَوتِ مِن أَمرِهِ ويَزهَدُ فِيمَا كانَ يَرغَبُ فيهِ أيامَ عُمُره ويَتَمَنَّي أنَّ الَّذي كانَ يَغبطُهُ بِهَا وَيَحسُدُهُ عَليهَا قَد حَازَهَا دونَه فَلَم يَزَلِ المَوتُ يُبالِغُ فِي جَسَدِه حَتي خاَلط لسَانُه سَمعَهُ فَصَارَ بَينَ أهلِهِ لا يَنطِقُ بِلِسانِهِ ولا يَسمَعُ بِسَمعِهِ يُرَدِّدُ طَرفَهُ بِالنَّظَر فِي وُجُوهِهِم يَرَي حَركات

ص: 321

ألسنَتهِم ولا يَسمَعُ رِجعَ كَلَامِهِم ثُمَّ ازدادَ المَوتُ التياطاً به فَقُبضَ بَصرَهُ كَما قُبضَ سَمعُةُ وَخَرَجَتٍ الرُّوحُ مِن جَسَده فَصَارَ جيَفةً بَينَ أهلِه قَد أوحَشُوا مِن جانِبه وتَباعَدُوا مِن قُربِه لا يُسعِدُ باكياً وَلا يُجيبُ داعِياً ثُمَّ حَملوهُ إلي مَخَطٍ فِي الأرضِ فَأسلَموهُ فِيه إلي عَمَله وانقَطَعُوا عَن زَورَتِه).(1)

أخبر صلوات الله عليه عن الجنة وثمارها وأشجارها وأنهارها وقصورها وتنعم الإنسان فيها.

ضبط الألفاظ اللغوية:

جاء في منهاج البراعة: المأدبة بفتح الدال وضمها طعام صنع لدعوة أو عرس، ووله الرجل إذا تحير من شدة الوجد، (والغرة) بكسر الغين المعجمة الاغترار والغفلة، يقال اغتره فلان أي أتاه علي غرة منه و(أطراف البدن) الرأس واليدان والرجلان، و(ولج) يلج ولوجاً أي دخل، و(المصرح) خلاف المشتبه وهو الظاهر البين، و(التبعات) جمع التبعة وهو الاثم، و(المهنأ) المصدر من هنأ الطعام يهنأ إذا صار هنيئا، والعبء الثقل، و(أصحر) أي ظهر وانكشف، و(رجع) الكلام ما يتراجع منه، والالتياط الالتصاق، و(الاسعاد) الاعانة، و(المخط من الأرض) كناية عن القبر يخط أولاً ثم يحفر.

الشرح:

إن هذا الفصل من كلامه تحذير للمتمردين من العصاة والمذنبين الغواة، وتنفير لهم عن الركون إلي الدنيا وإلي زخارفها وما فيها، وتذكير لهم بما يحل بساحتهم من سكرات الموت وينزل بفنائهم من حسرات الفناء والفوت.

وافتتح صلوات الله عليه بتسبيح الله تعالي وتقديسه فقال: سبحانك خالقاً ومعبوداً أي أنزهك تنزيها عن الشركاء والأمثال في حالة خلقك ومعبوديتك، لا موجد غيرك ولا معبود سواك.

ص: 322


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 20، ط مكتبة المرعشي النجفي

بحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً أي خلقت داراً بسبب ابتلاء عبادك وامتحانأً لهم وتمييزاً بينهم، وتفرقة بين السعداء، أعني الطالبين المشتاقين إلي ملك الدار، وبينالأشقياء وهم الراغبون المعرضون عنها، والمراد بالدار دار الآخرة.

والمراد بالمأدبة الجنة التي هيأت للمتقين ودعي إليها عباد الله الصالحون، وأعد الله سبحانه لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما تشتهيه أنفسهم.

مشرباً ومطعماً أي شراباً وطعاماً، وأزواجاً من الحور العين، وخدماً من الولدان المخلدين، وقصوراً عالية وأنهاراً جارية «وزروعاً زاكية «و ثماراً، طيبة.

ثم أرسلت داعياً يدعوه الناس إليها، أي إلي هذه الدار أو المأدبة، وأراد بالداعي محمداً صلي الله عليه وآله فلا الداعي أجابوا ولا فيما رتبت إليه من الدار الآخرة الباقية ونعيمها ورغبوا ولا إلي ما شوقت إليها من حور الجنة وقصورها وأنهارها وثمارها وسائر ما أعد فيها، اشتاقوا.

عالم الآخرة:

لطالما شغلت المفكرين والمتأملين مسألة الآخرة...

ولطالما احتار فيها العلماء والمتعلمون...

حتي طل علينا العصر الحديث، فإذا النداء يأتينا من الغرب بضرورة مراجعة الفكر الإنساني للالتفات إلي مسألة الحياة الأخري.

فأقرها فطاحلة العلماء ممن لا ينتمي إلي دين، أو يتحيز إلي فكر... أمثال كيركجارد، وبرجسون، ودو كاس.

وكل قضية عادلة تعرض علي مسرح العقل البشري يؤيدها العقلاء ويتنكر لها الجهال والمتطفلون علي العلم، وكانت الآخرة من إحدي الفكر التي هزأ بها المتغافلون عن البراهين الساطعة، ولم نسمع من هؤلاء دليلاً مقنعاً لإنكار الآخرة، فاستنتجنا سبباً لهذا الاصرار، هو التمادي في تحذير الضمير للتخلص من و خزه وتأنيبه،

ص: 323

ومحاولة الهرب من رقابة الخالق، والتخلص من الالتزام بالمباديء والقيم السامية، وإطلاق العنان للأهواء والرغائب الشيطانية الطائشة.

وأزاء كل هذا الطمس لهذه الحقيقة الملحة.. فقد دلت الأبحاث علي ضرورة الآخرة.

فمن الجانب النفسي شوهدت النفس الإنسانية وهي تشتاق إلي عالم آخر طالما انتظرته بفارغ الصبر.

ومن الجانب الأخلاقي فقد أكدت الأدلة العقلية بأن كل شيء في الكون يدل علي العدل، و كيف يموت الظالم وهو ظالم، والمظلوم وهو مظلوم بدون حساب؟ إذاً لا بد أن هناك عالماً آخراً يثاب فيه المحسن ويعاقب فيه المسيء، وإلا فإن التاريخ البشري يفقد كل معني.

أما الضرورة الكونية فقد تحققت بالأدلة القطعية لدي علماء الطبيعة بنفي الأزلية عن المادة، ولا بد لهذا العالم من نهاية حتمية وقيامة كبري تكون خاتمة للقيامات الصغري التي تمر بها عوالم الإنسان والحيوان، والنجوم والحضارات المتلاشية، والحقب الزمنية الفانية.

العلم التجريبي وإثبات الأخرة:

وأخيراً تحققت علمية إثبات الآخرة عن طريق الشهادة التجريبية، فإن الحياة التي ظهرت مرة واحدة يمكن أن تعيد نفسها، وإن الخالق - بالتأكيد - يستطيع من جديد خلق الحياة التي أنشأها للمرة الأولي، وهذا الدليل قد صرح به القرآن الكريم في قوله تعالي:

(أَوَلَم يَروا أنَّ الله الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ وَلَم يَعيَ بِخَلقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلي أن يُحيِيَ المَوتي بَلي إِنه عَليَ كلُ ِشَيءٍ قَديرهٌ).(1)

ص: 324


1- الأحقاف: 33

ولذلك قال البروفسور دوكاس: إن بقاء الحياة بعد الموت لعلها الوحيدة من عقائد الدين الكثيرة التي يمكن إثباتها بالدليل التجريبي.

وتظل مشكلة الضبط الاجتماعي محيرة لعقليات الفلاسفة ورجال السياسة وعلماء النفس والاجتماع.. وعلي امتداد التاريخ تبقي معضلة السلوك الاجتماعي مادة تفكير المفكرين، لا سيما وإن جميع وسائل الإرهاب والتحذير والإغراء قد فشلت في تحقيق المهمة.

حتي انتبهت الأبحاث الاجتماعية إلي سلوكيات صريحة اجتماعية واعية عرفت بالالتزام الديني والتفكير الأخروي، وافتراض الرقابة الدائمة علي الذات ومحاسبة النفس بوازع الضمير المتيقظ. وهذا هو الحل الوحيد الذي يستطيع معالجة التدهور الحضاري بصورة صحيحة، محافظاً علي إنسانية الإنسان، ودافعاً إياه نحو الخيروالإخاء... وإلا أصبحت الحياة مسرحاً مأساوياً بشعاً.

وهذا ما اعترف به أحد مفكري الغرب وهو (برتراند رسل) حيث يقول: إن حيوانات عالمنا يغمرها السرور، علي حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة، ولكنهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث.

ولأجل تحقيق السعادة الدنيوية أسدل الباري عزوجل عناية واهتماماً بعرض الآخرة وتبيانها للناس كي يفيقوا من غفلاتهم ويتبعوا الحكمة في أمورهم، ولتكون الدنيا دار أمل كبير في نيل رضوانه وثوابه عزوجل و كما قال الإمام علي عليه السلام.

إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، ودار عافية لمن فهم عنها، ومسجد أحباب الله ومتجر أوليائه، اكتسبوا منها الرحمة، وربحوا منها الجنة. (1)

والآخرة أصل من أصول ديننا، وقد حذر الله سبحانه وتعالي منها من

ص: 325


1- الإرشاد للمفيد : 296؛ بحار الأنوار 70/ 129

ألقي السمع وهو شهيد، فقال عز من قائل: (يا أيُّها النَّاس اتَّقوا رَبَّكُم انَّ زِلزَلةَ السَّاعَة شَيءٌ عَظيمٌ ).(1)

وقال عزوجل أيضاً: (واتَّقُوا يَوماً تُرجَعونَ فِيه إلَي الله).(2)

وأمرنا بالاستعداد لها ( وَليَنظُر نَفسٌ مَا قَدَمَت لَغَدٍ)، (3) وقال أيضاً:

(تَزوَدُّوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوي).(4)

ولذلك أجاب الإمام علي عليه السلام رجلاً يهوديا كان يسأله: ما الصعب وما الأصعب؟

قائلا له: الصعب القبر، والأصعب: الذهاب بلا زاد.(5)

فلكي نستمتع برضا الله جل وعلا، ونال ثوابه.... تعالوا نتذكر الآخرة.

الجنة:

الجنة لغة: البستان المتكاثفة الأشجار.

وقد ورد للجنة في القرآن الكريم - أسماء عدة، منها:

دار السلام، الفردوس، دار الخلود، دار المقامة، جنات عدن.

يخلد أهل الجنة فيها فلا موت، ولا منغصات، ولا بؤس، ولا مرض، ولا هرم:

(لا يَذوقَونَ فيهَا المَوتَ إلَّا المَؤتَة الأولي وَوَقاهُم عَذابَ الجَحيمِ).(6)

ص: 326


1- الحج: 1
2- البقرة: 281
3- الحشر: 18
4- البقرة: 197
5- بحار الأنوار 75: 31 ح 98، وفيه: الصعب المعصية، والأصعب فوات ثوابها، والقريب كل ما هو آت، والأقرب هو الموت
6- الدخان: 56

(وقالُوا الحَمدُ لله الَّذي أَذهَبَ عنَّا احَزَنَ انَّ ربَّنا لَغَفورٌ شَكورٌ الَّذي أحلَّنا دارَ المُقامَة مِن فَضله لا يَمَسَنا فيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغوبٌ). (1)

لا يسمع منهم إلا الكلام الطيب، إخوان متحابون، فلا لغو ولا فحش ولا كذب، ولا بغضاء ولا شحناء ولا حسد، ولا كل ما يعتري أهل الدنيا من السوء.

(وهُدُوا إليَ الطَّيِبِ مِنَ القَولِ وهُدوا إلي صِراطِ الحَميدِ).(2)

(لا يَسمَعونَ فِيها لَغواً ولا كَذاباً). (3)

(ونَزَعنا ما في صُدورهُم مِن غِلٍ إخواناً عَلي سُرُر مُتَقابِلينَ لا يَمَسُّهُم فيها نَصَبٌ وما هُم مِنها بمُخرَجينَ). (4)

وفي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر، وكل ما نسمع ويقال عن نعيم الجنة وما فيها من لذة ومتعة، فهي فوق كل ذلك وأجل مما نتصوره، وأعظم مما نتخيله.

والبشر في دار الدنيا لا قدرة لهم علي الاستمتاع بذلك النعيم وتلك اللذة ولا طاقة لهم عليه.

فأشجارها غير هذه الأشجار، وأنهارها غير هذه الأنهار، نساؤها الحور العين وشرابها العسل المصفي، وخمرة لذة للشاربين، دائم نعيمها، أبدي بقاؤها.

(هَذا ذِكرٌ وإنَّ للمُتقينَ لحُسنَ مَآبٍ جَناتِ عَدن مُفتَحَة لَهُم الأبوابُ مُتَكئينَ فيها يَدعون فيها بِفاكَهة كَثيرةَ وشَرابٍ وَعندَهُم قاصِراتُ الطَّرفِ أترابٌ هَذا ما تُوعَدونَ ليومِ الحِسابِ انَّ هَذا لَرِزقُنا ما لَه مِن نَفادً). (5)

ص: 327


1- فاطر: 34
2- الحج: 24
3- النبأ: 35
4- الحجر: 47 و48
5- ص: 49 -54

وفي كتاب ربنا الكريم مزيد تفصيل.

وما ورد عن نبينا صلي الله عليه وآله لنا علي ذلك خير دليل:

فعنه صلي الله عليه وآله يذكر بعض متع الجنة ونعيمها قال صلي الله عليه وآله:

ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه اثنتان من الحور العين تغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزمار الشيطان، ولكن بتمجيد الله و تقديسه.(1)

وعنه صلي الله عليه وآله كان يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم، وفي القوم أعرابي، فجثا لركبته وقال: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال: نعم يا أعرابي، في الجنة نهر حافتاه الأبكار من كل بيضاء يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة.(2)

وورد: إن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس، لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً .(3)

ومن نعيم الجنة الرفقة الحسنة، رفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

(وَمَن يُطعِ الله والرَّسولَ فَأولئكَ مَعَ الَّذينَ أنعَمَ الله عَليهُم مِن النبَييّن والصِّديقينَ والشُّهداء والصَّالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً ).(4)

ومن متع الجنة التنازع، يتنازعون بينهم، ولكن لا كتنازع أهل الدنيا، إنه نزاع مزاح ومتعة، نزاع تلذذ و تفكه :

ص: 328


1- بحار الأنوار8: 196/ ح 181
2- بحار الأنوار8: 196ح 182؛ تفسير مجمع البيان 50:8
3- بحارالأنوار8: 196/ ح183، تفسير مجمع البيان 50:8
4- النساء: 69

(يَتنَازَعونَ فِيها كَأساً لا لَغوٌ فِيها ولا تَأثيمٌ).(1)

والاجتماعات واللقاءات بينهم مستمرة دائمة - إذ لا عمل ولا عبادة - وهم يتسامرون ويتحادثون، وقد يذكرون معارفهم في الدنيا، فيقول قائلهم محدثاً أصحابه عن جليس له في الدنيا، ولطالما نصحه فلم ينفع فيه ذلك النصح.

(قالَ قائِلٌ منهُم إنّي كانَ لي قَرينٌ قول ااَنَّكَ لَمِن المُصَدِّقين اَإذا مِنتّا وكُنّاتُراباً وعِظاماً أِنَّا لَمَدينونَ قالَ هَل أنتُم مُطَّلقونَ فَاطَّلَعَ فَرَآةُ فِي سَواءَ الجَحيمِ قالَ تَللَّه اِن كِدتَ لَتُردينِ ولَو لا نِعمَةُ ربِّي لَكُنتُ مِنَ المُحضَرينَ).(2)

ويتساءلون بينهم عن المجرمين فإذا هم في النار يصطلون.

(إلّا أصحابَ اليَمينِ فِي جَنَّات يَتساءُلونَ عَنِ المُجرمينَ ما سَلَكَكُم فِي سَقَرَ قالُوا لَم نَكُ مِن المُصَلينَ وَلَم نَكُ نُطعِمُ المِسكينَ وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بيَومِ الدّينِ).(3)

الذات الخلد:

وفي الجنة من الرزق الكريم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين:

(الَّذين آمَنوا بآياتنا وكانُوا مُسلمينَ ادخُلوا الجَنَّةَ أنتُم وأَزواجَكُم تُحبَرونَ يُطافُ عَليهم بِصِحافٍ مِن ذَهَبٍ وَأكوابٍ وفِيها ما تَشَتَهيه الأنفُسُ وتَلَذُّ الأُعيُنُ وأنتُم فِيها خالِدُونَ) .(4)

ولهم فيها ما يشاؤون وما يدعون :

(لَهُم ما يَشاؤونَ فِيها ولَدينا مَزيدٌ ).(5)

(وَالَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي روضاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَا يَشاؤنَ عِندَ رَبِهِم ذلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ).(6)

ص: 329


1- الطور: 22
2- الصافات: 51 - 57
3- المدثر: 39 - 46
4- الزخرف: 59 - 71
5- ق: 35
6- الشوري: 22

(لَهُم فيها فاكِهةٌ وَلهُم مَا يَدَّعونَ). (1)

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تعدد أنواعاً من الطعام والشراب، وتصف النساء في الجنة، واللباس الذي يلبسونه، والحلي التي يحلون بها، نذكر بعضها عسي أن ينتفع بها من شاء، ويرغب إليها من أراد، فيعملوا جهدهم للوصول إليها والحصول عليها، والله عنده حسن الثواب.

(ولأُدخِلَنَّهم جَنَّاتٍ تَجري من تَحتها الأنهارُ ثَواباً مِن عِند اللهِ واللهُ عِندَهُ حُسنُ الثَّوابِ).(2)

(كانَّهُنَّ الياقُوتُ والمَرجانُ).(3)

(إنَّ الأُبرارَ يَشرَبُونَ مِن كَأسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيناً يَشرَبُ بِها عِبادُ اللّه يُفَجِّرونَها تَفجيراً).(4)

(وَجَزاهُم بِما صَبَرُوا جَنَّةً وحريراً مُتَكئينَ فيها علي الُأرائك لايَرونَ فيها شَمساً ولا زَمهريراً ودانيَة علَيهِم ظلالُها وذُلَلت قُطُوفَها تَذليلاً ويُطافُ عَليهم بانيَة مِن فِضةَ وأكوابٍ كانَت قَواريرَا قواريرَا مِن فِضَّة قَدَّوها تَقديراً ويُسقَونَ فيها كَأساً كانَ مِزاجُهاً زَنجَبيلاً عَيناً فِيها تُسمَّيٍ سلسَبيلاً و يَطوفُ عَليهم وِلدانٌ مُخلَّدونَ إذا رَأيتَهُم حَسبِتهُم لُؤلُؤاً مَنثوراً وَإذا رَأيتَ ثُمَّ رَأَيتَ نَعيماً ومُلكاً كَبيراً عَاليَهُم ثِيابُ سُندُسٍ خُضرٌ وَ إستَبرَقٌ وحُلّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَةٍ وَسَقاهُم رَبُّهُم شراباً طَهوراً إنَّ هذا كانَ لَكُم جَزاءً وَكانَ سَعيُكُم مَشكوراً) .(5)

(انَّ اللّه, يُدخِل الَّذينَ آمَنوا وعَمَلوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ يُحَلَّونَ فيها مِن أسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤلواً ولِباسُهُم فِيها حَريرٌ).(6)

ص: 330


1- يس: 57
2- آل عمران: 195
3- الرحمن: 58
4- الإنسان: 5 و6
5- الإنسان: 12 - 22
6- الحج: 23

ومن نعيم الجنة هدوء النفس وراحة البال، وعدم القيل والقال، فلا تعب ولا نصب، ولا فحش في القول ولا ابتذال، وإنما سكينة واطمئنان ومحبة ووئام، وتحية وسلام، ولا سأم من الخلود، وهذا ما لم يتوفر لأحد في الدنيا.

(جَنَّاتُ عَدنَ يَدخُلونَها يُحَلَّونَ فِيها مِن أَساورَ مِن ذَهَب ولُؤلؤاً وَلِباسُهُم فيها حَريرٌ وقالوا الحَمدُ لله الَّذي أَذهَبَ عنَّا الحَزَنَ انَّ ربَّنا لَغَفُورٌ شَكورٌ الَّذي أَحَلنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصبٌ وَلا يَمسَّنا فيهَا لُغُوبٌ).(1)

(جَنَّات عَدن الَّتي وَعَدَ الرَّحمنُ عِبادَهُ بالغَيبِ أنَّه كانَ وَعدُهُ مَاتياً لَا يَسمَعُونَ فيهَا لَغواً الأ سَلاماً وَلَهُم رِزقُهُم فِيها بُكرَةً وَعَشيّاً).(2)

(وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَأعَمَةٌ لَسَعيِها راضِيةٌ فِي جَنَّة عَاليَةٍ لا تَسمَعُ فِيها لاغِيَةً فِيها عَينٌ جاريَةٌ فِيها سُرُرٌ مَرفُوعَةٌ وَأَكوابٌ مَوضُوعَةٌ وَنَمارِقٌ مَصفُوفَةٌ و زَرابيُ مَبثُوثَةٌ).(3)

(جَنَّاتُ عَدنٍ يَدخُلوها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهم وَذُريَّاتِهِم والمَلائِكةٌ يَدخُلونَ عَليهِم مِن كُلِ بابٍ سَلامٌ عَليكُم بِما صَبَرتُم فَنَعمَ عُقبَي الدَّارِ).(4)

(انَّ المُتَقينَ في مَقامٍ أَمينٍ فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ يَلبَسونَ مِن سُندُسٍ وَإِستَبرَقٍ مُتقابِلينَ كَذلِكَ وَزَوَجناهُم بحُورٍ عَينٍ يَدعُونَ فيها بكُل فَاكِهةٍ آمنينَ لايَذوقونَ فِيهَا المَوتَ إِلَّا المَؤتَةَ الأُولَي وَوَقاهُم عَذابَ الجَحيمِ).(5)

(دَعواهُم فِيها سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحيَّتُهُم فِيها سلامٌ وأخِرُ دَعواهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ).(6)

ص: 331


1- فاطر: 34 و 35
2- مريم: 61 و 62
3- الغاشية: 8-16
4- الرعد: 23 و 24
5- الدخان: 52 - 56
6- يونس: 10

من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام :

دار بالبلاء محفوفة وبالغدر موصوفة إلي قوله عليه السلام: و تفنيهم بحمامها. (1)

وقال عليه السلام في خطبة أخري:

فاحذروا الدنيا فإنها غدارة غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي محناؤها، ولا يركد بلاؤها.(2)

الدنيا خير دار لمن لم يتخذها داراً، أو كما قال أمير المؤمنين عله السلام يصف الزهاد: كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها،(3) لأنها دار عمل، دار امتحان واختبار، وهي الطريق إلي الآخرة، إلي دار الخلود حيث النار أبدأً أو الجنة أبداً، فالعمل فيها بالصالحات يوصل إلي مرضاة الرب، فيؤتيهم ثواب الدنيا والآخرة:

(فَأتَاهُم اللهُ ثَوابَ الدُّنيا وحُسنُ ثوابِ الآخرةِ واللهُ يُحبُّ المُحسِنينَ).(4)

وفي الدنيا الظفر والنصر علي الأعداء:

(انَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنا والَّذينَ آمَنوا فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيومَ يَقُومُ الأُشهادُ).(5)

والرضا بما قسم، والقناعة ذلك الكنز الذي لا يفني، والملك الذي لا يبلي، وراحة البال:

(وَقيلَ لِلَّذينَ اتَّقَوا مَا ذا أنزَلَ ريُّكُم قالُوا خَيراً).(6)

ويشرح صدورهم ولا يجعلها ضيقة، وليس كالكافر الضال الذي وصف - سبحانه - حاله في الدنيا، فقال عنه:

ص: 332


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 258
2- بحار الأنوار 70: 83/ ح 46
3- بحار الأنوار 67: 320/ ح 36
4- آل عمران: 148
5- غافر: 51
6- النحل: 31

(وَمَن يُرِد أَن يُضلَّهُ يَجعَل صَدرَه ضَيقاً حَرجاً كأنَّما يَصعَّدُ فِي السَّماء). (1)

ويدفع عنهم بلاء النار فيها وينجيهم منه، كما أنجي أمماً آمنت بربها وصدقت بأنبيائها، فقد أنجي نوحاً والذين آمنوا معه:

(فَكذَّبوهُ فَأنجَينَاهُ والَّذينَ مَعَه فِي الفُلكِ وأَغرَقنَا الَّذينَ كَذَبوا بِآياتِنا انَّهُم كانوا قَوماً عَمينَ).(2)

وكما أنجي هوداً ومن آمن من قومه:

(فَأنجَيناهُ والَّذينَ مَعَه بِرحمَة منَّا وَقَطَعنا دابِرَ الَّذينَ كَذَبوُا بِآياتِنا ومَا كانُوا مُؤمِنينَ).(3)

وكذلك ينجي الله المؤمنين، هذا في الدنيا، وفي الآخرة الفوز والخلود في الجنة، والنعيم الدائم، ولولا هذه الدنيا لما استحق الإنسان كل هذا الجزاء العظيم، فطوبي للعاملين فيها بأوامره، المنتهين عن نواهيه، وحسن مآب.

أما غير المؤمن، أما الذين غرتهم الدنيا فركنوا إليها وأصبحت كل همهم، أما الذين يحرصون كل الحرص فيتمنون لو يعمرون فيها:

(ولَتَجِدنَهُم أحرَصَ النَّاس علَي حَياةِ ومَنَ الَّذينَ أشرَكَوا ويَوَّدُّ أَحَدُهُم لَويُعَمَّرُ ألفَ سَنَةٍ ومَا هُو بِمُزَحزحِه مِنَ العَذابِ أَن يُعَمَّرَ اللهُ بَصيرٌ بِما يَعمَلونَ). (4)

ومهما أوتوا فيها من المال والجاه والسطوة والسلطان فهم في ضنك من العيش:

(وَمَن أعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنكاً).(5)

رضوا بالأرذل الأدني، وفتنوا أنفسهم بالشهوات والملذات الزائلة، وبالذهب والفضة :

ص: 333


1- الأنعام: 125
2- الأعراف: 64
3- الأعراف: 72
4- البقرة: 96
5- طه: 125

(زُيّن للنَّاس حُبُّ الشَّهواتِ مِن الِنساءِ والبَنينَ والقَناطِير المُقَنطَرَة مِن الذَّهَبِ وَالفِضَّة وَالخَيلِ المُسَوَّمَة والأنعامِ وَالحَرثِ ذَلكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا واللهُ عِندَه حُسنُ المَآبِ).(1)

وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، ومتاع الدنيا قليل:

(قُل مَتاعُ الدُّنيا قَليلٌ وَالأخرةٌ خَيرٌ لمَنِ اثَّقي).(2)

(نُمَتَعُهُم قَليلاً ثُمَّ نَضطَرُّهُم إِلي عَذابٍ غَليظٍ).(3)

(لا يَغُرَّنَكَ تَقلُبَ الَّذينَ كَفرَوا فِي البِلادِ مَتاعٌ قَليلٌ ثُمَّ مَأواهُم جَهَنَّمُ وَ بِئسَ المِهادُ ).(4)

فالمغرور من غرته هذه النعم الزائلة الفانية و شغل بها وجعلها الغاية، ولم يجعلها الوسيلة إلي بلوغ رضوان الله ونعيمه الدائم الذي لا انقضاء له ولا زوال.

وغير المؤمن إذا ملك المال طغي، وإذا ملك السلطان سعي في الأرض الفساد:

(إنَّ الإنسانَ لَيَطغي أَن رَآهُ استَغني).(5)

(وإذا تَوَلَّي سَعي فِي الأرضِ لِيُفسدَ فيها وَيُهلِكَ الحَرثَ والنَسلَ واللهُ لايُحِبُ الفَسادَ).(6)

المال والسلطان نعمة ينعمهاالله سبحانه علي الإنسان، تستوجب الشكر، فيبدلها الكافر كفراً وطغياناً عن سبيل الله :

(ألَم تَر إلَي الَّذينَ بَدَّلوا نِعمَتَ اللهِ كُفرأً وَأحَلُوا قَومَهُم دارَ البَوارِ جَهَنَّمَ يَصلَونَها و بئسَ القَرارُ).(7)

ص: 334


1- آل عمران: 14
2- النساء: 77
3- لقمان: 24
4- آل عمران: 196 و 197
5- العلق: 6 و 7
6- البقرة: 205
7- إبراهيم: 28 و 29

(انَّ الَّذينَ كَفَروا يُنفِقُونَ أَموالَهُم لِيَصُدُّوا عَن سَبيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَها ثُمَّ تَكونُ عَلَيهِم حَسرةً ثُمَّ يُغَلبُونَ والَّذينَ كَفروا إلَي جَهَنَّمُ يُحشَرونَ).(1)

لا تنفعهم نصيحة ولا يفيدهم إنذار:

(إنَّ الَّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَليهِم أأنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لا يُؤمنونَ) .(2)

واذا ما أملي لهم - سبحانه في هذه الدنيا فليس حباً بهم ولا كرامة الهم ولكن!؟

(ولا يَحسَبَنَّ الَّذينَ كَفروا أنَّما نُملِي لَهُم خَيرٌ لِأنفُسِهِم إنَّما نُملِي لَهُم لِيَزدادُوا إثماً وَلَهُم عَذابٌ مُهينٌ).(3)

ولأن الدنيا وما فيها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فما قيمة ما يعطي فيها الكافر مهما كثر، ولولا أن يساق الناس سوقاً إلي الكفر لجعل الله سبحانه لمن يكفر به:

(لِبُيُوتِهم سُقُفاً مِن فِضَّةٍ ومَعارِجَ عليها يَظهَرونَ * ولِبُيُوتِهِم أبواباً و سُرراً عَليها يَتَكونَ* وزُخرُفاً). (4) ربّ سائل يسأل: وهل يترك هؤلاء بدون عقاب في هذه الدنيا ؟! أم أنهم يعاقبون ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ؟

كلا، فلقد انتقم - سبحانه - من الكافرين والظالمين علي مر العصور والأعوام وكر الدهور والأيام، فلم ينصرهم من الله ناصر، ولم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا سلطانهم، وإليك نبؤهم، ولا ينبؤك مثل خبير، قال تعالي:

(فَأمَّا الَّذينَ كَفروا فَأُعَذُبُهم عَذاباً شَديداً فِي الُّدنيا والآخرةِ ومَا لَهُم مِن ناصِرينَ) .(5)

ص: 335


1- الأنفال: 36
2- البقرة: 6
3- آل عمران: 179
4- الزخرف: 33 - 35
5- آل عمران: 56

وقال تعالي يصف حالهم في الدنيا بأنهم خائفون مرعوبون، وإن ملكوا كل شيء!

(سَنُلقِي في قُلُوب الَّذينَ كَفَروا الرُّعبَ بما أشرَكُوا بِاللهِ ما لَم يُنَزل بِه سُلطاناً وَمأواهُمُ النَّارُ و بِئسَ مَثويَ الظَّالمينَ).(1)

وكم نص علينا القرآن الكريم من قصصهم، وكيف أخذهم الله نكال الدنيا والآخرة، فاعتبروا يا أولي الألباب:

(ولَقَد عَلمتُم الَّذينَ اعتَدُوا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهم كُونُوا قِردَةً خاسِئينَ * فَجعلناها نَكالاً لِما بَين يَديها ومَا خَلفَها وَموعظةً لِلمُتقينَ).(2)

(وعَاداً وثَمودَ وقَد تَبينَ لَكُم من مَسَاكَنِهم و زَينَ لَهُم الشَّيطانُ أعمالَهُم فَصَدَّهُم عَن السَّبيلِ وكانُوا مُستَبصِرينَ * وقارُونَ وفرعونَ وهاماَن ولَقد جاءَهُم موسي بالبَيناتِ فَاستَكبَروا فِي الأُرضِ ومَاكانُوا سابقينَ *فكلاً أَخَذنا بِذنبِه فَمِنهُم مَن أرسَلنا عَلية حاصِباً ومِنهُم مَن أخَذته الصَّيحَة ومنهُم مَن خَسَفنا به الأرضَ ومنهُم مَن أغرَقنا ومَا كانَ اللهُ لِيَظلمَهُم وَلكِن كانُوا أنفُسَهُم يَظلِمُون)(.(3)

ولنا بما فعل الله بالذين كذبوا الرسل - من قبلنا - عبرة وعظة:

(لَقد كانَ فِي قَصَصِهِم عِبرةٌ لأُولِي الألبابِ).(4)

فهؤلاء قوم صالح وقوم شعيب عليه السلام:

(فَأَخَذهُم الرَّجفَةُ فَأصبَحوا فِي دارِهم جاثِمينَ).(5)

وهؤلاء قوم لوط عليه السلام:

ص: 336


1- آل عمران: 151
2- البقرة: 65 و66
3- العنكبوت: 38 - 40
4- يوسف: 111
5- الأعراف: 78

(فَأنجَيناهُ، وَأهلَهُ إلا امرَأتَهُ كانَت مِن ألغابِرينَ * و اَمطَرنا عَلَيهِم مَطَراً فَانظُر كَيفَ كانَ عَاقبةُ المُجرمينَ).(1)

وأما الذين كتبوا موسي عليه السلام:

(فأرسَلنَا عَليهم الطُّوفانَ وألجوادَ والقُمُّل والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٌ مُفَصَّلاتٍ فَاستَكبَروا وكانُوا قَوماً مُجرمينَ).(2)

(فانتَقَمنا منهُم فَأغرَقناُهم في اليَّمِ بأنَهُم كَذَّبوا بآياتِنا وكانوا عَنها غَافلينَ).(3)

وإكراما لنبينا نبي الرحمة، ولبيان فضله علي سائر الأنبياء والمرسلين، رفع سبحانه وتعالي عن أمته العذاب في الدنيا لسببين:

الأول: لوجوده - عليه وعلي آله الصلاة والسلام - بينهم.

الثاني: الاستغفارهم من الذنوب التي يقترفونها، قال عز اسمه:

(وما كان اللهُ لِيُعَذِبَهُم وأنتَ فيهِم ومَا كانَ الله مُعَذَبَهُم وهُم يَستَغفِرونَ).(4)

من عشق شيئاً أعشي بصره:

قال الأستاذ محمد علي الحوماني في كتابه (دين و تمدين) ج 2 ص 264، عند قوله عليه السلام:

من عشق شيئاً أعشي بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه .

هذه كلمات واضحة صريحة لاتحتاج إلي بيان في عرضها بين يدي قراء هذا السفر، إلا كلمة وأعشي بصره، فقد كان إمام البلغاء حرية بأن يقول:

ص: 337


1- الأعراف: 83 و 84
2- الأعراف: 133
3- الأعراف: 136
4- الأنفال: 33

أعمي بصره قياساً علي المثل القائل: الحب يعمي ويصم، والمثل الآخر صاحب الحاجة أعمي لا يري إلا قضاها فلماذا عدل الإمام عن كلمة أعمي، إلي كلمة أعشي يا تري؟ إنه أراد العمي القريب لا البعيد، والعمي الجزئي لا الكلي، فإن الأعشي والعشواء من لا يبصر أمامه، وهو الذي لا يبصر ليلا، من العشرة التي هي ظلمة الليل، فلم يرد الإمام بالعشوة الحقيقية وإنما أراد مجازيها، بأن شاء أن ينسب للعاشق العمي الجزئي، وهو عدم الرؤية في الليل، أو العمي القريب الذي هو عدم رؤيته ما بين يديه، وترك العمي الكلي الذي هو عمي الليل والنهار، كما ترك العمي البعيد وهو فقد البصر رؤية ما يكشفه النور من جميع الآفاق التي تحدق به.

أقول: لقد ترك الإمام هذا النوع من العمي للحقيقة واكتفي بالمجاز منها.

ففي الحقيقة أن العاشق لا يعمي بصره عن كل شيء قريبه وبعيده، جزئيه و كليه، لأنه يري مناط عشقه وهو حبيبه الذي أعماه عن أن يري غيره، إذن فهو أعشي لا أعمي، فكأن هذا العاشق لا يري في الحياة شيئاً غير ما يعشق، فعينه –وهي تبصر الأشياء دونه _ تصور له كل شيء في شكل حبيبه، وأذنه - وهي تسمع كل صوت حوله _ لا توقع غير صوت حبيبه علي سمعه، إذن فالعاشق يري بعينه العاشقة شخصاً واحداً هو عنده كل شخص، ويسمع بأذنه العاشقة صوتا واحداً هو عنده كل صوت، ذلك الشخص هو شخص حبيبه، وذلك الصوت هو صوته.

من أجل هذا عبر عن عينه التي تعشو عن رؤية كل شخص غير ما يعشق، عبر عنها بأنها غير صحيحة، وعبر عن أذنه التي تهم عن سماع كل صوت إلا صوت عشيقه، عبر عنها بأنها غير سميعة، ذلك ليدلنا علي أن الاسترسال في رؤية غير الحق عمي، وأن الاسترسال في استماع غير الحق صمم، فالرائي - وإن كان جد بصير - هو أعمي، إلا إذا أمعن في النظر إلي ما يفيض بنور الحق في الحياة، والواعي - وإن كان جد سميع - فهو أصم إلا إذا أصغي بسمعه إلي ما يفصح عن صوت الحق في الحياة.

ص: 338

هذا هو علي تلميذ محمد في بلاغته وحكمته وتقواه، ثم في إخلاصه بكل ما يقول ويعمل.

أقول: هذا علي عدنا إليه بما يلقي علينا من تعاليم أخيه ومعلمه محمد صاحب المعجزات، ومنقذ العالم من هوة الانحدار إلي ظلام الوحشية، هذا علي يقول في مضمون هذه الجمل الصغيرة: إن الشهوات قد تخرق العقل مهما كان هذا العقل جباراً، وإن الدنيا قد تميت القلب مهما كان هذا القلب كبيراً، إنه عليه السلام يحذر كثيراً من استرسال النفس مع الشهوات، ويؤمن كثيراًبأن الشهوة قد تميت القلب وهو يزخر بالحياة، وإن صاحب الشهوة عبد قن لنفسه حيث يقول: عبد الشهوة أذل من عبد الرق. (1)

هذا العقل الكبير الجبار المنزل من السماء علي الأرض رحمة بالإنسان الضعيف بين يدي شهواته، أقول: إن هذا العقل يضعف ويتضاءل بين يدي النفس الأمارة بالسوء، فما هي إذن هذه النفس العاصفة بجبابرة العقول؟؟ وما هو هذا العقل الجبار الذي يخسأ وينكص ويستكين بين يدي طغيان هذه النفس العاتية؟؟ إنا لنشعر جميعاً بضعف العقل أمام شهوة الإنسان الدنيا، ونحن علي إيمان قوي بأن العقل أشرف ما يحمله الإنسان من صفات الخير والنبل والكمال، إنا لنشعر بذلك، ثم نؤمن بأن العقل مرشدها، وأن الشرائع السماوية إنما نزلت لتعزيزه، ثم نري عقولنا أحياناً كثيرة تخضع لشهوات أنفسنا بمحض اختيارنا وإرادتنا، فما هو السر في ذلك كله يا تري؟؟

هل لأن الإنسان منطلق بنفسه في متع الحياة الدنيا ومقيد بعقله فيها؟؟ ولأن النفس تبعث علي تغذية الجسم في حياته القصيرة، والعقل يبعث علي.

ص: 339


1- عوالي الثالي 1: 273/ ح 95

تغذية الروح في حياتها الطويلة؟! أم لأن الإنسان مفطور علي شهواته بطبعه، ومفطور علي عقله بتطبعه، من أجل ذلك تراه يتهافت علي الشهوات منذ طفولته وقبل تعقله، بينما نراه يتزن بعقله من وراء تدينه و تعلمه وتثقفه، فلا يخضع للعقل إلا بمعلم يرشده أو سلطان يقومه أو مجتمع يثقفه، وأما النفس الشريرة فلها سلطانها الطبيعي الذي يخضع له ويأتمر به دونما قاسر أو آسر من خارج كيانه الذاتي؟؟

المرء بعقله كبير إذا ملك إرادته وسيطر علي شهواته، وهو كذلك بهذه الشهوات كبير إذا عهد بتوجيهها إلي عقله، فإن الإنسان إذا سيطر عليه عقله بما لا يخمد عاطفته كان مصدراً للعلوم، وإذا سيطرت عليه عواطفه بما لا يكبت عقله كان مصدراً للفنون، فإذا ملك هاتين السيطرتين كان الرجل الكامل، وإذا فقد إحداهما نقصت رجولته، وأماإذا فقد كليهما فقد هلك.

كل ذلك يعنيه الإمام إذ يدعو إلي تفادي الشهوات وتحامي سلطانها علي العقل، وتهافت الإنسان بين يدي شهواته إذا لم يستعن بعقله علي توجيهها والتحرر من سلطانها الجائر.

كان الإمام أديباً وعالماً و حكيماً، كان أديباً إذ تثور عاطفته فيعصمها بنضج عقله من التهافت، فتنفجر فتطلع بأسمي أنواع الأدب الحزين علينا، كخطبته المسماة (بالشقشقية)، و كخطبه التي كان يقرع بها جنده وهم يستعصون عليه، فيما يأمرهم به وينهاهم عنه.

وكان الإمام عالماً إذ يعالج بعقله الكبير قضايا السياسة أو الفلسفة أو الثقافة، كعهده لعامله مالك الأشتر إذ ولاه مصر، و كوصيته لولديه عند احتضاره.

وكان الإمام حكيماً في كثير من أقواله التي يراها القاريء مدار البحث في هذا الكتاب.

ص: 340

الشهوة الجامحة:

الشهوة التي يعنيها الإمام بقوله، هذه هي الشهوة الجامحة التي تنزو علي العقل فلايكبتها ضمير ولا يكبحها وازع، هذه الشهوة هي التي تطمح بالإنسان الضعيف العقل فتجرده من شرفه وإنسانيته ودينه وأدبه في سبيل حطام الدنيا، هذا الحطام الذي يتكالب عليه الناس بين يدي منصب زائل أو لذة من متع الحياة عمرها قصير، أو ملك يتهالك في سبيله من وراء حياة قصيرة الأجل؟

هذه الشهوة التي تدفع بالإنسان الكبير بكل ما فيه من جوهر تخيره الله له وجعله خليفته في أرضه، تدفع هذه الشهوة به إلي هوة ينحدر فيها عن الحيوان المسخر له.

أقول: هذه الشهوة الجامحة المتحللة الطاغية هي التي يعنيها الإمام بقوله: قد خرقت الشهوات عقله وأماتت قلبه.

وهي التي عناها بقوله: عبد الشهوة أذل من عبد الرق،(1) هذه الشهوة هي المعبر عنها في القرآن بقوله عز من قائل: (إنَّ النَّفسَ لَأَمَارَةٌ بِالسُوءِ)، (2) وأما الشهوة التي يطمح بها الإنسان إلي معالي الأمور من متع الجسد والروح ثم يعمل بعقله ودينه وما أوتيه من قوة عادلة في تفكيره و تدبيره.

هذه الشهوة التي هي مثار العاطفة في الإنسان الذي لا يعيش بلا عاطفة.

أقول: إن هذه الشهوة هي التي يخاطب الله من ورائها عباده بقوله تعالي: (قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِه وَالطَّيباتِ مِنَ الرزقِ)(3) وقوله: (كُلُوا مِن طَّيِباتِ مَا رَزقناكُم)(4) وهذه الشهوة هي التي غضب لها الامام عندما بلغه أن بعض الموسرين من أصحابه يكبحون من شهواتهم زهدأً في الحياة الدنيا

ص: 341


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 342/ الرقم 928
2- يوسف: 53
3- الأعراف: 32
4- البقرة: 57

وتشبهاً به، فانهال عليهم بالتأنيب والتقريع إذ يقول:لم تحرمون ما أحل الله؟؟ ولمن يقول الله تعالي: (كُلُوا مِن طَّيباتِ مَا رَزقناكُم).(1)

ثم يلتفت عليه السلام ويقول: من مضمون قوله لا من نصه _ أما أنا الذي تتشبهون بي في هذا الحرمان، فأنا أمير المؤمنين، وقدوتهم، ومكان المواساة منهم، لو شئت لاهتديت إلي مصفي هذا العسل ولباب هذا البر ونسائج هذا القز، ولكن رب جائع في هؤلاء الذين أعول يقول: إن ابن أبي طالب ملأ جوفه من أطائب الحياة وأنا جائع.(2)

هكذا كان الإمام ينظر إلي الدنيا نظرة خبير بها، ثم ينظر إلي الناس نظرة خبير بهم، فليس للمأموم أن يتشبه بإمامه في دقائق الحياة وجلائلها، فقد يسوغ للإمام ما ليس في حساب المأموم، وقد يسوغ لهذا ما هو حجر علي ذاك، ولهذا كان الإمام إماماً والمأموم مأموماً.

بهذا يمتاز الرفيع عن الوضيع، والشريف عن الخامل، والعالم عن الجاهل، فقد يكون المباح لي - وأنا العبد المملوك _ حراماً عليك وأنت السيد المالك، وقد يكون المحرم علي - وأنا الجهول - مباحألك وأنت العالم، فليس كل ما يصلح للرفيع يصلح للوضيع، ولا كل ما يليق بالجاهل يليق بالعالم، من أجل ذلك قيل: ذنب العالم علي قدره، وذنب الجاهل علي قدره، تلك سنة الله في خلقه (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة الله تَبديلاً).(3)

لقد تقدم ذكر الجنة ووصفها، ولما كان قوله عليه السلام في المقام من

ص: 342


1- البقرة: 57 و 172؛ الأعراف: 160
2- قال عليه السلام: ولو شئت لاهتديت الطريق إلي مصفي هذا العسل وكبابهذاالقمح ونسائج هذا القر، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلي تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثي وأكباد حريه انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 286
3- الأحزاب: 12؛ الفتح: 23

وصف الجنة مشرباً ومطعماً الخ ناسب أن تعود إلي ذكر الجنة آخر مما يتشوق إليه القارئ فنقول:

الجنة (لغة) هي الحديقة ذات الشجر، وفي الاصطلاح الديني تطلق الجنة علي ما أعده الله للصالحين من عباده في الحياة الآخرة، مكافأة لهم علي صالح أعمالهم وجميل آثارهم في العالم الأرضي.

وصف الجنة في القرآن:

وقد جاء وصفها في القرآن الكريم بأنها ذات أنهار وأشجار وفواكه ولحوم وأزواج، علي مثال ما هو موجود في العالم الأرضي، وإن كان أرقي منه في النوع والشكل والطعم، وقد تكرر ذكرها في الكتاب الشريف علي صور شتي، فقال تعالي:

(وَجزاهُم بما صَبَروا جَنَّةً وحَريراً * مُتَكئينَ فيها عَلي الأرائكِ لا يَرونَ فيها شَمساً وَلا زَمهَريراً * ودانِيَةً عَليهِم ظِلالُها وذَلَلت قَطوفُها تَذليلاً * ويُطافُ عَليهم بِانيَّةٍ مِن فِضَّة وأَكوابٍ كانَت قَواريراً * قَواريراَ مِن فِضَّةٍ قَدَّروها تَقديراً * و يُسقون

فيها كَأساً كانَ مِزاجُهاً زَنجبيلاً * عَيناً فيها تُسَمَّي سَلسَبيلاً * وَيَطوفُ عَليهم ولدانٌ مُخلَّدونَ إذا رَأيتَهُم حَسبَهم لُؤلُؤاً مَنثوراً * وإذا رَأيتَ ثَمَّ رأيتَ نَعيماً ومُلكاً كَبيراً * عالِيَهُم ثِيابُ سُندُس خُضرٌ واستَبرقٌ وحُلواَ أَسَاوِرَ مِن فِضةٍ سَقاهُم رَبُّهم شَراباً طَهوراً * إنَّ هَذا كانَ لَكم جَزاءً وَكانَ سَعيُكُم مَشكُوراً).(1)

وقوله تعالي :

(مَثَلُ الجَنَّة الَّتي وُعدَ المُتَقونَ فِيها أنهارٌ مِن مَاء غَيرِ اسِنٍ وَأنهارٌ مِن لَبَنٍ لَم يَتَغير طَعمُهُ وأنهارٌ مِن خَمرٍ لَذَّة للشَّاربينَ وأنهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفيِ ولَهُم فيها مِن كُل الثَمراتِ وَمَغفرةٌ مِن رَبِّهِم كَمَن هُو خالِدٌ فِي النَّار وَسُقوا مَاءً حَميماً فَقَطعَ أَمعاءَهُم).(2)

ص: 343


1- لإنسان: 12 - 22
2- محمد: 15

وقال تعالي:

(ولَهُم فيها أَزواجٌ مُطَهرةٌ وهُم فِيها خَالِدوُن) .(1)

هذا بعض ما ورد من صفات الجنة في القرآن العظيم.

وصف الجنة في أحاديث السنة:

قال الطريحي في مجمع البحرين:

عن علي بن إبراهيم قال: حدثني أبي، عن حماد، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لما أسري بي إلي السماء، دخلت الجنة فرأيت قصراً من ياقوت أحمر يري داخله من خارجه، وخارجه من داخله، وفيه بيتان من در وزبرجد، فقلت: يا جبرئيل لمن هذا القصر؟ فقال: لمن أطاب الكلام، وأدام الصيام، وأطعم الطعام، وتهجد بالليل والناس نيام، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا رسول الله وفي أمتك من يطيق هذا؟ فقال: أدن مني يا علي، فدنا، فقال: أتدري ما إطابة الكلام؟ فقال: الله ورسوله أعلم، قال: من قال: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر). فقال: أتدري ما إدامة الصيام؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: من صام شهر رمضان ولم يفطر منه شيئاً. قال: أتدري ما إطعام الطعام؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: من طلب لعياله ما يكف به وجوههم عن الناس. وتدري ما التهجد بالليل والناس نيام؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: من لم ينم حتي يصلي عشاء الآخرة، ويعني ب (الناس نيام) اليهود والنصاري، فإنهم ينامون فيما بينهما.(2)

وفي سفينة البحار مسنداً عن أبي أمامة الباهلي، إن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من

ص: 344


1- البقرة: 25
2- مجمع البحرين 1: 414

الحور العين تغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزمار الشيطان، ولكن بتمجيد الله وتقديسه. (1)

وعن أبي الدرداء: قال كان رسول الله صلي الله عليه وآله يذكر الناس، فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم، وفي القوم أعرابي، فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال: نعم يا أعرابي، إن في الجنة لنهراً حافتاه أبكار من كل بيضاء، يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة.(2)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الجنة: واعلموا عباد الله أن مع هذا رحمة الله التي وسعت كل شيء، لا يعجز عن العباد جنة عرضها السماوات والأرض، خير لا يكون بعده شر أبداً، وشهوة لا تنفذ أبداً، ولذة لا تفني أبدأً، ومجمع لا يتفرق أبداً، وقوم قد جاوروا الرحمن وقام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من ذهب فيها الفاكهة والريحان.(3)

وفي السفينة أيضاً، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلي الله عليه وآله : أخبرني جبرئيل أن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، وما يجدها عاق ولا قاطع رحم، ولا شيخ زانٍ، ولا جار أزاره خيلاء، ولا فتان ولا منان ولا جعظري، قال: قلت: فماالجعظري؟ قال الذي لا يشبع من الدنيا.(4)

وفي المجلد الأول من كتاب (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل) تأليف قاضي القضاة مجير الدين الحنبلي:

ثم خلق الله الجنة وهي ثمان جنات: أولها دار الجلال من اللؤلؤ الأبيض، ثم دار السلام وهي من الياقوت الأحمر، ثم جنة المأوي وهي من

ص: 345


1- بحار الأنوار 8 196ح 181
2- بحار الأنوار8: 196ح 182
3- أمالي الشيخ المفيد: 266
4- بحار الأنوار8: 193/ ح 174

الزبرجد الأخضر، ثم جنة الخلد وهي من المرجان الأصفر، ثم جنة النعيم وهي من الفضة البيضاء، ثم الفردوس وهي من الذهب الأحمر، ثم جنة دار القرار وهي من المسك، ثم جنة عدن وهي من الدر، وهي مشرفة علي الجنان، لها بابان من ذهب، بين كل مصراع كما بين السماء والأرض، وبناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وترابها العنبر، وحشيشها الزعفران، وقصورها اللؤلؤ، وغرفها الياقوت،وأبوابها الجوهر، وفيها أنهار: منها نهر الرحمة، ونهر الكوثر، وهو لنبينا صلي الله عليه وآله، ونهر الكافور، ثم التسنيم، ثم السلسبيل، ثم الرصيف، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالي. وللجنان ثمانية أبواب، وفيها من الحور العين ما لا يقدر علي وصفهن إلآ الذي خلقهن.

وفي تفسير (نفحات الرحمن) 48/1 : روي عن النبي صلي الله عليه وآله في فضيلة «بسم الله الرحمن الرحيم أنه قال: ليلة أسري بي إلي السماء عرض علي جميع الجنان، فرأيت فيها أربعة أنهار: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل. فقلت: يا جبرائيل من أين تجيء هذه الأنهار وإلي أين تذهب؟ قال: تذهب إلي حوض الكوثر، ولا أدري من أين تجيء، فادعو الله تعالي ليعلمك أو بريك، فدعي ربه فجاء ملك فسلم علي النبي صلي الله عليه وآله ثم قال: يا محمد غمض عينك، قال: فغمضت عيني، ثم قال: افتح عينك، ففتحت فإذا أنا عند شجرة، ورأيت قبة من درة بيضاء ولها باب من ذهب أحمر وقفل، لو أن جميع ما في الدنيا من الجن والإنس وضعوا علي تلك القبة لكانوا مثل طائر جالس علي جبل.

فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت القبة، فلما دنوت من القفل وقلت: «بسم الله الرحمن الرحيم انفتح القفل، ورأيت مكتوباً علي أربعة أركان القبة «بسم الله الرحمن الرحيم»ورأيت نهر الماء يخرج من ميم (بسم الله)، ورأيت نهر اللبن يخرج من هاء «الله»، ونهر الخمر يخرج من ميم الرحمن»، ونهر العسل يخرج من ميم الرحيم»فعلمت أن أصل هذه الأنهار

ص: 346

الأربعة من البسملة، فقال الله عزوجل: يا محمد من ذكر هذه الأسماء من أمتك بقلب خالص من رياء وقال: بسم الله الرحمن الرحيم سقيته من هذه الأنهار.

وفي ربيع الأبرار للزمخشري :

عن أسامة بن زيد: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول في ذكر الجنة: ألا مشتر لها، هي ورب الكعبة - ريحانة تهتز، ونور يتلألأ، ونهر يطرد، وزوجة لا تموت، مع بور ونعيم، ومقام الأبد.(1)

الخدري يرفعه: إن الله جل ذكره لما حوط حائط الجنة، لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وغرس غرسها، قال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال تعالي: طوبي لك منزل الملوك.(2)

جابر بن عبد الله الأنصاري، عنه صلي الله عليه وآله: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تعالي: أتشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا وما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر.(3)

زيد بن أرقم، قال رجل لرسول الله صلي الله عليه وآله : يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطي قوة مائة رجل في الأكل والشرب، قال: فإن الذي يأكل تكون له الحاجة، والجنة طيب لا خبث فيها، قال: عرق يفيض من أحدهم كرشح المسك فيضمر بطنه. (4)

عتبة بن غزوان: لقد بلغني أن المصراعين من مصاريع الجنة، بعدما بينهما مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ بالزحام.

ص: 347


1- رواه أيضاً ابن أبي الحديد في شرح النهج 9: 280
2- رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج 9: 280
3- شرح النهج لابن أبي الحديد 9: 280
4- بحار الأنوار8: 149ح 82

دخل داود عليه السلام غاراً من غيران بيت المقدس فوجد حزقيل يعبد ربه، وقد يبس جلده علي عظمه، فسلم عليه، فقال: أسمع صوت شبعان ناعم، فمن أنت؟ قال: داود! قال: الذي له كذا و كذا امرأة، و كذا وكذا أمة؟ قال: نعم، وأنت في هذه الشدة؟ قال: ما أنا في شدة، ولا أنت في نعمة، حتي ندخل الجنة. (1)

قوله عليه السلام: أقبلوا علي جيفة قد افتضحوا بأكلها" استعار صلوات الله عليه لفظ الجيفة للدنيا باعتبار نفرة طباع أهل البصيرة والمعرفة عنها، وكونها مستقذرة في نظر أرباب اليقين وأولياء الدين، كالجيفة المنتنة التي ينفر عنها الناس ويفرون منها، أوباعتبار اجتماع أهلها عليها و فرط رغبتهم إليها، و كون هم كل واحد جذبها إلي نفسه بمنزلة جيفة منبوذة تجتمع عليها الكلاب ويجذبها كل إليه، قال الشاعر:

وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها

قوله عليه السلام: واصطلحوا علي حبها، أي اتفقوا علي محبتها و توافقوا عليها، فإن أصل الصلح هو التراضي بين المتنازعين، وتجوز به عن التوافق والاتفاق للملازمة بينهما.

قوله: ومن عشق شيئاً، أي كان مولعاً به شديد المحبة له، فإن العشق هو الافراط في الحب والتجاوز عن حد الاعتدال.

قال جالينوس الحكيم اليوناني العشق من فعل النفس، وهو كامن في الدماغ والقلب والكبد، وفي الدماغ ثلاث مساكن: التخيل في مقدمه، والفكر في وسطه، والذكر في آخره. فلا يكون أحد عاشقاً حتي إذا فارق معشوقه لم يخل من تخيله وفكره وذكره، فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال قلبه،

ص: 348


1- بحار الأنوار 14: 26/ ح 4

وكبده من النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والذكر والفكر للمعشوق، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، ومتي لم يكن كذلك لم يكن عاشقاً.

وكيف كان فالمراد أن من أفرط في محبة شيء أعشي ذلك الشيء «بصره وأمرض قلبه» أي يكون فرط حبه لذلك الشيء مانعاً عن توجهه إلي ما يلزمه التوجه إليه، وحاجباً عن النظر إلي مصالحه وما يلزمه الاشتغال به، فيكون غافلاً عما عداه صارفأً أوقاته بكليته إلي هواه، ويكون عشقه مانعاً عن إدراكه العقول، ويكون عشقه أيضاً مانعاً عن إدراكه لعيوب المعشوق وعن التفاته إلي مساويه، ومن هنا قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ***كما أن عين السخط تبدي المساويا

وغرضه صلوات الله عليه أن أهل الدنيا لكثرة حبهم لها وفرط رغبتهم إليها قصرت أبصارهم عن النظر إلي أخراهم، ومرضت قلوبهم عن التوجه إلي عقباهم، وصرفوا أوقاتهم بكليتها إليها وإلي زخارفها ومقتنياتها، غافلين عن إدراك عيوبها ومساويها، ولم يعرفوا أنها غدارة غرارة يونق منظرها ويوبق مخبرها، وأنها لم تف الأحد من عشاقها، ولم تصدق ظن أحد من طالبيها وراغبيها.

قوله صلوات الله عليه: فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة لغفلته عما سوي المحبوب، وعدم تنبهه بما فيه من العيوب، فلا ينظر إليه بنظر البصيرة والاعتبار حتي يبصر ما فيه من المفاسد والمضار، ولا يستمع إلي المواعظ والزواجر والنواهي والأوامر حتي يأخذ عدته ليوم تبلي السرائر.

قد خرقت الشهوات عقله شبه العقل بالثوب، إذ كما أن الثوب زينة الانسان ووقاية للبدن من الحر والبرد فكذلك العقل زينة للمرء ووقاية له من حر نار الجحيم، يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان، وجعل عقل الرجل الموصوف بمنزلة ثوب خلق، إذ الثوب إذا كان خرقاً خلقاً ممزقاً لا ينتفع به صاحبه، فكذلك العقل إذا كان مفرقاً بالشهوات الباطلة مصروفاً في اللذات العاجلة لا ينتفع به فيما خلق لأجله البتة.

قوله صلوات الله عليه: وأما تت الدنيا قلبه، فلا انتفاع له به كميت لا

ص: 349

نفع له، «وولهت عليها نفسه، أي صار في فرط محبته للدنيا بمنزلة الواله عليها والمفتون بها فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها»، لأنه إذا كانت همته مصروفة اليها وأوقاته مستغرقة في جمعها و جبايتها صار زمام أمره بيدها «حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها، كبد دائر في حركاته وسكناته مدار مولاه، وانقياده لسيده ربما يكون قسرياً، وخدمة ذلك لدنياه عن وجه الشوق والرغبة والرضا والمحبة، وفي هذا المعني قال الشاعر:

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها *** فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت *** يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

قوله صلوات الله عليه: «لا ينزجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ» وهو يري الكتب الآلهية والصحف السماوية والأخبار المشحونة بذم الدنيا، الناهية عن الركون إليها والإعتماد عليها، مضافاً إلي رؤيته المخرجين عن الدنيا بجبر و قهر، والمقلعين عنها بكره وقسر،«المأخوذين علي الغرة» وحالة الاغترار والغفلة، المشغولين بالدنيا وشهواتها، الغافلين عن هادم اللذات وسكراته «حيث لا إقالة، لهم عن ذنوبهم ولا رجعة لهم إلي الدنيا ليتداركوا سيئات أعمالهم.

كيف نزل بهم من شدائد الأهوال «ما كانوا يجهلون وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون وقدموا من»عقبات والآخرة ما كانوا يوعدونه فإنه لو تفكر في ذلك وتذكر ذلك يوشك أن يؤثر فيه ويقل فرحه بالدنيا وشغفه بها.

لأنه بعدما لاحظ أحوال هؤلاء الماضين وتصور تبدد أجزائهم في قبورهم ومحو التراب حسن صورهم، وأنهم كيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم، وخلت عنهم مجالسهم ومدارسهم، وانقطعت عنهم آثارهم ومعالمهم، وعرف أنه عن قريب كائن مثلهم، انقلع - لا محالة - عن هؤلاء، وارتدع عن حب دنياه:

ص: 350

تفانوا جميعاً فما مخبر*** وماتوا جميعاً ومات الخبر

تروح وتغدو بنات الثري*** فتمحو محاسن تلك الصور

فيا سائلي عن أناس مضوا ***أما لك فيما تري معتبر

لا سيما لو عمق نظره في ما حل بالأموات بعد موتهم، ومانزل بساحتهم حين موتهم، لكان ندمه أشدة وحسرته آكد.

سكرات الموت:

فغير موصوف مانزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيرت لها ألوانهم، وذلك لأن ألم النزع يسري في جميع أعضاء البدن ويستوعب الأطراف ويوجب ضعفها وفتورها.

قال الغزالي: واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها بالقياس إلي الآلام التي أدركها.

بيان ذلك القياس: أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإذا كان فيه فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سري الأثر إلي الروح، فبقدر ما يسري إلي الروح يتألم، والمؤلم يتفرق علي اللحم والدم وسائر الأجزاء فلا يصيب الروح إلا بعض الألم، فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره، فما أعظم ذلك الألم وما أشده!، والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتي لم يبق جزء من أجزاء المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم، فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجد إنما يجري في جزء من الروح يلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة.

وإنما يعظم أثر الاحتراق لأن أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن،فلا يبقي جزء من العضو المحترق ظاهراً وباطناً إلأ وتصيبه النار، فتحس الأجزاء الروحانية المنتشرة في سائر أجزاء اللحم، وأما الجراحة فإنما تصيب

ص: 351

الموضع الذي مسه الحديد فقط، فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار، فألم النزع يهجم علي نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه، فإنه المنزوع المجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء و مفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من الفرق إلي القدم، حتي قالوا: إن الموت لأشد من ضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض، لأن قطع البدن بالسيف إنما يؤلمه لتعلقه بالروح، فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح؟ وإنما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوته في قلبه وفي لسانه، وإنما انقطع صوت الميت وصياحه مع شدة ألمه لأن الكرب قد بالغ فيه وتصاعد علي قلبه وبلغ كل موضع منه، فهد كل قوة وضعف كل جارحة، فلم يترك له قوة الاستغاثة.

وإلي ذلك أشار صلوات الله عليه بقوله: «ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم وبين منطقه، واستعار لفظ الولوج لما يتصور من فراق الحياة بعضو عضو، فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر، والمقصود بذلك شدة تأثير الموت فيأبدانهم وإيجابه لضعف اللسان عن قوة النطق والتكلم.

نعم في رواية الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: الحياة والموت خلقان من خلق الله، فإذا جاء الموت فدخل في الانسان لم يدخل في شيء إلا وخرجت منه الحياة.(1)

فإن ظاهر هذه الرواية مفيدة لكون الولوج في كلامه مستعملاً في معناه الحقيقي، اللهم إلا أن يرتكب المجاز في ظاهر هذه أيضاً، فافهم .

وإنه لبين أهله ينظر إليهم ببصره ويسمع كلامهم «يأذنه، ولا يتمكن من إظهار ما فيه من الشدة والحسرة عليهم لمكان ضعفه وعجزه مع أنه «علي

ص: 352


1- الكافي 3: 259ح 34؛ بحار الأنوار 6: 117/ ح 2

صحة من عقله وبقاء من لبه فهو راغب عن الدنيا مقبل إلي الآخرة، مشغول بحاله محاسب علي نفسه، متحسر علي ما قدمت يداه، نادم علي ما فرط في جنب مولاه. «يفكر فيم أفني عمره، وفيم أذهب دهره، ويتأثر علي غفلته في أيام مهلته «ويتذكر أموالاً جمعها، واستغرق أوقاته فيها «أغمض في مطالبهاء و تساهل في اكتسابها أيامه، ولذلك لعدم مبالاته بأنها من حلال أو حرام وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتهاء أي من وجوه مباحة وذوات شبهة.

كما أشير إليه في الحديث النبوي المعروف، قال صلي الله عليه وآله: إنما الأمور ثلاثة: أمر بين شده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجي من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. (1)

قد لزمته تبعات جمعها و آثام جبايتها وأشرف علي فراقها، تبقي لمن ورائه ينعمون فيها ويتمتعون بها، وهم إما أهل طاعة الله فسعدوا بما شقي، وإما أهل معصيته فكان عوناً لهم علي معصيتهم فيكون المهنأ لغيره والعبء علي ظهره أي يكون هنائة تلك الأموال أي كونها هنيئة لغيره، ووزرها وثقلها علي ظهره.

وفي الحديث النبوي المروي عن إرشاد القلوب، قال صلي الله عليه وآله : «إذا ځمل الميت علي نعشه رفرف روحه فوق النعش وهو ينادي: يا أهلي وولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعته من حل وغير حل وخلفته لكم، فالمهنأ لكم والتعب علي، فاحذروا مثل ما قد نزل بي،(2) ونعم ما قيل:

يمر أقاربي جنبات قبري *** كأن أقاربي لم يعرفوني

وذو الميراث يقتسمون مالي*** وما يألون أن جحدوا ديوني

وقد أخذوا سهامهم وعاشوا ***فيالله أسرع ما نسوني

ص: 353


1- الاحتجاج 2: 107
2- بحار الانوار 6: 161/ح 28

قوله صلوات الله عليه: و المرء قد غلقت رهونه بها.

قال الشارح المعتزلي: معناه أنه لما كان قد شارف الرحيل وأشفي علي الفراق صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقة لغيره ولم يبق له فيها تصرف، وأشبهت الرهن الذي غلق علي صاحبه، فخرج عن كونه مستحقاً له، وصار مستحقا لغيره وهو المرتهن.(1)

وقال الشارح البحراني: ضربه صلوات الله عليه مثلاً لحصول المرء في تبعات ما جمع وارتباطه بها عن الوصول إلي كماله وانبعاثه إلي سعادته بعد الموت، وقد كان يمكنه فكاكها بالتوبة والأعمال الصالحة، فأشبه ما جمع من الهيئات الردية في نفسه عن اكتساب الأموال، فارتهنت بها بما علي الراهن من المال.

قوله صلوات الله عليه: فهو يعض بده ندامة علي ما أصحر له عند الموت من أمره وانكشف له حينئذ من تفريطه، كما يعض يوم القيامة إذا عاين العقاب وشاهد طول العذاب.

قال سبحانه:(وَيَومَ يَعضُّ الظَّالمُ عَلي يَديِه يَقُولُ يا لَيتَني اتَّخَذت مَع الرَّسولُ سَبيلاً * يا ويلَتي لَيتَني لَم أتَّخَذ فُلاناً خَليلاً * لَقَد أضَلَّني عَن الَّذكر بَعدَ إذ جاءَني) . (2)

جاء في التفسير: أي يعض علي يديه ندماً وأسفاً، قال عطاء: يأكل يديه حتي تذهب إلي المرفقين ثم تنبتان، لا يزال هكذا كلما نبتت يداه أكلهما ندامة علي ما فعل.(3) وهو كناية عن الندم والتحسر علي ما فرط في جنب الله، وقصر في امتثال أمر مولاه.

قوله صلوات الله عليه: «ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره من

ص: 354


1- شرح نهج البلاغة 209:7
2- الفرقان: 27 - 29
3- تفسير مجمع البيان 7: 292

الأموال التي جمعها وخلفها لغيره، «ويتمني أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه»لما ظهر له من تبعاتها وسوء عاقبتها.

فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتي خالط لسانه سمعه فصار بين أهله لا يقدر أن «ينطق بلسانه ولا» أن «يسمع بسمعه» لانقطاع مادة الحياة عن السمع واللسان ويردد طرفه بالنظر في وجوههم، أي مخاطباتهم ويري حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم، أي ما يتراجعونه من الكلام لبطلان قوته السامعة وبقاء قوته الباصرة بعد.

قوله صلوات الله عليه: «ثم ازداد الموت التياطأً به، أي التصاقاً «فقبض بصره كما قبض سمعه وخرجت الروح من جسده»ظاهر هذا الكلام بملاحظة ما سبق من قوله:اثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم وبين منطقه الخ... وما سبق أيضأً من قوله: «فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتي خالط لسانه سمعه» يفيد بطلان آلة النطق في الانسان قبل آلتي السمع والبصر، ثم بطلان آلة البصر، وإنما تبطل مع خروج الروح ومفارقتها عن البدن.

قال الشارح البحراني: وليس ذلك مطلقاً بل في بعض الناس، وأغلب ما يكون ذلك فيمن تعرض الموت الطبيعي لآلاته، وإلا فقد تعرض الآفة لقوة البصر وآلته قبل آلة السمع وآلة النطق، والذي يلوح من أسباب ذلك أنه لما كان السبب العام القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزية عن فناء الرطوبة الأصلية التي منها خلقنا، و كان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزية فيها التجفيف والتحليل، وقد تعينها علي ذلك الأسباب الخارجية من الأهوية واستعمال الأدوية المجقفة وسائر المجففات، كان كل عضو أيبس من طبيعته وأبرد أسرع إلي البطلان وأسبق إلي الفساد.

وقال الشارح الخوئي: أما أن آلة النطق أسرع من الأعصاب المفيدة للحس واتفق الأطباء علي أن الأعصاب المحكة أيبس و أبرد، لكونها منبعثة من مؤخر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحس، فإن جلها منبعث من مقدم الدماغ، فكان لذلك أقرب

ص: 355

إلي البطلان، ولأن النطق أكثر شروطأً من السماع، لتوقفه مع الآلة وسلامتها علي الصوت وسلامة مخارجه و مجاري النفس، والأكثر شرطاً أسرع إلي الفساد.

وأما بطلان آلة السمع قبل البصر فلأن منبت الأعصاب التي هي محل القوة السامعة أقرب إلي مؤخر الدماغ من منابت محل القوة الباصرة، فكانت أيبس وأبرد وأقبل لانطفاء الحرارة الغريزية، ولأن العصب المفروش علي الصماخ الذي رتبت فيه قوة السمع أحتاج أن يكون مكشوفاً غير مسدود عنه سبيل الهواء، بخلاف العصب الذي هو آلة البصر، فكانت لذلك أصلب، والأصلب أيبس وأسرع فسادا، هذا مع أنه قد يكون ذلك لتحتل الروح الحامل للسمع قبل الروح الحامل للبصر أو لغير ذلك، والله أعلم.

الجسد بعد الموت:

وقوله صلوات الله عليه: فصار جيفة بين أهله.

لا يخفي ما في هذا التعبير من النكتة اللطيفة، وهو التنفير عن التعلق بهذا البدن العنصري، والنهي عن التعزز بهذا الهيكل الجسماني، فإن من كان أوله جيفة وآخره جيفة وهو في الدنيا حامل الجيف كيف يجوز له الاغترار بوجوده والتعزز والتكبر بذاته، لا سيما بعد ملاحظة كون آخره جيفة أقذر من سائر الجيف حتي جيفة الكلب والخنزير، حيث إن سائر الجيف لا توجب علي من لامسها الغسل بخلاف ميتة الانسان، فإن ملامستها توجب غسل المس، خصوصاً لو لاحظ أن أقرب الناس إليه و آنسهم به من الآباء والاخوان والبنات والولدان:

قد أو حشوا من جانبه وتباعدوا من قربه مع كمال أنسهم به ومحبتهم له، وجهة استيحاشهم منه حكم أوهامهم السخيفة علي قواهم المتخيلة بمحاكاة حاله في نفس المتوهم، وعزل العقل في ذلك الموضوع، ولذلك أن المجاور لميت في موضع ظلماتي منفرد يتخيل أن الميت يجذبه إليه ويصيره بحاله المنفورة عنها طبعاً.

ص: 356

وبالتالي فالمرء إذا خرجت روحه من جسده تنافر الناس عنه ويبقي فريداً وحيداً «لا يسعد باكية، علي بكائه «ولا يجيب داعياً، علي دعائه، «ثم حملوه، أي حفدة الولدان وحشدة الإخوان إلي مخط من الأرض، أي قبره الذي يخط وينزل فيه فأسلموهفيه إلي عمله وانقطعوا عن زور ته ووجد ما عمله محضراً، فإن كان العمل صالحاً فنعم المؤنس والمعين، وإن كان شيئاً فبئس المصاحب والقرين والعدو المبين.

موارد الركون إلي الدنيا:

والحق لو كان كلام يأخذ بالأعناق في التزهيد عن الدنيا والترغيب إلي الآخرة لكان هذا الكلام الذي ما أبعد غوره وأجزل قدره، فإن عمدة ما أوجب رغبة الراغبين إلي الدنيا والراكنين اليها والمغترين بها إنما هو أمور ثلاثة:

أحدها: حب المال، والثاني: حب الوجود، والثالث: حبة الأولاد والبنين والأزواج والأقربين، فز قد صلوات الله عليه عن كل ذلك بأحكم بيان وأوضح برهان.

أما عن المال فبأنه عن قريب يفارقه وينتقل عنه، وتكون لذته ومهنأه الغيره ويبقي وزره وتبعته عليه. وأما عن وجوده ونفسه فبأنه ستنمحي أعضاؤه وجوارحه ويبطل قواه و آلاته وتكون بالآخرة منبوذة بين أهله.

وأما عن الأولاد والأبناء والإخوان والأقرباء فبأنهم سيفارقونه ويتنفرون عنه ويستوحشون منه، فمن كان مال ما أحبه ذلك، فكيف يغتر بذلك مع علمه بأن كل ذلك واقع لا محالة، واعتقاده بأن الموت لا يمكن الفرار منه البتة.

قال علي بن الحسين عليه السلام: العجب كل العجب لمن أنكر النشأة الآخرة وهو يري النشأة الأولي! (1)وقال الله سبحانه:

(أَينَما تَكُونُوا يُدرِككُم المَوتُ و لَو كُنتُم فِي بُروجٍ مُشَيَّدَةٍ). (2)

ص: 357


1- أمالي الطوسي: 663/ ح 1387؛ بحار الانوار 7 42/ ح 15
2- النساء: 78

روي الأعمش عن خيثمة قال: دخل ملك الموت علي سليمان بن داود علي نبينا وآله وعليهما السلام، فجعل ينظر إلي رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فلما خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إلي كأنه يريدني، قال عليه السلام : فماذا تريد؟ قال: أريد أن تخلصني منه فتأمر الريح حتي تحملني إلي أقصي الهند، ففعلت الريح ذلك، ثم قال سليمان عليه السلام: لملك الموت بعد أن أتاه ثانياً: رأيتك تديم النظر الي واحد من جلسائي، قال: نعم كنت أتعجب منه لأني كنت أمرت أن أقبضه بأقصي الهند في ساعة قريبة، وكان عندك فتعجبت من ذلك.(1)

إدريس النبي وملك الموت:

وفي الكافي عن علي بن إبراهيم، عن عمرو بن عثمان، عن مفضل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: أخبرني جبرئيل أنت ملكاً من ملائكة الله كانت له عند الله منزلة عظيمة فتعتب عليه فأهبطه من السماء إلي الأرض، فأتي إدريس عليه السلام فقال: إن لك من الله منزلة فاشفع لي عند ربك، فصلي ثلاث ليال لا يفتر وصام أيامها لا يفطر، ثم طلب إلي الله في السحر في الملك، فقال الملك: إنك قد أعطيت سؤلك وقد أطلق لي جناحي، وأنا أحب أن أكافيك فاطلب إلي حاجة. قال: تريني ملك الموت لعلي آنس به، فإنه ليس يهنؤني مع ذكره شيء، فبسط جناحه ثم قال: اركب، فصعد به يطلب ملك الموت في السماء الدنيا، فقيل له: اصعد، فاستقبله بين السماء الرابعة والخامسة، فقال الملك: يا ملك الموت ما لي أراك قاطباً؟ قال: العجب أني تحت ظل العرش حيث أمرت أن أقبض روح آدمي بين السماء الرابعة والخامسة، فسمع إدريس عليه السلام بها فامتعض فخر من جناح الملك فقبض روحه مكانه، وقال الله عزوجل : (وَرَفَعنَاهُ مَكاناً عَلياً). (2)

ص: 358


1- المصنف لابن أبي شيبة 1188/ح3
2- مريم: 57 /التفسير الصافي 3: 286؛ تفسير نور الثقلين 3: 249

أبيات في الموت:

ونعم ما قيل في المقام:

إن الحبيب من الأحباب مختلس ***لا يمنع الموت بواب ولا حرس

فكيف تفرح بالدنيا ولذتها ***يا من يُعَّد عليه اللفظ والنفس

أصبحت با غافلاً في النقص منغمسا *** وأنت دهرك في اللذات منغمس

لا يرحم الموت ذا جهل لغرته ***ولا الذي كان منه العلم يقتبس

كم أخرس الموت في قبر وقفت به ***عن الجواب لساناً ما به خرس

قد كان قصرك معموراً به شرف *** فقبرك اليوم في الأحداث مندرس

ص: 359

ص: 360

ومن خطبة له عليه السلام :

في إرساله الرسل وحالة العرب قبل الإسلام

وَلَم يُخلِ الله سُبحَانَه خَلقَهُ مِن نَبي مُرسِلَ أو كِتابٍ مُنزَلٍ أو حُجَةٍ لازِمَةٍ أَو مَحَجَةٍ قَائمَة رُسلٌ لا تُقَصّرُ بِهم قلَّةُ عَدَدهِم وَلا كَثرِهُ الُمكَذبينَ لَهم مِن سَابِقٍ سُمي لَه مِن بَعدَهُ أَو غَابرٍ عَرَفَهَ مِن قَبلَه عَليَ ذَلكَ نَسَلَت القَرونُ وَمَضَتِ الدُّهورُ وَسَلَفَت الآباءُ وَخَلَفَت الأَبناءُ، إلَي أَن بَعَثَ اللهُ سُبحَانه مَحمداً رسول الله صلي الله عليه وآله لإنِجازَ عدتَه وإتمَامِ نُبُوَتِه مَأخُوذاً عَلي النَبي مِيثاقُةُ مَشهورةً سَماتُه كَريماً ميلادُهُ وأهلَ الأرضِ يَومئِذٍ ملَلٌ مُتفَرَقَةٌ وَأهواءٌ مُنتَشِرةٌ وطَرائقٌ مستشَتتَةٌ بَينَ مُشَتبه لله بخَلقِه أو مُلحَد في اسمه أو مُشيرٍ إلَي غَيرَه فَهَداهُم بِه مِنَ الضَّلالَة وَأنقَذَهُم بِمكانِه مِنَ الجَهَالَةً ثُمَّ اختَارَ سُبحَانَه لمُحمدٍ صلي الله عليه وآله لَقاءهُ و رَضيَ لَه مَا عِندَهُ واكرَمَه عَن دَارِ الدُّنيا وَرَغَبَ بِه عَن مَقَامِ البَلوي فَقَبَضَهُإلَيه كَريماً).

(شرح ابن ابي الحديد مج1، ص37، ط الاولي).

الشرح:

قال الشارح المعتزلي في قوله صلوات الله عليه: «مأخوذاً علي النبيين ميثاقه، قيل: لم يكن نبي قط إلا وبشر بمبعث محمد صلي الله عليه وآله وأخذ عليه تعظيمه وإن كان بعد لم يوجد.

الأديان في عصر الجاهلية:

وأما قوله صلوات الله عليه: وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة. فإن العلماء يذكرون أن النبي صلي الله عليه وآله، بعث والناس أصناف شيء في أديانهم، يهود

ص: 361

ونصاري ومجوس وصابئون وعبدة أصنام وفلاسفة وزنادقة، فأما الأمة التي بعث محمد صلي الله عليه وآله فيها فهم العرب، وكانوا أصنافاً شتي: فمنهم معطلة ومنهم غير معطلة، فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق والبعث والاعادة وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم:(مَا هِيَ إلّا حَياتُنا الدُّنيا نَمُوتُ ونَحيَا ومَا يُهلِكُنا إلَّا الدَّهرُ)(1) فجعلوا الجامع لهم الطبع والمهلك الدهر. ومنهم من اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث، وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله:(قالَ مَن يُحيِ العِظامَ وَهِيَ رَميمٌ ).(2) ومنهم من أقر بالخالق ونوع من الاعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة، وحجوا لها، ونحروا لها الهدي، وقربوا لها القرابين، وحللوا وحرموا، وهم جمهور العرب، وهم الذين قال الله تعالي عنهم: (مَا لِهَذا الرَّسولِ يَأكُلُ الطَّعامَ وَيمشِي فِي الأُسواقِ).(3)

وممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلي بدر:

فماذا بالقليب قليب بدر*** من الفتيان والقوم الكرام

وماذا بالقليب قليب بدر*** من الشيري تكتل بالسهام

أيخبرنا ابن كبشة أن سنحيا ***وكيف حياة أصداء وهام

إذا ما الرأس زال بمنكبيه *** فقد شبع الأنيس من الطعام

أيقتلني إذا ما كنت حياً*** ويحييني إذا مت عظامي (4)

ص: 362


1- الجاثية: 24
2- يس: 78
3- الفرقان: 7
4- نسبها الخصيبي في الهداية الكبري: 107 الي أبي بكر، ونسبها السيد شرف الدين الي الأسود بن يعفر وقال بأن عمر شرب الخمر ثم قعد ينوح علي قتلي بدر بشعر الاسود النص والاجتهاد: 311)، وانظر ايضا: الغدير 6: 251؛ افحام الأعداء والخصوم للسيد ناصر حسين الموسوي الهندي: 118

وممن أنكر المعاد يزيد بن معاوية، فقد ذكر السبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص نقلاً عن ديوان يزيد:

علية هاتي واعلني وترتمي*** بذلك إني لا أحب التناجيا

حديث أبي سفيان قدماً سما بها*** إلي أحد حتي أقام البواكيا

ألا هات سقيني علي ذاك قهوةً*** تخيرها العنسي كرماً شاميا

إذا ما نظرنا في أمور قديمة ***وجدنا حلالاً شربها متواليا

وإن مت يا أم الأحيمر فانكحي*** ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا

فإن الذي حدثت عن يوم بعثنا ***أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا(1)

قال ابن أبي الحديد: وكان من العرب من يعتقد التناسخ و تنقل الأرواح في الأجساد ومن هؤلاء أرباب الهامة الذين قال النبي صلي الله عليه وآله عنهم: لا عدوي ولا هامة ولا صفر...(2)

وكانوا في عبادة الأصنام مختلفين: فمنهم من يجعلها مشاركة للباري تعالي، ويطلق عليها لفظ الشريك، ومن ذلك قولهم في التلبية: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكة هو لك تملكه وما ملك.

ومنهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك ويجعلها وسائل وذرائع إليالخالق سبحانه، وهم الذين قالوا (مَا نَعبُدُهُم إلَّا لِيُقَرِبُونا إلَي الله زُلفي). (3)

وكان في العرب مشبهة ومجسمة، منهم أمية بن أبي الصلت، وهو القائل :

من فوق عرش جالس قد ***حط رجليه إلي كرسيه المنصوب

أصنام العرب:

وكان جمهورهم عبدة الأصنام: فكان ود لكلب بدومة الجندل، وسواع

ص: 363


1- تذكرة الخواص: 164
2- الأمالي للمرتضي 3: 110؛ بحار الأنوار 61: 179
3- الزمر: 3

لهذيل، ونسر لجمير، ويغوث لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعزي لكنانة وقريش وبعض بني سليم، ومناة لغان والأوس والخزرج، وكان قبل لقريش خاصة علي ظهر الكعبة، وأساف ونائلة علي الصفا والمروة، وكان في العرب من يميل الي اليهودية، منهم جماعة من التبابعة وملوك اليمن، ومنهم نصاري كبني تغلب والعباديين رهط عدي بن زيد، و نصاري نجران، ومنهم من كان يميل الي الصابئة ويقول بالنجوم والأنوار.

فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم، وهم المتألهون وأصحاب الورع والتحرج عن القبائح، كعبد الله وعبد المطلب وابنه أبي طالب وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة الأيادي وعامر بن الظرب العدواني وجماعة غير هؤلاء .

وغرضنا من هذا التفصيل بيان قوله صلوات الله عليه: بين مشتبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلي غير ذلك، انتهي.(1)

ساق صلوات الله عليه هذه الخطبة بما اقتضاه الترتيب الطبيعي، أي من الدن آدم عليه السلام إلي بعث محمد صلي الله عليه وآله وهداية الخلق به واقتباسهم من أنوار وجوده الذي هو المقصود والعمدة في باب البعثة، فقال صلوات الله عليه:«علي ذلك» يعني علي هذا الأسلوب الذي ذكرناه من عدم إخلاء الأرض والخلق من الأنبياء والحجج النسلت القرون وولدت أو أسرعت، وهو كناية عن انقضائها ومضت الدهور وسلفت الآباء أي تقدموا وانقضوا وخلفت الأبناءأي جاؤوا بعد آبائهم وصاروا خليفة لهم، إلي أن بعث الله النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي الأبطحي التهامي المصطفي من دوحة الرسالة، والمرتضي من شجرة الولاية محمداً صلي الله عليه وآله لإنجاز عدته،التي وعدها الخلقه علي ألسنة ترسله السابقين بوجوده صلي الله عليه وآله ولإتمام نبوته»ليهتدي الناس

ص: 364


1- شرح نهج البلاغة 1: 119 و 120

به إلي سبيل الحق، ويفيئوا من ضلالهم القديم إلي سلوك الصراط المستقيم، ولينقذهم ببركة نوره من ظلمات الجهل إلي أنوار اليقين، فقام بالدعوة إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فجلا الله بنوره صداء قلوب الخلق، وأزهق باطل الشيطان بما جاء به من الحق والصدق، وانطلقت الألسن بذكر الله، واستنارت البصائر بمعرفة الله، و كمل به دينه في أقصي بلاد العالم، وأتم به نعمته علي كافة عباده، كما قال تعالي: (اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم ديِنَكُم وأتمَمتُ عَليُكم نِعمَتي ورَضِيتُ لَكُم الإسلامَ ديناً).(1)

كيف يحتار الله أنبياءه:

جاء في كتاب (التكامل في الإسلام) لمؤلفه أحمد أمين الكاظمي العراقي رحمة الله تحت عنوان «كيف يختار الله أنبياءه عليهم السلام:

النبوة ليست إلا سفارة ربانية يودعها الله أكمل عباده خَلقاً وخُلقاً، أي أكملهم في البدن والروح، أو في الحسب والنسب وطهارة النسل والمولد والأخلاق المثالية الكاملة، وخلاصة ذلك أن الله يودع النبوة شخصأً مستجمعاً لصفات العصمة والكمال.

إن الله وهو الكامل علي الإطلاق لا يرجح أحداً علي أحد دونما سبب وحكمة وهو معطي الحكمة، وحاشا أن يلهو، وهو القائل: (لَو أَرَدنا أَن نَتَّخِذَ لَهواً لاتَّخَذناهُ مِن لَدُنَّا إن كُنا فَاعِلينَ) (الأنبياء: 17) فلا يسند أمر السفارة بينه وبين خلقه إلا إلي أكمل عباده.

والله تعالي عادل، إذ العدل صفة ملازمة للكمال، وإن الكامل غير محتاج، ولا يحيد عن العدل إلا من كان محتاجاً إلي الجور والظلم، والكامل غني عن ذلك كله، لعدم وجود حاجة لديه إلي شيء. إذن وجب أن نبحث عن الصفات التي توفرت في ثلة من الناس حتي أسند إليهم منصب السفارة الإلهية كي يقوموا بتكميل البشر وإيصاله إلي الكمال المنشود.

ص: 365


1- المائدة: 3

صفات الأنبياء:

الصفة الأولي: هي طهارة المولد، ذلك لأن لهذا النوع من الطهارة أثراً فعالاً في الاتجاهات النفسية كما تؤيده التجارب، فالأنبياء كلهم وأكملهم نبينا محمد صلي الله عليه وآله كانوا يتقلبون في أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة طابت وطهرت بعضها من بعض، فأسرة محمد صلي الله عليه وآله خير أسرة، وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة، وثمارها متهدلة، كلما قسم الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما، لم يسهم فيه عاهر، ولا ضرب فيه فاجر.

وفي إثبات الوصية» للمسعودي شرح واف في كيفية انتقال النبوة والسفارة الإلهية والوصية من لدن آدم من بطن إلي بطن حتي انتهت إلي محمد صلي الله عليه وآله ، فنور محمد توارثه الأنبياء حتي انتهي إلي عبد الله بن عبد المطلب.

ثم إن الله تعالي لا يجتبي أحداً ولا يرجح بين عباده الا بالتقوي (إنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقاكُم )(1) فالأنبياء عليهم السلام هم أتقي الناس وأورعهم وأزهدهم، وإن محمداً صلي الله عليه وآله و كان منذ صغره وطفولته مثالاً رفيعاً للتقوي والكمال، لم يتأثر ببيئة كانت تعبد الأصنام وتأتي بأنواع الفجور والفسوق والبغي والظلم، خلافاً لما يقرره علماء التربية وعلم النفس في عصرنا: أن الطفل يتأثر بيئته إلي حد كبير.فلم يسجد لصنم، ولم يحضر مع قومه في أي عيد من أعياد الأصنام، ولم يأكل قط مما كان يذبح قرباناً للأصنام، فكان منذ صغره حسن الخلق، طاهر العقيدة، لم يتلوث تفكيره بعقائد الجاهلية، ولم يحاك أترابه في الهوهم وسحرهم، ولما صار زوجأً لخديجة كان علي درجة من رغد تمكنه من أن يعيش عيشة هنيئة كما يعيش عظماء مكة وأغنياؤها، لكنه مع ذلك - كان زاهداً في الحياة الدنيا ولذاتها، متقشفاً مؤثراً بساطة العيش، فحببت اليه

ص: 366


1- الحجرات: 13

العزلة، لقد اختار غار (حراء) في جبل يبعد عن مكّة ثلاثة أميال، كان يخلو فيه بنفسه أياماً وليالي متتابعة، فيفكر فيه في عظمة الخالق جل جلاله وما أودع في هذا الكون من خواص وأنظمة ما يحير الألباب، ويتعبد فيه لربة.

وكان صلي الله عليه وآله متحلياً بمكارم الأخلاق من صدق وأمانة وعقة ووقار إلي حد بعيد.

إن عزلة محمد صلي الله عليه وآله كانت للتفكير والتأمل، وذلك بإلهام منه تعالي كي يزداد صفاءً و تقرباً إلي الله جلت عظمته، حتي تصبح نفسه الزكية علي أتم استعداد لتلقي أعباء الرسالة العظيمة التي اختاره الله لها.

كل ما ذكرنا مؤهلات لأن تجعل محمداً صلي الله عليه وآله فوق من علي البسيطة في ذلك الوقت، بل وفي كل وقت وزمان، فتنحصر فيه الرسالة بجدارة لا يضاهيه فيها أحد أبد الآبدين.

الشكر عصارة التقوي:

إن عصارة التقوي تتجلي في الشكر، ولا صفة تقرب العبد إلي الله تعالي كالشكر،يأتي النبي صلي الله عليه وآله إلي بيت إحدي زوجاته، ينهض من فراشه ولا ينام، يتوضأ بماء قليل، يستقبل القبلة ويصلي، و كلما تستيقظ زوجته تراه مصلياً شاكراً ربه، فتقول: ألا تنام وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلي الله عليه وآله: أفلا أكون عبداً شكوراً.(1)

إن الشكر علي ضربين: شكر لساني وقلبي، وشكر عملي، فأما اللساني: أن يذكر العبد مولاه في كل لحظة، ويحمده علي عظيم نعمائه و سن بلائه، وأن لا يفتر عن ذلك، وأما الشكر العملي: فيتجلي في الأعمال الصالحة والقيام بمبرات وأعمال خيرية، والايثار والجهاد في سبيل الله، والقيام بأداء الحقوق

ص: 367


1- أمالي الطوسي: 637؛ الاحتجاج للطبرسي 1: 326

من مادية ومعنوية وأمثال ذلك، وإن رسالة الحقوق لمولانا الإمام زين العابدين عليه السلام توضح ذلك، فهنيئاً للعاملين (وَقَليلٌ مَا هُم).(1)

نفس النبي صلي الله عليه وآله فوق النفوس المتعارفة، وما تجمعت فيه من الأخلاق المثالية فوق الأخلاق العادية، ولا تودع السفارة الإلهية نفوساً لها من الثراء والمال والجاه والمكانة شيء مرموق؛ لأن هذه الأمور لا تمت بالنفس بصلة.

وإنما النبوة قضية نفسية بحتة، كما أن الإيمان لا يلج نفوساً لها من المكانةوالاعتبارات الدنيوية فحسب، بل تدخل نفوساً شاكرة لله، نفوساً لها من الصفاء والجلاء ما يجعلها لائقة لقبول الحق، فلا تتكبر عن الاذعان بما هو حق، ولا تحسد ولا تبخل، فإن أصول الكفر ثلاثة: البخل، والحسد، والكبر،(2) كما جاء في الحديث.

صفات رسول الله صلي الله عليه وآله:

كان محمد صلي الله عليه وآله مشهوراً بين قومه بأمانته وطهارة نفسه وعفته، وكان متحلياً بمكارم الأخلاق علي عكس غيره من شبان زمانه، والمعروف أن فترة الشباب من عمر الانسان هي الفترة التي يندفع فيها الشبان إلي الشهوات، ولكن حياة محمد صلي الله عليه وآله في هذه الفترة كانت حياة مثالية نموذجية، حتي لقبه قومه «بالأمين»، ولذلك لم يجد قومه عندما اشتد الخصام بينهم وبينه شيئاً يمس شرفه أو يطعن في عفته، مع أنهم كانوا حريصين علي النيل منه في هذه الناحية، فقد كانت دعوته قائمة علي إشاعة طهارة النفس والمحافظة علي العقة، ومقاومة التيارات النفسية الخبيثة، فإذا نفذوا إلي شيء مما يريدون استطاعوا أن يشككوا العرب في دعوته حتي ينفضوا عنه، وكان من المألوف آنذاك الانحراف الخلقي، ومع ذلك فلم يقف أعداؤه علي حادثة واحدة

ص: 368


1- ص: 24
2- بحار الأنوار 69:10/ ح 1

يجرحونه بها، وإذا أضفنا إلي ذلك ما يقوله علماء النفس من أن فترة الشباب فترة خطيرة تثور فيها الغرائز الجنسية، استطعنا أن نفهم قوة إرادة محمد صلي الله عليه وآله في ضبط نفسه في شبابه وتحكمه في ميوله الجنسية تحكماً جعله مثالاً للطهارة والعفة، وطهارة النفس وخلوها من الشهوات المحرمة والنزوات لمن أهم العوامل التي تجعل الفرد قميناً بلطف الله وعنايته، وجديراً بأن يكون هادياً للناس أجمعين.

يقول (السير وليم موبر): إن محمداً في شبابه طبع بالهدوء والدعة والطهر والابتعاد عن المعاصي التي كانت قريش تعرف بها.

فمن كان في شبابه مثالاً لطهارة التنفس والعفة إلي حد بعيد، يستحيل أن يجري وراء الشهوات واللذة بعد بلوغه سن الاكتمال والرزانة، وهو يخوض معارك طاحنة مستعرة، فقد اكتفي بخديجة عليها السلام وهي أكبر منه 15 سنة، إلي أن بلغ 54 من عمره، ثم تزوج بسودة، ثم بعائشة تلبية لرجاء أبي بكر حيث شاهد الرسول صلي الله عليه وآله و مغمومأً علي فراق خديجة عليها السلام، ثم تزوج بالعجائز والأرامل اللاتي فاتهن سن الشباب، وقد أصبحن بلا عائل لأنه قد استشهد أزواجهن في الغزوات، ولقد تنبه بعض كتاب المسيحية المنصفين فقالوا: «إنه لا يمكن أن يكون الدافع لمحمد علي الاكثار من زوجاته في هذا الوقت إلا الرحمة والشفقة، ومن البعيد جداً أن يكون قد قصد من هذا اللذة والمتعة؛ لأن من تزوج منهن كن متقدمات في السن وأرامل فقيرات».

لاسيما وإن الرسول قد أمر بالتهجد وإحياء بعض الليل بصلاة وتلاوة القرآن ومناجاة ربه، وما أعظمها: وذلك لقوله تعالي:(يا أيُّها المُزَّمِل *قُمِ اللَيلِ إلّا قَليلاً * نِصفَهُ أَو انقُص مِنهٌ قَليلاً * أَو زِد عَليهِ وَرَتِلِ القُرانَ تَرتيلا (1) ثم يقول: انَّ رَبَّكَ يَعلَمُ أنَّك تَقومُ أَدنَي مِن ثُلثيِ الَّليلِ ونِصفَةٌ وطائفَةٌ مِنَ الَّذينَ مَعَكَ وَاللهُ

ص: 369


1- المزمل: 1- 4

يُقَدّرُ الَّليلَ والنَّهارَ)،(1) وقد ثبت من حياته صلي الله عليه وآله أنه كان يقرأ القرآن وهو قائم في صلاته حتي تتورم قدماه، فأني الوقت الذي يبقي بعد ذلك حتي يبلغ فيه مراده من اللذائذ مع ما هنالك من غزوات وحروب؟

وكان في استطاعة الرسول صلي الله عليه وآله أن يمتلك الجواري والعبيد، ويعيش في قصور، وتكون له أبهة كسري وعظمة هرقل، لكن رضي ببساطة المسكن والملبس، وكان يشد علي بطنه حجر المجاعة، ولما رأت زوجاته أن نساء المسلمين قد تغيرت أحوالهن وأصبحن يتقلبن في النعيم شكون إليه، و كن يعتقدن أنهن صاحبات حق في التمتع بما يتمتع به غيرهن بسبب الرخاء الذي أصاب الدولة الإسلامية، فنزل قوله تعالي:(يا أيُّها النَّبيُّ قُل لأَزواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها فَتَعالَينَ أُمَتعكُنَوُأسَرّحكُنَّ سَراحاً جَميلاً * وَان كُنتُنَّ تُرِدنَ الله ورَسُوله والدَّار الآخِرةَ فإنَّ الله أعَدَ لِلمُحسِناتِ مِنكُنَّ أَجراً عَظيماً).(2)

وقد قلنا إن من أهم الصفات التي تجعل الفرد قريباً إلي الله تعالي وموضع لطفه ورفده إنما هو (الشكر)، ذلك لأن الكمال الإنساني إنما يتجلي بأدائه واجب الشكر تجاه المنعم، لذلك يقول الله تعالي وهو الحق.(وَكَذلكَ فَتَّنَا بَعضَهم بَعضٍ لِيَقولُوا أَ هَؤُلاءِ مَنَّ الله عَليهم مِن بَينِنا أَ لَيسَ الله بأَعلَمَ بالشَّاكرينَ).

إن المشركين أخذوا يزدرون الذين آمنوا ويعترضون علي إيمانهم، لأن هؤلاء المؤمنين ما كانوا يملكون من المال والجاه شيئاً، وذلك بقولهم إزدراء:(أَهؤلاءَ مَنَّ الله عَليهم مِن بَينَنا) (3) وقد فاتهم أن الإيمان أمرروحي يتوجه إلي النفس الإنسانية مباشرة، ولا علاقة له بالمال والجاه .

الإيمان يحل في النفوس الشاكرة، فكلما كانت النفس شاكرة أكثر كان إيمانها

ص: 370


1- المزمل: 20
2- الأحزاب: 28 و 29
3- لأنعام: 53

أقوي وأمتن، حتي ينتهي إلي الوصاية والنبوة، والنفس الشاكرة ليس لها إمارات خارجية وعلامات فارقة مادية، كالثياب الفاخرة وأعوان وأنصار ومنصب وجاه، وقد تجد هذه النفس الشاكرة في رقاع ولا تجدها في قارون.

نعم؛ إن هؤلاء المتكبرين كانوا يقولون: (لَو كانَ خَيراً مَا سَبَقونَا إلَيهِ) (1) أي لو كان ما أتي به محمد خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء المهينون ونحن أرفع منهم، كأن الخير يتبع المال والمنال والجاه والمنصب، حتي أن هذه الأمور عوائق تعوق النفس الانسانية عن أن تتوجه نحو الحق والواقع لو لم تستعمل في ما أمرالله به، ولم تؤد حقوقها وواجباتها، وقل من يقوي عليها إلا من رحم الله.

روي أن أبا جهل قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتي إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه، والله لا نرضي به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية: (وَإذَا جاءَتهُم آيَةٌ قالُوا لَن نُؤمِن حَتَّي نُوتي مِثلَ ما أوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَل رِسالَتُه سَيُصيبُ الَّذين أَجرَمُوا صَغارٌ عِندَ الله وَعَذابٌ شَديدٌ بِما كانُوا يَمكَرونَ)، (2) فإن هؤلاء المعترضين كانوا مع إجرامهم وآثامهم وفسوقهم - بريدون أن يكونوا أنبياء، حين أنهم يستحقون الصغار والهوان والعذاب والخزي بما كسبت أيديهم،(وَأنَّ اللهَ لَيسَ بِظلَامٍ لِلعَبيدِ )،(3) فالبشر كلهم في نظر الله علي حد سواء، من أطاع منهم بلغ مراتب عالية حتي تنتهي إلي النبوة أو ما يقارب النبوة، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالي يقول: عبدي أطعني أجعلك مثلي تقول للشيء كن فيكون، (4)

ص: 371


1- الأحقاف: 11
2- الأنعام: 124/ مناقب آل ابي طالب 1: 47 بحار الانوار 18: 235
3- آل عمران: 182؛ الانفال: 51؛ الحج 10
4- مشارق انوار اليقين للحافظ البرسي: 100، باختلاف التعبير

أرأفة أعظم من هذه؟ يعطي الله عبده إذا أطاعه صفة الخالقية والإيجاد بإذنه تعالي يقول للشيء كن فيكون، وهذه هي المعاجز التي ظهرت علي أيدي الأنبياء عليهم السلام والأوصياء بإذن الله تعالي وقدرته جل وعلا.

ثم يجب أن تكون نفس النبي نفساً متعلقة بالحق لا تفتر عن التوجه إلي الله ومناجاته وذكره _ جل وعلا طرفة عين أبدأً، لا تري شيئاً إلا وتري الله معه وقبله وبعده.

إن النبي صلي الله عليه وآله كان لا يقوم بعمل إلا ويذكر الله تعالي، يراقب الله في جميع الأمور ويخشاه، فإذا جاء أمر يحبه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه أمر يكرهه قال: الحمد لله علي كل حال، وإن قصد فعل شيء قال: اللهم خرلي واختر لي، وإن أراد سفراً قال: اللهم بك أصول وبك أجول، وإذا أراد نوماً قال: اللهم باسمك وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور، وإن لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله الذي رزقني ما أتجمل به في حياتي، وإن أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المسلمين، وإن شرب قال: الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت، وإذا رفع بصره إلي السماء قال: يا مصرف القلوب ثبت قلبي علي طاعتك، وإذا أصابه هم قال: حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين، حسبي الذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل. فهذه الصفات هي بعض ما يجب أن تتوفر في من يناط به تحميل الناس أجمعين.

ثم إن قدسية النفوس لتؤثر في سماء الأبدان فضفي عليها نوراً وبهاءاً من شاهدها ابتهج وسكن إليها و آمن بها، يعلم ذلك من خالط الأتقياء والصالحين من عباد الله، فكان وجه رسول الله يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، ولذلك كان يأتيه بعض الأعراب فيقولون حين وقوع أبصارهم علي محياه: والله ما هذا الوجه بوجه كذاب.

ص: 372

ولا مراء أن الصدق يصاحب الخير والبر، والكذب يساير الفجور والشر، وعلي ذلك كانت خديجة سلام الله عليها تعلم من النبي صلي الله عليه وآله أنه الصادق البار؛ تقول للنبي صلي الله عليه وآله حين جاءه الوحي: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسي المعدم، وتعين علي نوائب الحق. (1)

أخلاق النبي محمد صلي الله عليه وآله:

قال ابن سعد في الطبقات: كان محمد صلي الله عليه وآله قبل النبوة أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم عن الفحش والأذي، وما رؤي ملاحياً ولا ماريا أحداً، حتي سماه قومه الأمين.(2)

وكان رسول الله - وهو الذي بعث رحمة للعالمين - يجلس علي الأرض تواضعاً وينام عليها، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طهوره بالليل بيده، ولا يجلس متكئاً، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم، ولا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر علي بطنه من الجوع، ويلبس الغليظ من القطن والكتان، ويشيع الجنائز، ويعود المرضي في أقصي المدينة، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشر بالبر إليهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم علي غيرهم إلا بما أمر الله، يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسماً ما لم ينزل عليه قرآن، لا يرتفع علي عبيده وإمائه في مأكل ولا في ملبس، يأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، لا يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يغفر

ص: 373


1- مناقب آل أبي طالب 1: 42؛ بحار الأنوار 18: 195
2- الطبقات الكبري 1: 121

ويصفح، ويبدأ من لقيه بالسلام، وإذا لقي مسلماً بدأه بالمصافحة، وكان لا يجلس إليه أحد إلا خفف صلاته وأقبل عليه وقال: ألك حاجة؟، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه، حتي ربما بسط له ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا يقول إلا حقاً، وإذا لقيه الرجل فصافحه لم ينزع يده من يده، حتي يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا لقيه أحد فقام معه أو جالسه أحد لم ينصرف حتي يكون الرجل هو الذي ينصرف. (1)

وكان صلي الله عليه وآله أشجع الناس قلباً، وأشدهم بأساً، وأكثرهم حياءاً.

لا أعلم أن رجلاً يقوي علي أن يثابر علي صفة واحدة من هذه الصفات السامية طيلة حياته مهما عظمت نفسه وتكاملت روحه، إلا إذا كان نبياً أو وصي نبي، أو بالأحري من كان جزاؤه النبوة أو الوصاية. نعم إن صفات الكمال لا تصدر إلا عن نفس قدسية وروح ملكوتية قد تخلصت من قيود الأهواء، وتحررت من عبودية الشهرة وحب الصيت، واستمدت من النور الإلهي والهداية الصمدانية.

يجب أن تكون نفس النبي بالغة من القدسية درجة يتحمل معها الوحي، ويقوي علي الاتصال بالمبدأ الأعلي، و كان نبينا صلي الله عليه وآله - مع تلك القدسية البالغة - يرجف ويعرق حين نزول الوحي عليه ويقول: زملوني، فكان يغطي إلي أن يذهب عنه الروع، لذلك خاطبه الله تبارك وتعالي بقوله: (يَا أيُّها المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيلَ إلا قَليلاً ).(2)

ولما قدم جارود علي النبي صلي الله عليه وآله قال: إن كنت نبيأً فأخبرني عما أضمرت. فخفق النبي خفقة كأنها سنة ثم رفع رأسه والعرق يتحدر عنه، فقال: إنك أضمرت أن تسألني عن دماء الجاهلية وعن حلف الإسلام وعن المنيحة،

ص: 374


1- انظر الطبقات الكبري 1: 387
2- المزمل: 1- 2

ألا وإن دم الجاهلية موضوع، وحلفها مردود، ولا حلف في الاسلام. ألا وإن أفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر الدابة ولبن الشاة.(1)

قصور البعض عن إدراك عظمة النبي صلي الله عليه وآله :

وقد تأثر بعض علماء المسلمين بروح الغرب المادية، قفسروا القرآن متأثرين بالمادية العصرية، وأنكروا نزول الوحي بواسطة جبرائيل عليه السلام، وأنكروا وجود الجن، وقالوا: إن روح محمد قد بلغت مرتبة من السمو حتي صارت تتجلي لها الحقائق، وخالفوا صريح القرآن والسنة المتواترة والعقل، وقاسوا الأمور الروحية وما هو وراء الطبيعة بمقاييس مادة طبيعية، ولم يحتملوا أنه سيأتي يوم يعترف فيه فلاسفة عظام بما وراء المادة، ذلك لأن الروح الإنسانية مهما تعرفت علي حقائق المادة، ليس لها _ إذا أرادت التكامل في عوامل النفس - إلا أن تستفيض من ما وراء الطبيعة، ولا بد لها أن تستقي من المبدأ الأعلي الفياض بواسطة سفراء بين الله وعباده، وهم الأنبياء عليهم السلام:

(وَما كانَ لبَشرَ أَن يُكَلمَهُ الله إلَّا وَحياً أَو مِن وَراءِ حِجابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولاً فَيُوحيَ بإِذنه مَا يَشاءُ إنَّه عَليٌ حَكيمٌ ).(2) إن النفس القدسية التي لا تجاريها النفوس المتعارفة أو ما هي فوق المتعارفة لا تميل إلي الدنيا وزخارفها، وتتوجه إلي الله تعالي بكلها، فنبينا محمد صلي الله عليه وآله أعرض عن زخرف الدنيا وغضارتها ولم يستمتع بحلاوتها، وقد ملك من أقصي الحجاز إلي عذار الفرات، ومن أقصي اليمن إلي شجر عمان وهو أزهد الناس في ما يقتني ويدخر، وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر. أتي يوماً إلي داره فرأي ستاراً قد علق علي الباب فقال: ارفعوه، إنه ليذكرني الدنيا. (3)

ويقول فيه السير (وليم موير): امتاز محمد صلي الله عليه وآله بوضوح كلامه ويسر دينه،

ص: 375


1- مناقب آل أبي طالب 1: 99؛ بحار الأنوار 18: 137
2- الشوري: 51
3- شرح أصول الكافي للمولي محمد صالح المازندراني 8: 365

وإنه أتم من الأعمال ما يدهش الألباب، فلم يشهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الانسانية في زمن قصير كما فعل محمد صلي الله عليه وآله .

نعم يجب أن يكون النبي محقراً للدنيا، متوجهاً إلي العالم الأعلي، نفسه في اللاهوت وبدنه في الناسوت، فالدنيا كما يقول علي صلوات الله عليه : دار مجاز والآخرة دار قرار، فطوبي لمن أخذ من ممره لمقره.(1)

انظر كيف يصف صلوات الله عليه نبينا محمداً صلي الله عليه وآله، إنه يقول:(قَد حَقَّرَ الدُّنيا وَصَغرَها وَأَهوَنَ بهَا وَهَوَّنَها وَعَلمَ أن الله زِوَاهَا عَنهُ الختيَاراً و بَسَطَها لِغَيرِهِ احتَقاراً فَأعرِضَ عَن الدُّنيا بِقَلبِه وأمَاتَ ذَكرها مِن نَفسه وأَحَبَّ أَن تَغيبَ زينَتُها عَن عَينِه لِكَيلا يَتَخِذ مِنهَا رياشاً أو يَرجُوَ فِيهَا مَقاماً بَلَغ عَن ربَّه مُعذِراً ونَصَحَ لاُمَّته مُنذِراً ودَعَا إلَي الجَنَّة مُبشَرا نَحنُ شَجَرةُ النُبّوةَ وَمَحَط الرّسالَة ومُختَلَف المَلائكة ومعَادِنُ العِلمِ يَنَابيعُ الحُكمِ نَاصَرُنا ومُحبُّنا يَنتَظِرُ الرَّحمةَ وَعَدُوُّنا و مُبغِضنَا يَنتَظر السَّطوَةَ). (2)

لقد دخل علي رسول الله صلي الله عليه وآله بعض الأعراب فارتاع من هيبته فقال: خفض عليكم، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة،(3) وكان صلي الله عليه وآله يمتزج بأصحابه وجلسائه، فلا يتميز عنهم إلا بإطراقه وحيائه و جليل سمته وروائه.

وكان صلي الله عليه وآله جالساً ذات يوم في بعض أسفاره تحت شجرة، فاخترط أعرابي سيفه عليه، فأرعدت يده وسقط منها السيف، ومع ذلك عفا عنه، فرجع الأعرابي إلي قومه إلي قومه قائلاً: جئتكم من عند خير الناس. (4)

ومن صفاته صلي الله عليه وآله الخارقة أنه صلي الله عليه وآله كلما رجع الي بيته ألقي يهودي

ص: 376


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 3؛ بحار الأنوار 70: 134؛ وفيها: ..فخذوا من ممركم لمقر كم
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 218؛ بحار الانوار 26: 265 و 266
3- تفسير الدر المنثور للسيوطي6 : 111، ذيل قوله تعالي ومَا أنتَ عَلَيهِم بِجَبارٍ
4- تفسير الدر المنثور 2: 265، ذيل قوله تعالي يَا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَليكُم

من أعلي بيته علي رأسه الشريف طبقأً من رماد، فافتقده رسول الله صلي الله عليه وآله بعد أيام إذ رأي أنه لا يقوم بعادته! فقيل: إنه مريض، فعاده في مرضه، فذاب هو وزوجته حياءً وخجلاً وأسلما

فمن أراد الكمال وأراد أن يتخلص من براثن المادة وظلماتها التي تجعل الانسان كالبهيمة أو أحط منها، فليتمسك ببعض هذه الصفات الجليلة ليري كيف يتسامي عن حضيض المادة و كيف يزداد معرفة بالله تعالي.

لا بد لهذا الانسان أن يسير سيره التكاملي، ولا تكامل إلا بجعل سيرة النبي محمد صلي الله عليه وآله مثالاً رفيعاً يقتدي به، فالإنسان إن لم يكن محمدياً في صفاته وأعماله فهو غير متكامل نفسياً لا محالة، ولا مراء أن الإنسان إنسان بنفسه لا بماله وبدنه وما حوله من أجهزة وآلات وما يسكنه من بيوت وقصور، إذ التكامل أمر نفسي، فطوبي لمن لم تغره المادة وتشويهات الماديين الذين إذا استعمروا (النفس) فقد استعبدوا الانسان استعباداً ما بعده استعباد.

ص: 377

ص: 378

ومن خطبة له عليه السلام :

يذكر فيها أصناف الناس

(أيُها النّاسُ إنَّا قَد أصبَحنا في دَهرٍ عَنُودٍ وَزَمَن كَنُودٍ يُعَدٌّ فيِه المُحسِنُ مُسيئاً ويَزدادُ الظَّالِمُ فِيه عُتُّواً لا تَنتَفِعُ بما عَلَمنَا ولَا نَسأَلُ عَمَّا جَهلَنا ولا نَتَخُوفُ قَارِعَةً حَتَّي تَحُلَّ بِنَا والنَّاسُ عَلي أَربَعَة أصنَافٍ مِنهُم مَن لا يَمنَعُة الفَسادَ في الأَرضِ إلا مَهانَةُ نَفسَه وَكَلالَةُ حَدَه ونَضَيضُ وَفِرِه وَمِنهُم المُصلِتُ لِسَيفه وَالمُعلِنُ بشَره وَالمُجلِبُ بخيلَه ورَجِله قَد أَشرَطَ نَفسَه و أَوبَقَ دينَه لِحُطامٍ يَنتَهِزُهُ أَو مِقنَبٍ يَقُودَه أَو مِنبَر يَفرَعُهُ وَلَبئَسَ المَتجَرُ آن تَرَي الدُّنيَا لِنَفسِكَ ثَمَناً ومِمَّا لكَ عِندَ الله عَوضاً ومِنهُم مَن يَطلُبُ الدُّنيَا بِعَمَل الاخِرَة ولا يَطلُبُ الآخِرَةَ بعَمَل الدُّنيا قَد طَامَنَ مِن شَخصِهِ وَقَارَبَ مِن خَطوِهِ وَشَمَّرَ مِن ثوبِه وَ زَخرَفَ مِن نَفسَه للامانَةَ وَأتَّخَذ سَّر الله ذَريعَةً إلَي المَعصِيَة ومِنهُم مَن أَبعَدَه عَن طَلَب المُلكَ ضُئُولَة نَفسِه وانقِطاعُ سَببَه فَقَصَرتَه الحَالُ عَلي حَالِه فَتَحلّي بِاسمِ القَنَاعَة وَتَزَّيَنَ بِلباسِ أَهلِ الزَّهادَة وَلَيسَ مِن ذَلك فِي مَراحَ ولا مَغديً وَبقَي رِجالٌ غَضَّ أبصَارَهُم ذكرُ المَرجِعِ وأَراقَ دُمُوعَهُم خَوفُ المَحشَرفَهُم بَينَ شَريدِ نادٍ وخَائِفٍ مَقموعٍ و ساكتٍ مَكعُومٍ وَداعٍ مُخلصٍ وَثكلانَ مُوجَعٍ قَد أخمَلتُهُم التَّقيَةُ وشَملَتُهُم الذَلَّةُ فَهم فِي بَحرٍ أُجاجٍ أفوَاهُهُم

ضَامِزَةٌ وقُلُوبُهُم قَرِحَةٌ قَد وَعَظُوا حَتَّي مَلُوا وقَهِروا حَتَّي ذَلوا وقُتِلوا حَتَّي قَلوا فَلتَكُن الدُّنيَا في أَعيُنكُم أصغَرَ مِن حُثالَة القَرَظِ قُراضِة الجَلَم واتَّعظُوا بِمَن كانَ قَبلَكُم قَبلَ أَن يَتَّعِظَ بِكُم مَن بَعدَكُم وَارفُضُوهَا ذَميمَةً فَإنَّها قَد رَفَضَت مَن كَانَ أَشغَفَ بِهَا مِنكُم).

(شرح ابن أبي الحديد مج 1 ص 172 ط 1).

ص: 379

ضبط الألفاظ اللغوية:

عنود: أي جائر، اكنود: شديد، العتو: التكبر والتجاوز عن الحد القارعة: الداهية، مهانة النفس: ذلها، وكل السيف: إذا لم يقطع، ونضيض وفره أي قلة ماله، والمصلت من أصلت سيفه: إذا جرده من غمده، «والمجلب من أجلب عليهم أي أعال عليهم، «والرجل»جمع رجال. وأشرط نفسه، أعدها للفساد في الأرض واحطام الدنيا متاعها. و«الانتهازه الاغتنام. و«المقنب» ما بين الثلاثين والأربعين من الخيل.وايفرعه، يعلوه. والطامن ظهرها حناه و خفضه. واشمره ثوبه قصره ورفعه. وازخرف» نفسه زينها. واضئولة»النفس حقارتها. و«المراح»مأوي الماشية بالليل. والشريده النافر. والناد»المنفرد. والمقموعه المغلوب. والمكتوم»من شد فاه. و «الضامرة»الساكنة. والقرظه ورق السلم يدبغ به، والجلم المقص يجز به أو بار الابل، وقراضته ما يقع من قرضه وقطعه.

الشرح:

اعلم أن الزمان لما كان من الأسباب المعدة لحصول ما يحصل في عالم الكون والفساد من الشرور والخيرات، صح بذلك توصيف بعض الأزمنة بالخير، فيقال: زمان خير وزمان عدل، لكثرة ما يكون فيه بشهادة الاستقرار من الخير وانتظام حال الخلق و مواظبتهم علي القوانين الشرعية والسنن النبوية، وتوصيف بعضها بالشر، فيقال: زمان جائر وزمان صعب شديد، لكثرة ما يقع فيه من الشرور والمفاسد، وعدم انتظام أمر الخلق فيه من حيث المعاش أو المعاد.

عصر علي عليه السلام :

إذا عرفت ذلك، فاعلم أن قوله صلوات الله عليه: «أيها الناس إنا قد أصبحنا في

ص: 380

دهر عنود وزمن كنوده ذم لزمانه صلوات الله عليه بالجور والعدوان والشدة والكفران من حيث غلبة الضلال ودولة الجهال، واضمحلال الحق واستيلاء الباطل، ورجوع أغلب الناس بعد رسول الله صلي الله عليه وآله علي أعقابهم القهقري، وارتدادهم عن الإمام الحق، واقتدائهم بالإمام الباطل، وعدم تمكنه صلوات الله عليه من إقامة المعروف وإزاحة المنكر، ومن ذلك نشأت الشرور والمفاسد التي عددها، وهي أمور:

الأول: انقلاب الموازين الخلقية

أنه يعد فيه المحسن مسيئاً، وذلك لغلبة الإساءة من حيث كثرة المسيئين وقلة الاحسان لقلة المحسنين، فيعد المسيء إحسان المحسن إساءة، كما أنه يعد إساءة نفسه إحساناً، لكون السنة في نظره بدعة والبدعة سنة، أو أنه يحمل إحسان المحسن علي الإساءة كحمله عبادته علي الرياء والسمعة، وإنفاقه علي الخوف أو الرغبة في المجازاة، ونحو ذلك من الأمور الناشئة من سوء الظن من أجل تنزيله حال الغير منزلة نفسه.

والثاني: ازدياد الظلم

أنه «يزداد الظالم فيه عتوه لقيام المقتضي لظلمه وعدم رادع له عن ذلك، فيزداد فيه شيئاً فشيئاً وحيناً فحيناً.

بيان ذلك: أن المقتضي لظلم الظالم هو نفسه الأمارة بالسوء، فلو كانت في زمان العدل تكون مقهورة تحت حكم الحاكم العادل، غير متمكنة من القيام والاقدام علي الظلم والجور، ولما لم يتمكن صلوات الله عليه في زمانه من قمع الباطل حق التمكن، لاجرم ازداد الظالم فيه علي ظلمه وبلغ الغاية في استكباره وعتوه باقتضاء دواعي نفسه.

والثالث: عدم الانتفاع بالعلم

أنه «لا ننتفع بما علمناه والاتيان بصيغة المتكلم من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» والمقصود به توبيخ العالمين لتقصيرهم عن القيام بوظائف العلم، إذ الانتفاع العلم إنما يكون إذا وافقه العمل، لأن بالعلم والعمل كالروح والجسد يتصاحبان ويتكاملان معاً، وكل مرتبة من العلم تقتضي عملاً معيناً بحسبه، وكل عمل يتهيأ به لضرب من العلم.

ص: 381

وإلي ذلك أشار في رواية الكافي عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العلم مقرون إلي العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه. (1)

فإن المراد بهتفه للعمل هو اقتضاء العمل واستدعاؤه له، ومن ارتحاله عدم الانتفاع به أو زواله بالمرة.

وفيه عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: جاء رجل إلي علي بن الحسين عليه السلام فسأله عن مسائل فأجاب، ثم عاد ليسأل عن مثلها، فقال علي بن الحسين عليه السلام مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفراً، ولم يزدد من الله إلا بعداً.(2)

والرابع: عدم التعلم

أنه «لا نسأل عما جهلنا وهو توبيخ للجاهلين المقصرين في طلب العلم وسؤال العلماء لعدم معرفتهم فضل العلم وعدم رغبتهم في العمل، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام لحمران بن أعين في شيء سأله: إنما هلك الناس لأنهم لا يسألون. (3)

وفي الكافي أيضاً عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسي، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله : أف الرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه.(4)

وعن الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد، رفعه عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تعالي أوحي إلي دانيال: إن أمقت عبيدي إلي الجاهل

ص: 382


1- الكافي 1: 44/ ح 2
2- الكافي 1: 45/ ح4
3- الكافي 1: 40/ ح 2
4- الكافي 1: 40 ح 5

المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وإن أحب عبيدي إلي التقي الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحلماء، القابل عن الحكماء.(1)

والخامس: الأمن من مكر الله

أنه «لا نتخوف قارعة»، وداهية «حتي تحل بنا» وهو توبيخ للغافلين والمشغولين بلذائذ الدنيا الحاضرة، الغير الملتفتين إلي البليات والدواهي النازلة .

أصناف الناس:

ثم إنه صلوات الله عليه بعد شكايته من زمانه قسم أهل الزمان إلي أقسام خمسة ووجه القسمة أن الناس إما مريدون للآخرة، وهم الذين أفردهم بالذكر في مقابل الأقسام الأربعة، وأشار إليهم بقوله: «وبقي رجال غض أبصارهم»(الخ). وإما مريدون للدنيا، وهؤلاء إما قادرون عليها بالسلطنة والاستيلاء، وإما عاجزون عنها، وهؤلاء إما غيرمحتالين للدنيا أو محتالون لها، والمحتالون إما مقصودهم من الاحتيال هو خصوص ملك الدنيا ومالها، أو الأعم من ذلك، فهذه أقسام خمسة، أربعة منهم أهل الدنيا وواحد أهل الآخرة.

وأشار إلي الأولين بقوله: «فالناس علي أربعة أصناف الأول منهم»العاجز عن الدنيا غير المحتال لها، وهم من لا يمنعه من العلو والفساد في الأرض إلا مهانة نفسه»وحقارتها وكلالة حده»أي حد سيفه ووقوعه عن القطع وعدم الحقيقة للمنظور اليه ونضيض وفره»أي قلة ماله. وهذه كلها إشارة الي عدم تمكن هذا الرجل من الوصول إلي مطلوبه، وعدم قدرته علي تحصيل مقصوده لانقطاع الأسباب دونه مضافة إلي ضعف نفسه.

والثاني «منهم»القادر علي الدنيا بالسلطنة والاستيلاء وهو المصلت بسيفه»

ص: 383


1- الكافي 1: 35/ ح5

الشاهر له «والمعلن بشره، والمجلب بخيله ورجله، وهو كناية عن جمعه أسباب الظلم والغلبة والاستعلاء قد أشرط نفسه وأهلها للفساد في الأرض، و«أوبن دينه لحطامٍ ينتهزه ويغتنمه، وتشبيه مال الدنيا بالحطام لكونه قليل النفع بالنسبة إلي الأعمال الصالحة الباقي نقعها في الآخرة، كما أن اليبس من النبات قليل المنفعة بالقياس إلي ما تبقي خضرته، «أو مقنب»أي خيل «يقوده أو منبر يفرعه»ويعلوه.

وهذه الأوصاف المذكورة لهذا القسم مطابق المصداق مع خلفاء بني أمية وبني العباس، وأشار إلي خسران هؤلاء في أفعالهم بقوله: «ولبئس المتجر أن تري الدنيا النفسك ثمناً، ومما لك عند الله عوضأً كما قال تعالي:(مَن كانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلَنا لَه فيها مَا نَشاءُ لِمَن نُريدُ ثُمَّ جَعلنَا لَه جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُوماً مَد حُوراً * وَمَن أَرادَ الأخرَةَ وَسَعي لَها سَعيَها و هُو مُؤمِنٌ فَأولئكَ كانَ سَعيُهُم مَشكوراً) .(1)

والثالث منهما: العاجز عن الوصول إلي الدنيا المحتال لها بالسمعة والرياء، ويرائي بالزي والهيئة، وهو امن يطلب الدنيا بعمل الآخرة»لكون همه فيها ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا»لعدم رغبته إليها أصلاً، والمراد بعمل الدنيا ما يفعله المكلف فيها، أو ما يصير بانضمام القرية والتوصل إلي الطاعة طاعة قد طامن من شخصه»إظهاراً للتواضع، «وقارب من خطوه»إظهاراً للوقار، «وشمر من ثوبه، إظهاراً للطهارة والتنزه من النجاسة وزخرف من نفسه، أي زينها للناس بزينة الصلحاء والأتقياء.

ومقصوده من ذلك كله أن يفتتن به الناس ويرغب إليه قلوبهم، ويعظم قدره عندهم، ويروه أهلاً للأمانة»، ويسكنوا إليه في أماناتهم، ويثقوا إليه في أمورهم، فويل لهذا الرجل تحبب إلي العباد بالتبغض إلي الله، وتزين لهم بالشين عند الله، وتحمد إليهم بالتذمم عند الله.

ص: 384


1- الاسراء: 18 و 19

الرياء:

ندد الإسلام بالرياء؛ لأن الرياء نقيصة في الدين، وعورة في الخلق، ووصمة للرجولة، وهو إذا تفشي بين الجماعة كان هزيمة للفضيلة، وسبة للقومية، ومحنة للإنسانية.

ولا أحسبك إذ تعرض للحديث عن هذه الخصلة واجداً من الناس إلا نكيراً لها واشمئزازاً من التخلق بها، حتي ممن غلبت علي نفوسهم، والتاثت بها أخلاقهم، يتنصلون منها سراعاً، ويفرون منها خفافاً، ممايدلك علي مباينتها للفطرة، ونبوها عن الشعور بالكرامة، والاحساس بالغيرة.

والرياء لا يكون في القول وحده، ولا في العبادة فحسب، وإنما يكون في القول والفعل، وفي العبادة وغيرها مما يجري بين الناس في شؤونهم.

وهو علي تنوعه غش يطلي بلون الاخلاص، ونقص في النزاهة يسمي كذباً باسم الكمال، ويساق باطلاً في لفائف الحب والمروءة، وليس ذلك كله إلا النفاق وإن تعددت الأشكال واختلفت المناحي، أو هو الكذب والخداع، وربك لا يحب الكذب من عباده، ولا يرضي لهم الخداع في قول ولا عمل، وإنما يدعوهم إلي النصح، والنصح هو الإخلاص في أجلي صوره، وينهاهم عن الرياء، والرياء هو الغش في أبشع أشكاله.

وقد تنوعت أساليب القرآن في التشنيع علي المرائي والحط من قيمته، ليربأ الناس بأنفسهم عن هذه المخزاة الشائنة، وتكون لهم العظة الزاجرة فيما يقضه علينا.

أرأيت إلي قوله تعالي: (وَمِنَ النَّاسِ مِن يَعبُدُ الله عَلي حَرفٍ فَإن أصابَهُ خَيرٌ اطمَأنَ به وَإِن أَصابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلي وَجهِه خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ ذَلك هُو الخُسرانُ المُبينُ).(1) فهذا أصدق تصوير للمرائي يتذبذب في عمله ويتابع

ص: 385


1- الحج: 11

أغراضه، لا يصدر عن عقيدة، ولا يورد عن يقين، فإن ظن مبتغاه في الطاعة فهو مطيع، وإن خاله في الغواية فهو غوي.

وانظر إلي قوله تعالي يعيب علي المنافقين تهاونهم في الصلاة، ثم يجمع أوصافهم الذميمة في وصف واحد هو الرياء،: (فَوَيلٌ لِلمُصَلينَ * الذَّينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ * الذَّينَ هُم يُراؤنَ * وَ يَمنَعونَ المَاعونَ). (1)

وإليك تمثيل القرآن للمرائي بحجر صلب عليه شيء من التراب قليل، فإذا أصابه المطر زال عنه التراب وبقي الحجر علي جموده، لا ينبت فيه زرع، ولا ينبع منه ماء، وهيهات أن يكون فيه نفع بعد ذلك إلا أن يتخذ موطئاً للأقدام أو دريئة من القذر. يقول سبحانه وتعالي في ذلك: (يَا أيُّها الذَّينَ آمَنوا لا تُبطُلوا صَدَقاتُكُم بالمَنِ وَالأُذي كَالَّذي يُنفِقُ مَالَهُ رئاءَ النَّاسٍ وَلا يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الأخِرِ فَمَثَلُه كَمَثَلِ صَنوانٍ عَليه تُرابٌ فَأَصَاَبهُ وابِلٌ فَتَركَهُ صَلداً لا يَقدَرونَ عَليَ شَيء مِمَّا كَتبُوا والله لا يَهدِي القَومَ الكافِرينَ(2) أي لا ينتفع المراؤن بعملهم وإن جاز صنيعهم علي الناس وراجت فيهم المدائح. علي أن القرآن في عشرات من مواضعه يندد بالنفاق وأهله، والنفاق والرياء من قبيل واحد، ويؤكد لك هذا قول النبي صلي الله عليه وآله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، واذا أومن خان.(3)

فالكذب نفاق، والرياء كذب وتمويه وتضليل مفضوح، وليس من المبالغة قوله عليه السلام في النهي عن الغش في القول أو العمل: «من غشنا فليس منا (4) فهذه براءة من الغاش، وإخراج له من عداد المسلمين.

ص: 386


1- الماعون: 4 -7
2- البقرة: 264
3- مكارم الاخلاق للطبرسي: 46
4- بحار الانوار 71: 244؛ كنز العمال 3: 545 ح 7824

وليس كذلك من المبالغة قوله:«الدين النصيحة (1) وما النصيحة التي عناها الرسول الأعظم إلا الإخلاص في العمل والرأي.

وما كان الرياء أو النفاق إن شئت بغيضاً إلي النفوس الكريمة إلي هذا الحد، إلا لأنه يبرز الناس في غير صورهم الحقيقية، ويشكك بعضهم في بعض، فتضيع الثقة التي هي رباط اجتماعي تتوفر به القوي علي إنهاض الشؤون، والحصول علي السعادة في الحياة، وإذا عصف الرياء بالثقة وذهب بالتضامن فتلك الفتنة في الدين، والمذلة في الحياة، والانحدار عن الرقي الذي ينشده الإسلام في تعاليمه إلي مساقط الفوضي التي أنقذنا الله منها بشرائعه ورسله.

والناقصون في الكرامة يتنافسون في هذا كله حين يبتغون الكمال من غير طريقه ويرغبون في العة اغتصاباً، فهم يصطنعون الرياء ويتشحون بالملق في أقوالهم، ليستدرجواالناس إلي مدحهم، ويبتزوا منهم الثناء عليهم، أو يحصلوا علي الثناء بسبب مشكور، وذلك شهوة النفوس الوضيعة، ومدي الهمة الفاترة، وظاهرة الخلق الهزيل، وبعض هذا ينأي بصاحبه عن جلال الإنسانية وشرف المروءة، وأولئك هم القذي في العين والشجي في الحلق، وهم المرض الفتاك بجسم الأمة، يقعدونها عن الرقي، ويصدونها عن السير.

وليت لنا من يقضي علي هذه النزعة بين الآخذين بها، ويكشف عن قبحها لمن يفرحون بها ويشجعون عليها، فتهدأ نفوس آلمها ما تري من وهن الأخلاق، وتستريح قلوب يخزها نشوء الرياء واصطناع المتملقين وامتهان الأعزاء الكرام النفوس.

وقد ورد في ذم أهل الرياء والنفاق ولبس الصوف والثياب المرفوعة لغير وجه الله أخبار كثيرة نستعرضها في هذا الفصل، ونذكر بعض ما ورد في الرياء من الآيات والروايات، ونشير إلي أقسامه، وإلي الدواء النافع له، فالكلام في مقامات أربعة.

ص: 387


1- السنن الكبري للنسائي 4: 433/ ح 7823

المقام الأول: في تحقيق معني الرياء والسمعة

فنقول: إن الرياء هو ترك الاخلاص بملاحظة غير الله فيه، وأصله من الرؤية، كأنه لا يعمل إلا إذا رأي الناس ورأوه، والشمعة - بالضم - كالرياء، إلا أنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر.

وعن الفارابي في ديوان الأدب: يقال «فعل ذلك رياء وسمعة»إذا فعل ذلك ليراه الناس ويسمعوا به، وقال الغزالي في إحياء العلوم الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس باراء تهم خصال الخير، إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوي الله، واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادات وإظهارها، فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد، والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمرائي په هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء قصد إظهار ذلك.(1)

أقول: والأولي ما ذكرناه، لكونه شاملاً للعبادات وغيرها فعلاً وتركاً حسبما تعرفه في الأقسام الآتية، وما ذكره مختص بفعل العبادات فقط، فلا يعم.

الثاني: في ذكر بعض ما ورد فيه من الآيات والأخبار

قال الله سبحانه: (فَوَيلٌ لِلمُصلينَ * الَّذينَ هُم عَن صَلاتِهِم سَاهُونَ * الَّذينَ هُم يُراؤنَ * ويَمنَعونَ المَاعونَ). (2)

وقوله سبحانه: (يُراؤنَ النَّاس ولا يَذكَرونَ اللهَ إلّا قَليلاً)(3) ومنه قوله تعالي:

ص: 388


1- إحياء العلوم للغزالي، نقلاً عن تحفة الأحوذي للمباركفوري 45:7
2- الماعون: 4-7
3- النساء: 142

(فَمَن كان يَرجُوا لِقاءَ رَبَّه فَليَعمَل عَملاً صالحاً ولا يُشرك بِعبَادَةِ ربّه أَحَداً) (1) ومنها قوله تعالي: (إنَّما نُطعِمَكُم لِوَجهِ الله لا نُريدُ مِنكُم جَزاءً وَلا شَكورا)ً. (2)

ومن الأخبار النبوية قوله صلي الله عليه وآله، وقد سأله رجل: يا رسول الله فيم النجاة؟ فقال: أن لا تعمل بطاعة الله وتريد بها الناس. (3)

وفي الحديث: إن الله تعالي يقول للملائكة: إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي، فاجعلوه في سجين. (4)

وقال صلي الله عليه وآله: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء؛ يقول الله تعالي إذا جازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلي الذين كنتم تراؤنهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم.(5)

وفي حديث شداد بن أوس: رأيت النبي صلي الله عليه وآله يبكي، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال:إني تخوفت علي أمتي الشرك، أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنهم يراون بأعمالهم. (6)

وقال صلي الله عليه وآله: إن النار وأهلها بعجون من أهل الرياء، فقيل: يا رسول الله كيف تعج النار؟ قال: من حر النار التي يعذبون بها. (7)

وقال أيضاً: نادي المرائي يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، ظل سعيك، وبطل عمتك، ولا خلاق لك، التمس الأجر ممن كنت تعمل له يا مخادع. (8)

ص: 389


1- الكهف: 110
2- الأنسان: 9
3- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 2: 179
4- شرح نهج البلاغة 2: 179
5- شرح نهج البلاغة 2: 179
6- نفس المصدر
7- بحار الانوار 69: 305
8- تفسير الدر المنشور 1: 30

وقال أيضاً: إن أول ما يدعي يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قاتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله عزوجل للقاري: ألم أعلمك ما أنزلت علي رسولي؟ فيقول: بلي يا رب، فيقول: ما عملت فيما به علمت؟ فيقول: يا رب قمت به في آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله تعالي: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالي: إنما أردت أن يقال فلان قاري» فقد قيل ذلك.

ويؤتي بصاحب المال فيقول الله تعالي: ألم أوسع عليك حتي لم أدعك تحتاج إلي أحد؟ فيقول: بلي يا رب، فيقول: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله تعالي: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالي: بل أردت أن يقال «فلان جواد، وقد قيل ذلك.

ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله تعالي: ما فعلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيل الله فقاتلت حتي قتلت، فيقول الله تعالي: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالي: بل أردت أن يقال «فلان جريء شجاع، فقد قيل ذلك، ثم قال رسول الله صلي الله عليه وآله: أولئك الثلاثة شر خلق الله يستر بهم نار جهنم.(1)

وقال أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه: للمرائي أربع علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص منه إذا لم يثن عليه.(2)

وقال صلوات الله عليه لكميل بن زياد: تبذل لا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر بعلم، واسكت واصمت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار.(3)

وفي الوسائل عن الكليني بإسناده عن فضل أبي العباس، عن أبي عبد

ص: 390


1- تفسير الدر المنشور 3: 323
2- شرح نهج البلاعة لابن أبي الحديد 2: 180
3- شرح نهج البلاغة 2: 181

الله عليه السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويسر سيئاً؟ أليس يرجع إلي نفسه فيعلم أن ذلك ليس كذلك، والله عزوجل يقول:(بَلِ الإنسانُ عَلي نَفسِهِ بَصيرَةٌ(1) إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية.(2)

وعن السكوني، عنه عليه السلام أيضاً قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: سيأتي علي الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا، لا بريدون به ما عند ربهم، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.(3)

وعن البرقي في كتاب المحاسن، عن يحيي بن بشير البال عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أراد عزوجل بالقليل من عمله أظهره الله أكثر مما أراده به، ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله، أبي الله إلا يقلله في عين من سمعه .(4)

وروي الصدوق في كتاب عقاب الأعمال بإسناده عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه صلوات الله عليهم قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله : يؤمر برجال إلي النار، فيقول الله عزوجل لمالك: قل للنار لا تحرق لهم أقداماً فقد كانوا يمشون بها إلي المساجد، ولا تحرق لهم وجوهاً فقد كانوا يسبغون الوضوء، ولا تحرق لهم أيدٍ فقد كانوا يرفعونها بالدعاء، ولا تحرق لهم ألسنة فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن، قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا: كنا نعمل لغيرالله عزوجل ، فقيل لنا: خذوا ثوابكم من عملتم.(5)

ص: 391


1- القيامة): 14
2- وسائل الشيعة 1: 64) ح138؛ بحار الانوار 69: 289
3- وسائل الشيعة 1: 65/ ح141
4- وسائل الشيعة 1: 66 ح 164
5- ثواب الأعمال و عقاب الأعمال: 224

وفي الوسائل عن الكليني باسناده عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل:(فَمَن كَانَ يَرجُوا لِقاءَ رَبِّه فليَعمَل عَمَلاً صَالحاً ولَا يُشرك بِعِبادَةِ رَبِّه أَحَداً) (1) قال: الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله، إنما يطلب تزكية النفس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه، ثم قال: ما من عبد أسر خيراً فذهبت الأيام أبداً حتي يظهر الله له خيراً، وما من عبد يسر شراً فذهبت الأيام حتي يظهر الله له شراً.(2)

وعن السكوني، عنه عليه السلام أيضاً قال: قال النبي صلي الله عليه وآله: إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فاذا صعد بحسناته يقول الله عزوجل : اجعلوها في سجين، إنه ليس إياي أراد به.(3)

وعن علي بن عقبة، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اجعلوا أمركم هذا لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان الله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلي الله. (4)

حديث معاذ عن النبي صلي الله عليه وآله:

وفي عدة الداعي لأحمد بن فهد الحلي عن الشيخ أبي جعفر محمد بن أحمد بن علي القمي نزيل الري في كتابه (المنبي عن زهد النبي)، عن عبد الواحد، عمن حدثه، عن معاذ بن جبل قال: قلت: حدثني بحديث سمعته من رسول الله وحفظته من دقايق ماحدثك به، قال: نعم، وبكي معاذ.

ثم قال: بأبي وأمي حدثني وأنا رديفه فقال: بينا نحن نسير إذ رفع بصره

ص: 392


1- الكهف: 110
2- وسائل الشيعة 1: 71/ ح 159
3- وسائل الشيعة 1: 71/ ح156
4- الكافي 1: 166/ ح 3، وسائل الشيعة 1: 71/ ح 158

إلي السماء فقال صلي الله عليه وآله: الحمد لله الذي يقضي في خلقه ما أحب، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك يا رسول الله وسيد المؤمنين، قال: يا معاذ! قلت: لبيك يا رسول الله إمام الخير ونبي الرحمة، قال صلي الله عليه وآله أحدثك شيئاً ما حدث نبي أمته، إن حفظته نفعك عيشك، وإن سمعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله.

ثم قال صلي الله عليه وآله : إن الله خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السماوات، فجعل في كل سماء ملكاً قد جلها بعظمته، وجعل علي كل باب من أبواب السماء بواباً، فيكتب الحفظة عمل العبد من حين يصبح الي حين يمسي، ثم ترفع الحفظة بعمله وله نور كنور الشمس، حتي إذا بلغ سماء الدنيا فتزكيه و تكثره، فيقول الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الغيبة، فمن اغتاب لا أدع عمله يتجاوزني إلي غيري، أمرني بذلك ربي.

قال صلي الله عليه وآله: ثم يجيء الحفظة من الغد ومعهم عمل صالح فتم به وتزكيه وتكثره حتي تبلغ السماء الثانية، فيقول الملك الذي في السماء الثانية: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنما أراد بهذا العمل عرض الدنيا، أنا صاحب الدنيا لا أدع عمله يتجاوزني إلي غيري وهو يحب الدنيا.

قال: ثم تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجأً بصدقة وصلة، فتعجب به الحفظة وتجاوز به الي السماء الثالثة، فيقول الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وظهره، أنا ملك صاحب الكبر، فيقول: انه عمل وتكبر علي الناس، أمرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلي غيري.

قال: وتصعد المحفظة بعمل العبد يزهو كالكوكب الدري في السماء، له دوي بالتسبيح والصوم والحج، فتمر به الي السماء الرابعة، فيقول لهم الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وبطنه، أنا ملك العجب؛ إنه كان يعجب بنفسه، وإنه عمل وأدخل نفسه العجب، أمرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلي غيري.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة إلي أهلها، فتمر به

ص: 393

إلي ملك السماء الخامسة بالجهاد والصدقة ما بين الصلاتين، و كذلك العمل له رنين كرنين الإبل، عليه ضوء كضوء الشمس، فيقول الملك: قفوا أنا ملك الحسد، اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه علي عاتقه، إنه كان يحسد من يتعلم أو يعمل لله بطاعته، وإذا رأي لأحد فضلاً في العمل والعبادة حسده ووقع فيه، فيحملوهعلي عاتقه ويلعنه عمله.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة فيتجاوز به إلي السماء السادسة، فيقول الملك: قفوا، أنا صاحب الرحمة اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واطمسوا عينيه، لأن صاحبه لم يرحم شيئاً، إذا أصاب عبداً من عباد الله ذنباً للآخرة أو ضراء في الدنيا شمت به، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلي غيري.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يفقه واجتهاد وورع وله صوت كالرعد وضوء كضوء البرق ومعه ثلاثة آلاف ملك فتمر بهم إلي ملك السماء السابعة، فيقول الملك: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الحجاب، أحجب كل عمل ليس لله، إنه أراد رفعة عند القواد وذكراً في المجالس، وصيتاً في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني إلي غيري ما لم يكن الله خالصاً.

قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر كثير تشيعه ملائكة السماوات والملائكة السبعة بجماعتهم، فيطئون الحجب كلها حتي يقوموا بين يديه سبحانه فيشهدوا له بعمل ودعاء، فيقول سبحانه: أنتم حفظة عمل عبدي، وأنا رقيب علي ما في نفسه، إنه لم پردني بهذا العمل، عليه لعنتي، فتقول الملائكة: عليه لعنتك ولعنتنا.

قال: ثم بكي معاذ، قال: قلت: يا رسول الله ما أعمل وأخلص؟ قال: اقتد نبيك يا معاذ في اليقين، قال: قلت: أنت رسول الله وأنا معاذ، قال: فإن كان في عملك تقصير يا معاذ، فاقطع لسانك عن إخوانك وعن حملة القرآن، ولتكن ذنوبك عليك لا تحملها علي إخوانك، ولا ترك نفسك بتذميم إخوانك، ولا

ص: 394

ترفع نفسك بوضع إخوانك، ولا تراء بعملك، ولا تداخل من الدنيا في الآخرة، ولا تفحش في مجلسك لكي يحذروك لسوء خلقك، ولا تناج مع رجل وأنت مع آخر، ولا تعظم علي الناس فتنقطع عنك خيرات الدنيا، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب أهل النار، قال الله تعالي:(وَالنَّاشِطاتِ نَشطاً) (1) أفتدري ما الناشطات؟ إنه كلاب أهل النار تنشط اللحم والعظم. قلت: ومن يطيق هذه الخصال؟ قال: يا معاذ أما إنه يسير علي من يسر الله تعالي عليه، قال: وما رأيت معاذاً يكثر تلاوة القرآن كما يكثر تلاوة هذا الحديث. (2)

الثالث: في أقسام الرياء والوجوه المتصورة فيه

وهي كثيرة إلا أنها منشعبة عن قسمين: أحدهما الرياء المحض، والثاني الرياء المشوب.

أما الرياء المحض: فهو أن لا يكون مراده بالعبادة إلا الدنيا ورؤية الناس، كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو كان منفرداً لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا يجب أن يترك، لأنه معصية لا طاعة فيه أصلاً.

وأما الرياء المشوب فهو يتصور علي وجوه:

أحدها: أن يعقد علي الاخلاص قلبه ثم يطرء الرياء ودواعيه، مثل أن يفتتح الصلاة بالاقبال، فيدخل عليه داخل أو ينظر إليه ناظر، فيقول الشيطان: رد صلاتك حسناً حتي ينظر إليك هذا الناظر بعين الوقار، فتخشع جوارحه ويحسن صلاته.

وذلك مثل ما روي أن رجلاً لا يقدر علي الإخلاص في العمل، فاحتال وقال: إن في ناحية البلد مسجداً مهجوراً لا يدخله أحد فأمضي إليه ليلاً وأعبد الله فيه،

ص: 395


1- النازعات: 2
2- عدة الداعي: 227 - 230

فمضي إليه في ليلة ظلماء وكانت ذات رعد و برق ومطر فشرع في العبادة، فبينما هو في الصلاة إذ دخل عليه داخل فأحس به فدخله السرور برؤية ذلك الداخل له وهو مشتغل بالعبادة في الليلة المظلمة، فأخذ في الجد والاجتهاد في عبادته إلي أن جاء النهار، فنظر إلي ذلك الداخل فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد مما أصابه من المطر، فندم الرجل علي ما فعل وقال: يا نفس إني فررت من أن أشرك بعبادة ربي أحداً فوقعت أن أشرك في عبادته كلياً و أسفاً وأويلاً علي هذا.

الثاني: أن يأتيه الشيطان من معرض الخير ويقول له: اعمل هذا العمل ليقتدي بك الناس، فيحصل لك أجر من عمل به، وهذه المكيدة أعظم من الأولي، وينخدع بها من لاينخدع بتلك، وهو عين الرياء، لأنه إذا رأي هذه الحالة خيراً لا يرتضي غيره تركها، فلم يتركها وهو في الخلوة، وليس أحد أعز علي الإنسان من نفسه.

الثالث: أن يتنبه العاقل لهاتين ويستحي من المخالفة بين صلاته في الخلاء والملاء، فيحسن صلاته في الخلوة ليطابق الجلوة، وهذا أيضاً من الرياء، لأنه حسن صلاته في الخلوة ليحسن في الملاء، فكان نظره في عمله إلي الناس.

الرابع: أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن إيقاعه في الرياء بأن يقول له: اخشع لأجلهم، ولكن يقول له: تفكر في عظمة الله وجبروته ومن أنت واقف بين يديه، واستح أن ينظر الله إلي قلبك وأنت غافل عنه، فيحضر بذلك وتجتمع جوارحه ويظن أن ذلك عين الاخلاص وهو عين الرياء، فإن خشوعه لو كان لنظره إلي عظمة الله لم لم تكن حالته في الخلوة هكذا.

الخامس: أن يكمل العبادة علي الإخلاص، لكن عرض له بعد الفراغ حب إظهارها لتحصيل بعض الأغراض، وذلك بأن يخدعه الشيطان ويقول له: إنك قد أكملت العبادةالخالصة وقد كنت في ديوان المخلصين، ولا يقدح فيها ما يتجدد، وإنما ينضم إلي ما حصله بها من الخير الآجل خير عاجل فيحدث به ويظهره، وهو أيضاً مبطل للعمل ومفسد له وإن سبق.

ص: 396

قال الصادق عليه السلام: من عمل حسنة سراً كتبت له سراً، فإذا أقر بها محبت و كتبت جهراً، فإذا أقر بها ثانياً محبت و كتبت رياء، وفضل عمل السر علي عمل الجهر سبعون ضعفاً، نعم لو تعلق بإذاعته غرض صحيح - كمالو أراد ترغيب الغير فيه إذا لم يمكن الترغيب بدونه لم يكن به بأس.

السادس: أن يترك العمل خوفاً من الرياء، وهذا أيضاً من خدايع إبليس العين، لأن غرضه الأقصي ترك العمل، فإذا لم تجب إليه واشتغلت به فيدعوك إلي الرياء وغيره، فإذا تركته فقد حصلت غرضه.

قال ابن فهد في عدة الداعي: ومثال ذلك من سلم إليه مولاه حنطة فيها قليل من المباين إما شعير أو مدر، وقال: خلصها من التراب مثلاً ونقها منه تنقية جيدة بالغة، فيترك أصل العمل ويقول: أخاف إن اشتغلت به ألا يخلص خلاصاً صافياً، ويترك العمل من أصله.

السابع: أن يترك العمل لا لذلك بل خوفاً علي الناس أن يقولوا إنه مرائي فيعصون الله تعالي به، وهذا أيضاً كسابقه رياء خفي؛ لأن ترك العمل خوفاً من أن يقال له إنه مرائي عين الرياء، ولولا حبه لمحمدتهم وخوفه من مذمتهم فما له ولقولهم إنهمراء أو قولهم: إنه مخلص؟ وأي فرق بين ترك العمل خوفاً من قولهم: إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفاً من قولهم: إنه مقصر غافل؟ مع ما في ذلك من سوء الظن بالمسلمين، ومن إطاعة الشيطان في ترك العمل.

الثامن: أن يكون ترك العمل إشفاقأً علي المسلمين، بأن يقول له إبليس اللعين اترك العمل إشفاقاً علي المؤمنين من وقوعهم في الاثم بظن السوء، وتركك العمل إشفاقاً عليهم يقوم مقام العمل ويحصل لك بذلك الثواب؛ لأن نظر المصلحة للمسلمين حسنة، فيعادل الثواب الحاصل من العمل، بل هو أفضل لأنه متعة إلي الغير، وهذا الخيال من غوائل النفس الأمارة المايلة إلي الكسالة والبطالة، ومكيدة عظيمة من الشيطان لما لم يجد إليك مسلكاً قصدك من هذا الطريق وزين لك هذا التنميق.

ص: 397

قال ابن فهد: ووجه فساده يظهر من وجوه:

أولاً: أنه عجل لك الوقوع في الأثم المتيقن، فإنك ظننت أن يظنوا بك أنك مراء، وهذا ظن سوء، وعلي تقدير وقوعه منهم يلحقهم به إثم، وظنك هذا بهم أيضاً ظن سوء يلحقك به الاثم إذا لم يكن مطابقاً لما ظننت بهم وتركت العمل من أجله، فعدلت من ظن موهوم إلي إثم معلوم، وحذراً من لزوم إثم لغيرك فأوقيت فيه نفسك.

ثانياً: أنك إذن وافقت إرادة إبليس بترك العمل الذي هو مراده، و ترك العمل والبطالة موجب لاجتراء الشيطان عليك وتمكنه منك، لأن ذكره تعالي والتولي(1) في خدمته يقربك منه، وبقدر ما تقرب منه تبعد من الشيطان، وإن فيه موافقة للنفس الأمارة بميلها إلي الكسالة والبطالة، وهما ينبوع آفات كثيرة إن كان لك بصيرة.

ثالثاً: مما يدلك أن هذا من غوائل النفس وميلها إلي البطالة، أنك لما نظرت إلي فوات الثواب الحاصل لك من البطالة وإلي فوات وقوعهم في الاثم، آثرتهم علي نفسك بتخفيف ما يلزمهم من الاثم بسوء الظن وحرمت نفسك الثواب، وتفكر في نفسك وتمثل في قلبك بعين الانصاف لو حصل بينك وبينهم في شيء من حظوظ العاجلة منازعة، إما في دار أو مال، أو ظهر لك نوع معيشة تظن فيها فايدة وحصول، أكنت تؤثرهم علي نفسك وتتر كه لهم؟ كلا والله، بل كنت تناقشهم مناقشة المشاقق، وتستأثر عليهم فيما يظهر لك من أنواع المعيشة إن أمكنتك فرصة الاستيثار، وتقلي الحبيب وتقصي القريب.(2)

التاسع: أن يقول لك الشيطان: إذا كنت لا تترك العمل لذلك فأخف العمل فإن الله سيظهره عليك، فإما إذا أظهرته فيمكن أن تقع في الرياء، وهذا التلبس عين الرياء لأن إخفاءك له كي يظهر بين الناس هو بعينه العمل لأجل الناس، وما عليك إذا كان مرضياً عند الله تعالي أن يظهر للناس أو يخفي.

ص: 398


1- أي المثول
2- عدة الداعي: 205 - 208

الرابع: في علاج الرياء

وهو علي ما ذكره الغزالي في إحياء العلوم: أن الإنسان يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ أما في الحال وأما في المال، فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المال سهل عليه قمع الرغبة عنه، كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سما أعرض عنه، فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة.

ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه، وما يحرم عنه في الحال من التوفيق، وفي الآخرة من المنزلة عند الله، وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر، حيث ينادي علي رؤوس الخلائق: يا فاجر يا غادر يا مرائي، أما استحييت إذ اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا، وراقبت قلوب العباد، واستهزأت بطاعة الله، وتحت إلي العباد بالتبغض إلي الله، وتزينت لهم بالشين عند الله، وتقربت لهم بالبعد من الله، وتحمدت اليهم بالتذمم عند الله، وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله، أما كان أحد أهون عليك من الله؟

فمهما تفكر العبد في هذا الخزي، وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة، وبما يحبط عليه من ثواب الأعمال، مع أن العمل الواحد به ربما كان يترجح ميزان حسناته لو خلص، فإذا فسد بالرياء محول إلي كفة السيئات فترجح به ويهوي إلي النار، فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره، وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة، فقد كان ينال بهذه الحسنة علي الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين، وقد ځط عنهم بسبب الرياء ورد إلي صف النعال من مراتب الأولياء، هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإنه رضا الناس غاية لا تدرك، فكل ما يرضي به

ص: 399

فريق يسخط به فريق، ورضا بعضهم في سخط بعضهم، ومن طلب رضاهم في سخط الله، سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه.

ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم، ولا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً، ولا ينفعه يوم فقره و فاقته وهو يوم القيامة.

وأما الطمع فيما في أيديهم، فبأن يعلم أن الله هو المسخر للقلوب بالمنع والاعطاء، ولا رزاق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلي المراد لم يخل عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهمٍ فاسد قد يصيب وقد يخطي، وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم متته ومذلته.

وأما ذمهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئاً، فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل علي الله قلبه، فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه، ويكفيه أن الناس لو علموا ما في بطنه من قصد الرياء وإظهار الاخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتي يبغضه إلي الناس ويعرفهم أنه ممراء وممقوت عند الله، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه.

كما روي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: لأعبده الله تعالي عبادة أذكر بها، فمكث مدة مبالغاً في الطاعات، وجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا: منصنع مراء، فأقبل علي نفسه وقال: أتعبت نفسك وضيعت عمرك في لا شيء، فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فغير نيته وأخلص عمله الله تعالي، فجعل لا يمر بملا من الناس إلا قالوا: ورع تقي.

مع أن مدح الناس لا ينفعه وهو عند الله مذموم ومن أهل النار، وذم الناس لا يضره وهو عند الله محمود و من أهل الجنة، فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيها من الكدورات والمنغصات، وكيف يرضي العاقل أن يجعل

ص: 400

ثمن عمله مدح الناس له وما في أيديهم من حطام الدنيا وزخارفها، مع أنها علي تقدير النيل لها ثمن بخس ورضا الله سبحانه هو الجزاء الأوفي؟ فلو قيل لك: إن ههنا رجلاً معه جوهر نفيس يساوي مائة ألف دينار وهو محتاج إلي ثمنه، بل إلي بيعه عاجلاً وإلي أضعافه ثمناً، فحضر من يشتري منه متاعه بأضعاف ثمنه مع حاجته إلي الأضعاف، فأبي بيعه بذلك وباعه بفلس واحد، ألست تحكم بسفاهة ذلك البايع و نقصان عقله؟

فحال المرائي بعينه مثل حال هذا البائع، فإن ما يناله العبد بعمله من حطام الدنيا ومدح الناس له بالاضافة إلي ثواب الآخرة ومرضاة الله سبحانه أقل من فلس في جنب ألف ألف دينار، بل أقل من نسبته إلي الدنيا وما فيها؛ هذا كله هو الدواء العلمي .

الدواء العملي للرياء:

وتما الدواء العملي: فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كمايغلق الأبواب دون الفواحش، حتي يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه علي عبادته، ولا تنازعه النفس إلي طلب علم غيره سبحانه.

ولذلك كان عيسي يقول للحواريين: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه بالزيت لئلا يري الناس أنه صائم، وإذا أعطي بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلي فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق.(1)

وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: إن في ظل العرش ثلاثة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله:رجلان تحابا في الله وافترقا عليه، ورجل تصدق بيمينه صدقة فأخفاها عن شماله، ورجل دعته امرأة ذات جمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين.(2)

ص: 401


1- عدة الداعي: 220
2- نفس المصدر

فلا دواء للرزياء مثل الاخفاء، وذلك يشق في بداية المجاهدة، وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمة به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد، ولكن الله (لَا يُغَيِّرَ مَا بِقَومِ حَتَّي يُغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِم (1) فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب، والله لا يضيع أجر المحسنين، وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفُها ويُؤتِ مِن لَدُنهُ أَجراً عَظيماً) .

ص: 402


1- الرعد: 11

ومن خطبة له عليه السلام :

يرغب فيها بالجهاد ويذم أصحابه علي تخاذلهم عنه ويذكر فيها أفعال جيش معاوية

(أمَا بَعدَ فَإنَّ الجَهادَ بَابَ مِن أَبوابِ الجَنَّةَ فَتَحَه الله لِخَاصَّة أوليَائَه وهُو لِباسُ التَّقوي وَدَرعُ الله الحَصينَه وَجُنَتَه الوَثيقَةُ فَمَن تَرَكَه رَغبَةً عَنهُ أَلبَسَهُ الله ثَوبَ الذُّلَ وَشَملَهُ البَلاءُ وَديثَ بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءَةِ وَضُربَ عَلي قَلبِه بِالإِسهَابِ وَأُديلَ الحَقُّ مِنهُ بِتَضييعَ الجَهادِ وَسيمَ الخَسفَ وَمُنعَ النَّصَفَ ألّا وَإنّي قَد دَعَوتُكُم إلَي قِتالٍ هؤلاء القَومِ لَيلاً وَنَهاراً وَسِراً وَإعلاَناً وقُلتُ لَكُم اغزُوهُم قَبلَ أَن يَغزُوكُم فَوَاللهِ مَا غُريَ قَومَ قَطُّ في عُقرِ دارَهِم إلا ذُّلوا فَتوَاكَلتُم وَتَخَاذَلتُم حَتيَّ شُنَّت عَليكُم الغَارَاتُ و مُلِكَت عَليكُم الأَوطَانُ وَهذا أَخُو غَامِدٍ وَقَد وَرَدَت خَيلُه الاَنبَارَوَ قَد قَتَل حَسَّانَ بنِ البَكريَّ وأزَالَ خَيلَكُم عَن مَسالَحهَا وَ لَقَد بَلَغَني أَنَّ الرَّجُل ِمنهُم كَانَ يَدخُلُ عَلي المَرأَة المُسلَمَة والأخرَي المُعَاهِدةِ فَيَنتَّزَعٌ حِجلَهَا وَقلبَهَا وَقلائِدَها ورُعُثَها مَا تَمتَنِعُ مِنهُ إلَّا بِالاَستِرجَاعٍ وَالاستِرحامِ ثُمَّ النصَرَفُوا وافَرينَ مَا نَالَ رَجلاً مِنهُم كَلمٌ ولاَ اُريقَ لَهُم دَمٌ فَلَو آَنَّ اَمراً مُسلِماً مَاتَ مِن بَعدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ به مَلوماً بَل كَانَ بِه عِندي جَديرَاً فَيَا عَجَباً عَجَباً واللهِ يُميتُ القَلبَ وَيَجلِبُ الهَمَّ مِنَ اجتَمَاعِ هَؤلاء القَومٍ عَلي بَاطِلِهِم وَتَفَرُّقُكُم عَن حَقِكُم فَقُبحاً لَكُم وتَرحاً حينَ صِرتُم غَرَضاً يُرمَي يُغارُ عَليكُم وَلا تُغَيَرُونَ ولاتُغزَونَ ولا تَغزونَ و يُعصَي الله و تَرضَونَ فإذَا أَمَرتُكُم بالسَّيرِ إِلَيهِم فِي ايامِ الحَرّ قُلتُم هَذه حَمارَةٌ القَيظِ أَمهِلنا يُسَبَّخ عَنَّا الحَرَّ واذَا أَمَرتُكُم بِالسَّيرِ إِلَيهِم فِي الشَّتاء قُلتُم هَذه صَبَارَةٌ القُرَ اَمهِلنَا يَنسَلِخ عَنَّا البَردُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِ فَإذا كُنتُم مِنَ الحَرِّ وَالقَرِّ تَفِرُّونَ فَأنتُم وَاللهِ

ص: 403

مِنَ السَّيفِ أَفَرُ يا أَشبَاهَ الرِّجَالِ ولا رِجالَ حُلُومُ الأَطفَالِ وعُقُولُ رَبَّات الحِجالِ لَوَدَدتُ أَني لَم أَرَكُم وَلَم أَعرَفَكُم مَعرَفَةً و الله جَرَّت نَدمَا وَأَعقَبَت سَدَماً قَاتَلَكُم اللهُ لَقَد مَلَاتُم قَلبي قَيحاً وَشَحَنتُم صَدرِي غَيظاً و جَرَّعتُموني نُغَبَ التَّهمَامِ أنفَاساً وأَفسَدتُم عَليَ رَأيِي بِالعِصيَانِ وَالخِذلَانِ حَتَّي لَقَد قَالَت قُرَيشٌ انَّ ابنَ أَبِي طَالبَ رَجلٌ شجُاعٌ وَلكِن لا عَلمَ له بِالحَربِ لله أَبوهُم وهَل أَحَدٌ مِنهُم أَشَدٌّ لَهَا مَراساً وَأَقدَمُ فِيهَا مَقاماً مِني لَقَد نَهَضَت فِيهَا وَمَا بَلَغتُ العِشرِينَ وَهَا أَنا ذَا قَد ذَرَّفتُ عَلي السَّتيِنَ وَلكِن لَا رَأيَ لِمَن لا يُطاعُ).

اشرح ابن أبي الحديد مج1، ص140، ط الأولي بمصر.

ضبط الألفاظ اللغوية:

الجنة ما استتر به من سلاح أو غيره، اوديثه أي ذلل، ومنه الديوث الذي لا غيرة له، والصغار: الذل والضيم. «القماءة، الحقارة والذل، و«الإسهاب» ذهاب العقل، أي ذهب عقله من أذي يلحقه. «و أديل الحق منه أي غلبه عليه عدوه. وسيم الخسف، أولاه ذلاً و كلفه المشقة. «والنصف» الإنصاف. «والعقر» في الشيء أصله ووسطه. «والتواكل»أن يكل كل واحد منهم الأموال إلي صاحبه ويعتمد عليه. وشن الغارة وأشنها فرقها عليهم من كل وجه. «وأخو غامده هو سفيان بن عوف، وغامد قبيلة من اليمن وهي من الأزد. والأنبار بلد قديم من بلاد العراق علي الفرات من الجانب الشرقي والمسالح، الحدود التي ترتب فيها ذوو الأسلحة مخافة عادية العدو. والمعاهدة»ذات العهد وهي الذمية. وه الحجل»_بفتح الحاء و كسرها - الخلخال. «والقلب» - بالضم - سوار المرأة. «والرعاث»القرط، والرعاث أيضاً ضرب من الحلي. «والاسترجاع» قول «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وقيل ترديد الصوت بالبكاء. «والاسترحام، مناشدة الرحم، أي قول «أنشدك الله والرحم»، والوافر» التام، أي تامين. «والكلم، الجرح. و«الترح» ضد الفرح. «والغرض»

ص: 404

الهدف. او حمارة القيظ»شدة حره. «ويسبخ الحر» يسكن ويفتر. «والقر- بالضم البرد. و«ربات الحجال والنساء، والسدمه الحزن. والقيح»الصديد بلا دم. «والنغب، الجرعة. «والتهمام»الهم. «وأنفاساً أي جرعة بعد جرعة. والله أبوهم» كلمة مدح، ولعلها استعملت هنا للتعجب. والمراس»مصدر مارسه أي زاوله وعالجه. واذرفت علي الستين، بتشديد الراء أي زدت.

الشرح:

هذه الخطبة النيرة خطب بها صلوات الله عليه في أواخر عمره الشريف، وذلك بعد ما انقضت وقعة صفين واستولي معاوية علي البلاد وأكثر القتل والغارة في الأطراف، وأمر سفيان بن عوف بالمسير إلي الأنبار وقتل أهلها.

وصية معاوية الارهابية:

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في المجلد الأول من كتابه شرح النهج ص 144 ط 1 بمصر، نقلاً عن كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي، عن ابن الكنود قال:

حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثك في جيش كثيفٍ ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتي تمر بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلا فامض حتي تغير علي الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتي توغل في المدائن، ثم أقبل إلي، واتق أن تقرب الكوفة، واعلم أنك إن أغرت علي أهل الأنبار وأهل المدائن فكانك أغرت علي الكوفة، إن هذه الغارات - ياسفيان - علي أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوي منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو علي مثل رأيك، وأخرب كل ما مررت به من القري، واحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.

ص: 405

قال: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيها الناس انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله، ثم نزل، قال: فوالذي لا إله غيره ما مرت ثلاثة حتي خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات فأغذذت السير حتي أمر بهيت، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات، فمررت بها وما بها عريب كأنها لم تحلل قط، فوطئتها حتي أم بصدوداء ففروا فلم ألق بها أحداً، فأمضي حتي أفتتح الأنبار وقد نذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إلي فوقف لي، فلم أقدم عليه حتي أخذت غلماناً من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي صلوات الله عليه؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم قد تبددواورجعوا إلي الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها قد يكون مائتي رجل، فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ثم أخذت أبعثهم إليهم كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت اليهم نحواً من مائتين وأتبعتهم الخيل، فلما حملت عليهم الخيل وأمامهم الرجال تمشي لم يكن شيء حتي تفرقوا وقتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلاً، وحملنا ما كان في الأنبار من الأموال، ثم انصرفت، فوالله ماغزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون ولا أسر للنفوس منها، وبلغني أنها أرعبت الناس، فلما عدت إلي معاوية حدثته الحديث علي وجهه، فقال: كنت عند ظني بك، لا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت توليته وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني، قال: فوالله ما لبثا إلا يسيراً حتي رأيت رجال أهل العراق يأتوننا علي الإبل هرابة من عسكر علي صلوات الله عليه.

و قال إبراهيم: كان اسم عامل علي صلوات الله عليه علي مسلحة الأنبار أشرس بن حسان البكري.

ص: 406

معركة الأنبار:

وروي إبراهيم عن عبد الله بن قيس، عن حبيب بن عفيف قال: كنت مع أشرس بن حسان البكري بالأنبار علي مسلحتها إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها، فهالونا والله وعلمنا _ إذ رأيناهم - أنه ليس لنا طاقة بهم ولا بد، فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا، فلم يلقهم نصفنا، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم حتي كرهونا، ثم نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالي:(فَمِنهُم مَن قَضي نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوُا تَبديلاً) ثم قال لنا: من كان لا يريد لقاء الله ولا يطيب نفساً بالموت، فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم، فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار، ثم نزل في ثلاثين رجلاً، فهممت بالنزول معه ثم أبت تفسي، واستقدم هو وأصحابه فقاتلوا حتي قتلوا رحمهم الله، وانصرفنا نحن منهزمين.

قال إبراهيم: وقدم علج من أهل الأنبار علي علي صلوات الله عليه فأخبره الخبر، فصعد المنبر فخطب الناس وقال: إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار وهو معتزلا يخاف ما كان، واختار ما عند الله علي الدنيا، فانتدبوا إليهم حتي تلاقوهم، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا، ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم متكلم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأي صمتهم نزل وخرج يمشي راجلاً حتي أتي النخيلة والناس يمشون خلفه، حتي أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا:ارجع يا أمير المؤمنين ونحن نكفيك، فقال: ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم، فلم يزالوا به حتي صرفوه إلي منزله، فرجع وهو واجم كئيب، ودعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف، وذلك أنه أخبر أن القوم جاؤا في جمع كثيف، فخرج سعيد بن قيس علي شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف، حتي إذا بلغ اعانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني، فاتبع آثارهم حتي دخل أداني أرض قنسرين وقد فاتوهم، فانصرف.

ص: 407

قال: ولبث علي صلوات الله عليه تري فيه الكآبة والحزن حتي قدم عليه سعيد بن قيس، وكان تلك الأيام علياً، فلم يقو علي القيام في الناس بما بريده من القول،فجلس بباب السدة التي تصل إلي المسجد ومعه ابناه حسن وحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر، ودعا سعداً مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأه علي الناس، فقام سعدبحيث يستمع علي صوته ويسمع ما يرد الناس عليه، ثم قرأ الخطبة هذه،(1) انتهي قول ابن أبي الحديد.

افضل الجهاد:

قوله صلوات الله عليه:

أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه .

بين صلوات الله عليه في هذه الفقرات النيرة عظمة الجهاد في الإسلام ومنافعه الخاصة والعامة للمسلمين، فقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله- كما في رواية الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله-: للجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه، فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع والملائكة ترحب بهم . (2)

والمراد بخواص الأولياء المخلصون له في المحبة والعبادة، ومن المعلوم أن الجهاد في سبيل الله لوجه الله لا لغرض آخر من خواص الكاملين في العبادة والخالصين في المحبة.

وذلك لأن المرء المسلم إذا فارق أهله وأولاده وسلك إلي الجهاد مع علمه بأن العدو لو قهره يقتله ويتملك أمواله ويستبيح ذريته، ومع هذه كلها يوطن نفسه علي الصبر والثبات امتثالاً لأمر الله وطلبة لمرضاته سبحانه، فذلك الولي الكامل والمؤمن

ص: 408


1- شرح نهج البلاغة 2: 85 - 88
2- الكافي 5: 2ح 2

الخالص في مقام الإيمان والعبودية، وحقيق بأن يدخل في زمرة: (أَلا إِنَّ أَولياءَ الله لا خَوفٌ عَليهِم وَلَا هُم يَحزَنونَ)(1) (وأن يستبشر بيشارة: إِنَّ الله اشتَريٍ مِنَ المؤمنينَ أنفُسَهُم وَأموَالَهُم بِأَنَ لَهُم الجَنَّةَ يُقاتِلونَ فِي سَبيلِ الله فَيَقتُلونَ و يُقتَلونَ وَعداً عَليه حَقاً فِي التَّوراةِ وَالإنجيلِ وَالقُرآنِ ومَن أوفيِ بِعَهدِه مِنَ الله فَاستَبشِروُا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِه وَذلكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ). (2)

اثواب وأجر الشهيد:

والبشري التي بشر بها رسول الله صلي الله عليه وآله سيد الشهداء منهم بقوله: «للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة منه مغفور له كل ذنب، والثانية: يقع رأسه في حجر زوجته من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة: يكسي من كسوة الجنة، والرابعة: تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة: أن يري منزله، والسادسة: يقال لروحه: إسرح في الجنة حيث شئت، والسابعة: أن ينظر في وجه الله (أي رحمته) وإنها لراحة لكل نبي و شهيده.(3)

وقال صلي الله عليه وآله : إن جبرئيل أخبرني بأمر قرت به عيني وفرح له قلبي، قال: يا محمد، من غزا غزوة في سبيل الله من أمتك وما أصابته قطرة من الدماء أو صداع إلا كانت له شاهدة يوم القيامة، وللجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه وإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم، ومن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً في نفسه وفقرأً في معيشته و محقاً في دينه، إن الله تعالي أعز أمتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها. (4) وقال: من بلغ رسالة غاز كمن أعتق رقبة وهو شريكه في

ص: 409


1- يونس: 62
2- التوبة: 111
3- عوالي اللئالي 3: 182 و 183/ ح 4
4- الكافي 5: 2/ ح 2

ثواب غزوته، (1) وقال: خيول الغزاة خبولهم في الجنة. (2) وقال: الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار.(3)

وقال صلي الله عليه وآله: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله أو تصديق كلمته بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلي مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة. (4)

وقال صلي الله عليه وآله : لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.(5)

وقال يوم بدر: قوموا إلي جنة عرضها السماوات والأرض _ الحديث.(6)

وفي حديث آخر، قال: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف.(7)

وقال: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقي لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.(8)

وروي الصدوق عن الصادق عليه السلام قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وآله فقال: إني راغب في الجهاد. قال صلي الله عليه وآله: جاهد في سبيل الله تعالي: فإنك إن تقتل كنت حياً عند الله ترزق، وإن مت فقد وقع أجرك علي الله، وإن رجعت خرجت من الذنوب كما ولدت _ الحديث.(9)

ص: 410


1- عوالي اللئالي 3: 183/ح5
2- الكافي 5: 3/ ح3
3- الكافي 5: 2/ ح 1
4- الجهاد لعبد الله بن المبارك: 81
5- الجامع الصغير للسيوطي 2: 410/ ح 7287
6- مسند احمد 3: 136؛ تفسير الدر المنثور 2: 72
7- تفسير الدر المنثور 1: 248
8- صحيح مسلم 6: 47
9- أمالي الشيخ الصدوق: 547 ح 729

وقال علي صلوات الله عليه: الجهاد علي أربع شعب: علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهي عن المنكر أرغم أنف الكافرين، ومن صدق في المواطن قضي ما عليه، ومن شني الفاسقين غضب الله، ومن غضب الله تعالي فهو مؤمن حقاً. (1)

وقال صلوات الله عليه: جهاد الهوي ثمن الجنة، وجهاد النفس مهر الجنة وأفضل الجهاد، فمن جاهدها ملكها، وهي أكرم ثواب الله لمن عرفها، وجهاد النفس بالعلم عنوان العقل، وجهاد الغضب بالحلم برهان النبل.(2)

وقال صلوات الله عليه: «إن رسول الله صلي الله عليه وآله بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. (3)

وهو قهرها وبعثها علي ملازمة الطاعات ومجانية المنهيات، ومراقبتها علي مرور الأوقات، ومحاسبتهاعلي ما ربحته وخسرته في دار المعاملة من السعادات، و كسر قوتها البهيمية والسبعية بالرياضات وغير ذلك، ثم قال صلي الله عليه وآله: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه.(4)

وبالتالي قد تحصل مما ذكره صلوات الله عليه منافع الجهاد و مصالحه و مفاسد تركه و معايبه، وفيه تحريض علي القيام، وترهيب عن القعود عنه، فإنه وإن كان شاقاً علي النفس في بادئ الأمر، من حيث كون أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة، وكون بقاء النفس للنفس مطلوباً إلا أنه بعد ملاحظة ما يترتب

ص: 411


1- الكافي 2: 50 و 51/ ح 1
2- مستدرك الوسائل 11: 139؛ نمرر غرر الحكم، الحكمة 4773
3- الاختصاص للمفيد: 240؛ مشكاة الأنوار: 431
4- أمالي الصدوق:553/ ح 470

علي القيام به من المنافع والثمرات، وعلي القعود عنه من المضار والعيوب، يسهل عليه القيام به، ويشري نفسه ابتغاء مرضات الله، كما قال تعالي:

(كُتِبَ عَليكُمُ القِتالُ وَهُوَكُرهٌ لَكُم وعَسي أَن تَكرَهُوا شَياً وهُو خَيرٌ لَكُم وَعَسَي أَن تُحبُوا شَيئاً و هُوَشَرٌ لَكُم وَالله يَعلَمُ وأنتُم لَا تَعلَمُونَ).(1)

يعني أن الشيء ربما كان شاقاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل، وبالعكس، ولأجله كن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار بتوقع حصول الربح.

والجهاد كذلك، لأن تر كه وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الأنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار الدنيوية والأخروية، كالذل والفقر والحرمان من الغنيمة ومحي الدين وطمع الأعداء، حيث إن العدو إذا علم ميل نظرائه إلي الدعة والسكون قصد بلادهم وحاول قتلهم، فإما أن يأخذهم ويستبيح دماءهم وأموالهم ويسبي ذراريهم، وإما إن يحتاجوا إلي قتاله من غير إعداد آلة وسلاح .

وهذا يكون كترك مداواة المريض مرضه في أول ظهوره بسبب مرارة الدواء ثم يصير في آخر الأمر مضطراً إلي تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة، مضافاً إلي ما يفوته من الثمرات الجليلة في الدنيا والآخرة من الأمن وسلامة الوقت والفوز بالغنيمة وحلاوة الاستيلاء علي الأعداء، والدرجات التي وعدها الله تعالي بقوله:

(فَضلَ اللهُ المُجاهِدينَ بِأَموالَهِم وأنفُسِهم علَي القاعِدينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الحُسني وفَضَّلَ الله المُجاهِدينَ عَلي القَاعدينَ أجرأً عَظيماً * دَرَجاتٍ مِنهُ ومَغفِرةً وَرحمةً وَكانَ الله غَفوراً رَحيماً).

علي أساس هذا النداء وهذه الدعوة إلي الجهاد، كان المسلمون في

ص: 412


1- البقرة: 216

تشوق عارم إلي الشهادة، وحنين دائم إلي الجنة، واستهانة عجيبة بالحياة الدنيا. ولقد كان الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه وآله متمنياً للشهادة ويقول:

والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل .(1)

جهاد عميربن الحمام:

وفي معركة بدر قال النبي صلي الله عليه وآله : قوموا إلي جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام: جنة عرضها السماوات والأض!! بخ، بخ، فقال له النبي: ما حملك علي قول بخ، بخ؟ فقال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فألقي عمير ما كان معه من زاد، وتقدم من المعركة وهو يقول:

ركضاً إلي الله بغير زاد*** إلا القي وعمل المعاد

والصبر في الله علي الجهاد*** وكل زاد غرضة النفاد

غير التقي والبر والرشاد(2)

وقاتل عمير حتي قتل .

جهاد أنس بن النضر:

ولما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، مر أنس بن النضر بنفر قعود، فقال لهم : ما يقعد كم؟ قالوا: قتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا علي ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنعه المسلمون، وأبرأ اليك مما صنع

ص: 413


1- صحيح البخاري 3: 203؛ سنن ابن ماجة 2: 620) ح2753
2- مسند احمد 3: 136 و 137؛ البداية والنهاية لابن كثير 3: 338

المشركون، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال له: يا سعد، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد. قال أنس بن مالك ابن أخيه: فوجدناه في نهاية المعركة قد قتل ومثل به المشركون، ووجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.(1)

جهاد عمرو بن الجموح :

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، فلما أراد الخروج مع النبي إلي معركة أحد منعه بنوه وقالوا له: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فجاء إلي النبي صلي الله عليه وآله وقال له: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال النبي صلي الله عليه وآله لبنيه: وما عليكم أن تدعوه، لعل الله عزوجل أن يرزقه الشهادة.

فخرج عمرو في الجيش ودعا ربه قائلاً: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلي أهلي خزيان، فقتل شهيداً في أحد.(2)

وقبيل القتال في أحد جاء عبد الله بن جحش إلي النبي صلي الله عليه واله فقال: يا رسول الله إن هؤلاء القوم - يريد المشركين قد نزلوا حيث تري، وقد سألت الله الشهادة، وأنا أسألك أخري يا رسول الله: أن تلي تركتي من بعدي، فقال له: نعم. فقاتل عبد الله حتي قتل، ودفن مع حمزة في قبر واحد. وجاءت أخته حمنة بنت جحش، و كانت في الجيش تحمل الماء وتضمد الجراح، فقال لها رسول الله صلي الله عليه وآله : يا حمن احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: خالك حمزة، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة، ثم قال لها: احتسبي. قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخوك عبد الله.

ص: 414


1- صحيح البخاري 3: 205؛ اسد الغابة 1: 131 و 132
2- السنن الكبري للبيهقي 9: 24

قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئاً له الشهادة، ثم قال لها: احتسبي. قالت: من يا رسول الله؟ قال: مصعب بن عمير. قالت: واحزناه. فقال: إن للزوج من المرأة مكاناً ما هو لأحد، ثم قال لها: لم قلت هذا؟ فقالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني. (1)

ولما فاء المسلمون إلي النبي صلي الله عليه وآله يوم أحد كان أولهم عودةً ثلاثة: عباس بن عبادة، وخارجة بن زيد، وأوس بن أرقم، فنادي عباس: يا معشر المسلمين الله ونبيكم، هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم، وعدكم النصر فما صبرتم، ماعذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله وماعين تطرف؟ ثم نزع مغفره وخلع درعه ليقاتل حاسراً، وقال لخارجة:هل لك فيهما؟ قال: لا، أنا أريد الذي تريد، فقاتلوا حتي قتلوا جميعاً.(2)

جهاد حارثة:

وكان حارثة من شباب الأنصار، عاده رسول الله صلي الله عليه وآله في مرضه فطلب منه أن يدعو الله له أن يرزقه الشهادة، فدعا له. فلما قتل في بدر وعلمت أمه بمقتله قالت: والله لا أبكيه حتي أسأل رسول الله، فلما قدم المدينة قالت له: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي، فإن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال: يا أم حارثة إنها ليست جنة واحدة ولكنها جنان، وحارثة في الفردوس الأعلي. فرجعت وهي تضحك وتقول: بخ، بخ يا حارثة، هنيئاً لك الجنة. (3)

عن شداد بن الهادي: أن رجلاً من الأعراب جاء فآمن بالنبي صلي الله عليه وآله ثم قال:

ص: 415


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 18
2- شرح نهج البلاغة 14: 257
3- فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل 1: 38؛ مسند احمد 3: 124

أهاجر معك، فأوصي به النبي بعض أصحابه، فكانت غزاة غنم فيها النبي شيئاً فقسم، وقسم له، فقال: ما هذا؟ فقال: قسمته لك. فقال: ما علي هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك علي أن أرمي إلي ههنا - وأشار بيده إلي حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي محمولاً قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلي الله عليه وآله: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفن في جبة النبي، ثم قدمه فصلي عليه، فكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، وأنا شهيد علي ذلك.(1)

لم يلجأ الرسول محمد صلي الله عليه وآله إلي القتال إلا مضطراً، وفي حدود الدفاع عن حرية دعوته وعن كيان المسلمين، ويبين ذلك بوضوح من استعراض أشهر معار كه مع المشركين وأهل الكتاب، فقد كانت كلها دفاعية أو مبادرة لا تقاء هجوم مؤ كد.

أما مشر كو قريش فقد كانت عداوتهم واضحة طول العهد المتي ولم ينته هذا العهد حتي كانوا قد بدأوا يحكمون السيف، فتآمروا علي رسول الله صلي الله عليه وآله وأجمعوا علي قتله حتي لا يتم انتقال الدعوة إلي المدينة.

(وَإذ يَمكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروا لِيَثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ و يَمكَرونَ وَيَمكُرُ اللهُ واللهُ خَيرُ المَاكِرينَ)(2) وبعد أن تمت الهجرة كانت قريش تعد العدة وتتحين الفرص للقضاء علي الإسلام والمسلمين، ومن ثم كانت ظالمة معتدية منذ البداية، ويشير القرآن إلي ذلك تذكرة للمسلمين.

(ألا تُقاتِلوُنَ قَوماً نَكَثوا أَيمَانَهُم وَهَمُّوا بِإخراجِ الرَّسولِ وَهُم بَدؤُكُم أَوَلَ مَرَةٍ أَتَخشَونَهُم فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤمنينَ). (3)

ص: 416


1- المعجم الكبير للطبراني 7: 271؛ البداية والنهاية 4: 218
2- الأنفال: 30
3- التوبة: 13

معركة بدر:

ومعركة بدر أولي معاركهم مع المسلمين، كان عدوانهم فيها واضحاً العدة أسباب:

أولاً: أن النبي صلي الله عليه وآله لم يخرج بمن معه من أصحابه لقتال، ولما علم أن قريشأً أقبلت في جيش كبير لقتاله شاور المسلمين، ولو كان خروجه من المدينة للقتال ما شاورهم.

ثانياً: أن قريشاً خرجت من مكة بحجة إنقاذ قافلة لها يقودها أبو سفيان من عدوان المسلمين، ولكن القافلة وصلت سالمة إلي مكة، وبعث أبو سفيان إليهم يخبرهم بنجاة القافلة ويطلب منهم الرجوع، ولكن أبا جهل أصر علي مواصلة السير قائلاً: لا والله لا نرجع حتي نرد بدراً فتقيم ثلاثاً، ننحر الجزر ونطعم الطعام ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، فلا تزال العرب تهابنا أبدأً. فلما علم أبو سفيان بقوله قال: واقوماه!! تراس أبو جهل فبغي، والبغي منقصة شؤم.(1)

ثالثاً: أن عدداً من زعماء قريش كانوا يرون عدم القتال لعدم وجود ما يبرره، وقد عاد من الطريق الأخنس بن شريق في مائة من بني زهرة.

رابعاً: أن النبي صلي الله عليه وآله بعث إليهم عمر بن الخطاب بعد وصولهم إلي بدر يقول لهم: ارجعوا فإنه إن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلي من أن أليه منكم.

فقال حكيم بن حزام أحد زعمائهم: قد عرض نصفاً فاقبلوه، والله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف. فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم. ومن ثم لم يكن للمسلمين بد من القتال رغم أنهم كانوا في قلة من العدد والعدة.(2)

وأما معركة أحد فكانت هجوماً من قريش علي المدينة للأخذ بثأر معركة بدر،

ص: 417


1- شرح نهج البلاغة 14: 107 و108 باختلاف بسير
2- شرح نهج البلاغة 14: 122

ذو كان من رأي النبي عدم الخروج والدفاع عنها من داخلها، ولكن الأغلبية رأت الخروج للقاء العدو قبل مداهمتها، فخرجوا والتقوا بهم في أحد بالقرب من المدينة.

وأما معركة بني المصطلق فسببها أن النبي صلي الله عليه وآله علم أن الحارث بن أبي صرار جمع لحربه جمعاً كبيراً من قومه ومن قبائل العرب، وأنهم قد تهيئوا للمسير إلي المدينة، فبادرهم النبي صلي الله عليه وآله قبل الخروج، فلما وصل إليهم بعث إليهم يعرض عليهم الإسلام فأبوا وقاتلوا.

وغزوة الأحزاب كانت حصاراً للمدينة، حاصرها المشركون في عشرة آلاف مقاتل، وانضم إليهم يهود بني قريظة من داخلها.

ويتضح بغي المشركين وعدوانهم من النشيد الذي كان ينشده النبي مع المسلمين وهو يعمل معهم في حفر الخندق، وهو نشيد يفيض ثقة بالله وتوكلا عليه وتنرهاً عن البغي والعدوان:

الاهم(1) لولا أنت ما اهتدينا*** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ***وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألي لقد بغوا علينا*** وإن أرادوا فتنةً أبينا(2)

كما يبين إصرار المشركين علي القضاء علي الإسلام والمسلمين من الرسالة التي بعث بها أبو سفيان النبي صلي الله عليه وآله أثناء الحصار: باسمك اللهم فإني أحلف باللات والعزي،لقد سرت إليك في جمعنا وإنا نريد ألآ تعود أبدأً حتي نستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟! فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد.(3)

ص: 418


1- أي: اللهم
2- بحار الأنوار 20: 199
3- النزاع والتخاصم للمقريزي: 57

صلح الحديبية:

وفي الحديبية تجلي حبة النبي صلي الله عليه وآله للسلم ورغبته عن القتال، وذلك أنه في السنة السادسة من الهجرة خرج من المدينة ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه بريد مكة لزيارة المسجد الحرام ومعهم الهدي لهذا الغرض، وخاف المسلمون من عدوان قريش فقالوا للنبي: لو حملنا يا رسول الله السلاح معنا، فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدين لهم، فقال: لست أحمل السلاح، إنما خرجت معتمراً.

ونزل المسلمون بالحديبية علي بعد تسعة أميال من مكة، وجاء بديل بن ورقاء سفيراً من قريش، فبلغ النبي أنها أجمعت علي قتاله ومنعه من زيارة المسجد الحرام، فقال له النبي: إنا لم نأت لقتال أحد، إنا جئنا لنطوف بالبيت، فمن صدنا عنه قاتلناه.

وبعث النبي صلي الله عليه وآله إلي قريش يقول لها: إنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا زواراً للبيت معظمين لحرمته، ومعنا الهدي ننحر وننصرف، فقالوا للرسول: لا يدخل محمد علينا أبداً.

ثم جاء سهيل بن عمرو إلي النبي صلي الله عليه وآله يعرض عليه شروطأً للصلح بعثته بها قريش، وقد قبلها النبي صلي الله عليه وآله، ورأي المسلمون فيها إجحافاً بهم، وقال عمر بن الخطاب راداً علي رسول الله: يا رسول الله ألسنا بالمسلمين؟ قال: بلي، فقال: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني، وجعل عمر پردد ذلك حتي قال له أبو عبيدة ابن الجراح: ألا تسمع - يا ابن الخطاب - رسول الله يقول ما يقول! تعوذ بالله من الشيطان واتهم رأيك.

ودعا النبي صلي الله عليه وآله علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لكتابة المعاهدة و كره المسلمون ذلك وداخلهم أمر عظيم، ولكن النبي صلي الله عليه وآله أمر علياً بالكتابة، وبدأ يملي عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: مانعرف الرحمن، اكتب ما نكتب «باسمك اللهم»، فضاق المسلمون وصاحوا: والله ما نكتب إلا الرحمن، فقال النبي صلي الله عليه وآله لعلي: اكتب «باسمك اللهم، هذا ماصالح عليه

ص: 419

محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فضج المسلمون وارتفعت الأصوات وقالوا: لا نكتب إلا محمد رسول الله، وإلا فالسيف بيننا، علام نعطي الدنية في ديننا؟ فأمرهم النبي بالسكوت، واستمر في إملاء المعاهدة كما طلب سهيل، ثم عاد المسلمون إلي المدينة دون زيارة المسجد الحرام في ذلك العام.

ولما نقضت قريش عهد الحديبية، سار إليهم النبي صلي الله عليه وآله في عشرة آلاف وعسكر بجيشه قرب مكة، وجاءه العباس بن عبد المطلب وقد أردف خلفه أبا سفيان بن حرب وغيرهما فأسلموا وعادوا إلي مكة بأمان رسول الله صلي الله عليه وآله إلي أهلها، ودخل رسول الله صلي الله عليه وآله مكة، وأعطي أهلها الأمان وصفح وعفي عنهم.

وكذلك معركة حنين، فسببها أن مشركي هوازن وثقيف ومعهم بعض القبائل قد تجهزوا لحرب المسلمين، فخرج النبي صلي الله عليه وآله بجيشه للقائهم قبل هجومهم علي مكة، وفي وادي حنين باغتوا المسلمين بالهجوم وكادوا يظهرون عليهم لولا ثبات النبي صلي الله عليه وآله في جماعة من أصحابه.

إلي هنا ننهي الموضوع ومن أراد الوقوف علي التفصيل أكثر من هذا، فليرجع إلي الجزء الثالث من كتابنا الجواهر الروحية.

ص: 420

ومن وصية له لولده الحسن عليه السلام :

يذكر فيها حقوق الإخوان

(لا خَيرَ فِي مُعينٍ مَهينٍ وَلا فِي صَديقٍ ظَنينٍ سَاهلٍ الدَّهرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَلا تُخاطِر بِشَيءٍ رَجَاءَ أَكثَر مِنهُ وَإيَّاكَ أَن تَجمَحَ بِكَ مَطيَّةُ اللَّجاجِ احمَل نَفسَكَ مِن أَخيكَ عِندَ صَرمِه عَلي الصَّلَة وَعِندَ صُدُودهِ عَلي اللُّطفِ وَالمُقارَبَة وَعِندَ جُمُودَه عَلي البَذلِ وَعِندَ تَباعُده عَلي الدُّنُو وعِندَ شِدَّتِه عَلي اللينِ وَعِندَ جُرمِه عَلَي العُذرِ كَأَنَّكَ لَه عَبدٌ وكاَّنه ذُو نِعمَةٍ عَليكَ إيَّاكَ أَن تَضَعَ ذَلكَ في غَير مَوضِعِه أَو أَن تَفعَلهُ بغَير أَهلِه لا تَتَّخذَنَّ عَدُّوَ صَديقِكَ صَديقاً فَتُعاديَ صَديَقكَ وَامحَض أَخَاكَ النَّصيحَة حَسَنَةً كَانَت أَو قَبيحَةً).(1)

الشرح: حكم ومواعظ:

اشتملت هذه الفقرات النيرة علي جمل من الأمثال والحكم والنصائح:

أولها: (العلاقة مع الآخر) قوله صلوات الله عليه:هلا خير في معين مهين، ولا في صديق ضنين أخذ الشاعر هذا المعني فنظمه وسبكه سيكاً لطيفاً فقال:

فإن من الاخوان من شحط النوي ***به وهو راع للوصال أمين

ومنهم صديق العين أما لقاؤه *** فحلو وأما غيبه فظنين (2)

ص: 421


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 104
2- شرح نهج البلاغة 16: 105

ويقول سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف:

ألا رب من تدعو صديقاً ولو تري*** مقالته بالغيب ساءك ما يغري

مقالته كالشهد ما كان شاهداً*** وبالغيب مأثور علي ثغرة النحر

يسرك باديه وتحت أديمه ***نميمة غش يفتري عقب الظهر

تبين لك العينان ما هو كاتم *** من الغل والبغضاء بالنظر الشزر

فرشني بخير طالما قد بريتني ***وخير الموالي من يريش ولا يبري(1)

ثانيها: قوله صلوات الله عليه: «ساهل الدهر ماڈل لك قعوده»ومثل هذا قولهم في المثل: من ناطح الدهر أصبح أجم، وقولهم: در مع الدهر كيفما دار، ومثله قول الشاعر:

من قامر الأيام عن ثمراتها ***فأحر بها أن تنجلي ولها القمر(2)

وقول الآخر:

إذا الدهر أعطاك العنان فسر به *** رويداً ولا تصنف فيصبح شامسا(3)

ثالثها: قوله صلوات الله عليه: «إحمل نفسك من أخيك عند صرمه علي الصلة»أمره أن يلزم نفسه ويحملها في حق صديقه علي أن يقابله ويجازيه عن رذائله بالفضائل؛ كما إذا قطعه أن يصله، وإن جفاه أن يبره، وإذا بخل عليه أن يجود عليه، ليعود إلي العقبي الحسنة وتدوم المودة، وحذره أن يضع ذلك في غير موضعه، أو يفعله بغير أهله من اللئام؛ لأن ذلك وضع الشيء في غير موضعه، وهو خروج عن دائرة العقل، قال الشاعر:

ص: 422


1- البداية والنهاية 3 180؛ أسد الغابة 2: 377
2- أي الغلبة.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 106

وإن الذي بيني وبين بني أبي ***وبين بني أمي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي***زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا (1)

رابعها: نهاه صلوات الله عليه أن يتخذ عدو صديقه صديقاً ونبه علي قبح ذلك بقوله: «فإنك إن فعلت ذلك عاديت صديقك»ومعاداة الصديق قبيحة مذمومة، فاتخاذ عدوه صديقاً كذلك، وذلك أن مصادقة عدو الصديق تستلزم نفرة الصديق عمن يصادق عدوه، لنفرته من عدوه؛ لأن مصادقة عدوه وهمه مشاركة العدو وموافقته في جميع أحواله، ومن جملة أحواله عداوته، فهي إذن توهمه الموافقة علي عداوته، فتوجب له النفرة والمجانية، ويشير الشاعر إلي هذا المعني بقوله:

تود عدوي ثم تزعم أنني ***صديقك إن الرأي عنك لعازب(2)

وقال الآخر:

إذا صافي صديقك من تعادي ***فقد عاداك وانقطع الكلام(3)

وقال الآخر:

صديق صديقي داخل في صداقتي ***وخصم صديقي ليس لي بصديق

خامسها: أمره صلوات الله عليه أن يخلص نصيحته لأخيه في جميع أحواله، سواء كانت النصيحة حسنة أو قبيحة _ أي مستقبحة في نظر المنصوح ضارة له في العاجل،باعتبار استحيائه وانفعاله من المواجهة بها، وهو قوله صلوات الله عليه: «وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة».

ص: 423


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 107
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 107
3- نفس المصدر

إذ يجب علي الإنسان أن يبذل النصح لأخيه وصديقه ما وسعه، فإن النصح من أعظم لوازم المحبة وأهم مقومات المودة، ولا تتم صداقة ولا تنعقد أخوة ما لم تكن النصيحة رائدها وباعثها، ومن لم يكن ناصحاً لأخيه فليس بأخ، قال رسول الله صلي الله عليه وآله :المؤمن أخو المؤمن لا يدع نصيحته علي كل حال. (1) وقال الإمام الباقر عليه السلام: يحق علي المؤمن للمؤمن النصيحة. (2) وقال الإمام الصادق عليه السلام: من مشي في حاجة أخيه المؤمن فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله. (3)

وهي أفضل صفة في النوع الانساني، كما أن نقيضها - وهو الغش - أقبح خصلة في الإنسان، وهي تجب لعامة المسلمين إعانة وإرشاداً بحق وإلي حق، كما يحرم نقيضها وهو الغش، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: من غشنا فليس منا.(4)

النصيحة في الوعي الديني:

نحن الآن في جولة واسعة في ساحة النصح وينبوعه، جولة مباشرة اللوجدان الانساني، لعل ينتفض ضميره ويرتعش وجدانه فيتأثر بهذه اللمسة التي فيها معني الانسانية والتكريم العلوي لهذا المخلوق.

ومن الخير أن تفسح للتحدث عن الموضوع بفقرة تمهيدية، فتقول:

من الصعب جداً علي معظم الناس أن تكلفهم مزاولة الفضائل والتحلي بها والسير تحت إشرافها ورعايتها. إن فهم الفضيلة حق الفهم ومعرفة حدودها حق المعرفة، والانقيادلها في المواقف الزلقة حيث تتوقر المغريات وتتعارض

ص: 424


1- الجامع الصغير للسيوطي 2: 662ح 9156؛ كنز العمال 1: 142/ ح 687
2- مشكاة الأنوار: 184؛ وفي الكافي 2: 208/ ح 3: يجب للمؤمن علي المؤمن النصيحة
3- فقه الرضا: 369؛ الكافي 2: 362، ح 2 باختلاف يسير
4- دعائم الاسلام للقاضي النعمان 2: 28، مستدرك الوسائل 13: 201؛ وفي لفظ الكافي5: 160/ ح ا عن الصادق عليه السلام ليس منا من غشنا

المنافع و تنشط دواعي الجريمة والسوء شيء صعب وتكليف للناس بما لا يطيقون، وإنما غاية ما تؤثر الفضيلة في فئة قليلة من الناس تمارس الفضائل وتتلقي المبادئ و تأخذ أنفسها برياضة شاقة حقبةً من الزمن لتكون لها ممارسة الفضيلة عادة مألوفة، ولا بد أن تكون تلك النفوس كما قال (ارسطو): «قلوبها شريفة بالفطرة، أصدقاء للفضيلة، أوفياء بعهدها».هؤلاء الناس قليلون جدأً في خضم الحياة الزاخر بالشهوات والاندفاعات والمنافع والأغراض.

إذن نستطيع أن نوفر علي الناس الجهود ونقدم لهم من كتاب الله وسنة رسوله وأحاديث أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين ما يكون زاداً لكل راغب، وعدة لكل خائض معترك الحياة، عدة واقية تقيه الغرق في تياراتها العنيفة، وتقيه الزلق إذا مشي علي مزالقها التي تزل فيها الأقدام، وتتهاوي الرجال صرعي أو غرقي أو ملوثة.

والانسان بما أنه اجتماعي لا بد له من تعاون قهري ليس له فيه اختيار، وهذه هي الفضيلة التي لها أثرها الحميد وعطرها الذائع وشرفها المرموق بين الناس.

قال الله تعالي:(وَتَعاوَنُوا عَلي البِّرِ وَالتَّقوي). (1) وقال رسول الله صلي الله عليه واله: الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلي الله من نفع عيال الناس وأدخل علي أهل بيت سروراً،(2) وقال صلي الله عليه وآله: خصلتان من الخير ليس فوقهما شيء من البر: الايمان بالله، والنفع لعباد الله.(3)

و سئل صلي الله عليه وآله من أحب الناس إلي الله؟ قال: أنفع الناس للناس. (4)

وقال الإمام الصادق عليه السلام: من كان وصولاً لإخوانه بشفاعة في دفع مغرم أوجر مغنم، ثبت الله قدميه يوم تزل فيه الأقدام. (5)

وقال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام: من قضي لأخيه

ص: 425


1- المائدة: 2
2- الكافي 2: 164/ ح6
3- تحف العقول: 35؛ بحار الانوار 74: 137/ ح 2
4- الكافي 2: 164/ ح 7
5- وسائل الشيعة 16: 342/ ح21715

حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضي الله له بها ألف حاجة إحداهن الجنة، ومن نفس عن أخيه كربة نفس الله عنه كرب الدنيا و كرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن سعي له في حاجته حتي قضاها فيسر بقضائها، كان إدخال السرور علي رسول الله صلي الله عليه وآله إلي أن يقول عليه السلام في آخر الحديث : والله لقضاء حاجته أحب إلي الله من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام. (1)

هذه الأحاديث تعطينا درساً أن الأديان غرضها سعادة المجتمع والتعاون علي متاعب الحياة، وهي أرفع قدراً من الأمور العبادية، حيث إن العبادة نفعها شخصي وهذه الأعمال تعم المجتمع، وتدلنا أيضاً علي التعاون الاختياري سواء كان الباعث قويا علي التعاون أم كان ضعيفاً، فالمعين علي قضاء حوائج الناس له عند الله منزلة رفيعة ودرجة سامية، وإن لم تكن الحاجة شديدة إلي المعاونة، فإذا كان الإنسان في ضيق من الأمر قد أحاطت به مفاجئة الحوادث بما يكربه ويضيق الخناق عليه، عند ذاك تكون المعاونة ألزم.

ولو فرضنا أن رجلاً استعان بآخر علي دفع مظلمة أو قضاء حاجة أو كشف غمة أو إزاحة مصيبة، وهو قادر علي أن يقوم بحقه ولم ينقذه مما هو فيه فقد تعرض لمقت الله، روي علي بن جعفر عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: من قصد إليه رجل من اخوانه مستجيرأً به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله.(2)

وإذا كان من حق المسلم أن تعينه لأنه أخوك في المعتقد والفكرة والخلق والمثل العليا، فمن حقه أيضاً أن تبذل له نصحك وتمنحه إخلاصك، وتفكر في انقاذه من ورطته، و تفكر أن لا تزل به القدم ولا يؤخذ علي غرة، فتذكره بما يصلح شأنه

ص: 426


1- وسائل الشيعة 16: 342 و 343/ ح21716؛ عوالي الكثالي 1: 355 و 356/ ح 24
2- الكافي 2: 366 و 367/ ح 4

وينفي المخاوف التي تعلمها أنت ويجهلها هو، وتدله علي الطريق الذي يأمن به العثار ويبتعد عن مسببات الكدر، فأنت مسؤل عن الشركة تدميه والعقرب تلسعه والضرر يحيق به، وإذا كنت علي سابق علم أو عندك في حوادث الأمور المباغتة اختبار ودراية، فمن الواجبات الاجتماعية أن تنصحه وتوضح له ما خفي عنه ليتقي المتاعب ويتجنب المخاوف ويبتعد عن الخطر.

جاء عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه.(1) وقال عليه السلام: يجب للمؤمن علي المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب. (2)

وقد مضت سنة الله تعالي بما عرف بالتجارب: أن نفع النصح له شرطان أو طرفان: هما الفاعل للنصح، والقابل له، وإنما يقبله المستعد للرشاد، ويرفضه من غلب عليه الغي والفساد بمفارقة أسبابه من الغرور بالغني والجاه والكبر.

قال رسول الله صلي الله عليه وآله :الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامته ».(3)

فالنصيحة الله الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته، ونصرة الحق فيه، ووصفه بأوصاف الكمال، وتنزيهه عن النقائص، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وغير ذلك مما يجب له، و جميع هذه الأشياء في الحقيقة ترجع مصلحتها إلي العبد، فهي نصيحة لنفسه و كسب خير لها.

والنصيحة للرسول صلي الله عليه وآله تصديقه فيما جاء به، واتباعه فيما أمر به ونهي عنه، وتعظيم حقه، وتوقيره حياً وميتاً، ومعرفة ستته والعمل بها، وإحياء طريقته

ص: 427


1- الكافي 2: 208/ ح5
2- الكافي 2: 208/ ح 2
3- روضة الواعظين: 424؛ بحار الانوار88: 199

في بث الدعوة و تأليف الكلمة والتخلق بالأخلاق الطاهرة.

والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم علي الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتذكيرهم بحوائج العباد، ونصحهم في رفق وعدل، وتنبيههم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهفوة، وتعليمهم ما جهلوا، وتحذيرهم ممن يريد بهم السوء، وإعلامهم بأخلاق عمالهم وسيرتهم في الرعية، وسد خلتهم عند الحاجة، ورة القلوب النافرة إليهم.

والمراد بأئمة المسلمين قادتهم في تنظيم شؤن الدنيا وفي إقامة معالم الدين ونشره بين الناس، فيشمل الملوك والأمراء والرؤساء والعلماء.

والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلي مصالحهم في دنياهم وأخراهم، و كف الأذي عنهم، وتعليمهم ما جهلوا، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة لصغيرهم، وتفريج كربهم، وتوقي ما يشغل خواطرهم ويفتح باب الوسواس عليهم.

وليكن أداء النصيحة بعبارة لينة رقيقة، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأسلوب يغري بالامتثال، وبطريقة تبعد عن ذهن المستنصح أن الناصح له هو أعلي منه، فذلك يكون أعمق أثراً وأقوي تركيزاً.

ويشترط في الناصح العفة، والحياء، والصدق، وسلامة الذات، وفوق ذلك كله الدين، لأنه إن كان عفيفاً يأنف من الغش حتي لعدوه، وإن كان من أهل الحياء يمنعه حياؤه من نسبة الغش إليه، وإن كان صدوقاً لا يكذب، العلمه أن الكذوب ممقوت لا يوصف بالخير، وإن كان سليم الذات لا يري النصح إلا لازما له لنقاوة نفسه وفطرته، والمتدين يري الواجب الديني المبالغة في النصح لكل فرد في أي عمل أو قول يقوم به، ومرآته (الدين النصيحة).

فمن كان موصوفاً بهذه الصفات ينبغي توجه القلب والسمع والبصر نحوه ليستفاد من نصحه ورشده، قال أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه: «إن

ص: 428

معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة.(1)

يقول الشاعر:

خصائص من تشاوره ثلاثة *** فخذ منها جميعاً بالوثيقة

وداد خالص ووفور عقل ***ومعرفة بحالك في الحقيقة

أما كونه ناصحاً: فلأن الناصح يصدق الفكر ويمحض الرأي، وغير الناصح ربما يشير بالرأي الفطير فيوقع بالمضرة.

وأما كونه شفيقاً: فلأن الشفقة تحمل علي النصح، فتحمل علي حسن التروي في الأمر وإيقاع الرأي عن ثبت واجتهاد، وفي أمثال العرب اسمع ممن لا يجد منك بداً يعني اقبل نصيحة من يطلب تفعك كالأبوين، ومن لا يستجلب بنصحك نفعاً إلي نفسه بل إلي نفسك، يقول الشاعر:

إذا ما عري خطب ورمت وروده*** فشاورز فكم تجح هدته المشاورة

وأنفع من شاورت من كان ناصحاً*** شفيقاً فأبصر بعده من تشاورة

وأما كونه عالماً: ففائدته إصابته، لعلمه وجه المصلحة في الأمر، فإن الجاهل في الأمر أعمي لا يبصر وجه المصلحة فيه. قال رسول الله صلي الله عليه وآله : استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندمواه.(2)

وأما كونه مجرباً: فلأنه لا يتم رأي العالم مالم تنضم إليه التجربة؛ وذلك أن العالم وإن علم وجه المصلحة في الأمر، إلا أن ذلك الأمر قد يشتمل علي بعض وجوه المفاسد، ولا يطلع عليها إلا بالتجربة مرة ومرة، فالنصيحة من دون تجربة مظلة الخطأ، وقد قيل في منشور الحكم: «كل شئ محتاج إلي العقل، والعقل محتاج إلي التجارب»، أو كما يقال: «إياك

ص: 429


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 204
2- الجامع الصغير للسيوطي 1: 149 ح 975

ومناصحة رجلين: شاب معجب بنفسه قليل التجارب في غيره، وكبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه»وكان لقمان الحكيم يقول لابنه: «يا بني استنصح من جرب الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء وتأخذه أنت بالمجان.(1)

وبالتالي يجب للمؤمن علي المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب.

نصيحة الصحابي سعد بن الربيع لرسول الله صلي الله عليه وآله:

ويحدثنا التاريخ عن رجال في الصدر الأول من الإسلام أنهم نصحوا الله ولرسوله وآله أحياءً وأمواتاً.

منهم سعد بن الربيع رضي الله عنه، قتل يوم أحد شهيداً بعد مافر المسلمون عن رسول الله صلي الله عليه واله ونادي إبليس في المعركة: قتل محمد، فقال سعد: لا خير في الحياة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله، ثم حمل علي المشركين وجعل يضرب بسيفه في وجوههم قدماً حتي سقط إلي الأرض، ولما تراجع المسلمون قال النبي صلي الله عليه وآله: من له علم بسعد بن الربيع، فإني رأيته وقد أشرعت إليه اثنا عشر رمح، فقال أبي بن كعب: أنا يا رسول الله، فأقبل أبي بن كعب وجعل يطوف بين القتلي فوجده وبه رمق، فناداه: يا سعد، فما أجابه فقال: يا سعد إن رسول الله صلي الله عليه وآله بعثني اليك لآتيه بخبرك فإنه يقول: رأيته وقد أشرعت إليه اثنا عشر رمح، قال: فانتعش سعد كما بنتعش الفرخ وقال: أهو حي؟ قلت: إي والله . قال: الحمد لله، إني طعنت اثنتي عشرة طعنة أنفذت مقاتلي، اقرأ رسول الله عني السلام وقل لقومي عتي: يقول سعد الله الله علي ما عاهدتم عليه رسول الله، فوالله ما لكم عند الله عذر إن خلص إلي نبيكم شيء وفيكم عين تطرف،

ص: 430


1- شرح نهج البلاغة 41:20

ثم مات رحمة الله، فجاء أبي إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فأخبره، فقال صلي الله عليه وآله: رحم الله سعداً لقد نصح لنا حياً و ميتاً. (1)

نصيحة عبد الله بن كعب لعلي عليه السلام :

ومنهم عبد الله بن كعب قتل يوم صفين، قال نصر بن مزاحم: جالت خيل لأهل الشام وأهل العراق بصفين فصرع عبد الله بن كعب، فمشي لمصرعه الأسود بن قيس، فرآه بآخر رمق فقال: عز علي - والله - مصرعك، أما والله لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك، ولو أعرف الذي قتلك لأحببت أن لا يزائلني حتي يلحقني بك أو أقضي عليه، ثم جلس عنده وقال: والله إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت من الذاكرين الله كثيراً، أوصني رحمك الله، فقال: يا أخي أوصيك بتقوي الله وأن تناصح الأمير المؤمنين وتقاتل معه المشركين حتي يظهر الحق أو تلحق بالله، واقرأ أمير المؤمنين علي السلام وقل له: يقول عبد الله فليقاتل علي المعركة حتي يجعلها خلف ظهره، فمن أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب، ثم مات رحمة الله عليه، فجاء الأسود بن قيس إلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه فأخبره فقال صلوات الله عليه: رحم الله عبد الله، لقد جاهد معنا عدونا في الحياة، ونصح لنا عند الممات.(2)

نصيحة ابن عوسجة للحسين عليه السلام :

ومنهم مسلم بن عوسجة رضي الله عنه صرع بين يدي الحسين عليه السلام بطف كربلاء. فمشي لمصرعه حبيب بن مظاهر، فوجده بآخر رمق من الحياة، فجلس عند رأسه وقال: عز علي - والله _ مصرعك، ولو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك، ولولم أعلم أني بالأثر لأحببت أن توصي إلي بجميع ما

ص: 431


1- الطبقات الكبري لابن سعد 3: 524
2- بحار الانوار 32: 519

أهمك، فقال مسلم: يا أخي أوصيك بهذا الغريب - وأشار بيده إلي الحسين عليه السلام _ قاتل دونه حتي تقتل، فقال حبيب: والله لأنعمنك عيناً، ثم مات رحمة الله. (1)

نصيحة العباس عليه السلام لأخيه الحسين عليه السلام :

ومنهم العباس بن علي عليه السلام، صرع بطف كربلاء بين يدي أخيه الحسين عليه السلام فقد كان مناصحاً لأخيه الحسين عليه السلام قولاً وفعلاً، أما قولاً: فمن ذلك قوله لأخوته: حاموا عن سيد كم وإمامكم الحسين، وقوله لهم: تقدموا يا بني أمي حتي أعلم أنكم قد نصحتم لله ولرسوله.(2)

وأما مناصحته الفعلية فأثرها ظاهر: قطعت يمينه وشماله وهو واقف في خطة الحرب، ثابت في ساحة القتال، لم يطلب لنفسه ملجأً ولا مأمناً، وقف من غير يذين يذب عن أخيه كأنه قطعة جبل صلد لا يتزعزع، حتي اغتاله بعضهم مستتراً من وراء نخلة ففضخ هامته بعمود من حديد، فخر صريعاً علي وجه الثري، فهذه من أعظم المناصحة وأجلها.

وقد مدح بهذه المناصحة وأثني عليه الأئمة المعصومون عليه السلام: قال الإمام الصادق عليه السلام في زيارته التي رواها ابن قولويه في كامل الزيارات: وأشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم ...(3) وقال عليه السلام في مقام آخر:

أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود.(4) وفي محل آخر منها:أشهد أنك قد نصحت الله ولرسوله ولأخيك (5) وفي محل آخر: «أشهد أنك قد

ص: 432


1- اللهوف لابن طاووس: 64
2- الإرشاد للمفيد 2: 109
3- كامل الزيارات: 440/ ح 671
4- كامل الزيارات: 441/ ح 671
5- المزار للشيخ المفيد: 124

بالغت في النصيحة وأديت الأمانة وجاهدت عدوك وعدو أخيك، فصلوات الله علي روحك الطيبة، وجزاك الله من أخ خيرأً ورحمة الله وبركاته.(1)

ولعل المراد بالأمانة من قوله: «وأديت الأمانة»أن الحسين عليه السلام من العترة التي هي أحد الثقلين اللذين أوصي رسول الله صلي الله عليه وآله أمته بالتمسك بهما وبحفظهما ورعاية حقهما وجعلهما أمانة عند الخيار من أمته، وأبو الفضل العباس عليه السلام في طليعة الأوفياء بتأدية هذه الأمانة وإيصالها لرسول الله صلي الله عليه وآله محترمة معظمة، بذل دون حفظها نفسه النفيسة، وجعل يتلقي السيوف بوجهه وصدره ونحره لئلا يصل إلي وديعة رسول الله شيء منها، أو لعل المراد بالأمانة البيعة للحسين عليه السلام، ولا شك أن البيعة أمانة عند المبايع، وأن التزامه بشرائطها تأدية لها، والقتل من أظهر مصاديق الوفاء وأجلي مظاهر التأدية للأمانة، ولهذا كان كل من أراد الشهادة من أصحاب الحسينعليه السلام يقف أمامه ويستأذنه للبراز ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، أوفيت يا ابن رسول الله؟ فيقول عليه السلام: نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ جدي وأبي وأمي عني السلام وقل لهم: تركت حسيناً وحيداً فريدً لا ناصر له ولا معين.

ويحتمل أيضاً أن يراد بالأمانة ما رواه بعض أرباب المقاتل من أن مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه عند موته أوصي ولده العباس بنصرة أخيه الحسين عليه السلام فكانت هذه الوصية أمانة من أبيه في عنقه، فقام بتأديتها وأسقط عنه فرض التكليف بها، فقد ذكر الحكة الشيخ عبد الحسين الحلي رضي الله عنه في كتابه النقد النزيه: «أن علياً صلوات الله عليه أوضني عند موته ولده العباس أنه إذا ملك الماء يوم عاشوراء لا يشرب منه وأخوه الحسين عليه السلام عطشان.

ص: 433


1- بحار الأنوار68 : 330

ص: 434

من كلام له عليه السلام لكميل بن زياد النخعي رضي الله عنه:

اشارة

*من كلام له عليه السلام لكميل بن زياد النخعي رضي الله عنه:(1)

في أصناف الناس وفضل العلماء وفيه يتعرض لذكر المهدي عليهالسلام

قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فأخرجني إلي الجبان، فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال:

(يا كُميلَ بن زيَاد انَّ هَذه القُلوبَ أَوعِيةٌ فَخَيرُهَا أَوعَاهَا فَاحفَظ عَنَّي مَا أقُولُ لَكَ النَّاسُ ثَلاثَهٌ فَعَالَمٌ رَبَّانيٌ وَ مَتعَلمٌ عَلي سَبيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعاعٌ أتبَاعٌ كُلِ نَاعِقٍ يَميلُونَ مَعَ كُل ريحٍ لَم يَستَضيئوا بِنورِ العِلمِ وَلَم يَلجَئوا إلَي رُكنٍ وَثيقٍ يَا كُمَيلِ العِلمُ خَيرٌ مِنَ المَالِ العِلمُ يَحرُسُكَ وأنتَ تَحرُسُ المَالَ وَالمَالَ تَنقُصُه النَّفَقَةً وَالعِلمُ يَزكُوا عَلي الإِنفاقِ وَصَنيعُ المَال يَزُولَ بِزَوَالِه).

(يا كُمَيلِ بن زِيَادٍ مَعرفَةُ العَلمِ دينٌ يَدانُ بِه بِه يَكسَبُ الإنسَانُ الطَاعَةَ فِي حَيَاتَه وَجَميلَ الأُحدوثَة بَعدَ وَفَاتَه وَالعِلمُ حَاكِمٌ وَالمَالٌ مَحكُومٌ عَليه ياكُميلُ هَلَكَ خُزَّانُ الأَموَالِ وَهُم أَحيَاءٌ وَالعُلماءُ بَاقُونَ مَا بَقَي الدَّهرُ أعيَانَهُم مَفقوُدةٌ وأمثَالُهُم فِي القُلوبُ مَوجودةٌ هَا انَّ ها هُنا لَعِلماً جَمّاً وَأَشَارَ بِيَده إلي صَدرِهِ لَو أَصبَت لَه حَمَلَةً بَلي أَصبَتُ لَقِناً غَيرَ مَأمونٍ عَليه مُستعمِلاً اله الِّدينَ لِلدُّنيَا وَمُستظهَراً بِنِعمَ اللهِ علَي عِبادَه وَبِحُجَجِهِ

ص: 435


1- كان كميل بن زياد من خاصة الإمام والصفوة من شيعته، ولما ولي الحجاج طلبه للقتل فهرب منه واختفي، فما كان من الحجاج إلا أن منع العطاء عن قومه. ولما علم كميل بذلك قال: أنا شيخ كبير، وقد نفد عمري، ولا ينبغي أن أكون سبباً لحرمان قومي من أقواتهم، وسلم نفسه للحجاج، فلما رآه قال له: كنت أحب أن أجد عليك سبيلاً، فقال كميل: لا تصرف علي أنيابك كالبعير، فاقض ما أنت قاض، فالموعد الله، وبعد القتل حساب و جزاء، فقال الحجاج لجلاوزته: اضربوا عنقه، فضربت...

عَلَي أوليَائَه أَو مُنقَادَاً لِحَملَة الحَقَ لا بَصيَرةَ لَه فِي أَحنائَه يَنقَدحُ الشَّكُّ فِي قَلبه لأوَّلِ عَارضٍ مِن شُبهَة ألا لا ذا وَلا ذَاكَ أَو مَنهوُماً بِاللَّذَّة سَلَسَ القَيادَ للشَّهوَةِ أَو مُغرماً بالجَمعِ وَالادَّخَار لَيسَا مِن رُعاةِ الّدينِ فِي شَيء أَقرَبُ شَي، شَبَها بِهِمَا الانعَامُ السَّائمةُ كَذلكَ يَموتُ العِلمُ بِمَوتِ حَامليه اللهم بَلي لَا تَخلُو الأرضُ مِن قائِمٍ لله بِحُجَة امَّا ظَاهِراً مَشهوراً وَامَّا خَائفاً مَغمُوراً لئلَا تَبطُل حُجَجُ الله وَبَينَاتُهُ وَكَم ذَا وَأينَ اولئكَ أولنك وَالله الأَقَلونَ عَدداً والأعظَمُون عِندَ الله قَدراً يَحفَظُ اللهُ بِهِم حُجَجَه وَبَيِناتِه حتَّي يُودعوهَا نَظَرَاءهُم وَيَزرَعُوهَا فِي قُلوبَ أَشبَاهِهِم هَجَم بِهِمُ العِلمُ عَلَي حَقيقَةَ البَصيرَةِ وبَاشَرُوا رُوحَ اليَقينَ وَاستَلَانُوا مَا استَوعَرَهُ المُتَرَفونَ وَأنسُوا بِما استَوحَشَ مِنهُ الجَاهَلوُنَ وَصَحِبُوا الدُّنيَا بِأَبدَانٍ أَروَاحُهَا مُعَلَقَةٌ بِالمَحَلِ الَأعلي أولئكَ خُلَفَاءُ الله فِي أَرضِه وَالدُّعَاةُ إلي دِيِنهِ آهِ آهِ شَوقاً إلي رُؤيَتِهِم انصَرِف يا كُمَيلُ إذا شِئتَ).

ابن ابي الحديد مج 4 من شرح النهج، ص 310، ط الأولي بمصر.

الشرح: أصناف الناس

قال ابن أبي الحديد: الجبان والجبانة: الصحراء، وتنفس الصعداء أي تنفس تنفساً ممدوداً طويلاً. قوله عليه السلام: «ثلاثة»قسمة صحيحة، وذلك لأن البشر باعتبار الأمور الإلهية إما عالم علي الحقيقة يعرف الله تعالي، وإما شارع في ذلك، فهو بعد في السفر إلي الله يطلبه بالتعلم والاستفادة من العالم، وأما لأذا ولا ذاك، وهو العامي الساقط الذي لا يعبأ الله به. وصدق عليه السلام في أنهم همج رعاع أتباع كل ناعق. ألا تراهم ينتقلون من تقليد شخص إلي تقليد الآخر لأدني خيال وأضعف وهم.

المقارنة بين العلم والمال:

ثم شرع عليه السلام في ذكر العلم وتفضيله علي المال، فقال: «العلم يحرسك وأنت تحرس المال، وهذا أحد وجوه التفضيل، ثم ابتدأ فذكر وجهاً ثانية، فقال: المال ينقص

ص: 436

بالانفاق منه، والعلم لا ينقص بالانفاق بل يزكو، وذلك لأن إفاضة العلم علي التلامذة تفيد المعلم زيادة استعداد، وتقرر في نفسه تلك العلوم التي أفاضها علي تلامذته وتثبتها وتزيدها رسوخاً. فأما قوله «وصنيع المال يزول بزواله»فتحته سر دقيق حكمي، وذلك لأن المال إنما يظهر أثره ونفعه في الأمور الجسمانية والملاذ الشهوانية، كالنساء والخيل والأبنية والمأكل والمشرب والملابس ونحو ذلك، وهذه الآثار كلها تزول بزوال المال أو بزوال رب المال، ألا تري أنه إذا زال المال اضطر صاحبه إلي بيع الأبنية والخيل والإماء ورفض تلك العادة من المأكل الشهية والملابس البهية، وكذلك إذا زال رب المال بالموت فإنه يزول آثار المال عنده، فإنه لا يبقي بعد الموت آكلاً شارباً لابساً، وأما آثار العلم فلا يمكن أن تزول أبداً والانسان في الدنيا، ولا تزول بعد خروجه عن الدنيا.

أما في الدنيا فلأن العالم بالله تعالي لا يعود جاهلاً به، لأن انتفاء العلوم البديهية عن الذهن وما يلزمها من اللوازم بعد حصولها محال، فإذاً قد صدق قوله عليه السلام في الفرق بين المال والعلم أن صنيع المال يزول بزواله، أي وصنيع العلم لا يزول، ولا يحتاج إلي أن يقول بزواله، لأن تقدير الكلام: وصنيع المال يزول لأن المال يزول. وأما بعد خروج الإنسان من الدنيا فإن صنيع العلم لا يزول، وذلك أن صنيع العلم في النفس الناطقة اللذة العقلية الدائمة الدوام سببها، وهو حصول العلم في جوهر النفس الذي هو معشوق النفس، مع انتفاء ما يشغلها عن التمتع به والتلذذ بمصاحبته، والذي كان يشغلها عنه في الدنيا استغراقها في تدبير البدن وما تورده عليها الحواسمن الأمور الخارجية.

ولا ريب أن العاشق إذا خلا بمعشوقه وانتفت عنه أسباب الكدر كان في لذة عظيمة، فهذا هو سر قوله «وصنيع المال يزول بزواله»، فإن قلت: ما معني قوله عليه السلام: «معرفة العلم دين دان به، وهل هذا إلا بمنزلة قولك «معرفة العلم المعرفة»أو «العلم العلم»وهذا كلام مضطرب، قلت: تقديره: معرفة

ص: 437

فضل العلم أو شرف العلم أو وجوب العلم دين دان به، أي المعرفة بذلك من أمر الدين، أي ركن من أركان الدين واجب مفروض.

ثم شرح عليه السلام حال العلم الذي ذكر أن معرفة وجوبه أو شرفه دين دان به، فقال: «العلم يكسب الإنسان الطاعة في حياته، أي من كان عالماً كان الله تعالي مطيعاً، كما قال سبحانه:

(إنَّمَا يَخشَي اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَماءُ) (1) ثم قال عليه السلام: «وجميل الأحدوثة بعد وفاته»أي الذكر الجميل بعد موته، ثم شرع في تفضيل العلم علي المال من وجه آخر فقال:العلم حاكم والمال محكوم عليه، وذلك أنك لعلمك أن مصلحتك في إنفاق هذا المال تنفقه، ولعلمك بأن المصلحة في إمساكه تمسكه، فالعلم بالمصلحة داع وبالمضرة صارف، وهما الأمران الحاكمان بالحركات والتصرفات إقداماً وإحجاماً، ولا يكون القادر قادراً مختاراً إلا باعتبارهما، وليسا إلا عبارة عن العلم أو ما يجري مجري العلم من الاعتقاد والظن، فإذن قد بان وظهر أن العلم من حيث هو علم حاكم وأن المال ليس بحاكم بل محكوم عليه.

ثم قال عليه السلام: «هلك خزان المال وهم أحياء»وذلك لأن المال المخزون لا فرق بينه وبين الصخرة المدفونة تحت الأرض، فخازنه هالك لا محالة، لأنه لم يلتذ بإنفاقه، ولم يصرفه في الوجوه التي ندب الله تعالي إليها، وهذا هو الهلاك المعنوي، وهو أعظم من الهلاك الحسي، ثم قال:

والعلماء باقون ما بقي الدهر هذا الكلام له ظاهر و باطن، فظاهره قوله: أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة»حقيقة لا مجازاً علي قول من قال بقاء الأنفس، و أمثالهم في القلوب كناية ولغز، ومعناه ذراتهم في حظيرة القدس، والمشاركة بينها وبين القلوب ظاهرة؛ لأن الأمر العام الذي يشملها هو الشرف، فكما أن تلك أشرف عالمها كذا القلب أشرف عالمه، فاستعير لفظ أحدهما وعبر به عن الآخر.

ص: 438


1- فاطر: 28

قوله عليه السلام: ها إن ههنا لعلماً جماً، وأشار بيده إلي صدره هذا عندي إشارة إلي العرفان والوصول إلي المقام الأشرف الذي لا يصل إليه إلا الواحد الفد من العالم، من الله تعالي فيه سر وله به اتصال، ثم قال: «لو أصبت له حملة»ومن الذي يطيق حمله؟ بل من الذي يطيق فهمه فضلاً عن حمله؟ ثم قال: بلي أصيب ثم قم الذي يصيبهم خمسة أقسام: أحدهم: أهل الرياء والسمعة الذين يظهرون الدين والعلم ومقصودهم الدنيا، فيجعلون الناموس الديني شبكة لاقتناص الدنيا. وثانيها: قوم من أهل الخير والصلاح ليسوا بذوي بصيرة في الأمور الإلهية الغامضة، فيخاف من إفشاء السر إليهم أن تتقدح في قلوبهم شبهة بأدني خاطر، فإن مقام المعرفة مقام خطر صعب لا يثبت تحته إلا الأفراد من الرجال الذين أيدوا بالتوفيق والعصمة، وثالثها رجل صاحب لذات و طرف، مشتهر بقضاء الشهوة، فليس من رجال هذا الباب، ورابعها رجل مغرم بجميع المال وادخاره، لا ينفقه في شهواته ولا في غير شهواته، فحكمه حكم القسم الثالث. ثم قال عليه السلام: «كذلك يموت العلم بموت حامليه»أي إذا مت مات العلم الذي في صدري لأني لم أجد أحدا أدفعه إليه وأورثه إياه.

إشارة إلي الإمام المهدي :

ثم استدرك فقال: «اللهم بلي لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، كيلا يخلو الزمان ممن هو مهيمن الله تعالي علي عباده ومسيطر عليهم .

وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإمامية، إلا أن أصحابنا يحملونه علي أن المراد به الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم أنهم في الأرض سائحون. فمنهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، وأنهم لا يموتون حتي يودعوا السر - وهو العرفان - عند قوم آخرين يقومون مقامهم، ثم استنزر عددهم فقال: «وكم ذاه أي كم ذا القبيل وكم ذا الفريق، ثم قال: وأين اولئك؟ استبهم مكانهم ومحلهم، ثم قال: «هم الأقلون عدداً، الأعظمون قدراً، ثم ذكر أن العلم هجم بهم علي حقيقة الأمر، وانكشف لهم المستور المغطي، وباشروا راحة اليقين وبرد القلب وثلج العلم، واستلانوا ماشق علي

ص: 439

المترفين من الناس ووعر عليهم نحو التوحد ورفض الشهوات وخشونة المعيشة، قال: وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون.

يعني العزلة ومجانبة الناس وطول الصمت وملازمة الخلوة ونحو ذلك مما هو شعار القوم.

قال: «وصحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الأعلي، هذا ما يقوله أصحاب الحكمة من تعلق النفوس المجردة بمبادئها من العقول المفارقة، فمن كان أز كي كان تعلقه بها أتم. ثم قال: «أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلي دينه»لا شبهة أن بالوصول يستحق الإنسان أن يسمي خليفة الله في أرضه، وهو المعني بقوله سبحانه للملائكة:(إِنَّي جَاعِل فِي الأُرضِ خَليِفَةً )(1) وبقوله:(هُوَ الَّذي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأُرضِ)(2) ثم قال عليه السلام: آه آه شوقا إلي رؤيتهم. وهو عليه السلام أحق الناس أن يشتاق إلي رؤيتهم؛ لأن الجنسية علة الضم، والشيء يشتاق إلي ما هو من سنخه وسوسته وطبيعته، ولما كان هو عليه السلام شيخ العارفين وسيدهم، لا جرم اشتاقت نفسه الشريفة إلي مشاهدة أبناء جنسه، وان كان كل واحد من الناس دون طبقته. ثم قال لكميل: «انصرف إذا شئت»، وهذه الكلمة من محاسن الآداب ومن لطائف الكلم؛ لأنه لم يقتصر علي أن قال: انصرف، كيلا يكون أمراً وحكماً بالانصراف لا محالة، فيكون فيه نوع علو عليه، فأتبع ذلك بقوله: إذا شئته ليخرجه من الحكم وقهر الأمر إلي عزة المشيئة والاختيار.(3)

انتهي الكتاب والحمد لله والشكر له في اليوم الحادي عشر من شهر صفر سنة 1410 ه

(لو كان الابتداء به سنة 1396 ه)

بقلم مؤلفه حسن علي القبانجي النجفي في النجف الأشرف

ص: 440


1- لبقرة: 30
2- الأنعام: 165.
3- شرح نهج البلأغة 18: 347 - 352

مصادر التأليف والتحقيق

القرآن الكريم

نهج البلاغة: السيد الشريف الرضي

الف)

الأمالي: الشيخ الصدوق / مؤسسة البعثة / قم / الأولي 1417ه

الأمالي: الشيخ المفيد/ جماعة المدرسين / قم.

الأمالي: الشيخ الطوسي / دار الثقافة / قم / الأولي 1414ه

الأمالي: السيد المرتضي / مكتبة آية الله المرعشي النجفي / قم / 1403ه

إسعاف الراغبين: محمد بن الصبان المصري

إقبال الأعمال: السيد ابن طاووس / مكتب الإعلام الإسلامي / قم / الأولي 1414ه

الإرشاد: الشيخ المفيد / مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث / دار المفيد.

الإحتجاج: الشيخ الطبرسي /ط: النعمان / النجف الأشرف/1386ه

إرشاد القلوب: الحسن بن أبي الحسن الديلمي.

إحياء علوم الدين: الشيخ الغزالي .

الإختصاص: الشيخ المفيد /جماعة المدرسين /قم.

أسد الغابة: ابن الأثير.

إعلام الوري: الطبرسي / مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم / الأولي 1417ه

الأنوار النعمانية: المحدث الجزائري.

الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري / الأولي / ايران / 1413ه

ص: 441

إثبات الوصية: علي بن الحسين المسعودي / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف.

الأنساب: أبو سعد عبد الكريم السمعاني.

أعلام النساء: رضا كحالة.

الإصابة في معرفة الصحابة: ابن حجر العسقلاني / دار الكتب العلمية بيروت /الأولي 1415ه

أنوار التنزيل: البيضاوي.

إفحام الأعداء والخصوم: السيد ناصر حسين الموسوي الهندي.

إبطال الباطل: الفضل ابن روزبهان.

الإكتفاء في فضل الأربعة الخلفاء: إبراهيم اليمني الوصابي.

أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي / ط 1.

الإستيعاب في معرفة الأصحاب: ابن عبد البر / دار إحياء التراث العربي.

الإمام علي علييه السلام صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق.

الإمام علي عليه السلام أسد الإسلام وقديسه: رو كس بن زائدة العزيزي.

الإمام علي عليه السلام نبراس ومتراس: سليمان كتاني.

(ب)

بصائر الدرجات: محمد بن الحسن الصفار / الأعلمي / طهران / 1404ه

بحار الأنوار: المجلسي / مؤسسة الوفاء / لبنان/ الطبعة الثانية / 1403ه

بلاغات النساء: أبو الفضل بن أبي طاهر ابن طيوفور.

البداية والنهاية: ابن كثير الدمشقي / دار إحياء التراث العربي / الأولي / 1408ه

(ت)

تذكرة الموضوعات: محمد طاهر بن علي الهندي الفتني.

تفسير القرطبي: محمد بن أحمد القرطبي / دار إحياء التراث العربي / بيروت / 1405ه

تفسير البيضاوي: عبد الله بن عمر الفارسي الشافعي البيضاوي.

ص: 442

التحصين: السيد ابن طاووس / مؤسسة الثقلين لإحياء التراث / قم /1413ه

تفسير الدر المنثور: عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي.

تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضي الحسيني الواسطي الزبيدي

تاريخ الخلفاء: عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي.

تفسير شفاء الصدور: ابو بكر النقاش الموصلي

تفسير ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي / دار المعرفة / بيروت/1412ه

تفسير الصافي: المولي محسن (الفيض الكاشاني) الصافي / مكتبة الصدر / طهران / الثانية / 1416ه

تاريخ بغداد: أحمد بن علي الخطيب البغدادي / دار الكتب العلمية / بيروت / 1417ه

تفسير الطبري: محمد بن جرير الطبري / دار الفكر / بيروت / 1415ه

تنبيه الخواطر: ابن ورام.

تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي / ط نجف.

تفسير الكشاف: محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري.

تفسير التبيان: الشيخ الطوسي / داء إحياء التراث العربي.

التفسير الكبير: الفخر الرازي.

تفسير البرهان: السيد هاشم البحراني.

تاريخ دمشق: علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ابن عساكر / دار الفكر بيروت 1415ه

التوحيد: الشيخ الصدوق / جماعة المدرسين / قم / 1398ه

تفسير نور الثقلين: عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي / مؤسسة إسماعيليان / قم 1412ه

تفسير العياشي: محمد بن مسعود العياشي / المكتبة العلمية / طهران.

ص: 443

تحف العقول: الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني / مؤسسة النشر الإسلامي / قم / 1404ه

تفسير النيسابوري: مطبوع علي هامش تفسير الطبري.

تفسير مجمع البيان: الفضل بن الحسن الطبرسي / مؤسسة الأعلمي / بيروت 1415ه

تفسير فرات: فرات الكوفي / الطبعة الأولي / طهران / 1410ه

تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر اليعقوبي / دار صدار / بيروت.

تذكرة الخواص: السبط ابن الجوزي.

التكامل في الإسلام: أحمد أمين الكاظمي.

تفسير الثعالبي: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي المالكي / دار إحياء التراث العربي / بيروت الطبعة الأولي / 1418ه

الترغيب والترهيب: عبد العظيم المنذري الشافعي.

(ث)

الثاقب في المناقب: محمد بن علي (ابن حمزة) الطوسي / مؤسسة انصاريان / قم الأولي 1411ه

ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق.

(ج)

جامع السعادات: محمد مهدي النراقي.

الجمع بين الصحاح الستة: رزين بن معاوية بن عمار العبدري.

الجامع الصغير: عبد الرحمن أبي بكر جلال الدين السيوطي / دار الفكر / بيروت.

الجمل: الشيخ المفيد / مكتبة الداوري / قم

الجواهر السنية: محمد بن الحسن بن علي بن الحسين الحر العاملي / مكتبة المفيد/قم.

ص: 444

جامع المقاصد: علي بن الحسين المحقق الكركي / مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم / الأولي / 1408ه

جواهر الكلام: محمد حسن النجفي / دار الكتب الإسلامية / طهران.

جنة المأوي: محمد حسين كاشف الغطاء

(ح)

الحكمة والحكماء: المؤلف رحمه الله / مخطوط.

حياة الحيوان: الدميري الشافعي.

حلية الأولياء: أبو نعيم الأصفهاني.

(خ)

خطيب العلماء: السيد صدر الدين القبانجي.

الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي / مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام / قم

الخصال: الشيخ الصدوق / جماعة المدرسين / قم / 1403ه

(د)

دائرة المعارف البستانية.

الدرة النجفية: عبد الصمد التبريزي.

الدعوات: قطب الدين الراوندي / مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام / قم

درر السمطين: محمد بن يوسف الزرندي الحنفي.

دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي / دار المعارف / مصر / 1383ه

دين و تمدن: محمد علي الحوماني.

دراسات في نهج البلاغة: محمد مهدي شمس الدين / دار الزهراء - بيروت / 1392ه

(ذ)

ذخائر العقبي: محب الدين عبدالله الطبري/ مكتبة المقدسي/ القاهره/ 1356 ه

ص: 445

الذريعة إلي تصانيف الشيعة: آغا بزرك الطهراني / دار الأضواء / بيروت / 1403ه

(ر)

روضة الواعظين: محمد بن الفتال النيسابوري / منشورات الرضي اقم.

الرياض النظرة: محب الدين الطبري.

(س)

سنن ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني / دار الفكر / بيروت.

سنن الكبري: أحمد بن الحسين بن علي البيهقي / دار الفكر / بيروت.

السقيفة وفدك: أحمد بن عبد العزيز الجوهري / شركة الكتبي للطباعة والنشر /بيروت/ 1413ه

سنن الترمذي: محمد بن عيسي الترمذي / دار الفكر / بيروت.

السنن الكبري: أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي / دار الفكر / بيروت.

(ش)

شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي / ط: مكتبة المرعشي النجفي / قم

شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي / ط الأولي / مصر.

شجرة الطوبي: محمد مهدي الحائري / المكتبة الحيدرية / النجف / 1385ه

شرح أصول الكافي: محمد صالح المازندراني.

شرح نهج البلاغة: السيد كاظم القزويني

شرح إحقاق الحق: المرعشي النجفي | مكتبة المرعشي النجفي / قم.

الشاهنامة: الحسن بن محمد الطوسي الفردوسي / ط: مصر.

الشيعة والحاكمون: محمد جواد مغنية .

شرح مائة كلمة: ابن ميثم البحراني / جماعة المدرسين / قم.

شرح الأخبار: القاضي النعماني المغربي / مؤسسة النشر الإسلامي / قم.

الشجرة المباركة: الشيخ علي اليزدي.

ص: 446

(ص)

صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري / دار الفكر بيروت/ 1401ه

صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج النيسابوري / دار الفكر / بيروت.

صفات الشيعة: الشيخ الصدوق.

الصناعتين: أبو هلال العسكري.

الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي البياضي / المكتبة المرتضوية / الأولي / 1384ه

الصواعق المحرقة في الرد علي أهل البدع والزندقة: ابن حجر العسقلاني.

الصحاح: إسماعيل بن حماد الجوهري / دار العلم للملايين / بيروت / 1407ه

(ض)

ضبط نص نهج البلاغة: صبحي الصالح.

(ط)

طب الأئمة: عبد الله بن سابور الزيات المكتبة الحيدرية / النجف / 1385ه

(ع)

عوالي اللتالي: ابن أبي جمهور الاحسائي / الطبعة الأولي / 1403ه/ قم.

علل الشرائع: الشيخ الصدوق / المكتبة الحيدرية النجف / 1385ه

العدد القوية: علي بن يوسف الحلي / مكتبة المرعشي النجفي / قم / الأولي / 1408ه

عدة الداعي ونجاح الساعي: أحمد بن فهد الحلي / مكتبة الوجداني / قم.

عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق / مؤسسة الأعلمي / بيروت / 1404ه

عبقرية الإمام علي عليه السلام: عباس محمود العقاد.

عيون المعجزات: حسين بن عبد الوهاب / المطبعة الحيدرية / النجف / 1369ه

علي والقرآن: محمد جواد مغنية

ص: 447

العمدة: يحيي بن الحسن الأسدي الحلي ابن البطريق / مؤسسة النشر الإسلامي / قم / 1407ه

علي والأسس التربوية: المؤلف رحمه الله

عقد الدرر: يوسف ابن يحيي المقدسي الشافعي | مكتبة عالم الفكر/ القاهرة الأولي 1399ه

العهود المحمدية: عبد الوهاب الشعراني / شركة المصطفي البابي / مصر/1393ه

العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي.

(غ)

غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام: السيد هاشم البحراني / تحقيق السيد علي عاشور.

غريب القرآن: الحافظ أبو عبيد الهراتي

الغيبة: الشيخ الطوسي / مؤسسة المعارف الإسلامية / قم / الأولي / 1411ه

الغدير: الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني / دار الكتاب العربي / بيروت الرابعة 1397ه

(ف)

فضل الكوفة: الشريف العلوي.

الفصول المختارة: الشيخ المفيد / دار المفيد/ بيروت / 1414ه

الفتوحات المكية: ابن عربي.

فقه الرضا: المنسوب إلي الإمام الرضا عليه السلام / مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم/ الأولي / 1406ه

فرائد السمطين: شيخ الإسلام الحمويني.

فتح القدير: محمد بن علي بن محمد الشوكاني / عالم الكتب.

فلاح السائل: السيد ابن طاووس.

ص: 448

فيض القدير: محمد عبد الرؤوف المناوي / دار الكتب العلمية / بيروت الأولي 1415 ه

الفصول المهمة: محمد بن الحسن الحر العاملي / مؤسسة المعارف الإسلامية / قم / 1418ه

الفرج بعد الشدة: الحسن بن أبي القاسم القاضي التنوخي / منشورات الشريف الرضي / قم / 1364ه

(ق)

قصص الأنبياء: قطب الدين الراوندي / الهادي / قم / 1418ه

قضاء الحوائج: ابن أبي الدنيا.

القاموس المحيط: محمد بن يعقوب الفيروز آبادي.

(ك)

كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق / مؤسسة النشر الإسلامي / قم / 1405ه

كشف الخفاء: إسماعيل بن محمد العجلوني / دار الكتب العلمية بيروت الثالثة/1408ه

كتاب سليم بن قيس الهلالي / تحقيق: محمد باقر الأنصاري.

كنز العمال: المتقي الهندي / مؤسسة الرسالة / بيروت/ 1409ه

الكامل: عبد الله بن عدي / دار الفكر بيروت / الثالثة / 1409 ه

كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: العلامة الحلي / الطبعة الأولي/ طهران/ 1411 ه

كشف الغمة: علي بن عيسي بن أبي الفتح الأربلي / دار الأضواء / بيروت.

كفاية الطالب: الكنجي الشافعي

كفاية الأثر: علي بن محمد الخزاز القمي/ انتشارات بيدار / قم / 1401ه

الكامل في التاريخ: ابن الأثير.

ص: 449

الكشف والبيان: أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري.

كشف الحق: العلامة الحلي /ط بغداد.

الكشكول في ما جري لآل الرسول: ابن المطهر الحلي.

الكافي: محمد بن يعقوب الكليني / دار الكتب الإسلامية / طهران/ الطبعة الثالثة / 1388ه

كامل الزيارات: جعفر بن محمد بن قولويه / مؤسسة النشر الإسلامي / 1417ه

الكنة والألقاب: المحدث الشيخ عباس القمي.

(ل)

اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء عليها السلام : محمد علي بن أحمد القراچه داغي التبريزي / دار فاطمة عليها السلام للتحقيق / 1408ه

اللهوف في قتلي الطفوف: السيد ابن طاووس / أنوار الهدي / قم

لسان العرب: جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور / نشر أدب الحوزة / قم / 1405 ه

(م)

المحتضر: حسن بن سليمان الحلي / المطبعة الحيدرية / النجف / 1370ه

مسند أحمد: أحمد بن حنبل / دار صادر / بيروت.

المستدرك علي الصحيحين: أبي عبد الله الحاكم النيسابوري / دار المعرفة / بيروت.

معجم البلدان: ياقوت بن عبد الله الحموي / دار إحياء التراث العربي / بيروت/ 1399ه

المنتظم: عبد الرحمن بن علي الجوزي.

مستدرك الوسائل: الشيخ الميرزا حسين النوري الطبرسي / مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث / قم 1408ه

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: علي بن أبي بكر الهيثمي / دار الكتب العلمية بيروت/1408ه

مطابقات الإختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية: أحمد الصديق الغماري.

ص: 450

المغازي: محمد بن إسحاق الواقدي.

المحير: محمد بن حبيب البغدادي.

المصنف: محمد ابن أبي شيبة الكوفي / دار الفكر بيروت / 1409 ه

معاني الأخبار: الشيخ الصدوق / مؤسسة النشر الإسلامي / جماعة المدرسين قم/1361ه. ش.

مصباح الشريعة: الإمام جعفر الصادق عليه السلام/ مؤسسة الأعلمي / بيروت/ 1400 ه

من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق / جماعة المدرسين / قم / الطبعة الثانية.

المعجم الكبير: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني / الطبعة الثانية / تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي.

المعجم الأوسط: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني / دار الحرمين / 1415ه

مشارق الأنوار: الشيخ حسن العدوي الحمزاوي.

مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني / مؤسسة المعارف الإسلامية / قم / الأولي / 1413ه

المكاسب: الشيخ الأنصاري / مجمع الفكر الإسلامي / قم / 1420ه

مجمع البحرين: الشيخ فخر الدين الطريحي.

مودة القربي: السيد أحمد الهمداني.

المناقب: الخطيب الخوارزمي

المحاسن والمساوي: أحمد بن الحسين البيهقي.

مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصفهاني / مؤسسة دار الكتاب / قم / منشورات المكتبة الحيدرية / النجف 1385ه

معارج الأصول: جعفر بن الحسن الهذلي (المحقق الحلي) / مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم /1403ه

مسند الإمام علي عليه السلام: المؤلف رحمه الله.

ص: 451

مروج الذهب: علي بن الحسين المسعودي.

مقتل الحسين عليه السلام: الخوارزمين

ملامح من عبقرية الإمام: د. مهدي محبوبة.

مصادر نهج البلاغة: السيد ابن زهرة الحسيني.

مشارق أنوار اليقين: الشيخ البرسي الحلي.

المزار: الشيخ المفيد / تحقيق: السيد الأبطحي.

منهاج البراعة: الميرزا حبيب الله الخوئي.

مستدرك نهج البلاغة: الشيخ هادي كاشف الغطاء.

ما هو نهج البلاغة: هبة الدين الشهرستاني .

مكارم الأخلاق: الشيخ الحسن بن الفضل الطبرسي / الطبعة السادسة / 1392ه

المسترشد في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : محمد بن جرير الطبري (الشيعي) / مؤسسة الثقافة الإسلامية / قم / الطبعة الأولي المحققة.

منهاج الكرامة: العلامة الحلي.

مناقب آل أبي طالب: محمد بن علي بن شهر آشوب / المطبعة الحيدرية النجف / 1376ه

المحاسن: أحمد بن محمد البرقي / دار الكتب الإسلامية.

مشكاة الأنوار: أبو الفضل علي الطبرسي / دار الحديث / قم / الأولي.

مجلة تراثنا: العدد 34 مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم.

المصنف: عبد الرزاق الصنعاني.

مصباح المتهجد: الشيخ الطوسي / مؤسسة فقه الشيعة / بيروت / 1411ه

الموطأ :مالك بن أنس / دار إحياء التراث العربي / بيروت / 1406ه

منية المريد: الشيخ زين الدين بن علي العاملي الشهيد الثاني) / تحقيق: رضا المختاري.

ص: 452

(ن)

نزهة المجالس: الصفوري.

النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي / تحقيق السيد علي عاشور.

النص والاجتهاد: السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي.

نظرة في شرح نهج البلاغة: محمد حسن القبيسي العاملي.

نظم درر السمطين: محمد بن يوسف الزرندي الحنفي / مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام العامة / ط: الأولي / 1377 ه

النهاية في غريب الحديث والأثر: إبن الأثير الجزري / دار الكتب العلمية بيروت الأولي / 1418ه

(و)

وسائل الشيعة: محمد بن الحسن الحر العاملي / مؤسسة آل البيت لإحياء التراث / قم / 1414ه

وفيات الأعيان: إبن خلكان.

(ه)

الهداية الكبري: الحسين بن حمدان الخصيبي / مؤسسة البلاغة بيروت/ الرابعة / 1411ه

(ي)

ينابيع المودة لذوي القربي: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي / ط الأولي المحققة / قم / 1416ه

ص: 453

ص: 454

فهرست الموضوعات

من كلام له علي: في تمامية الرسالة والتحذير من النار...3

ضبط الالفاظ الغريبة ...3

الشرح...3

قصة أبي صمصام العبسي مع رسول الله صلي الله عليه وآله...7

الكلمات التامات...12

سؤال اليهود لعمر بن الخطاب ...13

أهل البيت عليهم السلام باب الحكمة...14

قضاء علي عليه السلام، بين النبي صلي اتلله عليه وآله وأعرابي ... 15

من خطبة له عليه السلام: في بيان فضله عليه السلام ووفاة النبي صلي الله عليه وآله...21

ضبط الألفاظ الغريبة...21

الشرح ...22

خمس فضائل لعلي عليه السلام ...22

أولها: عدم الرد علي النبي صلي الله عليه وآله والتسليم له ...22

رد عمر علي رسول الله صلي الله عليه وآله ...24

الثانية: المواساة النبي صلي الله عليه وآله...25

منها غزوة بدر...27

منها غزوة أحد ...27

منها: وقعة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق ...27

ص: 455

منها: غزوة وادي الرمل ...30

منها غزوة الحديبية...30

منها غزوة الخيير...31

منها فتح مكة ...32

منها غزوة حنين ...32

الثالثة: النبي صلي الله عليه وآله في مرض الموت ...33

وفاة النبي صلي الله عليه وآله ...35

الرابعة:قبض روح صلي الله عليه وآله...40

سبعون منقبة لعلي عليه السلام...41

من كتاب له عليه السلام إلي معاوية جواباً:

يذكر فيه مثالب معاوية ومناقب أهل البيت علهم السلام ...53

الشرح...54

علي أخو الرسول ...54

آيات في حق علي عليه السلام...55

علي عليه السلام هو الشاهد...57

علي عليه السلام والوليد...58

اقتران اسم علي عليه السلام باسم رسول الله صلي الله عليه وآله...60

تصدق علي عليه السلام بالخاتم ...61

مفاخرة علي عليه السلام و العباس وثيبة...63

علي عليه السلام وشيعته خير البرية ...64

سأل سائل بعذاب واقع ...65

خطبته عليه السلام المعروفة بخطبة اللؤلؤة:

فيها يتعرض لحوادث المستقبل ويذكر فيها الإمام المهدي عليه السلام ...69

ص: 456

ضبط الالفاظ الغريبة ...70

الشرح...70

جرائم بني العباس...71

المنصور والعلويون...73

الإمام جعفر الصادق عليه السلام والمنصور ...76

كلمات تكفي الإمام الصادق عليه السلام شر المنصور ...77

جرائم المهدي بن المنصور...78

قصة عيسي بن زيد...79

المهدي ويعقوب بن داود بن طهمان...81

الهادي العباسي ...85

هارون الرشيد...86

ستون شهيداً...87

الأسطوانات ...88

يحيي والرشيد....89

شيوخ السوء ...89

الإمام الكاظم عليه السلام والرشيد...90

الإمام الرضا عليه السلام والرشيد...92

الأمين ...92

المأمون ...93

الإمام الرضا عليه السلام والمأمون...94

المتوكل وعداؤه لأهل البيت عليهم السلام ...96

من كلام له عليه السلام: في النهي عن غيبة الناس...101

الشرح...101

ص: 457

الغيبة وأثرها النفسي والإجتماعي ...102

تنبيه: في تحقيق معني الغيبة والأدلة الواردة في حرمتها...105

الأمرالأول: في تحقيق معناها ...105

اختصاص حرمة الغيبة بين المؤمنين ...107

الثاني: في الأدلة الدالة علي حرمة الغيبة...110

الدليل القرآني ...110

الدليل الروائي...111

الثالث: في دواعي الغيبة...116

الرابع: في عدم جواز استماع الغيبة ...118

الخامس: في مستثنيات الغيبة...120

السادس: في معالجة الغيبة...124

السابع: في كفارة الغيبة ...126

من كلام له عليه السلام: في العرفان والسلوك إلي الله ...129

ضبط الألفاظ اللغوية ...129

الشرح...129

شروط السالك131

وظائف السالك ...132

الجوع ...132

الصمت ...133

السهر ...134

العزلة والخلوة ... 134

شعر عرفاني...135

سيماء الشيعه...136

ص: 458

من خطبة له عليه السلام :

في التحذير من الدنيا والاعتبار بالأمم السالفة ووحشة القبر...139

ضبط الألفاظ الغريبة ...139

الشرح...140

خداع الدنيا ...140

مثال الدنيا ...144

العيش الممدوح...145

عدم الأمان في الدنيا...145

التاريخ و طول العمر ...146

ذو القرنين...148

الاسكندر والملكة الذكية...154

ذو القرنين وبلقيس ...155

الاسكندر وفيلسوف الهند...156

ذكر طواف الاسكندر في أقطار العالم وما رآي فيها من العجائب ...162

وصول الاسكندر مغرب الشمس ...166

الخضر وعين الحياة...167

وصول الاسكندر إلي مشرق الشمس وقصة يأجوج ومأجوج...168

الاسكندر وملك الصين ...171

ذكر وفاة الاسكندر: قال في (الشاهنامة) ...173

ثلاثون قولاً قيل عند موت الاسكندر...176

قصة أخري في وفاة الاسكندر...178

من خطبه له عليه السلام :

في التحذير وعدم الغفلة عما بعد الموت...181

ص: 459

الشرح...181

حقيقة الموت...182

حالات ذكر الموت...186

الحالة الأولي: قبل الموت...186

ما عليه الناس في هذه الحالة ...187

الحالة الثانية: عند الموت ...188

من كلام لهعليه السلام:

في المحافظة علي الشهادتين والاعتبار بموته ...191

الشرح...191

علم علي عليه السلام بزمان ومكان قتله ...193

وصايا أمير المؤمنين علي عليه السلام...195

دخول حبيلب علي علي عليه السلام في مرضه ...197

دخول عمرو بن الحمق علي علي عليه السلام في مرضه ... 197

دخول الأصبغ علي علي عليه السلام...198

دخول صعصة علي علي عليه السلام...200

من كلام له عليه السلام كان يوصي به أصحابه: في بيان أهمية الصلاة ...205

الشرح...205

الصلاة تحت الذنوب...213

فصل ووصل: الصلاة وطرق التقدم الثلاثة ...216

الصلاة لغة واصطلاحاً...221

جاء في خطبته عليه السلام المعروفة بالقاصعة:

وفيها يذكر موضعه وقربه من رسول الله صلي الله عليه وآله ...225

ضبط الألفاظ اللغوية...225

ص: 460

الشرح: علي وليد الكعبة ...226

قصيدة العمري في مدح علي عليه السلام...231

كلمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء...232

ولادة علي عليه السلام في الكعبة في الشعر الإسلامي ...234

علي عليه السلام معلم جبرئيل...237

من كتاب له عليه السلام إلي معاوية ابن أبي سفيان:

يحذره فيه من سيئات عمله...239

ضبط الألفاظ اللغوية ...239

الشرح: علي ومعاوية ...240

الوفود علي معاوية ...242

عبيد الله بن عمر ...243

في إرسال صعصة بن صوحان إليمعاوية...245

في كتاب له عليه السلام إلي عثمان بن حنيف الأنصاري:

وفيه يعنفه علي قبوله دعوة وليمة ويذكر فيه زهده عليه السلام ...249

ضبط الألفاظ الغريبة ...249

الشرح...250

محطات للتأمل...251

البرنامج التربوي ...253

زهد علي والأنبياء عليهم السلام...255

قصة عيسي عليه السلام وصاحب الرغيف الثالث ...257

من كلام له عليه السلام:

يتعرض فيه لأرض فدك ويذكر فيه مجاهدة نفسه عليه السلام...259

الشرح...259

ص: 461

فدك تاريخياً...259

القيمة الاقتصادية لفدك...262

خطبة فاطمة عليها السلام...263

نص الخطبة المتضمنة الاحتجاج علي القوم والتظلم منهم بمحضر من المهاجرين والأنصار...265

في وصيته الكبري لولده الحسن عليه السلام:

في نفي الشريك والفتقاد العبد إلي الله ...273

الشرح: التوحيد ونفي الشريك...273

حقوق الله وأداءالواجب...277

ما هي الواجبات ...279

1-معرفة الله تعالي...279

2-أوامر الدين ونواهيه...280

3- مجاهدة النفس...280

4-العناية الدينية ...280

5- الأخوة الإسلامية ...281

من وصيته عليه السلام للحسن والحسين عليها السلام لما ضربه ابن ملجم:

وفيها يوصي بالتقوي ونظم الأمر والإهتمام بفروع الدين ...283

الشرح...283

وأما وصاياه العامة ...284

التقوي...284

ثمرات التقوي...285

إصلاح ذات البين ...287

رعاية الأيتام...288

ص: 462

رعاية الجيران289

حدود الجوار وحقه...291

الاهتمام بالقرآن...291

الاهتمام بالصلاة ...292

وورد في التوراة ...292

شعيرة الحج ...294

قصة بناء الكعبة ...294

أسرار الحج...297

الاستعداد للحرب...301

وصايا عامة أثناء الحرب ...302

أولاً: الثبات عند لقاء العدو وعدم الفرار من المعركة ...302

ثانياً: ذكر الله في حالة الحرب...302

ثالثا: الطاعة...302

رابعاً: عدم التنازع ...303

خامسا: الصبر علي ما يكرهون من شدة ...303

الحسن البصري يمدح علياً عليه السلام...306

من خطبة له عليه السلام:

يوصي فيها بتقوي الله والتذكير بالموت...309

الشرح...309

التقوي أصل جميع الفضائل ...310

ولكن ما هي التقوي ...311

آيات في التقوي...311

التفاضل بالتقوي لا بكثرة المال...313

ص: 463

مراتب التقوي ثلاث...314

كيف تحقق التقوي...316

من خطبة له عليه السلام:

وفيها يسبح الله ويذكر نعيم الجنة ...321

ضبط الألفاظ اللغوية ...322

الشرح...322

عالم الآخرة ...323

العلم التجريبي وإثبات الآخرة...324

الجنة ...326

الذات الخلد ...329

من عشق شيئا أعشي بصره...337

الشهوة الجامحة...341

وصف الجنة في القرآن...343

وصف الجنة في الأحاديث السنة ...344

سكرات الموت...351

الجسد بعد الموت...356

موارد الركون إلي الدنيا...357

إدريس النبي وملك الموت...358

أبيات في الموت ...359

من خطبة له عليه السلام:

في إرساله الرسل وحالة العرب قبل الإسلام ...361

الشرح...361

الأديان في عصر الجاهلية ...361

ص: 464

أصنام العرب...363

كيف يختار الله أنبياءه ...365

صفات الأنبياء ...366

الشكر عصارة التقوي...367

صفات رسول الله صلي الله عليه وآله...368

أخلاق النبي محمدصلي الله عليه وآله...373

قصور البعض عن إدراك عظمة النبي صلي الله عليه وآله...375

من خطبه له عليه السلام: يذكر فيها أصناف الناس...379

ضبط الألفاظ اللغوية ...380

الشرح...380

عصر علي عليه السلام ...380

الأول: انقلاب الموازين الخلقية ...381

الثاني: ازدياد الظلم...381

الثالث: عدم الانتفاع بالعلم..381

الرابع: عدم التعلم ....382

الخامس:الأمن من مكر الله ...383

أصناف الناس ...383

الرياء ...385

المقام الأول: في تحقيق معني الرياء والسمعة...388

الثاني: في ذكر بعض ما ورد فيه من الآيات والأخبار...388

حديث معاذ عن النبي صلي الله عليه وآله ...392

الثالث: في أقسام الرياء والوجوه المتصورة فيه ...395

علاج الرياء...399

ص: 465

الدواء العملي للرياء...401

من خطبة له عليه السلام: يرغب فيها

بالجهاد ويذم أصحابه علي تخاذلهم عنه ويذكر فيها أفعال جيش معاوية ...403

ضبط الألفاظ اللغوية ...404

الشرح...405

وصية معاوية الارهابية...405

معركة الأنبار ...407

فضل الجهاد ...408

ثواب وأجر الشهيد 409

جهاد عمير بن الحمام...413

جهاد أنس بن النضر ...413

جهاد عمرو بن الجموح...414

جهاد حارثة ...415

معركة بدر...417صلح الحديبية...419

من وصية له لولده الحسن عليهما السلام:

يذكر فيها حقوق الاخوان ...421

الشرح: حكم ومواعظ ...421

النصيحة في الوعي الديني ...424

نصيحة الصحابي سعد بن الربيع لرسول الله صلي الله عليه وآله ...430

نصيحة عبد الله بن كعب لعلي عليه السلام...431

نصيحة ابن عوسجة للحسين عليه السلام...431

نصيحة العباس لأخيه الحسين عليهما السلام...432

ص: 466

من كلام له عليه السلام لكميل بن زياد رضي الله عنه:

في أصناف الناس وفضل العلماء وفيه يتعرض لذكر المهدي عليه السلام...435

الشرح: أصناف الناس...436

المقارنة بين العلم والمال ...436

إشارة إلي الإمام المهدي عليه السلام ...439

مصادر التأليف التحقيق ...441

فهرست الموضوعات ...455

ص: 467

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.