صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة المجلد 1

اشارة

صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة المجلد 1

تأليف العَلَّامَة الشَّهيد السّيّدحَسَن السيد علي الْقُبّانْچي الْنَّجَفيّ(ره)

موسسه اِحْياءِ التُّراثِ الشّيْعيّ

www.turathshiai.com

النجف الأشرف

فاعل خير رقمي: انجمن مددكاري امام زمان (عج)

ص: 1

اشارة

موسسه اِحْياءِ التُّراثِ الشّيْعيّ

النجف الأشرف _ شارع الرسول صلي الله عليه وآله _ محلة الحويش

رقم الزقاق 54 - رقم الدار 2

هاتف: 332811 و 332813

ص.ب 588

http://www.turathshiai.com

http://www.turathshiai.net http://www.turathshiai.org

صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ج 1

العلامة السيد حسن القبانچي رَحمةُ اللهُ

الناشر : دليل نا

المطبعة : نقارش

الطبعة: الأولي

سنة النشر: ربيع الأول 1426 ه

عدد النسخ: 2000 نسخة

السعر: 5000 دينار

ردمك: 3_ 097 _ 397 _ 964 ISBN الدورة : x_099_397 _ 964 ISBN

جميع الحقوق محفوظة للمؤسسة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

اشارة

الحمد لله علي إنعامه وإفضاله، وصلّي الله علي جوهر الوجود محمّد و آله، ونخصّ بالذكر منهم أخاه وصهره وابن عمّه ووزيره وخليفته في أمّته أميرالمؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين، الذي أكرمه ربّ الخلائق بأن قرن نوره في الخلق بنور نبيّه، وجعله له أخاً بنصّ آية المباهلة وحديث المؤاخاة، وأبي أن يزوّجه إلاّ من سيّدة نساء العالمين، وأكرمه بأن جعل نسل نبيّه صلي الله عليه وآله في صُلبه، فرزقه سبطي نبيّ الرحمة وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهماالسلام شفي العرش.

لايُماري أحد أن كلام أميرالمؤمنين عليه السلام قد ارتفع _ بالمسحة الإلهيّة التي تعلوه _ عن أن يُشبه كلام المخلوقين، وبأريج العبق النبويّ الذي يفوح منه عن أن يمازج كلام أحد من أرباب الفصاحة المشهورين.

رغم أنّ أميرالمؤمنين و مولي الموحّدين عليه السلام في متانة بلاغة كلامه وقوّة حجّته وبيانه لم يتكلّف _ وهو يدير اللغة كيف يشاء _ انتقاء الألفاظ، ولا تعمّد _ وهو يسوق جحافل الفصاحة أنّي أراد – اختيار العبارات؛ فقد تحدّث هذا العقل النورانيّ الذي لم ير شيئاً إلاّ ورأي اللهَ قَبْله ومعه وبعده، تحدّث لعباد الله عَزّوَجل ليرفعهم إلي مشهد النور الأعلي، وينتشلهم من ظلمات النفس ومزالق الهوي.

ارتفع أمير المؤمنين عليه السلام بالفصاحة العربيّة عن أن تنصبّ _ كما هو حال معظمها _ في التوافه، فتكون مسوقة لبيان صفة فَرَس أو بعير أو حمار وحشيّ؛ وسما بها عن أن تتلخّص في نوازع البشر المخلوق من الطين.

ص: 3

لم يعهد العرب فصيحاً يسوق الكلام في توحيد الله تعالي، ولم تعرف في فصحائها من يتحدّث في صفات الملائكة وعبادتها، فحقّ لها أن تدهش وتعجب وهي تُصغي إلي رجلٍ هو أعرف بطُرق السماوات منه بطرق الأرض...

لكنّ العجب سيزول، والاستغراب سينحسر حين يعي المرء أنّ هذا المتكلّم

هو باب مدينة علم الرسول صلي الله عليه وآله وخازن علمه، وأنّه من رسول الله صلي الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسي عليه السلام، وأنّه الأذن الواعية التي صبّ فيها رسول الله صلي الله عليه وآله بأمر ربّه العِلم صبّاً، فحقّ، لها أن تعي وتحفظ.

ولقد قيّض الله تبارك وتعالي في الأعصر المختلفة مَن نظم عقوداً مختارة من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام يبهر سنا بريقها الناظر، وهيّأ من عباده من تصدّي لاستثارة غوامض حِكمه ودقائق مواعظه المُرزئة بالدرّ والجواهر.

ومن هؤلاء الذين قيّضهم الله سبحانه في عصرنا الحاضر رجلٌ من هذه السلالة الطاهرة، وُفّق في الجمع بين منهج الحوزة العلمية ومنهج الممارسة الخطابيّة والمنبر الحسينيّ، وكانت النجف يومذاك لم تألف بعدُ ظاهرة العالم الخطيب والخطيب العالم.

بلي، شُغف العلاّمة الشهيد السيّد حسن القبانچي رَحمه اللهُ بأهل البيت عليهم السلام شغفاً ملك عليه نفسه، فنذر حياته في إحياء آثارهم، فحاز بذلك القدح المعلّي... وهاتيك مؤلّفاته تشهد له بالسعي الدؤوب في هذا الشأن، وتلك تقريظات العلماء الأعلام لمؤلّفاته تُغني عن كلّ مقال.

وصف العلاّمة الحجّة المحقّق السيّد محمّد صادق بحر العلوم كتاب »الجواهر الروحيّة» للمؤلف قدس سرّه بأنّه غرّة في جبين الدهر، وجوهرة ثمينة لا يقدّرها إلاّ عباد الله المخلصون، والعلماء العارفون بالحقائق.(1)

ص: 4


1- خطيب العلماء: 30.

وكتب العلاّمة آية الله السيّد محمّد جواد الطباطبائي التبريزي في مقدّمته لكتاب »عليّ والأسس التربويّة» يقول: «ومن أبدع ما أشرقت علينا شمسه في أسفاره الجليلة النافعة كتاب «علي والأسس التربويّة في شرح الوصيّة»، فإنّك بالنظر في صفحات هذا السفر الجليل تعرف قيمة ما يُسديه إلي أمّته من وقتٍ لآخر بتلك المؤلّفات القيّمة والصحف الخلقيّة العظيمة التي تهديها سواء السبيل، وتسمو بها إلي الحياة الطيّبة، حياة الحكمة والرشد والفضيلة والمروءة وغيرها من الخلال التي تكفل للأمّة السعادة والهناء».(1)

أمّا كتابه «مسند الإمام علي عليه السلام» الذي أنفق علي تأليفه أكثر من عشرين عاماً من عمره الشريف، فقد وصفه المفكّر الإسلامي آية الله العظمي السيّد الشهيد محمد باقر الصدر بأنّه من أهم مصادر المعرفة الإسلاميّة.(2)

وكتب عنه آية الله العظمي الشيخ مرتضي آل ياسين:

«... شاء التوفيق الإلهيّ أن يدفع بمؤلّف هذا السفر القيّم فضيلة السيّد الجليل والخطيب الفاضل النبيل الألمعي الزكي السيّد حسن القبانچي أيّده الله إلي الإلمام بما يسع الإلمام به من تلك الأحاديث ليجمعها في إطار واحد، فنهض _ حفظه الله _ بهمّة لا تعرف الكلل، ورغبة عارمة لا يعتريها الملل، فسجّل كلّ ما ظفر به من الأحاديث العلوية علي صفحات هذا الكتاب... فجاء الكتاب _ ولله الحمد _ كتاباً فائقاً في ترتيبه وتبويبه، ورائقاً في تأليفه وتصنيفه، كلّ ذلك بفضل الجهد العظيم الذي عاناه في سبيل جمعه ووضعه».(3)

وقد مُنح الكتاب المذكور جائزة أفضل مؤلَّف لسنة 1380 ه ش (1422ه) التي دُعيت في الجمهورية الإسلامية في إيران بسنة الإمام عليّ عليه السلام.

ص: 5


1- خطيب العلماء: 31 و 32.
2- خطيب العلماء: 35 و 36.
3- خطيب العلماء: 36 و 37.

كتاب صوت الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة:

يقول خطيب العلماء رَحمه الله في رسالة بعثها إلي نجله سماحة العلاّمة الحجّة السيّد صدر الدين القبانچي:

«وبعد، إنّ كتابنا «الصوت الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة»هو مختارات من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كنّا نحاضر بها في بعض المناسبات مع شرحٍ واف أخلاقيّ وأدبي وتاريخي، وردّ ونقد، وأمام الكتاب أقوال و آراء لجمهرة من عباقرة العلم والأدب حول نهج البلاغة».(1)

جمع المؤلّف رَحمه الله في كتابه هذا فأوعي، فقد ضمّنه كلمات أقطاب العلم وعباقرة الأدب في نهج البلاغة تكشف عن شغفهم به وإذعانهم بعظمته، ونِعم ما قيل في حقّه.

كلامُ عليٍّ كلامٌ عليّ *** وما قاله المرتضي مُرتضي

ثمّ أفرد رَحمه الله باباً أسماه «نهج البلاغة في الشعر العربي»، وعقّب عليه بايراد مختارات من خطب الإمام عليّ عليه السلام وشرحها، في انتقاء بديع لتلك الشروح للعبارة الأجزل والأجمل، لا يشغله ذلك عن التوسّع _ حيثما أحسّ بذلك ضرورة _ في البحث، فقد رأيناه يورد أبحاثاً موسّعة قرآنيّة وعلميّة وتاريخية وأدبية وأخلاقيّة، يحدو به شعوره بمسؤوليته _ كعالمٍ عامل وخطيب واعظ _ في وضع البلسم علي الجرح، امتثالاً منه لأمر مولاه مولي الموحّدين عليه السلام الذي افترض علي العالِم أن يكون طبيباً دوّاراً بطبّه، متحرّياً في خُطاه وعظ الناس وهدايتهم إلي مرضاة الله تعالي، في وعيٍ كامل منه قدس سرّه بأنّ الفقيه _ كلّ الفقيه _ من لم يُقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله.

وكان من ديدنه أن تزدان أبحاثه المختلفة بعدد كبير من الشواهد القرآنية والأحاديث المعتبرة عن المعصومين عليهم السلام.

ص: 6


1- خطيب العلماء: 37 و 38.

ولأجل أهميّة هذا الكتاب وقيمته العلميّة ارتأت مؤسسة إحياء التراث الشيعي تحقيقه ونشره ووضعه بين أيدي القرّاء الأعزاء، مساهمةً منها في نشر التراث الشيعيّ المتميّز.

نشاطات مؤسسة إحياء التراث الشيعي:

تأسّست هذه المؤسسة في 15 جمادي الآخرة لسنة 1424ه في النجف الأشرف بعد زوال النظام البعثي الحاقد، وتركّزت نشاطاتها منذ ذلك الحين في عدّة محاور:

1 _ صيانة التراث الشيعي من خلال جمع واقتناء الكتب الخطيّة، واستنساخ المخطوطات في داخل العراق وخارجه.

2 _ نشر التراث الشيعي: من خلال إعداد فهارس المخطوطات وطباعتها، علاوة علي إنجاز مشروع نفائس التراث الشيعي الذي تكفّل بإعداد أقراص ليزرية تخصّصيّة عن النفائس الخطيّة في أهم مكتبات النجف الأشرف وتقديمها للباحثين عبر برنامج كمبيوتري علمي وفنيّ.

3 _ قسم التحقيقات الذي يتولّي مهمة تحقيق وطباعة كتب التراث الشيعي، وإصدار مجلّة التراث الشيعي الفصليّة، وتهيئة مكتبة عامّة للباحثين، فضلاً عن حقل الدراسات الكومبيوتريّة.

4- قسم الانترنيت الذي يتضمّن إنشاء بنك للمعلومات يتكفّل بتبادل المعلومات والنسخ الخطّيّة مع المكتبات العالميّة عبر الانترنيت، إضافة إلي إنشاء صفحة خاصّة بالمؤسسة علي الانترنيت.

ناهيك عن الخدمات العامّة التي تقدمها المؤسسة من خلال دعم المكتبات ومراكز التحقيق، والتعاون الثقافي مع كبار الباحثين والمحقّقين.

ص: 7

عملنا في الكتاب:

قامت المؤسسة بتحقيق هذا السفر النادر و تصحيحه وتخريج آياته

وأحاديثه وأشعاره وشرح بعض كلماته المبهمة، وقمنا بإضافة بعض العناوين حيثما وجدنا لذلك ضرورة، و كلّنا أمل في أن نكون قد قدّمنا الكتاب للقارئ الكريم في حلّة قشيبة تجمل بأمثاله ونظائره.

وإذ تبادر مؤسسة إحياء التراث الشيعي إلي نشر هذا السفر القيّم ووضعه بين يدي القراء الكرام، تأمل أن تواصل الخطي الحثيثة الجادّة في مجال إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، واللهَ تعالي نسأل أن يوفّقنا لخدمة الدين وأهله، إنّه خير ناصر وخير مُعين، وآخردعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

شكر وتقدير:

تتقدم المؤسسة بالشكر الجزيل إلي الأخوة الافاضل في لجنة التحقيق ونخص بالذكر سماحة الشيخ رحيم مبارك لجهدهم الكبير في تحقيق الكتاب. كما نشكر الأخ الفاضل ياسر الصالحي مسؤول قسم الكمبيوتر سائلين المولي تعالي أن يوفقهم ويسدّد خطاهم.

مؤسسة إحياء التراث الشيعي

النجف الأشرف

السيّد محمد القبانچي

ص: 8

تقديم بقلم نجل المؤلف سماحة السيد صدر الدين القبانچي

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سياسة الإمام علي عليه السلام:

هل نجح الإمام علي عليه السلام في سياسته مع الأحداث التي عاصرت حكومته أم أخفق؟

رغم وجود وجهتي نظر مختلفة لدي الباحثين والمحللين إلا أن هناك إجماعاً لدي كل الدارسين لشخصية الإمام علي عليه السلام وسيرته قديماً وحديثاً وسواء من الخصوم أو الأصدقاء، مسلمين وغير مسلمين علي أن الإمام علي عليه السلام استطاع أن يجسد النموذج المثالي للحكم الدستوري والمبدئي العادل.

لقد استطاع الإمام علي عليه السلام _ ليس علي مستوي النظرية فحسب وإنما علي مستوي الممارسة والتطبيق _ أن يضع أصولاً ثانية لحكم دستوري حرّ بما لم تستطع التجربة البشرية المعاصرة أن تصل إلي مثله.

الأصول الثلاثة:

ويستطيع الباحث في سياسة الإمام علي عليه السلام ومواقفه، والقارئ لخطبه ورسائله في نهج البلاغة خاصة أن يلتمس ثلاثة أصول اعتمدها الإمام في سياسته هي العدالة، والمبدئية، والحرية.

إن موقفه من أخيه عقيل حين طلب منه أكثر من استحقاقه من بيت

ص: 9

المال يمثل صورة رائعة لالتزام العدالة في التوزيع، والتعالي علي جميع المحسوبيات والمنسوبيات في إدارة البلاد، حيث رفض الإمام أن يعطيه أكثر مما يعطي سائر المسلمين واستعد أن يتحمل خسارة سياسية بانسحاب عقيل من صفوفه دون أن يتراجع عن مقتضيات العدالة المرّة.

كما أن موقفه من معاوية حين عزله عن ولاية الشام يمثل صورة بطولية رائعة لالتزام المبدئية في التحرك السياسي بعيداً عن الخضوع للمصالح المؤقتة والمكاسب السياسيّة.

كما أن موقفه من طلحة والزبير حينما أجازهما بالذهاب إلي المدينة المنورّة وهو يعلم أنهما لا يريدان العمرة بل يريدان الغدرة _ كما قال عليه السلام _ يدلل بشكل واضح مدي التزام الإمام علي عليه السلام الشديد بالحرية السياسية في التحرك.

هذا الكتاب:

إن كتاب (صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة) لمؤلفه العلامة الكبير والباحث المحقق السيد حسن القبانچي قدس سرّه هو محاولة لالتقاط صور جميلة لمواقف الإمام علي عليه السلام التي يجسّد فيها قيم العدالة، والحرية والمبدئية.

ومن الحق أن نشيد هنا بالجهود العلمية الكبيرة لمؤلف هذا الكتاب وخاصة ما يتعلق منها بالإمام علي عليه السلام وقد لاحظنا لدي ترجمتنا لحياة المؤلف في كتابنا (خطيب العلماء) مدي العلاقة الوثيقة والانشداد الروحي المستحكم للمؤلف مع جدّه الإمام علي عليه السلام والتي برزت بشكل واضح في مجمل خطاباته ومؤلفاته.

كتابات المؤلف في الإمام علي عليه السلام:

لقد كتب عن الإمام علي عليه السلام ثلاثة مؤلفات:

ص: 10

الأول: علي والأسس التربوية

وهو أول كتاب صدر للمؤلف ويتضمَّن شرحاً وافياً لوصية الإمام علي عليه السلام لولده الحسن عليه السلام.

ويبدو أن المؤلف قد انفرد بهذا الكتاب، وسجّل السبق في مجال شرح وصية الإمام علي عليه السلام.

الثاني: مسند الإمام علي عليه السلام:

وهو موسوعة ضخمة جمع فيها المؤلف أكثر من أحد عشر ألف نصّاً للإمام علي عليه السلام.

ويري المؤلف أن هذه الموسوعة هي حصيلة عمره والتي أفتي في إنجازها أكثر من عشرين عاماً في ظروف معقّدة وصعبة عاشتها العراق وعاشتها الحوزة العلمية في النجف الأشرف في ظل عهد البعث الأسود البائد.

حيث آثر المؤلف أن يعكف في منزله لإنجاز هذه الموسوعة بعيداً عن ملاحقات السلطة الغاشمة التي كانت تقطع الطريق علي حركة علماء الدين و تحدّد أدني مستوي من فعالياتهم.

فمنذ عام 1974 ميلادياً حيث ارتكبت سلطة البعث جريمة إعدام الشهيدين العلامة السيد عز الدين القبانچي رَحمه الله (ابن المؤلف) والعلامة السيد عماد الدين الطباطبائي رَحمه الله (ابن أخت المؤلف) في أول ظاهرة إعدام العلماء الدين.

منذ ذاك التاريخ عاش المؤلف حصاراً وملاحقةً وتهديداً متواصلاً من قبل أزلام السلطة اضطره أن يكون حبيس داره عاكفاً علي إنجاز هذه الموسوعة المباركة (مسند الإمام علي عليه السلام).

الثالث: صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة:

وهوهذا الكتاب الذي بين يديك.

ص: 11

وقد كان والدي الشهيد مؤلف هذا الكتاب قد طلب مني وأنا في بلاد الهجرة (إيران) عبر رسالة خطيّة رفعها إلي أن أكتب مقدمة لهذا الكتاب.

وشاءت الأقدار أن لا نلتقي، ولا يطبع هذا الكتاب إلا بعد شهادة مؤلفه عام 1991 ميلادياً إبان الهجوم الإجرامي لسلطات البعث علي مدينة النجف الأشرف واقتحامها بالدبابات وقصفها بصواريخ أرض أرض واعتقال أكثر من مائة من علمائها وفضلائها ثم قتلهم جماعياً حيث لم تزل أجسامهم مفقودة تحت الثري ضمن عشرات المقابر الجماعية التي لم يعثر عليها بعد.

كلمة شكر:

والآن حيث تصدي أخي العزيز سماحة السيد محمد القبانچي لتحقيق ونشر هذا الكتاب من خلال مؤسسته الموقرة «مؤسسة إحياء التراث الشيعي» ورغب إليّ أن أقدّم له مقدمة استجبت له في ذلك شاكراً جهده وعمله في إخراج هذا الكتاب إلي النور سائلاً الله تعالي أن يجعله في الباقيات الصالحات من أعماله، وأن يتقبل هذا الكتاب من مؤلفه، ويزيد في درجاته، ويحشره مع أجداده الطيبين محمد و آله الطاهرين.

النجف الأشرف

ليلة 5 شوال / 1425ه

صدر الدين القبانچي

ص: 12

مقدمة وذكرياته بقلم الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد حسن السيد علي الحسيني القبانچي النجفي... أحد أعلام النجف البارزين علماً وعملاً وأدباً ومعرفة. وهو أستاذ جليل، وخطيب كبير، ومبلّغ يقظ، يتمتع بحسن السيرة ونقاء السريرة، ذو خلق رفيع، وتواضع جمّ، وسمتٍ روحي، مبتسم الثغر، صبيح الوجه، عفيف اليد، رقيق اللسان، ظاهر الأناقة، يخضب كريمته بالسواد، حتي إذا أمتحن باستشهاد أولاده ترك الخضاب.

ولد كما أعرفه في النجف الأشرف عام 1328ه = 1907م ونشأ بين أحضان العلماء وأكناف الخطباء، وأندية الأدباء.

فقرأ مبادئ العلوم العربية والشرعية لدي أساتذة متخصصين، من أبرزهم: الشيخ علي ثامر، والسيد حسن الحكيم، والشيخ زين العابدين العاملي وتخرج في الخطابة بعنايةالشيخ محمد حسين الفخراني أشهر خطباء عصره، وأفاد من صلته بآية الله العظمي السيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي قدس سره الشريف، فهو صهره علي إبنته العلوية الصابرة المحتسبة.

درس علي يديه الفسلفة والحكمة وحضر بحثه الخارج فقهاً وأصولاً، واقتبس من صفاته الكريمة العليا الشيء الكثير، فهو بحق خريج مدرسته، وساعده الأيمن في إدارة شؤونه الحوزوية.

إمتدت صلتي بالسيد القبانچي رَحمه الله طيلة أربعين عاماً، فما رأيته إلا باسماً متفائلاً،

ص: 13

وعاملاً صامتاً، ورائداً متحفزاً. امتهن الخطابة فأبدع فيها بعرض جديد، وأسلوب جديد، وبصيرة نافذة، فأطلّ بها علي المستمعين في العالم الإسلامي _ العراق _ إيران _ الخليج، بمعلومات قيمة، وبيان رصين، ومنهج هادف.

وكان لمسيرته العلمية الهادئة أثرها الكبير في معارفه المتحضرة، و كان الانفتاحه الذهني دوره في آرائه الأنسانية، وذلك بتأثير بيئة النجف الأشرف المتنورة التي خلقت منه داعية إصلاحياً، وخطيباً مجدداً في ميدان المنبر الحسيني الشريف.

كان السيد القبانچي نور الله مرقده، يجمع بين نشاط الشباب الثائر، ووقار الشيوخ المهيب، يجتمع بعلية القوم فيأخذ عنهم تجاربه في الحياة والعلم والإجتماع والسلوك، ويعني بالشبيبة الصاعدة فيمنحهم الحبّ والودّ الخالص في قابلية تجذب إليه القلوب وتستهوي الأفئدة، فيقبلون عليه إفادة وإستزادة وتوجيهاً نادراً، وكان هدفه من هذا وذاك إعداد كلمة الله في الأرض، والأنخراط في تأييد الخط المرجعي المستقيم، لأنه يمثل أطروحة أئمة أهل البيت عليهم السلام.

وهكذا نجد السيد القبانچي مناضلاً في ميادين الجهاد، ومحاضراً علي أعواد المنبر، ومتفتحاً يحتضن الجيل الجديد، وإنسانياً يلقاك بالأبسامة الصادقة، ويحدثك بسكينة ووقار، وأنت تجد في ذلك متاعاً أيّ متاع، وتنعم بلذة ماوراءها لذة.

يسعي إلي الخير بأمكاناته المتيسرة، ويعمل جاهداً للحق بطاقاته كلها، وهو بطبيعته قوي العزيمة، طيب الضمير، صادق اللهجة، يفيض لطفاً وحناناً، ويصدر عنك وفي نفسك شوق لحديثه، وتعلقٌ بشخصيته، يعظم إخوانه في الدين، دون تكلف في السيرة، أو أنانية في المسيرة.

ص: 14

كان كما وصفه الحكيم المتأله آية الله السيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي (عالم الخطباء وخطيب العلماء) وهو تقييم موضوعي، فالعلم سبيل المتألهين، والخطاب طريق العاملين.

كافح ظلم الطغاة وعسف السلطان، فبعّد وشرّد، وسجن وأعتقل، وحوصر وروقب، وهو ثابت الجنان، قوي الأعصاب، إعتبرته في مبحث سابق أحد سبعة من النجف الأشرف ممن جاهدوا جور الحاكمين، ورؤوس الطائفية، وإرادة الشر لم يرد في ذلك إلاّ خير البلاد ووحدة المسلمين، وتلاحم الصف العراقي.

وكان رائده أن ينعم المجتمع بثقافة الإسلام وتعاليمه بما فجّره القرآن العظيم من ثروة فكرية تمثل تعاليم السماء وتنشر رسالة الإسلام الخالدة في ظل ذلك البحر المتلاطم من معارف الأئمة المعصومين عليهم السلام.

وقد ظفر في هذا التوجه الفريد بأستقطاب عنصر الشباب والطبقة الواعية المثقفة، فلهم عليه إقبال شديد، وله معهم مطارحات رائعة، أكسبته ذلك الشيء الثمين الذي يحدب عليه الأخلاقيون، وهو الحب الخالص في ذات الله تعالي.

وليس حديثي عن السيد القبانچي بدافع من الصداقة العريقة، فالصداقة شيء والبحث الموضوعي شيء آخر، وإنما ينطلق الحديث عنه للتعبير عن حقائق الأشياء الكامنة في تلك الضمائر العامرة بالإيمان والمثل العليا، وهي تسعي بأزاء ذيوعها بين الناس.

لقد أدرك السيد القبانچي أن الزمن يسرع بالتطور والتجديد، ويحث الخطي إلي التكامل المعرفي بما أتاحت له التقنيات الصناعية من وسائل النقل الثقافي المرئي والمسموع والمستخرج، فبادر إلي إستثمار ذلك عملياً، فأكب

ص: 15

علي البحث العلمي والتأليف، فحقق بذلك هدفاً مزدوجاً في توعية الجيل المعاصر من جهة، وأداء الرسالة من جهة أخري.

ولقد إستعان في مخزونه الثقافي من خلال مكتبته الحافلة بأمهات المصادر والمراجع ونفائس الآثار، وأنا سعيد جداً لإحتفاظ هذه المكتبة وحتي اليوم بكيانها رغم الظروف المأساوية التي عاني منها السيد القبانچي في أيامه الأخيرة.

لقد عكف هذا العلم الشامخ علي البحث الجدي المثمر، فأتحف المكتبة العربية بمؤلفات تعتبر في الطليعة من تراث النجف الأشرف.

وكان أبرز هذا المؤلفات:

1 _ الجواهر الروحية في ثلاثة مجلدات.

2 _ شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام في مجلدين.

3 _ علي والأسس التربوية.

4 _ مسند الإمام علي عليه السلام في عشرة مجلدات.

عدا مؤلفاته الخطية التي أرجو أن تأخذ طريقها للنشر.

وبين يديك اليوم هذا الكتاب القيم:

(صوت الإمام علي في نهج البلاغة).

وهو عبارة عن إختيار دقيق لخطب الإمام أمير المؤمنين من نهج البلاغة، ألقاها محاضراً في المحافل العامة والمآتم الحسينية، شرحها ما أستطاع إلي ذلك سبيلاً، وفصل القول فيها بالأدب والسياسة والتأريخ والدين والإجتماع.

وقد اشتمل هذا السفر علي عدة أراء قيّمة لأساطين العالم في نهج البلاغة وصاحب نهج البلاغة، والكتاب لا يحتاج إلي إطراء:

(سبوح لها منها عليها شواهد)

ص: 16

وأناخ الدهر بكلكله أوائل السبعينات، فأعدم أعز أبنائه، وتبعه بعد ذلك ثلاثة آخرون من ولده، وعدد من أرحامه فكانت المأساة في ذروتها، وقد جاوز آنذاك السبعين عاماً، فهدت هذه المصائب كاهله، وأودت بصحته، فبدأ عليه الانهيار والانكماش، لا يشكو إلا إلي الله مانزل به، ولا يستعين بسواه، فكان بذلك رمز الصابر الصامت.

وللتأريخ، فأن الغريب في الأمر أن الناس تحاشت لقاءه والسلام عليه، لأنه في رصد ورقابة من أجهزة الأمن، وكنت لا أعبأ بذلك، وأستقبله استقبال الأحباء، وأجلس إليه فيبث إليّ لواعجه وأشجانه، ويدعو لي بالحفظ والسلامة، ويشكرني علي ما يجد عندي من مواساة ومشاطرة الأسي.

وبعد حرب الكويت بقليل هجمت جلاوزة الطاغية عليه داره، وإستلته من سرير المرض، وهو طريح الفراش من عملية جراحية كبري، وأخذ مخفوراً لا يدري إلي أين، والي يومك هذا.

والذي أعتقده جازماً أنه دفن حياً، شأنه بذلك شأن مائة وثمانين مظلوماً من أساتذة الحوزة العلمية في النجف الاشرف.

فوا أسفاه علي ذلك المحيا الطلق، ووالهفاه علي تلك النفس الزكية.

محمد حسين علي الصغير

النجف الأشرف

ص: 17

ص: 18

كلمات أقطاب العلم وعباقرة الأدب حول نهج البلاغة

كلمة السيّد كاظم القزوينيّ:

جاء في كتاب شرح نهج البلاغة للسيّد كاظم القزويني: «قرأت في بعض الكتب الحديثة أنّه قد كُتب حتي اليوم مائة ألف كتاب في ترجمة حياة نابليون الفرنسي بشتّي اللغات الدارجة، فإن صحّ هذا القول فقد ظلم المسلمون علي صلوات الله عليه بتقاعدهم وتكاسلهم وعدم القيام بما يلزم تجاه هذا الإمام صلوات الله عليه، فإنّ ما كتب عن نابليون أكثر عدداً ممّا كُتب عن الإمام علي بن أبي طالب، مع العلم أنّ نابليون لم تكن فيه فضيلة إلاّ الثورة ضدّ حكومة الوقت، ولم ينقل إلينا عن نابليون شيء من العلوم والاكتشافات والروحانيّات والزهد والعدالة والمساواة والتواضع وغير ذلك من مكارم الأخلاق.

أفلا تستحقّ عظمة الإمام علي صلوات الله عليه أن يُكتب عنه مقدار ما كُتب عمّن هو دونه في الفضل والدرجة، مع الالتفات أنّ الفضيلة التي اشتهر بها نابليون وطار صيته بها إنما هي فضيلة واحدة من آلاف الفضائل التي اجتمعت في الإمام علي.

أو ما كان علي جندياً ثائراً علي الكفر والشرك من عنفوان شبابه بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله ؟

أوَ ما كان علي قائداً مجاهداً طيلة أيام حياته وخاصّة في عهد النبي؟

ص: 19

وعلي الأخصّ بعد مقتل عثمان حينما أفضت الخلافة إليه، فيوماً قاتل المتمرّدين _ أصحاب الجمل _ ويوماً جاهد الدكتاتوريّين _ أهل صفّين _ ويوماً كافح الفوضويّين _ الخوارج _ وهل حياة الإمام إلاّ ثورة و جهاد وانقلاب و كفاح؟

أضف إلي ذلك بقيّة مناقبه و مواهبه التي ،كلّ واحدة منها فضيلة تُذكر و تشكر وتليق بكلّ مدح وإطراء وإعجاب وثناء.

ولا أريد أن أقيس نابليون بالإمام علي صلوات الله عليه، فإنّ علياً لا يُقاس به أحد، بل المقصود أنّ هواة نابليون وأتباعه كتبوا عنه هذا العدد الهائل من المؤلّفات، والمسلمون لم يراعوا حقّ علي، بل قصّروا بما يجب عليهم حول علي، إلاّ القليل ممّن وفي لرعاية الحق، ولعلّ الله تعالي يبعث في علماء المسلمين وكتّابهم وحملة الأقلام ومفكّريهم روح النشاط في العمل وإدامة الجهاد المتواصل في سبيل الله وسبيل المبدأ والعقيدة والحق، إنّ الله علي كلّ شيء قدير».

كلمة الحجّة آغا بزرك الطهراني:

قال الشيخ الحجّة آغا بزرك قدّس الله روحه في المجلّد الرابع من «الذريعة» تحت عنوان (ترجمة نهج البلاغة): لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحي الإلهيّ كتاب أمسّ به ممّا دُوّن في نهج البلاغة، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، وهو صدف الئالي الحكم وسفط يواقيت الكلم!

المواعظ البالغة في طيّ خطبه و كتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة لسعادة الدنيا والآخرة، ترشد طلاّب الحقائق بمشاهدة ضالّتهم، وتهدي أرباب الكياسة لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن

ص: 20

يعتكف بفنائه العارفون، وينقّبه الباحثون، وحريّ أن تُكتب حوله كتب ورسائل كثيرة حتّي يُشرح فيها مطالبه كلاً أو بعضاً، ويترجم إلي لغات أخر ليغترف أهل كلّ لسان من بحاره غرفة.

وقال في المجلد الرابع عشر منه أيضاً تحت عنوان «نهج البلاغة»: هو كالشمس الطالعة في رائعة النهار، في الظهور وعلوّ الشأن والقدر وارتفاع المحلّ، قد جُعلت رؤيتها لجميع الناس مرأي واحداً لا تخفي علي أحد، فيقبح من العاقل البصير سؤال ما هي الشمس الطالعة؟ وهي ممّا يقتبس من إشراق نورها كافّة الكائنات في البرّ والبحر، كذلك النهج قد طبّقت معروفيّته الشرق والغرب، ونشر خبره في أسماع الخافقين، ويتنوّر من تعليمات النهج جميع أفراد نوع البشر لصدوره عن معدن الوحي الإلهيّ، فهو أخ القرآن الكريم في التبليغ والتعليم، وفيه دواء كلّ عليل وسقيم، ودستور للعمل بموجبات سعادة الدنيا وسيادة دار النعيم، غير أنّ القرآن أنزله حامل الوحي الإلهيّ علي قلب النبي الأمين صلي الله عليه وآله، والنهج أنشأه باب مدينة علم النبي وحامل وحيه، سيّد الموحّدين وإمام المتّقين علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه من رب العالمين، وقد قيل فيه:

نهج البلاغة نهج العلم والعملِ *** فاسلُكه يا صاح تبلغ غاية الأملِ

وقد لمحّنا في ج 4، ص 144 إلي سيادته علي سائر الكتب و كونه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ونعم ما قيل فيه:

كلامُ عليٍّ كلامٌ عليٌّ *** وما قاله المرتضي مرتضي

لقد صارت الكلمات التي يلقيها أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبه، أو يُمليها إلي كاتبه مخزونة في صدور جمع من أصحابه، علي موجب السيرة العربيّة، ثم قيّد ما في تلك الصدور إلي الكتابة في الأصول الأوّليّة، ومنها ما ألفّ في عصر الأمير عليه السلام، مثل (كتاب الخطب) تأليف أبي سليمان

ص: 21

زيد الجهني الذي شهد حروب الأمير عليه السلام، ثمّ نقل منها إلي سائر الكتب التي ألّفت في جمع خطبه عليه السلام إلي عصر الشريف الرضي رَحمه الله ممّا لا يُستهان به، وكانت تلك الأصول المعتبرة والكتب المعتمدة في مكتبة الوزير سابور بن أردشير وغيرها في بغداد تحت نظرالشريف الرضي رَحمه الله يستفيد منها في كلّ حين، حتّي أخرج منها ما اختاره من منشئآت أمير المؤمنين عليه السلام وجعلها بين الدفّتين مرتباً علي ثلاثة أقطاب (1) الخطب (2) الكتب (3) الحكم، وبعد ذلك سمّي ما دوّنه من المنشئات ب (نهج البلاغة)، وبيّن وجه التسمية في مقدّمة الكتاب بقوله: لأنه يفتح للناظر في تلك المنشآت أبواب من البلاغة، فكلّ واحد من الخطب والكتب والحكم مصداق نهج البلاغة، أي طريقها الواضح، يفتح للناظر فيه أبواب من البلاغة، وبما أنّ ما اختاره و دوّنه في الأقطاب قد رقي في الجزالة والبلاغة أعلي الدرجات، وعجزت عن إدراك مزاياه أفهام كثير من الطبقات، كان محتاجاً إلي التعليق والتحشية والشرح والبيان والترجمة إلي سائر اللغات نظماً ونثراً، لتعميم نفعه لجميع أفراد نوع الإنسان، فقيّض الله جل جلاله جمعاً من أعلام المسلمين من العرب والعجم والسّنة والشيعة وغيرهم، فقاموا بتلك الوظائف كلّ علي مبلغ وُسعه وجدّه ومقدرته، وتوفيقه وسعادته، وهم بين مَن شرح جميعه، أو علّق عليه كذلك، أو شرح مشكلاته فقط، أو شرح خطبه، أو شرح كتبه أوجمعها، أو شرح كلماته القصار أو بعض أجزائه، أو ترجمه كلاً أو بعضاً إلي لغة أخري، أو نظمه كلاً أو بعضاً بالفارسية أو غيرها، أو ألّف في بعض ما يتعلّق به من تعداد خطبه وكتبه أو فهرس ألفاظه، أو التعريف له أو غير ذلك ممّا ألّفوه من هذا القبيل حسب ما اطّلعت عليه طيلة السنين، نسأل الله لهم جزيل الأجر والثواب ونشكر جميل مساعيهم، انتهي.

ص: 22

كلمة العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني:

وقال العلاّمة الحبر (رئيس محكمة التمييز الجعفريّة في العراق) السيّد هبة الدين الشهرستانيّ رَحمه الله في كتابه (ما هو نهج البلاغة): نهج البلاغة كتاب عربي اشتهر في مملكة الأدب الأمميّ اشتهار الشمس في الظهيرة، وهو صدف لئالٍ من الحِكَم النفيسة، ضمَّ بين دفّتيه 242خطبة و كلاماً، و 78 كتاباً ورسالة، و 498 كلمة من يواقيت الحكمة وجوامع الكلم لإمام الكلّ في الكلّ أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وذلك المختار من لفظه الحرّ و كلماته الغرّ وما جادت به يراعته الدفّاقة من لؤلؤٍ رطب ودرٍّ نضيد، وإنّ لسامعي هذه الخطب والكلم اهتزاز وَجدٍ و تمايل طربٍ محسوسين، وذانك برهانان لتفوّق الغناء الروحي علي نغمات قيثارة ماديّة، بل إنّ النغمات الموسيقيّة وأغانيها تتلاشي وتبيد بمرور الزمن، ورنّة النغم من كلم الإمام خالدة الأثر عميقة التأثير، ومن شاء أن يعرف أنّ الحروف كيف تُطرب، وأنّ الكلمة كيف تجذب، وأنّ الكلام كيف يُكهرب، فليقرأ نهج البلاغة، وهذه الجمل أمثولة منه، إذ يقول في وصف الجنّة بعد وصف الطاووس و عجيب خلقته:

«فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَي الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَي سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا وَ طُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا تُجْنَي مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَي مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا وَ يُطَافُ عَلَي نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ وَ الْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ» الخ.

كلمة الحجّة العلاّمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

ولحجّة الاسلام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رضوان الله عليه

كلمة حول نهج البلاغة في كتابه ( جنّة المأوي) ص: 136 جاء فيها:

ص: 23

«ما جادت العصور، ولا انجلت الدهور عن كتاب _ بعد كتاب الله العظيم _ أنفع ولا أجمع ولا ألمع وأنصع من نهج البلاغة في إقامة براهين التوحيد ودلائل الصنعة وأسرار الخليقة وأنوار الحقيقة وتذهيب النفس، وسياسة المدن، وحكمة التشريع والعظات البليغة، والحجج الدامغة، وإنارة العقول، وطهارة النفوس، بينا تراه يفيض بينابيع الحكمة النظريّة والعمليّة ويرهق علي توحيد الصانع، ويغرق في وصف الملائكة والمجرّدات بياناً، ويمثّل لك الجنة والنار عياناً كفيلسوف إلهي، وملاك روحيّ، وإذا به يعطيك قوانين الحرب وسوق الجيوش و تعبئة العساكر، كقائد حربي ومغامر عسكريّ، لا تلبث أن تجد فيه ما يبهرك من عجيب وصف الطاووس والخفّاش والذرة والنملة، فيصفها دقيقاً، ويستوعب فيها من عجائب التكوين و بدائع القدرة، حتي يُخيّل لك من دقّة الوصف أنّه هو الذي أبدع تصويرها، وقدّر مقاديرها، وركّب أعضاءها، وربط مفاصلها، هو صانعها ومبدعها، وصوّرها وقدّرها وشقّ سمعها وبصرها».

كلمة ابن أبي الحديد المعتزلي في نهج البلاغة:

قال في المجلد الثاني من شرحه ص 167: «لو سمع هذا الكلام _ يعني كلام علي عليه السلام _ النظر بن كنانة لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريح الإسماعيل بن بلبل:

قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم *** كلاّ ولكن لعمري منه شيبانُ

وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرا شرفٍ *** كما علا برسول الله عدنان

إذ كان يفخر به علي عدنان وقحطان، بل كان يقرّ به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن، ويقول له: إنه لم يُعفَ ما شيّدتُ من معالم التوحيد، بل أخرج الله تعالي من ظهري ولداً ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم

ص: 24

تبتدعه أنت في جاهليّة النبط، بل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنّ الله تعالي لا يعلم الجزئيّات لخشع قلبه ووقف شعره واضطرب فكره، ألا تري ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة والمتانة والجزالة، مع ماقد أشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا أري كلاماً يشبه هذا إلاّ أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإنّ هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة، وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار، و كأنّه شرح قوله تعالي: « وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »(1)

ويعود ثانياً فيقول ص 150 منه:

هذا موضع المثل «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل»(2) يعني إذا جاء هذا الكلام الربّاني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلي النضار الخالص، ولو فرضنا أنّ العرب تقدر علي الألفاظ الفصيحة المناسبة والمقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها، ومن أين تعرف الجاهليّة _ بل الصحابة المعاصرون لرسول الله صلي الله عليه وآله _ هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها.

أمّا الجاهلية فإنّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أوفرس أوحمار وحشي أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك.

وأمّا الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنّما كان منتهي فصاحة أحدهم كلمات لاتتجاوز السطرين أو الثلاثة، إمّا في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدنيا، أو ما يتعلّق بحرب وقتال من ترغيب وترهيب أو نسب.

ص: 25


1- الأنعام: 59.
2- تاج العروس 8: 30. ونهر معقل بالبصرة، نُسب إلي معقل بن يسار المزني.

فأمّا الكلام في الملائكة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وجماله وولهها إليه وما جري مجري ذلك، فإنّه لم يكن معروفاً عندهم علي هذا التفصيل، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم ولا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم، وأمّا من عنده علم من هذه المادة كعبد الله بن سلام، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهم، فلم تكن لهم هذه العبارة، ولا قدروا علي هذه الفصاحة ، فثبت أنّ هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ لعلي وحده، وأقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ورجف قلبه واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وجلده، وهام نحوه، وغلب الوجد عليه، وكاد أن يخرج من مسكه شوقاً، وأن يفارق هيكله صبابة ووجداً.

ولاستجلاء هذه الحقائق بأرقامها لا بدّ من ذكر نكتة تؤيّدها وتضمن وجودها: من العلم بالنسب وأنّ معرفة الصحابة محدودة.

حدّث المعتزلي في المجلّد الأول من (شرح النهج) ص 378 ط الاولي، ونقل القصة أيضاً المحبّ الطبري في المجلد الأول من كتابه (الرياض النظرة) ص 102 في أحوال أبي بكر، ونحن ننقلها عن المعتزلي:

روي المعتزلي عن المدائني في كتاب الأمثال عن المفضّل الضبي: أن رسول الله صلي الله عليه وآله لمّا خرج عن مكّة يعرض نفسه علي قبائل العرب، خرج إلي ربيعة ومعه علي عليه السلام وأبوبكر، فدُفعوا إلي مجلس ربيعة، فتقدّم أبوبكر _ وكان نسّابة _ فسلّم فردّوا عليه السلام فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمن هامّتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمي، فقال: من أيّ هامتها العظمي أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يُقال له لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهي الأحياء؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم جسّاس حامي الذمار و مانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف

ص: 26

صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذاً ذهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال:

إنّ علي سائلنا أن نسألهْ *** والعِبء لا تعرفه أو تحمله

يا هذا إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئاً، فممّن الرجل؟

قال: من قريش. قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرياسة، فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت _ والله _ الرامي من الثغرة، أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان مجمّعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟ قال:لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مُطعم طير السماء؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الوفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية؟ قال: لا. قال: فاجتذب أبوبكر زمام ناقته ورجع إلي رسول الله صلي الله عليه وآله هارباً من الغلام، فقال دغفل: صادف درء السيل دراً يصدعه،(1) أما والله لو ثبت لأخبرتُه أنّك من زمعات قريش _ أي من أرذالها _ فتبسّم رسول الله صلي الله عليه وآله، وقال علي عليه السلام لأبي بكر: لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي علي باقعة، أي داهية، قال: أجل «إنّ لكل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق» فذهبت مثلاً.(2)

قال ابن أبي الحديد «فهذا الذي تعلمه الصحابة لايتجاوز السطرين أو الثلاثة، أما في موعظة أو نسب أو غير ذلك ممّا ذكرنا من صفات الإبل والخيل أو حمار وحشي».

ص: 27


1- يقال للسيل اذا أتاك من حيث لا تحتسبه: سيل درء، أي يدفع هذا ذاك وذاك هذا. النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 2: 110.
2- الأنساب للسمعاني 1: 37.

ويعود ابن أبي الحديد ثالثة فيقول في المجلّد الثاني من شرحه ص 546، في دعم من زعم أنّ خطب نهج البلاغة للشريف الرضي رَحمه الله. تحدّث، بعد ذكر خطبة ابن أبي الشحماء العسقلاني الكاتب فقال:

هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي _ كما تراها_ ظاهرة التكلّف، بيّنة التوليد، تخطب علي نفسها، وإنّما ذكرت هذا لأنّ كثيراً من أرباب الهوي يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام مُحَدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلي الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات (1) الطريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأوّل باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلي أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدّثون _ كلّهم أو جلّهم _ والمؤرّخون كثيراً منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلي غرض في ذلك، والثاني يدلّ علي ما قلناه، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف علي كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين، ألا تري أنّا _ مع معرفتنا بالشعر ونقده _ لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسِهِ وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا تري أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس

ص: 28


1- بنيات الطريق: الطرق الصغار تشغب من الجادّة.

من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ علي الذوق خاصّة، وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءاً واحداً أو أسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة، و كالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلي أمير المؤمنين عليه السلام. واعلم أنّ قائل هذا القول يطرق علي نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متي فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك علي أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله صلي الله عليه وآله أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول «هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع» وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي عليه السلام والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء المترسّلين والخطباء، فلناصر أمير المؤمنين عليه السلام أن يستعدّ إلي مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضح.

كلمة الفيلسوف الشيخ محمّد عبدة

«مفتي الديار المصرية في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة»:

«فقد أوفي لي حكم القدر بالاطّلاع علي كتاب نهج البلاغة مصادفة بلا تعمّل، أصبته علي تغيّر حال و تبلبل بال و تزاحم أشغال و عطلة من أعمال، فحسبته تسلية وحيلة للتخلية، فتصفّحتُ بعض صفحاته و تأمّلت جُملاً من عباراته من مواضع مختلفات ومواضيع متفرّقات، فكان يخيّل لي في كلّ مقام أنّ حروباً شبّت وغارات شُنّت، وأنّ للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأنّ

ص: 29

للأوهام عرامة وللريب دعارة، وأنّ محافل الخطابة و كتائب الذرابة (أي الفصاحة)(1) في عقود النظام وصفوف الانتظام تنافح بالصفيح الأبلج (أي السيف)(2) والقويم الأملج (الرمح الاسمر)(3) وتمتلج المهج (أي تمض)(4) برواضع الحجج، فتفلّ من دعارة الوساوس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا إلاّ والحقّ منتصر والباطل منكسر، ومرج الشكّ في خمود، وهرج الريب في ركود، وإنّ مدبّر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلي موضع أحسّ بتغير المشاهد وتحوّل المعاهد، فتارة كنتُ أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية، تطوف علي النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض المزال إلي جواد الفضل والكمال، وطوراً كانت تنكشف لي الجمل عن وجوه باسرة وأنياب كاشرة وأرواح في أشباح النمور ومخالب النسور، قد تحفّزت للثواب ثمّ انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء و باطل الآراء.

وأحياناً كنت أشهد أنّ عقلاً نورانيّاً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن

ص: 30


1- ذرب الرجل إذا فصح لسانه بعد حصره. لسان العرب / ابن منظور: 1/ 385. وله معاني كثيرة منها ما ذُكر.
2- الصفيحة: السيف العريض... قال ابن الأعرابي: المصفحات: السيوف، لانهاصفحت حين طبعت.. القاموس المحيط/ الفيروز آبادي: 3 /393.
3- الملج: السمر من الناس، وفي نوادر الأعراب: أسود أملج.. والأملج الأصفر ليس بأسود ولا أبيض وهو بينهما. لسان العرب: 2/ 369.
4- ملج: ملج الصبي أمه.. وملجها إذا رضعها.. وفي الصحاح: تناول الثدي بأدني الفم... والإملاج: الإرضاع. لسان العرب: 2/ 369.

الموكب الإلهي واتّصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلي الملكوت الأعلي، ونما به إلي مشهد النور الأجلي، وسكن به إلي عمّار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.

وآنات كأنّي أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمّة، يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب، ويحذّرهم مزالق الاضطراب، ويُرشدهم إلي دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلي منصّات الرئاسة، ويصعدهم شُرَفَ التدبير، ويشرف بهم علي حسن المصير...» إلي آخر كلماته الظاهرة عليها إمارات الدهشة والحيرة.

أجل ولئن اندهش هذا الفيلسوف من كلام أمير المؤمنين عليه السلام واضطرب فكره، فقد اضطربت قبله آراء فلاسفة وحكماء، ووقفت أفكارهم عند حدّه.

كلمة محمد محيي الدين مصدّر شرح النهج لابن عبدة:

«وبعد فهذا الكتاب (نهج البلاغة)، وهو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسن الموسويّ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضي الله عنهُ، وهو الكتاب الذي جمع بين دفّتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيّأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة، ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق _ بعد الرسول صلي الله عليه وآله _ منطقاً وأشدّهم اقتداراً وأبرعهم حجّة، وأملكهم للّغة، يُديرها كيف شاء، الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه، والخطيب الذي يملأ القلب سحر لسانه، العالم الذي تهيّأ له من خلاط الرسول وكتابة الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم يتهيّأ لأحد سواه...»

كلمة السيد الشريف الرضي رَحمه الله مؤلف نهج البلاغة:

قال الرضي رَحمه اللهُ: فإنّي كنت في عنفوان السنّ وغضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليه السلام يشتمل علي محاسن أخبارهم

ص: 31

و جواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، وفرغت من الخصائص التي تخصّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام، وعاقت عن إتمام بقيّة الكتاب محاجزات الأيام ومماطلات الزمان، وكنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً، وفصّلته فصولاً، فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نُقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذِكره، معجبين ببدائعه ومتعجّبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي علي المختار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ومتشعّبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب، علماً أنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربيّة و ثواقب الكلم الدينيّة والدنياويّة ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلي أمثلته حذا كلّ قائل خطيب، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وقد تقدّم و تأخّروا،لأنّ كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ.

كلمة ميرزا حبيب الله الخوئي

«مؤلّف منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة»:

«... ثم إنّ أحسن الروايات المنشورة، وأبهي الكلمات المنثورة، هو ما دوّنه السيد السند والركن المعتمد الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين الموسوي قدّس الله سره ونوّر ضريحه في نهج البلاغة من شرائف الكلام والخطب، ولطائف الوصايا والكتب والأدب، المأثورة من

ص: 32

باب مدينة العلم والحكمة، والمتلقّاة من قطب دائرة الطهارة والعصمة، حجّة لله في عباده، و خليفة لله في بلاده.

ولعمري إنّه كتاب شرع المناسك للناسك، وشرح المسالك للسالك، وهو خلاص المتورّطين في الهلكات، ومناص المتحيّرين في الفلوات، ملاذ كلّ بائس فقير، ومعاذ كلّ خائف مستجير، مدينة المآرب وغنية للطالب، لأنّ ما أودع فيه كلام عليه مسحة من الكلام الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، ظاهره أنيق وباطنه عميق، مشتمل علي أمر ونهي ووعد ووعيد، و ترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص، لا تفني عجائبه ولاتنقضي غرائبه، يدلّ علي الجنة طالبها، وينجي من النار هاربها، شفاء من الداء العُضال، ونجاة من ظلمة الضلال، دواء لكلّ عليل ورواء لكلّ غليل، وأمل لكلّ آمل، وبحر ليس له ساحل، وكنز مشحون بأنواع الجواهر والدرر، يفوح من نفحاته المسك الأذفر والعنبر.

ومع ذلك قد احتوي من حقائق البلاغة، ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع من فنون المعان وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية والنكات الأدبية والمحاسن البديعية ما يعجز عن تقديره لسان البشر...».

كلمة الأستاذ حسن نائل المرصفي المصري:

تحدّث أستاذ الفن (حسن نائل المرصفي) مدرس البيان بكليّة العزيز الكبري بمصر في مقدّمة شرحه علي نهج البلاغة، فجمع بايجاز أطراف البيان حول عبقريّة الإمام وذكر مزاياه العالية وشرح ماهيّة كلامه في نهج البلاغة ملخّصاً فيما يأتي، قال:

«بهذه الخصال الثلاث _ يعني جمال الحضارة الجديدة، وجلال

ص: 33

البداوة القديمة، وبشاشة القرآن الحكيم _ امتاز الخلفاء الراشدون، ولقد كان المجلي في هذه الحلبة علي صلوات الله عليه، وما أحسبني أحتاج في إثبات هذا إلي دليل أكثر من نهج البلاغة، ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجّة واضحة علي أنّ عليّاً رَضي الله عنهُ قد كانأحسن مثال حيّ لنور القرآن و حكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته.

اجتمع لعليّ عليه السلام في هذا الكتاب مالم يجتمع لكبار الحكماء وأفذاذ الفلاسفة ونوابغ الربّانيّين من آيات الحكمة السامية وقواعد السياسة المستقيمة، و من كلّ موعظة باهرة، وحجّة بالغة، تشهد له بالعقل وحسن الأثر.

خاض علي في هذا الكتاب لجّة العلم والسياسة والدين، فكان في كلّ هذه المسائل نابغة مبرّزاً، ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس في وسع الكاتب المسترسل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق أن يبلغ الغاية في وصفه والنهاية من تقريظه، وحسبنا أن نقول: إنّه الملتقي الفذّ الذي التقي فيه جمال الحضارة وجزالة البداوة والمنزل الفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلاً تطمئنّ فيه وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كلّ لغة».

***

وكم مثل هذا في الواصفين لنهج البلاغة من حكموا بتفوّقه علي كتب الإنشاء ومنشآت البلغاء، واعترفوا ببلوغه حدّ الاعجاز، وأنّه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق المتعال، وأعجبوا به أقصي الإعجاب، وشهدت ألسنتهم بدهشة عقولهم من عظمةٍ أضاء سنا برقها من ثنايا الخطب و مزايا الجمل، وليس إعجاب الأدباء بانسجام لفظه وحده، ولا دهشة العلماء من تفوّق معانيه البليغة حدّ الاعجاز فقط، وإنّما الإعجاب كلّه والدهشة كلّها في تنوّع المناحي في هذه الخطب والكلم، واختلاف المرامي والأغراض فيها،

ص: 34

فمن وعظ ونصح وزهد وزجر، إلي تنبيه حربيّ واستنهاض للجهاد، إلي تعليم فنّي ودروس ضافية في هيئة الأفلاك وأبواب النجوم، وأسرار من طبائع كائنات الأرض و كامنات السماء، إلي فلسفة الكون وخالقه، وتفنّن في المعارف الإلهيّة وترسّل في التوحيد، وصفة المبدء والمعاد، إلي توسّع في أصول الإدارة وسياسة المدن والأمم، إلي تثقيف النفوس بالفضائل وقواعد الاجتماع و آداب المعاشرة ومكارم الأخلاق، إلي وصف شعري لظواهر الحياة، وغير ذلك من شتّي المناحي المتجلّية في نهج البلاغة بأرقي المظاهر.

كلمة الصحافي الشهيره أمين نخلة:

ولا تغيب عنك كلمة الصحافي الشهير (أمين نخلة) من أفاضل المسيحيين مخاطباً من رجاه انتخاب (المئة) من كلمات الإمام عليه السلام، إذ قال:

«سألتني أن أنتقي مئة كلمة من كلمات أبلغ العرب أبي الحسن تُخرجها في كتاب، وليس بين يديّ الآن من كتب الأدب التي يُرجع إليها في مثل هذا الغرض إلاّ طائفة قليلة منها إنجيل البلاغة (النهج)، فرحت أسرّح اصبعي فيه، ووالله لا أعرف كيف أصطفي لك المئة من مئات، بل الكلمة من الكلمات، إلاّ إذا سلخت الياقوتة عن أختها الياقوتة، ولقد فعلت ويدي تتقلّب علي اليواقيت، وعيني تغوص في اللمعان، فما حسبتني أخرج من معدن البلاغة بكلمة لفرط ما تحيّرت في التخيير، فخذ هذه (المئة) وتذكّر أنّها لمحات من نور وزهرات من نَور، ففي نهج البلاغة من نِعم الله علي العربية وأهلها أكثر بكثير من مئة كلمة».

يصف هذا الكاتب وغيره كلم الإمام عليه السلام بالدرّ والياقوت والجوهر، وأنّي لهذه الأحجار الغالية مزايا الحكمة العالية، ومن أين لها أن تهدي الحياري في سُبل الحياة ومسالكها الشائكة، ومن أين لها الوساطة بين الجهل والعلم، وربط الانسان بعالم اللاهوت، أو أن تكشف للبصائر أسرار الملكوت.

ص: 35

كلمة نرسيسيان:

«رئيس كتّاب القنصلية البريطانية ببغداد سنة 1328ه»

وكان من فضلاء الأرمن زاعماً تفوّق نهج البلاغة علي كلّ كلام عربي لكثرة ما فيه من السهل الممتنع الذي لا يوجد في سواه، وانقياد الأسجاع الصعاب فيه بلا تكلّف، واستشهد بقوله عليه السلام:

«أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَشُغُفِ الْأَسْتَارِ نُطْفَةً دِهَاقاً وَعَلَقَةً مِحَاقاً وَجَنِيناً وَرَاضِعاً وَوَلِيداً وَيَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَلِسَاناً لَافِظاً وَبَصَراً لَاحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً حَتَّي إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَاسْتَوَي»

معجباً بحسن التسجيع و كيف يجري الروي كالماء السلسال علي لسان الإمام عليه السلام .

ثم قال: ولو كان يرقي هذا الخطيب العظيم منبر الكوفة في عصرنا هذا، لرأيتم مسجدها علي سعته يتموّج بقبّعات الافرنج للاستقاء من بحر علمه الزاخر.

كلمة مستر كرينو الانكليزي أستاذ الآداب العربية:

في كلية (عليكده) الهندية عندما اجتمع الأساتذة والأدباء حوله في حفلة وسألوه عن إعجاز القرآن أجابهم:

«إنّ للقرآن أخاً صغيراً يُسمّي (نهج البلاغة)، فهل في إمكان أحد أن يأتي بمثل هذا الصغير حتّي يسوغ لنا البحث عن الأخ الكبير».

كلمة الأستاذ جورج جرداق:

تحدث الأستاذ (جورج جرداق) _وهو من أفاضل الكتّاب والمؤلّفين المسيحيين _ في مؤلّفه «الإمام علي صوت العدالة الانسانية»، و تحت عنوان «الأسلوب والعبقريّة الخطابيّة» عندما يتحدّث عن (نهج البلاغة) قائلاً:

ص: 36

«نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الانسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر، مترابط بآياته متساوق، متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد، متدفّق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلي معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الاخراج، حتّي ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكل بالمعني، اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس، والهواء بالهواء، فما أنت أزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر، والبحر إذ يتموّج، والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة علي ما هو كائن عليه من الوحدة، لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها وتجعلها إلي غير كون.

بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ علي لسان العاصفة انقضاضاً، ولو هدّد الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواء وأصوات، ولو انبسط في منطقٍ لخاطب العقول والمشاعر، فأقفل كلّ باب علي كلّ حجّة غير ما ينبسط فيه، ولو دعا إلي تأمّل لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلي ما يريده سوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحّد فيك القوي للاكتشاف توحيداً، وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوّة وصدق الوفاء الانساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي، أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود و كمالات الخلق وجمالات الكون فإنّما يكتب علي قلبك بمدادٍ من نجوم السماء.

بيانٌ هو بلاغة من البلاغة و تنزيل من التنزيل.

بيانٌ اتّصل بأسباب البيان العربي، ما كان منه وما يكون، حتّي قال أحدهم في صاحبه: إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

وخطب الإمام جميعاً تنضح بدلائل الشخصيّة، حتّي لكأنّ معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما

ص: 37

تشتعل النار في موقدها تحت نفح الشمال، فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً غاية الجمال، وكذلك كانت كلمات علي بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوي ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق وعمق الفكرة وفنّية التعبير، حتّي أنّها ما نطقت بها شفتاه إلاّ ذهبت مثلاً سائراً.

والخلاصة أنّ علي بن أبي طالب أديب عظيم نشأ علي التمرّس بالحياة، وعلي المرانة بأساليب البلاغة، فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالة في شخصية الأديب، ومن ثقافة تنمو بها الشخصيّة وتتركّز الأصالة.

أمّا اللغة لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها (مرشلوس) في المجلّد الأول من كتابه (رحلة إلي الشرق) هذا القول الذكي: «اللغة العربية هي الأغني والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض بتراكيب أفعالها، تتبع طيران الفكر وتصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلبد صراخ الحيوانات، ورقرقة المياه الهاربة، وعجيج الرياح وقصف الرعد». أمّا هذه اللغة بما ذكر (مرشلوس) من صفاتها وبما لم يذكر، فإنّك واجدٌ أصولها وفروعها وجمال ألوانها وسحر بيانها في أدب الإمام علي، وكان أدباً في خدمة الانسان والحضارة».

ولمّا كان في نفسه أن يُشبع الموضوع ويستعرضه عرضاً دقيقاً، استرسل في حديثه ثانية بقوله:

وإنّ قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفنّي، أوالذوق الجمالي لممّا يندر وجوده لدي الكثيرين، وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده، أمّا طبعه في ذلك فهو طبع ذوي الأصالة والموهبة الذين يرون فيشعرون، ويدر كون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفويّاً، لذلك تميّز عليٌّ بالصدق كما تميّزت به حياته، وما الصدق إلاّ ميزة الفنّ الأولي ومقياس الأسلوب الذي لا يُخادع.

ص: 38

وإنّ شروط البلاغة _ التي هي موافقة الكلام لمقتضي الحال _ لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب، فإنشاؤه أعلي مَثَل لهذه البلاغة بعد القرآن، فهو موجز علي وضوح قويّ جيّاش تامّ الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن، موسيقيّ الوقع، وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدّة، ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، لاسيّما ساعة يكون القول في المنافقين المراوغين وطلاّب الدنيا علي حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة، فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويّته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة، وقد بلغ أسلوب علي من الصدق حدّاً ترفّع به حتّي السجع عن الصنعة والتكلّف، فإذا هو _ علي كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة _ أبعد ما يكون عن الصنعة وروحها، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.

فانظر إلي هذا الكلام المسجّع وإلي مقدار ما فيه من سلامة الطبع «يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ وَ مَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ وَ اخْتِلَافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَ تَلَاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ» أو إلي هذا القول في إحدي خطبه: «وكَذَلِكَ السَّمَاءُ والْهَوَاءُ والرِّيَاحُ والْمَاءُ - فَانْظُرْ إِلَي الشَّمْسِ والْقَمَرِ والنَّبَاتِ والشَّجَرِ والْمَاءِ والْحَجَرِ واخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ والنَّهَارِ وتَفَجُّرِ هَذِه الْبِحَارِ وكَثْرَةِ هَذِه الْجِبَالِ وطُولِ هَذِه الْقِلَالِ وتَفَرُّقِ هَذِه اللُّغَاتِ والأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَا... الخ».

و أوصيك خيراً بهذا السجع الجاري من الطبع «ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ، وَأَجْرَي فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَقَمَراً مُنِيراً فِي فَلَك دَائِر، وَسَقْفٍ سَائِرٍ... الخ».

فإنّك لو حاولتَ إبدال لفظٍ مسجوع في هذه البدائع جميعاً بآخر غير مسجوع لعرفت كيف يخبو إشراقها ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته، فالسجع في هذه الأقوال العلويّة ضرورة فنّية يقتضيها الطبع الذي

ص: 39

يمتزج بالصنعة امتزاجاً، حتّي لكأنّهما من معدن واحد، يبعث النثر شعراً له أوزان وأنغام ترفق المعني بصورٍ لفظيّة لا أبهي منها ولا أشهي.

وإذا قلنا إنّ أسلوب علي تتوفّر فيه صراحة المعني وبلاغة الأداء وسلامة الذوق الفنّي، فإنّما نشير علي القارئ بالرجوع إلي نهج البلاغة ليري كيف تتفجّر كلمات عليٍ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، وبأي حُلّة فنية رائعة الجمال تمور وتجري.

وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: «اَلْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» وفي قوله: «الْحِلْمُ عَشِيرَةٌ» أو في قوله: «مَنْ لَانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ» أو في قوله: «كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إلا وِعَاءَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ» أو في قوله أيضاً: «لَو أحَبَّني جَبَلٌ لتهَافَتَ» أوفي هذه الأقوال الرائعة: «الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ» «رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ» «إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَي أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ» «لْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً» «افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ» «هَلَكَ خُزّانُ الاَمْوالِ وَهُمْ اَحْياءٌ» «مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ».

فأنت تري ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورة مطلقة، إلاّ إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها.

ويبلغ أسلوب علي قمّة الجبال في المواقف الخطابية، هذه الأصالة التي تثور بها عاطفته الجيّاشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صور حارّة من أحداث الحياة التي تمرّس بها، فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه، وتتدفّق علي لسانه تدفّق البحار، ويتميّز أسلوبه في مثل هذه المواقف بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات، وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين.

والخطباء في العرب كثيرون، والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام، ولاسيّما في عصر النبي والخلفاء والراشدين، لما كان

ص: 40

لهم بها من حاجة، أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبي لا خلاف في ذلك، أمّا في العهد الراشدي وفيما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا النحو، فإنّ الله يسّر له العدّة الكاملة بالفطرة السليمة والذوق الرفيع والبلاغة الآسرة، ثمّ بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجّة قائمة وقوّة إقناع دامغة وعبقريّة في الإرتجال نادرة.

وابن أبي طالب علي المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدل القول، ثمّ إنّه قوي الفراسة، سريع الإدراك، يقف علي دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخر جنانه بعواطف الحريّة والانسانية والفضيلة، حتّي إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخاصّة.

أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلاّ بأنّه أساس في البلاغة العربية. يقول أبو هلال العسكري (في الصناعتين): «ليس الشأن في إيراد المعاني _ وحدها _ وإنّما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحّة السبك والتركيب، والخلوّ من أود النظم والتأليف، من الألفاظ ماهو فخم كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفة وتيهاً، ومنها ماهو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح، ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين، ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقي علي بعض العواطف ليستر من حدّتها ويخفّف من شدّتها، ومنها ماله وميض البرق، ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء، من الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد، ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعدّ للرضي والغفران، ومنه ما يضيء كالشهاب وهو كلام التعظيم، كذلك من الكلام ما ليس له طابع خاصّ فيؤتي به لتقوية الجملة ودعم المعني، فهو يلائم كلّ حال».

كلّ ذلك ينطبق علي خطب الإمام علي في مفرداتها وتعابيرها، هذا

ص: 41

بالاضافة إلي أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية علي رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت كخطب ابن أبي طالب تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلي روعة المعني وقوّته وجلاله، انتهي.

لم يسمع الناس بكلام قطّ بعد كلام الله تعالي ورسوله أعمّ نفعاً، وأصدق لفظاً، وأعدل وزناً، وأجمل مذهباً، وأكرم مطلباً، ولا أحسن موضعاً ولا أسهل مزجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلام علي أمير المؤمنين عليه السلام، فقد شاهدنا روّاد العبقريّة الانشائيّة مسترشدين بكلمه عليه السلام وخطبه و كتبه.

حكي عبد المسيح في شرح قصيدته أنّ شيخه ناصيف اليازجي قال له: «ما أتقنت الكتابة إلاّ بدرس القرآن العظيم ونهج البلاغة القويم، فهما كنز العربيّة الذي لا ينفد وذخيرتها للمتأدّب، وهيهات أن يظفر أديب بحاجته من هذه اللغة الشريفة إن لم يُحيي لياليه سهراً في مطالعتهما والتبحّر في عالي أساليبهما».

وقال عبد الحميد بن يحيي _ الذي يُضرب ببلاغته المثل _: «حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت» _ يعني بالأصلع سيّدنا علياً عليه السلام.

وقال ابن نباتة: «حفظت من الخطب كنزاً لا يزيده الانفاق إلاّ سعة،حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب».

وقد زيّن الجاحظ كتبه مثل «البيان والتبيين» بفصول من خطب أمير المؤمنين عليه السلام إعجاباً بها، وإعداداً للنفوس لبلوغ أقصي البلاغة، وشاهدنا جماهير العرب والعجم والشرقيّين والمستشرقين ممّن يتطلّبون بلاغة اللسان وبراعة القلم يستظهرون نهج البلاغة لما فيه من فصاحة بانسجام، وبلاغة خالية من كلّ تعقيد أو تكلّف، وعروبة صحيحة تعالي عهدها عن تصنّعات عهد المولدين، هذه غاية الأدباء في حفظ كلامه عليه السلام.

ص: 42

وكم يعود الأسف بليغاً إذا نبذنا مثل هذا الكتاب وراءنا ظِهريّاً، وحرمنا النشء من فنون بيانه، وتركناه صفر الكفّ من شذور عقيانه، عكس ما لو يثقّف بدراسته دراسة تفقّهٍ واستحضار وتدبير واستظهار، فندّخر بهذا ومثله لأفلاذ أكبادنا كنزاً من الحكمة أو جَنّة باقية وجُنّة واقية تقيهم في مزالق الانشاء، وتملّكهم مقاليد البلاغة في البيان، والبيان من أهم عوامل الرقيّ في الحياة. لم لا نُصغي لنداء مرشدنا الروحي الذي يخاطبنا من صميم ضميره الحرّ بداعية الهداية، وما هو _ لو أنصفناه _ إلاّ أستاذ الكلّ في الكلّ، يلقّن العالم نتائج المعارف العالية، ويلقي دروسه علي صفوف من أقصي الشرق إلي أقصي الغرب بلهجة من لغة الضاد رقّت وراقت فلا يوجد أجمل منها حسناً وبهاءاً.

كلمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين:

قال الشيخ محمد مهدي في كتابه (دراسات في نهج البلاغة): «سواء نظرت إليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقلّ نظائرها في التراث الانساني علي ضخامة هذا التراث، فقد قيل في بيان صاحبه إنّه دون الخالق وفوق كلام المخلوق، بيان معجز البلاغة، تتحوّل الأفكار فيه إلي أنغام، وتتحوّل الأنغام فيه إلي أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام كائن حيّ متحرّك ينبض بالحياة ويمور بالحركة. وتلك هي آية الاعجاز في كلّ بيان. ولم يكرّس هذا البيان المعجز المديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة ممّا اعتاده التافهون من الناس أن يكرّسوا له البيان.

فلم يمجّد الإمام الأعظم في نهج البلاغة قوّة الأقوياء وإنّما مجّد نضال الضعفاء، ولم يمجّد غني الأغنياء وإنّما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجّد الظالمين العتاة وإنّما مجّد الأنبياء والصُلحاء.

ص: 43

إنّ الحرية والعبودية، والغني والفقر، والعدل والظلم، والحرب والسلم، والنضال

الأزليّ في سبيل عالم أفضل الإنسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة.

فنهج البلاغة كتاب إنسانيّ بكلّ ما لهذه الكلمة من مدلول، إنسانيّ باحترامه للانسان وللحياة الإنسانية، وإنسانيّ بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر كان الفرد الإنساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنسانيّ بما يثيره في الانسان من حبّ الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموّها ونقاءها، لهذا ولغيره كان نهج البلاغة _ وسيبقي _ علي الدهر أثراً من جملة ما يحويه التراث الإنساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات.

وحقّ له أن يكون كذلك وهو عطاء إنسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل، ومثلاً أعلي في كل ما يشرف الانسان».

كلمة الأديب جبران خليل جبران:

«أمّا بلاغة الإمام علي فإنّها النور ذو المناهج والطرق التي تاه عنها العرب فلم يفهموها، ومنهم من آثروا عليها ظلمات أيّامهم يتيهون في شعابها رجوعاً إلي الجاهليّة واتّصالاً بمن تتمثّل بهم الجاهلية من سماسرة المنافع و تجّار الأعناق، في عقيدتي أنّ ابن ابي طالب كان أوّل عربي لازم الروح الكلّيّة وجاورها وسامرها، وهو أوّل عربي تناولت شفتاه صدي أغانيها علي مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم، فمن أعجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية». نقلاً عن كتاب «الإمام علي صوت العدالة الانسانية» ص363.

كلمة الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

في كتابه «نظرة في شرح نهج البلاغة»:

«لقد احتوي نهج البلاغة من حقائق البلاغة ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ

ص: 44

قعره الفكر، وجمع من فنون المعاني وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية والنكات الأدبية والمحاسن البديعيّة ما يعجز عن تقديره لسان البشر».

كلمة روكس بن زائدة العزيزي الكاثوليكي:

تحدث الأستاذ روكس عن نهج البلاغة في كتابه (الإمام علي أسد الاسلام وقدّيسه) ص 225 تحت عنوان (أثر الإمام في مثقّفي العرب) قائلاً:

«يقيناً أنّ كلّ مثقّف عربي، كلّ كاتب عربي، كلّ خطيب عربي مدين للإمام علي، فإذا كان كلّ مسلم في الدنيا مدين للقرآن الكريم في تكوّن عقليّته وتفكيره، فإنّ كلّ مثقّف عربي مدين لنهج البلاغة في تقويم قلمه، وما أعدت قول اليازجي العظيم إلاّ ازددت اقتناعاً بما أقول، قال إبراهيم اليازجي: «ما أتقنت الكتابة إلاّ بدرس القرآن ونهج البلاغة» وإبراهيم اليازجي إذا أردنا أن نحكم علي رجل من رجال القلم بالنسبة إلي كلّ علوم اللغة العربية مجتمعة، لا نجد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من يتفوّق عليه، وإن كان في كلّ علم من علومها علي انفراد يوجد من ينافسه ويتفوّق عليه.

إذا كان اليازجي يقول هذا، فإنّ كلّ مثقّفٍ عربي مدين لنهج البلاغة وللإمام علي في استقامة نهجه الكتابي، وانطلاقاً من هذه النقطة فنحن لا نعدّ كاتباً أو أديباً عربياً مثقّاًة ثقافة عربية أصيلة إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة.

فالذي يريد أن يفهم المجتمع العربي والعقليّة العربية لا بدّ له من قراءة نهج البلاغة، والذي يريد أن يفهم أسلوب الحكم في البلاد العربية يحتاج إلي نهج البلاغة.

الفقيه الذي يرغب في أن يكون نافذ الفكر، مستنير البصيرة هوفي أقصي الحاجة إلي نهج البلاغة.

ص: 45

رجل الوعظ المسلم الذي يريد أن يكون واسع الآفاق محتاج إلي نهج البلاغة، وإن لم يفعل فإنّه ظلاّم لنفسه، قليل الاحترام لعقله. قرأت شيئاً اسمه (تشريح شرح نهج البلاغة)، فشعرت بإشفاق علي عقلية الرجل، وذكرت حالاً قول ابن العميد علي كتب الجاحظ: «كتب الجاحظ: تعلّم العقل أوّلاً والأدب ثانياً».

ونهج البلاغة في اعتقادي يعلّم العقل أوّلاً، والأدب ثانياً، وأساليب كلّ فنّ من الكتابة والخطابة ثالثاً، ويطّلع منه الانسان علي أمور لا أعتقد أنّها توجد في كتاب واحد كلّها مجتمعة.

وبعد فأنا أنظر إلي الكتاب علي اعتبار أنّه كنز ثمين لا غني لمتأدّب عنه، وأنظر إلي صاحب هذا الكتاب فأري أنّه طّوق جيد اللغة العربية بمنّةٍ لا تزول حتّي تزول الأرض ومن عليها.

وعندي أنّه إذا ثبت كلّ ما في نهج البلاغة للإمام علي، فهو معجزة أدبية، وإذا أراد النافون أن ينفوه عنه وينسبوه إلي جامع الكتاب، فتكون معجزة الإمام أعظم، إذ يستطيع حبّه أن يُملي علي محبّيه أن يأتوا بمثل هذه الدرر الغوالي!

فإثبات نهج البلاغة للإمام ونفيه عنه يثبت عظمة الإمام الخالدة، ولا ينفي الدَين الذي للإمام علي مثقّفي العرب كافّة».

العقّاد و نهج البلاغة:

جاء في كتابه (عبقريّة الإمام)، في فصل ثقافته عليه السلام ما نصّه:

«ففي كتاب نهج البلاغة فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية، تتّسع به دراسة كلّ مشتغل لعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيده».

ويقول فيه: «فكلّ نمط من أنماط كلامه شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي وقدرة التعبير، فهو ولا شكّ من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأوتوا الحكمة وفصل الخطاب».

ص: 46

كلمة سبط ابن الجوزي:

جاء في كتابه (تذكرة الخواص) ما نصّه: «كان علي ينطق بكلام قد حُفَّ بالعصمة، ويتكلّم بميزان الحكمة، كلام ألقي الله تعالي عليه المهابة، فكلّ من طرق سمعه راعه فهابه، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم يسقط منه كلمة، ولا بارت له حجّة، أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق في السابقين، ألفاظ يشرق عليها نور النبوّة و تحيّر الأفهام والألباب».

كلمة الحجّة الشيخ هادي كاشف الغطاء:

جاء في كتابه (مستدرك نهج البلاغة) ما نصّه: «أمّا بعد فإنّ كتاب (نهج البلاغة) من أعظم الكتب الإسلاميّة شأناً، وأرفعها قدراً، وأجمعها محاسن، وأعلاها منازل، نور لمن استضاء به، ونجاة لمن تمسّك بعُراه، وبرهان لمن اعتمده، ولبّ لمن تدبّره، أقواله فصل، وأحكامه عدل، حاجة العالم والمتعلّم، وبُغية الراغب والزاهد، وبُلغة السائس والمسوس، ومُنية المحارب والمسالم، والجنديّ والقائد، وفيه من الكلام في التوحيد والعدل، ومكارم الشيم، ومحاسن الأخلاق، والترغيب والترهيب، والوعظ والتحذير، وحقوق الراعي والرعيّة، وأصول المدنيّة الحقّة، ما ينقع الغلّة ويزيل العلّة، لم تعرف المباحث الكلاميّة إلاّ منه، ولم تكن إلاّ عيالاً عليه، فهو قدوة فطاحلها، وإمام أفاضلها».

كلمة الدكتور زكي نجيب محمود:

تحدّث الكاتب (الزكي) عن نهج البلاغة وأطال، ونقتطف من حديثه هذه الباقة: «لنقف وقفة عند الإمام علي رَضي الله عنهُ لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة وفروسيّة وسياسة.. عرفت نهج البلاغة في صدر الصبا.. وبقيت منه نغمات في أذني.. وها أنا ذا أعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغمات تزداد في الأذنين حلاوة، وإذا العبارات كأنّها طلاوة إلي طلاوة.. ولست أعني

ص: 47

زُخرف الكلام، بل أعني طريقته في اختيار اللفظ الصلب العنيد الذي لا يقوي علي تشكيله إلاّ إزميل تحرّكه يد المثّال الذي يتخيّر لتماثيله صُمّ الجلاميد، ليبقي عملاً أقوي من الدهر دواماً وخلوداً.. إنّ اللفظ قد نُحت من حجر صوان، وصفّ بعضها إلي بعض صفّاً عجيباً».

وقال: «قلّب معي صفحاته الرائعة الأدبيّة التي تُسمّي بنهج البلاغة، وقل لي: أنّي ينتهي الأديب ليبدأ الفيلسوف؟ وأنّي ينتهي الفيلسوف الأديب ليبدأ الفارس. ثمّ أين ينتهي هذا ليبدأ السياسي؟ إنّه لا فواصل ولا فوارق، ففي هذه المختارات خطب وأحكام وحجاج وشواهد امتزج فيها الأدب بالحكمة، والحكمة بالأريحيّة، وهاتان بالسياسة». إلي أن يقول: «والنصوص يطول بنا نقلها إلي القارئ ما طال نهج البلاغة، فخير للقارئ أن يرجع إليه ليطالع نفساً قد اجتمع فيها ما يصوّر عصرها، من حيث الركون في إدراك حقائق الأمور إلي سلامة السليقة وحضور البديهة وصدق البصيرة، بغير حاجة إلي تحليلات العقل وتعليلاته، وإلي طريق المناطقة في جمع الشواهد و ترتيب النتائج علي المقدّمات». نقلاً عن كتاب (الحسين والقر آن) للشيخ محمد جواد مغنية.

كلمة الأستاذ العلاّمة أحمد أمين الكاظمي:

تحدّث في المجلّد الرابع من كتابه (التكامل في الاسلام) تحت عنوان (ليلة الميلاد) فقال الله رَحمه اللهُ:

«فنهج البلاغة كتاب حوي أصول الفلسفة الحقّة عن الكون والحياة ومصير الإنسان وواقعه، وأصول الاقتصاد حيث لا يضحّي بالفرد علي حساب المجتمع، ولا بالمجتمع علي حساب الفرد، حوي أسس إدارة شؤون البلاد، وما يربط الشعب بالهيئة الحاكمة من حقوق، فهو كتاب فلسفي اجتماعي، عرفاني، اقتصادي، أدبي، وفيه فصل الخطاب في كلّ حقل يحتاجه الانسان في سيره التكاملي».

ص: 48

كلمة الدكتور صبحي الصالح:

تحدّث الدكتور صبحي الصالح في كتابه (ضبط نصّ نهج البلاغة) ص 12 ط بيروت 1967 م فقال: «وإنّ نهج البلاغة ليضمّ _ إلي جانب الموضوعات السابقة _ طائفة من خطب الوصف تُبوّئ علياً ذروة لا تُسامي بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث، ذلك أنّ علياً _ كما تنطق نصوص النهج _ قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق و تحليل نفّاذ إلي بواطن الامور، صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم المشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين نماذج شاخصة، وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويُلهم الرشاد».

وتحدّث في ص 15 بقوله: «وأغراض علي في كتبه ورسائله وعهوده ووصاياه تشبه أغراضه في خطبه شبهاً شديداً، كثرت فيها رسائل التعليم والارشاد، وكتب النقد والتعريض، والعتاب والتقريع، وانضمّت إليها بعض الوثائق السياسيّة والإداريّة والقضائيّة والحربيّة، ورسائله جميعاً مطبوعة بالطابع الخطابي، حتّي ليكاد الباحث يعدّها خطباً تُلقي لا كتباً تدبج، إذ تؤلّف فيها الألفاظ المنتقاة، وتنسّق فيهاالجمل المحكمات، فينبعث من أجزائها كلّها نغم حلو الإيقاع يسمو بنثرها الرشيق فوق مجالات الشعر الرفيع.

وإذا تجاوزنا خطب علي ورسائله إلي المختار من حِكَمه، ألفيناه يرسل من المعاني المعجزة والأجوبة المسكتة ما ينبئ عن غزارة علمه، وصحّة تجربته، وعمق إدراكه لحقائق الأشياء، وحكم علي هذه منها ما جمعه الشريف الرضي تحت عنوان مستقل، نجد فيه مثل قوله: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُواء» «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ» «احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ».

ص: 49

ووصايا علي الاجتماعيّة تتجسّد هاهنا بوضوح من خلال كلماته النوابغ وحِكَمهِ الحسان، فهو يجلو أبصار صحبه و بصائرهم، ويودّ لو يتبعهم كأس الحكمة بعد الصبوح، يحذّرهم من العلم الذي لا ينفع «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لَا يَنْفَعُهُ» و «الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ».

والفكرة في خطب علي ورسائله وحكمه عميقة من غير تعقيد، بسيطة من غير إسفاف، مستوفاة من غير إطناب، يلوّنها ترادف الجمل، ويزيّنها تقابل الألفاظ، وينسّقها ضرب من التقسيم المنطقي يجعلها أنفذ في الحسن وألصق بالنفس.

وكان ينبغي لعلي أن تقذف بديهته بتلكم الحكم الخالدة والآراء الثاقبة، بعد أن نهل المعرفة من بيت النبوّة، وتوافرت له ثقافة واسعة وتجربة كاملة وعبقريّة نفّاذة إلي بواطن الأمور.

وتتّسم أفكار علي غالباً بالواقعيّة، إذ كان يستمدّ عناصرها من بيئته الاجتماعية والجغرافية، فأدبه _ من هذه الناحية _ مرآة للعصر الذي عاش فيه، صوّر منه ما قد كان أو ما هو كائن، ولقد يطيب له أحياناً أن يصوّر ما ينبغي أن يكون، فتغدو أفكاره مثاليّة عصيّة علي التحقيق.

وما من ريب في أنّ الكتاب والسنّة قد رفداه بينبوع ثرّ لا يفيض، فتأثّر بأسلوب القرآن التصويريّ لدي صياغة خطبه ورسائله، واقتطف من القرآن والحديث كثيراً من الألفاظ والتراكيب و المعاني.

وأمّا عاطفة علي فثائرة جيّاشة تستمدّ دوافعها من نفسه الغنيّة بالانفعالات، وعقيدته الثابتة علي الحقّ، فما تكلّم إلاّ وبه حاجة إلي الكلام، وما خطب إلاّ ولديه باعث علي الخطابة، وإنّما تتجلّي رهافة حسّه في استعماله الألفاظ الحادّة، وإكثاره من العبارات الإنشائيّة كالقسم والتمنّي والترجّي والأمر والنهي والعجب والاستفهام والإنكار والتوبيخ والتقريع، مصحوبة كلّها بترادف بين الفقرات، وتجانس بين الأسجاع، وحرص واضح علي النغم والإيقاع.

ص: 50

وخيال علي _ فيما يخلعه علي موصوفاته من صور زاهيات _ ينتزع أكثر ما ينتزع من صميم البيئة العربية إقليميّة وفكريّة واجتماعيّة، وتمتاز صور علي بالتشخيص والحركة، ولا سيّما حين يتّسع خياله ويمتدّ مجسّماً الأفكار، ملوّناً التعابير، باثّاً الحياة في المفردات والتراكيب».

كلمة شبلي شميل حول نهج البلاغة:

نقلا عن كتاب (ماذا في التاريخ) ج 7 ص 149:

«هل عرفت عقلاً كهذا العقل، وعلماً كهذا العلم، وبلاغة كهذه البلاغة، وشجاعة كهذه الشجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدوداً، حتّي ليبهرك هذا القدر من الحنان، كما يبهرك ذلك القدر من المزايا، تلتقي جميعاً وتتّحد في رجل من أبناء آدم وحوّاء، فإذا هو العالم المفكّر، الأديب الإداري، الحاكم القائد الذي يترك الناس والحكّام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به، ليقبل عليك فيهزّ فيك مشاعر الانسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوي الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة، قائلاً: «فَقْدُ الْأَحبَّة غُرْبَةٌ» أو «لاَ تَشْمَتْ بِالْمَصَائِبِ» أو «ليكن دنوُّك من الناسِ ليناً ورحمة» أو «اعفُ عمّن ظلمَكَ ، وأعطِ مَن حرمك، وصِلْ مَن قطعك، ولا تُبغض مَن أبغضك»!

هل عرفت من الخلق عظيماً يلتقي مع المفكّرين بسموّ فكرهم، ومع الخيّرين بحبّهم العميق للخير، ومع العلماء بعِلمهم، ومع الباحثين بتنقيبهم، ومع ذوي المودّة بمودّاتهم، ومع الزهاد بزهدهم، ومع المصلحين بإصلاحهم، ومع المتألّمين بآلامهم، ومع المظلومين بمشاعرهم وتمرّدهم، ومع الأدباء بأدبهم، ومع الأبطال ببطولاتهم، ومع الشهداء بشهادتهم، ومع كلّ إنسانيّة بما يشرّفها ويرفع من شأنها، ثم إنّ له في كلّ ذلك فضل القول الناتج عن العمل، والتضحية المتّصلة بالتضحية، والسابقة في الزمان!».

ص: 51

كلمة سليمان كتّاني:

وتحدّث سليمان كتّاني في كتابه «الإمام علي نبراس ومتراس» ص 199 ط 1386 ه مطبعة النعمان في النجف عن نهج البلاغة «...وماذا جاء في (نهج البلاغة) فقال: يدغدغ الشكّ في ما جاء في نهج البلاغة؟ وهل الكتاب كان غير تقويم للرجل الكبير في نهجه الطويل، الذي زرع عليه الانسان قيمة تتبلور بالعقل الصحيح وتسمو بالفضيلة، وجعل الفضائل تنمو وتدور علي محور واحد، هو محور التقوي والإيمان بالله؟

ومتي، وفي أيّة لحظة من لحظات عمره، لم يعبّر عن هذا النهج الصريح؟

أفي إعلانه الرسالة وإيمانه بها، ولقد نذر نفسه للدعوة لها والجهاد في سبيلها، أم في تطبيقها دستوراً كاملاً لكلّ مجاري أفكاره وأقواله وأعماله من حيث كان زهده وتقواه وشجاعته وبطولته؟

فإذا كان الاقحام في (نهج البلاغة) تكويماً لتعابير تحمل مثل هذه المعاني لم يسكبها جَنان المنسوبة إليه ضمن حروف نبتت من شقّ قلمه، فإنّ ذلك لن يغيّر نهج البلاغة بشيء،... لأنّ الكلام المقحم جاء صادقاً في نحت نفسه قالباً لائقاً بالفكر الأصيل، ولأنّ البلاغة في مفهومها الحقيقي ليست مطلقاً في قوّة اللفظ والنحت بقدر ما هي تنزيل لسموّ المعاني في قوالب متينة السبك والحبك، وإنّ هذه الأخيرة تبقي أبداً قوالب جوفاء مالم تستتمّ فيها تلك المفاتن.

و(نهج البلاغة)، سواء كان صقل حروفه علي يد ابن أبي طالب أم كان علي يدي مقحم فنّان، فإنّه يبقي دائماً تعبيراً عميق البلاغة عن نفسيّة رجل واحد سُمّي ب «علي بن أبي طالب».

***

ص: 52

نهج البلاغة في الشعر العربي

قيل فيه شعراً:

نهج البلاغة نهج العلم والعمل *** فاسلكه يا صاح تبلغ غاية الأملِ

كم فيه من حِكَمٍ بالحقّ مُحكمة *** تُحيي القلوب ومن حُكمٍ ومن مَثَلِ

ألفاظه دررٌ أغنت بحليتها *** أهل الفضائل عن حلي وعن حُلل

ومن معانيه أنوار الهدي سطعت *** فانجاب عنها ظلام الزيغ والزلل

وكيف لا وهو نهج طاب منهجه *** أهدي إليه أمير المؤمنين علي

وكتب أبو يوسف يعقوب بن أحمد(1) في آخر نسخة من كتاب (نهج البلاغة):

نهج البلاغة نهج مهيع جددُ *** لمن يريد علوّاً ما له أمدُ

يا عادلاً عنه تبغي بالهدي بدلاً *** اعدل إليه فقيه الخير والرشد

والله والله إنّ التار كيه عموا *** عن شافياتِ عظاتٍ كلّها سدد

كأنّها العقد منظوماً جواهرها *** صلّي علي ناظميها ربُّنا الصمد

ما حالهم دونها إن كنتَ تنصفني *** إلاّ العناد وإلاّ البغي والحسد(2)

واقتدي بذلك الأديب عبد الرحمن بن الحسين حين وقع له الفراغ، فقال:

ص: 53


1- أبو يوسف يعقوب بن أحمد النيسابوري المتوفّي سنة 474ه قال عنه الفيروز آبادي إنّه شيخ وقته في النحو واللغة والآداب، كثير التصانيف والتلاميذ.
2- مجلة (تراثنا) العدد 34، ص 68 و 69

نهج البلاغة نهج الذخر والسندُ *** وفيه للمؤمنين الخير والرشدُ

عين الحياة لمن أضحي يؤمّلها *** يا حبّذا معشر في مائها وردوا

ما إن رأت مثلها عينٌ ولا سمعت *** أذنٌ ولا كتبت في العالمين يد

شرّبت روحي حياةً عند كتبتها *** وكان للروح من آثارها مدد

صلّي الإله علي مَن كان منطقه *** روحاً تزايد منه الروح والجسد(1)

وقال آخر:

نهج البلاغة هذا سيّد الكتب *** نهج الرسائل والأحكام والخطبِ

كم فيه من حكمة غرّاء بالغة *** ومن علوم(2) إلهي ومن أدبِ

ومن دواء الذي داءٍ وعافية *** لذي بلاء ومن روح الذي تعب

فيه كلام وليِّ الله حيدر من *** يمينه في عطاء المال كالسُّحب

وصيّ خير عباد الله كلّهمُ *** مختار ربّ البرايا سيّد العرب

عليٌ مرتضي مَن في مودّته *** يُرجي النجاة ليوم الحشر والرعبِ

فمن يعاديه في نار الجحيم هوي *** وعاش ما عاش في ويلٍ وفي حرب

ومن يواليه من صدق الجَنان ففي *** الجِنان له طنب يفوق السبع والشهبِ

قد امتزجت(3) بقلبي حبّه فجري *** في النفس مجري دمي في اللحم والعصب

صلّي عليه إلهُ الخلق خالقنا *** ربّ الوري وعلي أبنائه النُّجب

وزاده في جنان الخلد منزلة *** ورتبةً وعلاً يعلو علي الرتب(4)

وقال علي بن أبي أسعد الطبيب:(5)

ص: 54


1- مجلة تراثنا العدد 34، ص 67.
2- كذا في المتن.
3- كذا في المتن.
4- مجلة (تراثنا)، العدد 34، ص 64 - 65 ولم يُنسب إلي قائله.
5- كان عالماً فاضلاً أديباً شاعراً، يروي بالإجازة عن السيّد فضل الله الراوندي، وممّن عني بنهج البلاغة قراءة ورواية و تصحيحاً و تعليقاً.

نهج البلاغة مشرع الفصحاءِ *** ومعشعش البلغاءِ والعلماءِ

درج عقود عقولِ أرباب التقي *** في درجه من غير إستثناء

في طيّه كلّ العلوم كأنّه *** الجفر المشار إليه في الأنباء

من كان يسلك نهجه متشمّراً *** أمن العثار وفاز بالعلياء

غررٌ من العلم الإلهيّ انجلت *** منظومة فيها ضياء ذكاء

ويفوح منها عبقةٌ نبويّة *** لا غرو قُدّا من أديم سناء

روض من الحِكَم الأنيقة جاده *** جود من الأنوار لا الأنواء

أنوار علمِ خليفَةِ اللهِ الذي *** هو عصمة الأموات والأحياءِ

مشكاةُ نورِ الله خازنُ علمه *** مختارهُ من سرّة البطحاءِ(1)

وفي كتاب (مصادر نهج البلاغة) تأليف الخطيب السيد عبد الزهراء الحسيني:

قال أبو الحسن علي بن أحمد الفنجكردي:(2)

نهج البلاغة من كلام المرتضي *** جمع الرضي الموسوي السيدِ

بهرَ العقولَ بحسنه وبهائه *** كالدرِّ فصّل نظمه بزبرجدِ

ألفاظه علويّة لكنّها *** علويّة حلّت محلّ الفرقد

فيه لأرباب البلاغة مقنع *** من يعن باستظهاره يستسعد

وتري العيون إليه صوراً إن تلا *** منه كتاباً رائعاً في مشهد

أعجِبْ به كلماته قد ناسبت *** كلمات خير الناس طُرّاً أحمدِ

نِعم المعين علي الخطابة للفتي *** و به إلي طُرق الكتابة يهتدي(3)

ص: 55


1- مجلة (تراثنا)، العدد 34، ص63 و 64.
2- شيخ الأفضال أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الفنجكردي النيشابوري المتوفيّ سنة 513ه كان ملقّباً بشيخ الأفاضل، كان أعجوبة زمانه و آية أقرانه.
3- الغدير 4: 319.

وفي المجلّد الثاني من كتابنا (نزهة الخاطر):

وللسيد الإمام عزّ الدين سيد الأئمة المرتضي بن الإمام العلاّمة ضياء الدين علم الهدي قدّس الله روحيهما:

نهج البلاغة نهجه لذوي البلاغة واضحُ

وكلامه لكلام أرباب الفصاحة فاضح

العلم فيه زاخر والفضل فيه راجح

وغوامض التوحيد فيه جميعها لك لائح

ووعيده مع وعده للناس طرّاً ناصح

تحظي به هذي البريّة صالح أو طالح

لا كالعريب ومالها فالمال غادٍ رائح

هيهات لا يعلو علي مرقي ذراه مادح

إن الرضي الموسوي لمائه هو مائح

لاقت به وبجمعه عدد القطار مدائحُ(1)

وقال آخر:

نهج البلاغة يهدي السالكين إلي *** مواطن الحق من قول ومن عملِ

فاسلكه تُهدي إلي دار السلام غداً *** وتحضَ فيها بما ترجوه من أمل(2)

وجاء في شرح القصيدة العينيّة لعبد الباقي العمري، قال بعضهم:

ألا إنّ هذا النهج نهج بلاغة *** لمنتهج العرفان مسلكه جلي

علي قممٍ من آل صخر ترفّعت *** كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من عَلِ(3)

ص: 56


1- نزهة الخواطر (مخطوط).
2- مجلة (تراثنا)، العدد 34، ص 82.
3- مجلة (تراثنا) العدد 34، ص 82.

وقال آخر:

كتاب كأنّ الله رصّع لفظه *** بجوهر آيات الكتاب المنزل

حوي حِكماً كالدّرٍ تنطق صادقاً *** فلا فرق إلاّ أنّه غير مُنزَلِ(1)

وقال عبد الباقي العمري في عينيته:

نهج البلاغة نهج عنك بلّغنا *** رشداً به اجتثّ عِرق الغيّ فانقمعا

به دفعت لأهل البغي أدمغة *** النخوة الجهل قد كانت أشَرّ وعا

كم مصقع من خطاب قد صقعت به *** فوق المنابر صقع الغدر فانصقعا

ما فرّق اللهُ شيئاً في خليقته *** من الفضائل إلاّ عندك اجتمعا

وقال آخر:

انظر إلي نهج البلاغة هل تري *** الأولي الفصاحة منه أبلغ منطقا

وقال آخر:

هذا الكتاب كتاب الله أنزله *** علي لسان عليٍّ أفصح العربِ

أخو الكتاب الذي جاء النبيّ به *** كلاهما من نبيٍّ أو وصيِّ نبي

وقال آخر:

نهج البلاغة منهج البُلغاء *** وملاذ ذي حصر وذي إعياءِ

فيه معانٍ في قوالبَ أحكمت *** لهدايةٍ كالنجم في الظلماء

وتضمّن الكلمات في إيجازها *** بذواتها بجوامع العلياء

صلّي الإله علي النبيّ محمّد *** وعلي عليٍّ ذي علاً وإخاء(2)

وقال قطب الدين تاج الاسلام محمد بن الحسين بن الحسن الكيدري:

ص: 57


1- مجلة (تراثنا) العدد 34، ص 85.
2- مجلة (تراثنا) العدد 34، ص 64 ولم ينسبه.

نهج البلاغة نهج كلّ مسدّد *** نهج المرام لكلّ قوم أمجدِ

يا من يبيت وهمّه درك العُلي *** فاسلكه تحظَ بما تروم وتقصدِ

ينبوع مجموع العلوم رمي به *** نحو الأنام ليقتفيه المهتدي

فيه الطلاّب النهاية مقنع *** فليلزمنه الناظر المسترشدِ

صلّي الإله علي منظّمه الذي *** فاق الوري بكماله والمحتدِ(1)

وقال الحسن بن يعقوب بن أحمد:

نهج البلاغة درجٌ ضمنه دررُ *** نهج البلاغة روض جاده دررُ

نهج البلاغة وشيٌ حاكه صبغ *** من دون موشية الديباج والحبر

أو جونة مُلئت عطراً إذا فتحت *** خيشومنا فغمت ريح لها ذفر

صدّقتكم سادتي والصدق من خُلقي *** وإنّه خصلة ما عابها بشر

صلّي الإله علي بحر غواربه *** رمت به نحونا ما لألأ القمر(2)

وقال العلاّمة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي:

وبنور نهجك وهو منبع حكمةٍ *** متدفّق أوضحت أيّ مشاكلِ

أوردتنا فيه نميراً صافياً *** ينمي لخير موارد ومناهل

أحكمته بقواعد حكميّة *** كفلت بيان أصول كلّ مسائل

تقف العقول أمامه مسحورةً *** ببيانه وبنسقه المتواصل

أنت المحيط معارفاً لكنّما *** لم تحوِ غيرَ جواهر وفضائل

ص: 58


1- مجلة (تراثنا) العدد 34، ص 72 - 73.
2- مجلة (تراثنا) العدد 34، ص 74 - 75 قال علي بن زيد البيهقي فريد خراسان، المتوفيّ سنة 565ه في شرحه علي نهج البلاغة: وأنشدني الإمام الحسن بن يعقوب لنفسه مقتدياً بوالده، ثمّ ذكر الشعر. والحسن بن يعقوب بن أحمد بن محمد النيشابوري هو من أعلام الأدب في القرن السادس.

وللشيخ محمد علي صنعان النجفي:

فاح النسيم فباح بالأسرار *** سَحَراً فأيقظ راقد الأزهار

وأتي يخبّر عن كتاب ناظم *** سلكاً فيعقد للنثار دراري

نهج البلاغة روضة ممطورة *** بالنور من سُبحات وجه الباري

أو حكمة قدسيّة جليت بها *** مرآة ذات الله للنظّار

خطب روت ألفاظها عن لؤلؤ *** عن مائه بحر المعارف جاري

وتنسّمت كلماتها عن جنّة *** حُفّت من التوحيد بالنوّار

فكأنّما عين اليقين تفجّرت *** من فوق عرش الله بالأنهار

حِكم كأمثال النجوم تلألأت *** من ضوء ما ضمنت من الأسرار

كشف الغطاء بيانها فكأنها *** للسامعين بصائر الأبصار

وتري من الكلم القصار جوامعاً *** تُغنيك عن سفرٍ من الأسفار(1)

***

ص: 59


1- نشرت مجلّة «تراثناء»، العدد 34، ط الأولي، سنة 1414ه مقالةً مفصّلة للسيّد المحقّق عبد العزيز الطباطبائي قدس سرّه تحت عنوان «ما قيل في نهج البلاغة من نظم ونثره»، استوعبت كثيراً من الأشعار الموجودة في المخطوطات والمدوّنة علي ظهور المخطوطات المختلفة لنهج البلاغة، فراجع.

ص: 60

علي ونهج البلاغة فيما ذهب إليه بعض المرجفين

لم يكن من القصد عرض هذا الموضوع، حيث أنّ العلماء وعباقرة الأدب أسهبوا فيه وأحاطوا به من جميع نوافذه، لولا إشارة ولدي الفاضل السيد صدر الدين حفظه الله، فقد أشار عليَّ أن أخوض فيه _ ولو في سطور قصيرة لأنّ المجال يستدعيه، فاستصوبت رأيه، واكتفيت بكلمة الدكتور مهدي محبوبة، فإنّه أعطاه ما يستحقّه، وألمّ به من جميع أطرافه.

قال (سلّمه الله) في كتابه (ملامح من عبقرية الإمام) تحت عنوان (علي ونهج البلاغة فيما ذهب إليه بعض المرجفين):

«التراث الفكري زاخر بالمواهب، عبق بالانتاج، واسع بالمدركات، متمثّل بالعبقريات،ماثل بالنقل والرواية، لكلّ تراث منتج يتميّز ذلك الانتاج به، والأخصّ في مجال الأدب والسياسة، فلا يصحّ السند إذا لم يستوفِ الأثر دلائله وبراهينه الكامنة فيه والمنطلقة منه.

وإنّ لكلّ أديب نفحته الأدبية التي تعبق بمعتقداته وآرائه ومُثله وسياسته ووجهة تفكيره.

ثمّ إنّ للزمن أثره وللمحيط فعله في كلّ نتاج أدبي، فالأدب آخذ من بيئته لا محالة.

ولو أردنا استقصاء نهج البلاغة وإطالة النظر فيه لرأيناه قد استوفي حُججه واستكمل براهينه الكائنة فيه، لأنّه يحمل الروح العلوية في كلّ سطر

ص: 61

منه وبكلّ تعبير فيه، ويعطي الدلالة السياسية والاقتصادية والعقائدية والأدبية للإمام، ويمثّل روح عصره بما تمخّض عن أحداث جسام.

ولم يكن الشريف الرضي ممّن عركتهم الظروف غير المواتية، وادلهمّت بهم الأوضاع،لأنّه كان والحكم في وئام، ومع الأحداث في سلامة. ولم يكن الشريف قد ارتفعت به الأمّة الإسلامية حتّي كان قطب رحاها، ومنطلق وجودها وعُلاها، ومَعين إسلامها ومعتقدها، وإن كان علي جانب كبير من المعرفة والمنزلة الاجتماعية.

لم تُلجئه الظروف للمقارعة باللسان والقلم، ولم يوليه وقته الخلافة أو القيادة، وإنّ نفحة نهج البلاغة علي غير ما هو فيه، فهي نفحة الثائر في أشدّ ظروف الثورة.

ومَن دَرَس سيرة الرضي وأدرك حقيقته عرف أنّه علي جانب كبير من الصلاح والتقوي ممّا هو بعيد عن الكذب والانتحال والتقوّل.

ذهب بعض المؤرّخين إلي أنّ قسماً من النهج قد سطره يراع الرضيّ، وذهب بعض إلي أنّه من وضع الرضي، وكانت لهم حُججهم سأوردها جميعاً وسأذهب إلي تفنيدها.

ومن أهمّ الحُجج التي تذرّع بها هؤلاء ما ورد في النهج من تقريعٍ وتأنيب لبعض من واكب الإسلام في إبّان ظهوره، كمعاوية وطلحة والزبير وأضرابهم، وورد فيه بعض العتاب لبعض كبار الصحابة، مع علم هؤلاء المؤرّخين بأنّ ما يورده الإمام فهو حجّة قاطعة وإدانة واردة، وإلاّ فلا مبرّر لحديثهم.

ولست أطيل الردّ علي هذه الفقرة، فإنّ ما ورد لهو صدي لتلك الحروب الطاحنة للجمل وصفّين والنهروان، وهذا لا غبار عليه، وإنّ ما أورده الإمام القليل إذا قيس بالدماء التي أريقت والنفوس التي انتُهكت، والثائر علي خليفة زمانه كافر، فإذا أردنا أن نُبعد قول الإمام فيهم فليس باستطاعة أحد أن يُبعد التاريخ الحافل بتلك الأحداث.

ص: 62

ولم يتعرّض للخلفاء الراشدين إلاّ تلميحاً وعتاباً، وهو الصدي القائم ليوم السقيفة، وكان ذلك في خطبته الشقشقيّة.

ولو أردنا الاسترسال فيما يحمله الإمام من اعتقاد جازم في حقّه بالخلافة وسبقه إليها، لأدركنا أنّه لم يرد في النهج ما يُسيء، ولم يقل الإمام مقول عثمان في عمر كما أورده الدكتور طه حسين في كتابه عثمان «لقد وطنكم ابنُ الخطّاب برجله، وضربكم بيده، وقبعكم بلسانه، فخفتموه ورضيتم منه بما لا ترضوه مني، لأنّي كففت عنكم يدي ولساني». ولم يرد في الخطبة الشقشقيّة إلاّ ما أثبته التاريخ.

وأمّا تعرّضه بعثمان فهو تعرّض الناصح المؤمن بأداء رسالته علي أكمل وجه، وقد وافانا التاريخ بما وصل إليه الحال في عهده، وللإمام كامل الحقّ أن يدافع عن حظيرة الإسلام ومبادئه.

«كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيتّه».(1)

ونحن لانعدم الخلاف ولا نذكره إلاّ لنبسط التاريخ واضحاً صحيحاً ليكون لنا عبرة لجمع الشمل وإبعاد الخلاف، وعلينا أن نعتزّ بمن هو أفضل، وكلّهم عرب إسلام منّا وإلينا، فعلينا أن لا نعدم الحقّ والوجدان.

وإنّ كلّ ما أورده النهج الدليل علي النفحة العلويّة وعلي ملامسته للأحداث.

وقد ذكر بعض الناقدين في النهج من التنميق الأدبي في السجع وتزويق اللفظ ممّا لم يعهده العصر الإسلامي الأول. وفيه من دقّة الوصف والاحاطة بالقصد، كوصفه للطاووس والنملة والجرادة ممّا يخرج عن دائرة ذلك العهد وأدب ذلك الزمن، وفيه من الحكمة والمنطق وبأساليب بيانية لم تُعرف قبل عهد الترجمة، وقبل تعريب مآثر اليونان والرومان والفرس والهنود.

ص: 63


1- عوالي الثالي 1: 29 / ح 3؛ بحار الأنوار 72: 38.

أمّا موضع التنمية الأدبي والسجع فلم يكن وارداً في نهج البلاغة إلاّ عرضاً وحسبما تقتضيه الأصول البلاغيّة، وأقلّ ممّا ورد في القرآن، كما ورد في سورة الرحمن وسور أخري كثيرة.

وأمّا ما فيه من دقّة في الوصف والإحاطة في القصد، فإنّي أذكر قول معاوية لمجفن عندما قال له: أتيتُك من أعيا الناس.

أجابه معاوية: ويلك فإنّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.(1)

وبالطبع إنّ لربّ الفصاحة والبلاغة أسلوبه الخاص وسحره الممتنع، وإعجازه الفريد، واستقلاله بوضع أسس بلاغيّة أدبيّة لم يعهدها عصره، وهذه من أوّليّات ما يلزم أن يؤمن بها الباحث، وإلاّ فعلام أجمع المؤرخون قاطبة علي سموّه الأدبي البلاغي الفريد ممّا لم يُعهد لسواه. وقد ذهب كثير من المؤرّخين و كتّاب السير إلي ذكر كلام الإمام، فوضعوه كأرفع كلام عربي بعد القرآن والحديث، وقد ورد ذلك قبل أن يُخلق الشريف الرضي.

وإنّي أقول: فكما أنّ للقرآن مميّزاته وحدوده التي لا يمكن أن يصل إليها كلام، فللنهج كذلك مميّزاته وحدوده التي اختصّ بها، فلا يمكن أن يصل إلي شأوها كلام.

ولم يكن للإمام إلاّ ما أورده الشريف الرضي في النهج فحسب، وإنّما ورد كثير مما لم يرد في النهج ولا يقلّ روعة وأسلوباً عنه. وإنّ معظم ما ورد في النهج لهو معروف قبل الشريف الرضي حسبما وصل إليه المحقّقون. وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب، وهو قبل الشريف الرضيّ: «أنّ الناس حفظوا عن الإمام علي أربعماءة ونيّف وثمانين خطبة، يوردها علي البديهة».

ولم يتناقلها الناس ويولوها حفظهم إلاّ لسموّها ورفيع أدبها، وليس

ص: 64


1- بحار الأنوار 41: 146؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 25.

للمؤرّخ أن يسجّل إلاّ ما وصل إليه وقد يتعدّاه الكثير، وإنّ زمن المسعودي ليس ببعيد عن زمن الإمام، وذلك ممّا يجعل الثقة واردة في روايته.

وإنّ أبرز ما في النهج ممّا سوّلت نفوس بعض الحاقدين عدم نسبته إليه هو عهده المشهور لمالك الأشتر عندما ولاّه مصر، والذي تسيخ العقول أن تأتي بمثله، حيث وضع به معالم الحكم علي ممرّ العهود ممّا لا ترتضيه الحكومات المتعاقبة ذات النزعة الفرديّة، وبالأخصّ من بني أميّة وبني العبّاس، وهذا العهد قد رواه بعض الثقاة قبل الشريف الرضي، ومنهم صاحب كتاب (تحف العقول) المتوفّي في سنة 332.(1)

ولو فرضنا أنّنا لم نصل لهذا العهد إلاّ عن رواية الشريف الرضي، فهل يصحّ لنا نسبته إليه، وهو الذي لم تتجسّم أمامه تلك الأحداث والانقلابات الرائعة في صدر الإسلام، ولم يهضم الحكم ويمسّه، ويندفع إلي قراره، ويدر كه كإدراك الامام؟

وهل أوثر عن الشريف ما يُماشي ذلك أو يقاربه؟

وهل يصحّ نسبة الخبر الناقله مع إقراره علي نقله وإفصاحه علي جمعه، مع العلم أنّه لم تكن تلك النزعة الشعبيّة والنظرة إلي الحريّة في الحكم بباقية الي عهد الشريف الرضي، والتي طمستها عهود أميّة وبني العباس، حتّي أصبحت الخلافة ملكاً مطلقاً استبداديّاً فرديّاً، وأنّ تلك النفحة التحررية العلوية قد رسمتها طبيعة الصحراء وحياة العرب، وقوّمتها ووضعت لها السنن والقوانين الثورية الإسلامية، وتبنّاها الإمام علي لما له من العروبة والإسلام، ولكنّها تلاشت علي ممرّ عصور الحكم الفرديّ وممارسة الضغط والإرهاب

ص: 65


1- وهو الشيخ الثقة الجليل أبو محمد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني، من أعلام القرن الرابع، كان معاصراً للشيخ الصدوق، ويروي عن أبي علي محمّد بن همام المتوفّي سنة 336ه

وأخذ الناس بالبطش، حتّي أصبح الفرد العربي والفرد المسلم دُمية لاحول له ولا قوة إلاّ ما يفرضه الخليفة وعائلته وبِطانته.

ولا يخلو عن البال أنّ ما يمكن الرضي من الحفاظ عليه من تراث الإمام لا يتأتّي لسواه، لأنّه سليل العترة العلوية، وأبرز وارث لها ولمأثورها، وبالأخصّ بما برزت به العهود السابقة له من طمس لمعالم الإمام والأخذ بأقصي العقوبة علي من يذكر فضائله أو يروي خبره أو يُعرف بولائه له، وهذا ممّا يدع ما يصل إليه لا يصل إلي غيره، بل قد يمتنع وصوله إلي غيره.

وأمّا ما أوثر عن انطباع بعض حكم الإمام وآرائه بما أوثر عن الإغريق والفرس فقد لا يتعدّي التوارد في الآراء، وليست الآراء بوقف علي أمّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ عهد الترجمة الفكرية وصل العرب منذ العهد الإسلامي بالفتح والاختلاط، وقد تكون له جذوره من العهد الجاهلي لاتّصال العرب بفارس والشام، وأمّا الترجمة المنسّقة المسجّلة المبنيّة علي تحديد النقل فقد وصلت متأخّرة عن العهد الإسلاميّ الأوّل، حيث ابتدأت بصورة مبسّطة في العصر الأموي والعصر العبّاسي الأوّل، ونشطت علي عهد المأمون.

وبما يمتاز الإمام به من حدّة في الذكاء، ومن نظر ثاقب بعيد المدي، ومن قوّة في الإدراك والتعبير، فقد استوعب من مخالطته الفرس والروم وسواهم لتواردهم علي دار الخلافة والإسلام، وهذا وارد فلا ردَّ عليه.

ثمّ إنّ الإمام عاصر فتح الشام وفارس وبقي بعد ذلك بزمن طويل، ممّا تصحّ الترجمة الفكرية الشفهيّة بإسلام كثير من الأجانب ممّن أدرك الثقافة الإغريقية الرومانية والفارسية والهندية، وكثير منهم طبعها بلغته الجديدة، لغة القرآن والسنّة وهي العربية.

ولنضرب علي ذلك مثلاً واحداً: ذكر ابن شهر آشوب أنّ أوّل من صنّف في الإسلام علي بن أبي طالب، ثمّ سلمان الفارسي الذي أشار بحفر

ص: 66

الخندق، فيستدل أنّ سلمانَ كان علي مستوي كبير من العقل والإدراك، وكان من حواريّي الإمام ممّا تصحّ ترجمته الفكرية، ودليل علي ذلك إشارته بحفر الخندق وهي خطّة عسكرية فارسيّة لم يعهدها العرب، فهو وأضرابه قد حمل للأمّة العربية كثيراً من معالم بلده وأوطانه ومجتمعه الأوّل.

ثم إنّ حكميّات الإمام وآراءه لم تكن منوطة بالنهج ومائلة بين دفتيه فحسب، بل إنّ ما جمعه الأوائل والأواخر لكثير، وأكثره ممّا لم يذكره الشريف الرضي.

فقد جمع الشيخ عبد الواحد التميمي كتاباً من حكم الإمام القصيرة يقارب نهج البلاغة، سمّاه (غُرر الحكم و دُرر الكلم).

وقد افتخر الجاحظ _ وهو من أكبر العلماء العرب ومن العهد الاسلامي الأوّل بأنّه جمع مائة كلمة لأمير المؤمنين.

وقد جمع القاضي القضاعي من كلام الإمام سمّاه (دستور معالم الحكم).

وجمع الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان كتاباً من حكم الإمام سمّاه (نثر اللآلي).

وقد ذكر المفيد _ وهو أستاذ الشريف الرضي _ في كتابه (الإرشاد) كثيراً من كلام وخطب الإمام.

وجمع نصر بن مزاحم خطب الإمام في صفّين و كُتبه إلي معاوية في كتاب (صفّين).

وجمع إسحاق الأنصاري كتاباً من كلام الإمام سمّاه (مطلوب كلّ طالب).

وجمع القاضي الإمام أبو يوسف كتاباً من كلام الإمام سمّاه (قلائد الحكم وفرائد الكلم).

وألحق ابن أبي الحديد في تفسيره للنهج ألف كلمة علي مستوي النهج بلاغة وفصاحة وحكمة ممّا لم تكن فيه.

ص: 67

وهكذا لو أردنا الاسترسال لطال بنا البحث ممّا نحن لسنا بصدده، وإنّما هي عجالة نريد بها إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

ولست ممّن يؤمن بتحريف التاريخ تبع الهوي، ولست ممّن يؤمن بالاسترسال بزيفه، فإنّ الواقع لا بدّ أن يظهر من خلال البحث والتدقيق.

وإنّ أوّل واضع للشك هو قاضي القضاة شمس الدين الإربلي صاحب (وفيات الأعيان) المولود في إربل سنة 608 والمتوفّي بدمشق سنة 681 من الهجرة، وإنّ من تبعه لفّ لفّه وأخذ منه، وهم عدد يسير.

وكلّ ما أورده المرجفون لا يتعدّي الحجج الواردة الذكر، والتي لم تثبت أمام الإجماع والتواتر وسند النقل، والبراهين الماديّة الثابتة.

ولا أخالني بعيداً عن الصواب إذا قلت: إنّ الذي حدا بذلك القاضي علي الشكّ هو أنّ كلام الإمام يتناقله الناس متفرّقاً ومجزءاً ممّا لم يستوعب أثره، ولما جمع الرضي كثيراً منه ضمن سفر جليل عظيم الأثر التمسه الناس وشاع فأصبح النقد وارداً.

ولربّما يكون وضع الشكّ وارداً لإقرار الشكّ في نسبة النهج للإمام، إذ ما يرد عن الإمام يلتزم به الإسلام، وإنّ النهج يحدّد مفهوم السلطة تحديداً دقيق، ويشيع الحقوق العامة، ويبعث الحرية والعدالة الاجتماعية ممّا لا يرتضيه الخلفاء والولاة، ولا يستسيغه قضاتهم، فإذا بطلت النسبة للإمام أو بعض منه ممّا رآه ذلك القاضي فقد ابتعدت مفاهيمه عن الجماهير.

***

ص: 68

مختارات من خطب وكتب الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام وشرحها من كتاب له عليه السلام إلي الحارث الهمداني:

يوصيه بالتمسك بالقرآن وذكر الموت ونصائح أخري عظيمة

«وَ تَمَسَّكْ بِحَبْلِ اَلْقُرْآنِ وَ اِنْتَصِحْهُ اِسْتَنْصِحْهُ وَ أَحِلَّ حَلاَلَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ اِعْتَبِرْ بِمَا مَضَي مِنَ اَلدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً وَ آخِرَهَا لاَحِقٌ بِأَوَّلِهَا وَ كُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ وَ عَظِّمِ اِسْمَ اَللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلاَّ عَلَي حَقٍّ وَ أَكْثِرْ ذِكْرَ اَلْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ اَلْمَوْتِ وَ لاَ تَتَمَنَّ اَلْمَوْتَ إِلاَّ بِشَرْطٍ وَثِيقٍ وَ اِحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ وَ يَكْرَهُهُ يُكْرَهُ لِعَامَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اِحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي اَلسِّرِّ وَ يُسْتَحَي مِنْهُ فِي اَلْعَلاَنِيَةِ وَ اِحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ وَ اِعْتَذَرَ مِنْهُ وَ لاَ تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ اَلْقَوْمِ اَلْقَوْلِ وَ لاَ تُحَدِّثِ اَلنَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ فَكَفَي بِذَلِكَ كَذِباً وَ لاَ تَرُدَّ عَلَي اَلنَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ فَكَفَي بِذَلِكَ جَهْلاً وَ اِكْظِمِ اَلْغَيْظَ وَ اُحْلُمْ عِنْدَ اَلْغَضَبِ وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ اَلْمَقْدِرَةِ تَجَاوَزْ عِنْدَ اَلْمَقْدِرَةِ وَ اُحْلُمْ عِنْدَ اَلْغَضَبِ وَ اِصْفَحْ مَعَ اَلدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ اَلْعَاقِبَةُ وَ اِسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ لاَ تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اَللَّهِ عِنْدَكَ وَ لْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اَللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ وَ إِنَّكَ فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ وَ مَا تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ وَ اِحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ(1) رَأْيُهُ وَ يُنْكَرُ عَمَلُهُ فَإِنَّ اَلصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ ».(شرح النهج لابن أبي الحديد مج 4، ص 226، ط 1).

***

ص: 69


1- يفيل: يضعف. وفي لفظ بحار الأنوار (71: 199) يقبل رأيه.

الحارث بن عبد الله الهمداني رضوان الله عليه صاحب أمير المؤمنين صلوات الله عليه، كان أحد الفقهاء، له قول في الفتيا، وإليه يُنسب الخطاب الذي خاطبه به أمير المؤمنين صلوات الله عليه في قوله:

يا حار همدان من يَمُت يرني *** من مؤمنٍ أو منافق قبلا

وهي أبيات مشهورة.

دخول الحارث الهمداني علي أميرالمؤمنين عليه السلام :

حدّث الأصبغ بن نباتة، قال: دخل الحارث الهمداني علي أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه في نفر من الشيعة وكنت فيهم، فجعل الحارث يتأوّد في مشيته ويخبط الأرض بمحجنه، وكان مريضاً، فأقبل عليه أمير المؤمنين صلوات الله عليه وكانت له منه منزلة، فقال: كيف تجدك يا حارث؟ فقال: نال الدهر يا أمير المؤمنين منّي، وزادني أواراً وغليلاً اختصامُ أصحابك ببابك، قال: وفيمَ خصومتهم؟ قال: فيك وفي الثلاثة من قبلك، فمن مُفرط منهم غالٍ، ومقتصد قالٍ، ومن متردّد مرتاب لا يدري أيُقدم أم يحجم، فقال:حسبك يا أخا همدان، ألا إنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي.

إلي أن قال: وأبشّرك يا حارث، لتعرفنّي عند الممات وعند الصراط وعند الحوض وعند المقاسمة، قال الحارث: وما المقاسمة؟ قال: مقاسمة النار، أقاسمها قسمة صحيحة، أقول: هذا وليّي فاتركيه، وهذا عدوّي فخذيه، ثمّ أخذ صلوات الله عليه بيد الحارث فقال: يا حارث أخذت بيدك كما أخذ رسول الله صلي الله عليه وآله بيدي فقال لي: _ وقد شكوت إليه حسد قريش والمنافقين لي _ إنّه إذا كان يوم القيامة أخذتُ بحبل الله وبحُجزته _ يعني التمسّك بعصمته تعالي _ وأخذت أنت يا علي بحجزتي، وأخذت ذريّتك بحجزتك، وأخذت شيعتكم بحجزتكم، فماذا يصنع الله بنبيّه، وما بصنع نبيّه بوصيه؟ خُذها إليك با

ص: 70

حارث قصيرةً من طويلة:(1) أنت مع من أحببت، ولك ما اكتسبت _ يقولها ثلاثاً _ فقام الحارث يجرّ رداءه ويقول: ما أبالي بعدها متي لقيتُ الموت أو القيني».

وأنشد الحميري ما تضمّنه هذا الخبر:

قولُ عليٍّ الحارثٍ عجب *** كم ثمّ أعجوبة له حملا

يا حار همدان من يَمُت يرني *** من مؤمنٍ أو منافق قبلا

يعرفني طرفُه وأعرفه *** بنعته واسمه وما عملا

وأنت عند الصراط تعرفني *** فلا تَخَف عثرةً ولا زللا

أسقيك من بارد علي ظمأٍ *** تخاله في الحلاوة العسلا

أقول للنار حين تُوقف للعرض *** دعيه لا تقربي الرَّجُلا

دعيه لا تقربيه إنّ له *** حبلاً بحبل الوصيّ متّصلا(2)

نعود إلي أصل الكتاب فنقول:

ظاهر حال المكتوب والكتاب أن يكون من غائب إلي غائب لبيان المآرب، وقد يصدر الكتاب من الأعاظم والأنبياء والأولياء إلي أخصّائهم ليكون مثالاً للارشاد، ومنشوراً للتعليم، واستفادة للعموم وهدايتهم إلي طريق الرشاد، فالمخاطب به خاصّ، والمقصود منه عام.

ومن هذا القبيل رسائل أصحاب عيسي إلي خواصّهم وحواريهم، المعدودة من المآخذ والمصادر الدينيّة عند المسيحيين، والمضمونة في العهد الجديد من الكتاب المقدّس عند أتباع الأناجيل.

وهذا الكتاب الذي صدر منه صلوات الله عليه إلي الحارث الهمداني

ص: 71


1- القصيرة هي التمرة، والطويلة هي النخلة، وهذا مثل عربيّ.
2- أمالي الطوسي: 625 - 627/ ح 1292؛ بحار الأنوار : 178 - 180/ح6.

من هذا القبيل، فإنّه مثال للهداية والإرشاد لكافّة العباد، وفيه دلالة علي علوّ مقام الحارث وحظوته بموقف عالٍ عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه، حيث خصّه بهذا المنشور الإرشادي الغزير المادّة والعميق المغزي بالنظر إلي التعاليم العالية الأخلاقية، كمثل أعلي في طريق التزكية النفسانية، وافٍ في المرام الجميع الأنام.

وقد انتخب السيد الرضي منه قطعة صالحة لما يرمي إليه في نهجه من المقاصد الأدبية.

قال ابن ميثم: هذا الفصل من كتاب طويل إليه، وقد أمره فيه بأوامره،وزجره بزواجره، مدارها علي تعليم مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.

وقد جمع صلوات الله عليه في هذا الكتاب كلّ ما يلزم للمسلم الإلهي في الرابطة بينه وبين الله تعالي من التمسّك بالقرآن وملازمة أحكامه من الحلال والحرام، وفي المواجهة مع الدنيا والاعتبار عن فنائها، وعدم الركون إليها، والاتّعاظ بما سلف منها، وفي التوجّه إلي الموت والتهيّؤ لما بعده، بادّخار الأعمال الصالحة، والاجتناب عن الأعمال المهلكة.

ثمّ نظم صلوات الله عليه وصايا اجتماعيّة في الروابط بين المسلم وسائر إخوانه وأبناء نوعه، وحذّر عن الاستئثار بما يكره سائر الناس ويضرّهم، وعن النفاق، وأمر بصيانة العرض وحفظ اللسان عن الكذب بأعّم معانيه، إلي أن بلغ في الوصاية بالتضحية في سبيل الله، والاجتناب عن معاشرة الفسّاق وضعفاء الرأي، إلي آخر ما أفاده صلوات الله عليه في هذا الكتاب.

ولعمري فقد كان الإمام علي صلوات الله عليه دائب النصح والارشاد والدعوة إلي الخير، ليكون أصحابه وأتباعه علي مستوي رفيع في الأخلاق الانسانية والآداب العالية، وما يتحلّي به المرء من النبل والمكارم.

ص: 72

حديث علي عليه السلام مع نوف البكالي:

فمن ذلك قوله صلوات الله عليه لنوف البكالي:

قال نوف: أتيت أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو في رحبة مسجد الكوفة، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام يا نوف ورحمة الله وبركاته، فقلت له: يا أمير المؤمنين عِظني.

فقال: يا نوف أحسِنْ يُحسَن إليك.

فقلت: زِدني يا أمير المؤمنين.

فقال: يا نوف ارْحَم تُرحَم.

فقلت: زدني يا أمير المؤمنين.

قال: يا نوف قُل خيراً تُذكر بخير.

فقلت: زدني يا أمير المؤمنين.

قال: اجتنب الغيبة فإنّها أدام كلاب النار.

ثمّ قال: يانوف كذب مَن زعم أنّه وُلد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغية، و كذب من زعم أنّه وُلد من حلال وهو يُبغضني ويبغض الأئمّة من ولدي، وكذب من زعم أنّه وُلد من حلال وهو يحبّ الزنا، و كذب مَن زعم أنّه يعرف الله وهو مُجترء علي معاصي الله كلّ يوم وليلة.

بانوف إقبل وصيتي، لا تكوننّ نقيباً ولا عريفاً ولا عشّاراً ولا بريداً. يا نوف، صِل رحمك يزيد الله في عمرك، وحسّن خلقك يُخفّف الله حسابك، يا نوف إن سرّك أن تكون معي يوم القيامة فلا تكن للظالمين معيناً. يانوف من أحبّنا كان معنا يوم القيامة، ولو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لحشره الله معه. يانوف إيّاك أن تتزيّن للناس وتبارز الله بالمعاصي فيفضحك الله يوم تلقاه. يانوف احفظ عني ما أقول لك تنل به خير الدنيا والآخرة».(1)

ص: 73


1- أمالي الصدوق 277 - 287/ ج308؛ بحار الانوار 74: 382 - 383، ج 9.

موعظة الإمام الجواد عليه السلام لعبد العظيم الحسني:

وجاء عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الرضا عليهما السلام: يابن رسول الله حدّثني بحديث عن أبائك عليهم السلام، فقال حدّثني أبي عن جدّي، عن أبائه، قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا استووا هلكوا، قال: قلت: زدني بابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدي عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «لو تكاشفتم ما تدافنتم». قال: قلت: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء، فإنّي سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم. فسعوهم بأخلاقكم». قال: قلت له: زدني يا بن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «من عتب علي الزمان طالت معتبته». قال: فقلت له: زدني يابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «مجالسة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار». قال: فقلت له: زدني يابن رسول الله، قال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أميرالمؤمنين صلوات الله عليه: «بئس الزاد إلي المعاد العدوان علي العباد». قال: فقلت له: زدني ياابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه». قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «المرء مخبوء تحت لسانه». قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، قال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير

ص: 74

المؤمنين صلوات الله عليه: «ما هلك امرؤٌ عرف قدره». قال: فقلت له: زدني با ابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم». قال: فقلت له: زدني يابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «من وثق بالزمان صرع». قال: فقلت له: زدني يابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «خاطر بنفسه مَن استغني برأيه». قال: فقلت له: زدني يابن رسول الله، قال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «قلّة العيال أحد اليسارَين». قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «من دخله العجب هلك». قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «من أيقن بالخلف جاد بالعطيّة». قال: فقلت له: زدني يابن رسول الله، فقال: حدّثني أبي عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «من رضي بالعافية ممّن دونه رُزق السلامة ممن فوقه». قال: فقلت له: «حسبي».(1)

موعظة الإمام علي عليه السلام للحسن البصري:

وفي أمالي الشيخ المفيد: عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: لمّا قدم علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه البصرة مرّ بي وأنا أتوضّأ، فقال: «يا غلام أحسن وضوءك يحسن الله إليك، ثمّ جازني، فأقبلت

ص: 75


1- أمالي الصدوق 531 - 532/ ج 718.

أقفو أثره، فحانت منه التفاتة فنظر إليّ فقال: يا غلام ألك حاجة؟ قلت: نعم، علّمني كلاماً ينفعني الله به، فقال صلوات الله عليه: «يا غلام من صدق الله نجا، ومن أشفق علي دينه سلم من الردي، ومن زهد في الدنيا قرّت عينه بما يري من ثواب الله عزّوَجل، ألا أزيدك يا غلام؟ قلت: بلي يا أمير المؤمنين، قال: من كنّ فيه ثلاث خصال سلمت له الدنيا والآخرة: من أمر بالمعروف وائتمر به، و نهي عن المنكر وانتهي عنه، وحافظ علي حدود الله، يا غلام أيسرّك أن تلقي الله يوم القيامة وهو عنك راضٍ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: كن في الدنيا زاهداً، وفي الآخرة راغباً، وعليك بالصدق في جميع أمورك، فإنّ الله يعبّدك وجميع خلقه بالصدق». ثمّ مشي حتي دخل سوق البصرة فنظر إلي الناس يبيعون ويشترون، فبكي صلوات الله عليه بكاءً شديداً ثم قال: يا عبيد الدنيا وعمّال أهلها، إذا كنتم بالنهار تحلفون، وبالليل في فرشكم تنامون، وفي خلال ذلك عن الآخرة تغفلون، فمتي تحرزون الزاد، وتفكّرون في المعاد؟ فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إنّه لا بدّ لنا من المعاش فكيف نصنع؟ فقال أمير المؤمنين: إنّ طلب المعاش من حلّه لا يشغل عن عمل الآخرة، فإن قلت لابدّ لنا من الاحتكار لم تكن معذوراً، فولّي الرجل باكياً. فقال له أمير المؤمنين: أقبِل عليّ أزيدك بياناً، فعاد الرجل إليه، فقال له: إعلم يا عبد الله أنّ كلّ عامل في الدنيا للآخرة لا بدّ أن يُوفّي أجر عمله في الآخرة، وكلّ عامل دنيا للدنيا عمالته في الآخرة نار جهنم، ثمّ تلا صلوات الله عليه قوله تعالي:

«فَأَمَّا مَنْ طَغَي * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَي».(1) (2)

ص: 76


1- النازعات: 37 - 39.
2- أمالي المفيد: 118 - 120/ ج3.

وقال صلوات الله عليه: «ثلاث بهنّ يكمل المسلم: التفقّه في الدين، والتقدير في المعيشة، والصبر علي النوائب»(1)

مواعظ وحكم لعلي عليه السلام

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا علي ثلاث من لقي الله بهنّ فهو من أفضل الناس: من أتي الله بما افترض عليه فهو من أعبد الناس، ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع الناس، ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغني الناس».(2)

وقال صلوات الله عليه: «ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبداً حتي بري وبالهنّ: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإنّ أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، وإنّ القوم ليكونوا فجّاراً فيتواصلون فتنمي أموالهم ويثرون، ويبرّون فتزداد أعمارهم، وإنّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليدران الديار بلاقع من أهلها».(3)

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ثلاث لا تُطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذِكر الله علي كلّ حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد علي ما يحرم عليه خاف الله لك عنده و تركه».(4)

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ثلاثة يتخوّف منهنّ الجنون: التغوّط بين القبور، والمشي في خُفّ واحد، والرجل ينام وحده».(5)

ص: 77


1- الخصال للصدوق: 124/ ج 120؛ مشكاة الأنوار للطبرسي: 194.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 358 (في حديث طويل).
3- الخصال: 124/ ح120.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 358.
5- من لا يحضره الفقيه: 359؛ الخصال: 125/ ح 122.

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه آله: ثلاثة مجالستهم تُميت القلب: مجالسة الأنذال، ومجالسة الأغنياء، والحديث مع النساء».(1)

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ياعلي ثلاثة من الوسواس: أكل الطين، وتقليم الأظفار بالأسنان، وأكل اللحية».(2)

وقال صلوات الله عليه: «الرجال ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر؛ فالعاقل الدين شريعته، والحلم طبيعته، والرأي سجيّته، إن سُئل أجاب، وإن تكلّم أصاب، وإن سمع وعي، وإن حدّث صدق، وإن اطمأنّ إليه أحد وفي؛ والأحمق إن استنبه بجميل غفل، وإن استُنزل عن حسن نزل، وإن حُمل علي جهل جهل، وإن حدّث كذب، وإن فُقّه لا يفقه؛ والفاجر إن ائتمنته خانك، وإن صاحبته شانك، وإن وثقتَ به لم ينصحك».(3)

وقال صلوات الله عليه: «إنّ للمرء المسلم ثلاثة أخلاّء: فخليل يقول له (أنا معك حياً وميتاً) وهو عمله، وخليل يقول له (أنا معك إلي باب قبرك ثمّ أخلّيك) وهو ولده، وخليل يقول له (أنا معك إلي أن تموت) وهو ماله، فإذا مات صار للوارث».(4)

وقال صلوات الله عليه: «الفتن ثلاث: حبّ النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان، وحبّ الدنيا والدرهم وهما سهم الشيطان، فمن أحبّ النساء لم ينتفع بعيشه، ومن أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، ومن أحب الدنيا والدرهم فهو عبد الدينار».(5)

ص: 78


1- الكافي 2: 641/ ح 8؛ من لا يحضره الفقيه 4: 359 - 360.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 372؛ الخصال: 126/ ح 122.
3- الخصال: 116 ح 96؛ بحار الأنوار 97: 9/ ح 5.
4- الخصال: 114/ ح 92؛ أمالي الصدوق: 170/ ح 167.
5- وسائل الشيعة 20: 26 /ح 24938؛ الفصول المهمّة للحرّ العاملي: 391/ ح 3150.

وقال صلوات الله عليه: «جُمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر، والسكون، والكلام، فكلّ نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكلّ سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، و كلّ كلام ليس فيه ذِكر فهو لغو، فطوبي لمن كان نظره عبراً، وسكوته فكراً، و كلامه ذِكراً، وبكي علي خطيئته وأمن الناس من شرّه».(1)

وقال صلوات الله عليه: «قال لي رسول الله صلي الله عليه وآله «يا علي ثلاث درجات، وثلاث كفّارات، وثلاث مهلكات، وثلاث مُنجيات: فأمّا الدرجات فإسباغ الوضوء في السبرات،(2) وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والمشي بالليل والنهار إلي الجماعات؛ وأمّا الكفّارات: فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتهجّد بالليل والناس نيام؛ وأما المهلكات: فشُحّ مطاع، وهوي متبّع، وإعجاب المرء بنفسه؛ وأمّا المنجيات: فخوف الله في السرّ والعلانية، والقصد في الغني والفقر، و كلمة العدل في الرضا والسخط».(3)

وقال صلوات الله عليه لولده محمد بن الحنفية: «إيّاك والعُجب وسوء الخلق وقلّة الصبر، فإنّه لا يستقيم لك علي هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب، ألزم نفسك التودّد، واصبر علي مؤذيات الناس نفسك، وابذل لصديقك نفسك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك ومحبتك، ولعدوّك عدلك وإنصافك، واضنُن بدينك وعرضك عن كلّ أحد، فإنّه أسلم لدينك ودنياك».(4)

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي

ص: 79


1- من لا يحضره الفقيه 4: 405 /ح o876؛ الخصال: 98/ ح 47.
2- السبرة: الغداة الباردة.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 360 - 361( في حديث طويل).
4- الخصال: 147/ ح 178؛ بحارالأنوار 71: 175/ ح6.

ولا من الله عزّوجَل، قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: حلم يردّ به جهل الجاهل، وحسن خُلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله عزّوجَل».(1)

الذنوب ثلاثة:

وقال صلوات الله عليه: «الذنوب ثلاثة، ثمّ أمسك، فقال له حبّة العرني: يا أمير المؤمنين قلت «الذنوب ثلاثة» ثمّ أمسكتَ؟ فقال صلوات الله عليه: ما ذكرتُها إلاّ وأنا أريد أن أفسّرها، ولكن عرض بهرٌ حال بيني وبين الكلام، نعم الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه، قال: يا أمير المؤمنين فبيّنها لنا، قال: نعم، أمّا الذنب المغفور فعبد عاقبه الله علي ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين؛ وأمّا الذنب الذي لا يُغفر فمظالم العباد بعضهم من بعض، إنّ الله تبارك وتعالي إذا برز لخلقه أقسم قسماً علي نفسه فقال: وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفّ بكفّ، ولو مسحة بكفّ، ولو نطحة ما بين القرناء إلي الجمّاء، فيقتصّ للعباد بعضهم من بعض، حتّي لا تبقي لأحد علي أحد مظلمة، ثمّ يبعثهم للحساب؛ وأمّا الذنب الثالث: فذنب ستره الله علي عبده ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجوله الرحمة ونخاف عليه العذاب».(2)

***

ص: 80


1- وسائل الشيعة 20: 359/ ح 25829؛ بحار الأنوار 68: 418/ ح 46.
2- الكافي 2: 443/ ح 1؛ المحاسن للبرقي 1: 7/ ح18؛ بحار الأنوار 6: 29 ح 35.

من خطبة له عليه السلام: في صفة الإسلام والإيمان

خطب علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه _ وقد سأله ابن الكوّاء (لعنه الله) عن صفة الإسلام والايمان والكفر والنفاق _ فقال صلوات الله عليه:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالي شَرَعَ الْإِسْلَامَ وَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ لِمَنْ حَارَبَهُ وَجَعَلَهُ عِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَهُدًي لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَزِينَةً لِمَنْ تَجَلَّلَهُ وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وَعُرْوَةً لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ وَحَبْلاً لِمَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ وَعَوْناً لِمَنِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَفُلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَعِلْماً لِمَنْ وَعَاهُ وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوي وَحُكْماً لِمَنْ قَضي وَحِلْماً لِمَنْ جَرَّبَ وَلِبَاساً لِمَنْ تَدَبَّرَ وَفَهْماً لِمَنْ تَفَطَّنَ وَيَقِيناً لِمَنْ عَقَلَ وَبَصِيرَةً لِمَنْ عَزَمَ وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ وَنَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَتُؤَدَةً لِمَنْ أَصْلَحَ وَزُلْفي لِمَنِ اقْتَرَبَ وَثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ وَرَخَاءً لِمَنْ فَوَّضَ وَسُبْقَةً لِمَنْ أَحْسَنَ وَخَيْراً لِمَنْ سَارَعَ وَجُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ وَلِبَاساً لِمَنِ اتَّقي وَظَهِيراً لِمَنْ رَشَدَ وَكَهْفاً لِمَنْ آمَنَ وَأَمَنَةً لِمَنْ أَسْلَمَ وَرَجَاءً لِمَنْ صَدَقَ وَغِنًي لِمَنْ قَنِعَ».

ثم إنّه عليه السلام غيّر أسلوب البيان خشية الملل وكراهية الإطالة في السير علي منهج واحد، إيقاظاً لمن أخذته الغفلة في ساحة الفكر، أو تجاذبته الأنظار إلي غير المقصود، فقال معظّماً أمر الإسلام، مشيراً إلي مقامه الأسمي ومكانه الأعلي:

«فَذَلِكَ الْحَقُّ سَبِيلُهُ الْهُدَي وَ مَأْثُرَتُهُ الْمَجْدُ وَ صِفَتُهُ الْحُسْنَي فَهُوَ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ مُشْرِقُ الْمَنَارِ ذَاكِي الْمِصْبَاحِ رَفِيعُ الْغَايَةِ يَسِيرُ الْمِضْمَارِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ سَرِيعُ السَّبْقَةِ أَلِيمُ النَّقِمَةِ كَامِلُ الْعُدَّةِ كَرِيمُ الْفُرْسَانِ ».

ص: 81

ثمّ أخذ عليه السلام يفسّر ما ربّما يكون مُبهماً من كلامه أو مستعجماً من ألفاظه، وليس من كلامه بمبهم، ولا لفظ منها بمستعجم، ولكنّه عليّ وحرصه علي تفهيم خلق الله و تعليم عباده، لذلك تسمعه يقوله: «الْإِيمَانُ مِنْهَاجُهُ وَ الصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ وَ الْفِقْهُ مَصَابِيحُهُ وَ الدُّنْيَا مِضْمَارُهُ وَ الْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ الْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ الْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ وَ النَّارُ نَقِمَتُهُ وَ التَّقْوَي عُدَّتُهُ وَ الْمُحْسِنُونَ فُرْسَانُهُ».

ثمّ كأنّه يريد أن يأخذ بيدك يرشدك إلي الطريق ويدلّك علي المحجّة، حتّي لا تلتوي بك السبل ولا تأخذك الملاوي والتعاريج، حيث يقول: «فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَي الصَّالِحَاتِ وَ بِالصَّالِحَاتِ يُعْمَرُ الْفِقْهُ وَ بِالْفِقْهِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وَ بِالدُّنْيَا تَجُوزُ الْقِيَامَةَ وَ بِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ وَ الْجَنَّةُ حَسْرَةُ أَهْلِ النَّارِ وَ النَّارُ مَوْعِظَةُ الْمُتَّقِينَ وَ التَّقْوَي سِنْخُ الْإِيمَانِ». أصول الكافي مج2، ص49، الطبعة الحديثة؛ وفي مج2 من شرح ابن أبي الحديد ص219.

الإيمان يدل علي الصالحات :

قوله: «فبالايمان يستدلّ علي الصالحات» وذلك أنّ الإيمان هو المنهاج والطريق، وكلّما كان الطريق مستقيماً عدلاً كان دليلاً موصلاً، وأيضاً الإيمان له شبه العلّة بالنسبة إلي الصالحات، كما أشير إلي ذلك بقوله تعالي:

«إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ»(1)

ويشير إلي ذلك الشاعر بقوله:

وإذا حلّت الهداية قلباً نشطت للعبادة الأعضاءُ.(2)

ص: 82


1- التوبة : 18.
2- من قصيدة للبوصيري في مدح النبيّ صلي الله عليه وآله، والبيت الذي قبله: اِلف النُسك والعبادة وال *** صلاة طفلاً وهكذا النُجباءُ

ودلالة العلّة علي معلولها قويّة، والاستدلال بها شايع، وهي من البراهين القطعيّة، وسمّاه الحكماء بالبرهان اللمّي، والإستدلال بالمعلول علي العلّة بالبرهان الإنّي، واللمّي أقوي عندهم من الإنّي، وليس هنا موضع تفصيله، فلنكتفِ بهذا ولنعد إلي ما كنّا بصدده.

إعمار الفقه بالصلاح:

قال صلوات الله عليه: «بالصالحات يعمر الفقه».

وذلك أنّ الفقه إنّما يُطلب للعمل الصالح، فإذا طُلب لغير ذلك كان صنعة ولم يكن علماً، فلا جرم كان العمل الصالح باعثاً علي الفقه، فحيث يُطلب العمل يُطلب العلم، وحيث يعمر العمل، يعمر العلم، وحيث يترك العمل يترك العلم. زهّد الناس في العلم قلّة العاملين به، أو أنّ المقصود الاشارة إلي أنّ بالعمل علي موجب العلم ينمو العلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم»(1) وقيل: إنّ المراد بالصالحات ولاية أهل البيت عليهم السلام، وعمران الفقه بها واضح، وذلك أنّ المقصود بولايتهم اتّخاذهم أولياء لهم الأمر والنهي والطاعة المفترضة، وإلي هذا المعني يشير الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «ولايتي لعليّ خير من ولادتي منه»(2) وهم عليهم السلام أبواب الفقه و خزّانه، وأنصار الحقّ وأعوانه، وهم تراجمة القرآن وسفرة الرحمن، استودعهم علمه، وائتمنهم علي مكنون سرّه، فمن أخذ شيئاً من هذا فعنهم أخذو منهم اقتبس، وإلي ذلك يشير ابن أبي الحديد المعتزلي في علي عليه السلام:

ألا إنّما التوحيد لولا علومه لعرضة ضلّيل ونهبة كافرِ.

ص: 83


1- الفصول المختارة للمفيد: 107؛ بحار الأنوار 40: 128.
2- بحار الأنوار 39: 299 ح 105، وفيه: ولايتي لعلي بن ابي طالب عليه السلام أحبّ إليّ من ولادتي منه، لأنّ ولايتي لعليّ بن أبي طالب فرض، وولادتي منه فضل.

وله _ ابن أبي الحديد _ في أوائل شرح النهج كلام في هذا المقام طويل ملخّصه: أنّ فقهاء المذاهب وغيرهم من أئمّة العلم وأعلامه أخذوا عنه علومهم، وحسبنا في ذلك قول الرسول صلي الله عليه وآله المتّفق علي روايته عند الشيعة والسنّة «إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً، ألا وإنّ اللطيف الخبير قد أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض كإصبعيّ هاتين _ وجمع بين سبّابتيه _ ولا أقول هاتين _ وجمع بين سبّابته والوسطي _ فتفضل هذه علي هذه، فلا تتقدّموهم فتمرقوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».(1)

وإلي هذا المعني يُشير بعض الشعراء بقوله:

إليكم وإلاّ لا تُشدّ الركائبُ *** ومنكم وإلاّ لا تُنال المواهبُ

وفيكم وإلاّ فالحديث زخارف *** وعنكم وإلاّ فالمحدّث كاذب

ولله درّ من قال:

إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهباً *** ينجّيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك *** وأحمد والمروي عن كعب أحبار

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم *** روي جدُّنا عن جبرئيل عن الباري(2)

وقال الآخر:

مُطهرونَ نقيّاتٌ ثيابهمُ *** تجري الصلاةُ عليهم أينما ذُكروا

الله لمّا بري خلقاً وأتقنه *** صفاكُمُ واصطفاكمْ أيّها البشرُ

فأنتم الملأ الأعلي وعندكمُ *** عِلمُ الكتاب وما جاءت به السور(3)

ص: 84


1- بحار الأنوار 30: 65، باختلاف يسير.
2- بحار الأنوار 105: 117؛منهاج الكرامة للعلاّمة الحلّي: 67.
3- مناقب آل أبي طالب 3: 474 - 475؛ بحار الأنوار 49: 148، ح 24؛ والشعر لأبي نؤاس.

وليس غرضنا من هذا الدعوةَ أو الدعايةَ علي ما يقولون، ولكنّه الحقّ نقوله خدمة للحقّ ولطلاّب الحقّ _ وما بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين _ ولنعد إلي تمام كلامه صلوات الله عليه في هذا الموضوع.

بالفقه يرهب الموت:

قوله عليه السلام: «وبالفقه يرهب الموت».

الموت قنطرة أو سفينة يعبر بها أهل النعيم إلي نعيمهم، وأهل الجحيم إلي جحيمهم، فهو لأولئك راحة لاتزول، ولهؤلاء حسرة لا تنقضي، وباب العلم به علي عباده مسدود، لا يعلم المرء متي يأتيه الموت ويدنو منه، ولا يعلم ما يلاقيه وينتهي إليه، وكم اطّردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبي الله إلاّ إخفاءه، فكيف لا نرهبه، نعم إنّما يغفل عنه ولا يرهب منه الجاهلون، وإنّما يخشاه ويخافه العالمون «إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ».(1) أجل في الموت راحة المؤمن وهناؤه حيث يُخلّصه منكدورات الدنيا و آلامها.

أشعار في الموت:

قال الشاعر:

جزي الله عنّا الموت خيراً فإنّه *** أبرّ بنا من كل برّ وأرأفُ

يعجّل تخليص النفوس من الأذي *** ويُدني من الدار التي هي أشرف(2)

وقال آخر:

من كان يرجو أن يعيش فإنّني *** أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا

في الموت ألف فضيلة لو أنها *** عُرفت لكان سبيله أن يُعشقا(3)

ص: 85


1- فاطر: 28.
2- شرح نهج البلاغة 8: 292.
3- شرح نهج البلاغة 8: 292.

وقال الشيخ البهائي:

إنّ هذا الموت يكرهه *** كلُّ من يمشي علي الغبرا

وبعين العقل لو نظروا *** الرأوه الراحة الكبري

وقال أبو العتاهية:

المرء يأمل أن يعيش *** و طولُ عمرٍ قد يضرّه

تفني بشاشتُه ويبقي *** بعد حُلو العيش مُرّه

وتخونه الأيّام حتّي *** لا يري شيئاً يسّره

كم شامتٍ بي إن هلكتُ *** وقائلٍ لله درّه(1)

وقال ابن المعتز:

ألست تري يا صاح ما أعجب الدهرا *** فذمّاً له لكنّ للخالق الشكرا

لقد حبب الموت البقاء الذي أري *** فيا حسداً مني لمن يسكن القبرا(2)

وقال آخر:

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا *** في الموت ألف فضيلة لا تُعرفُ

منها أمان لقائه بلقائه *** وفراق كلّ معاشر لا يُنصف(3)

وقال ابراهيم بن المهدي:

وإنّي وإن قدّمت قبلي لَعالِمٌ *** بأنّي وإن أبطأتُ عنك قريبُ

وإنّ صباحاً نلتقي في مسائه *** صباح إلي قلبي الغداة حبيب(4)

ص: 86


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 293.
2- نفس المصدر
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 291.
4- نفس المصدر.

وهناك ناحية أخري تدعو إلي رهبة الموت والخوف منه، نبّه إليها صلوات الله عليه بقوله: «وبالموت تُختم الدنيا».

وذلك أنّ الدنيا مضمار العمل وميدانه، ومزرعة الآخرة ومغرسها، وإنّما يحصد المرء بآخرته ما زرعه بها، ويجني من ثمر ما غرسه فيها، والموت يقطعه عن ذلك، ويحول بين المرء وقلبه، وبين المذنب وتوبته، والمجرم وأوبته، ومن هنا يقول صلوات الله عليه بعده:

«وبالدنيا تجوز القيامة».

أي ثواب يوم القيامة، ويتلخّص من كلامه عليه السلام أنّ بالفقه يرهب الموت، و كيف لا يرهب الموت وبه تختم الدنيا، وبالدنيا تحاز الجنّة، فالموت إذن قد يحول بين المرء وبين أن يحوز الجنّة، ولا سيّما إذا جاء بغتة وعلي غير استعداد، نعوذ بالله من سوء الخاتمة ونستغفره ونتوب إليه من كلّ ما لا يرضيه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلّي العظيم.

قوله صلوات الله عليه:

«وبالقيامة تُزلف الجنة».

أي تقرب، قال الله تعالي: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ».(1)

قوله عليه السلام: «والجنّة حسرة أهل النار»روي أنّه يُكشف لهم عن مقاعدهم فيها لو كانوا مؤمنين في الدنيا فيتحسّرون ويزدادون ألماً فوق آلامهم، نادمين علي ما قدّموا من قبيح أعمالهم، «أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ»(2) وذلك أنه «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ».(3)

ص: 87


1- الشعراء: 90.
2- الأعراف: 53.
3- الزمر: 47.

قوله عليه السلام: «والنار موعظة المتّقين» أي يذكرونها فيّتعظون بها، «فهم

والنار كمن قد رآها» لشدّة يقينهم بها «فهم فيها مُعذَّبون».

قوله عليه السلام: «والتقوي سنخ الإيمان» أي أصله و أساسه.

ولنعد إلي كلامه الأوّل عليه السلام في وصف الإسلام ونعته.

قال كميل بن زياد رضوان الله عليه: سألت مولاي أمير المؤمنين عليه السلام عن قواعد الإسلام ما هي؟ فقال: «قواعد الإسلام سبعة: فأوّلها العقل وعليه بُني الصبر، والثانية صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة: تلاوة القرآن علي جهته، والرابعة الحبّ في الله والبُغض في الله، والخامسة حقّ آل محمد صلي الله عليه وآله ومعرفة ولايتهم، والسادسة حقّ الاخوان والمحاماة عنهم، والسابعة مجاورة الناس بالحُسني.

قلت: يا أمير المؤمنين، العبد يصيب الذنب فيستغفر الله منه، فما حدّ الاستغفار؟ قال: يابن زياد التوبة، قلت: بس، قال: لا. قلت: فكيف؟ قال: إنّ العبد إذا أصاب ذنباً يقول «أستغفر الله» بالتحريك، قلت: وما التحريك؟

قال: الشفتان واللسان، يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟ قال: تصديق في القلب، وإضمار أن لا يعود إلي الذنب الذي استغفر منه، قال كميل: فإذا فعلتُ ذلك فأنا من المستغفرين؟ قال: لا. قال كميل: فكيف ذاك؟ قال: لأنّك لم تبلغ إلي الأصل بعد، قال كميل: فأصل الاستغفار ماهو؟ قال: الرجوع إلي التوبة من الذنب الذي استغفر منه، وهو أوّل درجة العابدين. وترك الذنب والاستغفار اسمٌ واقع لمعانٍ: أوّلها: الندم علي ما مضي، والثاني: العزم علي ترك العود أبداً، والثالث: أن تؤدّي حقوق المخلوقين التي بينك وبينهم، الرابع: أن تؤدّي حقّ الله في كلّ فرض، والخامس: أن تُذيب اللحم الذي نبت علي السُّحت والحرام، حتّي يرجع الجلد إلي عظمه وتنشيء بينهما لحماً جديداً، والسادس: أن تُذيق البدن ألم الطاعة كما أذقته لذّات المعاصي».(1)

ص: 88


1- تحف العقول 196 - 197؛ بحار الأنوار 65: 381.

وقال صلوات الله عليه: «الأنسبنّ الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلاّ بمثل ذلك: إنّ الاسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الأداء، إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربّه فأخذه، إنّ المؤمن يري يقينه في عمله، والكافر يري إنكاره في عمله.

فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمرهم، فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة».(1)

وقال صلوات الله عليه: «أثافيّ الإسلام ثلاث لا تنفع واحدة منهنّ دون صاحبتها: الصلاة، والزكاة، والولاية».(2)

وقال صلوات الله عليه: «وأمّا ما فرضه الله عزّوجَل من الفرائض في كتابه، فدعائم الإسلام، وهي خمس دعائم، وعلي هذه الفرائض بُني الإسلام، فجعل سبحانه لكلّ فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود لا يسع أحدٌ جهلها: أوّلها الصلاة، ثمّ الزكاة، ثمّ الصيام، ثمّ الحجّ، ثمّ الولاية وهي خاتمتها والحافظة الجميع الفرائض والسنن».(3)

وقال صلوات الله عليه: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الله خلق الاسلام فجعل له عرصة، وجعل له نوراً، وجعل له حصناً، وجعل له ناصراً، فأمّا عرصته فالقرآن، وأمّا نوره فالحكمة، وأمّا حصنه فالمعروف، وأمّا أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنّه لمّا أسري بي إلي سماء الدنيا فنسبني جبرئيل عليه السلام لأهل السماء استودع الله حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلي يوم القيامة، ثمّ هبط بي إلي الأرض فنسبني

ص: 89


1- المحاسن للبرقي 1: 222/ ح 135؛ الكافي 2: 45 _ 46/ ح 1.
2- المحاسن 1: 286 /ح 428؛ بحار الأنوار 65: 386/ ح 34.
3- وسائل الشيعة 1: 28/ ح 35؛ بحار الأنوار 65: 391/ ح 40.

إلي أهل الأرض، فاستودع الله عزّوجَل حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمّتي، فمؤمنو أمّتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلي يوم القيامة، ألا فلو أنّ الرجل من أمّتي عبد الله عزّوجَل عمره أيّام الدنيا ثمّ لقي الله عزّوجَل مُبغضاً لأهل بيتي وشيعتي ما فرّج الله صدره إلاّ عن النفاق».(1)

وقال صلي الله عليه وآله: «يا علي طوبي لمن أحبّك وصدّق بك، وويل لمن أبغضك وكذّب بك، محبّوك معروفون في السماء السابعة العليا والأرض السابعة السفلي وما بين ذلك، هم أهل الدين والورع والسمت الحسن والتواضع لله عزّوجَل، خاشعة أبصارهم، وجلت قلوبهم لذكر الله عزّوجَل، وقد عرفوا حقّ ولايتك، وألسنتهم ناطقة بفضلك، وأعينهم ساكبة تحنّناً عليك وعلي الأئمة من ولدك، يدينون لله بما أمرهم به في كتابه وجاءهم به البرهان من سنّة نبيّه، عالمون بما يأمرهم به أولو الأمر منهم، متواصلون غير متقاطعين، متحابّون غير متباغضين، إنّ الملائكة لتصلّي عليهم وتؤمّن علي دعائهم وتستغفر للمذنب منهم وتشهد لحضرته و تستوحش لفقده إلي يوم القيامة».(2)

***

ص: 90


1- الكافي 2: 46/ ح 3؛ بحار الانوار 95: 341، ح 13.
2- عيون أخبار الرضا 2: 236/ ح 21.

من خطبة له عليه السلام: في ذمِّ قريش وبيان عظمة أهل البيت عليهم السلام

بعد حمد الله تعالي والثناء عليه

«إنّ قريشاً طلبت السعادة فشقيت، وطلبت النجاة فهلكت، وطلبت الهدي فضلّت، ألم يسمعوا _ ويحهم _ قوله تعالي: «الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»؟ فأين المعدل والمفرّ عن ذريّة الرسول الذين شيّد الله بنيانهم فوق بنيانهم، وأعلي رؤسهم فوق رؤسهم، واختارهم عليهم، ألا إنّ الذرّية أفنان أنا شجرتها ، ودوحة أنا ساقها ، وإنّي من أحمد صلي الله عليه وآله بمنزلة الضوء من الضوء، والذراع من العضد، كنّا ظلالاً تحت العرش قبل خلق البشر وقبل خلق الطينة التي خُلق منها البشر أشباحاً عاليةَ لا أجسام نامية، إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كُنهه إلاّ ثلاثة: مَلَك مقرّب أو نبيّ مُرسَل أو عبد امتحن الله قلبه للايمان، فإذا انكشف لكم سرّ أو وضح لكم أمر فاقبلوه، والاّ فاسكتوا تسلموا، وردّوا علمنا إلي الله تعالي».

***

قوله صلوات الله عليه: «و إنّي من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء».

قال ابن أبي الحديد المعتزلي (مج 4 ص 107 من الطبعة الأولي بمصر) عند شرحهذه الكلمة: «ذلك لأنّ الضوء الأوّل يكون علّة في الضوء الثاني، ألا تري أنّ الهواء المقابل للشمس يصير مضيئاً من الشمس، فهذا الضوء هو الضوء الأوّل، ثمّ إنّه يقابل وجه الأرض فيضيء وجه الأرض منه، فالضوء الذي علي وجه الارض هو الضوء الثاني، وما دام الضوء الأوّل ضعيفاً فالضوء الثاني ضعيف، فإذا ازداد الجوّ إضاءة ازداد وجه الأرض إضاءة، لأنّ المعلول يتبع

ص: 91

العلّة، فشبّه عليه السلام نفسه بالضوء الثاني، وشبّه رسول الله صلي الله عليه وآله بالضوء الأوّل، وشبّه منبع الأضواء والأنوار سبحانه وجلّت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول، ثمّ الضوء الأوّل يوجب الضوء الثاني، وههنا نكتة وهي أنّ الضوء الثاني يكون أيضاً علّة لضوء ثالث، وذلك أنّ الضوء الحاصل علي وجه الأرض _ وهو الضوء الثاني _ إذا أشرق علي جدار مقابل ذلك الجدار قريباً منه مكان مظلم، فإنّ ذلك المكان يصير مضيئاً بعد أن كان مظلماً، وإن كان لذلك المكان المظلم باب و كان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار، كان ذلك الجدار أشدّ إضاءة من باقي البيت، ثمّ ذلك الجدار، إن كان فيه ثقب إلي موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشدّ إضاءة ممّا حواليه، وهكذا لا يزال الضوء يوجب بعضه بعضاً علي وجه الإنعكاس بطريق العلّيّة وبشرط المقابلة، ولا تزال تضعف درجة درجة إلي أن تضمحلّ ويعود الأمر الي الظلمة، وهكذا عالم العلوم والحكم المأخوذة من أمير المؤمنين عليه السلام لا تزال تضعف كلّما انتقلت من قوم إلي قوم إلي أن يعود الاسلام غريباً كما بدا بموجب الخبر النبوي الوارد في الصحاح «بدء الإسلام غريباً وسيعود غريباً».(1)

وأمّا قوله: و كالذراع من العضد، فلأنّ الذراع فرع علي العضد، والعضد أصل، ألا تري أنّه لا يمكن أن يكون ذراع إلاّ إذا كان عضد، ويمكن أن يكون عضد لا ذراع له، ولهذا قال الراجز لولده:

يا بكر بكرين و يا خلب الكبد *** أصبحت مني كذراع من عضد

فشبّه عليه السلام نفسه بالنسبة إلي رسول الله صلي الله عليه وآله بعد بالذراع الذي العضد أصله وأسّه، والمراد من هذا التشبيه الإبانة عن شدّة الامتزاج والاتّحاد والقرب بينهما، فإنّ الضوء الثاني شبيه بالضوء الأول، والذراع متّصل بالعضد اتّصالاً بيّناً، وهذه المنزلة فقد أعطاه إياها رسول الله صلي الله عليه وآله في مقامات كثيرة، نحو قوله في قصّة

ص: 92


1- عوالي اللتالي 1: 33/ ح 12؛ مسند أحمد 4: 73.

براءة «قد أمرت أن لا يؤدّي عني إلاّ أنا أو رجل مني»، وقوله: «لتنتهنّ يابني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلاً مني، أو قال عديل نفسي»، وقد سمّاه الكتاب العزيز نفسه فقال: «وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(1) وقد قال له الحمك مختلط بلحمي، ودمك منوط بدمي، وشبرك وشبري واحده».(2)

أهل البيت عليهم السلام أظلة العرش:

قوله عليه السلام: «كنّا ظِلالاً تحت العرش قبل خلق البشر وقبل خلق الطينة التي خلق منها البشره».

جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي من علماء القرن الثالث الهجري (مج 1 ص 18 ط النجف) عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ما خلق الله خلقاً أفضل منّي ولا أكرم عليه مني. فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال صلي الله عليه وآله: يا علي إنّ الله فضّل أنبياءه المرسلين علي ملائكته المقرّبين، وفضّلني علي جميع النبيّين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمّة من بعدك، وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا، ياعلي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم و حوّاء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلي معرفة ربنا و تسبيحه وتقديسه، لأنّ أوّل ما خلق الله خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده و بتمجيده، ثمّ خلق الملائكة، فلمّا شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا، فسبّحنا لتعلم الملائكة، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا».(3)

ص: 93


1- آل عمران: 61.
2- شرح نهج البلاغة 4: 107، ط الأولي، مصر.
3- تفسير القمّي 1: 18، ط النجف.

وفي كتاب الاختصاص تأليف الشيخ المفيد رضوان الله عليه عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «والله مابرء الله من بريّة أفضل من محمد ومنّي ومن أهل بيتي، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطلبة العلم من شيعتنا».(1)

وفي كتاب (بصائر الدرجات) في باب (أمير المؤمنين و أولو العزم أيّهم أفضل). وكذا جاء في بحار الأنوار، عن عبد الله بن الوليد قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أيّ شيء يقول الشيعة في عيسي و موسي وأمير المؤمنين عليهم السلام؟ قلت: يقولون إنّ عيسي و موسي أفضل من أمير المؤمنين، قال: فقال: أيزعمون أمير المؤمنين عليه السلام قد علم ما علم رسول الله صلي الله عليه وآله؟ قلت: نعم، ولكن لا يقدّمون علي أولي العزم من الرسل أحداً، قال أبو عبد الله عليه السلام: فخاصِمهم بكتاب الله. قال: قلت: وفي أيّ موضع منه أخاصمهم؟ قال: قال الله تعالي لموسي: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»(2) علمنا أنّه لم يكتب لموسي كلّ شيء، وقال الله تبارك وتعالي لعيسي: «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ»،(3) وقال الله تعالي لمحمد صلي الله عليه وآله: «وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَيٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ»(4)

وعن الحسين بن علوان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ الله خلق أولي العزم من الرسل وفضّلهم بالعلم وأورثنا علمهم وفضلهم، وفضّلنا عليهم في علمهم، و علّم رسول الله صلي الله عليه وآله ما لم يعلموا، وعَلِمنا علمَ الرسول وعلمَهم».(5)

وعن عبد الله بن الوليد السمان قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: يا عبد الله ما تقول الشيعة في علي وموسي وعيسي عليه السلام؟ قال: قلت: جُعلت فداك، ومن أيّ

ص: 94


1- الأختصاص: 234.
2- الأعراف: 145.
3- الزخرف: 63.
4- النحل: 89.
5- بصائر الدرجات: 227؛ بحار الأنوار 17: 145/ ح 33.

حالات تسألني؟ قال: أسألك عن العلم، فأمّا الفضل فهم سواء. قال: قلت: جُعلت فداك فما عسي أقول فيهم؟ فقال: هو والله أعلم منهما، ثم قال: يا عبد الله أليس يقولون إنّ لعلي عليه السلام ما للرسول من العلم؟ قال: قلت بلي، قال: فخاصمهم فيه، قال إنّ الله تبارك وتعالي قال لموسي: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»(1) فأعلمنا أنّه لم يبيّن له الأمر كلّه، وقال الله تبارك وتعالي لمحمد: «وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَيٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ».(2)

وعن علي بن إسماعيل عن بعض رجاله قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لرجل: «تمصّون الثماد وتدعون النهر الأعظم؟ فقال له الرجل: ما تعني بهذا يا بن رسول الله ؟ فقال: عِلم الأنبياء بأسره أوحاه الله إلي محمد صلي الله عليه وآله ، فجعله محمّد عند علي عليه السلام، فقال له الرجل: فعلي أعلم أو بعض الأنبياء، فنظر أبو عبد الله عليه السلام إلي بعض أصحابه، فقال: «إنّ الله يفتح مسامع من يشاء، أقول له إنّ رسول الله صلي الله عليه وآله جعل ذلك كلّه عند علي فيقول علي أعلم أو بعض الأنبياء».(3)

وفي المجلّد الاول من أصول الكافي تأليف محمد بن يعقوب الكليني ص 222 _ في باب (أنّ الأئمة ورثة العلم) عن علي بن النعمان، رفعه عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أبو جعفر يمصّون الثماد القليل من الماء ويدعون النهر العظيم ! قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله والعلم الذي أعطاه الله، إنّ الله عزّوجَل جمع لمحمد صلي الله عليه وآله سنن النبيّين من آدم وهلمّ جرّاً إلي محمد صلي الله عليه وآله، قيل له: وما تلك السنن؟ قال: علم النبيّين بأسره، وإنّ رسول الله صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له رجل: يابن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيّين ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : اسمعوا ما يقول، إنّ الله يفتح مسامع من يشآء، إنّي

ص: 95


1- الأعراف: 145.
2- النحل: 89.
3- بحار الأنوار 13: 242، ط الجديدة.

حدّثته أنّ الله جمع لمحمّد صلي الله عليه وآله علم النبيّين، وأنّه جمع ذلك كلّه عند أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيّين».(1)

وفيه أيضاً ص 263 عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ جبرئيل أتي رسول الله صلي الله عليه وآله برمّانتين، فأكل رسول الله إحداهما وكسر الأخري بنصفين فأكل نصفاً وأطعم علياً نصفاً، ثمّ قال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا أخي هل تدري ما هاتان الرمّانتان؟ قال: لا. قال: أمّا الأولي فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، وأمّا الأخري فالعلم أنت شريكي فيه، فقلت: أصلحك الله، كيف كان يكون شريكه فيه؟ قال: «لم يعلّم الله محمداً صلي الله عليه وآله عِلماً إلاّ وأمره أن يعلّمه علياً عليه السلام».(2)

وفي المجلّد الحادي عشر من البحار ص 114 ط الحديثة، بالإسناد عن الصدوق، عن أبيه، عن محمد العطّار، عن الفزاري، عن محمد بن عمران، عن اللؤلئي، عن ابن بزيع،عن ابن ظبيان، قال: «قال أبو عبد الله عليه السلام: اجتمع ولد آدم في بيت فتشاجروا، فقال بعضهم: خير خلق الله أبونا آدم، وقال بعضهم: الملائكة المقرّبون، وقال بعضهم: حملة العرش، إذ دخل عليهم هبة الله، فقال بعضهم: لقد جاءكم من يفرّج عنكم. فسلّم ثم جلس فقال: في أيّ شيء كنتم؟ فقالوا: كنّا نفكّر في خير خلق الله فأخبروه، فقال: اصبروا لي قليلاً حتّي أرجع إليكم، فأتي أباه فقال: يا أبت إنّي دخلت علي أخوتي وهم يتشاجرون في خير خلق الله فسألوني، فلم يكن عندي ما أخبرهم، فقلت: اصبروا حتّي أرجع اليكم فقال آدم عليه السلام: يا بُنيّ وقفت بين يدي الله عليه السلام فنظرت إلي سطر علي وجه العرش مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، محمّد و آل محمّد خير من برأ الله».

وفي تفسير النيسابوري المطبوع علي هامش تفسير الطبري في سورة الزخرف

ص: 96


1- أصول الكافي 1: 222.
2- أصول الكافي 1: 263.

آية 45، في تفسير قوله تعالي: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ». عن ابن عباس وابن مسعود أنّ النبي عليه السلام قال: «أتاني ملك فقال: يا محمّد سَل من أرسلنا من قبلك من رُسلنا علام بُعثوا؟ قال: قلت: علام بُعثوا؟ قال: علي ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رَضي الله عنهُ».رواه الثعلبي.(1)

في تفسير البرهان في سورة الزخرف آية 45، في تفسير في قوله تعالي: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» عن جابر بن عبد الله،قال: قال لي رسول الله صلي الله عليه وآله: يا جابر أيّ الأخوة أفضل؟ قال: قلت: البنون من الأب والأم، فقال: إنّا معاشر الأنبياء أخوة وأنا أفضلهم، ولأحب الأخوة إليّ علي بن أبي طالب، فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن زعم أنّ الأنبياء أفضل منه فقد جعلني أقلّهم، ومن جعلني أقلّهم فقد كفر، لأنّي لم أتّخذ علياً أخاً إلاّ لما علمتُ من فضله.(2)

حرّة بنت حليمة السعدية والحجّاج الثقفي:

وفي المجلد الحادي عشر من البحار ص 39، والمجلد 46 ص 134 منه أيضاً ط الحديثة، وفي الأنوار النعمانية ص 8 ط الأولي، وفي اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء ص 98:

أنه لمّا وردت حرّة بنت حليمة السعدية علي الحجّاج بن يوسف الثقفي، قال لها: أنت حرّة بنت حليمة السعدية؟ قالت: نعم، قال لها: لقد نُقل عنك أنك تفضّلين علي بن أبي طالب علي أبي بكر وعمر وعثمان؟ قالت: لقد كذب الذين قالوا لك أنّي أفضّله علي هؤلاء خاصّة، بلي أفضّله علي آدم ونوح ولوط وإبراهيم وموسي وداود وسليمان وعيسي. قال لها: يا ويلك إنّي أقول لك أنّك تفضّلينه علي الأصحاب فتبتدرينهم بسبعة

ص: 97


1- أخرجه البيّاضي في الصراط المستقيم 1: 279 عن تفسير الثعلبي.
2- تفسير البرهان 4: 148.

من الأنبياء من أولي العزم، فإن لم تأتِني ببيان ما قلت وإلاّ ضربت عنقك، قالت: ما أنا فضّلته علي هؤلاء الأنبياء، بل الله فضّله في القرآن العظيم عليهم، في قوله في حقّ آدم: «وَعَصَيٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي»(1) وقال في حقّ علي: «وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا»(2) فقال: أحسنت يا حرّة، فبِم تفضّيله علي نوح و لوط؟ قالت: ما أنا فضّلته، بل الله تعالي فضّله عليهما بقوله: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا»(3) وعلي بن أبي طالب عليه السلام كان ملكه تحت سدرة المنتهي وزوجته فاطمة الزهراء بنت محمد التي يرضي الله لرضاها ويغضب لغضبها، فقال: أحسنت يا حرّة، فبم تفضّليه علي أبي الأنبياء ابراهيم خليل الله؟ قال: ما أنا فضّلته، بل الله فضّله بقوله تعالي: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَيٰ»(4) وعلي بن أبي طالب يقول: لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً، وهذه كلمة لم يقلها أحد قبله ولا بعده، قال: أحسنت يا حرّة، وبم تفضّليه علي موسي؟ قالت: ما أنا فضّلته، بل الله تعالي فضّله عليه، بقوله: «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(5) وعلي بن أبي طالب عليه السلام بات علي فراش رسول الله صلي الله عليه وآله يفديه بنفسه ولم يخف حتّي أنزل الله تعالي فيه «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(6) قال: أحسنت يا حرّة، وبم تفضّليه علي داود عليه السلام؟ قالت: ما أنا فضّلته بل الله فضّله بقوله: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(7) قال: بأيّ شيء كانت حكومته؟ قالت: في رجلين كان أحدهما له كرم والآخر له غنم فرعته، فاحتكما إلي داود فقال داود: تباع الغنم و يُنفق ثمنها في الكرم حتّي يعود. فقال

ص: 98


1- طه: 121.
2- الإنسان: 22.
3- التحريم: 10.
4- البقرة: 260.
5- القصص: 21.
6- البقرة: 207.
7- ص: 26.

ابنه سليمان: لا يا أبة، بل يؤخذ من صوفها ولبنها ويُنفق في الكرم حتّي يعود، فأنزل الله تعالي «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ»(1) وعلي بن أبي طالب قال: سَلوني عمّا فوق السماء، سلوني قبل أن تفقدوني، فهذا سفط العلم وهذا العاب رسول الله، قال: أحسنت يا حرة، وبم تفضّليه علي سليمان؟ قالت: ما أنا فضّلته بل الله تعالي فضّله بقوله تعالي: «وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي»(2) وعلي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا دنيا لقد طلّقتُك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، حتّي أنزل الله تعالي في حقّه «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(3) قال: أحسنت يا حرّة، وبم تفضّليه علي عيسي روح الله؟ قالت: ما أنا فضّلته، بل الله تعالي فضّله عليه بقوله: «يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(4) وعليّ لما ادّعت فيه الغلاة أنّه الله لم يُعاتبه الله تعالي. قال: أحسنت يا حرّة، ثمّ أكرمها وأحسن إليها وسرّحها سراحاً جميلاً».

علي عليه السلام والأنبياء:

جاء في مشارق أنوار اليقين، للشيخ البرسي الحلي:

إنّ الله سبحانه وصف أنبياءه بأوصاف، ووصف وليّ نبيه بأعلي منها، فقال: في نوح «إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا»(5) وقال في علي «وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا»(6) وأين الشاكر من مشكور السعي؟ ووصف إبراهيم بالوفاء فقال «وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّيٰ»،(7) وقال في علي «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ»،(8) ووصف سليمان

ص: 99


1- الأنبياء: 79.
2- ص: 35.
3- القصص: 83.
4- المائدة: 116.
5- الاسراء: 3.
6- الانسان: 22.
7- النجم: 37.
8- الأنسان: 7.

بالملك فقال: «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا»(1) وقال في علي: «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا»،(2) ووصف أيوب بالصبر فقال: «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا»،(3) وقال في علي: «وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا»،(4) ووصف عيسي بالصلاة والزكاة فقال: «وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ»،(5) وقال في علي: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا»،(6) ووصف محمداً له بالعزّة فقال: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»،(7) وقال في علي: «وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَيٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَيٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَيٰ».(8)

وقال «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا»(9)، ووصف الملائكة بالخوف فقال: «يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(10) ، وقال في علي: «إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا»(11) ووصف ذاته المقدّسة بصفات الألوهيّة فقال: «وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ»(12) وقال في علي: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ»(13)».(14)

ص: 100


1- النساء: 54.
2- الانسان: 20.
3- ص: 44.
4- الإنسان: 12.
5- مريم: 31.
6- الانسان: 26.
7- المنافقون: 8.
8- الليل: 19.
9- المائدة: 55.
10- النحل: 50.
11- الانسان: 10.
12- الأنعام: 14.
13- الانسان: 8.
14- مشارق انوار اليقين: 192 - 193، الفصل 104.

وصفوة القول أنّ لمحمد صلي الله عليه وآله ولأهل بيته عليهم السلام مكانة عند الله تعالي لم يتوصّل إليها أحد، ولم يعرف قدرها إلاّ الرسل والأنبياء المعصومون عليهم السلام.

فقد دلّت الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم السلام بأنّ الانبياء توسّلوا إلي الله تعالي بالخمسة أصحاب الكساء في ساعات المحن التي تعرّضوا لها، فلقد توسّل بهم آدم عليه السلام بعد خروجه من الجنة، ونوح عند الطوفان، وإبراهيم عندما ألقاه النمرود في النار، وهكذا بقية الأنبياء عليهم السلام وقد أنجاهم الله تعالي من المحن التي تعرّضوا لها بواسطة هؤلاء الخمسة المعصومين عليهم السلام.

وأخيراً ظهرت هذه الحقيقة نتيجة للبحث والتنقيب، حيث نشرت (البذرة) النجفية التي تُصدرها ثانوية منتدي النشر الأهلية في عدديها الثاني والثالث بتاريخ شوال _ ذي القعدة سنة 1385 هج بحثاً مترجماً عن كتاب إليا والذي نشرته دار المعارف الإسلامية بلاهور (باكستان).

تحت عنوان:

أسماء مباركة توسّل بها نوح عليه السلام :

ما هذا نصّه مترجماً عن الأوردية:

«في تموز عام 1951 م حينما كان جماعة من العلماء السوفيت المختصّين بالآثار القديمة ينقّبون في منطقةٍ بوادي قاف عثروا علي قطع متناثرة من أخشاب قديمة متسوّسة وبالية، ممّا دعاهم إلي التنقيب والحفر أكثر وأعمق، فوقفوا علي أخشاب أخري متحجّرة وكثيرة كانت بعيدة في أعماق الأرض!!

ومن بين تلك الأخشاب التي توصّلوا إليها نتيجة التنقيب خشبة علي شكل مستطيل طولها 14 عقداً وعرضها 10 عقود سبّبت دهشتهم واستغرابهم، حيث لم تتغيّر فلم تتسوّس ولم تتناثر كغيرها من الأخشاب الأخري.

ص: 101

وفي أواخر سنة 1952 أكمل التحقيق حول هذه الآثار، فظهر أنّ اللوحة المشار إليها كانت ضمن سفينة النبي نوح عليه السلام، وأنّ الأخشاب الأخري هي أخشاب هيكل سفينة نوح.

وممّا يذكره المؤرّخون أنّ سفينة نوح استوت علي قمّة جبل قاف، وشوهد أنّ هذه اللوحة قد نُقشت عليها بعض الحروف التي تعود إلي أقدم لغة.

وهنا ألّفت الحكومة السوفيتية لجنة بعد الانتهاء من الحفر عام 1953 قوامها سبعة من علماء اللغات القديمة، ومن أهم علماء الآثار وهم:

1 _ سوله نوف، أستاذ الألسن في جامعة موسكو.

2 _ إيفاهان فينو، عالم الألسن القديمة في كلية لو لوهان بالصين.

3 _ ميشانن لو، مدير الآثار القديمة.

4 _ تانمول كورف، أستاذ اللغات في كلية كيفزو.

5 _ دي راكن، أستاذ الآثار القديمة في معهد لينين.

6 _ ايم اهمد كولاه، مدير التنقيب والاكتشافات العام.

7 _ هيجر كولتوف، رئيس جامعة ستالين.

وبعد مرور ثمانية أشهر من دراسة تلك اللوحة والحروف المنقوشة عليها اتّفقوا علي أنّ هذه اللوحة كانت مصنوعة من نفس الخشب الذي صُنعت منه سفينة نوح عليه السلام، وأنّ النبي نوح كان قد وضع هذه اللوحة في سفينته للتبرّك والحفظ.

وكانت حروف هذه اللوحة باللغة السامانية، وقد ترجمها إلي الانكليزية العالم البريطاني (ايف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانجستر، وهذا نصّ تعريبها:

«يا إلهي ويا مُعيني برحمتك و كرمك ساعدني، ولأجل هذه النفوس المقدسة: محمّد، إيليا، شبر، شبير، فاطمة، الذين هم جميعهم عظماء ومُكرمون، العالم قائم لأجلهم، ساعدني لأجل أسمائهم، أنت فقط تستطيع أن توجّهني نحو الطريق المستقيم».

ص: 102

وأخيراً بقي هؤلاء العلماء في دهشة كبري أمام عظمة هذه الأسماء الخمسة ومنزلة أصحابها عند الله تعالي حيث توسّل بها نوح عليه السلام اليه تعالي.

واللغز الأهم الذي لم يستطع تفسيره أيّ واحد منهم هو عدم تفسّخ هذه اللوحة رغم مرور آلاف السنين عليها، وهذه اللوحة موجودة الآن في متحف الآثار القديمة في موسكو».

يقول الله تعالي: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».(1)

مقتطفات في فضل أهل البيت عليهم السلام :

وبهذه المناسبة أنقل هنا بعض الأحاديث التي تناسب المقام بشأن أهل البيت الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام.

جاء في كتاب (ينابيع المودّة) تأليف العلاّمة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي ص 10 من الطبعة الأولي قال: أخرج أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن المغازلي الواسطي الشافعي في كتاب المناقب بسنده عن سلمان الفارسي رَضي الله عنهُ قال: سمعت حبيبي محمد صلي الله عليه وآله يقول: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدَي الله عزّوجَل، يسبّح الله ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق آدم أودع الله ذلك النور في صُلبه، فلم نزل أنا وعلي شيئاً واحداً حتّي افترقنا في صُلب عبد المطلب، ففيَّ النبوّة وفي علي الامامة».(2)

وفي المناقب، عن إسحاق بن إسماعيل النيشابوري، عن جعفر الصادق، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين قال: حدّثنا عمّي الحسن عليه السلام قال: سمعت جدّي صلي الله عليه وآله يقول: «خُلقت من نور الله عزّوجَل، وخُلق أهل بيتي من نوري، وخُلق محبّوهم من نورهم، وسائر الناس في النار».(3)

ص: 103


1- فصّلت: 53.
2- ينابيع المودّة: 10، ط الأولي، 2: 307 / ح 875، الطبعة المحقّقة 1416 ه
3- أخرجه المجلسي في بحار الأنوار 15: 20/ ح 32؛ ينابيع المودّة 1: 46/ح 7.

وفي المجلد الأوّل من كتاب حلية الأولياء ص 86 قال رسول الله صلي الله عليه وآله : «من سرّه أن يحيا حياتي ويموت ميتي ويدخل الجنة التي وعدني ربّي _ وهي جنّة الخُلد_فليوالِ علياً من بعدي وليوالِ وليّه، وليقتدِ بالأئمة من بعدي، فإنّهم عِترتي خُلقوا من طينتي، رُزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من أمّتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي».

وقال صلي الله عليه وآله: «اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلاّ بالعينين».

وقال صلي الله عليه وآله: «الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه من لقي الله وهو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا».

وقال صلي الله عليه وآله: «معرفة آل محمد براءة من النار، وحبّ آل محمد جواز علي الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب».

وقال صلي الله عليه وآله: «فلو أن رجلاً صفّ قدميه بين الركن والمقام فصلّي وصام وهو مُبغض لآل محمد دخل النار».

وجاء في تفسير الفخر الرازي في سورة الشوري، و تفسير الكشّاف في قوله تعالي: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي»(1) قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «من مات علي حبّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد مات مؤمناً مستكمل الايمان، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد بشّره مَلَك الموت بالجنّة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد فُتح له في قبره بابان إلي الجنة، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات علي حبّ آل محمد مات علي السنّة والجماعة، ألا ومن مات علي بُغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من

ص: 104


1- الشوري: 32.

رحمة الله، ألا ومن مات علي بُغض آل محمد مات كافراً، ألا ومن مات علي بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنّة».(1)

قال الفخر الرازي: آل محمد صلي الله عليه وآله هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أنّ فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل، وأيضاً اختلف الناس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم أمّته، فإن حملناه علي القرابة فهم الآل، وإن حملناه علي الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل، فثبت أنّ علي جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه.(2)

وروي صاحب الكشّاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتُهم؟ فقال صلي الله عليه وآله : علي وفاطمة وابناهما، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلي الله عليه وآله، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم.

أوجه عظمة أهل البيت عليهم السلام :

ويدلّ عليه وجوه:(3)

الأول: قوله تعالي: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي»

والثاني: لا شكّ أنّ النبي صلي الله عليه وآله كان يحبّ فاطمة عليها السلام ، قال صلي الله عليه وآله : فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، وثبت بالنقل المتواتر من محمد صلي الله عليه وآله أنّه كان يحبّ علياً عليه السلام والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب علي كلّ الأمة مثله، لقوله تعالي: «وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(4)

ص: 105


1- تفسير الرازي 27: 166؛ تفسير الكشاف 4: 173.
2- تفسير الرازي 7: 39.
3- تفسير الكشاف 27: 166.
4- الأعراف : 158.

ولقوله: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»(1) ولقوله تعالي: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»(2) ولقوله سبحانه: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(3)

الثالث: أنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله: «اللهمّ صلّ علي محمد وعلي آل محمد، وارحم محمداً و آل محمد» وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدّل علي أنّ حبّ آل محمد واجب.

وقال الشافعي:

يا راكباً قِف بالمحصّب من مِني *** واهتف بساكن خيفها والناهضِ

سَحراً إذا فاض الحجيجُ إلي مني *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبُّ آل محمد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي(4)

***

ص: 106


1- النور: 63.
2- آل عمران: 31.
3- الأحزاب: 21.
4- نظم درر السمطين للزرندي: 111؛ المسترشد: 78؛ بحار الأنوار 23: 234.

من خطبة له عليه السلام: في وصف القرآن والاستشفاء بآياته

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ _ أي علي النبي _ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَشِفَاءً لاَ تُخْشَي أَسْقَامُهُ وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ فَهُوَ مَعْدِنُ الاْيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ وَأَثَافِيُّ الاْسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ».

***

خصائص القرآن:

في هذا الكلام نبذ من فضائل القرآن ومناقبه وخصائصه وفوائده:

أولها: كونه نوراً لا تُطفأ مصابيحه: أمّا أنّه نور، فلاهتداء الناس به من ظلمات الجهل كما يُهتدي بالنور المحسوس في ظلمة الليل، وأمّا مصابيحه: فاستعارة لطريق الاهتداء وفنون العلوم التي تضمّنها القرآن.

ثانيا: كونه سراجاً لا يخبو توقّده _ أمّا أنّه سراج لا يخبو توقّده، فالمراد به عدم انقطاع اهتداء الناس به واستضاء تهم بنوره.

والثالثة: أنّه بحر لايُدرك قعره _ وذلك أنّ استعارة البحر له باعتبار اشتماله علي النكات البديعة والأسرار الخفيّة ودقائق العلوم التي لا يدركها بُعد الهمم ولا ينالها غَوص الفطن، كما لا يدرك الغائص قعر البحر العميق.

ص: 107

الرابعة: كونه منهاجاً لا يضلّ نهجه _ أي طريقاً واضحاً مستقيماً إلي الحق لا يضلّ سالكه.

والخامسة: كونه شعاعاً لا يظلم ضوؤه _ أي حقّاً لا يدانيه شكّ وريب، ولا تشوبه ظلمة الباطل فتغطّيه وتستره، كما قال تعالي: «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ»(1) وقال: «لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(2)

والسادسة: كونه فرقاناً لا يخمد برهانه _ أي فارقاً بين الحقّ والباطل وفاصلاً بينهما، لا تنتفي براهينه الجليلة و بيّناته التي يفرق بينهما، كما قال تعالي: «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ».(3)

وقال: «هُدًي لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ».(4)

والسابعة: كونه بنياناً لا تهدم أركانه _ شبّهه عليه السلام ببنيانٍ مرصوص وثيق الأركان، فاستعار له لفظه، و الجامع انتظام الأجزاء واتّصال بعضها ببعض وقوله «لا تهدم أركانه» ترشيح للاستعارة، وفيه إشارة إلي أن البنيان الوثيق كما أنّه مأمون من التهافت والهدم والانفراج، فكذلك الكتاب العزيز محفوظ من طرق النقص والخلل والإندراس.

والثامنة: كونه شفاء لا تُخشي أسقامه _ يعني أنّه شفاء للأبدان والأرواح، أمّا الأبدان فبالتجربة والعيان، مضافاً إلي الأحاديث الواردة في خواصّ أكثر الآيات المفيدة للاستشفاء والتعويذ بها، مثل ما جاء في كتاب أصول الكافي باسناده عن السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه قال: شكي رجل وجعاً

ص: 108


1- البقرة: 2.
2- فصلت: 42.
3- الطارق: 13.
4- البقرة: 185.

في صدره الي النبي صلي الله عليه وآله، فقال له صلي الله عليه وآله: استشفِ بالقرآن، فإنّ الله تعالي يقول: «وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ».(1) (2)

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: من لم تُبرءه الحمد لم يبرءه شيء.(3)

وقال الإمام موسي الكاظم عليه السلام: من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها في دبر كلّ فريضة لم يضرّه ذو حمّة.(4)

وفي تفسير مجمع البيان أنّ النبي صلي الله عليه وآله قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه ؟ فقال له جابر: بلي بأبي أنت وأمّي يا رسول الله علّمنيها، قال: فعلّمه الحمد أم الكتاب، ثمّ قال: يا جابر ألا أخبرك عنها؟ قال: بلي بأبي أنت وأمي فأخبرني، فقال: هي شفاء من كلّ داء إلاّ السّام، والسام الموت.(5)

آيات مفيدة لدفع الأذي والأوجاع والفقر وكلّ ضرر:

وفي المجلّد الأول من كتاب مسند الإمام علي نقلاً عن أصول الكافي مج 2 ص 624 عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: والذي بعث محمّداً صلي الله عليه وآله بالحقّ وأكرم أهل بيته، ما من شيء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابّة من صاحبها أو ضالّة أو آبق إلاّ وهو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه.

قال: فقام اليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عمّا يؤمن من الحرق والغرق، فقال عليه السلام: اقرأ هذه الآيات «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ»،(6)

ص: 109


1- يونس: 57.
2- مكارم الأخلاق: 387؛ بحار الأنوار 89: 176.
3- تفسير العيّاشي 1: 20؛ بحار الانوار 89: 237/ ح 34.
4- عدّة الداعي: 273؛ بحار الانوار 89: 266.
5- تفسير العيّاشي 1: 20؛ بحار الانوار 89/ 237/ ح33.
6- الأعراف: 196.

«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» إلي قوله سبحانه وتعالي «عَمَّا يُشْرِكُونَ»،(1) فمن قرأها فقد أمن من الحرق والغرق، قال: فقرأها الرجل واضطرمت النار في بيوت جيرانه _ وبيته وسطها _ فلم يصبه شيء.

ثمّ قام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ دابّتي استصعبت علي وأنا منها علي وجل، فقال عليه السلام: اقرأ في أذنها اليمني «وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»(2) فقرأها فذلّت دابته.

وقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أرضي مسبعة، وإنّ السباع تغشي منزلي ولا تجوز حتّي تأخذ فريستها، فقال عليه السلام: اقرأ «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»(3) فقرأها الرجل فاجتنبته السباع.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ في بطني ماءاً أصفر فهل من شفاء؟ فقال له عليه السلام: نعم بلا درهم ولا دينار، ولكن اكتب علي بطنك آية الكرسي و تغسلها وتشربها و تجعلها ذخيرة في بطنك فتبرأ باذن الله عزّوجَل ففعل الرجل فبرأ بإذن الله.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الضالّة؟ فقال عليه السلام: اقرأ (ياسين) في ركعتين، وقل: يا هادي الضالّة رُدّ عليّ ضالّتي، ففعل فردّ الله عزّوجَل عليه ضالّته.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الآبق؟ فقال عليه السلام: اقرأ «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ» _ إلي قوله _ «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ»(4) فقالها الرجل، فرجع إليه الآبق.

ص: 110


1- الزمر: 67.
2- آل عمران: 83.
3- التوبة: 128 و 129.
4- النور: 40.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن السرق، فإنّه لا يزال يُسرق لي الشيء بعد الشيء ليلاً؟ فقال له عليه السلام : اقرأ إذا أويتَ إلي فراشك «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا» _إلي قوله _ «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا».(1)

ثمَّ قال : من بات بأرض قفر فقرأ هذه الآية «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلَي الْعَرْشِ» _ إلي قوله _ «تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».(2) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين. قال: فمضي الرجل فإذا هو بقرية خراب فبات فيها ولم يقرأ هذه الآية، فتغشّاه الشيطان وإذا هو آخذ بخطمه، فقال له صاحبه: أنظره، واستيقظ الرجل فقرأ الآية، فقال الشيطان لصاحبه: أرغم الله أنفك، احرسه الآن حتّي يُصبح، فلمّا أصبح رجع إلي أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره وقال له: رأيت في كلامك الشفاء والصدق.

وفي كتاب (وسائل الشيعة) مج 2 ص 641 من الطبعة الجديدة في ايران، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: شكا رجل إلي علي عليه السلام وجع الظهر وأنّه يسهر الليل، فقال عليه السلام : ضع يدك علي الموضع الذي تشتكي منه واقرأ ثلاثاً «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ»(3) واقرأ سبع مرآت «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»(4) إلي آخرها، فإنّك تُعافي من العلل إن شاء الله.

في تفسير مجمع البيان عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وآله فشكا إليه الفقر وضيق المعاش فقال له رسول الله صلي الله عليه وآله: إذا دخلت

ص: 111


1- الاسراء: 110 و 111.
2- الأعراف: 54.
3- آل عمران: 145.
4- القدر: 1.

بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلّم واقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة واحدة، ففعل الرجل فأفاض الله عليه رزقاً حتّي أفاض علي جيرانه.(1)

وفي كتاب (طبّ الأئمة) عن أبي الحسن العسكري عليه السلام قال له رجل: يا ابن رسول الله إنّ أهلي يصيبهم كثيراً هذا الوجع الملعون، قال: وما هو قال: وجع الرأس، قال عليه السلام خذ قدحاً من ماء واقرأ عليه «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ»(2) ثم اشربه فإنّه لا يضرّه إن شاء الله تعالي.(3)

وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّ رجلاً شكا إليه صمماً، فقال: امسح يدك عليه واقرأ عليه «لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ».(4) (5)

وعن أبي بصير قال: شكوت إلي أبي جعفر الباقر عليه السلام رجعاً في أضراسي وأنّه يسهرني الليل. قال: فقال: يا أبا بصير إذا أحسستَ بذلك فضع يدك عليه واقرأ سورة الحمد وقل هو الله أحد، ثمّ اقرأ «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ»(6) فإنه يسكن ثمّ لا يعود.(7)

ص: 112


1- تفسير مجمع البيان 10: 480.
2- الأنبياء: 30.
3- طب الائمة: 19؛ بحار الانوار 92: 51/ ح 7.
4- الحشر: 21 - 24.
5- طب الأئمة: 32؛ تفسير نور الثقلين 5: 294 ح 81.
6- النمل: 88.
7- طبّ الأئمّة: 24؛ بحار الأنوار 92: 92 93/ ح 2.

عبد الله بن سنان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه عليه السلام قال: شكي رجل إلي النبي صلي الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إنّ لي أخاً يشتكي بطنه، فقال: مُر أخاك أن يشرب شربة عسل بماء حار، فانصرف إليه من الغد وقال: يا رسول الله قد سقيته وما انتفع بها، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسْقِ أخاك شربة عسل وعوِّذه بفاتحة الكتاب سبع مرآت، فلمّا أدبر الرجل قال النبي صلي الله عليه وآله: يا علي إنّ أخا هذا الرجل منافق، فمن هاهنا لا تنفعه الشربة.(1)

وعن أبي بصير قال: شكي رجل إلي أبي عبد الله الصادق عليه السلام وجع السرّة، فقال له: اذهب فضع يدك علي الموضع الذي تشتكي وقل «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(2) ثلاثاً فإنّك تُعافي بإذن الله.(3)

قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: ما اشتكي أحد من المؤمنين شكاة قطّ فقال بإخلاص نيّة ومسح موضع العلّة «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا»(4) إلاّ عُوفي من تلك العلّة أيّة علّةٍ كانت، ومصداق ذلك في الآية حيث يقول: «شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ»(5)

عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاء رجل من خراسان إلي علي بن الحسين عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله حججتُ ونويت عند خروجي أن أقصدك فإنّ بي وجع الطحال وأن تدعو لي بالفرج، فقال له علي بن الحسين: قد كفاك الله ذلك وله الحمد، فإذا أحسست به فاكتب هذه الآية بزعفران بماء زمزم واشربه، فإنّ الله تعالي يدفع عنك

ص: 113


1- طب الأئمّة: 28؛ الفصول المهمّة للحّر العاملي 3: 82؛ بحار الانوار 92: 109/ ح 2.
2- فصّلت: 42.
3- طب الأئمّة: 28؛ بحار الأنوار 92 : 109 - 110/ ح3.
4- الاسراء: 82.
5- طب الأئمّة: 82؛ بحار الأنوار 92: 110/ ح 3.

ذلك الوجع «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا»(1) تكتب علي رقّ ظبي وعلّقها علي العضد الأيسر سبعة أيام فإنّه يسكن.(2)

وعن المفضّل بن عمر عن محمد بن إسماعيل، عن أبي زينب قال: شكا رجل من إخواننا إلي أبي عبد الله الصادق عليه السلام وجع المثانة، قال: فقال له عليه السلام عوّذه بهذه الآيات إذا نمتَ ثلاثاً واذا انتبهت مرِّة واحدة فإنّه لا تحسس به بعد ذلك «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ»(3)

قال الرجل: ففعلت ذلك فما أحسست بعد ذلك بوجع.(4)

عن حمّاد بن عيسي رفعه إلي أمير المؤمنين عليه السلام قال: إذا اشتكي أحدكم وجع الفخذين فليجلس في تورٍ كبير أو طشت في الماء المسخن وليضع يده عليه وليقرأ «أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ»(5) (6)

وعن سالم بن محمد قال: شكوت إلي الصادق عليه السلام وجع الساقين وأنّه قد أقعدني عن أموري وأسبابي. فقال: عوِّذهما، قلت: بماذا يا ابن رسول الله؟ قال: بهذه الآية سبع مرآت فإنّك تُعافي بإذن الله تعالي «مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ

ص: 114


1- الاسراء: 110 و 111.
2- طب الائمّة 29 - 30؛ بحار الأنوار 92: 104/ ح 1.
3- البقرة: 109 و 110.
4- طب الأئمّة: 30.
5- الانبياء: 30.
6- طب الأئمّة: 31؛ بحار الأنوار 92: 69/ ح 1.

رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا»(1) قال: فعوّذتهما سبعاً كما أمرني، فرفع الوجع عنّي رفعاً حتّي لم أحس بعد ذلك بشيء منه.(2)

علي بن عروة الأهوازي قال: حدّثنا الديلمي عن داود الرقّي، عن موسي بن جعفر عليه السلام قال: من كان في سفر فخاف اللصوص والسبع فليكتب علي عرف دابته «لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَيٰ»(3) فإنّه يأمن بإذن الله عزّوجَل.

قال داود الرقي: فحججتُ فلمّا كنّا بالبادية جاء قوم من الأعراب فقطعوا علي القافلة وأنا فيهم، فكتبت علي عرف جملي «لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَيٰ» فو الذي بعث محمّداً بالنبوّة وخصّه بالرسالة وشرّف أمير المؤمنين بالامامة ما نازعني أحد منهم، أعماهم الله عني.(4)

عن أبي عمر بن يزيد الصيقل، عن الصادق عليه السلام قال: شكي إليه رجل من أوليائه القولنج، فقال له عليه السلام : اكتب له أمّ القرآن وسورة الاخلاص والمعوّذتين، ثمّ تكتب أسفل ذلك «أعوذ بوجه الله العظيم وبعزّته التي لا تُرام، وبقدرته التي لا يمتنع منها شيء من شرّ هذا الوجع ومن شرّ ما فيه» ثم تشربه علي الريق بماء المطر تبرأ بإذن الله تعالي.(5)

إسماعيل بن زياد، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلي الله عليه وآله و إذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرأ فاتحة الكتاب والمعوّذتين ثمّ يمسح بها وجهه فيذهب عنه ما كان يجد.(6)

ص: 115


1- الكهف: 72.
2- طب الأئمّة: 32، بحار الأنوار 92: 85/ ح 1.
3- طه: 77.
4- طب الأئمّة: 36 - 37؛ تفسير نور الثقلين 3: 385/ ح86.
5- طب الأئمّة: 38؛ بحار الأنوار 92 :110 /ح 4.
6- طب الأئمّة: 39؛ بحار الأنوار 10: 368/ ح 9.

إلي كثير وكثير من هذه النظائر ممّا هو نور من أنوار النبوّة ولمعة من لمعان الإمامة، ولم يكن مُكتسباً من أساتذة ومعلمين كما زعم الجاهلون، ولو كان ذلك لظهر وبان.

مناظرة طبيّة بين الصادق عليه السلام وطبيب هندي:

وجرت مناظرة طبّية بين الإمام الصادق عليه السلام وطبيب هندي في مجلس المنصور الدوانيقي، ذكرها العلاّمة المجلسي في المجلّد الرابع عشر من البحار ص 478 من الطبعة الحديثة. وفي كتاب طبّ الأئمة أيضاً ص 24 ط النجف قال: روي محمد بن إبراهيم الطالقاني عن الحسن بن علي العدوي، عن عباد بن مهيب، عن أبيه، عن جدّه، عن الربيع صاحب المنصور قال: حضر أبو عبد الله عليه السلام مجلس المنصور يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ عليه كتب الطبّ، فجعل أبو عبد الله عليه السلام ينصت لقرائته، فلمّا فرغ الهندي قال له: يا أبا عبد الله أتريد ممّا معي شيئاً؟ قال: لا. فإنّ معي ما هو خير ممّا معك، قال: وما هو؟ قال عليه السلام: أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وأردّ الأمر كلّه إلي الله عليه السلام، واستعمل ما قاله رسول الله صلي الله عليه وآله، وأعلم أنّ المعدة بيت الداء، وأنّ الحمية رأس كلّ دواء، وأعوّد البدن ما اعتاده.

فقال الهندي: وهل الطبّ إلا هذا، فقال الصادق عليه السلام: أتراني من كتب الطبّ أخذت؟ قال:نعم، قال عليه السلام: لا، والله ما أخذتُ إلاّ عن الله سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت؟ قال الهندي: بل أنا. قال الصادق: فأسألك شيئاً؟ قال: سَل.

قال الصادق عليه السلام: أخبرني با هندي، لم كان في الرأس شؤون؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جُعل الشعر عليه من فوق؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلت الجبهة من الشعر؟ قال: لا أعلم. قال عليه السلام: فلم كان لها تخطيط وأسارير؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان الحاجبان فوق العينين؟ قال: لا أعلم، قال: فلم جُعلت العينان

ص: 116

كاللوزتين؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جُعل الأنف فيما بينهما؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جُعل ثقب الأنف في أسفله؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جُعلت الشفة والشارب فوق الفم؟ قال: لا أعلم. قال: فلم حدّ السّن وعرض الضرس وطال الناب؟ قال: لا أعلم. قال: فلم جُعلت اللحية للرجال؟ قال: لا أعلم. قال: فلم خلا الظفر والشعر من الحياة؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان القلب كحب الصنوبر؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الرئة قطعتين، وجعلت حركتهما في موضعهما؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كان الكبد حدباء؟ قال: لا أعلم. قال: فلم كانت الكلية كحب اللوبية؟ قال: لا أعلم، قال: فلم جُعل طيّ الركبة إلي خلف؟ قال: لا أعلم، قال: فلم انخصرت القدم؟ قال: لا أعلم.

قال الإمام الصادق عليه السلام: لكنّي أعلم، قال الهندي: فأجِب، قال الصادق عليه السلام : إنّما كان في الرأس شؤون لأن ّالمجوّف إذا كان بلافصل أسرع إليه الصداع، فإذا جُعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد، وجُعل الشعر من فوقه، ليوصل بوصوله الأدهان إلي الدماغ. ويخرج بأطرافه البخار منه، ويردّ الحرارة والبرد عنه، وخلت الجبهة من الشعر، لأنها مصبّ النور إلي العينين، وجُعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس إلي العين قدر ما يُميطه الإنسان عن نفسه، كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا عليهما من النور قدر الكفاية، ألا تري أنّ من غلبه النور جعل يده علي عينيه ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه؟ وجُعل الأنف بينهما ليقسم النور قسمين إلي كلّ عين سواء، و كانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء، ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جري فيها الميل ولا وصل إليها دواء ولا خرج منها داء، وجُعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ، وتصعد فيه الروائح إلي المشام، ولو كان في أعلاه لما نزل منه ماء ولا وجد رائحة، وجُعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل

ص: 117

من الدماغ عن الفم، لئلاً يتعفّن فينغّص علي الانسان طعامه وشرابه فيُميطه عن نفسه، وجعلت اللحية للرجال ليُستغني بها عن الكشف في المنظر، ويُعلم بها الذكر من الأنثي، وجُعل السن حادّاً لأنّ به يقع العضّ، وجُعل الضرس عريضاً لأنّ به يقع الطحن والمضغ، و كان الناب طويلاً ليسند الأضراس والأسنان كالاسطوانة في البناء، وخلا الكفّان من الشعر لأنّ بهما يقع اللمس، فلو كان فيهما شعر ما دري الانسان ما يقابله ويلمسه، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأنّ طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن، فلو كان فيهما حياة لآلم الانسان قصّهما، وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنّه منكّس، فجُعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها، ولئلاً يشيط الدماغ بحرّه، وجعلت الرئة قطعتين ليدخل القلب بين مضاغطها فيتروّح بحركتها، وكانت الكبد حدباء التنقل المعدة وتقع جميعها عليها فتعصرها ليخرج ما فيها من البخار، وجعلت الكلية كحب اللوبيا، لأنّ عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة لاحتبست النقطة الأولي إلي الثانية فلا يلتذّ بخروجها، إذ المني ينزل من فقار الظهر إلي الكلية، وهي تنقبض وتنبسط وترميه أوّلاً فأولا إلي المثانة كالبندقة من القوس.

وجُعل طيّ الركبة إلي خلف لأنّ الإنسان يمشي إلي ما بين يديه فتعتدل الحركات، ولولا ذلك لسقط في المشي، وجُعلت القدم منخصرة لأنّ المشي إذا وقع علي الأرض جميعه ثقل ثقل حجر الرحي.

فقال الهندي: من أين لك هذا العلم؟ فقال عليه السلام: أخذتُه عن آبائي عليهم السلام عن رسول الله صلي الله عليه وآله عن جبرائيل عن ربّ العالمين جَل جَلاله الذي خلق الأجساد والأرواح، فقال الهندي: صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وعبده، وأنّك أعلم أهل زمانك.

***

ص: 118

من خطبة له عليه السلام: في معرفة الخالق وتوحيده

«أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ...».(1)

قوله عليه السلام: «أوّل الدين معرفته» لأن أوّل الواجبات الدينية معرفة الله سبحانه وإطاعته وعبادته، والطاعة والعبادة فرع معرفة المطاع والمعبود، فما لم يُعرف لا يمكن طاعته، ولذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما سأله حبرٌ بقوله: هل رأيتَ ربّك حين عبدته؟ أجاب بقوله: ويلك ما أعبد ربّاً لم أره. قال: كيف رأيته؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوبُ بحقائق الايمان.(2)

ثمّ إنّ معرفة الله قد تكون ناقصة وقد تكون تامّة، أمّا الناقصة فهي: إدراك أنّ للعالم صانعاً مدبراً، وأمّا التامّة فقد أشار إليها عليه السلام بقوله: «و كمال معرفته التصديق به» أي الاذعان بوجوده ووجوبه، وأنّه واحد لا شريك له ولا شِبه له، فإنّ من عرف الله بهذه الكيفيّة وهذا اللون حرّم الله جسده علي النار وأوجب له دخول الجنّة.

روي الصدوق قدس سرّه في كتاب «التوحيد» بإسناده عن زيد بن وهب، عن أبي ذر

ص: 119


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 72، ط مكتبة المرعشي النجفي.
2- عوالي اللئالي 1: 405/ ح 66؛ بحار الانوار 4: 44/ ح 23.

رَضي الله عنهُ قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلي الله عليه وآله يمشي وحده ليس معه إنسان، فظننت أنّه يكره أن يمشي معه أحد، فجعلت أمشي في ظلّ القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ فقلت: أبوذر، جعلني الله فداك، فقال: يا أباذر تعال، فمشيت معه ساعة فقال: إنّ المكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلاّ من أعطاه الله خيراً، فنفخ منه بيمينه وشماله ومن بين يديه وورائه وعمل فيه خيراً، قال: فمشيت ساعة، فقال: اجلس ههنا، وأجلسني في قاع حوله حجارة فقال لي: اجلس حتّي أرجع إليك، قال: وانطلق في الحرّة حتي لم أره، وتواري عني وأطال اللبث، ثمّ إنّي سمعته وهو مقبل يقول: وإن زني وإن سرق؟ قال: فلمّا جاء لم أصبر حتّي قلت له: يا نبيّ الله جعلني الله فداك من تكلّمه في جانب الحرّة فإنّي سمعت أحداً يردّ عليك شيئاً؟ فقال صلي الله عليه وآله: ذاك جبرئيل عرض لي في جانب الحرّة، فقال: بشّر أمتك أنّه من مات لا يشرك بالله عزّوجَل شيئاً دخل الجنة، قال: قلت: يا جبرئيل وإن زني وإن سرق وإن شرب الخمر؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر.

قال الصدوق بعد ذكر الحديث: يعني بذلك أنه يوفّق للتوبة حتي يدخل الجنة.(1)

وفيه أيضاً عن الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل قال: كنت رفقت النبي صلي الله عليه وآله فقال: يا معاذ هل تدري ما حقّ الله علي العباد؟ يقولها ثلاثاً، قلت: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله: حقّ الله عزّوجَل علي العباد أن لا يُشركوا به شيئاً، ثم قال: هل تدري ما حقّ العباد علي الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذّبهم، أو قال: أن لا يُدخلهم النار.(2)

وفيه أيضاً عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: والذي بعثني بالحقّ نبياً لا يعذّب الله بالنار موحّداً أبداً، وإنّ أهل التوحيد ليَشفعون فيُشفّعون، ثم قال صلي الله عليه وآله: إنّه إذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالي بقومٍ ساءت أعمالهم في دار

ص: 120


1- التوحيد: 25 - 26/ ح 24.
2- التوحيد: 28/ ح 28.

الدنيا إلي النار، فيقولون: يا ربّنا كيف تُدخلنا النار وقد كانّا نوحّدك في دار الدنيا؟ و كيف تحرق بالنار ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت علي أن لا إله إلا الله؟ أم كيف تحرق وُجوهنا وقد عفّرناها لك في التراب؟ أم كيف تحرق أيدينا وقد رفعناها بالدعاء اليك؟ فيقول الله عزّوجَل: عبادي ساءت أعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنّم. فيقولون: يا ربّنا عفوك أعظم أم خطيئتنا؟ فيقول الله عزّوجَل: بل عفوي، فيقولون: رحمتك أوسع أم ذنوبنا؟ فيقول الله عزّوجَل: بل رحمتي، فيقولون: إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا؟ فيقول الله عزّوجَل: بل إقرار كم بتوحيدي أعظم، فيقولون: ياربّنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كلّ شيء، فيقول الله جل جلاله: ملائكتي، وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إلي من المقرّين بتوحيدي وأن لا إله غيري، وحقّ عليّ أن لا أصلي بالنار أهل توحيدي، أدخِلوا عبادي الجنة.(1)

ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في التوحيد:

غير أنّ مجرد الاعتقاد بالتوحيد لا يكفي في ترتيب الثواب ودفع العقاب، بل لا بدّ مع ذلك من الاعتقاد بالولاية، ولاية علي وأولاده الطاهرين عليهم السلام أجمعين.

والأخبار الواردة في أبواب التوحيد والمعرفة وإن كانت مطلقة إلاّ أنها يقيدها _ مضافة إلي إجماع أصحابنا _ أخبارٌ أخر مقيّدة لكون الولاية شرطاً في التوحيد وبدونها لا ينتفع بشيء منها.

وهذه الأخبار كثيرة بالغة حدّ الاستفاضة بل التواتر.

منها ما جاء في كتاب جامع الأخبار بالإسناد عن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن آبائه الصادقين عليهم السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الله تبارك وتعالي جعل لأخي علي عليه السلام فضائل لا يُحصي عددها

ص: 121


1- التوحيد: 29/ ح 31.

غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ولو أتي القيامة بذنوب الثقلين، ومن كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع فضيلة غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، و من نظر إلي كتابة في فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، ثمّ قال رسول الله صلي الله عليه وآله: النظر إلي علي بن أبي طالب عبادة، ولا يقبل الله إيمان عبد إلاّ بولايته والبرائة من أعدائه.(1)

وفي الكافي باسناده عن أبي حمزة، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: إنّما يعبد الله من يعرف الله، فأمّا من لا يعرف الله فإنّما يعبده هكذا ضلالاً، قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عزّوجَل وتصديق رسول الله صلي الله عليه وآله وموالاة علي عليه السلام والائتمام به وبالأئمة عليهم السلام والبرائة إلي الله عزّوجَل من عدوّهم، هكذا يعرف الله.(2)

وفي الوسائل ومجمع البيان عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لنا علي بن الحسين عليهما السلام: أيّ البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: أفضل البقاء لنا ما بين الركن والمقام، ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثمّ لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً.(3)

وفي الوسائل أيضاً بإسناده عن المعلّي بن خنيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا معلّي لو أنّ عبداً عبد الله مائة عام ما بين الركن والمقام، يصوم النهار ويقوم الليل حتّي يسقط حاجباه علي عينيه، ويلتقي تراقيه هرماً جاهلاً بحقّنا لم يكن له ثواب.(4)

وفيه أيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: نزل جبرئيل علي النبيّ

ص: 122


1- رواه الصدوق في الأمالي 119/ح9، والمجلسي في البحار 38: 196.
2- الكافي 1: 180ح 1.
3- وسائل الشيعة 1: 122/ ح 308؛ تفسير مجمع البيان 2: 349.
4- وسائل الشيعة 1: 122/ ح 309.

صلي الله عليه وآله فقال: يا محمّد، السلام يقرؤك السلام ويقول: خلقت السماوات السبع وما فيهنّ وخلقت الأرضين السبع ومن عليهنّ، وما خلقت موضعاً أعظم من الركن والمقام، ولو أنّ عبداً دعاني منذ خلقت السماوات والأرض ثمّ لقيني جاحداً لولاية علي لأكبتُه في سقر.(1)

وروي علي بن إبراهيم القمّي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام (في حديث) قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضي الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، أما لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته، ما كان له علي الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان.(2)

وبالتالي: فقد تحصّل من هذه الأخبار وغيرها من الأخبار الكثيرة أنّ معرفة الإمام والطاعة له شرط في صحّة الفروع والأصول، كما ظهر أنّ اللازم أخذ الاحكام الشرعيّة والمسائل الدينيّة عنهم، لأنّهم الباب الذي أمر الله أن يؤتي منه حيث قال: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَيٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا».(3)

روي في الصافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: نحن البيوت التي أمر الله أن تُؤتي أبوابها، نحن باب الله وبيوته التي يُؤتي منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتي البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتي البيوت من ظهورها، إنّ الله لو شاء عرّف نفسه حتّي يعرفونه ويأتونه من بابه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يُؤتي منه، قال: فمن عدل عن ولايتنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتي البيوت من ظهورها، وإنّهم عن الصراط لناكبون.(4)

ص: 123


1- وسائل الشيعة 1: 123/ ح 311.
2- رواه الكليني في الكافي بإسناده عن عليّ بن إبراهيم 2: 18 - 19 /ح5.
3- البقرة: 189.
4- تفسير الصافي 1: 228.

وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كلّ من دان الله عزّوجَل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول وهو ضالّ متحيّر والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة أو جائية يومها، فلمّا جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع غير راعيها فحنّت إليها واغترّت بها فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيّرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها فحنّت إليها واغترّت بها فصاح بها الراعي: إلحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيّرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيّرة تائهة لا راعي لها يرشدها إلي مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذ اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وكذلك _ والله يا محمد _ من أصبح من هذه الأمة ولا إمام له من الله عزّوجَل ظاهر عادل أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات علي هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق، واعلم يا محمد أنّ أئمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله عزّوجَل، قد ضلّوا، وأضلّوا فأعمالهم التي يعملونها «كرماد اشتدت به الي في يوم عاصف لا يقدرون ما كتبوا علي شيء ذلك هو الضلال البعيد».(1) (2)

ص: 124


1- البقرة: 264.
2- الكافي 2: 183 - 184/ ح 8.

من كلام لاميرالمؤنين عليه السلام:في المعروف والانفاق

«وَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيَما أَتي إِلاَّ مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَثَنَاءُ الأَشْرَارِ وَمَقَالَةُ الْجُهَّالِ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللهِ بَخِيلٌ فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ وَلْيَفُكَّ بِهِ الأَسِيرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَي الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَدَرْكُ فَضَائِلِ الاْخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ».(1)

***

لمّا كان لواضع المعروف _ سواءً كان في أهله أو غير أهله _ ثناء من الناس ومدح له بالكرم والبذل، كان ممّا يتميز به وضعه في غير أهله عن وضعه في أهله: أنّ الأوّل إنّما يحصل به لواضعه الحمد من لئام الناس من السفهاء والأشرار والجهال، لعدم معرفتهم بوضع الأشياء في مواضعها التي هي مقتضي العقل الذي به نظام أمور الدنيا و قوام نوع الانسان في الوجود، مع أنّه في الحقيقة وعند أولي الألباب العارفين بمواقع المعروف بخيل في جنب الله تعالي، وأمّا الثاني _ أي واضع المعروف في أهله _ فتحصل له المحمدة من الكلّ في الدنيا، محمدة مطابقة للحّق مع الثواب الجزيل في الأخري.

مواضع المعروف:

ثم نبّه عليه السلام علي مواضع المعروف وأمر بوضعه فيها، وذكر منها خمسة:

ص: 125


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 74، ط مكتبة المرعشي النجفي. قم.

الأوّل صلة الرحم، الثاني حسن الضيافة، الثالث فكّ الأسير والعاني، الرابع إعطاء الفقير والغارم _ وهو من عليه دين _ الخامس الحقوق الواجبة علي أهلها كالزكاة، والمستحبّة كالصدقات، وأشار بالنوائب إلي ما يلحق الانسان من المصادرات والقرارات التي يفكّ بها الانسان من أيدي الظالمين وألسنتهم، والإنفاق في ذلك من الحقوق الواجبة علي الانسان.

ونبّه عليه السلام علي أنّ الانفاق في هذه الوجوه إنّما يكون وضعاً للمعروف في موضعه إذا قصد به وجه الله تعالي، فأمّا إذا قصد به الرياء والسمعة فهو وإن عُدّ في ظاهر الشريعة مُجزيً إلاّ أنّه غير مُجزٍ ولا مقبول في باطنها.

وقوله عليه السلام: «فإنّ فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا ودرك فضائل الآخرة» إشارة إلي ما يتميّز به وضع المعروف في أهله: وهو شرف مكارم الدنيا من الذكر الجميل بين الناس والجاه العريض، ودرك فضائل الآخرة: وهي درجات الثواب الجزيل الموعود لأولي الفضائل النفسانيّة.

قال رسول الله صلي الله عليه وآله : «أوّل من يدخل الجنّة المعروف وأهله، وأوّل من يرد عليَّ الحوض».(1)

وقال صلي الله عليه وآله: «إنّ البركة أسرع إلي البيت الذي يمتار منه المعروف من الشفرة في سنام الجزور أو من السيل إلي منتهاه».(2)

تعاريف للمعروف:

المعروف: اسم جامع لكل فعل يعرف حُسنه بالعقل والشرع.

المعروف: اسم جامع لماعرف من طاعة الله سبحانه، والإحسان إلي الناس في الواجب والمندوب.

ص: 126


1- مكارم الاخلاق: 136؛ عوالي اللئالي 1: 377/ ح 110.
2- الكافي 4: 29 ح 2.

المعروف ضدّ المنكرفي معناه ومصداقه، والتباين بين المنكر والمعروف بنحو السلب الكلّي من الطرفين، فلا شيء من المنكر بمعروف، ولا شيء من المعروف بمنكر.

المعروف صفة شريفة معروفة، والمنكر صفة رديئة منكرة.

يختصّ المعروف بالأفعال الواجبة والمندوبة شرعاً وعقلاً، ولا يدخل فعل المباحات شرعاً وعقلاً في فعل المعروف، لأنّه خلو من الرجحان، ومن لا رجحان فيه لا خيرفيه، والمعروف كلّه خير، ويختصّ المنكر بالمحرّمات شرعاً وعقلاً، فكلّ ما منع الشرع والعقل من فعله منكر.

وأمّا ما منع عنه الشرع والعقل علي نحو التنزيه عن فعله بدون إلزام بالمنع وهو المكروه فلاريب في خروجه عن دائرة المعروف، وهو أشدّ خروجاً من المباح، والمباح لا يدخل في المنكر، وأمّا المكروه فربّما كان بعض المكروهات من المنكرات إذا تكرّر فعله، و تفصيل ذلك في المباحث الفقهية.

يمتاز أهل المعروف بمعروفهم ولهم مكانة معروفة، وفي الحديث الشريف «من بذل معروفه آتاه الله جزاء معروفه» وفيه «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة»(1) يعني كما أنّهم يصنعون المعروف في الدنيا كذلك يصنعونه في الآخرة، يهبون حسناتهم لمن شاؤا كما قال الإمام الصادق عليه السلام: «يُقال لهم في الآخرة: إنّ ذنوبكم قد غُفرت لكم فهبوا حسناتكم لمن شئتم وادخلوا الجنّة».(2)

وفي حديث ابن عباس قال: «يأتي أهلُ المعروف يوم القيامة فيُغفر لهم المعروفهم وتبقي حسناتهم تامّة، فيعطونها لمن زادت سيئاته علي حسناتهم فيُغفر له فيدخلون الجنّة، فيجتمع لهم الإحسان إلي الناس في الدنيا والآخرة».(3)

ص: 127


1- فيض القدير 1: 695؛ النهاية في غريب الحديث 3: 219.
2- الكافي 4: 29/ ح 2.
3- النهاية في غريب الحديث 3: 217.

وفي الحديث ليس «شيء أفضل من المعروف إلاّ ثوابه»، وفيه «ليس كلّ من يحبّ أن يصنع المعروف إلي الناس يصنعه، وليس كلّ من يرغب فيه يقدر عليه، ولا كلّ من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمّت السعادة للطالب والمطلوب إليه».(1)

وفي الحديث دلالة علي أنّ الأعمال الخيريّة تحتاج إلي التوفيق من الله سبحانه بعد الرغبة والقدرة.

جاء عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «إنّ بقاء المسلمين ويقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع المعروف، وإنّ من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحقّ ولا يصنع فيها المعروف».(2)

وقال عليه السلام مخاطباً لزرارة: «ثلاثة إن تعلّمهنّ المؤمن كانت زيادة في عمره وبقاء لنعمته عليه، فقلت: وما هنّ؟ فقال: تطويله في ركوعه وسجوده في صلاته، وتطويله الجلوسه علي طعامه إذا أطعم علي مائدته، واصطناعه المعروف إلي أهله».(3)

وقوله عليه السلام: «صنائع المعروف تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان».(4)

وهذا يدلّ علي أنّ فعل الاحسان إلي الناس و الرفق بهم سببٌ للوقاية من موارد الذل والهوان.

وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله : فداك آباءنا وأمّهاتنا، إنّ أصحاب المعروف في الدنيا عُرفوا بمعروفهم، فبم يعرفون في الآخرة؟ فقال صلي الله عليه وآله: إنّ الله إذا أدخل أهل الجنّة الجنّة أمر ريحاً

ص: 128


1- الكافي 4: 26/ ح 3؛ من لا يحضره الفقيه 2: 55 - 56/ح1686.
2- الكافي 4: 25، ح 1؛ مستدرك الوسائل 12: 339/ ح 14225.
3- الكافي 4: 50/ ح 15.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 205/ ح613.

عبقة طيّبة فلصقت بأهل المعروف، فلا يمرّ أحد منهم بملأ من أهل الجنّة إلاّ وجدوا ريحه فقالوا: هذا من أهل المعروف».(1)

وذو المعروف الذي يشير إليه الإمام عليه السلام هو كلّ من يُسدي خيراً ومعروفاً إلي أحد، ومن أجلّ أفراده هو الله سبحانه، فهو أوّل المحسنين، وهو أوّل ذوي الخير، فيجب شكره عن طريق العبادة والاخلاص له، وعن طريق ترك ماسواه والتوجّه التامّ إليه، فإذا كان ذلك فقد حصل الشكر، وإلاّ فالمعروف الذي ليس يُقابَل بشكر يُخاف عليه الزوال، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «إذا رأيتم أوائل النعم فلا تُنفروا أقصاها بقلّة الشكر»(2) فقلّة الشكر يبعد النعم، وإنّ الشكر عليها مجلبة لها ومدعاة.

أنواع المعروف

والمعروف ضربان: ضرب عام يقتضي الجهر به والاعلان له، وضرب خاص لا ينبغي له غير الأخفاء والكتمان.

فمن الضرب الأول ما يكون المجد في إعلانه والشرف، مثل صدقات الفرائض وغنائم الجيوش ومكافأة الملوك علي الأعمال الصالحة بعلامات الشرف وما شابهها، ممّا يزيد الجهر بها والإعلان لها قيمتها، قال الله تعالي: «إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(3) قال ابن عباس: صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بسبعين ضعفاً.

والضرب الآخر هو الذي لا تكون العطايا فيه من شأنها ارتفاع القدر وازدياد

ص: 129


1- الكافي 4: 29/ ح 1؛ بحار الأنوار 8: 156/ ح 95.
2- مشكاة الأنوار: 72؛ بحار الانوار 68: 53/ ح 85.
3- البقرة: 271.

الشرف، بل من شأنها سدّ الحاجة ودفع العوز ومداركة الافتضاح، وهذا يجب فيهالكتمان وجوباً محتوماً، وألاّ يعلم بالصنيع أحد سوي المقصود وحده بها.

ويتفرّع من المعروف أمور: منها الأمر بالمعروف، ومنها العفو عن المسيء، و منها الاحسان.

لانرتاب بأنّ الأمر بالمعروف من أهله في محلّه ربّما كان أعظم من فعل المعروف، لأنّ فيه حفظ النظام بين أفراد النوع الانسانيّ، وبه اكتساب الفضائل الدينيّة والعقليّة، وإزالة الأخلاق الفاسدة والعمل بما فيه الحياة في الدارين.

ولا أراك تشكّ بأنّ التهذيب والتعليم والالزام لشخص بما فيه ظهور كماله وجميل صنعه وحسن سيرته خير له من إعطائه ألف درهم يتنعّم بها في معاشه مع تلوّثه بأقذار المفاسد وتهورّه في هوّة الجهالة.

الأمر بالمعروف وفعل المعروف واجبان بحكم العقل والشرع وجوباً كفائياً علي كافة العقلاء، ولا شرط لوجود فعل المعروف سوي القدرة عليه.

شروط تأثيرالأمر بالمعروف:

إنّ تأثير الأمر بالمعروف له شروط يتوقّف تحريك خطابه للمكلّفين عليها

الأول: القدرة علي الأمر بالمعروف، وغير القادر لا يجب عليه.

الثاني: العلم أو الظنّ أو احتمال التأثير فيمن يأمره بالمعروف.

الثالث: أن يكون الأمر بالمعروف عاملاً به، وإلاّ لم يكن أهلاً لأن يأمر به، لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، نعم فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كلّ شيء تتصوّره و تري أنّك تفقده يستحيل أن تعطيه لمن يطلبه منك، فالمرتكب للمنكر نجد من المنكر نهيه عنه فضلاً عن كونه لا يؤثّر نهيه بأحد، والتارك للفعل الحسن مع قدرته عليه لا يحسن منه أن يأمر به ولا يؤثّر أمره بأحد، كلّ ذلك لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه.

ص: 130

جاء النص في القانون الاسلامي علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال سبحانه: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».(1)

دلّت هذه الآية الشريفة علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصرّحت بانحصار الفلاح فيمن قام بهما، والعقل يحكم بلزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظاً للنظام وسدّاً الأبواب الفساد.

ومن ظاهر الآية عرفنا أنّ الوجوب كفائي حيث قال سبحانه: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ» ولو كان الوجوب عينيّاً لكان الخطاب بغير هذا البيان.

وقال سبحانه في صفة من آمن بالله حقيقة الايمان: «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ».(2)

فانظر كيف قرن إيمانهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنبيهاً علي أهميّة وجوبهما وأثرهما.

قال صاحب الدعوة الإسلاميّة الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه وآله: «من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه»،(3) وقال صلي الله عليه وآله حين سُئل عن خير الناس: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم الله وأرضاهم»(4) وقال صلي الله عليه وآله: «لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ عليكم سلطاناً ظالماً لايُجلّ كبيرَكم ولا يرحم صغيرَكم، وتدعو خيارُكم فلا يُستجاب لهم، وتستنصرون فلا تُنصرون، وتستغيثون فلا

ص: 131


1- آل عمران: 104.
2- آل عمران: 114.
3- تفسير مجمع البيان 2: 359.
4- تفسير مجمع البيان 2: 359.

تُغاثون»(1) وقال صلي الله عليه وآله: «يأتي علي الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحبّ إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر».(2)

ومن ضروب المعروف العفو عن المسيء، العفو عن أرباب الهفوات، والتجاوز بإقالة العثرات، والحلم عن مقترفي الزلاّت، والصفح عن ذوي الهيئآت، وإسداء الاحسان وفعل الخيرات، كلّ ذلك معدود من محاسن الحسنات ومكارم الأخلاق، وقد نطق بذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات وصرّحت به السنّة النبوية علي ألسنة الرواة الثقات، قال الله تعالي: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَيٰ»(3) وقال تعالي: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(4) وقال تعالي: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(5)

وقال تعالي: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»(6) وقال تقدّس اسمه يخاطب نبيّه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»(7) وقال تعالي: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ»(8)

وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: «رأيت قصوراً مشرفة علي الجنّة، قلت: يا جبرئيل لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس».(9)

ص: 132


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.
3- البقرة: 237.
4- آل عمران: 134.
5- النور: 22.
6- آل عمران: 159.
7- الأعراف: 199.
8- الشوري: 37.
9- المستدرك علي الوسائل 9: 14/ ح 10070.

وحَسبُك في هذا الباب ما فعله النبي صلي الله عليه وآله مع مشركي قريش الذين آذوه واستهزأوا به وأخرجوه من دياره، ثمّ قاتلوه وحرّضوا عليه غيرهم من مُشركي العرب حتّي تمالأ عليه جمعُهم، ثمّ لمّا فتح الله عليه مكّة ما زاد أن عفا وصفح وقال: ما ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.(1)

وظفر أمير المؤمنين عليه السلام بأهل البصرة، فلمّا دخلها واجتمع عليه أهلها خطبهم، وقال: يا أهل البصرة يا جند المرأة وأتباع البهيمة، رغي فرجفتم، وعُقر فانهزمتم، أحلامكم رقاق، وعبيد كم شقاق، وأنتم فسقة مرّاق، يا أهل البصرة نكثتم بيعتي وتظاهرتم علي عداوتي، فما تروني صانعاً بكم وما تظنّون بي؟ قالوا: نظنّ خيراً، ونعلم أنّك ظفرتَ وقدرت، فإن عاقبتَ فقد استحققنا عقوبة المجرمين، وإن عفوتَ فالعفو أحبّ إلي ربّ العالمين. فأطرق عليه السلام برأسه إلي الارض ثم رفع رأسه وقال: اذهبوا وإيّاكم والفتنة، فإنّكم أوّل من شقّ عصا الأمّة ونكث البيعة، فأخلِصوا إلي الله التوبة.(2)

خرج الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام إلي المسجد فسبّه رجل، فقصده غلمانُه ليضربوه ويؤذوه، فنهاهم عليه السلام وقال لهم: كفّوا أيديكم عنه، ثمّ التفت إلي ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر ممّا تقول، وما لا تعرفه منّي أكثر ممّا عرفته، فإن كان لك حاجة في ذِكره ذكرتُه لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم، فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أنّ هذا الشاب ولد رسول الله صلي الله عليه وآله.(3)

وذكر المؤرّخ ابن خلكان في ترجمة مجد الملك ابن شمس الخلافة

ص: 133


1- بحار الانوار 21، 132.
2- الجمل للشيخ المفيد: 217 - 218.
3- انظر البداية والنهاية لابن كثير 9: 123.

أحد وزراء الخلفاء في مصر المتوفّي في حدود الستمائة، أنّ هذا الوزير ذكر في كتاب له ألّفه في محاسن المحاضرة و آداب المسامرة، فقال: إنّ عصام بن المصطلق _ وكان شاميّاً أموياً_ قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي عليه السلام ومعه غلمانه وحاشيته فأعجبني سمته ورواؤه وحسنه وبهاؤه، وأثار الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فجئت إليه وقلت: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: نعم، فبالغتُ في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلي نظر عاطف رؤوف برقّة ورحمة ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ»(1) ثم قال: خفّض عليك، أستغفرُالله لي ولك، إنّك لو استعنتنا لأعنّاك، ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لأرشدناك. قال عصام: فندمت علي ما قلت، و توسّم مني الندم علي ما فرط مني، فقال: «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»(2) ثمّ قال: أمن أهل شام أنت؟ قلت نعم، فقال: «شنشنةٌ أعرفها من أخزم» حيّانا الله وإياك، انبسِط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنّك إن شاءالله.

قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رَحُبت ووددت لو أنّها ساخت بي، ثمّ انسللت من بين يديه وما علي وجه الأرض أحب إليّ منه ومن أبيه.(3)

الإمام الكاظم عليه السلام والعمري:

وفي كتاب (إعلام الوري) للطبرسي، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي،

ص: 134


1- الأعراف: 200 - 202.
2- يوسف: 92.
3- أخرجه القرطبي في تفسيره 7: 350 - 351، وابن عساكر في تاريخ دمشق 34: 224 - 225.

في أحوال الإمام موسي بن جعفر عليه السلام: أنّ رجلاً من ولد آل الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسي الكاظم عليه السلام إذا رآه ويشتم عليّاً، فأراد بعض موالي الإمام الوقيعة فيه، فنهاه الإمام أبو الحسن أشدّ النهي، ثم سأل عليه السلام عن العمري فقيل له: «إنّ له زرعاً بناحية من نواحي المدينة، فركب عليه السلام إليه فوجده في زرعه، فدخل المزرعة وهو راكب علي حماره، فصاح به الخطّابيّ: لا تطأ زرعنا، فوطئه أبو الحسن بالحمار ولم يلتفت إذ لم يجد طريقاً يسلكه غير ذلك، حتّي إذا وصل إليه نزل وباسطه في القول وسأله عمّا غرمه في زرعه؟ فقال: غرمتُ مائة دينار، ثمّ سأله عمّا يرجو أن يصيب منه؟ قال: مأتي دينار، فدفع إليه أبو الحسن عليه السلام ثلثماءة دينار لما غرمه ولما يرجوه، وبشّره بسلامة زرعه وإنتاجه، ففرح العمريّ بهذا الخلق الكريم الممتزج بالحلموالسخاء والبشارة بتنتاج عمله، فصاح: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقبّل رأسه ويده وسأله الصفح عمّا فرط من القول فيه، فتبسّم أبو الحسن عليه السلام وانصرف إلي أصحابه يقول: أيّما أحسن: ما أردتم أو ما صنعته، إنّني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وهدي اللهُ الرجلَ وصار من مواليه».(1)

المأمون وعفوه عن عمّه إبراهيم:

ومن رائع ما أثر في العفو عند القدرة ما رُوي عن المأمون أنّه لمّا خرج عليه عمّه إبراهيم بن المهدي وبايعه العباسيون بالخلافة ببغداد و خلعوا المأمون وكان إذ ذاك بخراسان، فلمّا بلغه الخبر قصد العراق، فلمّا دخل بغداد اختفي إبراهيم بن المهدي وعاد العبّاسيون وغيرهم إلي طاعة المأمون، ولم يزل المأمون متطلّباً إبراهيم حتّي أخذه مستنقباً مع نسوة، فحُبس ثم أحضر حتّي وقف بين يدي المأمون فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له

ص: 135


1- إعلام الوري 2: 26.

المأمون: لا سلّم الله عليك ولا قرّب دارك، استغواك الشيطان حتي حدّثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام، فقال إبراهيم: مهلاً يا أمير المؤمنين فإنّ ولّي الأمر يحكم في القصاص والعفو، والعفو أقرب للتقوي، ولك من رسول الله صلي الله عليه وآله و شرف القرابة وعدل السياسة، ومن تناول الاغترار بما مدّله من أسباب الرجاء أمن عادية الدهر علي نفسه، وهجمت به الأيام علي التلف، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذَنْب كما جعل كلّ ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقّك، وإن عفوت فبفضلك، والفضل أولي بك يا أمير المؤمنين، ثم قال :

ذنبي إليك عظيمٌ *** وأنت أعظم منه

فخذ بحقّك أو لا *** فاصفح بعفوك عنه

إن لم أكن في فِعالي *** من الكرام فكُنه

فلمّا سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه وقال: يا إبراهيم القدرة تذهب بالحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله وهو أعظم ممّا يحاول وأكثر ممّا يؤمّل، ولقد حبّب إليّ العفو حتّي خفت ألاّ أوجر عليه، لا تثريب عليك، وردّ أمواله جميعها إليه، فقال فيه مخاطباً:

رددتَ مالي ولم تمنن عليّ به *** وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي

فإن جحدتُكَ ما أوليت من كرم *** إنّي لباللؤم أولي منك بالكرم(1)

***

وحُكي أنّه أشرف يوماً علي قصره فرأي رجلاً يكتب بفحمة علي حائط قصره فقال لبعض خدمه: إذهب إلي ذلك الرجل فانظر ما كتب وائتني به، فبادر الخادم إلي الرجل مسرعاً وقبض عليه وقال: ما كتبت؟ فإذا هو قد كتب بيتين أوّلهما:

يا قصر جمّع فيك الشؤم واللؤمُ *** متي يعشعش في أركان البومُ

ص: 136


1- الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخي 2: 252 - 253.

فقال له الخادم: أجِب أمير المؤمنين، فقال الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه، فقال الخادم: لا بدّ من ذلك، ثمّ ذهب به، فلمّا مثل بين يدي المأمون وأعلم بما كتب، قال له المأمون: ويلك ما حملك علي هذا؟ فقال يا أمير المؤمنين إنّه لا يخفي عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلل والطعام والشراب والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك ممّا يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإنّي قد مررت عليه الآن وأنا في غاية الجوع والفاقة، فوقفت مفكّراً في أمري وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال وأنا جائع ولا فائدة لي فيه، فلو كان خراباً ومررت به لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسماراً أبيعه وأتقوّت بثمنه، أو ما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرءٍ *** نصيبٌ ولا حظّ تمنّي زوالها

وما ذاك من بُغضٍ لها غير أنّه *** يُرجّي سواها فهو يهوي انتقالها

فقال المأمون: يا غلام أعطه ألف درهم، ثم قال: هي لك في كلّ سنة ما دام قصرنا عامراً بأهله مسروراً بدولته.(1)

***

الرشيد وعفوه عن الخارجي:

ومن ذلك ما رُوي من أنّ الرشيد بن المهدي خرج عليه خارجيّ رام زوال ملكه وإفساد دولته، فجهّز له جيشاً وأنهض الناس والجند للخروج لقتاله، فلمّا توجه الجيش إليه و ظفروا به أحضروه إلي دار الخلافة، فلما دخل علي الرشيد قال له: ما تريد أن أصنع بك؟ قال: اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه، وهو أقدر عليك منك عليَّ، فأطرق الرشيد مليّاً ثم رفع رأسه وأمر باطلاقه، فلمّا خرج قال بعض الحاضرين: يا أمير المؤمنين تقتل رجالك

ص: 137


1- بحار الأنوار 91: 332 - 333.

وتفني أموالك و تظفر بهذا الذي خرج عليك وأفسد في بلادك و تُطلقه بكلمة واحدة، تأمّل يا أمير المؤمنين هذا الأمر فإنّه يُجرّئ عليك أهل الفساد، فأمر الرشيد بردّه فلمّا عاد ومثل بين يديه علم أنّه قد سُعي به وأشير علي الخليفة بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين لا تُطع فيّ مشيراً يمنعك عفواً تدّخر به عند الله يداً، ويبعثك علي الانتقام الذي ليس من مكارم الأخلاق، واقتدِ بالله تعالي فإنّه لو أطاع فيك مُشيراً ما استُخلِفتَ طرفة عين، وأحسِن كما أحسن الله اليك، فأمر باطلاقه وقال: لا تعاودوني فيه.

***

معن بن زائدة وعفوه عن الاسري:

وحكي عن معن بن زائدة أنّه أتي بجملة من الأسري فعرضهم علي السيف، فقال له بعضهم: أصلح الله الأمير نحن أسراك وبنا جوع وعطش فلا تجمع علينا الجوع والعطش والقتل، فأمر لهم بطعام وشراب، فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم، فلمّا فرغوا قال الرجل: أصلح الله الأمير كنَا أسراك ونحن الآن أضيافك، فانظر ما تصنع بأضيافك، قال:قد عفوت عنكم، فقال الرجل: أيّها الأمير ما ندري أيّ يوم أشرف، يوم ظفرك بنا أو يوم عفوك عنّا، فأمر لهم بمال و كسوة.(1)

المروءة النادرة:

لمّا أفضت الخلافة إلي بني العباس اختفت رجال من بني أمية منهم إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، و كان رجلاً عالماً أديباً كاملاً وهو في سنّ الشبيبة، فأخذوا له أماناً من السفاح، فقال له يوماً: حدّثني عمّا مرّبك في اختفائك، قال: كنت مختفياً بالحيرة في منزل شارع علي الصحراء، فبينما أنا علي ظهر البيت إذ نظرت أعلاماً سوداً قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة،

ص: 138


1- الفرج بعد الشدّة 2: 284.

فتخيّلت أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكّراً حتي أتيت الكوفة ولا أعرف أحداً أختفي عنده، فبقيت في حيرة فإذا أنا بباب كبير رَحْبته واسعة، فدخلت فيها فإذا رجل وسيم حسن الهيئة علي فرس قد دخل الرحبة ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل خائف علي نفسه وقد استجار بمنزلك، فأدخلني منزله ثم صيّرني في حجرة تلي حرمه، وكنت عنده في ذلك علي ما أحبّه من مطعم ومشرب وملبس، لا يسألني عن شيء من حالي، إلا أنّه يركب في كلّ يوم ركبة، فقلت له يوماً: أراك تُدمن الركوب ففيم ذلك؟ قال: إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً وقد بلغني أنّه مُختفٍ أطلبه لأدرك منه ثاري، فكثر والله تعجّبي، وقلت: القدر ساقني إلي حتفي في منزل من يطلب دمي و كرهت الحياة، فسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه، فأخبرني فعلمت أنّ الخبر صحيح وأنا الذي قتلت أباه، فقلت له: يا هذا قد وجب علي حقّك، ومن حقّك أن أدلّك علي خصمك وأقرّب إليك الخطوة، قال: وما ذاك؟ قلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثارك، فقال: إنّي أحسبك رجلاً قد مضّه الاختفاء فأحببت الموت، فقلت: لا والله ولكن أقول لك الحقّ يوم كذا وكذا، فلمّا علم صدقي تغيّر لونه واحمرّت عيناه وأطرق ملياً، ثمّ قال: أما أنت فستلقي أبي عند حكمٍ عدل فيأخذ بثاره، وأمّا أنا فغير مُخفر ذمّتي، فاخرج عني فلست آمن عليك من نفسي، وأعطاني ألف دينار فلم آخذها منه وانصرفت عنه، فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين.(1)

***

ص: 139


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 6: 416 - 417، ترجمة إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك بن مروان.

ص: 140

من وصيّة له إلي ولده الحسن عليهما السلام:في الدعاء والتوبة إلي الله وعفوه تعالي

اشارة

واعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِه خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وتَكَفَّلَ لَكَ بِالإِجَابَةِ وأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَه لِيُعْطِيَكَ وتَسْتَرْحِمَه لِيَرْحَمَكَ ولَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وبَيْنَه مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْه ولَمْ يُلْجِئْكَ إِلَي مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْه ولَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ ولَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ ولَمْ يُعَيِّرْكَ بِالإِنَابَةِ ولَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَي ولَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الإِنَابَةِ ولَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ ولَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً وحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وفَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وبَابَ الِاسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَه سَمِعَ نِدَاكَ وإِذَا نَاجَيْتَه عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْه بِحَاجَتِكَ وأَبْثَثْتَه ذَاتَ نَفْسِكَ وشَكَوْتَ إِلَيْه هُمُومَكَ واسْتَكْشَفْتَه كُرُوبَكَ واسْتَعَنْتَه عَلَي أُمُورِكَ وسَأَلْتَه مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِه مَا لَا يَقْدِرُ عَلَي إِعْطَائِه غَيْرُه مِنْ زِيَادَةِ الأَعْمَارِ وصِحَّةِ الأَبْدَانِ وسَعَةِ الأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِه بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيه مِنْ مَسْأَلَتِه فَمَتَي شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِه واسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِه - فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِه فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَي قَدْرِ النِّيَّةِ ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لأَجْرِ السَّائِلِ وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآمِلِ ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاه وأُوتِيتَ خَيْراً مِنْه عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَه فِيه هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَه».(1)

***

ص: 141


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 87 - 88، طبع مكتبة المرعشي النجفي - قم.

إنّ الإمام علي عليه السلام ينحو مع ولده المحبوب نحواً خاصّاً يريده علي أن يسأل الله سبحانه و يُلحف في السؤال، پريده أن يستعين الله علي كلّ شيء مهما كان أمره.

وإنّه ليوحي عليه السلام بكلماته هذه النيّرة إلي ولده البارّ بأنّ خالقه وبارئه والذي بيده مقادير الأمور قد أفاض عليه نِعماً جساماً لا يستطيع لها عدّاً ولا حساباً . ولا يستطيع هو ومن في سواه أن يؤدّوا حقّها من الشكر.

الدعاء وشرائط القبول:

فالله سبحانه قد سهّل علي الانسان فأذن له في الدعاء بعد أن وعده الاجابة إلي كلّ ما تصبو إليه نفسه ما لم يخالف ذلك ما ترتئيه الإرادة الإلهيّة.

وقد أمر العبد أن يسأله ليعطيه، فهو سبحانه يقول: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(1)

بَيد أنّ الدعاء مشروط بأن يكون علي وجه الاستكانة والخضوع مع الاعتراف بالذلّة والنقص والاضطرار والعجز قلباً ولساناً وهيئة، وأنّه لا فرج له إلاّ من لدن سيده،ولا خير له إلاّ من عنده قولاً وضميراً، وهل إخلاص العبادة إلاّ هذه الأحوال، فكان الدعاء بهذه الكيفيّة من أشرف العبادة، وبحسب العبادة يتمّ الشرف الانسانيّ ويخلص الغرض الإلهيّ.

الدعاء من مستلزمات العبادة، إذ هو الصلة التي تربط بين الانسان وخالقه، والدعاء فطري في الإنسان، فهو يشعر بحنين إلي الله، يفزع إليه عند الشدائد ويتضرّع إليه في كشف السوء عنه، فهو ضعيف أمام أحداث الحياة لا يجد سنداً لضعفه غير الدعاء، ولذلك اعتني القرآن الكريم بالدعاء وحثّ عليه، فقد جاء فيه «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(2) وقال: « إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ

ص: 142


1- البقرة: 186.
2- غافر: 60.

عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(1) ففي هذه الآية وصف الله الدعاء بأنّه من العبادة التي يستحقّ من يستكبر عنها غضب الله.

والدعاء علاج نفسيّ لكثير من أمراض النفس، فالانسان بطبعه محتاج في مشكلاته لأن يُفضي بدخيلة نفسه إلي صديق حميم يخفّف عنه بعض ما يشعر به من الهمّ والحزن، وقد أجمع الأطباء النفسيّون علي أنّ علاج التوتّر العصبي والآلام النفسيّة إنّما يتوقّف إلي حدّ كبير علي الافضاء بسبب التوتّر ومنشأ القلق إلي صديق مخلص، فإنّ كتمانه ممّا يزيد المرض، فإذا أفضي الانسان المحزون إلي ربّه ما يعانيه وطلب منه ما يبتغيه فإنّه يشعر بطمأنينة ونفحة روحيّة تنتشله ممّا هو فيه من الهم والضيق، وذلك مع الايمان والاعتقاد التام بأنّ الله قريب منه مُجيب دعوته، كما أخبر بذلك القرآن بقوله: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ»(2) الآية.

قيل في سبب نزول هذه الآية أنّ أعرابياً جاء الي الرسول صلي الله عليه وآله فقال: أقريب ربُّنا فنُناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه الرسول، فأنزل الله هذه الآية.(3)

فوائد الدعاء:

وقد شرع الإسلام الدعاء أيضاً للسموّ الروحيّ والترفّع عن شهوات الجسد الضارّة والعروج به إلي معارج الكمالات بجانب ما يطلبه الداعي من فضل الله وتسيير أموره و كشف الضرّ عنه، ولهذا يعلّم الله عباده المؤمنين كيف يدعونه بما ذكره علي ألسنة أنبيائه وعباده الصالحين ممّا سنذكر بعضاً منه:

«رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ».(4)

ص: 143


1- غافر: 60.
2- البقرة: 186.
3- تفسير مجمع البيان 2: 18.
4- إبراهيم: 40.

«رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَيٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي».(1)

«رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».(2)

«رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(3)

«رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».(4)

«رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(5)

«رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(6)

«رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».(7)

«رب اشرح لي صدري * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي».(8)

«رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً».(9)

كلمة للعلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستانيّ حول الدعاء تحت عنوان:

ص: 144


1- الاحقاف: 15.
2- آل عمران: 8.
3- البقرة: 286.
4- الأعراف: 23.
5- المؤمنون: 94.
6- يونس: 85.
7- الكهف: 10.
8- طه: 25 و 26.
9- البقرة: 201.

أدعية القرآن:

«إنّ الله عزّوجَل أمر عباده بالدعاء ووعدهم الاستجابة، قال سبحانه وتعالي: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1) وإنّ الله لا يُخلف الميعاد.

وقد كانت الأدعية المزبورة في القرآن العظيم أعلي أدعية العالمين شأناً، وأجمعها معنيً، وأوجزها لفظاً، وأسهلها حفظاً، وأفصحها عبارة، وأبلغها دلالة، وأثوبها تلاوة، هي الكلمات الإلهيّة التامّة، فالأحري أن نكلّم الله بها، هي أسماؤه الحسني و آياته العليا فادعوه بها، هي الكلم الطيّب الذي يصعد إليه، هي الدعوات الحسني التي تقبل لديه، فرأيت من اللازم المستحسن جمعها وتفريقها علي أرباب الحوائج والمهمّات خدمة للمنيبين إليه، وذخيرة ليوم وُفودي عليه، إنّه لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.

***

ص: 145


1- غافر: 60.

فصول أربعة

الأوّل: في حقيقة الدعاء

إنّ الدعاء في العرف العام طلب توجّه المدعوّ نحو الذي يدعوه. يقال: دعا زيد عمرواً أي استلفت فكره ونظره إلي نفسه بالنداء أو الإشارة أو التسمية أو غيرها، ومنه الآية «ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا»،(1) ويقال أيضاً: دعاه إلي بيته أو إلي طعامه، ومنه الآيتان «إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا»(2) «إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ».(3)

ومعني الدعاء في عرف الشريعة الإسلامية هو أيضاً طلب توجّه الله سبحانه نحو الداعي لكي يجيبه، إلاّ أنّ المراد من توجّه الباري عزّ اسمه هو توجّه فيضه وفضله، إذ يستحيل عليه تعالي أن يتوجّه بفكره أو بجسمه إلي أحد، كما إنّ المراد من إجابته أيضاً قضاؤه لحاجة عبده وإعطاؤه لسؤاله دون أن تكون إجابته بإشارة أو تلبية أو غيرها.

الفصل الثاني: في استحباب الدعاء وفوائده

قد عرفت أنّ حقيقة الدعاء طلب توجّه الله سبحانه نحو عبده بفيضه وفضله، فاعرف أيضاً أنّه بهذا المعني سُنّة مؤكّدة بنصّ الكتاب العزيز وبالسنّة المتواترة، وعلي استحبابه إجماع طوائف المسلمين أجمع، ولا مفسدة فيه لدي العقول السليمة، بل العقول قاضية بحسنه، ناطقة بمصالحه وحكمه.

وفي خلال هذه الأعوام أخذ نزر من كبار المتفلسفة وأركان الضلالة وبغاة المتفرنجة «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»،(4)

ص: 146


1- البقرة: 260.
2- الأحزاب: 53.
3- القصص: 25.
4- الكهف: 104.

يُكثرون التساؤل عن فائدة الدعاء وحكمة تشريعه ومصالح التمسّك به، و كان جوابي المقنع لهم أوجه من القول، والجواب تختلف وجوهه بحسب اختلاف نزعات السائلين.

فمن تلك الوجوه أنّ أفكار الانسان مقدّمات أعماله، وسلسلة أفكاره معلّقة بحبال آماله، والأمل أقوي عامل في خياله، هذه قضايا مثبّتة في ألواح الأذهان كما هي ثابتة في صحائف الحقيقة والوجود، فما لم يشغل المرء دولاب خياله لم تنعقد فيه فرائد آماله، وما لم يكن للإنسان أمل لا يصدر منه عمل، كما أنّ ظهور آمالك من صدور أعمالك، هذه حلقات في سلسلة الكون بعضها متّصل ببعض لا مناص لأحدها من الأخري، فكلّما قوي خيالك قويت آمالك واشتدّ استحضارك لغايتك المطلوبة، ومهما اشتدّ استحضارك للغاية في نظرك ازداد توجّهك إليها وإلي مقدّماتها ومبادئها، ومتي ازداد توجّهك نحو أملك واستوثقت قوي عملك قوي عزمك ونشطت جوارحك وكنت إلي نيل المرام أقرب بحكم العقل والحسّ مع التجربة من دون ريبة أو خلاف، ولا شكّ في أنّ إلحاح الداعين ودعوات السائلين وضراعة الراغبين من أكبر العوامل في تقوية الفكر والخيال وتربية العزائم والآمال، وأنّها من أقوي المؤثّرات في استحضار المبادئ والغايات، وفي جمع الأفكار وتوجيهها نحو المقاصد والمقدمات. فلو لم يكن للدعاء أثر نافع في المجمع البشريّ غير هذا لكفي أيّما كفاية، وهل ينتفع المرء من شيء كانتفاعه من أمر يُقرّبه من آماله، ويشجّعه في مشاقّ أعماله، ويؤمّله نيل المهمّة، ويؤمنه صدق العزيمة والغنائم بالعزائم).

سؤال وجواب:

سألني البعض: إنّنا ندعو الله كثيراً ولا يستجيب دعاءنا كما وعدنا في قوله تعالي: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»(1) فأجبتهم: إن الله سبحانه

ص: 147


1- البقرة: 186.

وتعالي يقول: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»(1) فما رعيتم عهده وعبدتم عدوّكم وعدوّه، إذن فلا يجب علي الله أن يفي بوعده وعهده معكم، لأنّه القائل وقوله الحقّ: «أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ»،(2) و«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»(3) فمن لم يذكر الإله ولم يشكر آلاءه ورغب عِداه ورهب من عداه وعبد الشيطان واتّبع هواه ولم يفِ بعهده مع الله فما له استحقاق أن يستجيب الله دُعاه.

الفصل الثالث: في اقتران الدعاء بالاهتمام والعمل

إنّ كثيراً من قليلي العلم من ذوي العقول القاصرة من الذين حفظوا شيئاً وغابت عنهم أشياء، تراهم إذا أقبلوا علي الدعاء أدبروا عن العمل والاهتمام، وتركوا تدبير الأسباب الميسورة لهم، وزعموا أنّ الإقبال علي الدعاء والتوكّل علي الله ينافيان السعي وراء تدبير الأسباب المقرّبة نحو المطلوب، لكنّ ذلك وهمٌ ومضلّة وبدعة في الدين ومخالفة لسنّة سيّد المرسلين، فإنّه كان _ بلا ريب _ أعظم المتوكّلين علي ربّ العالمين، وكان له الدعوة مستجابة، وكان صلي الله عليه وآله مع ذلك كلّه أكثر الناس تدبيراً للأسباب الممكنة، وأشدّهم توجّهاً نحو القوي الظاهرة، فكان صلي الله عليه وآله يحشد الجيوش المستعدّة ويستعمل القوي المعدّة، ويهتمّ بكلّ عِدّة وعُدّة، ويستعين بالقبائل وبالوسائل، وبالمال والرجال، يتّجر ويزرع، ويحفر الخندق، ويسترشد السالك، ويعرض بنفوس أعزّته وأحبّته المهالك، إلي غير ذلك.

فلماذا _ يا تري _ پرتكب هذه المشاقّ ولم يقنع بالدعاء وحده، مع أنّ دعاءه أقرب إلي الاستجابة من كلّ إنسان، وكان في اكتفائه بالدعاء حفظ

ص: 148


1- يس: 60.
2- البقرة: 40.
3- البقرة: 152.

النفوس من التلف وصيانة الأموال من الضياع، أليس أصحابه الكرام وأولياؤه والتابعين لسيرته عليهم السلام أدري وأعرف بحقائق الإسلام، وكانوا يتهالكون في سبيل الاستعانة بالوسائل والقوي، ويجتهدون سعياً وراء تدبير الأسباب الممكنة، كي تقرّبهم من إنجاح مقاصدهم وأمانيهم، ولم يكونوا قانعين مكتفين بالدعاء وحده وهم في دعائهم و تو كّلهم أفضل من كثير بكثير.

أليس القرآن العظيم يأمر الناس بتدبير الأسباب المقرّبة من النجاح واجتناب مناهج الخيبة، كما يأمرهم بدعاء الله سبحانه والتوجّه إليه والتوكّل عليه، فيقول عزّ اسمه في كتابه العزيز: «خُذُوا حِذْرَكُمْ»(1) «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ»(2) «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَيٰ»(3) فاذن يا صاح «خُذَ التوسطً واجتنب التفريط والتورط».

تمسّك بالدعاء لمهمّاتك ولا تضجر من الالحاح في المسألة، ثمّ اجتهد أيضاً في تدبير الأسباب الموصلة، حتّي لا تكون في ترك الدعاء الذين «نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ»(4) ولا تكوننّ في تقاعدك وتقاعسك كالذين قالوا لنبيّهم: «اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ»(5) لأنّ الله قد فضّل المجاهدين علي القاعدين وخصّهم بأجر عظيم.

الفصل الرابع: في آداب الدعاء والمسألة

إنّ الدعاء _ كما عرفتَ _ سنّة مؤكدة، والأمر به ثابت بنصّ القرآن والأحاديث المتواترة، و حُسنه أو استحبابه قضيّة ضروريّة من الدين بين المسلمين، والاستكبار عنه يجرّ إلي النار وبئس القرار، واليأس منه قنوط من رحمة الله أو إسائة ظنٍّ به، وفي

ص: 149


1- النساء: 71.
2- الأنفال: 60.
3- النجم: 39.
4- الحشر: 19.
5- المائدة: 24.

المواظبة عليه ظفر و توفيق، وعمله قربة إلي الله وزُلفي وحسن مآب.

ولا يستلزم الدعاء من الآداب والشرائط والسنن غير ما سنّه الله لعباده في كتابه العزيز، كالخشوع لله والضراعة لديه، واستكانة القلب والوقار واستحضار المشاعر، كما في الآية «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ»،(1) ومثل الاخلاص للحقّ والتوجّه إليه وحده بكلّ الحواس الظاهرة والباطنة كما في القرآن.

«وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ»(2) «فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا»(3)

ومثل الالحاح في مسألة الله وكثرة دعائه، كما في القرآن «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا»(4) «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا»(5)

ومثل الدعاء بأسماء الله الحسني وصفاته العليا، وبالكلمات الطيّبة، وبأحسن البيان والذكر الجميل، كما في القرآن الكريم «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»(6) «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَيٰ فَادْعُوهُ بِهَا».(7)

ولا تنسي أنّ الركن الأساسي في إصلاح شأن الدعاء تزكية النفس و تقديس النيّة من كلّ فساد وباطل، والتوجّه الكامل والله وليّ الاجابة و إليه الانابة.

***

ص: 150


1- الأعراف: 55.
2- القصص: 88.
3- الجن: 18.
4- البقرة: 200.
5- الأنفال: 45.
6- فاطر: 10.
7- الأعراف: 180.

عشرون باباً

الباب الأوّل: في الاستعاذة بالله سبحانه من الشياطين

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَٰهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ».(1)

2 _ «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ».(2)

3 _ «وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ».(3)

الباب الثاني: في الإستعاذة بالله سبحانه من الشرور والأشرار ومن سيّئات الأعمال

1 _ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ».(4)

2 _ «رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ».(5)

3 _ «أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ».(6)

4 _ «رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(7)

5 _ «رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ».(8)

ص: 151


1- الناس: (114).
2- المؤمنون: 97.
3- المؤمنون: 98.
4- الفلق: (113).
5- هود: 47.
6- البقرة: 97.
7- القصص: 21.
8- الشعراء: 169.

6 _ «وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(1)

7 _ «رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(2)

8_ «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(3)

9_ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(4)

10 _ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(5)

11 _ «رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ».(6)

الباب الثالث: و في الاستعاذة من النار ومن عذاب الملك القهار

1_ «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ».(7)

2 _ «رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا».(8)

3 _ «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».(9)

4 _ «وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ».(10)

ص: 152


1- يونس: 86.
2- المؤمنون: 94.
3- التحريم: 11.
4- يونس: 85.
5- الممتحنة: 5.
6- إبراهيم: 35.
7- الدخان: 12.
8- الفرقان: 65.
9- غافر: 7.
10- الشعراء: 87.

5 _ «رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَيٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ».(1)

6 _ «رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».(2)

7 _ «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».(3)

8 _ «رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ».(4)

9 _ «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».(5)

الباب الرابع: في الدعاء للأبوين

1 _ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا».(6)

2 _ «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ».(7)

3 _ «رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا».(8)

4 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ».(9)

5 _ «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(10)

ص: 153


1- آل عمران: 194.
2- آل عمران: 16.
3- آل عمران: 191.
4- آل عمران: 192.
5- البقرة: 201.
6- نوح: 28.
7- الشعراء: 86 و 87.
8- الإسراء: 24.
9- إبراهيم: 41.
10- غافر: 8 و9.

الباب الخامس: في الدعاء لطلب الذّريّة والأولاد والأزواج

1 _ «رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ».(1)

2 _ «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ».(2)

3 _ «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي».(3)

4 _ «رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ».(4)

5 _ «رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».(5)

6 _ «عَسَيٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَيٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ».(6)

الباب السادس: في الدعاء للذّريّة والأولاد

1 _ «رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ».(7)

2 _ «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ».(8)

3 _ «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَيٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».(9)

ص: 154


1- آل عمران: 38.
2- الصافّات: 100.
3- مريم: 5 و6.
4- الأنبياء: 89.
5- الفرقان: 74.
6- القلم: 32.
7- البقرة: 126.
8- إبراهيم: 40.
9- النمل: 19.

4 _ «عَسَيٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَيٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ».(1)

5 _ «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».(2)

6 _ «رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».(3)

7 _ «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(4)

8 _ «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».(5)

الباب السابع: في الدعاء للاخوان

1 _ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».(6)

2 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».(7)

ص: 155


1- القلم: 32.
2- البقرة: 128.
3- الفرقان: 74.
4- غافر: 8 و 9.
5- إبراهيم: 37.
6- الأعراف: 151.
7- الحشر: 10.

الباب الثامن: في الدعاء لعموم المؤمنين والمؤمنات

1 _ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ».(1)

2 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ».(2)

3 _ «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».(3)

4 _ «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(4)

الباب التاسع: في الدعاء لطلب الهداية والاستقامة (في الدين)

1 _ «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي».(5)

2 _ «رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا».(6)

3 _ «رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».(7)

ص: 156


1- نوح: 18.
2- إبراهيم: 41.
3- غافر: 7.
4- غافر: 8 و 9.
5- طه: 25 - 28.
6- الإسراء: 80.
7- الشعراء: 83 - 85.

4 _ «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَيٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».(1)

5 _ «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ».(2)

6 _ «رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَيٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(3)

7 _ «فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ».(4)

8 _ «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».(5)

9 _ «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ».(6)

10 _ «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ».(7)

11 _ «رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».(8)

12 _ «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».(9)

13 _ «رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ».(10)

ص: 157


1- النمل: 19.
2- إبراهيم: 40.
3- التحريم: 8.
4- يوسف: 101.
5- البقرة: 128.
6- البقرة: 250.
7- الفاتحة: 6 و7.
8- الكهف: 10.
9- آل عمران: 8.
10- آل عمران: 193.

14 _ «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَيٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».(1)

الباب العاشر: في الدعاء لطلب الخيرات والحسنات

1 _ «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ».(2)

2 _ «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَيٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».(3)

3 _ «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».(4)

4 _ «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».(5)

5 _ «رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَيٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ».(6)

6 _ «وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ»(7)

الباب الحادي عشر: في الدعاء لطلب العلم والحكمة

1 _ «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي».(8)

ص: 158


1- النمل: 19.
2- القصص: 24.
3- النمل: 19.
4- الشعراء: 85.
5- البقرة: 201.
6- آل عمران: 194.
7- الأعراف: 156.
8- طه: 25 - 28.

2 _ «رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا».(1)

3 _ «رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ».(2)

4 _ «رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا».(3)

5 _ «رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».(4)

6 _ «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».(5)

7 _ «رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَيٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(6)

8 _ «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».(7)

الباب الثاني عشر: لطلب الرحمة والغفران وتكفير السيئات

1 _ «رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ».(8)

2 _ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِ».(9)

3 _ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ».(10)

ص: 159


1- الأسراء: 80.
2- الشعراء: 83 و 84.
3- طه: 114.
4- الكهف: 10.
5- البقرة: 128.
6- التحريم: 8.
7- آل عمران: 8.
8- هود: 47.
9- القصص: 16.
10- نوح: 18.

4 _ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».(1)

5 _ «أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ».(2)

6 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ».(3)

7 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(4)

8 _ «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».(5)

9 _ «رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ».(6)

10_ «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(7)

11 _ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(8)

12 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».(9)

13 _ «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ

ص: 160


1- الأعراف: 151.
2- الأعراف: 152.
3- إبراهيم: 41.
4- آل عمران: 147.
5- الأعراف: 23.
6- المؤمنون: 109.
7- البقرة: 286.
8- الممتحنة: 5.
9- الحشر: 10.

وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(1)

14 _ «رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».(2)

15 _ «رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ».(3)

16 _ «رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَيٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(4)

17_ «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».(5)

18 _ «رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».(6)

الباب الثالث عشر: لطلب التوية وقبول الأعمال

1_ «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَيٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».(7)

2 _ «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ».(8)

3 _ «سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».(9)

ص: 161


1- غافر: 7- 9.
2- آل عمران: 16.
3- آل عمران: 193.
4- التحريم: 8.
5- البقرة: 285.
6- الكهف: 10.
7- النمل: 19.
8- إبراهيم: 40.
9- الأعراف: 143.

4 _ «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».(1)

5 _ «وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ».(2)

6 _ «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَيٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ».(3)

7 _ «رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».(4)

8 _ «رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».(5)

الباب الرابع عشر: في الدعاء لطلب حسن المثوي

1 _ «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(6)

2 _ «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».(7)

3 _ «رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».(8)

4 _ «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا».(9)

ص: 162


1- البقرة: 128.
2- الأعراف: 156.
3- غافر: 11.
4- الممتحنة: 4.
5- البقرة: 127.
6- التحريم: 11.
7- الشعراء: 85.
8- المؤمنون: 29.
9- النساء 75.

الباب الخامس عشر: الطلب الرزق واليُسر في الأمور وحسن العيش

1 _ «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».(1)

2 _ «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ».(2)

3 _ «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِ هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي».(3)

4 _ «رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».(4)

5 _ «اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».(5)

6 _ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».(6)

7 _ «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».(7)

الباب السادس عشر: في الدعاء لطلب السلامة والأمان

1 _ «رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ».(8)

ص: 163


1- الأنبياء: 83.
2- القصص: 24.
3- طه: 25 - 31.
4- البقرة: 126.
5- المائدة: 114.
6- ص: 35.
7- إبراهيم: 37.
8- البقرة: 126.

2 _ « رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».(1)

3 _ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(2)

4 _ «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا».(3)

الباب السابع عشر: لطلب النصر والظفر ومزيد القوّة والأنصار

1 _ «رَبِّ انْصُرْنِي عَلَي الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ».(4)

2 _ «رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ».(5)

3 _ «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ».(6)

4 _ «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ».(7)

5 _ «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي».(8)

6 _ «وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا».(9)

7 _ «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(10)

ص: 164


1- إبراهيم: 35.
2- يونس: 85.
3- النساء: 75.
4- العنكبوت: 30.
5- المؤمنون: 39.
6- الصافّات: 100.
7- القمر: 10.
8- طه: 29 - 31.
9- النساء: 75.
10- البقرة: 250.

8 _ «رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا».(1)

9 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(2)

10 _ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(3)

11 _ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»،(4) «أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»،(5) «وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»(6) «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَيٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَيٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّيٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ».(7)

12 _ «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(8)

13 _ «رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَي الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا».(9)

14 _ «قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».(10)

15 _ «وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا».(11)

ص: 165


1- الأحزاب: 68.
2- آل عمران: 147.
3- الممتحنة: 5.
4- يونس: 85.
5- البقرة: 286.
6- يونس: 86.
7- يونس: 88.
8- البقر: 286.
9- نوح: 26 و 27.
10- الشعراء: 118.
11- نوح: 28.

16 _ «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ».(1)

الباب الثامن عشر: لطلب الصبر وتوفيق الثبات

1 _ «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ».(2)

2 _ « رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(3)

3 _ «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».(4)

الباب التاسع عشر: في الدعاء لطلب النجاة من الظالمين

1 _ «رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ».(5)

2 _ «وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(6)

3 _ «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ».(7)

4 _ «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(8)

5 _ «رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».(9)

ص: 166


1- الأعراف: 89.
2- الأعراف: 126.
3- البقرة: 250.
4- آل عمران: 147.
5- الشعراء: 169.
6- التحريم: 11.
7- الدخان: 12.
8- يونس: 85.
9- المؤمنون: 94.

6 _ «فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».(1)

الباب العشرون: لطلب الدخول في صفّ الأخيار

1 _ «رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».(2)

2 _ «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ».(3)

3 _ «سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».(4)

4 _ «فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ».(5)

5 _ «رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ».(6)

6 _ «رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ».(7)

7 _ «رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ».(8)

8 _ « رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ».(9)

ص: 167


1- الشعراء: 118.
2- الشعراء: 83 - 85.
3- النمل: 19.
4- الأعراف: 143.
5- يوسف: 101.
6- آل عمران: 193.
7- آل عمران: 53.
8- المائدة: 83.
9- الأعراف: 126.

9 _ «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».(1)

10 _ «نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ».(2)

من هذه الأدعية يتبيّن لك مصدرها السماويّ، قصّها الله علينا لندعو بها في فترات الزمن القاسية وللترقّي الروحيّ.

أدعية أهل البيت عليهم السلام :

ولنذكر هنا جملة قصيرة من الأدعية المأثورة عن أهل البيت طلباً البركتها والنفع بها:

كان من دعاء رسول الله صلي الله عليه وآله إذا أصبح أن يقول: «أصبحنا وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والجلال، والخلق والأمر والليل والنهار وما يسكن فيهما لله عزّوجَل وحده لا شريك له، اللهمّ اجعل أوّل يومي هذا صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخره نجاحاً، اللهم إنّي أسألك خير الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين، اللهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلّغنا به رحمتك، ومن اليقين ما تُهوّن به علينا مصيبات الدنيا، اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعله الوارث منّا، وانصرنا علي مَن ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ عِلمنا، ولا تُسلّط علينا من لا يرحمناه».(3)

وكان من دعاء أمير المؤمنين عليه السلام، و كان يدعو به عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام وهو من أدعية الصحيفة:

ص: 168


1- البقرة: 128.
2- المائدة: 84.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 178: 6.

«يا من يرحم من لا يرحمه العباد، يا من يقبل من لا تقبله البلاد، ويا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه، يا من لا يَجْبّه بالرّد أهل الإلحاح عليه، يا من لا يخفي عليه صغير ما يتحف به، يا من لا يضيع يسير ما يُعمل له، يا من يشكر علي القليل ويجازي بالجليل، يا من يدنو إلي من دنا منه، يا من يدعو إلي نفسه من أدبر عنه، يا من لا يغيّر النعمة ولا يبادر بالنقمة، يا من يثمر الحسنة حتّي ينميها، ويتجاوز عن السيئة حتّي يعفيها، انصرفَتْ دون مدي كرمك الحاجاتُ وامتلأتْ بفيض جودك أوعية الطلبات...» الي آخر الدعاء.(1)

ومن دعاء الحسين عليه السلام يوم عرفة: «إلهي علمتُ باختلاف الآثار و تنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء حتّي لا أجهلك في شيء».(2)

ومنه: «إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مُفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتي يكون هو المُظهِر لك، ومتي غبتَ حتّي تحتاج إلي دليل يدلّ عليك، ومتي بعدتَ حتّي تكون الآثار هي التي توصل إليك، عَمِيَت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً».(3)

ومنه وقد التزم الركن الاسود: «إلهي نعّمتي فلم تجدني شاكراً، وابتليتَني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبتَ النعمة بترك الشكر، ولا أدمت الشدّة بترك الصبر، إلهي لا يكون من الكريم إلاّ الكرم».(4)

وقيل: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام اعتمر فرأي رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: «يا من لا يشغله سمع عن سمعٌ، يا من لا تغلّطه المسائل، ولا يُبرمه إلحاح

ص: 169


1- شرح نهج البلاغة 178: 6 -179.
2- بحار الأنوار 95: 225.
3- بحار الأنوار 95: 225 - 226.
4- العدد القويّة لعلي بن يوسف الحلّي: 35.

الملحّين، أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك وعذوبة عافيتك والفوز بالجنّة والنجاة من النار» فقال علي عليه السلام : «والذي نفسي بيده إن قالها وعليه مثل السماوات والأرض من الذنوب قولاً مخلصاً ليغفرنّ له».(1)

وقال عليه السلام: «للدعاء شروط أربعة: الأوّل إحضار النيّة، الثاني إخلاص

السريرة، الثالث معرفة المسؤل، الرابع الانصاف في المسألة».(2)

***

حُكي أنّ أحد الملوك كان عقيماً لا يولد له، فكان إذا انتصف الليل وهدأ الناس يخرج إلي الصحراء ويتضرّع إلي الله ويتوسّل إليه بأن يرزقه ولداً يقوم مقامه، حتّي مضي عليه زمن غير قصير، فضجر ذات ليلة وقال: إلهي لا أدري أقريب أنت تسمع ثمّ لا تجيب أم بعيد لا تسمع؟ ولمّا رجع هتف به هاتف يقول: يا فلان أنا قريب منك أقرب إليك من حبل الوريد، أسمع نداءك وأري مقامك، ولكن أريد أن تدعوني بقلب خالص وسريرة طاهرة ونفس نقيّة.

فالله جلّ شأنه يريد من العبد أن يدعوه بقلب طاهر خاشع، وضمير نقيّ، وجوارح متذلّلة، ويقين واثق بالاجابة، وأن لا يكون قلبه متشاغلاً بغيره، فقد روي أنّ موسي بن عمران مرّ عند مناجاته برجل ساجد يبكي ويدعو ويتضرّع، فقال موسي عليه السلام : ياربّ لو كانت حاجة هذا العبد بيدي لقضيتها، فأوحي الله إليه: يا موسي إنّه يدعوني وقلبه مشغول بغنم له، فلو سجد حتّي ينقطع صلبه وتتفقّأ عيناه لا أستجيب له حتي يتحوّل عما أبغض إلي ما أحبّ.(3)

موت القلوب بعشرة أشياء:

مرّ ابراهيم بن أدهم بسوق البصرة فاجتمع إليه الناس وقالوا: يا أبا إسحاق

ص: 170


1- أمالي المفيد: 92؛ مناقب آل أبي طالب 2: 84 باختلاف يسير.
2- شجرة طوبي: 284، وأخرجه ابن ورّام في تنبيه الخواطر: 302 بلفظ قريب.
3- الكافي 8: 129/ ح 98.

ما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟ قال: لأنّ قلوبكم ماتت بعشرة أشياء، الأوّل: أنّكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه، الثاني: زعمتم أنّكم تحبّون رسول الله وقد تركتم سُنّه، الثالث: قرأتم القرآن ولم تعملوا به، الرابع: أكلتم نعمة الله ولم تؤدّوا شكرها، الخامس: قلتم إنّ الشيطان عدوّكم ووافقتموه، السادس: قلتم إنّ الجنة حقّ فلم تعملوا لها، السابع: قلتم إنّ النار حقّ ولم تهربوا منها، الثامن: قلتم إنّ

الموت حقّ فلم تستعدّوا له، التاسع: انتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم، العاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، فكيف يُستجاب لكم وأنتم علي مثل هذه الأحوال؟ إنّما يستجاب لمن كان ذا نيّة صادقة وضمير طاهر وقلب نقيّ، وما كان الله ليفتح باب التوبة ويغلق باب المغفرة لأنّه تعالي يقول: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ»(1) وما كان الله ليفتح باب الشكر ويغلق باب الزيادة لأنّه يقول: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(2) وما كان الله ليفتح باب التوكّل ولم يجعل للمتوكّل مخرجاً، فإنه سبحانه يقول: « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ».(3) (4)

قوله عليه السلام: «فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِه - فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَي قَدْرِ النِّيَّةِ ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لأَجْرِ السَّائِلِ وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآمِلِ ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاه - وأُوتِيتَ خَيْراً مِنْه عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ».

إنّ الإمام عليه السلام يعلّم ولده بأنّه قد يسأل الله سبحانه فلا يجيبه إلي سؤله، أو قد يبطي عليه في الاجابة لا لأنّه عاجز قاصر عن أن يجيب، كلاّ وإنّما ذلك لأمر ما، فإنّ الله في شؤنه مصالح وحِكماً، وإنّ لها لسرّاً غامضاً وخبراً مكتوماً لا يطمع في ذلك بفهم أو

ص: 171


1- الشوري: 25.
2- إبراهيم: 7.
3- الطلاق: 2 و3.
4- شجرة طوبي 2: 384 - 385 نقلاً عن الارشاد للديلمي.

تأويل، لأنّ الله في شؤونه وإرادته لا يصلح لشيء من الفهم والتأويل.

وإنّه عليه السلام ليعلّمه بأنّ من الذنوب ما تكون حاجباً يحجب الدعاء عن القبول، أو يبطئ عليه في الإجابة، فلعلّ بين أعماله عملاً نابياً.

وهكذا جاء في دعائه عليه السلام المعروف بدعاء كميل «اللهمّ اغفرلي الذنوب التي تحبس الدعاء»(1) وهكذا كان النبي صلي الله عليه وآله يستعيذ بالله ويقول: وأعوذ بك من الذنوب التي تردّ الدعاء».(2)

الذنوب تمنع الغيث:

روي أنّ عيسي بن مريم عليه السلام خرج يستسقي، فلمّا ضجروا قال لهم عيسي: من أصاب منكم ذنباً فليرجع، فرجعوا كلّهم ولم يبق معه في المفازة إلاّ واحد، فقال له عيسي: أمالك من ذنب؟ فقال: والله ما علمتُ من شيء غير أنّي كنت ذات يوم أصلّي فمرت بي امرأة فنظرت إليها بعيني هذه، فلما جاوزتني أدخلت أصبعي في عيني فانتزعتها وأتبعتُ المرأة بها، فقال له عيسي: فادع الله حتّي أؤمّن علي دعائك، فدعا فتجلّلت السماء سحاباً ثمّ صبّت فُسقواه».(3)

وخرج سليمان بن دواد عليه السلام يستقي فمر بنملة ملقاة علي ظهرها رافعة قوائمها إلي السماء وهي تقول: اللهمّ إنّا خلق من خلقك ولا غِني بنا عن رزقك، فلا تُهلكنا بذنوب غيرنا. فقال سليمان: سُقيتم بدعوة غير كم.(4)

وأصاب بني إسرائيل قحط فاستسقي موسي مراراً فما أجيب، فأوحي الله تعالي إليه: إنّي لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمّام قد أصرّ علي النميمة،

ص: 172


1- مصباح المتهجّد: 844 من فقرات الدعاء المعروف بدعاء كميل.
2- عدّة الداعي: 197؛ مجمع البحرين 2: 38.
3- أخرجه الصنعاني في المصنّف 3: 94 باختصار يسير.
4- بحار الأنوار 61: 247.

فقال موسي: يارب من هو حتّي نُخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسي أنهاكم عن النميمة وأكون نمّاماً، فتابوا بأجمعهم فسُقوا.(1)

النميمة وخطرها في المجتمع:

ولا ريب فإنّ من عرف حقيقة النميمة يعلم أنّ النمّام شر الناس وأخبثهم، كيف وهو لا ينفكّ عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغلّ والحسد والنفاق والافساد بين الناس والخديعة، وقد قال الله سبحانه: «وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ»(2) والنمّام يسعي في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسد في الأرض، وقال الله تعالي: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَي الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»(3) والنمّام منهم، وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: لا يدخل الجنة قاطع(4) _ أي قاطع بين الناس _ والنمّام قاطع بينهم، وقال صلي الله عليه وآله: شرّ الناس من اتّقاه الناس لشّره،(5) والنمّام منهم.

نصّ القانون الإسلاميّ علي حرمة النميمة وذمّ أهلها.

النميمة هي السعاية، ونمّ الحديث ينمّه سعي به ليوقع فتنة أو وحشة.

النميمة صفة خبيثة ومزّية رديئة، تجارة اللئام لقدح نار الخصام، وبضاعة الأوغاد لإيقاد نار الفساد، وهي سعاية كاسدة لغاية فاسدة.

النميمة مسبّبة عن اللؤم والحسد والخساسة، وربّما يعسر تحقّقها علي النمّام بدون زيادة أو نقصان، وبهذا تلازم الكذب والبغي والعدوان.

ص: 173


1- الجواهر السنية: 78؛ بحار الأنوار 72: 258.
2- البقرة: 27.
3- الشوري: 42.
4- مستدرك الوسائل 9: 108/ح 10371.
5- العقد الفريد 1: 313، ط الثانية؛ الموطأ لمالك 2: 904/ ح 4.

النميمة خيانة الأمانة ونبذ للأمان ومخالفة للايمان، فالنمّام خبيث خائن وفاجر غادر و شيطان بصورة إنسان.

النميمة إفشاء السر وهتك الستر عمّا يكره كشفه ويراد ستره، فإن كان ما ينمّ به عيباً ونقصاً في المحكيّ عنه كان النمّام جامعاً بين الغيبة والنميمة، و كما تكون النميمة بصريح الكلام تكون بالاشارة والكتابة وأنواع الكناية.

تتولّد من النميمة مفاسد كثيرة أقلّها إيجاد التباعد غالباً بين المنقول عنه والمنقول إليه، وترتّب عليها تحقّق العداوة، وربما أدّت إلي حرب شعواء وفتنة عمياء، ومن سبر السير والتاريخ ونظر إلي أعمال ذوي النميمة في كلّ زمان عرف آثارها.

قصة العبد النمام:

باع رجل عبداً له فقال لمن اشتراه منه: مافيه عيب إلاّ النميمة، قال المشتري: رضيت به، فمكث العبد عنده أياماً، ثمّ قال يوماً لزوجة مولاه: إنّ سيّدي لا يحبّك وهو يريد أن يتزوّج عليك، فخذي الموسي واحلقي من شعر قفاه عند منامه شعرات حتّي أسحره عليها فيحبّك، ثمّ قال لمولاه: إنّ إمرأتك اتّخذت خليلاً وتريد أن تذبحك وأنت نائم فتناوم لها حتي تعرف الحقيقة، فتناوم لها الزوج فجائت المرأة بالموسي ودنت منه فجزم بصدق مقالة العبد، فقام إليها فقتلها، وجاء أهل المرأة فقتلوه، ثمّ وقع القتال بين عشيرة المرأة وعشيرة الرجل ودخل في تلك الحرب أحلافهما حتّي أشرفوا علي الفناء،(1) وليس في البين سبب إلاّ النميمة والتصوّرات الكاذبة التي اخترعها ذلك العبد الذي كان من آثارنميمته ما كان.

***

ص: 174


1- بحار الأنوار 72: 270.

قال عليه السلام في خطبة له:يوصي فيها بعدم الغفلة ويحذر من الكذب والرياء والحسد

اشارة

«فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَاصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ وَالتَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَلَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ وَلَا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَي الْمَعْصِيَةِ عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ وَالْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَالْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَالشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَغُرُورِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَي مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ الصَّادِقُ عَلَي شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ وَالْكَاذِبُ عَلَي شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَةٍ وَلَا تَحَاسَدُوا فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ».(1)

***

ضبط الألفاظ اللغويّة:

(الرخصة) التسهيل في الامر، والجمع رُخَص كغُرفة وغُرَف، و(الادهان) والمداهنة: إظهار خلاف ما تُضمر والغش، و (المنساة) و (المحضرة) محل النسيان والحضور، و(الشَّفا) طرف كل شيء، (والشرف) محرّكة: المكان العالي، و(المهواة) محل السقوط، و(المهانة) الذلّة والحقارة.

ص: 175


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 353 - 354، ج 2/ 123 من الطبعة الأولي.

المعني:

قوله عليه السلام: «فاستدركوا بقيّة أيامكم واصبروا لها أنفسكم» أي تداركوا ما أسلفتم من الذنوب والخطيئات فيما بقي لكم من الأوقات، واحبسوا أنفسكم عليها بتحمل مشاقّ الطاعات.

وفي الحديث: الصبر صبران: صبر علي ما تكره وصبر عمّا تحب،(1) فالصبر الأوّل مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها وثباتها وعدم انفعالها، وقد يسمّي سعة الصدر، وهو داخل تحت الشجاعة. والصبر الثاني مقاومة النفس القوتها الشهويّة، وهو فضيلة داخلة تحت العفّة.

قوله عليه السلام: «فإنّها قليل في كثير الأيام التي تكون منكم فيها الغفلة والتشاغل عن الموعظة» يعني أنّ الأيام الباقية التي يمكن فيها الاستدراك والتدارك قليلة في جنب الأيام التي تكون فيها الغفلة والتشاغل التي هي كثيرة بالنسبة إليها.

ولعلّ الإتيان بلفظة «تكون» دون «كانت» للإشعار بأنّ غفلتهم ليست مختصّة بما مضي، بل ربّما تكون فيما يأتي أيضاً، وذلك لما علم من حالهم أنّهم لا يستغرقون أوقاتهم الآتية بالتدارك والطاعة، فأمر عليه السلام بالتدارك فيما هو آت إذ ما مضي قد فات، فافهم.

قوله عليه السلام: «ولا تُرخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظلمة»، أي مسالكها، والظاهر أنّ المراد بالترخيص للنفوس المسامحة والمساهلة لها، فيكون المقصود بالنهي المواظبة عليها و مجاهدتها.

جهاد النفس:

روي الكليني بإسناده عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّ النبي

ص: 176


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 422؛ وسائل الشيعة 15: 228/ ح 20376، وفيهما: «الصبر علي ما تحبّ، وصبر علي ما تكره».

صلي الله عليه وآله بعث سرّية، فلمّا رجعوا قال صلي الله عليه وآله: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس».(1)

وفي الوسائل عن الصدوق بإسناده عن شعيب العقرقوفي، عن الصادق عليه السلام،قال: «من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهي وإذا غضب وإذا رضي حرّم الله جسده علي النار».(2)

وعن الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن محمد بن محمد بن خالد رفعه، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «أقصر نفسك عمّا يضرّها من قبل أن تفارقك، واسْعَ في فكاكها كما تسعي في طلب معيشتك، فإنّ نفسك رهينة بعملك».(3)

هذا، ويحتمل أن يكون المراد به الترخيص في الشبهات المؤدي إلي الاقتحام في الهلكات، فيكون مساقه مساق ما رواه الصدوق عنه عليه السلام قال: «إنّ أمير المؤمنين خطب الناس فقال في كلام ذكره: «حلال بيّن وحرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمي الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».(4)

ونظيره ما رواه في الوسائل عن الكراجكي في كتاب كنز الفوائد مسنداً عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «قال جدّي رسول الله صلي الله عليه واله: أيّها الناس حلالي حلال إلي يوم القيامة، وحرامي حرام إلي يوم القيامة، ألا وقد بينهما الله لا في الكتاب وبنتهما لكم في سنتي وسيرتي، وبيّنهما شبهات الشيطان وبِدع بعدي، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروِّته و عرضه، ومن تلبّس بها ووقع فيها واتّبعها كان كمن رعي غنمه قرب الحمي، ومن رعي ماشيته قرب الحمي نازعته نفسه إلي أن يرعاها في

ص: 177


1- الكافي 5: 12/ ح 3.
2- وسائل الشيعة 15: 162/ ح 20215.
3- الكافي 2: 455/ ح 8.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 75/ ح 5149.

الحمي، ألا وإنّ لكلّ ملك حمي، ألا وإنّ حمي الله عزّوجَل محارمه، فتوقّوا حمي الله ومحارمه»، الحديث.(1)

قوله عليه السلام : «ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدمان علي المعصية» والمراد بالمداهنة أمّا المساهلة للنفس، فتكون هذه الجملة تأكيداً للجملة السابقة، وأمّا ترك المناصحة والصدق وإظهار خلاف ما تضمر _ أعني النفاق _ وهو الأظهر.

ومنه الحديث القدسيّ لعيسي عليه السلام «قل لمن تمرّد عليّ بالعصيان وعمل بالادهان؛ ليتوقّع عقوبتي».(2) ومثله في حديث الباقر عليه السلام قال: «أوحي الله عزّوجَل إلي شُعيب النبي عليه السلام: إنّي معذّب من قومك مأة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ فأوحي الله إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(3).

***

قوله عليه السلام: «عباد الله إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه» وذلك لأنه لمّا كان مقصود الناصح بنصحه إيصال المنفعة إلي المنتصح، و كان أعظم المنافع وأجلّها هو السعادة الأبديّة والعناية السرمديّة المستفادة من طاعة الله، لاجرم كان أنصح الناس لنفسه أكثرهم طاعة لربّه.

***

قوله عليه السلام: «و إنّ أغشّ الناس لنفسه أعصاهم لربّه» والغشّ خلاف النصح، وهو عبارة عن عدم الخلوص وعن إظهار خلاف ما يضمر، ولما كان غرض الغاشّ من غشّه إيصال الضرر إلي المستغشّ، وكان أعظم المضار هو

ص: 178


1- وسائل الشيعة 27: 169/ ح 23515؛ بحار الأنوار 2: 260 - 261/ ح 17.
2- الكافي 8: 134.
3- الكافي 5: 56/ ح 1.

الشقاوة الأبديّة والعقوبة الدائمة الناشئة من عصيان الله، لا جرم كان أغشّ الناس لنفسه أكثرهم معصية لربّه.

وفي هاتين الجملتين من الأمر بالطاعة والتحذير عن المعصية مالا يخفي، إذ أحبّ المخلوقات إلي الانسان نفسه، فهو دائماً طالب لمحابّها ومنافعها، هارب عن مضارّها و مكارهها، فيلزم له الاتيان بالطاعة والحذر عن المعصية، لكون الأولي جالبة للمحبوب والأخري كاسبة للمكروه.

***

قوله عليه السلام: «والمغبون من غبن نفسه». أصل الغبن هو الخداع، فالغابن خادع والمغبون مخدوع، والغبن في البيع هو بيع الكثير بالقليل، ولمّا كانت الشهوات الدنيويّة واللذائذ العاجلة زهيدة قليلة في جنب الثمرات الأخرويّة والمنافع الآجلة، وكان المشتغل باللذّات الدنيّة والصارف عمره في الشهوات الخسيسة قد فوّت علي نفسه المنافع الكثيرة والنعم الخطيرة، فكأنّه قد باع الكثير بالقليل، وفوّت علي نفسه الخطير بالحقير، لاجرم كان هو غابناً لنفسه وخادعاً لها حيث بخسها ما تستحقّه من ثواب الله ورضوانه، ومنه قوله تعالي:

«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ».(1)

قال الطبرسي في تفسيره: هو تفاعل من الغبن، وهو أخذ شرٍّ وترك خيرٍ، أو أخذ خير وترك شرٍّ، فالمؤمن ترك حظّه من الدنيا وأخذ حظّه من الآخرة، فترك ما هو شرّ له وأخذ ما هو خير له فكان غابناً، والكافر ترك حظّه من الآخرة وأخذ حظّه من الدنيا، فترك الخير وأخذ الشرّ فيكون مغبوناً، فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون.(2)

ص: 179


1- التغابن: 9.
2- تفسير مجمع البيان (10): الآية 31.

ولمّا كانت السعادات الأخرويّة أنفس متاع لا متاع فوقه، والغبن فيها أعظم غين لا غبن مثله، لذلك حصر عليه السلام المغبون فيمن غبن في ذلك، وقال: «المغبون من غبن نفسه» علي طريق المبالغة، ومثله قوله عليه السلام: «والمغبوط من سلم له دينه» فإنّ سلامة الدين لمّا كانت أعظم نعمة لا نعمة فوقها، كان المنعم بذلك أحقّ بأن يغبط ويتمنّي مثل ما له من غير أن يريد زواله، وبهذا القيد تفترق الغبطة من الحسد.

***

قوله عليه السلام: «والسعيد من وُعظ بغيره» أي السعيد في الآخرة من لاحظ حال الغير فاتّعظ به، بأن ينظر إلي حال الصالحين ومالهم وما أعدّ الله لهم وبشّرهم به في كتابه الكريم، من الجنان والغلمان والحور العين والشراب من الكوثر والتسنيم، يحذو حذوهم ويسلك مسالكهم، ويلاحظ مصير المجرمين ومقرّهم وما هيّأ الله لهم وأنذرهم به من الجحيم وظلٍّ من يحموم وشراب من الزقوم والحميم، فيعدل عن جادّتهم ويتنحّي عن قدّتهم.

قوله عليه السلام: «و الشقّي من انخدع لهواه وغروره» كما قال سبحانه: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًي مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1) وقال أيضاً: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»(2) أي الخداع الذي لا حقيقة له، وهو المتاع الرديّ الذي يدلّس به علي طالبه حتّي يشتريه ثم يتبيّن له رداءته، والشيطان هو المدلّس.

مجالسة أهل المعاصي تسلب الإيمان:

قوله عليه السلام: «واعلموا أنّ يسير الرياء شرك، فكيف بكثيره، ومجالسة أهل الهوي منساة للايمان ومحضرة للشيطان» أراد بمجالسة أهل الهوي مجالسة أهل المعاصي إنّ كون مجالسة أهل المعصية ومخالطتهم موجبة لنسيان الايمان ولحضور الشيطان واضح،

ص: 180


1- القصص: 50.
2- آل عمران: 185؛ الحديد: 20.

لأنّ الفسّاق بإقبالهم إلي اللعب واللهو والفسق والفجور والسّيئآت بما فيهم من دواعي الهوي والشهوات يسوّد ألواح خاطرهم ويرين وجه قلوبهم فيغفلون بذلك عن ذكر الحقّ وتذكّر الآخرة، ويزيد الغفلة شيئاً فشيئاً ويشتدّ، فيخرج نور الايمان من قلوبهم ويضمحلّ ويمحو، ويحضر الشيطان في مجالسهم لإغوائهم وإضلالهم، فمن جلس معهم وخالطهم تكون المجالسة والمخالطة _ لا محالة _ مؤثّرة فيه، إذ المرء علي دين خليله وقرينه، فيقتدي بهم ويحذو حذوهم ويعمل عملهم، فيكون ناسي الايمان وقرين الشيطان.

أحاديث في النهي عن مجالسة أهل المعاصي:

ويدلّ علي ذلك الأخبار المستفيضة بل المتواترة، ففي الوسائل عن الكليني مسنداً عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله عليه السلام _ في حديث _ قال: ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلاّ حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين، فإن تكلّموا تكلمت الشياطين بنحو كلامهم، وإذا ضحكوا ضحكوا معهم، فإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم، فمن ابتُلي من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه، فإنّ غضب الله لا يقوم له شيء، ولعنته لا يردّها شيء، ثمّ قال: فإن لم يستطع فليُنكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة».(1)

وعن عمرو بن يزيد، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: المرء علي دين خليله و قرينه».(2)

وعن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام في حديث طويل: «إيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم».(3)

ص: 181


1- وسائل الشيعة 16: 263 ح 21520.
2- وسائل الشيعة 12: 48/ ح 15610.
3- الكافي 8: 16/ ح 2.

ومن كتاب صفات الشيعة معنعناً عن محمد بن قيس عن أبي جعفر، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: «مجالسة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار، ومجالسة الأخيار تُلحق الأشرار بالأخيار، ومجالسة الفجّار للأبرار تُلحق الفجّار بالأبرار، فمن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه فانظروا إلي خُلطائه، فإن كانوا أهل دين الله فهو علي دين الله، وإن لم يكونوا علي دين الله فلا حظّ لهم في دين الله، إنّ رسول الله صلي الله عليه وآله كان يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلايُواخينب كافراً ولا يخالطنّ فاجراً، ومن آخي كافراً وخالط فاجراً كان فاجراً كافراً».(1)

ولنعم ما قيل في هذا المعني:

عن المرء لا تسل وسَل عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن يقتدي(2)

ومن مجالس الشيخ حسن ابن شيخنا الطوسي قدس سرّهما مسنداً عن أبي الخير قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «أربعة مفسدة للقلوب: الخلوة بالنساء والاستمتاع منهنّ، والأخذ برأيهنّ، ومجالسة الموتي، فقيل: يا رسول الله وما مجالسة الموتي؟ قال: كلّ ضالّ عن الإيمان وجائر عن الأحكام»(3) والأخبار في هذا المعني كثيرة ولا حاجة إلي الزيادة.

***

قوله عليه السلام: «جانبوا الكذب فإنّه مُجانب للإيمان».

أراد بذلك أنّ كلاً من الكذب والإيمان مجانب من الآخر، وأنّ بينهما تباعداً وتجانباً، وذلك علي القول بكون الإيمان عبارة عن مجموع المعرفة وما يتبعها من الأعمال الصالحة واضح، لأنّ الصدق علي ذلك جزء للإيمان والكذب مضادّ له فيكون مضادّاً للإيمان، وأمّا علي كونه عبارة عن نفس

ص: 182


1- وسائل الشيعة 16: 265/ ح 21526.
2- منسوب إلي عدي. انظر فيض القدير للمناوي 3: 153.
3- وسائل الشيعة 16: 266/ ح 21530.

المعرفة، فلأنّ الإيمان من أعظم الفضائل المنجية، والكذب من أخسّ الرذائل المهلكة، والتباعد بين الفضيلة والرذيلة والإنجاء والإهلاك أيضاً ظاهر.

كما أشار عليه السلام إلي ذلك وأوضحه بقوله: «الصادق علي شفا منجاة وكرامة» أي علي طرف من النجاة والكرامة ومشارف عليهما، أو علي طرف من محلّ النجاة وقريب منها يكاد أن يقع فيها وفي الكرامة الدنيويّة والأخرويّة، «والكاذب علي شرف مهواة ومهانة» أي علي مكان عال من الهوي والهوان، أومشارف لمحلّ السقوط والذلّة يكاد أن يسقط منها إلي الجحيم ويقع في العذاب الأليم، قال الشاعر:

لا يكذب المرء إلاّ من مهانته *** أوعادة السوء أو من قلّة الأدب

لعفن جيفة كلب خير رائحة *** من كذبة المرء في جدٍّ وفي لعب(1)

***

الحسد وأثره النفسي:

ثمّ نهي عليه السلام عن الحسد بقوله: «ولا تحاسدوا» وهو من أعظم الموبقات، وعلّله بقوله: «فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النارُ الحطب» وهو أيضاً مضرّ بالنفس والجسد.

أمّا بالنفس فقد قال الصادق عليه السلام: «الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود، كإبليس لعنه الله أورث بحسده له اللعنة، ولآدم عليه السلام الاجتباء والهدي والرفع إلي محلّ حقائق العهد والأصطفاء، فكن محسوداً ولا تكن حاسداً، فإنّ ميزان الحاسد أبداً خفيف بثقل ميزان المحسود، والرزق مقسوم، فماذا ينفع الحسد الحاسد؟ وماذا يضرّ المحسود الحسد؟».(2)

ص: 183


1- شرح نهج البلاغة 6: 360 ولم ينسبه.
2- بحار الأنوار 70: 255 ح 23، نقلاً عن مصباح الشريعة.

إنّ الحسد يُذهل نفس الحاسد ويغرق فكره بالاهتمام بأمر المحسود حتّي لا يبقي له فراغ بتحصيل المنافع العائدة إليها، بل ويمحو ما حصلت لها من الملكات الخيرية والحسنات المنقوشة في جوهرها بطول تعوّد الحسد وتمادي اشتغال الفكر فيه وكثرة الحزن والهمّ، لأنّ نعم الله سبحانه علي عباده غير معدودة، و فيوضاته غير متناهية، فإذا كان حسد الحاسد علي الخلق بتلك الآلاء والنعم دام عليه الهمّ والغمّ، فيضيق وقته بل ينقطع عن إتيان الحسنات ويُلقي نفسه في المهلكات، وهو معني قوله عليه السلام: «إنّه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» أي يستأصله ويفنيه ويبطله مثل استيصال النار للحطب وإفنائها له.

وأمّا بالجسد فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: «صحّة الجسد في قلّة الحسد».(1) وسرّه أنّ الحسود إذا دام عليه الحزن والغمّ بتواتر الآلام والنعم علي المنعم أورث ذلك له طول السهر وتمادي الفكر وضيق العيش وضنك المعيشة وقلّة الراحة ومضيق الباحة، فينقطع عنه الابتهاج، ويؤدّي ذلك إلي فساد المزاج.

وجاء في المجلّد التاسع من حلية الأولياء ص 147: قال الشافعي محمد بن إدريس: الحسد إنّما يكون من لؤم العنصر، وتعادي الطبائع، واختلاف التركيب، وفساد مزاج البنية، وضعف عقد العقل، الحاسد طويل الحسرات عادم الدرجات.

الحسد ومنشؤه:

إنّ المداخل التي يأتي الشيطان من قِبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، والغضب والهوي؛ فالشهوة بهيميّة، والغضب سَبعيّة، والهوي شيطانيّة، فالشهوة آفة لكنّ الغضب أعظم منه، الغضب آفة لكنّ الهوي أعظم منه، فقوله تعالي: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ» المراد آثار الشهوة، وقوله «وَالمُنْكَرِ» المراد منه

ص: 184


1- بحار الأنوار 70: 256/ ح 28.

آثار الغضب، وقوله «وَالْبَغْيِ»(1) المراد منه آثار الهوي، فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب يصير الإنسان ظالماً لغيره، وبالهوي يتعدّي ظلمه إلي حضرة جلال الله تعالي، ولهذا قال صلي الله عليه وآله: الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم عسي الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يُغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يُترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، والظلم الذي عسي الله أن يتر كه هو ظلم الإنسان نفسه.(2) فمنشأ الظلم الذي لا يُغفر هو الهوي، ومنشأ الظلم الذي لا يُترك هو الغضب، ومنشأ الظلم الذي عسي الله أن يتركه هو الشهوة، ثمّ لها نتائج: فالحرص والبخل نتيجة الشهوة، والعجب والكبر نتيجة الغضب، والكفر والبدعة نتيجة الهوي، فإذا اجتمعت هذه الستّة في بني آدم تولّد منها سابع وهو الحسد، وهو نهاية الأخلاق الذميمة، كما أنّ الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانيّة بالحسد، وهو قوله: «وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ»(3) كما ختم مجامع الخبائث الشيطانيّة بالوسوسة، وهو قوله «يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»(4) فليس في بني آدم أشرّ من الحسد، كما أنّه ليس في الشياطين أشرّ من الوسواس، بل قيل: الحاسد أشرّ من إبليس، لأنّ إبليس رُوي أنّه أتي باب فرعون وقرع الباب، فقال فرعون: من هذا؟ فقال إبليس: لو كنتَ إلهاً لما جهلتني، فلمّا دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شرّاً منّي ومنك؟ قال:نعم الحاسد، وبالحسد وقعت في هذه المحنة. تفسير الرازي ج 1، ص 266، ط مطبعة البهيّة، مصر.

ص: 185


1- العنكبوت: 45.
2- أنظر: تحف العقول: 293؛ روضة الواعظين: 466.
3- الفلق: 5.
4- الناس: 3 و 4.

الحسد وعلله.. وآثاره:

أعظم الرذائل في المجموعة الإنسانية الحسد المتولّد من اقتران الطمع والبغض، فهذه الصفة متّصفة بالدناءة والتسفّل والخبث والحرص والنذالة والقحّة والاعوجاج والتحيّل كالطمع، وبالكبرياء والرياء والظلم والعتوّ كالبغض، ولا يكتفي الحسود بأن يشتهي كرامة غيره و اقتداره وماله، بل يشتهيها لزعمه أنّها ينبوع السعادة واللذّات، وكما يتمتّع بها لو حصلت له بدون نظر إلي القوانين الأدبيّة، هكذا يتمنّي الحصول عليها فيطلب الغني من البطالة، والاعتبار من السخافة، و يحتقر المراتب الطبيعيّة المتعلّقة بعلوّ مقام الإنسان في الهيئة الاجتماعيّة، فيحسد علي منصب أو علم أو اعتبار أو حذق أو براعة أو مال أو جمال، وهذا الهمّ الشديد شغل شاغل له ليلاً ونهاراً يحمله علي ترك فروضه اليوميّة التي لو اشتغل بها لألهاه ذلك عن هذه الوساوس الواخزة، ولا يرتضي بما قُسم له، ولا يرجو تغيّر ما هو عليه، يخجل من المخالطة، يضطرب بأمر المستقبل، يتيه في ظلام الفناء، ويرود كالثعلب الرواغ حول أموال الناس ومراتبهم التي يراها ويشتهيها ويري أنها لزيادة شقائه تنمو وينمو فيه معها الطمع، وحينئذ ينفتح للبغض في قلبه باب، فيري من الناس من يقاسون الشقاء والذلّ، ومن يتمتع بالمال والاعتبار سليماً آمناً، ويتبيّن له من البعض أنّهم يحولون بينه وبين مرامه ويضادّون ميله ويتجاوزون مقاصده ويجذبون إليهم نظر الجمهور.

الذي لا يبالي بذاك الحسود فينقلب الحال معه ويمسخ مسخاً ثانياً، وذلك أنّ المال أو الاعتبار الذي يطمع فيه ولم يقدر علي إيجاده وتحصيله بالشغل، له صاحب يحقّ له التمتّع به، فيصير عدوّاً له، وبالحريّ هو يصير لصاحب المال والاعتبار عدوّاً أزرق ألدّ أحمق، فينصبّ في تجاويف قلبه سمّ البغضاء علي سمّ الطمع، فلا يزال شاغلاً خاطره بالغني والجاه، فيمقت كلّ غني ووجيه، ويقابل بين نفسه وهؤلاء المتموّلين وأهل الاعتبار، فيتوهّم أنّه فوقهم فضلاً، فيحاول تبليغ ذلك إلي الناس، ويجتهد في إقناعهم أنّه أولي بالغني والاعتبار.

ص: 186

وبعض الناس _ كما هو معلوم _ يخبط في ظلام العسف خبطاً، فيخدع بظواهر الأمور ويجهل حقيقة التعقّل والحشمة والفضائل الحقيقية في إجمالها، وهذا الحسود يستعمل كلّ فنٍ وحيلة لسدل برقع الانخداع علي عيون معارفه، ويعطيه الحسد عقلاً ونشاطاً فيخطو في سبيل ضرر القريب أكثر ممّا خطا في سبيل تحصيل المال والاعتبار، فيذهب من مكان إلي مكان معذّباً بالأمر نفسه، يضرب أخماساً لأسداس، يتطلّب الحصول علي ثروة الناس أو مراكزهم بطرق المكر والاحتيال، وقد استولي علي تصوّره أنّه إذا أتلف عدوّه يحصل علي الغِني، وإذا خفض من شأنه ارتفعت منزلته، فيكون أوّل الاغراض التي يوجّه إليها سهام خبثه إهلاك عدوه قبل الحصول علي ثروته، ناسياً قول القائل:

أيا حاسداً لي علي نعمتي *** أتدري علي من أسأت الأدبْ

أسأتَ علي الله في حكمه *** لأنّك لم ترضَ لي ما وهب

فأخزاك ربّي بأن زادني *** وسدّ عليك وجوه الطلب

وصاحب هذه الرذيلة قلّما ينتهي إلي الغاية التي يقصدها، فيخدعه بغضه وطمعه، ولا يزال قلبه معذّباً بناره، قال الشاعر:

خِلّص فؤادك من غلٍّ ومن حسدٍ *** والغلّ في القلب مثل الغلّ في العنق(1)

وقالت العرب: داء الأسد أسلم من داء الحسد، وقالوا: الحسود غضبان علي القدر، وقالوا: ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش: الحقد والحسد وسوء الخلق، وقالوا: بئس الشقاء الحسد. وقال علي عليه السلام: «الحاسد مغتاظ علي من لا ذنب له».(2) وقال بعضهم: الحسد داءٌ منصف، يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود. وفي الحديث النبويّ: «قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه

ص: 187


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 318.
2- عوالي الليالي 1: 292 /ح 169؛ بحار الأنوار 70: 256/ ح 26 و 29.

فقتله».(1) وقالوا: يصل إلي الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلي المحسود: أوّلها غمّ لا ينقطع، ثانيها مصيبة لا يُؤجر عليها، ثالثها مذمّة لا يُحمد عليها، رابعها سخط الربّ، خامسها يغلق عنه باب التوفيق.

وإذا قابلنا الحسد مع سائر الرذائل وجدناه أقبحها، فإنّ البخيل يتمتّع بماله، والنهم يشبع من طعامه، وسائر الرذائل تجد ما يخمد قوّتها، وأمّا الحسد فلا يزال يشبّ ضرامه في فؤاد صاحبه ما دامت دواعي الحسد موجودة، كالنار لا تزال تلتهب ما دام الوقود يُطرح فيها، ومع ذلك لا يزال الحسود يري أنّه تنقصه أمور كثيرة و تؤلمه أخري، فينقصه الشبع والريّ، وتؤلمه جراح الوساوس وقهر فؤاده، فيكون ميّتاً في صورة حيّ، وتنغّص معيشته فيأكل بعضه بعضاً كالذئب يعيش من شحمه، و كالهرّ الذي يلحس المبرد وهو يلحس من دمه، قال الشاعر:

اصبر علي كيد الحسود *** فإنّ صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله(2)

فالحسد إذاً أخبث الأخلاق الرديئة، وبه كانت أول سقطة العالم العظمي في الخطيئة،وأوّل قتيل قُتل علي الأرض، الشيطان حسد آدم فأهبطه، وقابيل حسد هابيل فقتله.

علة قتل قابيل لأخيه هابيل:

وما جاء في بعض الأحاديث من أنّ قابيل قتل أخاه هابيل بسبب التزاوج لا صحّة له، وهو شبهة مغلوطة بعيدة عن الواقع ولا يتقبّلها الذوق، وإنّما التقاتل كان من أجل الوصيّة ومواريث النبوّة.

ص: 188


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 316.
2- بحار الأنوار 70: 258.

زعم بعض المؤرّخين علي أنّ سبب التقاتل بين الأخوين _ قابيل وهابيل _ أنّ كل واحد منهما تزوّج أخت الآخر، وأنّ شقيقة قابيل كانت أجمل من شقيقة هابيل، فأخذ قابيل من أجل ذلك الحسد علي هابيل فحقد عليه فقتله، ثمّ قالوا: وهذا أصل سلسلة البشر وينبوع الإنسانيّة، وهذا مُنافٍ لناموس الاجتماع وشرف الإنسانيّة، وإن صحّ هذا يكون وجود الخليقة من الزنا، يقول أبو العلاء المعري رداً علي هذا الزعم المغلوط.

إذا ما رأينا آدماً وفعاله *** وتزويجه بنتيه لابنَيه بالخنا

علمنا بأنّ الناس من أصل فاجر *** وأنّ جميع الخلق من عنصر الزنا

والقول السديد ما ورد عن أئمّة الهدي عليهم السلام، فقد روي الصدوق في علل الشرائع عن الصادق عليه السلام أنّه سُئل عن بدء النسل من ذرّية آدم عليه السلام وقيل له: إنّ عندنا أناساً يقولون: إن الله تعالي أوصي إلي آدم أن يزوّج بناته من بنيه، وأنّ هذا الخلق أصله كلّه من الأخوة والأخوات. فقال عليه السلام: سبحان الله وتعالي عن ذاك علوّاً كبيراً، يقول من يقول هذا أنّ الله جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورُسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم علي الحلال والطهر الطاهر الطيب، والله لقد نُبّئت أنّ بعض البهائم تنكّرت له أخته فلمّا نزي عليها ونزل كُشف له عنها وعلم أنّها أخته أخرج غرموله ثمّ قبض عليه بأسنانه و قلعه ثمّ خرّميتاً».(1)

وفي رواية أخري مايقرب من ذلك، مع أشدّ التأكيد في تحريم الأخوات علي الأخوة، وأنّه لم يزل كذلك في الكتب الأربعة المشهورة، وإنّ جيلاً من هذا الخلق رغبوا عن علم أهل بيوتات الأنبياء وأخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه، فصاروا إلي ما قد ترون من الضلال والجهل. إلي أن قال: ما أراد

ص: 189


1- علل الشرايع 1: 17/ ح 1، باب 17.

من يقول هذا وشبهه إلاّ تقوية حُجج المجوس، فمالهم قاتلهم الله. وساق الحديث إلي أن قال: إن الله أنزل لشيت بن آدم حوراء من الجنّة اسمها نزلة، وليافث بن آدم حوراء أخري اسمها منزلة، وأمر آدم أن يزوّج ولديه منهما، وولد الصفوة من النبيّين والمرسلين من نسليهما، ومعاذ الله أن يكون ذلك علي ما قالوا من الأمر للأخوة والأخوات.(1)

وروي العيّاشي في تفسيره عن الباقر عليه السلام أنّه قيل له: إنّ الناس يزعمون أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه، فقال عليه السلام: قد قال الناس ذلك، ولكن أما علمت أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قال: لو علمت أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه لزوّجت زينب من القاسم، وما كنت لأرغب عن دين آدم».(2)

وبالتالي إنّ سبب التقاتل هو أنّ الله تعالي أوحي إلي آدم عليه السلام أن يدفع مواريث النبوّة ومنصب الخلافة بعده إلي هابيل لاستعداده الفطريّ وعارضته القويّة، فحسده قابيل علي هذه الموهبة، وقال له: أنا أكبر منك سنّاً، فأنا أولي بالكرامة والوصيّة، فنازعه في ذلك، فأمرهما آدم عليه السلام بأمر من الله تعالي أن يُقرّبا قرباناً، فمن تُقبّل قربانه كان أولي بالموهبة، فرضيا بهذا الفرض، و كان هابيل صاحب ماشية وقابيل صاحب زرع، فقرّب هابيل كبشاً من أفضل غنمه، وقرّب قابيل من شرّ زرعه ما لم يكن ينقي، ثمّ صعدا فوضعا القربان علي الجبل، فأتت النار من السماء فاستولت علي قربان هابيل وتجنّبت قربان قابيل، فدخل قابيل الحسد والحقد لهابيل وبغي عليه، وقد أشار الجليل جلّ وعلا إلي هذه الفذلكة بقوله «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ»(3) الآية، فسوّل له إبليس قتله فقال له: والله لأَقتلنّك. فقال هابيل:

ص: 190


1- علل الشرايع 1: 18 - 20/ ح 2، باب 17.
2- تفسير العيّاشي 1: 312/ح83.
3- المائدة: 27.

«إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ»(1) فلم يدر كيف يقتله، فتراءاله إبليس فقال له: ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه، فلمّا أجري هذه العملية ورآه قتيلاً وقف متحيّراً لم يدرِ ما يصنع به بعد القتل، فبعث الله غرابين فأقبلا يقتتلان أمامه حتّي قتل أحدهما صاحبه، فعمد الحيّ إلي القتيل فحفر له بمخالبه في الأرض حفرة ثمّ طرحه فيها و واراه في التراب حتّي أخفي أثره، فقال قابيل عند منظره ومشاهدته هذا الصنع من الغراب «يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ»(2) ندم الحيرة ورقّة الطبع، فحفر له عند ذلك حفرة كما شاهد الغراب وقبره.

وبالتالي لم يكن شيء أمحق للإيمان من الحسد ولا أهتك للستر منه، وذلك أنّ الحاسد معاند لحكم الله، باغ علي عباده، عاتٍ علي ربّه، يعدّ نعم الله نقماً، وعدل قضائه حيفاً، للناس حال وله حال، لا يهدأ ليله، ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه.

قال بعض الحكماء عن الحاسد: واعجباه لرجل أسلكه الشيطان مهاوي الضلالة وأورده قحم الهلكة، فصار لنعم الله تعالي بالمرصاد، إن أنالها من أحبّ من عباده أشعر قلبه الأسف علي ما لم يقدر له، وأغار الكلف بما لم يكن يناله.

وفي الحديث النبويّ: «إنّ لنعم الله أعداءٍ، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال الذين يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله».(3)

وقال صلي الله عليه وآله: «إنّ الله تعالي أوحي إلي موسي عليه السلام : يابن عمران لا تحسد الناس علي ما آتيتُهم من فضلي، ولا تمدّنَّ عينيك إلي ذلك ولا تتبعه نفسك،

ص: 191


1- المائدة: 27 - 30.
2- المائدة: 31.
3- بحار الأنوار 70: 256/ ح 26.

فإنّ الحاسد ساخط لنعمي، صادّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي، ومن كان كذلك فلستُ منه وليس منّي».(1)

وعن معاوية بن وهب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: « آفة الدين الحسد

والعجب والفخر».(2)

وعن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط».(3)

وعن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إنّ الرجل ليأتي بأدني

بادرة فيكفر، وإنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».(4)

وفي الوسائل من المجالس مسنداً عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: «أصول الكفر ثلاثة: الحرص، والاستكبار، والحسد».(5)

وفي الأنوار النعمانيّة للسيّد المحدّث الجزائري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم:

«ستّة يدخلون النار قبل الحساب بستّة: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجّار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة، والعلماء بالحسد».(6)

ومع ذلك فإنّ الحسد من دواعي نشر الفضائل المطوية وزيادة في فضل صاحبها، إذ تتّجه إليه الأعين و تعرف حقيقة استحقاقه، قال الشاعر:

وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طُويت أتاح لها لسانَ حسودِ(7)

ص: 192


1- الكافي 2: 307/ ح6.
2- الكافي 2: 307/ ح5.
3- الكافي 2: 307، ح 7.
4- الكافي 2: 306/ ح 1.
5- وسائل الشيعة 15: 367/ ح 20765.
6- رواه المجلسي في البحار 73: 156.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 316.

علي والحاسدون:

إنّ أعداء علي عليه السلام أخفوا فضائله حسداً و كتموا مناقبه حقداً، ومع ذلك فقد كانت تنطق بها ألسنتهم، وتنقل من أفواههم، وتدوّن بأقلامهم وتنشر بإرادتهم، لما جعل الله لعلي عليه السلام من الكرامة العالية والفضائل التي لم تكن لغيره من مخلوق الله عدا النبي صلي الله عليه وآله.

***

يقول السيّد الرضي:

علامة العزّ أن حُسدت به *** إنّ المعالي قرائن الحسد

***

ويقول الشيخ محمّد علي الحلي الشفهيني:

يا من إذا عُدّت مناقب غيره *** رجحت مناقبُه وكان الأفضلا

إنّي لأعذر حاسديك علي الذي *** أولاك ربُّك ذو الجلال وفضّلا

إن يحسدوك علي عُلاك فإنّما *** متسافل الدرجات يحسد مَن علا(1)

***

وقال الشيخ هاشم الكعبي:

إنّي لأعذر حاسديك علي العُلا *** وعلاك عذري لو عذرت حسودا

فليحسد الحسّاد مثلك إنّه *** شرف يزيد علي المدي تجديدا

ما أنصفتك عصابةٌ جهلتك إذ *** جعلت لذاتك في الوجود نديدا

***

وقال مهيار الديلمي:

ص: 193


1- انظر الغدير 6: 388.

ألا سَل قريشاً ولُم منهمُ *** من استوجب اللوم أو فَنّدِ

وقل: ما لكم بعد طول الضلال *** لم تشكروا نعمة المرشد

أتاكم علي فترة فاستقام *** بكم جائرين عن المقصد

وولّي حميداً إلي ربّه *** ومن سنّ ما سنّه يحمد

ومن جعل الأمر من بعده *** لحيدر بالخبر المسند

وسمّاه موليً بإقرار مَن *** لو اتّبع الحقّ لم يَجحَدِ

فمِلتم بها حسد الفضل عنه *** ومن يكُ خيرَ الوري يُحسَدِ(1)

وسُئل محمد بن إدريس الشافعي عن علي عليه السلام قال: ما أقول في شخص أخفي أعداؤه فضائله حسداً له، وأخفي أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً علي أنفسهم، وظهر فيما بين هذين فضائل طبقت الشرق والغرب»(2) فأخذ الشاعر هذا المعني ونظمه وسبكه سبكاً لطيفاً فقال:

لقد كتمت آثار آل محمّد *** محبّوهمُ خوفاً وأعداؤهم بُغضا

وقد شاع من بين الفريقين نبذة *** بها ملأ الله السموات والأرضا(3)

***

أجل لقد كانت مزايا علي عليه السلام تظهر علي ألسنة أعدائه وشانئيه، فمن ذلك ما كان معاوية يتفوّه وينطق به، وهو أعدي عدوٍّ لعلي عليه السلام والمؤسّس للسبّ عليه علي المنابر وفي الصلوات الخمس.

معاوية ينطق بالحق:

ذكر المؤرّخ ابن قتيبة في كتابه (الإمامة والسياسة) أنّ محجن إبن أبي محجن

ص: 194


1- انظر الغدير 4: 241.
2- ذكره العلامة الحلّي في كشف اليقين: 4، ونسبه إلي بعض الفضلاء، ونسبه المحدّث القمّي في الكني والألقاب 2: 350 إلي الشافعي.
3- نسبه المحدّث القمّي في الكني والألقاب 2: 350 إلي السيد تاج الدين العاملي.

الثقفي قدم علي معاوية فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أتيتك من عند العيّي الجبان البخيل ابن أبي طالب. فقال له معاوية: لله أنت أتدري ما قلت ؟! أما قولك «العيّي» فو الله لو أنّ ألسن الناس جُمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان علي، وأمّا قولك إنّه جبان، فثكلتك أمك، هل رأيتَ أحداً قطّ بارزه إلاّ قتله؟ وأمّا قولك «البخيل»، لو كان له بيتان أحدها من تِبر والآخر من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. فقال له: فعلام تقاتله إذاً؟ قال: علي دم عثمان وعلي هذا الخاتم الذي من جعله في يده جازت طينته وأطعم عياله وادّخر لأهله. فضحك الثقفي ثمّ لحق بأمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين هَب لي يدي بجرمي، لا دنيا أصبتُ ولا آخرة. فضحك علي وقال له: أنت منها علي رأس أمرك، وإنّما يأخذ الله العباد بأحد الأمرين.(1)

***

جاء في المجلّد التاسع من حلية الأولياء ص 145، ط مطبعة السعادة بمصر:

عن محمد بن إدريس الشافعي: قال: دخل رجل من بني كنانة علي معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: هل شهدت بدراً؟ قال: نعم. قال: مثل من كنت؟ قال: غلام قمدود مثل عطباء الجلمود، قال: فحدّثني ما رأيت وحضرت، قال: ما كنّا إلا شهوداً كأغياب، وما رأينا ظفراً كان أوشك منه، قال: فصِف لي ما رأيت. قال: رأيت في سرعان الناس علي بن أبي طالب غلاماً شاباً ليثاً عبقريّاً يفري الفري، لا يثبت له أحد إلاّ قتله، ولا يضرب شيئاً إلاّ هتكه، لم أر من الناس أحداً قطّ أنفق منه، يحمل حملة ويلتفت التفاتة كأنّه ثعلب روّاغ، و كأنّ له عينين في قفاه، و كأنّ وثوبه وثوب وحش يتبعه رجل، مُعلم بريش نعامة، كأنّه جمل يحطم يبساً، ولا يستقبل شيئاً إلا هدَّه، ولا يثبت له شيء إلاّ ثكلته أمه، شجاع أبله يحمل بين يديه ولا يلتفت وراءه. قال: فرأيت ماذا؟ قال: رأيت

ص: 195


1- الإمامة والسياسة 1: 134.

ما وصفتُ لك، ورأيت جدّك عتبة وخالك الوليد حين قُتلا، ورأيت ما وصفت لمن حضر من أهلك لم يعف عنه، قال: فكنت في المنهزمين؟ قال: نعم قال: لمّا انهزمت عشيرتُك فأين كنت منهم، قال: لمّا انهزمت كنت في سرعانهم، قال: فأين رحت؟ قال: ما رحت حتّي نظرت إلي الهضاب، قال: لقد أحسنت الهرب، قال: فعلي ما احتسبه أبوك، وبعده ما اتّعظت بمصرع كمصرع جدك و خالك وأخيك، قال: إنّك لغليظ الكلام، قال: إني ممّن يضر. قال: إنّكم تبغضون قريشاً، قال: أمّا من كان منهم أهله فنبغضه، قال: ومن الذين هم أهله؟ قال: من قطع القراية واستأثر بالفيء وطلب الحق فلمّا أعطيه منعه، قال: مافيكم خير من أن يسكت عنكم، قال: ذاك إليك، قال: قد فعلت. قال: قد سكتّ.

ونظير هذه القصة أنّه أهديت لمعاوية هدية مثمنة و كان عنده عمرو بن العاص وولده يزيد لعنه الله، فتطاولت أعناقهما إليها ورامها كلّ منهما لنفسه، فأدرك معاوية ما بأنفسهما، فقال: ليقل كلّ منّا بيتاً من الشعر، فمن كان شعره أجود فهي له، ولنجعل موضع النظم علي بن أبي طالب، ثمّ ابتدأهم معاوية فقال:

خير البرية بعد أحمد حيدرٌ *** فالناس أرضٌ والوصيُّ سماءُ

فقال يزيد:

كمليحةٍ شهدت لها ضرّاتُها *** والحسن ما شهدت به الضرّاءُ

فقال ابن العاص:

ومناقب شَهِد العدوُّ بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداءُ

فاستحقّها عمرو، فأخذ وانصرف.

***

واستمرّ الحسد لعلي عليه السلام في سلسلة الأمويين وأتباعهم، إلاّ أنّ بني أميّة أشدّ وأحرّ حسداً.

ص: 196

أعرابي يمدح علياً عليه السلام في مجلس الوليد:

ذكر العلاّمة المجلسي قدس سرّه في مجلّد 11في البحار ص 63 من الطبعة الأولي في أحوال الإمام الباقر عليه السلام أنّ الخليل بن أحمد العريضي قال: حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وقد اسحنفر _ أي تحامل _ في سب عليّ واثعنجر _ امتلأ غيظاً _ في ثلبه، إذ خرج عليه أعرابي علي ناقة له وذفراها(1) يسيلان لإغذاذ السير دماً،(2) فلمّا رآه الوليد لعنه الله في منظرته قال: ائذنوا لهذا الإعرابي فإنّي أراه قد قصدنا، وجاء الأعرابي فعقل ناقته بطرف زمامها ثمّ أذن له بالدخول فدخل فأورده قصيدة لم يسمع السامعون مثلها جودة قطّ، إلي أن انتهي إلي قوله:

ولمّا أن رأيت الدهر آلي *** عليَّ ولحّ في إضعاف حالي

وفدتُ إليك أبغي حسن عُقبي *** أسد بها خصاصات العيال

وقائلة إلي من قد رآه *** يؤمّ ومن يُرجّي للمعالي

فقلت إلي الوليد أؤمّ قصداً *** وقاه الله من غِير الليالي

هو الليث الهصور شديد بأسٍ *** هو السيف المجرّد للقتال

خليفة ربّنا الراعي علينا *** وذو المجدِ التليد أخو الكمال

قال: فقبل الوليد مدحته وأجزل عطيّته وقال له: يا أخا العرب قد قبلنا مدحتك وأجزلنا صلتك، فاهجِ لنا علياً أبا تراب. فوثب الأعرابي لمّا سمع يتهافت قطعاً ويزئر حنقاً ويَشمَذِرُ شفقاً وقال: والله إنّ الذي عنيته بالهجاء لهو أحقّ منك بالمديح، وأنت أولي منه بالهجاء، فقال له جلساؤه: اسكت نزحك الله (أي أبعدك) قال: علام ترجوني وبم تبشّروني ولمّا أبديت سقطاً ولا قلت شططاً ولا ذهبت غلطاً، علي أنّني فضّلت عليه من

ص: 197


1- ذفراها: العظم خلف الأذن، أنظر: الصحاح / الجوهري: 2/ 663.
2- السير دماً: سرعة السير، أنظر: لسان العرب: 501/3.

هو أولي منه بالفضل علي بن أبي طالب الذي تَجَلْبَبَ بالوقار ونبذ الشنار،(1) وعاف(أي كره) العار، وعهد الانصاف وأبدي الأوصاف وحصن الأطرف وتَألَّفَ الأشراف، وأزال الشكوك في الله بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم الذي نزل به الناموس (أي الملك) وحياً من ربّه، ولم يَفتَر طرفاً ولم يصمت اَلِفاً ولم ينطق خُلفاً، الذي شرفه فوق شرفه وسَلَفُهُ في الجاهلية أكرم من سلفه، لاتُعرف المأدُبات في الجاهلية إلاّ بهم، ولا الفضل إلاّ فيهم، صفة من اصطفاها الله واختارها، فلا يغترّ الجاهل بأنّه قصد عن الخلافة بمثايرة من ثابر عليها و جالد بها والسّلالِ المارقة والأعوان الظالمة.

ولئن قلتم ذلك كذلك، إنّما استحقها بالسبق تالله ما لكم الحجّة في ذلك، هلاّ سبق صاحبكم إلي المواضع الصعبة والمنازل الشعبة والمعارك المرّة كما سبق إليها علي بن أبي طالب الذي لم يكن بالقبعة ولا الهبعة ولا مضطغناً إلي الله ولا منافقاً رسول الله، كان يدرء عن الإسلام كلّ أصبوحة، ويذبّ عنه كلّ أمسية، ويلج بنفسه في الليل الديجور والمظلم الحلكوك مرصداً للعدوّ، هوذل(2) تارةً وتضكضك(3) أخري، وياربّ لزَبَةٍ (أي شدة) آتية قِسَيّة و أوانٍ آن أرونان(4) قذف بنفسه في لهواتٍ وشيجة وعليه زغفَةُ(5) ابن عمه الفضفاضة، وبيده خِطّيَةٌ عليها سنانُ لَهذَمٍ(6) فبرز عمرو بن عبدود القَرِم الأوِد والخصم الألد والفارس الأشدّ علي فرسٍ عنجوج(7) كأنما نجر نجرةً باليلنجوج،(8) فضرب

ص: 198


1- الشنار: العيب والعار. لسان العرب: 4/ 430.
2- هوذل في مشيه: أسرع.
3- تضكضك: انبسط وابتهج.
4- أرونان: يوم صعب.
5- الزعفة: الدرع.
6- اللهذم: القاطع.
7- العنجوج: جياد الخيل.
8- اليلنجوج: أي العدو الذي يتبختر.

قونسه(1) ضربة قنع منها عنقه، أو نسيتم عمرو بن معدي كرب الزبيدي إذ أقبل يسحب ذلاذل درعه مدلاّ بنفسه، قد زحزح الناس عن أماكنهم ونهضهم عن مواضعهم ينادي: أين المبارزون يميناً وشمالاً؟ فانقضّ عليه كسودنيق أو كصيخورة منجنيق فوقصه وقص القطام بحجر الحمام وأتي به إلي رسول الله كالبعير الشارد يُقاد كرهاً وعينه تدمع وأنفه ترمع وقلبه يجزع.

هذا و كم له من يوم عصيب برز فيه إلي المشركين بنيّة صادقة وبرز غيره وهو أكشف أميل _ أي جبان _ أجمّ أعزل، ألا وإنّي مخبركم بخبر علي، إنه مُني بأوباش كالمراطة بين الغموط(2) وحجابة وفقامة، ومغذمرٌ(3) حملت به شَوهاً شهواء في أقصي مهيلها، فأتت به محضاً محياً و كلهم أهون علي علي من سعدانة بقل، أفمثل هذا يستحقّ الهجاء وعزمه الحاذق وقوله الصادق وسيفه الفالق، وإنّما يستحق الهجاء من سامه إليه وأخذ الخلافة وأزالها عن الوارثة، وصاحبها ينظر إلي فيئه و كأن الشبادع(4) تلسبه، حتّي إذا لعب بها فريق بعد فريق وخريق بعد خريق، اقتصروا علي ضراعة الرهز(5) وكثرة الأبز(6) ولو ردّوه إلي سَمت(7) الطريق والمِرت(8) البسيط والتامور(9) العزيز ألفوه قائماً واضع الأشياء في مواضعها، لكنّهم انتهزوا الفرصة واقتحموا الغصّة وباؤوا بالحسرة.

ص: 199


1- قونسه: أي البيضة.
2- لغموط: قليل الحياء.
3- مغذمر: أي الغضب.
4- الشبادع: العقارب.
5- الرهز: الوطئ والدفع، تاج العروس: 91/4.
6- في لسان العرب: 5/ 304: الأبرز: الوثوب... والأباز: الوثاب.. والأباز: القفاز.
7- سَمت: أي الحسن.
8- المِرت: المفازة.
9- التامور: الوعاء.

قال: فاربدّ وجه الوليد وتغيّر لونه وغصّ بريقه وشرق بعبرته كأنما فُقئ في عينه حبّ المض الحاذق، فأشار عليه بعض جلسائه بالإنصراف وهو لا يشكّ أنّه مقتول به، فخرج فوجد بعض الأعراب الداخلين فقال له: هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وآخذ خلعتك السوداء و أجعل لك بعض الجائزة حظّاً؟ ففعل الرجل وخرج الأعرابي فاستوي علي راحلته وغاص في صحرائه وتوغّل في بيدائه واعتُقل الرجل الآخر فضُرب عنقه وجيء به إلي الوليد، فقال: ليس هو، هذا صاحبنا، وأنفذ الخيل السراع في طلبه فلحقوه بعد لأي، فلمّا أحسّ بهم أدخل يده إلي كنانته يُخرج سهماً سهماً يقتل به فارساً بعد فارس، إلي أن قتل من القوم أربعين وانهزم الباقون فجاؤوا إلي الوليد فأخبروه بذلك، فأغمي عليه يوماً وليلة أجمع، فلما أفاق قيل له: ما تجد؟ قال: أجد علي قلبي غمّة كالجبل من فوت هذا الإعرابي».

من وصية له إلي ولده الحسن عليهما السلام:لأعرابي يمدح عليا في مجلس معاوية:

وروي العلاّمة المجلسي قدس سرّه أيضاً في المجلّد 8 من البحار ص 585، ط الأولي أنّه دخل أعرابي علي معاوية وعنده أهل الشام ليس فيهم غيرهم، ومعاوية يكلّمهم ويقول لهم: يا أهل الشام قد عرفتم حبّي لكم وسيرتي فيكم، وقد بلغكم صنيع علي بالعراق وتسويته بين الشريف وبين من لا يُعرف قدره. فقال رجل منهم: لا يهد الله ركنك، ولا يعدمك ولدك، ولا يرينا فقدك.

قال: فما تقولون في أبي تراب؟ فقال رجل منهم ما أراد، ومعاوية ساكت وعنده عمرو بن العاص ومروان بن الحكم، فتذاكرا علياً بغير الحقّ، فوثب الأعرابي من آخر المجلس فقال: يا معاوية تسأل أقواماً في طغيانهم يعمهون، اختاروا الدنيا علي الآخرة، والله لو سألتهم عن السنّة ما أقاموها، فكيف يعرفون علياً وفضله، أقبل عليَّ أخبرك ثمّ لا تقدر أن تُنكر أنت ولا من عن يمينك، يعني عمرو بن العاص.

ص: 200

هو والله الرفيع جاره، الطويل عماده، دمّر الله به الفساد، وأباد به الشرك، ووضع به الشيطان وأولياءه، وضعضع به الجور، وأظهر به العدل، ونطق زعيم الدين. وأطاب المورد، وأضحي الداجي، وانتصر به المظلوم، وهدم به بنيان النفاق، وانتقم به من الظالمين، وأعزّ به المسلمين، كريح رحمةٍ أثارت سحاباً متفرّقاً بعضه إلي بعض حتّي التحم واستحكم فاستغلظ فاستوي، ثمّ تجاوبت نواتقه، وتلألأت بوارقه واسترعد خرير مائه، فأسقي وأروي عطشانه، وتداعت جنانه، واستقلّت به أركانه، واستكثر وابله، ودام رزانه، وتتابع مهطوله، فرويت البلاد واخضرّت وأزهرت، ذاك علي بن أبي طالب سيّد العرب وإمام الأمّة وأفضلها وأعلمها وأجملها وأحكمها، أوضح للناس سيرة الهدي بعد السعي في الردي، وهو والله إذا اشتبهت الأمور وهاب الجسور واحمرّت الحدق وانبعث الفلق وأبرقت البواتر، استربط عند ذلك جاشه وعُرف بأسه، ولاذ به الجبان الهلوع فنفّس كربته وحمي حمايته، مستغنٍ برأيه عن مشورة ذوي الألباب، برأي صليب وحلمٍ أريب مجيب للصواب مصيب. فأمسك القوم جميعاً، وغضب معاوية لعنه الله وقال: أخرجوه، فأخرجوه من المجلس سحباً.

***

ص: 201

ص: 202

من وصية له الي ولده الحسن عليهماالسلام:في محبّة الآخرين والنهي عن الظلم والعجب

اشارة

«يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيما بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَ اكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَ لاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَ لاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ»(1)

***

الشرح:

في رسائل الإمام علي عليه السلام وفي عهوده ووصاياه، وفي خطبه وسائر أقواله روائع خالدة تناولها من الإنسان جواهر وغاية، ومن الكون معني وشكلاً، ومن أحوال زمانه وأحداث عصره، ودفعها عقله الحكيم إلي خياله وقلبه حقائق علميّة خالصة، فإذا بها لا تمرّ علي خياله الخصب وعاطفته الحارّة إلاّ لتتحرّك وتنحو وتنبعث وفيها امتدادات ونبض و خفوق، فما هي إلاّ حياة من الحياة. وإنّها لتراث عظيم للإنسانيّة، بوصفها دستوراً جليلاً في الأخلاق الخاصّة والعامّة لا تسمو عليه دساتير الأنبياء والمفكّرين والحكماء في مختلف العصور والأمكنة.

ونلفت النظر هنا بصورة خاصّة إلي فقرات هذه الوصيّة النيّرة، إلي ما

ص: 203


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 84 ط مكتبة المرعشي النجفي - قم

يبدو فيها من الآثار العلويّة من دعوة إلي السلم والمؤاخاة، والتصافي في سبيل الإنطلاق إلي الميادين الإنسانيّة الرحبة، وفي سبيل إكرام الحياة واحترام الأحياء، وإنّه ليجدر بمثيري الحروب اليوم ومسبّبي ويلات الشعوب والأفراد أن يسمعوا كلمات جبّار الفكر العربي علي بن أبي طالب عليه السلام ويعوها ويُطأطئوا رؤوسهم لصاحبها العظيم، وإليكم بعض روائعه في هذا الفصل.

نفسك ميزانك:

قوله عليه السلام: «يا بُنيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبِب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها».

يريد عليه السلام أن يكون ولده المحبوب علي أقسط حال مع من يألف معه ويكتنف به، فإنّ أوسط ما يلمّ به الإنسان في حلّه ومرتحله هو نفسه، فإذا جعل نفسه ميزاناً بينه وبين غيره، فبطبع الحال أنّه لا يروقه إلا الخير والصلاح العام لمن أشير إليهم.

وهنالك مغازٍ شريفة أخلاقيّة ألمح إليها عليه السلام من انتهاء ذلك إلي الغاية القصوي من مكارم الأخلاق؛ لأنّ الإنسان إذا علم منه أن يحبّ لأمته ما يحبّه لنفسه، فإنّ هناك مجلبة الحبّ الصميم ومدعاة الإخاء المتواصل.

هل يستطيع إنسان أن يعمل بهذا الحديث الشريف «لا يؤمن أحدكم حتي يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه»(1) ومن الذي ينظر إلي نفسه بالعين التي ينظر بها إلي غيره ويساوي بين أعزّ الناس عليه وبين من لا يمتّ إليه بصلة؟ إن الحبّ لا يُصنع باليد، ولا يهبط علي القلب من السماء، بل له بواعث وأسباب خاصّة لا تّتصل بالإرادة والاختيار، إنّ كثيراً من الأغنياء ينفقون من أموالهم علي الخير ولا يحبّون أن يموت أحد من الجوع، ولكن لم تبلغ بهم الرحمة والانسانيّة أن يحبّوا لغيرهم ما يحبّونه لأنفسهم، إذ مهما كان قصد الغنيّ شريفاً، ومهما رغب

ص: 204


1- سنن ابن ماجة 1: 26/ ح 66؛ منية المريد للشهيد الثاني: 190.

في الخير، فإنّه لا يحبّ لأحد ما يحبّه لنفسه، والذي يعمل بهذه النصيحة _ من

حيث يشعر أو لا يشعر _ هو الفقير الذي لا تصلح حاله إلاّ بصلاح المجتمع،

ولا يستطيع أن يتعلّم أو يتطبّب ويعمل إلاّ إذا كان كلّ من العلم والطبّ والعمل مضموناً لكلّ فرد علي السواء ودون استثناء، وعلي هذا فمعني الحديث هو النهي عن الاستغلال والطمع، والأمر بالتعاون والتعاضد علي تحقيق العدالة الإجتماعيّة، وإنّ الله لا يأمر بالحبّ ولا ينهي عن البغض، وإنّما يأمر الإنسان أن يكون في عون أخيه الإنسان وبرّه ومناصرته التي تبعث علي الحبّ، وينهي عن خذلانه واستعباده والاعتداء علي حريّته التي توجب البغض.

قوله عليه السلام: «ولا تَظلِم كما لا تحبّ أن تُظلَم، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وأرضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك».

هذه جمل شريفة لذات ما تقدّم به عليه السلام من مكارم الأخلاق و موجبات الفضائل ومقوّمات عالم الاجتماع، فهي _ كما أسلفناه _ ممّا تقمع جذور والظلم وتكسح جذومه، وتقيم قوائم الاحسان وترسّخ قواعده وتسدّد الأمت والأود ممّا يستقبحه الإنسان من نفسه ومن كلّ أحد. وأمر عليه السلام أن يتّخذ ولده البارّ نفسه مقياساً لما يرتضيه لأيّ إنسان من المحتّم أن يعاشره ويرعي الصلة بين نفسه وبينه.

وقوله عليه السلام: «ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم».

هذا أيضاً تعليم راقيٍ للإنسان الكامل، فإنّه عليه السلام كان يربأ بمن سمع قيله ووعي عظته أن يكون مهذاراً يلهج بما لا يعنيه، فتفضحه فيما يقول أكذوبته، ويقعد به عن مرتقي الكمال مينه، وقد أدمج في هذا النصح الأبويّ نصيحة أخري، فأشار إليه بما هو مزيج نفسيّته الكريمة من التنازل عن الخيلاء ومساقط الكبر بالاعتراف بقلّة ما عنده من العلم، لا سيّما إذا اتّخذ من العلم الربوبيّ مقياساً لما عنده من المعارف، وتتمّة هذه النصيحة هو قوله: «ولا تقل ما لا تحبّ

ص: 205

أن يُقال لك» التي هي لدة صويحباتها في نواميس عالم الاجتماع ومن متمّمات الإلفة و موجبات الإخاء، لاسيّما إذا عرف المجتمع أنّه غير خادش للعواطف الانسانيّة ولا مضيّع للحقوق البشريّة. فهم يصافونه في السرور والعلانية، ويُلقون إليه من أفلاذ أكبادهم ومايغالون به ولا يرخصون، فهو حبيب كلّ من يعرفه بهذه الصفة، وكذلك في كلّ من يتحلّي بما هنالك من ضرائب حميدة وطقوس تروق المجتمع في الحلّ والمرتحل.

***

العجب آفة نفسية

قوله عليه السلام: «إنّ الإعجاب ضد الصواب و آفة الألباب».

أشار عليه السلام إلي وخامة العُجب المضادة لكمال النفس، وأنّه ضدّ الصواب، ولمّا كان الصواب هو سلوك طريق الله باستجماع مكارم الأخلاق، وكان الإعجاب من رذائل الأخلاق، كان مضادّاً للصواب مضادّة الرذيلة للفضيلة، وبأنّه آفة للعقول، إذ هو من أكبر أمراض العقل و آفاته المهلكة، كما أشار إليه الرسول صلي الله عليه وآله : بقوله: «ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوي متبع، وإعجاب المرء بنفسه».(1)

فإنّ المعجب بمالديه يجعجع به الحال عن تحرّي مراقي السعادة والتقدّم، بحسبان أنّ ما عنده وافٍ لما ينبغي أن يتحرّاه من مناهج الأمور، فيبقي عاطلاً لا يجد وسيلة إلي التقدّم، ويكون منتهي أمره الخسران، ومقتبل مصيره الفشل، وهنا يستيقن أنّ الإعجاب ضدّ الصواب و آفة الألباب، لملازمته الخمود في العقل والخمول للنظر في صالح النفس، وأيّ سقوط أحطّ من هذا، وأيّ تدهور أوضع منه؟

نظر المهلّب بن أبي صفرة _ أيّام إمرته في البصرة _ إلي شاب معجب

ص: 206


1- الخصال للصدوق: 84/ ح 11؛ وسائل الشيعة 1: 102/ ح 245.

بنفسه يمشي الخيلاء، فقال له: يا بني أعدل عن سيرك هذا، فانزعج الشاب وقال اله:أتعرفني من أنا؟ قال: نعم أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت ما بينهما تحمل العذرة.(1)

قصيدة إيليا أبي ماضي:

يقول إيليا أبو ماضي من شعرياته:

نسي الطينُ ساعةً أنّه طينٌ *** حقيرٌ فصال تيهاً وعربدْ

وكسا الخزُّ جسمه فتباهي *** وحوي المالَ كيسُه فتمرّد

يا أخي لا تَمِل بوجهك عني *** ما أنا فحمة ولا أنت فرقد

أنت لم تصنع الحرير الذي تلبس *** ولا اللؤلؤ الذي تتقلّد

أنت لا تأكل النضار إذا جعتَ *** ولا تشرب الجمان المنضّد

أنت في البردة الموشّاة مثلي *** في كسائي الرديم تشقي وتسعد

لك في عالم النهار أمانٍ *** ورؤي والظلام فوقك محتد

ولقلبي كما لقلبك أحلام *** حسانٌ فإنّه غير جلمد

أأمانيّ كلّها للتلاشي *** وأمانيك للخلود المؤكّد

أأماني كلّها من ترابٍ *** وأمانيك كلّها من عسجد

لا فهذي وتلك تأتي وتمضي *** كذويها وأيّ شيء يؤبّد

أيّها المزدهي إذا مسّك السقم *** ألا تشتكي ألا تتنهّد؟

وإذا راعك الحبيب بهجرٍ *** ودعتك الشكوي ألا تتوجّد؟

أنت مثلي يهشّ وجهُك للنُّعمي *** وفي حالة المصيبة يكمد

قمرٌ واحد يطلّ علينا *** وعلي الكوخ والبناء الموطّد

ص: 207


1- تفسير القرطبي 18: 294 - 295.

إن يكن مشرقاً لعينيك إنّي *** لا أراه من كُوة الكوخ أسود

النجوم التي تراها أراها *** حين تخفي وعندما تتوقّد

أنت مثلي من الثري وإليه *** فلماذا يا صاحبي اِلتيه والصد؟

***

أحاديث في ذمّ العجب:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إعجاب المرء بنفسه دليل علي ضعف عقله».(1)

وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: «لولا أنّ الذنب خير للمؤمن من العُجب ما خلّي الله عزّوجَل بين عبده المؤمن وبين ذنب أبداً».(2)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «من دخله العُجب هلك».(3)

وقال عليه السلام: «سيّئة تسؤك خير عند الله من حسنة تعجبك».(4)

وقال عليه السلام: «الإعجاب يمنع الازدياد».(5)

وقال عليه السلام: «عُجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله».(6)

وقال ابن مسعود: «الهلاك في اثنين: القنوط والعُجب».

وعن علي بن سويد، عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن العُجب الذي يفسد العمل؟ فقال: «العُجب درجات: منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنّه يُحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربّه فيمن علي الله عليه السلام ولله عليه فيه المنّ».(7)

ص: 208


1- الكافي 1: 27/ ح 31؛ بحار الأنوار 1: 161/ ح 51.
2- وسائل الشيعة 1: 104/ ح 252.
3- وسائل الشيعة 1: 75 - 76/ ح 8.
4- نهج البلاغة للشيخ محمد عبدة 4: 13/ الرقم 46؛ وسائل الشيعة 1: 105/ ح 255.
5- وسائل الشيعة 1: 105/ ح 256.
6- وسائل الشيعة 1: 105/ ح 257.
7- الكافي 2: 313، ح 3.

وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: قال الله عزّوجَل الداود عليه السلام: «يا داود بشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين، قال: كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال: يا داود بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصدّيقين ألاّ يُعجبوا بأعمالهم، فإنّه ليس من عبد أنصبه للحساب إلاّ هلك».(1)

وقال عليه السلام: أتي عالمٌ عابداً فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟! قال: كيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتّي تجري دموعي، فقال له العالم: إن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مُدلّ، إنّ المدلّ لا يصعد من عمله شيء.(2)

قال عبد الرحمن بن الحجّاج: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق، ثمّ يعمل شيئاً من البرّ فيدخله شبه العُجب به، فقال: هو في حاله الأولي وهو خائف أحسن حالاً منه في حال عجبه.(3)

قال أبو عبد الله عليه السلام: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «بينما موسي عليه السلام جالس إذا أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلمّا دني موسي خلع البرنس وقام إلي موسي فسلّم عليه، فقال له موسي: من أنت؟ قال: أنا إبليس، قال: لا قرّب الله دارك، قال: إنّي إنّما جئت الأسلّم عليك لمكانك من الله، فقال له موسي: فما هذا البرنس؟ قال: به اختطف قلوب بني آدم، فقال موسي: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذتَ عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبُه».(4)

عن أحدهما _ يعني أحد الإمامين عليهما السلام قال: دخل رجلان المسجد أحدهما

ص: 209


1- الكافي 2: 314 ح 8.
2- الكافي 2: 313، ح 5.
3- الكافي 2: 314، ح 7.
4- الكافي 2: 314 ح 8.

عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق، وذلك أنّه يدخل العابد مدلاّ بعبادته، والفاسق يدخل وهو نادم علي فسقه مستغفراً لذنبه.(1)

وفي كتاب (أصول الكافي) عن داوود الرقي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «اتّقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً، إنّ عيسي ابن مريم كان من شرايعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير كان كثير اللزوم لعيسي عليه السلام، فانتهي عيسي إلي البحر قال: «بسم الله» بصحّة ويقين منه فمشي علي ظهر الماء، فقال الرجل القصير حين نظر إلي عيسي جازه «بسم الله» بصحّة ويقين منه فمشي علي الماء ولحق بعيسي، فدخله العُجب بنفسه، فقال: هذا عيسي روح الله يمشي علي الماء، وأنا أمشي علي الماء، فما فضله عليّ؟ فرمس في الماء فاستغاث بعيسي، فتناوله من الماء فأخرجه، فقال له: ما قلتَ يا قصير؟ قال: قلت «هذا روح الله يمشي علي الماء وأنا أمشي علي الماء» فدخلني من ذلك عجب، فقال له عيسي: لقد وضعتَ نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه، فمقتك الله علي ما قلتَ، فتُب إلي الله عزّوجَل ممّا قلت، فتاب الرجل وعاد إلي مرتبته.(2)

قال أمير المؤمنين عليه السلام لولده محمّد بن الحنفيّة: «إيّاك والعُجب وسوء الخلق وقلّة الصبر، فإنّه لا يستقيم لك علي هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا يزال لك عليها من الناس مُجانب».(3)

***

ص: 210


1- الكافي 2: 314/ح6.
2- الكافي 2: 306/ ح3.
3- الخصال للصدوق: 147/ ح178؛ بحار الأنوار 69: 315.

ومن خطبة له عليه السلام : في وصف آل محمد عليهم السلام

«هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوئِلُ حِكَمِهِ وَكُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبالُ دِينهِ بِهِمْ أَقامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ وَأَذْهَبَ ارْتِعادَ فَرائِضِهِ»(1)

***

ضبط الألفاظ اللغوية:

(اللجاء) محرّكة كالملجأ الملاذ من لجأ إليه كمنع وفرح: لاذ. و(العيبة) ما يُجعل فيه الثياب، وفي الرجل موضع سرّه، و (الموئل) المنجا، من وئل إليه يئل، و(الكهف) غار واسع في الجبل، وفلان كهف لأنّه يلجأ إليه كالبيت علي الاستعارة، و (الانحناء) الاعوجاج، و(الارتعاد) الاضطراب، و(الفرائص) جمع الفريصة، وهي اللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترتعد.

***

المعني:

أشار عليه السلام في هذه الفقرات النيّرة إلي آل محمد عليهم السلام، ووصفهم بثمانية أوصاف إشارة إلي علوّ مقامهم وسموّ مكانهم ورفعة درجاتهم وعظمة شأنهم، والمراد بآله و هم الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم أجمعين.

ص: 211


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 138، ط مكتبة المرعشي - قم. نهج البلاغة لمحمّد عبده 1: 29 - 30؛ بحار الأنوار 23: 117/ ح 32.

ومن العجب أنّ الشارح البحراني العلاّمة ابن ميثم قدس سرّه جعل الأمور المذكورة أوصافاً لأهل النبي صلي الله عليه وآله: الأدنين من بني هاشم، كالعبّاس وحمزة وجعفر وعلي بن أبي طالب عليه السلام.

أمّا علي فمُسلَّم، وأمّا العباس وحمزة وجعفر ونظراؤهم من سائر بني هاشم فأين لهم قابليّة لحفظ سرّ الله، أم أنّي لهم استعداد لأن يكونوا لجاء أمر الله؟ أم كيف لهم الاحاطة بكتب الله ؟ بل القابل لها ولسائر الأوصاف المذكورة إنّما هم آل الله وآل رسوله الذين هم العروة الوثقي ومنار الهدي وأعلام التقي و كهف الوري وهم الملجأ والمنجي.

جاء في كتاب (مشارق الأنوار) تأليف الشيخ رجب البرسي الحلي عن محمد بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: نحن جنب الله، ونحن صفوة الله، ونحن خيرة الله، ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن أمناء الله، ونحن وجه الله، ونحن أئمّة الهدي، ونحن العروة الوثقي، وبنا فتح الله، و بنا ختم الله، ونحن الأوّلون، ونحن الآخرون، ونحن أخبار الدهر ونواميس العصر، ونحن سادة العباد وساسة البلاد، ونحن النهج القويم والصراط المستقيم، ونحن عين الوجود وحجّة المعبود، ولا يقبل الله عمل عاملٍ جهل حقّنا، ونحن قناديل النبوّة مصابيح الرسالة، ونحن نور الأنوار و كلمة الجبّار، ونحن راية الحقّ التي من تبعها نجا ومن تأخّر عنها هوي، ونحن أئمّة الدين وقادة الغرّ المحجّلين، ونحن معدن النبوّة وموضع الرسالة، وإلينا تختلف الملائكة، ونحن السراج لمن استضاء، والسبيل لمن اهتدي، ونحن القادة إلي الجنّة، ونحن الجسور والقناطر، ونحن السنام الأعظم، وبنا ينزل الغيث، وبنا تنزل الرحمة، وبنا يُدفع العذاب والنقمة.

فمن سمع هذا الهدي فليتفقّد قلبه في حبّنا، فإن وجد فيه البغض لنا والانكار لفضلنا فقد ضلّ عن سواء السبيل؛ لأنّا نحن عين الوجود وحجّة المعبود و ترجمان وحيه وعيبة علمه و ميزان قسطه، ونحن فروع الزيتونة وربائب

ص: 212

الكرام البررة، ونحن مصباح المشكاة التي فيها نور النور، ونحن صفوة الكلمة الباقية إلي يوم الحشر، المأخوذ لها الميثاق والولاية من الذرّ».(1)

ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام فقال: «أيها الناس نحن أبواب الحكمة ومفاتيح الرحمة وسادة الأمة، وأمناء الكتاب وفصل الخطاب، وبنا يُثيب الله ربنا يعاقب، ومن أحبّنا أهل البيت عظم أحسائه ورجح إيمانه وقبل عمله وغفر زلل-ه، ومن أبغضنا لا ينفع إسلامه، وإنّا أهل بيت خصّنا الله بالرحمة والحكمة والنبوّة والعصمة، ومنا خاتم الأنبياء.

ألا وأنا راية الحقّ التي مَن تلاها سبق، ومن تأخّر عنها مرق، ألا وإنّنا خيرة الله اصطفانا علي خلقه وائتمتنا علي وحيه، فنحن الهداة المهديّون، ولقد علمت الكتاب، ولقد عهد إليّ رسول الله صلي الله عليه وآله ما كان وما يكون، وأنا أخو رسول الله وخازن علمه، أنا الصدّيق الأكبر ولا يقولها غيري إلاّ مُفترٍ كذّاب، وأنا الفاروق الأعظم».(2)

وفيه: عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: «كونوا لنا زَيناً ولا تكونوا علينا شَيناً، فإنّه ليس بين الله وبين أحد في خلقه قرابة، ألا من ائتّم بإمام فليعمل عمله، فما معنا براءة من النار، وليس لنا علي الله من حجّة، فاحذروا المعصية لنا والمغالاة فينا، فإنّ الغُلاة شر خلق الله، يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبيّة لعباد الله، والله إنّ الغلاة شرّ من اليهود والنصاري والمجوس والذين أشركوا، وإلينا يرجع الغالي فلا نقبله، لأنّ الغالي اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصوم فلا يقدر علي ترك عادته، وبنا يلحق المقصّر فنقبله، لأنّ المقصّر إذا عرف عمل».(3)

وفيه: عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: «نزّهونا عن الربوبيّة وارفعوا منّا حظوظ البشريّة _

ص: 213


1- مشارق أنوار اليقين: 73 - 74.
2- بحار الأنوار 26: 260/ح37؛ مشارق أنوار اليقين: 75.
3- مشارق أنوار اليقين: 101.

يعني الحظوظ التي تجوز عليكم _ فلا يُقاس بنا أحد من الناس، فإنّا نحن الأسرار الإلهيّة المودعة في الهياكل البشريّة، والكلمة الربانيّة الناطقة في الأجساد الترابيّة، وقولوا بعد ذلك ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وعظمة الله لا توصف».(1)

جنّبوهم قول الغلاة وقولوا *** ما استطعتم في فضلهم أن تقولوا

فإذا عدت السماء مع الأرض *** إلي فضلهم فذاك قليل(2)

فهم في الأجساد أشباح، وفي الأشباح أرواح، وفي الأرواح أنوار، وفي الأنوار أسرار، فهم الصفوة والصفات والأصفياء، وإليه الإشارة بقول أمير المؤمنين عليه السلام: «لولانا ما عُرف الله، ولولا الله ما عُرفناه».(3)

وفيه أيضاً ص 126 فهؤلاء سادة الأنام، ومصابيح الظلام، و كسبة الاعتصام، وذروة الاحتشام، وأمناء الملك العلاّم، الذين اصطفاهم للخطاب، وارتضاهم بميراث الحكمة والكتاب، وإليهم الإشارة بقوله: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا»(4) فهم السادة الأبرار المصطفون الأخيار الذين وصفهم بالطهارة والعصمة في الكتاب فقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»(5) فهم الذرية الفاخرة وسادة الدنيا والآخرة، الذي دلَّ الكتاب علي أنّهم الهُداة المهديّون، فقال في وصفهم ربُّ العالمين: «أونك الذين هدي الله فهداهم اقتده»(6) ثمّ شهد الرسول بأنّهم سفينة النجاة، فقال وقوله

ص: 214


1- مشارق أنوار اليقين: 101.
2- مشارق أنوار اليقين: 101. وفيه: «فإذا عدت سماءّ مع الأرض...».
3- مشارق أنوار اليقين: 101.
4- فاطر: 32.
5- الأحزاب: 33.
6- الأنعام: 90.

الحقّ: «أهلُ بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تأخّر عنها ضلّ وغوي»(1) ثمّ أبان لنا ربّ الأرباب أنّهم ورثة الحكمة والكتاب، فقال: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ»(2)

فهم الذريّة الطاهرون والعترة المعصومون، ثم صرّح الذكر المبين أنّهم ولاة الدين، فقال: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ مَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ»(3) فإليهم الإياب وعليهم الحساب يوم الحساب.

ثمّ اعلم أنّ حكم يوم المعاد إليهم وحساب العباد عليهم، فقال: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»(4) فالشهيد محمّد النبي، والسائق علي الولي، ثمّ أبان للخلق عددهم ونبأهم فقال: « وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا»(5) فهم السادة النقباء والأسباط الأوصياء، ثم خصّهم بالشرف والفخار وحصر فيهم العلم والافتخار فقال: «وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ»(6) فآباؤهم محمد وعلي وفاطمة وإخوانهم الحسن والحسين وذرّياتهم الخلفاء من عترة الحسين إلي آخر الدهر، ثمّ قال: «وَاجْتَبَيْنَاهُمْ» فتعيّن شرفهم وفضلهم، ووجب اتّباعهم وانقطاع الكلّ عن مرتبتهم، ونزول الخلائق عن رفعتهم.

ثمّ أكّد ذلك وعينّه وأشاع فضلهم وبينّه، وإنّ الإمامة لا تكون إلاّ في

ص: 215


1- يُعرف بحديث السفينة، وهو من الأحاديث المشهورة المتواترة. انظر علي سبيل المثال: ذخائر العقبي لمحبّ الدين الطبري: 20؛ المعجم الكبير للطبراني 3: 46/ ح 2637؛ شرح نهج البلاغة الابن أبي الحديد 1: 218، ط قم؛ الجامع الصغير للسيوطي 1: 373 الرقم 2442.
2- الغاشية: 25.
3- ق: 21.
4- المائدة: 21.
5- المائدة: 12.
6- الأنعام: 87.

المعصوم البريء من السيّئات المطهر من الخطيئات، وأخرج من سواهم من دائرة الشرف والحكم، وأشار إلي ذلك رمزاً فقال لنوح: «فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»(1) فقال: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ»(2) ثمّ بيّن لعباده أنّهم أئمة الحقّ، وأوضح لهم أنّهم الداعون إلي الصدق، وأنّ من اتّبع غيرهم ضلّ وزلّ، فقال: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَيٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(3) ثمّ توعّد عباده وخوّفهم أن يتّبعوا غيرهم فقال: «اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(4) والصدق فيهم ومنهم، ثمّ أمر عباده أن يدينون بطاعتهم قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»(5) فجعل ولايتهم السلم والسلام، ثمّ بيّن في الآيات أنّه اصطفاهم علي الخلائق وارتضاهم للغيب والحقائق فقال: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَيٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ»(6) ثمّ بيّن أنّهم بنعم الله محشورون، وعلي فضل الله محسودون فقال: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَيٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا»(7) والملك العظيم هو وجوب الطاعة علي سائر العباد.

ثمّ أوجب علي العباد طاعتهم بالتصريح فقال: «أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(8) يعني الذين قرنهم بالكتاب والرسول، ثمّ نهي عباده أن يتفرّقوا عنهم فقال:

ص: 216


1- هود: 45.
2- هود: 46.
3- يونس: 35.
4- التوبة: 119.
5- البقرة: 208.
6- آل عمران: 33.
7- النساء: 54.
8- النساء: 59.

«وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ»(1) يعني علياً وعترته، ثمّ قال: «وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» يعني غيرهم «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» فتضلّ بكم عن سبيله، فجعلهم سبيله الهادي إليه وطريقه الدالٌ عليه، ثمّ جعل من مال عنهم تابعاً للشيطان ومخالفاً للقرآن وعاصياً للرحمن، فقال: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ»(2) وهي طريق أعدائهم، ثمّ بيّن أنّ مَن اتّبعهم نال الرضوان وفاز بالغفران ونجا من النيران، فقال «وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ»(3) ومعناه قفوا عند علي وعترته فهم الباب، وتمسّكوا بحبّهم تأمنوا العذاب، واتّبعوا سبيله فهو أمّ الكتاب، واعلموا أنّ علياً مولاكم يُغفر لكم خطايا كم، ثمّ عدّد مقاماتهم في الكتاب وعيّنهم بالخصّ والنصّ فقال: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(4) يعني رهطك المصطفين، ثمّ خصّهم بجوامع الشرف والتفضيل، وهذا هو الفضل الذي لا يُجحد والشرف الذي لا يُحدّ، ثمّ باهل بهم الأعداء فجعلهم علي إثبات دينه شهداء، وعلي نبوّة نبيّه أدلاّء فقال: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(5) ثمّ خصّهمِ بالمقام الخاصّ وجعلهم قنطرة الإخلاص ونهج النجاة والخلاص، فقال: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَيٰ حَقَّهُ»(6) وهي خصوصيّة خص بها الربّ الكريم فاطمة الزهراء بضعة الرؤف الرحيم، ثمّ أوجب محبّتهم علي العباد وجعلهم الذُخر يوم المعاد، فقال: «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَيٰ»(7) ثمّ ذكر قصّة نوح فقال: «يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالً»(8)، وقال عن هود «يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا»(9) وقال لمحمد

ص: 217


1- الأنعام: 153.
2- البقرة: 168؛ الأنعام: 142؛ النور: 21.
3- البقرة: 58.
4- الشعراء: 214.
5- آل عمران: 61.
6- الأسراء: 26.
7- الشوري: 23.
8- هود: 29.
9- هود: 51.

صلي الله عليه وآله «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَ»(1) فلم يفرض لهم المودّة إلاّ لأنّهم نجوم الولاية وشموس الهداية لم يرتدّوا عن الملّة، ولم يفارقوا الكتاب والسنّة، لا بل هم الكتاب والسنّة. ففرض مودّتهم وطاعتهم، فمن أخذ بها وجب علي رسول الله صلي الله عليه وآله أن يحبّه لأنّه علي منهاجه، ومن لم يأخذ بها وجب علي رسول الله صلي الله عليه وآله أن يُبغضه لأنه ضيّع فريضة أمره الله والرسول بها، لا بل هي رأس الفرض و تمام كلّ سنّة وفرض، فأيّ شرف أعلي علي هذا المقام؟

ثمّ إنّ الله لم يبعث نبيّاً إلاّ وأمره أن لا يسأل أمّته أجراً علي نبوّته، بل الله يوفّيه أجره، وفرض لمحمد صلي الله عليه وآله مودّة أهل بيته وأمره أن يبيّن فضلهم، فمن أخذ بعده المودّة فهو مؤمن مخلص قد وجبت له الجنّة، ثمّ قرن ذكر محمّد بذِكره في الصلاة، وقرن ذكرهم بذكر نبيه، فدلّ بذاك علي رفيع شرفهم، وبيّن ذلك الصادق الأمين من قوله: «اللهمّ صلّ علي محمد و آل محمد، كما صلّيت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد»،(2) ثمّ أعطاهم من الفضل ما لم يبلغ أحد وصفه، فسلّم علي الأكبر من رسله ولم يسلّم علي آلهم، فقال: «سَلَامٌ عَلَيٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ»،(3) ثمّ قال: «سَلَامٌ عَلَيٰ إِبْرَاهِيمَ»،(4) ثم قال: «سَلَامٌ عَلَيٰ مُوسَيٰ وَهَارُونَ»(5) ثمّ قال: سلام علي آل محمد صلي الله عليه وآله فقال: «سَلَامٌ عَلَيٰ إِلْ يَاسِينَ»(6) وياسين اسم محمد بلغة طي.

ص: 218


1- الشوري: 23.
2- دعائم الإسلام 1: 29؛ عيون أخبار الرضا 2: 213 ح 1.
3- الصافات: 79.
4- الصافات: 109.
5- الصافات: 120.
6- الصافات: 130، وهي قراءةمنسوبة إلي الإمام الرضا عليه السلام وإلي بعض الصحابة. انظر معجم القراءآت القرآنية في هذا الشأن، وانظر كلام ابن حجر في الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة.

ثمّ أنزل في كتابه ما فرّق به من الآل والأمّة فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَ»(1) فرضي لهم مارضي لنفسه، فبدأ لنفسه ثمّ بدأ برسوله ثم بآل رسوله، فجعل لنفسه نصيباً ثمّ للنبي ثمّ لآله، ثمّ قربّهم إليه بالطاعة فقال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2) فبدأ بنفسه ثمّ برسوله المخبر عنه ثمّ بالهداة المهديّين من عترته، ثمّ أكّد لهم الولاية فقال: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا»(3) فجعل ولايتهم مع ولاية الرسول مقرونة بولايته، كما جعل سهمهم مع سهم الرسول مقروناً بسهمه في القسمة والغنيمة فسبحان من فضّلهم ورفعهم واختارهم علي العالمين.

ثمّ أنّه لما أنزلت آية الصدقة، نزّه نفسه ورسوله ونزّه أهل بيته، فقال: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ»(4) إلي آخر الآية، فلم يجعل له سهماً ولا لرسوله ولا الآل رسوله في الصدقات؛ لأنّها من أوساخ الناس، وهم مطهّرون من الأدناس، فهم الآل الذين أمر الله بطاعتهم، وذوو القربي الذين أمر الله بمودّتهم وصلتهم، والموالي الذين أمر الله بطاعتهم ومعرفتهم، وأهل الذكر الذين أمر الله بمسألتهم، ورضي لهم ما رضي لنفسه، ونزّههم ممّا نزّه من نفسه، وجعلهم آل الرسول خاصّة، فقال: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولً»(5) فهم آل الرسول وعترته وأهل الله وخاصّته، ومعدن التنزيل ونهايته، وسدنة الوحي وخزنته، كما قال أبو الحسن الرضا عليه السلام للمأمون في مشاجرته: أيحلّ لرسول الله صلي الله عليه وآله لو كان حيّاً أن يتزوّج إليك؟ فقال المأمون: نعم، فقال الرضا عليه السلام: لكنّه لا يحلّ له

ص: 219


1- الأنفال: 41.
2- النساء: 59.
3- المائدة: 55.
4- التوبة: 60.
5- الطلاق: 10 و 11.

أن يتزوّج إليّ، فقال المأمون: نعم لأنّك ابنه،(1) وهذا هو الفرق ما بين الآل والأصحاب؛ لأنّ المأمون كان يزعم أنّ آل رسول الله أصحابه وأمّته، فأبان لهم الإمام من آله وأصحابه، ثمّ أنّه قال له سبحانه في لفظ التخصيص: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ»(2) فلفظ الأمر هنا خاصّ ومعناه عامّ، لأنّه أدخله مع الأمّة لعموم الأمر، وميّزهم عنهم بتخصيص لفظ الأهل، فكان رسول الله صلي الله عليه وآله بعد نزول هذه الآية يأتي إلي باب الزهراء عليها السلام فيقف هناك ويقل: الصلاة يا آل محمد الصلاة».(3)

الأمر الأول: أهل البيت عليهم السلام موضع سرّ الله:

وبالتالي فأوّل الأوصاف المذكورة ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «هم موضع سرّه».

والمراد بالسرّ علم لا يجوز إظهاره للعموم، والأئمّة عليهم السلام موضعه ومأواه، ومستقرهّ ومقامه، و خُزّانه وحفّاظه، لا يظهرونه أو لا يظهرون منه إلاّ ما يحتمل علي من يتحمّل، إذ العموم لا يقدر علي تحمّل أسرار الله سبحانه، ولذلك قال علي بن الحسين عليهما السلام: لو عَلِم أبو ذر بما في قلب سلمان لقتله.(4)

وفي البحار من كتاب السيد حسن بن كبش بإسناده عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا أبا محمد إنّ عندنا سرّاً من سرّ الله وعِلماً من علم الله لا يحتمله مَلَك مقرّب ولا نبيّ مُرسَل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلّف الله أحداً ذلك الحمل غيرنا، ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا، وإنّ عندنا سرّاً من سرّ الله وعِلماً من علم الله أمرنا الله بتبليغه، فبلّغنا عن الله عزّوجَل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حمالة يحملونه، حتّي خلق الله لذلك أقواماً

ص: 220


1- الفصول المختارة للمفيد: 37.
2- طه: 132.
3- ذخائر العقبي: 24؛ بحار الأنوار 37: 36/ ح 3.
4- الكافي 1: 401/ ح 2.

خُلقوا من طينة خلق منها محمّد وذرّيته، ومن نور خلق الله منه محمّداً وذريته، وصنعهم بفضل صنع رحمته التي منها محمّداً وذرّيته، فبلّغناهم عن الله عزّوجَل ما أمرنا بتبليغه، فقبلوه واحتملوا ذلك عنا فقبلوه واحتملوه، وبلغهم ذِكرنا فمالت قلوبهم إلي معرفتنا وحديثنا، فلولا أنّهم خُلقوا من هذا لما كانوا كذلك، ولا والله ما احتملوه.

ثمّ قال عليه السلام: إنّ الله خلق قوماً لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلّغهم كما بلّغناهم، فاشمأزّوا في ذلك ونفرت قلوبهم وردّوه علينا ولم يحتملوه وكذّبوا به وقالوا: ساحر كذّاب، فطبع الله علي قلوبهم وأنساهم ذلك، ثمّ أطلق الله لسانهم ببعض الحقّ، فهم ينطقون به وقلوبهم مُنكِرة، ليكون ذلك دفعاً عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عُبد الله في أرضه، فأمرنا الله بالكفّ عنهم والكتمان منهم، فاكتموا ممّن أمر الله بالكفّ عنهم، واستروا عمّن أمر الله بالستر والكتمان منهم.

قال: ثمّ رفع عليه السلام يده وبكي، وقال: «اللهمّ إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون، فاجعل محياهم محيانا ومماتهم مماتنا، ولا تسلّط عليهم عدوّاً لك فتفجعنا بهم، فإنّك إن فجعتنا بهم لم تُعبد أبداً في أرضك».(1)

قال ميرزا حبيب الله الخوئي رَحمه الله: وبهذه الرواية يحصل الجمع بين قولهم عليهم السلام «إنّ حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا مَلَك مقرب أو نبيّ مرسل أومؤمن امتحن الله قلبه للإيمان» وبين الخبر الخالي من الاستثناء، فإنّ الثاني محمول علي السرّ المختص بهم عليهم السلام الذي لا يحتمله أحد غيرهم، والأوّل محمول علي السرّ الذي هو أدني من ذلك، وهو السرّ الذي تقدّم إليهم النصّ من الله سبحانه لإظهاره لبعض خواصّهم علي مراتب استعدادهم، وهو الذي أشار إليه الصادق عليه السلام بقوله: «لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله» فإنّ أباذر لا

ص: 221


1- الكافي 1: 402/ ح 5.

استعداد له علي احتمال السرّ الذي احتمله سلمان، وكذلك كميل بن زياد مع كونه من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام لا يحتمل ما احتمله أبو ذر رَضي الله عَنهُ ، فهو وإن كان صاحب سرّه عليه السلام لكن بالنسبة إلي غيره من سائر الناس، ولذلك أنّه بعدما سأل منه عليه السلام عن الحقيقة وأجاب بقوله عليه السلام: ما لك والحقيقة؟ قال: أو لست صاحب سرّك؟ فلم يقرّه عليه السلام علي عموم ما ادعاه، بل أجاب بقوله: بلي ولكن يترشّح عليك ما يطفح مني. فإنّ استدراكه عليه السلام بقوله: ولكن...، إشارة إلي أنّ ما يظهر من السرّ عليه من قبيل نداوة الطفحان ورشحته الفائضة من جوانبه، وأنّه ليس صاحب السرّ علي نحو العموم.

وبالتالي: فقد وضح وظهر ممّا ذكرنا أنّ أسرار الله سبحانه هي علوم لايجوز إظهار ما جاز إظهارها منها إلا للكمّل علي اقتضاء مراتب الاستعداد.

وقد روي في الخرائج بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: أتي الحسين عليه السلام ناس فقالوا له: يا أبا عبد الله حدّثنا بفضلكم الذي جعل الله لكم، فقال: إنّكم لا تحتملونه ولا تطيقونه، قالوا: بلي نحتمل، قال: إن كنتم صادقين فليتنحّ اثنان وأحدّث واحداً، فإن احتمله حدثتكم، فتنحّي اثنان وحدّث واحداً، فقام طائر العقل ومرّ علي وجهه وذهب، و كلّمه صاحباه فلم يردّ عليهما شيئاً وانصرفوا.(1)

وفيه بالاسناد المذكور قال: أتي رجل الحسين بن علي عليهما السلام فقال: حدّثني بفضلكم الذي جعل الله لكم، فقال: إنّك لن تطيق حمله، قال: بل حدّثني يابن رسول الله، إنّي أحتمله، فحدّثه بحديث، فما فرغ الحسين عليه السلام من حديثه حتّي ابيضّ رأس الرجل ولحيته وأنسي الحديث، فقال الحسين عليه السلام، أدركته رحمةُ الله حيث أنسي الحديث.(2)

ص: 222


1- الخرائج والجرائح 2: 795/ ح 4.
2- الخرائج والجرائح 2: 795/ح 5.

حديثناصعب مستصعب:

وفي البحار من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان من كتاب ابن شريفة الواسطي يرفعه إلي ميثم التمار، قال: بينما أنا في السوق إذ أتي أصبغ بن نباتة فقال: ويحك يا ميثم، لقد سمعت من أمير المؤمنين عليه السلام حديثاً صعباً شديداً، قلت: وما هو؟ قال: سمعته يقول: إنّ حديث أهل البيت صعب مستصعب لا يحتمله إلا مَلَك مقرب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. فقمت من فورتي فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين حديث أخبرني به أصبغ عنك قد ضقت به ذرعاً، فقال عليه السلام: ما هو؟ فأخبرته به، فتبسّم ثم قال: اجلس يا ميثم، أو كلّ علم يحتمله عالم؟ إنّ الله تعالي قال للملائكة: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(1) فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم؟ قال: قلت: إنّ هذا أعظم من ذلك، قال: والأخري، إنّ موسي بن عمران أنزل الله عليه التوراة فظنّ أن لا أحد أعلم منه، فأخبره أنّ في خلقه أعلم منه، وذلك إذ خاف علي نبيه العُجب، قال: فدعا ربّه أن يرشده إلي العالم، فجمع الله بينه وبين الخضر عليه السلام، فخرق السفينة فلم يحتمل ذلك موسي، وقتل الغلام فلم يحتمله، وأقام الجدار فلم يحتمله.

وأمّا النبيّون فإنّ نبيّنا صلي الله عليه وآله أخذ يوم غدير خُمّ بيدي فقال: اللهمّ من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، فهل رأيت أحداً احتمل ذلك إلاّ من عصم الله منهم، فأبشروا ثمّ أبشروا، قد خصّكم بمالم يخصّ به الملائكة والنبيين والمرسلين فيما احتملتم ذلك في أمر رسول الله وعلمه، فحدّثوا عن فضلنا ولا حرج، وعن عظيم أمرنا ولا أثم، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نُخاطب الناس علي قدر عقولهم».(2)

ص: 223


1- البقرة: 30.
2- بحار الأنوار 20: 383 – 384 ح 38.

الثاني: أهل البيت لا ملتجأ أمر الله

ما نبّه عليه عليه السلام بقوله: «ولجاء أمره» قال ابن ميثم البحراني: أشاد بكونهم عليهم السلام ملجأ أمره إلي أنّهم الناصرون له والقائمون بأوامر الله والذابّون عن الدين،فإليهم يلتجئ، وبهم يقوم سلطانه.

قال الخوئي رَحمه الله: المستفاد من ظاهر كلامه عليه السلام أن المراد بالأمر هو الأمور الدينيّة وأنّهم ملجأ لنفس الأوامر، والأظهر الأقوي عندي أنّ المراد أنّهم لجاء للعباد في الأوامر الدينية، بمعني أنّ الخلق إذا تنازعوا في شيء منها وعجزوا فيها عن النيل إلي الواقع فهم الملجأ والملاذ؛ لأنّهم أولو الأمر، قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(1)

قال علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره: حدّثني أبي عن حماد، عن حريز، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: نزل فإن تنازعتم في شيء فأرجعوه إلي الله وإلي الرسول وإلي أولي الأمر منكم.(2)

وهو يدلّ علي أنّ المنزل «فأرجعوه، مكان «فردّوه»، ويحتمل أن يكون تفسيراً له، ويدلّ أيضاً علي أنّ الموجود في مصحفهم قول «وإلي أولي الأمر منكم»، وعلي ذلك فالآية صريحة في الدلالة علي المطلوب من ردّ الأمور الدينية التي اختلف فيها إلي كتاب الله وإلي رسوله والأئمة عليهم السلام.

وأمّا علي ما هو الموجود في هذه المصاحف التي بأيدينا فالدلالة أيضاً غير خفيّة علي مذهبنا؛ لأنّ الردّ إلي الأئمة القائمين مقام رسول الله صلي الله عليه وآله بعد وفاته هو مثل الردّ إلي الرسول في حياته، لأنّهم الحافظون لشريعته والخلفاء في أمته، فجروا مجراه فيه، ومثلها قوله تعالي:

ص: 224


1- النساء: 59.
2- تفسير القمّي 1: 141.

«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَيٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(1)

روي في البحار في تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام في هذه الآية، قال: هم الأئمة عليهم السلام.(2)

وعن عبد الله بن جندب قال كتب إلي أبو الحسن الرضا عليه السلام: «ذكرت _ رحمك الله _ هؤلاء القوم الذين وصفت أنّهم كانوا بالأمس لكم إخواناً، والذين صاروا إليه من الخلاف لكم والعداوة لكم والبراءة منكم، والذي تأفّكوا _أي تكلّفوا _به من حياة أبي صلوات الله عليه ورحمته، وذكر في آخر الكتاب: إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم، وذلك لما ظهرت فريتهم واتّفقت كلمتهم ونقموا علي عالمهم وأرادوا الهدي من تلقاء أنفسهم فقالوا: لم، ومن، وكيف، فأتاهم الهلاك من مأمن احتياطهم، وذلك بما كسبت أيديهم «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»،(3) ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم، بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر ورد ما جهلوا من ذلك إلي عالمه ومستنبطه، لأنّ الله يقول في محكم كتابه:

«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَيٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ».(4)

يعني آل محمد عليهم السلام، وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون

الحلال والحرام، وهم الحجّة علي خلقه.(5)

أهل البيت عليهم السلام هم ولاة الأمر:

هذا وقد ظهر مما ذكر أنّ الأئمة عليهم السلام هم ولاة الأمر، وأنّهم المقصودون بأولي الأمر في الآيتين، أمّا الآية الثانية فلما ذكرنا، وأمّا الآية الأولي فللأخبار المستفيضة.

ص: 225


1- النساء: 83.
2- بحار الأنوار 23: 284.
3- فصّلت: 46.
4- النساء: 83.
5- بحار الأنوار 23: 295 - 296 ح 36.

الدليل النقلي:

أمّا الأخبار فمنها ما رواه في البحار عن تفسير فرات بن إبراهيم، عن عبيد بن كثير معنعناً، أنّه سُئل جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».(1)

قال: أولي الفقه والعلم، قلنا: أخاصّ أم عامّ؟ قال عليه السلام: بل خاصّ لنا.(2)

وفي الكافي عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية، قال: الأوصياء.(3)

وفيه أيضاّ عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّوجَل: « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَيٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».(4)

فقال عليه السلام: إيّانا عني، أن يؤدّي الأول إلي الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل الذي في أيديكم، ثمّ قال للناس: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(5) إيّانا عني خاصّة، أمر جميع المؤمنين إلي يوم القيامة بطاعتنا، فإن خضتم تنازعاً في أمر فردّوه إلي الله وإلي الرسول وإلي أولي الأمر منكم، كذا نزلت، و كيف يأمرهم عزّوجَل لا بطاعة ولاة الأمر ويرخّص في منازعتهم، إنّما قيل ذلك للمأمورين الذين قبل لهم: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(6) والأخبار في هذا الباب كثيرة لا تحصي.

ص: 226


1- النساء: 59.
2- بحار الأنوار 23: 298/ ح 47.
3- انظر الكافي 1: 189/ ح16.
4- النساء: 58.
5- النساء: 59.
6- الكافي 1: 276/ ح 2.

الدليل العقلي:

وأمّا دليل العقل فلأنّه سبحانه أمر بوجوب طاعة أولي الأمر علي نحو العموم، فلابدّ من كونه معصوماً، وإلاّ لزم أن يكون تعالي قد أمر بالقبيح، لأنّ من ليس بمعصوم لا يُؤمَن صدور القبيح عنه، فإذا وقع كان الاقتداء به قبيحاً، والمعصوم بعد الرسول صلي الله عليه وآله منحصر بإجماع الأمة في الأئمّة.

ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله عليه السلام: (ولجاء أمره) الأعمّ من الأمور الدينيّة، وربّما فسّر به في الآيتين أيضاً، فالمراد به علي ذلك جميع الأمور المقدّرة المشار إليها في قوله سبحانه: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»(1) وفي قوله: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»(2)

وقد جاء في رواية الكافي عن الباقر عليه السلام أنّه لينزل في ليلة القدر إلي وليّ الأمر تفسير الأمور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر الناس بكذا وكذا.(3) وهذا الاحتمال أقرب بالنظر إلي عموم وظيفتهم عليهم السلام.

الثالث: أهل البيت عليهم السلام عيبة علم الله

ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «و عيبة علمها» يعني أنّ علمه مودع عندهم كالثياب النفسيّة المودعة في العيبة، وتشبيههم بالعيبة من حيث إنّهم كانوا حافظين وصائنين له عن الضياع والاندراس حسن الاستعارة بالعية الحافظة للباس عن الأدناس.

قال البحراني: و كونهم عيبة علمه مرادف لكونه موضع سرّه، إذ يقال في العرف: فلان عيبة العلم إذا كان موضع أسراره.

قال الخوئي: أمّا ترادفها في اللغة والعرف فقد صرّح به بعض اللغويّين

ص: 227


1- قدر: 4.
2- الدخان: 4.
3- الكافي 1: 248/ ح 3.

أيضاً، ولكن الظاهر أنّ السرّ أخصّ من العلم، لما قد عرفت سابقاً من أنّ السرّ هو العلم الذي يُكتم، وقد صرّح به غير واحد من اللغويين، وهو المتبادر منه أيضاً، فيكون حقيقة فيه. وعلي هذا فيكون العلم أعمّ منه، وهو الأنسب بالمقام أيضاً من حيث إنّ التأسيس أولي من التأكيد.

وكيف كان، فلا غبار علي أنّ علم الله و علم رسوله المتلقّي منه سبحانه مودع عندهم وهم الحافظون له.

الدليل النقلي:

ويدلّ عليه الأخبار المتواترة القطعية.

منها ما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن يونس بن رباط قال: دخلت أنا و كامل التمّار علي أبي عبد الله عليه السلام فقال له كامل: جُعلت فداك حديث رواه فلان. فقال: أذكره، فقال: حدّثني أنّ النبي صلي الله عليه وآله حدّث علياً عليه السلام بألف باب يوم توفّي رسول الله، كلّ باب يفتح له ألف باب، فذلك ألف ألف باب، فقال: لقد كان ذلك، قلت: جُعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم؟ فقال عليه السلام: يا كامل، باب أو بابان، فقلت له: جُعلت فداك فما بروي من فضلكم من ألف ألف باب إلاّ باب أو بابان؟ قال: فقال: وما عسيتم أن ترووا من فضلنا؟ ما تروون من فضلنا إلاّ ألفاً غير معطوفة.(1)

وفي البحار من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان من نوادر الحكمة يرفعه إلي أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل عليه المفضّل بن عمر فقال: مسألة يابن رسول الله، فقال عليه السلام: سَل يا مفضّل، قال: ما منتهي علم العالم؟ قال عليه السلام: قد سألت جسيماً، لقد سألت عظيماً، ما السماء الدنيا في السماء الثانية إلاّ كحلقة درع ملقاة في أرض فلاة، وكذلك كلّ سماء عند سماء

ص: 228


1- الكافي 1: 297 ح 9.

أخري، وكذلك السماء السابعة عند الظلمة، ولا الظلمة عند النور، ولا ذلك كلّه في الهواء، ولا الأرضين بعضها في بعض، ولا مثل ذلك كلّه في علم العالم _ يعني الإمام _ إلا مثل مدٍ من خردل دققَته دقّاً ثمّ ضربته بالماء، حتّي إذا اختلط ورغا أخذتَ منه لعقة بأصبعك، ولا علم العالم في علم الله إلاّ مثل حبّة من خردل دقته دقاً ثم ضربته بالماء حتّي إذا اختلط ورغا انتهزت منه برأس ابرة نهزة، ثمّ قال عليه السلام: يكفيك من هذا البيان بأقلّه، وأنت بأخبار الموت تصيب».(1)

وفي كتاب المحتضر أيضاً نقلاً من كتاب الأربعين رواية سعد الأربلي عن عمّار بن خالد، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن سليمان قال: وجد في ذخيرة أحد حواري المسيح رقّ مكتوب بالقلم السرياني منقولاً من التوراة، وذلك لمّا تشاجر موسي والخضر عليهما السلام في قضية السفينة والغلام والجدار ورجع موسي إلي قومه، سأله أخوه هارون عمّا استعمله مع الخضر وشاهد من عجائب البحر.

قال: بينما أنا والخضر علي شاطئ البحر إذ سقط بين أيدينا طائر أخذ في منقاره قطرة من ماء البحر ورمي بها نحو المشرق، ثم أخذ ثانية ورمي بها نحو المغرب، ثمّ أخذ ثالثة ورمي بها نحو السماء، ثمّ أخذ رابعة ورمي بها نحو الأرض، ثمّ أخذ خامسة وألقاها في البحر، فبهت الخضر وأنا، قال موسي:فسألت الخضر عن ذلك، فلم يجب، وإذا نحن بصياد يصطاد فنظر إلينا وقال: مالي أراكما في فكر و تعجّب؟ فقلنا: في أمر الطائر، فقال: أنا رجل صيّاد وقد علمتُ إشارته وأنتما نبيّان لا تعلمان، قلنا: ما نعلم إلاّ ما علّمنا الله عزّوجَل، قال: هذا طائر في البحر يسمّي مسلم، لأنّه إذا صاح يقول في صياحه مسلم، وأشار بذلك إلي أنّه يأتي في آخر الزمان نبي يكون عِلم أهل المشرق والمغرب وأهل السماء والأرض عند عِلمه مثل هذه القطرة الملقاة في البحر ويرث علمه ابنُ عمّه ووصيّه، فسكن ما كنّا فيه من المشاجرة واستقلّ كلّ واحد منا علمه بعد أن

ص: 229


1- بحار الأنوار 25: 385/ ح43.

كنّا به معجبين، ومشينا ثمّ غاب الصياد فعلمنا أنّه مَلَك بعثه الله إلينا يعرّفنا بنقصنا حيث ادّعينا الكمال.(1) وبهذه الأخبار يعرف المعيار إجمالاً لعلومهم عليهم السلام، وفيها كافية لن ألقي السمع وهو شهيد.

الرابع: أهل البيت عليهم السلام موئل حكم الله

ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «و موئل حكمه» والمراد بالحكم أمّا الأحكام الشرعية _ أي خطاب الله المتعلق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء أو التخير _ وإما القضاء الرافع للخصومات، وعلي أيّ تقدير فهم موئله و منجاه، إليهم يلتجئ فيه، وبهم يحصل الخلاص والنجاة، لأنّ ما عندهم هو الحكم المتلقّي من الوحي الإلهيّ الذي هو مطابق للمواقع والواقع مطابق له، وهو كلّه صواب لا ريب فيه، وهم المرشدون إليه والأدلاّء عليه.

ويشهد به ما في البحار من مجالس المفيد بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «أما أنّه ليس عند أحد من الناس حقّ ولا صواب إلاّ شيء أخذوه منّا أهل البيت، ولا أحد من الناس يقضي بحقّ ولا عدل إلاّ ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوّله وسنّته أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قِبلهم إذا أخطأوا، والصواب من قِبل علي بن أبي طالب عليه السلام إذا أصابوا.(2)

وفي البحار عن بصائر الدرجات عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد: علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب».(3)

ص: 230


1- المحتضر: 100- 101؛ بحار الأنوار 26: 199 - 200 ح 12.
2- بحار الأنوار 2: 179/ ح 1؛ أمالي المفيد: 95 - 96/ ح 6.
3- بحار الأنوار 26: 147/ ح 27؛ بصائر الدرجات: 286 ح 2.

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «يا أبا بصير إنّا أهل بيت أوتينا علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب، وعرفنا شيعتنا كعرفان الرجل أهل بيته».(1)

والمراد بفصل الخطاب الحكم الفاصل بين الحقّ والباطل، أو المفصول الواضح الدلالة علي المقصود، أو ما كان من خصائصهم من الحُكم المخصوص في كلّ واقعة والجوابات المسكتة للخصوم في كلّ مسألة.

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: إنّ اللازم حينئذ أخذ الأحكام منهم والرجوع إليهم، ولا يجوز الاستبداد بالعقول الناقصة والآراء الفاسدة في الأحكام الشرعية والاعتماد فيها علي الأقيسة والاستحسانات، وقد قال أبو الحسن عليه السلام فيما رواه في بصائر الدرجات عن محمد بن حكيم، عنه عليه السلام؛ إنّما هلك مَن كان قبلكم بالقياس، وإنّ الله تبارك و تعالي لم يقبض نبيّه صلي الله عليه وآله حتّي أكمل له جميع دينه في حلاله وحرامه، فجاء كم بما تحتاجون إليه في حياته و تستغنون به وبأهل بيته بعد موته، و إنّها مخبية عند أهل بيته، حتّي أنّ فيه لأرش الخدش، ثم قال عليه السلام: «إنّ أبا حنيفة لعنه الله ممّن يقول: قال عليّ وقلت أنا».(2)

وكذلك لا يجوز الرجوع في المرافعات إلي قضاة السوء، فمن رجع إليهم كان بمنزلة الذين قال عنهم الله عزّوجَل: «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»(3) الآية.

الخامس: أهل البيت عليهم السلام كهف الكتب السماويّة

ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «و كهف كتبه» تشبيههم بالكهف باعتبار أنّهم يُلتجأ إليهم فيها، أو أنّهم المأوي لها والحاوون لما فيها، كالكهف الذي يحوي من يأوي إليه.

قال العلاّمة الشيخ عبد الصمد التبريزيّ في الدّرة النجفية:

ص: 231


1- بحار الأنوار 26: 146/ ح 25؛ بصائر الدرجات: 286 ح 9.
2- بصائر الدرجات: 167/ ح3.
3- النساء: 60.

«وإنّهم أهلُ حفظها وعندهم عِلم ظاهرها وباطنها، وهذا الحكم ظاهر الصدق للرواية والدراية، أمّا الرواية فلقوله عليه السلام: لو كُسرت لي الوسادة ثمّ جلست عليها لحكمتُ بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، واللهِ ما من آية نزلت في برّ أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلاّ أنا أعلم فيمن نزلت، وفي أيّ وقت نزلت،(1) ولقول الصادق عليه السلام: إنّ الله عزّوجَل لم يُعطِ الأنبياء شيئاً إلاّ وقد أعطي محمداً صلي الله عليه وآله جميع ما أعطي الأنبياء، وعندنا الصحف التي قال الله عزّوجَل «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَيٰ»(2) قيل: هي الألواح؟ قال: نعم».(3)

وأمّا الدراية فإنّ الرجوع بكتب الأخبار والتتبّع بطريقتهم لأرباب الملل في احتجاجاتهم شاهد علي المدّعي.

مناظرة الإمام الرضا عليه السلام مع الجاثليق ورأس الجالوت وبقية المذاهب :

وقد روي المجلسيّ قدس سرّه في البحار عن محمّد بن فضل الهاشمي في رواية طويلة نكتفي بذكر موضع الحاجة منها، قال: لمّا توفّي موسي بن جعفر عليه السلام أتيتُ المدينة فدخلت علي الرضا عليه السلام قلت: إنّي سائر إلي البصرة وقد عرفت كثرة خلاف الناس، وقد نُعي إليهم موسي وما أشكّ أنّهم سيسألون عن براهين الإمام عليه السلام،ولو أريتني شيئاً من ذلك، فقال الرضا عليه السلام: لم يَخْفَ عليَّ هذا، فأبلغ أولياءنا بالبصرة أنّي قادم عليهم، ولا قوّة إلاّ بالله، ثمّ أخرج إليّ جميع ما كان للنبي صلي الله عليه وآله عند الأئمّة من بُردته وقضيبه وسلاحه وغير ذلك، فقلت: متي تقدم عليهم؟ قال: بعد ثلاثة أيام من وصولك ودخولك البصرة... إلي أن قال:

ص: 232


1- شرح مائة كلمة لابن ميثم البحراني: 218.
2- النجم: 36.
3- بصائر الدرجات: 157ح 11؛ بحار الأنوار 26: 61/ ح138.

فلمّا كان اليوم الثالث من دخولي البصرة فإذا الرضا عليه السلام قد وافي، فقصد منزل الحسن بن محمد وأخلي له داره وقام بين يديه يتصرّف بين أمره ونهيه، فقال: يا محمد أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمد بن الفضل وغيرهم من شيعتنا، وأحضر جائليق النصاري ورأس الجالوت، ومُر القوم يسألوا عمّا بدا لهم. فجمعهم كلّهم والزيديّة والمعتزلة... إلي أن قال: فقال لهم الرضا عليه السلام: لا تتفرّقوا فإني إنّما جمعتكم لتسألوا عمّا شئتم من آثار النبوّة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلا عندنا أهل البيت: فهلمّوا مسائلكم، فسُئل عليه السلام عن كلّ مسألة، فأجابهم عمّا سألوا، حتّي انتهي الأمر إلي الجاثليق، فالتفت إليه الرضا عليه السلام فقال: هل دلّ الإنجيل علي نبوّة محمد صلي الله عليه وآله، قال: لو دلّ الإنجيل علي ذلك ما جحدنا، فقال عليه السلام: أخبرني عن السكتة التي لكم في السفر الثالث، فقال الجاثليق: إسم من أسماء الله تعالي ولا يجوز لنا أن نظهره، قال الرضا عليه السلام: فإن قررتك أنّه إسم محمد صلي الله عليه وآله وذكره، وأقرّ عيسي به، وأنّه بشّر بني إسرائيل بمحمّد صلي الله عليه وآله لتقرّبه ولا تُنكره، قال الجاثليق: إن فعلتَ أقررتُ، فإنّي لا أردّ الإنجيل ولا أجحده، قال الرضا عليه السلام: فخُذ علي السفر الثالث الذي فيه ذِكر محمّد صلي الله عليه وآله وبشارة عيسي بمحمّد صلي الله عليه وآله ، قال الجائليق: هاتِ، فأقبل الرضا عليه السلام يتلو ذلك السِفر من الأنجيل حتّي بلغ ذكر محمد صلي الله عليه وآله فقال: يا جاثليق من هذا الموصوف؟ قال الجاثليق: صِفه، قال عليه السلام: لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، هو صاحب الناقة والعصا والكساء، النبيّ الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحلّ لهم الطيّبات ويُحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلي الطريق الأقصد والمنهاج الأعدل والصراط الأقوم، سألتُك يا جاثليق بحقّ عيسي روح الله وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبي صلي الله عليه وآله؟

ص: 233

فأطرق الجاثليق مليّاً وعلم أنّه إن جحد الأنجيل كفر، فقال: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسي في الإنجيل هذا النبي ولم يصحّ عند النصاري أنّه صاحبكم، فقال الرضا عليه السلام: أمّا إذا لم تكفر بجحود الانجيل وأقررت بما فيه من صفة محمد صلي الله عليه وآله، فخُذ علي في السفر الثاني فإنّي أوجدك ذِكره وذِكر وصيّه وذِكر ابنته فاطمة وذِكر الحسن والحسين، فلمّا سمع الجاثليق ورأس الجالوت علما أنّ الرضا عليه السلام عالم بالتوراة والإنجيل، فقالا: واللهِ قد أتي بما لا يمكننا ردّه ودفعه إلاّ بجحود التوراة والانجيل والزبور، ولقد بشّر به موسي وعيسي ولكن لم يتقرّر عندنا بالصحّة أنّه محمد هذا، فأمّا اسمه فمحمد فلا يجوز لنا أن نقرّلكم بنبوّته، ونحن شاكُون أنه محمّد كم أو غيره، فقال الرضا عليه السلام: احتججتم بالشكّ، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلي يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله علي جميع الأنبياء غير محمد؟ فأحجموا عن جوابه، قالوا: لا يجوز لنا أن نقرّلك بأنّ محمداً هو محمّد كم؛ لأنّا إن أقررنا لك بمحمّد ووصيّه وابنته وابنيهما علي ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً، فقال: الرضا عليه السلام : أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله وذمّة رسوله لا يبدرك منّا شيء تكره ممّا تخافه وتحذره، قال: أمّا إذ قد أمنتني فإنّ هذا النبي الذي اسمه محمّد وهذا الوصيّ الذي اسمه عليّ، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والأنجيل والزبور، قال الرضا عليه السلام : فهذا الذي ذكرته في التوراة والإنجيل والزبور من اسم هذا النبيّ وهذا الوصيّ وهذه البنت وهذين السبطين صدق وعدل أم كذب وزور؟ قال: بل صدق وعدل ما قال إلاّ الحقّ، فلمّا أخذ الرضا عليه السلام إقرار الجاثليق بذلك، قال لرأس الجالوت: فاسمع الآن يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود، قال: هاتِ بارك الله عليك وعلي ولدك، فتلا الرضا

ص: 234

عليه السلام السفر الأول من الزبور حتّي انتهي إلي ذِكر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: سألتُك يا رأس الجالوت بحقّ الله هذا في زبور داود ولك من الأمان والذمة والعهد ماقد أعطيته الجاثليق؟ فقال رأس الجالوت: نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم، قال الرضا عليه السلام: بحقّ العشرة الآيات التي أنزلها الله علي موسي بن عمران في التوراة، هل تجد صفة محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلي العدل والفضل؟ قال: نعم، ومن جحدها كافر بربّه و أنبيائه، قال له الرضا عليه السلام: فخُذ الآن في سفر كذا من التوراة، فأقبل عليه السلام يتلو التوراة ورأس الجالوت يتعجّب من تلاوته وبيانه وفصاحته، حتّي بلغ ذكر محمد، قال رأس الجالوت: نعم هذا أحماد وإليا وبنت أحماد وشبر وشبير، تفسيره بالعربية محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فتلا الرضا عليه السلام إلي تمامه، فقال رأس الجالوت لمّا فرغ من تلاوته: والله يابن محمّد لولا الرئاسة التي حصلت لي علي جميع اليهود لآمنتُ بأحمد واتّبعتُ أمرك، فوالله الذي أنزل التوراة علي موسي والزبور علي داود ما رأيتُ أقرء للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك.

إلي أن قال محمد بن فضيل: كان فيما أوصاني به الرضا عليه السلام في وقت منصرفه من البصرة أن قال لي: صِر إلي الكوفة فاجمع الشيعة وأعلِمْهم أنّي قادم عليهم إلي أن قال: انظر يا محمّد مَن بالكوفة من المتكلّمين والعلماء فأحضِرهم، فأحضرناهم، فقال لهم الرضا عليه السلام: إنّي أريد أن أجعل لكم حظّاً من نفسي كما جعلتُ لأهل البصرة، وإنّ الله قد علّمني كلّ كتاب أنزله، ثمّ أقبل علي جاثليق _ وكان معروفاً بالجدل والعلم والانجيل _ فقال: يا جاثليق هل تعرف لعيسي صحيفة فيها خمسة أسماء يعلّقها في عنقه، إذا كان بالمغرب فأراد المشرق فتحها فأقسم علي الله باسمٍ واحد من خمسة الأسماء أن تنطوي له الأرض، فيصير من المغرب إلي المشرق ومن المشرق إلي المغرب فيلحظة؟

ص: 235

فقال الجاثليق: لا عِلم لي بها، وأمّا الأسماء الخمسة فقد كانت معه يسأل الله بها أو بواحد منها يُعطيه الله جميع ما يسأله.

قال: الله أكبر، إذاً ما تنكر الأسماء. فأمّا الصحيفة فلا يضرّ أقررتَ بها أم أنكرتها، اشهدوا علي قوله.

ثمّ قال: يا معاشر الناس أليس أنصف الناس من حاجّ خصمه بملّته وكتابه ونبيّه وشريعته؟ قالوا: نعم، قال الرضا عليه السلام: فاعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمّد إلا من قام بما قام به محمّد حين يُفضي الأمر إليه، ولا يصلح للإمامة إلاّ من حاجّ الأمم بالبراهين للإمامة. فقال رأس الجالوت: وما هذا الدليل علي الإمام؟

قال: أن يكون عالماً بالتوراة والانجيل والزبور والقرآن الحكيم، فيحاجّ أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقر آنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتّي لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاجّ كلَّ قوم بلُغتهم، ثمّ يكون مع هذه الخصال تقيّاً نقيّاً من كلّ دنس، طاهراً من كلّ عيب، عادلاً منصفاً حكيماً رؤوفاً رحيماً مغفوراً عطوفاً صادقاً مشفقاً بارّاً أميناً مأموناً واثقاً قائماً، فقام إليه رجل فقال: يابن رسول الله ماتقول في جعفر بن محمد؟ قال: ما أقول في إمام شهدت أمّة محمّد قاطبة بأنّه كان أعلم أهل زمانه، قال: فما تقول في موسي بن جعفر؟ قال: كان مثله، قال: فإنّ الناس قد تحيّروا في أمره، قال: إنّ موسي بن جعفر عمّر برهة من الزمان فكان يكلّم الأنباط بلسانهم، ويكلّم أهل خراسان بالدريّة، وأهل روم بالروميّة، ويكلّم العجم بألسنتهم، وكان يرد عليه من الآفاق علماء اليهود والنصاري فيحاجّهم بكتبهم وألسنتهم، فلمّا نفذت مدّته وكان وقت وفاته أتاني مولي برسالته يقول: يا بُنّي إنّ الأجل قد نفد، والمدة قد انقضت، وأنت وصيّ أبيك، فإنّ رسول الله صلي الله عليه وآله لمّا كان وقت وفاته دعا عليّاً وأوصاه ودفع إليه الصحيفة التي كان فيها الأسماء التي خصّ الله بها الأنبياء والأوصياء، ثمّ قال: يا علي ادن منّي، فغطّي رسول الله صلي الله عليه وآله رأس علي عليه السلام

ص: 236

بملاءة، ثمّ قال له: أخرج لسانك، فأخرجه فختمه بخاتمه، ثمّ قال: يا علي اجعل لساني في فيك فمصّه وأبلغ عني كلّ ما تجد في فيك: ففعل علي ذلك، فقال له: إنّ الله فهّمك ما فهّمني، وبصّرك ما بصّرني، وأعطاك من العلم ما قد أعطاني إلاّ النبوّة فإنّه لا نبّي بعدي، ثمّ كذلك إمام بعد إمام، فلمّا مضي موسي علمت كلّ السان و كلّ كتاب، انتهي.(1)

***

والمراد بالكتب إمّا كتب الله وهو علي تقدير رجوع الضمير فيه إليه سبحانه، فالمراد بها القرآن وما أنزل قبله من الصحف والكتب السماويّة.

أمّا كونهم كهف القرآن والحافظين له والعاملين به: تأويله وتنزيله ظهره وبطنه وبطن بطنه وهكذا إلي سبعة أبطن، وكذلك سائر أوصافه من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والأحكام والتشابه إلي غير ذلك.

عدد الكتب السماوية:

وأمّا سائر الكتب السماويّة وهي مائة كتاب وأربعة كتب علي ما تضمّنته رواية أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ؟ قال صلي الله عليه وآله: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل منها علي آدم عشر صحف، وعلي شيث خمسين صحيفة، وعلي أخنوخ _ وهو إدريس _ ثلاثين صحيفة، وعلي إبراهيم عشر صحائف، وأنزل علي موسي قبل التوراة عشرة صحائف، وأنزلت التوراة والأنجيل والزبور والفرقان، وكانت صحف إبراهيم كلّها أمثالاً.(2)

وروي في البحار من إرشاد القلوب بالإسناد إلي المفيد، يرفعه إلي سلمان

ص: 237


1- بحار الأنوار 49: 73 - 81/ ح 1.
2- عوالي اللئالي 1: 92؛ الخصال للصدوق 523 - 526/ ح 13.

الفارسي رَضي الله عَنهُ قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «يا سلمان الويل كلّ الويل لمن لا يعرف لنا حقّ معرفتنا و أنكر فضلنا، يا سلمان أيّما أفضل محمّد و أم سليمان بن داود عليه السلام؟

قال سلمان: قلت: بلي محمّد أفضل، فقال: يا سلمان فهذا آصف بن برخيا قدر أن يحمل عرش بلقيس من فارس إلي سبأ في طرفة عين وعنده عِلمٌ من الكتاب، ولا أفعل أنا ذلك وعندي مائة كتاب وأربعة وعشرون كتاباً؟ أنزل الله علي شيث بن آدم خمسين صحيفة، وعلي إدريس ثلاثين صحيفة، وعلي إبراهيم الخليل عشرين صحيفة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فقلت: صدقت يا سيدي، قال الإمام عليه السلام: إنّ الشاكّ في أمورنا و علومنا كالمستهزئ في معرفتنا أو حقوقنا، وقد فرض الله ولايتنا في كتابه في غير موضع، وبيّن ما أوجب العمل به وهو مكشوف».(1)

ومن كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم من خبر طويل قال: جاء بريهة جاثليق النصاري فقال لأبي الحسن عليه السلام: جُعلت فداك أنّي لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟

قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوها؛ إنّ الله لا يجعل حجّة في أرضه يُسئل عن شيء فيقول: لا أدري، الخبر.(2)

ومن بصائر الدرجات بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمّد عندنا الصحف التي قال الله «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَيٰ»، قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.(3)

هذا كلّه علي احتمال أن يكون المراد بالكتب الكتب المنزلة من الله سبحانه، وأمّا علي تقدير رجوع الضمير في كتبه إلي النبيّ صلي الله عليه وآله، فالمراد بالكتب القرآن وغيره ممّا أشير إليه في الأخبار. مثل مارواه في البحار من البصائر

ص: 238


1- بحار الأنوار 26: 221 - 222/ ح 47.
2- التوحيد للصدوق: 270 - 275، ح 37.
3- بصائر الدرجات: 157/ ح8.

بإسناده عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر عليه السلام قال: حدّثني أبي عمّن ذكره، قال: خرج علينا رسول الله صلي الله عليه وآله وفي يده اليمني كتاب، وفي يده اليسري كتاب، فنشر الكتاب الذي في يده اليمني فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم كتاب لأهل الجنّة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يُزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد، قال: ثمّ نشر الذي بيده اليسري فقرأ: كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم لا يُزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد».(1)

ومن البصائر أيضاً بإسناده عن الأعمش قال: قال الكلبي: يا أعمش أيّ شيء أشدّ ما سمعت من مناقب علي عليه السلام؟ قال: فقال: حدّثني موسي بن طريف عن عباية، قال: سمعت علياً عليه السلام وهو يقول: «أنا قسيم النار، فمن تبعني فهو منّي، ومن عصاني فهو من أهل النار» فقال الكلبي: عندي أعظم ممّا عندك، أعطي رسول الله صلي الله عليه وآله علياً عليه السلام كتاباً فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار، فوضعه عند أم سلمة، فلمّا ولي أبو بكر طلبه فقالت: ليس لك، فلمّا ولي عمر طلبه فقالت: ليس لك، فلمّا ولي علي عليه السلام دفعته إليه.(2)

ومنه أيضاً بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد إنّ عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة! قال: قلت: جُعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلي الله عليه وآله أملاه من فلق _ أي من شفته _ فيه، وخطّه علي عليه السلام بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شيء يَحتاج إليه الناس حتّي الأرش في الخدش».(3)

وفي الاحتجاج في حديث طويل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وكان عليه السلام يقول: علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع، وإنّ عندنا الجفر

ص: 239


1- بصائر الدرجات: 211/ح 2؛ بحار الأنوار 17: 146 _147/ ح 40.
2- بصائر الدرجات: 211ح/3.
3- بصائر الدرجات: 163/ ح 4؛ بحار الأنوار 26: 22/ح 11.

الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة عليها السلام، وعندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه، فسُئل عن تفسير هذا الكلام، فقال عليه السلام: أمّا الغابر فالعلم بما يكون، وأمّا المزبور فالعلم بما كان، وأمّا النكت في القلوب فهو الإلهام، وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة نسمع كلامهم ولا نري أشخاصهم، وأمّا الجفر الأحمر فوعاءٌ فيه سلاح رسول الله صلي الله عليه وآله ولن يخرج حتّي يقوم قائمنا أهل البيت، وأمّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسي وإنجيل عيسي وزبور داود وكتب الله الأولي، وأمّا مصحف فاطمة عليها السلام ففيه ما يكون من حادث وأسماء من يملك ومن لا يملك إلي أن تقوم الساعة، وليس فيه قرآن، وأمّا الجامعة فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله صلي الله عليه وآله من فلق فيه وخطّ علي بن أبي طالب عليه السلام بيده، فيه _ والله _ جميع ما يحتاج الناس إليه إلي يوم القيامة، حتّي أنّ فيه أرش الخدش والجلدة والنصف الجلدة» الحديث.(1)

السادس: أهل البيت عليهم السلام جبال الدين

ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «وجبال دينه» قال الشارح المعتزلي: لا يتحلحلون عن الدين أو أنّ الدين ثابت بوجودهم كما أنّ الأرض ثابتة بالجبال، لولا الجبال لمادت بأهلها.(2)

وقال البحراني: وأشار بكونهم جبال دينه إلي أنّ دين الله سبحانه بهم يعتصم عن وصمات الشياطين وتبديلهم وتحريفهم كما يعتصم الخائف بالجبل ممّن يؤذيه.

قال ميرزا حبيب الله الخوئي: والمعيار متقاربان والمقصود واحد، وهو أنّ وجودهم سبب لبقاء الدين و انتظام أمر المسلمين، وبهم ينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين و تأويل الجاهلين.

ص: 240


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 134.
2- شرح نهج البلاغة: 1: 138، ط مكتبة المرعشي النجفي - قم.

كما روي في البحار من كتاب قرب الاسناد عن هارون، عن ابن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام أنّ النبي صلي الله عليه وآله قال: «في كلّ خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين و تأويل الجهّال، وإنّ أئمتكم وفد كم إلي الله، فانظروا من توفدون في دينكم وصلواتكم».(1)

ومن علل الشرائع بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ الله لم يدع الأرض إلاّ وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان من دين الله عزّوجَل، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردّهم، وإذا نقصوا أكمل لهم، ولولا ذلك لالتبس علي المسلمين أمرهم»(2).

وعن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «لن تبقي الأرض إلاّ وفيها من يعرف الحقّ، فإذا زاد الناس فيه قال: قد زادوا، وإذا نقصوا منه قال: قد نقصوا، وإذا جاؤوا به صدقهم، ولو لم يكن كذلك لم يُعرف الحقّ من الباطل»(3) والأخبار في هذا المعني كثيرة.

السابع والثامن: أهل البيت عليهم السلام سبب قوام الدين

ما أشار إليه عليه السلام بقوله: «بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه» والمراد بذلك _ علي تقدير رجوع الضمير في ظهره و فرائصه إلي الدين _ واضح، وهو أنّهم أسباب لقوام الدين ورافعون لإضطرابه حسبما عرفتَ آنفاً. وأمّا علي تقدير رجوعها إلي النبي صلي الله عليه وآله فهو إشارة إلي أنّ الله سبحانه جعلهم أعضاداً يشدّون أزره ويقومون ظهره، وانحناء ظهره كناية عن ضعفه في بدء الإسلام، وارتعاد الفرائص كناية عن الشيء ببعض لوازمه، إذ كان ارتعاد الفرائص من لوازم شدّة الخوف، يعني أنّ الله أزال عنه صلي الله عليه وآله بمعونتهم خوفه

ص: 241


1- بحار الأنوار 23: 30/ ح46.
2- علل الشرايع 1: 200/ ح 27.
3- علل الشرايع 1: 200/ ح 30.

الذي كان يتوقّعه من المشركين علي حوزة الدين، واتّصافهم عليهم السلام بهذين الوصفين ظاهر لا ريب فيه، لأنّهم لم يألوا جهدهم في نصرة النبي صلي الله عليه وآله وتقوية دينه قولاً أو فعلاً، وقد قال الله تعالي:

«وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ». (1)

وقد روي العامّة والخاصّة عن أبي هريرة قال: مكتوب علي العرش «لا إله إلاّ أنا وحدي لا شريك لي، ومحمّد عبدي ورسولي أيّدتُه بعلي عليه السلام، فأنزل الله عزّوجَل:

«هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ».(2)

فكان النصر عليّاً عليه السلام، ودخل مع المؤمنين فدخل في الوجهَين جميعاً، وبمضمونه أخبار أخر من الطريقَين، وقال سبحانه أيضاً:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».(3)

قال أبو هريرة: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام وهو المعنيّ بقوله: «المؤمنين».(4)

وبالجملة فانتصار النبي صلي الله عليه وآله بأمير المؤمنين عليه السلام وحمايته له باليد واللسان وجدّه في إعلاء كلمة الإسلام ممّا هو غني عن البيان.

بدر له شاهد والشعب من أحد *** والخندقان ويوم الفتح إن علموا(5)

وكفي بذلك شاهداً مبيته علي فراش رسول الله صلي الله عليه وآله حتّي باهي الله سبحانه بذلك علي ملائكته وأنزل:

ص: 242


1- الأنفال: 63.
2- أمالي الصدوق: 28/ ح 312؛ نظم درر السمطين: 120.
3- الأنفال: 64.
4- بحار الأنوار 9: 94؛ مناقب آل أبي طالب 2: 311.
5- مناقب آل أبي طالب 3: 307؛ بحار الأنوار 46: 127.

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ».(1) (2)

وبرازه يوم الخندق لعمرو بن عبدودّ، حتّي أنزل فيه: «وَكَفَي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ»(3) بعليّ بن أبي طالب، وقتله عمراً علي ما ورد في الروايات الكثيرة،(4) وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ضربة عليّ أفضل من عبادة الثقلين.(5)

وأمّا سائر الأئمة عليهم السلام فقد كانت هممهم مقصورة علي حماية حمي الدين وإحياء أحكام سيّد المرسلين، بعضهم بالقتال والجدال كالحسين عليه السلام، وبعضهم باللسان والبيان كسائر المعصومين عليهم السلام، وذلك مع ما هم عليه من التقيّة والخوف، ولذلك أنّ الصادقين لها لما تمكّنا من إظهار الأحكام ونشر الشرايع، وزالت عنهما التقيّة التي كانت علي غيرهما، قصرا أوقاتهما في إحياء الشريعة وإقامة السنّة علي ما هو معروف، وقد كان أربعة آلاف نفر من أهل العلم خرّيجي مدرسة الإمام الصادق عليه السلام حتّي صنّفوا من أجوبته في المسائل أربعمائة كتاب وهي معروفة بكتب الأصول، فبوجودهم استقام أمر الدين واستحكمت شريعة خاتم النبيّين، وبقائمهم يملا الله الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً و جوراً.

***

ص: 243


1- البقرة: 207.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان 2: 345؛ شواهد التنزيل 1: 103/ ح 14.
3- الأحزاب: 25.
4- روضة الواعظين: 106؛ بحار الأنوار 20: 205.
5- كشف اليقين للعلاّمة الحلّي: 83؛ عوالي اللئالي 4: 86/ ح 102.

ص: 244

ومن خطبة له عليه السلام :يوصي بالتقوي والاعتبار بالقرون السالفة ويشير إلي المهدي عليه السلام

اشارة

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَي اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَي الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عليه السلام) الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ فَلَمَّا اسْتَوْفَي طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ «وَ مِنْهَا» قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ».(شرح ابن أبي الحديد مج 2 ص 534 ط الأولي).

***

ضبط الألفاظ اللغوية:

(الرياش) والريش ما ظهر من اللباس، وقيل الرياش جمع الريش وهو اللباس الفاخر. و(المعاش) والمعيشة مكتسبة الإنسان الذي يعيش به، و (السلّم) كسكّر ما يُرتفي عليه، و(القسيّ) جمع القوس، و(النبل) السهام العربية، و(العمالقة) والعماليق أولاد عمليق من ولد نوح، و(الفراعنة) جمع فرعون، و(الرسّ) بتشديد السين نهر عظيم بين آذربيجان وإرمينيّة، وهو المعروف بالآن بالأرس، مبدؤه من مدينة طراز وينتهي إلي شهر الكر فيختلطان ويصبّان في البحر.

ص: 245

وقال في القاموس: بئر كانت لبقيّة من ثمود كذّبوا نبيّهم ورسّوه في بئر، و (مدّن المدائن) مصّرها، و (الجُنّة) بالضم نوع من السلاح يُتّقي به. (عسيب ذنبه) العسيب عظيم الذنب أو منبت الشعر منه، و (جران) البعير صدره أو مقدّم عنقه.

***

الشرح:

قوله عليه السلام: «أوصيكم عباد الله بتقوي الله» التي هي الزاد وبها المعاد، زاد مبلغ ومعاد منجح، وهي أن لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.

وإنّما عقّب بالموصول، أعني قوله «الذي ألبسكم الرياش وأسبغ عليكم المعاش» تأكيداً للغرض المسوق له الكلام، وتنبيهاً علي أنّه سبحانه مع عظيم إحسانه ومزيد فضله وإنعامه حيث أنعم عليكم باللباس والرياش، وأكمل عليكم المعاش، اللذين هما سببا حياتكم وبهما بقاء نوعكم، كيف يسوغ كفران نعمته بالعصيان، ومقابلة عطوفته بالخطيئة، بل اللازم مكافاة نعمائه بالتقوي و عطاياه بالحسني.

ثمّ لمّا كان رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدنيا، وكان عمدة أسباب الغفلة والضلالة الركون إليها وطول الأمل فيها، نبّه علي فنائها وزوالها بقوله: (ولو أنّ أحداً يجد إلي البقاء سلمّاً) ووسيلة (أو لدفع الموت سبيلاً)، أو سبباً (لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام) لأنّه (الذي) اختصّ من سائر الخلق لكمال السلطنة والملك العظيم حيث (سخّر له ملك الجنّ والانس والوحش والطير فهم يوزعون (مع النبوّة وعظيم الزلفة) والقربي إلي الحقّ سبحانه. ومعلوم أنّ النبوّة والتقرّب والمنزلة من الوسائل إلي البقاء لاستجابة الدعاء معهما، فهما مظنّتان للتوصّل إليه في الباطن كما أنّ الملك والسلطنة مظنّة لأن تكون وسيلة إليه في الظاهر، لكنّه مع نبوّته وعظم سلطانه وقدرته علي ما لم يقدر عليه غيره لم يجد وسيلة إلي البقاء، فليس لأحد بعده أن يطمع في وجدانه. أمّا أنّه عليه السلام لم يجد

ص: 246

وسيلة إلي ذلك، فلأنّه (لما استوفي طُعمته) أي رزقه المقدّر (واستكمل مدّته) المقرّرة (رمته قسيُّ الفناء بنبال الموت) إسناد الرمي إلي القسيّ من المجاز العقليّ والنسبة إلي الآلة.

قال الشارح البحراني: ولفظ القسيّ والنبال استعارة لمرامي الأمراض وأسبابها التي هي نبال الموت. (وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة ورثها قوم آخرون).

سليمان عليه السلام وملك الموت:

جاء في البحار من (العلل) و(العيون) عن أحمد بن زياد الهمداني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السلام، عن أبيه موسي بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد قال: «إنّ سليمان بن داود عليه السلام، قال ذات يوم لأصحابه: إنّ الله تبارك وتعالي قد وهب لي مُلكاً لا ينبغي الأحد من بعدي، سخّر لي الريح والإنس والجنّ والطير والوحوش، وعلّمني منطق الطير، و آتاني كلّ شيء، ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلي الليل، وقد أحببتُ أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلي ممالكي، فلا تأذنوا لأحدٍ عليَّ لئلاّ يرد عليَّ ما ينغّص عليَّ يومي، قالوا: نعم.

فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلي أعلي موضع من قصره، وقف متّكئاً علي عصاه ينظر إلي ممالكه مسروراً بما أوتي، فرحاً بما أعطي، إذ نظر إلي شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمان عليه السلام قال:من أدخلك إلي هذا القصر وقد أردتُ أن أخلو فيه اليوم، فيإذن من دخلت؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربُّه، وبإذنه دخلت، فقال عليه السلام: ربّه أحقّ به مني، فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت. قال: وفيما جئت؟

قال: جئت لأقبض روحك، قال: إمضِ لما أمرت به فهذا يوم سروري، وأبي الله عزّوجَل أن يكون لي سرور دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ علي عصاه.

ص: 247

فبقي سليمان متّكئاً علي عصاه وهو ميّت ما شاء الله والناس ينظرون إليه، وهم يقدّرون أنّه حي، فافتتنوا فيه واختلفوا، فمنهم من قال: إنّ سليمان قد بقي متّكئاً علي عصاه هذه الأيام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب، إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده، وقال قوم: إنّ سليمان ساحر، إنّه يرينا أنّه واقف ومتّكئ علي عصاه بسحر أعيننا وليس كذلك. فقال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد الله ونبيّه يدبّر الله بما شاء.

فلمّا اختلفوا بعث الله عزّوجَل الأرضة فدبّت في عصاه، فلمّا أكلت جوفها انكسرت العصا وخرّ سليمان من قصره علي وجهه، فشكر الجنّ للأرضة صنيعها، فلأجل ذلك لا توجد الأرضة في مكان إلاّ وعندها ماء وطين، وذلك قول الله عزّوجَل: «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَيٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ» .(1) (2)

قصة راعي الغنم مع صاحب الزرع:

كان سليمان عليه السلام أنبه الملوك شأناً، وأعجبهم نبأ، وأمدًهم شوكة، وأبسطهم ولاية، ناهيك بما فيه من النبوّة والحكمة، فإنّه خُصّ بأمور ليس من سعة العقل أن يتصوّرها في مخلوق سواه، فذكروا أنّ أوّل ما ظهر من نجابته و تبريزه في القضاء مسألة راعي الغنم مع صاحب الزرع، قالوا: أتي يوماً صاحب الزرع إلي داود عليه السلام وقال له: إنّ هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في زرعي فلم تُبقِ منه شيئاً، قال له داود: اذهب فإنّ الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فمرّا علي سليمان وهو ابن إحدي عشرة سنة، فقال لهما: كيف قضي بينكما؟

ص: 248


1- سبأ: 14.
2- علل الشرايع: 73 - 74/ ح 2؛ عيون أخبار الرضا 2: 239 - 240/ ح 24؛ بحار الأنوار 14: 136 - 137/ ح 1.

فأخبراه، فقال: لو وليتُ أمر كما لقضيت بغير هذا، فأخبرا بذلك داود النبي عليه السلام، فاستقدمه وقال له: كيف كنت تصنع في القضاء بينهما؟ قال: كنت أدفع الغنم إلي صاحب الحرث سنة فيكون له نسلها وصوفها ومنافعها، وينذر صاحب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كھيئته يوم أكل فيدفع إلي أهله ويأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيتَ،(1) وعلي ذلك الآية: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا»(2) والآية المشيرة إلي هذه القصة في قوله تعالي: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ».(3)

إجابة سليمان عليه السلام علي أسئلة السماء:

وأنزل الله علي داود كتاباً من السماء مختوماً بخاتم من ذهب فيه ثلاث عشرة مسألة، فأوحي إليه أن: سَل عنها ابنك سليمان، فإن هو أخرجها فهو الخليفة من بعدك، فدعا داود سبعين قسّاً وسبعين حبراً وأجلس سليمان بين أيديهم وقال: يابُنيّ إنّ الله تعالي أنزل عليَّ كتاباً من السماء فيه مسائل أمرني أن أسألك عنها، فإن أخرجتها فأنت الخليفة من بعدي؟

فقال سليمان: ليسأل نبي الله عمّا بدا له وما توفيقي إلاّ بالله.

قال داود: يابُنيّ ما أقرب الأشياء وما أبعدها؟ وما أنس الأشياء وما أو حشها؟ وما أحسن الأشياء وما أقبحها؟ وما أقلّ الأشياء وما أكثرها؟ وما القائمان؟ وما الساعيان؟ وما المشتركان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل ذمّ آخره؟

ص: 249


1- تفسير الطبري 17: 68.
2- الأنبياء: 79.
3- الأنبياء: 78.

فقال سليمان: أمّا أقرب الأشياء فالآخرة، وأمّا أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا، وأمّا آنس الأشياء فجسدٌ فيه روح، وأمّا أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه، وأمّا أحسن الأشياء فالايمان بعد الكفر، وأمّا أقبح الأشياء فالكفر بعد الايمان، وأمّا أقلّ الأشياء فاليقين، وأمّا أكثر الأشياء فالشكّ، وأمّا القائمان فالسماء والأرض، وأمّا الساعيان فالشمس والقمر، وأمّا المشتركان فالليل والنهار، وأمّا المتباغضان فالموت والحياة، وأمّا الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم عند الغضب، وأما الأمر الذي إذا ركبه الرجل ذمّ آخره فالحدّة عند الغضب، ففكّوا خاتم الكتاب فإذا جواب السؤال سواء علي ما نزل من السماء. فقال القسّيسون والرهبان: لا نرضي حتّي نسأله عن مسألة، فإن أخرجها فهو الخليفة من بعدك.

فقال سليمان: سلوني وما توفيقي إلاّ بالله.

قالوا: ما الشيء الذي إذا صلح صلح كلّ شيء من الإنسان، وإذا فسد فسد كلّ شيء منه ؟ فقال: هو القلب.

فقام داود وصعد المنبر فحمد الله تعالي وأثني عليه ثم قال: إنّ الله تعالي يأمرني أن استخلف عليكم سليمان، فضجّوا وقالوا: غلام حدث يُستخلف علينا وفينا من هو أفضل منه وأعلم منه، فبلغ ذلك داود فدعا رؤساء أسباط بني اسرائيل وقال لهم: أروني عصيكم فأيّ عصاة أثمرت فإنّ صاحبها وليّ هذا الأمر بعدي، قالوا: رضينا، فجاؤا بعصيّهم، فقال لهم داود: ليكتب كلّ رجل منكم اسمه علي عصاه، فكتبوا، ثمّ جاء سليمان بعصاه فكتب اسمه عليها، ثمّ أدخلت العصيّ بيتاً وأغلق عليها الباب وسُدّ بالأقفال، ومرّت رؤساء أسباط بني إسرائيل، فلمّا أصبح فتح الباب فأخرج عصيّهم كما هي، و أمّا عصا سليمان فقد أورقت وأثمرت، فسلّموا إليه الأمر.(1)

ص: 250


1- بحار الأنوار 14: 5.

وفي المجلّد الأول من السيرة الحلبية ص 27 ط _ 2 مطبعة الأزهرية بمصر.

من وصايا داود لسليمان عليهما السلام:

«إنّ داود عليه السلام لمّا استخلف ولده سليمان أوصاه فقال: يا بُنيّ إيّاك والهزل فإنّ نفعه قليل ويهيّج العداوة بين الاخوان، ومن ثمّ قيل لا تمازح الصبيان فتهون عليهم، ولا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيّ فيجترء عليك، ولكلّ شيء بذور وبذر العداوة المزاح. وقد قيل: المزاح يذهب بالمهابة ويورث الضغينة، وقيل: آكد أسباب القطيعة المزاح، وقد قيل: من كثر مزاحه لم يخلُ من استخفاف به أو حقد عليه، واقطع طمعك من الناس فإنّ ذلك هو الغِني، وإيّاك وما تعتذر فيه من القول أو الفعل، وعوّد لسان الصدق، والزم الإحسان، ولا تُجالس السفهاء، وإذا غضبت فألصق نفسك بالأرض _ وقد جاء في الحديث (إذا جهل علي أحدكم جاهل فإن كان قائماً جلس، وان كان جالساً فليضطجع). (1)

نوادر أخبار ملك سليمان عليه السلام :

و قال تعالي في سورة النمل: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَيٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ»(2)

وفي سورة سبأ: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ

ص: 251


1- لم أعثر عليه بهذا اللفظ. وقد روي عن النبيّ صلي الله عليه وآله: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع. انظر: الترغيب والترهيب 3: 450/ ح19؛ مسند أحمد 5: 152.
2- النمل: 15 و16.

السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ».(1)

وقوله سبحانه: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ».(2)

قال الإمام الصادق عليه السلام في رواية إكمال الدين: «إنّ داود عليه السلام أراد أن يستخلف سليمان لأنّ الله عزّوجَل أوحي إليه بأمره بذلك، فلمّا أخبر بني اسرائيل ضجّوا من ذلك وقالوا: يستخلف علينا حدثاً وفينا من هو أكبر منه، فدعي أسباط بني اسرائيل فقال لهم: قد بلغني مقالتكم، فأروني عصّيكم فأيّ عصا أثمرت فصاحبها وليّ الأمر»(3) الحديث المتقدّم الذكر.

وفي البحار من محاسن البرقي عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام قال: استخلف داود سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة، ومكث في ملكه أربعين سنة.(4)

قوله : «عُلّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» قيل: إنّ النطق عبارة عن الكلام وهو مختصّ بالانسان، إلاّ أنّ سليمان لمّا فهم معني صوت الطير سمّاه منطقاً مجازاً، وقال علي بن عيسي: إنّ الطير كانت تكلّم سليمان عليه السلام معجزة له كما أخبر عن الهدهد، و منطق الطير صوت يتفاهم به معانيها علي صيغة واحدة، بخلاف منطق الناس الذي يتفاهمون به المعاني علي صيغ مختلفة، ولذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها ولم تفهم هي عنّا، لأنّ إفصاحها مقصور علي تلك الأمور المخصوصة، ولمّا جعل سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها.

قوله: «وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» أي من كلّ شيء تؤتي الأنبياء والملوك، وقيل: من كلّ شيء يطلبه طالب لحاجته إليه وانتفاعه به.

ص: 252


1- سبأ: 12 و 13.
2- النمل: 16.
3- كمال الدين: 156 الباب 7/ ح 17.
4- بحار الأنوار 11: 56/ ح 5.

وقوله: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ»(1) قال الطبرسي: أي وسخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح المسخّرة مسير شهر، و مسير رواحها مسير شهر، والمعني أنّها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب. قال قتادة: كانت تغدو مسيرة شهر إلي نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلي آخر النهار. وقال الحسن: كانت تغدو من دمشق فتقيل باصطخر من أرض اصفهان وبينهما مسيرة شهر للمستريح، وتروح من اصطخر فتبيت بكابل وبينها مسيرة شهر، تحمله الريح مع جنوده، أعطاه الله الريح بدلاً من الصافنات الجياد.

قوله: «وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» أي أذبنا له عين النحاس وأظهرناها له.

قوله: «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» المعني وسخّرنا له من الجنّ من بحضرته وأمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدميّ بين يدي الآدميّ بأمر ربّه تعالي، وكان يكلّفهم الأعمال الشاقة، وفيه دلالة علي أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له.

قوله: «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ» أي من يعدل من هؤلاء الجنّ الذين سخّرناهم لسليمان عمّا أمرناهم به من طاعة سليمان نُذقه من عذاب النار في الآخرة عن أكثر المفسّرين. وقيل: نذقه العذاب في الدنيا، وأنّ الله سبحانه و كّل بهم ملكاً بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم من طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.

بناء بيت المقدس:

قوله: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ» وهي بيوت الشريعة، قيل: وهي القصور والمساجد يتعبّد فيها، عن قتادة والجبائي، قال: وكان ممّا عملوا بيت المقدس، وقد كان الله عزّوجَل سلّط علي بني إسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد، فأمرهم داود أن يغتسلوا ويبرزوا إلي الصعيد بالذراري والأهلين

ص: 253


1- سبأ: 12.

ويتضرّعوا إلي الله تعالي لعلّه يرحمهم، وذلك صعد بيت المقدس قبل بناء المسجد، وارتفع داود عليه السلام فوق الصخرة فخرّ ساجداً يبتهل إلي الله سبحانه وسجدوا معه، فلم يرفعوا رؤوسهم حتّي كشف الله عنهم الطاعون.

فلمّا أن شفّع الله داود في بني اسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث وقال لهم: إنّ الله تعالي قد منّ عليكم ورحمكم، فجدّدوا شكراً بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً، ففعلوا، وأخذوا في بناء بيت المقدس، فكان داود عليه السلام ينقل الحجارة لهم علي عاتقه، كذلك خيار بني اسرائيل حتّي رفعوه قامة، ولداود يومئذ سبع وعشرون ومائة سنة، فأوحي الله إليه أنّ تمام بنائه يكون علي يد ابنه سليمان.

فلمّا صار داود عليه السلام ابن أربعين ومائة سنة توفّاه الله تعالي واستخلف سليمان، فأحبّ إتمام بيت المقدس، فجمع الجنّ والشياطين فقسّم عليهم الأعمال، يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل، فأرسل الجنّ والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه،وأمر ببناء المدينة من الرخام والصفاح وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل كلّ ربض منها سبطاً من الأسباط.

فلمّا فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجّه الشياطين فرقاً، فرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها، وفرقة يقلعون الجواهر والأحجار من أماكنها، وفرقة يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب، وفرقة يأتونه بالدرّ من البحار، فأوتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ الله تعالي، ثمّ أحضر الصنّاع وأمرهم بنحت تلك الأشجار حتّي يصيّروها ألواحاً، ومعالجة تلك الجواهر واللآلي.

وبني سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقّفه بألواح الجواهر، وفضّض سقوفه وحيطانه باللآلي واليواقيت والجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض بيت أبهي منه ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

ص: 254

وجعل فيه أشياء عجيبة: منها القبّة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحقّ ولا ينالها المبطل، حتّي اضمحلت بحيلة غير معروفة، وكان من عجائب بنائه أنّه بني بيتاً وأحكمه وَصَقَله، فإذا دخله الفاجر والورع تبيّن الفاجر من الورع، لأنّ الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض، والفاجر يظهر خياله أسود، وكان أيضاً ممّا اتّخذ من الأعاجيب أن نصب في زاوية من زواياه عصا آبنوس، فكان من مسّها من أولادالأنبياء لم تضرّه، ومن مسّها من غيرهم أحرقت يده.

فلمّا فرغ من ذلك جمع إليه خيار بني اسرائيل فأعلمهم أنّه بناه لله تعالي، واتّخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً.

فلم يزل بيت المقدس علي ما بناه سليمان حتّي غزا بخت نصّر بني إسرائيل فخرّب المدينة وهدمها، ونقض المسجد وأخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذهب والدرّ واليواقيت والجواهر، فحملها إلي دار مملكته من أرض العراق.

قال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتّي قال في دعائه: بصلوات أبي داود عليه السلام إلاّ فتحت الأبواب، ففرغ له عشرة آلاف من قرّاء بني اسرائيل: خمسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار، ولا تأتي ساعة من ليل ونهار إلاّ ويعبد الله فيها.

قوله: «وَتَمَاثِيلَ» يعني صوراً من نحاس وشبه زجاج كانت الجنّ تعملها، ثمّ اختلفوا فقال بعضهم: كانت صوراً للحيوانات، وقال آخرون: كانوا يعملون صور السّباع والبهائم علي كرسيّه ليكون أهيب له.

فذكروا أنّهم صوّروا أسدين أسفل كرسيّه، ونسرين فوق عمودي كرسيّه، فكان إذا أراد أن يصعد الكرسيّ بسط الأسدان ذراعيهما، وإذا علا علي الكرسيّ نشر النسران أجنحتهما فظّللاه من الشمس، ويقال: إنّ ذلك كان ممّا لا يعرفه أحد من الناس.

فلمّا حاول بخت نصّر صعود الكرسي بعد سليمان حين غلب علي بني

ص: 255

إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان، فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدّها فوقع مغشيّاً عليه، فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسي.

قال الحسن: ولم تكن يومئذ التصاوير محرّمة وهي محظورة في شريعة نبيّنا صلي الله عليه وآله فإنّه قال: «لعن الله المصوّرين»(1) ويجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن، وقد بيّن الله سبحانه أنّ المسيح عليه السلام كان يصوّر بأمر الله من الطين كهيئة الطير، وقال ابن عباس: كانوا يعملون صور الأنبياء والعبّاد في المساجد ليقتدي بهم.

وروي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: والله ماهي تماثيل النساء والرجال، ولكنّها الشجر وما أشبهه.(2)

قوله : «وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ» أي صحاف كالحياض التي يُجبي فيها الماء أي يجمع، و كان سليمان عليه السلام يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان، فإنّه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم، ويقال إنّه كان يجمع علي كلّ جفنة ألف رجل يأكلون من بين يديه.

«وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ» أي ثابتات لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ، وقيل: كانت عظيمة كالجبال يحملونها مع أنفسهم، و كان سليمان عليه السلام يُطعم جنده.

صفة سليمان في ملكه وفي بدنه:

وفي البحار عن صاحب الكامل قال: لمّا توفّي داود ملك بعده ابنه سليمان عليه السلام علي بني اسرائيل، و كان عمره ثلاث عشر سنة، وآتاه مع الملك النبوّة وسخّر له الجنّ والإنس والشياطين والطير والريح، فكان إذا خرج من بيته إلي مجلسه عكفت عليه الطير وقام الإنس والجن متي يجلس فيه.

وكان سليمان أبيض جسيماً كثير الشعر يلبس البياض، وكان يأكل من

ص: 256


1- تفسير مجمع البيان 8: 203.
2- تفسير مجمع البيان 8: 204.

كسبه، و كان كثير الغزو، و كان إذا أراد الغزو أمر فعُمل بساط من خشب يسع عسكره فيركبون عليه هم ودوابّهم وما يحتاجون إليه، ثمّ أمر الريح فسارت في غدونه مسيرة شهر وفي روحته كذلك، وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سريّة، وأعطاه الله أخيراً أنّه لا يتكلّم أحد بشيء إلاّ حملته الريح فيعلم ما يقول.(1)

وفيه من كتاب قصص الأنبياء بالإسناد عن أبي حمزة، عن الأصبغ بن نباتة قال: خرج سليمان بن داود من بيت المقدس مع ثلاثمائة ألف كرسي عن يمينه عليها الإنس وثلاثمائة ألف كرسي عن يساره عليها الجنّ، وأمر الطير فأظلّتهم، وأمر الريح فحملتهم حتّي وردت بهم المدائن، ثمّ رجع وبات في اصطخر، ثمّ غدا فانتهي إلي جزيرة بركاوان، ثمّ أمر الريح فخفضتهم حتّي كادت أقدامهم يصيبها الماء، فقال بعضهم لبعض: هل رأيتم ملكاً أعظم من هذا؟ فنادي ملك: لثواب تسبيحة واحدة أعظم ممّا رأيتم.(2)

وفيه منه عن الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان ملك سليمان مابين الشامات إلي بلاد اصطخر.(3)

وفيه عن الطبرسي قال: قال محمد بن كعب: بلغنا أنّ سليمان بن داود عليه السلام كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون اللوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من القوارير علي الخشب فيها ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية، فيأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرّخاء فتسير به، فأوحي الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إنّي قد زدتُ في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق بشيء إلاّ جاءت الريح فأخبرتك.

وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخ في فرسخ ذهباً في

ص: 257


1- بحار الأنوار 14: 79 نقلا عن صاحب الكامل.
2- بحار الأنوار 14: 72/ ح 11.
3- بحار الأنوار 14: 70.

ابريسم، و كان يوضع فيه منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسيّ من ذهب وفضّة، فيقعد الأنبياء علي كراسي الذهب، والعلماء علي كراسي الفضّة وحولهم الناس، وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظلّها الطير بأجنحتها حتّي لا تقع عليهم الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلي الرواح ومن الرواح إلي الصباح.(1)

عرش سليمان:

وفيه من تفسير الثعلبي قال: وروي أنّ سليمان عليه السلام لمّا ملك بعد أبيه أمر باتّخاذ كرسيّ ليجلس عليه للقضاء، وأمر بأن يعمل بديعاً مهولاً، بحيث أن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع و تهيّب.

قال: فعُمل له كرسي من أنياب الفيلة، وفصّصوه باليواقيت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر، وحفّوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، علي رأس نخلتين منها طاووسان من ذهب، وعلي رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابلاً لبعض، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من الذهب، علي رأس كلّ واحد منهما عمود من الزمرّد الأخضر، وقد عقدوا علي النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتّخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث يظلّ عريش الكروم النخل والكرسي.

قال: وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه علي الدرجة السفلي فيستدير الكرسيّ كلّه بما فيه دوران الرحي المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها، وتبسط الأسدان أيديهما فتضربان الأرض بأذنابهما، فكذلك كلّ درجة يصعدها سليمان عليه السلام.

فإذا استوي بأعلاه أخذ النسران اللذان علي النخلتين تاج سليمان فوضعاه

ص: 258


1- بحار الأنوار 14: 80 - 81، تفسير مجمع البيان 7: 370.

علي رأس سليمان، ثمّ يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مايلات برؤسهما إلي سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر. ثمَّ تناولت حمامة من ذهب قائمة علي عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة فيفتحها سليمان يقرؤها علي الناس ويدعوهم إلي فصل القضاء، ويجلس عظماء بني إسرائيل علي كراسي من الذهب المفصّص بالجوهر وهي ألف كرسي عن يمينه، وتجيء عظماء وتجلس علي كراسي الفضّة علي يساره وهي ألف كرسي حافّين جميعاً به، ثمَّ تحفّ بهم الطير فتظلّهم، وتتقدّم إليه الناس للقضاء.

فإذا دعي البيّنات والشهود لإقامة الشهادات دار الكرسي بما فيه مع جميع ما حوله دوران الرحي المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما، فتفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب ولا يشهدون إلاّ بالحق.(1)

هدايا بلقيس:

في تفسير مجمع البيان، أنّ بلقيس لمّا وقفت علي كتاب سليمان وفيه «أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ»(2) قالت لأشراف قومها «إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ» أي إلي سليمان وقومه «بِهَدِيَّةٍ» أصانعه بذلك عن ملكي «فَنَاظِرَةٌ» أي منتظرة «بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ»(3) بقبول أم ردّ، وإنّما فعلت ذلك لأنّها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم، و كان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه ملك أو نبيّ، فإن قبل الهدية تبيّن أنّه ملك وعندها ما يرضيه، وإن ردّها تبيّن أنّه نبيّ.

ص: 259


1- النمل: 31.
2- النمل: 35.
3- بحار الأنوار 14: 84 - 85 نقلا عن تفسير الثعلبي.

واختُلف في الهدية، فقيل: أهدت إليه وصفاء ووصائف، ألبستهم لباساً واحداً حتّي لا يُعرف ذكر من أنثي، وقيل: أهدت مائتي غلام ومائتي جارية، ألبست الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري ألبسة الغلمان، وقيل: أهدت له صفائح الذهب في أوعية من الديباج، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجر بالذهب، ثمّ أمر به فألقي في الطريق، فلمّا جاؤوا رأوه ملقي في الطريق في كلّ مكان، فلمّا رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤوا به، وقيل أنّها عمدت إلي خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فأليست الجواري الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصّعات بأنواع الجواهر، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة، و تاجاً مكلّلاً بالدرّ والياقوت المرتفع، وعمدت إلي حقّة فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعيّة مثقوبة معوجّة الثقب، ودعت رجلاً من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو وضمّت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأيٍ وعقل، وكتبت إليه كتاباً بنسخة الهدية، قالت فيها: إن كنتَ نبياً فميّز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها، واثقب الدرّة ثقباً مستوياً، وأدخل الخرزة خيطاً من غير علاج إنس ولاجنّ، وقالت للرسول: أنظر إليه إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنّه مَلِك، فلا يهولنّك أمره، فأنا أعزّ منه، وإن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل.

فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعاً إلي سليمان فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجنّ أن يضربوا البنات الذهب والبنات الفضّة ففعلوا، ثمّ أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلي بضع فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً شُرَفه من الذهب والفضّة ففعلوا، ثم قال للجّن: علي بأولادكم، فاجتمع خلق كثير، فأقامهم علي يمين الميدان ويساره، ثمّ قعد سليمان في مجلسه علي سريره ووضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفاً فراسخ، وأمر

ص: 260

الانس فاصطفّوا فراسخ، وأمر الوحش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره، فلمّا دنا القوم من الميدان ونظروا إلي مُلك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا.

فلمّا وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم نظراً حسناً بوجهٍ طلق، وقال: ما وراء كم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه وقال: أين الحقّة؟ فأتي بها وحرّكها وجاءه جبرئيل عليه السلام فأخبره بما في الحقّة، فقال: إنّ فيها درّة يتيمة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجّة الثقب، فقال الرسول: صدقتَ، فاثقُب الدرّة وأدخِل الخيط في الخرزة، فأرسل سليمان إلي الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتّي خرجت من الجانب الآخر، ثمّ قال: مَن لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله ، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتّي خرجت من الجانب الآخر، ثم بيّن بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدي يديها ثمّ تجعله علي اليد الأخري ثمّ تضرب به الوجه، والغلام كان يأخذ من الآنية يضرب به وجهه، وكان الجارية تصبّ علي باطن ساعدها والغلام علي ظهر الساعد، وكانت الجارية تصبّ الماء صباً والغلام يحدر الماء علي يده حدراً، فميّز بينهما بذلك.

وقيل: أنّها أنفذت مع هداياها عصاً كان يتوارثها ملوك حمير، وقالت: أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها، وبقدح ماء وقالت: تملؤها ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء، فأرسل سليمان العصا إلي الهواء وقال: أيّ الرأسين سبق إلي الأرض فهو أسفلها، وأمر الخيل فأجريت حتّي عرقت وملأ القدح من عرقها وقال: ليس هذا من ماء الأرض ولا من ماء السماء.

ثمّ قال سليمان: «أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ» أي مما أعطاني الله من الملك والحكمة والنبوّة خير مما أعطاكم من الدنيا و أموالها، «بَلْ

ص: 261

أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ»(1) إذا أهدي بعضكم إلي بعض، وأمّا أنا فلا أفرح بها، أشار إلي قلّة اكتراثه بأموال الدنيا.

ثمّ قال للرسول: «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ» بما جئت من الهدايا «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا» أي لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم علي دفعها «وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً» أي من تلك القرية ومن تلك المملكة «وَهُمْ صَاغِرُونَ» فلمّا ردّ سليمان الهدية و ميّز بين الغلمان والجواري إلي غير ذلك علموا أنّه نبيّ مرسل وأنّه ليس كالملوك الذين يغترّون بالمال.(2)

***

وفي البحار من كتاب تنبيه الخاطر: روي أنّ سليمان بن داود عليه السلام مرّ في موكبه والطير والجنّ والإنس عن يمينه وعن شماله بعابد بني إسرائيل فقال: واللهِ يا ابن داود لقد آتاك الله مُلكاً عظيماً، فسمعه سليمان فقال: لَتسبيحة في صحيفة مؤمن خير ممّا أعطي ابن داود، وإنّ ما أعطي ابن داود يذهب وإنّ التسبيحة تبقي.(3)

وكان سليمان إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتّي يجيء إلي المساكين ويقعد معهم ويقول: مسكين مع المساكين.(4)

ومن إرشاد القلوب: كان سليمان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر، وإذا جنّه الليل شدّ يديه إلي عنقه فلا يزال قائماً حتّي يُصبح باكياً، وكان قُوته من سفائف الخوص يعملها بيده، وإنّما سأل المُلك ليقهر ملوك الكفر.(5) انتهي.

وجاء في المجلّد الأول من كتاب (ماذا في التاريخ) ص 169 تحت عنوان :

ص: 262


1- النمل: 36.
2- تفسير مجمع البيان 7: 380 - 383.
3- بحار الأنوار 14: 83 ح 27.
4- بحار الأنوار 14: 83 ح 28.
5- بحار الأنوار 14: 83/ ح 29، نقلاً عن إرشاد القلوب.

سيرة نبي الله سليمان وتاريخه عليه السلام :

«وهو الذي أفاء الله عليه بنِعم الدنيا والآخرة معاً، وجعل له مُلكاً لا ينبغي الأحد من بعده،فقد أكرمه الله تعالي بالنبوّة، وجمع له معها الملك، وزاده عليها بالحكمة حتّي لُقّب بالحكيم، ثمّ جعل مُلكه شاملاً للبشر والجنّ والشياطين والحيوانات والطيور والحشرات».

فكان يفهم لغتها جميعاً، وكانت كلّها تأتمر بأمره، وزاده سلطة علي الرياح والسحاب، ومع هذا كلّه فإنّه لم يخرج عن تواضعه، ولم يغادر خوف الله قلبه، ولم يتعالَ علي المساكين، و كان يعمل بيده لقوت نفسه.

وممّا يذكر من كرامات سليمان عليه السلام أنّ الله تعالي لمّا أمر داود عليه السلام أن يجعل الخلافة لولده سليمان من بعده وكان لا يزال حدثاً ابن ثلاث عشرة سنة فقط، أنكر ذلك بنو إسرائيل وضجّوا قائلين:

إنّ داود يستخلف فينا حدثاً لأنّه ابنه، وفينا من هو أولي منه وأقدر علي إدارة الحكم، فدعا داود عليه السلام أكابرهم وأسباطهم وقال لهم: قد بلغني ماقلتم من أنّ سليمان صبيّ لا يليق للخلافة، ولكنّ هذا أمر الله، وإن شئتم أن تختبروا مقدرة سليمان وجدارته فوجّهوا إليه ما يقضي به الإمتحان من الأسئلة، ثمّ دعاه داود عليه السلام وأراد امتحانه بحضرتهم ليبين لهم فضله وحكمته.

فوجّه إليه إسئلة كثيرة، وقد أجاب عليها بأجمعها ممّا أخضع شوكة المعارضين لاستخلافه، فمن جملة تلك الأسئلة أنّه قال له: يا بُنيّ أيّ شيء أبرد؟ فقال سليمان عليه السلام: عفو الله علي عبده، وعفو الناس بعضهم عن بعض، فقال داود: أيّ شيء أحلي؟ فأجاب سليمان عليه السلام: المحبّة من الله في عباده، فقال بعض كبار بني اسرائيل له: ما الشيء إذا صلح صلح معه كلّ شيء في الانسان، وإذا فسد فسد كلّ شيء فيه؟ فقال سليمان عليه السلام: ذاك هو القلب.

ص: 263

وممّا نُقل عن الثعلبي أنّ كتاباً نزل من السماء علي نبيّ الله داود وفيه ثلاث عشرة مسألة، أمر الله أن يسأل عنها ابنه سليمان عليه السلام، فتكون برهاناً له علي تعيينه خليفة من الله تعالي.

فدعا داود عليه السلام سبعين قسّاً وسبعين حبراً، وأجلس سليمان بينهم فقال: يا بُنيّ أخبِرني ما أقرب الأشياء؟ وما أبعد الأشياء؟ وما آنس الاشياء وما أوحشها؟ وما أحسن الاشياء وما أقبحها؟ وما أقل الأشياء وما أكثرها؟ وما القائمان وما المختلفان وما المتباغضان؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذي إذا ركبه ذمّ آخره؟

فقال سليمان عليه السلام: أمّا أقرب الأشياء فالآخرة، وأبعد الأشياء ما فاتك من الدنيا، وأمّا آنس الأشياء فجسد فيه روح ناطق، وأوحشها جسد بلا روح، وأمّا أحسن الأشياء فالايمان بعد الكفر، وأقبحها الكفر بعد الإيمان، وأمّا أقل الأشياء فاليقين، وأكثرها الشكّ.

وأمّا القائمان فالسماء والأرض، والمختلفان فالليل والنهار، وأمّا المتباغضان فالموت والحياة، وأمّا الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم عند الغضب، وأمّا الذي إذا ركبه ذمّ آخره فالحدّة عند الغضب.

ولمّا أتّم سليمان عليه السلام الجواب عن جميع تلك الأسئلة، فكّ داود خاتم الكتاب بحضرة القوم فإذا المسائل مكتوبة فيه مع أجوبتها كما ذكرها سليمان عليه السلام، فعندئذ سلّم بنو إسرائيل لسليمان بالحكمة والخلافة، وظهر لهم أهليّته وجدارته لما خصّه الله تعالي به.

ومن جملة دلائل حكمة سليمان واستحقاقه للخلافة بعد أبيه، حكمة مسألة الغنم التي أكلت الكرم، فحكم بنتاجها لصاحب الكرم تلك السنة مقابل تلف ثمره، بعد أن كان الحكم تمليك الغنم لصاحب الكرم، وقد أشار الله تعالي لذلك في كتابه المجيد فقال تعالي:

ص: 264

«وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا...»(1)

حكاية سليمان مع النملة:

روي أنّ سليمان عليه السلام كان علي ساحل البحر ينتظر بعض جنوده، فأبصر نملة تحمل حبّة حنطة وهي تسعي إلي الماء، فتعجّب من قصدها الماء مع أنّها تهرب منه لو وقعت فيه قهراً، فما أن وصلت إلي شاطئ البحر حتّي خرجت ضفدع فدنت من النملة ثمّ فتحت فاها فدخلت النملة في فيها باختيارها، فأطبقت الضفدع فمها عليها وغاصت في البحر، فما لبثت إلاّ بُرهة يسيرة حتّي رجعت الضفدع فقفزت إلي البرّ ثمّ فتحت فاها فخرجت النملة من فيها وليس معها حبّة الحنطة، فلمّا نظر سليمان النملة تقدّم إليها وسألها عن شأنها مع الضفدع، وأين ذهبت معها، وكيف أرجعتها، وأين وضعت حبّة الحنطة؟

فقالت له النملة: اعلم يا نبّي الله أنّه يوجد في قعر هذا البحر صخرة مجوّفة، في وسطها دودة عمياء ولا تستطيع الخروج منها لطلب معاشها، وقد وكّلني الله تعالي برزقها وسخّرني مع هذا الضفدع لتأمين معاشها، فأنا أحمل طعامها من البرّ، وهذا الحيوان يقلّني في فمه إليها، فإذا وصل بي إلي الصخرة وضع فمه علي ثقبها ثمّ قذف بي إلي داخلها، فأوصل الحبّة إلي الدودة فأضعها في فمها ثمّ أعود إلي هذا الحيوان فيحملني إلي البرّ ثانية، وهذه قصّتي يا نبي الله.

فدهش نبي الله سليمان من تلك القصة فزاد في تمجيد الله سبحانه، ثمّ سألها: هل سمعت لها تسبيحاً؟ فقالت: نعم سمعتها تردّد دائماً هذا الدعاء:

«يا من لا ينساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجّة من رزقه، لا تنسَ عبادك المؤمنين من رحمتك الواسعة».(2)

ص: 265


1- الأنبياء: 77.
2- بحار الأنوار 14: 97 – 98/ ح 4؛ الدعوات للراوندي: 115/ ح 264.

قصّة بلقيس ملكة سبأ مع سليمان:

روي أنّ نبي الله سليمان عليه السلام سافر إلي بلاد اليمن في بعض رحلاته، وكانت الطير تضلّله من حرارة الشمس، فلمّا حان وقت الصلاة نزل عن بساطه وانصرفت الطيور لسبيلها في تلك البرهة، وكان من جملتها الهدهد، فتوغّل في طيرانه، فصادف هدهداً مثله فتعارفا وجعل كلّ منهما يسأل رفيقه عن حاله وحال بلاده، فأخبره هدهد سليمان عن عظمة سليمان وكثرة جنوده وبطشه وما آتاه الله من المال والنبوّة وتسخير الإنس والجن والوحوش والطير له في كلّ ما أراد.

وجعل هدهد بلاد سبأ يشرح لرفيقه عظمة ملكة سبأ وكثرة جنودها وسعة بلادها، ودعاه للذهاب معه ليشاهد ذلك بعينه، فرغب هدهد سليمان بذلك وأحبّ أن ينقل أخبار ذلك لنبيّ الله سليمان، خصوصاً حينما سمع من رفيقه أنّ ملكة سبأ وقومها يعبدون الشمس دون الخالق القهّار، وطالت غيبة الهدهد، وانتهي سليمان من صلاته و جلس علي بساطه فظلّلته الطير وبقي مكان الهدهد فارغاً، فسأل سليمان عنه وتهدّده إن لم يأت بسبب صحيح يدلّ علي مضيّه، ثمّ أرسل العقاب وراءه، فصادفه راجعاً فأتي به إلي سليمان عليه السلام.

فسأله عن غيابه بدون إذنه، فشرح له قصّه ملكة سبأ وعظمة ملكها، وأنّها وقومها يعبدون الشمس ويسجدون لها دون الخالق القهّار، فأراد سليمان عليه السلام أن يتحقّق صحّة كلام الهدهد، فكتب كتاباً أرسله معه إلي ملكة سبأ، وأمره أن يعرّفه بحالها بعد قراءتها الكتاب، فأخذ الهدهد الكتاب ودخل علي بلقيس وهي في قصرها من كوة كانت في أعلي القصر، فما شعرت إلاّ والكتاب قد سقط علي صدرها وهي مستلقاة، فدهشت من ذلك وقد شاهدت الهدهد حينما دخل من الكوة و كيف ألقاه وخرج من حيث أتي.

فأخذت بلقيس الكتاب وإذا فيه: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلَّا

ص: 266

تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ».(1) وكانت عاقلة فلم تتسرّع بالغضب والاستنكار أو الردّ، بل أرسلت إلي أشراف قومها ووجوه أجناده، فلمّا حضروا قالت:

«ييَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ».

وقرأت لهم الكتاب، و كانوا قد سمعوا عن سليمان وعظمة ملكه، فقالوا لها:

«نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ».

فجعلت تفكّر وتدبّر، ثمّ انتهي بها التفكّر إلي أن تداري سليمان وتغريه بالأموال والهدايا، وتمتحن صحّة نبوّته، فإن كان مَلِكاً دنيويّاً قبل الهدايا ومغريات الملك، وحينئذ يمكنها الانتصار عليه مهما بلغت عظمته، وإن كان نبيّاً فلا يرضي بديلاً عن التوحيد وعبادة الله تعالي، ولن تغريه الهدايا مهما عظمت وغلت، وفي هذه الحالة لن تستطيع الانتصار عليه ولو كان لها أضعاف قوّتها.

ثمّ جمعت الهدايا المتنوّعة، فجهّزت خمسمائة غلام ألبستهم لباس الجواري، وخمسمائة جارية ألبستهنّ لباس الرجال. وجهّزت له خمسمائة لبنة من ذهب ومثلها من فضة، وعصا نفيسة كانت تتوارثها الملوك السابقة، لا يُعرف رأسها من أسفلها، وأضافت إلي كلّ هذه الهدايا درّة يتيمة غير مثقوبة، ودرّة مثقوبة معوجّة الثقب أرسلتها مع العصا لاجراء امتحان آخر.

ثمّ دعت رجلاً من الأشراف فراسته علي الوفد الناقل للهدايا، فبعثت معه قدحاً، وضمّت إليه رجالاً من قومها من أصحاب الرأي والعقل، وأمرتهم بحمل الهدايا إلي سليمان عليه السلام، وأرسلت معهم رسالة إلي سليمان، وأوصتهم بطلب الجواب علي أسئلتها هذه: منها أن يعرّفها رأس العصا، وأن يثقب الدرة ثقباً مستقيماً، وأن يُدخل في المثقوبة خيطاً دون أن يعالجه إنس ولاجان، ثمّ يملأ القدح بماء لا من السماء نزل ولا من الأرض نبع ولا من البحار أخذ.

ص: 267


1- النمل: 30 و 31.

ثمّ أوصت القيم علي الوفد أن تأمّل أحوال سليمان حين تدخل عليه، فإن هو نظر إليك نظر غضب وإرهاب فاعلم أنه مَلِكَ عادي، فلا يهولنّك أمره، فأنا أعزّ منه، وإن نظر إليك نظرة حلم و عطف فاعلم أنّه نبي مرسل، فاحذر من مخالفته.

فلمّا تحرّكت قافلة الهدايا في المسير، صادف مجيء الهدهد فنظر إلي جميع ما أعدّته بلقيس من الهدايا والتحف لسليمان فسارع ليخبره الخبر، فبادر سليمان بعد إخباره إلي إعداد ما يلزم فعله في مقابلة ذلك الوفد المرسل من عند ملكة سبأ.

فأمر جنوده من الإنس والجنّ والطير والوحش أن يصطّفوا علي جانبي طريق الوفد إلي بُعد أميال. فلمّا دنا سُل بلقيس من الميدان ونظروا إلي عظمة سليمان عليه السلام وكثرة جيوشه وعظمة ملكه وشدّة سطوته ووفرة غِناه، تصاغرت عندهم نفوسهم واستحقروا هداياهم واستضعفوا شأنهم وشأن ما حملوه معهم، فعدلوا عن تقديم هداياهم خجلاً بها.

ثمّ أقبلوا خاشعين حتّي وقفوا بين يدي سليمان عليه السلام بخشية وخوف وتهيّب. ولكنّ نبيّ الله استقبلهم بوجه باشّ، ورحّب بهم ترحيباً صادقاً، وشجّعهم علي الحديث عن مهمّتهم وعن ملكتهم وديارهم.

فتقدّم إليه رئيسهم وناوله رسالة بلقيس وفيها أسئلتها وطلباتها، ولمّا قرأ سليمان أسئلة بلقيس طلب الدرة، ثمّ أمر (الأرضة) أن تثقبها ثقباً مستقيماً، ثمّ طلب الخرزة المثقوبة فتقدّمت إليه دودة بيضاء وقالت: أنا لها يا رسول الله، فأخذت خيطاً بفمها ودخلت في ثقب الخرزة حتّي خرجت من الطرف الآخر. وطلب العصا و أمر برميها في الهواء قائلاً: أيّ الطرفين كان أقرب إلي الأرض فهو رأسها، وأخيراً استحضر الكأس وأمر بفرسان تُجري الخيل حتّي عرقت عرقاً كثيراً فملأ القدح منه وقال: هذا ماء ليس من ماء السماء ولا من ماء الأرض ولا من البحار.

وبعد أن أري الوفد مقدرته وحسن تدبيره، طلب استعراض الهدايا، فلمّا عُرضت عليه غضب وقال: ليس من أجل هذا طلبنا طاعتكم، بل نحن طلبنا الإسلام وعبادة الواحد

ص: 268

الديّان، فأرجِعوا هداياكم إلي ملكتكم وأنذروها وقومها بالمجيء إليَّ مسلمين ولله خاضعين، فإن لم يفعلوا فلنأتينّهم بجنود لا يستطيعون مقاومتها.

فلمّا رجع رسول بلقيس إليها بهداياها وبتهديد سليمان عليه السلام لها ولقومها علمت أنِه نبيِّ لا طاقة لها بمقاومته، فتجهّزت للخروج إليه مع وجوه قومها...

ونزل جبرئيل عليه السلام علي سلمان عليه السلام بنبأ خروجها إليه في حاشيتها، ففكّر سليمان في أمر يُدهشها فيه ويريها مقدرته التي خصّه الله تعالي بها، فالتفت إلي أشراف عسكره قائلاً:

«أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ»؟

وكانت بلقيس قد خلّفت عرشها في قصرها بمدينة سبأ بعد أن أوثقته في الأرض وو كّلت به ثقات قومها، لأنّه رائع الصنعة من حيث النقش أو الترصيع بالمجوهرات، فلمّا سأل سليمان عليه السلام عمّن يأتيه به.

«قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ».

ولكنّ سليمان كأنّه أراد أعجل من ذلك.

«قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ».

و كان القائل آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيّه من بعده، وابن أخته، وكان عنده جزء من ثلاثة وسبعين جزءاً من أجزاء اسم الله الأعظم، وفعلاً سأل آصف ربّه تعالي فقام العرش من مكانه بقدرة الله تعالي وطويت له الأرض حتّي كان بطرفة عين أمام كرسي سليمان، وقد كان عند نبي الله سليمان عليه السلام مثل ما عند وزيره آصف من العلم باسم الله الأعظم، ولكنّه تعمّد أن يترك وزيره وابن أخته به ليرُي أمّته طاقة آصف علي الإيمان بالمعجزة بقدرة الله تعالي وأنّه خليفته فيهم من بعده.

فلمّا رآه سليمان عليه السلام: «مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي».

فلمّا جائت بلقيس استقبلها سليمان استقبالاً حسناً، فلمّا صارت أمامه «قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُ»؟

ص: 269

فبهتت وحارت في أمرها وجعلت تنظر إليه وهي تراه شبيهاً بعرشها، وكانت حليمة لا تتسرّع في أحكامها قبل أن تتثبّت، لذا قالت «كَأَنَّهُ هُوَ»وبذلك لم تنفِ ولم تُثبت، فلمّا رأي نبي الله سليمان دهشتها وعجبها حمد الله تعالي علي ما آتاه من العلم ونعمة الإسلام.

ثمّ إنّ بلقيس أسلمت و تابت إلي الله تعالي من عبادة الأوثان توبة نصوحاً، وتزوّجها سليمان وردّها إلي أرضها وممالكها بعد أن أقرّها علي ملكها.

وكان نبي الله سليمان عليه السلام يعتكف غالباً في مسجد بيت المقدس، فلمّا بالغ من العمر ثلاثاً وخمسين سنة أي بعد أربعين سنة من توليه الملك _ إذ أنّه تولّي الملك وهو ابن ثلاثة عشر سنة _ أحبّ يوماً أن يعمد إلي أعلي قصره ويتأمّل وحده بناء مسجده من عَلٍ، فأمر أن يمنع دخول أي شخص حتّي لو كان من خواصّه وجنوده، ثمّ صعد وحده حتّي بلغ أعلي مطلّ تحت القبّة المصنوعة من قوارير، وأطلّ علي العمال وهم يشهدون المسجد، وكان قد بقي من مدة كمال بنائه ما يقرب من سنة.

وفجأة نظر فلمح شجرة خرنوب من ناحية من نواحي البلدة، وكان متّكئاً علي عصاه فاضطربت جوارحه، لأنّ الله تعالي كان قد عرّفه أنّ آية موته خروج شجرة خرنوب من بيت المقدس، وبعد هذا الاضطراب الذي أصابه التفت فرأي شاباً جميل الوجه في زيّ حسن يخرج إليه، فغضب وقال: من أدخلك هذا القصر، ومن الذي سمح لك في دخوله، ومن أنت؟

فقال: أمّا الذي أمرني بالدخول فهو صاحب القصر، وأمّا الاستئذان عليك فلم يكن لي عادة أن أستأذن في الدخول علي الملوك والسلاطين.

فعلم عندئذٍ أنّ هذا ملك الموت، فسأله عليه السلام: فيم جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك.

عندئذٍ سأل ربّه أن يخفي عن الجنّ موته لجهتين: الأولي ليداوموا علي

ص: 270

أعمالهم في عمارة بيت المقدس، الثانية يعلمهم هم والإنس أنّهم لا يعلمون الغيب وأنّ عِلمه عند الله.

فأجابه الله تعالي، وقبض عزرائيل عليه السلام روحه، وقومه ينظرون إليه وهو متّكي علي عصاه، وهم يحسبونه حيّاً مدّة سنة كاملة.

وكان وزيره آصف خلال تلك المدة يُدير أمر المملكة وينظّم أعمال الجنّ والإنس، فلمّا كمل بناء المسجد بعد سنة ولم يعد موجب لبقاء جثمانه قائماً، أرسل الله تعالي دودة الأرض فأكلت العصا فقط.

«فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ»(1)

وتبيّنت الجن أنّهم لو كانوا علموا بموته يوم وفاته كانوا يخلّصون أنفسهم من عذاب العمل طيلة هذه المدة، فظهر لهم ولغيرهم أنّهم عاجزون عن معرفة الأشياء إلاّ ما عرفهم الله تعالي».

***

ضرورة الاعتبار من التاريخ:

ثم نبّه عليه السلام علي الاعتبار بأحوال القرون الخالية والأمم الماضية فقال: «وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة» وأشار إلي وجه العبرة علي سبيل الاستفهام التقريري قصداً للتذكير والتذكر بقوله: «أين العمالقة وأبناء العمالقة».

تاريخ العمالقة:

قوله عليه السلام: «أين العمالقة وأبناء العمالقة» قال الشارح المعتزلي: العمالقة أولاد لاوز بن ارم بن سالم بن نوح عليه السلام، كان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من الأقاليم، فمنهم عملاق بن لاوز، ومنهم طسم بن لاوز أخوه، ومنهم جديس بن لاوز أخوهما، وكان العزّ والملك بعد عملاق بن لاوز في طسم، فلمّا ملكهم عملاق بن طسم

ص: 271


1- سبأ: 14.

بغي وأكثر الفساد في الأرض، حتّي كان يطأ العروس ليلة إهدائها إلي بعلها، وإن كانت بكراً افتضّها قبل وصولها إلي البعل، ففعل ذلك بإمرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار، فخرجت إلي قومها وهي تقول:

لا أحدٌ أذل من جديس *** أهكذا يُفعل بالعروس

فغضب لها أخوها الأسود بن غفار و تابعه قومه علي الفتك بعملاق بن طسم وأهل بيته، فصنع الأسود طعاماً ودعي العملاق إليه، ثمّ وثب به وبطسم فأتي علي رؤسائهم، ونجا منهم رباح بن مز فصار إلي ذي جيشان بن تبّع الحميري ملك اليمن فاستغاث به علي جديس، فسار ذوجيشان في حمير فأتي بلاد جوّ وهي قصبة اليمامة واستأصل جديساً كلها وأخرب اليمامة، فلم يبق لجديس باقية ولا لطسم إلاّ اليسير منهم، ثمّ ملك بعد طسم وجديس وباز بن ايم بن لاوز بن ارم فسار بولده وأهله ونزل برمل عالج، فبغوا في الأرض حيناً حتّي أفناهم الله، ثمّ ملك الأرض بعد وباز عبد طعحم بن أثيف بن لاوز فنزلوا بالطايف حيناً ثمّ بادوا.

قال الشارح: وممن يعدّ من العمالقة عاد و ثمود.

فأمّا عاد فهو ابن عويص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام كان يعبد القمر، يقال إنّه كان رأي من صلبه أولاداً وأولاد أولاد أربعة آلاف، وأنّه نكح ألف جارية، وكانت بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن، وهي من شجر عمان إلي حضرموت، ومن أولاده شدّاد بن عاد صاحب المدينة المذكورة في سورة الفجر.

وأمّا ثمود فهو ابن عامر بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وكانت دياره بين الشام والحجاز إلي ساحل بحر الحبشة.(1)

«أين الفراعنة وأبناء الفراعنة» وهم ملوك مصر، فمنهم الوليد بن الريّان فرعون يوسف عليه السلام، ومنهم الوليد بن مصعب فرعون موسي، ومنهم فرعون بن الأعرج الذي غزا بني إسرائيل وأخرب بيت المقدس.(2)

ص: 272


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 93 - 94.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 95.

«أين أصحاب مدائن الرسّ» وهم (الذين) جحدوا ربّ العالمين و(اقتلوا النبييّن) مظلومين (وأطفئوا سنن المرسلين) وشرايع الدين (وأحيوا سُنن الجبّارين) وبدع الشياطين (وأين) الملوك (الذين ساروا بالجيوش وهزموا الألوف) وفتحوا الأمصار (وعسكروا العساكر) وجمعوهم (ومدّنوا المدائن) وبنوها.

في بيان مدائن الرسّ وقصّة أصحابها:

قال تعالي في سورة الفرقان: «وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ»(1) وفي سورة ق: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ».(2)

قال الطبرسي: أي وأهلكنا عاداً و ثمود وأصحاب الرسّ _ وهو بئر رسّوا فيها نبيّهم _ أي ألقوه فيها، عن عكرمة.

وقيل: إنّهم كانوا أصحاب مواشٍ ولهم بئر يقعدون عليها، وكانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذّبوه فانهار البئر وانخسفت بهم الأرض فهلكوا.

وقيل: الرسّ قرية باليمامة يقال لها فلج قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله، عن قتادة.

وقيل: كان لهم نبيّ يسمّي حنظلة فقتلوه فُأهلكوا، عن سعيد بن جبير والكلبي.

وقيل: هم أصحاب رسّ، والرسّ بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيباً النجّار فنُسبوا إليها، عن كعب ومقاتل.(3)

وفي البحار من تفسير علي بن إبراهيم: أصحاب الرسّ هم الذين هلكوا لأنّهم استغنوا الرجال بالرجال والنساء بالنساء.(4)

ومن معاني الأخبار: معني أصحاب الرسّ أنّهم نُسبوا إلي نهر يقال له: الرسّ من بلاد المشرق.(5)

ص: 273


1- الفرقان: 38.
2- ق: 12.
3- تفسير مجمع البيان 7: 296.
4- بحار الأنوار 14: 152 -153/ ح 2.
5- بحار الأنوار 14: 153/ ح3.

وقد ذكروا في الرسّ أقوالاً كثيرة أعرضنا عنها وذكرنا موضع الحاجة.

***

الإمام المهدي علي لسان عليّ عليه السلام :

قوله عليه السلام: «قد لبس للحكمة جُنّتها الخ».

قال العلاّمة المجلسي قدس سرّه: إنّه اشارة إلي القائم عليه السلام ونقله الشارح المعتزلي عن الشيعة الإماميّة.

وقالت الصوفيّة: إنّه عليه السلام يعني به وليّ الله في الأرض، وعندهم لا تخلو الدنيا من الأبدال والأولياء.

وقالت الفلاسفة: إنّ مراده عليه السلام به العارف.

وقالت المعتزلة: إنّه يريد به العالم بالعدل والتوحيد، وزعموا أنّ الله لا يُخلي الأمّة من جماعة من المؤمنين العلماء بالتوحيد والعدل، وإنّ الإجماع إنما يكون حجّة باعتبار قول أولئك، لكنّه لمّا تعذّرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر إجماع الجميع، وإنّما الأصل قول أولئك.

قال الشارح المعتزلي بعد نقل هذه الأقوال: وليس يبعد أن يريد عليه السلام به القائم من آل محمد صلي الله عليه وآله في آخر الوقت إذا خلقه الله تعالي وإن لم يكن الآن موجوداً، فليس في الكلام ما يدلّ علي وجوده الآن، وقد وقع اتّفاق الفرق من المسلمين أجمعين علي أنّ الدنيا والتكليف لا ينقضي إلاّ عليه،(1) انتهي.

قال الخوئي في شرح النهج: أمّا ما ذكره من كون المراد به القائم عليه السلام فهو كما ذكره غير بعيد، لظهور اتّصافه عليه السلام بهذه الأوصاف و كونه مظهراً لها، وأمّا ما زعمه _ كسائر المعتزلة _ من أنّه عليه السلام غير موجود الآن وإنّما يخلقه الله في آخر الزمان فهو زعمٌ فاسد ووهم باطل، لقيام البراهين العقلية والنقلية علي

ص: 274


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 96.

أنّ الأرض لو تبقي بغير حجّة لانخسفت و ساخت، وعلي أنّه لابدّ من وجوده في كلّ عصر وزمان، وأنّه إمّا ظاهر مشهود أو غائب مستور، وأنّ القائم من آل محمد صلي الله عليه وآله مخلوق من غابر الزمان و موجود الآن، وهو غائب مستور لمصالح مقتضية لغيبته، والانتفاع بوجوده الشريف حال الغيبة كالانتفاع بالشمس المجلّلة للعالم المحجوبة بالسحاب.

وبعد قيام الأدلة المحكمة علي ذلك كلّه فلا يُعبأ بالاستبعادات الوهميّة للمنكرين، والاستدلالات السخيفة الهيّنة للمبطلين علي ما أشير إليها في كتب أصحابنا الإماميّة المؤلّفة في الغيبة مع أجوبتها المتقنة.

***

معرفة الحكمة وتفسيرها:

هذا والحكمة اسم لمجامع الخير كلّه، قال أبو البقاء: هي في عُرف العلماء استعمال النفس الإنسانيّة باقتباس العلوم النظريّة، واكتساب الملكة التامّة علي الأفعال الفاضلة قدر طاقتها.

وقال بعضهم: هي معرفة الحقائق علي ما هي عليه بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبّر عنها بمعرفة ما لها ومعرفة ما عليها.

وقال ابن دريد: كلّ ما يؤدّي إلي ما يلزمه أو يمنع من قبيح، وقيل: ما يتضمّن صلاح النشأتَين.

وقال في البحار: العلوم الحقّة النافعة مع العمل بمقتضاها، قال: وقد تُطلق علي العلوم الفائضة من جنابه تعالي علي العبد بعد العمل بما علم.(1)

وقد تفسّر بأنها معرفة الله وطاعته، وقد تفسّر بأنها العلم الذي يرفع الانسان عن فعل القبيح، وفسّرت في قوله تعالي: «بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(2)

ص: 275


1- بحار الأنوار 215:1 ؛ الخصال للصدوق: 111/ ح 83.
2- النحل: 125.

بالنبوّة، وفي قوله: «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»(1) بالفقه والمعرفة وفي قوله: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»(2) بالقرآن والشريعة وفي قوله: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»(3) بتحقيق العلم وإتقان العمل.

وفي الصافي من الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية قال: طاعة الله ومعرفة الإمام.(4)

وعنه عليه السلام: معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار.(5)

وعن العياشي عنه عليه السلام: إنّ الحكمة المعرفة والثفقّه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم.(6)

وعن مصباح الشريعة عنه عليه السلام : الحكمة ضياء المعرفة وميراث التقوي وثمرة الصدق، ولو قلت: ما أنعم الله علي عباده بنعمة أنعم وأعظم وأرفع وأجزل وأبهي من الحكمة، لقلت: قال الله «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(7) أي لا يعلم ما أودعتُ وهيّاتُ في الحكمة إلاّ من استخلصتُه لنفسي وخصصته بها، والحكمة هي الكتاب، وصفة الحكيم الثبات عند أوائل الأمور والوقوف عند عواقبها، وهو هادي خلق الله إلي الله.(8)

وعن الخصال عن النبي صلي الله عليه وآله: رأس الحكمة مخافة الله.(9)

ص: 276


1- آل عمران: 48.
2- البقرة: 129؛ آل عمران: 164؛ الجمعة: 2.
3- البقرة: 269.
4- تفسير الصافي 1: 298.
5- تفسير الصافي 1: 298؛ تفسير العيّاشي 1: 151 /ح496.
6- تفسير الصافي 1: 98، تفسير العيّاشي 1: 151/ ح498.
7- البقرة: 269.
8- تفسير الصافي 1: 299؛ مصباح الشريعة: 198.
9- تفسير الصافي 1: 299؛ الخصال: 111 / ح83.

وعنه وعن الكافي عنه صلي الله عليه وآله: أنّه كان ذات يوم في بعض أسفاره إذ لقاه ركب فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فالتفت إليهم وقال: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض إلي الله، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتّقوا الله الذي إليه ترجعون.(1)

معاني الحكمة في القرآن:

وقد جاء معني الحكمة في القرآن علي أربعة أوجه:

أحدها: مواعظ القرآن وهو قوله تعالي: «وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ»(2) يعني مواعظ القرآن.

ثانيها: الحكمة بمعني الفهم والعلم ومنه قوله تعالي: «وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»(3) وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ»،(4) يعني الفهم والعلم.

ثالثها: الحكمة بمعني النبوّة، ومنه قوله تعالي: «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»(5) _ يعني النبوّة _ وقوله تعالي:«وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(6) وقوله تعالي: «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ».(7)

ص: 277


1- تفسير الصافي 1: 299 ح 269؛ الخصال: 146/ ح 145؛ الكافي 2: 53/ ح 1.
2- البقرة: 231.
3- مريم: 12.
4- لقمان: 12.
5- النساء: 54.
6- ص: 20.
7- البقرة: 251.

رابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، ومنه قوله تعالي: «ادْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ»(1) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلي العلم.

وبالتالي فحقيقة الحكمة نور من أنوار صفات الحقّ يؤيّد الله به عقل من يشاء من عباده، فهي ليست ممّا تُدرك بالعقول وبالبراهين العقلية والنقليّة.

وذلك أنّ المعقولات مشتركة بين أهل الدين وأهل الكفر، فالمعقول ما يحكم العقل عليه ببرهان عقليّ، وهذا ميسّر لكلّ عاقل بالدراية وعالم بالقراءة، فمن صفّي عقله عن شرب الوهم والخيال فيدرك عقله المعقولات بالبرهان درايةً عقليّة، ومن لم يُصفِّ العقل عن هذه الآفات فهو يدرك المعقول قراءةً بتفهيم أستاذ مرشد.

أمّا الحكمة فليست من هذا القبيل، وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب، وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول الإنسانيّة، بل سعوا في طلب لبّها بمتابعة الأنبياء عليهم السلام، فأخرجوهم من ظلمات قشور العقول الانسانيّة إلي نور لبّ المواهب الربّانيّة، فتحقّق لهم أنّ «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ»، وقد استوعبنا ذلك في كتابنا (الحكمة والحكماء).(2)

***

تبع حكيم حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات:

عن معاوية بن وهب عن أبي عبدالله عليه السلام قال: تبع حكيم حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فلمّا لحق به قال له: يا هذا ما أرفع من السماء، وأوسع من الأرض، وأغني من البحر، وأقسي من الحجر، وأشدّ حرارة من النار، وأشدّ برداً من الزمهرير، وأثقل من الجبال الراسيات؟ فقال له: يا هذا الحقّ أرفع من السماء، والعدل أوسع من

ص: 278


1- نحل: 125.
2- مخطوط.

الأرض، وغني النفس أغني من البحر، وقلب الكافر أقسي من الحجر، والحريص الجشع أشدّ حرارة من النار، واليأس من روح الله أشدّ برداً من الزمهرير، والبُهتان علي البريء أثقل من الجبال الراسيات.(1)

بين إفلاطون وسقراط:

كتب إفلاطون إلي سقراط: إنّي أسألك عن ثلاثة أشياء فإن أجبتَ عنها تلمّذت لك. فكتب إليه سقراط: سَل وبالله التوفيق. فكتب إفلاطون إليه: أيّ الناس أولي بالرحمة، ومتي تضيّع أمور الناس، وبماذا تتلّقي الرحمة والنعمة من الله تعالي؟ فأجابه: أولي الناس بالرحمة ثلاثة: الحكيم الذي في مملكة السلطان الفاجر، فهو في الدهر حزين لما يسمع ويري، والعاقل في تدبير الجاهل، فهو في الدهر متعب مغموم، والكريم المحتاج إلي اللئيم، فهو في الدهر له خاضع ذليل؛ وتُضيّع أمور الناس إذا كان الرأي عند من لا يعقل، والسلاح لمن لا يستعمله، والمال عند من لا يُنفقه؛ وتتلّقي نعمة الله بكثرة الشكر له ولزوم طاعته واجتناب معصيته، فأقبل إفلاطون إليه وتتلمذ له حتي مات.

بزرجمهر في السجن:

غضب أنوشروان علي وزيره بزرجمهر فسجنه في بيت كالقبر وصفّده بالحديد وألبسه الخشن من الصوف وأمر أن لا يزاد في كلّ يوم علي قرصين من الخبز و كفّ ملح جريش ودورق ماء، وأن تُنقل ألفاظه إليه، فأقام شهوراً لا تُسمع له لفظة، فقال أنوشروان: أدخِلوا عليه أصحابه ومروهم أن يسألوه ويفتحوه الكلام وعرّفونيه، فدخل إليه جماعة من المختصّين به فقالوا له: أيّها الحكيم نراك في هذا الضيق والحديد والشدّة التي دفعت إليها، ومع هذا فإنّ

ص: 279


1- الخصال: 348/ ح 21؛ بحار الأنوار 75: 31، ح 99.

سحنة وجهك وصحّة جسمك علي حالها لم تتغيّر، فما السبب في ذلك؟ فقال: إنّي عملت جوارش من ستّة أخلاط، فآخذ منه كلّ يوم شيئاً، فهو الذي أبقاني علي ماترون. فقالوا: فصفه لنا فعسي أن نُبتلي بمثل بلواك أو أحد من إخواننا فنستعمله أو نصفه له. فقال: الخليط الأول الثقة بالله، والثاني أنّ كلّ مقدّر كائن، والثالث الصبر خير ما استعمله الممتحن، والرابع إن لم أصبر فأيّ شيء أعمل؟ ولِمَ أعن علي نفسي بالجزع؟ والخامس قد يمكن أن أكون في شرٍّ أصعب مما أنا فيه، والسادس من ساعة إلي ساعة فرج.(1)

حكمة فيثاغورس:

كان فيثاغورس الحكيم اليوناني إذا جلس علي كرسيّه أوصي بهذه الوصايا السبع: قوّموا موازينكم واعرفوا أوزانها، عدّلوا الخط تصحبكم السلامة، لا تشعلوا النار حيث ترون السكّين يقطع، عدّلوا شهواتكم تستديموا الصحّة، استعملوا العدل تحظ بكم المودّة، عاملوا الزمان كالولاة الذين يُستعملون عليكم و يُعزلون عنكم، لا ترفّهوا أبدانكم وأنفسكم فتفقدوا في أوقات الشدائد إذا وردت عليكم.

التحكمة أرسطاطاليس:

أمر أرسطاطاليس عند موته أن يُدفن ويُبني عليه بيت مثمّن يُكتب علي كلّ ثُمن منه كلمة من هذه الكلمات الجامعات لجميع الأمور التي بها يصلح الناس: «العالم بُستان ساقيته الدولة، الدولة سلطان محجّته الشريعة، الشريعة سياسة يسوسها الملك، الملك راع يعضده الجيش، الجيش أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعيّة، الرعيّة عبيد يستملكهم العدل، العدل ألفة بها صلاح العالم».

ص: 280


1- الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخي 1: 38.

حكاية الملك ووزراءه الأربعة:

كان ملك من الملوك من ذوي البصيرة والرأي والتقي والصلاح قد اتّخذ له جملة من الحكماء الروحانيّين يستروح بهم ويسكن إلي حكمتهم، وكان أربعة من عظمائهم أقربهم منزلة منه وأخصّهم عنده: فارسيّ ويسمي المنُجِّح، وهندي ويسمّي المُصحّح، ورومي ويسمّي المُفصح، وعربي ويسمي الموضّح، فجمعهم يوماً عنده وقال: أيّها الحكماء أريد أن أسألكم عن أشياء تختلج في ذهني فأجيبوني. قالوا: نعم أيّها الملك سَل. قال: أيهّا الحكماء بما السعادة في الدنيا والآخرة ونجاة النفوس الفاخرة؟ قال الحكيم الفارسي: بالتسليم لأمر الله. قال الحكيم الهندي: بالرضا بقضاء الله. قال الحكيم الرومي: بالتوكّل علي الله. قال الحكيم العربي: بالخشية من أمر الله والطاعة لله.

فقال: أيّها الحكماء بم تزكو الأعمال ويفوز المرء بعد الانتقال؟ قال الحكيم الفارسي: بطاعة الربّ وعصيان الهوي. قال الحكيم الهندي: بكثرة الصيام وبرّ الأيتام. قال الحكيم الرومي: بأداء الشكر والانعطاف علي من شمله الفقر. قال الحكيم العربي: بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

فقال: أيّها الحكماء فبما الخلاص والكون مع الخواصّ؟ قال الحكيم الفارسي: بالاجتهاد في العبادة والاعتماد علي الزهادة والاغتنام للافادة. قال الحكيم الهندي: بتصحيح اليقين وإيثار الدين وتحقيق النبييّن. قال الحكيم الرومي: بطول الرحمة واتّباع الحكمة والشكر علي النعمة، قال الحكيم العربي: بحسن الصمت وإزالة المقت والقيام بواجب الوقت.

فقال الملك: أيّها الحكماء فيم السموّ والافتخار؟ فقال الحكيم الفارسي: بحكمةٍ زاهرة ونفس طاهرة ودولة قاهرة وعشرة فاخرة. قال الحكيم الهندي: بعلومٍ مضيئة ونفس رضيّة ومملكة هنيّة وعطيّة زكيّة. قال الحكيم الرومي:

ص: 281

بهداية شاملة ونفس فاضلة ونعمة متوالية ومواهب متواصلة. قال الحكيم العربي: بصيرة رشيدة، ونفس سعيدة، وولاية حميدة، وسماحة مفيدة.

فقال: أيّها الحكماء فبم دوام الملك و حراسته من الهلك؟ قال الحكيم الفارسي: ببسط العدل، وكثرة الفضل، واستشارة أهل العدل. قال الحكيم الهندي: بالقيام بالقسطاس، والاقناط من الناس، وقهر العدوّ بشدّة البأس، قال الحكيم الرومي: بحسن السيرة في الرعيّة، والعدل في البريّة، والحكم بينهم بالسويّة، وكثرة البذل والعطيّة، قال الحكيم العربي: بجمع الأموال، وحسن الأعمال، وكثرة الإفضال، والرأفة والإجمال.

فقال: أيّها الحكماء فيم زوال النعم والتعرّض لحلول النقم؟ قال الحكيم الفارسي: بالجرأة علي المحارم، والهجوم علي المآثم، وارتكاب العظائم، واستنقال المكارم. قال الحكيم الهندي: بإهانة السادات، وترك الواجبات، واتّباع الشهوات. قال الحكيم الرومي: بالكسل الفاضح، واستعمال القبائح، وترك القبول من الناصح، والميل من الصالح إلي الطالح. قال الحكيم العربي: باتّباع الفضول، و مشاورة الجهول، وشرب الخمور، والعزف بالطنبور.

قال الملك: أيّها الحكماء فبم بقاء الملك ودوامه وعلوّه وتمامه؟ قال الحكيم الفارسي: بإغاثة اللهيف وإعانة الضعيف وأمن المخيف، وإنصاف الدنيّ من الشريف. قال الحكيم الهندي: بتدبير الحكم وإدرار النعم وإمداد الكرم وإنفاذ الهمم. قال الحكيم الرومي: ينفع الأولياء وقمع الأعداء ومؤانسة العقلاء وإبعاد الجهلاء. قال الحكيم العربي: بكثرة البرّ وترك الكبر والصدقة في السرّ.

فقال الملك: أيّها الحكماء بم تكمل السعادة وتستوجب الافادة؟ قال الحكيم الفارسي: بلين الجانب وإرفاد الطالب والصبر علي المصائب والقيام بحقّ الصاحب. قال الحكيم الهندي: ببذل العطايا والعدل في القضايا والصبر علي الرزايا والاحسان في البرايا. قال الحكيم الرومي: بطلب المعالي والنجاح

ص: 282

واصطفاء الثقاة من أهل الصلاح وترك رقدات الصباح. قال الحكيم العربي: بلين الكلام وإطعام الطعام و اجتناب الآثام وإفشاء السلام.

***

وفي كتب الفرس أنّ أنوشروان جمع عمّال السواد و بيده درّة يقلّبها،

فقال: أيّ شيء أضرّ بارتفاع السواد و أدني إلي محقه؟ أيّكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرّة في فيه؟ فقال بعضهم: انقطاع الشرب، وقال بعضهم: احتباس المطر، وقال بعضهم: استيلاء الجنوب وعدم الشمال، فقال لوزيره: قُل أنت فإنّي أظنّ عقلك يعادل عقول الرعيّة كلّها أو يزيد عليها، فقال: تغيّر رأي السلطان في رعيّته وإضمار الحيف لهم، والجور عليهم، فقال: لله أبوك، بهذا العقل أهّلك آبائي وأجدادي لما أهّلوك له، ودفع إليه الدرّة فجعلها في فيه.

***

رُأيَ صورة حكيمين من الحكماء في بعض المساجد وفي يد أحدهما رقعة فيها: إن أحسنت كلّ شيء فلا تظننّ أنّك أحسنتَ شيئاً حتّي تعرف الله وتعلم أنّه سبب الأسباب وموجد الأشياء.

وفي يد الآخر: كنت قبل أن عرفت الله أشرب وأظمأ، حتّي إذا عرفته رويتُ بلا شرب.

***

تكلّم أمير المؤمنين علي عليه السلام بتسع كلمات ارتجلهنّ ارتجالاً، فقأن عيون الحكمة والبلاغة، وأيتمن جواهر الحكمة، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهنّ: ثلاث منها في المناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب.

فأمّا اللاتي في المناجات: فقال: «إلهي كفي بي عِزّاً أن أكون لك عبداً، وكفي بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أحبّ، فاجعلني كما تحبّ».

ص: 283

وأمّا اللاتي في الحكمة: فقال: «قيمةُ كلّ امريءٍ ما يُحسنه، وما هلك امرؤٌ عرف قدره، والمرء مخبوء تحت لسانه».

واللاتي في الأدب: فقال: «أمنُن علي مَن شئت تكن أميره، واحْتَج إلي

من شئت تكن أسيره، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره».

***

وصفة الحكيم لكل داء:

قال رجل من الصالحين: مررت بجماعة من الناس مجتمعين، بينهم حكيم يصف لكلّ داءٍ دواء ولكلّ علّة شفاء، دنوتُ منه فسلّمت عليه فقلت: أيّها الحكيم هل عندك لدائي دواء ولعلّتي شفاء؟ قال: نعم عندي دواؤك إن عملت به شُفيت، وإن تركته بقيت. قال: فقلت: إن كان موافقاً صرت مرافقاً، فما هو؟ قال لي: خُذ عروق الفقر وورق الصبر، وهليلج الخضوع و ترياق الخشوع، واجعله في هاون التوبة، واسحنه بمسحن التقوي، وانخله بمنخل العقل، وأفرغه في قدح المناجاة وأوقد عليه نار المحبّة، وروّحه بمروحة الزهد، واشربه بمعاليق الاستغفار، وتمضمض بماء الورع، فالنفس بيت كلّ دواء، والحميا بيت كلّ شفاء، ودع نفسك وما عودّتها فإنّك تبرأ بإذن الله تعالي.

قال: فقلت: أيّها الحكيم ليس عندي ثمن الدواء. قال: اقصد باب الرضا وادع صاحبه بالضيق والفضا، وقال بالتذلّل والخضوع والاستكانة والخشوع: يا معدن الجود والاحسان لك الحمد يا منّان.

فقلت: أيّها الحكيم إنّ بيني وبينه قطعة ووحشة من سوء معاملة عاملته بها قبيحة غير صحيحة، فهربت منه خائفاً متوجّلاً.

فقال لي: يا ضعيف اليقين أما علمتَ بأنّ الله تعالي يغفر ذنوب المذنبين؟ ثم أنشأ يقول:

ص: 284

حاسبونا فدقّقوا *** ثم منّوا فأعتقوا

هكذا عادة الملوك *** بالمماليك ترفقُ

إنّ قلبي يقول لي *** ولساني يُصدّق

إنّ من مات عاشقاً *** ليس بالنار يحرقُ

قال: ثم قام و مضي عنّي فتفرّق الناس، فقلت لبعضهم: بالله عليك من هذا الحكيم؟ قال لي: أولم تعرفه؟ قلت: أجل والله، قال: هذا علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.

***

ومن رام الزيادة في معرفة الحكمة ومعرفة حال الحكماء أكثر مما ذكرنا هنا، فليرجع إلي كتابنا (الحكمة والحكماء).(1)

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي الأصل من شرح الكلمات في خطبته عليه السلام فأقول:

قوله عليه السلام: «قد لبس للحكمة جُنّتها» الظاهر أنّه أراد بجُنّة الحكمة مخافة الله، كما أنّ النبي صلي الله عليه وآله جعلها رأسها في قوله: «رأس الحكمة مخافة الله»(2) فاستعار لفظ الجُنّة لها باعتبار أنّ مخافته سبحانه و وجود وصف التقوي الموجب لقمع النفس عن الشهوات وقلعها عن العلائق والأمنيات مائع عن كون الحكمة غرضاً عن إلهام الهوي، وعن وقوع الحكيم في الهلاك والردي، كما أنّ الجُنّة _ وهو ما يُستتر به من السلاح كالدرع ونحوه _ مانعة للابسها عن إصابة سهام الأعداء.

فيكون محصّل المعني أنّ ذلك الحكيم قد اتّصف بمخافة الله سبحانه وخشيته التي هي بمنزلة الجُنّة للحكمة لأجل حفظ حكمته وكونها وقاية لها عمّا يصادمها، كما أنّ الجُنّة تحفظ الانسان عن صدمات الأعداء.

ص: 285


1- مخطوط.
2- مستدرك الوسائل 11: 229 / ح 12823؛ الاختصاص للمفيد: 343.

قوله عليه السلام: «وأخذها بجميع أدبها» أي أخذ الحكمة علي وجه الكمال وقام بآدابها (من الاقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها) يعني أنّه لما علم أنّه لاخصلة أعظم وأشرف وأرفع وأبهي من الحكمة، وعرف أنّه من يُؤتها فقد أوتي خيراً كثيراً، أقبل بالكليّة عليها وقصرت همّته ونهمته فيها، وعرف شرفها وقدرها ونفاستها، وتفرّغ لها وتخلّي عن جميع العلائق الدنيويّة التي تضادّها، وتنحّي عن كلّ ما سواها.

«فهي عند نفسه ضالّته التي يطلبها وحاجته التي يسأل عنها» ذلك مثل قوله عليه السلام: «الحكمة ضالّة المؤمن».(1)

دلالة قوله عليه السلام فهو مغترب علي الإمام المهدي:

«فهو مغترب» يعني هذا الشخص يخفي نفسه ويختار العزلة، وهو إشارة إلي غيبة القائم عليه السلام «إذا اغترب الاسلام» أي إذا ظهر الجور والفساد وصار الإسلام غريباً ضعيفاً بسبب اغتراب الصلاح والسداد، كما قال رسول الله صلي الله عليه وآله: بدء الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدء.(2) ثمّ شبّه الإسلام بالبعير البارك في قلّة النفع والضعف علي سبيل الاستعارة بالكناية، فأثبت له لوازم المشبّه به وقال: «وضرب بعسيب ذنبه» لأنّ البعير إذا أعيي و تأذّي ضرب بذنبه، «وألصق الأرض بجرانه» أي مقدّم عنقه فلا يكون له تصرّف ولا نهوض، وقلّ أن يكون له نفع حال بُرو كه.

ولمّا وصفه عليه السلام بلبسه لجُنّة الحكمة وإيثاره العزلة والغيبة عرّفه بأنّه «بقيّة من بقايا حجتّه» علي عباده «وخليفة من خلائف أنبيائه» في بلاده، وهذان الوصفان يقويّان الظنّ بكون نظره عليه السلام بما أورده في هذا الفصل إلي القائم المنتظر عليه السلام و آبائه الطاهرين عليهم السلام.

ص: 286


1- الكافي 8: 167/ ح 186.
2- المعجم الأوسط للطبراني 3: 156، وفيه «إنّ الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبي للغرباء».

قال الشارح المعتزلي: فإن قلت: أليس لفظ الحجّة والخليفة مُشعراً بما يقوله الإماميّة _ أي كون المراد بها الإمام القائم عليه السلام.

قلت: لا، لأنّ أهل التصوّف يسمّون صاحبهم حجّة وخليفة، و كذلك الفلاسفة وأصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ علي العلماء المؤمنين في كلّ عصر لأنّهم حُجج الله _ أي إجماعهم حجّة _ وقد استخلفهم الله في أرضه ليحكموا بحكمه.(1)

الرد علي المعتزلي:

قال الشارح الخوئي: أقول: فيه أوّلاً: منع صحّة إطلاق حجّة الله وخليفته علي غير الأنبياء والأوصياء، إذ العصمة منحصرة فيهم، فتختصّ الحُجّيّة والخلافة بهم لمكان العصمة التي فيهم، وأمّا غيرهم فليس بمعصوم بالاتّفاق، فلا يكون قوله وفِعله حجّة، وحجّيّة إجماع العلماء أيضاً باعتبار دخول قول المعصوم في جملة أقوالهم لا من حيث أنّ كلاً من العلماء من حيث إنّه عالم قوله حجّة.

وثانياً: علي فرض التنزِّل والتسليم لصحّة إطلاقه علي غيرهم، إنّ أمير المؤمنين عليه السلام ليس بمعتزليّ المذهب ولا صوفيّ المذاق ولا فلسفيّ المسلك، فلا يُحمل لفظ الحجّة والخليفة في كلامه عليه السلام علي اصطلاحاتهم، وإنّما يُحمل علي المعني الغالب إرادته منهذه اللفظة في كلماتهم عليهم السلام، وغير خفيّ علي المتتبّع لأحاديثهم و كثير الأنس بأخبارهم أنّهم كثيراً ما يُطلقون لفظ الحُجج ويريدون به الأئمّة الاثني عشر، وقد يطلقونه ويريدون به سائر المعصومين من الأنبياء والأوصياء، ويطلقون لفظ الحجّة أيضاً أحياناً بالقرائن علي العقل والقرآن، ولم نر إلي الآن أن يُطلق هذا اللفظ في كلامهم علي العارف أو العالم غير المعصوم أو أحد الأبدال المصطلح في لسان الفلاسفة والمعتزلة والمتصوّفة.

ص: 287


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 98 - 99.

وعلي ذلك فحيثما أطلق لفظ حجّة الله في كلامهم خالياً عن القرائن فلا بدّ من حمله علي المعني الكثير الدوران في ألسنتهم وهو الإمام، لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

الردّ علي ابن ميثم:

ومن هذا كلّه ظهر ما في كلام الشارح البحراني أيضاً، فإنّه بعد ما جعل قوله عليه السلام: «قد لبس للحكمة جنّتها» إشارة إلي العارف مطلقاً ونفي ظهور كونه إشارة إلي الامام المنتظر عليه السلام، قال في شرح هذا المقام: قوله عليه السلام : «بقيّة من بقايا حُججه» أي علي خلقه إذ العلماء والعارفون حُجج الله في الأرض علي عباده، وظاهر كونه خليفة من خلفاء أنبيائه لقوله صلي الله عليه وآله: «العلماء ورثة الأنبياء».(1) انتهي.

ويرد عليه _ مضافاً إلي ما مرّ _ أنّ استدلاله علي خلافة العلماء والعرفاء بقوله «ورثة الأنبياء» واستظهاره من ذلك كون المراد بالخليفة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام هؤلاء لا وجه له.

أمّا أولاً: فلأنّ الدليل أخصّ من الدعوي، لإفادته وراثة العلماء فقط دون

العرفاء مع أنّ المدّعي أعمّ.

وثانياً: أنّ قوله صلي الله عليه وآله: «العلماء ورثة الأنبياء» لم يُرد به الوراثة الحقيقيّة قطعاً، وإنّما هو من باب التشبيه والمجاز، يعني أنّ علومهم انتقلت إليهم كما أنّ أموال المورث تنتقل إلي الوارث، فكانوا بمنزلة الورثة.

قال الشارح الخوئي: وعلي ذلك فأقول: إنّ وراثة العلماء للأنبياء و خلافتهم عنهم علي سبيل المجاز والاستعارة، ووراثة الإمام المنتظر عليه السلام وخلافته علي سبيل الحقيقة، فلا بدّ من حمل لفظ الخليفة في كلامه عليه السلام عليه

ص: 288


1- الدعوات للراوندي: 63؛ الكافي 1: 32 /ح 2.

لا علي العالم، لأنّ اللفظ إذا دار بين أن يُراد منه معناه الحقيقي ومعناه المجازي، فالأصل الحقيقة كما بُرهن في علم الأصول.

موضوع الإمام المنتظر عليه السلام:

قضيّة الإمام الثاني عشر في الحقيقة كثيراً ما تعلو عليها نبرات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين، بل ومن غيرهم علي الإماميّة في الاعتقاد بوجود إمام غائب عن الأبصار وليس له أثر من الآثار، زاعمين أنّه رأي فائل وعقيدة سخيفة، والمعقول من إنكارهم يرجع إلي أمرين:

الأوّل: استبعاد طول العمر

استبعاد بقائه طول هذه المدّة التي تتجاوز الألف سنة، وهذا الاستغراب والاستبعاد لا يتأتّي من أرباب الأديان، لأنّهم جميعاً يقولون بأكثر من هذه المدّة في أعمار البشر، فالبراهمة والبوذائيّون يعتقدون في براهما و كرشنا ومهاديو وبوذا أنّهم أحياء مضت علي حياتهم ألوف ألوف من السنين، والمجوس يعتقدون أنّ الطبقة الأولي للبشر _ وهم طبقة مهاباد _ كانوا يعيشون ألوف الملايين من السنين، والطبقة الثانية _ وهم طبقة جي إفراميان _ كانوا يعيشون ملايين السنين، وهكذا سائر طبقات البشر منهم مثل «كلشاه» و «جمشيد» و «افراسياد» وهوشنك» و«مَنُوجَهَر» وأمثالهم يعيشون ألوفاً من السنين، وذلك مذكور في كتبهم الدينية مثل كتاب «الدساتير» و كتاب «زند» و كتاب «بازند» و كتاب «أوستا» وغيرها.

واليهود والنصاري يعتقدون بالتوراة، وقد جاء في الأبواب الأولي من سفرها الأول _ وهو سفر التكوين (براشيت) _ أنّ آدم وأخنوخ ومهلائيل و نوحاً وغيرهم عاشوا بين ستمائة سنة وألف سنة وأكثر، ويضيف النصاري إلي ذلك أنّ المسيح عليه السلام حيّ وقد مضت علي ولادته ما يقرب من ألفي سنة واليهود يعتقدون أنّ (الياهو) _ وهو من أنبياء بني إسرائيل _ دعا الناس إلي

ص: 289

التوراة ثمّ غاب خمسمائة سنة، ثمّ ظهر ودعا إليها، ثمّ غاب ولا يزال حيّاً، وقد مضي علي عمره ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة.

وجميع أهل الأديان القديمة والحديثة معتقدون بأنّه سيظهر في آخر الزمان عند فساد العالم وانتشار الظلم والجور مَن يصلحه ويبدّل الظلم بالعدل والفساد بالصلاح، وإن اختلفوا في ذلك المصلح، فالبراهمة يسمّونه بهرام _ وترجمة بهرام في العربية (محمد) _ واليهود يسمّونه الياهو، والنصاري يقولون هو المسيح، وأنّه هو الذي يقتل الدجّال كما جاء في أواخر مكاشفات يوحنّا من كتب الإنجيل (العهد الجديد).

وأمّا المسلمون فلا مجال لهم إلي استبعاد هذا العمر الطويل بعد أن يقرأوا في سورة الصافّات قوله تعالي: «فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَيٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1) فجوّز إمكان البقاء واللبث إلي يوم البعث، وقوله تعالي في سورة الكهف:«وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا»(2) فأخبر أنّ أصحاب الكهف عاشوا أكثر من ثلاثمائة سنة، وقوله تعالي في سورة العنكبوت: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَيٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ»(3) فأخبر أن نوحاً عليه السلام دعا قومه ما يقرب من ألف سنة إلي زمن الطوفان، ولا بدّ أنّه عاش بعد الطوفان طويلاً، و كان قبل الدعوة كثيراً، والأخبار وردت أنّ عمره كان يزيد علي ألفي سنة، فإمكان هذا العمر الطويل ووقوعه ثابت في القرآن، وتحتّمه لصاحب الزمان ثابت بقوله تعالي في سورة الصفّ، وفي سورة الفتح، وفي سورة التوبة: «لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ»(4) فلا بدّ من يوم يُظهر الله فيه دين الإسلام علي جميع الأديان حتّي بدين به أهل العالم، وليس هو إلاّ اليوم الموعود الذي يظهر فيه الإمام الثاني عشر، وبقوله تعالي في أخريات سورة النساء

ص: 290


1- الصافات: 143 و 144.
2- الكهف: 25.
3- العنكبوت: 14.
4- التوبة: 33؛ الفتح: 28، الصف: 9.

عن المسيح عليه السلام: «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ»(1) فأخبر أنّ جميع أهل الكتاب مؤمنون بالمسيح ولم يقع ذلك، وهو ما جاءت به الأحاديث الشريفة من أنّ المسيح يكون مع المهدي، وأنّ الأمم كلّهم يؤمنون بهما، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلي الله عليه وآله أنّ المهدي سيظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وقد رواها جميع فرق المسلمين من الخاصّة والعامّة، وذكر ابن حجر وحده منها خمسين حديثاً، فكيف ينكر مسلم قرأ القرآن وتصفّح الأحاديث بقاءه وظهوره وأنّه هو الذي سيحكم الأرض كلها وبه يدين أهل العالم جميعهم بدين الإسلام، وهو الذي يملا الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلما وجورة، حتّي ترعي الشاة إلي جنب الذئب فلا يصيبها منه أذي كما ورد في الأحاديث،(2) والعدل إذا بسط في العالم استراح الانسان والحيوان معاً ورغد عيشهما.

فهذه الأديان كلها تصرّح بإمكان العمر الطويل للبشر ووقوعه، وأهل الأديان جميعاً مُذعنون به ولا يتأتّي لهم أن يستبعدوه، ولم يبقَ إلاّ الطبيعيّون والماديّون الملحدون الذين ينكرون وجود الله وقدرته ولا يدينون بدين وإن استبعدوه فليس لنا هنا معهم كلام، لأنّا إنّما نتكلّم في هذا المقام بعد إثبات التوحيد وقدرة الله، وأنّه هو القاهر فوق عباده، القدير علي كلّ شيء، الذي يفعل ما يشآء ويحكم ما يريد، ونحن إذا أثبتنا قدرة الله تعالي علي كلّ شيء وأنّه إذا قضي أمراً فإنّما يقول له كن فيكون، لم نُبق مجالاً للاستبعاد المادي والطبيعي لهذا العمر الطويل بعد أن أثبتنا له قدرة الله وأنّه الفاعل لما يشآء كيف يشاآء.

وقد اعترف أهل العلم في هذا العصر الذي حدث فيه التطوّر العلمي والصناعي بإمكان بقاء الانسان طويلاً، وتصدّي كثير من الأطباء والعلماء إلي ايجاد وسائل تُعيد الشيخ شاباً أو تمنع شيخوخة الشاب حتّي يعيش ألوفاً من

ص: 291


1- النساء: 159.
2- انظر معجم أحاديث المهدي ه: 148 و418.

السنين، وقد أعدّت الدول جوائز كبيرة لمن يتوصّل إلي هذا الاختراع، فاعترف كلّهم علماً وعملاً بإمكان هذا الأمر بنفسه لطبيب مخترع، فكيف باللطيف الخبير الذي هو علي كلّ شيء قدير.

الثاني: عدم الحكمة في الوجود مع الغيبة

السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته، وهل وجوده مع عدم الانتفاع به إلاّ كعدمه؟ ولكن ليت شعري هل يريد أولئك القوم أن يصلوا إلي جميع الحكم الربّانيّة والمصالح الإلهيّة وأسرار التكوين والتشريع، ولا تزال جملة أحكام إلي اليوم مجهولة الحكمة: كتقبيل الحجر الأسود مع أنّه [في الظاهر] حجر لا يضرّ ولا ينفع، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً والصبح اثنين، وهكذا إلي كثير من أمثالها.

حكاية الشيخ محمد حسين الاصفهاني عن الإمام المهدي عليه السلام :

حدّثني العلاّمة المرحوم الشيخ جعفر نقدي عن حجّة الإسلام الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس سرّه قال: كان رجل من أهل العلم والفضيلة اسمه الشيخ حسن، وكان أكثر اختصاصه بعلم الحساب والاصطرلاب، فخطر يوماً في ذهنه أن يجتمع مع الإمام المنتظر حجّة آل محمد عليه السلام ويسأله عن يوم خروجه، فأوّل ما وضع دائرة الحساب حسب فنّه علي مكّة وحصر شوارعها وطرقها وأسواقها وبيوتها في الخانات الحسابيّة ورقّمها، ثمّ أخذ يتتبّع خانة خانة ودائرة دائرة حسب تخطيطه حتّي استقصي جميع مكّة فلم يجده في مكّة، فانتقل إلي المدينة فحصرها كما حصر مكّة في الدوائر الحسابيّة فلم يجده في المدينة، ثم انتقل إلي النجف وهكذا كربلاء والكاظميّة، فوجده في الكاظميّة، فحصرها ثمّ ضيّق الدوائر حتّي حصره في الجلوخانة ما بين بابي الصحن الشريف، وكان هذا المكان سابقاً تُباع فيه الخرّازيّة، فذهب يفتّش وينظر وجوه

ص: 292

الناس ليصل إلي الإمام، فوقف علي حانوت خرّاز وعلي باب الحانوت رجل جالس وامرأة واقفة تعامل صاحب الحانوت علي قفل فيسومه صاحب الحانوت مثلاً بخمسة وثلاثين فلساً وهي تقول له: لا أملك إلاّ أربعة وثلاثين فلساً، فقال لها صاحب الحانوت: يا أمة الله هو عليّ أربع وثلاثين وأنا أربح منه فلساً واحدً، حتّي طال الالحاح من المرأة، فالتفت الشيخ إلي صاحب الحانوت قائلاً: ما يضرّك لو دفعت لها القفل بما عندها وهي صادقة في قولها، فقال له صاحب الحانوت: ما أنت وذاك؟ أوما بلغك أنّه من حُسن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يعنيه؟ فقال الرجل الجالس: صحيح إنّ هناك أناساً يريدون أن يتوصّلوا إلي سرٍّ ليس من شأنهم، فانتزعج الشيخ ولم يلتفت إلي قول الرجل وأنّه هو مطلوبه والذي هو في صدره، فانصرف يفتّش عن غرضه إلي أن وصل إلي باب الصحن الثانية فذكر قول الرجل وأنّه هو مطلوبه والذي يسعي في أثره، وأنّ الرجل وقف علي سرّه، فرجع مسرعاً فلم ير الرجل، فسأل عنه صاحب الحانوت فقال له: قام ومضي في سوق الاستربادي، فأسرع يفتّش عليه فلم يجده، فرجع إلي صاحب الحانوت مستفسراً عنه فقال: لا أعرفه، إلاّ أنّه أكثر من عشرين سنة يتردّد عليّ ولا أحبّ أن أسأله من هو خوفاً ألاّ يرضي، إلاّ أنّ هذا الرجل من نوادر الزمن، فقال: كيف ذاك؟ فقال: يظهر أنّه من الأثرياء، لأنّه يذكر لي أنّ له قصراً في مكّة وفي المدينة والنجف وكربلاء وسامرّاء وأعتقد أنّه صادق. ثمّ إنّه عالم لأنّه لم تعترض لي مسألة فقهيّة فأسأل عنها الحجّة الشيخ محمّد حسن آل ياسين فيُجيبني، فإذا جاءني هذا الرجل فيسألني: هل عرضت لك مسألة فقهيّة؟ فأقول: بلي فسألت عنها الشيخ محمد حسن آل ياسين فأجابني بكذا، فيقول: صحيح، دليلُها من القرآن فلان آية وآية كذا، فيذكر جملة من الآيات القرآنيّة، ومن السنّة كذا وكذا، فيذكر جملة من الأحاديث النبوية،ثم إنّه

ص: 293

طبيب حاذق، ما وَصف لي دواء إلاّ وعوفي مرضي من وقته وساعته بذلك الدواء. فقال الشيخ: أما تعرفه؟ قال: لا والله ولا أحبّ أن أسأله، فقال الشيخ: هذا صاحب الأمر المنتظر، فقال صاحب الحانوت: من الأسف أنّه لا يعود إليّ بعد هذا، وهكذا كان؛ انتهي ما علق بخاطري.

وبالتالي فقد استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يُطلع عليها ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مُرسَلاً: كولم الساعة وأخواتها «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ».(1)

وأخفي جملة أمور لم يعلم علي التحقيق وجه الحكمة في إخفائها: كالاسم الأعظم وليلة القدر وساعة الاستجابة. والغاية أنّه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلاً أو يحكم حكماً مجهول الحكمة لنا، إنّما الكلام في وقوع ذلك و تحقّقه،فإذا صحّ إخبار النبيّ صلي الله عليه وآله وأوصيائه المعصومين عليهم السلام لم يكن بدّ من التسليم والاذعان ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه.

والقول الفصل أنّه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة علي وجوب وجود الإمام في كلّ عصر، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وأنّ وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر فالسؤال عن الحكمة ساقط.

كلام محي الدين العربي في حق الإمام المهدي عليه السلام :

والأدلّة والأحاديث عن النبي صلي الله عليه وآله مستفيضة متواترة لا يسعها المقام. ونكتفي هنا بعبارة الشيخ محي الدين العربي، فقد ذكر في الباب السادس والستين والثلاثمائة من كتابه _ الفتوحات المكّتّبة _ وهو من كبار علماء السنّة وأحد أقطابها قال ما نصّه في وصف الإمام:

«واعلم أنّه لابدّ من خروج المهدي عليه السلام، لكن لا يخرج حتّي تمتلأ

ص: 294


1- لقمان: 34.

الأرض جوراً و ظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، ولو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد الطوّل الله ذلك اليوم حتّي يلي هذا الخليفة، وهو من عترة رسول الله صلي الله عليه وآله من ولد فاطمة عليها السلام، جدّه الحسين بن علي بن أبي طالب ووالده الحسن العسكري ابن الإمام علي النقي _ بالنون _ ابن الإمام محمد التقي _ بالتاء _ ابن الإمام علي الرضا ابن الإمام موسي الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي ابن أبي

طالب عليهم السلام ، يواطئ اسمه اسم رسول الله، يُبايعه المسلمون ما بين الركن والمقام، يشبه رسول الله في الخَلق وينزل عنه في الخُلق، إذ لا يكون أحد مثل رسول الله في أخلاقه والله تعالي يقول: «إِنَّكَ لَعَلَيٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ».(1)

هو أجلي الجبهة، أقني الأنف، أسعد الناس به أهل الكوفة، يقسم المال بالسويّة، ويعدل في الرعيّة، يأتيه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني _ وبين يديه المال _ فيحثي له ما استطاع أن يحمله، يخرج علي فترة من الدين، يزع الله به ما لا يزع بالقرآن، يُمسي الرجل [من أتباعه] جاهلاً وبخيلاً، فيصبح عالماً شجاعاً كريماً، يمشي النصر بين يديه، يعيش خمسة أو سبعاً أو تسعاً، يقفو أثر رسول الله ولا يُخطئ، له مَلَك يُسدّده من حيث لا يراه، يحمل الكَلّ ويُعين الضعيف ويساعد علي نوائب الحقّ، يفعل ما يقول ويقول ما يفعل ويعلم ما يشهد، ويُصلحه الله في ليلة(2) يفتح المدينة الرومية بالتكبير مع سبعين ألف من المسلمين من ولد إسحاق، يشهد الملحمة العظمي مأدبة الله بمرج عكاء، يُبيد

ص: 295


1- القلم:4.
2- وفي رواية أخري: يُصلح الله له أمره في ليلة. «قد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لبعض أصحابه: كن لما لا ترجو أرجي منك لما ترجو، فإنّ موسي بن عمران عليه السلام خرج ليقتبس لأهله ناراً، فرجع إليهم وهو رسول نبيّ، فأصلح الله تبارك وتعالي أمر عبده ونبيّه موسي عليه السلام في ليلة، وهكذا يفعل الله تبارك وتعالي بالقائم.

الظلم وأهله ويقيم الدين وينفخ الروح في الإسلام، يُعزّ الله به الإسلام بعد ذّله، ويُحييه بعد موته، يضع الجزية ويدعو إلي الله بالسيف، فمن أبي قتل، ومن نازعه خذل، يُظهر الدين علي ما هو عليه في نفسه حتّي لو كان رسول الله صلي الله عليه وآله حيّاً لحكم به، فلا يبقي في زمانه إلاّ الدين الخالص عن الرأي، يخالف في غالب أحكامه مذاهب العلماء فينقبضون منه لذلك لظنّهم أنّ الله تعالي لا يحدث بعد أئمتهم مجتهداً.

وأطال في ذلك وفي ذكر وقايعه معهم، ثمّ قال: واعلم أنّ المهدي إذا خرج يفرح به جميع المسلمين خاصّتهم وعامّتهم، وله رجال إلهيّون يُقيمون دعوته وينصرونه وهم الوزراء له يتحمّلون أثقال المملكة ويُعينونه علي ما قلُده الله له، ينزل عليه عيسي ابن مريم عليه السلام بالمنارة البيضاء شرقيّ دمشق متّكئاً علي مَلَكين ملك عن يمينه وملك عن شماله، وفي زمانه يُقتل السفياني عند شجرة بغوطة دمشق ويخسف بجيشه في البيداء، فمن كان مجبوراً من ذلك الجيش مكرهاً يُحشر علي نيّته، وقد جاء كم زمانه وأظلكم أو أنه، وقد ظهر في القرن الرابع اللاحق بالقرون الثلاثة الماضية قرن رسول الله صلي الله عليه وآله وهو قرن الصحابة ثمّ الذي يليه ثمّ الذي يلي الثاني، ثمّ جاء بينها فترات وحدثت أمور وانتشرت أهواء وسُفكت دماء فاختفي إلي أن يجيء الوقت المعلوم، فشهداؤه خير الشهداء، وأمناؤه خير الأمناء، وقد استوزر الله له طائفة خبأهم الحقّ له في مكنون غيبه أطلعهم كشفاً وشهوداً علي الحقائق وماهو أمر الله عليه في عباده، وهم علي إقدام رجال من الصحابة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم من الأعاجم ليس فيهم عربي لكن لا يتكلّمون إلاّ بالعربية، لهم حافظ من غير جنسهم ما عصي الله قطّ هو أخصّ الوزراء به.

وبعد فصل صحيفة يقول: فإن قلت: فما صورة ما يحكم به المهدي إذا

خرج، هل يحكم بالنصوص أو الاجتهاد أو بهما؟ فالجواب أنّه يحكم بما ألقي

ص: 296

إليه ملك الإلهام من الشريعة، وذلك أن يُلهمه الله الشرع المحمّدّي فيحكم به، كما أشار إليه حديث النبي صلي الله عليه وآله أنّه يقفو أثري،(1) فعرّفنا أنّه متّبع لا مُبتدع، وأنّه معصوم في حكمه، إذ لا معني للمعصوم في الحكم إلاّ أنّه لا يُخطئ، وحكم رسول الله لا يخطئ، فإنّه لا ينطق عن الهوي إن هو إلاّ وحيٌ يوُحي، وقد أخبر عن المهدي أنّه لا يخطئ، وجعله ملحقاً بالأنبياء في ذلك الحكم، قال الشيخ: فعلم أنّه يحرم علي المهدي القياس مع وجود النصوص التي منحه الله إياها علي لسان ملك الالهام، بل حرّم بعض المحقّقين علي جميع أهل القِبلة القياس لكون رسول الله صلي الله عليه وآله مشهوداً لهم، فإذا شكّوا في صحّة حديث أو حكم رجعوا إليه في ذلك فأخبرهم بالأمر الحقّ يقظة ومشافهة، وصاحب هذا المشهد لا يحتاج إلي تقليد أحد من الأئمّة غير رسول الله صلي الله عليه وآله... إلي آخر مقالته «قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَي اللَّهِ ۚ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(2) وأطال في ذلك.(3) انتهي.

وجاء هذا المقال أيضاً في كتاب (مشارق الأنوار) تأليف الشيخ حسن العدوي الحمزاوي ص 112 طبقة 1307 سنة هجرية بالمطبعة العثمانيّة بمصر، وذكر أيضاً في كتاب (اليواقيت والجواهر) لعبد الوهاب الشعراني في الجزء الثاني ص 143 طبعة سنة 1321 هجرية بالمطبعة الأزهرية بمصر.

***

ص: 297


1- إسعاف الراغبين للصبّان: 141.
2- يوسف: 108.
3- الفتوحات المكّيّة لابن عربي، الباب 366 من المجلّد الثالث.

ص: 298

من خطبة له عليه السلام: يحذر فيها من الغفلة و يبين علمه و فضله علي الاخرين

ضبط الالفاظ اللغوية

ص: 299

الشرح:

إنّ مدار هذه الخطبة الشريفة علي فصلين:

الفصل الاول إيقاظ الغافلين

في إيقاظ الغافلين و تنبيه الجاهلين من رقدة الغفلة والجهالة، وهو قوله عليه السلام : (أيّها الغافلون غير المغفول عنهم) الظاهر أنّ الخطاب لكلّ من اتّصف بالغفلة من المكلّفين، أي الذين غفلوا عمّا أريد منهم من المعارف الحقّة والتكاليف الشرعيّة، ولم يُغفل عنهم وعمّا فعلوا، لكون أعمالهم مكتوبة محفوظة في اللوح المحفوظ وصحائف الأعمال، و كلّ ما فعلوه في الزُّبر وكلّ صغير وكبير مُستطَر.

(والتاركون) لما أمروا به من الفرائض والواجبات، (المأخوذ منهم) ما اغترّوا به من الأهل والمال والزخارف والقينات، (مالي أراكم عن الله ذاهبين) كناية عن إعراضهم عن الله سبحانه والتفاتهم إلي غيره تعالي، (وإلي غيره راغبين) إشارة إلي رغبتهم في زهرة الحياة الدنيا وإعجابهم بها.

(كأنّكم نَعَم أراح بها سائم إلي مرعي وبيّ ومشرب دويّ) شبّههم بأنعامٍ ذهب بها سائم إلي مرعي ومشرب وَصْفُهما ما ذكر، والمراد بالسائم حيوان يسوم ويرعي، وهو المستفاد من الشارح المعتزليّ حيث قال: شبّههم بالنعم التي تتبع نعماً أخري سائمة أي راعية، وإنّما قال ذلك لأنّها إذا تبعت أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الإبل التي يسيمها راعيها.

وفسّره الشارح البحرانيّ بالراعي، أي الذي يراعي النعم ويحفظها ويواظب عليها، من الرعاية وهو المراعاة والملاحظة، قال: شبّههم بالنعم التي أراح بها راعيها إلي مرعي كثير الوباء والداء، ووجه الشبه أنّهم _ لغفلتهم _ كالنعم، ونفوسهم الأمّارة القائدة لهم إلي المعاصي كالراعي القائد إلي المرعي الوبي ولذّات الدنيا ومشتهياتها، وكون تلك

ص: 300

اللذّات والمشتهيات محل الآثام التي هي مظّنة الهلاك الأخرويّ والداء الدويّ، يشبه المرعي الوبيّ والمشرب الدويّ.

(إنّما هي كالمعلوفة للمُدي) السكاكين (لا تعرف ماذا يُراد بها إذا أحسن إليها) أي تزعم وتظن أنّ العلف إحسان إليها علي الحقيقة، ولا تعرف أنّ الغرض من ذلك هو الذبح والهلاك، (تحسب يومَها دهرَها) يعني أنّها لكثرة إعجابها لعلفها في يومها تظنّ أنّ دهرها مقصور علي ذلك اليوم ليس لها وراءه يوم آخر، وقيل: معناه أنّها تظن أنّ ذلك العلف والاطعام كما هو حاصل لها ذلك اليوم يكون حاصلاً لها أبداً، (وشبعها أمرها) أي تظنّ انحصار أمرها وشأنها في الشبع، مع أنّ غرض صاحبها من إطعامها وإشباعها أمر آخر.

الفصل الثاني إشارة إلي مناقب علي عليه السلام

في الإشارة إلي بعض مناقبه الجميلة ومقاماته الجليلة، وهو قوله عليه السلام : «واللهِ لو شئتُ أن أخبر كلّ رجلٍ منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلتُ» أي لو أشاء لأخبر كل واحد منكم بأنّه من أين خرج، وأين دخل، وكيفية خروجه وولوجه، وأخبر بجميع شأنه وشغله من أفعاله وأقواله ومطعمه ومشربه وما أكله وما ادّخره في بيته وغير ذلك ممّا أضمروه في قلوبهم وأسرّوه في ضمائرهم، كما قال المسيح عليه السلام: «أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ».(1)

«ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول الله صلي الله عليه و آله »،(2) قال الشارع المعتزلي: أي أخاف عليكم الغلوّ في أمري وأن تفضّلوني علي رسول الله صلي الله عليه وآله ، بل أخاف عليكم أن تدّعوا فيّ الألوهية كما ادّعت النصاري ذلك في المسيح لمّا أخبرهم بالأمور الغايبة، ومع أنّه قد كتم ما علمه حذراً من أن يكفروا فيه برسول الله

ص: 301


1- آل عمران: 49 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 10.

صلي الله عليه وآله، فقد كفر كثير منهم وادّعوا فيه النبوّة، وادّعوا فيه أنّه شريك الرسول في الرسالة، وادّعوا فيه أنّه هو مكان الرسول ولكن الملك غلط فيه، وادّعوا أنّه الذي بعث محمداً إلي الناس، وادّعوا فيه الحلول، وادّعوا فيه الاتحاد، ولم يتركوا نوعاً من أنواع الضلالة فيه إلاّ وقالوه واعتقدوه. وقال شاعرهم فيه من أبيات:

ومن أهلك عاداً وثموداً بدواهيه *** و من كلّم موسي فوق طور أو يناديه

ومن قال علي المنبر يوماً وهو راقيه *** سلوني أيها الناس فحاروا في معانيه

وقال بعض شعرائهم أيضاً:

إنّما خالق الخلائق مَن *** زعزع أركان حصن خيبر جَذْبا

قد رضينا به إماماً ومولي *** وسجدنا له إلهاً وربّا(1)

***

في ناس هذا العصر من إذا وقعت أبصارهم أو سمعت آذانهم بالإخبار عن المغيّبات طاف علي ثغورهم شبح ابتسامة، ولاح في أعينهم بريق الهزء، وارتسمت معالم وجوههم بإمارات الاستنكار، ولم كل ّهذا؟! لأنّنا في هذا العصر الآليّ لا نستطيع _ إذا أردنا أن نحترم أنفسنا وعقولنا _ أن نؤمن بوجود إنسان يعلم الغيب، إنسان تنقشع من أمام عينيه حُجب القرون وتنطوي المسافات، فيقرأ المستقبل البعيد أو الخاطر المحجوب كما يقرأ في كتاب مفتوح، ويعي حوادثه كأنّها بنت الساعة التي هو فيها.

وطبيعة الثقافة المنحرفة التي يلقاها إنسان هذا العصر في كلّ مكان هي التي تدفع بهؤلاءإلي أن يقفوا هذا الموقف ويتّجهوا هذا المتّجه في إنكار كلّ دعوة تذهب إلي أنّ في الانسان شيئاً آخر وراء غدده وخلاياه. فهذه الثقافة تعتبر الانسان آلة دقيقة الصنع فقط، فلا شيء وراء الغدد والأعصاب يمكن أن يعتبر موجّهاً للنشاط الإنساني وباعثاً له.

ص: 302


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12:10 - 13.

وليس هؤلاء سوي طائفة من الناس تنظر إلي الإنسان من أحد جوانبه، وتبني أحكامها علي ما تري، غير حاسبة أن ثمّة غير هذا الجانب، وأنّ حكمها علي الانسان قبل الاحاطة به من أقطاره ضرب في الخبط العشوائيّ الذي لا يليق بمن يدّعي العلم ويستهديه فيما يفعل أو يقول، وهؤلاء أشبه بمن يحكم بأنّ لون الهرم أحمر لمجرّد أنّه رأي ضلعاً واحداً من أضلاعه بهذا اللون قبل أن يري بقية الأضلاع .

في حين أنّ العلم التجريبي نفسه يؤمن بأنّ هناك قوّة خفيّة مودعة بالانسان تصله بالمجهول المحجوب في أحشاء الزمان أو ثنايا المكان، وتلك القوة هي المعّبر عنها بالروح، فكلّما كان الانسان علي حال رفيعة من الصفاء العقليّ والطهارة الروحيّة والنقاء الوجدانيّ، كانت هذه القوي أنشط وأبلغ في النفوذ إلي المغيّب المحجوب.

وقد اكتشف الباحثون في العصور الأخيرة أنّ في الإنسان ملكات نفسيّة خارقة أهمّها ثلاث: تناقل الأفكار، رؤية الأشيآء من وراء حاجز أو عن بُعد، والتنبّؤ.

وإذا كانت هذه الظاهرة حقيقة واقعّية، و كانت القوانين العلميّة الحديثة لا تأباها، فلا حرج علينا إذن أن ندرسها عند علي أمير المؤمنين عليه السلام كما تبدو لنا في نهج البلاغة وغيره.

قد دلّت الأبحاث الحديثة علي أنّ كلّ إنسان يملك مقداراً من هذه القوة الخارقة التي تكشف له عما اضطمّت عليه أحشاء المستقبل، ولكنّ الناس إذا تساووا في نوع هذه القوّة فإنّهم يختلفون في مقدارها.

فقد ثبت أنّ هذه الحاسّة توجد عند بعض الناس بقوّة تثير الدهشة، بينما توجد في بعض آخر علي حال من الضعف والوهن لا تكاد تبين معه، فما السبب في هذا التفاوت؟

لقد تبيّن للباحثين أنّ قوّة هذه الحاسّة تتناسب تناسباً طرديّاً مع درجة الصفاء الروحيّ والنقاء الداخليّ اللذين يتمتّع بهما الشخص، فكلّما كان الانسان

ص: 303

صافي النفس نقيّ الضمير، منعتقاً من أسر التقاليد الاجتماعيّة الضارّة، منفلتاً من قيد الضرورات وما إليها، خالي النفس من العُقد والأحقاد والمطامع، كانت هذه الحاسّة فيه قويّة بالغة القوّة، وكلّما كان الانسان مشوّش النفس، موزّع الضمير، مستغرقاً في حواسّه، أسيراً لضرورات جسده وشهواته، كانت هذه الحاسّة فيه ضامرة لا تكاد تبين، فهذه الحاسّة لا تنشط إلاّ في ساعات الصفاء العقليّ والروحيّ والوجدانيّ، فعند ذلك تبلغ أقصي قوّتها.

فإذا شئنا أن نبحث عن هذه الظاهرة في حياة الإمام علي عليه السلام طالعتنا فيه علي أتّم وأكمل ما تكون، فلقد بلغ من الصفاء الروحيّ حدّاً لم يُدانِه فيه إنسان علي الإطلاق، ولم يزد عليه فيه إلاّ النبي صلي الله عليه وآله ، وتاريخ حياته عليه السلام سلسلة ذهبيّة من هذه الظواهر الرائعة الفاتنة.

وإذا صحّ أنّ تجرّداً وصفاء وقتّيين يقوم بهما إنسان عاديّ يتيحان له إطلاق قواه الخارقة، فما قولك فيمن كانت حياته كلها تجرّداً وصفاء لا يعدله في بني الإنسان صفاء؟

إنّ هذه الظاهرة التي تبدو لأعيننا في تاريخه عليه السلام لتدلّ أنّه عليه السلام كان يدخل في وسعه أن يُطلق قواه الخارقة متي أراد، وأن يعي ما غاب عنه في أحشاء الزمان وطوايا المكان متي شآء.

ويصدّق قولنا هذا ما أثبته المؤرّخون وتسالموا عليه من إخباراته

بالمغيّبات، وصدق ما أخبر به ووقوعه بعده بأزمان.

لقد تحدّث الأمام عليه السلام عن علمه بالمغيّبات في مناسبات كثيرة منها قوله:«فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْ ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً ولَوْ قَد

ص: 304

فَقَدتُموني ونَزَلَت بِكُم كَرائِهُ الاُمورِ وحَوازِبُ الخُطوبِ لَأَطرَقَ كَثيرٌ مِنَ السّائِلينَ ، وفَشِلَ كَثيرٌ مِنَ المَسؤولينَ».(ابن ابي الحديد مج 2ط 1 ص 174).

وقد ذكر عليه السلام أنّه استقي علمه هذا من رسول الله صلي الله عليه وآله ، فقد أتي في كلام له بعد أن هزم أصحاب الجمل في البصرة علي ذكر بعض ما يلمّ بالبصرة من الخطوب، فذكر فتنة الزنج، وذكر التتر، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك الإمام وقال للرجل: «لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ، وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»(1) فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَ مَا سِوَي ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلي الله عليه وآله فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي. (ابن ابي الحديد مج 2 ط ا ص 361).

وقال عليه السلام:«أَيُّهَا النَّاسُ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلي الله عليه وآله وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ». (ابن ابي الحديد مج 2 ط 1 ص 193).

قلنا: لقد أخبر عليه السلام عن البصرة وما يلمّ بها من الخطوب، وذلك بعد فراغه من أصحاب الجمل بقوله: «... وَايْمُ اللَّهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّي كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَي مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ». وقد صدّقت الحوادث هذه النبوءة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنّ البصرة غرقت مرّتين مرّة في أيام القادر بالله، ومرّة في أيام القائم بأمر الله، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلاّ مسجدها الجامع بارزاً كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام، وخربت دورها وغرق كلّ ما في ضمنها وهلك كثير من أهلها، وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم. (الحديدي مج 1 ط1 ص 84).

ص: 305


1- لقمان:34.

وأخبر عليه السلام عن هلاك البصرة بالزنج، فقال مخاطباً الأحنف بن قيس بعد حرب الجمل: «يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ(أي صوت) وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَالدُّورِالْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ وَ لَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا»(الحديدي مج 2 ط 1 ص 310).

هذه النبوءة صدّقتها الحوادث، ففي سنة خمسة وخمسين ومائتين ظهر المدعوّ علي بن محمد بن عبد الرحيم، وجمع الزنوج وخرج علي المهتدي العبّاسي، واستشري أمره، وكاد يبيد البصرة ويُفني أهلها، واستمرّت الحرب بينه وبين السلطة المركزيّة خمسة عشر عاماً، إلي أن قُتل في سنة سبعين ومائتين. وقد كتب ابن أبي الحديد فصلاً كبيراً عن هذه النبوءة في المجلّد الثاني من كتابه شرح النهج ص 310 و 361.

ولا يفوتنا التنبيه علي تنبّؤه عليه السلام في النصّ الآنف بما ستكون عليه حال البصرة من الناحية العمرانيّة.

وأخبر عليه السلام عن هلاك البصرة بالتتر فقال:

«كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ وَ يَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَ يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّي يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَي الْمَقْتُولِ وَ يَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ»(الحديدي مج 2 ط ا ص 361) وهذه النبوءة تحقّقت بظهور التتار واكتساحهم للممالك حتّي وصلوا إلي العراق، فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه،فقد تكدّست الجثث في الشوارع الأزقّة، وحلّ بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الأحداث في زمن ابن أبي الحديد، فكتب عنها فصلاً كبيراً في المجلّد الثاني من كتابه «شرح النهج» ص 361.

وتنبّأ عليه السلام بما سيحلّ بالكوفة من الظالمين فقال:

ص: 306

«كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلَازِلِ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَاغِلٍ أَوْ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ».(1)

وقد صدّقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب علي الكوفة سلسلة من ولاة الجور وأعوان الظلمة، أذاقوها المصاب، وساموها العذاب، فزياد بن أبيه، وعبيد الله بن زياد، والحجّاج بن يوسف، ويوسف بن عمرو الثقفيّ، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبد الله القسري وأضرابهم، هؤلاء كلّهم أقاموا الحكم في الكوفة علي ركام من الجماجم وأنهار من الدماء.

ورمي الله كلّ واحد منهم ببلاء: فمن ذلك أنّ زياد ابن أبيه جمع الناس في المسجد ليلعن علياً، فخرج الحاجب وقال: أيّها الناس انصرفوا فإنّ الأمير مشغول عنكم وقد أصابه الفالج في هذه الساعة، وابنه عبيد الله وقد أصابه الجذام، والحجّاج بن يوسف وقد تولّدت الحيّات في بطنه حتّي مات، وعمر بن هبيرة وابنه يوسف وقد أصابهما البرص، وخالد القسريّ وقد حُيس فطوّلت مدّته حتّي مات في الحبس جوعاً.

وتنبّأ عليه السلام بتغلّب معاوية علي الخلافة، وسيطرته علي الكوفة، وأنّه سيأمر أهل الكوفة من الشيعة بسبّ الإمام والبراءة منه، فقال:

«أَمَّا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَ يَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ فَاقْتُلُوهُ وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ أَلَا وَ إِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ الْبَرَاءَةِ مِنِّي فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَ لَكُمْ نَجَاةٌ وَ أَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَي الْفِطْرَةِ وَ سَبَقْتُ إِلَي الْإِيمَانِ وَ الْهِجْرَةِ». (2)

هذه النبوءة تحقّقت بتمامها، فقد غلب معاوية بعد صلح الحسن عليه السلام وأمر الناس بسبّ الإمام عليه السلام والبراءة منه، وقتل طائفة من عظماء أصحابه لأنّهم ثبتوا علي ولائه فلم يتبرّؤا منه، كحجر بن عديّ وأصحابه، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ ونظرائه.

ص: 307


1- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 3: 197.
2- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 4: 54.

وتنبّأ عليه السلام بما سيصير إليه أمر الخوارج من بعده، فقال مخاطباً الخوارج :

«...أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً».(1)

ولمّا قُتل الخوارج قيل له : هلك القوم بأجمعهم .قال:«كَلاّ و اللّه إنَّهُم نُطَفٌ في أصْلابِ الرِّجالِ و قَراراتِ النّساءِ كُلَّما نَجَمَ مِنهُم قَرْنٌ قُطِعَ حتّي يكونَ آخِرُهُم لُصوصا سَلاّبِينَ». (2)

وقد صحّت نبوءته، فلم يمض زمن طويل حتّي نجم أمرهم مرّة أخري واستمرّت بينهم وبين السلطات المركزيّة المتعاقبة حروب طاحنة، وكانت نهايتهم أن صاروا قطّاع طرق ولصوصاً سلاّبين.

وتنبّأ بعدد من يُقتل من أصحابه، وبقدر من يبقي من الخوارج قبل أن يشتبك معهم في النهروان، فقال: «مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ _ النهر _، وَ اللَّهِ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَ لَا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ» فلم يُقتل من أصحاب الإمام إلاّ ثمانية، ولم ينجُ من الخوارج إلاّ تسعة.(الحديدي مج ا ط ا ص 424).

وتنبّأ عليه السلام بخلافة مروان بن الحكم وبما سيحلّ بالأمّة منه ومن أولاده، فقال: « أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ وَ هُوَ أَبُو الْأَكْبُشِ الْأَرْبَعَةِ وَ سَتَلْقَي الْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ».(3)

وقد تمّ كلّ ما قال: فقد كانت إمرة مروان قصيرة جدّاً، إذ لم تزد علي تسعة أشهر، وكان له من الأبناء أربعة: عبد الملك عبد العزيز، بشر، محمد، ولي عبد الملك الخلافة، ملك عبد العزيز مصر، ولي محمد الجزيرة، ولي بشر العراق، وقد حلّ بالمسلمين منهم ظلم عظيم.

وتنبّأ عليه السلام عن ظلم بني أميّة فقال:«وَ اللَّهِ لَا يَزَالُونَ حَتَّي لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ، وَ حَتَّي لَا يَبْقَي بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَ نَبَا بِهِ

ص: 308


1- شرح نهج البلاغه لابن ابي الحديد 4: 129.
2- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 5: 73.
3- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 6: 146.

سُوءُ رَعْيِهِمْ وَ حَتَّي يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ وَ بَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ وَ حَتَّي تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ».(الحديدي مج 2 ط 1 ص 186).

ولا يجهل أحد مبلغ ما نزل بالناس من ظلم بني أميّة وانتهاكهم للحرمات واستهتارهم بالفضيلة،حتّي صار خلفاوءهم مثلاً في الظلم والفسق والتهتّك.

وتنبّأ عليه السلام بولاية الحجّاج وبما سيحلّ بالعراق من بلوائه، فقال: «أَمَا وَاللهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلاَمُ ثَقِيف الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ يَأْكُلُ خَضِرتَكُمْ وَيُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ إيِهٍ أبَا وَذَحَةَ».(1)

وقال من تتمة خطبة أخري تنبّأ فيها بولاية الحجّاج بن يوسف الثقفي، ويوسف بن عمرو الثقفي: «وَسَتَلِيكُمْ مِنْ بَعْدِي وُلَاةٌ يُعَذِّبُونَكُمْ بِالسِّيَاطِ وِالْحَدِيدِ، وَسَيَأْتِيكُمْ غُلاَما ثَقِيفٍ أَخْفَشُ وَجعبوب، يَقْتُلانِ وَيَظْلِمَانِ، وَقَلِيلٌ مَا يَمْكُثَانِ».

قال ابن أبي الحديد (مج 2 ط 1 ص 133): «الأخفش ضعيف البصر خلقة، والجعبوب القصير الذميم، وهما الحجّاج بن يوسف، ويوسف بن عمرو الثقفي.

وفي كتاب عبد الملك بن مروان إلي الحجاج: قاتلك الله أخيفش العينين، أصكّ الجاعرتين.

ومن كلام الحسن البصري يذكر فيه الحجّاج: أتانا أخفش أعَيمش يمد ّبيد قصيرة البنان، ماعرق فيها عنان في سبيل الله. وكان المثل يُضرب بقصر يوسف بن عمرو، و كان يغضب إذا قيل له قصير.

ذكر ابن أبي الحديد (مج 1 ص 209) من كتابه «شرح النهج» عن الأعمش عن اسماعيل بن رجاء قال: قام أعشي باهلة _ وهو غلام يومئذ حدث _ إلي علي عليه السلام وهو يخطب ويذكر الملاحم فقال: يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة، فقال علي عليه السلام: «إنْ كنتَ آثماً فيما قلت يا غلام،

ص: 309


1- نفس المصدر 7: 277.»

فرماك الله بغلام ثقيف، ثمّ سكت، فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ قال: غلام يملك بلدتكم هذه، لا يترك لله حرمة إلاّ انتهكها، يضرب عنق هذا الغلام بسيفه، فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟ قال: عشرين إن بلغها. قالوا: فيُقتل قتلاً أم يموت موتاً؟ قال: بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه» قال إسماعيل بن رجاء: فو الله لقد رأيت بعيني أعشي باهلة وقد أحضر في جملة الأسري الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجّاج، فقرّعه ووبخّه و استنشده شعره الذي يحرّض فيه عبد الرحمن علي الحرب، ثمّ ضرب عنقه في ذلك المجلس.

***

إنّ الشريف الرضي رَحمه اللهُ لم يذكر في «نهج البلاغة كلّ ما صحّ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من إخباره بالمغيّبات، ولكنّ ابن أبي الحديد قد سدّ هذا النقص حين أفاض في ذكر ما صحّ في هذا الباب. وممّا يحسن ذِكره هنا أنّ ابن أبي الحديد لم ينقل كلّما وقع إليه من إخبار الإمام عليه السلام بالمغيّبات، بل حقّق فيما وقع إليه من ذلك، فطرح المشتبه أمره وذكر ما صحّ عنه عليه السلام.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج (مج 2 ط 1 ص 508) «... وقد وقفت له علي خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم، فوجدتُها تشتمل علي ما يجوز أن يُنسب إليه وما لا يجوز أن يُنسب إليه، ووجدت في كثير منها اختلالاً ظاهراً، وهذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة، بل من كلام وجدته متفرّقاً في كتب مختلفة».

و علّل ابن أبي الحديد هذه الظاهرة الفذّة في الامام بقوله:

«واعلم أنّه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصّة بخاصيّة تدرك بها المغيّبات، ولكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كلّ المغيبات، لأنّ القوّة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية، وكلّ قوّة في نفس حادثة فهي متناهية، فوجب أن يُحمل كلام

ص: 310

أمير المؤمنين عليه السلام لا علي أن يريد به عموم العالميّة، بل يعلم أموراً محدودة من المغيّبات ممّا اقتضت حكمة الباري سبحانه أن يؤهّله لعلمه...».

ولابن أبي الحديد هذا نصّ طويل ذكر فيه طائفة كبيرة من إخبارات الإمام بالمغيّبات، نذكره لطرافته ولما له من الصلة ببحثنا هذا علي أن نتبعه بذكر ما أهمل ابن أبي الحديد ذكره في هذا النصّ، وذكره في مناسبات أخري.

(إخبار علي عليه السلام بالمغيبات:

قال ابن أبي الحديد في المجلد الثاني ص 175 من كتابه شرح النهج:

«... وهذه الدعوي ليست منه عليه السلام إدّعاء الربوبيّة ولا ادّعاء النبوّة، ولكنّه كان يقول: إنّ رسول الله صلي الله عليه وآله أخبره بذلك، ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك علي صدق الدعوي المذكورة، كإخباره عن الضربة التي يُضرب في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين عليه السلام، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها. وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده. وإخباره عن الحجّاج وعن يوسف بن عمرو، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان. وما قدّمه إلي أصحابه من إخباره بقتل من يُقتل منهم وصلب من يُصلب. وإخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص إلي البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن عبد الله بن الزبير، وقوله فيه: «خبّ ضبّ يروم أمراً ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بَعْدُ مصلوب قريش».

وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق، وهلاكها تارة أخري بالزنج، وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، وتنصيصه علي قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده إسحاق بن ابراهيم، وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية. وكإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله: «و إنّ لآل

ص: 311

محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره الله إذا شآء، دعاؤه حقّ حتي يقوم بإذن الله فيدعو إلي دين الله». و كإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة، وقوله: «إنّه يقتل عند أحجار الزيت». وقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بياخمرا: «يُقتل بعد أن يظهر، ويُقهر بعد أن يَقهر» وقوله فيه أيضاً: «يأتيه سهم غرب تكون فيه منيّته، فيابؤساً للرامي شلّت يده ووهن عضده» و كإخباره عن قتلي (وَج) وقوله فيهم: «هم خير أهل الأرض» ، و كإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وتصريحه بذكر كتامة وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلّم. وكقوله وهو يشير إلي أبي عبد الله المهدي وهو أوّلهم: «ثمّ يظهر صاحب القيروان الغضّ البَضّ.(1) ذو النسب المحض المنتخب من سلالة ذي البداء، المسجّي بالرداءه». وكان عبد الله المهدي أبيضاً مترفاً مشرباً بحمرة رخص البدن تار الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام وهو المسجّي بالرداء، لأنّ أباه أبا عبد الله جعفر أسجاه بردائه لمّا مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته

وتزول عنهم الشبهة في أمره.

وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: «ويخرج من ديلمان بنو الصيّاد» أشار إليهم وكان أبوهم صيّاد السمك يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالي من ولده لصُلبه ملوكاً ثلاثة، ونشر ذرّيتهم حتّي ضُربت الأمثال بملكهم، وكقوله فيهم: «ثمّ يستشري أمرهم حتّي يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء» فقال له قائل: فكم مدّتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: ماءة أو تزيد قليلاً، وكقوله فيهم: «و المترف بن الأجذم يقتله ابنُ عمّه علي دجلة» وهو إشارة إلي عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أبي الحسن، وكان معزّ الدولة أقطع اليد قُطعت يده في الحرب، وكان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفاً صاحب لهو وطرب، وقتله عضد الدولة فنا خسرو ابن عمه بقصر الجصّ علي دجلة في الحرب وسلبه ملكه.

ص: 312


1- وفي بعض المصادر «النضّ».

فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معزّ الدولة خلع المستكفي ورتّب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتّب عوضه القادر، وكانت مدّة مُلكهم كما أخبر به عليه السلام.

وكإخباره عليه السلام لعبد الله بن العبّاس عن انتقال الأمر إلي أولاده، فإنّ علي بن عبد الله بن العباس لمّا ولد أخرجه أبوه عبد الله إلي علي عليه السلام، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: «خُذ إليك أبا الاملاك...».

وكم له عليه السلام من الإخبار عن الغيوب الجارية هذا المجري ممّا لو أردنا استقصاءه لكرّسنا كراريس كثيرة، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (شرح النهج مج 2، ط 1، ص 175).

مجموعة أخري من المغيبات:

ونأخذ الآن في ذكر ما أهمل بن أبي الحديد ذكره في النصّ السابق، وأتي علي ذكره في مناسبات أخري:

1_ لمّا شجرهم - أي الخوارج _ علي عليه السلام بالرماح قال: اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه طلباً شديداً حتّي وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلي، فأتي به وإذا رجل علي ثديه مثل سبلات السنّور، فكبّر علي وكبّر الناس معه.(1)

2_ قال عليه السلام لمن قال له: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر! بعد كلام: «و إنّ في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله صلي الله عليه وآله . قال ابن أبي الحديد: وكان ابنه قاتل الحسين طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي لعنه الله.(2)

3 _ وخطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين إنّي مررت بوادي القري فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفرت له. فقال

ص: 313


1- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 2: 276.
2- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 2: 286.

عليه السلام: «والله ما مات ولا يموت حتّي يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حمّاد» فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمّاد، وإنّي لك شيعة ومحبّ. فقال عليه السلام: أنت حبيب بن حماد؟ قال: نعم، فقال له ثانية: واللهِ إنّك لحبيب بن حمّاد؟ فقال: إي والله. قال: أما والله إنّك لحاملها، ولتحملنّها ولتدخلنّ بها من هذاالباب، وأشار إلي باب الفيل بمسجد الكوفة. قال ثابت _ وهو راوي الحديث _: فو الله ما مات حتّي رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد إلي الحسين بن علي عليه السلام وجعل خالد بن عرفطة علي مقدّمته، وحبيب بن حمّاد صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل. وفي المجلد 4 من شرح النهج لابن أبي الحديد ص 17 اختلاف في الرواية.

4 _ كان عليه السلام جالساً في مسجد الكوفة وبين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ أقبلت إمرأة مختمرة لا تُعرف، فوقفت فقالت لعلي عليه السلام: يا من قتل الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء. فقال علي عليه السلام: «وإنّها لهي هذه السلقلقة الجلعة المجعة، وإنّها لهي هذه الشبيهة بالرجال والنساء، التي ما رأت دماً قطّ» قال يزيد الأحمسي _ وهو راوية الحديث : فولّت هاربة منكّسة رأسها، فتبعها عمرو بن حريث، فلمّا صارت بالرحبة قال لها: والله لقد سررتُ بما كان منك اليوم إلي هذا الرجل فادخلي منزلي حتّي أهب لك و أكسوك، فلمّا دخلت منزله أمر الجواري بتفتيشها و كشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت وسألته أن لا يكشّفها وقالت: أنا والله _ كما قال _ لي ركب النساء وأنثيان كأنثيين الرجال، وما رأيت دماً قط، فتركها وأخرجها ورجع إلي مجلسه مع الامام عليه السلام فحدّث بذلك.(1)

5_ قال عليه السلام لعمرو بن الحمق الخزاعي في حديث: «ياعمرو إنّك

ص: 314


1- نفس المصدر 2: 288.

لمقتول بعدي، وإنّ رأسك لمنقول، وهو أوّل رأس نُقل في الاسلام، والويل لقاتلك، أما إنّك لا تنزل بقوم إلاّ أسلموك برمّتك إلاّ هذا الحيّ من بني عمرو بن عامر من الأزد، فإنّهم لن يسلموك ولن يخذلوك» قال شمير بن سدير الأزدي _ وهو الراوي _: فو الله ما مضت الأيام حتي تنقّل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتّي نزل في قومه من بني خزاعة، فأسلموه فقُتل وحُمل رأسه من العراق إلي معاوية بالشام، وهو أوّل رأس حُمل في الإسلام من بلد إلي بلد. (1)

قصة عمرو بن الحمق الخزاعي:

قال الخوئي في كتابه (شرح النهج): ما رواه صاحب مدينة المعاجز عن الخصيبي مسنداً عن أبي حمزة الثمالي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أرسل رسول الله صلي الله عليه وآله سريّة فقال: تصلون ساعة كذا وكذا من الليل أرضاً لا تهتدون فيها سيراً، فإذا وصلتم إليها فخُذوا ذات الشمال فإنّكم تمرّون برجل فاضل خيّر فتسترشدونه فيأبي أن يُرشدكم حتّي تأكلوا من طعامه، ويذبح لكم كبشاً فيُطعمكم، ثمّ يقوم معكم فيرشدكم علي الطريق، فاقرءوه مني السلام وأعلموه أنّي قد ظهرت في المدينة.

فمضوا فلمّا وصلوا إلي الموضع في الوقت ضلّوا، فقال قائل منهم: ألم يقل لكم رسول الله صلي الله عليه وآله و خُذوا ذات الشمال، ففعلوا فمرّوا بالرجل الذي وصفه رسول الله صلي الله عليه وآله ، فاسترشدوه الطريق، فقال: إنّي لا أرشدكم حتّي تأكلوا من طعامي، فذبح لهم كبشاً، فأكلوا من طعامه وقام معهم فأرشدهم الطريق، فقال: أظهر النبي صلوات الله عليه وآله بالمدينة؟ فقالوا: نعم، فأبلغوه سلامه، فخلّف في شأنه من خلّف ومضي إلي رسول الله

ص: 315


1- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 2: 290.

صلي الله عليه وآله وهو عمرو بن الحمق الخزاعي ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن درّاج بن عمرو بن سعد بن كعب، فلبث معه ما شاء الله.

ثمّ قال له رسول الله صلي الله عليه وآله : ارجع إلي الموضع الذي هاجرت إليّ منه، فإذا نزل أخي أمير المؤمنين الكوفة وجعلها دار هجرته فأتِه.

فانصرف عمرو بن الحمق إلي شأنه، حتّي إذا نزل أمير المؤمنين عليه السلام أتاه فأقام معه في الكوفة.فبينا أمير المؤمنين جالس وعمرو بين يديه فقال له: يا عمرو ألك دار؟ قال نعم، قال: بعها واجعلها في الأزد فإنّي غداً لو قد غبت عنكم الطُلبت فتبعك الأزد حتّي تخرج من الكوفة متوجّهاً نحو الموصل، فتمرّ برجل نصرانيّ فتقعد عنده فتستسفيه الماء فيسقيكه ويسألك عن شأنك فتخبره، وستصادفه مقعداً فادعه إلي الإسلام فإنّه يُسلم، فإذا أسلم فامرر بيدك علي ركبتيه فإنّه ينهض صحيحاً سليماً ويتبعك.

وتمرّ برجل محجوب جالس علي الجادّة فتستسقيه الماء فيسقيك ويسألك عن قصّتك وما الذي أخافك وممّن تتوقّع، فحدّثه بأن معاوية طلبك ليقتلك ويُمثّل بك الايمانك بالله وبرسوله صلي الله عليه وآله وطاعتك لي وإخلاصك في ولايتي ونصحك لله تعالي في دينك، فادعه إلي الإسلام فإنّه يُسلم، فامرر يدك علي عينيه فإنّه يرجع بصيراً بإذن الله فيتبعانك ويكونان معك، وهما اللذان يُواريان جثّتك في الارض.

ثم ّتصير إلي الدير علي نهر يدعي بالدجلة فإنّ فيه صديقاً عنده من علم المسيح عليه السلام ما تجده لك أعون الأعوان علي سرّك، وما ذاك إلاّ ليهديه الله، فإذا أحسّت بك شرطة ابن أم الحكم وهو خليفة معاوية بالجزيرة ويكون مسكنه بالموصل فاقصد إلي الصدّيق الذي في الدير في أعلي الموصل فناده فإنّه يمتنع عليك، فاذكر اسم الله الذي علّمتك إياه فإنّ الدير يتواضع لك حتّي تصير في ذروته، فإذا رآك ذلك الراهب الصديق قال لتلميذ معه: ليس هذا أوان المسيح، هذا شخص كريم، و محمد قد توفّاه الله، ووصيّه قد استشهد بالكوفة وهذا من

ص: 316

حواريه، ثمّ يأتيك ذليلاً خاشعاً فيقول لك: أيّها الشخص العظيم قد أهّلتني لما لم استحقّه، فبم تأمرني! فتقول: استر تلميذيّ هذين عندك، وتشرف علي ديرك هذا فانظر ماذا تري؟ فإذا قال لك: إنّي أري خيلاً غامرة نحونا، فخلّف تلميذيك عنده وانزل واركب فرسك واقصد نحو غار علي شاطيء الدجلة تستتر فيه، فإنّه لا بدّ من أن يسترك، وفيه فسقة من الجنّ والانس، فإذا استترت فيه عرفك فاسق من مردة الجنّ يظهر لك بصورة تنين فينهشك نهشاً يبالغ في إضعافك، فينفر فرسك، فتبدر بك الخيل فيقولون: هذا فرس عمرو ويقفون أثره.

فإذا أحسست بهم دون الغار فابرز إليهم بين دجلة والجادّة، فقف لهم في تلك البقعة فإنّ الله جعلها حفرتك، فالقهم بسيفك فاقتُل منهم ما استطعت حتّي يأتيك أمر الله، فإذا غلبوك حزّوا رأسك وشهروه علي قناة إلي معاوية، ورأسك أوّل رأس شهر في الإسلام من بلد إلي بلد.

ثم بكي أمير المؤمنين عليه السلام وقال: بنفسي ريحانة رسول الله صلي الله عليه و آله وثمرة فؤاده وقرّة عينه ابني الحسين، فإنّي رأيته يسير وذراريه بعدك يا عمرو من كربلا بغربيّ الفرات إلي يزيد بن معاوية عليهما لعنة الله.

ثمّ ينزل صاحبك المحجوب والمقعد فيواريان جسدك في موضع مصرعك، وهو من الدير والموصل علي مأة وخمسين خطوة من الدير.(1)

(دخول جويرية علي علي عليه السلام:

6 _ قال ابن أبي الحديد: دخل جويرية بن مسهر العبدي علي علي عليه السلام يوماً وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية: أيّها النائم استيقظ، فلتضربنّ علي رأسك ضربة تُخضب بها لحيتك. قال حبّة العرني _ وهو الراوي _ فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام وقال: «وأحدّثك باجويرية بأمرك، أما والذي

ص: 317


1- مدينه المعاجز 179 - 182/ح 820.

نفسي بيده لتأتينّ إلي العُتلّ الزنيم، فليقطعنّ يدك ورجلك، وليصلبنّك تحت جذع كافر» قال حبّة العرني: فوالله ما مضت الايام علي ذلك حتّي أخذ ابن زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه إلي جانب جذع ابن مكعبر، و كان جذعاً طويلاً فصلبه علي جذع قصير إلي جانبه.(1)

إخباره عليه السلام بصلب ميثم التمار:

7 _ قال الامام عليه السلام لميثم التمّار بمحضر من خلق كثير من أصحابه، وفيهم الشاكّ والمخلص: «يا ميثم إنّك تؤخذ بعدي وتُصلب، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتّي تخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثالث طُعنت بحرية تقضي عليك، فانتظر ذلك، والموضع الذي تُصلب فيه علي باب دار عمرو بن حريث، إنّك عاشر عشرة أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهّرة _ يعني الأرض _ ولأرينّك النخلة التي تُصلب علي جذعها، ثمّ أراه إيّاها بعد ذلك بيومين. وقد تحقّقت هذه النبوءة بحذافيرها كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في حديث طويل يضيق به المقام في المجلد 1، ص 210 من شرحه.

قصة رشيد الهجري:

8 _ روي إبراهيم بن العباس النهدي في سند ينتهي إلي زياد بن النضر

الحارثي أنّه قال: كنت عند زياد وقد أتي برُشيد الهجري و كان من خواصّ أصحاب علي عليه السلام، فقال له زياد: ما قال لك خليلك إنّا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذّبنّ حديثه، خلّوا سبيله، فلمّا أراد أن يخرج قال: رُدّوه، لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال لك صاحبك، إنّك لا تزال تبغي لناسوء إن بقيتَ، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه

ص: 318


1- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 2: 291.

وهو لا يتكلّم، فقال: اصلبوه خنقاً في عنقه، فقال رشيد: قد بقي لكم عندي شيء ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلمّا أخرجوا لسانه ليقطع، قال: نفّسوا عني أتكلّم كلمة واحدة، فنفّسوا عنه فقال: هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين عليه السلام، أخبرني بقطع لساني. فقطعوا لسانه وصلبوه. (ابن ابي الحديد مج 1، ط 1، ص 310).

9 _ حدّث سعد بن وهب فقال في حديث: فأتيته _ يعني علياً _ في كربلاء، فوجدته يُشير بيده ويقول: «هنا ههنا، فقال له رجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: ثقل لآل محمد ينزل ههنا، فويلٌ لهم منكم، وويلٌ لكم منهم. فقال له الرجل: ما معني هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: ويلٌ لهم منكم تقتلونهم، وويلٌ لكم منهم يُدخلكم الله بقتلهم النار» (ابن ابي الحديد مج 1، ط 1، ص 278).

10 _ قال ابن أبي الحديد في المجلد الثاني من شرح النهج، ط 1، ص 508: ومن عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم، وهو يشير إلي القرامطة: «ينتحلون لنا الحبّ والهوي، ويُضمرون لنا البُغض والقِلي، وآية ذلك قتلهم ورّاثنا وهجرهم أحداثناء وصحّ ما أخبر به لأنّ القرامطة قتلت من آل أبي طالب خلقاً كثيرة وأسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، ومرأبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي في جيشه بالغري والحائر فلم يعرج علي واحد منهما ولا دخل ولا وقف. وفي هذه الخطبة قال عليه السلام وهو يشير إلي السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة: «كأنّي بالحجر الاسود منصوباً ههنا، ويحهم إنّ فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه وأسّه، يمكث ههنا برهة ثمّ هاهنا برهة _ وأشار إلي البحرين _ ثمّ يعود إلي مأواه وأمّ مثواه» ووقع الأمر في الحجر الاسود بموجب ما أخبر به عليه السلام.

إخباره عليه السلام بمقتل الحسين عليه السلام بكربلاء:

11 _ ذكر ابن أبي الحديد (مج 1 من شرح النهج ص 278) عن أبي

ص: 319

عبيدة، عن هرثمة بن سليم قال: غزونا مع علي عليه السلام صفّين، فلمّا نزل كربلاء صلّي بنا، فلمّا سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها ثمّ قال: «واها لك يا تربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب»قال فلمّا رجع هرثمة من غزاته إلي امرأته جرداء بنت سمير _ وكانت من شيعة علي _ حدّثها فيما حدث، فقال لها: ألا أعجبك من صاحبك أبي حسن؟ قال: لمّا نزلنا كربلاء وقد أخذ حفنة من تربتها فشمّها وقال: واهاً لك أيتها التربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب. وما علمه بالغيب؟! فقالت المرأة له: دعنا منك أيّها الرجل، فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلاّ حقّاً. قال: فلمّا بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلي الحسين عليه السلام كنت في الخيل التي بعث إليه، فلمّا انتهيت إلي الحسين عليه السلام وأصحابه عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع علي والبقعة التي رفع إليه من تربتها والقول الذي قاله، فكرهت مسيري، فأقبلت علي فرسي حتّي وقفت علي الحسين فسلّمت عليه وحدّثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين عليه السلام: أمعنا أم علينا؟ فقلت: يا ابن رسول الله لا معك ولا عليك، تركت ولدي وعيالي بالكوفة وأخاف عليهم من ابن زياد. فقال الحسين عليه السلام : فولّ هرباً حتّي لا تري مقتلنا، فوالذي نفسُ حسينٍ بيده لا يري اليوم مقتلنا أحد ثمّ لا يُعيننا إلاّ دخل النار. قال: فأقبلت في الأرض اشتدّ هرباً حتّي خفي عليَّ مقتلُهم.

إلي غير ذلك ممّا لا نطيل بروايته، وقد وضح و اتّضح ممّا أوردناه من الأخبار تصديق ما ذكره عليه السلام في هذه الخطبة من علمه بالغيب وأنّه يعلم أعمال الناس وأفعالهم، ويطّلع علي ما أعلنوه وما أسرّوه، ويعرف مهلك من يهلك، ومنجي من ينجو، ويخبر من ذلك ما يتحمّل علي من يتحمّل من خواصه وبطانته وشيعته، ومن رام الوقوف علي أكثر ممّا ذكرناه هنا فليرجع إلي كتابنا (مسند الإمام علي) في باب إخباره بالملاحم.

***

ص: 320

من كلام له عليه السلام:ينهي عن التنجيم ويدعو إلي الاستعانة بالله

قال لبعض أصحابه لمّا عزم علي المسير إلي الخوارج، وقد قال له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيتُ أن لا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم.

فقال عليه السلام: «أَتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَي السَّاعَةِ الَّتي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ وَ تُخَوّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتي مَنْ سَارَ فِيها حَاقَ بِهِ الضُّرُّ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ وَ اسْتَغْنَي عَنِ الْاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي نَيْلِ الَمحْبُوبِ وَ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَ تَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَن يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبّهِ؛ لِأَنَّكَ بزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَي السَّاعَةِ الَّتي نَالَ فِيها النَّفْعَ، وَ أَمِنَ الضُّرَّ، ثم أقبل عليه السلام علي الناس فقال: أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَي بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَإِنَّها تَدْعُو إِلَي الْكَهَانَةِ وَ الْمُنَجّمُ كالْكَاهِنِ وَ الْكَاهِنُ كالسَّاحِرِ وَ السَّاحِرُ كالْكَافِرِ وَ الْكَافِرُ فِي النَّارِ سِيرُوا عَلَي اسْمِ اللَّهِ».

(شرح النهج لابن أبي الحديد مج 2، ص 71، ط الأولي).

***

قال الشارح الخوئي قدس سرّه: إن هذا الكلام قاله عليه السلام لمّا عزم علي المسير إلي حرب الخوارج، فقال له بعض أصحابه _ وهو عفيف بن قيس أخو الأشعث بن قيس الكندي الملعون رأس المنافقين ومثير الفتن في أيام خلافة أمير المؤمنين، ولا سيّما في وقعة صفّين.

وكيف كان فقال له عفيف: «يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك» الذي هو الغلبة علي أهل النهر (من طريق علم

ص: 321

النجوم) فقال له عليه السلام علي سبيل الاستفهام التقريري «أتزعم أنّك تهدي إلي الساعة التي مَن سار فيها صُرف عنه السوء» لسعود الساعة، «وتُخوِّف من الساعة التي مَن سار فيها حاق به الضرّ» وأحاط به سوء الحال بملاحظة نحوس الساعة، «فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن» أي من صدّقك بدعواك العلم بالساعتين فقد كذّب كتاب الله، لأنّ الله تعالي يقول:

«وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا»(1) «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ»(2) «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ».(3)

إلي غير ذلك ممّا أفاد انحصار العلوم الغيبية في الله سبحانه.

وقال العلاّمة المجلسي قدس سرّه: ويمكن حمل الكلام علي وجه آخر، وهو أنّ قول المنجّم بأنّ صرف السوء ونزول الضر تابع للساعة، سواء قال إنّ الأوضاع العلوية مؤثّرة تامة في السفليّات ولا يجوز تخلّف الآثار عنها، أو قال بأنّها علامات تدل علي وقوع الحوادث حتماً، فهو مخالف لما ثبت من الدين من أنّه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت، وأنّه يقبض ويبسط ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولم يفرغ من الأمر، وهو تعالي كلّ يوم في شأن. والظاهر من أحوال المنجّمين السابقين و كلماتهم جلّهم _ بل كلّهم _ أنّهم لا يقولون بالتخلّف وقوعاً أو إمكاناً، فيكون تصديقهم مخالفاً لتصديق القرآن وما عُلم من الدين والايمان من هذا الوجه.

ولو كان منهم من يقول بجواز التخلّف ووقوعه بقدرة الله واختياره، وأنّه تزول نحوسة الساعة بالتوكّل و الدعاء والتوسّل والتصدّق، وينقلب السعد نحساً

ص: 322


1- لقمان: 34.
2- النمل: 65.
3- الأنعام: 59.

والنحس سعداً، وبأنّ الحوادث لا يعلم وقوعها إلاّ إذا علم أنّ الله سبحانه لم تتعلّق حكمته بتبديل أحكامها، كان كلامه عليه السلام مخصوصاً بمن لم يكن كذلك، فالمراد بقوله «صُرف عنه السوء وحاق به الضرّ» أي حتماً هذا.(1)

ولمّا نبّه علي فساد زعم المنجم بكون تصديقه موجباً لتكذيب كلام الله سبحانه، نبّه علي فساده ثانياً بقوله: (واستغني) أي مصدّقُك و متّبعك (عن الاستعانة بالله) تعالي (في نيل المحبوب ودفع المكروه) لأنّك إذا كنت عارفاً بالساعة السعد والساعة النحس وهادياً إليهما فيهتدي بك التابعون لك والمصدّقون بك، وتراقبون سعد الساعات فينالون الخير والسعادة، ويتّقون نحسها فيسلمون من النحوسة والكراهة، فيلزم علي ذلك استغناؤهم بك عن الله، وغناهم برأيك عن اللجأ إلي الله والفزع إليه سبحانه.

وأيضاً ينبغي في قولك للعامل بأمرك أن يُوليك الحمد دون ربّه، لأنّك _ بزعمك _ أنت هديته إلي الساعة التي نال فيها النفع وأمن فيها الضّر، فكنت أنت المنعم عليه بتلك النعمة، فلابدّ أن تستحقّ الحمد والثناء بذلك، ولزم أن يكون حمده علي تلك النعمة راجعاً إليك.(2)

(ثم) إنّه عليه السلام بعد التنبيه علي فساد زعم المنجّم بالوجوه الثلاثة (أقبل علي الناس) ونهاهم عن الأخذ بالنجوم وحذّرهم عن تعلّمها، فقال: «أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم».

ص: 323


1- بحار الأنوار 55: 258 - 259.
2- ذكر الصفوري في نزهة المجالس ج 2 ص 207 ط مطبعة الأزهرية بمصر سنة 1345 ها 1937م: دخل علي مدينة فوجد فيها منجّماً يدّعي معرفة الغيب وعنده خلق كثير، فقال له علي رَضي الله عَنهُ: أنت في ضيافتي، فأعطاه رغيفاً وأخذ علي رغيفاً، وقال: كلّ واحد منا يثرد رغيفه في هذا الطعام، ثم قال له: ميّز رغيفك من رغيفي، فقال: لا أعلم، فقال: رغيف ثردنه بيدك عجزت عن معرفته،فكيف تدّعي الغيب، فقال: يا أمير المؤمنين أأنت تعرف رغيفك؟ قال: لا، ولكنّي أسأل الله إلهي أن يميزه، فارتفع رغيفه فأكل منه نحو ثلاثة آلاف رجل من أهل تلك المدينة.

النهي عن تعلم النجوم :

قال الشارح البحراني قدس سرّه: الذي يلوح من سرّنهي الحكمة النبويّة عن تعلّم النجوم أمران:

الأوّل: اشتغال متعلّمها بها، واعتماد كثير من الخلق السامعين لأحكامها فيما يرجون ويخافون عليه فيما يسنده إلي الكواكب والأوقات، والاشتغال بالفزع إليه وإلي ملاحظة الكواكب عن الفزع إلي الله والغفلة عن الرجوع إليه فيما بهم من الأحوال، وقد علمت أنّ ذلك يضادّ مطلوب الشارع، إذ كان غرضه ليس إلاّ دوام التفات الخلق إلي الله وتذكّرهم لمعبودهم بدوام حاجتهم إليه.

الثاني: أنّ الأحكام النجوميّة إخبارات عن أمور ستكون، وهي تشبه الاطّلاع علي الأمور الغيبيّة، وأكثر الخلق من العوامّ والنساء والصبيان لا يميّزون بينها وبين علم الغيب والإخبار به، فكان تعلّم تلك الأحكام والحكم بها سبباً الضلال كثير من الخلق و موهناً لاعتقاداتهم في المعجزات أو الإخبار عن الكائنات منها، وكذلك في عظمة بارئهم، وتشكّكهم في عموم الآيات الدالّة علي اختصاص علم الغيب بالله سبحانه، وكان هذان الوجهان هما المقتضيان التحريم الكهانة والسحر والعزائم ونحوها.

وكيف كان، فلمّا نهي الناس عن تعلّم النجوم بالوجهين الذين عرفت استثني عن ذلك قوله: «إلاّ ما يُهتدي به في برّ أو بحر» لعدم استلزام تلك الجهتين المذكورتين، وقد نصّت علي جواز الاهتداء بها الآيات الكريمة مضافة إلي الأخبار الكثيرة، قال تعالي: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(1) وقال تعالي: «وعلامات وبالجم هم بهتون».(2)

قال الطبرسي: لأنّ من النجوم مايكون بين يدي الإنسان، ومنها ما يكون

ص: 324


1- الأنعام: 97.
2- النحل: 16.

خلفه، ومنها ما يكون عن يمينه، ومنها ما يكون عن يساره، ويُهتدي بها في الأسفار وفي البلاد وفي القبلة وأوقات الليل، وإلي الطرق في مسالك البراري والبحار.(1) وقيل: أراد الاهتداء به في القبلة. قال ابن عباس: سألت رسول الله صلي الله عليه وآله عنه فقال: «الجدي علامة قِبلتكم، وبه تهتدون في برّكم وبحر كم».(2)

قال الشارح الخوئي قدس سرّه: وهذه الرواية موافقة لما رواه الصدوق مرسلاً قال: قال رجل للصادق عليه السلام: «أنا أكون في السفر ولا أهتدي إلي القبلة بالليل. قال: أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قلت: نعم. قال: اجعله علي يمينك، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك».(3)

وروي أيضاً محمد بن سنان عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن القبلة قال: ضع الجدي في قفاك وصلِّ.(4)

هذا ولا ينحصر جواز تعلّمها فيما ذُكر، بل ربّما يجوز التعلّم لما يترتّب عليها من الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بها في أبواب العبادات والمعاملات، بل قد يجب لوجوب الحكم المترتّب عليها، فيجب معرفتها من باب المقدّمة مثلاً لوجوب معرفة الأوقات الخمسة للصلاة، ومعرفة الحول المضروبة للزكاة وإتيان الحجّ والعمرة في الأشهر المعلومات، وضبط عدد الحولين لرضاع الحاملات، وتعيين أيام العدّة للمتوفّي عنها زوجها وللحامل وسائر المطلّقات، والعلم بما ضرب للدَّين المؤجّل من الأوقات، كما أشير إلي ذلك في غير واحدة من الآيات، قال تعالي:

«أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَيٰ غَسَقِ اللَّيْلِ»(5) وقال: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ

ص: 325


1- تفسير مجمع البيان 4: 120.
2- تفسير مجمع البيان 6: 146.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 280.
4- وسائل الشيعة 4: 306/ ح 5223.
5- الاسراء: 78.

مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ»(1) وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».(2)

وقوله عليه السلام: «فإنّها تدعو إلي الكهانة» تعليل للنهي عن النجوم.

والكِهانة بالكسر، قال في البحار: هي عمل يوجب طاعة بعض الجان له، بحيث يأتيه بالأخبار الغايبة، وهي قريبة من السحر، قيل قد كان في العرب كهنة كشقّ وسطيح وغيرهما، فمنهم من يزعم أنّ له تابعاً من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنّه يعرف الأمور بمقدّمات وأسباب يستدّل بها علي مواقعها من كلام ممّن يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصّونه باسم العرّاف، كالذي يدّعي معرفة الشيء المسروق و مكان الضالّة ونحوهما.

ودعوة معرفة النجوم إلي الكهانة إمّا لأنّه ينجرّ أمر النجم إلي الرغبة في تعلّم الكهانة والتكسّب به، أو ادّعاء ما يدّعيه الكاهن.

ثمّ إنّه شبّه المنجّم بالكاهن وقال: المنجّم كالكاهن، ووجه الشبه إمّا الاشتراك في الإخبار عن الغائبات أو في الكذب والإخبار بالظنّ والتخمين والاستناد إلي الإمارات الضعيفة والمناسبات السخيفة، أو في العدول والانحراف عن سبيل الحقّ و التمسّك في نيل المطالب ودرك المأرب بأسباب خارجة عن حدود الشريعة وصدّهم عن التوسّل إلي الله بالدعاء والصدقة وسائر أصناف الطاعة، أو في البُعد عن الرحمة والمغفرة.

وتجري بعض هذه الوجوه في التشبيهين في قوله عليه السلام: «والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر» والمشبّه في التشبيهات أقوي.

حقيقة السحر:

والسحر _ علي ما قيل _ كلام أو كتابة أو رُقية أو أقسام وعزائم ونحوها يحدث

ص: 326


1- البقرة: 189.
2- يونس: 5.

بسببها ضرر علي الغير، ومنه عقد الرجل عن زوجته، وإلقاء البغضاء بين الناس، ومنه استخدام الملائكة والجن واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبسّهم ببدن صبيّ أو امرأة و كشف الغائبات علي لسانه انتهي.(1)

والظاهر أنّه لا يختصّ بالضرر، بل ربّما يفعل لعباً أو لإبداء أمر غريب. وعن صاحب العين: السحر عمل يقرب إلي الشياطين، ومن السحر الأخذة التي تأخذ العين حتّي تظنّ أنّ الأمر كما تري وليس الأمر كما تري، فالسحر عمل خفيّ الخفاء سببه يصوّر الشيء بخلاف صورته ويقلبه من جنسه في الظاهر ولا يقلبه من جنسه في الحقيقة، ألا تري إلي قوله تعالي:

«يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَيٰ».(2)

قال الشيخ في محكيّ كلامه عن التبيان: قيل في معني السحر أربعة أقوال:

أحدها: أنّه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة يخيّل إلي المسحور أنّها حقيقة.

والثاني: أنّه أخذ بالعين علي وجه الحيلة.

والثالث: أنّه قلب الحيوان من صورة إلي صورة وإنشاء الأجسام علي وجه الاختراع، فيمكن الساحر أن يقلب الإنسان حماراً وينشئ أجساماً.

والرابع: أنّه ضرب من خدمة الجنّ. وأقرب الأقوال الأوّل، لأنّ كلّ شيء خرج عن العادة الجارية فإنّه سحر لا يجوز أن يأتي من الساحر، ومن جوّز شيئاً من هذا فقد كفر، لأنّه لا يمكن مع ذلك العلم بصحّة المعجزات الدالّة علي النبوات، لأنّه أجاز مثله علي جهة الحيلة والسحر، وفي الرياض والسحر عرّف تارة بما في الكتاب، قال تعالي:

«فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ».(3) (4)

ص: 327


1- بحار الأنوار 55: 259 - 260.
2- طه: 66.
3- البقرة: 102.
4- تفسير التبيان للطوسي 1: 374.

وفي الاحتجاج: من أكبر السحر النميمة يفرّق بها بين المتحابّين، وتجلب العداوة بين المتصافيين.(1) قيل: ومنه استخدام الجنّ، وعرف بأنّه عمل يستفاد منه حصول ملكة نفسانيّة يقتدر بها علي أفعال غريبة وأخري لوجه يدخل فيه علم الطلسمات والنيرنجات وغير ذلك، وذلك أن يقال: هو استحداث الخوارق إمّا بمجرد التأثيرات النفسانيّة وهو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيّات فقط وهو دعوة الكواكب، أو علي تمزيج القوي السماويّة بالقوي الأرضيّة، وهو الطلسمات، أو علي سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة، وهو العزائم، قيل: والكلّ حرام في شريعة الإسلام.

وظاهره إجماع المسلمين عليه، وهو الحجّة مضافاً إلي النصوص المستفيضة منها، ويدخل فيه النيرنجات علي ما ورد في الساحر أنّ دم الساحر حلال، وأن تعلّم السحر آخر العهد بالله تعالي، وحدّه القتل ونحو ذلك، وظاهرها التحريم مطلقاً، وقد استُثني منه السحر للترقّي ودفع المتنبّي، وربّما وجب كفايةً.

وروي في العيون في تفسير آية «هَارُوتَ وَمَارُوتَ»(2) أنّه كان بعد نوح قد كثرت السحرة والمموّهون، فبعث الله ملكين إلي نبيّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويردّ به كيدهم، فتلقّاه النبي من الملكين وأدّاه إلي عباد الله بأمر الله أن يقفوا به علي السحر وأن يُبطلوه، ونهاهم أن يسحروا به الناس،(3) وربما خصّت روايات الحلّ بغير السحر كالقرآن والذكر والتعويذ ونحوها جمعاً، وهو أحوط.

ثمّ إنّه عليه السلام بعد تشبيه المنجم بالكاهن، والكاهن بالساحر، والساحر بالكافر، أشار بقوله: «والكافر في النار» إلي نتيجة الجميع وهو دخول النار، إمّا علي وجه الخلود _ كما في الكافر _ أو لا كما في غيره.

ص: 328


1- الاحتجاج 2: 82.
2- البقرة: 102.
3- عيون أخبار الرضا 2: 241.

فصل ووصل

استعرض العلاّمة الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (علي والقرآن) قول الإمام عليه السلام: «الكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار».

ثمّ قال: «وكلّنا يعرف القصّة المشهورة: حين أراد السفر إلي بعض أسفاره، وقال له بعض أصحابه: إن سرتَ في هذا الوقت خشيتُ أن لا تظفر بمرادك. فأجابه الإمام: من صدّقك بهذا القول فقد كذّب القرآن».(1)

ورأي ذات يوم منجّماً فسأله مُنكراً: أتدري ما في بعض هذه الدابّة أذَكَرٌ أو أنثي؟ ! من صدّقك فقد كذّب القرآن: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ».(2)

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «المنجّم،والكاهن ملعون،والساحر ملعون».(3)

وقال علماء الإماميّة: «من صدّق منجّماً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل علي محمّد صلي الله عليه وآله».(4)

وأطالوا الكلام في هذا الباب، فشدّدوا النكير علي من سلك غير طريق الحقّ والعلم، واستعمل الغشّ والكذب والرياء والتدليس في معاملاته وأقواله وأفعاله، وعلّلوا ذلك بأنّه بدعة في الدين وإخلال في النظام وإفساد للأخلاق الإنسانيّة، وأجمعوا علي أنّ من عمل بالسحر يُقتل إن كان مسلماً، ويؤدّب إن كان كافراً، والآن يتّجه هذا السؤال: إذا كان السحر والكهانة والإخبار بالغيب

ص: 329


1- انظر: الاحتجاج 1: 357؛ بحار الأنوار 33: 362.
2- لقمان: 34.
3- الخصال للصدوق: 297 ح 67.
4- المكاسب للشيخ الأنصاري 1: 205 نقلاً عن المعتبر.

محرّماً عند علي وشيعته، فكيف أخبر عليه السلام بحوادث تقع بعد زمانه؟ فمن الجائز من الوجهة المنطقيّة أن يحدّد العلماء وقت الكسوف والخسوف استناداً إلي قياساتهم لدورات الأرض، أمّا أن يتنبّأ متنبّئ بحدوث حريق في مكان معيّن بعد عشرات السنين، أو بقيام ثورة في بلد من البلدان، أو بأنّه سيخلق من صُلب فلان حاكماً أو عالماً، أمّا هذا التنبؤ وما إليه ممّا لا تناله الخبرة العلمية فمستحيل.

ويمكننا أن نستخرج الجواب عن هذا السؤال من الإمام عليه السلام: «من أفتي بغير علمٍ لعنته الأرضُ والسماء».(1) «لا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم».(2) «ما من حركة إلاّ وتحتاج إلي علم».(3) وما إلي ذلك، ولو جُمعت أقواله في هذا الباب لجاءت في كتاب.

وما كان الإمام لينهي عن خُلقٍ ويأتي مثله. إذن لا بدّ أن يكون إخباره عمّا يقع في المستقبل تعلّماً من ذي علم، كما أشرنا إليه في بحث الملاحم وإخباره بالمغيبات حين أجاب من قال له: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟! فقال عليه السلام: «ليس هو علم غيب، وإنّما تعلّمٌ من ذي علم».(4)

وذو العلم الذي عناه الإمام وأخذ عنه هو النبيّ بالذات، فكلّ ما أخبره به ممّا لا يمكن معرفته بالنهج العلميّ فقد تعلّمه عن الرسول صلي الله عليه وآله، و تلقّاه الرسول وحياً من الله عزّوجَل «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَيٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَيٰ مِنْ رَسُولٍ»(5) والرسول بدوره يُطلع من ارتضي من وليّ حسب ما تستدعيه المصلحة.

ص: 330


1- المحاسن للبرقي 1: 205 ح 58 و 59؛ دعائم الإسلام 1: 96.
2- وسائل الشيعة 15: 169/ ح 20224، وفيه «ولا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم».
3- تحف العقول: 171؛ مستدرك الوسائل 17: 268، وفيهما «ما من حركة الاّ وأنت محتاج فيها إلي المعرفة».
4- نهج البلاغة 2: 10؛ الصراط المستقيم للبياضي 1: 167.
5- الجن: 27.

إخبار النبي صلي الله عليه وآله بالمغيبات:

وقد أخبر النبي صلي الله عليه وآله بمغيّبات كثيرة تحقّق قسم منها قبل زماننا، وقسم تحقّق في هذا الزمان، فمن القسم الأول: قوله صلي الله عليه وآله أنّ المسلمين بعده يحكمون ويفتحون كنوز كسري وقيصر،(1) وقوله لأم الفضل حين ولدت عبد الله بن العباس: «إذهبي بأبي الخلفاء»،(2) ومنها قوله لعلي عليه السلام: «ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»،(3) «وأنّه لا يموت حتّي تُخضب لحيته من هامته».(4)

إخباره صلي الله عليه وآله القيس بعدم مسه بضرر:

ومنها قوله صلي الله عليه وآله لقيس بن خرشة العبيسي وقد قال له: يا رسول الله أبايعك علي ما جاء من الله وعلي أن أقول الحقّ. قال: يا قيس عسي إن مرّ بك الدهر أن يليك ولاة لا تستطيع أن تقول معهم الحقّ، فقال قيس: لا والله لا أبايعك علي شيء إلاّ وفيتُ به، فقال له رسول الله: إذاً لا يضرّك شيء، و كان قيس يعيب زياداً وابنه عبيد الله بن زياد و من بعده، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فأرسل إليه فقال له: أنت الذي تفتري علي الله وعلي رسوله؟ فقال: لا والله ولكن إن شئت أخبرتُك بمن يفتري علي الله وعلي رسوله، قال: ومن هو؟ قال: مَن ترك العمل بكتاب الله وسنّة رسوله صلي الله عليه وآله، قال: ومن ذلك؟ قال: أنت وأبوك ومن أمرّ كما، قال: وأنت الذي تزعم أنّك لا يضرّك بشر؟ قال: نعم. قال: لتعلمنّ اليوم أنّك كاذب، آتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات. السيرة الحلبية مج3 ص 32 ط _ 2 مطبعة الأزهرية بمصر.

ص: 331


1- الكافي 8: 216/ ح 264؛ روضة الواعظين: 86.
2- تاريخ بغداد 1: 85 كنز العمّال 11: 705/ ح 33632.
3- عوالي الثالي 4: 87/ ح 106؛ بحار الأنوار 18: 132.
4- الارشاد 1: 322؛ الاحتجاج 1: 229؛ مناقب آل أبي طالب 3: 46.

إشارته إلي عائشة بأنّها صاحبة الجمل:

و تنبحها كلاب الحوأب جاء في السيرة الحلبية مج 3، ص 320 ط 2، مطبعة الأزهرية بمصر:

«ومن ذلك قوله صلي الله عليه وسلم لزوجاته: أيتّكنّ تنبحها كلاب الحوأب؟ وأيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب؟ يُقتل حولها قتلي كثير وتنجو بعد ما كادت، فكانت تلك عائشة، فإنّه لما قتل عثمان بن عفان كانت عائشة بمكّة لأنها خرجت إلي مكّة وهو محاصر، و كلّمها مروان بن الحكم في عدم الخروج وقال لها: لا تخرجي يا أماه، فجاء إليها طلحة والزبير بعد أن بايعا علياً علي كره، واستأذنا علياً _ كرم الله وجهه _ في العمرة، فأذن لهما فقدما مكّة، وخرجت بنو أمية من المدينة ولحقت بمكّة قبل المبايعة لعلي، فخرج مروان وغيره من أهل المدينة، وجاء إلي عائشة يعلي بن أمية و كان عاملاً لعثمان باليمن فلمّا بلغه حصار عثمان قدم لنصرته فسقط من علي بعيره في أثناء الطريق فكُسر فخذه وبلغه قتل عثمان، فلا زالوا بعائشة حتي وافقت علي الخروج إلي العراق في طلب دم عثمان، ودفع لها ذلك الجمل يعلي بن أمية، اشتراه بمائتي دينار، وأعان الزبير بأربعماءة ألف دينار وصار يقول: من خرج في طلب دم عثمان فعليَّ جهازه، فحمل سبعين رجلاً من قريش، وطلبت عائشة عبد الله بن عمر أن يكون معها: فقال: معاذ الله أن أدخل في الفتنة، ويقال أن طلحة والزبير دعوا عبد الله بن عمر إلي الخروج معهم فقال لهم: أما تخافون الله أيها القوم وتدعوا هذه الأباطيل عنكم، وكيف أضرب في وجه علي بن أبي طالب _ كرم الله وجهه _ بالسيف وقد عرفت فضله وسابقته ومكانته من رسول الله صلي الله عليه وآله، وإنّكما بايعتماه وسألتماه القيام بهذا الأمر ثم نكثتما بعد أن جعل الله عليكما شهيداً، وإنه ما غيرّ ولابدّل، والقاتل لعثمان أخو زعيمتكم ورئيستكم يعني عائشة وأخوها محمد بن أبي بكر، فلما كانت عائشة في أثناء الطريق سمعت

ص: 332

كلاب تنبح، فسألت عن ذلك المحل، فقيل لها: هذا الحوأب، فأرادت الرجوع لمّا تذكرت ما قال لها رسول الله، فصرخت وأناخت بعيرها وقالت: والله أنا صاحبة الحوأب، ردّوني ردّوني، فعند ذلك أحضر طلحة والزبير خمسين وشهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب وأن المخبر لها كذاب. قال الشعبي وهي أوّل شهادة زور وردت في الإسلام، وبالتالي سارت معها ونشبت الحرب حتي قُتل بسببها من المسلمين عشرة آلاف، ويقال اثنا عشر ألفاً».

ومنها قوله لأبي ذر: «كيف بك إذا أخرجوك من مكانك هذا»(1) مشيراً إلي قصّته مع عثمان ونفيه إلي الربذة.

ومنها قوله يوم بدر لعمّه العبّاس: «أين المال الذي استودعته زوجتك أم الفضل؟»(2) وكان العبّاس ادّعي أنّه لا مال عنده.ومنها قوله لابنته فاطمة عليها السلام: «إنّك أوّل أهلي لحاقاً بي »(3) فكان كما قال صلي الله عليه وآله.

ومنها قوله لعمّار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية، و آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن»(4) فقتله معاوية يوم صفين بعد أن شرب اللبن.

ومنها إخباره عن قتل ذي الثديّة رئيس الخوارج،(5) فقُتل يوم النهروان. ومنها قوله للزبير: «ستقاتل علياً وأنت ظالم له»(6) فخرج عليه يوم الجمل. ومنها ما أخبر به صلي الله عليه وآله عن بني مروان إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله بينهم دولاً، وعباده خولاً، ودينه دغلاً».(7)

ص: 333


1- الخرائج والجرائح 1: 65؛ بحار الأنوار 18: 112.
2- تاريخ اليعقوبي 2: 46.
3- بحار الأنوار 43: 37؛ تفسير ابن كثير 4: 600.
4- دعائم الإسلام 1: 392، الخصال: 275.
5- الخصال: 574؛ أبواب السبعين؛ شرح الأخبار 2: 63.
6- الاحتجاج 1: 238؛ مناقب آل أبي طالب 1: 95.
7- سليم بن قيس: 303؛ بحار الأنوار 33: 152.

ومنها أن كسري ملك الفُرس أرسل رسله ليأتوه بالنبي صلي الله عليه وآله حيّاً وميتاً، فلما وصلوا إليه أخبرهم بأن كسري قتله ولده شيرويه(1)، فجاء الحديث موافقاً.

ومنها إخباره عن وقعة الحرّة.(2)

ومنها قوله: «إنّ زيد بن صوحان أحد الصحابة سيسبق منه عضو إلي الجنّة،(3) فقُطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله..

ومنها إشاراته وتلويحاته المتكرّرة إلي ما حدث لأهل بيته من بعده.(4) وما إلي هذه ممّا لايُحصي عددها، وهي مذكورة في أبواب شتّي من كتب التفسير والحديث والتاريخ والسيرة.

ومن القسم الثاني _ أي المغيّبات التي تحقّقت في هذا العصر _ ما جاء عن النبي صلي الله عليه وآله في صحيح البخاري (الجزء التاسع صفحة 73 طبعة محمد علي صبيح) قال صلي الله عليه وآله: «يوشك أن ينحسر الفرات عن كنز من الذهب». إشارة إلي البترول.

وفي الكتاب المذكور صفحة 61: «سيتقارب الزمان وينقص العمل» إشارة إلي سرعة المواصلات والاستغناء بالآلات الفنّية عن اليد العاملة.

وفي مسند أحمد (ج12 ص 173 طبعة سنة 953) قال صلي الله عليه وآله: «تتقارب الأسواق وتتقارب الأزمان» ومن أبرز المظاهر في هذا العصر تصدير الانتاج إلي جميع الاسواق بأمد قصير.

وفي كتاب (مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيّد البرية) تأليف الشيخ أحمد الصدّيق الغماري:

روي أحمد بن حنبل في مسنده عن النبي صلي الله عليه وآله: «لا تقوم الساعة حتي

ص: 334


1- بحار الأنوار 20: 390؛ تاريخ الطبري 2: 297.
2- بحار الأنوار 18: 125، قال صلي الله عليه وآله: يُقتل بهذه الحرّة خيار أمّتي بعد أصحابي.
3- الخرائج والجرائح 1: 66/ ح116؛ بحار الأنوار 18: 112ح 81.
4- شرح الأخبار 3: 360؛ بحار الأنوار 51: 83.

تكلّم الرجل عذبة سوطه وشراك نعاله».(1) إشارة إلي الراديو الصغير وما إليه من آلات الالتقاط أو الارسال التي يحملها الانسان معه كما يحمل علبة الدخان.

وجاء في الكتاب المذكور: «يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر»(2) وفي رواية ابن أبي الحديد (مج 2، ط 1، ص 190 من شرح النهج). قال صلي الله عليه وآله: «يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقر بألسنتها».

إشارة إلي أرباب الصحف المأجورة الذين يعيشون علي الأكاذيب والشتائم. فالصحف اليوم عندنا _ ولعلي قويّ العزم علي لا أن أستشي واحدة منها _ تتهادي في الكذب، ويزعمون أنّ ذلك يستهوي القرّاء فيزداد البيع، هذه الصحافة التي يطلقون عليها لقب صحابة الجلالة، والمأخوذ من مفهومها توجيه الشعب وإصلاحه، ورعاية حقوقه وردّ مظالمة، هذه الصحافة تري أنّ الكذب والتهويل والجعجعة الفارغة تعود علي مهنتها بالنفع والتعزيز والرواج في الشعب.

الغرض وأعجب ما جاء عنه صلي الله عليه وآله قوله: «سيري الناس أموراً يتفاقم شأنها في نفوسهم يتسائلون بينهم هل كان النبي صلي الله عليه وآله ذكر ذلك». رواه أحمد بن حنبل في كتاب المسند،(3) وقد مضي علي وفاة بن حنبل 1338 عام، ولم يكتفِ النبي صلي الله عليه وآله بالإخبار عن البترول في بلاد العرب، بل أخبر أنّ الذين يستخرجونه ويصفّونه حتّي يصبح حاضراً صالحاً للاستعمال هم المستعمرون شرار الناس وأراذلهم، فقد جاء في مسند أحمد بن حنبل: «ستكون معادن يحضرها شرار الناس»(4) وفي حديث آخر: أراذل الناس.(5)

ص: 335


1- مسند أحمد 3: 84.
2- مجمع الزوائد 8: 116 وقال: رواه أحمد والبزّار.
3- مسند أحمد 5: 16.
4- مسند أحمد 5: 430.
5- مجمع الزوائد 7: 331.

وفي كتاب _ الشجرة المباركة _ للشيخ علي اليزدي حديث طويل نقله عن تفسير علي بن إبراهيم القمي من علماء القرن الثالث الهجري، جاء فيه عن النبي صلي الله عليه وآله: «التقارب الأسواق، ويظهر الربا، وتتعامل الناس بالغيبة والرشا، ويتفقّه أقوام لغير الله، ويكثر أولاد الزنا ويتغنّون بالقرآن».(1)

ولم يبق شيء من هذه إلاّ تحقّق في هذا العصر، ولكنّ الذي يبعث علي الدهشة أكثر من أيّ شيء قوله صلي الله عليه وآله: « يتعامل الناس بالغَيبة» (بفتح الغين) وهو إخبار عمّا يجري الان بين التجّار، يُبرق تاجر في الشرق لآخر في الغرب، فتتمّ الصفقة دون أن يشاهد أحدهما الآخر، ودون أن يحصل بينهم السوء والأخذ والردّ. وفي الكتاب المذكور عن الإمام عليه السلام: «ستخرج الأرض بركاتها، وتؤكل ثمرة الصيف في الشتاء وبالعكس، وتحمل الشجرة في كلّ سنة مرّتين، ويزرع الرجل الحنطة والشعير فينتج الصاع مئة... وتكون السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، و الأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة».(2)

وإذا أخبر النبي صلي الله عليه وآله أصحابه بهذه المغيّبات فأولي أن يُطلع علياً علي أمثالها ونظائرها، وأيّ إنسان أحقّ بعلم النبي صلي الله عليه وآله من علي عليه السلام وهو منه بمنزلة الرأس من الجسد كما جاء في الحديث.

إذن جميع إخباراته عليه السلام بالغيب تستند إلي الرسول وتنتهي إليه، وليس للإمام إلاّ الرواية، فمن أنكر عليه الإخبار بالغيب فإنّما يُنكر علي الرسول من حيث يريد أو لا يريد.

ومن الطريف أنّ بعض من أنكر واستكثر أن يخبر الإمام عن الرسول يؤمن ويعتقد بأنّ شقّاً وسطيحاً كانا يخبران الناس بالغيب وبظهور النبي صلي الله عليه وآله قبل زمانه.

ص: 336


1- تفسير القميّ 2: 303 - 307.
2- انظر مستدرك الوسائل 11: 377 - 378 / ح 13304.

قال الرازي في كتابه الكبير عند تفسير آية «عَالِمُ الْغَيْبِ»(1) إنّه كان في بغداد كاهنة في عهد السلطان سنجر بن ملك شاه تُخبر بالغيب فيأتي علي وفق كلامها، وأنّه رأي كباراً من المحقّقين في علم الكلام والحكمة يؤمنون بأقوالها، وإنّ (أبو البركات) بالغ في كتاب _ المعتبر _ في شرح حالها، إنّه قد تفحّص عنها ثلاثين سنة حتي تيقن أنها كانت تخبر بالمغيبات خبراً مطابقاً. وروي هذه القصة أيضاً ابن أبي الحديد في شرح النهج (مج 1، ط 1، ص 427).

إمرأة لا يُعرف لها أصل ولا حقيقة تقول الغيب فيصدّقها العلماء المحقّقون، بل حتّي الرازي المشكّك الكبير يقول: «ليس علم الغيب مختصّاً بالأولياء، بل قد يوجد في السحرة أيضاً». وبعد فأيّ غرابة أن يحدّث الإمام بالغيب عن النبي صلي الله عليه وآله عن الله سبحانه؟

رُبّ قائل يقول: بأنّ ما قدّمته من الأدلّة إنّما يقنع، أو يجب أن يقتنع به المسلم الذي يؤمن بالله ونزول الوحي علي محمد، لأنّ كلّ ما ذكرته مبنيّ علي أساس التسليم بالقرآن وأصول الاسلام، أمّا الذي لا يؤمن بالله أصلاً، أويؤمن ولا يعترف بنبوّة محمد فلا تلزمه الحجّة، وبالتالي لا يجب عليه التصديق بشيء ممّا قلت. وأجيب بأنّي لا أطلب ممّن يشكك بمغيبات الإمام أن يغيّر دينه وعقيدته كي يصدّق ما أقول، ولكنّي أخاطب عقله ووجدانه إذا كان علي شيء من التمييز والانصاف، وأوجّه إليه هذا السؤال: إذا أخبرك مُخبرٌ بوقوع حادثة ما، وصَدَق قولُه مئة بالمئة، فبماذا تفسّر هذا الصدق، مع العلم بأنّ تلك الحادثة لا تمتّ إلي التبئّوات العلميّة وخبرة الانسان بسبب؟!

بماذا تفسّر المغيّبات التي نقلناها عن الرسول صلي الله عليه وآله وعن الإمام علي عليه السلام؟ وإلي أيّ شيء نسند قول الإمام علي: «إنّ في الطالقان كنوزاً ليست من

ص: 337


1- الجن: 27.

ذهب ولا فضّة»(1) إشارة إلي بترول ايران. نقل هذا القول عن الإمام أبو الغنائم الكوفي في كتاب (الفتن) وقد مضي علي وفاته مئات السنين.

بماذا تفسّر قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام حفيد الإمام علي عليه السلام: «إنّه يأتي علي الناس زمان يري ويسمع مَن في المشرق من في المغرب، و كلّ قوم يسمعون الصوت بلغتهم، وإنّ العرب تخرج من سلطان الأجانب وتملك نفسها بنفسها، وحينئذٍ تخلع أعنّتها، وإنّه لا يبقي صنف من الناس إلاّ ويحكم الناس». ذكر ذلك المجلسي مج 13 من البحار ص 135 و 163 و 168. والشيخ الطوسي في كتابه (الغيبة)، والمفيد في الارشاد، وقد مضي علي وفاتيهما ما يقرب من ألف سنة.

نطق الإمام بهذه الحقائق منذ ألف سنة ومئتي سنة. ودُوّنت في الكتب منذ ألف سنة وأكثر، وقد تحقّقت بكاملها، ونحن الآن نراها ونعيش معها، فتسمع أهل الغرب يخاطبون أهل الشرق بواسطة الراديو، ويوجّهون الإذاعات إلي كلّ قوم بلغتهم، وعمّا قريب نشاهد الأوروبيين والأمريكيين بالتلفزيون، بعد أن وضع العلماء التصميم لأن يكون البعيد فيه كالقريب تماماً كالراديو، وسادت الديمقراطيّة في أكثر الشعوب، وأجهزت علي أرستقراطية الأنساب والأموال، و حكم الناس كلّ فئة من الناس من نكروما إلي كاسترو إلي كلّ جنس ولون، وما أوشك أن يسير العرب في طريق الاستقلال حتّي خلعوا اللجام وشتم بعضهم بعضاً، فكأن مصيبة الاستعمار كانست تجمع كلمتهم، فلمّا استقلّوا أو كادوا ألقي كلّ عربي بأسه علي رأس أخيه.

هذه صورة طبق الأصل عبّر بها الإمام عليه السلام عمّا سيقع قبل عشرات الأجيال، ومحال أن يعلم بحدوثها قبل الأوان إلاّ علام الغيوب ومَن ارتضي من عباده الصالحين.

***

ص: 338


1- عقد الدرر: 122، ب5.

من كلام له عليه السلام علي منبرالكوفة:

يدعو الناس للإستفادة من علمه

«سَلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي بطرق السماء أدري منّي بطرق الأرض. سَلوني هذا سقط العِلم و(أشار إلي صدره) وهذا لعاب رسول الله صلي الله عليه وآله.(1) إنّي انطوت علي مكنون علمٍ لو بُحتُ به لاضطرتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة».(2)

***

يستكثر بعض الناس علي الإمام علي عليه السلام أن يقول ذلك لما فيه من الأنانيّة والدعوي، وأنّ إنساناً علي هذه الأرض الجامعة بين الخير والشرّ في بنيها منذ جبلّتها لا يقدم علي ما يشعر بعصمته وكماله.

ولكنّهم إذا رجعوا إلي قول محمد معلّم علي هذا حيث يقول: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».(3) وإذا رجعوا إلي قول هذا المعلّم: «من زهد في الدنيا علّمه الله بغير تعلّم»(4) ثمّ إذا وقفوا علي قول الإمام علي: «إنّ في السماء مدناً كمدنكم هذه تربط بينها أعمدة من نور». في تفسير علي بن إبراهيم القمي من علماء القرن الثالث الهجري (مج 2، ص 219 من الطبعة النجفية)، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ هذه النجوم التي في السماء مدائن

ص: 339


1- الأمالي للصدوق: 422/ ح 560؛ الاختصاص للمفيد: 235.
2- بحار الأنوار 74: 332، من خطبة له عليه السلام أوّلها «أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة»؛ ولم أعثر علي الخطبة التي أشار إليها المؤلّف قدس سرّه كاملة مجموعة في المصادر التي بين يديّ.
3- عيون أخبار الرضا 1: 71/ ح 298؛ أمالي الصدوق: 425؛ ذخائر العقبي لمحبّ الدين الطبري: 77.
4- انظر تحف العقول: 60: بحار الأنوار 74: 163.

مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ مدينة بعمود من نور، طول ذلك العمود مسيرة مائتين وخمسين سنة».

أقول: لو رجع هذا المنكر إلي تلك الأقوال لأراح نفسه من عناء التفكير في إنكار هذا القول علي الإمام، واستحالة صدوره من إنسان يبحث في السماء وهو علي الأرض.

فهل حفظ التاريخ لنا أنّ سائلاً أفحم علياً بعد أن قال: «سلوني قبل أن تفقدوني» وعلي العكس يحفظ لنا التاريخ أنّ كثيراً من السائلين المتعنّتين كانوا يتحدّونه وهو علي المنبر بأسئلة في العلوم والفنون التي لا تمتّ إلي الوعظ والارشاد وأحكام الدين بصلة، وكان علي يجمعهم بما يُذهلهم فيما وعوا، ويُخزيهم فيما أسّروا، ومن شاء الكشف عن ذلك فليرجع إلي شرح العلامة ابن أبي الحديد لنهج الإمام [الذي ألقاه] منذ ألف عام.

ولقد تري اليوم في الصحف أبواباً خاصة في العلوم والفنون، ونري فيها باباً للسؤال والجواب يختصّ به رجل كإحسان عبد القدّوس في (روز البوسف)، و كأمينة السعيد في مجلّة الهلال، ونري عنوان هذا الباب _ اسألوني _، فهل كان إحسان هذا وهو _ صاحب البدائع _... وأمينة هذه وهي _ أم المؤمنين _ هل كانا أحقّ بكلمة (اسألوني) من علي بن أبي طالب عليه السلام وهو وزير محمد وعضده ووصيّه من بعده؟

ويُمعن بعض العلماء في تأويل كلمة الإمام هذه علي الشكل الذي يحفظ تواضعه كإنسان، وأنّ أيّ انسان يجرأ علي الدعوي بأنّه بما في السماء أعلم منه بما في الأرض.

يقول هذا البعض: إنّ الإمام مع افتراض سموّه وعلوّ كعبه في العلوم لم يخرج عن كونه إنساناً، وإلاّ كنّا مُغالين في تقديره، والنبي صلي الله عليه وآله كان قد تنبّأ لذلك بقوله: «يا علي يهلك فيك إثنان: عدوّ قالٍ، ومحبّ غال»(1) وحمل الإمام

ص: 340


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديدة 5: 4.

علي الحقيقة في قوله: «إنّي بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» يدعونا لأن نكون مغالين في تحديد شخصه.

أقول: يمعن هؤلاء بتأويل قول الإمام في أنّه إنّما أطلق العام وأراد به الخاص _ وهو من مجاز اللغة في علم البيان _ فقد أراد بطرق السماء الخطط التي يضعها الله في السماء لهدي عباده في الأرض. وهذه الخطط هي النواميس الدينيّة التي يتنزّل بها الروح الأمين علي الأنبياء والرسل المصطفين لتبليغ الرسالة الإلهيّة في الخلق. ويريد الإمام وفقاً لذلك بقوله: «سلوني قبل أن تفقدوني» أن يكون السؤال في حدود هذه الخطط لا أنّها في شيء العلوم والفنون.

ذلك ما أراده هؤلاء المتأوّلون. وأراني جريئاً علي أن لا أحسب حساباً لهذا التأويل، وإنّما يصحّ التمحّل في ذلك حرصاً علي تنزيه الرجل الناقص من أمثالنا.

فأمّا الرجل الكامل من أمثال علي عليه السلام فلا يصحّ أن نتأوّل عليه ولا له، لأنّه ثبت عن طريق النقل كونه معصوماً بقول معلّمه محمد صلي الله عليه وآله: «عليّ مع الحقّ»(1) وعن طريق العقل من أنّ الرجل الكامل لا يتهافت في تفكير ولا عمل، وأنّ في وجود الإنسان حقّاً يهيمن عليه فيعصمه من هذا التهافت. فضلاً عن أنّ علياً عليه السلام كان أزهد الناس بدنياه، والرسول يقول: «من زهد في الدنيا علّمه الله بلا تعلّم».(2)

ومن هنا نسمع له إخباره بالمغيّبات كقوله لكميل بن زياد: «لو شئتُ أن أصيّر لكم من الماء نوراً لفعلت».

يقول الإمام هذا القول في وقت لم تعرف الكهربائيّة و كيفية استخدام الشلاّلات في تحريك الدينامو وإيجاد التيّار الكهربائي.

وقوله عليه السلام: «والذي بعث محمّداً بالحقّ، لولا خوفي من أن تكفروا بي فيه لأمليت عليكم علم ما كان وما يجيء، فو الله ما فارقته حتي مرّ علي سمعي بكلّ شيء».

ص: 341


1- الخصال للصدوق: 496؛ أمالي الصدوق: 150/ ح146.
2- الجامع الصغير للسيوطي 2: 606/ ح 8725.

تلك هي آثار محمد وأهل بيته مائلة أمامنا في أقوالهم وأعمالهم تبعث فينا أقوي الايمان بأنّ علمهم قائم علي الحكمة الملهمة، لأنّه وحي يتنزّل به الروح الأمين علي نبيّه من لدن حكيم خبير.

وللإمام علي عليه السلام شخصيّتان عبقريّتان: إحداهما إنسانيّة ترابيّة تضعف حتّي يستسلم لأوهن الأحداث، كانصياعه للتحكيم بالكره عنه يوم صفّين، وكانقياده موثوقاً يوم تهديد عمر داره بالإحراق، وثانيهما جبروتيّة سماويّة تقوي حتّي لا يصمد أمامها جبروت، كجندلته عمرو بن عبدود يوم الأحزاب، ودكّه حصن خيبر، ثمّ اقتلاع باب الحصن وهو ما لا تطيقه قوّة إنسان.

فشخصيّته الأولي هي الصلة بينه وبين البشر، وشخصيّته الثانية هي الصلة بينه وبين الملكوت الأعلي.

وللتدليل علي هاتين الشخصيّتين و أنّهما رُكّبنا فيه، قوله لسائل سأله حين رآه يعجز عن كسر قرص يابس من الشعير بيديه، فاستعان علي كسره بركبته، قال له السائل: كيف تضعف عن كسر القرص وأنت داحي باب خيبر؟ فقال له الإمام عليه السلام: «ثكلتك أمّك تلك قوّة الله، وأمّا هذه فهي قوّتي. (ابن أبي الحديد مج 1، ط 1، ص 426).

وبالتالي يقول الإمام عليه السلام: «إنّ في السماء مُدناً كمدنكم هذه تربط بينها أعمدة من نور».

الحياة في كوكب المريخ:

يقول العلماء الفلكيّون في العصر الحاضر تأييداً لقول الإمام عليه السلام: «إنّه من الممكن أن يكون المرّيخ مسكوناً بمخلوقات وُهبت العقل والذكاء». وقد أيّدت هذه النظرية بعض الوقايع التي لوحظت خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وأهم هذه الأدلّة هو بلا شكّ الانفجار الغامض الذي حدث في المريخ عام

ص: 342

1949م، وقد لاحظ هذه الظاهرة فلكيّ ياباني مشهور اسمه (تسوينو ساهيكي) الذي لم ينقطع عن مراقبة المريخ من 1933. ولذلك فإنّ لتقريره وزناً كبيراً، وقد أحدث الانفجار الذي حدث تحديداً في 9 ديسمبر 1949م ضوءاً ساطعاً خلال عدّة دقائق، تكوّنت علي أثره سحابة مضيئة رماديّة تميل إلي الاصفرار بلغ ارتفاعها 64 كيلومتراً، وقطرها 112 كيلومتراً.

ويري العالم المذكور أنّ هذا الانفجار قد حدث بواسطة مخلوقات علي درجة هائلة من الذكاء، فأمّا أنّ سكّان المريخ هم الذين أحدثوه، وأمّا أنّ جنساً آخر جاء من كوكب آخر أمكنه أن يضع قدمه في المريخ.

وقد وردت الأنباء بأنّ الدكتور (ا. س. سليفر) العالم الفلكي الذي كان قائداً للبعثة التي أرسلتها الجمعية الجغرافيّة الأهلية بالولايات المتحدة في عام 1954م لتصوير المريخ من جنوب إفريقيا، أعلن أنّه لم يبق هناك شكّ في أنّ المناطق المعتمة فوق سطح المريخ هي نبات حيّ. ويؤخذ من بيان الجمعية الأهلية أنّ العلامة الجديدة المعتمة _ والتي تشغل مساحة قدرها 200 الف ميل مربّع _ لم تكن منتظرة وأنّها ليست ثابتة، ممّا يدلّ علي أنّ الفاصل بين الصحراء والمناطق المعتمة متغيّر. كما أعلنت أنّ هذا الكشف يؤيّد الاعتقاد أنّ المريخ كوكب غير ميّت، وأنّ الظلمة المخيّمة علي بعض أجزائه مرجعها نموّ حياة آتية فيه، وأنّ واقع الدراسة أثبت أنّ معالم المريخ تشهد بأنّه كوكب حيّ فيه نوع ما من الحياة.

يقول العلماء الذين تابعوا دراسة المريخ: إنّ ما به من ماء يبلغ نحواً من خمس اليابس، وإنّ قُطبيه مغطّيان بطبقة من الثلج والجليد. وقد ظهرت علي وجه المريخ خطوط مستوية منتظمة، عُرف أنّها قنوات رئيسيّة لتوزيع المياه، عندما شوهد تغيّر أماكنها سنة بعد أخري.

وقد أعلن أنّه قد أنشيء في المريخ أخيراً جسر طويل طوله مئات الكيلو مترات، كما لوحظ تغيير لون مساحات شاسعة فيه من اللون الأخضر إلي

ص: 343

الأبيض إلي البنّي القاتم، وفي 5 مارس 1957 أعلنت الهيئات العلمية السوفيتية أنّه قد تحقّق وجود نباتات بالمريخ. وما دام الماء والنبات وُجدا فإنّ ذلك دليل علي وجود الكائن الحيّ كائناً من كان. وإذا كان المريخ به أحياء، أليس ذلك دليلاً علي وجود الأحياء في الكواكب التي في محيطه، إذ تُشابهه في كافّة الظروف المكيفة للحياة؟

أصدقاء عالم الفضاء:

وممّا أذيع في 15 يناير 1957م أنّه قد تكونت جمعية في مدريد تضمّ مائة عضو، تطلق علي نفسها اسم جمعية (أصدقاء الزائرين في عالم الفضاء) وذلك لدراسة الظواهر غير العاديّة التي تؤكد بأنّ الأرض يزورها رجال من الفضاء، أو علي الأقل من كواكب أخري.

ويجتمع هؤلاء الأعضاء كلّ أسبوع في مدريد، وممّا يستندون إليه من أدلّة علي زيارة الأرض لرجال من العالم المجهول ما يحتفظون به من حجر يؤكّدون أنّهم أخذوه من قائد طبق طائر تحت شجرة بحديقة جامعة مدريد في الساعة الثانية من صباح أحد أيّام شهر نوفمبر 1954. وهذا الحجر كان في البداية ورديّ اللون، ثمّ تحوّل لونه إلي الأخضرار ثمّ إلي الاصفرار. وهو ملحيّ المذاق وقابل للاحتراق، وعلي سطحه رسوم كالكتابة الهيروغليفية، وقد أرسلت قطعة من هذا الحجر إلي معلّمين جيولوجيين في أسبانيا، وإلي معهد علمي في نيويورك، ولكنّهما لم تستطيعا تحليله لافتقارهما إلي الأجهزة اللازمة التي تستطيع بها أداء هذا التحليل.

وقد صرّح الأميرال (بلمر فاهرناي) المشرف علي توجيه الطائرات والقذائف الموجّهة، والمرشّح للعمل بمكتب الملاحة الجوية في شؤؤن القذائف الموجّهة بامريكا، في حديث له في 17 يناير 1957 بأنّه شاهد أجساماً

ص: 344

طائرة مجهولة يبدو أنّها موجّهة بفعل كائنات مفكّرة تخترق طبقات الجوّ، وأنّ هذه الاجسام تطير بسرعة مذهلة لا يمكن للعقل البشريّ أن يتصوّرها.

وقد جاء في تقرير نشر في 11 مارس 1957 لأحد طيّاري شركة (بان أمريكان) أنّ جسماً غريباً اعترض طائرته وهي في منتصف الطريق بين نيويورك وسان جون، وقال الطيّار: إنّ هذا الجسم واجه الطائرة بطريقة مباشرة، وأنّه اجتاز فترة عصيبة حتّي يتعدّاه. وقد أمضي ركّاب الطائرة مدّة من الوقت في المستشفي من أثر الصدمة والانفعال اللذين تسبّبا عن مجاورة الطيّارة للجسم الغريب.

وصرّح متحدّث رسمي أنّ طائرات أخري تعرّضت لأكثر من جسم، ولم يمكن تحديد ماهيّة هذا الجسم.

أليس كلّ هذا تلميحاً _ إن لم يكن تصريحاً _ لما يقوله الامام علي عليه السلام من أربعة عشر قرناً: بأنّ في السماء مدناً كمدنكم هذه تربط بعضها ببعض أعمدة من نور.

وفي منتصف 1957 أذيع أنّ رجال البوليس الفرنسي قد وجدوا في شمال فرنسا كتلاً من مادة تشبه المادة البركانيّة السوداء، وأنّها كانت نهاية آثار واضحة في الطريق. وقال القرويّون في هذه المنطقة أنّها نتيجة مرور طبق طائر نزل إلي الأرض في الليلة السابقة وعليه أربعة أشياء متحرّكة. وأفضي (ميشيل سيكيت) إلي رجال التحقيق بأنّه كان متّجهاً إلي داره بعد منتصف الليل حين بهرت عينيه قذيفة غريبة، فاختبأ وراء أحد أعمدة أسلاك البرق، فرأي طبقاً طائراً يهبط ومحرّكاته تزمجر وأضواء غريبة تشعّ، خلفها مخلوقات صغار الأجسام غير واضحي المعالم، فصاح ميشيل واتّجه بكلّ سرعته صوب محطّة السكّة، وقرّر خفير المحطّة وزوجته أنّهم انتبهوا علي صوت صراخ ميشيل وخرجوا من المبني ليروا الطبق الطائر والمخلوقات الصغيرة... وفي لحظة خاطفة اختفي الطبق ومن فيه.

ص: 345

وهناك حوادث تعدّدت وأصبحت عشرات في كافّة البلاد، كلّها تلتقي عند وجود أشياء غامضة لم يمكن تفسيرها. ويستند الفلكيّون في قرارهم بوجود حياة وأحياء في المريخ علي أنّ ظروفه الجويّة تقارب ظروف الارض.

فكلّ مقوّمات الحياة التي نعرفها علي الأرض ومستلزماتها متوافرة في المريخ، بل في الكواكب التي تقع علي بُعد مقارب من بعد الأرض، أمّا الكواكب التي تقرب من الشمس أو تبعد عنها فقد قال الفلكيّون: إنّها كواكب ميّتة لأنّ الظروف التي يمكن العيش معها لا تتوافر فيها.

واهتمام العلماء في هذه الناحية إنّما ينصب علي الحياة التي نألفها علي وجه الأرض، فهل يمكن أن توجد حياة في ظروف تغاير ظروف الارض؟

إنّ الانسان يعلم بتجاربه علي نفسه أنّه لا بدّ للحياة من وجود الهواء، وأن تكون درجة حرارة الجو المحيط به بما يتناسب و درجة حرارته التي تبلغ 37 درجة مئويّة، فما بالنا بالسمك؟ إنّه يعيش في الماء ولو خرج إلي الهواء لمات.

وحيوانات المناطق المتجمدة لو انتقلت إلي الحرارة العالية في منطقة خطّ الاستواء لماتت. ألا يمكن أن يكون هناك _قياساً علي ذلك _ حياة بلا هواء _ مثلاً _ لأحياء يسكنون في الكواكب التي ثبت أنّ جوّها خالٍ من الهواء. وإذا كانت درجة حرارة الكائن الحي مثلاً 1000 درجة مئوية، ألاّ يمكنه بذلك أن يعيش في كواكب تقرب من الشمس، ولماذا نتخيّل أنّ الكائنات الحيّة في الكواكب ستكون ذات أنف وأذن وفم ويد وقدم. إنّ الكائن تتلائم أعضاؤه مع حاجاته المعيشيّة، فقد يكون العيش في الكواكب لا يحتاج إلي سمع... أوهواء... أو غذاء عن طريق الفم. فلا توجد الأعضاء الخاصة بهذه الحواس، أو لماذا لا يوجد الكائن أو ينقسم مثلاً... ويكون نموّ خلاياه وانقسامها عن عنصر معيّن يوجد في جوّ الكوكب. هذا إن كان الكائن الحيّ يتكاثر بانقسام خلاياه...

ص: 346

أو حتّي إن كان له خلايا... فلابدّ أن تكون الكائنات في الكواكب علي شكل يتناسب وظروف المعيشة، وبأعضاء تؤهّلها أن تحيا الحياة التي كتبها الله لها.

***

لسنا وحدنا في الكون:

جاء في ملحق جريدة الجريدة الجمهورية الأسبوعي العراقية العدد 84 الخميس 23 تشرين ثاني 1978م 22 ذو الحجّة 1398ه تحت عنوان (السنا وحدنا في الكون) ما نصّه:

نشرت الصحف في الأسبوع الماضي أنّ طبقاً طائراً قد هبط مرّتين بالقرب من المحطة «أمّ العيش» بالكويت، وترتّب علي هبوطه توقّف محطة ضخّ النفط القريبة من مكان الهبوط عن العمل طوال فترة وجوده التي استمرّت سبع دقائق، ثمّ عادت للعمل تلقائياً بمجرّد إقلاع الطبق الطائر.

وصرّح المسؤولون أنّ الجسم الطائر الغريب ليس لطائرة عموديّة، لأنّه لم يترك أيّة آثار علي الرمال ولم يصدر أيّ صوت، كما أنّ سبعة شهود عيان من المهندسين والفنيّين العاملين في شركة نفط الكويت قد شاهدوا الطبق الطائر.

طبق طائر في الكويت:

وبدأت الحادثة عندما اكتشف الفنّيّون العاملون في المركز الرئيسيّ لمحطّة ضخّ النفط في شركة نفط الكويت توقّف احدي محطّات الضخّ عن العمل علي الشاشة الالكترونيّة التي تتنّبأ بحدوث أيّ عطل في المحطة، وعلي أثر ذلك تمّ إرسال مجموعة مكوّنة من سبعة من المهندسين والفنيين من ضمنهم خبير أجنبي إلي موقع المحطة في _ أمّ العيش _ لمعرفة أسباب العطل الفنّيّ المفاجيء، و كانت دهشة المجموعة هناك كبيرة عندما فوجئوا بوجود جسم أسطواني الشكل يفوق في حجمه الطائرة العاديّة، تعلوه قبّة حمراء اللون

ص: 347

يجثم علي الأرض علي بعد 250 متراً من المحطة، وكانت دهشتهم أكبر عندما توجّهوا إلي محطّة الضخ حيث وجدوا بابها مفتوحاً وجميع أجهزتها متوقّفة عن العمل دون ظهور أيّ سبب فنّيّ لهذا التوقف، ممّا أدّي إلي سريان الخوف والتوتّر في نفوس المجموعة، وقد حاولوا الاقتراب من الجسم إلاّ أنّهم تردّدوا خوفاً منه خلال دهشتهم، وبعد سبع دقائق أخذ الجسم الغريب بالارتفاع نحو الأعلي في كلّ هدوء وصمت حيث اختفي عالياً في الفضاء.

المنطقة العربية والأطباق الطائرة:

هذه الحادثة ليست الوحيدة من نوعها، فقد شهدت المنطقة العربية بشكلّ عام ظهور كثير من الأجسام الطائرة المجهولة الهويّة _ الأطباق الطائرة _ في السنوات الأخيرة الماضية في عام 1975، ذكرت وكالة اليونايتد بريس أنّ أجساماً طائرة غريبة ظهرت فوق سوريا والاردن والمغرب، وفي 29 آب من عام 1977م مرّ طبق طائر بسماء الكويت، وفي 9 حزيران من عام 1978 ظهر جسم طائر غريب أيضاً في سماء الكويت وشوهد من قبل مواطن كويتيّ، وفي 1 نيسان 1978 ظهرت أطباق طائرة بشكل مثير في سماء طهران في إيران علي ارتفاع 45 ألف قدم وسرعة طيرانها 5 آلاف كيلومتر في الساعة، وقد قدّر حجمها عشرين مرة بقدر حجم طائرة الجمبو الضخمة حسب تقادير برج المراقبة في مطار طهران. ولا ننسي الجسمين الطائرين اللذين ظهرا في قُطرنا هذا العام، ففي 5 آذار ظهر جسم طائر في محافظة الديوانية، وجسم طائر آخر في سماء محافظة أربيل كما أوردت ذلك وكالة الأنباء العراقية نقلاً عن مراسليها هناك، وغيرها من الحوادث التي لا تُحصي في شتّي بقاع العالم، وخاصة في الأرجنتين وتشيلي والهند والولايات المتحدة وبيرو و بوليفيا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي.

ص: 348

طبق طائر فوق الأراضي السوفيتية:

من الحوادث الأخري الغريبة والمشابهة لما حدث لمحطّة ضخّ النفط في الكويت تلك التي جائت في كتاب _ مشروع الكتاب الأزرق _ ومشروع كوندان _ وهو برنامج وضعته الحكومة الأمريكيّة أواخر الستّينات كان الهدف منه تشكيل فريق من العلماء والمختصّين لدراسة ظواهر الأجسام الطائرة المجهولة الهويّة (الأطباق الطائرة) يلاحظ عدّة صفات وظواهر مشتركة ومتشابهة، والعمل علي كشف الخرافات والأساطير التي تدور حولها. ومن الحوادث الغريبة التي ذكرها الكتاب ما حدث في الاتحاد السوفيتي عام 1961، تلك الحادثة التي أذهلت الخبراء والعلماء الأمريكان وأثارت دهشة البنتاجون الأمريكيّ، ففي صيف عام 1961 وأثناء إقامة قاعدة صاروخيّة جديدة ضمن الشبكة الدفاعيّة لمدينة موسكو ظهرت فجأة أجسام طائرة مجهولة بقيت محلّقة فوق قاعدة الصواريخ. كانت عبارة عن جسم كبير يشبه السيجار، أسطوانيّ الشكل، محاط بهالة من الأضواء، وحوله أجسام أصغر منه تحلّق معه. أصابت الدهشة قائد المركز الدفاعيّ فأسرع وأعطي أوامره بإطلاق القذائف علي الأجسام الطائرة وخاصّة الجسم الكبير منها، وعندما أطلقت الصواريخ كانت تنفجر كلّها قريباً من الجسم الكبير ولا تُصيبه، وحدث نفس الشيء عندما انطلقت الدفعة الثانية من الصواريخ، أمّا الدفعة الثالثة فلم يُكتب لها الانطلاق أصلاً، ذلك أنّ جميع الأجهزة الكهربائية التي تعمل القاعدة علي أساسها قد توقّفت عن العمل فجأة وبشكل لا تفسير له، تماماً كما حدث لمحطّة ضخّ النفط في الكويت.

وقد اتّضح للسوفيت بعد فترة طويلة أنّه لا علاقة للأمريكان بهذه

الحادثة الخارقة.

صفات مشتركة للأطباق الطائرة:

إنّ أيّ باحث أو متتبع لموضوع الأطباق الطائرة يلاحظ جملة من الصفات المشتركة فيها بينها، علي الرغم من اختلاف الزمان والمكان الذي تقع فيه الحوادث.

ص: 349

1_ إنّ الأجسام الطائرة الغريبة (الأطباق الطائرة) تظهر فجأة دون أن تكشفها أجهزة الرصد الأرضيّ والجويّ المتقنة _ وخاصة الرادار _ والتي أحرز الانسان فيها تقدماً كبيراً، وهذا يدلّ علي أنّ الأطباق الطائرة تسير علي نظام لا يخضع إطلاقاً للقوانين الأرضيّة، ذلك أنّها تملك قوّة وقدرة ذكية ومتطوّرة _ قياساً لتقدّم الانسان في مجال الفضاء _ تستطيع بها أن تدخل أيّ مكان في العالم دون أن يكشفها الرادار، تماماً كما حدث في الكويت والاتحاد السوفيتي الذي يملك أجهزة رادار ورصد متقدّمة جداً.

2_أشكالها وحركاتها متشابهة (أسطوانيّة، دائريّة، مضيئة، مشعّة، تدور حول نفسها...).

3 _ إن حادثة توقّف محطّة ضخّ النفط فجأة في الكويت ومحطّة إطلاق الصواريخ في الاتحاد السوفيتي بمجرد ظهور الأجسام يدلّ علي أنّها تمتلك قوّة متقدّمة جداً وغير معروفة، الأمر الذي يدلّ علي أنّها تعود إلي عقل ذكيّ ومتطوّر جداً.

إنّ الأمر في الواقع يحتاج إلي نظرة جديدة حول هذا الموضوع، فالأطباق الطائرة التي تظهر للإنسان تحاول أن تؤكّد له حقيقة واحدة، هي أنّنا لسنا وحدنا في الكون.

وممّا تحقّق أخيراً في النصف الأوّل من العام الحالي وهو عام 1379 هجرية: أنّ القمر _ وقد اعتبره جميع العلماء كوكباً ميّتاً _ ثبت أنّه ليس كذلك، فقد أعلن العالم السوفيتي (نيقولا كوزيريف) أنّ هناك نشاطأ بركانياً علي سطح القمر، ثمّ بعد أن أطلقت روسيا صاروخها (مونيك) في يناير 1959 الذي تجاوز الجاذبية الأرضيّة ومرّ بالقمر واتّخذ مداره حول الشمس، أعلن أنّه أمكن إثبات وجود بترول وغاز طبيعي في القمر، وهذه المادّة تتكوّن نتيجة تحلّل كائنات حيّة دُفنت أجيالاً متعددة، إذاً لقد ثبت أنّ القمر علي الأقلّ كان به أحياء، إن لم يكن به حتّي الآن. فهل الكواكب الأخري التي يقول عنها العلماء أنّ ظروفها لا

ص: 350

تساعد علي وجود الحياة، أي الحياة بمعناها ومظاهرها التي نعرفها نحن بني الانسان، يتّضح أنّها _ كالقمر _ كان بها، أو مازال بها حياة وأحياء.

هذا وقد أصدر العالمان الروسيان (أوبارني وفسنكوف) كتاباً عنوانه (الكون) بحثا فيه موضوع الكواكب الأخري وهل فيها حياة، وذلك علي أثر الأبحاث التي قام بها علماء الفلك والكيمياء والفضاء الكوني وعلي رأسهم العالم (أميار تسوميان) و (شاني)، ويقول الكتاب إنّه بعد عدد لا يُحصي من التجارب ثبت أنّ الحياة لا تنتقل من كوكب إلي آخر. وإنّما تتولّد من جديد وبشكل جديد يتّفق مع ظروف كلّ كوكب، وأنّ نشأة الحياة لم تكن مجرّد مصادفة، وأنّ هناك كثيراً من الكواكب المسكونة في هذا الكون.

ويقول الكتاب كذلك: إنّ الوقت الذي ينطلق فيه المستكشفون من الأرض إلي أعماق الفضاء بات قريباً، وإنّنا سنري في الكواكب عوالم خفيّة فيها أشكال الحياة العجيبة تتنفّس و تتطوّر وتتّجه دائماً نحو الكمال.

إنّ الصواريخ التي ترتفع من الأرض إلي الكواكب الأخري، والأطباق الطائرة التي تهبط من الكواكب إلينا، والنهضة الخطيرة التي نهض بها علم السفر في الفضاء، والطفرة التي استحدثها التقدّم الفكريّ في العلوم في حياة الانسان. كلّ ذلك سيجعل اليوم الذي تعرف فيه الكثير عن الحياة والأحياء في الكواكب قريباً، وأقرب ممّا كان الانسان يتصوّر. وسنعرف أن الامام علياً عليه السلام سبق العلم في تقريره:

«إنّ في السماء مدناً كمدنكم هذه تربط بينها أعمدة من نور».

***

حديث علي عليه السلام مع ذعلب:

وبالتالي لمّا قال عليه السلام «سلوني»: قام إليه رجل يقال له ذعلب، جاء في كتاب «مسند الامام علي» (تأليف مؤلف هذا الكتاب حسن السيّد علي القبانجي

ص: 351

النجفي، يقع هذا المسند في عشر مجلدات، نسأل الله تعالي أن يوفّقنا لطبعه كما وفّقنا لتأليفه)(1) جاء في المجلّد الأول في باب إبطال الرؤية:

محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «بَيْنَا أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ عَلَي مِنْبَرِ الْكُوفَةِ إذْ قَامَ إلَيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذِعْلَبٌ ذَرِبُ اللِسَانِ بَلِيغٌ فِي الْخِطَابِ شُجَاعُ الْقَلْبِ فَقَالَ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ فَقَالَ وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبًّا لَمْ أَرَهُ قَالَ: يَا أَميِرَالْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ رَأَيْتَهُ قَالَ وَيْلَكَ يَا ذِعْلَبُ لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ وَ لَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَآئِقِ الإيمَانِ وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ إنَّ رَبِّي لَطِيفُ اللَطَافَةِ فَلَا يُوصَفُ بِاللُطْفِ عَظِيمُ الْعَظَمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ كَبِيرُ الْكِبْرِيَآءِ لَا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ جَلِيلُ الْجَلَالَةِ لَا يُوصَفُ بِالْغِلَظِ قَبْلَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَلَا يُقَالُ شَيْ ءٌ قَبْلَهُ وَ بَعْدَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَلَا يُقَالُ شَيْ ءٌ بَعْدَهُ شَآئِي الاشْيَآءِ لَا بِهِمَّةٍ دَرَّاكٌ لَا بِخَدِيعَةٍ هُوَ فِي الاشْيَآءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا وَ لَا بَآئِنٍ عَنْهَا ظَاهِرٌ لَا بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ مُتَجَلٍّ لَا بِاسْتِهْلَالِ رُؤْيَةٍ بَآئِنٌ لَا بِمَسَافَةٍ قَرِيبٌ لَا بِمُدَانَاةٍ لَطِيفٌ لَا بِتَجَسُّمٍ مَوْجُودٌ لَا بَعْدَ عَدَمٍ فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَارٍ مُقَدِّرٌ لَا بِحَرَكَةٍ مُرِيدٌ لَا بِهَمَامَةٍ سَمِيعٌ لَا بِآلَةٍ بَصِيرٌ لَا بِأَدَاةٍ لَا تَحْوِيهِ الامَاكِنُ وَ لَا تَصْحَبُهُ الاوْقَاتُ وَ لَا تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ وَ لَا تَأْخُذُهُ السِّنَاتُ سَبَقَ الاوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الإبْتِدَآءَ أَزَلُهُ بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِتَجْهِيرِهِ الْجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لَا جَوْهَرَ لَهُ وَ بِمُضَآدَّتِهِ بَيْنَ الاشْيَآءِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاشْيَآءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَآدَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْجَسْوَ بِالْبَلَلِ وَ الصَّرْدَ بِالْحَرُورِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا دَالَّةً بِتَفْرِيقِهَا عَلَي مُفَرِّقِهَا وَ بِتَأْلِيفِهَا عَلَي مُؤَلِّفِهَا وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزّ وَ جَلَّ «وَمِن كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(2) فَفَرَّقَ بِهَا بَيْنَ قَبْلٍ وَ بَعْدٍ لِيُعْلَمَ أَنْ لَا قَبْلَ لَهُ وَ لَا بَعْدَ شَاهِدَةً بِغَرَآئِزِهَا عَلَي أَنْ لَا غَرِيزَةَ لِمُغَرِّزِهَا مُخْبِرَةً بِتَوْقِيتِهَا أَنْ لَا وَقْتَ لِمُوَقِّتِهَا حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ

ص: 352


1- وقد طبع الكتاب بعد شهادة المؤلف في الجمهورية الإسلامية وفي بيروت، كما حصل علي أكثر من جائزة علمية وتقديريّة، وقد عني سبطه سماحة الشيخ طاهر السلامي بمراجعته وتصحيحه مشكورا.
2- الذاريات: 49.

بَعْضٍ لِيُعْلَمَ أَنْ لَا حِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ غَيْرُ خَلْقِهِ كَانَ رَبًّا إذْ لَا مَرْبُوبٌ وَ إلَهًا إذْ لَا مَأْلُوهٌ وَ عَالِمًا إذْ لَا مَعْلُومٌ وَ سَمِيعًا إذْ لَا مَسْمُوعٌ.

ثمّ أنشأ عليه السلام يقول:

ولم يزل سيّدي بالحمد معروفا *** ولم يزل سيّدي بالجود موصوفا

وكنت(1) إذ ليس نور يستضاء به *** ولا ظلام علي الآفاق معكوفا

وربّنا بخلاف الخلق كلّهمُ *** وكلّ ما كان في الأوهام موصوفا

ومن يُرده علي التشبيه ممتثاً *** يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا

وفي المعارج يلقي موج قدرته *** موجاً يعارض طرف الروح مكفوفا

فاترك أخا جدلٍ في الدين منعمقاً *** قد باشر الشكّ فيه الرأي مأووفا

واصحب أخا ثقة حبّاً لسيده *** وبالكرامات من مولاه محفوفا

أمسي دليل الهدي في الأرض منتشراً *** وفي السماء جميل الحال معروفا(2)

ثمّ قال عليه السلام: سلوني! فقام إليه رجل من أقصي المسجد متوكّئاً علي عكّازة فلم يزل يتخطّي الناس حتّي دنا منه، فقال: يا أمير المؤمنين دُلّني علي عمل إذا أنا عملتُه نجّاني الله من النار وأدخلني الجنّة. فقال له عليه السلام: «اسمع يا هذا ثمّ افهم ثمّ استيقن، قامت الدنيا بثلاثة: بعالمٍ ناطق مستعمل لعلمه، وبغنيٍّ لا يبخل بماله علي أهل دين الله عزّوجَل، وفقير صابر، فإذا كتم العالمُ عِلمه وبخل الغنيّ ولم يصبر الفقير فعندها الويل والثبور، وعندها يعرف العارفون الله أنّ الدار قد رجعت إلي بدئها (أي إلي الكفر بعد الايمان)، أيّها السائل فلا تغترّنّ بكثرة المساجد وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم شتّي، أيّها السائل إنّما الناس ثلاثة: زاهد وراغب وصابر، فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن علي شيء منها فاته، وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه، فإن أدرك منها شيئاً صرف عنها

ص: 353


1- في بعض النسخ: «وكان».
2- التوحيد: 308 - 309/ ح 2؛ ورواه الكليني في الكافي ولم يذكر الشعر. الكافي 1: 138 - 139/ ح4.

نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها، وأمّا الراغب فلا يبالي من حِلٍّ أصابها أم من حرام. قال: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: ينظر إلي ما أوجب الله عليه من حقّ فيتولاّه، وينظر إلي ما خالفه فيتبرّأ منه وإن كان حبيباً قريباً، قال: صدقتَ يا أمير المؤمنين، ثمّ غاب الرجل فلم نره، وطلبه الناس فلم يجدوه، فتبسّم علي عليه السلام علي المنبر ثمّ قال: ما لكم، هذا أخي الخضر عليه السلام».(1)

كلام الإمام علي عليه السلام مع ابن الكوا:

وفي (مسند الإمام علي عليه السلام) في باب «سلوني» عن الأصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام علي منبر الكوفة، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: «أيّها الناس سلوني، فإنّ بين جوانحي علماً جمّاً، فقام إليه ابن الكوّا فقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذرواً؟ قال: الرياح. قال: فما الحاملات وقراً؟ قال السحاب. قال: فما الجاريات يُسراً؟ قال: السفن. قال: فما المقسّمات أمراً؟ قال: الملائكة. قال: يا أمير المؤمنين وجدت كتاب الله ينقض بعضه بعضاً. قال: ثكلتك أمّك يا ابن الكوّا! كتاب الله يصدّق بعضُه بعضَه ولا ينقض بعضه بعضاً، فسَلْ عمّا بدا لك».

قال: يا أمير المؤمنين سمعتُه يقول: «رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ»(2) وقال في آية أخري: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ»(3) وقال في آية أخري: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»(4) قال: ثكلتك أمّك يا ابن الكوّا! هذا المشرق وهذا المغرب. وأمّا قوله: «ورب المشرقين ورب المغربين» فإنّ مشرق الشتاء علي حِدة ومشرق الصيف علي حدة، أما تعرف بذلك من قُرب الشمس وبُعدها؟ وأمّا قوله: «رَبِّ الْمَشَارِقِ

ص: 354


1- التوحيد للصدوق: 304 - 307/ح 1 (حديث ذعلب).
2- المعارج: 40.
3- الرحمن: 17.
4- الشعراء: 28؛ المزمل: 9.

وَالْمَغَارِبِ» فإنّ لها ثلثماءة وستّين بُرجاً، تطلع كلّ يوم من برج وتغيب في آخر فلا تعود إليه إلاّ من قابل في ذلك اليوم.

قال: يا أمير المؤمنين كم بين موضع قدمك إلي عرش ربك؟ قال: ثكلتك أمُّك يا ابن الكوّا! سَل متعلّماً ولا تسأل متعنّتاً، من موضع قدمي إلي عرش ربّي أن يقول قائل مُخلصاً: «لا إله إلا الله».

قال: يا أمير المؤمنين فما ثواب من قال: «لا إله إلا الله»؟ قال: من قال: «لا إله إلا الله» مخلصاً طُمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرقّ الأبيض، فإن قال ثانية «لا إله إلا الله» مخلصاً خرقت أبواب السماوات وصفوف الملائكة حتّي تقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة الله، فإذا قال ثالثة «لا إله إلا الله» مخلصاً تنته دون العرش، فيقول الجليل: اسكني فو عزّتي وجلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه، ثمّ تلا هذه الآية: « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»(1) يعني إذا كان عمله صالحاً ارتفع قوله وكلامه.

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قوس قزح؟ قال: ثكلتك أمّك! لا تقل (قوس قزح) فإنّ قزحاً اسم شيطان، ولكن قُل: (قوس الله )، إذا بدت يبدو الخصب و الريف.

قال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن المجرّة التي تكون في السماء؟

قال: هي شرج في السماء، وأمان لأهل الأرض من الغرق، ومنه أغرق الله قوم نوح بماء منهمر. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن المحو الذي يكون في القمر؟ قال عليه السلام: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، رجل أعمي يسأل عن مسألة عمياء، أما سمعت الله تعالي يقول: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً»؟ (2) قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب رسول

ص: 355


1- فاطر: 10.
2- الإسراء: 12.

الله صلي الله عليه وآله. قال: عن أيّ أصحاب رسول الله تسألني؟ قال: يا أمير المؤمنين عن أبي ذر الغفاري. قال عليه السلام: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء علي ذي لهجة أصدق من أبي ذر» قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن سلمان الفارسي؟ قال: بخ بخ سلمان منّا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم، عَلِم عِلم الأوّل والآخر. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن حذيفة بن اليماني. قال: ذلك امرؤٌ علم أسماءالمنافقين، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالماً. قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن عمّار بن ياسر؟ قال: ذاك امرؤٌ حرّم الله لحمه ودمه علي النار أن تمسّ شيئاً منها. قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن نفسك؟ قال كنتُ إذا سألتُ أعطيت، واذا سكتُّ ابتُديت. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول الله عزّوجَل: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا» الآية؟ قال: كفرت أهلُ الكتاب اليهود والنصاري وقد كانوا علي الحقّ، فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، ثمّ نزل عليه السلام عن المنبر وضرب بيده علي منكب ابن الكوّا، ثمّ قال: يا ابن الكوّا وما أهل النهروان منهم ببعيد. فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد غيرك ولا أسأل سواك. قال: فرأينا ابن الكوّا يوم نهروان، فقيل له: ثكلتك أمك! بالأمس تسأل أمير المؤمنين عمّا سألته وأنت اليوم تقاتله، فرأينا رجلاً حمل عليه فطعنه فقتله.(1)

***

علي عليه السلام وآخرالزمان:

قال عليه السلام: «سلوني قبل أن تفقدوني» فقام إليه صعصعة بن صوحان وميثم التمار و كميل بن زياد و عمر بن صالح، فقالوا: سيّدنا حدِّثنا بما يجري في آخر الزمان، فإنّ حديثك يُحيي قلوبنا ويزيد في إيماننا.

ص: 356


1- الاحتجاج 1: 385 - 388.

قال: نعم، سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: ستجتمع في آخر الزمان في أمّتي مائة خصلة لم تجتمع في غيرها من الأمم: يكون منهم قوم لهم وجوه جميلة وضمائر رديّة، من رآهم أعجبوه، ومن عاملهم ظلموه، الوجوه وجوه الآدميّين والقلوب قلوب الشياطين، هم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأهرش من الكلب وأروغ من الثعلب، لا يتناهون عن منكر فعلوه، إن حدّثتهم كذّبوك، وإن ائتمنتهم خانوك، وإن كان لك مال حسدوك، وإن بخلت عليهم هلبوك، سمّاعون للكذب، أكّالون للسحت، يستحلّون الزنا والخمر والمعاني والطرب، الفقير بينهم هالك، والقويّ عندهم مالك، ويطيع الرجل زوجته ويعصي والديه، ويكثر ما بينهم سفك الدماء، فتقلّ المكاسب وتختلف المذاهب، ويحكم فيهم كلّ سلطان جائر، وشُربت الخمور، ورُكبت الذكور، واكتفت الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وعلت الفروج السروج، ويتشبّهنّ بالرجال، وتحجّ الناس علي ثلاثة أقسام: الأغنياء للنُزهة، والأوساط للتجارة، والفقراء للمسألة، فيختبط الإسلام وتظهر دولة الصبيان، مساجدهم معمورة بالأذان وقلوبهم خالية من الإيمان، فإذا دخلت السوق لم تسمع إلاّ ذامّاً لربّه، هذا يقول: لم أبع شيئاً، وهذا يقول: لم أربح شيئاً؛ إلي أن قال عليه السلام: فإذا اجتمعت هذه الخصال توقّعوا ظهور القائم عجل الله تعالي فرجه الشريف.(1) وهذا الباب واسع من أراد الزيادة فليرجع إلي كتابنا الكبير (مسند الإمام علي) في باب «سلوني قبل أن تفقدوني».

***

ص: 357


1- قد وردت روايات كثيرة من هذا الحديث في تفسير القمّي 2: 307 في حديث رسول الله صلي الله عليه وآله لسلمان الفارسيّ رَضي الله عَنهُ.

ص: 358

من كلام له عليه السلام:في مدح الكوفة

«كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ، وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلَازِلِ، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَاغِلٍ وَ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ» (ابن ابي الحديد مج 1 ط 1 ص286).

***

ضبط الألفاظ اللغوية:

الأديم: الجلد المدبوغ الذي لم تتمّ دباغته، وعُكاظ _ بالضمّ _ موضع بناحية مكّة كانت العرب تجتمع فيه في كلّ سنة ويقيمون به سوقاً مدّة شهراً، ويتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون الشعر، ويُنسب إليه الأديم لكثرة البيع فيه.والعرك: الدلك والحكّ، وعركه أي حمل عليه الشر، وعركت القوم في الحرب: إذا مارستهم حتّي أتعبتهم.

***

الشرح:

إنّ هذا الكلام من جملة ما أخبر به عليه السلام من المغيّبات، فقد بيّن فيه حال الكوفة وحال أهلها وتجاذب أيدي الظالمين وتسلّطهم عليهم بالظلم والعدوان.

وفي قوله عليه السلام: «كأنّي بك يا كوفة» إشارة إلي أن المخبَر به لا محالة واقع، ووقوعه مشاهد بعين اليقين. وقوله: «تُمدين مدّ الأديم العُكاظيّ» وجه الشبه شدّة ما يقع بأهلها من الظلم والبلاء، كما أنّ الأديم العكاظيّ مُستحكم الدباغ شديد المدّ.

ص: 359

وقوله: «تُعركين بالنوازل وتركبين بالزلازل» أراد بهما الشدائد والمصائب التي نزلت بأهل الكوفة والظلم والبلايا التي حلّت بها وأوجبت اضطراب أهلها، وهي كثيرة مذكورة في كتب السير والتواريخ.

وقوله: «و إنّي لأعلم أنّه ما أراد بك جبّارٌ سوءاً» إشارة إلي تحقيق وقوع المخبر به، يعني أنّه معلوم بعلم اليقين أنّه ما أراد بك جبار سوءاً إلاّ ابتلاه الله بشاغل ورماه بقاتل.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: فأمّا ما همّ به الملوك وأرباب السلطان فيها من السوء ودفاع الله تعالي عنها فكثير. قال المنصور لجعفر بن محمد الصادق عليه السلام: إنّي قد هممتُ أن أبعث إلي الكوفة من ينقض منازلها ويجمّر نخلها ويستصفي أموالها ويقتل أهل الريبة منها، فأشِر عليَّ. فقال عليه السلام: يا أمير المؤمنين إنّ المرء ليقتدي بسلفه، ولك أسلاف ثلاثة: سليمان أعطي فشكر، وأيوب ابتُلي فصبر، ويوسف قَدَر فغفر، فاقتدِ بأيّهم شئت.

فصمت قليلاً ثمّ قال: قد غفرت.

وروي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب المنتظم: إنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب علي المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهّم أن يخرّب دورهم ويجمّر نخلهم، فجمعهم حتّي ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم علي البراءة من علي عليه السلام، وعلم أنّهم سيمتنعون فيحتجّ بذلك علي استئصالهم وإخراب بلدهم. قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري: فإنّي لمع نفر من قومي والناس يومئذ في أمر عظيم، إذ هوّمتُ تهويمة فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدر أهدل، فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرقبة بُعثت إلي صاحب هذا القصر، فاستيقظت فزعاً فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا، فأخبرتهم، وخرج علينا خارج من القصر فقال: انصرفوا فإنّ الأمير يقول لكم: إنّي عنكم اليوم مشغول، وإذا بالطاعون قد ضربه، فكان يقول: إنّي لأجد في النصف من جسدي حرّ النار، حتّي مات، فقال عبد الرحمن بن السائب:

ص: 360

ما كان منتهياً عمّا أراد بنا *** حتّي تناوله النقّاد ذو الرقبهْ

فأثبت الشقّ منه ضربة عظمت *** كما تناول ظلماً صاحب الرحبه(1)

وابنه عبيد الله وقد أصابه الجذام، والحجّاج بن يوسف وقد تولّدت الحيّات في بطنه حتّي مات، وعمر بن هبيرة وابنه يوسف وقد أصابهما البرص، وخالد القسريّ وقد حُبس وضُرب فطوّلت مدّته في الحبس حتّي مات جوعاً.

الكوفة وفضلها:

وفي قوله عليه السلام: «ما أراد بك جبّار سوءاً إلاّ ابتلاه الله» إشعار بمدح الكوفة وفضلها وأنّها المدينة المقدّسة.

ولا غرو فقد كانت قاعدة للعلم، ومركزة للسياسة الإسلاميّة، وعاصمة للخلافة الكبري، ودار هجرة المسلمين. و كفاها فخراً ما رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبي صلي الله عليه وآله «الكوفة جُمجمة العرب ورُمح الله وكنز الإيمان»(2) وقول أمير المؤمنين عليه السلام: «نعمت المدرة، إنّه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً وجوههم في صورة القمر»(3) وقوله: «مدينتنا ومحلّتنا ومقرّ شيعتنا».(4) وقال الصادق عليه السلام: «اللهمّ ارمِ مَن رماها، وعادِ من عاداها»(5) وقوله: «تربة تحبنّا ونحبّها».(6)

وعن عبد الله بن الوليد قال: دخلنا علي أبي عبد الله الصادق عليه السلام فسلّمنا عليه وجلسنا بين يديه، فسألنا: من أنتم؟ قلنا: من أهل الكوفة، فقال: أما إنّه ليس من بلد من

ص: 361


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 198 - 199.
2- فضل الكوفة للشريف العلوي: 72، وفيه: «الكوفة جمجمة الإسلام، وكنز الإيمان، وسيف الله ورمحه، يضعه الله حيث يشاء...».
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 198.
4- نفس المصدر.
5- نفس المصدر.
6- نفس المصدر.

البلدان أكثر محبّاً لنا من أهل الكوفة، ثمّ هذه العصابة خاصّ، إنّ الله هداكم لأمرٍ جهله الناس، أحببتمونا وأبغضنا الناس، وصدّقتمونا و كذّبنا الناس، واتّبعتمونا وخالفنا الناس، فجعل الله محياكم محيانا، ومماتكم مماتنا.(1) وقول سلمان الفرسي رَضي الله عَنهُ: «أهل الكوفة أهل الله، وهي قبّة الإسلام يحنّ إليها كلُّ مسلم».(2)

إذاً فلا بدع من أن تكون الكوفة مركزاً للأدب والعلم، ومدرسة للثقافة، وجامعة يأوي إليها مختلف طبقات الناس من كل فجّ عميق، ولقد ازدلفت إليها زرافات من خيار الصحابة ورجالات التابعين وروّاد العلم وحفّاظ الحديث، فكان منهم قضاة، وكان منهم نقباء، وذلك ممّا زاد في قيمتها التاريخية وأهميّتها العلميّة، كما أنّها أنجبت علماء وأدباء وشعراء هم مفاخر التاريخ الإسلامي وغرّة واضحة في جبهة الدهر.

الكوفة رائدة الأدب العربي:

كانت الكوفة _ ولا سيّما في العصر الأمويّ _ ملتقي العلماء والأدباء والشعراء، يزدحمون في المسجد الأعظم وغيره من الجوامع العامّة والنوادي والمحافل للمفاخرة والمناظرة، وكان أشراف الكوفة يخرجون إلي ضواحيها أيضاً لمثل هذا الغرض، لما كان في ضواحيها من جالية العرب وأهل البادية من القبائل التي نزحت إلي هناك بعد الإسلام، فكانت الكوفة وضواحيها يومئذ كسوق عُكاظ في الجاهليّة، تتألّف فيها من فحول شعرائها حلقات المناشدة والمفاخرة ومجالس العلم والأدب، وكان الشعر في الكوفة أكثر منه في البصرة، وقد وقف المختار بن أبي عبيدة في أثناء حروبه بالعراق علي أشعار مدفونة في القصر الأبيض بالكوفة،وذلك ممّا يدلّ علي عناية الكوفيّين بالشعر.

ص: 362


1- الكافي 8: 236 /ح 316.
2- معجم البلدان للحموي 4: 492. وروي ابن أبي شيبة في المصنّف 7: 554 /ح 12 عن سلمان قال: الكوفة قبّة الإسلام، يأتي علي الناس زمان لا يبقي فيها مؤمن إلاّ بها أو قلبه يهوي إليها.

في الكوفة احتكّ العرب بغيرهم من الأمم المتمدّنة، وفيها اشتغل المسلمون بجمع أخبار العرب وأشعارهم وأمثالهم، وفيها وُلدت الآداب اللسانيّة، فتكاثرت فيها الأندية الأدبيّة، وذلك من أهمّ البواعث علي زهو الشعر فيها، فلا غرو إذا نبغ فيها الشعراء والأدباء أمثال الكميت بن زيد الأسدي، وأبي الطيّب المتنبّي، وأبي العتاهية، ودعبل الخزاعي، وحمّاد عجرد وحمّاد الراوية وغيرهم من فطاحل الشعراء.

ومن المعتقد أنّ شعراء السياسة في الكوفة أكثر من غيرهم من سائر الطبقات، إذ قلّما نبغ شاعر لم يتعرّض لحزب من الأحزاب التي كانت مؤلّفة فيها يومئذ، لا سيّما والكوفة كانت معروفة بأنها علويّة المبدأ علي الأكثر، فكان فيها من أنصار العلويّين والهاشميّين ومن أنصار الأمويّين، وفيها من أنصار الخوارج وآل المهلّب وغيرهم.

وإنّ من يلقي نظرة في التاريخ الإسلاميّ في العهد العبّاسيّ الأوّل يري أنّ سوق المناظرة والمفاخرة كانت رائجة بين الكوفيّين والبصريّين في مسائل شتّي في الفقه والنحو والأدب واللغة وغيرها، الأمر الذي كوّن المنافرة بين الفريقين بالطبع، وانتمت إلي كلّ مذهب طائفة، حتّي قيل: (مذهب الكوفيّين ومذهب البصريّين).

وكان خلفاء الدولة العباسيّة يقدّمون الكوفيّين لأنّهم كانوا من أنصارهم لمّا قاموا لطلب الخلافة في الكوفة، فكانوا يقرّبونهم دون البصريّين، ويختارون منهم أساتذة لأولادهم: فالكسائيّ والفرّاء والمفضّل الظبّي والشرقي بن القطامي كلّهم من أهل الكوفة وقد علّموا أبناء الخلفاء.

وقد جرت مفاخرة طويلة بين أبي بكر الهذلي البصري وبين أبي العيّاش بالكوفة بمحضر أبي العباس السفاح، وكلّ يتعصّب لبلده فيصفها بكلّ ما في وُسعه من الصفات الفاضلة، فنري أبا العباس يتعصّب لأبي عيّاش الكوفي ويقول بعد انتهاء المفاخرة: «الكوفة بلاد الأدب ووجه العراق ومبزغ أهله، وهي غاية الطالب ومنزل خيار الصحابة وأهل الشرف، وإنّ البصرة لأشيه الناس بهم».

مرّت علي الكوفة أدوار متناقضة مُنيت خلالها بحروب وحوادث مدهشة،

ص: 363

فكانت الأفكار فيها تتضارب والنزعات تتخالف، فربّما أخذت الحقائق بأعضاد ذويها، وربّما ساعدت الحظوظ وثّابة النهمة والشره، وكلّما خبا ذِكر أحد الفريقَين تربّص الفريق الآخر به الدوائر حتّي تتضاءل مِرّةُ صاحبه وتلين قوّته، ولم يزل تباين الخطط بهذه العاصمة حتّي حكم عليها بالتدمير وألحقها بحديث أمس الدابر.

مسلم بن عقيل وأهل الكوفة:

نعم انتابتها سلسلة حوادث، أشهرها حادثة مسلم بن عقيل سفير الحسين عليه السلام ورسوله إلي أهل الكوفة، فقد دخلها سنة ستّين للهجرة طالباً البيعة للإمام الحسين، فبايعه أهل الكوفة بيعة واحدة، ثمّ ما أسرع أن تفرّقوا عنه عندما دخلها ابن زياد.

يروي ابن اعثم الكوفي عن ابن اسحاق صاحب المغازي وابن هشام وغيرهم: أنّ أهل الكوفة لما تفرّقوا عن مسلم بن عقيل عليه السلام وبقي وحيداً امتطي ظهر جواده وهمّ بالخروج من الكوفة، إلاّ أنّه بقي يتردّد في شوارعها لعدم اهتدائه الطريق المنهي إلي خارجها، وبينما هو يسير إذ عرض له سعيد بن أحنف فعرف مسلماً بشمائله، فاستوقفه وسأله عن سبب خروجه هذا وأنّه علي خلاف الغرض الذي جاء له، فقال له مسلم: إنّي لما يأست من الجماعة الذين بايعوني وتفرّقوا عني صمّمت علي ترك الكوفة عَلّي أري جماعة يُبايعوني ولا ينكثون، فقال له سعيد: لا يكون ذلك أبداً لأنّ القوم أخذوا عليك الطرق، وبثّوا الأرصاد والعيون والحرس من أجلك، فإذا وقعت عليك أعينهم قبضوك قبض اليد، فقال مسلم، إذن ما الرأي؟ قال: الرأي أن نذهب سويّة إلي دارٍ آمنة ومكان حصين لا يطّلع علينا أحد من القوم. فأجابه مسلم ومضيا حتّي انتهيا إلي دار محمد بن كثير.

وما أن شعر بهما محمد حتّي انكبّ علي أقدام مسلم يقبّلهما وهو يقول: ما أسعدني ومن مثلي! فقد حظوتُ بالدين والدنيا، وكانت في دار محمد مواضع خفيبة

ص: 364

واقية قلّما يهتدي أحد لمعرفة من بها، ولكنّ الحرس الكثير والعيون المتطايرة والإرصادات المبثوثة استطاعت أن تكشف هذا الخبر، وسرعان ما طيّر إلي ابن زياد وما كان أشدّ فرحه بذلك، وبالفعل أمر ابنه خالد أن يصحب معه فوجاً من العسكر وأن يطوّقوا دار محمد بن كثير، وهكذا كان، ولمّا لم يكن مع محمد من الأعوان ما يكتفي بهم لصدّ هذا العمل فقد قُبض عليه وعلي ابنه بسهولة وبُعثا إلي ابن زياد، غير أنّه خفي عليهم موضع مسلم، وكلّما فتّشوا عليه زادوا بمقامه جهلاً وضلالاً، فراجع خالد دار الأمارة بذاك وأطلعها علي الحال.

ومن الجهة الثانية فإنّ سليمان بن صرد الخزاعي والمختار بن أبي عبيدة الثقفي وورقاء بن عازب وجماعة من أشراف أهل الكوفة لمّا علموا بخبر محمد وأنه أخذ هو وابنه صمّموا علي أن يكوّنوا لهم أتباعاً وأعواناً ويهاجموا دار الامارة ويُنقذوا محمداً وابنه، وأن يخيّموا خارج الكوفة ويُعلنوا نصرة الحسين عليه السلام ويكوّنوا جيشاً قويّاً علي أعدائه. هذا ما تآمروا عليه وصمّموا علي تنفيذه صبح اليوم التالي. إلاّ أنّ من القضاء والقدر أن قدم عامر بن الطفيل مع عشرة آلاف جنديّ من عسكر أهل الشام قبل طلوع فجر تلك الليلة خاضعين لأوامر ابن زياد، فسُرّ ابن زياد بذلك سروراً عظيماً، وفي صبيحة تلك الليلة أحضر ابن زياد محمد بن كثير فسبّه وشتمه ما شاء، فقال له محمد: لستُ بالمكان الذي استحقّ من مثلك كلّ هذا الشتم، ولستَ بالمحلّ الذي تقتدر أن تشتم مثلي،فما أنت إلاّ لئيم حسبٍ خسيسُ نسبٍ ألصقت بأبي سفيان إلصاقاً، وشرّ ما أولد هذا الإلصاق من الفساد والشر والفتن بين المسلمين، فإنّما أنت نغل وابن زنا.

وبينما هما بالكلام إذ علت أصوات الرجال و كثر الهتاف والغوغاء، وإذا هم بأربعين ألف رجل أو أكثر يحاصرون دار الامارة علي أتمّ ما يكون من الاستعداد لمواجهة الطوارئ الحادثة، فلم يُبالِ ابن زياد ولم يُرعه ذلك، بل استمر مع محمد بن كثير واسترسل بجبروته وغطرسته، فأقسم لابن كثير برأس يزيد أن لا مزيد علي هذا الاعتداء، وأن يسلّم مسلم بن عقيل لا محالة وإلاّ

ص: 365

جعله طُعمة لحدّ السيوف. فقال له ابن كثير: لا، لستَ بالمقام الذي تتمكّن به من مسّ شعرة من بدني فضلاً عن إراقة قطرة من دمي.

وكان ابن زياد مغضباً في تلك الساعة، إلاّ أنّه بعيد نظر بعاقبة الأمر، فخفّف من غلوائه فجأة وألان طرفاً من لسانه حالاً مع ابن كثير، فقال له: حسناً فلتعرف هل روحك أعزّ عليك أم روح مسلم بن عقيل؟ فقال ابن كثير: أمّا روح مسلم فلها من خالقها وبارئها من يحميها وينصرها، وأمّا روحي فبينها وبين أن تُسلب ثلاثون ألفاً من السيوف المخضّبة بدماء صناديد الرجال.

وهاج بابن زياد غضبه واتّقدت عيونه، فنظر ما حوله فلم يجد إلاّ دواة ضرب بها جبهة محمد فتكسّرت أوصالاً، وسالت دماء محمد علي وجهه ولحيته فجرّد سيفه وحمل علي ابن زياد، فصرخ ابن زياد صرخة دوي لها كلّ من في دار الامارة من الجنود والغلمان، و حالت أشراف من الكوفة بين محمد وبين ابن زياد، إلاّ أنّ معقلاً الذي كان هاني بن عروة جرحه قبل هذا هجم علي محمد، فاستقبله محمد استقبال الأسد لفريسته، فضربه ضربة واحدة شطرته شطرين، فثار ابن زياد و ترك وسط المجلس وتجنّب ناحية منه، ثمّ صاح بغلمانه وحاشيته أن دونكم الرجل! فانثالوا علي محمّد وابنه بأسيافهم من كلّ جانب، وكان محمّد يقاتلهم ويُضاربهم ذات اليمين مرّة وذات الشمال أخري، وأماماً تارة و خلفاً أخري، حتّي عثرت رجله بحبل الشاذروان فسقط علي الأرض، فانكبّ عليه الحرس والغلمان انكبابة واحدة ما أمهلوه بها حتّي قضوا عليه.

وأمّا ابنه فاستمر علي قتال القوم متّجهاً نحو باب دار الامارة، وقتل في الأثناء عشرين أو أكثر، فلمّا كان قريباً من الباب طعنه أحد الغلمان من خلفه طعنه أكبّه علي وجهه، فتلاقفوه بالسيوف والرماح حتّي قُتل رَحمه اللهُ.

وكان أهل الكوفة والجند الشامي في تلك الأثناء في تضارب و تصادم وتسايف و تنابل، فضجّ الجيش الشامي من جري الكوفيين وشدّة مقاومتهم،

ص: 366

فشكوا ذلك إلي ابن زياد، فقال لهم: إنّ أهل الكوفة يشدّون حرصاً علي محمد وابنه فارموا برأسيهما إليهم، فإذا رأوهم تفتر حركتهم ويسكن هياجهم، فُرمي الرأسان للناس من أعلي القصر، فما اكترث الناس بقتلهما بل اشتدّوا و داموا يحاربون الجيش حتّي حجزهم الليل وعاد كلّ منهم إلي داره ولم يبق منهم بباب القصر أحد، وكان ابن زياد غير آمن من هياج الكوفة عليه وانتصارها لمسلم، فجدّ في أثر مسلم وبثّ الأرصاد أيضاً والعيون عليه.

ولمّا انتهي خبر هذه الوقعة إلي مسلم ترك دار محمد بن كثير وخرج، إلاّ أنّه لا يدري أين يتّجه، وجيش ابن زياد أخذ الطرق عليه، وكان عدده اثني عشر ألف وُزِّعوا في طرق الكوفة وشوارعها، وكان بين كلّ الفرق والأقسام إشارات خاصّة يجتمعون بمجرد المبادرة لها. فقصد مسلم جهة من الجهات من دون أن يعلم ما هي وإلي أين تنتهي، وبينما هو سائر اذ عرض له قسم من هذه الأقسام، فصاحوا به: من أنت وإلي أين تريد؟ فقال: إنّي رجل من فزارة أريد الرواح إلي قبيلتي. فقالوا له: ارجع لا يمكن العبور من ههنا، فترك هذا الطريق وأخذ محلّة دار البيع فعارضه خالد بن عبيد الله بن زياد في ألف رجل فلم يُفسحوا له، فترك هذا الطريق أيضاً، فرجع وأخذ طريق الكناسة فعارضه الخادم الشامي في ألفي رجل، فرجع وأخذ طريق السوق، إلاّ أن رجلاً يقال له «الحراث» التفت إلي رجوع مسلم بسرعة من طريق الكناسة وأخذه طريق السوق فقطع أنّه هو مسلم بعينه، فمضي مسرعاً إلي دار الامارة _ وكان الليل قد أوشك أن يصبح _ وقال لنعمان الحاجب: إنّ مسلماً قصد السوق الفلاني راكباً فرسه متوجّهاً إلي باب البصرة، فركب نعمان من وقته ومعه خمسون فارساً وقصد السوق، فطرق سمع مسلم وقع حوافر الخيل فعرف أنّهم في طلبه، فلم يَر بُدّاً من أن يترجّل ويهمز جواده خالياً، وهكذا فعل ومرّ الجواد يسارع في الشوارع، فلحقه نعمان مع فوارسه حتّي ظفروا به في محلّة الحلاّجين خالياً فأخذوه إلي ابن زياد وأعلموه الحال، فبعث ابن زياد برجاله وحراسه إلي رؤوس المحلات ومفارق الطرق ومعابر الناس ومداخل الأسواق فأقامهم فيها، وأمر المنادي أن

ص: 367

يُنادي في الناس كافّة أنّه: من دلّنا علي مسلم أو عرّفنا بمكانه أو جاء به إلينا فله منّا المكافأة الجزيلة والعطايا الوفيرة والمنزلة الرفيعة والمرتبة السامية وغير ذلك، ممّا بعث بمحبّي المال والجاه وعشّاق الذهب والفضة أن يصبحوا له عيناً واحدة علي مسلم، يتجسّسون عليه في الصبح المضيء والليل المظلم.

وأمّا مسلم فبعد مغالطة نعمان وفرسانه أخذ يمشي في الأزقّة والطرق جائعاً عطشاناً لا يهتدي لسبيل ولا يركن إلي دليل، وخاف أن يظفر به الناس، فرأي في أحد الشوارع مسجداً خرباً فالتجأ إليه وقضي بياض نهاره فيه، حتّي إذا جنّ الليل قام وأخذ يجوب الطرق وكلّها مسدودة في وجهه سدّاً محكماً، وكان عبوره بمحلّة ابن جبلة من كندة فوقع نظره علي دار عالية البنيان جلس أمامها يستريح بعض الشيء ممّا حلّ به، وكانت الدار لأم ولد يقال لها طوعة كانت قبلاً تحت الأشعث بن قيس، ولمّا طلّقها صارت تحت أسيد الحضرمي وأولدها غلاماً إسمه بلال.(1)

***

ص: 368


1- انظر قصّة شهادة مسلم عليه السلام في الإرشاد 2: 39 - 66؛ تاريخ الطبري 4: 263 - 284؛ بحار الأنوار 44: 343 - 354.

من خطبة له عليه السلام :يوصي بالوفاء وعدم القدر ويذكر سوء عصره

اشارة

«إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقي مِنْهُ وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَان قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلي حُسْنِ الْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ قَدْ يَرَي الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَ نَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ».(شرح النهج لابن أبي الحديد مج1، ص216، ط الأولي).

***

ضبط الألفاظ الغريبة:

(التوأم) معروف، يقال هذا توأم هذا، وهذه توأم هذه، وهما توأمان. (والجنّة) بالضم الترس. و(الكيس) الفطنة والعقل. (والحوّل القُلّب) البصير بتقليب الأمور وتحويلها. (والانتهاز) المبادرة، يقال انتهز الفرصة: اغتنمها وبادر إليها. (والحريجة) التحرّج والتأثّم، أي التحرّز من الحرج والاثم.

***

المعني لهذه الفقرات النيّرة:

إنّ الوفاء والصدق من جنود العقل، كما إنّ الغدر والكذب من جنود الجهل، وتقابل الأوليين مع الآخرين تقابل العدم والمَلَكة، لأنّ عدّ هذه الأوصاف من جنود العقل والجهل باعتبار مباديها الراسخة ومَلَكاتها في النفس دون آثارها التي من الأعمال والأفعال.

ص: 369

وعلي هذا فالوفاء مَلكة نفسانيّة تنشأ من لزوم العهد كما ينبغي والبقاء عليه، والغدر ضدّ الوفاء عمّن من شأنه الوفاء، والصدق ملكة تحصل من لزوم مطابقة الأقوال للواقع، والكذب عدم الصدق لمن من شأنه الصدق.

ولمّا كان الوفاء والصدق متشاركين في كونهما من جنود العقل، متلازمين غالباً، لاجرم شبّههما بالتوأمين، قال: (إنّ الوفاء توأم الصدق) ثمّ قال عليه السلام: (ولا أعلم جُنّة أوقي منه) أي أشدّ وقاية منه من عذاب الآخرة ومن عار الدنيا المترتّبين علي الغدر وخلف الوعد، مضافاً إلي ما فيه من الثمرات والمنافع الدنيويّة والأخرويّة. فمن ثمراته الدنيويّة اعتماد الناس علي قول الوفيّ وثقتهم به وركونهم إليه، واستحقاق المدح الثناء عند الخالق والخلائق. ومن هنا قيل في المثل: (الوفاء مليح، والغدر قبيح).

وفاء السمؤل:

وحتّي الآن وقد مضت قرون وقرون يُضرب المثل بوفاء السموءل فيقال: (أوفي من السموءل).

ومن وفائه أنّ امرء القيس بن الحجر لمّا أراد الخروج إلي أحد الملوك استودع السموءل دروعاً، فلمّا مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشام، فتحرّز منه السموءل، فأخذ الملك إبناً له كان مع ظئرٍ خارجاً من الحصن، ثمّ صاح بالسموءل فأشرف عليه، قال له الملك: هذا ابنك في يدي، وقد علمتَ أنّ امرء القيس ابن عمّي وأنا أحقّ بميراثه،فإن دفعت إليّ الدروع وإلاّ ذبحتُ ابنك. فقال السموءل: أجّلني، فأجّله، فجمع أهل بيته ونساءه فشاورهم فكلٌّ أشار إليه بدفع الدروع، فأبي قال: ما كنت لأحقر أمانة، فقال للملك: فاصنع ما أنت صانع، إنّ الغدر طوق لا يبلي، ولابني هذا أخوة، فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه ورجع خائباً، فلمّا دخلت أيام الموسم وافي السموءل بالدروع الموسم فدفعها

ص: 370

إلي ورثة امرئ القيس. وهذا أقصي ما يُتصوّر في الوفاء. لذلك ضُرب به المثل واستمرّ حتّي اليوم فيقال: (أوفي من السموءل).(1)

قصة المنذر بن ماء السماء ويوماه البؤس والسعد:

جاء في التاريخ: أنّ المنذر بن ماء السماء _ ملك الحيرة _ جدّ النعمان بن المنذر _ خرج يتصيّد، فأجري فرسه خلف صيد، فذهب الفرس به في الأرض ولم يقدر علي كبح جماحه، فانفرد عن أتباعه، وأخذته السماء فطلب ملجأ يلجأ إليه، فدفع إلي بناء فإذا فيه رجل من طيء يدعي حنظلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل من مأوي؟ فقال حنظلة: نعم، فخرج إليه فأنزله ولم يكن للطائيّ غير شاة، وهو لا يعرفه، فقال لامرأته: أري رجلاً ذا هيئة، وما أخلقه أن يكون شريفاً خطيراً، فما الحيلة؟ قالت: عندي شيءمن طحين كنت ادّخرته، فاذبح الشاة، وأخرجت الطحين وخبزت منه، وقام الطائي إلي شاته فاحتلبها ثمّ ذبحها واتّخذ من لحمها مضيرة (طعام يُطبخ باللبن) فأطعمه من لحمها، وسقاه من لبنها، واحتال له بشراب فسقاه، وقطع بقيّة ليلته يحدّثه، فلمّا أصبحا لبس المنذر ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيء اطلب ثوابك، أنا الملك المنذر، قال: أفعل إن شاء الله، ثمّ اتّجه نحو الحيرة.

ومكث الطائي بعدها زماناً فأصابه جهد وساءت حاله، فقالت له إمرأته: لو أتيتَ الملك لأحسن إليك، فأقبل إلي الحيرة، وكان المنذر وقد جعل له يومين: يوم بؤس مَن صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم مَن لقيه فيه أحسن إليه وأغناه، فصادف الطائيّ مجيئه يوم بؤس المنذر، فإذا هو واقف في خيله في السلاح، فلمّا نظر إلي الطائي عرفه وساءه مكانه، و جاء الطائي حتّي وقف بين يديه فقال له المنذر: أنت حنظلة؟ قال: نعم. قال: أفلا جئت في غير هذا اليوم؟ قال: أبيتَ اللعن وما عليّ بهذا اليوم؟ قال: والله لو سنح لي في هذا اليوم ابني لم

ص: 371


1- المحبر لمحمّد بن حبيب البغدادي: 349.

أجد بدّاً من قتله، فاطلب حاجتك من الدنيا وسَل ما بدا لك فإنّك مقتول. قال: أبيتَ اللعن وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟ والله ما أتيتك إلاّ زائراً ولأهلي من خيرك مائراً، فلا تكن مبرّتهم قتلي. فقال: لا بدّ من ذلك، فاسأل حاجة أقضها لك قبل موتك. قال: تؤجّلني سنة أرجع فيها إلي أهلي وأحكم منهم ما أريد ثمّ أصير إليك فأنفِذ فيّ حكمك. فقال المنذر: ومَن يكفل بك حتّي تعود. فنظر في وجوه جلسائه فعرف منهم شريك بن عمرو بن شراحيل الشيباني _ أبا الحوفزان _ وكان صاحب الردافة فقال:

يا شريكٌ يا بن عمروٍ *** ما من الموت مَحالَه

يا شريكٌ يابن عمرو *** يا أخا من لا أخا لَه

يا أخا شيبان فُكَّ *** اليوم رهناً قد أنالَه

يا أخا كلّ مضافٍ *** وحيا من لا حَيا لَه

إنّ شيبان قبيلي *** أكرم الناس رجالَه

وأبو الخيرات عمرو *** وشراحيل الحِمالَه

رتّباك اليوم في المجد *** وفي حسن المقالَه

فوثب شريك وقال: أبيت اللعن، يدي بيده ودمي بدمه إن لم يَعُدْ إلي أجله. فأطلقه المنذر، فلما كان من القابل قعد المنذر في مجلسه في يوم بؤسه ينتظر حنظلة فأبطأ عليه، فأمر بشريك فقُدّم ليُقتل، فلم يشعر إلاّ وراكب قد طلع، فإذا هو حنظلة وقد تحنّط وتكفّن ومعه ناديته تندبه، وقد قامت نادبة شريك تندبه، فلمّا رأي المنذر ذلك عجب من وفاء الطائيّ وقال له: ما حملك علي قتل نفسك؟ فقال: أيّها الملك: الوفاء، ومَن لا وفاء له لا دين له، قال: وما دينك؟ قال: النصرانيّة، فاستحسن ذلك منه وأطلقهما معاً وأبطل تلك البدعة، وكان ذلك سبب تنصّره و تنصّر أهل الحيرة فيما زعموا.(1)

ص: 372


1- معجم البلدان 4: 198 – 199.

وأرجح دليل يتمسّك به الإنسان لمبتغاه، وأوضح سبيل يهدي سالكه إلي بلوغ مناه، كتاب الله الذي مَن تمسّك به هداه، ومن استدلّ به أرشده إلي هداه، وقد دلّ بمنطوقه أنّ الوفاء يجب علي كلّ عاقل أن يرعاه، ويحرم عليه أن يخون عهده وينقض عراه، فقال عزّوجَل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) وقال تقدّس اسمه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا»(2) وقال تعالي: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»(3) فهذه الآيات مع اختلاف محالّها وتعدّد أسبابها متّفقة علي وجوب الوفاء بالعهود والتمسّك بحبالها وتجنّب نقضها، ولو لم يكن في الوفاء فضيلة إلاّ أنّ المتّصف به يعدّ في زمرة الصادقين وينزّه نفسه عن التحلّي بسمة المنافقين لكفي، فإنّ رسول الله صلي الله عليه وآله لما سُئل عن صفات المنافقين قال: «إذا عاهد غدر».(4) فالوفاء من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخِلال الحميدة، يعظم صاحبه في العيون ويحلّ بين الناس في رتب الكرامة.

ثمّ إنّه عليه السلام بعد الترغيب في الوفاء وبيان حسنه، حذّر من الغدر بقوله: «ولا يغدر من علم كيف المرجع» يعني من كان له علم بحالة الغادر في الآخرة وبما يستحّق بغدره من الجحيم والعذاب الأليم لا يصدر منه غدر ولا تكون له رغبة إليه.

قال عليه السلام علي منبر الكوفة: «أيّها الناس، لولا كراهية الغدر لكنتُ من أدهي الناس، ألا إنّ لكلّ غدرة فجرة، ولكلّ فجرة كفرة، ألا وإنّ الغدر والفجور والخيانة في النار».(5)

***

ص: 373


1- المائدة: 1.
2- النحل: 91.
3- الاسراء: 34.
4- الخصال: 254 /ح 129؛ بحار الأنوار 69: 261/ ح 34.
5- الكافي 2: 338/ ح 6؛ بحار الأنوار 33: 197/ ح 483.

وقال عليه السلام: «قد يري الحوّلُ القُلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوي الله، ثمّ ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين».

يقول الإمام عليه السلام هذا وهو صادق في قوله، فكم أدرك مدرك متفقّه في حياته حيلة الوصول إلي مفاتن الدنيا، ثمّ حال بينه وبين تلك المفاتن وازع من دين ورادع من شرف أو كرامة أو إنسانية، فإذا بالرجل الانتهازي الذي لم يتوفّر علي كرامة النفس ونُبل الضمير وشرف الدين، إذا به يتحلّل من كلّ ذلك، ويُقبل علي دنياه طويل الأمل عريض الشهوات.

فمن هو ذلك المتحرّج الورع الزاهد؟ ثم من هو هذا المتحلّل المتحرّر؟ ذاك علي عليه السلام وهذا معاوية، ذاك علي وتابع علي منذ كان ويكون حتّي الحشر، وهذا معاوية وتابع معاوية منذ كان و يكون حتّي الحشر، ذاك علي والقليل النادر من الناس الذين تفهّموا حياة علي وفقهوا رسالة محمد علي لسان علي، وهذا معاوية والكثير الغالب من الناس الذين آثروا الدنيا علي الدين، والذين لم يفهموا من الدنيا إلاّ أنّها أداة للمتعة، ولم يفقهوا من الدين إلاّ أنّه واسطة لا غاية، وأنّ الغاية التي تبرّره إنّما هي بلغة من العيش تضخم في عين الضعيف إيمانه حتّي تراها ملء الدنيا، أطائب من طعام، ولذائذ من شراب، ثمّ طرائف من لباس وسكن ومفاتن من جمال ومتع.

تلك هي فلسفة هذه الكلمة وحكمتها التي حيّرت عقول المؤرّخين، فضلّ بها من سفه، واهتدي بها من عقل، ضلّ بها من لم يعصمه دينه ولا شرفه بين يدي هواه، فكان مثالاً لمعاوية وأخلافه فينا حتّي يومنا هذا وحتّي تقوم الساعة. واهتدي بها من عصمه عقله عن أن يتردّي في هوّة لا ينشله منها إلاّ التحسّس من دينه كيف قام رغم المحن التي تعاقبت عليه، ومن عقله كيف نضج وهو يعلّل دنياه كيف قامت فاستقامت و كلّها بهرج زائف.

تلك هي الحكمة التي فاه بها عليٌ في صدر هذا البحث ردّاً علي من

ص: 374

يقول في عهده وبعد عهده من عبيد الشهوات، يقولون في معرض التحليل السياسي: إنّ علياً لايُحسن السياسة، وإنّ معاوية هو الجدير بها، حتّي اضطرّوه إلي القول: «والله ما معاوية بأدهي مني، ولكنّه يفجر ويغدر، ولولا كراهية الغدر كنتُ من أدهي الناس».(1)

ولا تليق السياسة بالغدر والفجور، فإنّ السياسة إذا لم تقم علي الصدق والصراحة والعدل فإنّما هي ظلم وبُهتان وفجور، ولا تليق هذه الخلال بمن يسود أمّته و يخلف الله في خلقه.

تلك هي الحكمة في قول الإمام و تعليله، وتلك هي الغاية من إقدامه في السياسة علي كلّ ما هو حق، وإحجامه فيها عن كلّ ما هو باطل.

إذا أفسد الدهرُ أخلاقَنا *** فَعِث فالسياسة أن تُفسِدا

ونافق تَسُد فبغير النفاق *** لم يكُ سيّدنا سيّدا

***

ألم ترَ ما حلّ بالمرتضي *** عليٍّ وما قيل في شأنه

أبي أن ينافق عصر النفاق *** ففاز ابنُ هند بسلطانه

***

وقالوا السياسة عند الطليق *** وليس لحيدر فيها يدُ

ولو كان خبّاً لكانت له *** يدٌ في السياسة لا تُجحدُ

***

إنّ سياسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع شؤونها قد عبّرت عن جميع القيم السياسيّة الخيّرة التي أعلنها الإسلام، فهي لا تقرّ الغدر ولا المكر ولا الخداع، ولا تؤمن بأيّ وسيلة من وسائل النفاق الاجتماعي وإن توقّف عليها النجاح السياسيّ المؤقّت، لأنّ

ص: 375


1- بحار الأنوار 33: 197 و 40: 193.

الخلافة الإسلاميّة من أهمّ المراكز الحسّاسة في الإسلام، فلا بدّ لها من الاعتماد علي الخُلق الرصين والايمان العميق بحقّ المجتمع والأمة.

وإنّ الغدر لا ينبعث إلاّ عن نفس لا تؤمن بالمُثل الانسانيّة والقِيم الدينيّة، ينبعث ممّن لا حراجة له في الدين ولا سلامة ضمير ولاشرف نفس.

فالدين يمنع من كلّ ذلك، ولا يوصف بالغدر رجل له حريجة في الدين، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «يا علي إيّاك والغدر، فإنّ كلّ غادر يأتي يوم القيامة مائلاً شدقه وله لواء يُعرف به فيقال: هذه غدرة فلان».(1)

كما أنّه لا يأتلف الغدر مع شيء من المآثر الفاضلة، لأنّه ينمّ عن خسّة في الطبع ودناءة العنصر وعدم مبالاة بنواميس الدين.

آل الأشعث والغدر:

وكانت العرب تجتنب الغدر وتأنف منه وتعدّه وصمة في جبين الرجل مدي الدهر، وكانوا يضربون المثل بغدرة آل الأشعث، وقالوا: (أعرق العرب في الغدر آل الأشعث) فإنّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث غدر بأهل سجستان، وغدر أبوه محمد بأهل طبرستان بعد أن عقد بينهم وبينه عهداً، فغزاهم فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبا بكر وفضحوه. وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب _ وكان بينه وبينهم عهد _ فغزاهم وأسروه، ففدي نفسه بمأتي قلوص فأدّي مأة وعجز عن البقية، ولمّا أسلم أهدره الإسلام. وغدر قيس أبو الأشعث ببني مراد، فإنّه كان بينه وبينهم عهد إلي أجل وآخره يوم الجمعة فغزاهم يوم الجمعة، فقالوا له: لم ينتهِ الأجل، فكان جوابه: إنّه لا يحلّ لي القتال يوم السبت لأنّه يهودي، فقتلوه وهزموا جيشه. وغدر معديكرب أبو قيس ببني

ص: 376


1- الكافي 2: 338/ ح 5 باختصار أوّله.

مهرة، وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً، فقتلوه وشقّوا بطنه وملأوه حصي وقالوا: (اشبع لا شبعتَ با ابن بغايا ضَرِيّة).(1)

فالغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النصرة، والغالب في الغدر مغلوب، ولا عُذر لغادر. يقول الشاعر العربي:

أخلق بمن رضيَ الخيانة شيمةً *** ألاّ يُري إلاّ صريع حوادثِ

ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها *** أبداً يغادر ذمّة أو ناكث

غدرة خالد بن الوليد:

وكانوا ينصبون الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر والتشهير به ليتجنّبه الناس.

وغدرة خالد بن الوليد بيني جذيمة أعقبته عاراً وخزياً طول الزمن، وقد تبرّأ النبي صلي الله عليه وآله من فعله وغدره. و كان صلي الله عليه قد أرسله داعياً لا مقاتلاً، وكانت بينه وبينهم إحنة، فإنّهم قتلوا عمّه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية، فلمّا نزل علي ماء لهم أخذوا السلاح فَرَقاً منه، فصاح بهم: ضعوا السلاح فإنّ الناس أسلموا، فلمّا وضعوا السلاح آمنين أمر جنده فكتّفوهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، فبلغ ذلك رسول الله صلي الله عليه وآله فساءه وأنكره ورفع يديه مبتهلاً إلي الله تعالي قائلاً: اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعل خالد، وأرسل أمير المؤمنين علياً عليه السلام ومعه مال ليودي بني جذيمة حتّي ميلغة الكلب.

هكذا جاء في صحيح البخاري مج 3 من كتاب المغازي، والاستيعاب بترجمة خالد، وتاريخ الطبري ج 3 ص 133، و كامل ابن الأثير في حوادث سنة 8.

وكم أوقع الغدر في المهالك من غادر، وضاقت عليه من موارد الهلكات

ص: 377


1- المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي: 244 - 245.

فسيحات المصادر، و طوّقه غدره طوق خزي، وأوقعه في خطّة حتفه، يقول الله تعالي: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِ».(1)

قصة ثعلبة بن حاطب:

ويشهد لصّحة هذه الأسباب قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وذلك أنّ ثعلبة هذا كان من أنصار النبي صلي الله عليه وآله، فجاءه يوماً وقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً. فقال له رسول الله صلي الله عليه وآله: ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدّي شكره خير من كثير لا تُطيقه. ثمّ أتاه بعد ذلك مرّة أخري فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا ثعلبة أمالك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردتُ أن تسير الجبال معي ذهباً وفضّة لسارت. ثمّ أتاه بعد ذلك مرّة ثالثة فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لتن رزقني الله مالاً لأعطين كلّ ذي حقٍّ حقّه، وعاهد الله تعالي علي ذلك. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: اللهمّ ارزق ثعلبة مالاً، فاتّخذ ثعلبة غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحّي عنها ونزل وادياً من أوديتها، وهي تنمو كما ينمو الدود، وكان ثعلبة لكثرة ملازمته للمسجد يقال له حمامة المسجد، فلمّا كثرت الغنم وتنحّي صار يصلّي مع رسول الله صلي الله عليه وآله الظهر والعصر، ويصلّي بقيّة الصلوات في غنمه، فكثرت ونمت حتّي بَعُد عن المدينة، فصار لا يشهد إلاّ الجمعة، ثمّ كثرت ونمت فتباعد أيضاً عن المدينة حتّي صار لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقّي الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلي الله عليه وآله ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا: يا رسول الله اتّخذ غنماً ما يسعها وادٍ، فقال صلي الله عليه وآله: يا ويح ثعلبة، فأنزل الله تعالي آية الصدقة، فبعث رسول الله صلي الله عليه وآله رجلين: رجل من بني سليم ورجل من جهينة، وكتب لهما

ص: 378


1- فاطر: 43.

أنصاب الصدقة وكيف يأخذانها، وقال لهما: مرّا بثعلبة بن حاطب و برجل آخر من بني سليم فخُذا صدقاتهما، فخرجا حتّي أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلي الله عليه وآله فقال: ما هذه إلاّ جِزية _ أو ما هذه إلاّ أخت الجزية _ انطلقا حتّي تفرغا ثمّ عودا إلي، فانطلقا، وسمع بهما السلمي فنظر إلي خيار إبله فعزلها للصدقة ثمّ استقبلهما بها، فلمّا رأياه قالا: ما هذا؟ قال: خُذاه نفسي به طيّبة، فمرّا علي الناس وأخذا الصدقات ثمّ رجعا إلي ثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقرأه، ثمّ قال: ما هذه الاّ جزية أو ما هذه إلاّ أخت الجزية، اذهبا حتّي أري رأياً. قال: فذهبا من عنده وأقبلا علي رسول الله صلي الله عليه وآله، فلمّا رآهما قال قبل أن يتكلّما: يا ويح ثعلبة. فأنزل الله تعالي: «وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَيٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ».(1)

وكان عند رسول الله صلي الله عليه وآله رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك فخرج حتّي أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتّي أتي النبي صلي الله عليه وآله فسأله أن يقبل صدقته، فقال: إنّ الله تعالي منعني أن أقبل منك صدقة، فجعل ثعلبة يحثو التراب علي رأسه ووجهه، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: هذا عملك، قد أمرتُك فلم تُطعني، فلمّا أبي رسول الله أن يقبل صدقته رجع إلي منزله، وقُبض رسول الله صلي الله عليه وآله ولم يقبل منه شيئاً، ثمّ أتي إلي أبي بكر حين استُخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلي الله عليه وآله وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلي الله عليه وآله منك فلا أقبلها أنا، فقُبض أبوبكر ولم يقبلها، فلمّا ولي عمر أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فلم

ص: 379


1- التوبة 75 – 78.

يقبلها منه وقال: لم يقبلها رسول الله ولا أبوبكر فأنا لا أقبلها، وقُبض عمر ولم يقبلها، ثمّ ولي عثمان بن عفّان فسأله أن يقبل صدقته، فقال له: لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر فأنا لا أقبلها، ثمّ هلك ثعلبة في خلافة عثمان.(1)

فانظر إلي سوء عاقبة غدره كيف أذاقه وبال أمره، ووسمه بسمة عار قضت عليه بخسران، فأيّ خزيٍ أرجح من ترك الوفاء بالميثاق، وأيّ سوء أقبح من غدر يسوق إلي النفاق؟

وكان يقال: لم يغدر غادر قطّ إلاّ لصغر همتّه من الوفاء، واتّضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.

ولمّا حلف محمّد الأمين للمأمون في بيت الله الحرام وهما وليّا عهد، طالبه جعفر بن يحيي أن يقول: خذلني الله إن خذلتُه، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال الفضل بن الربيع: قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله : يا أبا العبّاس أجد في نفسي أنّ أمري لا يتمّ. فقلت له: ولم ذلك أعزّ الله الأمير؟ قال: لأنّي كنت أحلف وأنا أنوي الغدر. و كان كذلك لم يتمّ أمره.

***

قصة سابور وبنت الملك الغادرة:

وورد في أخبار العرب: أنّ الضَيزَن بن معاوية بن قضاعة كان ملكاً بين دجلة والفرات، وكان له هناك قصر مشيد يُعرف بالجوسق، وبلغ مُلكه الشام، فأغار علي مدينة سابور ذي الأكتاف فأخذها وقتل منهم خلقاً كثيراً، ثمّ إنّ سابور جمع جيوشاً وسار إلي الضيزن فأقام علي الحصن أربع سنين لا يصل منه إلي شيء، ثمّ أنّ النضيرة بنت الضيزن عركت _ أي حاضت _فخرجت من الربض _ وكانت من أجمل أهل دهرها، وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا

ص: 380


1- بحار الأنوار 22: 40؛ فيض القدير : 688 – 689.

حضن _ وكان سابور من أجمل أهل زمانه، فرآها ورأته فعشقها وعشقته، وأرسلت إليه تقول: ما تجعل لي إن دللتُك علي ما تهدم به هذه المدينة وتقتل أبي؟ فقال: أحكّمك. فقالت: عليك بحمامة مطوّقة وورقة فاكتب عليها بحيض جارية ثمّ أطلقها فإنّها تقعد علي حائط المدينة فتتداعي المدينة كلها _ وكان ذلك طلسماً لا يهدمها إلاّ هو ففعل ذلك، فقالت له: وأنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صُرعوا فاقتلهم، ففعل ذلك فتداعت المدينة وفتحها سابور عنوة وقتل الضيزن واحتمل ابنته النضيرة وأعرس بها، فلمّا دخل بها لم تزل ليلتها تتضوّر وتململ في فراشها وهو من حرير محشوّ بريش النعام _ فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هو ورقة آسٍ التصقت بعكنتها وأثّرت فيها، وقيل كان ينظرإلي مخّ عظمها من صفاء بشرتها، ثمّ إنّ سابور بعد ذلك غدر بها وقتلها، وقيل أنّه أمر رجلاً فركب فرساً جموحاً وضفر غدائرها بذنبه ثمّ استر كضه فقطعها قطعاً.(1)

جزاني جزاء سنمار:

وتقول العرب في المثل: (جزاني جزاء سنّمار) وهو أنّ أزدجرد بن سابور لمّا خاف علي ولده بهرام _ وكان قبله لا يعيش له ولد - سأل عن منزل صحّي مري فدُلّ علي ظهر الجزيرة، فدفع ابنه بهرام إلي النعمان _ وهو عامله علي أرض العرب _ وأمره أن يبني له جوسقاً، فامتثل أمره وبني له جوسقاً كأحسن ما يكون، وكان الذي بني الجوسق رجلاً يقال له سنّمار، فلمّا فرغ من بنائه عجبوا من حسنه، فقال: لو علمتُ أنّكم توفوني أجره لبنيته بناء بدور مع الشمس حيث دارت. فقالوا: وإنّك لتبني أحسن من هذا ولم تبنه، ثم أمر به فطُرح من أعلي الجوسق فتقطّع. فكانت العرب بعد ذلك تقول: (جزاني جزاء سنّمار) إلي كثير و كثير من هذه النظائر.(2)

ص: 381


1- تاريخ الطبري 1: 484 - 585.
2- تاريخ الطبري 1: 499.

وخرج قوم لصيد فطردوا ضبعة حتّي ألجؤها إلي خباء أعرابي، فأجارها وجعل يُطعمها ويسقيها، فبينما هو نائم ذات يوم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وهربت، فجاء ابن عمه يطلبه فوجده ملقي، فتبعها حتّي قتلها وأنشد يقول:

ومن يصنع المعروف مَعْ غير أهله *** يُلاقي كما لاقي مجيرُ أمّ عامر

أعدّ لها لمّا استجارت ببيته *** أحاليب ألبان اللقاح الدرائر

وأسمنها حتّي إذا ما تمكّنت *** فَرَتْهُ بأنياب لها وأظافر

فقُل لذوي المعروف هذا جزاء من *** يجود بمعروفٍ علي غير شاكر(1)

***

ص: 382


1- قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا: 83.

من كلام له عليه السلامالتحذير من اتباع الهوي وطول الأم

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَي وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَي فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَداً حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ».

(شرح النهج لابن أبي الحديد مج 1 ص 218، ط الأولي).

***

ضبط الألفاظ الغريبة:

(الحذّاء) السريعة. ومن الناس من يروي جذّاء بالجيم والذال أي انقطع خيرها و درّها. (والصبابة) بضمّ الصاد المهملة: بقية الماء في الاناء. (والاصطباب) افتعال من الصبّ وهو الإراقة.

***

المعني:

إنّ مقصوده عليه السلام بهذه الخطبة: النهي عن اتّباع الهوي، والمنع من طول الأمل في الدنيا، فإنّهما من أعظم الموبقات وأشدّ المهلكات، كما قال سبحانه: «فَأَمَّا مَنْ طَغَيٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَيٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَيٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَيٰ».(1)

ص: 383


1- النازعات: 37 – 41.

يعني من تجاوز الحدّ الذي حدّه الله وارتكب المعاصي وفضّل الدنيا علي الآخرة واختارها عليها فإنّ النار منزله ومأواه، وأمّا من خاف مقام مسألة ربّه فيما يجب عليه فعله أو تركه، ونهي نفسه عن الحرام الذي تهواه و تشتهيه فإنّ الجنّة مقرّه ومثواه، ولكونهما من أعظم المهلكات كان خوفه منهما أشد، كما أشار اليهما بقوله عليه السلام: «أيّها الناس إنّ أخوف ما أخافه عليكم اثنتان» أي خصلتان، إحداهما (اتّباع الهوي) والمراد به ميل النفس الأمّارة بالسوء إلي مقتضي طباعها من اللذات الدنيوية إلي حدّ الخروج عن قصد الشريعة.

إتباع الهوي:

ولا ريب أنّ حبّ الهوي يعمي البصيرة، وقد قيل: حبّك الشيء يُعمي ويُصمّ. قال بعض الصالحين: رحم الله امرءاً أهدي إليّ عيوبي، وذاك لأنّ الإنسان يحبّ نفسه، ومن أحبّ شيئاً عمي عن عيوبه فلا يكاد يلمح عيب نفسه، وقد قيل في ذلك:

أري كلّ إنسان يري عيب غيره *** ويعمي عن العيب الذي هو فيه(1)

ولهذا استعان الصالحون علي معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم، علماً منهم أنّ هوي النفس لذاتها يصمّها عن أن تدرك عيبها، وما زال الهوي مردياً قتّالاً، ولهذا قال سبحانه: «وَنَهَي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَيٰ»(2) وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهويً متّبع، وإعجاب المرء بنفسه.(3)

مجامع الهوي خمسة:

ومجامع الهوي خمسة أمور جمعها قوله سبحانه:

«أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ

ص: 384


1- فيض القدير للمناوي (6): 591، ولم ينسبه.
2- النازعات: 40.
3- عوالي اللئالي 1: 273/ ح 96.

أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ».(1)

والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسة سبعة جمعها قوله سبحانه:

«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ».(2)

طول الأمل:

والخصلة الثانية (طول الأمل) والمراد بالأمل تعلّق النفس بحصول محبوب في المستقبل، ويرادفه الطمع والرجاء، إلاّ أنّ الأمل كثيراً ما يستعمل فيما يستبعد حصوله، والطمع فيما قرب حصوله، والرجاء بين الأمل والطمع، وطول الأمل عبارة عن توقّع أمور دنيويّة يستدعي حصولها مهلة في الأجل وفسحة من الزمان المستقبل.

ثم أنّه عليه السلام بعد تحذيره عن اتّباع الهوي وطول الأمل أشار إلي ما يتّرتب عليهما من المفاسد الدينيّة والمضار الأخرويّة فقال: «أمّا اتّباع الهوي فيصدّ عن الحقّ» وذلك لأنّ اتّباع الهوي يوجب صرف النظر إلي الشهوات الدنيويّة وقصر الهمّة في اللذّات الفانية، وهو مستلزم للاعراض عن الحقّ، وهو واضح، لأنّ حبّك للشيء صارفك عمّا وراه، وشاغلك عمّا عداه.

«وأمّاطول الأمل فيُنسي الآخرة» وذلك لما عرفت من أنّ طول الأمل عبارة عن توقّع أمور محبوبة دنيويّة، فهو يوجب دوام ملاحظتها، ودوام ملاحظتها مستلزم لإعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة، وهو مستعقب لانمحاء تصوّرها في الذهن، وذلك معني النسيان لها.

قال بعضهم: سبب طول الأمل هو حبّ الدنيا، فإنّ الإنسان إذا أنس بها

ص: 385


1- الحديد: 20.
2- آل عمران: 14.

وبلذّاتها ثقل عليه مفارقتها وأحبّ دوامها، فلا يتفكّر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، فإنّ من أحبّ شيئاً كره الفكر فيما يُزيله ويُبطله، فلا تزال نفسه تتمنّي البقاء في الدنيا وتقدّر حصول ما تحتاج إليه من أهل ومال وأدوات وأسباب، ويصير فكره مستغرقاً في ذلك، فلا يخطر الموت ولا الآخرة بباله.

وإن خطر بخاطره الموت والتوبة والاقبال علي الأعمال الأخرويّة أخّر ذلك من يوم إلي يوم، ومن شهر إلي شهر، ومن عام إلي عام، وقال: إلي أن أكتهل ويزول سنّ الشباب، فإذا اكتهل قال: إلي أن أصير شيخاً، فإذا شاخ قال: إلي أن أتمّ هذه الدار وأزوّج ولدي فلاناً، وإلي أن أعود من هذا السفر، وهكذا يسوّف التوبة، كلّما فرغ من شغل عرض له شغل آخر _ بل أشغال _ حتّي يختطفه الموت وهو غافل عنه غير مستعدّ له مستغرق القلب في أمور الدنيا، فتطول في الآخرة حسرته، وتكثر ندامته، وذلك هو الخسران المبين.

النهي والتحذير من طول الأمل:

وقد وردت أخبار كثيرة في ذمّ طول الأمل والتحذير منه وبيان ما يترتّب عليه من المفاسد.

ففي الحديث القدسيّ: يا موسي لا تطوّل في الدنيا أملك فيقسو لذلك قلبك، وقاسي القلب منّي بعيد.(1) وقال رسول الله صلي الله عليه وآله لأبي ذر رَحمه اللهُ: «يا أبا ذر إيّاك والتسويف بأملك، فإنّك بيومك ولست لما بعده، فإن يكن غدٌ لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غدلك لم تندم علي ما فرّطت، يا أبا ذر كم مُستقبلٍ يوماً لا يستكمله، ومُنتظرٍ غداً لا يبلغه، يا أبا ذر لو نظرتَ إلي الأجل ومصيره لأبغضتَ الأمل وغروره، يا أبا ذر إذا أصبحتَ فلا تُحدثّ نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخُذ من صحّتك قبل

ص: 386


1- الجواهر السنيّة: 31؛ بحار الأنوار 74: 31.

سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري ما اسمك غداً».(1)

وعن أنس أنّ النبي صلي الله عليه وآله خطّ خطاً وقال: هذا الانسان، و خط خطّاً إلي جنبه وقال: هذا أجله، و خطّ آخر بعيداً منه فقال: هذا الأمل، فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب.(2)

وفي رواية أنّه اجتمع عبدان من عباد الله، فقال أحدهما للآخر: ما بلغ من قصر أملك؟ فقال: أملي إذا أصبحتُ أن لا أمسي، وإذا أمسيتُ أن لا أصبح. فقال: إنّك لطويل الأمل، أمّا أنا فلا أؤمّل أن يدخل لي نَفَس إذا خرج، ولا يخرج لي نَفَس إذا دخل.

وفي الديوان المنسوب إلي أمير المؤمنين عليه السلام:

تؤمّل في الدنيا طويلاً ولا تدري *** إذا جنّ ليلٌ هل تعيش إلي فجر

فكم من صحيحٍ مات من غير علّة *** وكم من مريضٍ عاش دهراً إلي دهر

وكم من فتيً يُمسي ويُصبح آمناً *** وقد نُسجت أكفانُه وهو لا يدري

***

ص: 387


1- أمالي الطوسي: 526؛ مكارم الأخلاق: 459.
2- العهود المحمّديّة للشعراني: 559.

ص: 388

من كلام له عليه السلاميدعو فيها للزهد والشكر عند النعم

اشارة

«أَيُّها النَّاسُ الزَّهادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ والشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ والتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ ولا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظاهِرَةٍ وكُتُبٍ بارِزَةِ الْعُذْرِ واضِحَةٍ».

(شرح النهج لابن أبي الحديد مج 2، ص 82، ط 1).

***

ضبط الألفاظ الغريبة:

(الزهادة) كسعادة، والزهد بمعني ترك الميل إلي الشيء، وفي الاصطلاح إعراض النفس عن الدنيا و طيّباتها، وقيل: هو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة. و (عزب) الشيء غاب وذهب. و(أعذر الله إليكم) أظهر عذره.

المعني: الحث علي الزهد

إنّ مقصوده عليه السلام بهذه الخطبة بيان معني الزهد والتنبيه علي لزومه لكونه من عظائم مكارم الصالحين، وجلائل صفات المتّقين، وعمدة مقامات السالكين إلي الله تعالي بقدمَي الطاعة واليقين، والرغبة ضدّه، والأوّل من جنود العقل، والثاني من جنود الجهل، وقد فسّره بقوله عليه السلام : «أيّها الناس الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عن المحارم» وهذه الثلاثة من لوازم الزهد.

وإنّما قلنا إنّها من لوازمه لأنّ الزهد في الحقيقة عبارة عن إعراض النفس عن الدنيا وإقبالها إلي الآخرة، ومن هنا قيل إنّه جَعْلُ القلب حيّاً بمشاهدة أحوال الآخرة وميّتاً

ص: 389

في طمع الدنيا، ومن المعلوم أنّ إعراض النفس عن الدنيا مستلزم لقصر الأمل فيها، والإقبال علي الآخرة مستلزم للشكر، إذ الكفران موجب للعذاب باعث للسخط والعقاب، كما قال تعالي: «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ».(1)

وكذلك يلزمه الورع عن المحارم والكفّ عنها، إذ لا يُنال ما عند الله إلاّ بالورع، قال الإمام الصادق عليه السلام في رواية الوسائل: «عليكم بالورع، فإنّه الدين الذي نلازمه وندين الله تعالي به، ونريدهُ ممّن يوالينا، لا تُتعبونا بالشفاعة».(2)

وفي حديث أبي ذر رَحمه اللهُ قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «يا أبا ذر من لم يأتِ يوم القيامة بثلاث فقد خسر. قلت: وما الثلاث فداك أبي وأمّي؟ قال: وَرَعٌ يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجَل عليه، وحلم يردّ به جهل السفيه، وخُلق يداري به الناس».(3)

ولمّا كان ملازمة هذه الأمور الثلاثة بأجمعها شاقّة صعبة في حقّ الأغلب من الناس، لاجرم رخصّ لهم في طول الأمل بقوله: «فإن عزب» بَعُد «ذلك عنكم فلا يغلب الحرامُ صبرَكم، ولا تنسوا عند النعم شُكر كم» يعني أنّكم إن لم تتمكّنوا من الإتيان بالأمور الثلاثة، فلا محالة لا تتركوا الاثنين، إذ ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه.

وإنّما رخّص في ترك طول الأمل ولم يرخّص في ترك الشكر أو الورع، لأنّ طول الأمل ليس محرّماً بالذات وإن كان ينجرّ إلي المحرّم أحياناً، بخلاف الكفران والتقحّم في المحارم، فإنّهما محرّمان بالذات، والترخيص فيهما موجب للاغراء بالقبيح.

ثم أكّد ملازمة الزهادة وعلّل لزومها بقوله عليه السلام: «فقد أعذر الله إليكم بحُجج مُسفرة وكُتب بارزة العذر واضحة» يعني أظهر عذره إليكم في تعذيبكم لو خالفتم تكاليفه بإقامة الحجج الظاهرة المضيئة وإنزال الكتب الواضحة التي

ص: 390


1- إبراهيم: 7.
2- وسائل الشيعة 15: 248/ح 20411.
3- بحار الأنوار 74: 87.

أبرز فيها عذره، «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَيٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(1) و «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».(2)

أو أنّه سبحانه أزال عذره بإقامة البراهين العقلية والنقليّة والحُجج الباطنيّة والظاهريّة، فلم يبق لكم مقام للاعتذار وأن تقولوا يوم القيامة: «رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَيٰ».(3)

ومن الخير أن نشير إلي بعض ما ورد في فضيلة الزهد من الآيات والأحاديث الشريفة.

قال الله سبحانه: «فَخَرَجَ عَلَيٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ».(4)

فنسب الزهد إلي العلماء ووصف أهله بالعلم، وهو غاية المدح والثناء.

موكب قارون:

استعرض الله سبحانه في هذه الآية الشريفة قصّة قارون وطغيانه و تجبّره لما رآي كثرة ما عنده من خزائن المال، وأنّ هذا إنّما أوتيه باستحقاق، فخرج يوماً علي قومه في زينة تبهر العقول، خرج في أربعة آلاف من أتباعه ومواليه علي خيول مصفّحة بالذهب، عليها من اليواقيت والفلزّات ما يخطف الأبصار ويُدهش الأفكار، وعلي قومه من ألبسة الحرير والديباج ما لم تره عين، فأخذه الزهو والعجب وأظهر التكبّر علي موسي _ وهو ابن عمّه أو ابن خالته _ فكفر وتحدّي أمر موسي و استهزأ به وأوغل في إيذائه، وصرف

ص: 391


1- الأنفال: 42.
2- النساء: 165.
3- طه: 134.
4- القصص: 79 و 80.

وجه الناس وموّه عليهم إلي أن موسي إنّما هو ساحر وليس بنبيّ مرسل، وألجأه الحسد الموسي أنّه دعي إمرأة من بني اسرائيل بغيّاً فقال لها: إنّي أعطيك ألفين علي أن تجيئي غداً إذا اجتمعت بنو اسرائيل عندي فتقولي: يا معشر بني إسرائيل ما لي ولموسي قد آذاني. قالت: نعم، فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه، فلمّا جاءت بيتها ندمت وقالت: يا ويلتي قد عملت كلّ فاحشة، فما بقي إلاّ أن أفتري علي نبيّ الله، فلمّا أصبحت أقبلت ومعها الخريطتان حتي قامت بين بني إسرائيل، فقالت: إنّ قارون قد أعطاني هاتين الخريطتين علي أن آتي جماعتكم فأزعم أنّ موسي يراودني عن نفسي، ومعاذ الله أن أفتري علي نبيّ الله، وهذه دراهمه عليها خاتمه. فعرف بنو اسرائيل خاتم قارون. فغضب موسي فدعا الله عليه، فأوحي الله إليه: إنّي أمرت الأرض أن تطيعك، وسلّطتها عليه فمُرها. فقال موسي: يا أرض خُذيه _ وهو علي سريره وفرشه _، فأخذته حتي غيّبت سريره، فلمّا رأي قارون ذلك ناشده الرحم، فقال: خذيه، فأخذته حتي غيّبت قدميه،ثم أخذته حتي غيّبت ركبتيه، ثم أخذته حتي غيّبت حقويه، وهو يُناشده الرحم، فأخذته حتي غيّبته، فأوحي الله إليه: يا موسي ناشدك الرحم واستغاثك فأبيتَ أن تُغيثه، لو إيّاي دعا و استغاثني لأغثته.

ولمّا ابتلعته الأرض قال بنو إسرائيل: إنّما فعل ذلك موسي ليرث ماله لأنّه كان ابن عمّه، فخُسف بداره وبجميع أمواله بعده بثلاثة أيام «فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ» بنفسه لنفسه «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ» حين خرج عليهم في زينته «يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ» وهي كلمة تندّم واعتراف «لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ»(1) أي لا يفوز بثواب الله وينجو من عقابه الجاحدون لنعمه، العابدون معه سواه.(2)

ص: 392


1- القصص: 82.
2- تفسير مجمع البيان 7: 461 – 462.

وقال سبحانه: «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَيٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَيٰ».(1)

وقال سبحانه: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ».(2)

ومن الأحاديث الشريفة ما جاء في أصول الكافي، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدنيا سالماً إلي دار السلام».(3)

وقال عليه السلام: «جُعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا».(4)

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ من أعوان الأخلاق علي الدين الزهد في الدنيا».(5)

وإنّ رجلاً سأل علي بن الحسين عليه السلام عن الزهد، فقال: عشرة أشياء، فأعلي درجة الزهد أدني درجة الورع، وأعلي درجة الورع أدني درجة اليقين، وأعلي درجة اليقين أدني درجة الرضا، ألا وإنّ الزهد في آية من كتاب الله عزّوجَل «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَيٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ».(6) (7)

وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام وهو يقول: «كلّ قلب فيه شكّ أو شرك فهو ساقط، وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم في الآخرة».(8)

ص: 393


1- طه: 131.
2- الشوري: 20.
3- الكافي 2: 128/ ح 1.
4- الكافي 2: 128/ ح 2.
5- الكافي 2: 128/ ح3.
6- الحديد: 23.
7- الكافي 2: 128/ح 4.
8- الكافي 2: 129/ ح 5.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الحياة الدنيا، أما إنّ زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه ممّا قسم الله عزّوجَل له فيها وإن زهد، وإنّ حرص الحريص علي عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حُرم حظّه من الآخرة».(1)

موعظة علي عليه السلام لنوف صاحبه:

في كتاب (مسند الإمام علي عليه السلام) عن أمالي الشيخ المفيد، عن نوف البكّالي: قال: بتّ ليلة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فرأيته يكثر الاختلاف من منزله وينظر إلي السماء، قال: فدخل كبعض ما كان يدخل، قال: أنائم أنت أم رامق ؟ فقلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، ما زلت أرمقك منذ الليلة بعيني وأنظر ما تصنع، قال: يَا نَوْفُ طُوبَي لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ أُولئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَتُرَابَهَا فِرَاشاً وَمَاءَهَا طِيباً وَالْقُرْآنَ شِعَاراً وَالدُّعَاءَ دِثَاراً ثُمَ قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَي مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ عليه السلام.

يانوف إنّ الله أوحي إلي عيسي عليه السلام: قل للملأمن بني اسرائيل لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة وأكفّ نقيّة، وقل لهم: اعلموا إنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولأحد من خلقي قِبَله مظلمة، يا نوف إيّاك أن تكون عشّاراً أو شاعراً أو شرطياً أو عرّيفاً أو صاحب عرطبة _ وهي الطنبور _ أو صاحب كوبة _ وهي الطبل _ فإنّ نبيّ الله خرج ذات ليلة فنظر إلي السماء فقال: إنها الساعة التي لا تُردّ فيها دعوة إلاّ دعوة عِرّيف أو دعوة شاعر أو شرطيّ أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة.(2)

ص: 394


1- الكافي 2: 129/ح6.
2- أمالي المفيد: 133، المجلس 16؛ بحار الأنوار 41: 16.

رسول الله صلي الله عليه وآله وليلة الإسراء:

وفي إرشاد القلوب للديلميّ عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنّه قال: قال الله تعالي له في ليلة الإسراء: «يا أحمد إن أحببت أن تكون أورع الناس فازهد في الدنيا وارغب في الآخرة. فقال: يا إلهي وكيف أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة؟ فقال: خُذ من الدنيا خفّاً من الطعام والشراب واللباس، ولا تدّخر شيئاً لغدٍ، ودُم علي ذِكري. إلي أن قال: يا أحمد هل تعرف ما للزاهدين عندي في الآخرة؟ قال: لا يا ربّ، قال: تُبعث الخلائق ويُناقشون بالحساب وهم من ذلك آمنون، إنّ أدني ما أعطي للزاهدين في الآخرة أن أعطيهم مفاتيح الجنان كلّها حتّي يفتحوا أي باب شاؤا، ولا أحجب عنهم وجهي، ولأمتّعنّهم بأنواع التلذّذ من كلامي، ولأجلسنّهم في مقعد صدق، فأذكّرهم ماصنعوا وتعبوا في دار الدنيا، وأفتح لهم أربعة أبواب: باب تدخل عليهم الهدايا بكرة وعشيّاً من عندي، وباب ينظرون منه إليّ كيف شاؤا بلا صعوبة، وباب يطّلعون منه إلي النار فينظرون إلي الظالمين كيف يُعذَّبون، وباب تدخل عليهم منه الوصائف والحور العين. قال: يا ربّ فمن هؤلاء الزاهدون الذين وصفتهم؟ قال: الزاهد الذي ليس له بيت يخرب فيغتمّ بخرابه، ولا ولد يموت فيحزن بموته، ولاله مال يذهب فيحزن بذهابه، ولا يعرفه إنسان يشغله عن الله عزّوجَل طرفة عين، ولا له فضل طعام فيُسئل عنه، ولا له ثوب ليّن.

يا أحمد، وجوه الزاهدين مصفرّة من تعب الليل وصوم النهار، وألسنتهم كلال إلاّ من ذِكر الله، قلوبهم في صدورهم مطعونة من كثرة ما يخالفون أهواءهم، قد ضمروا أنفسهم من كثرة صمتهم، قد أعطوا المجهود من أنفسهم، لامن خوف نار ولا من شوق جنّة ولكن ينظرون في ملكوت السماوات والأرضين فيعلمون أنّ الله سبحانه و تعالي أهل للعبادة».(1)

ص: 395


1- إرشاد القلوب، الباب 54؛ وعنه بحار الأنوار 74: 21 – 30/ ح 6.

أوجه الزهد:

وبالتالي: الزهد علي ثلاثة أوجه:

الأول الزهد الذي ليس فوقه زهد، أن يكون المرء لا يسرّه أنّ الدنيا كلها له يُعَمَّرُ عمرها ويحتوي ملكها ولا يصل إليه شيء من مكارهها، فلا يسأل عليها ولا يرضي بها ولا يتمنّاها لنفادها وانقراضها، فهذا هو الزهد الذي ليس فوقه زهد، وهو غير موجود إلاّ ما بقي ذِكره في الكتب ويتردّد علي الألسنة منه في المحاضر.

الوجه الثاني: أن يزهد الانسان في الدنيا و قلبه معلّق بها محبّ لها مائل إليها، فهو يمنع نفسه قسراً عنها مخافة سوء عواقبها، فهو من نفسه في جهاد، ومن علاجها في اجتهاد، فهو زاهد صابر.

والوجه الثالث: أن يزهد فيما حرّم الله عليه، وهو اللازم للعباد والمفروض عليهم الذي ليس للعبد فيه عذر ولا له عليه حجّة، وهو دون الوجه الثاني، وله فيه نجاة من النار برحمة الله العزيز الغفار. قال بعض العلماء: «لن يصل الانسان إلي ما يريد من الطاعة، ولن يبلغ إلي بُغيته من العبادة إلاّ بالزهد في الدنيا والصبر علي تركها».

وصفوة القول: إنّ الزهد في الدنيا ليس بإهمال النفس وحرمانها المتاع المباح وإضعاف الجسم وإدخال الضرر بتقتير العيش والتعرّض للمعاطب والتصدّي إلي المهالك، فإنّ استعمال ما تصحّ به القوي وتحيا به النفس ويُعين علي العمل واجب متعيّن، وحقيقة الزهد كما قال تعالي: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَيٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ».(1)

***

جاء في دائرة المعارف البستانية: الزهد لغةً: الاعراض عن الشيء احتقاراً له، من قولهم: شيء زهيد _ أي قليل _ وهو عند الصوفيّة أخذ قدر الضرورة من الحلال. وقيل: بغض الدنيا والاعراض عنها. وقيل: ترك راحة الدنيا طلباً لراحة

ص: 396


1- الحديد: 23.

الآخرة. وقيل: هو أن يخلو قلبك ممّا خلت منه يدك. وقيل: هو أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقّن الحلّ، فهو أخصّ من الورع، إذ هو ترك المشتبه وهذا زهد العارفين؛ وأعلي منه زهد المقرّبين، وهو الزهد فيما سوي الله تعالي من دنيا وجنّة وغيرهما، إذ ليس لصاحب هذا الزهد إلاّ الوصول إليه تعالي والقرب منه، ويندرج فيه كلّ مقصود لغيرهم.

وقد اختلف العلماء في تفسير المزهود فيه، فقيل: الدنيا والدرهم، وقيل: المطعم والمشرب والملبس والمسكن، وقيل: الحياة. ويشتمل الزهد عندهم علي ثلاثة أمور كلّها من القلب دون الجوارح، ومن ثم كان أبو سليمان يقول: لانشهد إلي أحد بالزهد لأنّه في القلب، فمنشأ أوّل تلك الأمور الثلاثة من صحّة اليقين وقوّته، فإنّ الله تعالي يتكفّل بأرزاق عباده. وفي حديث مرفوع: من سرّه أن يكون أغني الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده.(1) ومنشأ الثاني من كمال اليقين، ومن ثم روي أنّ من دعائه صلي الله عليه وآله: اللهمّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا.(2) ولهذا قيل: من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. ومنشأ الثالث من سقوط منزلة المخلوقين من القلب وامتلائه من محبّة الحقّ.

وقد عرّف بعض الصوفية الزهد بقوله: إنه إسقاط الرغبة عن الشيء بالكليّة، فلا يفرح بموجود ولا يأسف علي مفقود، وثمرته القناعة من الدنيا بقدر الضرورة من زاد الطريق: وهو مطعم يدفع الجوع، وملبس يستر العورة، ومسكن يصونه عن الحرّ والبرد، وأثاث يحتاج إليه. وأقسامه ثلاثة: وهي زهد

ص: 397


1- فقه الرضا: 354؛ الكافي 2: 139/ ح 8.
2- عوالي اللئالي 1: 159/ ح 144.

العوام وهو ترك الحرام، وزهد الخواص وهو ترك ما زاد عن الضرورة من الحلال، وزهد خواص الخواص وهو ترك ما سوي الله تعالي. وأنشد بعضهم:

وما الزهد إلاّ في انقطاع العلائق *** وما الحقّ إلاّ في وجود الحقائقِ

وما الحبّ إلاّ حبّ من كان قلبه *** عن الخلق مشغولاً برب الخلائقِ(1)

***

وكان شقيق بن إبراهيم البلخي يقول: ثلاث خصال هي تاج الزاهد: الأولي أن يميل علي الهوي ولا يميل مع الهوي، والثانية ينقطع الزاهد إلي الزهد بقلبه، والثالثة أن يذكر كلّما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره و كيف مخرجه، ويذكر الجوع والعطش والعري، وطول القيامة والحساب والصراط وطول الحساب والفضيحة البادية، فإذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور، فإذا كان ذلك كان من محبّي الزهّاد، ومن أحبّهم كان معهم.

وقال إبراهيم بن أدهم: أقرب الزهّاد من الله عزّوجَل أشدّهم خوفاً، وأحبّ الزهّاد إلي الله أحسنهم له عملاً، وأفضل الزهّاد عند الله أعظمهم فيما عنده رغبة، وأكرم الزهّاد عليه أتقاهم له، وأتمّ الزهّاد زهداً أسخاهم نفساً وأسلمهم صدراً، وأكمل الزهّاد زهداً أكثرهم يقيناً.

وقال أيضاً: الزاهد يكتفي من الأحاديث والقال والقيل وما كان وما يكون، يقول الله تعالي: «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ»(2) يوم يقال «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَيٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا».(3)

وقال شقيق البلخيّ: والزاهد والراغب كرجلين يريد أحدها المشرق والآخر

ص: 398


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 41: 250، أنّ أبا العبّاس البلخي أنشده بمدينة السلام، وبعده: يصدّ عن الدنيا ولم يرضَ بالمُني *** وصار إلي المولي بأرضي الطرائق
2- المرسلات: 12 – 15.
3- الاسراء: 14.

يريد المغرب، هل يتّفقان علي أمر واحد وبغيتهما مخالفة هواهما؟ دعاء الراغب: الله ارزقني مالاً وولداً وخيراً، وانصرني علي أعدائي، وادفع عنّي شرورهم وحسدهم وبغيهم وبلاءهم وفتنهم آمين. ودعاء الزاهد: اللهم ارزقني علم الخائفين، وخوف العاملين، ويقين المتوكّلين، وتوكّل الموقنين، وشكر الصابرين، وصبر الشاكرين، وإخبات المغليين، وإنابة المخبتين، وزهد الصادقين، وألحقني بالشهداء والأحياء المرزوقين، آمين ربّ العالمين. هذا دعاء هل من شيء من دعاء الراغب يحيط به؟ لا والله! هذا طريق وذاك طريق.

كلام الإمام الصادق عليه السلام في الزهد:

جاء في كتاب (إحياء الأحياء) روي في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: دخل سفيان الثوري علي أبي عبد الله عليه السلام فرأي عليه ثياب بيض كأنها غرفئ البيض، فقال له: إنّ هذا اللباس ليس من الباسك، فقال له: اسمع منّي وعِ ما أقول لك، فإنّه خير لك عاجلاً و آجلاً إن أنت متّ علي السنّة والحقّ ولم تمت علي بدعة، أخبرك أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان في زمان مقفر جدب، فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارُها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها، فما أنكرتَ ياثوريّ؟! فو الله إنّني _ لمع ما تري _ ما أتي علي مُذ عقلت صباح و مساء ولله في مالي حقّ أمرني أن أضعه موضعاً إلاّ وضعته.

قال: فأتاه قوم ممّن يُظهرون الزهد ويدعون الناس أن يكونوا معهم علي مثل الذي هم عليه من التقشّف، فقالوا له: إنّ صاحبنا حصر عن كلامك ولم تحضره حُججه، فقال لهم عليه السلام: فهاتوا حُججكم، فقالوا له: إنّ حُججنا من كتاب الله، فقال لهم: فأدلوا بها فإنها أحقّ مااتُّبع و عُمل به، فقالوا: يقول الله تبارك وتعالي مُخبراً عن قوم من أصحاب النبي صلي الله عليه وآله: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَيٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ

ص: 399

كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1) فمدح فعلهم، وقال في موضع آخر: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَيٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا».(2)

فنحن نكتفي بهذا، فقال رجل من الجلساء: إنّا ما رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيّبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتي تمتّعوا أنتم منها؟

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: دعوا عنكم مالا تنتفعون به، أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه، ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الأمّة؟ فقالوا له: أو بعضه فأمّا كلّه فلا فقال لهم: فمن ههنا أتيتم، وكذلك أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله، فأمّا ما ذكرتم من إخبار الله عزّوجَل إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحُسن فعالهم فقد كان مباحاً جائزاً ولم يكونوا نُهوا عنه، وثوابهم منه علي الله عزّوجَل، ذلك أن الله جلّ وتقدّس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخاً لفعلهم، وكان نهي الله تبارك وتعالي رحمة منه للمؤمنين ونظراً لكيلا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لا يصيرون علي الجوع، فإن تصدّقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعاً، ومن ثمّة قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الانسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الانسان علي والديه ثم الثانية علي نفسه وعياله، ثم الثالثة علي قرابته الفقراء، ثم الرابعة علي جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسّها أجراً».

وقال صلي الله عليه وآله للأنصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستّة من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار: «لو أعلمتموني أمره ما تر كتكم تدفنونه مع

ص: 400


1- الحشر: 9.
2- الدهر: 8.

المسلمين، ترك صبية صغاراً يتكفّفون الناس» ثم قال عليه السلام: حدّثني أبي أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: «إبدأ بمن تعول الأدني فالأدني».

ثم هذا ما نطق به الكتاب رداً لقولكم ونهياً عنه مفروضاً من الله العزيز الحكيم، قال: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا»(1) أفلا ترون أن الله تبارك وتعالي قال غير ما أراكم تدعون الناس إليه من الأثرة علي أنفسهم، وسمّي مَن فعل ما تدعون الناس إليه مسرفاً، وفي غير آية من كتاب الله يقول: «إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»(2) فنهاهم عن الاسراف ونهاهم عن التقتير ولكن أمر بين أمرين، لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي صلي الله عليه وآله: إن أصنافاً من أمتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو علي والديه، ورجل يدعو علي غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يُشهد عليه، ورجل يدعو علي امرأته وقد جعل الله عزّوجَل تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: ربّ ارزقني، ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول الله له: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلي الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كلاًّ علي أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قتّرت عليك وأنت غير معذور عندي، ورجل رزقه الله مالاً كثيراً فأنفقه ثم أقبل يدعو: يا ربّ ارزقني، فيقول الله عزّوجَل: ألم أرزقك رزقاً واسعاً، فهلاّ اقتصدتَ فيه كما أمرتُك ولم تسرف وقد نهيتُك عن الاسراف؟ ورجل يدعو في قطيعة رحم.

ثم علّم الله نبيّه صلي الله عليه وآله كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب، فكره أن تبيت عنده فتصدّق بها، فأصبح وليس شيء، وجاءه من يسأله فلم يكن

ص: 401


1- الفرقان: 67.
2- الأنعام: 141؛ الأعراف: 31.

عنده ما يعطيه، فلامه السائل واغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه، وكان رحيماً رقيقاً، فأدّب الله عزّوجَل نبيّه صلي الله عليه وآله بأمره فقال: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَيٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا»(1) يقول: إنّ الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال.

فهذه أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله يصدّقها الكتاب، والكتاب يصدّقه أهله من المؤمنين.

وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوص، فقال: أوصي بالخُمس والخمس كثير فإنّ الله عزّوجَل قد رضي بالخُمس، فأوصي بالخمس، وقد جعل الله له الثُلث عند موته، ولو علم أن الثلث خير له أوصي به، ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان الفارسي رَضي الله عَنهُ وأبو ذر رَحمه اللهُ، فأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطائه رفع منه قوته لسنته حتي يحضر عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلّك تموت اليوم أو غداً؟ فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليّ الفناء، أما علمتم يا جهلة أنّ النفس قد تلتاث علي صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنّت، وأما أبو ذر رَضي الله عنهُ فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهي أهله اللحم، أو نزل به ضيف، أو رأي بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشياه علي قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضّل عليهم، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله صلي الله عليه وآله ما قال؟ ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئاً البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به علي أنفسهم وعيالاتهم.

ص: 402


1- الاسراء: 29.

واعلموا أيّها النفر أنّي سمعت أبي يروي عن آبائه أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قال يوماً: «ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن أنّه إن قُرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له، وكلّ ما يصنع الله به فهو خير له» فليت شعري هل يحيق فيكم ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم، أما علمتم أنّ الله قد فرض علي المؤمنين في أوّل الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولاّهم يومئذ دبره فقد تبوّأ مقعده من النار، ثم حوّلهم عن حالهم رحمة منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفاً من الله عزّوجَل للمؤمنين، فنسخ الرجلان العشرة.

وأخبروني أيضاً عن القضاة أجورةً حيث يقضون علي الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: إنّي زاهد وإنّي لا شيء لي، فإن قلتم «جورة» ظلمتم أهل الإسلام، وإن قلتم «بل عدول» خصمتم أنفسكم، وحيث تردّون صدقة من تصدّق علي المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.

أخبروني لو كان الناس كلّهم كالذين تريدون زهّاداً لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلي من كان يُتصدّق بكفّارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الذهب والفضة والتمر والزبيب وسائر ما وجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك إذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئاً من عرض الدنيا إلاّ قدّمه وإن كان به خصاصة، فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عزّوجَل وسنّة نبيّه وأحاديثه التي يصدّقها الكتاب المنزل، وردّكم إيّاها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.

وأخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود حيث سأل الله مُلكاً لا ينبغي الأحد من بعده فأعطاه الله جلّ اسمه ذلك وكان يقول الحق ويعمل به، ثمّ لم

ص: 403

نجد الله عزّوجَل عاب عليه ذلك ولا أحداً من المسلمين، وداود النبي قبله في مُلكه وشدّة سلطانه، ثم يوسف النبي حيث قال الملك مصر «اجْعَلْنِي عَلَيٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»(1) فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلي اليمن، وكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان يقول الحقّ ويعمل به، فلم نجد أحداً عاب ذلك عليه، ثم ذوالقرنين عبد أحبّ الله فأحبّه الله وطوي له الأسباب وملّكه مشارق الأرض ومغاربها، وكان يقول الحقّ ويعمل به، ثم لم نجد أحداً عاب ذلك عليه، فتأدّبوا أيها النفر بآداب الله عزّوجَل للمؤمنين، واقتصروا علي أمر الله ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، ورُدّوا العلم إلي أهله تُؤجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالي، وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه وما أحلّ الله فيه ممّا حرّم، فإنّه أقرب لكم من الله و أبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لأهلها، فإنّ أهل الجهل كثير وأهل العلم قليل، وقد قال الله عزّوجَل: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ».(2) (3)

***

ص: 404


1- يوسف: 55.
2- يوسف: 76.
3- الكافي 5: 65 – 70/ح 1، كتاب المعيشة؛ بحار الأنوار 67: 122 – 128 / ح13.

من كلام له عليه السلام: يصف الدنيا

«مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ مَنِ اسْتَغْنَي فِيهَا فُتِنَ وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ».

(شرح النهج لابن أبي الحديد مج 2، ص 84، ط 1).

***

ضبط الألفاظ الغريبة:

(العناء) بالمدّ التعب والمشقة. و(فُتن) بالبناء علي المجهول من الفتنة بمعني الضلالة. و (حزن) بالبناء علي المعلوم من باب فرح. (واتته) من المواتاة، قال الطريحي: هو حسن المطاوعة والموافقة، ومنه الحديث: خير النساء المواتية لزوجها.(1)

المعني: عشرة أوصاف للدنيا

إنّ هذا الكلام له عليه السلام مسوق للتنفير عن الدنيا والذمّ لها، وقد ذكر من أوصافها أموراً عشرة:

الأوّل: عناء في بداية الطريق

قوله عليه السلام: «ما أصف من دار أوّلها عناء» وهو إشارة إلي أنّ الإنسان فيها في تعب ومشقّة، كما قال تعالي: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ»$سورة البلد (90): الآية 4.$ أي في شدّة منذ حمله وولادته ورضاعه وفطامه ومعاشه وحياته وموته، ثم إنّه

ص: 405


1- مجمع البحرين 1: 33.

سبحانه لم يخلق خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق، ويكفي في الإشارة إلي متاعب الانسان فيها ما نقل عن الحكيم برزويه في صدر (كتاب كليلة ودمنة) في معرض تطويع نفسه بالصبر علي عيش النساء:

أو ليست الدنيا كلها أذيّ وبلاء، أو ليس الانسان يتقلّب في ذلك من حين يكون جنيناً إلي أن يستوفي أيّامه، فقد حقّق في كتب الطبّ أنّ مبدء نشوء الانسان هو الماء الدافع يخرج من بين الصلب والترائب، وذلك الماء إذا ما وقع في الرحم اختلط بماء المرأة ودمها و غلظ، ثم الريح يمخض ذلك الماء والدم حتي يتر كه كالرائب الغليظ، ثم يقسّمه في الأعضاء، فإن كان ذكراً فوجهه قِبل ظهر أمّه، وإن كان أنثي فوجهها قِبل بطن أمّها، وذقنه علي ركبتيه ويداه علي جنبيه، مُقبَض في المشيمة كأنه مصرور في صرّة، ويتنفس من متنفّس شاقٍ، وليس منه عضو إلاّ كأنّه مقموط، فوقه حزّ البطن وتحته ما تحته، وهو منوط بمعاء من سرته إلي سرّة أمّه، ومنها يمتصّ ويعيش من طعام أمّه وشرابها.

فهو بهذه الحالة في الغمّ والظلمات والضيق، حتي إذا كان وقت ولادته سلّط الله الريح علي بطن أمّه وقوي عليه التحريك، فتصوّب رأسه قِبل المخرج، فيجد من ضيق المخرج وعصره ما يجده صاحب الرهق، فإذا وقع علي الأرض فأصابته ريح أو مسّته يد وجد من ذلك من الألم ما لا يجده من سلخ جلده.

ثم هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطعام، وإن عطش فليس له استسقاء، أو وجع فليس له استغاثة، مع ما يلقاه من الرفع والوضع واللف والحلّ، إذا أنيم علي ظهره لا يستطيع تقلّياً، أو أقعد لا يستطيع تمدّداً.

فلا يزال في أصناف هذا العذاب ما دام رضيعاً، فإذا أفلت من ذلك أخذ بعذاب الأدب فأذيق منه ألواناً، وإذا أدرك فهم المال والأولاد والشره والحرص ومخاطرة السعي والطلب.

ص: 406

وكلّ هذا يتقلّب معه فيها أعداؤه الأربعة: المرّة والبلغم والدم والريح، والسم المميت والحياة اللاذعة مع خوف السباع والناس وخوف البرد والحرّ، ثم ألوان عذاب الهرم إن بلغه.

والثاني: فناء في آخر الطريق

أنّ (آخرها فناء): إذ كلّ نفس ذائقة الموت مشرفة علي الفوت، ومفارقة للأهل والأولاد، مهاجرة عن الوطن والبلاد، وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، وكلّ إنسان ملاقيٍ ربّه.

والثالث: الحساب في الحلال

أنّه (في حلالها حساب) قال سبحانه: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ»$الغاشية: 26.$ وقال أيضاً: «وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَيٰ بِنَا حَاسِبِينَ»$الأنبياء: 47.$ وقال سبحانه: «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».$النور:39.$

قال الطبرسي: لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الجميع علي أفعالهم في حالة واحدة. وسُئل أمير المؤمنين عليه السلام: كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.(1)

والحساب يوم القيامة ممّا يجب أن يؤمن به، وأما أنّ المحاسب عليه والمسؤول عنه ماذا؟ فقد اختلفت الأخبار فيه، فبعضها كالآيات واردة علي نحو العموم أو الاطلاق، وبعضها مخصوصة أو مقيّدة.

ففي الحديث النبويّ المعروف بين الخاصّة والعامّة: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لا يزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله عزّوجَل حتي يُسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته،

ص: 407


1- تفسير مجمع البيان7 : 256.

وعن حبّنا أهل البيت. فقال عمر بن الخطاب: وما علامة حبّكم يا رسول الله ؟ فقال: محبّة هذا، ووضع يده علي رأس أمير المؤمنين عليه السلام.(1)

وجاء في تفسير مجمع البيان أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله سُئل عن هذه الآية «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا»(2) فقال صلي الله عليه وآله: يُحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتاً قد ميّزهم الله عن المسلمين وبدّل صورهم، فبعضهم علي صورة القردة، وبعضهم علي صورة الخنازير، وبعضهم منكوسون أرجلهم من فوق ووجوههم من تحت ثمّ يُسحبون عليها، وبعضهم عمّي يتردّدون، وبعضهم صُمّ بُكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، يسيل القيح من أفواههم لعاباً، يتقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مُصلّبون علي جذوع من النار، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف، وبعضهم يلبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين علي صورة القردة فالقتّاة من الناس، وأما الذين علي صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكوسون علي رؤوسهم فأكلة الربا، والعمي الجائرون في الحكم، والصمّ والبُكم المعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم العلماء والقضاة الذين خالفت أعمالهم أقوالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلّبون علي جذوع من نار فالسعاة بالناس إلي السلطان، والذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتمتّعون بالشهوات واللذّات ويمنعون حقّ الله في أموالهم، والذين هم يلبسون الجباب من القطران فأهل الفخر والخيلاء.(3)

ص: 408


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان 1: 157؛ أمالي المفيد: 353/ ح 5؛ المعجم الأوسط للطبراني 2: 348.
2- النبأ: 38.
3- تفسير مجمع البيان 10: 242.

ومن الأسئلة الموجّهة للعباد يوم المعاد السؤال عن النعيم في قوله تعالي: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ».(1)

اختلف العلماء في هذا النعيم ما هو، روي الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن العباس الصولي قال: كنّا بين يدي علي بن موسي الرضا عليه السلام فقال: ليس في الدنيا نعيم حقيقيّ، فقال له بعض الفقهاء ممّن بحضرته: قول الله عزّوجَل: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» أما هذا النعيم في الدنيا هو الماء البارد؟ فقال له الرضا عليه السلام _ وعلا صوته _: هكذا فسّرتموه أنتم وجعلتموه علي ضروب، فقالت طائفة: هو الماء البارد، وقال غيرهم: هو الطعام الطيّب، وقال آخرون: هو النوم الطيّب.

ولقد حدّثني أبي عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ أقوالكم هذه ذُكرت عنده في قوله تعالي: «لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» فغضب وقال: إنّ الله تعالي لا يسأل عباده عمّا تفضّل عليهم به ولا يمنّ بذلك عليهم، والامتنان مُستقبح من المخلوقين، فكيف يُضاف إلي الخالق عزّوجَل ما لا يرضي به للمخلوقين، ولكنّ النعيم حبنّا أهل البيت وموالاتنا، يسأل الله عنه بعد التوحيد والنبّوّة، لأنّ العبد إذا وافي بذلك أدّاه إلي نعيم الجنّة الذي لا يزول.

ولقد حدّثني بذلك أبي محمد بن علي عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه عليهم السلام أنّه قال له: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا علي أوّل ما يسئل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وأنك وليّ المؤمنين بما جعله الله لك، فمن أقرّ بذلك وكان معتقده صار إلي النعيم الذي لا زوال له.(2)

وروي العيّاشي بإسناده في حديث طويل، قال: سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية، فقال له عليه السلام: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام والماء البارد. فقال: لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتّي يسألك عن

ص: 409


1- التكاثر: 8.
2- عيون أخبار الرضا 1: 136 – 137/ ح8.

كلّ أكلة أكلتَها وشربة شربَتها ليطولنّ وقوفك بين يديه. قال: فما النعيم جُعلت فداك؟قال: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا علي العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام، وهي النعمة التي لا تنقطع.

والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم، وهو النبي صلي الله عليه وآله وعترته عليه السلام.(1)

وفي كتاب أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ثلاثة أشياء لا يُحاسَب عليهنّ المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويُحصن بها فرجه.(2)

الرابع: قوله عليه السلام: «في حلالها حساب» وهو إشارة إلي ما يظهر في صحيفة الانسان يوم القيامة من الآثار المكتوبة عليه، ممّا خاض فيه من مباحات الدنيا، وتوسّع فيه من المأكل والمشارب والمناكح والمراكب، وما يظهر في لوح نفسه من محبّة ذلك فيعوقه عن اللحوق بالمجرّدين عنها الذين لم يتصرّفوا فيها تصرّف الملاّك، فلم يكتب عليه في شيء منها ما يحاسبون عليه، وإليه إشارة سيّد المرسلين صلي الله عليه وآله «إنّ الفقراء ليدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، وإنّ فقراء أمتي ليدخلون الجنة سعياً»(3) وما ذاك إلاّ لكثرة حساب الأغنياء بتعويقهم بثقل ما حملوا من محبّة الدنيا وقنياتها عن اللحوق بدرجة المخقين منها.

العقوبة علي المحرمات:

الخامس: قوله عليه السلام: «في حرامها عقاب» وهو واضح لا غبار عليه، وإلي هذا الوصف و سابقه نظر الشاعر في قوله:

ص: 410


1- تفسير العيّاشي؛ وعنه بحار الأنوار 7: 258؛ تفسير الصافيه 5: 370.
2- الكافي 6: 280 ح 2.
3- تفسير مجمع البيان 7: 161؛ بحار الأنوار 7: 122.

الدهر يومان فيومٌ مضي *** عنك بما فيه ويوم جديد

حلال يومَيك حساب وفي *** حرام يوميك عقاب شديد

تجمع ما يأكله وارث *** وأنت في القبر وحيد فريد

إنّي لغيري واعظ تارك *** نفسي وقولي من فعالي بعيد

حلاوة الدنيا ولذّاتها *** تكلّف العاقل ما لا يريد(1)

السادس: قوله عليه السلام: «من استغني فيها فُتن» لأنّ الاستغناء شاغل عن ذكر الله، مضلّ عن سبيل الله، فهو بلاء ابتلاه الله به كما نطق به القرآن الكريم: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ».(2)

السابع: الفقر يجلب الحزن

أنّ «من افتقر فيها حزن» لظهور أنّ الافتقار فيها لطالبها موجب لشدّة المحنة ومنتهي الحزن والكآبة، قال النبيّ صلي الله عليه وآله: الفقر أشدّ من القتل.$بحار الأنوار 69: 47.$ وقال: أوحي الله إلي إبراهيم فقال: يا إبراهيم خلقتك وابتليتك بنار نمرود، فلو ابتليتك بالفقر ورفعت عنك الصبر فما تصنع؟ قال ابراهيم عليه السلام : يارب الفقر إليّ أشدّ من نار نمرود. قال الله تعالي: فبعزّتي وجلالي ما خلقت في السماء والأرض أشدّ من الفقر.$بحار الأنوار 69: 47.$

وقال عليه السلام: الفقر الموت الأكبر.(3) وقال: لولا رحمة ربي علي فقراء أمتي كاد الفقر أن يكون كفراً.(4)

ص: 411


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 239، نسبه لبعض الشعراء.
2- التغابن: 15.
3- مشكاة الأنوار: 228.
4- بحار الأنوار 69: 47.

وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «من ابُتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله، والرقّة في دينه، وقلّة الحياء في وجهه، فنعوذ بالله من الفقر».(1)

هذا ولشدّته دعا سيّد العابدين وزين الساجدين عليه السلام أن يصرفه الله عنه ولا يبتليه به، حيث قال:

«اللهم لا طاقة لي بالجهد، ولا صبر لي علي البلاء، ولا قوّة لي علي الفقر، فلا تحظر عليّ رزقي، ولا تكلني إلي خلقك، بل تفرّد بحاجتي، وتولَّ كفايتي، وانظر إليّ في جميع أموري، فإنّك إن وكلتني إلي نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها، وإن وكلتني إلي خلقك تجهّموني، وإن ألجأتني إلي قرابتي حرموني، وإن أعطوني أعطوني قليلاً نكداً، ومنّوا علي طويلاً، وذمّوا كثيراً، فبفضلك اللهمّ فأغنني، وبعظمتك فأنعشني، وبسعتك فابسُط يدي، وبما عندك فاكفني».(2)

لذلك جعل الله تعالي للفقراء الصابرين عنده منزلة ودرجة سامية رفيعة، حتّي ورد في الحديث المتقدّم الذكر: يدخل الفقراء إلي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، ومقداره خمسماءة عام.

وفي جامع الأخبار عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالي منادياً فينادي: أين الفقراء؟ فيقوم عُنق من الناس فيؤمر بهم إلي الجنّة، فيقول خزنة الجنّة: قبل الحساب؟ فيقولون: ما أعطونا شيئاً فيحاسبون عليه، فيقول الله تعالي: صدقوا، عبادي ما أفقرتُكم هواناً بكم، ولكن ادّخرت هذا لكم لهذا اليوم، انظروا وتصفّحوا وجوه الناس فمن أتي إليكم معروفاً

ص: 412


1- بحار الأنوار 69: 47 و 48.
2- إقبال الأعمال لابن طاووس 1: 303، في أدعية الليلة العشرين من شهر رمضان؛ بحار الأنوار 98: 51 و 52.

فخذوا بيده وأدخلوه الجنة».(1) وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: «خير هذه الأمة فقراؤها، وأسرعها تصعّداً في الجنة ضعفاؤها»(2) وقال صلي الله عليه وآله: «اللهمّ أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين»(3) وقال : إنّ لي حرفتين اثنتين فمن أحبّهما فقد أحبّني ومن أبغضهما فقد أبغضني: الفقر والجهاد.(4) وقال صلي الله عليه وآله: «الفقر أزين للمؤمنين من العذار الحسن علي خدّ الفرس».(5)

وسئل عن الفقر فقال: «خزانة من خزائن الله، وسئل عنه ثانياً فقال: كرامة من الله، وسُئل عنه ثالثاً فقال: شيء لا يُعطيه الله إلاّ نبياً مرسلاً أو مؤمناً كريماً علي الله».(6)

مقام الفقراء في الجنة

وقال : «إنّ في الجنّة غرفة من ياقوتة حمراء ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلي نجوم السماء، لا يدخل فيها إلاّ نبيّ فقير أو مؤمن فقير»،(7) وقال صلي الله عليه وآله: يقوم فقراء أمتي يوم القيامة وثيابهم خضر وشعورهم منسوجة بالدرّ والياقوت، وبأيديهم قضبان من نور يخطبون علي المنابر، فيمرّ عليهم الأنبياء فيقولون: هؤلاء من الملائكة، وتقول الملائكة: هؤلاء من الأنبياء، فيقولون: نحن لا ملائكة ولا أنبياء، بل من فقراء أمّة محمد صلي الله عليه وآله، فيقولون: بم نلتم هذه الكرامة؟ فيقولون: لم تكن أعمالنا شديدة، ولم نصم الدهر، ولم نقم الليل، ولكن أقمنا علي الصلوات الخمس، وإذا سمعنا ذكر محمد فاضت دموعنا علي خدودنا.(8)

ص: 413


1- رواه الصدوق في ثواب الأعمال: 166؛ والمجلسي في بحار الأنوار 69: 42.
2- جامع السعادات 2: 63.
3- سنن الترمذي 4: 577/ ح 2352؛ تذكرة الفقهاء للعلاّمة الحلّي 5: 237.
4- مستدرك الوسائل للنوري 11: 14/ ح 12295؛ ذيل تاريخ بغداد لابن النجّار 2: 143.
5- عوالي اللئالي 1: 40.
6- بحار الأنوار 69: 47
7- بحار الأنوار 69: 47.
8- مستدرك الوسائل 10: 318/ ح 12083.

أحاديث في فضل الفقر والفقراء:

وقال صلي الله عليه وآله: كلّمني ربّي فقال: يا محمّد، إذا أحببتُ عبداً أجعل له ثلاثة أشياء: قلبه حزيناً، وبدنه سقيماً، ويده خالية من حطام الدنيا، وإذا أبغضتُ عبداً أجعل له ثلاثة أشياء: قلبه مسروراً، وبدنه صحيحاً، ويده مملوّة من حطام الدنيا (1)، وقال صلي الله عليه وآله: «الناس كلّهم مشتاقون إلي الجنّة، والجنّة مشتاقة إلي الفقراء».(2) وقال صلي الله عليه وآله: «الفقر فخري»(3)، وقال صلي الله عليه وآله: «تحفة المؤمن في الدنيا الفقر»(4)، وقال صلي الله عليه وآله: يؤتي بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالي إليه كما يعتذر الأخ إلي أخيه في الدنيا، فيقول: وعزّتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي، ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة، أخرج يا عبدي إلي هذه الصفوف، فمن أطعمك فيّ أوكساك فيّ يريد بذلك وجهي فخُذ بيده فهو لك _ والناس يومئذ قد ألجمهم العرق _ فيتخلّل الصفوف وينظر من فعل ذلك به ويُدخله الجنة،(5) وقال صلي الله عليه وآله: أكثروا معرفة الفقراء واتّخذوا عندهم الأيادي، فإنّ لهم دولة، قالوا: يا رسول الله وما دولتهم؟ قال: إذا كان يوم القيامة قيل لهم: انظروا إلي من أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخُذوا بيده ثم امضوا به إلي الجنّة.(6)

وقال صلي الله عليه وآله: ألا أخبركم بملوك أهل الجنة؟ قالوا: بلي يا رسول الله، قال: كلّ ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لا يؤبه به، لو أقسم علي الله لأبرّه.(7)

ص: 414


1- بحار الأنوار 69: 48.
2- بحار الأنوار 69: 49.
3- بحار الأنوار 69: 49.
4- الجامع الصغير للسيوطي 1: 502/ ح 3258.
5- رواه المجلسي في بحار الأنوار 78: 193 عن الإمام الصادق عليه السلام باختلاف في اللفظ والمعني.
6- انظر كشف الخفاء للعجلوني 1: 37 – 38.
7- بحار الأنوار 347:36.

ودخل صلي الله عليه وآله علي رجل فقير ولم ير له شيئاً فقال: «لو قُسّم نور هذا علي أهل الأرض لوسعهم».(1)

وقال صلي الله عليه وآله: «إذا أبغض الناس فقراءهم، وأظهروا عمارة الدنيا، وتكالبوا علي جمع الدراهم والدنانير، رماهم الله بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والجناية من ولاة الحكام، والشركة من الأعداء».(2)

وروي الصدوق في الأمالي بسند معتبر عن الصادق عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة، فقير في الدنيا وغنّي في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربّ علي مَ أوقف؟ فو عزّتك إنّك لتعلم أنّك لم تولني ولاية فأعدل فيها أو أجور، ولم ترزقني مالاً فأؤدّي منه حقاً أو أمنع، ولا كان رزقي يأتيني منها إلاّ كفافاً علي ما علمتَ وقدّرت لي. فيقول الله جل جلاله صدق عبدي، خلّوا عنه يدخل الجنّة. ويبقي الآخر حتّي يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، ثم يدخل الجنّة، فيقول له الفقير: ما حبسك؟ فيقول: طول الحساب، مازال الشيء يجيئني بعد الشيء يُغفر لي ثم أسأل عن شيء آخر، حتي تغمّدني الله عزّوجَل برحمته وألحقني بالتائبين، فمن أنت؟ فيقول: أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً، فيقول: لقد غيّرك النعيم بعدي.(3)

***

ص: 415


1- انظر مشكاة الأنوار: 505.
2- رواه المتّقي في كنز العمّال 16: 39/ ح 43841 باختلاف يسير.
3- عدّة الداعي: 106؛ بحار الأنوار 7: 259.

ص: 416

من خطبة له عليه السلام:في الاهتمام بفروع الدين وصلة الرحم والانفاق

اشارة

«إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَي اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَي الْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ وَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ وَ إِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ وَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ وَ حَجُّ الْبَيْتِ وَ اعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ الذَّنْبَ وَ صِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ، وَ صَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ وَ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ وَ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ».

(شرح النهج لابن أبي الحديد مج 2، ص 236، ط الأولي).

***

ضبط الألفاظ الغريبة:

(ذروة الشيء): أعلاه، و(الملّة): الدين، و(الجُنّة): الوقاية، و(يرحضان):يغسلان،و(المثراة): المكثرة وهي محلّ للكثرة والثروة، و(المنسأة) محلّ النسأ وهو التأخير.

***

الشرح: أسباب القرب الي الله

إنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للارشاد إلي بعض أسباب القرب والوسائل التي يتوسّل بها إلي الله سبحانه، وللأمر بالافاضة إلي ذكر الله، وببعض ما يدرك به رضوان الله. ولمّا كانت أسباب الزُلفي والتقرّب كثيرة خصّ عليه السلام أفضلها بالبيان، وهي _ علي ما ذكره _عشرة أمور:

ص: 417

أوّلها: الإيمان بالله

وإليه أشار بقوله: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلي الله سبحانه وتعالي الايمان به وبرسوله». قدّم الإيمان علي غيره لكونه أصلاً بالنسبة إليه، والمراد به هنا التصديق المجرّد عن الإقرار والعمل، بقرينة ذكر كلمة الاخلاص التي هي الاقرار، وسائر العبادات التي هي من باب الأعمال بعده.

الفرق بين الإسلام والإيمان:

والفرق بين الإسلام والإيمان: الإيمان هو التصديق القلبيّ، والإسلام هو التسليم والانقياد الظاهريّ.

والايمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان، وهو أعلي درجة من الاسلام وأرفع.

وفي رواية أبي الصباح الكنانيّ قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيّهما أفضل الايمان أو الإسلام؟ فإنّ من قبلنا يقولون: إنّ الإسلام أفضل من الإيمان. فقال عليه السلام: الإيمان أرفع من الإسلام، قلت: فأوجدني ذلك. قال: ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمّداً؟ قال: قلت: يُضرب ضرباً شديداً. قال: أصبت، فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمّداً؟ قلت يُقتل، قال: أصبت، ألا تري أنّ الكعبة أفضل من المسجد، وأنّ الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة، و كذلك الإيمان يشرك الإسلام، والإسلام لا يشرك الإيمان؟(1)

فإنّ المستفاد من هذه الرواية أنّه كلّ ما وُجد الإيمان وُجد الإسلام ولا عكس.

أمّا من جهة أن الإسلام عبارة عن التصديق بالظاهر _ أعني الاعتراف باللسان _ والايمان عبارة عن التصديق بالباطن، والأول غير مستلزم للثاني، ولذلك كذبّ الله الأعراب بقوله: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» في دعواهم وصف الإيمان لأنفسهم حيث قالوا: «آمَنَّا»،

ص: 418


1- الكافي 2: 26 ح 4.

وذلك لأجل أنّهم لم يكونوا مصدّقين بالباطن ولم يكونوا علي ثقة وطمأنينة فيما أقرّوا به ظاهراً، وأثبت لهم وصف الإسلام بقوله: «وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا»(1) باعتبار شهادتهم بالتوحيد و الرسالة واعترافهم ظاهراً.

ويدلّ علي ما ذكرنا ما رواه في الكافي بإسناده عن سماعة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال عليه السلام: إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان.

فقلت: فصفهما لي. فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله صلي الله عليه وآله، وبه حُقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلي ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهُدي وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والايمان أرفع من الإسلام بدرجة. إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، والإسلام لا يشارك الايمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة.(2)

وعن عجلان بن أبي صالح قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أوقفني علي حدود الايمان. فقال: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، والاقرار بجميع ما جاء من عند الله، والصلوات الخمس، وأداء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، وولاية وليّنا، وعداوة عدوّنا، والدخول مع الصادقين.(3)

فإنّ المراد بالدخول مع الصادقين: الدخول في زمرة آل محمّد عليم السلام والكون معهم، كما قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».(4)

مراتب الإيمان:

جاء في أصول الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن

ص: 419


1- الحجرات: 14.
2- الكافي 2: 25/ ح 1.
3- الكافي 2: 18/ ح 2.
4- التوبة: 119.

القاسم بن بريد، قال: حدّثنا أبو عمر الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أيّها العالِم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئاً إلا به. قلت: وما هو؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلاّ هو أعلي الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظّاً . قال: قلت: ألا تخبرني عن الإيمان، أقولٌ هو وعمل، أم قولٌ بلا عمل؟ فقال عليه السلام: الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّن في كتابه واضح نوره، ثابتة حجّته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه. قال: قلت له: صفه لي جُعلت فداك حتّي أفهمه. قال: الايمان حالات و درجات وطبقات ومنازل: فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزايد رجحانه. قلت: إنّ الايمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف ذاك؟ قال: لأنّ الله تبارك و تعالي فرض الايمان علي جوارح ابن آدم وقسّمه عليها و فرّقه فيها، فليس من جوارحه إلاّ وقد وكّلت من الايمان بغير ما و كّلت به أختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلاّ عن رأيه وأمره، ومنها عيناه اللتان يُبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قِبله، ولسانه الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه، فليس من هذه جارحة إلاّ وقد وكّلت من الإيمان بغير ما وكّلت به أختها بفرض من الله تبارك وتعالي اسمه، وينطق به الكتاب لها ويشهد به عليها، ففرض علي القلب غير ما فرض علي العينين، وفرض علي العينين غير ما فرض علي اللسان، وفرض علي اللسان غير ما فرض علي اليدين، وفرض علي اليدين غير ما فرض علي الرجلين، وفرض علي الرجلين غير ما فرض علي الفرج، وفرض علي الفرج غير ما فرض علي الوجه.

فأمّا ما فرض علي القلب من الايمان: فالاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً، وأنّ محمداً عبده ورسوله، والاقرار بما جاء من عند الله من نبيّ أو كتاب، فذلك ما فرض الله علي القلب من الاقرار والمعرفة، وهو قول عزّوجَل: «إِلَّا مَنْ

ص: 420

أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا»(1) وقال: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(2) وقال: «الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ»(3) وقال: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ».(4)

فذلك ما فرض الله عزّوجَل علي القلب من الاقرار والمعرفة، وهو عمله وهو رأس الايمان.

وفرض الله علي اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقرّ به، قال الله تبارك وتعالي اسمه: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(5) وقال: «قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(6) فهذا ما فرض الله علي اللسان وهو عمله.

وفرض علي السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلي ما حرّم الله، وأن يُعرض عمّا لا يحلّ له مما نهي الله عزّوجَل عنه، والاصغاء إلي ما أسخط الله عزّوجَل، فقال في ذلك:

«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّيٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»(7) ثم استثني الله عزّوجَل موضع النسيان فقال: «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَيٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(8) وقال: «فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»(9) وقال عزّوجَل: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ

ص: 421


1- النحل: 106.
2- الرعد: 28.
3- المائدة: 41.
4- البقرة: 284.
5- البقرة: 83.
6- العنكبوت: 46.
7- النساء: 140.
8- الأنعام: 68.
9- الزمر: 17 و 8.

* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ»(1) وقال: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ»(2) وقال: «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا».(3)

فهذا ما فرض الله علي السمع من الإيمان أن لا يُصغي إلي ما لا يحلّ له، وهو عمله وهو من الإيمان.

وفرض علي البصر أن لا ينظر إلي ما حرّم الله عليه، وأن يُعرض عما نهي الله عنه ممّا لا يحلّ له، وهو عمله وهو من الإيمان، فقال تبارك وتعالي: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»(4) فنهاهم عن أن ينظروا إلي عورات غيرهم، وأن يحفظوا عوراتهم أن يُنظر إليها، وقال تعالي: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»(5) من أن تنظر إحداهن إلي عورة غيرها من النساء، وتحفظ عورتها من أن يُنظر إليها، ثم نظم تعالي ما فرض علي القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخري، فقال: «وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ»(6) يعني بالجلود الفروج والأفخاد، وقال: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا».(7)

فهذا ما فرض الله علي العينين من غضّ البصر عمّا حرّم الله، وهو عملهما وهو من الإيمان.

وفرض علي اليدين أن لا يبطش بهما إلي ما حرّم الله، وأن يبطش بهما إلي ما أمر

ص: 422


1- المؤمنون: 1 – 4.
2- القصص: 55.
3- الفرقان: 72.
4- النور: 30.
5- النور: 31.
6- فصلت: 22.
7- الإسراء: 36.

الله عزّوجَل، وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلوات، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ»(1) وقال: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّيٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّيٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»(2) فهذا ما فرض الله علي اليدين، لأنّ الضرب من علاجهما.

وفرض علي الرجلين أن لا يمشي بهما إلي شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلي ما يُرضي الله عزّوجَل، فقال: «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا»(3) وقال: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».(4)

وقال فيما شهدت الأيدي والأرجل في أنفسهما وعلي أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عزّوجَل به وفرضه عليهما: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَيٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(5) فهذ أيضاً ممّا فرض الله عزّوجَل علي اليدين وعلي الرجلين، وهو عملهما، وهو من الإيمان.

وفرض علي الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(6) وهذه فريضة جامعة علي الوجه واليدين والرجلين، وقال في موضع آخر: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».(7)

ص: 423


1- المائدة: 6.
2- محمّد: 4.
3- الأسراء: 37.
4- لقمان: 19.
5- يس: 65.
6- الحجّ: 77.
7- الجنّ: 18.

وقال فيما فرض علي الجوارح من الطهور والصلاة بها، وذلك أنّ الله عزّوجَل لمّا صرف نبيّه صلي الله عليه وآله إلي الكعبة عن بيت المقدس أنزل الله عزّوجَل عليه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ»(1) فسمّي الصلاة إيماناً، فمن لقي الله عزّوجَل حافظاً لجوارحه، موفّياً كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عزّوجَل عليها، لقي الله عزّوجَل مستكملاً لايمانه وهو من أهل الجنّة، ومن خان في شيء منها أو تعدّي ما أمر الله عزّوجَل فيها، لقي الله عزّوجَل ناقص الإيمان.

قلت: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟ فقال عليه السلام: قول الله عزّوجَل: «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَيٰ رِجْسِهِمْ»(2) وقال: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي».(3)

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل علي الآخر ولاستوت النعم فيه، ولاستوي الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنّة، وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.(4)

الثاني: الجهاد من الوسائل إلي الله سبحانه

(الجهاد) في سبيله فإنه ذروة الإسلام، ولمّا كان ذروة كلّ شيء عبارة عن أعلاه، جعل الجهاد ذروة الإسلام باعتبار رفعته وعلوّ رتبته فيه وتقدّمه علي سائر العبادات البدنيّة، باعتبار اقتضائه قوّة التصديق واليقين بما جاء به خاتم

ص: 424


1- البقرة: 143.
2- التوبة: 124 و 125.
3- الكهف: 13.
4- الكافي 2: 33 - 37/ ح 1.

النبيّين ما لا تقتضيه سائر الطاعات والقربات، وإلاّ لما ألقي المجاهد نفسه إلي المهالك مع غلبة ظنّه بأنه عاطب هالك، ولولا سيف المجاهدين لما اخضرّ للإسلام عود ولما قام له عمود، وهو باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوي ودرع الله الحصينة.

والثالث: كلمة الاخلاص

أي الكلمة المتضمّنة لاخلاص الله تعالي وتنزيهه عن الشركاء والأنداد، وهي كلمة التوحيد _ أعني لا إله إلا الله _ تلك الكلمة الطيّبة المباركة. وعلّل عليه السلام كونها أفضل القرب بقوله: (فإنّها الفطرة) أي الفطرة المعهودة الواردة في الكتاب العزيز، المأمور باتّباعها بقوله تعالي: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا».(1) قال في مجمع البيان: أي اتّبع فطرة الله وهي التوحيد التي فطر الناس _ أي خلق الناس _ عليها ولها وبها، أي لأجلها والتمسّك بها، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «كلّ مولود يُولد علي الفطرة بأنّ الله عزّوجَل خالقه».(2) ولمّا كانت كلمة الإخلاص متضمّنة للفطرة التي هي التوحيد والمعرفة جعلها نفس الفطرة، تسميةً للدالّ علي مدلوله.

والرابع: الصلاة ركن الدين وعموده

(إقام الصلاة فإنها الملّة) قال الطريحي: الملّة في الأصل ما شرع الله لعباده علي ألسنة الأنبياء ليتوصّلوا به إلي جوار الله. وتُستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ولا تكاد توجد مضافة إلي الله ولا إلي آحاد أمّة محمّد صلي الله عليه وآله، بل يقال ملّة محمّد، قال تعالي: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»(3) أي دينه.(4)

ص: 425


1- الروم: 30.
2- تفسير مجمع البيان: 58 – 59.
3- الحجّ: 78.
4- مجمع البحرين 4: 232.

والصلاة هي الركن الأعظم من الدين، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الصلاة عماد الدين(1)، فإنّه لمّا كان قوام الدين و ثباته بها جعلها عماداً له، كما صرّح بذلك في قوله صلي الله عليه وآله: «مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء».(2) وقال صلي الله عليه وآله: «الصلاة عماد الدين، فمن ترك صلاته متعمّداً فقد هدم دينه».(3)

وكيف كان فالآيات والروايات في فضلها وعقوبة تاركها كثيرة فوق حدّ الاحصاء، ونحن نشير إلي بعضها تنبيهاً للغافل.

قال الله تعالي: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَيٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا».(4)

وفي سورة النساء: «فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا».(5)

وفي سورة مريم: «أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا».(6)

وفي سورة العنكبوت: «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَيٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَ».(7)

وفي سورة أرأيت: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ».(8)

أي غافلون غير مبالين بها.

ص: 426


1- أمالي الطوسي: 529؛ عوالي اللئالي 1: 322.
2- بحار الأنوار 79: 218 ح 36.
3- بحار الأنوار 79: 202/ ح 1.
4- الإسراء: 78 و 79.
5- النساء: 103.
6- مريم: 59.
7- العنكبوت: 45.
8- الماعون: 5 و6.

قال علي بن ابراهيم القمي:عني به التاركين، لأنّ كلّ إنسان يسهو في الصلاة.(1) وفي المجمع عن الصادق عليه السلام: هو الترك لها والتواني عنها.(2)

جاء في الخصال للشيخ الصدوق قدس سرّه عن أمير المؤمنين عليه السلام: ليس عمل أحبّ إلي الله عزّوجَل من الصلاة، فلا يشغلكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّوجَل ذمّ أقواماً فقال: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»،(3) يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها.(4)

وفي الكافي بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقربّ به العباد إلي ربّهم وأحبّ ذلك إلي الله عزّوجَل ما هو؟ فقال عليه السلام: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا تري أن العبد الصالح عيسي بن مريم عليه السلام قال: «وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا».(5) (6)

وقال عليه السلام: «أحبّ الأعمال إلي الله عزّوجَل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم السلام، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ فيُسبغ الوضوء ثم يتنحّي حيث لا يراه أنيس، فيُشرف الله عليه وهو راكع أو ساجد، إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود نادي إبليس: يا ويلاه أطاعوا وعصيتُ، وسجدوا وأبيتُ».(7)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «إذا قام العبد المؤمن في صلاة نظر الله إليه _ أو قال: أقبل الله عليه _ حتّي ينصرف، وأقلّته الرحمة من فوق رأسه إلي أفق السماء، والملائكة تحفّه من حوله إلي أفق السماء، وو كّل

ص: 427


1- تفسير القمّي 2: 444.
2- تفسير مجمع البيان 10: 456.
3- الماعون: 6.
4- الخصال 2: 621، في حديث طويل.
5- مريم: 32.
6- الكافي 3: 264/ ح 1.
7- الكافي 3: 264/ ح 2.

الله به ملكاً قائماً علي رأسه يقول: أيّها المصلّي لو تعلم مَن ينظر إليك ومن تناجي ما التفتَّ ولا زلت من موضعك أبداً».(1)

وقال الإمام الرضا عليه السلام: الصلاة قربان كلّ تقيّ.(2)

وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: مَن قبل الله منه صلاة واحدة لم يُعذّبه، و من قبل منه حسنة لم يعذّبه.(3)

وقال عليه السلام: من صلّي ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف وليس بينه وبين الله ذنب.(4)

وقال النبي صلي الله عليه وآله: ما من صلاة يحضر وقتها إلاّ نادي مَلَك بين يدي الناس: أيّها الناس قوموا إلي نيرانكم التي أوقدتموها علي ظهوركم فأطفؤها بصلاتكم.(5)

وقال صلي الله عليه وآله: لا تضيّعوا صلاتكم، فإنّ من ضيّع صلاته حشره الله تعالي مع قارون وفرعون وهامان، وكان حقّاً علي الله أن يُدخله النار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ علي صلاته.(6)

وقال صلي الله عليه وآله: من ترك الصلاة حتّي تفوته من غير عذر فقد حبط عمله. ثم قال صلي الله عليه وآله: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة.(7)

وقال صلي الله عليه وآله: من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخاف عقابها فلا أبالي يموت يهوديّاً أو نصرانياً أو مجوسياً.(8)

ص: 428


1- الكافي 3: 265/ح 5.
2- الكافي 3: 265/ ح6.
3- الكافي 3: 266/ ح 11.
4- الكافي 3: 266/ ح 12.
5- مكارم الأخلاق: 300؛ عوالي اللئالي 1: 353/ ح 8.
6- مسند الرضا عليه السلام: 63/ ح 20؛ بحار الأنوار 79: 202/ ح 2.
7- بحار الأنوار 79: 202/ ح 2.
8- بحار الأنوار 79: 202 – 203/ ح 2.

والأخبار في موضوع الصلاة كثيرة وكثيرة جداً، وفيما أوردناه هنا كفاية للمهتدي المترشد، وإنّما المهم الإشارة إلي علّة وجوب الصلوات الخمس في الأوقات المعيّنة و أسرارها.

أمّا علّة وجوبها في الأوقات المعيّنة:

فقد ورد في الفقيه عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «جاء نفر من اليهود إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فسأله أعلمهم عن مسائل، فكان فيما سأله أنّه قال: أخبرني عن الله عزّوجَل لأيّ شيء فرض هذه الخمس الصلوات في خمسة مواقيت علي أمّتك في ساعات الليل والنهار؟».

فقال النبي صلي الله عليه وآله: «إنّ الشمس عند الزوال لها حلقة _ أي دائرة نصف النهار _ تدخل فيها، فإذا دخلت فيها زالت الشمس، فيسبّح كلّ شيء دون العرش بحمد ربّي جل جلاله، وهي الساعة التي يصلّي فيها عليَّ ربّي، ففرض الله عليّ وعلي أمتي فيها الصلاة وقال: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَيٰ غَسَقِ اللَّيْلِ»(1) وهي الساعة التي يُؤتي فيها بجهنّم يوم القيامة، فما من مؤمن يوافق تلك الساعة أن يكون ساجداً أو راكعاً أو قائمة إلا حرّم الله جسده علي النار».

وأمّا صلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم فيها من الشجرة فأخرجه الله من الجنّة، فأمر الله ذريّته بهذه الصلاة إلي يوم القيامة واختارها لأمّتي، فهي من أحبّ الصلوات إلي الله عزّوجَل، وأوصاني أن أحفظها من بين الصلوات، وأمّا صلاة المغرب فهي الساعة التي تاب الله علي آدم عليه السلام وكان بين ما أكل من الشجرة وبين ما تاب الله عليه ثلاثمائة سنة من أيّام الدنيا، وفي أيام الآخرة يوم كألف سنة ما بين العصر إلي العشاء، فصلّي آدم ثلاث ركعات: ركعة لخطيئته، وركعة لخطيئة حوّا، وركعة التوبته، فافترض الله هذه الثلاث ركعات علي أمّتي، وهي الساعة التي يُستجاب فيها الدعاء، فوعدني الله

ص: 429


1- الإسراء: 78.

أن يستجيب لمن دعاه فيها، وهي الصلاة التي أمرني ربي بها في قوله: «فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ».(1)

وأمّا صلاة العشاء الآخرة: فإنّ للقبر ظلمة وليوم القيامة ظلمة، أمرني الله بهذه الصلاة وأمتي لتنوّر وليُعطيني وأمتّي النور علي الصراط، وما من قدم مشت إلي صلاة العتمة إلاّ حرّم الله جسدها علي النار، وهي الصلاة التي اختارها الله للمرسلين قبلي.

وأمّا صلاة الفجر: فإنّ الشمس إذا طلعت تطلع علي قرن شيطان، فأمرني الله أن أصلّي قبل طلوع الشمس صلاة الغداة وقبل أن يسجد لها الكافر، لتسجد أمّتي لله عزّوجَل، وسرعتها أحبّ إلي الله، وهي الصلاة التي تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.(2)

وعلّة فرض الصلوات الخمس ما رواه الفقيه أيضاً عن الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: «لمّا هبط آدم عليه السلام من الجنة ظهرت به شامة سوداء في وجهه [فطالت] من قرنه إلي قدمه، فطال حزنه وبكاؤه علي ما ظهر به، فأتاه جبرئيل فقال: له ما يُبكيك يا آدم؟ فقال: لهذه الشامة التي ظهرت بي، قال: قُم يا آدم فصلّ، فهذا وقت الصلاة الأولي، فقام فصلّي فانحطّت الشامة إلي عنقه، فجاءه في الصلاة الثانية فقال: يا آدم قم فصلّ، فهذا وقت الصلاة الثانية، فقام فصلّي فانحطّت الشامة إلي سرّته، فجاءه في الصلاة الثالثة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الثالثة. فقام فصلّي فانحطت الشامة إلي رُكبتيه، فجاءه في الصلاة الرابعة، فقام فصلّي فانحطّت الشامة إلي قدميه، فجاءه في الصلاة الخامسة فقال: يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلاة الخامسة. فقام فصلّي فخرج منها، فحمد الله وأثني عليه، فقال جبرئيل: يا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشامة، من صلّي من ولدك في كلّ يوم وليلة خمس صلوات، خرج من ذنوبه كما خرجتَ من هذه الشامة».(3)

ص: 430


1- الروم: 17.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 211 – 214/ ح643؛ بحار الأنوار 9: 294 – 296/ ح 5.
3- من لا يحضره الفقيه 1: 214/ ح 644.

هذا وقد استوفينا موضوع الصلاة في المجلّد الثاني من كتابنا «الجواهر الروحية» تحت عنوان (الصلاة وطرق التقدّم الثلاث)، وفي المجلّد الأول من كتابنا «شرح رسالة الحقوق، وفي كتابنا «علي والأسس التربويّة» فلتُراجع.

الخامس: الزكاة فريضة واجبة

(إيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة) والاتيان بالوجوب بعد الفرض لمحض التأكيد، والاشارة إلي تأكّد وجوبها، نظير قوله سبحانه:

« إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».(1)

فإنّه سبحانه بعد الأمر بها بالجملة الخبريّة التي هي في معني الآنشاء،عقّبه بقوله «فريضة» تأكيدة للوجوب.

قال الزجّاج: فريضة منصوب علي التوكيد، لأنّ قوله: إنّما الصدقات لهؤلاء جارٍ مجري قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة، وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر.

قال رفاعة بن موسي: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: مافرض الله علي هذه الأمة أشدّ من الزكاة، وفيها تهلك عامّتهم.(2)

أو الفريضة من الفرض بمعني القطع والتقدير، ومنه قوله سبحانه: «لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا»(3) أي منقطعاً محدوداً، ويُطلق الفقهاء في باب المواريث علي ذوي السهام المقدّرة ذوي الفرائض باعتبار أنّ سهامهم مقدّرة معيّنة في كتاب الله سبحانه، وعلي هذا فيكون معني قوله عليه السلام: «إنّها فريضة واجبة» أنّها شيء مقدّرمنقطع متّصف بالوجوب.

ص: 431


1- التوبة 60.
2- أمالي الطوسي: 693/ ح 1474؛ بحار الأنوار 93: 22/ ح 51.
3- النساء: 118.

وقد شرّعت الزكاة لحكم كثيرة: منها ما هو نفسي، ومنها ما هو خلقي،ومنها ما هو اجتماعي مثل الصلاة.

الحكم النفسية للزكاة:

إنّ الزكاة عطاء وبذل، ومواساة ومعاونة، والنفس بطبيعتها تهتزّ للكرم، وتفرح بالجود، و تجد الراحة والاطمئنان في مواساة الغير وإدخال السرور عليه، وهذا هو السبب في أنّ بعض الناس يقومون بمساعدة المحتاجين ومعاونة المعوزين دون رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب.

وكما أنّ المعطي يهتزّ للجود والندي، فإنّ الآخذ لا يقلّ عنه فرحاً واغتباطاً. سُئل رسول الله صلي الله عليه وآله عن أفضل الأعمال فقال: «إدخال السرور علي المؤمن؟ قيل: وما إدخال السرور علي المؤمن؟ قال: سدّ جوعته، وفكّ كربته، وقضاء دَينه».(1)

أثرها في الاخلاق:

والانسان يحبّ المال بطبعه، وهذا الحبّ يدعو صاحبه إلي البُخل والحرص والجشع والأنانية والأثرة وسائر الرذائل الخلقيّة. وهذه الصفات تنزل بالانسان إلي مستوي الحيوان، وإلي هذا المعني يشير الرسول صلي الله عليه وآله فيقول: «أدوأ الداء البخل»(2) ويقول: «شرّ ما في المرء شحّ هالع، وجُبن خالع»(3) ولا يتخلّص المرء من هذه الرذائل إلاّ بالتمرين علي البذل والدربة علي العطاء، ومن ثمّ كانت الزكاة ضريبة إجباريّة لا يمكن المرء أن يتخلّص منها. وإلي هذا المعني تشير الآية الكريمة: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا».(4)

ص: 432


1- انظر الكافي 2: 190/ ح7؛ 2: 192/ ح 16. 4: 51/ ح 7.
2- الكامل لابن عديّ 3: 403.
3- مسند أحمد 2: 302.
4- التوبة: 103.

علي أنّ في مغالبة النفس والانتصار عليها بإخراج المال المحبوب لها دليل علي قوّة الايمان و كمال اليقين، وفي الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنه قال: «الصدقة برهان»(1) أي دليل علي قوّة الايمان والارادة... وإذا انتصرت النفس علي هواها ومحبوبها مرّة بعد مرّة أصبحت مذلّلة لحكم العقل، وخاضعة لأوامر الله، وبعيدة عن الاندفاع العاطفيّ.

أسرارها الاجتماعية:

والفقراء يمثّلون الأكثريّة من أفراد المجتمع، ولا بدّ من رعاية هؤلاء المساكين والعجزة والضعفاء والمحافظة علي إنسانيّتهم وكرامتهم، ولا سبيل إلي ذلك إلاّ بإخراج جزء معلوم من أموال الأغنياء حتّي يكفي هؤلاء ليصبحوا أعضاء نافعين ومواطنين صالحين، وقد يكون فيهم من هو أوفر ذكاء وأقدر علي النهوض بالأعمال الجسام إذا وجد ما يقوم بحاجته الضرورية من الطعام والملبس والمأوي. وفي الحديث أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قال: «إنّ الله فرض علي أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنّ الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذّبهم عذاباً أليماً».(2)

وإذا لم يجد الفقراء والضعفاء الكفاية ممّا هو ضروريّ و تعرّضوا للجوع، حملهم ذلك علي الاتيان بكلّ ضرب من ضروب الشرّ للحصول علي الضروري من القوت، فإنّ البطون إذا جاعت دفعت أصحابها إلي الجرائم وارتكاب كلّ موبقة، واعتبرت ذلك عملاً مشروعاً.

وبالاضافة إلي ذلك فإنّ الجماعة التي ينتشر فيها الفقر وينشب أنيابه فيها تشتعل فيها العداوة والبغضاء، فيهتزّ كيان الأمة بما يشيع فيها من تقاطع، وتتعرّض لرواج المذاهب المتطرّفة، ولا سبيل للقضاء علي شرور الفقر إلاّ

ص: 433


1- بحار الأنوار 81: 245.
2- مجمع الزوائد للهيثمي 3: 62.

بإخراج حقّ الفقراء ونصيبهم الذي فرضه الله وجعله أمانة في يد الأغنياء. يقول الله سبحانه: «وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».(1)

ثم إنّ الزكاة تقوّي الصلات بين الأغنياء والفقراء، وتجعل منهم أسرة واحدة متعاونة علي الخير وتنمية المال وتقوية الأواصر.

وهي الضمان الاجتماعي الذي يكفل التوازن بين الطبقات، ويضمن اشتراكيّة سليمة، وهي أفضل وسيلة لتوزيع المال، فهي في الوقت الذي لا يضيق بها الغني ترفع مستوي الفقير إلي حدّ الكفاية و تجنّبه شظف العيش وألم الحرمان.

وبالتالي هي من أعظم دعائم الدين، وأقوي أركان الإسلام، والكلام فيها أيضاً يقع في مقامين:

المقام الأول: في محلّ وجوبها وعقوبة مانعها:

أمّا وجوبها فكفي بذلك أنّ اكثر الآيات المتضمّنة للأمر باقامة الصلاة متضمّنة للأمر بإيتاء الزكاة، فجعل الزكاة تالي الصلاة، والأخبار في هذا المعني فوق حدّ الاحصاء.

عن مبارك العقرقوفي قال: قال أبو الحسن عليه السلام: إنّ الله عزّوجَل وضع الزكاة قوتاً للفقراء وتوفيرا لأموالكم.(2)

وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام لعمّار الساباطيّ: أنت ربّ مال كثير؟ قال: نعم جُعلت فداك. قال: فتؤدّي ما افترض الله عليك من الزكاة؟ قال: نعم. قال: فتخرج الحقّ المعلوم من مالك؟ قال: نعم. قال: فتصل قرابتك؟ قال: نعم. قال: فتصل إخوانك؟ قال: نعم. فقال عليه السلام: يا عمّار إنّ المال يفني، والبدن يبلي، والعمل يبقي، والديّان حيّ لا يموت، يا عمار إنّه ما قدّمت فلن يسبقك، وما أخّرت فلن يلحقك.(3)

ص: 434


1- الحديد: 7.
2- الكافي 3: 498/ ح6.
3- الكافي 3: 501/ ح 15.

وقال عليه السلام: إنّما وُضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغني بما فرض الله له، إنّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء، وحقيق علي الله أن يمنع رحمته ممّن منع حقّ الله في ماله، وأقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق أنّه ما ضاع مال في برّ ولا بحر إلاّ بترك الزكاة، وما صيد في برٍّ ولا بحر إلاّ بتركه التسبيح في ذلك اليوم، وإنّ أحبّ الناس إلي الله أسخاهم كفّاً، وأسخي الناس من أدّي زكاة ماله ولم يبخل علي المؤمنين بما افترض الله لهم في ماله.(1)

وكتب الإمام الرضا عليه السلام إلي محمّد بن سنان فيما كتب إليه من جواب مسائله: إنّ علّة الزكاة من أجل قوت الفقراء، وتحصين أموال الأغنياء، لأنّ الله كلّف أهل الصحّة القيام بشأن أهل الزمانة والبلوي، كما قال تعالي: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ».(2) (3)

في أموالكم: إخراج الزكاة، وفي أنفسكم: توطين النفس علي الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم الله والطمع في الزيادة مع ما فيه من الرفادة والرأفة والرحمة لأهل الضعف، والعطف علي أهل المسكنة والحثّ لهم علي المواساة وتقوية الفقراء والمعونة لهم علي أمر الدين، وموعظة لأهل الغني و عبرة لهم ليستدلّوا علي فقراء الآخرة بهم ومالهم عن الحثّ في ذلك علي الشكر لله لما خوّلهم وأعطاهم، والدعاءوالتضرّع والخوف من أن يصيروا مثلهم في أمور كثيرة في أداء الزكاة والصدقات وصلة الأرحام واصطناع المعروف.

قال الإمام موسي بن جعفر عليه السلام: من أخرج زكاة ماله تامّة فوضعها في موضعها لم يُسأل من أين اكتسب ماله.(4)

ص: 435


1- من لا يحضره الفقيه 2: 7/ ح 1579.
2- آل عمران: 186.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 8/ ح 1580.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 9/ ح 1581.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّما جعل الله الزكاة في كلّ ألف خمسة وعشرين درهماً، لأنّ الله تعالي خلق الخلق فعلم غنيّهم وفقيرهم وقويّهم وضعيفهم، فجعل من كلّ ألف خمسة وعشرين مسكيناً [و] لولا ذلك لزادهم الله لأنّه خالقهم وهو أعلم بهم».(1)

أمّا عقوبة تارك الزكاة ومانعها فقد قال الله تعالي في سورة آل عمران: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(2) وفي سورة براءة «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَيٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَيٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».(3)

ولا يخفي ما في الآيتين من وجوه الحثّ علي الانفاق والوعيد علي الإمساك.

أمّا الآية الأولي فجهات الانذار فيها غير خفيّة: الأولي: أنّه سبحانه نهي عن حسبان الممسكين إمساكهم خيراً لهم ونفعاً في حقّهم، وأكّد ذلك بالنون المفيدة للتأكيد. الثانية: أنّه وصف الممسكين بصفة البخل وهو صفة ذمّ، الثالثة: أنّ ما بخلوا به هو ممّا آتاهم الله، فاللازم عليهم أن يتصرّفوا فيه بما أمر الله ويصرفوه إلي ما أراده الله. الرابعة: أنّ ذلك شرّ لهم وضرّ في حقّهم. الخامسة: أنّهم يُطَّوقون ما بخلوا به يوم القيامة.

عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: ما من ذي ذهب أو فضّة يمنع زكاة ماله إلاّ حبسه الله يوم القيامة بقاع قرقر، وسلّط عليه شجاعاً أقرع يريده وهو يحيد عنه، فإذا رأي أنّه لا يتخلّص منه أمكنه من يده فقضمها كما يقضم الفجل، ثم يصير طوقاً في عنقه،

ص: 436


1- من لا يحضره الفقيه 2: 9/ ح 1582.
2- آل عمران: 180.
3- التوبة: 34 و 35.

وذلك قوله تعالي: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1) وما من ذي إبل أو بقر أو غنم يمنع زكاة ماله إلاّ حبسه الله يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه كلّ ذات ظلف بظلفها، وينهشه كلّ ذات ناب بنابها، وما من ذي نخل أو كرم أوزرع يمنع زكاته إلاّ طوّقه الله ربعة أرضه علي سبع أرضين إلي يوم القيامة.(2)

وفي الكافي باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّوجَل «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فقال: يا محمد ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوّقاً في عنقه ينهش من لحمه حتي يفرغ من الحساب، ثم قال: هو قول الله عزّوجَل: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعني ما بخلوا به من الزكاة.(3)

السادسة: أنّ ميراث السماوات والأرض كلّه لله سبحانه، بمعني أنّه وحده يبقي وغيره يفني، ويبطل مُلك كلّ مالك إلاّ ملكه، فإذا كان المال في معرض الفناء والزوال فأجدر بالعاقل أن لا يبخل بالانفاق، ولا يحرص علي الامساك، فيكون وزره عليه ونفعه لغيره.

السابعة: أنّه سبحانه خبير بما يعمله المكلّفون، بصير بمخالفتهم لأمره، لا يعزب عن علمه بخلهم بالانفاق ومنعهم عن أهل الاستحقاق، فيُذيقهم وَبال أمرهم عند المساق إذا التّفت الساق بالساق.

وأما الآية الثانية: فقد روي الطبرسيّ عن النبيّ صلي الله عليه وآله أنه لمّا نزلت هذه الآية قال صلي الله عليه وآله: تبّاً للذهب والفضة _ يكرّرها ثلاثاً _ فشقّ ذلك علي أصحابه، فسأله عمر: أيّ المال نتّخذ؟

ص: 437


1- آل عمران: 180.
2- الكافي 3: 505/ ح 19؛ من لا يحضره الفقيه 2: 9 –10/ ح1583.
3- الكافي 3: 504/ 10؛ بحار الأنوار 7: 196/ ح 65.

فقال: «لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وزوجة مؤمنة تُعين أحدكم علي دينه».(1)

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: ما زاد علي أربعة آلاف فهو كنز، أدّي زكاته أو لم يؤدّ.(2)

وعن الصادق عليه السلام: ما أعطي الله عبداً ثلاثين ألفاً وهو يريد به خيراً. وقال: ما جمع رجل قط عشرة ألف درهم من حلّ، وقد جمعهما الله لأقوام، إذا أعطوا القوت ورزقوا العمل الصلاح، فقد جُمعت لهم الدنيا والآخرة.(3)

ومحصّل المعني أنّ الذين يجمعون المال ولا يؤدّون زكاتهم فأخبرهم بعذاب موجع، وللتعبير عن ذلك بلفظ البشارة مبنيّ علي التهكّم، لأنّ من يكنز الذهب والفضّة فإنّما يكنزهما لتحصيل الوجاهة بهما يوم الحاجة والتوصّل إلي الفرج يوم الشدّة، فقيل له: هذا هو الوجاهة والفرج، كما يقال: تحيّتهم ليس إلاّ الضرب، وإكرامهم ليس إلاّ الشتم.

«يوم يُحمي عليها» أي يوقد علي الكنوز «فِي نَارِ جَهَنَّمَ» حتي تصير ناراً «فتكوي بها» أي بتلك الأموال والكنوز التي منعوا حقوقها الواجبة.

كوي الجباه والجنوب والظهور:

«جباههم وجنوبهم وظهورهم» وتخصيص هذه الأعضاء بالكيّ بوجوه: أحدها: أنّ منظورهم بكسب الأموال وترك الانفاق ليس إلاّ الأغراض الدنيويّة، وهو حصول الوجاهة لهم عند الناس، و حصول الشبع لهم بأكل الطيّبات فينفتح منه الجنبان، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها علي ظهورهم، فوقع الكيّ علي هذه الأعضاء جزاء لأغراضهم الفاسدة.

ص: 438


1- تفسير مجمع البيان 5: 47.
2- تفسير مجمع البيان 5: 47؛ بحار الأنوار 8: 243.
3- مشكاة الأنوار: 474؛ بحار الأنوار 69/ 66 / ح 23.

الثاني: أنّ الجباه كناية عن مقاديم البدن، والجنوب عن طرفيه، والظهور عن المأخير، والمراد به أنّ الكيّ يستوعب تمام البدن.

الثالث: أنّ الجبهة محلّ السجود فلم يقم فيه بحقّه، والجنب مقابل القلب الذي لم يُخلص في معتقده، والظهر محلّ الأوزار، قال: «يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَيٰ ظُهُورِهِمْ».(1)

الرابع: أنّ هذه الأعضاء مجوّفة وليست بمُصمتة، وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم التألّم بسبب وصول أدني أثر إليها، بخلاف سائر الأعضاء.

الخامس: وهو أحسن الوجوه وألطفها: أنّ صاحب المال إذا رأي الفقير أولاً قبض جبهته وعبس وجهه، وإذا دار الفقير يوليه وجهه، وإذا دار يوليه ظهره.

قصة تحكي عن بعض مشاهد القيامة:

وتأتي هنا قصّة قصيرة يصوّرها سيّد قطب في كتابه (مشاهد القيامة) بين موقف الغني يوم القيامة الذي لم يشر من نفسه بماله ابتغاء مرضاة الله، ولم يتخلّص من شوائب الدنيا، وبين الفقير الذي أنس بما قسم الله له وارتضاه.

والقصة هكذا نصّها:

«تطلّع (ساتني) ذات يوم من أعلي داره فرأي جنازة رجل غنيّ تسير من ممفيس إلي الجبل في موكب حافل بالناديات والمشيّعين ومظاهر التكريم، ثم رأي في الوقت نفسه جنازة رجل فقير مُدرَج في حصير، ولا موكب معه ولا مشيّعين، فالتفت إلي ولده وقال إنّه يرجو أن يكون له في الدار الآخرة مصير كمصير ذلك الغني لا كمصير هذا الفقير، فقال (سينوزيريس): إنّه _ بالعكس _ يرجو له مثل مصير الفقير لا مثل مصير الغني.

فامتعض الوالد ولحظ الولد ذلك، فأخذ بيد أبيه بريه مصير الاثنين،... وذهب بأبيه إلي مكان في جبل ممفيس، فنزل به إلي الدار التي يُحاسب فيها

ص: 439


1- الأنعام: 31.

الأموات (تسمّي هذه الدار الجحيم)، فإذا هما في سبع قاعات واسعة مملوءة بناس من جميع الطبقات، فاجتازا ثلاثاً من هذه الدور، ثم دخلا الرابعة، فإذا ناس يذهبون ويجيئون، بينما حمير تأكل من خلفهم، ثم ناس يثبون علي طعام معلّق فوق رؤوسهم فلا يُدركونه، فيثبون ويثبون، بينما حفّارون يحفرون تحت أقدامهم ليزيدوا مسافة ما بينهم وبينه.

ثم دخلا القاعة السادسة فوجدا أرواحاً من الأبرار لكلّ منها مكان تقيم فيه، بينما في الباب أرواح متّهمة، فهي واقفة تتضرّع، ثم رأي رجلاً منطرحاً تحت الباب علي ظهره، و محور هذا الباب مركّز في عينه اليمني يدور عليها كلّما فُتح أو أقفل، وهو لا ينفكّ يُفتح ويقفل، والرجل لا ينفكّ يصيح من الألم.

ثم دخلا القاعة فوجدا آلهة الحساب جالسين والمنادين ينادون قضايا الأموات واحدة بعد أخري، والإله الكبير (أوزريس) جالس علي عرش من الذهب متوّج بالتاج ذي الريشتين، بينما الإله (أنوبيس) واقف إلي يساره، والإله (توت) إلي يمينه، والآلهة الآخرون الذين يتألّف منهم مجلس دار الحساب واقفون يميناً ويساراً، والميزان منصوب يزن السيّئات والحسنات، فمن رجحت سيّئاتُه حسناته ألقي إلي الوحش (إماييت) يفترسه، ومن رجحت حسناتُه سيّئاته قيد إلي حيث الآلهة، وصعدت روحه إلي السماء، أما من تعادلت حسناته وسيّئاته، فلا يفترسه الوحش ولا ينضمّ إلي الآلهة، بل يُعيّن للخدمة.

ونظر الفتي فرأي علي مقربة من (أوزريس) رجلاً حسن البزّة مرفوع المنزلة، فالتفت إلي أبيه وقال: أتري هذا الجالس بجانب (أوزريس)؟ إنه الفقير الذي شاهدته مدرجاً في حصير وليس في جنازته أحد من المشيّعين، لقد جيء به إلي هنا، ثم وُزنت سيئاته وحسناته فرجحت الثانية الأولي، وكان الإله (توت) قد سجّل له في سجلّه أنه لم يتمتّع علي الأرض بسعادة كافية، فأمر (أوزريس) أن يُعطي كلّ ما كان مجهّزاً به ذلك الغني الذي رأيت جنازته مشيّعة بمظاهر التكريم، وأن تُرفع منزلته بين الآلهة.

ص: 440

أما الغني فقد وُزنت سيئاته وحسناته فوجد الأولي ترجع الثانية، فقيد إلي الجزاء، وهو الذي رأيت محور الباب يدور علي عينه اليمني، وسمعته يصيح من الألم...

ولهذه القصّة قيمتها العظمي في الكشف عن تصوّرات عالم الآخرة، والدقّة في الجزاء الذي يناله الأفراد دون النظر إلي مظاهرهم في الدنيا من مال أو جاه.

***

وقوله: «هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» أي يقال لهم في حالة الكيّ: هذا هو الذي ادّخرتموه لأنفسكم، وهو تبكيتٌ لهم بأنّ المال الذي بخلتم بإنفاقه وادّخرتموه لتنتفعوا به صار عذابكم به، فكأنّكم اكتنزتموه ليُجعل عقاباً لكم «فذوقوا» عقاب «ما كنتم تكنزون» به لا بغيره.

قال الطبرسيّ صاحب التفسير: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ما من عبد له مال لا يؤدّي زكاته إلاّ جُمع يوم القيامة صفائح يُحمي عليها في نار جهنم، فتُكوي بها جبهته و جنباه وظهره حتّي يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثم يري سبيله إمّا إلي الجنّة وإمّا إلي النار.(1)

وروي ثوبان عن النبيّ صلي الله عليه وآله: «من ترك كنزاً مثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان(2) يتبعه، فيقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركتَ بعدك، فلا يزال يتبعه حتي يُلقمه يده فيقضمها ثم يتبعه سائر جسده».(3)

المقام الثاني: في أسرار الزكاة ودقائق بذل المال، وهي أمور:

الأوّل: أنّ المؤمن الموحّد إذا أقر بالتوحيد باللسان لزم إذعانه به بالجنان، ومعني التوحيد إفراد المعبود بالمحبوبية، وإخلاص القلب عمّا سواه والفراغ عن كلّ ما عداه،

ص: 441


1- تفسير مجمع البيان 5: 48.
2- زبيبتان: نقطتان سوداوان فوق عيني الحيّة.
3- تفسير مجمع البيان 5: 48.

فإنّ المحبّة أمر لا يتقبّل الشركة، والأموال محبوبة عند الخلائق لأنّها آلة تمتّعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أنّ فيه لقاء المحبوب، فجعل الله بذل المال امتحاناً لهم وتصديقاً لدعوتهم المحبّة لله سبحانه.

أصناف الناس:

والناس في ذلك ثلاثة أصناف: [الأول] صنف صدّقوا التوحيد وحذفوا عن ساحة قلوبهم ما سوي المعبود، وبذلوا أموالهم من غير تعرّض بوجوب الزكاة، ولم يدّخروا لأنفسهم ديناراً ولا درهماً، ولم يتركوا بعدهم صفراء ولا بيضاء، وهم الذين قال الله سبحانه في حقّهم:

«وَيُؤْثِرُونَ عَلَيٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»،(1) «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَيٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا».(2)

جاء في الكافي بإسناده عن محمد بن سنان، عن المفضّل قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجل: في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال عليه السلام له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال: أريدهما جميعاً. فقال عليه السلام: أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون، وأمّا الباطنة فلا تستأثر علي أخيك بما هو أحوج إليه منك.(3)

الصنف الثاني:

وصنف درجتهم دون درجة الصف السابق، وهم الممسكون أموالهم، المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادّخار والانفاق علي نفسه وعياله الواجب النفقة بقدر الحاجة، وصرف الفاضل إلي وجوه البرّ مهما ظهر، وهؤلاء لا يقتصرون علي مقدار الزكاة، وهم الذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم.

ص: 442


1- الحشر: 9.
2- الإنسان: 8.
3- الكافي 3: 500/ ح13.

جاء في أصول الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام ومعنا بعض أصحاب الأموال، فذكروا الزكاة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنّ الزكاة ليس يُحمَد بها صاحبها وإنّما هو شيء ظاهر، إنما حقن بها دمه وسُمّي بها مسلماً، ولو لم يؤدّها لم تقبل له صلاة، وإنّّ عليكم في أموالكم غير الزكاة. فقلت: أصلحك الله وما لنا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال عليه السلام: سبحان الله! أما تسمع الله عزّوجَل يقول في كتابه: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».(1) قال: ماذا الحقّ المعلوم الذي علينا؟ قال عليه السلام: هو الشيء يعمله الرجل في ماله، يُعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلّ أو كثر غير أنه يدوم عليه.(2)

وعن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّوجَل: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» أهو سوي الزكاة؟ فقال عليه السلام: هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الألف والألفين والثلاثة آلاف والأقل والأكثر فيصل به رحمه ويحمل به الكَلّ عن قومه.(3)

وعن القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ رجلاً جاء إلي أبي علي بن الحسين عليه السلام فقال له: أخبرني عن قول الله عزّوجَل: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(4) ما هذا الحقّ المعلوم؟ فقال له علي بن الحسين: الحقّ المعلوم الشيء يُخرجه الرجل من ماله ليس من الزكاة ولا من الصدقة المفروضين. قال: فإذا لم يكن من الزكاة ولا من الصدقة، فما هو؟ فقال عليه السلام: هو الشيء يُخرجه الرجل من ماله إن

ص: 443


1- المعارج: 24 و 25.
2- الكافي 3: 499/ ح 9.
3- الكافي 3: 499 – 500/ ح10.
4- المعارج: 24 و 25.

شآء أكثر وإن شاء أقلّ علي قدر ما يملك. فقال له الرجل: فما يصنع به؟ قال: يصل به رحماً، ويقويّ به ضعيفاً، ويحمل به كلاًّ، أو يصل به أخاً له في الله أو لنائبة تنوبه، فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.(1)

هذا والمحروم: الرجل الذي ليس بعقله بأس ولم يُبسط له في الرزق.

والصنف الثالث: الذين يقتصرون علي أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، وهي أدون الرتب، وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وفرط ميلهم إليه وضعف حبّهم للآخرة.

السرّ الثاني: من أسرار الزكاة أنّها مطهرة من صفة البخل، وهي صفة مذمومة من جنود النفس، قال سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(2) وقال: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».(3)

الثالث: أنّ شكر النعمة واجب عقلاً و شرعاً، وهو _ علي ما قاله العلماء _ عبارة عن صرفها إلي طلب مرضاة المنعم. فالعبادات البدنيّة شكر النعمة البدن، والعبادات الماليّة شكر لنعمة المال، فيحكم العقل بوجوبها لكونها شكراً للمنعم، وما أخسّ من ينظر إلي الفقير وقد ضيّق عليه الرزق وامتقع لونه من مسّ الجوع ثمّ لا تسمح نفسه أن يؤدّي شكر الله تعالي علي إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العُشر من ماله.

قال الإمام الصادق عليه السلام: ومن أدّي ما فرض الله عليه فقد قضي ما عليه، وأدّي شكر ما أنعم الله عليه في ماله، إذا هو حمده علي ما أنعم الله عليه فيه بما فضّله به من السعة علي غيره، ولما وفّقه لأداء ما فرض الله عزّوجَل عليه وأعانه عليه.(4)

ص: 444


1- الكافي 3: 500/ ح 11.
2- التوبة: 103.
3- الحشر: 9؛ التغابن: 16.
4- بحار الأنوار 93: 10/ ح 8.

الرابع: أنّ النفس الناطقة لها قوّتان: نظريّة وعمليّة، فالقوّة النظريّة كمالها في التعظيم لأمر الله، والقوّة العمليّة كمالها في الشفقة علي خلق الله، فأوجب الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتّصافه بكونه محسناً إلي الخلق، ساعياً في إيصال الخيرات إليهم، دافعاً للآفات عنهم.

الخامس: أنّ المال سُمّي مالاً لميل كلّ أحد إليه، وهو في معرض التلف والزوال، فهو غاد ورائح، وإذا أنفق في مصارف الخير ووجوه الله بقي بقاء لا يزول، لأنّه يوجب الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وإنّ لسان الصدق في الناس خير له من المال يورثه غيره، فإنّ المراد بلسان الصدق هو الذكر الجميل، قال حاتم الطائي لامرأته ماويّة:

أماويَ إن المال غادٍ ورائح *** ويبقي من المال الأحاديثُ والذِّكرُ

لقد علم الأقوام لو أنّ حاتماً *** أراد ثراء المال كان له وفر(1)

السادس: أنّ كثرة المال موجبة لحصول الطغيان والانحراف عن سبيل الرحمن كما قال عزّ من قائل: «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَيٰ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَيٰ»(2) فأوجب الله الزكاة لتقليل سبب الطغيان وجبراً لمفسدته، إلي كثير وكثير من الأسرار التي يستنبطها العقل بأدني توجّه، والله الهادي إلي الخيرات.

***

السادس: الصيام والنجاة من النار

«صوم شهر رمضان فإنّه جُنّة من العقاب» ووقاية من النار يوم الحساب، وإنّما خصّه عليه السلام، بهذه العلّة _ مع كون سائر العبادات كذلك _ لكونه أشدّ وقاية من غيره.

بيان ذلك: أنّ استحقاق الانسان للعقوبة إنّما هو بقربه من الشيطان وإطاعته له

ص: 445


1- أمالي المرتضي 4: 63.
2- العلق: 7 و8.

وللنفس الأمّارة، وبشدّة القرب وضعفه يتفاوت العقاب شدّة وضعفاً، وبكثرة الطاعة وقلّتها يختلف العذاب زيادة ونقصاناً، وسبيل الشيطان علي الانسان ووسيلته إليه إنّما هي الشهوات، وقوّة الشهوة بالأكل والشرب، فبالجوع والصوم تضعف الشهوة وتنكسر صولة النفس وينسدّ سبيل الشيطان وينجي من العقوبة والخذلان، كما قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم، فضيّقوا مجاريه بالجوع.(1)

قال الغزالي في «إحياء علوم الدين» في تعداد فوائد الجوع: ومن أكبر الفوائد كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء علي النفس الأمّارة بالسوء، فقلّة الأكل يضعف كلّ شهوة وقوّة، وإنّما السعادة كلّها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، و كما أنّك لا تملك الدابّة الجموح إلاّ بضعف الجوع، فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت، فكذلك النفس، وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد، ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله. وبذلك يظهر كون الصوم جنّة من النار ووقاية من غضب الجبّار، وأنّ فيه من إذلال النفس وقهر إبليس وكسر الشهوات ما ليس في سائر العبادات. هو واجب بالضرورة من الدين وإجماع المسلمين ونصّ الكتاب المبين، قال سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَيٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَيٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَيٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَيٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».(2)

ص: 446


1- عوالي الئالي 1: 273/ ح 97؛ بحار الأنوار 60: 332.
2- البقرة: 183 – 185.

قال الإمام الصادق عليه السلام في هذه الآية: «لذّة ما في النداء أزال تعب العبادة والعناء»(1) وفي قوله تعالي: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» إشارة إلي ما ذكرنا سابقاً من أنّ الصوم جنّة ووقاية، به يُتّقي من العذاب ويُنجي من العقاب.

والمستفاد من الآية الشريفة أنّ الصوم كان مكتوباً مفروضاً علي الأمم السابقة، كما أنّه مكتوب علي الأمّة المرحومة.

ولا خلاف في ذلك، وإنّما الخلاف في أنّ الصوم المفروض علينا بهذه الكيفيّة المخصوصة في وقته وعدده هل كان في سائر الأمم كذلك؟

ذهب بعض العامّة إلي ذلك علي ما حكاه في مجمع البيان، حيث روي فيه عن الشعبي والحسن أنهما قالا: إنّه فُرض علينا صوم شهر رمضان كما كان فرض صوم شهر رمضان علي النصاري، وكان يتّفق ذلك في الحرّ الشديد والبرد الشديد، فحوّلوه إلي الربيع وزادوا في عدده.(2)

وذهب آخرون إلي أنّ التشبيه في الآية بين فرض صومنا وفرض صوم من تقدّمنا من الأمم، أي كُتب عليكم صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيّام، وليس في ذلك تشبيه عدد الصوم المفروض علينا ولا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم ولا وقته.

هذا هو الأقوي، ويدلّ عليه صريحاً ما رواه الصدوق عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث النخعي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه علي أحد من الأمم قبلنا، فقلت له: يقول الله عزّوجَل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»(3) قال عليه السلام: إنّما فرض الله صيام شهر رمضان علي الأنبياء دون الأمم، ففضّل الله به هذه الأمّة وجعل صيامه فرضاً علي رسول الله صلي الله عليه وآله وعلي أمّته.(4)

ص: 447


1- تفسير مجمع البيان 2: 6؛ تفسير الصافي 1: 218.
2- تفسير مجمع البيان 2: 6.
3- البقرة: 183.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 99/ ح 1844.

والكلام بعدُ في علّة وجوب الصوم وفضله وفضل صوم شهر رمضان خصوصاً والآداب التي يكون عليها الصائم

أمّا علّة وجوب الصوم:

فقد جاء في الفقيه: سأل هشام بن الحكم أبا عبد الله عليه السلام عن علّة الصيام، فقال عليه السلام: «إنّما فرض الله الصيام ليستوي به الغنيّ والفقير، وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله أن يسوّي بين خلقه وأن يُذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليرقّ علي الضعيف ويرحم الجائع».(1)

وكتب أبو الحسن علي بن موسي الرضا عليه السلام إلي محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: «علّة الصوم عرفان مسّ الجوع والعطش ليكون ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً، ويكون ذلك دليلاً له علي شدائد الآخرة، مع ما فيه من الإنكسار له عن الشهوات، واعظاً له في العاجل، دليلاً علي الآجل، ليعلم شدّة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة».(2)

وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: جاء نفر من اليهود إلي رسول الله صلي الله عليه وآله فسأله أعلمهم عن مسائل، فكان فيما سأله أنه قال: لأيّ شيء فرض الله الصوم علي أمّتك بالنهار ثلاثين يوماً، وفرض علي الأمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي صلي الله عليه وآله: «إنّ آدم عليه السلام لمّا أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففرض الله علي ذرّيته ثلاثين يوماً الجوع والعطش، والذي يأكلونه بالليل تفضّل من الله عليهم، وكذلك كان علي آدم، ففرض الله عزّوجَل ذلك علي أمّتي، ثم تلي هذه الآية: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ».(3)

ص: 448


1- من لا يحضره الفقيه 2: 73/ ح 1766؛ تفسير مجمع البيان 2: 7.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 73/ ح 1767.
3- البقرة: 183 و 184.

قال اليهودي: صدقت يا محمد، فما جزاء من صامها؟ فقال النبي صلي الله عليه وآله: ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتساباً إلاّ أوجب الله له سبع خصال: أوّلها: يذوب الحرام من جسده، والثانية: يقرب من رحمة الله، والثالثة: يكون قد كفّر خطيئة أبيه آدم، والرابعة: يهوّن الله عليه سكرات الموت، والخامسة: أمان من الجوع والعطش يوم القيامة، والسادسة: يعطيه الله براءة من النار، والسابعة:

يُطعمه الله من طيّبات الجنّة. قال: صدقت يا محمد.(1)

وأما فضل الصوم مطلقاً:

ففي الكافي والفقيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: بُني الإسلام علي خمسة أشياء: علي الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية.(2)

وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: «الصوم جُنّة من النار».(3)

وعنه صلي الله عليه وآله أنه قال لأصحابه: «ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلي يا رسول الله، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة علي العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه، ولكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصوم».(4)

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «أوحي الله إلي موسي: ما يمنعك من مناجاتي؟ فقال: يارب أجلّك عن المناجاة لخلوف فم الصائم، فأوحي الله إليه: يا موسي لخلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك».(5)

ص: 449


1- من لا يحضره الفقيه 2: 74/ ح 1769.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 74/ ح 1770؛ الكافي 2: 18/ ح 1.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 74/ ح 1771؛ الكافي 2: 19/ح5.
4- من لايحضره الفقيه 2: 75/ ح 1774؛ الكافي 4: 62/ ح 2.
5- من لا يحضره الفقيه 2: 76/ ح 1779؛ الكافي 4: 65/ ح13.

وعنه عليه السلام قال: اللصائم فرحتان: فرحة حين إفطاره، وفرحة حين لقاء ربّه».(1)

وقال عليه السلام: «من صام الله يوماً في شدّة الحرّ فأصابه ظمأ و كّل الله به ألف ملك يمسحون وجهه ويبشّرونه، حتّي إذا أفطر قال الله عزّوجَل: ما أطيب ريحك وروحك، يا ملائكتي اشهدوا أنّي قد غفرت له».(2)

وقال عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالي يقول: «الصوم لي وأنا أجزي عليه».(3)

وتخصيصه من بين سائر العبادات مع كون جميعها لله سبحانه من جهة مزيد اختصاصه به تعالي، أمّا لأجل أنّ الصوم عبادة لم يُعبد بها غير الحقّ سبحانه، بخلاف سائر العبادات والركوع والقيام والقربان ونحوها، فإنّها ربّما يُؤتي بها للمعبودات الباطلة كما يتعبّد بها للمعبود بالحقّ، وأمّا الصوم فلم يُتعبّد به إلاّ لله سبحانه وتعالي، أو لأنّ الصوم عبادة نقيّة بعيدة عن الرياء وليست مثل سائر العبادات التي تعلّقها بالجوارح والأعضاء الظاهرة غالباً، ولذلك لم تسلم من الشرك الخفي والرياء كثيراً.

وأما فضل شهر رمضان وفضل صومه:

ففي الوسائل عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «أعطيت أمّتي في شهر رمضان خمسأ لم يعطها الله أمة نبي قبلي: إذا كان أول يوم منه نظر الله لهم، فإذا نظر الله عزّوجَل إلي شيء لم يعذّبه بعدها، و خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة كلّ يوم وليلة منه، ويأمر الله عزّوجَل جنّته فيقول: تزيّني لعبادي المؤمنين يوشك أن يستريحوا من نصب الدنيا وأذاها إلي جنّتي و كرامتي، فإذا

كان آخر ليلة منه غفر الله عزّوجَل لهم جميعاً».(4)

ص: 450


1- من لا يحضره الفقيه 2: 76/ ح 1780؛ الكافي 4: 65/ ح15.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 76/ ح 1781؛ الكافي 4: 64/ ح 8.
3- الكافي 4: 63/ ح6.
4- وسائل الشيعة 10: 317/ ح 13501.

وعن علي بن موسي الرضا عليه السلام عن آبائه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: رجب شهر الله الأصبّ، و شهر شعبان تتشعّب فيه الخيرات، وفي أول يوم من شهر رمضان تُقَلّ المردة من الشياطين ويُغفر في كلّ ليلة لسبعين ألفاً، فإذا كان ليلة القدر غفر الله لمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلي ذلك اليوم، إلاّ رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عزّوجَل: أنظِروا هؤلاء حتّي يصطلحوا.(1)

وعن علي بن الحسين عليه السلام كان يقول: «إنّ لله عزّوجَل في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الافطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلٌّ قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق مثل ما أعتق في جميعه».(2)

وعن الصادق عليه السلام قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن جدّه عن رسول الله صلي الله عليه وآله في حديث قال: «من صام رمضان، وحفظ فرجه ولسانه، و كفّ أذاه عن الناس غفر الله له ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر، وأعتقه من النار دار القرار، وقبل شفاعته بعدد رمل عالج من مذنبي أهل التوحيد».(3)

وفي العيون باسناده عن حسن بن فضّال، عن أبيه، عن الرضا، عن آبائه، عن علي عليه السلام: أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله خطب ذات يوم فقال: «أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وهو شهر دُعيتم فيه إلي ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفّقكم الصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ من حُرم غُفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا علي فقرائكم ومساكينكم،

ص: 451


1- وسائل الشيعة 10: 315/ ح 13495.
2- وسائل الشيعة 10: 317/ ح 13502.
3- وسائل الشيعة 10: 243/ ح 13321.

ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصِلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغُضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا علي أيتام الناس يُتحنّن علي أيتامكم، وتوبوا إلي الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلوتكم، فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عزّوجَل فيها إلي عباده، يُجيبهم إذا ناجوه، ويُلبّيهم إذا نادوه، ويُعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفار كم، وظهور كم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله تعالي أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين والساجدين، وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

أيّها الناس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عِتق نسمة ومغفرة لما مضي من ذنوبه، فقيل: يا رسول الله فليس كلّنا نقدر علي ذلك، فقال صلي الله عليه وآله: اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة، اتّقوا النار ولو بشربة من ماء.

أيّها الناس من حسّن في هذا الشهر منكم خُلقه كان له جواز علي الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدّي فيه فرضاً كان له ثواب من أدّي سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلوات عليّ ثقّل الله له ميزانه يوم تخفّ فيه الموازين، ومن تلي فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.

أيّها الناس إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة، فاسألوا ربّكم أن لا يُغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة، فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا ربكم أن لا يسلّطها عليكم.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «فقمت وقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال

ص: 452

في هذا الشهر؟ فقال صلي الله عليه وآله: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّوجَل. ثمّ بكي صلي الله عليه وآله فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي لما يُستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك وقد انبعث أشقي الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة علي قرنك فخضب منها لحيتك. فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال صلي الله عليه وآله: في سلامة من دينك. ثم قال: يا علي من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، لأنّك منّي كنفسي، وطينتك من طينتي، وأنت وصيّي وخليفتي علي أمّتي».(1)

آداب الصوم:

وأمّا آداب الصوم والحالات التي يجب أن يكون الصائم عليها فنقول:

إنّ الصوم علي ثلاث مراتب ودرجات بعضها فوق بعض: الأولي صوم العموم، الثانية صوم الخصوص، الثالثة صوم الأخصّ.

أمّا صوم العموم فهو المفروض علي عامّة المكلّفين، وهو الكفّ عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلي الغروب الشرعيّ مع النيّة.

والمشهور في المفطرات أنّها عشرة: الأكل والشرب، والجماع، والبقاء علي الجنابة عمداً، وفي حكمه النوم بعد انتباهتين، والغبار الغليظ، وفي حكمه الدخان كذلك، والكذب علي الله سبحانه ورسوله والأئمّة عليهم السلام، والارتماس، والاستمناء مع خروج المني، والحقنة، والقيء، والتفصيل مذكور في الكتب الفقهيّة.

أمّا صوم الخصوص فهو أن يكون جامعاً لشرائط الكمال مضافة إلي شرائط الصحّة، كما أشار إليه الإمام سيّد الساجدين وزين العابدين عليه السلام في دعائه عند دخول شهر رمضان حيث قال:

ص: 453


1- رواه الصدوق في الأمالي: 153 – 155/ ح 149؛ وفي عيون أخبار الرضا 2: 266/ ح 53؛ وفي فضائل الأشهر الثلاثة: 77/ ح 61.

«اللهم صلّ علي محمد و آل محمد وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفّظ ممّا حظرت فيه، وأعنّا علي صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها

بما يُرضيك، حتّي لا نُصغي بأسماعنا إلي لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلي لهو، وحتّي لا نبسط أيدينا إلي محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلي محجور، وحتي لا تعي بطوننا إلاّ ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلاّ بما مثّلت، ولا نتكلّف إلاّ ما يُدني من ثوابك ولا نتعاطي إلاّ ما يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رياء المرائين وسمعة المسمعين،(1) لانشرك فيه أحداً دونكَ ولا نبغي به معبوداً سواك».(2)

شروط كمال الصوم:

ومحصّل شروط الكمال أن لا يكون يوم صومه كيوم فطره، ومداره علي أمور:

منها غضّ السمع والبصر عن محارم الله وعن كلّ ما يلهي النفس عن ذِكر الله، و كذلك حفظ سائر الأعضاء عن المعاصي والآثار.

قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: إذا صُمت فليَصُم سمعُك وبصرُك وشعرك وجلدك، وعدّد أشياء غير هذا. وقال عليه السلام: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك.(3)

ومنها: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والخصومة، بل عن مطلق التكلّم إلاّ بذكر الله.

روي الكافي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، ثمّ قال: قالت مريم: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا»(4) _ أي صمتاً _ فاحفظوا ألسنتكم، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا».(5)

ص: 454


1- وفي نسخة: المستمعين.
2- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس 1: 112، من دعائه عليه السلام عند دخول شهر رمضان.
3- بحار الأنوار 93: 292/ ح 15.
4- مريم: 26.
5- بحار الأنوار 93: 292/ ح16.

قال: وسمع رسول الله صلي الله عليه وآله امرأة تسبّ جارية لها وهي صائمة، فدعي رسول الله بطعام فقال لها: كُلي. فقالت إنّي صائمة. فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتك؟ إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب.(1)

قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: «إذا صُمت فليصم سمعُك وبصرُك من الحرام والقبيح، ودع المِراء وأذي الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك».(2)

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «ما من عبد صالح يُشتَم فيقول: إنّي صائم سلام عليك لا أشتمك كما تشتمني، إلاّ قال الربّ تبارك وتعالي: استجار عبدي بالصوم من شر ّعبدي، وقد أجرتُه من النار».(3)

وبالجملة فاللازم علي الصائم التحفّظ من سقطات اللسان وفضول البيان،والمواظبة علي الاستغفار والدعاء وتلاوة القرآن و سائر الأذكار.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء، فأمّا الدعاء فيُدفع به عنكم البلاء، وأمّا الاستغفار فتُمحي به ذنوبكم».(4)

وقال أبو عبد الله عليه السلام: كان علي بن الحسين عليه السلام إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلاّ بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير، فإذا أفطر قال: اللهمّ إن شئتَ أن تفعل فعلتَ.(5)

ومنها ترك شمّ الرياحين ولا سيّما النرجس.

ومنها الكفّ عن الافطار علي الشبهات: روي في الوسائل عن أبي عبد الله عليه السلام

ص: 455


1- بحار الأنوار 93: 294/ ح 23.
2- بحار الأنوار 93: 292/ ح16.
3- الكافي 4: 88/ ح 5.
4- إقبال الأعمال 1: 69؛بحار الأنوار 93: 378 – 379/ ح 2.
5- بحار الأنوار 46: 65/ ح 35.

عن أبيه قال: جاء قنبر مولي علي عليه السلام بفطره إليه، فجاء بجراب فيه سويق و عليه خاتم، قال: فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لهو البخل تختم علي طعامك. قال: فضحك عليه السلام ثم قال: أو غير ذلك، لا أحبّ أن يدخل بطني شيء لا أعرف سبيله.(1)

ومنها: أن لا يُكثر من الحلال وقت الافطار بحيث يمتلئ ويئفل، فما من وعاء أبغض إلي الله من بطن مملوّ.

وفي البحار عن مجالس ابن الشيخ قدس سرّه بإسناده عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليه السلام _ في حديث طويل لإبليس مع يحيي عليه السلام _ قال: قال يحيي: فهل ظفرت بي ساعة قط؟ قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني، قال يحيي: فما هي قال: أنت رجل أكول، فإذا أفطرت أكلت وبشمت، فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل. قال يحيي: فإنّي أعطي الله عهداً أنّي لا أشبع من الطعام حتي ألقاه. قال له إبليس: وأنا أعطي الله عهداً أنّي لا أنصح مسلماً حتّي ألقاه، ثم خرج فما عاد إليه.(2)

ومنها: أن يكون قلبه بعد الافطار مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ لا يدري أنّ صومه مقبول فهو من المقرّبين، أو مردود فهو من المحرومين.

مرّ بعض أصحاب العقول بقومٍ يوم عيدهم وهم ضاحكون مستبشرون، فقال: إنّ الله سبحانه جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته، فسبق أقوام ففازوا، و تخلّف أقوام فخابوا، فالعجب كلّ العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون.(3)

وأمّا صوم أخصّ الخواص: فصوم القلوب عن الهمم الدنيويّة والأغراض الدنية، و كفّه عن التوجّه إلي ما سوي الله بالكلّية، لدوام استغراقه بالحقّ عن الالتفات بغيره، فالفطر في هذا الصوم الذي هو فيه هو الفكر فيما

ص: 456


1- بحار الأنوار 40: 339/ ح 24.
2- بحار الأنوار 14: 171 – 173/ ح 12؛ أمالي الطوسي: 340/ ح 692.
3- روي في إقبال الأعمال 1: 467 وبحار الأنوار 75: 110 عن الإمام الحسن المجتبي عليه السلام.

سوي الله واليوم الآخر وصرف الهمّة في غير طاعة الله وطاعة رسوله صلي الله عليه وآله من أغراض النفس ومقاصد الطمع، وقد استوفينا الموضوع في المجلد الثاني من كتابنا (الجواهر الروحيّة) تحت عنوان (مدرسة الصوم).

السابع: أثر الحج في الدنيا والآخرة

«حجّ البيت واعتماره فإنّهما يَنفيان الفقر ويُرحضان الذنب» أي يغسلانه و يطهّرانه.

قد يبدو أنّ الحجّ عبادة رمزيّة غير معقولة المعني، ولا ظاهرة الحكمة، وأنّ ما يأتيه الانسان من أعمال إنّما هو امتثال للأمر، وإظهار للعبوديّة، وقيام بحقّ الله، ولكنّه عند التأمّل تتجلّي أسراره و تظهر آثاره النفسيّة والخُلقيّة والاجتماعية.

أسراره النفسية:

إنّ شعائر الحجّ تُثير في النفس ذكريات عِذاباً، إذ أنّها ترتبط بالواقع التاريخي لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه.

والحجّ يُلقي علي هذه الذكريات من الظلال والألوان ما يجعلها شاخصة للعيون وماثلة في الأذهان.

إنّ إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد البيت وإسماعيل.

وهو أوّل بيت وضع لعبادة الله في الأرض. ومن ثمّ أمر الحنفاء أن يتوجّهوا إليه كلّما توجّهوا إلي الله في صلاتهم، وأن يتلاقوا عنده كلّ عام، يحدوهم الحبّ في الله والاجتماع عليه، ليُعلنوا تضامنهم واتّفاقهم علي إقامة شريعة الله الواحد.

ولا تزال النفس الإنسانية تهفو إلي مصدر إشعاعها الأوّل وتحنّ إليه، وتقيم لذلك المعالم الهادية، وتتّخذ منها حافزاً يرقي بحاضرها وينهض بها إلي حياة أهدي وأزكي.

ولقد جاشت نفس رسول الله صلي الله عليه وآله وانفعلت بهذه الذكريات، فبكي وهو عند الكعبة وقال: «هنا تُسكب العبرات».(1)

ص: 457


1- رواه ابن ماجة في سننه 2: 982/ ح 2945 والحاكم في المستدرك 1: 454.

آثاره الخلقية:

والحجّ نوع من السلوك ولون من ألوان التدريب العمليّ علي مجاهدة النفس من أجل الوصول إلي المثل والاندماج في حياة روحيّة خالصة تمتلئ فيها القلوب بحبّ الله، وتنطلق الحناجر هاتفة بذكره مثنية بينما يرتدي المرء ملابس الاحرام، وهي ملابس خالية من الزينة و من كلّ ما يثير في النفس دواعي العجب والخيلاء.

يقول الله تعالي: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ».(1)

تشير هذه الآية إلي أنّ المرء حينما يدخل في أعمال الحجّ يجب عليه أن يعيش في جوّ من العفاف والأدب العالي، فلا يتدلّي إلي رفثٍ ولا يميل إلي فسوق ولا ينطق بكلمة طائشة، أو ينظر نظرة فاحشة. كما تشير أيضاً إلي فعل الخير، وهو عمل إيجابيّ يجمل بكلّ مؤمن أن يهتمّ به ويحرص عليه.

آثاره الاجتماعية:

يمكن تلخيص الحكم الاجتماعيّة للحجّ فيما يلي:

1_ إنّ الحجّ رحلة سياسيّة لتجميع أكبر عدد ممكن من أفراد الأمّة الاسلامية ليشهدوا المنافع التي تعود عليهم بالخير والبركات، سواء كانت منافع روحيّة أم منافع اقتصاديّة، أم منافع سياسيّة.

2_ أنّ فيه تعارف الشعوب الإسلاميّة وتوحيد غاياتهم التي توجّههم الوجهة التي تأخذ بأيديهم إلي حياة القوّة والعزّة والعلم والعمل بما يفيده بعضهم من بعض، و من تبادل الآراء المختلفة والثقافات المتنوعة.

3- يمكن عقد معاهدات و اتفاقات في موسم الحجّ ودراسة الوسائل لتيسير التبادل الاقتصاديّ والثقافيّ ممّا تحتاج إليه هذه البلاد.

ص: 458


1- البقرة: 197.

هذه هي بعض حِكم الحجّ وأسراره، فلننظر إلي أرض الله الواسعة ولنستحضر كلّ المؤتمرات والتجمّعات، فهل نجد مجتمعاً أطهر وأبرّ من هذا المجتمع مع هذا العدد الوفير والكثرة الكاثرة؟ وصدق الله إذ يقول: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَيٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ».(1)

قال ابن عباس: يعني بالمنافع التجارات. وقال سعيد بن المسيّب وعطيّة: هي منافع الآخرة وهي العفو والغفران. وقال مجاهد: هي التجارة في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.

ويُشعر به المرويّ عن الصادق عليه السلام حيث قال في رواية: إنّي سمعت الله عزّوجَل يقول: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(2) فقيل: منافع الدنيا و منافع الآخرة؟ فقال عليه السلام: الكلّ.(3)

وفي الفقيه قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «ما من حاجّ يُضحي ملبّياً حتي تزول الشمس إلاّ غابت ذنوبه معها، والحجّ والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكيرُ الحديدَ».(4)

وقال علي بن الحسين عليه السلام: «حجّوا واعتمروا تصحّ أبدانكم وتتّسع أرزاقكم وتُكفون مونات عيالاتكم».(5)

وقال عليه السلام : «الحاجّ مغفور له، وموجوب له الجنة، ومُستأنَف له العمل، ومحفوظ في أهله وماله».(6)

وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: «الحجّة [المتقبّلة] ثوابها الجنّة، والعُمرة كفّارة لكلّ ذنب».(7)

ص: 459


1- الحجّ: 27 و 28.
2- الحجّ: 28.
3- تفسير الصافي 3: 374؛ منتهي المطلب للعلامة الحلّي 2: 701.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 222/ ح2238.
5- الفصول المهمّة للحرّ العاملي 3: 231.
6- الفصول المهمّة 3: 231.
7- بحار الأنوار 96: 50/ ح 46.

وعن اسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي قد وطّنت نفسي علي لزوم الحجّ كلّ عام بنفسي أو برجلٍ من أهل بيتي بمالي. فقال عليه السلام: وقد عزمتَ علي لزوم ذلك؟ قال: قلت نعم. قال : إن فعلتَ فأيقِن بكثرة المال.(1)

وعن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وآله:لا يحالف الفقر والحمّي مُدمن الحجّ والعمرة.(2)

وعن ابن الطيار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «حِججٌ تتري وعُمَر تسعي يدفعن عيلة الفقر وميتة السوء».(3)

والمستفاد من هذه الروايات أنّ للحجّ والعمرة بذاتها مدخليّة في زيادة المال ونفي الفقر، لا من حيث التجارة والحاصلة في موضع الحجّ وقيام الأسواق حينئذ.

الثامن: آثار صلة الرحم الوضعية

«صلة الرحم فإنّها مثراة في المال ومنسأة في الأجل» يعني أنّها موجبة للزيادة في المال، والتأخير في الأجل ومحلّ لهما.

قال الشارح البحراني: كونها مثراة في المال من وجهين:

أحدهما: أنّ العناية الإلهيّة قسمت لكل حيّ قسطاً من الرزق يناله مدّة الحياة الدنيا و تقوم به صورة بدنه، فإذا أعدّت شخصاً من الناس للقيام بأمر جماعة وكفلت بإمدادهم ومعونتهم وجب في العناية إفاضة أرزاقهم علي يده وما يقوم بإمدادهم بحسب استعداده لذلك، سواء كانوا ذوي أرحام أو مرحومين في نظره، حتّي لو نوي قطع أحدهم فربّما نقص ماله بحسب رزق ذلك المقطوع، وذلك معني كونه مثراةً للمال.

ص: 460


1- بحار الأنوار 96: 25/ ح 107.
2- الكافي 4: 254/ ح 8.
3- الكافي 4: 261/ ح 36.

الثاني: أنّ صلة الرحم من الأخلاق الحميدة التي يُستمال بها طباع الخلق،فواصلُ رَحِمِه مرحوم في نظر الكلّ، فيكون ذاك سبباً لإمداده ومعونته من ذوي الإمداد والمعانات كالملوك ونحوهم، فكان صلة الرحم مظنّة لزيادة المال.

وكونها منسأة في الأجل من وجهين:

أحدهما: أنّ صلة الرحم توجب تعاطف ذوي الأرحام وتوازرهم ومعاضدتهم الواصلهم، فيكون عن أذي الأعداء أبعد، وفي ذلك مظنّة تأخيره و طول عمره.

الثاني: أنّ مواصلة ذوي الأرحام توجب تعلّق هممهم ببقاء واصلهم وإمداده بالدعاء، ويكون دعاؤهم و تعلّق هممهم بقائه من شرائط بقائه ونسأ أجله، فكانت مواصلتهم منسأة في أجله.

التاسع: الصدقة وأنواعها

الصدقة وهي علي قسمين:

أحدهما: صدقة السرّ فإنها تكفّر الخطيئة وتُطفيء غضب الربّ سبحانه، وإنّما خصّها عليه السلام بذلك _مع كون سائر العبادات كذلك _ لكونها أبعد من الرياء، وتضمّنها من الخلوص والتقرّب ما ليس في غيرها.

روي في الكافي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «صدقة السرّ تطفيء غضب الرب تبارك وتعالي».(1)

وعن عمّار الساباطي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «يا عمّار الصدقة والله في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك _ والله _ العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية».(2)

وعن معلّي بن خنيس قال: خرج أبو عبد الله عليه السلام في ليلة قد رشّت وهو

ص: 461


1- الكافي 4: 7/ ح 1 و 4: 8/ ح3.
2- الكافي 4: 8/ ح 2.

يريد ظلّة بني ساعدة، فاتبعته فإذا قد سقط منه شيء، فقال: بسم الله اللهمّ رُدّ علينا. قال: فأتيته فسلمت عليه، فقال عليه السلام: معلّي؟ قلت: نعم جُعلت فداك. فقال لي: التمس بيدك فما وجدتَ من شيء فادفعه إلي، فإذا أنا بخبز منتثّ كثير، فجعلت أدفع عليه ما وجدت فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز، فقلت: جعلت فداك أحمل علي رأسي؟ فقال: لا، أنا أولي به منك، ولكن امض معي. قال: فأتينا ظلّة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين حتّي أتي علي آخرهم ثم انصرفنا، فقلت: جُعلت فداك يعرف هؤلاء الحقّ؟ فقال: لو عرفوه لواسيناهم بالدُقّة _ والدُقّة هي الملح _ إنّ الله تبارك وتعالي لم يخلق شيئاً إلاّ وله خازن يخزنه إلاّ الصدقة، فإنّ الربّ يليها بنفسه، وكان أبي عليه السلام إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتدّه منه فقبّله وشمّه ثم ردّه في يد السائل، إنّ صدقة الليل تُطفيء غضب الرب وتمحو الذنب العظيم و تهوّن الحساب، وصدقة النهار تثمر المال وتزيد في العمر، إنّ عيسي بن مريم عليه السلام لمّا مرّ علي شاطيء البحر رمي بقرص من قوته في الماء، فقال له بعض الحواريّين: يا روح الله وكلمته لم فعلت هذا وإنّما هو من قُوتك؟ قال عليه السلام: فعلت هذا لدابّة تأكله من دواب الماء، و ثوابه عند الله عظيم.(1)

والثاني: «صدقة العَلانية فإنّها تدفع ميتة السوء». كالغرق والحرق والهدم ونحوها.

ويدلّ عليه روايات أخر، مثل ما رواه الكليني باسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «إنّ الصدقة باليد تقي ميتة السوء، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء، و تفكّ عن لحي سبعين شيطاناً، كلّهم يأمره أن لا يفعل».(2)

وعن أبي ولاد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «بكّروا بالصدقة وارغبوا فيها،

ص: 462


1- الكافي 4: 8 – 9/ ح3.
2- الكافي 4: 3/ ح 7.

فما من مؤمن يتصدّق بصدقة يُريد بها ما عند الله ليدفع الله بها عنه شرّ ما ينزل من السماء إلي الأرض في ذلك اليوم إلاّ وقاه الله شرّ ما ينزل في ذلك اليوم».(1)

وعن السكوني عن جعفر، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: إنّ الله لا إله إلاّ هو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة _ أي الطاعون _ والحرق والغرق والهدم والجنون، وعدّ صلي الله عليه وآله سبعين باباً من السوء.(2)

وعن سالم بن مكرم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «مرّ يهودي بالنبي صلي الله عليه وآله فقال: السّام عليك، فقال صلي الله عليه وآله: عليك. فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت. فقال صلي الله عليه وآله: وكذلك رددت. ثم قال النبي: إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله. قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله صلي الله عليه وآله: يا يهودي أيّ شيء عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا احتملته وجئت به، فكان معي كعكتان، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة علي مسكين. فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: بها دفع الله عنك، وقال صلي الله عليه وآله: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان».(3)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ الصدقة لتدفع سبعين بليّة من بلايا الدنيا مع ميتة السوء، إنّ صاحبها لا يموت ميتة السوء أبداً، مع ما يُدَّخر لصاحبها من الأجر في الآخرة».(4)

العاشر صنع المعروف

«صنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان» المعروف اسم لكلّ فعل

ص: 463


1- الكافي 4: 5/ ح 1.
2- الكافي 4: 5/ ح 2.
3- الكافي 4: 5/ ح3.
4- الكافي 4: 6/ ح5.

يُعرف حُسنه بالعقل والشرع: كالاحسان والبرّ والصلة والصدقة علي الناس والرفق معهم وسائر أعمال الخير، واصطناع المعروف لمّا كان مستلزماً لتأليف قلوب الخلق وجامعاً لهم علي محبة المصطنع، لاجرم كان وقاية له، والناس يتّقون قتله ويجتنبون عن فعل ما يوجب الهوان به وذلّته، وهو ظاهر.

ونظير هذا الكلام ما رواه عبد الله بن ميمون القدّاح عن أبي عبد الله عليه السلام، عن آبائه قال: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء».(1)

وهذا من جملة خواصّه في الدنيا، ومنها أيضاً زيادة البركة.

قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «إنّ البركة أسرع إلي البيت الذي يمتار منه المعروف من الشفرة إلي سنام البعير، أو من السيل إلي منتهاه».(2)

وأمّا ثمراته الأخرويّة فكثيرة أشرت إليها في باب المعروف: ففي الفقيه قال رسول الله صلي الله عليه وآله: «أوّل من يدخل الجنة المعروف وأهله، وأوّل من يرد عليَّ الحوض».(3)

وقال صلي الله عليه وآله: «أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة».(4)

وتفسيره أنّه إذا كان يوم القيامة قيل لهم: هَبوا حسناتكم لمن شئتم وادخلوا الجنّة.

وقال الصادق عليه السلام: «أيّما مؤمن أوصل إلي أخيه المؤمن معروفاً فقد أوصل ذلك إلي رسول الله صلي الله عليه وآله».(5)

وقال عليه السلام: «المعروف شيء سوي الزكاة، فتقربوا إلي الله عزّوجَل بالبرّ وصلة الرحم».(6)

ص: 464


1- الكافي 4: 29/ ح 1.
2- الكافي 4: 29/ ح 2.
3- الكافي 4: 28/ ح 11.
4- الكافي 4: 29 – 30/ ح3.
5- الكافي 4: 27/ ح 8.
6- الكافي 4: 27/ ح5.

وقال أيضاً: «رأيت المعروف لا يصلح إلاّ بثلاث خصال: تصغيره، وستره، و تعجيله، فإذا صغّرته عظّمته عند من تصنعه إليه، وإذا سترته تمّمته، وإذا عجّلته هنّأته، وإن كان غير ذلك سخّفته و نكّدته».(1)

وفي رواية مفضّل بن عمر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا مفضّل إذا أردت أن تعلم إلي خير يصير الرجل أم إلي شرّ، أنظر إلي أين يضع معروفه، فان كان يضع معروفه عند أهله فاعلم أنّه يصير إلي خير، وإن كان يضع معروفه عند غير أهله فاعلم أنّه ليس له في الآخرة من خَلاق».(2)

وقد استوفينا موضوع المعروف ونكته وما ورد فيه من المزايا في فصل والمعروف» من هذا الكتاب، فراجعه.

***

ص: 465


1- الكافي 4: 30/ ح 1.
2- الكافي 4: 31/ ح 2.

ص: 466

فهرست الموضوعات

المقدمة ...3

كتاب صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة...6

نشاطات مؤسسة إحياء التراث الشيعي...7

عملنا في الكتاب ...8

شكر وتقدير ...8

تقديم بقلم نجل المؤلف السيد صدر الدين القبانچي ...9

سياسة الإمام علي عليه السلام...9

الأصول الثلاثة ...9

هذا الكتاب ...10

كتابات المؤلف في الإمام علي عليه السلام ...10

الأول: علي والأسس التربوية...11

الثاني: مسند الإمام علي عليه السلام...11

الثالث: صوت الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ...11

كلمة الشكر ...12

مقدمة وذكريات بقلم الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير ...13

كلمات أقطاب العلم وعباقرة الأدب حول نهج البلاغة ...19

كلمة السيد كاظم القزويني ...19

كلمة الحجّة آغا بزرك الطهراني ...19

ص: 467

كلمة العلاّمة السيد هبة الدين الشهرستاني ...23

كلمة الحجّة العلاّمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ...23

كلمة ابن أبي الحديد المعتزلي ...24

كلمة الفيلسوف الشيخ محمّد عبدة...29

كلمة محمد محي الدين مصدّر شرح النهج لابن عبدة ...31

كلمة السيد شريف الرضي ...31

كلمة ميرزا حبيب الله الخوئي ...32

كلمة الأستاذ حسن نائل المرصفي المصري ...33

كلمة الصحافي الشهيد أمين نخلة ...35

كلمة نرسيسيان...36

كلمة مستر كرينو الانكليزي أستاذ الآداب العربية ...36

كلمة الأستاذ جورج جرداق...36

كلمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين ...43

كلمة الأديب جبران خليل جبران...44

كلمة الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي...44

كلمة روكس بن زائدة العزيزي الكاثوليكي...45

العقاد و نهج البلاغة ...46

كلمة سبط ابن الجوزي...47

كلمة الحجّة الشيخ هادي كاشف الغطاء ...47

كلمة الدكتور زكي نجيب محمود ...47

كلمة الأستاذ العلاّمة أحمد أمين الكاظمي ...48

كلمة الدكتور صبحي الصالح ...49

كلمة شبلي شميل حول نهج البلاغة...51

ص: 468

كلمة سليمان كتّاني ...52

نهج البلاغة في الشعر العربي...53

قيل فيه شعراً...53

علي ونهج البلاغة فيما ذهب إليه بعض المرجفين ...61

مختارات من خطب وكتب الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام وشرحها

من كتاب له عليه السلام إلي الحارث الهمداني:

يوصيه بالتمسك بالقرآن وذكر الموت ونصائح أخري عظيمة ...69

دخول الحارث الهمداني علي أمير المؤمنين عليه السلام...70

حديث علي عليه السلام مع نوف البكالي...73

موعظة الإمام الجواد عليه السلام لعبد العظيم الحسني ...74

موعظة الإمام علي عليه السلام للحسن البصري ...75

مواعظ وحكم لعلي عليه السلام...77

الذنوب ثلاثة...80

من خطبة له عليه السلام: في صفة الإسلام والإيمان ...81

الإيمان يدل علي الصالحات...82

إعمار الفقه بالإصلاح ...83

بالفقه يرهب الموت...85

أشعار في الموت ...85

من خطبة له عليه السلام: في ذم قريش وبيان عظمة أهل البيت عليهم السلام...91

أهل البيت عليهم السلام أظلة العرش ...93

حرّة بنت حليمة السعدية والحجّاج الثقفي ...97

ص: 469

علي عليه السلام والأنبياء ...99

أسماء مباركة توسّل بها نوح عليه السلام...101

مقتطفات في فضل أهل البيت عليهم السلام...103

أوجه عظمة أهل البيت عليهم السلام...105

من خطبة له عليه السلام: في وصف القرآن والاستفتاء بآياته...107

خصائص القرآن ...107

آيات مفيدة لدفع الأذي والأوجاع والفقر و كلّ ضرر ...109

مناظرة طبيّة بين الصادق عليه السلام وطبيب هندي ...116

من خطبة له عليه السلام: في معرفة الخالق وتوحيده...119

ولاية أهل البيت عليه السلام شرط في التوحيد ...121

من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام: في المعروف والانفاق ...125

مواضع المعروف ...126

تعاريف للمعروف...126

أنواع المعروف ...129

شروط تأثير الأمر بالمعروف ...130

الإمام الكاظم عليه السلام والعمري...134

المأمون وعفوه عن عمّه إبراهيم ...135

الرشيد وعفوه عن الخارجي ...137

معن بن زائدة وعفوه عن الأسري...138

المروءة النادرة ...138

من وصية له إلي ولده الحسن عليهما السلام:

في الدعاء والتوبة إلي الله وعفوه تعالي ...141

الدعاء وشرائط القبول...142

ص: 470

فوائد الدعاء ...143

أدعية القرآن ...145

فصول أربعة ...146

الأول: في حقيقة الدعاء ...146

الفصل الثاني: في استحباب الدعاء وفوائده ...146

سؤال وجواب ...147

الفصل الثالث: في اقتران الدعاء بالاهتمام والعمل ...148

الفصل الرابع: في آداب الدعاء والمسألة...149

عشرون باباً...151

الباب الأول: في الاستعاذة بالله سبحانه من الشياطين...151

الباب الثاني: في الاستعاذة بالله من الشرور والأشرار ومن سيّئات الأعمال...151

الباب الثالث: في الاستعاذة من النار ومن عذاب الملك القهار...152

الباب الرابع: في الدعاء للأبوين...153

الباب الخامس: في الدعاء لطلب الذريّة والأولاد والأزواج...154

الباب السادس: في الدعاء للذرية والأولاد...154

الباب السابع: في الدعاء للاخوان...155

الباب الثامن: في الدعاء لعموم المؤمنين والمؤمنات ...156

الباب التاسع: في الدعاء لطلب الهداية والاستقامة في الدين ...156

الباب العاشر: في الدعاء لطلب الخيرات والحسنات ...158

الباب الحادي عشر: في الدعاء لطلب العلم والحكمة...158

الباب الثاني عشر: لطلب الرحمة والغفران وتكفيرالسيئآت ...159

الباب الثالث عشر: لطلب التوبة وقبول الأعمال...161

الباب الرابع عشر: في الدعاء لتطلب حسن المثوي...162

ص: 471

الباب الخامس عشر: لطلب الرزق واليُسر في الأمور وحسن العيش...163

الباب السادس عشر: في الدعاء السلامة والأمان ...163

الباب السابع عشر: لطلب النصر والظفر ومزيد القوّة والأنصار ...164

الباب الثامن عشر: لطلب الصبر و توفيق الثبات...166

الباب التاسع عشر: في الدعاء لطلب النجاة من الظالمين ...166

الباب العشرون: لطلب الدخول في صفّ الأخيار ...167

أدعية أهل البيت عليهم السلام...168

موت القلوب بعشرة أشياء...170

الذنوب تمنع الغيث ...172

النميمة وخطرها في المجتمع...173

قصة العبد النمام ...174

قال عليه السلام في خطبة له:

يوصي فيها بعدم الغفلة ويحذر من الكذب والرياء والحسد ...175

ضبط الألفاظ اللغوية ...175

المعني ...176

جهاد النفس...176

مجالسة أهل المعاصي تسلب الإيمان ...180

أحاديث في النهي عن مجالسة أهل المعاصي ...181

الحسد وأثره النفسي ...183

الحسد ومنشؤه ...184

الحسد وعلله.. وآثاره ...186

علة قتل قابيل لأخيه هارون...188

علي والحاسدون ...193

ص: 472

معاوية ينطق بالحق ...194

أعرابي يمدح علياً عليه السلام في مجلس الوليد ...197

أعرابي يمدح علياً عليه السلام في مجلس معاوية ...200

و من وصية له إلي ولده الحسن عليهما السلام:

في محبة الآخرين والنهي عن الظلم والعجب...203الشرح...203

نفسك ميزانك ...204

العجب آفة نفسية ...206

قصيدة إيليا أبي ماضي ...207

أحاديث في ذم العجب ...208

من خطبة له عليه السلام: في وصف آل محمد عليهم السلام...211

ضبط الالفاظ اللغوية...211

الأمر الأول: أهل البيت عليهم موضع سرّ الله ...220

حديثنا صعب مستصعب...223

الثاني: أهل البيت عليهم السلام ملتجأ أمر الله ...224

أهل البيت عليهم السلام هم ولاة الأمر ...225

الدليل النقلي ...226

الدليل العقلي ...227

الثالث: أهل البيت عليهم السلام عيبة علم الله ...227

الدليل النقلي ...228

الرابع: أهل البيت عليهم السلام موئل حكم الله ...230

الخامس: أهل البيت عليهم السلام كهف الكتب السماوية...231

ص: 473

مناظرة الإمام رضا عليه السلام مع الجاثليق ورأس الجالوت وبقية المذاهب ...232

عدد الكتب السماوية ...237

السادس: أهل البيت عليهم السلام جبال الدين ...240

السابع والثامن: أهل البيت عليهم السلام سبب قوام الدين ...241

من خطبة له عليه السلام:

يوصي بالتوقي والاعتبار بالقرون السالفة ويشير إلي المهدي ...245

ضبط الالفاظ اللغوية...245

الشرح...246

سليمان عليه السلام وملك الموت ...247

قصة راعي الغنم مع صاحب الزرع ...248

إجابة سليمان عليه السلام علي أسئلة السماء...249

من وصايا داود لسليمان عليهما السلام...251

نوادر أخبار ملك سليمان ...251

بناء بيت المقدس...252

صفة سليمان في ملكه وفي بدنه ...256

عرش سليمان ...258

هدايا بلقيس ...259

سيرة نبي الله سليمان و تاريخه عليه السلام...263

حكاية سليمان مع النملة ...265

قصّة بلقيس ملكة سبأ مع سليمان ...266

ضرورة الاعتبار من التاريخ...271

تاريخ العمالقة ...271

في بيان مدائن الرسّ وقصّة أصحابها ...273

ص: 474

الإمام المهدي عليه السلام علي لسان علي الكلام عليه السلام...274

معرفة الحكمة وتفسيرها ...275

معاني الحكمة في القرآن ...277

تبع حكيم حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات...278

بين إفلاطون وسقراط ...279

بزرجمهر في السجن...279

حكمة فيثاغورس...280

حكمة أرسطاطاليس...280

حكاية الملك ووزراءه الأربعة ...281

وصفة الحكيم لكل داء...284

دلالة قوله عليه السلام «فهو مغترب» علي الإمام المهدي عليه السلام...286

الرد علي المعتزلي ...287

الرد علي ابن ميثم ...288

موضوع الإمام المنتظر عليه السلام ...289

الأول: استبعاد طول العمر ...289

الثاني: عدم الحكمة في الوجود مع الغيبة...292

حكاية الشيخ محمد حسين الاصفهاني عن الإمام المهدي عليه السلام...292

كلام محي الدين العربي في حق الإمام المهدي عليه السلام...294

من خطبة له عليه السلام:

يحذر فيها من الغفلة ويبين علمه وفضله علي الآخرين...299

ضبط الالفاظ اللغوية...299

الشرح...300

الفصل الأول: إيقاط الغافلين...300

ص: 475

الفصل الثاني: إشارة إلي مناقب علي عليه السلام...301

إخبار علي عليه السلام بالمغيبات...311

مجموعة أخري من المغيبات...312

قصة عمرو بن حمق الخزاعي...315

دخول جويرية علي علي عليه السلام...317

إخباره عليه السلام بصلب ميثم التمار...318

قصة رشيد الهجري...318

إخباره عليه السلام بمقتل الحسين عليه السلام بكربلاء...319

من كلام له عليه السلام: ينهي عن التنجيم ويدعو إلي الاستعانة بالله...321

النهي عن تعلم النجوم ...324

حقيقة السحر...326

فصل ووصل...329

إخبار النبي صلي الله عليه وآله بالمغيبات...331

إخباره صلي الله عليه وآله لقيس بعدم مسّه بضرر...331

إشارته إلي عائشة بأنّها صاحبة الجمل ...332

من كلام له عليه السلام علي منبر الكوفة:

يدعو الناس للإستفادة من علمه...339

الحياة في كوكب المريخ...342

اصدقاء عالم الفضاء...344

لسنا وحدنا في الكون...347

طبق طائر في الكويت ...347

المنطقة العربية والأطباق الطائرة...349

طبق طائر فوق الأراضي السوفيتية...349

ص: 476

صفات مشتركة للأطباق الطائرة...349

حديث علي عليه السلام مع ذعلب...351

كلام الإمام علي عليه السلام مع ابن الكوا...354

علي عليه السلام وآخر الزمان...356

من كلام له عليه السلام: في مدح الكوفة...359

ضبط الألفاظ اللغوية...359

الشرح...359

الكوفة وفضلها...361

الكوفة رائدة الأدب العربي...362

مسلم بن عقيل وأهل الكوفة...364

من خطبة له عليه السلام:

يوصي بالوفاء وعدم الغدر ويذكر سوء عصره ...369

ضبط الالفاظ اللغوية...369

المعني لهذه الفقرات النيّرة ...369

وفاء السمؤل...370

قصة المنذر بن ماء السماء ويوماه البؤس والسعد...371

آل الأشعث والغدر...376

غدرة خالد بن الوليد...377

قصة ثعلبة بن حاطب...378

قصة سابور وبنت الملك الغادرة...380

جزاني جزاء سنمار...371

من خطبة له عليه السلام: التحذير من اتباع الهوي وطول الأمل...383

ضبط الالفاظ اللغوية...383

ص: 477

المعني...383

إتباع الهوي...384

مجامع الهوي خمسة...384

طول الأمل...385

النهي والتحذير من طول الأمل...386

من خطبة له عليه السلام:

يدعو فيها للزهد والشكر عند النعم...389

ضبط الألفاظ الغريبة...389

المعني: الحث علي الزهد...389

موكب قارون...391

موعظة علي عليه السلام لنوف صاحبه...394

رسول الله صلي الله عليه وآله وليلة الإسراء...395

أوجه الزهد...396

كلام الإمام الصادق عليه السلام في الزهد ...399

من كلام له عليه السلام: يصف الدنيا...405

ضبط الالفاظ اللغوية...405

المعني: عشرة أوصاف للدنيا...405

الأول: عشرة أوصاف للدنيا...405

الثاني: فناء في آخر الطريق...407

الثالث: الحساب في الحلال...407

العقوبة علي المحرمات...410

السابع: الفقر يجلب الحزن...411

مقام الفقراء في الجنة...413

ص: 478

أحاديث في فضل الفقر والفقراء...414

من خطبة له عليه السلام:

في الإهتمام بفروع الدين وصلة الرحم والانفاق...417

ضبط الالفاظ اللغوية...417

الشرح: أسباب القرب إلي الله...417

أولها: الإيمان بالله...418

الفرق بين الإسلام والإيمان...418

مراتب الإيمان...419

الثاني: الجهاد من الوسائل إلي الله سبحانه...424

والثالث: كلمة الإخلاص...425

والرابع: الصلاة ركن الدين وعموده...425

أمّا علّة وجوبها في الأوقات المعيّنة...429

الخامس: الزكاة فريضة واجبة...431

الحكم النفسية للزكاة...432

أثرها في الأخلاق...432

أسرارها الاجتماعية...433

المقام الأول: في محلّ وجوبها وعقوبة مانعها...434

كوي الجباه والجنوب والظهور...438

قصة تحكي عن بعض مشاهد القيامة...439

المقام الثاني: في أسرار الزكاة ودقائق بذل المال...441

أصناف الناس...442

السادس: الصيام والنجاة من النار...445

أمّا علّة وجوب الصوم...448

ص: 479

وأمّا فضل الصوم مطلقاً...449

وأمّا فضل شهر رمضان وفضل صومه...450

آداب الصوم...453

شروط كمال الصوم...454

السابع: أثر الحج في الدنيا والآخرة...457

أسراره النفسية...457

آثاره الخلقية...458

آثاره الاجتماعية...458

الثامن: آثار صلة الرحم الوضعية...460

التاسع: الصدقة وأنواعها...461

العاشر: صنع المعروف...463

فهرست الموضوعات...467

***

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.