موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المجلد 11

اشارة

سرشناسه:قرشی، باقرشریف، 1926 - م.

Qarashi, Baqir Sharif

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام/ مولف باقر شریف القرشی

مشخصات نشر:قم: مجمع جهانی شیعه شناسی

مشخصات ظاهری:11ج.

شابک:دوره: 978-600-6164-72-4 ؛ 90000 ریال: ج. 1: 978-600-6164-65-6 ؛ ج.2و3 978-600-94930-7-4 : ؛ ج. 4 978-622-962924-6:

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:ناشر جلد دوم و سوم و چهارم انتشارات دارالتهذیب است .

مندرجات:ج. 1. زندگانی و فضایل امام علی علیه السلام در قرآن و سنت.- ج.2 و 3. امام علی (ع) در عهد پیامبر و دوران خلافت

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:مجمع جهانی شیعه شناسی

شناسه افزوده:The World Center for Shite Studies

رده بندی کنگره:BP37/ق36م8041 1393

رده بندی دیویی:297/951

شماره کتابشناسی ملی:3726762

ص :1

اشارة

موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام

مولف باقر شریف القرشی

ص :2

ص :3

ص :4

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم

1 تسلّم الإمام عليه السّلام قيادة الحكم بعد الإطاحة بحكومة عثمان بن عفّان، و قد أعلن بين المسلمين معالم سياسته الداخلية و الخارجية، و أكّد بصورة حازمة اهتمامه البالغ بأمر الخراج و سائر ما تملكه الدولة من وارداتها المالية، و أنّها ملك للشعب، و ليس له أن يصطفي فيها لنفسه و ذويه، و إنّما يجب أن تنفق على تطوير حياة المواطنين، و إنقاذهم من غائلة الفقر و الحرمان، كما يجب أن تهيّأ لهم الفرص المتكافئة للعمل لئلاّ تشيع البطالة و الجريمة في البلاد.

و قد ذكرنا في بعض بنود هذا الكتاب صورا رائعة من اهتمامه البالغ في عمران الأرض، و زيادة الانتاج الزراعي الذي كان العمود الفقري للاقتصاد الإسلامي في ذلك العصر.

2 إنّ من أهمّ البرامج في السياسة الاقتصادية عند الإمام هو إشاعة الرخاء و انعاش عامّة الشعوب الإسلامية، و توزيع خيرات البلاد التي تعود للدولة على جميع من يقطن في بلاد الإسلام، و عدم احتكارها لقوم دون آخرين، كما كان الحال في أيام عثمان بن

ص:5

عفّان الذي منح الثراء العريض لبني اميّة و آل أبي معيط ، و غيرهم ممّن ساروا في ركابه، فتكدّست الثروة عند فئة من الناس حتّى ترك بعضهم بعد موته من الذهب ما يكسّر بالفؤوس في حين أنّ المجاعة قد انتشرت عند الكثيرين من الناس.

و قد اتّسم موقف الإمام عليه السّلام بالشدّة و الصرامة على هؤلاء الذين نهبوا أموال المسلمين بغير حقّ ، فأصدر أوامره الحاسمة بمصادرة جميع الأموال التي اختلسوها من بيت المال، و تأميمها للدولة، و قد قال في الأموال التي عند عثمان:

و اللّه! لو وجدته - أي المال - قد تزوّج به النّساء، و ملك به الإماء، لرددته، فإنّ في العدل سعة. و من ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق! (1).

هكذا كانت سيرة رائد العدالة، و معلن حقوق الإنسان، الصرامة في الحقّ التي لا هوادة و لا مداهنة فيها.

3 من المؤكّد أنّ من أهمّ الأسباب الوثيقة التي أدّت إلى قيام الأمويّين و القرشيّين بعصيانهم المسلّح، و إعلانهم التمرّد على حكومة الإمام هو سياسته الاقتصادية الهادفة إلى إعلان المساواة و العدالة بين الناس، و معاملة الأمويّين و من سائرهم معاملة عادية اتّسمت بالكراهية و الاستهانة لأنّ إيمانهم لم يكن وثيقا، و إنّما كان ظاهريا لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم و دخائل نفوسهم، و بالإضافة إلى ذلك فإنّ نفوس الأمويّين قد اترعت بالبغض و الكراهية للإمام لأنّه قد وترهم، و حصد رءوس أعلامهم، حينما أعلنوا الحرب بلا هوادة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي جاء لتحرير عقولهم، و إقامة مجتمع فيهم متوازن في سلوكه و أخلاقه، و هي، كما ناجزت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في واقعة بدر و احد

ص:6


1- نهج البلاغة 46:1.

و الأحزاب و غيرها، هبّت إلى مناجزة وصيّه و باب مدينة علمه، و وضعت أمام مخطّطاته الإصلاحية السدود و الحواجز، و ألقت الأمّة في شرّ عظيم.

4 و يعرض - بإيجاز - هذا الكتاب، الذي هو جزء من موسوعة الإمام عليه السّلام إلى الحروب الثلاث التي خاضها الإمام ضدّ المنحرفين عن الحقّ ، و المتمرّدين على القيم الإسلامية، و هي تصوّر مدى محنته الكبرى، و ما لاقاه فيها من جهد شاق و عناء عسير، حتّى تركته في أرباض الكوفة قد طافت به المحن و الخطوب حتّى لاقى مصيره المشرق بالجهاد و الكفاح.

لقد بحثت في جميع هذا الكتاب عن أسمى شخصية في العالم الإسلامي، عملاق هذه الأمّة و رائد نهضتها الفكرية و الحضارية، الإمام عليه السّلام، و قد صوّرت بدقّة سيرته و حياته و جهاده، و نصرته للإسلام في أيام محنته و غربته معتمدا على أوثق المصادر التاريخية و غيرها، و اللّه تعالى هو وليّ التوفيق.

النّجف الأشرف باقر شريف القريشى 27 /محرّم الحرام/ 1420 ه

ص:7

ص:8

حكومة الإمام عليه السّلام

اشارة

ص:9

ص:10

و استقبل الإمام عليه السّلام مصرع عثمان بكثير من القلق و الوجوم و الاضطراب، و ذلك لعلمه بمجريات الأحداث، و أنّ الأمويّين و الطامعين و المنحرفين سيتّخذون من دمه ورقة رابحة يطالبون بها؛ للاستيلاء على الحكم و نهب ثروات البلاد.

و شيء آخر دعا الإمام إلى الوجوم و هو أنّه المرشّح الأوّل لقيادة الحكم، فإذا تقلّد الخلافة فإنّه يسير بالامّة سياسة مبنيّة على الحقّ المحض، و العدل الخالص، و يطبّق على مسرح الحياة كتاب اللّه تعالى، و منهاج نبيّه، و يبعد الطامعين و اللصوص عن مناصب الدولة. و من الطبيعي أنّ القوى المنحرفة ستهبّ في وجهه و تعمل على إفشال مخطّطاته، و إبعاد مناهجه عن حياة المسلمين.

و على أي حال فإنّا نعرض إلى صور من بيعة الإمام، و مقرّرات حكومته حينما استلم الخلافة و ما يرتبط بذلك من شئون.

رفض الإمام للخلافة:

و من المؤكّد أنّ الإمام لم تكن له أيّة رغبة في الخلافة التي تعني الزهو و الإمرة و الظفر بخيرات البلاد، فإنّ هذه الأهداف محرّمة و غير مشروعة عند الإمام عليه السّلام الذي يبغي الحكم لتحقيق الأهداف النبيلة، و المثل العليا، و إسعاد المجتمع، و إنقاذه من البؤس و الحرمان، و إشاعة الرفاهية و الأمن بين الجميع.

و قد هتف الإمام أمام الجماهير التي أحاطت به و هي تطالبه بتقلّده للحكم فقال لهم:

ص:11

«لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت به..».

أجل، إنّه لا حاجة له و لا رغبة له في الخلافة ما لم يحقّق أهدافه النبيلة..

و قد أعرب الإمام عليه السّلام في بعض أحاديثه عن الأسباب التي دعته لمنازعة الخلفاء فقال:

«اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شيء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك».

و على أي حال فقد أحاطت الجماهير بالإمام و هي تعلن رغبتها الملحّة في ولايته قائلة:

لا إمام لنا غيرك..

و هتفت ثانية:

ما نختار غيرك..

و لم يعن بهم الإمام و أصرّ على الامتناع من إجابتهم، و ذلك لعلمه بما يعانيه من المصاعب و المشاكل و ما يطرحه المنحرفون من الفتن و الأضاليل في سبيل أطماعهم. لقد خلق الحكم العثماني فئة لا تفقه من أحكام الإسلام شيئا، و قد تسلّطت على المسلمين و بيوت الأموال فنهبت ما شاءت، و أذلّت من شاءت، و أنّها سوف تهبّ في وجه الإمام و تناجزه الحرب و تعمل كلّ ما تستطيعه ضدّه.

مؤتمر القوّات المسلّحة:

و عقدت القوّات المسلّحة مؤتمرا خاصّا بها بعد امتناع الإمام من إجابتها، و قد بحثت ما تواجهه الأمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام، و قد قرّرت إحضار المدنيّين و ذوي النفوذ و الوجوه، فلمّا حضروا قالوا لهم:

أنتم أهل الشورى، و أنتم تعقدون الإمامة، و حكمكم جائز على الأمّة،

ص:12

فانظروا رجلا تنصبونه و نحن لكم تبع، و قد أجّلناكم يومكم، فو اللّه! لئن لم تفرغوا لنقتلنّ عليّا و طلحة و الزبير، و تذهب من اضحية ذلك أمّة من الناس (1) ، و هرع المدنيّون نحو الإمام و قد علاهم الرعب، و هم يهتفون:

البيعة.. البيعة..

أ ما ترى ما نزل بالإسلام، و ما ابتلينا به من أبناء القرى ؟..

أصرّ الإمام على الرفض قائلا:

«دعوني و التمسوا غيري..».

و أعرب لهم الإمام عن الموانع من قبول خلافتهم قائلا:

«فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و الوان؛ لا تقوم له القلوب، و لا تثبت عليه العقول» (2).

و حكى حديث الإمام الأحداث الجسام التي سيواجهها إن قبل خلافتهم، و فعلا فقد تحقّقت، فلم يمض وقت قليل حتى أعلن الطامعون تمرّدهم على حكومة الإمام و قاموا بعصيان مسلّح لإسقاطها، كما سنتحدّث عن ذلك.

و على أي حال فقد ازدحمت الجماهير على الإمام و هي تهتف باسمه قائلة له: أمير المؤمنين.. أمير المؤمنين..

و صارحهم الإمام بالمنهج الذي يسير عليه في دور حكومته قائلا:

«إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب، و إن تركتموني فأنا كأحدكم؛ و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم،

ص:13


1- تاريخ ابن الأثير 80:3.
2- نهج البلاغة - محمّد عبده 182:1.

و أنا لكم وزيرا، خير لكم منّي أميرا!».

لقد وضع أمامهم المنهج الذي يسير عليه و هو الحقّ بجميع رحابه و العدل بجميع ألوانه.. و رضوا بما قاله، و هتفوا: ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك..

و انثال عليه الناس من كلّ جانب و هم يطالبونه بقبول خلافتهم،

و وصف الإمام في خطبته الشقشقيّة إصرار الجماهير و ازدحامهم عليه بقوله:

«فما راعني إلاّ و النّاس كعرف الضّبع (1) إليّ ، ينثالون عليّ من كلّ جانب، حتّى لقد وطئ الحسنان، و شقّ عطفاي (2) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم» (3).

و أجّلهم الإمام إلى صباح اليوم الثاني لينظر في الأمر، فافترقوا على ذلك (4).

قبول الإمام:

و فكّر الإمام في قبول الخلافة، فرأى أنّ المصلحة تقتضي قبولها، و ذلك خوفا من أن ينزو عليها علج من فسّاق بني أميّة، قال عليه السّلام:

«و اللّه! ما تقدّمت عليها - أي على الخلافة - إلاّ خوفا من أن ينزو على الأمّة تيس من بني أميّة، فيلعب بكتاب اللّه عزّ و جلّ ..» (5).

إنّ الإمام لم تكن له أية رغبة في الخلافة، فإنّه لم يكن من عشّاق الملك و السلطان، و لا ممّن يبغي الحكم لينعم في خيرات البلاد.. إنّه ربيب الوحي الذي

ص:14


1- عرف الضبع: الشعر الكثير الذي يكون على عنق الضبع، يضرب به المثل في كثرة ازدحام الناس.
2- شقّ عطفاي: أراد به ما أصابه من الخدش من كثرة ازدحام الناس.
3- ربيضة الغنم: الطائفة الرابضة، و هو وصف لجثوم الناس حوله.
4- حياة الإمام الحسين عليه السّلام 400:1.
5- العقد الفريد 93:3.

برهن في جميع أدوار حياته على الزهد في الدنيا و العزوف عن جميع رغباتها.

البيعة:

و هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم و هي تنتظر بفارغ الصبر قبول الإمام لخلافتهم، و أقبل الإمام عليه السّلام و إلى جانبيه سبطا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد احتفّت به البقيّة الطاهرة من صحابة رسول اللّه كعمار بن ياسر و مالك الأشتر و غيرهما،

و قد ارتفعت أصوات الجماهير بالتأييد الكامل له و الهتاف بحياته، فاعتلى عليه السّلام أعواد المنبر و خاطب الجماهير:

«أيّها النّاس! إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمّرتم، و قد افترقنا بالأمس و كنت كارها لأمركم، فأبيتم إلاّ أن اكون عليكم، ألا و إنّه ليس لي أن آخذ درهما دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، و إلاّ فلا آخذ على احد - يعني البيعة».

و حكى كلام الإمام عليه السّلام أنّ أمر الخلافة راجع إلى الأمّة، و ليس له أي دخل فيه، كما أعرب الإمام عن سياسته المالية، فهو يحتاط فيها كأشدّ ما يكون الاحتياط ، فإنّه لا يستأثر بدرهم و احد فينفقه على نفسه أو على من يختصّ به، و قد أشار بذلك إلى الحكم المباد، فقد نهب الأمويّون أموال المسلمين و أنفقوها على شهواتهم و رغباتهم.

و على أي حال فقد تعالت الهتافات من جميع جنبات الجامع و هي تعلن الاصرار الكامل على انتخابه قائلين:

نحن على ما فارقناك عليه بالأمس..

و تدافعت الجماهير إلى بيعته،

و تقدّم طلحة فبايع بيده الشلاّء التي سرعان ما نكث بها عهد اللّه، و تطيّر منه الإمام و قال:

ص:15

«ما أخلقه أن ينكث»! و قد نكث بيعته، و خاس بعهده، و أعلن التمرّد و العصيان على حكومة الإمام عليه السّلام، كما سنتحدّث عن ذلك.

و على أي حال فقد انثالت الجماهير تبايع الإمام و هي إنّما تبايع اللّه و رسوله، و قد بايعته القوّات المسلّحة من المصريّين و العراقيّين و غيرهم، كما بايعه عرب الأمصار و أهل بدر و المهاجرون و الأنصار عامّة (1).

و لم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها و اتّساعها، فلم تكن بيعته «فلتة» كما كانت بيعة أبي بكر، و لا تضارعها بيعة أي أحد من الخلفاء (2).

ابتهاج المسلمين:

و ابتهج المسلمون بهذه البيعة، و عمّت الفرحة الكبرى جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد رجع الحقّ إلى نصابه و قامت دولة العدل، و تقلّد الخلافة أبو الأيتام و ناصر المحرومين و المظلومين.

و قد حكى الإمام في بعض خطبه مدى سرور الناس ببيعته، قال عليه السّلام:

«و بلغ من سرور النّاس ببيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصّغير، و هدج إليها الكبير، و تحامل نحوها العليل، و حسرت إليها الكعاب».

لقد انتشرت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام ألوية العدالة الإسلامية، و تحقّقت الأهداف الأصيلة التي ينشدها الإسلام في عالم السياسة و الإدارة و الحكم.

ص:16


1- أنساب الأشراف 22:5.
2- كانت بيعة الإمام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة، ذكر ذلك البلاذري في أنساب الأشراف (933:3) و في جواهر المطالب (291:1) أنّ بيعته كانت يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجّة سنة 35 ه .

تأييد الصحابة:

اشارة

و انبرى كبار الصحابة الذين ناصروا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ساهموا في بناء الإسلام فأعلنوا تأييدهم الكامل للإمام، و هم:

1 - ثابت بن قيس:

و وقف ثابت بن قيس خطيب الأنصار أمام الإمام و خاطبه قائلا:

و اللّه! يا أمير المؤمنين، لئن كانوا قد تقدّموك في الولاية فما تقدّموك في الدين، و لئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم، و لقد كانوا و كنت، لا يخفى موضعك، و لا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون و ما احتجت إلى أحد مع علمك.

و حكى هذا الخطاب سموّ مكانة الإمام و عظيم منزلته، فانّ الخلفاء الذين سبقوه إنّما سبقوه في الخلافة لا في الدين، فإنّه أوّل من آمن باللّه و برسوله، و هو المجاهد الأوّل في دنيا الإسلام، و الخلفاء و غيرهم محتاجون لعلمه و هو غير محتاج لأحد منهم.

2 - خزيمة بن ثابت:

و هو الصحابي الفذّ الذي نال ثقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فجعل شهادته تساوي شهادة اثنين، و قد أقبل نحو الإمام و قال له:

يا أمير المؤمنين، ما أصبنا لأمرنا هذا - أي الخلافة - غيرك، و لا كان المنقلب إلاّ إليك، و لئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيمانا، و اعلم الناس باللّه، و أولى المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لك ما لهم، و ليس لهم ما لك..

ثمّ خاطب الجماهير بهذه الأبيات:

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا أبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وجدناه أولى الناس بالناس إنّه أطبّ قريش بالكتاب و بالسّنن

ص:17

و إنّ قريشا ما تشقّ غباره إذا ما جرى يوما على الضّمّر البدن

و فيه الذي فيهم من الخير كلّه و ما فيهم كلّ الّذي فيه من حسن (1)

و أشادت هذه الكلمات نثرا و نظما بمكانة الإمام، و أنّه أوّل الناس إسلاما، و أقدمهم إيمانا، و أنّه أعلم الناس باللّه، و أولاهم برسوله صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه شارك الخلفاء في مؤهّلاتهم و لم يشاركوه في مؤهّلاته و صفاته.

3 - صعصعة بن صوحان:

و انبرى المجاهد الكبير صعصعة بن صوحان فخاطب الإمام قائلا:

و اللّه! يا أمير المؤمنين، لقد زيّنت الخلافة و ما زانتك، و رفعتها و ما رفعتك، و لهي أحوج منك إليها.. (2).

و حكت هذه الكلمات الصدق بجميع رحابه و مفاهيمه، فالإمام بتسلّمه للحكم قد زان الخلافة و ازدهرت به، و لم تكسبه أي شيء من معطياتها.

4 - مالك الأشتر:

و انبرى الزعيم الكبير مالك الأشتر، و هو من ألصق الناس بالإمام و من أكثرهم فهما له، فخاطب المسلمين قائلا:

ص:18


1- مستدرك الحاكم 115:3. و ذكر السيّد المرتضى في الفصول المختارة 67:2 زيادة على هذه الأبيات و هي: وصيّ رسول اللّه من دون أهلهو فارسه قد كان في سالف الزمن و أوّل من صلّى من الناس كلّهمسوى خيرة النسوان و اللّه ذو المنن و صاحب كبش القوم في كلّ وقعةيكون لها نفس الشجاع لدى الذّقن فذاك الذي تثني الخناصر باسمهإمامهم حتى اغيّب في الكفن
2- بهذا المعنى أدلى أحمد بن حنبل قال: «إنّ الخلافة لم تزيّن عليّا بل عليّ زانها». مناقب أحمد: ص 163.

أيّها الناس، هذا وصيّ الأوصياء، و وارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن العناء، الذي شهد له كتاب اللّه بالإيمان، و رسوله بجنّة الرضوان، من كملت فيه الفضائل، و لم يشكّ في سابقته و علمه و فضله الأواخر و لا الأوائل..

أمّا الزعيم مالك فهو من أكثر أصحاب الإمام و عيا و فهما لحقيقته، و قد حكت هذه الكلمات مدى فهمه للإمام عليه السّلام، فهو وصيّ الأوصياء، و وارث علم الأنبياء، و هذه هي عقيدة الشيعة في الإمام منذ فجر تأريخهم حتى يوم الناس هذا.

5 - عبد الرحمن الجمحي:

و انبرى عبد الرحمن بن حنبل الجمحي فأبدى سروره البالغ ببيعة الإمام، و أنشأ هذه الأبيات:

لعمري لقد بايعتموا ذا حفيظة على الدّين معروف العفاف موفّقا

عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجدا صدوقا مع الجبّار قدما مصدّقا

أبا حسن فارضوا به و تمسّكوا فليس لمن فيه يرى العيب مطلقا

عليّا وصيّ المصطفى و ابن عمّه و أوّل من صلّى لذي العرش واثقا (1)

و معنى هذه الأبيات أنّ المسلمين قد بايعوا المحافظ على دينهم، العفيف في سلوكه، المنزّه عن كلّ عيب و نقص، و فيها دعوة المسلمين إلى التمسّك ببيعته، فهو وصي المصطفى و ابن عمّه، و أوّل من صلّى و آمن باللّه.

6 - عقبة بن عمرو:

و قام عقبة بن عمرو فأشاد بفضل الإمام عليه السّلام قائلا:

من له يوم كيوم العقبة، و بيعة كبيعة الرضوان، و الإمام الأهدى الذي لا يخاف

ص:19


1- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 379:1.

جوره، و العالم الذي لا يخاف جهله.. (1) ؟ و تتابعت كلمات أعلام الصحابة و هي تشيد بفضل أبي الحسن، و تذكر مناقبه و فضائله، و تدعو المسلمين إلى دعم حكومته.

الوفود المهنّئة:

اشارة

و عمّت الفرحة الكبرى جميع أنحاء العالم الإسلامي، و هرعت الوفود إلى المدينة، و هي تعلن تأييدها لحكومة الإمام و ولاءها، و هذه بعضها:

1 - وفد اليمن:

و وفدت إلى المدينة جمهرة كبيرة من اليمن لتهنئة الإمام و المسلمين بهذه البيعة المباركة، و كان الوفد في أثناء مسيرته ينشد ارجوزة له كان منها هذا البيت:

سيروا بنا في ظلمة الحنادس في مهمة قفر الفلاة واهس

و لمّا قدموا إلى المدينة أمر الإمام عليه السّلام باستقبالهم و الترحيب بهم، فخرج إليهم مالك و قال لهم:

قدمتم خير مقدم إلى قوم يحبّونكم و تحبّونهم، إلى إمام عادل، و خليفة فاضل، قد رضي به المسلمون، و بايعه الأنصار و المهاجرون..

و أقبل الوفد يسير و أمامهم الزعيم مالك الأشتر، فلمّا تشرّفوا بمقابلة الإمام رفع مالك صوته قائلا:

أتتك عصابة من خير قوم يمانيّون من حضر و بادي

و رحّب بهم الإمام و قدّم لهم شكره الجزيل على تهنئتهم له بالخلافة.

ص:20


1- تاريخ اليعقوبي 155:2.

2 - قبائل همدان:

أمّا قبائل همدان فقد عرفت بالولاء و الإخلاص للإمام، و قد زحفت إلى المدينة بقيادة زعيمها رفاعة بن وائل، و هي تقدّم ولاءها للإمام و دعمها الكامل لحكومته، و كان ممّا قاله رفاعة زعيم الوفد:

نسير إلى عليّ ذي المعالي بخير عصابة يمن كرام

3 - وفد جهينة:

و من جملة الوفود المهنّئة وفد جهينة بزعامة كيسون بن سلمة الجهني، و قد أنشد عند مقابلته للإمام أبياتا منها هذا البيت:

أجبنا عليّا بعل بنت نبيّنا على كلّ حنذيذ من الخيل سابح

4 - وفد بجيلة:

و وفدت بجيلة على الإمام ترفع تهانيها له، و على رأسها شاعرها رويبة العجلي و هو ينشد:

أجبناه دون الهاشميّ سوابح و مواه براق مقفرات موادخ (1)

هذه بعض الوفود التي أقبلت إلى المدينة، و هي تهنّئ الإمام عليه السّلام بالخلافة، و لم يعهد نظير ذلك في بيعة الخلفاء الذين سبقوا الإمام.

الدعاء على المنابر للإمام:

أمّا الإمام عليه السّلام فهو أوّل خليفة دعي له على المنابر بالتأييد و النصر، و لم يحظ بمثل ذلك غيره، و كان أوّل من دعا له عبد اللّه بن عباس، فقال:

ص:21


1- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 379:1-380.

اللّهمّ انصر عليا على الحقّ .. (1).

وجوم القرشيّين:

و استقبلت قريش خلافة الإمام عليه السّلام بكثير من الفزع و الوجوم و الاضطراب؛ لأنّ الإمام عليه السّلام قد وترهم في سبيل الدعوة الإسلامية، و قضى على الكثيرين من أعيانهم و وجوههم، فقد قتل من أعلام بني أميّة عتبة بن ربيعة جدّ معاوية، و الوليد ابن عتبة خال معاوية، و حنظلة أخاه، و غيرهم من أقطاب الشرك و الالحاد، فكانت نفوسهم مترعة بالحقد و العداء للإمام، و مضافا لذلك فإنّ سياسة الإمام و منهجه في الحكم يتصادم مع مصالحهم و منافعهم، فالإمام يحارب الأثرة و الاستغلال، و لا يقرّ بحال من الأحوال سياسة النهب التي سار عليها عثمان، لذلك كرهت قريش حكومة الإمام و أعلنت عليه التمرّد و العصيان.

و قد سارع الوليد و معه بنو أميّة إلى الإمام ليبايعوه على الغضّ بما في أيديهم من الأموال التي استأثروا بها في أيام عثمان، و قال الوليد للإمام:

إنّك قد وترتنا جميعا، أمّا أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر، و أمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر، و كان أبوه من نور قريش، و أمّا مروان فشتمت أباه، و عبت على عثمان حين ضمّه إليه، فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا، و تعفو لنا عمّا في أيدينا، و تقتل قتلة صاحبنا - يعنى عثمان..

فردّ عليه الإمام بمنطق الحقّ الذي لا تعيه قريش قائلا:

«أمّا ما ذكرت من و تري إيّاكم فالحقّ وتركم، و أمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ اللّه عنكم و لا عن غيركم، و أمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان للّه

ص:22


1- مآثر الانافة في معالم الخلافة 231:2، و جاء فيه: «أنّ الناس بعد الدعاء للإمام اقتدوا به للدعاء للخلفاء».

و للمسلمين فالعدل يسعكم، و أمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غدا و لكن لكم أن أحملكم على كتاب اللّه و سنّة نبيّه، فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق، و إن شئتم فالحقوا بملاحقكم..» (1).

إنّ بني اميّة و معها قريش تريد من الإمام أن يهبها الأموال التي اختلسوها في أيام عثمان، و تريد منه الانحراف عن منهجه و إيثاره لمصالح المسلمين على كلّ شيء، و لكن الإمام لم يحفل بهم، و قد عاهد اللّه أن يسير بين المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص، و أن يقف بالمرصاد لكلّ ظالم، و أن لا يخضع للأحداث مهما كانت قاسية و شديدة، فلذا تنكّرت له القوى الباغية من قريش التي ما آمنت باللّه طرفة عين، و قد وصف ابن أبي الحديد حالهم حينما آلت الخلافة للإمام بقوله:

«كأنّها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمّه من إظهار ما في النفوس، و هيجان ما في القلوب حتّى انّ الأخلاف من قريش، و الأحداث و الفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه و فتكاته في أسلافهم و آبائهم فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله» (2).

لقد امتحن الإمام امتحانا عسيرا بالأسر القرشيّة، و راح يصعّد آلامه و زفراته منهم قائلا:

«ما لي و لقريش! و اللّه! لقد قاتلتهم كافرين، و لأقاتلنّهم مفتونين،... و اللّه! لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته! فقل لقريش: فلتضجّ ضجيجها».

إنّ قريشا حالت بين الإمام و الخلافة منذ وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فصرفتها تارة لتيم، و أخرى إلى عدي، و ثالثة إلى بني اميّة، و هي جادّة في خلق الفتن و المشاكل حتى تجهز على حكومته.

1

ص:23


1- تاريخ اليعقوبي 155:2.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 114:11.

القعّاد:

و تخلّف عن بيعة الإمام جماعة سمّاهم المسعودي ب «القعّاد» (1) ، و سمّاهم أبو الفداء ب «المعتزلة» (2) ، و قال فيهم الإمام:

«اولئك قوم قعدوا عن الحقّ ، و لم يقوموا مع الباطل»(3)، و هم: سعد بن أبي وقّاص، و عبد اللّه بن عمر، و حسّان بن ثابت، و كعب بن مالك، و مسلمة بن مخلد، و أبو سعيد الخدري، و محمّد بن مسلمة، و النعمان بن بشير، و زيد بن ثابت، و رافع ابن خديج، و فضالة بن عبيدة، و كعب بن عجرة، و عبد اللّه بن سلام، و صهيب بن سنان، و سلامة بن سلامة، و اسامة بن زيد، و قدامة بن مظعون، و المغيرة بن شعبة (4) ، و هؤلاء قد انحرفوا عن الحقّ ، و مالوا عن الطريق القويم، و ليس لهم أي مبرّر في تخلّفهم عن بيعة الإمام رائد العدالة في دنيا الإسلام.

و اعتذر سعد بن أبي وقّاص - و هو أحد العشرة المبشّرة في الجنّة - كما يقولون عن سبب اعتزاله عن بيعة الإمام و عن بني اميّة أيام المحنة الكبرى، فقال: إنّي لا اقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر، عاقل، ناطق ينبئني أنّ هذا مسلم و هذا كافر..، و هو اعتذار مردود مرفوض؛ فإنّ بيعة الإمام عليه السّلام كانت شرعية، فقد صرّح بها الإمام و بايعه جمهور المسلمين، و لم تكن بيعته فلتة، و لم يتخلّف عنها إلاّ من شذّ عن طريق العدل، أ لم يسمع سعد و غيره

حديث النبيّ في عليّ : «عليّ مع الحقّ ، و الحقّ مع عليّ »؟ بلى و اللّه! قد سمعوا ذلك، و سمعوا ما هو أكثر من ذلك، و لكنّ الأحقاد و الأضغان هي التي دفعت سعدا لأن يتخلّف عن البيعة، و قد ردّ عليه الطيّب

ص:24


1- مروج الذهب (المطبوع بهامش ابن الأثير) 78:6.
2- تاريخ أبي الفداء 176:1-178.
3- الاستيعاب 55:3.
4- الكامل في التاريخ 74:3.

ابن الطيّب عمّار بن ياسر فقال له:

ويحك يا سعد! أ ما تتّقي اللّه الذي إليه معادك ؟ أ يدعوك أمير المؤمنين إلى البيعة فتسأله أن يعطيك سيفا له لسان و شفتان ؟ و اللّه! إنّ فيك لهنات، و أنشأ أبياتا مطلعها:

قال سعد: لدى الإمام و سعد في الذي قاله حقيق ظلوم (1)

و أخيرا ندم سعد على ما فرّط في أمره، و ودّ أن يكون مع الإمام.

أمّا عبد اللّه بن عمر فقد اترعت نفسه بالحقد على الإمام، و قد انبرى إليه رافعا عقيرته قائلا: يا عليّ ، اتّق اللّه و لا تنزونّ (2) على أمر الأمّة بغير مشورة (3).

الإمام الذي انتزى على الامّة بغير مشورتها كما يقول عبد اللّه، و قد بايعه المسلمون على اختلاف طبقاتهم و ميولهم.. و قد ندم على تخلّفه عن بيعة الإمام حيث لم يجد الندم شيئا، و كان يقول عند موته: إنّي لم أخرج من الدنيا و ليس في قلبى حسرة إلاّ تخلّفي عن عليّ .. و قد انتقم اللّه منه و أراه الذلّ ، فقد عاش إلى زمن عبد الملك، فجاء الحجّاج ليأخذ البيعة له، فجاء عبد اللّه في آخر الناس لئلا يراه أحد، فعرف الحجّاج ذلك فاحتقره، و قال له:

لم لم تبايع أبا تراب ؟ و جئت تبايع عبد الملك آخر الناس ؟ أنت أحقر من أن أمدّ لك يدي، دونك رجلي فبايع...

و مدّ إليه رجله و فيها نعله فبايعها (4).

ص:25


1- حياة الإمام الحسين عليه السّلام 384:1، نقلا عن الفتوح 258:2.
2- كذا في الأصل، و الصحيح: «لا تنزونّ » أي لا تثبنّ .
3- أنساب الأشراف 149:2.
4- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 384:1-385.

أ رأيتم هذه الاستهانة و التحقير؟ فإنّ اللّه تعالى بالمرصاد لكلّ ظالم منحرف عن الطريق القويم.

إنّ هؤلاء القعّاد على علم أنّ الإمام عليه السّلام أولى بمقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أحقّ بمركزه من بعد وفاته مباشرة، و ذلك لسابقته إلى الإسلام، و جهاده في قمع أئمّة الكفر و الضلالة، بالاضافة إلى مواهبه و عبقرياته، و لكن الأهواء باعدت بين القوم و بين دينهم، فناصبوه العداء، و أزالوه عن مركزه و مقامه، و قال فيهم الإمام أولئك قوم قصدوا عن الحقّ (1).

مصادرة الأموال المنهوبة:

و أوّل عمل باشره الإمام بعد توليته للخلافة أنّه أصدر قراره الحاسم بمصادرة القطائع التي أقطعها عثمان لبني اميّة و غيرهم، و استرجاع الأموال الهائلة التي و هبها لهم؛ لأنّها اخذت بغير وجه مشروع، و قد صودرت أموال عثمان حتى سيفه و درعه، و في ذلك يقول الوليد بن عقبة مخاطبا بني هاشم:

بني هاشم ردّوا سلاح ابن اختكم و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا و عند عليّ درعه و نجائبه

بني هاشم كيف التودّد منكم و بزّ ابن أروى فيكم و حرائبه

بني هاشم إلاّ تردّوا فإنّنا سواء علينا قاتلاه و سالبه

بني هاشم إنّا و ما كان منكم كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

و حكت هذه الأبيات لوعة الأمويّين و خوفهم من مصادرة أموالهم

ص:26


1- الرياض النضرة 324:2.

و ممتلكاتهم التي استأثروا بها بغير وجه مشروع.. و شاعت هذه الأبيات بين الناس فردّ عليه عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها:

فلا تسألونا سيفكم إنّ سيفكم اضيع و ألقاه لدى الروع صاحبه

و شبّهته كسرى و قد كان مثله شبيها بكسرى هديه و ضرائبه (1)

و معنى هذا الشعر أنّه ليس للأمويّين المطالبة بسيف عثمان و لا بما اخذ منه لأنّ السلطة الشرعية قد صادرته بحقّ ، كما أنّ الشاعر قد صادق الوليد في تشبيهه لعثمان بكسرى فقد كان مثله في هديه و سلوكه.

و على أي حال فقد كانت هذه الإجراءات العادلة التي اتّخذها الامام ضدّ الأمويّين متّفقة مع قواعد الشرع، فإنّ تلك الأموال التي اختصّ بها عثمان و بنو اميّة كانت من بيت مال المسلمين، و قد أخذت بغير وجه مشروع، فالواجب على الحاكم الشرعي إرجاعها إلى بيت المال..

و قد أثارت هذه السياسة سخط الأمويّين و فزعهم، كما أثارت فزع الذين منحهم عثمان الأموال الهائلة، فقد أوجس خيفة في نفسه كلّ من طلحة و الزبير و غيرهما ممّن وهبهم عثمان الثراء العريض. و قد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها:

ما كنت صانعا فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه، كما تقشّر عن العصا لحاها..

لقد خافت الفئة التي غرقت بالأموال من حكم الإمام بمصادرتها و مصادرة كلّ مال نهب من أموال المسلمين.. و لهذا السبب و غيره أظهرت هذه القوى النفعية بوادر الشقاق و البغي، و أعلنت العصيان المسلّح ضدّ حكومة الإمام.

ص:27


1- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 385:1.

عزل الولاة:

و ثمّة إجراء آخر قام به الإمام ضدّ حكومة عثمان، فقد بادر إلى عزل ولاته واحدا بعد واحد ممّن أظهروا الجور و الفساد في الأرض، فقد أقصى جميع الأمويّين عن جهاز دولته لأنّ إبقاءهم في مناصبهم إقرار للظلم و الطغيان، و قد عزل بالفور معاوية بن أبي سفيان الذي هو من أعظم ولاة عمر و عثمان، و قد نصحه جماعة من المخلصين له بإبقائه على عمله حتى تستقرّ الأوضاع، فأبى و امتنع من المداهنة في دينه، و قد دخل عليه زياد بن حنظلة ليعرف رأيه في معاوية فقال له الإمام:

لأي شيء يا أمير المؤمنين نغزوا الشام ؟.. الرفق و الأناة أمثل..

فأجابه الإمام:

«متى تجمع القلب الذّكيّ و صارما و أنفا حميا تجتنبك المظالم»

و عبأ جنوده لغزو الشام، و القضاء على معاوية إلاّ أنّه فوجئ بتمرّد طلحة و الزبير و عائشة، فانشغل بهم، و انصرف إلى البصرة لانقاذها منهم.

سياسته الداخلية:

اشارة

و أجهد الإمام نفسه على أن يسوس الناس بسياسة مشرقة قوامها العدل الخالص، و الحقّ المحض، و ينشر الرفاه و الأمن، و يوزّع الخيرات على العباد بالسواء، فلا يختصّ بها قوم دون آخرين..

و هذه شذرات من سياسته الداخلية:

المساواة:

اشارة

و تبنّى الإمام عليه السّلام في جميع مراحل حكمه المساواة و العدالة بين الناس، فلا امتياز لأي أحد على غيره، و هذه بعض مظاهر مساواته:

ص:28

1 - المساواة في العطاء:

و ساوى الإمام عليه السّلام في العطاء بين المسلمين و غيرهم، فلم يقدّم عربيا على غيره، و لا مسلما على مسيحي (1) ، و لا قريبا على غيره، و سنتحدّث عن كثير من مساواته في العطاء الأمر الذي نجم منه أنّه تنكّرت له الأوساط الرأسمالية و أعلنوا الحرب عليه.

2 - المساواة أمام القانون:

و ألزم الإمام عمّاله و ولاته على الأقطار بتطبيق المساواة الكاملة بين الناس في القضاء و غيره، قال عليه السّلام في إحدى رسائله إلى بعض عمّاله:

«فاخفض لهم جناحك، و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك، و اس بينهم في اللّحظة و النّظرة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، و لا ييأس الضّعفاء من عدلك...» (2).

3 - المساواة في الحقوق و الواجبات:

و من مظاهر المساواة العادلة التي أعلنها الإمام عليه السّلام المساواة بين المواطنين في الحقوق و الواجبات، فلم يفرض حقّا على الضعيف و يعف عن القوي، بل الكلّ متساوون أمام عدله.

المواساة:

من برامج سياسة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مواساته للفقراء و الضعفاء في جشوبة العيش و مكاره الدهر، و قد أعلن عن مواساته للشعوب الإسلامية بقوله:

ص:29


1- تاريخ اليعقوبي 129:2.
2- نهج البلاغة 563:3.

«أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش!.. و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص...

و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ»

هذه مواساته للمحرومين و الفقراء، و ليس في تاريخ الإسلام و غيره حاكم واسى رعيّته في آلامهم و بؤسهم و فقرهم غيره.

إلغاء التفاخر بالآباء:

و نهى الإمام عليه السّلام رعيّته عن التفاخر بالآباء و الأجداد و المباهات بالبنين و الأموال (1) ، و غير ذلك من التفاخر بما يؤول أمره إلى التراب.

إنّ التفاخر و التفاضل إنّما هو بعمل الخير، و ما يسديه الإنسان لوطنه و امّته من ألطاف ينتعش بها الجميع و تتطوّر بها حياتهم الفكرية و الاجتماعية، أمّا غير ذلك فهو من الفضول الذي ليس وراءه إلاّ السراب.

منع الشطرنج:

و منع الإمام في دور حكومته من اللعب بالشطرنج، فقد مرّ على قوم يلعبون به فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، و قلب الرقعة عليهم (2).

نهيه عن الجلوس في الطريق:

و منع عليه السّلام الناس في الكوفة من الجلوس على ظهر الطريق؛ لأنّه مظنّة للتعرّض لأعراض الناس، فكلّمه الكوفيون في ذلك فقال لهم:

«أدعكم على شريطة ؟».

ص:30


1- خزانة الأدب 59:3.
2- الفروسية - ابن الجوزي: 73.

قالوا: و ما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال: «غضّ الأبصار، و ردّ السّلام، و إرشاد الضّالّ »، قالوا قد قبلنا فتركهم.

حرقه لمحلاّت الخمر:

أمّا الخمر فإنّه من الجرائم التي تصدّ عن ذكر اللّه و تلقي الناس في شرّ عظيم، و قد اتّخذ الإمام جميع الإجراءات لمنع انتشاره بين الناس، و قد حرق الإمام قرية من قرى الكوفة يباع فيها الخمر.

إحداثه للسجن:

و الإمام هو أوّل خليفة أحدث السجن، و قد بنى سجنا يسمّى نافعا، و لم يكن بناؤه محكما، فكان السجناء يخرجون منه، فهدّمه و بنى سجنا سمّاه نحيسا و قال:

«أ لا تراني كيّسا مكيسا؟ بنيت بعد نافع نحيسا

حصنا حصينا و أميرا كيسا»

انشاؤه بيتا للمظالم:

و أنشأ الإمام بيتا للمظالم أنشاه للذين لا يتمكّنون من الوصول إلى السلطة، و كان عليه السّلام يشرف عليه بنفسه و لا يدع أحدا يصل إليه فيطّلع على الرقاع، و يبعث خلف المظلوم و يأخذ بحقّه من الظالم، و لمّا صارت واقعة النهروان و رجع إلى الكوفة فتح باب البيت فوجد الرقاع كلّها مليئة بسبابه و شتمه، فألغى ذلك البيت (1).

شرطة الخميس:

و أحدث الإمام عليه السّلام جهازا للمحافظة على الأمن و مراقبة الأحداث، و قد سمّاه (شرطة الخميس)، و قد اختار لها خيرة الرجال في إيمانهم و تحرّجهم في الدين،

ص:31


1- صبح الأعشى 471:1.

و كان منهم المجاهد الشهيد حبيب بن مظاهر و عفاق بن المسيح الفزاري (1).

مع رجل طويل الذيل:

رأى الإمام عليه السّلام رجلا طويل الذيل في لباسه فقال عليه السّلام:

«يا هذا، قصّر من هذا، فإنّه أنقى، و أبقى، و أتقى» (2).

تقديمه لقنبر عليه:

و كان من مظاهر عدله و سموّ ذاته أنّه قدّم خادمه قنبرا على نفسه في لباسه و طعامه،

فقد اشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم و الآخر بدرهمين، فقال لقنبر: خذ الثوب الذي بثلاثة دراهم، فقال قنبر:

أنت أولى به يا أمير المؤمنين، أنت تصعد المنبر و تخطب ؟ فقال عليه السّلام:

«يا قنبر، أنت شابّ ، و لك شره الشّباب، و أنا استحي من ربّي أن اتفضّل عليك..» (3).

أمره بكتابة الحوائج:

و أصدر الإمام عليه السّلام مرسوما بكتابة الحوائج و عدم ذكر أسمائهم، فقد قال عليه السّلام لأصحابه:

«من كانت له إليّ منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم من المسألة» (4).

ص:32


1- خزانة الأدب 130:7.
2- التمثيل و المحاضرة: 284.
3- الغارات 99:1.
4- العقد الفريد 238:1.

مدير شرطة الإمام:

أمّا مدير شرطة الإمام فهو من خيار الرجال، و هو معقل بن قيس الرياحي (1).

كاتبه:

أمّا كاتبه فهو سعيد بن نمران سيّد همدان (2) ،

و كان الإمام يقول للكاتب:

«فرّج ما بين السّطور، و قرّب بين الحروف» (3).

و من الجدير بالذكر أنّ الخلفاء الذين سبقوا الإمام كانوا يستكتبون بعض الأشخاص من الذين خانوهم، فكان مروان كاتبا لعثمان و قد خانه، و هو الذي أشعل الرعية حربا عليه، و لكن لمّا آل الأمر إلى عليّ اشتدّ في الأمر، و بذل المزيد من الاهتمام بما لم ير مثله (4).

و كان من كتّابه عبيد اللّه بن أبي رافع مولى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5).

الصراحة و الصدق:

و الشيء البارز في سياسة الإمام عليه السّلام التزام الصراحة و الصدق في جميع شئون حياته، فلم يوارب و لم يخادع و لم يداهن في دينه، و سار على منهج أخيه و ابن عمّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لو أنّه التزم بالأعراف السياسية السائدة في عصره و غيره لمّا آلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان، فقد ألحّ عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه شريطة أن يسير بسيرة الشيخين، فامتنع من إجابته، و صارحه أنّه يسوس الأمّة بمنهاج الكتاب و السنّة و ليس غيرهما رصيدا يستند إليه في عالم السياسة و الحكم، لقد أبى

ص:33


1- المجد: 373.
2- المجد: 377. لطائف المعارف: 59.
3- تاج العروس 204:5.
4- رسائل الجاحظ 189:2.
5- صبح الأعشى 126:1.

ضميره الحيّ أن يخادع أو يماكر في سبيل الوصول إلى السلطة، فقد زهد فيها، و تنكّر لجميع مغرياتها،

و كان كثيرا ما يتنفّس الصعداء من الآلام المحيطة به من جرّاء خصومة القرشيين، فكان يقول:

«وا ويلاه! يمكرون بي، و يعلمون أنّي بمكرهم عالم، و أعرف منهم بوجوه المكر، و لكنّي أعلم أنّ المكر و الخديعة في النّار، فأصبر على مكرهم و لا أرتكب مثل ما ارتكبوا» (1).

و ردّ على من قال فيه إنّه لا دراية له بالشؤون السياسة و إنّ معاوية خبير بها قال عليه السّلام:

«و اللّه! ما معاوية بأدهى منّي، و لكنّه يغدر و يفجر. و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس» (2).

و أنكر على بعض الناس الذين يتوسّلون و يستخدمون جميع الوسائل للوصول إلى الحكم، و قد برّروا ذلك بأنّها حيلة منهم قال عليه السّلام:

«و ما يغدر من علم كيف المرجع. و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا، و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم! قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونها مانع من أمر اللّه و نهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين (3).

على هذا الخلق الرفيع بنى الإمام سياسته الرشيدة التي لا التواء و لا خداع فيها، و التي كانت السبب في خلوده في جميع الأجيال و الآباد.

ص:34


1- جامع السعادات 202:1.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 206:20.
3- حياة الإمام الحسين عليه السّلام 423:1.

إلغاء المهرجانات الشعبية:

و لم يحفل الإمام عليه السّلام بالمهرجانات الشعبية و نفر منها، و كان من ذلك أنّه لمّا قدم من حرب الجمل و اجتاز على المدائن خرج أهلها لاستقباله، و علت زغردة النساء، و ذهل الإمام من ذلك فسألهم عن مهرجانهم، فقالوا له: إنّا نستقبل ملوكنا بمثل ذلك، فقال لهم الإمام بما مضمونه: إنّه ليس ملكا و إنّما هو كأحدهم، يقيم فيهم الحقّ و العدل، و لم ينصرف عن مكانه حتى انصرف الناس إلى أعمالهم.

إقامة الحدّ على النجاشي:

كان النجاشي شاعرا رقيقا في نظمه، موهوبا في أدبه، و هو من شعراء الإمام عليه السّلام، و الشعراء في تلك العصور ألسنة الأمّة، و وسائل إعلامها، و قد شرب النجاشي الخمر في شهر رمضان، فقد أغراه أبو سمّال العدويّ ، و قال له: ما تقول في رءوس حملان في كرش في تنوّر قد أينع من أوّل الليل إلى آخره ؟ فقال له النجاشي: ويحك! في شهر رمضان تقول هذا؟ فقال له: ما شهر رمضان و شوّال إلاّ سواء، و قال له النجاشي: فما تسقيني عليه ؟ قال: شرابا كأنّه الورس يطيّب النفس و يجري في العظام و يسهّل الكلام، و دخلا المنزل فأكلا و شربا، فلمّا أخذ الشراب منهما مأخذا تفاخرا، و علت أصواتهما، فسمع جار صوتهما فسارع إلى الإمام فأخبره، فأرسل للقبض عليهما بعض شرطته، فأمّا أبو سمّال فقد هرب و لم يقبض عليه،

و أمّا النجاشي فقد قبضت عليه الشرطة و جاءت به مخفورا إلى الإمام فقال له:

«ويحك! إنّنا صيام و أنت مفطر؟».

ثمّ أمر أن يضرب ثمانين سوطا، و زاده عشرين سوطا، فقال النجاشي:

ما هذه الزيادة يا أبا الحسن ؟..

فقال عليه السّلام: «لجرأتك على اللّه في شهر رمضان»، ثمّ رفعه إلى الناس في

ص:35

تبّان (1) ، و ذلك لإهانته حتى يرتدع الناس من شرب الخمر، و لم يقم أي وزن لمدح النجاشي له، و من جيّد شعره في الإمام قوله مخاطبا معاوية:

و اعلم بأنّ عليّ الخير من بشر شمّ العرانين لا يعلوهم بشر

نعم الفتى هو إلاّ أنّ بينكما كما تفاضل نور الشّمس و القمر

و ما أظنّك إلاّ لست منتهيا حتّى يمسّك من أظفارهم ظفر

إنّي امرؤ قلّما اثني على أحد حتّى أرى بعض ما يأتي و ما يذر

لا تحمدنّ امرأ حتّى تجرّبه و لا تذمّنّ من لم يبله الخبر (2)

سياسته المالية:

اشارة

كان للإمام عليه السّلام منهج خاصّ متميّز في سياسته المالية، و من أبرز مناهجه أنّه كان يرى المال الذي تملكه الدولة مال اللّه تعالى و مال المسلمين، و يجب إنفاقه على تطوير حياتهم، و إنقاذهم من غائلة البؤس و الحاجة، و لا يختصّ ذلك بالمسلمين، و إنّما يعمّ جميع من سكن بلاد المسلمين من اليهود و النصارى و الصابئة، فإنّ لهم الحقّ فيها كما للمسلمين، و قد تقدّم في البحوث السابقة ما يدعم ذلك. كان الإمام عليه السّلام يرى الفقر كارثة اجتماعية مدمّرة يجب القضاء عليه بجميع الوسائل، و قد اثر عنه أنّه لو كان رجلا لأجهز عليه..

و نلمّح - بإيجاز - إلى بعض معالم سياسته المالية:

توزيع المال:

من المناهج في السياسية المالية التي انتهجها الإمام عليه السّلام في حكومته توزيع الأموال التي تجبى للخزينة المركزية حين وصولها، فكان يبادر إلى إنفاقها على

ص:36


1- التبّان: سراويل صغيرة تستر العورة فقط يستعملها الملاّحون.
2- خزانة الأدب 420:1.

مستحقّيها، و الجهات المختصّة كتعمير الأراضي و إصلاح الري، الأمر الذي يعود على البلاد بالفائدة، و كانت هذه سيرته و منهجه.

و يقول الرواة: إنّ ابن النباح و هو أمين بيت المال جاءه و قال: يا أمير المؤمنين، امتلأ بيت المال من الصفراء و البيضاء، فقال عليه السّلام: «اللّه أكبر»، و قام متوكّئا على ابن النباح، فلمّا انتهى إلى بيت المال قال:

«هذا جناي و خياره فيه و كلّ جان يده إلى فيه»

ثمّ أمر الإمام عليه السّلام باتباع الكوفة (1) فحضروا، و وزّع جميع ما في بيت المال، و هو يقول: «يا صفراء! و يا بيضاء! غرّي غيري» و لم يبق فيه دينارا و لا درهما، ثمّ أمر بنضحه، و صلّى فيه ركعتين (2) ، و ورد إليه مال فقسّمه، ففضل منه رغيف فقسّمه سبعة أقسام و أعطاها لهم، كما وردت إليه زقاق من عسل، فقسّمه عليهم، ثمّ جمع الأيتام فجعل يطعمهم ما بقي في الزقاق من عسل.

لقد كانت هذه سيرة إمام الحقّ و رائد العدل في الأموال التي تجبى للخزينة المركزية، ثمّ لا يستأثر بأي شيء منها لا هو و لا أهل بيته.

ص:37


1- هكذا ورد، و الصحيح الأسباع لأنّ الجيش في عهد الإمام عليه السّلام قد وزّع سباعيا، و هي: السبع الأوّل: يضمّ كنانة، و حلفاءها من الأحابيش و غيرهم و جديلة. السبع الثاني: يضمّ قضاعة و غسّان و بجيلة و خشعما و كندة و حضرموت و الأزد. السبع الثالث: يضمّ مذحجا و حميرا و همدان و حلفاءهم، و هؤلاء قد اتّسموا بالولاء للإمام و الكراهية لبني اميّة. السبع الرابع: و يضمّ تميما و سائر الرباب و حلفاءهم. السبع الخامس: يضمّ أسدا و غطفان و محاربا و ضبيعة و تغلب. السبع السادس: يضمّ أيادا و عكا و عبد القيس و أهل هجر و الحمراء و هم الفرس. السبع السابع: و يضمّ طيّا.. جاء ذلك في حياة الإمام الحسين عليه السّلام 645:2.
2- حلية الأولياء 81:1.

المساواة في العطاء:

و انتهج الإمام عليه السّلام طريقة خاصّة في العطاء، و هي التسوية بين المسلمين، فلم يميّز قوما على قوم، و لا فئة على فئة، و قد جرت له هذه السياسة الأزمات، و خلقت له المصاعب، فقد فسد عليه جيشه و تنكّرت له الوجوه و الأعيان، و ناهضته الرأسمالية القرشية التي استأثرت بأموال المسلمين في عهد الخلفاء.

و قد خالف الإمام عليه السّلام بذلك سياسة عمر التي بنيت على التفاوت بين المسلمين في العطاء فقد فضّل البدريّين على غيرهم، و فضّل الأنصار على غيرهم، و بذلك فقد أوجد الطبقيّة و الرأسمالية بين المسلمين..

لقد ألغى الإمام هذه السياسة إلغاء تامّا، و ساوى بين المسلمين كما كان يفعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا مني جيش الإمام عليه السّلام بالانحلال و التخاذل و اتّجهوا صوب معاوية

سارع ابن عباس نحو الإمام عليه السّلام فعرض عليه حالة جيشه، و ما يصلحه قائلا:

يا أمير المؤمنين، فضّل العرب على العجم، و فضّل قريشا على سائر العرب..

فرمقه الإمام بطرفه، و ردّ عليه قائلا:

«أ تأمرونّي أن أطلب النّصر بالجور؟ و لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه».

لقد تبنّى هذا العملاق العظيم مصالح البؤساء و المحرومين و آثرهم على كلّ شيء، فمن مظاهر عدله في مساواته أنّ سيّدة قرشية، و فدت عليه طالبة منه زيادة مرتبها، فلمّا انتهت إلى الكوفة لم تهتد إلى محل إقامته، فسألت سيّدة عنه، و طلبت منها أن تأتي معها لتدلّها عليه و سارت معها السيّدة، فسألتها القرشية عن مرتبها فأخبرتها به، و إذا هو يساوي مرتبها، و سألتها عن هويّتها فأخبرتها أنّها أعجمية،

ص:38

فلمّا انتهت إلى الجامع الأعظم الذي يقيم فيه الإمام، أمسكت بها القرشية، و لمّا انتهت إلى الإمام أخذت تصيح:

أمن العدل يا ابن أبي طالب أن تساوي بيني و بين هذه الأعجمية ؟ فالتاع الإمام منها، و أخذ قبضة من التراب و جعل يقلّبها بيده و هو يقول:

«لم يك بعض هذا التّراب أفضل من بعض»، و تلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ .

لقد أدّت هذه السياسة المشرقة التي انتهجها الإمام إلى إجماع القوى المنحرفة و الباغية على الاطاحة بحكومته و شلّ فعاليّاتها.

يقول المدائني: «إنّ من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تخاذل العرب عن الإمام اتّباعه لمبدإ المساواة حيث كان لا يفضّل شريفا على مشروف في العطاء و لا عربيا على أعجمي» (1).

إنّ الإنسانية على ما جربت من تجارب، و بلغت من رقي و إبداع في الأنظمة الاقتصادية التي تسير عليها الدولة، فإنّها لم تستطع بحال من الأحوال أن تنشئ أو تقيم مثل هذا النظام.

احتياطه في أموال الدولة:

اشارة

و احتاط الإمام كاشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة، و قد روى المؤرّخون صورا مدهشة من احتياطه فيها كان منها ما يلي:

1 - مع عقيل:

وفد عليه عقيل طالبا منه أن يرفّه عليه و يمنحه الصلة، فأخبره الإمام أنّ ما في

ص:39


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 180:1.

بيت المال للمسلمين، و ليس له أن يأخذ منه قليلا و لا كثيرا، و إذا منحه و أعطاه منه فإنّه يكون خائنا و مختلسا، و أخذ عقيل يلحّ عليه و يجهد في مطالبته، فأحمى له الإمام حديدة و أدناها منه، فظنّ أنّها صرّة فيها مال، فألقى نفسه عليها، فلمّا مسّها كاد أن يحترق من ميسمها، و ضجّ ضجيج ذي دنف منها، فلمّا أفاق أجمع رأيه على الالتحاق بمعاوية لينعم في صلاته و أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين.

2 - مع الحسن و الحسين:

و لم يمنح الإمام أي شيء من بيت المال لسبطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عاملهما كبقيّة أبناء المسلمين. يقول خالد بن معمر الأوسي لعلياء بن الهيثم و كان من أصحاب الإمام: اتّق اللّه يا علياء! في عشيرتك، و انظر لنفسك و لرحمك، ما ذا تؤمّل عند رجل أردته أن يزيد في عطاء الحسن و الحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف العيش فأبى و غضب فلم يفعل (1) ؟

3 - مع عبد اللّه بن جعفر:

و وفد عبد اللّه بن جعفر و معه زوجته عقيلة بني هاشم طالبا منه أن يسعفه بالأموال، و يهبه الثراء العريض، فتنكّر له الإمام، و أعرض عنه، و خطب خطبة بليغة ذكر فيها ما يريد تحقيقه من إقامة العدل بين الناس، فتنكّر له القريب و البعيد.

إنّ النظام الاقتصادي الذي أقامه الإمام يهدف إلى إقامة مجتمع متوازن لا تقف فيه الرأسمالية و لا يوجد فيه بائس و فقير و محروم.

الانتاج الزراعي:

اهتمّ الإمام عليه السّلام اهتماما بالغا بتنمية المشاريع الزراعية و أولاها المزيد من

ص:40


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 250:10.

رعايته لأنّها في تلك العصور العمود الفقري للاقتصاد العام للبلاد،

و قد أكّد الإمام في عهده لمالك الأشتر على ضرورة إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها فلنستمع لقوله:

و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة؛ و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، و أهلك العباد.

أ رأيتم كيف نظر الإمام بعمق و شمول إلى الإصلاح الزراعي الذي يتولّد منه زيادة الدخل الفردي، و يرتبط به نشر الرخاء و الرفاه بين الناس ؟ و في نفس الوقت فإنّه من العناصر الأساسية في القضاء على البطالة.

الحرية:

اشارة

من المبادئ التي طبّقها الإمام في أيام حكومته منح الناس الحرية الكاملة شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء على الناس، و لا تضرّ بمصالحهم، و أن لا تتنافى مع قواعد الشرع، و من معالمها ما يلي:

الحرية السياسية:

اشارة

و نعني بها أن تتاح للناس الحرية التامّة في اعتناق أي مذهب سياسي من دون أن تفرض السلطة عليهم رأيا معاكسا، و قد منح الإمام عليه السّلام هذه الحرية حتى لأعدائه الذين أعلنوا رفض بيعته التي قام عليها إجماع المسلمين كسعد بن أبي وقّاص و عبد اللّه بن عمر، و كعب بن مالك، و مسلمة بن مخلد، و أبي سعيد الخدري، و أمثالهم من أنصار الحكم المباد الذي كان يغدق عليهم بهباته و أمواله و لم يجبرهم الإمام على بيعته، و لم يتّخذ معهم أي إجراء حاسم كما اتّخذه أبو بكر ضدّ المتخلّفين من بيعته.

كان الإمام عليه السّلام يرى الناس أحرارا في اتّجاهاتهم و ميولهم، و يجب على الدولة

ص:41

أن توفّر لهم الحرية الكاملة ما لم يعلنوا التمرّد على الحكم القائم أو يحدثوا فسادا في الأرض، و قد منح الإمام الحرية للخوارج فلم يحرمهم العطاء و لم تطاردهم الشرطة و الجيش مع العلم أنّهم كانوا من ألد أعدائه و خصومه، و لمّا سعوا في الأرض فسادا، و أذاعوا الذعر و الخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم حفظا على المصلحة العامّة.

و على أي حال فيتفرّع عن الحرية السياسية ما يلي:

1 - حرية القول:

من مظاهر الحرية الواسعة التي منحها الإمام عليه السّلام للمواطنين حرية القول، و إن كان في غير صالح الدولة ما لم يتعقّبه فساد، فالعقاب يكون عليه.

و قد روى المؤرّخون أنّ الإمام لمّا رجع من النهروان استقبل بمزيد من السبّ و الشتم، فلم يتّخذ الإمام مع القائلين أي إجراء، و لم يقابلهم بالعقوبة و الحرمان (1) ، و قد التقى أبو خليفة الطائي بجماعة من اخوانه و كان فيهم أبو العيزار الطائي و هو ممّن يعتنق فكرة الخوارج فقال لعدي بن حاتم: يا أبا طريف، أ انم سالم أم ظالم آثم ؟ و قد عرّض بذلك إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له عدي:

بل غانم سالم..

الحكم ذاك إليك..

و أوجس منه خيفة الأسود بن زيد، و الأسود بن قيس، فألقيا القبض عليه، و نقلا كلامه المنطوي على الشرّ و الخبث إلى الإمام، فقال الإمام لهما:

«ما أصنع ؟..».

نقتله..

«أقتل من لا يخرج عليّ ؟».

ص:42


1- الغارات 31:1.

تحبسه..

«ليس له جناية، خلّيا سبيل الرّجل»(1).

و لم يشاهد الناس مثل هذه الحرية في جميع مراحل التأريخ، فلم يحاسب الإمام الناس على ما يقولون و إنّما تركهم و شأنهم، فلم يفرض عليهم رقابة تحول بينهم و بين حرّيتهم.

2 - حرية النقد:

و منح الإمام الحرية الواسعة لنقد حكمه، و لم يتعرّض للناقدين له بسوء،

و كان ابن الكوّاء من ألدّ أعدائه، فقد اعترض عليه و قال له:

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، فردّ عليه عليه السّلام:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ، و لم يتّخذ الإمام ضدّه أي إجراء و إنّما عفا عنه و خلّى سبيله.

3 - حرية التنقّل:

و لم يفرض الإمام عليه السّلام الإقامة الجبرية على أي أحد من الصحابة و غيرهم كما فرضها عمر بن الخطّاب، و قد سمح الإمام لطلحة و الزبير بالخروج من المدينة مع علمه أنّهما يريدان الغدرة لا العمرة.

هذه بعض مظاهر الحرية التي منحها الإمام عليه السّلام للمواطنين، و قد حقّقت العدل بين الناس بجميع رحابه و مفاهيمه.

الرقابة على السوق:

اشارة

الإمام عليه السّلام أوّل خليفة في الإسلام قام بالرقابة على السوق، و كان يتجوّل بين

ص:43


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 73:3.

الباعة، و يوصيهم بتقوى اللّه تعالى، و ينهاهم عن معصيته، و يأمرهم بالاستقامة في معاملاتهم و كان يقول لهم: أحسنوا، أرخصوا بيعكم على المسلمين فإنّه أعظم للبركة.

1 - مع التجّار:

كان عليه السّلام يسير في الأسواق و في يده الدرّة، و يقول للتجّار:

«يا معشر التجّار! خذوا الحقّ و أعطوا الحقّ تسلموا» (1).

2 - مع القصّابين:

كان عليه السّلام يمشي وحده في الأسواق، و يأمر الناس بتقوى اللّه، و حسن البيع و يقول: «أوفوا الكيل و الميزان و لا تنفخوا اللّحم» (2).

3 - مع غالب بن صعصعة:

و وفد غالب بن صعصعة أبو الفرزدق فقال له الإمام:

«ما فعلت بإبلك الكثيرة ؟».

فقال غالب: ذعذعتها الحقوق، أي فرّقتها، فقد أنفقتها في أداء حقوق الناس. و أثنى عليه الإمام قائلا:

«ذاك أحمد سبيلها» (3).

مع مجنون:

كان رجل مجنون في عهد الإمام يمشي أمام الجنائز و ينادي: الرحيل

ص:44


1- أخبار القضاة لوكيع 196:1. و في ربيع الأبرار 144:4 زيادة على ذلك: «و لا تردّوا قليل الحقّ فتحرموا كثيره، ما منع من حقّ إلاّ ذهبت في باطل أضعافه».
2- طبقات ابن سعد 2 /ق 18/1.
3- خزانة الأدب 222:1.

الرحيل، و لا تكاد جنازة تخلو منه، فمرّت جنازة بالإمام و لم ير أمامها المجنون فسأل عنه، فقيل له: هو هذا الميّت، فقال عليه السّلام:

«لا إله إلاّ اللّه» ثمّ تمثّل بهذا البيت:

«ما زال يصرخ بالرّحيل مناديا حتّى أناخ ببابه الجمّال» (1)

مع أهل الكوفة:

قال عليه السّلام لأهل الكوفة:

«إذا تركتم عدتم إلى مجالسكم عزين تضربون الأمثال، و تنشدون الأشعار» (2).

في سوق الإبل:

خرج الإمام عليه السّلام إلى سوق الإبل فلمّا توسّطه رفع صوته قائلا: «يا معشر التجّار! إيّاكم اليمين الفاجرة فإنّها تنفق السّلعة، و تمحق البركة» (3).

عدم شرائه ممّن يعرفه:

كان الإمام عليه السّلام لا يشتري أيّة سلعة ممّن يعرفه خوفا من أن يسامحه فيها، فقد

روى الرواة أنّه جاء إلى سوق الكرابيس فقصد رجلا و سيما فقال له:

«يا هذا! عندك ثوبان بخمسة دراهم ؟».

فقال الرجل: نعم، يا أمير المؤمنين، فلمّا عرفه تركه الإمام و انصرف (4).

ص:45


1- فوات الوفيات 269:2.
2- العقد المفصّل 220:9.
3- الغارات 105:1.
4- المصدر السابق 99:1.

و بهذا العرض الموجز ينتهي بنا الحديث عن بعض معالم سياسته الهادفة إلى تحقيق مجتمع متوازن لا ظلّ فيه للغبن و التأخّر.

ص:46

حرب الجمل

اشارة

ص:47

ص:48

و الشيء المؤكّد الذي اتّفق عليه المؤرّخون و الرواة هو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد عهد إلى وصيّه و باب مدينة علمه بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين (1) ، أمّا الناكثون فهم الذين قاموا بحرب الجمل، و مهّدوا الطريق إلى معاوية و حزبه لحرب الإمام، و هم الذين سمّاهم النبيّ بالقاسطين، و أمّا المارقون فهم الخوارج الذين مرقوا عن الإسلام و حاربوا الإمام، و قد أجمع فقهاء المسلمين على تأثيمهم و تجريحهم و خروجهم عن الطريق القويم، فقد اثر

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غير مرّة قوله: «من حمل علينا السّلاح فليس منّا»،

و قوله: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، لقد واكبوا أهواءهم، و استجابوا لأطماعهم، و فيما يلي عرض لاولى تلك الحروب.

< حرب الجمل >

أمّا الذين قاموا بهذه الحرب فقد نكثوا بيعة الإمام و خاسوا ما عاهدوا عليه اللّه تعالى من الطاعة للإمام، و متابعة أمره، و قد عناهم الإمام بقوله:

«من نكث بيعته لقي اللّه أجذم ليس له يد» (2).

و على أي حال فإنّ الذين أشعلوا هذه الحرب قد أثاروا الفتنة بين المسلمين،

ص:49


1- مستدرك الحاكم 139:3. تاريخ بغداد 340:8. اسد الغابة 33:4. كنز العمّال 82:6. مجمع الزوائد 235:9.
2- النجوم الزاهرة 302:2.

و خالفوا ما أمر اللّه تعالى به من الاعتصام بحبله جميعا و أن لا يتفرّقوا، و هم قد فارقوا الجماعة، و سفكوا دماء المسلمين بغير حقّ ، و أشاعوا فيهم الحزن و الحداد، و اللّه تعالى هو الذي يتولّى حسابهم على ما اقترفوه من إثم عظيم..

و نعرض - بإيجاز - لبعض أعلام هؤلاء المنحرفين مع بيان أسباب تمرّدهم على حكومة الإمام:

السيّدة عائشة:

اشارة

و قبل الحديث عن تمرّد عائشة و خروجها على حكومة الإمام عليه السّلام نعرض إلى شيء بالغ الأهمية و هو موقف عائشة من عثمان.

أمّا عائشة فقد كانت في طليعة الحاقدين على عثمان و الناقمين عليه، و قد روى المؤرّخون صورا من إنكارها الشديد عليه كان منها:

1 - روى محمّد بن إسحاق عن مشايخه عن حكيم بن عبد اللّه قال:

دخلت المدينة و أتيت إلى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إذا بكفّ مرتفعة، و صاحب الكفّ يقول: هذان نعلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قميصه، و كأنّي أرى ذلك القميص يلوح، و إنّ فيكم فرعون هذه الأمّة، فإذا هي عائشة و عثمان يقول لها: اسكتي، ثمّ يقول للناس: إنّها امرأة و عقلها عقل النساء، فلا تصغوا إلى قولها.

2 - روى الحسن بن سعد قال:

رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجابها، و عثمان قائم، ثمّ قالت: يا عثمان، أقم ما في هذا الكتاب، فقال لتنتهنّ عمّا أنت عليه أو لأدخلنّ عليك حرّ النار، فقالت له عائشة: أما و اللّه! لأن فعلت ذلك بنساء النبيّ يلعنك اللّه و رسوله، و هذا قميص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتغيّر، و قد غيّرت سننه يا نعثل! 3 - روى الليث بن أبي سليمان، عن ثابت الأنصاري، عن ابن أبي عامر

ص:50

مولى الأنصار قال:

كنت عند المسجد فمرّ عثمان فنادته عائشة: يا غادر! يا فاجر! حقّرت أمانتك، و ضيّعت رعيّتك لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة. فقال عثمان:

ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ (1).

إنّ السيّدة عائشة كانت في طليعة الثائرين على حكومة عثمان، و قد أشعلت العواطف، و ألهبت القلوب ضده، فأباحت دمه و جرّدته من جميع الشرعية للحكم، و لمّا علمت بدنوّ مصرعه على أيدي الثوّار غادرت يثرب، و اتّجهت صوب مكّة تترقّب أخباره بفارغ الصبر.

موقفها من بيعة الإمام:

و غادرت عائشة مكّة متّجهة صوب المدينة، فلمّا انتهت إلى سرف (2) لقيها عبيد بن أمّ كلاب فبادرت مسرعة تسأله عن الأحداث قائلة له:

مهيم - يعني ما عندك من نبأ؟ قتلوا عثمان.

و لم تهتمّ بقتله، و إنّما كانت تترقّب الخليفة من بعده، فقالت:

ثمّ صنعوا ما ذا؟ أخذها أهل المدينة بالإجماع فجازت بهم الأمور إلى غير مجاز، اجتمعوا إلى

ص:51


1- التحريم: 10.
2- سرف: موضع يقع على مسيرة ليلة من مكّة.

عليّ بن أبي طالب...

و فقدت عائشة إهابها و راحت تقول بحرارة و جزع و بصرها يشير إلى السماء ثمّ ينخفض إلى الأرض:

ليت هذه - أي السماء - انطبقت على هذه - أي الأرض - إن تمّ الأمر لصاحبك، ويحك انظر ما تقول ؟ هو ما قلت لك يا أمّ المؤمنين..

فولولت و جزعت، و أصابها ذهول و رعدة، فبهر عبيد و قال لها:

ما شأنك يا أمّ المؤمنين ؟ و اللّه! لا أعرف بين لابتيها (1) أحدا أولى بها - أي الخلافة - منه - أي من الإمام، و لا أحقّ و لا أرى له نظيرا في جميع حالاته، فما ذا تكرهين منه ؟ و راحت تلتمس المعاذير لموقفها، فتمسّكت بما هو أوهى من بيت العنكبوت قائلة:

قتل عثمان و اللّه مظلوما! و أنا طالبة بدمه...

فأنكر عليها عبيد، و أبدى دهشته قائلا:

إنّ أوّل من طعن عليه - أي على عثمان - لأنت، و أطمع الناس في قتله، و قلت: اقتلوا نعثلا فقد فجر.

و أبدت معاذيرها الواهية قائلة:

و اللّه! قلت و قال الناس، و آخر قولي خير من أوّله...

و سخر عبيد من قولها و قال:

عذر و اللّه! ضعيف يا أمّ المؤمنين!

ص:52


1- لابتيها: موضعان يكتنفان المدينة.

و خاطبها عبيد بهذه الأبيات التي ارتجلها قائلا:

فمنك البداء و منك الغير و منك الرياح و منك المطر

و أنت أمرت بقتل الإمام و قلت لنا: إنّه قد كفر

و لم يسقط السقف من فوقنا و لم تنكسف شمسنا و القمر

و قد بايع الناس ذا تدرإ يزيل الشّبا و يقيم الصعر

و يلبس للحرب أثوابها و ما من وفى مثل من قد غدر

و يقول شاعر مصر:

أثار عثمان الذي شجاها أم غصّة لم ينتزع شجاها

ذلك فتق لم يكن بالبال كيد النساء موهن الجبال

و قفلت عائشة راجعة إلى مكّة، فلمّا انتهت إليها استقبلها القرشيّون فقالت لهم:

يا معشر قريش، إنّ عثمان قتل، قتله عليّ بن أبي طالب، و اللّه! لليلة من عثمان خير من عليّ الدهر كلّه... (1).

و تناست عائشة أنّ عليّا نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أحبّ الناس إليه، و أنّه منه بمنزلة هارون من موسى.. لقد نسيت عائشة ذلك أو لم تحفل به في سبيل أغراضها و أطماعها السياسية.

خطاب عائشة بمكّة:

أحاطت جماهير أهل مكّة بعائشة، فخطبت فيهم خطابها السياسي، و خلاصته أنّها حمّلت المسئولية في إراقة دم عثمان على الغوغاء، فهم الذين استباحوا سفك دمه في البلد الحرام و في الشهر الحرام، و ذلك بعد ما أقلع من ذنوبه،

ص:53


1- تاريخ الطبري 172:5. أنساب الأشراف 91:5. الإمامة و السياسة 53:1.

و أخلص في توبته، و لا حجّة لهم فيما اقترفوه من سفك دمه... (1).

و حفل خطابها بالمغالطات السياسية، فقد اتّهمت الغوغاء بسفك دم عثمان، مع أنّهم بريئون منه، و إنّما الذي أجهز عليه القوّات العسكرية من المصريّين و العراقيّين، و انضمام كبار الصحابة إليهم كعمّار بن ياسر و مالك الأشتر و طلحة و الزبير، و هي بالذات فقد كانت تخاطب الجماهير قائلة: اقتلوا نعثلا فقد كفر.

و أمّا توبة عثمان فهي كما تقول: إلاّ أنّه تراجع عنها بسبب ضغط الأمويّين عليه.

و على أي حال فإنّ خطاب عائشة بمكّة كان أوّل صوت انطلق ضدّ حكومة الإمام عليه السّلام.

دوافع تمرّدها:

و لم يكن تمرّد عائشة على حكومة الإمام عفويا و إنّما كان ناشئا عن أسباب هذه بعضها:

1 - و هو من أوثق الأسباب، أنّها كانت تروم إرجاع الخلافة إلى ابن عمّها طلحة، و جعلها في تيم اسرتها، و قد أعربت عن ذلك حينما كانت في مكّة فجعلت تناجي ابن عمّها طلحة و تخاطبه قائلة:

إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عمّ ! للّه أبوك! أما إنّهم وجدوا طلحة لها - أي الخلافة - كفوا، لكأنّي أنظر إلى اصبعه، و هو يبايع حثو الإبل (2).

لقد جهدت عائشة و بذلت جميع طاقاتها لإرجاع الخلافة لاسرتها و على رأسهم طلحة إلاّ أنّها باءت بالفشل إذ لم تكن له قاعدة شعبية يستند إليها.

ص:54


1- نصّ خطابها الكامل في تاريخ الطبري 268:3.
2- أحاديث أمّ المؤمنين عائشة: ص 118.

2 - و من بواعث حقد عائشة على الإمام هو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان دوما يشيد بفضله، و يقدّمه على سائر أصحابه و اسرته، و كانت له عنده المنزلة الرفيعة التي لم يحظ بمثلها أحد غيره، و من المؤكّد أنّ ذلك يتنافى مع ما طبعت عليه المرأة من كراهية من هو أقرب إلى زوجها منها.

3 - و من الأسباب التي أدّت إلى حقد عائشة على الإمام و زوجته سيّدة نساء العالمين أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أخلص في الحبّ كأعظم ما يكون الإخلاص لابنته و بضعته، و أضفى عليها أوسمة مشرقة من التكريم كان منها:

- أنّ اللّه تعالى يرضى لرضاها و يغضب لغضبها.

- أنّها شجنة منه، يرضيه ما يرضيها و يسخطه ما يسخطها.

- أنّها بضعة منه، يؤذيه ما يؤذيها.

- أنّها إذا مرّت في الموقف يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا أهل الموقف، غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1). و أمثال هذه الأحاديث في سموّ شأنها كثيرة، و لم تظفر عائشة بشيء.

من أمثال ذلك التكريم الذي ظفرت به زهراء الرسول، و هذا ممّا أوجب حقدها عليها و على زوجها، كما حدثت منافرة بين سيّدة النساء فاطمة و عائشة، و كانت بضعة الرسول ترفع شكواها منها إلى أبيها، الأمر الذي أدّى إلى شيوع الحقد و العداء بينهما.

4 - و ممّا زاد في حقد عائشة على زهراء الرسول أنّها قد حظيت بالذرّية المباركة سيّدي شباب أهل الجنّة، و شبيهة مريم بنت عمران السيّدة زينب سلام اللّه عليها، و قد أخلص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لهم في الحبّ ، و كان يسمّيهم بأبنائه و يوسعهم تقبيلا،

ص:55


1- الأحاديث مجمع عليها روتها الصحاح و السنن.

و يشيد بفضلهم و سموّ مكانتهم عنده، و قد حرمت عائشة من البنين الأمر الذي أثار كوامن الحسد و الحقد في نفسها على الإمام و زوجته و أبنائه و ظلّ ذلك ملازما لها طوال حياتها، فقد منعت من دفن جنازة سبط الرسول الإمام الحسن عليه السّلام بجوار جدّه، و قالت: لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ .

5 - و من بواعث حقد عائشة على الاسرة النبوية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان دوما يشيد بامّ الزهراء عليها السّلام السيّدة خديجة و يترحّم عليها، و كان إذا ذبح شاة اختار أطيب ما فيها من لحم و بعثه إلى صديقات خديجة، و كانت عائشة تتميّز غيظا من ذلك و تقول له بحرارة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك اللّه خيرا منها؟

و يسارع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رادّا عليها:

«ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي النّاس، و واستني بمالها حين حرمني النّاس، و رزقت منها الولد - و هي سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام - و حرمته من غيرها».

هذه بعض الأسباب - فيما نحسب - هي التي أدّت إلى حقد عائشة على الإمام و مناهضتها لحكومته.

عائشة مع أمّ سلمة:

و خفّت عائشة مسرعة إلى السيّدة أمّ سلمة تطلب القيام معها لإسقاط حكومة الإمام.. و هو من الغرابة بمكان، فإنّ أمّ سلمة قد شاع عنها ولاؤها للإمام، و كانت تكنّ له خالص المودّة، فهل خفي ذلك على عائشة ؟ الأمر الذي يدلّ على عدم عمقها بالاتّجاهات الفكرية و السياسية.

و على أي حال فقد التقت عائشة بامّ سلمة، و قدّمت لها هذه الكلمات الناعمة لإغرائها قائلة لها:

يا بنت أبي أميّة، أنت أوّل مهاجرة من أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنت كبيرة

ص:56

امّهات المؤمنين، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسم لنا من بيتك، و كان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك...

و رمقتها أمّ سلمة بريبة، و قالت لها:

لأمر قلت هذه المقالة ؟ فأجابتها عائشة مخادعة:

إنّ القوم استتابوا عثمان، فلمّا تاب قتلوه صائما في الشهر الحرام، و قد عزمت على الخروج إلى البصرة، و معي طلحة و الزبير، فاخرجي معنا لعلّ اللّه يصلح هذا الأمر على أيدينا...

و أنكرت أمّ سلمة مقالتها و راحت تبدي لها النصيحة في التخلّي عن هذا الاتّجاه قائلة:

يا بنت أبي بكر، أ بدم عثمان تطلبين ؟ و اللّه! لقد كنت من أشدّ الناس عليه عداوة، و ما كنت تسمّينه إلاّ نعثلا، فما لك و دم عثمان ؟ و عثمان رجل من بني عبد مناف، و أنت من بني تيم بن مرّة ؟ ويحك يا عائشة! أعلى عليّ تخرجين و هو ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد بايعه المهاجرون و الأنصار؟ و أخذت أمّ سلمة تذكّر عائشة بفضائل الإمام، و قرب منزلته من الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كان عبد اللّه بن الزبير، و هو من ألدّ أعداء الإمام يسمع حديث أمّ سلمة، و خاف أن تستجيب لها عائشة، و يفسد عليها الأمر فصاح بها:

يا بنت أبي أميّة، قد عرفنا عداوتك لآل الزبير...

فنهرته أمّ سلمة، و قالت له بعنف:

و اللّه! لتوردنّها، ثمّ لا تصدرنّها أنت، و لا أبوك، أ تطمع أن يرضى المهاجرون

ص:57

و الأنصار بأبيك الزبير و صاحبه طلحة، و عليّ بن أبي طالب حيّ ، و هو وليّ كلّ مؤمن و مؤمنة كما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله...

فردّ عليها ابن الزبير قائلا:

ما سمعنا هذا من رسول اللّه ساعة قطّ ...

فأجابته أمّ سلمة بمنطق الحقّ قائلة:

إن لم تكن أنت سمعته، فقد سمعته خالتك عائشة، و ها هي فاسألها.. فقد سمعته يقول: «عليّ خليفتي عليكم في حياتي و مماتي، من عصاه فقد عصاني»، أ تشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟ و لم يسع عائشة الإنكار فقالت:

اللّهمّ نعم.

و مضت أمّ سلمة تسدي نصائحها لعائشة قائلة:

اتّقي اللّه يا عائشة! في نفسك، و احذري ما حذّرك اللّه و رسوله و لا تكوني صاحبة كلاب الحوأب، و لا يغرّنك الزبير و طلحة فإنّهما لا يغنيان عنك من اللّه شيئا.

و لم تحفل عائشة بنصائح أمّ سلمة، و استجابت لعواطفها المترعة بالحقد و الكراهية للإمام.

و بادرت أمّ سلمة فرفعت للإمام عليه السّلام رسالة سجّلت فيها ما دار بينها و بين عائشة من شجار و عرّفته بتمرّدها على حكومته (1).

مؤتمر مكّة:

اشارة

و عقدت عائشة مع طلحة و الزبير و غيرهما من الحاقدين على الإمام

ص:58


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 79:2.

و الخالعين لبيعته مؤتمرا، و قد وجدوا في هذا البلد الحرام تجاوبا فكريا لهم، و تعاطفا من أبناء الاسر القرشية الحاقدة على الإمام، و التي ناجزت الرسول صلّى اللّه عليه و آله بجميع ما تملكه من الوسائل، و قد عرضنا لذلك في بحوث هذه الموسوعة.

مقرّرات المؤتمر:

اشارة

و تداول زعماء الفتنة الآراء في البلد الذي يغزونه و يتّخذونه مقرّا لتمرّدهم، و الشعارات التي يرفعونها:

1 - احتلال البصرة:

و قرّر المؤتمر الزحف إلى البصرة و احتلالها، و اتّخاذها المركز الرئيسي للثورة على حكومة الإمام؛ لأنّ بها حزبا و أنصارا لهم، و قد أعرضوا عن الزحف إلى المدينة لأنّ فيها الخليفة الشرعي، و هو يملك قوّة عسكرية لا طاقة لهم بمقابلتها، كما أعرضوا عن النزوح إلى الشام لأنّها خاضعة لهم ففيها معاوية، و خافوا من تصدّع حكومته المعادية للإمام.

2 - المطالبة بدم عثمان:

و اختاروا الشعار الذي يرفعونه و هو المطالبة بدم عثمان، فقد قتل مظلوما في البلد الحرام و اتّخذوا دمه و قميصه شعارا لتمرّدهم على السلطة الشرعية.

3 - مسئولية الإمام عن دم عثمان:

و قرّر المؤتمر تحميل الإمام المسئولية الكاملة في إراقة دم عثمان و أنّه قد آوى قتلته و لم يقدّمهم للقضاء... هذه بعض قرارات مؤتمر مكّة.

خديعة معاوية للزبير و طلحة:

قام معاوية بخديعة الزبير و طلحة و اتّخاذهما سلّما يعبر فيه لأهدافه، فقد منّاهما بالخلافة و البيعة لهما إن خلعا بيعة الإمام، و قد كتب للزبير هذه الرسالة:

ص:59

لعبد اللّه الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان:

سلام عليك، أمّا بعد فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا و استوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة و البصرة، لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين، و قد بايعت لطلحة من بعدك فأظهرا الطلب بدم عثمان و ادعوا الناس إلى ذلك، و ليكن منكما الجدّ و التشمير، أظفركما اللّه، و خذل مناوئكما...

و لمّا وصلت الرسالة إلى الزبير لم يملك صوابه من الفرح و السرور و خفّ مسرعا إلى طلحة يخبره بذلك، فلمّا قرأ طلحة رسالة معاوية لم يشكّ هو و الزبير في صدق هذا الذئب، و تحفّزا بصورة جادّة إلى إعلان الثورة على الإمام لتكون لهما الخلافة بعد الإجهاز على حكومة الإمام، و قد اتّخذا - كما عهد إليهما معاوية - دم عثمان بن عفّان شعارا لهما... (1).

و تكشف هذه الصورة المؤسفة عن مدى ضعف الإيمان في نفوس القوم، و تهالكهم على الحكم و السلطان ليتّخذاه وسيلة إلى التحكّم في رقاب المسلمين.

تجهيز الجيش بالأموال:

و قام ولاة عثمان بتجهيز جيش عائشة بالأموال التي نهبوها من الخزينة المركزية، فجهّز يعلي بن اميّة - الذي كان واليا من قبل عثمان على اليمن - الجيش بستمائة بعير و ستمائة ألف درهم (2) و أمدّهم عبد اللّه بن عامر والي عثمان على البصرة بمال كثير كان قد اختلسه من بيت المال (3) ، و لم يتحرّج أعضاء القيادة العامّة في جيش عائشة من هذه الأموال المحرّمة.

ص:60


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 231:1.
2- تاريخ ابن الأثير 106:3.
3- تاريخ ابن الأثير 106:3.

الزحف إلى البصرة:

و تحرّكت جيوش عائشة من مكّة متّجهة صوب البصرة لاحتلالها، و قد دقّت طبول الحرب و انتشرت الرايات، و تهافتت القوى المنحرفة عن الحقّ و ذوو الأطماع على الالتحاق بجيش عائشة، و شعارهم المطالبة بدم عثمان الذي سفكه طلحة و الزبير و عائشة.

و اتّجهت تلك الجيوش لمحاربة السلطة الشرعية، و شقّ صفوف المسلمين، و أعضاء قيادتها على يقين بضلال مسيرهم و قصدهم.

شراء عسكر:

و سارت جيوش عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء متّجهة صوب البصرة، و في الطريق صادفهم العرني صاحب الجمل المسمّى بعسكر، فقال له راكب:

يا صاحب الجمل، أ تبيع جملك ؟ نعم.

بكم ؟ بألف درهم.

ويحك أ مجنون أنت جمل يباع بألف درهم!! نعم جملي هذا ما طلبت عليه أحدا قطّ إلاّ أدركته، و لا طلبني و أنا عليه أحد قطّ إلاّ فتّه.

لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا.

لمن تريده ؟

ص:61

لامّك.

لقد تركت امّي في بيتها قاعدة ما تريد براحا.

إنّا نريده لأمّ المؤمنين عائشة.

هو لك خذه بغير ثمن.

ارجع معنا إلى الرحل لنعطيك ناقة مهرية و نزيدك دراهم.

فقفل معهم فأعطوه ناقة و أربعمائة درهم أو ستمائة درهم و استلموا منه الجمل، و قدّموه لأمّ المؤمنين عائشة فاعتلت عليه (1) لتحارب وصيّ رسول اللّه و باب مدينة علمه، و قد أصبح جملها كعجل بني إسرائيل فقطعت حوله الأيدي، و أزهقت الأنفس، و اريقت الدماء.

ماء الحوأب:

و سارت قافلة عائشة في البيداء تحفّها الجيوش فاجتازت على مكان يقال له «الحوأب» فتلقّتها كلاب الحيّ بهرير و عواء فذعرت عائشة فالتفت إلى محمّد بن طلحة فقالت له:

أيّ ماء هذا يا محمّد؟ ماء الحوأب يا أمّ المؤمنين! فهتفت بحرارة قائلة:

ما أراني إلاّ راجعة.

لم يا أمّ المؤمنين ؟

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لنسائه:

ص:62


1- تاريخ ابن الأثير 107:3. تاريخ الطبري 475:3.

«كأنّي بإحداكنّ قد نبحتها كلاب الحوأب، و إيّاك أن تكوني يا حميراء»(1).

فسارع محمّد قائلا:

تقدّمي يرحمك اللّه، و دعي هذا القول...

و لم تبرح من مكانها، و طافت بها الهموم و الأحزان، فقد أيقنت بضلالة قصدها.. و ذعرت القيادة العامّة في جيشها، و انبرى إليها بعضهم قائلا:

يا امّاه، تقدّمي..

و بقيت تائهة تراودها كلمات الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و راحت تقول بنبرات ملؤها الأسى و الحزن:

ردّوني، أنا و اللّه! صاحبة كلاب الحوأب.

ردّوني.

و أسرع إليها ابن اختها عبد اللّه بن الزبير كأنّه ذئب، و هو يلهث، فلمّا رأته انهارت أمامه، فجاء بشهود اشترى ضمائرهم فشهدوا أنّ هذا الماء ليس بماء الحوأب، و هي أوّل شهادة زور في الإسلام (2) ، فأقلعت عن فكرتها، و أخذت تقود الجيوش لحرب وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه.

ص:63


1- روى ابن عبّاس عن النبيّ أنّه قال يوما لنسائه و هنّ جميعا عنده: «أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار، و تنجو بعد ما كادت». جاء ذلك في كلّ من شرح النهج 297:2. تاريخ ابن كثير 212:6. الخصائص للسيوطي 137:2. و جاء في الاستيعاب: أنّ هذا الحديث من علائم النبوّة.
2- مروج الذهب 347:2. تاريخ اليعقوبي 181:2.

في ربوع البصرة:

و راحت جيوش عائشة تطوي البيداء حتى داهمت البصرة ففزع أهلها كأشدّ ما يكون الفزع، و سارع والي البصرة عثمان بن حنيف فأوفد أبا الأسود الدؤلي للقيى عائشة يسألها عن سبب قدومها إلى مصرهم، و لمّا مثل أمامها قال لها:

ما أقدمك يا أمّ المؤمنين ؟ أطلب بدم عثمان...

فأجابها أبو الأسود بمنطقه الفيّاض قائلا:

ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد..

صدقت، و لكنّهم مع عليّ بن أبي طالب بالمدينة، و جئت أستنهض أهل البصرة لقتاله، أ نغضب لكم من سوط عثمان، و لا نغضب لعثمان من سيوفكم.

و ردّ عليها أبو الأسود هذه المغالطات الواهية قائلا:

ما أنت من السوط و السيف، إنّما أنت حبيسة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أمرك أن تقرّي في بيتك، و تتلي كتاب ربّك، و ليس على النساء قتال، و لا لهنّ الطلب بالدماء؟ و أنّ عليّا لأولى منك، و أمسّ رحما فإنّهما ابنا عبد مناف...

و لم تحفل عائشة بهذه الحجج الدامغة و راحت مصرّة على رأيها قائلة:

لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه.. أ فتظنّ يا أبا الأسود أنّ أحدا يقدم على قتالي..

و ظنّت عائشة أنّها تتمتّع بحصانة الزوجية من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلا يقدم أحد على قتالها، فأجابها أبو الأسود:

أما و اللّه! لتقاتلنّ قتالا أهونه الشديد... و انصرف أبو الأسود و قد أخفق في مهمّته فلم يحقّق أي نجاح في حديثه مع عائشة.

ص:64

أبو الأسود مع الزبير:

و اتّجه أبو الأسود صوب الزبير فكلّمه بناعم القول، و ذكر له ماضيه الزاهر و تجاوبه مع الإمام في يوم السقيفة قائلا:

يا أبا عبد اللّه، عهد الناس بك، و أنت يوم بويع أبو بكر آخذا بقائم سيفك تقول: لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب، و أين هذا المقام من ذاك ؟ فأجابه الزبير بنفاق و مغالطة:

نطلب بدم عثمان...

فردّ عليه أبو الأسود: أنت و صاحبك - يعني طلحة - ولّيتماه - يعني عليّا - فيما بعد. و لان الزبير لدعوة الحقّ ، و استجاب لنصيحة أبي الأسود إلاّ أنّه طلب منه أن يعرض الأمر على طلحة.

أبو الأسود مع طلحة:

و أسرع أبو الأسود إلى طلحة، و طلب منه الانصياع إلى الحقّ و جمع كلمة المسلمين، فأبى و أصرّ على الغيّ و العدوان (1).

و رجع أبو الأسود، و قد أخفق في وفادته، فأخبر والي البصرة بفشله.

خطاب والي البصرة:

و جمع عثمان بن حنيف والي البصرة أصحابه فخطب فيهم قائلا:

أيّها الناس، إنّما بايعتم اللّه، يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (2).

ص:65


1- الإمامة و السياسة 64:1.
2- الفتح: 10.

و اللّه! لو علم عليّ أحدا أحقّ بهذا الأمر منه ما قبله، و لو بايع الناس غيره لبايع و أطاع، و ما به إلى أحد من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاجة، و ما بأحد عنه غنى، و لقد شاركهم في محاسنهم، و ما شاركوه في محاسنه، و لقد بايع هذان الرجلان - يعني طلحة و الزبير - و ما يريدان اللّه، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع، و الرضاع قبل الولادة، و الولادة قبل الحمل، و طلبا ثواب اللّه من العباد، و قد زعما أنّهما بايعا مستكرهين، فإن كانا استكرها قبل بيعتهما، كانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا و لا يأمرا.

ألا و إنّ الهدى ما كانت عليه العامّة، و العامّة على بيعة عليّ ، فما ترون أيّها الناس ؟ و هذا الخطاب حافل بالحجّة، و عار من المغالطات السياسية، و فيه الدعوة إلى الحقّ و جمع الكلمة، فاستجاب له حكيم بن جبلة و هو من شخصيات البصرة و وجوهها و أعرب عن استعداده لمناصرته و لو أعلن الحرب على الجماعة (1).

عقد هدنة بين الفريقين:

و جرت مصادمات عنيفة اريقت فيها الدماء من حزب عائشة و جماعة الإمام، و بعد هذا الصراع الذي لم يحرز فيه كل منهما نصرا على خصمه اتّفقا على عقد هدنة مؤقّتة بينهما حتى يقدم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و يعرض عليه الأمر و تنحلّ عقدة الخلاف، و كتب الفريقان وثيقة وقّعها ابن حنيف والي البصرة و طلحة و الزبير، و كان من بنودها إقرار ابن حنيف على إمرته للبصرة و ترك ما في بيت المال و المسلحة له، و أن يباح للزبير و طلحة و عائشة أن ينزلوا حيثما شاءوا من البصرة.

نقض العهد:

و مضى ابن حنيف يقيم بالناس الصلاة و يقسّم المال بينهم و يشيع الأمن

ص:66


1- الإمامة و السياسة 64:1.

و الاستقرار في ربوع المصر، إلاّ أنّ حزب عائشة قد خاسوا بعهدهم، و نقضوا مواثيقهم، فأجمعوا على الفتك بابن حنيف، و نهب ما في بيت المال، و قد انتهزوا ليلة قاتمة شديدة العواصف، فهجموا على ابن حنيف و هو يصلّي بالناس صلاة العشاء، فأخذوه ثمّ عدوا إلى بيت المال فقتلوا من حرسه أربعين رجلا، و استولوا عليه، و شدّ مروان على ابن حنيف فاعتقله و قتل أصحابه، و عمد مروان إلى ابن حنيف فنتف لحيته و رأسه و حاجبيه و تركه أصلع (1).

يوم الجمل الأصغر:

و عمد أصحاب عائشة إلى العيث و الفساد و الإخلال بالأمن، فغضب جمهور من أهل البصرة بقيادة البطل المجاهد حكيم بن جبلة، و كان عدد من معه ثلاثمائة رجل و كلّهم من بني عبد القيس (2) فشهروا سيوفهم، و خرج أصحاب عائشة فحملوها على جمل، و سمّي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر (3) ، و التحم الفريقان في معركة رهيبة، و أبلى القائد ابن جبلة بلاء حسنا، فخاض أعنف المعارك، فضربه رجل من أصحاب طلحة على رجله فبراها، فجثا حكيم على الأرض و أخذ رجله المقطوعة فضرب بها الرجل الذي قطعها فقتله.

و لم يزل هذا البطل الفذّ يقاتل أعنف القتال و هو ينزف دما حتّى استشهد مدافعا عن وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و انتهت المعركة في صالح أصحاب عائشة، فقد استولوا على البصرة استيلاء كاملا، و سقطت بأيديهم، أمّا ابن حنيف حاكم البصرة فقد همّوا بقتله إلاّ أنّه هدّدهم بأخيه الذي كان واليا على المدينة من قبل الإمام عليه السّلام، و أنّهم إن قتلوه فسوف يثأر له.

ص:67


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:2.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:2.
3- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 430:1.

و يضع السيف في رقاب اخوانهم و أبنائهم في يثرب، فخافوا ذلك، و أطلقوا سراحه، فانطلق حتى التحق بالإمام عليه السّلام في بعض طريقه إلى البصرة، فلمّا دخل على الإمام قال له مداعبا:

أرسلتني إلى البصرة شيخا فجئتك أمرد...

و أوغرت هذه الأحداث صدور الناس بالبصرة، و فرّقت كلمتهم، فطائفة التحقت بالإمام عليه السّلام، و طائفة أخرى التحقت بعائشة، و طائفة ثالثة اعتزلت الفتنة، و لم يطب لها الانضمام إلى إحدى الطائفتين.

النزاع على الصلاة:

و تهالك حزب طلحة و حزب الزبير على الصلاة، فكان كلّ منهما يريد إمامة الجماعة ليكون هو الزعيم في المستقبل، و أدّى النزاع بينهما إلى فوت وقت الصلاة، و خافت عائشة من تطوّر الأحداث فأمرت أن يصلّي بالناس يوما محمّد بن طلحة، و يوما عبد اللّه بن الزبير (1) ، و ذهب ابن الزبير ليصلّي بالناس فجذبه ابن طلحة، و تقدّم ابن طلحة ليصلّي فمنعه ابن الزبير، و رأى الناس أنّ خير وسيلة لحسم النزاع بينهما القرعة، فاقترعا فخرج ابن طلحة فتقدّم و صلّى بالناس، و قرأ في صلاته سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (2) ، و حكت الآية عن العذاب الذي مني به المسلمون من جرّاء هؤلاء الذين دفعتهم الأطماع السياسية إلى التلاعب في شئون الدين.

و على أي حال فقد أثارت هذه الصور الهزيلة السخرية و الاستهانة بهم بين الناس، و في ذلك يقول الشاعر باستهزاء:

تبارى الغلامان إذ صليا و شحّ على الملك شيخاهما

ص:68


1- تاريخ اليعقوبي 157:2.
2- المعارج: 1.

و ما لي و طلحة، و ابن الزبير و هذا بذي الجذع مولاهما

فامّهما اليوم غرّتهما و يعلي بن منية ولاّهما (1)

لقد تهالك القوم على السلطة، و هم في بداية الطريق، فلو كتب النجاح لهما، فما ذا يعملان ؟ لا شكّ أنّ كلاّ منهما يفتح الحرب على صاحبه، و لا يهمّه إغراق البلاد بالفتن، و إشاعة الحزن و الحداد فيها.

استنجاد الإمام بالكوفة:

و رأى الإمام الممتحن أنّه لا وسيلة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي فتحته عائشة إلاّ بالقوّة العسكرية، فاستنجد بالكوفة و هي أعظم حامية عسكرية في عصر الإمام، فأوفد كوكبة من أعلام أصحابه بقيادة المجاهد الكبير هاشم بن عتبة المرقال و زوّده برسالة إلى حاكم الكوفة أبي موسى الأشعري جاء فيها بعد البسملة:

«أمّا بعد.. فإنّي قد بعثت إليك هاشم بن عتبة، لتشخص إليّ من قبلك من المسلمين ليتوجّهوا إلى قوم نكثوا بيعتي، و قتلوا شيعتي، و أحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم، فاشخص بالنّاس إليّ معه حين يقدم عليك، فإنّي لم اولّك المصر الّذي أنت فيه، و لم اقرّك عليه إلاّ لتكون من أعواني على الحقّ ، و أنصاري على هذا الأمر، و السّلام» (2).

و لمّا انتهى الوفد إلى الكوفة عرض هاشم الرسالة على أبي موسى فمحاه، و أخذ يتوعّد هاشما بالسجن و التنكيل، و جعل يثبّط الناس و يحرّضهم على عدم الاستجابة للإمام عليه السّلام، و رفع المرقال إلى الإمام رسالة عرّفه فيها بموقف هذا

ص:69


1- الأغاني 120:11.
2- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 55:4.

المنافق، و ما قام به من إفساد الناس و حثّهم على الاعتزال، و لمّا قرأ الإمام الرسالة أوفد ولده الزكي الحسن عليه السّلام و الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، و الزعيم قيس بن سعد، و زوّدهم برسالة عزل فيها الخائن الأشعري، و يتوعّده بالتنكيل إن تأخّر عن إجابتهم و أظهر العصيان و التمرّد.

و لمّا انتهى الإمام الحسن إلى الكوفة و بصحبته هؤلاء الأعلام احتفّت به الجماهير، فدعا الأشعري إلى الطاعة فلم يستجب له، و أصرّ على غيّه و عدوانه، فعزله عن منصبه، و أقام مقامه قرضة بن كعب، و خطب عمّار بن ياسر خطابا بليغا حفّز فيه أهل الكوفة إلى مناصرة الإمام عليه السّلام و الذبّ عنه، و جاء في خطابه:

إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام حفظه اللّه و نصره نصرا عزيزا و أبرم له أمرا رشيدا بعثني إليكم و ابنه يأمركم بالنفر إليه، فانفروا إليه، و اتّقوا و أطيعوا اللّه، و و اللّه! لو علمت أنّ على وجه الأرض بشرا أعلم بكتاب اللّه تعالى و سنّة نبيّه منه ما استنفرتكم و لا بايعته على الموت.

يا معشر أهل الكوفة، اللّه اللّه في الجهاد فو اللّه! لئن صارت الأمور إلى غير عليّ لتصيرن إلى البلاء العظيم، و اللّه يعلم أنّي قد نصحت لكم، و أمرتكم بما أخذت بيقيني، و ما اريد أن اخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن اريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه انيب.

و حفل خطاب عمّار بالدعوة إلى الحقّ ، و جمع الكلمة، و نصرة أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي ثارت عليه هذه الفئة في سبيل أطماعها و منافعها التي لا صلة لها بالحقّ ، و لا فقه لها بما يرضي اللّه تعالى، ثمّ خطب عمّار خطابا آخر دعا فيه إلى نصرة الإمام، و الذبّ عنه، و الدفاع عن قيم الإسلام التي يناضل من أجلها الإمام.

و ظلّ الأشعري مخذّلا للناس، و يدعوهم إلى التمرّد و العصيان، فرأى الزعيم الكبير مالك الأشتر أنّه لا يتمّ الأمر إلاّ بإخراج الأشعري من الكوفة مهان الجانب

ص:70

محطّم الكيان، فجمع رهطا من قومه فهجموا على قصر الامارة حيث كان الأشعري مقيما فيه، فاضطرّ الجبان المنافق إلى الاعتزال عن عمله و أنفق ليلته في الكوفة خائفا مضطربا، و لمّا اندلع ضوء الصبح ولّى منهزما حتى أتى مكّة، فأقام بها مع المعتزلين يصاحبه العار و الخزي.

خطبة حجر بن عدي:

و انبرى الصحابي الجليل الشهيد الخالد حجر بن عدي فخطب في الناس و دعاهم إلى نصرة إمام الحقّ ، و الاستجابة لدعوة سبط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام الحسن عليه السّلام قائلا:

أيّها الناس، هذا الحسن ابن أمير المؤمنين، و هو من عرفتم أحد أبويه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الآخر الإمام الرضي المأمون الوصيّ ، صلّى اللّه عليهما اللذين ليس لهما شبيه في الإسلام، سيّد شباب أهل الجنّة، و سيّد سادات العرب، أكملهم صلاحا، و أفضلهم علما و عملا، و هو رسول أبيه إليكم، يدعوكم إلى الحقّ ، و يسألكم النصر، السعيد من وردهم و نصرهم، و الشقيّ من تخلّف عنهم بنفسه عن مواساتهم، فانفروا معه رحمكم اللّه خفافا و ثقالا، و احتسبوا في ذلك الأجر، فإنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين.

و استجاب الناس إلى الجهاد لنصرة الحقّ ، و قد نفر معه أربعة آلاف، فريق منهم ركب السفن، و فريق آخر ركب المطايا، و هم مسرورون بجهادهم لنصرة الإمام عليه السّلام.

و طوت الجيوش البيداء لا تلوي على شيء بقياده ريحانة رسول اللّه الإمام الحسن عليه السّلام حتى التقت بالإمام عليه السّلام بذي قار حيث كان مقيما فيها، و قد سرّ الإمام أي سرور بنجاح ولده و الوفد المرافق له فشكر لهم جهودهم و مساعيهم، و كان عدد الجيش أربعة آلاف.

ص:71

خطبة الإمام بذي قار:

خطب الإمام عليه السّلام بذي قار خطابا بالغ الأهمّية عرض فيه الأحداث الرهيبة التي واجهها بعد وفاة أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد جاء فيها بعد البسملة و الثناء على اللّه تعالى:

«الحمد للّه على كلّ أمر و حال، في الغدوّ و الآصال.

و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، ابتعثه رحمة للعباد، و حياة للبلاد، حين امتلأت الأرض فتنة و اضطرب حبلها و عبد الشّيطان في أكنافها، و اشتمل عدوّ اللّه إبليس على عقائد أهلها، فكان محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب الّذي أطفأ اللّه به نيرانها، و أحمد به شرارها، و نزع به أوتادها، و أقام به ميلها، إمام الهدى، و النّبيّ المصطفى صلّى اللّه عليه و آله، فلقد صدع بما امر به و بلّغ رسالات ربّه، فأصلح اللّه به ذات البين، و أمّن به السّبل، و حقن به الدّماء، و ألّف به بين ذوي الضّغائن الواغرة في الصّدور حتّى أتاه اليقين، ثمّ قبضه اللّه إليه حميدا.

ثمّ استخلف النّاس أبا بكر فلم يأل جهده.

ثمّ استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده.

ثمّ استخلف النّاس عثمان بن عفّان، فنال منكم و نلتم منه، حتّى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني، فقلت: لا حاجة لي في ذلك و دخلت منزلي فاستخرجتموني، فقبضت يدي فبسطتموها، و تداككتم عليّ حتّى ظننت أنّكم قاتليّ ، أو أنّ بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك، و لا جذل، و قد علم اللّه سبحانه أنّي كنت كارها للحكومة بين أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لقد سمعته يقول:

«ما من وال يلي شيئا من أمر أمّتي إلاّ أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق، ثمّ ينشر كتابه، فإن كان عادلا نجا، و إن كان جائرا هوى»،

ص:72

حتّى اجتمع عليّ ملؤكم، و بايعني طلحة و الزّبير، و أنا أعرف الغدر في أوجههما و النّكث في أعينهما، ثمّ استأذناني في العمرة، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكّة، و استخفّا عائشة، و خدعاها و شخص معهما أبناء الطّلقاء فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين و فعلوا المنكر، فيا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما عليّ ، و هما يعلمان أنّي لست دون أحدهما و لو شئت أن أقول لقلت.

و لقد كان معاوية كتب إليهما من الشّام كتابا يخدعهما فيه، فكتماه عنّي و خرجا يوهمان الطّغام أنّهما يطلبان بدم عثمان، و اللّه! ما أنكرا عليّ منكرا و لا جعلا بيني و بينهم نصفا، و إنّ دم عثمان لمعصوب بهما، و مطلوب منهما.. يا خيبة الدّاعي إلى ما دعا و بما ذا أجيب!! و اللّه! إنّهما لعلى ضلالة صمّاء، و جهالة عمياء، و إنّ الشّيطان قد ذمر لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله ليعيد الجور إلى أوطانه، و يردّ الباطل إلى نصابه...».

ثمّ رفع الإمام عليه السّلام يديه و قال:

«اللّهمّ إنّ طلحة و الزّبير قطعاني و ظلماني و ألّبا عليّ ، و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا، و انكث ما أبرما، و لا تغفر لهما أبدا، و أرهما المساءة فيما عملا و أمّلا..» (1).

و انبرى الزعيم المجاهد مالك الأشتر فقال للإمام:

«خفّض عليك يا أمير المؤمنين! فو اللّه! ما أمر طلحة و الزبير علينا بمحيل، لقد دخلا في هذا الأمر اختيارا، ثمّ فارقانا على غير جور عملناه، و لا حدث في الإسلام أحدثناه، ثمّ أقبلا بنار الفتنة علينا تائهين جائرين ليس معهما حجّة ترى، و لا أثر يعرف قد لبسا العار، و توجّها نحو الديار فإن زعما أنّ عثمان قتل مظلوما فليستقد منهما آل عثمان، فاشهد أنّهما قتلاه و اشهد اللّه يا أمير المؤمنين! لئن لم

ص:73


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 319:1-322.

يدخلا فيما خرجا منه و لم يرجعا إلى طاعتك و ما كانا عليه لنلحقنّهما بابن عفّان...».

عرض الإمام عليه السّلام في خطابه الرائع إلى الأمور التالية:

1 - تحدّث الإمام عليه السّلام عن البعثة النبوية التي هي أعظم حدث تاريخي في العالم، فقد غيّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجرى التأريخ و طوّر الحياة العامّة من واقعها البائس القاتم إلى عالم مشرق بالحضارة و النور، فألّف ما بين القلوب المتنافرة، و جمع الكلمة، و أقام صروح الفضيلة في الأرض.

2 - حكى خطاب الإمام ما عاناه من الخطوب و الكوارث بعد وفاة أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد دفع عن حقّه و تجاهل القوم مكانته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عظيم جهاده، و ما أسداه على الأمّة من عوائد لا تنسى، فقد عمد القوم إلى جحد فضائله و الغضّ من شأنه و معاملته معاملة عادية، و قد عرضنا إلى ذلك في بعض بحوث هذا الكتاب.

3 - عرض الإمام عليه السّلام إلى حكومة عثمان بن عفّان عميد الأسرة الأموية، و ما قام به من أحداث مؤسفة أدّت إلى سخط المسلمين، و قيامهم بقتله و إسقاط حكومته.

4 - أعرب الإمام عليه السّلام عن تدافع الجماهير على مبايعته بعد مقتل عثمان، و امتناعه من إجابتهم لأنّه كان كارها للحكم، و ذلك لما يترتّب عليه من المسئوليات أمام اللّه تعالى، و بالإضافة لذلك فقد خاف من قتل المسلمين بعضهم لبعض إن لم يستجب لهم، و يتولّى شئونهم، فقبل ببيعتهم له على كراهية منه لخلافتهم.

5 - تناول الإمام في خطابه تمرّد طلحة و الزبير على حكومته، فقد بايعاه أمام ملأ من الناس، ثمّ نكثا بيعتهما، و خرجا إلى مكّة يريدان الغدرة لا العمرة - كما يقول الإمام عليه السّلام - و قد خفّا إلى عائشة فوجدا عندها تجاوبا فكريا معهما، فانضمّت إليهما كما انضمّ إليهما أبناء الطلقاء من الأمويّين و آل بني معيط و غيرهما من الأسر القرشية

ص:74

الذين حاربوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جهدوا على إطفاء نور الإسلام هؤلاء جميعا خلعوا طاعة الإمام عليه السّلام، و أعلنوا العصيان المسلّح على حكومته و اتّخذوا دم عثمان بن عفّان شعارا لهم، و معظهم قد شاركوا في إراقة دمه، و ليس للإمام عليه السّلام أي ضلع في الإجهاز عليه، و قد فتحوا باب الحرب على الإمام فاحتلّوا البصرة، و أراقوا دماء المسلمين بغير حقّ هذا بعض ما حفل به خطاب الإمام من بنود.

الصحابة الذين رافقوا الإمام:

و رافق الإمام في مسيره لحرب عائشة جمهرة من أعلام الصحابة و خيارهم، كما رافقوه في حربه لمعاوية، و من المؤكّد أنّهم قد اتّبعوه على هدى و بصيرة من أمرهم لا لعاطفة أو هوى و تقليد، فقد أيقنوا أنّه على الحقّ ، و خصومه على مزلة الباطل، فلم يغب عن أذهانهم

قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيه: «عليّ مع الحقّ ، و الحقّ مع عليّ »

و قوله فيه: «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى» و غير ذلك من أحاديثه في شأن الإمام عليه السّلام.

و على أيّ حال فقد ذكر محمّد بن حبيب القرشي البغدادي المتوفّى سنة 225 ه أسماء بعض الصحابة الذين نفروا مع الإمام في حرب الجمل الذي فرضته عليه الاسر القرشية، و هم:

1 - الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر: شهد مع الإمام حرب الجمل و صفّين، و استشهد في صفّين.

2 - سهل بن حنيف: شهد مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله بدرا، و كان من أفاضل الصحابة و خيارهم، و رافق الإمام في حرب الجمل و صفّين، توفّي بالكوفة.

3 - عثمان بن حنيف: من أفذاذ الصحابة و خيارهم، شهد مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله واقعة احد و المشاهد كلّها، و قد وجّهه عمر إلى مسح السواد، و ولاّه الإمام البصرة، و حضر

ص:75

معه في واقعة الجمل.

4 - سعد بن الحارث بن عمرو: من أفاضل الصحابة، كان مع الإمام في واقعة الجمل، و استشهد في صفّين.

5 - جارية بن قدامة بن زهير: من بني سعد، روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعض الأحاديث، حضر مع الإمام في واقعة الجمل، و رافق الإمام و قد وجّهه إلى محاربة ابن الحضرمي الذي بعثه معاوية لاحتلال البصرة فحاصره جارية و قتله.

6 - أبو مسعود الأنصاري: حضر مع الإمام حرب الجمل، و قد استخلفه الإمام على الكوفة، و كان الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السّلام قد تزوّج بإحدى الفاضلات من بناته.

7 - أبو سعيد الخدري: شهد مع الإمام في حرب الجمل و صفّين ثمّ رجع إلى المدينة.

8 - أبو امامة العبدي بن العجلان الباهلي: شهد مع الإمام حرب الجمل و صفّين، و قد روى عن الإمام أنّه لا يجهز على جريح، و لا يطلب مولّيا، و لا يسلب قتيلا.

9 - خزيمة بن ثابت بن الفاكه: من بني خطمة، من أعلام الصحابة، و هو ذو الشهادتين، و كانت معه راية المسلمين يوم فتح مكّة، شهد مع الإمام حرب الجمل، و استشهد في صفّين.

10 - هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص: الصحابي الملهم العظيم، أسلم يوم الفتح، شهد مع الإمام حرب الجمل، فقئت عينه يوم اليرموك، و كان من قادة جيش الإمام في صفّين، و هو القائل:

أعور يبغي أهله محلاّ قد عالج الحياة حتى ملاّ

ص:76

استشهد في صفّين مدافعا عن أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، و مناجزا لأئمّة الكفر و الضلال.

11 - سليمان بن صرد الخزاعي: من أجلاّء الصحابة، كان اسمه يسارا فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سليمان، فلمّا قبض النبيّ تحوّل إلى الكوفة فأقام بها، شهد مع الإمام حرب الجمل و صفّين، و هو من التوّابين.

12 - الأشعث بن قيس الكندي: وفد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في سبعين من قومه فأسلموا، شهد مع الإمام حرب الجمل و صفّين، ثمّ انحرف عن الحقّ ، و هو ممّن أفسد جيش الإمام في رفع المصاحف، و له مواقف مخزية عرضنا لها في بعض بحوث هذا الكتاب.

13 - قيس بن سعد بن عبادة: من أفذاذ الصحابة، أمره أبوه بخدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد شهد مع الإمام جميع حروبه، و هو من أبطال الإسلام، و أعلام المتّقين الأخيار.

14 - أبو عمرة، اسمه بشير بن عمر: و امّه كبشة اخت حسّان بن ثابت، حضر واقعة الجمل، و استشهد في صفّين.

15 - حجر بن عدي بن الأدبر الكندي: من أشهر الصحابة في جهاده و إيمانه، وفد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و شهد القادسية، و حضر واقعة الجمل و صفّين، و كان من خلّص أصحاب الإمام عليه السّلام، و من أكثرهم تفانيا و ولاء له، و هو أوّل من وحّد اللّه تعالى بمرج عذراء حينما فتحها، و قد دخلها مبكّرا، قتله معاوية فيها صبرا لولائه للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

16 - عمرو بن الحمق الخزاعي: من أعلام الصحابة في جهاده و مواقفه في نصرة الإسلام، و هو من الناقمين على عثمان بن عفّان.. شهد مع الإمام الجمل و صفّين، و تعرّض للخطوب و التنكيل حينما آل الحكم إلى ابن هند، قتله ابن أمّ الحكم بالجزيرة و بعث برأسه إلى معاوية، و طيف برأسه الشريف تشفّيا منه.

ص:77

17 - عبد اللّه بن عباس: حبر الأمّة، و مستشار الإمام عليه السّلام و وزيره، شهد معه الجمل و صفّين و النهروان.

18 - عبيد اللّه بن عباس: حضر واقعة الجمل و صفّين، و كان عمره يوم وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اثنتي عشر سنة.

19 - عبد اللّه بن جعفر: من أجواد العرب، حضر مع الإمام حرب الجمل و صفّين، و قد ألمعنا إلى سيرته في كتابنا السيّدة زينب سلام اللّه عليها.

20 - الإمام الحسن: سبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ريحانته، شهد مع أبيه حرب الجمل و صفّين و النهروان.

21 - عمر بن أبي سلمة: شاهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن تسع سنين، شهد مع الإمام عليه السّلام حرب الجمل.

22 - جعدة بن هبيرة بن أبي وهب: امّه هند بنت أبي طالب، شهد مع خاله جميع حروبه.

23 - الإمام الحسين: سيّد شباب أهل الجنّة، و علم الإسلام المنقذ الأعظم للمسلمين من الطغمة الأموية التي جهدت على إطفاء نور الإسلام، و إعادة الحياة الجاهلية.

هؤلاء بعض الصحابة الذين ذكرهم محمّد بن حبيب القرشي (1).

جيش الإمام بالبصرة:

و تحرّكت قوّات الإمام من ذي قار، و هي على بيّنة صادقة من أمرها لا يخامرها شكّ أنّها على الحقّ ، و مع أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، و أنّها تحارب فئة

ص:78


1- المحبّر: 289-293.

باغية لا هدف لها إلاّ الوصول إلى الحكم، و قد انتهت جيوش الإمام في زحفها إلى مكان يسمّى بالزاوية و يقع قريبا من البصرة، فأقام فيه الإمام، و بادر إلى الصلاة، و بعد الفراغ منها أخذ يبكي، و دموعه تسيل على سحنات وجهه الشريف، و هو يتضرّع إلى اللّه تعالى في أن يحقن دماء المسلمين، و يجنّبه ويلات الحرب، و يجمع كلمة المسلمين على الهدى و الحقّ .

دعوة الإمام إلى السلم:

اشارة

و قبل أن تندلع نار الحرب أوفد الإمام رسل السلم إلى القوم يحذّرونهم عقاب اللّه في تصديع كلمة المسلمين، و إراقة دمائهم و من بين رسل الإمام:

1 - صعصعة بن صوحان:

و أوفد الإمام عليه السّلام للقاء طلحة و الزبير و عائشة الصحابي الجليل صعصعة بن صوحان، و زوّده برسالة لهم تنعي عليهم حرمة ما اقترفوه من قتل المسلمين بالبصرة، و ما صنعوه من التنكيل بصاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عثمان بن حنيف، و انطلق صعصعة في أداء رسالته فالتقى أوّلا:

مع طلحة: و عرض صعصعة رسالة الإمام على طلحة، و دعاه إلى السلم فلم يستجب له، و أصرّ على الغيّ و العدوان، و فتح باب الحرب على الإمام، و لم يجد عنده أي استجابة لدعوة الحقّ .

مع الزبير: و التقى صعصعة مع الزبير، و ناوله رسالة الإمام، فوجده ألين جانبا من طلحة، و أسرع إجابة منه.

مع عائشة: و سارع صعصعة نحو عائشة، و ناولها رسالة الإمام عليه السّلام فوجدها مصرّة على الحرب، و قالت له:

خرجت للطلب بدم عثمان، و اللّه! لأفعلنّ ، و أفعلنّ ...

ص:79

و قفل صعصعة راجعا لم يحقّق في وفادته أي شيء، فأخبر الإمام عليه السّلام أنّهم لا يريدون إلاّ قتاله، فتألّم و قال بذوب روحه:

«اللّه المستعان».

2 - عبد اللّه بن عباس:

و أوفد الإمام عليه السّلام للقاء القوم حبر الأمّة عبد اللّه بن عباس ليحاججهم بمنطقه الفيّاض، فسارع إليهم، و التقى أوّلا:

مع طلحة: و بدأ ابن عبّاس مع طلحة، فذكّره ببيعته للإمام، و أنّها عهد في رقبته، فقال طلحة:

بايعت عليّا و السيف على رقبتي...

فردّ عليه ابن عباس:

أنا رأيتك بايعت عليّا طائعا، أو لم يقل لك قبل بيعتك له: إن أحببت ابايعك، فقلت: لا بل نحن نبايعك..؟ و لم يستطع طلحة إنكار ذلك، و إنّما أخذ يلفّق معاذيره في تمرّده قائلا:

إنّما قال لي ذلك، و قد بايعه القوم فلم أستطع خلافهم.

و اللّه يا ابن عبّاس! إنّ القوم الذين معه يغرّونه...

أ ما علمت يا بن عبّاس إنّي جئت إليه و الزبير، و لنا من الصحبة ما لنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و القدم في الإسلام، و قد أحاط به الناس قياما على رأسه بالسيف، فقال لنا - بهزل -: إن أحببتما بايعت لكما، فلو قلنا: نعم، أ فتراه يفعل ؟ و قد بايع الناس له، فليخلع نفسه، و يبايعنا، لا و اللّه! ما كان يفعل، و حتّى إن يغري بنا من لا يرى لنا حرمة، فبايعناه كارهين، و قد جئنا نطلب بدم عثمان، فقل لابن عمّك: إن كان يريد

ص:80

حقن الدماء و إصلاح أمر الامّة فليمكّننا من قتلة عثمان فهم معه، و يخلع نفسه، و يردّ الأمر ليكون شورى بين المسلمين فيولّوا من شاءوا، فإنّما عليّ رجل كأحدنا، و إنّ أبى أعطيناه السيف فما له عندنا غير هذا...

و حفل كلام طلحة بالمغالطات، فليست عنده حجّة أو دليل يركن إليه، أ يستقيل الإمام من منصبه بعد ما بايعه المسلمون بيعة عامّة لم يظفر بمثلها أحد من الخلفاء؟ إذ لم تكن بيعته فلتة، و لم تكن عن الشورى الهزيلة التي دبّرت ضدّ الإمام فكيف يتخلّى الإمام عن منصبه و يغرق الأمّة بالفتن و الخطوب ؟ و ردّ عليه ابن عبّاس بقوله:

يا أبا محمّد، لست تنصف، أ لم تعلم أنّك حضرت عثمان، حتّى مكث عشرة أيام يشرب من ماء بئره، و تمنعه من شرب ماء الفرات حتى كلّمك عليّ في أن تخلّي الماء له، و أنت تأبى ذلك.

و لمّا رأى أهل مصر فعلك، و أنت صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه، ثمّ بايع الناس رجلا له من السابقة و الفضل و القرابة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و البلاء العظيم ما لا يدفع و جئت أنت و صاحبك طائعين غير مكرهين حتى بايعتما ثمّ نكثتما، فعجب و اللّه! إقرارك لأبي بكر و عمر و عثمان بالبيعة، و وثوبك على ابن أبي طالب، فو اللّه! ما عليّ دون أحد منكم.

و أمّا قولك: يمكّنني من قتلة عثمان، فما يخفى عليك من قتل عثمان.

و أمّا قولك: إن أبى عليّ فالسيف، فو اللّه! إنّك تعلم أنّ عليّا لا يتخوّف....

لقد فنّد ابن عبّاس أغاليط طلحة و حججه الواهية الرخيصة التي تذرّع بها لمحاربة الحقّ ، و الخروج على إمام زمانه، و مضى طلحة يهدّد و يتوعّد قائلا:

أيها الآن دعنا من جدالك..

ص:81

و عرض ابن عبّاس حديث طلحة على الإمام عليه السّلام فقال بألم:

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (1).

مع عائشة:

و ندب الإمام عليه السّلام ابن عبّاس للقيى عائشة، و أمره أن يقول لها:

«إنّ هذه الامور لا تصلحها النّساء، و إنّك لم تؤمري بذلك، فلم ترضين بالخروج عن أمر اللّه في تبرّجك ؟ و بيتك الّذي أمرك النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمقام فيه ؟ حتّى سرت إلى البصرة فقتلت المسلمين ؟ و عمدت إلى عمّالي فأخرجتهم ؟ و أمرت بالتّنكيل بالمسلمين ؟ و أبحت دماء الصّالحين ؟ فارعي و راقبي اللّه عزّ و جلّ ، فقد تعلمين أنّك كنت أشدّ النّاس على عثمان، فما عدا ممّا بدا» (2).

و في الحقيقة الدعوة إلى الحقّ بجميع رحابه، فقد سدّ على عائشة كلّ نافذة تسلك فيها لتبرير خروجها على الإمام، فليس لها أي مشروعيّة في خروجها من بيتها الذي أمرها اللّه تعالى أن تقرّ فيه، كما أنّه لا سبيل لها في قتل المسلمين، و نهب ما في بيت المال كلّ ذلك لا سبيل لها فيه... و عرض ابن عبّاس حديث الإمام عليه السّلام على عائشة فقالت له:

يا ابن عبّاس، ابن عمّك يرى أنّه قد تملّك البلاد، لا و اللّه! ما بيده أي شيء منها إلاّ و بيدنا أكثر منها...

و ردّ عليها ابن عبّاس قائلا:

يا امّاه، إنّ أمير المؤمنين له فضل و سابقة في الإسلام، و عظم عناء...

و سارعت عائشة قائلة:

أ لا تذكر طلحة و عناءه يوم احد؟

ص:82


1- الأعراف: 89.
2- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 77:4-78.

فأجابها ابن عبّاس:

و اللّه! ما نعلم أحدا أفضل من علي...

و لم يجد نصح ابن عبّاس لعائشة، و لم تخضع لمنطقه الفيّاض، و أصرّت على تمرّدها، فانبرى إليها ابن عبّاس قائلا:

اللّه اللّه في دماء المسلمين! و سارعت عائشة قائلة:

و أي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه و من معه..؟ و تبسّم ابن عبّاس من منطقها الرخيص، و عدم اهتمامها بإراقة دماء المسلمين، فأنكرت ذلك عائشة و قالت له:

مم تضحك يا بن عبّاس ؟ فقال لها: إنّ عليّا معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه...

ثمّ تركها و انصرف، و لم يلق معها أي استجابة لنصحه، فقد أصرّت على رأيها.

مع الزبير: و سارع ابن عبّاس إلى الزبير، فالتقى به وحده، و كان يخشى أن يكون معه ابنه عبد اللّه الذي كان من ألدّ أعداء الإمام عليه السّلام، و عرض عليه نصيحة الإمام، و دارت بينهما بعض الأحاديث، و كاد أن يلين لها الزبير، إلاّ أنّ بعض الحاضرين سارع إلى ولده عبد اللّه فأخبره بمجيء ابن عبّاس فخشي من استجابة أبيه فبادر مسرعا إلى أبيه، و جرت مناظرة بينه و بين ابن عبّاس، فصرف أباه، و أفسد الأمر، فانصرف ابن عبّاس و قد فشل في مهمّته، فأخبر الإمام عليه السّلام بذلك.

الإمام مع طلحة و الزبير:

و لم يكتف الإمام عليه السّلام بالوفد الذي أرسله للزبير و طلحة و عائشة، فقد خرج بنفسه ليقيم الحجّة عليهم، فالتقى بطلحة و الزبير، و قال لهما:

ص:83

«استحلفا عائشة بحقّ اللّه، و بحقّ رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها: هل تعلم رجلا من قريش أولى منّي باللّه و رسوله، و إسلامي قبل كافّة النّاس أجمعين، و كفايتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفّار العرب بسيفي و رمحي، و على براءتي من دم عثمان، و على أنّي لم أكن أستكره أحدا على بيعتي، و على أنّي كنت أحسن قولا في عثمان منكما؟».

فأجابه طلحة جوابا منكرا، و رقّ له الزبير، و قفل الإمام راجعا إلى أصحابه فقالوا له: بم كلّمت الرجلين ؟ فقال عليه السّلام:

«إنّ شأنهما لمختلف، أمّا الزّبير فقاده اللّجاج، و لن يقاتلكم، و أمّا طلحة فسألته عن الحقّ فأجابني بالباطل، و لقيته باليقين فقابلني بالشّكّ ، فو اللّه! ما نفعه الحقّ ، و أضرّ به الباطل، و هو - أي طلحة - مقتول في الرّعيل..» (1).

و تحقّق ما تنبّأ به الإمام عليه السّلام، فقد صرع طلحة، و زهقت نفسه لا على حقّ ، و إنّما على باطل صريح واضح.

الإمام مع الزبير:

و رأى الإمام عليه السّلام أن يكسب الزبير، و ينقذه من الضلالة فخرج إليه، و قد اعتلى بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الشهباء، و كان عاريا من السلاح، فنادى أين الزبير؟ فخرج إليه شاكّا بسلاحه،

فقيل لعائشة إنّ الزبير قد خرج للإمام، فخافت عليه و صاحت:

وا حرباه يا أسماء (2)! فقيل لها: إنّ عليّا خرج حاسرا فاطمأنّت، و اعتنق الإمام الزبير و قال له

ص:84


1- واقعة صفّين - محمّد بن زكريا: 35.
2- أسماء: هي بنت أبي بكر، اخت عائشة، و هي زوجة الزبير، و قد خافت عائشة عليه من القتل بيد الإمام فقالت: وا حرباه يا أسماء!

بلطف: «ما الّذي أخرجك ؟».

دم عثمان.

و لم يحفل الإمام بهذا الاعتذار الذي لا نصيب له من الصحّة، فأشاح عنه، و أخذ يذكّره بما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه:

«اناشدك باللّه، هل تعلم يا زبير أنّي كنت أنا و أنت في سقيفة بني فلان تعالجني و اعالجك فمرّ بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: كأنّك تحبّه ؟ قلت: و ما يمنعني إنّه على ديني و هو ابن عمّتي. فقال رسول اللّه: أما إنّه ليقاتلنّك و هو الظّالم».

و لم يسع الزبير إنكار ذلك، و راح يقول بأسى و حزن: اللّهمّ نعم.

«فعلام تقاتلني ؟».

نسيتها و اللّه! و لو ذكرتها ما خرجت إليك، و لا قاتلتك...

و انصرف الزبير، و قد طافت به موجات من الأسى، و ندم كأشدّ ما يكون الندم على ما فرّط في أمر نفسه، و قفل الإمام راجعا إلى أصحابه فبادروا قائلين:

يا أمير المؤمنين، سرت إلى رجل في سلاحه، و أنت حاسر؟ فأجابهم الإمام:

«أ تدرون من الرّجل ؟ إنّه الزبير بن صفيّة عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أما أنّه قد أعطى عهدا لا يقاتلكم... إنّي ذكرت له حديثا قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: لو ذكرته ما أتيتك...».

و صاح أصحاب الإمام: الحمد للّه يا أمير المؤمنين! ما كنّا نخشى في هذه الحرب غيره، و لا نتّقي سواه (1).

1

ص:85


1- الإمامة و السياسة 73:1.

الدعوة إلى كتاب اللّه:

و لمّا باءت بالفشل جميع الوسائل و الجهود التي بذلها الإمام من أجل السلم و حقن الدماء، ندب أصحابه لرفع كتاب اللّه تعالى و الدعوة إلى الحكم بما فيه، و أحاطهم علما أنّ من يقوم بهذه المهمّة فإنّه يستشهد، فوجم أصحابه سوى فتى نبيل مؤمن من أهل الكوفة، فانبرى قائلا:

أنا له يا أمير المؤمنين! و قد وطّن الفتى نفسه على الموت، فأشاح الإمام بوجهه عنه، و ندب أصحابه لهذه المهمّة فلم يستجب له أحد منهم سوى الفتى، فناوله الإمام المصحف، فانطلق به إلى ساحة الحرب، و هو يلوّح به أمام عسكر عائشة، و قد رفع صوته بالدعوة إلى تحكيم القرآن الكريم، فحمل القوم عليه، و قطعوا يمينه، فأخذ المصحف بيساره، و هو يناديهم و يدعوهم إلى العمل بما في كتاب اللّه تعالى، فحملوا عليه و قطعوا يساره، فأخذ المصحف بأسنانه، و قد نزف دمه، و هو يقول:

اللّه في دمائنا و دمائكم...

و انثالوا عليه من كلّ جانب يرشقونه بالسهام، فهوى إلى الأرض جثّة هامدة، فانطلقت إليه امّه تبكيه و ترثيه بذوب روحها قائلة:

يا ربّ إنّ مسلما أتاهم يتلو كتاب اللّه لا يخشاهم

فخضّبوا من دمه لحاهم و امّه قائمة تراهم (1)

و رأى الإمام بعد شهادة هذا الفتى أنّه لا وسيلة إلاّ الحرب، فقال لأصحابه:

«الآن حلّ قتالهم، و طاب لكم الضّراب...».

ص:86


1- مروج الذهب 246:2.

التهيّؤ للحرب:

و دعا الإمام الحصين بن المنذر، و كان شابّا، فقال له:

«يا حصين، دونك هذه الرّاية، فو اللّه ما خفقت قطّ فيما مضى، و لا تخفق فيما بقي راية أهدى منها إلاّ راية خفقت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

و أنشد الإمام:

«لمن راية سوداء يخفق ظلّها إذا قيل قدّمها حصين تقدّما

يقدّمها للموت حين يزيرها حياض المنايا يقطر الموت و الدّما» (1)

الحرب العامّة:

و لمّا يئس الإمام عليه السّلام من السلم و حقن الدماء، عبّأ جيشه تعبئة عامّة و أسند قيادة جيشه إلى الزعيم مالك الأشتر، و الصحابي العظيم عمّار بن ياسر و غيرهما من أعلام الصحابة، و دعا بدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلبسه، و اعتلى على بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وقف أمام صفوف جيشه، و نشر عليه اللواء، فوقف قيس بن عبادة أمامه و أنشأ يقول:

هذا اللّواء الّذي كنّا نخفّ مع النّبيّ و جبريل لنا مددا

ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته أن لا يكون له من غيرها أحدا

قوم إذا حاربوا طالت أكفّهم بالمشرفيّة حتّى يفتحوا البلدا

و صفّ جند عائشة صفوفهم، و جاءوا بالجمل الذي يقلّ عائشة و خطامه بيد كعب بن شور، و قد رفع صوته قائلا:

يا معشر الأزد عليكم امّكم فإنّها صلاتكم و صومكم

ص:87


1- أنساب الأشراف 180:1.

و الحرمة العظمى الّتي تعمّكم فأحضروها جدّكم و حزمكم

لا يغلبن سمّ العدوّ (1) سمّكم إنّ العدوّ إن علاكم زمّكم

و خصّكم بجوره و عمّكم لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم (2)

و تقدّم رجل من بني ضبّة و بيده السيف أمام جمل عائشة، و قد رفع عقيرته قائلة:

أضربهم و لو أرى عليّا عمّمته أبيض مشرفيّا

أريح منه معشرا غويّا فشدّ عليه رجل من أصحاب الإمام يقال له اميّة العبدي فردّ عليه بقوله:

هذا عليّ و الهدى سبيله و الرشد فيه و التقى دليله

من يتبع الحقّ يكن خليله و حمل الإمام عليه السّلام عليهم، و قد رفع اللواء بيسراه، و شهر بيمينه سيفه ذا الفقار الذي ذبّ به عن دين اللّه، و حارب به المشركين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال يريد أصحاب الإمام أن يحموا إمامهم، وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يريد أصحاب عائشة أن يحموا أمّهم.

و حمل رجل من أصحاب عائشة يقال له أبو الحرباء على جيش الإمام و هو يقول:

أنا أبو الحرباء و اسمي عاصم و أمّنا أمّ لها محارم

و أرداه قتيلا، و حمل رجل من جند عائشة على أصحاب الإمام و قد رفع صوته عاليا:

ص:88


1- يريد بالعدو: الإمام أمير المؤمنين صدّيق المؤمنين و عدوّ المنافقين.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 81:2.

نحن نوالي أمّنا الرضيّه و ننصر الصحابة المرضية

فشدّ عليه رجل من أصحاب الإمام و هو يقول:

دليلكم عجل بني اميّة و امّكم حاسرة شقيّة

هاوية في فتنة عميّة

و ضربه على هامته ففلقها و خرّ إلى الأرض صريعا، و قد استخدم الرجز في هذه الحرب من الفريقين كلّ منهما يعلن أهدافه، و سبب حربه إلى الفريق الآخر.

ابن الزبير و مالك الأشتر:

و برز عبد اللّه بن الزبير لحومة الحرب، فبرز إليه الزعيم مالك الأشتر فعلا صدر ابن الزبير فصاح مستجيرا:

اقتلوني و مالكا و اقتلوا مالكا معي

و أخذ الأشتر برجل ابن الزبير و ألقاه في الخندق، و قال: و اللّه! لو لا قرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبدا.

و علمت عائشة بمبارزة ابن اختها عبد اللّه إلى مالك الأشتر ففقدت صوابها و راحت تقول: من بشّرني بسلامته فله عشرة آلاف درهم، و دخل عليها بعد ذلك الأشتر فقالت له معاتبة:

يا أشتر، أنت الذي أردت قتل ابن اختي يوم الواقعة...

فردّ عليها الأشتر بهذه الأبيات:

أ عائش لو لا أنّني كنت طاويا ثلاثا لألفيت ابن اختك هالكا

غداة ينادي و الرّجال تحوزه بأضعف صوت: اقتلوني و مالكا

ص:89

فنجّاه منّي أكله و شبابه و أنّي شيخ لم أكن متماسكا (1)

مصرع الزبير:

أمّا الزبير فكان رقيق القلب، و شديد الوله لأهل البيت عليهم السّلام و قد زجّ به في هذه المهالك حبّه للملك، و إغراء ولده له، إلاّ أنّه بعد اجتماعه بالإمام عليه السّلام ثاب إلى رشده، و راح يقول:

اخترت عارا على نار مؤجّجة ما أن يقوم لها خلق من الطين

نادى عليّ بأمر لست أجهله عار لعمرك في الدنيا و في الدين

فقلت: حسبك من عذل أبا حسن فبعض هذا الذي قد قلت: يكفيني (2)

و ملكت الحيرة صوابه، و اتّجه صوب عائشة، و راح يقول لها:

يا أمّ المؤمنين، إنّي و اللّه! ما وقفت موقفا قطّ إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الموقف ؟ فإنّي لا أدري أ مقبل فيه أم مدبر؟ و عرفت عائشة دخائل ذاته، و أنّه قد استجاب لنداء الحقّ ، فأثارت عواطفه، و قالت له بسخرية:

يا أبا عبد اللّه، خفت سيوف بني عبد المطّلب ؟ و عاثت هذه السخرية فسادا في نفسه، و التفت إليه ولده عبد اللّه فعيّره بالجبن قائلا له:

إنّك خرجت على بصيرة، و لكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب، و عرفت أنّها تحتها الموت...

ص:90


1- النجوم الزاهرة 105:1-106.
2- مروج الذهب 247:2.

إنّ الزبير لم يخرج على بصيرة من أمره - كما يقول ولده - و إنّما خرج محاربا للّه و رسوله، من أجل الملك و السلطان، فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ عليّا مع الحقّ ، و الحقّ معه، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فكيف يكون خروج الزبير لحرب الإمام عليّ على بصيرة ؟ و على أي حال فقد التاع الزبير من تعيير ابنه له بالجبن، و هي من أبغض الصفات و أمقتها عند الزبير (1) و التفت إلى ولده فقال له:

ويحك! إنّي قد حلفت له - أي للإمام - أن لا اقاتله...

فقال له ولده:

كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس...

فأعتق الزبير غلامه، و راح يجول في ساحة الحرب ليرى ولده شجاعته...

و أخذت تراوده الأفكار، و استبان له أنّه على ضلال فانصرف عن ساحة القتال، و أخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى وادي السباع، فلقيه عمرو بن جرموز، فقال له:

يا أبا عبد اللّه، أحييت حربا ظالما أو مظلوما، ثمّ تنصرف، أ تائب أنت أم عاجز؟ فسكت الزبير و لم يجبه، و أعاد ابن جرموز عليه الحديث فقال له: حدّثني عن خصال خمس: أسألك عنها؟ هات.

خذلك عثمان، و بيعتك عليّا، و إخراجك أمّ المؤمنين، و صلاتك خلف ابنك، و رجوعك عن الحرب...

نعم، اخبرك.. أمّا خذلي عثمان فأمر قدّم اللّه لي الخطيئة و أخّر لي فيه التوبة،

ص:91


1- مروج الذهب 247:2.

و أمّا بيعتي عليّا فو اللّه! ما وجدت من ذلك بدّا، حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و خشيت القتل..، و أمّا إخراج أمّنا عائشة فأردنا أمرا و أراد اللّه غيره..، و أمّا صلاتي خلف ابني فإنّما قدّمته عائشة أمّ المؤمنين، و لم يكن دون صاحبي أمر..، و أمّا رجوعي عن الحرب فظنّ بي ما شئت غير الجبن..

و لم يقتنع ابن جرموز بهذه الأجوبة الواهية، فصمّم على قتله، و أخذ يدبّر الحيلة في اغتياله، فأعرب له عن شفقته و حرصه عليه قائلا:

يا أبا عبد اللّه، إنّ دون أهلك مسافة فخذ نجيبي هذا و خلّ فرسك و درعك فإنّهما شاهدتان عليك بما نكره...

انظر في ذلك..

و لم يلتفت إلى مكره، و أخذ يلحّ عليه، فاستجاب له و أعطاه فرسه و درعه و بقي حاسرا ليس معه سلاح يدافع به عن نفسه، و سارع ابن جرموز إلى الأحنف بن قيس فأخبره بما صمّم عليه من قتل الزبير فأقرّه على ذلك، و قال له:

اقتله، قتله اللّه مخادعا...

و رأى رجل الزبير، و هو عار عن السلاح، و عرف ما دار بينه و بين ابن جرموز، فقال له ناصحا:

يا أبا عبد اللّه، أنت لي صهر، و ابن جرموز لم يعتزل هذه الحرب مخافة للّه، و لكنّه كره أن يخالف الأحنف... و قد ندم الأحنف في خذلانه لعليّ ، و قد أراد أن يتقرّب بك إليه، فأخذ درعك و فرسك، و هذا تصديق ما قلت: فبت عندي الليلة، ثمّ اخرج بعد نومه فإنّك إن فتهم لم يطلبوك...

و تهاون الزبير عن نصيحة الرجل، و طلب أن يرشده إلى أمر آخر فقال له:

ما نرى يا أخا بني كلب ؟

ص:92

فأشار عليه بالصواب قائلا:

أرى أن ترجع إلى فرسك و درعك فتأخذهما فإنّ أحدا لا يقدم عليك و أنت فارس...

و لم يستجب الزبير لهذا النصح الخالص الذي يضمن حياته، فقد أعرض عنه، و أصبح و ابن جرموز معه قد لبس درعه و اعتلى فرسه، و قد غفل الزبير عمّا دبّر له، و بينما هو في غفلة و ذهول من أمره بادر إليه ابن جرموز فطعنه ثمّ أجهز عليه، فاحتزّ رأسه و أتى به و بسيفه إلى الإمام عليه السّلام، فأخذ السيف و بدا عليه الحزن، و قال بنبرات تقطر أسى:

«سيف و اللّه! طالما جلى به عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكرب..».

لقد انتهت حياة الزبير بمثل هذا المصير المؤلم، و قد كان من أعلام المجاهدين في الإسلام. لقد ختم حياته بالتمرّد و إعلان الحرب على وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، و قد ألقاه في هذا المستوى السحيق جشعه و حبّه للدنيا و ولده عبد اللّه الذي هام في حبّ الملك و السلطان، و على أي حال فقد فجعت زوجته عاتكة بنت زيد، و قالت ترثيه بذوب روحها، كما عرضت إلى غدر ابن جرموز به قالت:

غدر ابن جرموز بفارس بهمة يوم اللقاء و كان غير مسدّد

يا عمرو، لو نبّهته لوجدته لا طائشا رعش الجنان و لا اليد

شلّت يمينك إن قتلت لمسلما وجبت عليك عقوبة المتعمّد (1)

مصرع طلحة:

أمّا طلحة فهو ثاني شخصيّة في هذه الحرب الظالمة، و كان من الحاقدين على

ص:93


1- طبقات ابن سعد 112:3.

الإمام لموقفه من بيعة أبي بكر الذي هو من ألصق الناس بطلحة و هو الذي أغرى الزبير بالتمرّد على حكومة الإمام عليه السّلام.

و على أي حال فقد اتّفق الرواة على أنّ مروان بن الحكم قد انتهز غفلته و رماه بسهم أجهز عليه، و قال: لا أطلب ثارا بعد اليوم.. إنّ دم عثمان عند هذا، و قال لبعض ولد عثمان:

لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة.. و بمقتله و مصرع الزبير فقد انتهت القيادة العامّة في جيش عائشة.

قيادة عائشة للجيش:

و تولّت عائشة القيادة العامّة للجيش بعد هلاك الزبير و طلحة، فكانت هي التي تتولّى إصدار الأوامر في العمليات الحربية، و قد احتفّ بهودجها بنو ضبّة و هم من أغلظ الناس قلوبا و طباعا و هم ينشدون:

نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل ننازل القرن إذا القرن نزل

و القتل أشهى عندنا من العسل نبغي ابن عفّان بأطراف الأسل

ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل

كما أحاطت بجمل عائشة الأزد و بنو ناجية، و قد هاموا بحبّها و الإخلاص إليها فكانوا يأخذون بعر جملها و يشمّونه و يقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك...

و كان جملها - عسكر - هو الراية التي يقاتل تحتها اولئك البسطاء، و يتساقطون جملة و أفرادا، و خرج كعب بن سور مع اخوة له ثلاثة أو أربعة، و في عنقه مصحف، فقتلوا جميعا و تتابع الرجال بلهفة بأخذ خطام جملها، حتى قتل سبعون من قريش خاصّة، و كانت عائشة تسأل عن الآخذ بخطام جملها فتمجّده، و تغريه للدفاع

ص:94

عنها، و جاءت بنو ناجية فأخذت بزمام ناقتها، و كانوا مشكوكين في انتسابهم لقريش فقالت لهم:

صبرا بني ناجية فإنّي أعرف فيكم شمائل قريش...

لقد أضفت عليهم لقب الانتساب لقريش ليتفانوا في الدفاع عنها، و فعلا فقد فنوا جميعا.. و بادرت بنو ضبّة بأخذ خطام جملها، و شاعرهم يرتجز..

نحن بنو ضبّة لا نفرّ حتى نرى جما جما تخرّ

يخرّ منها العلق المحمرّ يا أمّنا يا زوجة النبيّ

يا زوجة المبارك المهديّ

و قابلوا الموت بشوق حتى قتل منهم أربعون رجلا، و سارعت الأزد بأخذ خطام الجمل، فقالت عائشة:

من أنتم ؟ الأزد.

فألهبت في نفوسهم العواطف قائلة: إنّما يصبر الأحرار، ما زلت أرى النصر مع بني ضبّة، فلمّا فقدتهم أنكرته و اندفع هؤلاء السذّج إلى القتال حتى قتل معظمهم، و اشتدّ القتال كأشدّ و أعنف ما يكون القتال، و ملئت الأرض بأشلاء القتلى و الجرحى، يقول الواقدي: إنّهم كانوا حول الجمل يحامون عنه، و قد كانت الرءوس تندر عن الكواهل، و الأيدي تطيح من المعاصم، و أقتاب البطون تنزلق من الأجواف، و هم كالجبال الثابتة حول الجمل (1).

لقد أريقت الدماء، و ازهقت الأنفس حول جمل عائشة، و قد تهافت هؤلاء

ص:95


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 84:10.

الأعراب عليه لا يريمون عنه، و يقدّمون نفوسهم بسخاء للحفاظ عليه.

عقر الجمل:

رأى الإمام عليه السّلام أنّ الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجودا فرفع صوته عاليا:

«اعقروا الجمل، فإنّه شيطان، اعقروه و إلاّ فنيت العرب، لا يزال السّيف قائما و راكعا حتّى يهوي هذا البعير إلى الأرض» (1).

فحمل عليه - في رواية - الإمام الحسن عليه السّلام فقطع يده اليمنى، و شدّ عليه الإمام الحسين فقطع يده اليسرى فهوى إلى جنبه و له عجيج منكر لم يسمع مثله، كأنّه عجل بني إسرائيل.

و فرّ حماة الجمل في البيداء لا يلوون على شيء فقد تحطّم صنمهم الذي قدّموا له هذه القرابين، و أمر الإمام عليه السّلام بحرقه و ذري رماده في الهواء لئلاّ تبقى منه بقيّة تكون مصدر فتنة و بلاء، و بعد الفراغ من حرقه قال عليه السّلام:

«لعنه اللّه من دابة، ما أشبهه بعجل بني إسرائيل»، ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح و تلا قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (2).

و بذلك فقد وضعت الحرب أوزارها، و كتب النصر الحاسم للإمام - و باءت القوى المعادية له بالهزيمة و الخسران.

مع عائشة:

و أوفد الإمام الممتحن للقيى عائشة السبطين الحسن و الحسين عليهما السّلام و محمّد بن

ص:96


1- وقعة الجمل: 45.
2- طه: 97.

أبي بكر فانطلقوا إليها، و مدّ أخوها محمّد بيده في هودجها فجفلت منه، و صاحت به:

من أنت ؟ أبغض أهلك إليك..

ابن الخثعميّة ؟ نعم، أخوك البرّ..

عقوق..

هل أصابك مكروه ؟ سهم لم يضرّني..

فانتزعه منها، و أخذ بخطام هودجها، و أدخلها في الهزيع الأخير من الليل إلى دار عبد اللّه بن خلف الخزاعي، و فيه صفيّة بنت الحارث فأقامت فيه أياما.

ضحايا الحرب:

و أشاعت هذه الحرب الظالمة الحزن و الحداد في بيوت البصرة و غيرها، فقد قيل إنّ عدد القتلى أكثر من ثلاثين ألفا، و قيل: أقلّ من ذلك (1) ، ففي ذمّة اللّه ما لاقى إمام المتّقين من الخطوب من الاسر القرشية التي ملئت نفوسها بالحقد و العداء له.

الإمام مع القتلى:

و لمّا انجلت الحرب سار الإمام و معه خيار أصحابه كعمّار بن ياسر، فجعل يطوف على القتلى من أصحاب عائشة، فرأى عبد الرحمن بن عتاب و قد قتل فقال:

ص:97


1- جاء في العقد الفريد 326:4 أنّ عدد القتلى من أصحاب عائشة عشرون ألفا، و عدد القتلى من أصحاب الإمام خمسمائة، و جاء مثل ذلك في أنساب الأشراف 180:1.

هذا يعسوب قريش (1) ،

و مرّ بعبد اللّه بن خلف الخزاعي و عليه ثياب حسّان مشهرة فقال الناس: هذا و اللّه رأس الناس، فقال عليه السّلام:

«ليس برأس النّاس و لكنّه شريف منيع النّفس».

و جعل يستعرض القتلى رجلا رجلا، فرأى أشراف قريش صرعى فقال:

«هذه قريش جدعت أنفي، أما و اللّه! إنّ مصرعكم لبغيض إليّ ، و لقد تقدّمت إليكم احذّركم عضّ السّيوف، و كنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون... و لكنّه الحين و سوء المصرع، نعوذ باللّه من سوء المصرع..».

و اجتاز الإمام على كعب بن سور القاضي، و هو صريع و في عنقه المصحف فأمر بإخراج المصحف من عنقه و وضعه بمكان طاهر و أمر بجلوسه، فاجلس، و خاطبه الإمام فقال:

«يا كعب، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا؟».

و مرّ الإمام بطلحة صريعا فقال: «أجلسوا طلحة»، فاجلس، فقال له:

«يا طلحة بن عبيد اللّه، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا»؟ ثمّ قال: «اضجعوه..».

و انبرى إلى الإمام رجل من القرّاء فقال له:

ما كلامك لهذه الأموات التي لا تسمع ؟ «إنّهم ليسمعون كلامي كما سمع أصحاب القليب كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر، و لو اذن لهم في الجواب لرأيت عجبا».

ص:98


1- مجالس ثعلب: 156.

و مرّ بعبد اللّه بن ربيعة و هو في القتلى فقال:

«هذا البائس ما كان أخرجه ؟ أدين أخرجه أم نصر لعثمان، و اللّه! ما كان رأي عثمان فيه و لا في أبيه بحسن».

و اجتاز على جماعة آخرين صرعى فنعى عليهم مصيرهم الأسود و تأسّف عليهم كأشدّ ما يكون الأسف.

العفو العامّ :

و أصدر الإمام عليه السّلام عفوا عامّا عن جيش عائشة، و سار فيهم سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أهل مكّة فآمن الأسود و الأحمر على حدّ تعبير اليعقوبي (1).

و نادى مناديه بتنفيذ المواد التالية:

1 - لا يجهز على جريح.

2 - لا يطعن مدبر.

3 - لا يستحلّ فرج.

4 - لا يستحلّ مال.

5 - لا يتبع مولّ .

و عفا عن عائشة، و مروان بن الحكم، و موسى بن طلحة، و عمر بن سعيد بن العاص، و هم قادة ذلك الجيش الضالّ و المنحرف عن الحقّ .

الإمام مع عائشة:

و سار الإمام عليه السّلام نحو عائشة، فاستقبلته صفيّة بنت الحارث شرّ لقاء، فقالت

ص:99


1- تاريخ اليعقوبي 256:2.

له: يا قاتل الأحبّة، أيتم اللّه بنيك كما أيتمت بني، و كانوا قد قتلوا في المعركة، فأعرض عنها، و لم يجبها بشيء، و مضى حتى دخل على عائشة، فقالت له: ملكت فأسجح (1).

و أمرها الإمام بمغادرة البصرة، و أن تقرّ في بيتها كما أمرها اللّه و رسوله، و لمّا قفل راجعا استقبلته صفيّة بمثل ما قالت له أوّلا فردّ عليها الإمام قائلا:

«لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من في هذا البيت».

و أشار الإمام إلى بعض البيوت، و قد كمن فيه كثير من الجرحى فسكتت صفيّة و خافت عليهم، و أراد من كان مع الإمام البطش بهم فنهاهم عن ذلك.

لقد منح الإمام العفو العامّ لألدّ أعدائه و خصومه الذين ناجزوه الحرب، و خلعوا يد الطاعة، فلم يقابلهم بأيّ لون من ألوان العنف.

تسريح عائشة:

و عهد الإمام عليه السّلام إلى ابن عبّاس أن يأتي إلى عائشة و يأمرها بالرجوع إلى بيتها في المدينة، فاستأذن عليها فأبت أن تأذن له، فدخل عليها بلا إذن، و مدّ يده إلى و سادة في البيت فجلس عليها فأنكرت ذلك، و قالت له:

أخطأت السّنة مرّتين: دخلت بيتي بغير إذني، و جلست على متاعي بغير أمري..

فردّ عليها ابن عبّاس بمنطقه الفيّاض قائلا:

و اللّه! ما بيتك إلاّ الذي أمرك اللّه أن تقرّي فيه.. إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الذي خرجت منه..

ص:100


1- التمثيل و المحاضرة: 39.

فردّت عليه بعنف و استهانة بالإمام قائلة:

رحم اللّه أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطّاب..

و لم تعترف عائشة بإمامة عثمان، و حصرتها بعمر، فردّ عليها ابن عبّاس:

نعم هذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب..

أبيت، أبيت..

لقد أصرّت على جحدها لإمامة الإمام، و لذع كلامها ابن عبّاس فقال لها:

ما كان آباؤك إلاّ فواق ناقة بكيئة (1) ثمّ حرّمت ما تحلّين، و لا تأمرين و لا تنهين.. فالتاعت من كلامه، و أرسلت ما في عينيها من دموع، و قالت:

نعم، ارجع، فإنّ أبغض البلدان إليّ بلد أنتم فيه..

فثار ابن عبّاس، و ردّ عليها ببالغ الحجّة قائلا:

أما و اللّه! ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين امّا، و جعلنا أباك لهم صدّيقا..

فأجابته بمنطق هزيل قائلة:

أ تمنّ عليّ برسول اللّه ؟ نعم، إنّه يمنّ عليها برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلولاه لم تكن هي و غيرها أيّة قيمة لهم في الوجود، و سارع ابن عبّاس في ردّها قائلا:

نمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منّا لمننت به علينا.

و تركها ابن عبّاس، و هي تتميّز غيظا، و قفل راجعا إلى الإمام فأخبره بحديثه

ص:101


1- الفواق: الناقة التي تحلب ثمّ تترك ليرضعها الفصيل حتى تدرّ فتحلب. البكيئة: الناقة التي قلّ لبنها.

فشكره الإمام و أثنى عليه (1) ، ثمّ إنّ الإمام سرّح عائشة تسريحا جميلا، و أرسل معها كوكبة من النساء بزيّ الرجال فغضبت و راحت تقول: فعل اللّه في ابن أبي طالب و فعل، بعث معي الرجال.. و لم تلتفت إلى نفسها أنّها قادت الجيوش، و دخلت في ميادين الحرب، فإنّ ذلك أمر مسموح لها حسب زعمها، و لمّا قدمت المدينة نزعن النساء العمائم و ألقين السيوف، فاستبان لها خطأ ما اتّهمت به الإمام و راحت تقول:

جزى اللّه ابن أبي طالب الجنّة... (2).

و رحلت عائشة من البصرة، و قد أشاعت في بيوتها الثكل و الحزن و الحداد، و يقول عمير بن الأهلب و هو من أنصارها:

لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا فلم تنصرف إلاّ و نحن رواء

أطعنا بني تيم لشقوة جدّنا و ما تيم إلاّ أعبد و إماء (3)

و على أي حال فقد تركت حرب الجمل في نفس الإمام عليه السّلام أعمق الحزن و أقساه.

آراء الفقهاء في حرب الجمل:

اشارة

و أجمع فقهاء المسلمين على تأثيم القائمين بهذه الحرب، و أنّه لا مبرّر لهم بحال من الأحوال، و نعتوهم بالبغاة، و أنّ الواجب الديني يقضي بمناجزتهم عملا بقوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ (4) ، و قد أعلنوا أنّهم مسئولون أمام اللّه تعالى، و هذه كلماتهم:

ص:102


1- العقد الفريد 103:3-104.
2- الإمامة و السياسة 80:1.
3- مروج الذهب 256:2.
4- الحجرات: 9.

أبو حنيفة:

قال أبو حنيفة: ما قاتل أحد عليّا إلاّ و عليّ أولى بالحقّ منه، و لو لا ما سار عليّ فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين، و لا شكّ أنّ عليّا إنّما قاتل طلحة و الزبير بعد أن بايعاه و خالفاه، و في يوم الجمل سار عليّ فيهم بالعدل، و هو أعلم المسلمين، و كانت السنّة في قتال أهل البغي (1).

ابن حجر:

قال ابن حجر: إنّ أهل الجمل و صفّين رموا عليّا بالمواطاة مع قتلة عثمان، و هو بريء من ذلك، و حاشاه، و أضاف يقول: و يجب على الإمام قتال البغاة لإجماع الصحابة عليه، و لا يقاتلهم حتى يبعث إليهم عدلا فطنا ناصحا يسألهم عمّا نقموا على الإمام تأسّيا بعليّ في بعثه ابن عبّاس إلى الخوارج بالنهروان (2).

إمام الحرمين:

قال الجويني إمام الحرمين: كان عليّ بن أبي طالب إمام حقّ في توليته، و مقاتلوه بغاة (3).

إنّ الشريعة الإسلامية تلزم بمناجزة الخارجين على السلطة الشرعية و تأثيمهم لأنّ في خروجهم تصديعا لوحدة المسلمين، و تدميرا لاخوّتهم.

إنّ العدوان المسلّح الذي قامت به العصابات القرشية على حكومة الإمام عليه السّلام إنّما هو حرب على القيم و المبادئ التي تبنّاها الإمام رائد العدالة الاجتماعية في الأرض.

ص:103


1- مناقب أبي حنيفة - الخوارزمي 82:2-83.
2- تحفة المحتاج - النووي 110:4.
3- الإرشاد في اصول الاعتقاد: 433.

إنّ تلك القوى التي ثارت على الإمام عليه السّلام كانت مدفوعة وراء مصالحها، و حبّها للملك و السلطان. يقول البلاذري: حينما فتح الزبير البصرة و استولى على بيت المال و رأى كثرته تلا قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها (1) ، و هذا ما وعدنا اللّه، و لمّا قضى الإمام عليه السّلام على تمرّدهم و دخل بيت المال قال عليه السّلام:

«يا دنيا غرّي غيري...» (2).

و علي أي حال فإنّ القوم إنّما هبّوا لمناجزة الإمام عليه السّلام من أجل المطامع الرخيصة فخاضوا الباطل و سفكوا دماء المسلمين بغير حقّ ، و هم مسئولون و محاسبون أمام اللّه تعالى عليها.

متارك حرب الجمل:

و أعقبت حرب الجمل أفدح الخسائر في المجتمع الإسلامي و أفظع الكوارث، و قد ابتلي بها المسلمون و امتحن الإمام كأشدّ ما يكون الامتحان، و فيما يلي بعض تلك المتارك:

1 - أنّها مهّدت السبيل لتمرّد معاوية، و مكّنته من مناجزة الإمام، و لولاها لما وجد معاوية إلى ذلك سبيلا.

إنّ معركة الجمل قد تبنّت المطالبة بدم عثمان، و أظهرت أنّه مظلوم، و أنّهم يطالبون بدمه مع أنّهم لا صلة نسبية لهم به.

أمّا معاوية فهو ابن عمّه، و اتّخذ دمه ورقة رابحة لعصيانه على حكومة الإمام.

2 - أنّها أشاعت الفرقة و الخلاف بين المسلمين، و دمّرت ما كان بينهم من روح الألفة و المودّة، فقد اختلفوا بعد نهاية الحرب كأشدّ ما يكون الاختلاف، فقبائل

ص:104


1- الفتح: 20.
2- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 461:1.

ربيعة و اليمن القاطنون في البصرة أصبحوا يحملون الحقد و العداء لاخوانهم من ربيعة و اليمن القاطنين في الكوفة، و كلّ من الفريقين يطالب الفريق الآخر بالدماء التي سفكت في البصرة، بل أصبحت ظاهرة العداء شائعة حتى في البيت الواحد من المصرين فبعض أبنائه شيعة لعليّ و البعض الآخر شيعة لعائشة، و أخذ النزاع و الخلاف يحتدم فيما بينهم.

3 - أنّ هذه الحرب أسقطت هيبة الحكم و جرّأت الخروج عليه، و قد نجم من ذلك تشكيل الأحزاب النفعية كحزب ابن الزبير و حزب الأمويّين و حزب الخوارج، و ليس لتلك الأحزاب من هدف إلاّ الاستيلاء على السلطة، و الظفر بخيرات البلاد.

4 - أنّها فتحت باب الحرب بين المسلمين، و كانوا قبل ذلك يتحرّجون كأشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء بعضهم بعضا.

5 - أنّها قد عملت على تأخير الإسلام و شلّ حركته، و إيقاف نموّه، فقد انصرف الإمام بعد حرب الجمل إلى مقاومة التمرّد الذي أعلنه معاوية، يقول الفيلسوف ولز: إنّ الإسلام كاد أن يفتح العالم أجمع لو بقي سائرا سيرته الاولى و لو لم تنشب في وسطه من أوّل الأمر الحرب الداخلية. فقد كان همّ عائشة أن تقهر عليّا قبل كلّ شيء (1).

6 - إنّ هذه الحرب استباحت حرمة العترة الطاهرة التي قرنها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحكم التنزيل، و جعلها سفن النجاة و أمن العباد، فقد فتحت عائشة باب الحرب عليها، و من المؤكّد أنّها لو نجحت في حربها لنفّذت حكم الإعدام في الإمام و أبنائه.

هذه بعض متارك حرب الجمل التي أخلدت للمسلمين الفتن و ألقتهم في شرّ عظيم (2).

ص:105


1- شيخ المضيرة: 173.
2- حياة الإمام الحسين عليه السّلام 50:2-51.

ص:106

تمرّد معاوية

اشارة

ص:107

ص:108

و لم يسترح الإمام وقتا قصيرا من حرب الجمل حتى رأى خطرا رهيبا محدقا بالدولة من ابن أبي سفيان الذي لم يع الإسلام، و لم يؤمن بقيمه و أهدافه، و هو أمكر سياسي في تاريخ العرب على الإطلاق، فقد استطاع بقابليّاته الدبلوماسية أن يغزو قلب الخليفة الثاني، و يسيطر على مشاعره و عواطفه، فلم يفتح معه سجلّ المحاسبة الذي فتحه أمام ولاته و عمّاله، كما لم يحاسبه على تصرّفاته الشاذّة المجافية لروح الإسلام و تعاليمه من استعماله أواني الذهب و الفضّة و لبسه الحرير و غير ذلك ممّا هو محرّم في الإسلام، و قد اتّهم بشرب الخمر، فكان الخليفة يبالغ في تسديده و الاعتذار عنه، و يقول عنه: ذاك كسرى العرب، و هو اعتذار مهلهل حسب ما يقول المحقّقون.

و على أيّ حال فقد حظي معاوية بالتأييد الشامل من قبل عمر، فكان أقوى وال في الأقاليم الإسلامية، و ظلّ يعمل في الشام عمل من يريد الملك و السلطان، فسخّر اقتصاد بلاده في تدعيم ملكه و سلطانه، فاشترى الضمائر، و وهب الثراء العريض لرؤساء القبائل و للوجوه و الأعيان، كما نشر الجهل و الأمّية في أوساط الشام، فلم يعد فيه أي وعي سياسي مناهض لحكومته، و يحاسبه على تصرّفاته، كما أمدّ وسائل الإعلام بالكذب و النفاق تدعيما لسياسته... و قد أحاط نفسه بجهاز دبلوماسي رهيب يسيطر على الأحداث مهما تلبّدت.

و مهما يكن الأمر فإنّ معاوية كان بصيرا بالمخطّطات السياسية التي انتهجها عميد اسرته عثمان بن عفّان، و أنّها - حتما - تؤدّي إلى قتله، و انهيار حكومته،

ص:109

و قد علم بإحاطة القوى المعارضة به، و هي تهتف بسقوط حكمه، أو قتله، فلم يهب إلى نصرته حينما استجار به و تركه وحده بأيدي الثوّار حتّى أجهزوا عليه، و قد اتّخذ من دمه و قميصه ورقة رابحة لنيل الملك و السلطان.. و قد فتحت له عائشة الباب على مصراعيه و مهّدت له الطريق في حربها للإمام، فقد اتّخذت دم عثمان شعارا لها في مناهضة حكومة الإمام، و معاوية اقرب إلى عثمان من عائشة، فهو أحقّ بالمطالبة بدمه و الأخذ بثأره و راح يبني ملكه و يقيم دولته على المطالبة بدم عثمان، و اتّهام الإمام بأنّ له ضلعا في إراقة دمه، و إيواء قتلته.. و مضافا لذلك، فقد كان معاوية على علم لا يخامره شكّ أنّ الإمام لا يبقيه في منصبه لحظة واحدة، و أنّه لا يتّخذ المضلّين عضدا، و لا بدّ أن يصادر جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين.

و على أي حال فسوف نتحدّث عن بعض سياسته الماكرة و التي منها:

خداعه للوجوه:

اشارة

و جهد معاوية على خداع الوجوه و الأعيان و إفسادهم، و قد منّى بعضهم بالخلافة و البيعة له، كما منّى آخرين بالوظائف المهمّة و الثراء العريض، و فيما يلي بعضهم:

1 - الزبير و طلحة:

من أضاليل معاوية و مكره أنّه كتب إلى الزبير قبل حرب الجمل يمنّيه بالخلافة، و من بعده تكون إلى طلحة، فطار الزبير فرحا، و كذلك طلحة، و أعلنا التمرّد و العصيان على حكومة الإمام، و قد عرضنا لذلك في البحوث السابقة.

2 - عبد اللّه بن عمر:

و عرف معاوية امتناع عبد اللّه بن عمر عن بيعة الإمام و اعتزاله عنها، فراح

ص:110

يخطب ودّه، و يمنّيه بالإمارة، و يطلب منه الانضمام إليه، و كتب إليه هذه الرسالة:

أمّا بعد.. فإنّه لم يكن أحد من قريش أحبّ إليّ من أن يجتمع الناس عليه منك بعد عثمان، فذكرت خذلك إيّاه، و طعنك على أنصاره، فتغيّرت لك، و قد هوّن عليّ ذلك خلافك على عليّ ، و طعنك عليه، و ردّني إليك بعض ما كان منك، فأعنّا يرحمك اللّه على حقّ هذا الخليفة المظلوم، فإنّي لست اريد الإمارة عليك، و لكنّي اريدها لك، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين..

و حكت هذه الرسالة خداع معاوية لابن عمر، فقد منّاه بالخلافة، و الحكم على المسلمين، و علّق عبد الكريم الخطيب على هذه الرسالة بقوله: «و الكتاب جدير بأن يكون من معاوية، فما أحد يحسن هذا النمط من الحديث إلى الناس مثل معاوية يلقى كلّ إنسان بما يناسبه، و يجيء إليه من حيث يجد الطريق إلى قلبه و عقله جميعا.

و أضاف يقول:

بل هو ذا يعود إلى ابن عمر راضيا غاية الرضا حين يذكر له خلافه على عليّ و طعنه عليه، و تلك من ابن عمر تثلج صدر معاوية و تعطفه عليه.

و ختم الخطيب قوله: سياسة و دهاء، و بصر نافذ لا يكون إلاّ من معاوية... (1).

و رفض ابن عمر طلب معاوية و أجابه عن رسالته بهذه الرسالة:

أمّا بعد: فإنّ الرأي الذي أطمعك فيّ هذا هو الذي صيّرك إلى ما صيّرك، تركت عليّا في المهاجرين و الأنصار، و اتّبعتك فيمن اتّبعك.

و أمّا قولك: إنّي طعنت على عليّ فلعمري ما أنا كعليّ في الإسلام و الهجرة و مكانه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لكن حدث أمر لم يكن إلينا فيه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد،

ص:111


1- علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة و خاتم الخلافة: 402.

ففزعت إلى الوقوف، و قلت: إن كان هذا فضلا تركته، و إن كان ضلالة فشرّ منه نجوت، فاغن عنّي نفسك... (1).

و حفلت هذه الرسالة ببعض المغالطات السياسية، و هو تركه لمبايعة الإمام عليه السّلام لأنّه لم يكن فيها عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أ صحيح منه ذلك ؟ فهل خفيت عليه النصوص الواردة من النبيّ في حقّ عليّ ؟ و أنّه منه بمنزلة هارون من موسى ؟ و أنّه وليّ كلّ مؤمن و مؤمنة من بعده ؟ و أنّه مع الحقّ ، و الحقّ معه ؟ و هل خفيت البيعة العامّة للإمام يوم غدير خم ؟ و هل كانت ولاية أبي بكر بنصّ من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟ و لكنّ اللّه تعالى هو الذي يحكم بين عباده في حشرهم و نشرهم، و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

و على أي حال فقد قنع معاوية برسالة ابن عمر و عرف أنّه لا يناصر الإمام و لا يكون من حزبه، و ذلك ربح و نصر له.

3 - سعد بن أبي وقّاص:

و سعد بن أبي وقّاص هو ممّن تخلّف عن بيعة الإمام، فكتب إليه معاوية يمنّيه و يغريه ليجلبه إليه، و كتب إليه هذه الرسالة:

أمّا بعد.. فإنّ أحقّ الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش، الذين أثبتوا حقّه، و اختاروه على غيره.

و قد نصره طلحة و الزبير، و هما شريكاك في الأمر و الشورى، و نظيراك في الإسلام.. و خفّت لذلك - أي للطلب بدم عثمان - أمّ المؤمنين، فلا تكرهن ما رضوا، و لا تردّنّ ما قبلوا، فإنّما نردّها شورى بين المسلمين... 2.

و في هذا الكتاب الدعوة إلى الأخذ بثار عثمان الذي هبّ إلى المطالبة بدمه

ص:112


1- الإمامة و السياسة 103:1.

كلّ من طلحة و الزبير و عائشة، و لم يخف على سعد زيف ذلك، فأجابه بهذه الرسالة:

أمّا بعد.. فإنّ أهل الشورى ليس أحد منهم أحقّ بها - أي بالخلافة - من صاحبه، غير أنّ عليّا كان من السابقة، و لم يكن فينا ما فيه، فشاركنا في محاسننا و لم نشاركه في محاسنه، و كان أحقّنا كلّنا بالخلافة، و لكن مقادير اللّه تعالى التي صرفتها عنه، حيث شاء لعلمه و قدره، و قد علمنا أنّه أحقّ بها منّا، و لكن لم يكن بدّ من الكلام في ذلك.. و أمّا التشاجر فدع ذا، و أمّا أمرك يا معاوية، فإنّه أمر كرهنا أوّله و آخره...

و أمّا طلحة و الزبير، فلو لزما بيعتهما لكان خيرا لهما، و اللّه تعالى يغفر لعائشة أمّ المؤمنين (1).

و حكت هذه الرسالة اعتراف سعد بأنّ الإمام عليه السّلام أحقّ بالخلافة و أولى بها من غيره، و لكنّ المقادير قد حالت بينه و بينها... إنّ الذي حال بين الإمام و الخلافة هي الضغائن و الأحقاد القرشية التي تمثّلت في مؤتمر السقيفة و الشورى، و هتاف بعض الصحابة أنّه لا تجتمع النبوّة و الخلافة في بيت واحد... و مع اعتراف سعد بأنّ الإمام أولى بالخلافة فلم لم يبايعه في الشورى، و في هذه البيعة التي أجمع عليها المسلمون.

4 - عمرو بن العاص:

رأى معاوية أنّه لا يستطيع الوقوف أمام الإمام عليه السّلام إلاّ إذا انضمّ إلى جهازه داهية العرب عمرو بن العاص، فراسله و منّاه طالبا منه الحضور إلى دمشق، فلمّا انتهت إليه رسالة معاوية استشار ولديه عبد اللّه و محمّدا، أمّا عبد اللّه فأشار عليه أن

ص:113


1- الإمامة و السياسة 104:1.

يعتزل الناس و يقيم في بيته و لا يجيب معاوية إلى شيء حتى تجتمع الكلمة، و يدخل فيما دخل فيه المسلمون، و أمّا ابنه محمّد فقط طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش من الثراء و ذيوع الاسم، فأشار عليه بالالتحاق بمعاوية لينال من دنياه.

و التفت ابن العاص إلى ولده عبد اللّه فقال له: أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني، ثمّ قال لولده محمّد أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي.

و أنفق ابن العاص ليله ساهرا يفكّر في الأمر، هل يلتحق بالإمام فيكون رجلا كسائر المسلمين له ما لهم، و عليه ما عليهم من دون أن ينال من الدنيا شيئا، و لكنّه يضمن بذلك آخرته، أو يكون مع معاوية فيظفر بدنيا رخيّة و ثراء عريض، و كان - فيما يقول المؤرّخون - يحنّ حنينا متّصلة إلى ولاية مصر فإذا صار في سلك معاوية نال ولايتها و قد اثر عنه في تلك الليلة من الكلام ما يدلّ على مدى الصراع النفسي الذي خامره.

و لم يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة فصمّم على الالتحاق بمعاوية، فارتحل إلى دمشق و معه ابناه، فلمّا بلغها جعل يبكي أمرّ البكاء أمام أهل الشام، و قد رفع صوته عاليا.

وا عثماناه! أنعى الحياء و الدين...

فعل ذلك لينقل إلى معاوية... لقد امتحن المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان بابن العاص و أمثاله من أبناء الأسر القرشية العاتية التي بقيت على جاهليّتها الاولى، و لم ينفذ الإسلام إلى دخائل نفوسهم و أعماق قلوبهم.

ابن العاص يبكي على عثمان، و هو الذي أوغر عليه الصدور و أثار عليه الأحقاد، و هو ممّن أطاح بحكومته، و أجهز عليه، فكان - فيما يقول المؤرّخون - يلقى كلّ أحد حتى الراعي فيحرّضه على سفك دم عثمان، و هو الآن ينعاه و يبكي عليه... لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر و ما قبله مبلغا مؤسفا و أليما

ص:114

أنسى معظم الوجوه و الأعيان ذكر اللّه تعالى، فاقترفوا كلّ إثم و حرام.

و التقى ابن العاص بمثله و شريكه معاوية بن هند، ففتح معه الحديث طالبا منه الانضمام إلى جهازه حتى يستعين به على حرب وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، و عرض ابن العاص رأيه بصراحة قائلا:

يا معاوية، أمّا عليّ فو اللّه! لا تساوي العرب بينك و بينه في شيء من الأشياء، و إنّ له في الحرب لحظّا، ما هو لأحد من قريش إلاّ أنّ تظلمه، و سارع معاوية قائلا:

صدقت، و لكنّا نقاتله على ما في أيدينا و نلزمه قتله عثمان...

إنّ مناجزة معاوية للإمام من أجل الحفاظ على ما عنده من الأموال الحرام التي نهبها من بيت مال المسلمين... و سخر ابن العاص من اتّخاذ دم عثمان وسيلة لاتّهام الإمام قائلا:

وا سوءتاه! إنّ أحقّ الناس أن لا يذكر عثمان أنت...

و لم ويحك ؟ و صارحه ابن العاص بالواقع قائلا:

أمّا أنت فخذلته و معك أهل الشام، حتى استغاث بيزيد بن أسد البجليّ فسار إليه، و أمّا أنا فتركته عيانا و هربت إلى فلسطين (1).

و أيقن معاوية أنّ ابن العاص لا يستجيب له حتّى يجعل له أجرا كبيرا فقال له:

أ تحبّني يا عمرو؟ و سخر منه ابن العاص فقال له:

و لما ذا احبّك ؟ للآخرة ؟ فو اللّه! ما معك آخرة، أم للدنيا؟ فو اللّه! لا كان حتّى

ص:115


1- تاريخ اليعقوبي 162:2.

أكون شريكك فيها..

و استجاب معاوية له فبادر قائلا:

أنت شريكي فيها..

اكتب لي مصرا و كورها..

لك ما تريد..

إنّها مساومة مفضوحة على الملك، و لم يكن لدم ابن عفّان نصيب، و سجّل معاوية لابن العاص ولاية مصر و جعلها ثمنا لانضمامه إليه على محاربة الإمام عليه السّلام الذي هو أفضل إنسان خلقه اللّه بعد نبيّه و كتب ابن العاص في أسفل الكتاب، و لا تنقص طاعته شرطا.

5 - كتابه لأهل المدينة:

رفع معاوية بمشورة ابن العاص رسالة إلى أهل المدينة يدعوهم فيها إلى خذلان الإمام عليه السّلام، و التمرّد على حكومته، جاء فيها:

أمّا بعد.. فإنّه مهما غاب عنّا، فإنّه لم يغب عنّا أنّ عليّا قتل عثمان، و الدليل على ذلك أنّ قتلته عنده، و إنّا نطلب بدمه حتى يدفع إلينا قتلته، فنقتلهم، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه، و جعلناها شورى بين المسلمين، على ما جعلها عليه عمر بن الخطّاب... فأمّا الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا يرحمكم اللّه، و انهضوا يرحمكم اللّه... (1).

و حفلت هذه الرسالة بالمغالطات و الأكاذيب، فقد اتّهم معاوية الإمام بقتل عثمان، مع علمه إنّ الإمام بريء منه، و إنّما أجهزت عليه سياسته التي عرضنا لها

ص:116


1- نسب هذا الكتاب إلى المسور بن مخرمة كما في الإمامة و السياسة 119:1.

في البحوث السابقة، و أمّا تسليم الإمام قتلة عثمان فإنّ معاوية يعلم باستحالته لأنّ الذي قتله هي القوّات المسلّحة من المصريّين و العراقين، و في طليعتهم خيار الصحابة كعمّار بن ياسر، و عمرو بن حمق الخزاعي، و محمّد بن أبي بكر فكيف يسلمهم الإمام إلى معاوية ؟ بالإضافة إلى أنّهم قتلوه بحجّة شرعية حسب ما يرون، و الحدود تدرأ بالشبهات.

و من مغالطات هذه الرسالة أنّ معاوية جرّد نفسه من الطمع بالخلافة، و أنّه لا شأن له بها و هو إنّما ثار على الإمام من أجل الملك و السلطان.

و على أي حال فلم يخف على أهل المدينة زيف رسالته، و أجابوه جوابا عنيفا جاء فيه:

أمّا بعد.. فإنّك أخطأت خطأ عظيما، و أخطأت مواضع النصرة و تناولتها من مكان بعيد.. و ما أنت و الخلافة و أنت طليق و أبوك من الأحزاب ؟ فكفّ عنّا، فليس لك قبلنا وليّ و لا نصير (1).

هذه بعض الرسائل التي بعثها معاوية للوجوه و الأعيان لخداعهم و تضليلهم، و قد استجاب له بعضهم فالتحقوا به في حرب صفّين كما أخذ بعض المنافقين يثبّط العزائم من الالتحاق بجيش الإمام.

تضليل أهل الشام:

و عمد معاوية إلى تضليل الرأي العامّ في الشام، فأشاع فيهم أنّ الإمام هو الذي سفك دم عثمان، و هو المسئول عن دمه، و هذه صور من تضليله:

1 - أرسل معاوية إلى الزعيم الكبير قيس بن سعد رسالة يستميله فيها، و يمنّيه

ص:117


1- الإمامة و السياسة 118:1.

بسلطان العراقين، و بسلطان الحجاز لمن أحبّ من أهل بيته، فردّ عليه قيس بأعنف الردّ، فلمّا قرأه أظهر لأهل الشام أنّ قيسا قد بايع، و أمرهم بالدعاء له، و افتعل كتابا نسبه إليه، و أوعز بقراءته عليهم و هذا نصّه:

أمّا بعد.. فإنّ قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما، و قد نظرت لنفسي و ديني، فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برّا تقيّا فنستغفر اللّه لذنوبنا، ألا و إنّي ألقيت لكم بالسّلم، و أحبّ قتال قتلة إمام الهدى المظلوم، فاطلب منّي ما أحببت من الأموال و الرجال اعجّله إليك (1).

و لم يشكّ أهل الشام في صدق هذه الرسالة فاندفعوا بشوق إلى مناصرته، و الطلب بدم عثمان.

2 - أنّ الإمام عليه السّلام لمّا أوفد جريرا البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، أمر معاوية بحضور شرحبيل الكندي، و هو من أبرز الشخصيات في الشام، و عهد معاوية إلى عصابة من أعوانه أن ينفرد كلّ واحد منهم بشرحبيل و يلقي في روعه أنّ عليّا هو الذي قتل عثمان بن عفّان، و التقى شرحبيل بمعاوية، فأخبره بوفادة البجلي عليه من قبل الإمام، و أنّه يدعوه إلى بيعته، و أنّه لم يستجب له حتّى يأخذ رأيه في ذلك لأنّ الإمام هو الذي قتل عثمان، و طلب شرحبيل منه أن يمهله حتّى يستبين له الأمر، فلمّا خرج منه التقى به القوم على انفراد، و أخبره كلّ واحد منهم بأنّ عليّا هو الذي قتل عثمان، فلم يشكّ في صدقهم و قفل راجعا إلى معاوية و هو يلهث قائلا:

يا معاوية، أين الناس ؟ ألاّ إنّ عليّا قتل عثمان، و اللّه! إن بايعت لنخرجنّك من شامنا أو لنقتلنّك...

فقال معاوية مخادعا له:

ص:118


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 129:1.

ما كنت لأخالف عليكم، ما أنا إلاّ رجل من أهل الشام (1).

بمثل هذه الأكاذيب أقام معاوية دولته التي جهدت في إطفاء نور اللّه تعالى، و ألقت الناس في شرّ عظيم.

الرسائل المتبادلة بين الإمام و معاوية:

اشارة

و قبل إعلان الحرب بعث الإمام الممتحن جمهرة من الرسائل إلى معاوية يدعوه فيها إلى بيعته، و الدخول فيما دخل فيه المسلمون في طاعته و أن لا يفرّق كلمة المسلمين، و يشتّت شملهم، فأجابه معاوية مراوغا و منافقا، و مطالبا بدم عثمان و الاقتصاص من قتلته... و نعرض لبعض تلك الرسائل:

رسالة للإمام:

روى ابن أبي الحديد أنّ الإمام عليه السّلام لمّا بويع كتب إلى معاوية:

«أمّا بعد.. فإنّ النّاس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّي، و بايعوني عن مشورة منهم و اجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، و أوفد إليّ أشراف أهل الشّام قبلك...».

حكت هذه الرسالة براءة الإمام من دم عثمان و أضافته إلى الناس، و أنّهم اجتمعوا على مبايعته، و الواجب أن يدخل فيما أجمع عليه المسلمون من مبايعتهم للإمام.

جواب معاوية:

و لمّا انتهت رسالة الإمام إلى معاوية و قرأها دعا بطومار و كتب فيه:

ص:119


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 77:1.

من معاوية إلى عليّ ، أمّا بعد.. فإنّه

ليس بيني و بين قيس عتابغير طعن الكلى و ضرب الرّقاب (1)

و معنى هذا الجواب أنّ معاوية مصمّم على حرب الإمام و مناهضته لحكمه، و لم يعرض في هذه الرسالة إلى اتّهام الإمام بقتل عثمان.

رسالة الإمام:

روى ابن قتيبة أنّ الإمام عليه السّلام لمّا فرغ من وقعة الجمل و استقام له الأمر كتب إلى معاوية هذه الرسالة:

«أمّا بعد.. فإنّ القضاء السّابق، و القدر النّافذ ينزل من السّماء كقطر المطر، فتمضي أحكامه عزّ و جلّ ، و تنفذ مشيئته بغير تحابّ المخلوقين، و لا رضا الآدميّين، و قد بلغك ما كان من قتل عثمان، و بيعة النّاس عامّة إيّاي و مصارع النّاكثين لي، فادخل فيما دخل النّاس فيه، و إلاّ فأنا الّذي عرفت، و حولي من تعلمه، و السّلام» (2).

حكت هذه الرسالة:

1 - أنّ مجريات الأحداث كلّها بيد الخالق العظيم، و ليس للمخلوقين فيها أي شأن.

2 - مبايعة عموم المسلمين للإمام بعد مقتل عثمان، و مناهضة الناكثين له و هم الزبير و طلحة و عائشة، و قضاءه عليهم.

3 - دعوة الإمام لمعاوية بالبيعة له و الدخول في طاعته، و إذا لم يستجب له

ص:120


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 77:1.
2- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 89:4.

فقد هدّده بالحرب و القتال.

جواب معاوية:

و أجاب معاوية عن هذه الرسالة برسالة كتب فيها البسملة و لم يسجّل فيها أي شيء، و لمّا قرأها الإمام عرف أنّ معاوية مصمّم على حربه.

رسالة الإمام:

أرسل الإمام عليه السّلام هذه الرسالة إلى معاوية بيد جرير بن عبد اللّه البجلي، جاء فيها بعد السلام:

«أمّا بعد.. فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشّام؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشّاهد أن يختار، و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشّورى للمهاجرين و الأنصار، إذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك للّه رضا، و إن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين و ولاّه اللّه ما تولّى، و يصليه جهنّم و ساءت مصيرا.

و إنّ طلحة و الزّبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي، فكان نقضهما كردّتهما، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ ، و ظهر أمر اللّه و هم كارهون.

فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية، إلاّ أن تتعرّض للبلاء، فإن تعرّضت له قاتلتك و استعنت باللّه عليك، و قد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه النّاس، ثمّ حاكم القوم إليّ - يعني الذين قتلوا عثمان - أحملك و إيّاهم على

ص:121

كتاب اللّه، فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصّبيّ عن اللّبن.

و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان، و قد أرسلت إليك جرير بن عبد اللّه البجليّ ، و هو من أهل الإيمان و الهجرة، فبايع و لا قوّة إلاّ باللّه (1).

و في هذه الرسالة دعوة الإمام عليه السّلام إلى معاوية بمبايعته و لزوم طاعته، و لا سبيل لنقضها فقد بايعه المهاجرون و الأنصار الذين بايعوا قبله من الخلفاء.

و عرض الإمام إلى نقض طلحة و الزبير لبيعته، و أنّ ذلك كردّتهما عن طريق الحقّ ، فجاهدهما الإمام حتى ظهر أمر اللّه و هم له كارهون...

و أعرب الإمام في رسالته إلى معاوية أنّه إن لم يستجب لبيعته فسوف يقاتله حتّى يفيء لأمر اللّه تعالى، و أنّه لا يستحقّ الخلافة لأنّه من الطلقاء الذين لا نصيب لهم بالحكم كما لا نصيب لهم لأن يكونوا من أعضاء الشورى.

و على أي حال فإنّ معاوية أخذ يماهل جريرا حتّى سئم منه، و قال له:

يا معاوية، إنّ المنافق لا يصلّي حتّى لا يجد من الصلاة بدّا، و لا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بدّا، فردّ عليه معاوية: إنّها ليست ب «خدعة الصبيّ عن اللبن»! إنّه أمر له ما بعده.. و في يوم رفع معاوية عقيرته ليسمع جريرا و هو ينشد هذه الأبيات:

تطاول ليلي و اعترتني وساوسي لات أتى بالتّرّهات البسابس

أتاني جرير و الحوادث جمّة بتلك الّتي فيها اجتداع المعاطس

اكايده و السّيف بيني و بينه و لست لأثواب الدّنيء بلابس

فإنّ الشّام أعطت طاعة بمنيّة تواصفها أشياخها في المجالس

ص:122


1- العقد الفريد 233:2. الإمامة و السياسة 71:1. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 300:3.

فإن يفعلوا أصدم عليّا بجبهة تغتّ عليه كلّ رطب و يابس

و إنّي لأرجو خير ما نال نائل و ما أنا من ملك العراق بآيس (1)

و حكى هذا الشعر تصميمه على حرب الإمام لأنّ الشام انقادت له و أطاعته إطاعة عمياء، و إنّه ليطمع في حكم العراق و الاستيلاء عليه.

جواب معاوية:

و أجاب معاوية على رسالة الإمام عليه السّلام بهذا الكتاب:

من معاوية بن صخر إلى عليّ بن أبي طالب، أمّا بعد.. فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك، و أنت بريء من دم عثمان، لكنت كأبي بكر و عمر و عثمان رضي اللّه عنهم أجمعين، و لكنّك أغريت بدم عثمان المهاجرين، و خذّلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، و قوي بك الضعيف، و قد أبى أهل الشام إلاّ قتالك حتّى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، و إنّما كان الحجازيون هم الحكّام على الناس و الحقّ فيهم، فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام.

و لعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة و الزبير لأنّهما بايعاك و لم ابايعك، و ما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة لأنّ أهل البصرة أطاعوك، و لم يطعك أهل الشام، فأمّا شرفك في الإسلام و قرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و موضعك من قريش فلست أدفعه.. ثمّ ختم رسالته بأبيات لكعب بن جعيل:

أرى الشام تكره ملك العراق و أهل العراق لهم كارهينا

و كلاّ لصاحبه مبغض يرى كلّ ما كان من ذاك دينا

ص:123


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 78:3. ربيع الأبرار 243:4.

إذا ما رمونا رميناهم و دنّاهم مثل ما يقرضونا

فقالوا: عليّ إمام لنا فقلنا: رضينا ابن هند رضينا

و قالوا: نرى أن تدينوا له فقلنا: ألا لا نرى أن ندينا

و من دون ذلك خرط القتاد و ضرب و طعن يفضّ الشّئونا (1)

و كلّ يسرّ بما عنده يرى غثّ ما في يديه سمينا

و ما في عليّ لمستعتب مقال سوى ضمّه المحدثينا (2)

و إيثاره اليوم أهل الذنوب و رفع القصاص عن القاتلينا

إذا سيل عنه حذا شبهة و عمّى الجواب على السّائلينا

فليس براض و لا ساخط و لا في النّهاة و لا الآمرينا

و لا هو ساء و لا سرّه و لا بدّ من بعض ذا أن يكونا (3)

و ليس في هذه الوثيقة إلاّ المغالطات السياسية و التمرّد على الحقّ و الإصرار على الباطل، و هي من سمات معاوية و من عناصره و ذاتياته.

ردّ الإمام على معاوية:

و لمّا وردت تلك الرسالة على الإمام عليه السّلام قرأها فرأى الباطل ماثلا في كلّ كلمة منها، فأجابه بهذه الرسالة:

«من عليّ بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر..

أمّا بعد.. فقد أتانا كتابك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه،

ص:124


1- الشؤن: هي الشعب التي تجمع القبائل.
2- المحدثون: هم الجناة.
3- الكامل - المبرد 155:1. العقد الفريد 233:2. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 202:1. الإمامة و السياسة 77:1.

و لا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه و قاده فاتّبعه، زعمت أنّك إنّما أفسد عليك بيعتي خفوري (1) لعثمان، و لعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، و أصدرت كما أصدروا، و ما كان اللّه ليجمعهم على ضلالة، و لا ليضربهم بالعمى، و ما أمرت - أي بقتل عثمان - فلزمتني خطيئة الأمر، و لا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل.

و أمّا قولك: إنّ أهل الشّام هم حكّام أهل الحجاز، فهات رجلا من قريش الشّام يقبل في الشّورى، أو تحلّ له الخلافة، فإن سمّيت كذّبك المهاجرون و الأنصار، و نحن نأتيك به من قريش الحجاز.

و أمّا قولك: ادفع إليّ قتلة عثمان، فما أنت و ذاك ؟ و هاهنا بنو عثمان، و هم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة الّتي لزمتك، و حاكم القوم إليّ .

و أمّا تمييزك بين أهل الشّام و البصرة، و بينك و بين طلحة و الزّبير، فلعمري فما الأمر هناك إلاّ واحد، لأنّها بيعة عامّة لا يتأتّى فيها النّظر، و لا يستأنف فيها الخيار.

و أمّا قرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قدمي في الإسلام فلو استطعت دفعه لدفعته...» (2).

و حفل هذا الكتاب بالردّ على أباطيل معاوية و زيف أضاليله التي ذكرها

ص:125


1- الخفر: نقض العهد و الغدر.
2- الكامل - المبرد 155:1. العقد الفريد 233:2. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 202:1. الإمامة و السياسة 77:1.

في رسالته، و أنّها لا تحمل أي طابع من الصدق، و أنّها جاءت تمثّل أمويّته و ما تحمله من خبث و سوء.

رسالة من معاوية للإمام:

و رفع معاوية رسالة للإمام عليه السّلام جاء فيها بعد البسملة:

سلام اللّه على من اتّبع الهدى، أمّا بعد.. فإنّا كنّا و إيّاكم يدا جامعة، و الفة أليفة، حتى طمعت بابن أبي طالب فتغيّرت، و أصبحت تعدّ نفسك قويا على من عاداك، بطغام (1) أهل الحجاز، و أوباش أهل العراق، و حمقى الفسطاط ، و غوغاء السّواد، و أيم اللّه لينجلينّ عنك حمقاها، و لينقشعنّ عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء.

قتلت عثمان بن عفّان، و رقيت سلّما أطلعك اللّه عليه مطلع سوء عليك لا لك، و قتلت الزبير و طلحة، و شرّدت امّك عائشة، و نزلت بين المصرين فمنّيت و تمنّيت، و خيّل لك أنّ الدنيا قد سخّرت لك بخيلها و رجلها (2) و إنّما تعرف امنيّتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام بقيّة الإسلام فيحيطون بك من ورائك، ثمّ يقضي اللّه علمه فيك، و السلام على أولياء اللّه» (3).

حكت هذه الرسالة الأكاذيب و الدجل و النفاق بجميع ما له من معنى و ليس عند ابن هند من أرصدة سوى ذلك، و لنستمع إلى ردّ الإمام عليه السّلام على هذه الرسالة:

ردّ الإمام:

و ردّ الإمام عليه السّلام على رسالة معاوية بهذا الكتاب جاء فيه بعد البسملة:

ص:126


1- الطغام: أوغاد الناس.
2- الراجل: ضد الفارس.
3- الإمامة و السياسة 65:1.

«أمّا بعد.. فقدّر الامور تقدير من ينظر لنفسه دون جنده، و لا يشتغل بالهزل من قوله، فلعمري! لئن كانت قوّتي بأهل العراق أوثق عندي من قوّتي باللّه، و معرفتي به ليس عنده باللّه تعالى يقين من كان على هذا، فناج نفسك مناجاة من يستغني بالجدّ دون الهزل، فإنّ في القول سعة، و لن يعذر مثلك فيما طمح إليه الرّجال.

و أمّا ما ذكرت من أنّا كنّا و إيّاكم يدا جامعة، فكنّا كما ذكرت، ففرق بيننا و بينكم، أنّ اللّه بعث رسوله منّا، فآمنّا به و كفرتم.

ثمّ زعمت إنّي قتلت طلحة و الزّبير فذلك أمر غبت عنه و لم تحضره، و لو حضرته لعلمته، فلا عليك، و لا العذر فيه إليك.

و زعمت أنّك زائري في المهاجرين، و قد انقطعت الهجرة حين اسر أخوك (1) ، فإن يك فيك عجل فاسترقه، و إن أزرك فجدير أن يكون اللّه بعثني عليك للنّقمة منك، و السّلام» (2).

و فنّد الإمام عليه السّلام مزاعم معاوية و أباطيله، و رويت رسالة معاوية للإمام و جوابه عنها بصورة اخرى ذكرهما ابن أبي الحديد (3).

رسالة من الإمام لمعاوية:

وجّه الإمام عليه السّلام رسالة لمعاوية يعظه فيها و يحذّره من عذاب اللّه تعالى و عقابه

ص:127


1- أخو معاوية يزيد بن أبي سفيان، اسر يوم فتح مكّة في باب الخندق، و كان قد خرج مع جماعة من قريش لمحاربة المسلمين لئلا يدخلوا مكّة فقتل منهم و اسر يزيد و هو الذي استعمله أبو بكر واليا على الشام و خرج لتوديعه عدّة فراسخ!!
2- الإمامة و السياسة 62:1.
3- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 201:2.

على تمرّده، و هذا نصّها:

«من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان.

أمّا بعد فإنّ الدّنيا دار تجارة، و ربحها أو خسرها الآخرة، فالسّعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصّالحة، و من رأى الدّنيا بعينها، و قدّرها بقدرها، و إنّي لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك ممّا لا مردّ له دون نفاذه، و لكنّ اللّه تعالى أخذ على العلماء أن يؤدّوا الأمانة، و أن ينصحوا الغويّ و الرّشيد، فاتّق اللّه، و لا تكن ممّن لا يرجو للّه وقارا؛ و من حقّت عليه كلمة العذاب، فإنّ اللّه بالمرصاد و إنّ دنياك ستدبر عنك، و ستعود حسرة عليك، فاقلع عمّا أنت عليه من الغيّ و الضّلال على كبر سنّك و فناء عمرك، فإنّ حالك اليوم كحال الثّوب المهيل الّذي لا يصلح من جانب إلاّ فسد من آخر.

و قد أرديت جيلا من النّاس كثيرا، خدعتهم بغيّك، و ألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظّلمات، و تتلاطم بهم الشّبهات، فجاروا عن وجهتهم، و نكصوا على أعقابهم، و تولّوا على أدبارهم، و عوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، و هربوا إلى اللّه من موازرتك، إذ حملتهم على الصّعب، و عدلت بهم عن القصد.

فاتّق اللّه يا معاوية في نفسك، و جاذب الشّيطان قيادك، فإنّ الدّنيا منقطعة عنك، و الآخرة قريبة منك، و السّلام» (1).

و حكت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه السّلام إلى معاوية أن يثيب إلى الحقّ ،

ص:128


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 200:4-201.

و يجتنب الخداع و التضليل، و لم تنفع مواعظ الإمام مع هذا الإنسان الممسوخ الذي ران الباطل على قلبه فأنساه ذكر اللّه و لم يعد أي بصيص من النور في ضميره.

ردّ معاوية:

و لم يعن معاوية بوعظ الإمام و نصيحته، و إنّما عمد إلى السباب و التهديد فقد أجابه:

أمّا بعد: فقد وقفت على كتابك، و قد أبيت على الفتن إلاّ تماديا، و إنّي لعالم أنّ الذي يدعوك إلى ذلك مصرعك الذي لا بدّ لك منه، و إن كنت موائلا فازدد غيّا إلى غيّك، فطالما خفّ عقلك، و منّيت نفسك ما ليس لك، و التويت على من هو خير منك (1).

ثمّ كانت العاقبة لغيرك، و احتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك و السلام (2).

حكت هذه الرسالة تمادي معاوية بالإثم و العدوان و إصراره على الغيّ .

جواب الإمام:

و أجاب الإمام عليه السّلام معاوية بهذه الرسالة:

«أمّا بعد فإنّ ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشّبه ممّا أتى به أهلك و قومك الّذين حملهم الكفر، و تمنّي الأباطيل على حسد محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم حتّى صرعوا مصارعهم حيث علمت، لم يمنعوا حريما، و لم يدفعوا عظيما، و أنا صاحبهم في تلك المواطن، الصّالي (3)

ص:129


1- عرض معاوية إلى موقف الإمام عليه السّلام من بيعة أبي بكر و شجبه لها.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:4.
3- صلي النّار كرضي، و صلي بها: قاسى حرّها.

بحربهم، و الفالّ لحدّهم، و القاتل لرؤوسهم و رءوس الضّلالة، و المتبع - إن شاء اللّه - خلفهم بسلفهم، فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محلّه و محطّه النّار، و السّلام» (1).

و معنى هذه الرسالة أنّ ما قام به معاوية من مجانبة الحقّ و محاربة العدل كان بذلك شبيها بأسلافه و قومه في محاربتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى حصد الإمام رءوس أعلامه بسيفه، و أنّه سيتبع خلفهم بهم، و يوردهم جميعا نار جهنّم.

جواب معاوية:

و أجاب معاوية عن رسالة الإمام بهذا الجواب الذي هدّد الإمام بإعلان الحرب عليه:

أمّا بعد.. فقد طال في الغيّ ما استمررت أدراجك، كما طالما تمادى عن الحرب نكوصك و إبطاؤك، فتوعّد وعيد الأسد، و تروغ روغان الثعلب، فحتّام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية، و الأفاعي القاتلة، و لا تستبعدنّها، فكلّ ما هو آت قريب إن شاء اللّه، و السلام (2).

حكت هذه الرسالة تطاول معاوية على الإمام و تهديده بأبطال أهل الشام.

ردّ الإمام:

و ردّ الإمام على معاوية بهذه الرسالة التي أعربت عن استعداده للحرب، و عدم اكتراثه بأبطال أهل الشام، و هذا نصّها:

«أمّا بعد فما أعجب ما يأتيني منك، و ما أعلمني بما أنت إليه صائر،

ص:130


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:4. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 203:4.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:4.

و ليس إبطائي عنك إلاّ ترقّبا لما أنت له مكذّب و أنا به مصدّق، و كأنّي بك غدا و أنت تضجّ من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال، و ستدعوني أنت و أصحابك إلى كتاب تعظّمونه بألسنتكم و تجحدونه بقلوبكم، و السّلام» (1).

أشار الإمام عليه السّلام في آخر رسالته إلى ما سيقوم به معاوية من رفع المصاحف لينجو بها من الحرب التي كادت أن تلفّ وجوده و تقضي عليه، و أنّ تلك المصاحف التي يتّقي بها يعظّمونها بألسنتهم، و يجحدون بها في قلوبهم.. و هذا من إخبار الإمام عليه السّلام بالمغيّبات.

جواب معاوية:

و أجاب معاوية عن رسالة الإمام عليه السّلام بهذه الرسالة:

أمّا بعد.. فدعني من أساطيرك، و اكفف عنّي من أحاديثك، و أقصر عن تقوّلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و افترائك من الكذب ما لم يقل، و غرور من معك، و الخداع لهم، فقد استغويتهم، و يوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك، و يعلموا أنّ ما جئت به باطل مضمحلّ ، و السلام (2).

و ليس في رسالة معاوية إلاّ التمادي في الباطل، و العداء للحقّ ، و التنكّر للقيم و الأعراف و المثل التي تؤمن بها الامم و الشعوب.

جواب الإمام:

و أجاب الإمام عليه السّلام عن هذا الكتاب بما يلي:

ص:131


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:4. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 204:4.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:4.

«أمّا بعد فطالما دعوت أنت و أولياؤك أولياء الشّيطان الرّجيم، الحقّ أساطير الأوّلين، و نبذتموه وراء ظهوركم، و جهدتم بإطفاء نور اللّه بأيديكم و أفواهكم، و اللّه متمّ نوره و لو كره الكافرون.

و لعمري ليتمّنّ النّور على كرهك، و لينفّذنّ العلم بصغارك، و لتجازينّ بعملك، فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك فكأنّك بباطلك و قد انقضى و بعملك و قد هوى ثمّ تصير إلى لظى (1) ، لم يظلمك اللّه شيئا، و ما ربّك بظلاّم للعبيد.

و قد أسهبت في ذكر عثمان، و لعمري ما قتله غيرك، و لا خذله سواك، و لقد تربّصت به الدّوائر (2) ، و تمنّيت له الأمانيّ طمعا فيما ظهر منك، و دلّ عليه فعلك، و إنّي لأرجو أن الحقك به على أعظم من ذنبه، و أكبر من خطيئته، فأنا ابن عبد المطّلب صاحب السّيف و إنّ قائمه لفي يدي، و قد علمت من قتلت من صناديد بني عبد شمس، و فراعنة بني سهم و جمح و بني مخزوم، و أيتمت أبناءهم، و أيّمت نساءهم.

و أذكّرك ما لست له ناسيا يوم قتلت أخاك حنظلة، و جررت برجله إلى القليب، و أسرت أخاك عمرا فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا، و طلبتك ففررت، و لك حصاص (3) ، فلولا أنّي لا أتبع فارّا لجعلتك ثالثهما، و إنّي أولي لك باللّه (4) أليّة برّة غير فاجرة، لئن جمعتني

ص:132


1- لظى: نار جهنّم.
2- الدوائر: جمع دائرة و هي الهزيمة.
3- الحصاص: الضراط .
4- أولي: أي اقسم.

و إيّاك جوامع الأقدار، لأتركنّك مثلا يتمثّل به النّاس أبدا، و لأجعجعنّ بك في مناخك حتّى يحكم اللّه بيني و بينك و هو خير الحاكمين.

و لئن أنسأ (1) اللّه في أجلي لأغزينّك سرايا المسلمين، و لانهدنّ إليك في جحفل من المهاجرين و الأنصار، ثمّ لا أقبل لك معذرة و لا شفاعة، و لا اجيبك إلى طلب و سؤال، و لترجعنّ إلى تحيّرك و تردّدك و تلدّدك، فقد شاهدت و أبصرت، و رأيت سحب الموت كيف هطلت عليك بصيّبها حتّى اعتصمت بكتاب أنت و أبوك أوّل من كفر و كذّب بنزوله، و لقد كنت تفرّستها، و آذنتك أنّك فاعلها، و قد مضى منها ما مضى، و انقضى من كيدك فيها ما انقضى، و أنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب، فاختر لنفسك، و انظر لها و تداركها، فإنّك إن فرّطت و استمررت على غيّك و غلوائك حتّى ينهد إليك عباد اللّه، ارتجت عليك الامور و منعت أمرا هو اليوم منك مقبول.

يا ابن حرب، إنّ لجاجك في منازعة الأمر أهله من سفاه الرّأي، فلا يطمعنّك أهل الضّلال، و لا يوبقنّك سفه رأي الجهال، فو الّذي نفس عليّ بيده! لئن برقت في وجهك بارقة من ذي الفقار - و هو سيف الإمام - لتصعقنّ صعقة لا تفيق منها حتّى ينفخ في الصّور النّفخة الّتي يئست منها كَما يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ » (2).

حكت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه السّلام لمعاوية بالاستجابة لنداء الحقّ ، و رضا

ص:133


1- انسأ: أي أخر.
2- جمهرة رسائل العرب 424:1-427. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 210:4 - 213.

اللّه تعالى، و لكنّ ابن هند أعار ذلك اذنا صمّاء و عينا عمياء، فأصرّ على الغيّ و العدوان، و مناجزة وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه.

جواب معاوية:

و أجاب معاوية عن رسالة الإمام عليه السّلام بما يلي:

أمّا بعد.. فما أعظم الرّين على قلبك! و الغطاء على بصرك! و الشّره من شيمتك! و الحسد من خليقتك! فشمّر للحرب، و اصبر للضرب، فو اللّه! ليرجعنّ الأمر إلى ما علمت، و العاقبة للمتّقين. هيهات هيهات أخطأك ما تتمنّى، و هوى قلبك مع من هوى، فاربع على ظلعك (1) و قس شبرك بفترك، لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه، و يفصل بين أهل الشكّ علمه، و السلام (2).

و هدّد معاوية الإمام بإعلان الحرب، و استعداده الكامل لمناجزته.

ردّ الإمام:

و كتب الإمام عليه السّلام رسالة فندّ فيها أباطيل معاوية التي احتواها كتابه جاء فيها بعد البسملة:

«أمّا بعد.. فإنّ مساويك مع علم اللّه تعالى فيك حالت بينك و بين أن يصلح لك أمرك، و أن يرعوي قلبك.

يا ابن الصّخر اللّعين (3) ، زعمت أن يزن الجبال حلمك، و يفصل

ص:134


1- اربع على ظلعك: أي ارفق بنفسك، و ابصر ما أنت فيه من الضعف.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 51:4.
3- يشير بذلك إلى الحديث النبوي، و قد رواه الإمام الحسن عليه السّلام إلى معاوية فقد قال له: «أنشدك اللّه يا معاوية، أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر و أنت تسوقه و أخوك عتبة يقوده فرآكم رسول اللّه فقال: اللّهمّ العن الراكب و القائد و السائق».

بين أهل الشّكّ علمك، و أنت الجلف المنافق، الأغلف القلب، القليل العقل، الجبان الرّذل.

فإن كنت صادقا فيما تسطر، و يعينك عليه ابن أخي بني سهم (1) ، فدع النّاس جانبا و تيسّر لما دعوتني إليه من الحرب، و الصّبر على الضّرب، و اعف الفريقين من القتال، ليعلم أيّنا المرين على قلبه، المغطّى على بصره، فأنا أبو الحسن، قاتل جدّك و أخيك و خالك، و ما أنت منهم ببعيد» (2).

و حكت رسالة الإمام عليه السّلام نزعات معاوية و صفاته الشريرة، فليس له صفة شريفة، و ليس له قدم في الإسلام، و إنّما له قدم ثابتة في الباطل و النفاق.

رسالة معاوية للإمام:

بعث معاوية رسالة للإمام قبل مسيره إلى صفّين، و قد حملها أبو مسلم الخولاني، و هذا نصّها:

من معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب.. سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ اللّه اصطفى محمّدا بعلمه، و جعله الأمين على وحيه، و الرسول إلى خلقه، و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم، و كانوا في منازلهم على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم في الإسلام، و أنصحهم للّه و لرسوله الخليفة من بعده ثمّ خليفة الخليفة، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم عثمان، فكلّهم حسدت، و على كلّهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر، و قولك الهجر، و تنفّسك الصعداء، و إبطائك عن الخلفاء، و أنت في كلّ ذلك تقاد كما يقاد البعير

ص:135


1- هو عمرو بن العاص وزير معاوية، كانت امّه مشهورة بالبغاء.
2- جمهرة رسائل العرب 427:1.

المخشوش (1) حتى تبايع، و أنت كاره، و لم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا منك لابن عمّك، و كان أحقّهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته و صهره فقطعت رحمه، و قبّحت محاسنه، و ألّبت عليه الناس، و بطنت و ظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل، و شهر عليه السلاح في حرم الرسول، فقتل معك في المحلّة، و أنت تسمع في داره الهائعة (2) لا تؤدّي عن نفسك في أمره بقول و لا فعل، و اقسم قسما صادقا لو قمت في أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه (3) ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، و لمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان، و البغي عليه، و اخرى أنت بها عند أولياء ابن عفّان ضنين، ايواؤك قتلة عثمان فهم بطانتك و عضدك و أنصارك، و قد بلغني أنّك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثمّ نحن أسرع الناس إليك، و إلاّ فليس لك و لا لأصحابك عندنا إلاّ السيف فو الذي نفس معاوية بيده! لأطلبن قتلة عثمان في الجبال و الرمال و البرّ و البحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا باللّه (4).

حكت هذه الرسالة أباطيل معاوية، و عدم تحرّجه من الإفك و الكذب فقد اتّهم الإمام بتحريضه على سفك دم عثمان، و هو افتراء محض بريء من دمه، و إنّما الذي أجهز عليه سوء سياسته، و تلاعبه بمقدّرات الأمّة، و هباته لبني اميّة و آل أبي معيط ، و منحهم الثراء العريض، و تقليدهم المراكز الحسّاسة في الدولة، و قد شذّ هؤلاء الأرجاس في سلوكهم و انحرفوا عن الطريق القويم، و قد عرضنا لذلك بالتفصيل في البحوث السابقة، و قد استنجد عثمان بمعاوية حينما أحاط الثوّار به، فلم يسعفه، و بقيت قوّاته المسلّحة مرابطة حتّى قتل عثمان، فأي علاقة للإمام

ص:136


1- المخشوش: البعير الذي يجعل في أنفه الخشبة لينقاد.
2- الهائعة: الصوت المفزع.
3- تنهنه: أي تكفّ عنه.
4- صبح الأعشى 228:1. العقد الفريد 233:2.

بسفك دمه أو التحريض على قتله ؟

جواب الإمام:

و أجاب الإمام عليه السّلام معاوية بجواب حاسم فنّد فيه مزاعمه و أباطيله، و جاء فيه بعد البسملة:

«من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان.

أمّا بعد فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و ما أنعم اللّه عليه به من الهدى و الوحي.

و الحمد للّه الّذي صدقه الوعد، و تمّم له النّصر، و مكّن له في البلاد، و أظهره على أهل العداء و الشّنئان (1) من قومه الّذين وثبوا به، و شنفوا له (2) ، و أظهروا التّكذيب، و بارزوه بالعداوة، و ظاهروا على إخراجه و إخراج أصحابه و أهله، و ألّبوا عليه العرب، و جامعوهم على حربه، و جهدوا في أمره كلّ الجهد، و قلّبوا (3) له الأمور حتّى ظهر أمر اللّه و هم كارهون، و كان أشدّ النّاس عليه ألبة اسرته، و الأدنى فالأدنى من قومه إلاّ من عصمه اللّه.

يا بن هند، فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا، و لقد قدمت فأفحشت إذ طفقت تخبرنا عن بلاء اللّه تعالى في نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و فينا، فكنت في ذلك كجالب التّمر إلى هجر، أو كداعي

ص:137


1- الشنآن: البغض و الكراهية.
2- شنفوا: أي تنكّروا و أبغضوا.
3- يشير الإمام بذلك إلى ما قامت به قريش و على رأسهم أبو سفيان من محاربة النبيّ ، و هذه الأسر القرشية التي حاربت النبيّ هي التي أبت أن تجتمع الخلافة و النبوّة في بيت واحد.

مسدّده إلى النّضال.

و ذكرت أنّ اللّه اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم - زعمت - في الإسلام، و أنصحهم للّه و رسوله الخليفة، و خليفة الخليفة، و لعمري إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم، و إنّ المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمهما اللّه و جزاهما بأحسن الجزاء.

و ذكرت أنّ عثمان كان في الفضل ثالثا، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه اللّه بإحسانه، و إن يك مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.

و لعمر اللّه إنّي لأرجو إذا أعطى اللّه النّاس على قدر فضائلهم في الإسلام، و نصيحتهم للّه و رسوله، أن يكون نصيبنا في ذلك - أهل البيت - الأوفر.

إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم لمّا دعا إلى الإيمان باللّه و التّوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به و صدّق بما جاء به، فلبثنا أحوالا مجرّمة، و ما يعبد اللّه في ربع (1) ساكن من العرب غيرنا، فأراد قومنا قتل نبيّنا، و اجتياح أصلنا (2) ، و همّوا بنا الهموم، و فعلوا بنا الأفاعيل، فمنعونا الميرة، و أمسكوا عنّا العذب (3) ، و أحلسونا (4) الخوف، و جعلوا علينا

ص:138


1- الربع: المنزل.
2- الاجتياح: الاستئصال.
3- العذب: الماء.
4- أحلسونا: ألزمونا.

الأرصاد و العيون، و اضطرّونا إلى جبل وعر (1) ، و أوقدوا لنا نار الحرب، و كتبوا بينهم كتابا لا يواكلوننا، و لا يشاربوننا، و لا يناكحوننا، و لا يبايعوننا، و لا نأمن فيهم حتّى ندفع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقتلوه و يمثّلوا به، فلم نكن نأمن فيهم إلاّ من موسم إلى موسم، فعزم اللّه لنا على منعه، و الذّبّ عن حوزته، و الرّمي من وراء حرمته، و القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف باللّيل و النّهار، فمؤمننا يرجو بذلك الثّواب، و كافرنا يحامي عن الأصل.

فأمّا من أسلم من قريش بعد، فإنّهم ممّا نحن فيه أخلياء، فمنهم حليف ممنوع، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التّلف، فهم من القتل بمكان نجوة (2) و أمن، فكان ما شاء اللّه أن يكون.

ثمّ أمر اللّه رسوله بالهجرة، و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين، فكان إذا احمرّ البأس (3) ، و دعي للنّزال أقام أهل بيته فاستقدموا، فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة و السّيوف، فقتل عبيدة (4) يوم بدر، و حمزة يوم احد، و جعفر و زيد يوم مؤتة، و أراد و اللّه! من لو شئت ذكرت اسمه (5) مثل الّذي أرادوا من الشّهادة مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير مرّة إلاّ أنّ آجالهم عجّلت، و منيّته اخّرت، و اللّه مولى الإحسان إليهم،

ص:139


1- الجبل الوعر: هو شعب أبي طالب، و هو الذي سجن فيه النبيّ مع اسرته.
2- النجوة: المكان المرتفع.
3- حمر البأس: شدّة القتال.
4- هو الشهيد الخالد عبيدة بن الحارث الهاشمي.
5- يعني به نفسه الشريفة، المناضل الأوّل عن الإسلام.

و المنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصّالحات، فما سمعت بأحد، و لا رأيت فيهم من هو أنصح للّه في طاعة رسوله، و لا أطوع لرسوله في طاعة ربّه، و لا أصبر على اللأواء (1) و الضّرّاء و حين البأس و مواطن المكروه مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هؤلاء النّفر الّذين سمّيت لك و في المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم اللّه بأحسن أعمالهم.

و ذكرت حسدي الخلفاء، و إبطائي عنهم، و بغيي عليهم، فأمّا البغي فمعاذ اللّه أن يكون.

و أمّا الإبطاء عنهم، و الكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى النّاس، لأنّ اللّه جلّ ذكره لمّا قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم قالت قريش: منّا أمير، و قالت الأنصار: منّا أمير، فقالت قريش: منّا محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فنحن أحقّ بالأمر، فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لهم الولاية و السّلطان، فإذا استحقّوها بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون الأنصار، فإنّ أولى النّاس بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحقّ بها منهم، و إلاّ فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا.

فلا أدري أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقّي أخذوا، أو الأنصار ظلموا، بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ، و قد تركته لهم، تجاوز اللّه عنهم.

و أمّا ما ذكرت من أمر عثمان، و قطيعتي رحمه، و تأليبي عليه، فإنّ عثمان عمل ما بلغك، فصنع النّاس ما قد رأيت، و قد علمت لتعلم أنّي كنت في عزلة عنه، إلاّ أن تتجنّى، فتجنّ ما بدا لك.

ص:140


1- اللأواء: الشدّة.

و أمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان، فإنّي نظرت في هذا الأمر، و ضربت أنفه و عينيه فلم أر دفعهم إليك و لا إلى غيرك.

و لعمري لئن لم تنزع عن غيّك و شقاقك لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك و لا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ و لا بحر، و لا جبل و لا سهل.

و قد كان أبوك أتاني حين ولّى النّاس أبا بكر، فقال: أنت أحقّ بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الأمر و أنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك، ابسط يدك ابايعك. فلم أفعل.

و أنت تعلم أنّ أباك قد كان قال ذلك و أراده حتّى كنت أنا الّذي أبيت، لقرب عهد النّاس بالكفر، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام فأبوك كان أعرف بحقّي منك، فإن تعرف من حقّي ما كان يعرف أبوك، تصب رشدك، و إن لم تفعل فسيغني اللّه عنك، و السّلام» (1).

و حفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية، فقد عرضت إلى ما لاقاه المنقذ العظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الجهد الشاقّ و العسير من الاسر القرشية التي هبّت في وجهه لإطفاء نور اللّه تعالى، و إعادة الجاهلية الرعناء بآثامها إلى مسرح الحياة، و قد انبرت الاسرة الهاشمية إلى اعتناق الإسلام، و الإيمان بالدعوة المباركة العظيمة، فلاقت أقسى الأزمات و أكثرها محنة، و أعظمها بلاء، فحبست مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في شعب أبي طالب، و حرمت عليهم قريش جميع وسائل الحياة، حتّى منّ اللّه عليهم بالخروج من ذلك السجن الرهيب، و لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه الكريم بالهجرة من مكّة إلى المدينة، أضرمت عليه قريش أخزاها اللّه نار الحرب، و جنّدت الجيوش للقضاء

ص:141


1- العقد الفريد 234:2. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 177:4-185.

عليه، فقدّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اسرته الممجّدة للدفاع عن حياض الإسلام، فاستشهد عبيدة يوم بدر و عمّه حمزة في يوم احد، و ابن عمّه جعفر في واقعة مؤتة، فاسرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هي المحامية عن الإسلام، و المناصرة له في أيام محنته و غربته، فهي أولى بمركز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أحقّ بمقامه من غيرها، الذين ليس لهم أيّة سابقة أو جهاد يذكر في سبيل اللّه تعالى.

كما ذكرت هذه الرسالة موقف الإمام عليه السّلام من الخلفاء و كان متّسما بالكراهية و عدم الرضا لأنّهم تقمّصوا حقّه، و نهبوا تراثه، و اللّه تعالى هو الذي يحكم بينهم و بين الإمام حينما يعرضون عليه.. هذه لقطات ممّا حفلت به هذه الرسالة.

كتاب معاوية للإمام:

أرسل معاوية إلى الإمام عليه السّلام هذه الرسالة مع أبي امامة الباهلي، و ليس في أي بند من بنودها موطن حقّ و صدق، و هذه نسختها:

من عبد اللّه معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب.

أمّا بعد.. فإنّ اللّه تعالى جدّه اصطفى محمّدا عليه الصلاة و السلام لرسالته، و اختصّه بوحيه، و تأدية شريعته، فأنقذ به من العماية (1) و هدى به من الغواية، ثمّ قبضه إليه رشيدا حميدا، قد بلغ الشرع، و محق الشرك، و أخمد نار الإفك، فأحسن اللّه جزاءه، و ضاعف عليه نعمه و آلاءه (2) ، ثمّ إنّ اللّه سبحانه اختصّ محمّدا عليه الصلاة و السلام بأصحاب أيّدوه و نصروه، و كانوا كما قال اللّه سبحانه لهم: أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (3) فكان أفضلهم مرتبة، و أعلاهم عند اللّه و المسلمين

ص:142


1- العماية: الغواية و الإفك.
2- الآلاء: النعم.
3- الفتح: 29.

منزلة الخليفة الأوّل الذي جمع الكلمة، و لمّ الدعوة، و قاتل أهل الردّة، ثمّ الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح، و مصر الأمصار، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملّة، و طبق الآفاق بالكلمة الحنيفيّة.

فلمّا استوثق الإسلام و ضرب بجرانه (1) ، عدوت عليه، فبغيت له الغوائل، و نصبت له المكايد، و ضربت له بطن الأمر و ظهره، و دسست عليه، و أغريت به، و قعدت، حيث استنصرك، عن نصره، و سألك أن تدركه قبل أن يمزق، فما أدركته، و ما يوم المسلمين منك بواحد، لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه، و رمت إفساد أمره، و قعدت في بيتك، و استغويت عصابة من الناس حتّى تأخّروا عن بيعته، ثمّ كرهت خلافة عمر و حسدته، و استطلت مدّته، و سررت بقتله، و أظهرت الشماتة بمصابه، حتّى أنّك حاولت قتل ولده (2) لأنّه قتل قاتل أبيه، ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمّك عثمان، نشرت مقابحه، و طويت محاسنه، و طعنت في فقهه، ثمّ في دينه، ثمّ في سيرته، ثمّ في عقله، و أغريت به السفهاء من أصحابك و شيعتك، حتّى قتلوه بمحضر منك، لا تدفع عنه بلسان و لا يد، و ما من هؤلاء - يعني الخلفاء - إلاّ بغيت عليه، و تلكّأت في بيعته حتى حملت إليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار (3) كما يساق الفحل المغشوش، ثمّ نهضت الآن تطلب الخلافة و قتلة عثمان خلصاؤك، و سجراؤك (4) و المحدقون بك، و تلك من أماني النفوس، و ضلالات الأهواء.

فدع اللجاج و العبث جانبا، و ادفع إلينا قتلة عثمان، و أعد الأمر شورى بين

ص:143


1- جران البعير: مقدّم عنقه، و المراد أنّ الإسلام استقام و تمّت له الامور.
2- أشار معاوية إلى عبيد اللّه بن عمر الذي قتل الهرمزان و ابنته لأنّه من أصحاب أبي لؤلؤة الذي اغتال عمر، و قد عفا عنه عثمان و أقطعه أرضا في الكوفة، و رام الإمام أن يقتصّ منه فمنعه عثمان، و قد ذكرنا تفصيل ذلك في البحوث السابقة.
3- الاقتسار: القهر.
4- السجراء: الأصفياء و الأخلاّء.

المسلمين، ليتّفقوا على من هو للّه رضا، فلا بيعة لك في أعناقنا، و لا طاعة لك علينا، و لا عتبى لك عندنا، و ليس لك و لأصحابك عندي إلاّ السيف.

و الذي لا إله إلاّ هو! لأطلبن قتلة عثمان أينما كانوا و حيث كانوا حتى أقتلهم أو تلحق روحي باللّه، فأمّا ما تزال تمنّ به من سابقتك و جهادك فإنّى وجدت اللّه سبحانه يقول: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1) و لو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشدّ الأنفس امتنانا على اللّه بعملها، و إذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة، فالامتنان على اللّه يبطل أجر الجهاد، و يجعله كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا و اللّه لا يهدي القوم الكافرين (2).

أ و ليس في هذه الرسالة إلاّ الكذب و الافتراء، و هي من سمات هذا الجاهلي الذي تربّى بآثام الجاهلية و شرورها.

ردّ الإمام:

و قد ردّ عليه الإمام عليه السّلام بهذه الرسالة، و جاء فيها بعد البسملة:

«أمّا بعد.. فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لدينه، و تأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه، فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللّه (3) عندنا، و نعمته علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر، أو داعي مسدّده إلى النّضال.

و زعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان و فلان (4) ، فذكرت أمرا

ص:144


1- الحجرات: 17.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 448:3.
3- البلاء: النعمة.
4- يعني بفلان و فلان أبا بكر و عمر.

إن تمّ اعتزلك كلّه، و إن نقص لم يلحقك ثلمه، و ما أنت و الفاضل و المفضول، و السّائس و المسوس، و ما للطّلقاء و أبناء الطّلقاء و التّمييز بين المهاجرين الأوّلين، و ترتيب درجاتهم، و تعريف طبقاتهم ؟! هيهات لقد حنّ قدح (1) ليس منها، و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! أ لا تربع أيّها الإنسان على ظلعك، و تعرف قصور ذرعك، و تتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب، و لا لك ظفر الظّافر، و إنّك لذهّاب في التّيه (2) ، روّاغ عن القصد، أ لا ترى - غير مخبر لك، و لكن بنعمة اللّه احدّث - أنّ قوما استشهدوا في سبيل اللّه تعالى من المهاجرين و الأنصار، و لكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء، و خصّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه (3)! أ و لا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل اللّه و لكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم، قيل الطّيّار في الجنّة (4) و ذو الجناحين! و لو لا ما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر (5) فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، و لا تمجّها آذان السّامعين.

فدع عنك من مالت به الرّميّة، فإنّا صنائع ربّنا، و النّاس بعد

ص:145


1- حنّ : هو الصوت. القدح: أحد أقداح الميسر، فإذا كان من غير جنسها ثمّ أجاله المفيض...
2- التيه: الضلال و الكبر.
3- خصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمّه الشهيد حمزة بسبعين تكبيرة على جثمانه المقدّس.
4- هو الشهيد العظيم جعفر الطيّار.
5- يعني بذلك نفسه العظيمة التي هي مجمع الفضائل التي خلقها اللّه تعالى.

صنائع لنا (1) لم يمنعنا قديم عزّنا و لا عاديّ طولنا (2) على قومك أن اخلطناكم بأنفسنا؛ فنكحنا و أنكحنا، فعل الأكفاء، و لستم هناك! و أنّى يكون ذلك كذلك (3) و منّا النّبيّ و منكم المكذّب (4) ؟ و منّا أسد اللّه (5) و منكم أسد الأحلاف (6) ؟ و منّا سيّدا شباب أهل الجنّة (7) و منكم صبية النّار (8) ، و منّا خير نساء العالمين (9) ، و منكم حمّالة الحطب (10) ، في كثير ممّا لنا و عليكم! فإسلامنا قد سمع، و جاهليّتكم لا تدفع، و كتاب اللّه يجمع لنا ما شذّ عنّا، و هو قوله سبحانه و تعالى:

ص:146


1- معنى هذه الكلمات أنّ اللّه تعالى اصطفى أهل البيت عليهم السّلام بفضله فجعل النبوّة فيهم، و منهم فاضت الهداية على الامم و الشعوب.
2- عادي طولنا: أي قديم فضلنا.
3- أنّى يكون ذلك كذلك: أي كيف يكون شرفكم كشرفنا؟.
4- المكذّب من بني اميّة هو زعيم المنافقين و رأس الضلال هو أبو سفيان، و قيل: هو أبو جهل، و هو اشتباه فإنّه ليس من بني اميّة و إنّما هو من بني مخزوم.
5- أسد اللّه هو الشهيد الخالد حمزة بن عبد المطّلب عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
6- أسد الأحلاف: هو عتبة بن ربيعة، و يعني به أنّه أسد الأجمة المعادية للإسلام.
7- سيّدا شباب أهل الجنّة هما ريحانتا رسول اللّه الحسن و الحسين عليهم السّلام.
8- صبية النار: هم صبية بني أميّة.
9- خير نساء العالمين: هي زهراء الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
10- حمّالة الحطب: هي أمّ جميل عمّة معاوية لقّبت بحمّالة الحطب لأنّها كانت تضع الشوك في طريق النبيّ .

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (1) و قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (2) ، فنحن مرّة أولى بالقرابة، و تارة أولى بالطّاعة. و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.

و زعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت، و على كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك.

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و قلت: إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع؛ و لعمر اللّه! لقد أردت أن تذمّ فمدحت، و أن تفضح فافتضحت! و ما على المسلم من غضاضة (3) في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه، و لا مرتابا بيقينه! و هذه حجّتي إلى غيرك قصدها، و لكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.

ثمّ ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيّنا كان أعدى له، و أهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده (4) و استكفّه، أم من استنصره فتراخى عنه (5) و بثّ المنون

ص:147


1- الأنفال: 75.
2- آل عمران: 68.
3- الغضاضة: النقص.
4- يشير الإمام إلى نصحه لعثمان في إقصاء بني اميّة عنه إلاّ أنّه لم يستجب له.
5- أشار الإمام إلى استنجاد عثمان بمعاوية إلاّ أنّه خذله و لم يستجب له.

إليه، حتّى أتى قدره عليه.

كلاّ و اللّه قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ (1) مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً (2).

و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا؛ فإن كان الذّنب إليه إرشادي و هدايتي له؛ فربّ ملوم لا ذنب له.

و قد يستفيد الظّنّة المتنصّح و ما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه أنيب.

و ذكرت أنّه ليس لي و لأصحابي عندك إلاّ السّيف، فلقد أضحكت بعد استعبار! متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، و بالسّيف مخوّفين ؟!

«لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل» (3)

فسيطلبك من تطلب، و يقرب منك ما تستبعد، و أنا مرقل (4) نحوك في جحفل من المهاجرين و الأنصار، و التّابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم (5) ، متسربلين سرابيل الموت؛ أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم، و قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة، و سيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدّك و أهلك

ص:148


1- المعوقون : هم الذين لم ينصروه.
2- الأحزاب: 18.
3- حمل: اسم رجل، يضرب به المثل للتهديد بالحرب.
4- مرقل: أي مسرع.
5- القتام: الغبار.

و ما هي من الظّالمين ببعيد (1).

و ضارعت هذه الرسالة بعض الرسائل المتقدّمة في كثير من بنودها، و ليس من المستبعد أنّها رويت بطريقين مختلفين مع وحدتهما.

و على أي حال فقد فنّد الإمام عليه السّلام في هذه الرسالة أغاليط معاوية التي ليس فيها أي بصيص من نور الحقّ ، و بيّن زيفها، كما عرض الإمام عليه السّلام بصورة لا تقبل الشكّ أنّه أولى بمقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أحقّ بمركزه من غيره من الخلفاء، و بيّن أنّ ما لاقاه منهم من الاعتداء و الغضّ من شأنه فإنّه بعين اللّه، و ليس عليه أي غضاضة لأنّه لم يكن ظالما، و لا شاكّا في دينه، و سيجمع اللّه تعالى بينهم و بينه، و هو الحاكم الفصل.

و حفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية ذكرنا معظمها في البحوث السابقة.

الاستعداد للحرب:

و فشلت جميع الوسائل التي اتّخذها الإمام عليه السّلام لحقن الدماء و جمع كلمة المسلمين، فقد قرّر معاوية إعلان التمرّد و العصيان و مناهضة حكم الإمام بالسلاح، و قد شرط على الإمام في رجوعه إلى طاعته شرطين و هما:

1 - تسليم قتلة عثمان إليه ليقتصّ منهم، و فيهم خيار الصحابة.

2 - حلّ حكومة الإمام، و جعل الأمر شورى بين المسلمين لينتخبوا من شاءوا حاكما لهم، و قد اتّخذ هذين الشرطين التعجيزيّين وسيلة لإعلان حربه على الإمام.

و على أي حال فقد استعدّ كلا الفريقين للحرب، و تهيّأ بجمع معدّاته و أسلحته.

ص:149


1- صبح الأعشى 229:1. نهاية الإرب 233:7. نهج البلاغة 21:2.

رسائل الإمام لولاته:

اشارة

و أرسل الإمام بعض الرسائل إلى ولاته و امراء الأجناد يدعوهم فيها لنجدته و نصرته و الالتحاق به لمحاربة خصمه العنيد الذي خالف الجماعة، و خلع يد الطاعة، و فيما يلي ذلك:

كتابه لمخنف بن سليم:

و كتب الإمام عليه السّلام رسالة إلى مخنف بن سليم عامله على أصبهان و همذان يدعوه فيها لنجدته، و جاء فيها بعد البسملة:

«سلام عليك، فإنّي أحمد اللّه إليك الّذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد فإنّ جهاد من صدف (1) عن الحقّ رغبة عنه، و هبّ في نعاس العمى و الضّلال اختيارا له، فريضة على العارفين.

إنّ اللّه يرضى عمّن أرضاه، و يسخط على من عصاه، و إنّا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الّذين عملوا في عباد اللّه بغير ما أنزل اللّه و استأثروا بالفيء، و عطّلوا الحدود، و أماتوا الحقّ و أظهروا في الأرض الفساد، و اتّخذوا الفاسقين وليجة (2) من دون المؤمنين، فإذا وليّ اللّه أعظم أحداثهم أبغضوه و أقصوه و حرموه، و إذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه و أدنوه و برّوه، فقد أصرّوا على الظّلم و أجمعوا على الخلاف، و قديما ما صدّوا عن الحقّ و تعاونوا على الإثم و كانوا ظالمين.

فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في

ص:150


1- صدف: مال و أعرض.
2- الوليجة: الخاصّة.

نفسك، و أقبل إلينا لعلّك تلقى معنا هذا العدوّ المحلّ (1) فتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و تجامع المحقّ و تباين المبطل، فإنّه لا غنى بنا و لا بك عن أجر الجهاد، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل».

و كتب هذه الرسالة - التي هي بإملاء الإمام - عبيد اللّه بن أبي رافع و ذلك في سنة 37 ه ، و استخلف على أصبهان الحرث بن أبي الحرث بن الربيع، و استعمل على همذان سعيد بن وهب و كلاهما من قومه، و أقبل مخنف يجدّ في سيره حتى شهد مع الإمام صفّين (2).

حكت رسالة الإمام عليه السّلام تمادى معاوية في الموبقات و الآثام و أنّه و حزبه قد حكموا بغير ما أنزل اللّه تعالى فاستأثروا بالفيء و عطّلوا الحدود، و أماتوا الحقّ ، و أظهروا الفساد في الأرض، فجهادهم واجب إسلامي لإنقاذ المسلمين من شرورهم و آثامهم.

رسالة الإمام إلى امراء الأجناد:

كتب الإمام عليه السّلام رسالة إلى امراء الأجناد يستنهضهم فيها لنصرته في الورع و التقوى جاء فيها بعد البسملة:

أمّا بعد..

فإنّي أبرأ إليكم من معرّة الجنود، فأعزبوا (3) النّاس عن الظّلم و العدوان، و خذوا على أيدي سفهائكم، و احترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى اللّه بها عنّا فيردّ بها علينا و عليكم دعاءنا؛ فإنّه تعالى يقول:

ص:151


1- المحلّ : أي أنّه قد أحلّ حرمات اللّه تعالى.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 282:1.
3- أعزبه: أبعده.

ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ (1) و انّ اللّه تعالى إذا مقت قوما من السّماء هلكوا في الأرض، فلا تألوا أنفسكم خيرا، و لا الجند حسن سيرة، و لا الرّعيّة معونة، و لا دين اللّه قوّة، و أبلوا في سبيل اللّه ما استوجب عليكم، فإنّ اللّه سبحانه قد اصطنع عندنا و عندكم أن نشكره بجهدنا، و أن ننصره بما بلغت قوّتنا، و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم (2).

حكت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه السّلام لامراء جنده بالاستقامة و التوازن في سلوكهم، و اتّباع مرضاة اللّه تعالى، و العمل بطاعته، و الاجتناب عن سخطه و معاصيه لينزل اللّه تعالى عليهم نصره و تأييده.

كتابه إلى قريش:

كتب الإمام عليه السّلام رسالة إلى القرشيّين بما فيهم معاوية يدعوهم جميعا إلى حقن الدماء، و جمع الكلمة، و جاء في رسالته لهم بعد البسملة:

«سلام عليكم، فإنّي أحمد اللّه الّذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد.. فإنّ للّه تعالى عبادا آمنوا بالتّنزيل، و عرفوا التّأويل، و تفقّهوا في الدّين، و بيّن اللّه فضلهم في القرآن الحكيم، و أنتم في ذلك الزّمان أعداء للرّسول تكذّبون بالكتاب، و مجمعون على حرب المسلمين، من ثقفتم (3) منهم حبستموه أو عذّبتموه أو قتلتموه حتّى أراد اللّه إعزاز دينه، و إظهار أمره، فدخلت العرب في الدّين أفواجا،

ص:152


1- الفرقان: 77.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 282:1.
3- ثقفتم: أي صادفتم.

و أسلمت له هذه الأمّة طوعا و كرها، فكنتم فيمن دخل في هذا الدّين، إمّا رغبة و إمّا رهبة، على حين فاز أهل السّبق بسبقهم، و فاز المهاجرون بفضلهم، و لا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدّين، و لا مثل فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الّذي هم أهله فيحوب (1) و يظلم، و لا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره، و يعدو طوره، و يشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله، فإنّ أولى النّاس بأمر هذه الأمّة قديما و حديثا أقربها من الرّسول، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدّين، أوّلهم إسلاما، و أفضلهم جهادا، و أشدّهم بما تحمله الأئمّة من أمر الأمّة اضطلاعا، فاتّقوا اللّه الّذي إليه ترجعون، و لا تلبسوا الحقّ بالباطل و تكتموا الحقّ و أنتم تعلمون.

و اعلموا أنّ خيار عباد اللّه الّذين يعملون بما يعلمون، و أنّ شرارهم الجهّال الّذين ينازعون بالجهل أهل العلم؛ فإنّ للعالم بعلمه فضلا، و إنّ الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلاّ جهلا، ألا و إنّي أدعوكم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و حقن دماء هذه الأمّة، فإن قبلتم أصبتم رشدكم و اهتديتم لحظّكم، و إن أبيتم إلاّ الفرقة و شقّ عصا هذه الأمّة لم تزدادوا من اللّه إلاّ بعدا، و لا يزداد الرّبّ عليكم إلاّ سخطا، و السّلام.

حكت هذه الرسالة الدعوة المباركة التي دعا بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قريشا إلى الإسلام و نبذ الأصنام فقاومتها قريش بجميع ما تملك من الوسائل، و التي كان منها إنزال العذاب القاسي الأليم على من آمن باللّه و رسوله قتلا و حبسا حتّى اضطرّ المسلمون

ص:153


1- يحوب: أي يأثم.

إلى الهجرة إلى الحبشة، و لمّا أعزّ اللّه دينه، و نصر عبده و رسوله، و أرغم انوف القرشيّين، دخلوا في الإسلام لا إيمانا به، و إنّما كان خوفا من حدّ السيف.

و عرض الإمام عليه السّلام في رسالته إلى من هو أولى بأمر الامّة، و أحقّ بخلافتها، و هم العترة الطاهرة، و ذلك لقربها من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بالإضافة إلى علمها بكتاب اللّه تعالى، و إحاطتها بسنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و غير العترة لا نصيب لها من العلم و الفضل.

و ختم الإمام رسالته بالدعوة إلى جمع الكلمة، و المحافظة على دماء المسلمين.

و انتهت نسخة الإمام إلى معاوية فأجاب:

أمّا بعد.. فإنّه:

ليس بيني و بين قيس عتاب غير طعن الكلى و ضرب الرّقاب

و لمّا قرأ الإمام عليه السّلام هذا الجواب تلا قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (1).

زحف معاوية لصفّين:

و تهيّأت لمعاوية جميع الوسائل التي يستطيع بها على محاربة الإمام من العدد و العدّة، فقد استطاع بمكره و خداعه أن يغري أهل الشام بأنّ الإمام عليه السّلام هو الذي قتل عثمان بن عفّان فكان ينشر قميصه الملطّخ بدمه على المنبر فيضجّ الشاميّون بالبكاء و العويل، و كان كلّما فتر حزنهم يقول له ابن العاص بسخرية و استهزاء بهم:

حرّك لها حوارها تحن.

فيخرج لهم قميص عثمان - الذي هو كعجل بني إسرائيل - فيعود لهم الحزن

ص:154


1- القصص: 56.

و البكاء، و بلغ من أساهم على عثمان أنّهم أقسموا باللّه تعالى أن لا يمسّهم الماء إلاّ من الاحتلام، و لا يأتوا النساء و لا يناموا على الفراش حتى يقتلوا قتلة عثمان (1) ، و كانت قلوبهم تتحرّق شوقا إلى الحرب للأخذ بثأره، و كانوا يستنهضون معاوية للحرب أكثر منه.

إنّ أهل الشام قد عرفوا بالطاعة العمياء و الإخلاص الشديد إلى ولاة امورهم، و كان يضرب بهم المثل في الطاعة و المشايعة للسلطان على عكس جند الإمام (2).

و على أي حال فقد سار معاوية بجيشه المغرّر المخدوع لمحاربة وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، و قدّم بين يديه الطلائع، و سارت كتائب جيوشه لا تلوي على شيء، فنزل بهم أحسن منزل و أقربه إلى حوض الفرات، و أوعز إلى فرقة من جيشه باحتلال نهر الفرات، و أحاطت به آلاف من الجنود، و عدّ هذا أوّل الفتح؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه، و بقيت جيوشه مرابطة في ذلك المكان المسمّى ب «صفّين»، و هي تصلح أمرها، و تنظّم قواها استعدادا للحرب.

خروج الإمام للحرب:

و تهيّأ الإمام للحرب بعد ما علم بزحف عدوّه لمناجزته، و قام الخطباء من أنصار الإمام يدعون الناس للحرب، و يحثّونهم على الجهاد بعد ما أحرزوه من النصر الكبير في معركة الجمل.. و من بين الخطباء ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبطه الإمام الحسن عليه السّلام فقد خطب خطابا حماسيا رائعا ألهب فيه العواطف، دعا فيه إلى الجهاد و مناجزة عدوّ الإسلام الذي يكيد للمسلمين في غلس الليل و في وضح النهار، و قد استجابت الجماهير لدعوة ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و انطلقوا معه و هم يجدّون في

ص:155


1- تاريخ ابن الأثير 141:3.
2- لطائف المعارف - الثعالبي: 158.

تنظيم قواهم، و لمّا تمّت عدّتهم زحف بهم الإمام عليه السّلام لحرب عدوّه و قد قدّم طلائع جيشه، و أمرهم بملازمة الفرات، فقال لهم: عليكم بملازمة هذا المكان - يعني الفرات - حتى يأتيكم أمري (1) ، كما أمرهم أن لا يبدءوا أهل الشام بقتال حتى يلحق بهم.

و زحفت كتائب الجيش العراقي كأنّها السيل ترفرف عليها ألوية العدل و الحقّ ، و هي على يقين لا يخامره الشكّ أنّها إنّما تحارب القوى الباغية على الإسلام و المعادية لأهدافه، و أخذت تجدّ في السير لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى صفّين.

احتلال جيش الإمام للفرات:

و لمّا استقرّت جيوش الإمام في صفّين لم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ و هي محاطة بقوى مكثّفة من جيش معاوية، و هم يمنعونهم أشدّ المنع من الارتواء منه، و الوصول إليه، و لمّا رأى ذلك الإمام أوفد بعض أصحابه إلى معاوية يطلب منه أن يخلّي بينهم و بين الماء ليشربوا منه، و عرض معاوية ذلك على خاصّته من الأمويّين و الشاميّين، فأبوا أن يسمحوا لهم بشرب الماء، و أصرّوا على حرمانهم منه كما حرموا عثمان بن عفّان منه، و رجع رسول الإمام فأخبره بإصرار القوم على منع الماء عنهم، و أضرّ العطش بأصحاب الإمام فانبرى إليه الأشعث بن قيس يطلب منه الإذن بفتح باب الحرب عليهم لرفع الحصار عن حوض الفرات، و لم يجد الإمام بدّا من إجابته، و كان ذلك في آخر النهار، و انتظر الأشعث طلوع الفجر ليحمل على جيش معاوية، و لمّا انبثق نور الصبح خرج الأشعث رافعا صوته:

من كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح فإنّي ناهض إلى الماء، فاستجاب

ص:156


1- لسان العرب 408:7.

له اثنا عشر ألف رجل فشدّ على معسكر معاوية و قد رفع عقيرته قائلا:

ميعادنا اليوم بياض الصّبح هل يصلح الزّاد بغير ملح ؟

لا لا، و لا أمر بغير نصح دبّوا إلى القوم بطعن سمح

مثل العزالى بطعان نفح (1) لا صلح للقوم و أين صلحي

حسبي من الإقحام قاب رمح

و دبّ الأشعث مع الجيش و سيوفهم على عواتقهم، و جعل يلقي رمحه و هو يستنهض همم الجيش قائلا: بأبي أنتم و أمّي تقدّموا قاب رمحي، و لم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم، ثمّ حسر عن رأسه و رفع صوته قائلا: أنا الأشعث بن قيس، خلّوا عن الماء، فنادى أبو الأعور السّلمي أما و اللّه! لا تشربون من الماء حتى تأخذنا و إيّاكم السيوف، فأجابه الأشعث قد و اللّه! أظنّها دنت منّا، و كان الأشتر قد قرب منه مع خيله حيث أمره الإمام بمساندة الأشعث، و هجمت الخيل على الفرات و أخذت سيوف الحقّ تحصد رءوس أهل الشام حتى ولّوا مدبرين يلاحقهم العار و الخزي (2).

و احتلّت جيوش الإمام الفرات، و أراد أصحابه أن يقابلوا جيش معاوية بالمثل فيحرموهم من الماء، فأبى الإمام عليه السّلام و عاملهم معاملة المحسن الكريم، فخلّى بين أعدائه و بين الماء، و كانت هذه طبيعته التي تحكي الشرف و الإحسان و البرّ، و ليس أي شيء منها في نفس معاوية، فقد كانت نزعاته الشريرة اللؤم و الخسّة.

الإمام مع الشامي:

شخص رجل من أهل الشام إلى الإمام عليه السّلام حينما كان في صفّين، فقدّم له

ص:157


1- العزالى: جمع عزلاء، و هي فم المزادة شبه بها اتّساع الطعنة، و اندفاق الدماء منها، و النفح: الدفع.
2- وقعة صفّين: 185.

السؤال التالي:

يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أ كان بقضاء من اللّه تعالى و قدره ؟ فأجابه الإمام:

«نعم، يا أخا أهل الشّام، و الّذي فلق الحبّة، و برأ النّسمة! ما قطعنا واديا، و لا علونا تلعة إلاّ بقضاء من اللّه و قدره...».

إنّ جميع مجريات الأحداث بيد اللّه تعالى، و ليس للإنسان أي شأن فيها، و انبرى الشامي قائلا:

عند اللّه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين، و ما أظنّ لي أجرا في سعيي إذا كان اللّه قضاه عليّ و قدّره...

و ردّ الإمام عليه شبهة الجبر قائلا:

«و لم ؟ بل عظّم اللّه أجركم في مسيركم و أنتم مصعدون، و في منحدركم و أنتم منحدرون، و ما كنتم في شيء من اموركم مكرهين، و لا إليها مضطرّين».

و سارع الشامي قائلا:

و كيف ذاك، و القدر ساقنا، و عنهما كان مسيرنا و انصرافنا؟ و طفق الإمام يوضّح له الحقيقة التي خفيت عليه قائلا:

«يا أخا أهل الشّام، لعلّك ظننت قضاء لازما، و قدرا حتما، لو كان ذلك كذلك لبطل الثّواب و العقاب، و سقط الوعد و الوعيد، و الأمر من اللّه و النّهي، و ما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء، و المسيء أولى بعقوبة الذّنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، و حزب الشّيطان، و خصماء الرّحمن، و شهداء الزّور، و قدريّة هذه الأمّة و مجوسها، إنّ اللّه تعالى أمر عباده تخييرا،

ص:158

و نهاهم تحذيرا، و كلّف يسيرا، و أعطى على القليل كثيرا، و لم يطع مكرها، و لم يعص مغلوبا، و لم يكلّف عسيرا، و لم يرسل الأنبياء لعبا، و لم ينزل الكتب إلى عباده عبثا، و لا خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما باطلا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ (1).

و بادر الشامي قائلا:

فما القضاء و القدر الذي كان مسيرنا بهما و عنهما؟ فأجابه الإمام عن الحكمة في ذلك قائلا:

«الأمر من اللّه بذلك و الحكم»، ثمّ تلا: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (2).

و اقتنع الشامي بما أدلاه الإمام من الحجج قائلا:

فرّجت عنّي فرّج اللّه عنك يا أمير المؤمنين! ثمّ أنشأ قائلا:

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته يوم الحساب من الرّحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا جزاك ربّك بالإحسان إحسانا (3)

رسل السلام:

اشارة

كان الإمام عليه السّلام متحرّجا كأشدّ ما يكون التحرّج في دماء المسلمين، فقد جهد نفسه على نشر السلم و الوئام، و اجتناب الحرب، فأوفد كوكبة من أصحابه إلى معاوية يدعونه إلى حقن الدماء، و يحذّرونه مغبة ما يحدث من الخسائر بين

ص:159


1- سورة ص: 27.
2- الأحزاب: 38.
3- أمالي المرتضى 150:1-151.

المسلمين، و قد أوفد مثل ذلك في حرب الجمل إلى عائشة و طلحة و الزبير.

و على أي حال فهؤلاء التالية أسماؤهم و حديثهم قد أرسلهم الإمام إلى معاوية.

1 - عدي بن حاتم

اشارة

و في طليعة رسل الإمام إلى معاوية عدي بن حاتم، و هو من أفذاذ أصحاب الإمام، فقد خاطب معاوية قائلا:

أمّا بعد.. فإنّا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع اللّه به كلمتنا و امّتنا، و يحقن اللّه به دماء المسلمين، و ندعوك إلى أفضلهم سابقة و أحسنهم في الإسلام آثارا، و قد اجتمع له الناس و قد أرشدهم اللّه بالذي رأوا فأتوا فلم يبق أحد غيرك، و غير من معك، فأت يا معاوية! من قبل أن يصيبك اللّه و أصحابك بمثل يوم الجمل...

و حفل كلام عدي بالدعوة إلى السلم و الحفاظ على دماء المسلمين و جمع كلمتهم، و الدخول فيما دخل فيه المسلمون من البيعة الشاملة للإمام عليه السّلام.

جواب معاوية:

و ثار معاوية و تميّز غيظا من نصح عدي له، فقال له:

كأنّك إنّما جئت متهدّدا، و لم تأت مصلحا، هيهات يا عدي! كلاّ و اللّه! إنّي لابن حرب ما يقعقع لي بالشنآن (1) أما و اللّه! إنّك لمن المجلبين على ابن عفّان، و إنّك لمن قتلته، و إنّي لأرجو أن تكون ممّن يقتله اللّه، هيهات يا عدي! قد حلبت بالساعد الأشد...

و ليس في كلام معاوية أيّة رغبة في الصلح و حقن الدماء، و إنّما كان مصرّا على

ص:160


1- الشنآن: جمع شن، و هو القربة الخلق يحرّكونها إذا أرادوا الحثّ على السير، مجمع الأمثال - الميداني 191:2.

التمرّد و العصيان و إعلان الحرب.

2 - يزيد بن قيس

اشارة

و انبرى يزيد بن قيس الأرحبي فألقى كلمة رائعة دعى فيها معاوية إلى الحقّ قائلا:

إنّا لم نأتك إلاّ لنبلّغك ما بعثنا به إليك، و لنؤدّي ما سمعنا منك، لن ندع أن ننصح لك، و أن نذكر ما ظننّا أنّ لنا به عليك حجّة، أو أنّه راجع بك إلى الألفة و الجماعة، إنّ صاحبنا لمن قد عرفت، و عرف المسلمون فضله، و لا أظنّه يخفى عليك: إنّ أهل الدين و الفضل لن يعدلوك بعليّ عليه السّلام، و لن يميّلوا بينك و بينه، فاتّق اللّه يا معاوية! و لا تخالف عليّا، فإنّا و اللّه! ما رأينا رجلا قطّ أعمل بالتقوى، و لا أزهد في الدنيا، و لا أجمع لخصال الخير كلّها منه...

و أشاد هذا الخطاب بفضل الإمام عليه السّلام، و أنّه نسخة لا ثاني لها في المسلمين تقوى و ورعا و جهادا و تجرّدا عن متع الحياة و زهوها... و لكنّ ابن هند لم يع منطق الحقّ ، و لم يهتمّ بامور المسلمين فردّ عليه:

جواب معاوية:

و أجاب معاوية بأغاليطه قائلا:

أمّا بعد.. فإنّكم دعوتم إلى الطاعة و الجماعة، فأمّا الجماعة التي دعوتم إليها فنعمّا هي، و أمّا الطاعة إلى صاحبكم فإنّا لا نراها، إنّ صاحبكم قتل خليفتنا، و فرّق جماعتنا، و آوى ثأرنا، و قتلتنا، و صاحبكم يزعم أنّه لم يقتله، فنحن لا نردّ ذلك عليه، أ رأيتم قتلة صاحبنا؟ أ لستم تعلمون أنّهم أصحاب صاحبكم ؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، و نحن نجيبكم إلى الطاعة و الجماعة...

و حفل خطاب معاوية بالكذب و النفاق، فقد عزى قتل عثمان إلى الإمام،

ص:161

و هو يعلم براءته من دمه، و إنّما الذي أجهز عليه منحه الثراء العريض لبني اميّة و آل أبي معيط ، و تنكيله بخيار الصحابة أمثال أبي ذرّ و عمّار بن ياسر و عبد اللّه بن مسعود، و منحه الوظائف المهمّة في الدولة لاسرته و غير ذلك ممّا اقترفه، الأمر الذي أثار عليه غضب الأخيار و المتحرّجين في دينهم فقتلوه، و ليس للإمام أي دور أو ضلع في قتله، كما ألمحنا إلى ذلك في البحوث السابقة.

3 - شبث بن ربعي:

و انبرى شبث بن ربعي فقال لمعاوية:

أ يسرك باللّه يا معاوية! إن أمكنك من عمّار بن ياسر تقتله ؟ إنّ عمّارا هو من المحرّضين على قتل عثمان فاندفع معاوية قائلا:

و ما يمنعني من ذلك، و اللّه! لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة ما قتلته بعثمان، و لكن كنت قتلته بنائل مولى عثمان بن عفّان...

و أي قيمة لعمّار عند معاوية الذي لم يفقه من قيم الإسلام شيئا؟ إنّ عمّار بن ياسر أجلّ صحابي، و أسمى شخصية في الإسلام، فقد ساهم مساهمة إيجابية في إقامة صروح الدين، و استشهد أبوه ياسر و أمّه سميّة في سبيل الإسلام، و كان من أقرب الصحابة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من أكثرهم مودّة و حبّا له، و من الطبيعي أنّ معاوية لا يحفل به و لا يقيم له أي وزن.

و على أي حال فقد غضب شبث من كلام معاوية، و قال له:

و إله السماء! ما عدلت معدلا، لا و اللّه الذي لا إله إلاّ هو! لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال، و تضيق الأرض من الفضاء عليك برحبها...

و رجع الوفد إلى الإمام عليه السّلام و أخبروه بعدم نجاحهم في وفادتهم، و أنّ معاوية

ص:162

مصرّ على الحرب و العصيان (1).

الاستعداد للحرب:

و لمّا فشلت جميع الوسائل التي اتّخذها الإمام من أجل السلم و حقن الدماء عبّأ أصحابه للحرب، و كذلك عبّأ معاوية جيشه للقتال.

تعاليم الإمام:

و أوعز الإمام عليه السّلام إلى جيشه بتطبيق ما يلي في ميادين الحرب قائلا لهم:

«لا تقاتلوا القوم حتّى يبدءوكم، فأنتم - بحمد اللّه - على حجّة و ترككم إيّاهم حتّى يبدءوكم حجّة اخرى لكم عليهم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، و لا تجهزوا على جريح، و لا تكشفوا عورة، و لا تمثّلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، و لا تدخلوا دارا إلاّ بإذن، و لا تأخذوا شيئا من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم، و لا تهيّجوا امرأة بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم؛ فإنّهنّ ضعاف القوى» (2).

و مثّلت هذه التعاليم شرف القيادة العسكرية في الإسلام، و التي اتّخذها فقهاء المسلمين منهجا في حروب المسلمين بعضهم لبعض، و لم يكونوا قبل ذلك على علم بها.

دعاء الإمام:

و نظر الإمام الممتحن بأسى بالغ و حزن عميق إلى الجيوش الإسلامية و قد

ص:163


1- وقعة صفّين: 221-224.
2- وقعة صفّين: 266. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 346:8-347.

استعدّت لتحارب بعضها فذابت نفسه أسى، و راح يدعو اللّه تعالى بهذا الدعاء.

«اللّهمّ ربّ هذا السّقف المرفوع، المكفوف المحفوظ ، الّذي جعلته مغيض اللّيل و النّهار، و جعلت فيها مجاري الشّمس و القمر، و منازل الكواكب و النّجوم، و جعلت ساكنه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة.

و ربّ هذه الأرض الّتي جعلتها قرارا للنّاس، و الأنعام و الهوامّ ، و ما نعلم و ما لا نعلم، ممّا يرى، و ممّا لا يرى من خلقك العظيم.

و ربّ الجبال الّتي جعلتها للأرض أوتادا، و للخلق متاعا.

و ربّ البحر المسجور المحيط بالعالم.

و ربّ السّحاب المسخّر بين السّماء و الأرض.

و ربّ الفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس، إن أظفرتنا على عدوّنا، فجنّبنا الكبر، و سدّدنا للرّشد، و إن أظفرتهم علينا فارزقنا الشّهادة، و اعصم بقيّة أصحابي من الفتنة» (1).

و أنت ترى في هذا الدعاء مدى تبتّل الإمام و انقطاعه إلى اللّه تعالى و طلبه للسداد منه، و أن يجنّبه البغي و العدوان في هذه الحرب.

التحام الجيشين:

و استعدّ الإمام عليه السّلام للحرب فخرج لابسا لامة حربه، و كان على ميمنة جيشه عبد اللّه بن بديل الخزاعي، و على ميسرته عبد اللّه بن عباس، و قرّاء العراق، و من بينهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، و باقي الصحابة الأجلاّء، فاستقبلتهم جحافل

ص:164


1- وقعة صفّين: 232.

جيوش الشام، و التحمت معهم في معركة رهيبة، و قد أبلى الجيش العراقي بلاء حسنا، و زرع الرعب و الخوف في جند معاوية، و استمرّت الحرب، فلمّا حلّ شهر المحرّم توقّف القتال.

معاوية يحرّض أصحابه على اغتيال الإمام:

و طلب معاوية من قادة جيشه و فرسانهم اغتيال الإمام فقال لهم:

إنّ عليّا يخرج في سرعان الخيل فمن ينتدب له ؟ فقام إليه عبد الرحمن بن خالد، فقال: أنا له. فأمره معاوية بالجلوس لأنّه ليس خفيفا في الحرب.

و قام عبد الرحمن العكّيّ ، فقال: أنا له. فمنعه معاوية لأنّه كان عجولا.

و قام عمرو بن الحصين السّكوني فقال: أنا له.

فقال معاوية: أنت له حقّا، فخرج مع عكّ و الصّدف.

و خرج الإمام على عادته إلى ساحة الحرب فترقّبه السكوني، و حمل عليه من خلفه، فلمّا كاد أن يطعنه اعترضه سعيد بن قيس الهمداني فطعنه طعنة نجلاء قصم بها صلبه، فالتفت الإمام إلى خلفه فرأى السكوني صريعا، و رأى رجلا من ذي رعين قد قتله سعيد أيضا فجزع عليهما معاوية جزعا شديدا، و نظم سعيد بن قيس هذه الأبيات:

لقد فجعت بفارسها رعين كما فجعت بفارسها السّكون

غداة أتى أبا حسن عليّا و أمّ النقع مشبلة طحون

ليطعنه فقلت له: خذنها مسوّمة يخفّ لها القطين

أقول له: و رمحي في صلاه و قد قرّت بمصرعه العيون

ألا يا عمرو عمرو بن الحصين و كلّ فتى ستدركه المنون

ص:165

أ ترجو أن تنال إمام صدق أبا حسن و ذا ما لا يكون

لقد بكت السّكون عليك حتى وهت منها النواظر و الجفون

ألا أبلغ معاوية بن حرب و رجم الغيب يكشفه اليقين

بأنّا لا نزال لكم عدوّا طوال الدهر ما سمع الحنين

أ لم تر أنّ والينا عليّا أب برّ و نحن له بنون

و أنّا لا نريد سواه يوما و ذاك الرّشد و الحقّ المبين

و إنّ له العراق و كلّ كبش حديد القرن ترهبه القرون (1)

استئناف الحرب:

و استؤنفت العلميات الحربية بعد تصرّم محرّم إلاّ أنّها لم تكن عامّة، و إنّما كانت متقطّعة، تخرج الكتيبة للكتيبة و الفرقة للفرقة، و قد سئم الفريقان هذه الحرب المتقطّعة و تعجّلوا الحرب العامّة، فعبّأ الإمام جيوشه تعبئة عامّة و كذلك فعل معاوية، و التحم الجيشان التحاما رهيبا، و اقتتلوا أبرح قتال، و أشدّه و انكشفت ميمنة جيش الإمام انكشافا ذريعا بلغ حدّ الهزيمة، و قاتل الإمام و معه الحسنان (2) ، و انحاز الإمام إلى ميسرة جيشه، و كانت فيها ربيعة، و قد بذلت من الجهد أقساه، و كان قائلهم يقول:

لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن اصيب عليّ .

و اشتدّ القتال، و قد تحالفت ربيعة على الموت و صمدت في ميادين الحرب، و رجعت ميمنة الإمام إلى حالها من التماسك، و كان ذلك بفضل القائد الملهم الزعيم مالك الأشتر، و استمرّت الحرب على حالها من العنف.

ص:166


1- خزانة الأدب 77:8-78.
2- أنساب الأشراف 305:1.

الإمام يدعو معاوية للبراز:

و برز الإمام في ساحة الحرب و نادى رافعا صوته:

يا معاوية! فالتفت معاوية إلى جماعته، و قال لهم:

اسألوه ما شأنه ؟ أحب أن يظهر لي فاكلّمه كلمة واحدة..

و خرج معاوية و معه ابن العاص، و هما يحتميان بالجند، فوجّه الإمام خطابه إلى معاوية قائلا:

«ويحك! علام يقتتل النّاس بيني و بينك، و يضرب بعضهم بعضا؟ ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له...».

و التفت معاوية إلى ابن العاص فقال له:

ما ترى يا أبا عبد اللّه ؟ لقد أنصفك الرجل.

و التاع معاوية من كلام ابن العاص، و قال له بعنف:

ليس من مثلي يخدع عن نفسه، و اللّه! ما بارز ابن أبي طالب رجلا قطّ إلاّ سقى الأرض من دمه...

و انصرف معاوية مغيظا محنقا يطارده الرعب و الفزع، و تأثّر من ابن العاص، و حقد عليه لمّا أشار عليه بمبارزة الإمام، فقد أشار عليه بالموت و الهلاك، و قال له يعاتبه بهذه الأبيات:

يا عمرو إنّك قد قشرت لي العصا برضاك في وسط العجاج برازي

يا عمرو إنّك قد أشرت بظنّة إنّ المبارز كالجديّ النّازي

ص:167

ما للملوك و للبراز و إنّما حتف المبارز خطفة للبازي

و لقد أعدت فقلت مزحة مازح و المزح يحمله مقال الهازي

فإذا الذي منّتك نفسك خاليا قتلي جزاك بما نويت الجازي

فلقد كشفت قناعها مذمومة و لقد لبست بها ثياب الخازي

فأجابه عمرو:

أيّها الرجل! أ تجبن عن خصمك، و تتّهم نصيحتك ؟ و أجابه عن شعره بهذه الأبيات:

معاوي إن نكلت عن البراز لك الويلات فانظر في المخازي

معاوي ما اجترمت إليك ذنبا و ما أنا في التي حدثت بخازي

و ما ذنبي بأن نادى عليّ و كبش القوم يدعى للبراز

فلو بارزته بارزت ليثا حديد النّاب يخطف كلّ بازي

و يزعم أنّني أضمرت غشّا جزاني بالذي أضمرت جازي

أضبع في العجاجة يا ابن هند و عند الباه كالتّيس الحجازي (1) ؟

و كيف يستطيع هذا الجبان الصعلوك أن يبارز أسد اللّه الذي حصد ببتّاره رءوس المشركين من قريش و أنزل بهم الهزيمة و العار.

مبارزة الإمام لابن العاص:

و برز ابن العاص في بعض أيام صفّين إلى ساحة الحرب، فتصدّى له الإمام، فلمّا عرفه انخلع قلبه و جمد دمه، و كشف عن عورته، فصرف الإمام وجهه عنه حياء و خجلا، و قال أصحاب الإمام له:

ص:168


1- وقعة صفّين: 311-313.

أفلت الرجل يا أمير المؤمنين ؟ أ تدرون من هو؟ لا.

إنّه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه...

و رجع ابن العاص إلى معاوية، فقال له:

ما صنعت يا عمرو؟ لقيني عليّ فصرعني...

فسخر معاوية و قال مستهزئا به:

احمد اللّه و عورتك...

و تلى معاوية على ابن العاص هذه الأبيات:

ألا للّه من هفوات عمرو يعاتبني على تركي برازي

فقد لاقى أبا حسن عليّا فآب الوائليّ مآب خازي

فلو لم يبد عورته للاقى به ليثا يذلّل كلّ نازي

له كفّ كأن براحتيها منايا القوم يخطف خطف بازي

فإن تكن المنايا أخطأته فقد غنّى بها أهل الحجاز (1)

و قد بقيت هذه الحادثة لطخة عار و خزي على ابن العاص المجرم الجبان الذي لا يرجو للّه وقارا، و قد وقع مثل ذلك من الخبيث الدنس بسر بن أبي أرطأة فقد كشف عورته حينما برز له الإمام عليه السّلام فأعرض عنه، هؤلاء الجبناء هم أعمدة السياسة الأمويّة.

ص:169


1- وقعة صفّين: 463-464.

مصرع الشهيد الخالد عمّار:

أمّا عمّار بن ياسر فهو من أفضل صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من أكثرهم جهادا في الإسلام، و كان أثيرا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقد أخلص له في الحبّ كأعظم ما يكون الإخلاص، و قد اثرت في حقّه بعض الآيات و الروايات، و بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لازم وصيّه و باب مدينة علمه، و قد آمن إيمانا لا يخامره شكّ أو وهم أنّ الإمام أولى بمركز النبيّ ، و أحقّ بمقامه، و قد احتفّ به و ناصره، و جاهد معه في حرب الجمل، و في أيام صفّين كان عضدا للإمام، و قد بلغ ذروة الشيخوخة فقد ناهز التسعين عاما أو أكثر من ذلك، و كان قلبه و بصيرته بمأمن من الشيخوخة، فكان في معركة صفّين نشطا قويا كأنّه في ريعان الشباب، و قد حارب ابن العاص و هو يشير إلى رايته قائلا:

و اللّه! إنّ هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات، و ما هذه بأرشدهنّ ...

و كان يبعث الحماس و العزم في جيش الإمام قائلا لهم:

و اللّه! لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و هم على الباطل...

و يقول الرواة إنّه جلس مبكّرا في يوم من أيام صفّين، و قد ازداد قلبه و جيبا و شوقا إلى ملاقاة حبيبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ملاقاة أبويه الشهيدين ياسر و سميّة، فخفّ مسرعا نحو الإمام يطلب منه الإذن ليلج في الحرب لعلّه يرزق الشهادة و عرض ذلك على الإمام فلم يسمح له بذلك، و ظلّ يعاود الإمام مستأذنا على ذلك، فلم تطب نفس الإمام بالسماح له، و راح يلحّ عليه فلم يجد بدّا من إجابته، فأذن له، و قد ذابت نفس الإمام حزنا عليه، و قد أجهش بالبكاء.

و انطلق عمّار إلى ساحة الحرب و هو جذلان فرح بما سيصير إليه من الشهادة و ملاقاة الأحبّة و قد رفع صوته عاليا:

اليوم ألقى الأحبّه محمّدا و حزبه...

ص:170

و كان صاحب الراية و القائد لتلك الكتيبة الصحابي الجليل هاشم بن عتبة المرقال، و هو من فرسان المسلمين و خيارهم، و أحبّهم للإمام، و أخلصهم له، و كان أعور فاتّجه عمّار نحوه و جعل يحرّضه على الهجوم فتارة يقول له برفق:

احمل فداك أبي و أمّي...

و اخرى يقول له بشدّة و عنف:

تقدّم يا أعور...

و هاشم يقول لعمّار بأدب و لطف و تكريم:

رحمك اللّه يا أبا اليقظان! إنّك رجل تستخفّ بالحرب، و إنّي إنّما أزحف زحفا لعلّي أبلغ ما اريد...

و لم يزل عمّار يحرّض هاشما على الحملة حتى ضجر فحمل و هو يرتجز:

قد أكثروا لومي و ما أقلاّ إنّي شربت النّفس لن اعتلاّ

أعور يبغي نفسه محلاّ لا بدّ أن يفلّ أو يفلاّ

قد عالج الحياة حتّى ملاّ أشدّهم بذي الكعوب شلاّ

و دلّ هذا الرجز على سأم هاشم من الحياة، و شوقه إلى ملاقاة اللّه تعالى، و جال معه في ميدان الحرب عمّار و هو يقاتل أعنف القتال و يرتجز:

نحن ضربناكم على تنزيله و اليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

لقد قاتل عمّار و جاهد بإيمان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دفاعا عن الإسلام، و اليوم يقاتل مع أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دفاعا عن تأويل القرآن و دفاعا عن إمام المسلمين، فما أعظم عائدة عمّار على الإسلام!

ص:171

و التحم بطل الإيمان عمّار مع القوى الباغية التحاما رهيبا، و لمّا رأى ذلك معاوية اضطرب و قال: هلكت العرب إن أخذتهم خفّة العبد الأسود يعني عمّارا... (1).

و بينما عمّار يقاتل قتال الأبطال إذ حمل عليه رجس من أرجاس البشرية و هو أبو العادية الفزاري فطعنه طعنة قاتلة فهوى إلى الأرض ذلك الصرح الشامخ من العقيدة و الإيمان يتخبّط بدمه المعطّر بالشهادة في سبيل اللّه تعالى.

و أضرّ العطش بعمّار و هو ينزف دما فبادرت إليه امرأة بلبن، فلمّا رآه تبسّم و راح يقول:

قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «آخر شرابك من الدّنيا ضياح من لبن، و تقتلك الفئة الباغية...».

و لم يلبث قليلا حتى صعدت روحه الطاهرة إلى اللّه تحفّها الملائكة المقرّبون، و قد انطوت بشهادته أروع صفحة مشرقة بالإيمان و الجهاد.

لقد سمت روح عمّار إلى اللّه تعالى و هي تحمل جميع ألوان الجهاد و الإيمان و الإخلاص و الحبّ للّه تعالى.

و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام برحا و مضطربا لم يقرّ له قرار حينما برز عمّار إلى ساحة الجهاد فكان يقول بأسى بالغ:

«فتّشوا لي عن ابن سميّة...».

و انطلقت فصيلة من الجيش تبحث عنه فوجدته قتيلا مضمّخا بدم الشهادة، فانبرى بعضهم مسرعا إلى الإمام فأخبره بشهادته، و وقع النبأ على الإمام كالصاعقة فقد انهارت قواه، و انهدّ ركنه، و أحاطت به موجات من الألم القاسي،

ص:172


1- وقعة صفّين: 384.

و مشى لمصرعه كئيبا حزينا، و عيناه تفيضان دموعا، و سار معه قادة الجيش، و هم يذرفون الدموع.

و لمّا انتهى الإمام عليه السّلام إلى الجثمان المقدّس ألقى بنفسه عليه و جعل يوسعه تقبيلا و أخذ يؤبّنه بحرارة قائلا:

«إنّ امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمّار - و يدخل عليه بقتله مصيبة موجعة - لغير رشيد.

رحم اللّه عمّارا يوم أسلم.

و رحم اللّه عمّارا يوم قتل.

و رحم اللّه عمّارا يوم يبعث حيّا.

لقد رأيت عمّارا ما يذكر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة إلاّ كان الرّابع، و لا خمسة إلاّ كان الخامس، و ما كان أحد من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله يشكّ في أنّ عمّارا قد وجبت له الجنّة في غير موطن و لا اثنين، فهنيئا لعمّار الجنّة».

و أخذ الإمام رأس البطل الشهيد فجعله في حجره و دموعه على وجهه الشريف، و هو يبدي حزنه و أساه عليه، و يقول:

ألا أيّها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كلّ خليل

أراك بصيرا بالذين احبّهم كأنّك تسعى نحوهم بدليل

و انبرى الإمام الحسن عليه السّلام سبط النبيّ فألقى كلمة في تأبينه كما أبّنه قادة الجيش، ثمّ قام الإمام الثاكل الحزين الذي فقد أعزّ أنصاره و أصحابه فواروا جثمان الشهيد العظيم في مقرّه الأخير، و قد واروا معه الإيمان و التقوى، و نكران الذات، و قد دفنه الإمام عليه السّلام بثيابه و لم يغسّله عملا بالسنّة في دفن الشهيد.

ص:173

وقوع الفتنة في جيش معاوية:

و لمّا اذيع مقتل عمّار وقعت الفتنة في جيش معاوية، فقد سمع الجميع مقالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حقّه: «تقتله الفئة الباغية» فقد اتّضح لهم أنّهم الفئة الباغية التي عناها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان ابن العاص من بين الذين رووا حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عمّار تقتله الفئة الباغية، و شاع ذلك عنه في أوساط أهل الشام، فتراجع بعض العارفين من أصحاب معاوية و التحقوا بالإمام كان منهم العنسي، و هو القائل:

و الرّاقصات بركب عامدين له إنّ الذي جاء من عمرو لمأثور

قد كنت أسمع و الأنباء شائعة هذا الحديث فقلت الكذب و الزّور

حتّى تلقّيته من أهل عيبته فاليوم أرجع و المغرور مغرور

و اليوم أبرأ من عمرو و شيعته و من معاوية المحدو به العير

لا لا اقاتل عمّارا على طمع بعد الرّواية حتّى ينفخ الصّور

تركت عمرا و أشياعا له نكدا إنّي بتركهم يا صاح معذور

يا ذا الكلاع فدع لي معشرا كفروا أو لا فديتك عين فيه تعزير

ما في مقال رسول اللّه في رجل شكّ و لا في مقال الرّسل تحبير (1)

و أنت ترى في هذا الشعر مدى التراجع الذي لا حق العنسي، فقد بانت له الحقيقة و آمن أنّ معاوية و ابن العاص على باطل لا شكّ فيه، و أنّ الحقّ مع عمّار و مع الإمام عليه السّلام.

و غضب معاوية على ابن العاص لروايته الحديث في عمّار و انتفخ سحره فقال له بغضب:

أفسدت عليّ أهل الشام، أ كلّ ما سمعته من رسول اللّه تقوله ؟

ص:174


1- وقعة صفّين: 390-391.

فقال ابن العاص: قلتها و لست و اللّه! أعلم الغيب، و لا أدري أنّ صفّين تكون (1) و نظم في ذلك هذه الأبيات:

تعاتبني أن قلت شيئا سمعته و قد قلت - لو أنصفتني - مثله قبلي

أرجلك فيما قلت رجل ثبيتة و تزلق بي في مثل ما قلته رجلي ؟

و ما كان لي علم بصفّين أنّها تكون و عمّار يحثّ على قتلي

فلو كان لي بالغيب علم كتمتها و كابدت أقواما مراجلهم تغلي

أبى اللّه إلاّ أنّ صدرك واغر عليّ بلا ذنب جنيت و لا ذحل

سوى أنّني، و الرّاقصات عشيّة بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل

و ردّ عليه معاوية بهذه الأبيات:

فقلت لك القول الذي ليس ضائرا و لو ضرّ لم يضررك حملك لي ثقلي

فعاتبتني في كلّ يوم و ليلة كأنّ الذي ابليك ليس كما ابلي

فيا قبّح اللّه العتاب و أهله أ لم تر ما أصبحت فيه من الشّغل

فدع ذا، و لكن هل لك اليوم حيلة تردّ بها قوما مراجلهم تغلي ؟

دعاهم عليّ فاستجابوا لدعوة أحبّ إليهم من ثرى المال و الأهل

إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل 2

و قد صوّرت هذه الأبيات هلع معاوية و خوفه من الإمام عليه السّلام الذي استجابت له جماهير المسلمين، و استطابوا الموت دونه، و هو زاحف بهم إلى قتاله.

و على أي حال فقد أوجد قتل عمّار زلزالا في جيش معاوية، و تمرّدا في كتائبه

إلاّ أنّ ابن العاص قد استطاع بمكره و خداعه أن يضلّل الجماهير فقال لهم:

ص:175


1- وقعة صفّين: 390-391.

إنّ الذي قتل عمّارا هو الذي أخرجه إلى حومة الحرب و آمن الغوغاء من أهل الشام بمقالته، و نقل إلى الإمام عليه السّلام قوله فردّ عليه قائلا:

«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الّذي قتل حمزة و جعفرا لأنّه أخرجهما للحرب».

و فنّد الإمام بذلك المنطق الرخيص لابن العاص.

ليلة الهرير:

أمّا ليلة الهرير فهي أقسى ليلة و أشدّها هولا و عنفا في جميع حروب صفّين، و قد وصفها الرواة بأنّ الجيشين زحف بعضهما إلى بعض فتراموا بالنبل و الحجارة حتى فنيت، ثمّ تطاعنوا بالرماح حتى تكسّرت، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيف و عمد الحديد فلم يسمع السامع إلاّ وقع الحديد بعضه على بعض، و هو أشدّ هولا في صدور الرجال من الصواعق و من جبال تهامة يدكّ بعضها بعضا، و بقوا على هذا الصراع العنيف حتى انكشفت الشمس، و ثار القتام و ظلّت الألوية و الرايات قائمة و المعارك مستمرة، ثمّ اجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل لم يصلّوا للّه صلاة، و استمر القتال حتى أصبحوا و كانت الضحايا سبعين ألف قتيل من الفريقين، و كان الإمام في قلب الجيش و الأشتر يزحف بجنده، و هو يقول لهم:

ازحفوا قيد رمحي هذا، فإذا فعلوا ذلك قال لهم: ازحفوا قاب هذا القوس (1) و لم يزل القتال مستمرّا حتى تفلّلت جميع قوى معاوية، و بان عليه الانكسار و همّ بالفرار إلاّ أنّه تذكّر قول ابن الأطنابة:

أبت لي همّتي و أبى بلائي و إقدامي على البطل المشيح

ص:176


1- وقعة صفّين: 390-391.

و إعطائي على المكروه مالي و أخذي الحمد بالثّمن الرّبيح

و قولي كلّما جشأت و جاشت مكانك تحمدي أو تستريحي

و قد ردّه هذا الشعر إلى الصبر و الثبات كما كان يتحدّث بذلك أيام الملك و السلطان.

خطاب الإمام:

و لمّا بان الانكسار الهائل في معسكر الطاغية ابن أبي سفيان، و تفلّلت جميع كتائبه العسكرية قام الإمام عليه السّلام خطيبا في جيشه فقال بعد حمد اللّه تعالى و الثناء عليه:

«أيّها النّاس، قد بلغ بكم الأمر و بعدوّكم ما قد رأيتم، و لم يبق منهم إلاّ آخر نفس، و إنّ الامور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها، و قد صبر لكم القوم على غير دين حتّى بلغنا منهم ما بلغنا، و أنا غاد عليهم بالغداة احاكمهم إلى اللّه عزّ و جلّ ...».

و احتدم القتال كأشدّه، و زحف القائد العام مالك الأشتر و قد أحرز الفتح، و لم يبق على الاستيلاء على معاوية الذي فرّق كلمة المسلمين و ألقاهم في شرّ عظيم إلاّ حلبة شاة أو عدوة فرس، و قد شاءت المقادير عكس ذلك.

مهزلة رفع المصاحف:

إنّ أبشع مهزلة في التاريخ البشري و أسوأ كارثة مني بها المسلمون على امتداد التأريخ هي مكيدة رفع المصاحف، و قد وصفها «راوجوست ميلر» بأنّها من أبشع المهازل و أسوئها في التاريخ البشري (1).

ص:177


1- العقيدة و الشريعة في الإسلام: 190.

و اعتقد أنّ هذه المكيدة القاصمة لم تكن وليدة المصادفة أو المفاجأة، فقد حيكت اصولها قبل هذا الوقت، فقد كان ابن العاص الماكر الخبيث وزير معاوية على اتّصال دائم ببعض القادة في الجيش العراقي، كان من بينهم الخبيث العميل الأشعث بن قيس مع جماعة من قادة الجيش العراقي، و جرت بينهم و بين ابن العاص اتّصالات سرّية احيطت بكثير من الكتمان بتدبير مؤامرة انقلابية في جيش الإمام، و ذهب إلى هذا الرأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قائلا:

«فما استبعد أن يكون الأشعث بن قيس و هو ماكر أهل العراق و داهيتهم قد اتّصل بعمرو بن العاص ماكر أهل الشام و داهيتهم و دبّرا هذا الأمر بينهم تدبيرا، و دبّرا أن يقاتلوا القوم فإن ظهر أهل الشام فذاك، و إن خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب عليّ ، و جعلوا بأسهم بينهم شديدا» (1).

و على أي حال فقد بدت الهزيمة المنكرة في جيش معاوية، و انهارت جميع قواه العسكرية، ففزع إلى ابن العاص، و قال له بذعر و خوف:

إنّما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفصيل، فما ترى ؟ و أشار عليه ابن العاص قائلا:

إنّ رجالك لا يقومون لرجاله، و لست مثله، هو يقاتلك على أمر، و أنت تقاتله على أمر آخر، أنت تريد البقاء، و هو يريد الفناء، و أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، و أهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم، و لكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا، و إن ردّوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك و بينهم، فأنت بالغ به حاجتك في القوم، فإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.

و استطاب معاوية رأي ابن العاص، و عرف صدق نصيحته، فمعاوية يقاتل

ص:178


1- الفتنة الكبرى 89:2.

الإمام من أجل الملك و السلطان، و الإمام يقاتله من أجل الإسلام و إقامة حكم اللّه في الأرض.

و على أي حال فقد أوعز معاوية برفع المصاحف أمام الجيش العراقي، فرفعت زهاء خمسمائة مصحف، و تعالت أصوات أهل الشام بلهجة واحدة:

يا أهل العراق! هذا كتاب اللّه بيننا و بينكم من فاتحته إلى خاتمته من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام ؟ و من لثغور أهل العراق بعد أهل العراق ؟ و من لجهاد الروم ؟ و من للترك ؟ و من للكفّار؟ و كانت هذه الهتافات التي تعالت من أهل الشام كالصاعقة على رءوس الجيش العراقي، فقد انقلب رأسا على عقب، فخلع طاعة الإمام و مني بانقلاب مدمّر، و راح الإمام الممتحن يحذّر جيشه من هذه الدعاوى المضلّلة و يفنّد مزاعم معاوية قائلا:

يا لسوء الأقدار! يا للأسف! يا للمصيبة العظمى! لقد أحاطت تلك الوحوش الكاسرة و البهائم المخدوعة بالإمام المظلوم الممتحن، و كان عددهم زهاء عشرين ألفا، و هم مقنّعون بالحديد، شاكّون بالسلاح، قد اسودّت وجوههم من السجود، يتقدّمهم مسعر بن فدكيّ ، و زيد بن حصين، و عصابة من القرّاء، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين قائلين:

يا عليّ ، أجب القوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت إليه، و إلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فو اللّه لنفعلنّها إن لم تجبهم...

فردّ عليهم الإمام قائلا و الأسى ملء فؤاده:

«ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب اللّه، و أوّل من أجاب إليه، و ليس يحلّ لي

ص:179

و لا يسعني في ديني أن ادعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله، إنّي إنّما اقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم و نقضوا عهده و نبذوا كتابه، و لكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم و أنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون...».

لقد نصحهم الإمام و دلّهم على زيف هذه الحيلة، و إنّما لجئوا إليها لفشلهم في العمليات العسكرية، و أنّهم لم يقصدوا بها إلاّ خداعهم...

و من المؤسف أنّ تلك الوحوش لم يعوا منطق الإمام، و انخدعوا بهذه المكيدة، و راحوا في غيّهم يعمهون، و قد جلبوا لأنفسهم و لأمّتهم الدمار و الهلاك، فاندفعوا كالموج صوب الإمام بأصوات عالية قائلين:

أجب القوم...

أجب القوم و إلاّ قتلناك...

و في طليعة هؤلاء المنافق الخبيث الأشعث بن قيس الذي كان على اتّصال وثيق بابن العاص، فقد تسلّح بهؤلاء المتمرّدين، و هو ينادي بقبول التحكيم، و الاستجابة لدعوة أهل الشام.

و لم يجد الإمام بدّا من إجابتهم فأصدر أوامره بإيقاف عمليات الحرب، و قد ذاب قلبه الشريف ألما و حزنا فقد أيقن بزوال دولة الحقّ ، و انتصار دولة الظلم و البغي و أنّ دماء جيشه التي سفكت في سبيل اللّه قد ضاعت و ذهبت سدى.

و أصرّ عليه اولئك الأقزام بسحب قائده العام مالك الأشتر من ساحة الحرب، و كان الأشتر قد أشرف على نهاية الفتح، و لم يبق بينه و بين النصر الحاسم إلاّ حلبة شاة أو عدوة فرس، فأرسل إليه الإمام بإيقاف العمليات العسكرية، فلم يعن مالك بما امر به، و قال لرسول الإمام:

قل لسيّدي ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي،

ص:180

إنّي قد رجوت اللّه أن يفتح لي، فلا تعجلني...

و قفل الرسول راجعا إلى الإمام، و أخبره بمقالة مالك، فارتفعت أصوات اولئك الوحوش بالإنكار على الإمام قائلين له:

و اللّه! ما نراك أمرته إلاّ أن يقاتل...

و امتحن الإمام المظلوم كأشدّ ما يكون الامتحان، فقال لهم:

أ رأيتموني ساررت رسولي إليه، أ ليس إنّما كلمته على رءوسكم علانية، و أنتم تسمعون ؟ و لم يستجيبوا لقول الإمام، و أصرّوا على تمرّدهم و غيّهم قائلين:

ابعث إليه فليأتك و إلاّ فو اللّه! اعتزلناك...

و أجمعوا على الشرّ و العدوان قائلين بعنف:

ابعث إليه فليأتك...

و أجمعوا على الفتك بالإمام و مناجزته، فلم يجد الإمام بدّا من إصدار أوامره المشدّدة إلى مالك بالانسحاب الفوري عن ساحة الحرب، فاستجاب الأشتر على كره، و قد انهارت قواه، فقال لرسول الإمام:

أ لرفع هذه المصاحف حدثت هذه الفتنة ؟ نعم.

و عرف الأشتر أنّ مكيدة ابن العاص قد أوجدت هذا الانقلاب في جيش الإمام، فقال بحرارة و ألم:

أما و اللّه! لقد ظننت أنّها - أي رفع المصاحف - ستوقع اختلافا و فرقة، إنّها مشورة ابن العاهرة - يعني عمرو بن العاص - أ لا ترى إلى الفتح ؟! أ لا ترى إلى ما يلقون ؟

ص:181

أ لا ترى ما يصنع اللّه بهم ؟ أ يبتغي أن ندع هذا و ننصرف عنه ؟ و أحاطه رسول الإمام علما بحراجة الموقف و الأخطار الهائلة المحدقة بالإمام قائلا:

أ تحبّ أنّك إن ظفرت هاهنا، و أنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرّج عنه، و يسلّم إلى عدوّه...

فقال الأشتر مقالة المؤمن الممتحن:

سبحان اللّه لا و اللّه! ما أحبّ ذلك.

و طفق رسول الإمام يخبر الأشتر بحراجة الموقف، و ما احيط به الإمام من أخطار قائلا:

إنّهم قالوا: لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفّان، أو لنسلمنّك إلى عدوّك...

و قفل الأشتر راجعا، و قد ذهبت نفسه شعاعا، فقد تحطّمت آماله، و ضاعت أهدافه، و خسر المعركة بعد أن أشرف على الظفر، و طلب من اولئك الممسوخين أن يخلّوا بينه و بين عدوّهم الذي سفك دماءهم، و حصد رءوس أخيارهم، و أنزل أفدح الخسائر الموجعة بهم فلم يذعنوا له، و لم يستجيبوا لقوله، و طلب منهم قائلا:

أمهلوني عدوة الفرس فإنّي قد طمعت في النصر.

فردّوا عليه بشراسة و عنف قائلين:

إذن ندخل معك في خطيئتك...

و انبرى الأشتر يحاججهم ببالغ الحجّة، و يفنّد ببرهانه ما ذهبوا إليه قائلا:

فحدّثوني عنكم، و قد قتل أماثلكم، و بقي أراذلكم، متى كنتم محقّين ؟

ص:182

أ حين كنتم تقتلون أهل الشام، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال محقّون، فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم و كانوا خيرا منكم في النار...

و لم تجد معهم هذه الحجج، و راحوا مصرّين على جهلهم و غيّهم الذي جرّ للمسلمين الويلات و الكوارث، و ألقاهم في شرّ عظيم...

و اندفع هؤلاء الممسوخون قائلين للأشتر:

دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في اللّه إنّا لا نطيعك، فاجتنبنا...

و أخذ الأشتر يمعن في نصحهم، و يحذّرهم مغبة هذه الفتنة العمياء، و أنّهم لا يرون عزّا أبدا، و فعلا فقد صاروا بعد هذا التمرّد أذلّ من قوم سبأ، فقد آل الأمر إلى معاوية فأخذ يسومهم سوء العذاب و يسقيهم كأسا مصبرة.

و طلب مالك من الإمام أن يناجزهم الحرب فأبى لأنّهم كانوا الأكثرية الساحقة في جيشه، و فتح باب الحرب معهم يؤدّي إلى أفظع النتائج لأنّهم يقعون فريسة سائغة بأيدي الأمويّين.

و أطرق الإمام الممتحن برأسه إلى الأرض، و قد طافت به موجات من الألم القاسي، و تمثّلت أمامه الأخطار المحدقة بالمسلمين، فلم يكلّم هؤلاء الوحوش بكلمة، و راحوا يهتفون:

إنّ عليّا أمير المؤمنين قد رضي الحكومة، و رضي بحكم القرآن...

و غرق الإمام في تيارات قاسية و موجعة من الألم الممضّ ، فقد مني بانقلاب مدمّر في جيشه و لا يستطيع أن يعمل أي شيء، و راح يقول:

«لقد كنت أمس أميرا، فأصبحت اليوم مأمورا، و كنت ناهيا فأصبحت اليوم منهيّا...».

و تركهم يتخبّطون في دياجير قائمة أدّت إلى هلاكهم، و انتصار الجور و الطغيان عليهم.

ص:183

التحكيم:

و انتصر معاوية، و طار فرحا على ما آل إليه جيش الإمام من التمرّد و العصيان و كتب إلى الإمام رسالة جاء فيها:

أمّا بعد... عافانا اللّه و إيّاك فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا و الالفة بيننا، و قد فعلت و أنا أعرف حقّي، و لكن اشتريت بالعفو صلاح الامّة، و لا أكثر فرحا بشيء جاء و لا ذهب، و إنّما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحقّ فيما بين الباغي و المبغيّ عليه، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فدعوت إلى كتاب اللّه فيما بيننا و بينك فإنّه لا يجمعنا و إيّاك إلاّ هو، نحيي ما أحيا القرآن، و نميت ما أمات القرآن، و السلام.

و حفلت هذه الرسالة بالكذب و النفاق، فهل معاوية بن هند يعرف القرآن و يخضع له و هو و أبوه و أمّه و معهم الكثير من الاسر القرشية قد كفروا بالقرآن و آمنوا بأصنامهم و أوثانهم ؟ و لم يعرض معاوية إلى دم عثمان في رسالته، و إنّما عرض إلى الكذب السافر، فقد أعرب أنّه يبغي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أي معروف هذا الذي ينشده هذا الذئب الجاهلي ؟ و أي منكر ينكره ؟ و هو الذي سفك دماء المسلمين و أغرق البلاد بالمحن و الخطوب ؟

رسالة الإمام لابن العاص:

و كتب الإمام رسالة لابن العاص يعظه و يرشده إلى اتّباع الحقّ ، و جاء في رسالته:

«أمّا بعد.. فإنّ الدّنيا مشغلة عن غيرها، و لم يصب صاحبها منها شيئا إلاّ فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة، و لن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلغه،

ص:184

و من وراء ذلك فراق ما جمع، و السّعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أبا عبد اللّه أجرك، و لا تجار معاوية في باطله...» (1).

و لم يستجب ابن العاص للإمام و كتب له الرسالة التالية:

أمّا بعد... فإنّ ما فيه صلاحنا و إلف ذات بيننا الإنابة إلى الحقّ ، و قد جعلنا القرآن حكما بيننا فأجبنا إليه، و صبّر الرجل منّا نفسه على ما حكم عليه القرآن، و عذره الناس بعد المحاجزة، و السلام (2).

و أصرّ ابن العاص على غيّه و أطماعه، و كتب له الإمام رسالة اخرى فأعرض عنها، و لم يتجاوب مع الإمام، و تمسّك بابن هند. و على أي حال فلم تقف محنة الإمام و بلاؤه عند هذا الحدّ من عصيان جيشه، فقد تجاوز الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك، فقد حيكت مؤامرة دبّرها الأشعث مع جماعة من قادة الجيش إلى انتخاب الأشعري الخامل المنافق الذي هو من ألدّ أعداء الإمام، و من أكثرهم حقدا عليه، ليقوم بتنفيذ المؤامرة، و هي عزل الإمام عن الحكم.

و أقبل الأشعث عميل الأمويّين يلهث كأنّه الكلب، فقال للإمام:

يا أمير المؤمنين، ما أرى الناس إلاّ قد رضوا، و سرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد و نظرت ما الذي يسأل ؟ فرمقه الإمام بطرفه، و لم يجد وسيلة لصدّه عمّا يريد، فقال له:

«ائته إن شئت...».

و راح المنافق العميل يركض صوب معاوية، فلمّا انتهى إليه قال له:

ص:185


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 268:4.
2- وقعة صفّين: 569-571.

- يا معاوية، لأيّ شيء رفعتم المصاحف ؟ - لنرجع نحن و أنتم إلى ما أمر اللّه به في كتابه، فابعثوا منكم رجلا ترضون به، و نبعث منّا رجلا نرضى به، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب اللّه، لا يعدوانه، ثمّ نتّبع ما اتّفقا عليه...

و كان بين الأشعث اتّفاق سرّي على ذلك، فراح الأشعث يقول:

هذا هو الحقّ ...

و قفل راجعا إلى الإمام، و أخبره بالأمر، و تعالت أصوات العراقيّين قائلين:

رضينا و قبلنا...

و لم يكن للإمام أي دور في ذلك.

و صاح أهل الشام:

رضينا و اخترنا عمرو بن العاص.

و أحاط العراقيّون بالإمام و لهم هرير كهرير الكلاب قائلين:

إنّا رضينا بأبي موسى الأشعري.

فزجرهم الإمام و نهاهم عن انتخابه قائلا:

«إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه و نظره من عمرو بن العاص، و أنّه لا يصلح للقرشيّ إلاّ مثله، فعليكم بعبد اللّه بن عبّاس فارموه به، فإنّ عمرا لا يعقد عقدة إلاّ حلّها عبد اللّه، و لا يبرم أمرا إلاّ نقضه...».

فردّ عليه الأشعث المنافق قائلا:

لا و اللّه! لا يحكم فينا مضريان حتّى تقوم الساعة، و لكن اجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر.

فأجابه الإمام:

ص:186

«إنّي أخاف أن يخدع يمنّيكم، فإنّ عمرا ليس من اللّه في شيء إذا كان له في أمر هوى...».

و قام الخبيث الدنس ابن الكوّاء، فقال للإمام: هذا عبد اللّه بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و صاحب مقاسم أبي بكر و عامل عمر، و قد رضي به القوم.

و امتنعوا أشدّ الامتناع من ترشيح ابن عبّاس، و أجمعوا على انتخاب الغبي المنافق الأشعري، و لم يجد الإمام بدّا من إجابتهم، و قد سجّلوا لهم العار و الخزي، و هجاهم أيمن بن خريم الأسدي بقوله:

لو كان للقوم رأي يعصمون به من الضّلال رموكم بابن عبّاس

للّه درّ أبيه أيّما رجل ما مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس

إن يخل عمر به يقذفه في لجج يهوي به النّجم تيسا بين أتياس

أبلغ لديك عليّا غير عاتبه قول امرئ لا يرى بالحقّ من باس

ما الأشعريّ بمأمون أبا حسن فاعلم هديت و ليس العجز كالراس

فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهم إنّ ابن عمّك عبّاس هو الآسي (1)

و بادر أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام فحذّره من انتخاب الأشعري قائلا:

يا أمير المؤمنين، لا ترض بأبي موسى فإنّي قد عجنت الرجل و بلوته فحلبت أشطره، فوجدته قريب القعر (2) مع أنّه يماني (3).

ص:187


1- وقعة صفّين: 576.
2- من لطائف التعبير قول أبي الأسود: فوجدته قريب القعر.
3- أمالي المرتضى 292:1.

و على أي حال فقد ارغم الإمام على انتخاب الأشعري الذي جرّ للعراقيّين الويل و العطبا.

وثيقة التحكيم:

و لمّا اتّفق الفريقان على تحكيم ابن العاص و الأشعري، سجّلا وثيقة على ذلك، و جاء فيها بعد البسملة:

هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان، و شيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، قضيّة عليّ على أهل العراق و من كان من شيعته من شاهد أو غائب، و قضيّة معاوية على أهل الشام و من كان من شيعته من شاهد أو غائب.

إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم، و أن نقف عند أمره فيما أمر، و أن لا يجمع بيننا إلاّ ذلك، و إنّا جعلنا كتاب اللّه فيما بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، و نميت ما أمات، على ذلك تقاضيا و به تراضيا، و إنّ عليّا و شيعته رضوا أن يبعثوا عبد اللّه بن قيس ناظرا و محاكما، و رضي معاوية و شيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا و محاكما على أنّهما أخذوا عليهما عهد اللّه و ميثاقه و أعظم ما أخذ اللّه على أحد من خلقه، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثا له، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه مسطورا، و ما لم يجداه مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجامعة لا يتعمدان لهما خلافا، و لا يتبعان في ذلك لهما هوى، و لا يدخلان في شبهة.

و أخذ عبد اللّه بن قيس و عمرو بن العاص على عليّ و معاوية عهد اللّه و ميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس لهما أن ينقضا ذلك و لا يخالفاه إلى غيره، و أنّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما و أموالهما و أهلهما ما لم يعدوا

ص:188

الحقّ ، رضي بذلك راض أو أنكره منكر، و أنّ الأمّة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل، فإن توفّي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته و أصحابه يختارون رجلا مكانه لا يألون عن أهل المعدلة و الأقساط على ما كان صاحبه من العهد و الميثاق، و الحكم بكتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و له مثل شرط صاحبه و إن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه رجلا يرضون عدله، و قد وقعت القضيّة و معها الأمن و التفاوض و وضع السلاح و السلام و الموادعة، و على الحكمين عهد اللّه و ميثاقه ألاّ يألوا اجتهادا و لا يتعمّدا جورا، و لا يدخلا في شبهة، و لا يعدوا حكم الكتاب و سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإن لم يفعلا برئت الأمّة من حكمهما، و لا عهد لهما و لا ذمّة، و قد وجبت القضيّة على ما قد سمّي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين و الحكمين و الفريقين، و اللّه أقرب شهيد و أدنى حفيظ ، و الناس آمنون على أنفسهم و أهليهم و أموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل، و السلاح موضوع، و السبل مخلاّة، و الغائب و الشاهد من الفريقين سواء في الأمن.

و للحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق و أهل الشام، و لا يحضرهما إلاّ من أحبّا عن ملأ منهما و تراض، و أنّ المسلمين قد أجّلوا القاضيين إلى انسلاخ رمضان فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجّلاها، و إن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإنّ ذلك إليهما، فإن هما لم يحكما بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب، و لا شرط بين واحد من الفريقين، و على الأمّة عهد اللّه و ميثاقه على التمام و الوفاء بما في هذا الكتاب، و هم يد على من أراد فيه إلحادا و ظلما أو حاول له نقضا... (1).

و قد وقّع على هذه الوثيقة جمهرة من الفريقين، و ليس فيها سوى الدعوة إلى

ص:189


1- وقعة صفّين: 578-580، و رواها الطبري في الجزء السادس، ص 30 و لكن بصورة أوجز ممّا عليه هنا.

السلم و عدم إراقة الدماء، و ليس فيها أي تعرّض للمطالبة بدم عثمان، فقد أهملت الوثيقة ذلك إهمالا تامّا، و فيما اعتقد أنّه لم يكن للإمام أي رأي في هذه الوثيقة، و إنّما أملاها الشاميّون و عملاؤهم من أهل العراق.

رجوع الإمام إلى الكوفة:

لا أعتقد أن يلمّ أي كاتب بتصوير المحنة الكبرى التي ألمّت بالإمام في رجوعه من صفّين، فقد رجع مثقلا بالآلام و الهموم، فقد أيقن أنّ باطل معاوية قد استحكم و أمره قد تمّ ، و أنّ حكومته قد أفلت، و خبا ضياؤها، و أنّ جيشه قد أصبح متمرّدا عليه يدعوه فلا يستجيب له، و يأمره فلا يطيعه، قد مزّقت الفتن جميع كتائبه و فرقه، فقد رجعوا و هم يتشاتمون و يتضاربون بالسياط ، و يبغي بعضهم على بعض، ففريق منهم يرى ضرورة إيقاف القتال، و البعض الآخر ينكر ذلك، و ينقم على الذاهبين إليه.

و على أي حال فقد انبثقت في جيش الإمام الفكرة الحرورية التي كانت سوسة تنخر في جيش الإمام، و سنتحدّث عنها في الفصول الآتية.

و كان ممّا مني به الإمام من الهوان و الآلام في طريق رجوعه إلى الكوفة أنّه سمع سبّه و شتمه، فقد استقبله قوم فقالوا له:

أ قتلت المسلمين بغير جرم، و داهنت في أمر اللّه، و طلبت الملك، و حكّمت الرجال في دين اللّه لا حكم إلاّ اللّه...

و بلغ الحزن و الأسى أقساهما في نفس الإمام، و قال لهم:

«حكم اللّه في رقابكم، ما يحبس أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم»؟ ثمّ جاء حتى دخل الكوفة (1).

1

ص:190


1- الغارات 30:1.

اجتماع الحكمين:

و انتهت المدّة التي عيّنها الفريقان للتحكيم، و قد استردّ معاوية فيها قواه العسكرية التي فقدها أيام صفّين، فأرسل إلى الإمام يطلب منه الوفاء في التحكيم، و إنّما سارع إلى ذلك لعلمه بما مني به جيش الإمام من التفكّك و الانحلال و التخاذل، كما كان على يقين لا يخامره شكّ أنّ التحكيم سيكون من صالحه لأنّ المنتخب له من قبل العراقيّين الأشعري و هو من الدّ أعداء الإمام، و من الحاقدين عليه و أنّه لا ينتخب الإمام.

و على أي حال فقد أشخص العراقيّون الخامل الغبي الأشعري أخزاه اللّه و معه أربعمائة شخص من أصحابه كان من بينهم حبر الامّة عبد اللّه بن عباس يقيم فيهم الصلاة، و كذلك الشخص الماكر ابن العاص و معه أربعمائة شخص من أهل الشام، و التقوا بدومة الجندل أو في أذرح، و كان ابن العاص قد أفرد للأشعري مكانا خاصّا، و جعل يقدّم له أطائب الطعام و الشراب حتى استنبطه و أرشاه، و لم يفتح معه الحديث ثلاثة أيام حتى صار العوبة بيده يوجّهه حيث ما شاء، و أخذ يضفي عليه النعوت الحسنة و الألقاب الكريمة، و كان من بنود حديثه معه.

يا أبا موسى، إنّك شيخ أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذو فضلها، و ذو سابقتها، و قد ترى ما وقعت فيه هذه الامّة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها، فهل لك أن تكون ميمون هذه الامّة فيحقن اللّه بك دماءها؟ فإنّه يقول في نفس واحدة: وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ، فكيف بمن أحيا هذا الخلق كلّه ؟ إيه يا ابن العاص! متى كان الأشعري الضالّ المضلّ شيخ صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ و متى كان من ذوي الفضائل و السوابق في الإسلام ؟ قاتل اللّه السياسة! فقد بنيت على المكر و الخداع و التضليل، و ليس لها أيّة صلة بالحقّ و الواقع.

ص:191

و على أي حال فقد انخدع هذا القزم الحقير بهذا التكريم و التعظيم، و طفق يسأل ابن العاص عن طرق الاصلاح التي يحقن بها الدماء فقال له:

تخلع أنت عليّ بن أبي طالب، و أخلع أنا معاوية بن أبي سفيان، و نختار لهذه الامّة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة، و لم يغمس يده فيها...

و كان ابن العاص عالما بانحرافه عن الإمام، و يعني بالشخص الذي لم يحضر الفتنة هو عبد اللّه بن عمر، و كان الأشعري يميل إليه، فقال له: من هو؟ عبد اللّه بن عمر.

و سرّ الأشعري بذلك، و انبرى يطلب منه العهود و المواثيق على الالتزام بما قاله قائلا: كيف لي بالوثيقة منك ؟ يا أبا موسى، ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب، خذ من العهود و المواثيق حتى ترضى...

و لم يترك ابن العاص يمينا إلاّ أقسم به. و ما قيمة الأيمان و المواثيق عند ابن العاص ؟ و هو الذي نشأ نشأة جاهلية ؟ و على أي حال فقد انخدع الأشعري بمقالة ابن العاص فأجابه بالرضا و القبول و عيّنا وقتا يذيعان فيه ما اتّفقا عليه.

و أقبلت الساعة الرهيبة التي تنتظرها الجاهير بفارغ الصبر، و اتّجه الماكر ابن العاص و الغبي الأشعري نحو منصّة الخطابة ليعلنا للناس ما اتّفقا عليه، فقال ابن العاص لأبي موسى:

قم فاخطب الناس يا أبا موسى! قم أنت فاخطبهم...

و راح الماكر يخدع الأشعري، و يضفي عليه الألقاب الكريمة، و يبالغ في تعظيمه قائلا:

ص:192

سبحان اللّه! أنا أتقدّم عليك، و أنت شيخ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و اللّه! لا فعلت ذلك أبدا (1).

و غرّت هذه الكلمات المعسولة، التي ألقاها ابن العاص مشاعر الأشعري و عواطفه، و راح يطلب منه الوفاء بما عاهده عليه، فراح يقسم له باللّه تعالى على الوفاء بما قال، و ما أرخص القسم الكاذب عند ابن العاص الذي لا يرجو للّه وقارا! فأقسم له بكلّ يمين بتنفيذ ما قاله، و لم يخف على حبر الامّة زيف يمين ابن العاص، فالتفت إلى الأشعري يحذّره من مكيدة ابن العاص قائلا له:

ويحك! و اللّه! إنّي لأظنّه قد خدعك، إن كنتما قد اتّفقتما على أمر فقدّمه قبلك فليتكلّم، ثمّ تكلّم أنت بعده، فإنّ عمرا رجل غدّار، و لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك و بينه، فإذا قمت للناس خالفك...

و لم يحفل الغبي بكلام ابن عباس، و راح يشتدّ كأنّه الكلب نحو منصّة الخطابة، فلمّا استوى عليها قال:

أيّها الناس، إنّا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن و الصلاح، و لمّ الشعث، و حقن الدماء، و جمع الالفة... خلعنا عليّا و معاوية! فقد خلعت عليّا كما خلعت عمامتي هذه، و أهوى إلى عمامته فخلعها، و استخلفنا رجلا صحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه، و صحب أبوه النبيّ فبرز في سابقته و هو عبد اللّه بن عمر (2).

ص:193


1- العقد الفريد 315:3.
2- تاريخ الطبري 39:6، و جاء في شرح النهج 315:13: روى سويد بن غفلة قال: كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروى لي خبرا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: سمعته يقول: «إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتّى بعثوا حكمين ضالّين، ضلاّ و أضلاّ من اتّبعهما، و لا تنفك أمّتي حتى يبعثوا حكمين يضلاّن و يضلاّن من اتّبعهما» فقلت له: احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما، قال: فخلع قميصه و قال: ابرأ إلى اللّه من ذلك كما برىء قميصي من هذا.

افّ لك يا زمان! و تعسا لك يا دهر! هذا الصعلوك الغبي يتحكّم في رقاب المسلمين ؟ و يعزل وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و باب مدينة علمه، و أبا سبطيه، و البائت على فراشه، و حاميه من كيد الطغاة القرشيّين، و المجاهد الأوّل في الإسلام الذي ليس مثله في نصرته و حمايته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟ إنّ الذي خلع الإمام عليه السّلام، و جعل الأشعري يتحكّم في مصير المسلمين، إنّما هم أعضاء السقيفة و الشورى، و الحكم في ذلك لا يحتاج إلى الدليل فهو واضح وضوح الشمس.

و على أي حال فقد عزل الأشعري الإمام أمير المؤمنين عملاق هذه الامّة، و رائد العدالة الكبرى في الأرض الذي طوّق الدنيا بمواهبه و عبقرياته، و رشّح لخلافة المسلمين عبد اللّه بن عمر الذي لا يحسن طلاق زوجته (على حدّ تعبير أبيه)... حقّا إنّها من مهازل الزمن التي تمثّلت في ذلك العصر الذي أخمدت فيه أضواء الفكر، و أفلت تعاليم القرآن. و مهما يكن الأمر فقد انبرى الماكر الخبيث ابن العاص إلى منصّة الخطابة، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال:

أيّها الناس، إنّ أبا موسى عبد اللّه بن قيس خلع عليّا، و أخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، و هو أعلم به، ألا و أنّي خلعت عليّا معه، و أثبتّ معاوية عليّ و عليكم، و إنّ أبا موسى قد كتب في الصحيفة أنّ عثمان قتل مظلوما (1) شهيدا، و أنّ لوليّه أن يطلب بدمه حيث كان، و قد صحب معاوية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و صحب أبوه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2).

ص:194


1- إنّ الصحيفة التي تمّ الاتّفاق عليها لم يذكر فيها المطالبة بدم عثمان عميد الأمويّين و شيخهم.
2- إنّ أبا سفيان صحب النبيّ في واقعة احد و غيرها من الحروب التي قادها للقضاء على الإسلام.

ثمّ أخذ يضفي على معاوية بن هند صفات المتّقين التي لم يتّصف إلاّ بضدّها و التفت إلى الجماهير فقال لهم:

هو الخليفة علينا، و له طاعتنا و بيعتنا على الطلب بدم عثمان (1).

و اشتدّ الأشعري و هو يلهث نحو ابن العاص بعد ما غدر به و نكث عهده قائلا له:

ما لك ؟ عليك لعنة اللّه، ما أنت إلاّ كمثل الكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (2)...

فزجره ابن العاص قائلا:

لكنّك مثل الحمار يحمل أسفارا...

لقد صدق كلّ منهما في وصف صاحبه، فقد مالا عن الحقّ و اقترفا كلّ ما حرّم اللّه تعالى من إثم و غدر.

لقد جرّ هذا التحكيم الظالم للامّة الكثير من المصاعب و الفتن و ألقاها في شرّ عظيم... فقد ماج الجيش العراقي الذي أجبر الإمام على التحكيم في الفتن، و أيقن بالخيبة و الخسران، و انهزم الأشعري نحو مكّة يصحب معه العار و الخزي له و لذرّيته (3) و لمن رشّحه للتحكيم، فقد غدر بالمسلمين غدرة منكرة و ألقاهم في شرّ عظيم.

ص:195


1- أنساب الأشراف 351:2. الإمامة و السياسة 143:1.
2- الأعراف: 176.
3- احتقر المسلمون ذرّية الأشعري، فقد سمع الفرزدق أبا بردة بن الأشعري يقول: كيف لا أتبختر، و أنا ابن أحد الحكمين، فقال له الفرزدق: أمّا أحدهما - أي الحكمين - فمائق، و أمّا الآخر ففاسق، فكن ابن أيّهما شئت. شرح النهج 353:19. و نظر رجل إلى بعض ولدي أبي موسى يتبختر في مشيته، فقال: أ لا ترون مشيته كأنّ أباه خدع ابن العاص.

افتخار ابن العاص:

افتخر ابن العاص على أهل الشام بما حقّقه من انجاز عظيم في خداعه للغبي الأشعري، و اثر عنه من الشعر اعتزازه بذلك قال:

خدعت أبا موسى خديعة شيظم (1) يخادع سقبا في فلاة من الأرض

فقلت له: إنّا كرهنا كليهما فنخلعهما قبل التّلاتل و الدّحض (2)

فإنّهما لا يغضيان على قذى من الدّهر حتّى يفصلان على أمض (3)

فطاوعني حتّى خلعت أخاهم و صار اخونا مستقيما لدى القبض

و إنّ ابن حرب غير معطيهم الولا و لا الهاشميّ الدهر أو ربع الحمض

و أعرب ابن العاص بهذه الأبيات عن سروره البالغ لخديعته للأشعري و أنّه حقّق الانتصار الكاسح لمعاوية.

و ردّ ابن عبّاس على ابن العاص أبياته بقوله:

كذبت و لكن مثلك اليوم فاسق على أمركم يبغي لنا الشّرّ و العزلا

و تزعم أنّ الأمر منك خديعة إليه و كلّ القول في شأنكم فضلا

فأنتم و ربّ البيت! قد صار دينكم خلافا لدين المصطفى الطيّب العدلا

أ عاديتم حبّ النّبيّ و نفسه فما لكم من سابقات و لا فضلا

فأنتم و ربّ البيت! أخبث من مشى على الأرض ذا نعلين أو حافيا رجلا

غدرتم و كان الغدر منكم سجيّة كأن لم يكن حرثا و لا لم يكن نسلا (4)

ص:196


1- الشيظم: الطويل الجسم، الفتى من الناس. و السقب: ولد الناقة.
2- التلاتل: الشدائد. الدحض: الزلل.
3- الأمض: الباطل.
4- وقعة صفّين: 633.

فرح الشاميّين:

و لمّا شاع أمر التحكيم و اذيعت نتائجه فرح الشاميّون كأشدّ ما يكون الفرح و طابت نفوسهم بفوز معاوية و افول دولة الحقّ ، و شمتوا بالعراقيّين، و قد أعلن ذلك شاعرهم كعب بن جعيل بقوله:

كأنّ أبا موسى عشيّة أذرح يطوف بلقمان الحكيم يواربه

فلمّا تلاقوا في تراث محمّد نمت بابن هند في قريش مضاربه

سعى بابن عفّان ليدرك ثأره و أولى عباد اللّه بالثأر طالبه

و قد غشيتنا في الزّبير غضاضة و طلحة إذ قامت عليه نوادبه

فردّ ابن هند ملكه في نصابه و من غالب الأقدار فاللّه غالبه

و ما لابن هند في لؤيّ بن غالب نظير و إن جاشت عليه أقاربه

فهذاك ملك الشّام واف سنامه و هذاك ملك القوم قد جبّ غاربه

يحاول عبد اللّه عمرا و إنّه ليضرب في بحر عريض مذاهبه

دحا دحوة نجلاء أودت بنفسه إلى أسفل المهوى ظنون كواذبه (1)

و أنت ترى في هذا الشعر الاستهانة بالأشعري، و أنّه ليس أهلا لأن يكون كفؤا لابن العاص، و الشماتة من الشاعر ظاهرة في العراقيّين الذين لم يقرّروا مصيرهم الحاسم بعد أن أشرفوا على الفتح فكان مثلهم كالتي نقضت غزلها.

رسالة ابن العاص لمعاوية:

و بعث ابن العاص إلى سيّده معاوية رسالة يهنّيه بما أحرزه من النصر في خديعته للأشعري، و ما أحدثه من الفتن و الاختلاف في جيش الإمام، و كتب في

ص:197


1- وقعة صفّين: 632.

آخر الكتاب هذه الأبيات:

أتتك الخلافة مزفوفة هنيئا مريئا تقرّ العيونا

تزفّ إليك كزفّ العروس بأهون من طعنك الدّار عينا

و ما الأشعريّ بصلد الزّناد و لا خامل الذّكر في الأشعرينا

و لكن اتيحت له حيّة يظلّ الشجاع لها مستكينا

فقالوا و قلت و كنت امرأ أجهجه بالخصم حتّى يلينا

فخذها ابن هند على بأسها فقد دافع اللّه ما تحذرونا

و قد صرف اللّه عن شامكم عدوّا شنيّا و حربا زبونا (1)

لقد أقام ابن العاص بمكره و سياسته دولة معاوية، و أنقذها من السقوط بعد ما أشرف الجيش العراقي على الفتح و الانتصار.

مآسي الإمام:

و لمّا انتهى النبأ المفزع و المؤلم بأمر التحكيم إلى الإمام القاضي بخلعه بلغ به الحزن أقصاه، و ذهبت نفسه شعاعا ألما و أسى، فجمع الناس فخطب فيهم خطابا صعد فيه آلامه و أحزانه على مخالفة أمره بعدم إيقاف القتال، و الاستجابة لنداء عدوّه الماكر الذي قضى على ما أحرزه جيشه من النصر الحاسم يقول عليه السّلام:

«الحمد للّه و إن أتى الدّهر بالخطب الفادح، و الحدث الجليل، و أشهد أن لا إله إلا اللّه لا شريك له، ليس معه إله غيره، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، صلّى اللّه عليه و آله.

أمّا بعد، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب تورث الحسرة، و تعقب

ص:198


1- وقعة صفّين: 547.

النّدامة.

و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، و نخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة، و المنابذين العصاة، حتّى ارتاب النّاصح بنصحه، و ضنّ الزّند بقدحه، فكنت أنا و إيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى فلم تستبينوا الرّشد إلاّ ضحى الغد

ألا إنّ الرّجلين اللّذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما، و ارتأيا الرّأي من قبل أنفسهما، فأماتا ما أحياه القرآن، ثمّ اختلفا في حكمهما، فكلاهما لا يرشد و لا يسدّد فبرئ اللّه منهما و رسوله و صالح المؤمنين، فاستعدّوا للجهاد، و تأهّبوا للمسير، و أصبحوا في معسكركم يوم الإثنين إن شاء اللّه (1).

و توالت المحن الكبرى على إمام العدل و الحقّ يتبع بعضها بعضا، فقد أفلت دولته، و انهارت حكومته، فقد تمرّد عليه جيشه كأشدّ ما يكون التمرّد، فكان يأمره فلا يطيع، و يدعوه فلا يستجيب، قد مزّقه معاوية، و عبث به و ذلك بما كان يرسل من الأموال إلى قادة الجيش حتى آثروه على الإمام، و قد قيل لرجل من بني تغلب:

آثرتم معاوية على عليّ ؟ فقال: ما آثرناه، و لكنّا آثرنا العنب الأصفر و البرّ الأحمر و الزيت الأخضر (2).

و بالإضافة إلى ذلك فقد انبثقت في الجيش العراقي فكرة الخوارج و كانت سوسة تنخر في جسم الجيش، و تدعوه إلى التمرّد و العصيان و هذا ما سنتحدّث عنه.

1

ص:199


1- نهج البلاغة 85:1.
2- الامتاع و المؤانسة 63:2.

ص:200

تمرّد المارقين

اشارة

ص:201

ص:202

من المحن الشاقّة التي امتحن بها الإمام امتحانا عسيرا هي الفتنة الكبرى التي مني بها جيشه، فقد فتن برفع المصاحف من قبل أهل الشام الذين طويت أعلامهم و خسروا المعركة فلجئوا إلى هذه الحيلة التي خدع بها القرّاء في جيش الإمام، و تبنّوها بصورة إيجابية، فأحاطوا بالإمام من كل جانب شاهرين السيوف في وجهه رافعين أصواتهم: ندعى إلى كتاب اللّه تعالى و لا نجيب ؟! و وبّخهم الإمام، و أقام لهم الحجج البالغة على زيف ما ذهبوا إليه، فلم تجد معهم شيئا، فتركهم و شأنهم، و لمّا أصرّوا ثانيا على انتخاب الأشعري نهاهم عنه، و أمرهم بانتخاب ابن عباس فلم يذعنوا له، و لمّا آل التحكيم إلى تلك الصورة الهزيلة ندموا على ما فرّطوا في أمر الامّة و أنفسهم، و رفعوا شعارهم ملوّحين به، و داعين إليه، و هو «لا حكم إلاّ للّه»، و سرعان ما تحوّل هذا الشعار إلى حكم النطع و السيف، و إشاعة الرعب و الخوف بين الناس،

و قد علّق الإمام على شعارهم بقوله: «كلمة حقّ يراد بها باطل».

لقد انغمس الخوارج في الباطل، و ماجوا في الجهل و الضلال، فلم يملكوا أي وعي ديني أو سياسي، كما لم يفقهوا شيئا من القيم الإسلامية و التعاليم الدينية.

استعداد الإمام لحرب معاوية:

و تهيّأت قوات الإمام لحرب معاوية، و التحقت بها كتائب من أهل البصرة، و سار الإمام بجيشه لمناجزة أهل الشام، و لكنّه لم يلبث إلاّ قليلا حتّى وافته الأنباء

ص:203

بتمرّد الخوارج، و إعلانهم العصيان المسلّح، و قد أقاموا في النهروان، و أخذوا يعيثون في الأرض فسادا، فاستحلّوا دماء المسلمين، و قالوا بكفر من لا يذهب لرأيهم، و قد اجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد اللّه بن خباب بن الأرت فسألوه عن اسمه فأخبرهم به، ثمّ سألوه عن انطباعاته عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فأثنى عليه، فاستشاطوا غضبا، و قاموا فأوثقوه كتافا، و أقبلوا به، و بالسيّدة زوجته، و كانت حبلى قد أشرفت على الولادة فجاؤوا بهما تحت نخلة فسقطت منها رطبة، فبادر إليها بعضهم فألقاها في فيه، فأنكروا عليه ذلك، فألقاها من فمه، و شهر بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لأهل الذمّة فقتله، فصاح به بعضهم قائلا إنّ هذا من الفساد في الأرض، فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه، فلمّا نظر عبد اللّه إلى شدّة احتياطهم في أموال الناس اطمأنّ ، و قال لهم:

إن كنتم صادقين فيما أرى ما عليّ منكم بأس، و اللّه! ما أحدثت حدثا في الإسلام و إنّي لمؤمن، و قد آمنتموني، و قلتم: لا روع عليك.. فلم يحفلوا بكلامه، و عمدوا إليه فسحبوه و ألقوه على الخنزير الذي قتلوه و ذبحوه و أقبلوا على امرأته و هي ترتعد من الخوف فقالت لهم مسترحمة:

أنا امرأة أ ما تتّقون اللّه ؟ و لم تلن قلوب اولئك الممسوخين التي ران عليها الباطل، فذبحوها، و بقروا بطنها، و عمدوا إلى ثلاث نسوة كانت معها فقتلوهنّ ، و فيهنّ أمّ سنان الصيداوية، و كانت قد صحبت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و أخذ هؤلاء الوحوش ينشرون الرعب بين الناس، فأوفد الإمام للقياهم الحرث بن مرّة العبدي ليسألهم عن الفساد الذي أحدثوه، و يطلب منهم تسليم من استحلّ منهم قتل الأنفس التي حرّم اللّه إزهاقها بغير الحقّ ، فلمّا قرب منهم عمدوا إلى قتله، و لم يدعوه يدلي برسالة الإمام إليهم.

ص:204

قتال الإمام للمارقين:

و خاف أصحاب الإمام من السير لحرب معاوية، و يتركوا الخوارج من ورائهم يستبيحون أموالهم و أعراضهم من بعدهم، فانكشفت نواياهم التخريبية بقتلهم عبد اللّه بن خبّاب و زوجته، فطلبوا من الإمام مناجزتهم فإذا فرغوا منهم ساروا لحرب معاوية، فأجابهم الإمام إلى ذلك، و سار بجيشه حتّى انتهى إلى النهروان حيث كانوا يقيمون فيه، فأرسل إليهم أن يمكّنوه من قتلة عبد اللّه بن خبّاب ليقتصّ منهم، و يمضي إلى قتال معاوية فأجابوه جميعا بلهجة واحدة:

ليس بيننا و بينك إلاّ السيف إلاّ أن تقرّ بالكفر، و تتوب كما تبنا...

فردّ عليهم الإمام قائلا:

«أصابكم حاصب (1) ، و لا بقي منكم آبر (2). أبعد إيماني باللّه، و جهادي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه، أشهد على نفسي بالكفر! قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (3)! فأوبوا شرّ مآب، و ارجعوا على أثر الأعقاب.

أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، و سيفا قاطعا، و أثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة» (4).

و أخذ الإمام عليه السّلام يعظهم تارة، و يراسلهم اخرى، فجعل كثير منهم يتسلّلون و يعودون إلى الكوفة، و قسم منهم التحق بجيش الإمام، و فريق آخر اعتزل الحرب، و لم يبق منهم إلاّ ذو الثفنات عبد اللّه بن وهب الراسبي زعيمهم و معه ثلاثة آلاف.

ص:205


1- الحاصب: ريح شديدة.
2- الآبر: الذي يؤبّر النخل، أي يصلحه.
3- الأنعام: 56.
4- نهج البلاغة 159:1.

و لمّا يئس الإمام من هدايتهم عبّأ جيشه تعبئة عامّة، و أمرهم أن لا يبدءوهم بقتال حتى يكونوا هم الذين يبدءون به، و لمّا نظر الخوارج إلى تهيئة الإمام للحرب تهيّأوا أيضا، و كانت نفوسهم تتحرّق إلى الحرب، و هتف بعضهم:

هل من رائح إلى الجنة ؟ فصاحوا جميعا:

الرواح إلى الجنّة، و حملوا حملة منكرة على جيش الإمام و هم يهتفون بشعارهم:

«لا حكم إلاّ للّه».

و انفرجت لهم خيل الإمام فرقتين: فرقة تمضي إلى الميمنة، و فرقة تمضي إلى الميسرة، و الخوارج اندفعوا بين الفرقتين فتلقّاهم أصحاب الإمام بالنبل و ما هي إلاّ ساعة حتى قتلوا عن آخرهم، و لم يفلت منهم إلاّ تسعة (1).

و قيل للإمام:

هلك القوم بأجمعهم.

و راح الإمام يخبرهم بما أخبره به النبي صلّى اللّه عليه و آله من أنّهم لم يهلكوا جميعا، و أنّه سيدين بفكرتهم من في أصلاب الرجال قائلا:

«كلاّ و اللّه! إنّهم نطف في أصلاب الرّجال، و قرارات النّساء (2) ، كلّما نجم منهم قرن قطع، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين».

ص:206


1- الملل و النحل - الشهرستاني 159:1، و جاء فيه أنّه انهزم منهم اثنان إلى عمان، و اثنان إلى كرمان، و اثنان إلى سجستان، و اثنان إلى الجزيرة، و واحد إلى تل موزون، و أخذ هؤلاء يبثّون فكرتهم في هذه المواضع حتى ظهرت فيها بدعة الخوارج.
2- قرارات النساء: أرحامهنّ .

و لمّا وضعت الحرب أوزارها طلب الإمام عليه السّلام أن يلتمسوا له ذا الثدية (1) في القتلى، ففتّشوا عنه فلم يظفروا به، فعادوا إليه و أخبروه أنّهم لم يجدوه، فأمرهم بالبحث عنه ثانيا و قال:

«و اللّه! ما كذبت و لا كذّبت، و يحكم التمسوا الرّجل فإنّه في القتلى».

فانطلقوا يبحثون عنه، فظفر به رجل من أصحابه و هو جثّة هامدة، فمضى

ص:207


1- جاء في الإصابة 484:1 في ترجمته عن أنس أنّه قال: كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجل يعجبنا تعبّده، و قد ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يعرفه، فبينما نحن في ذكره إذ طلع علينا الرجل، فقلنا له: يا رسول اللّه، هو هذا؟ فلمّا نظر إليه قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّكم لتخبروني عن رجل انّ وجهه لسفعة - السفعة العلامة - من الشيطان». فأقبل حتى وقف و لم يسلّم، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «انشدك اللّه! هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل منّي أو خير منّي»؟ قال: نعم، ثمّ دخل يصلّي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من يقتل الرجل ؟». فقال أبو بكر: أنا، فمضى إليه فوجده يصلّي. فقال: سبحان اللّه! أقتل رجلا يصلّي، و قد نهى رسول اللّه عن قتل المصلّين، فخرج فقال له رسول اللّه: «ما فعلت ؟». فقال: كرهت أن أقتله و هو يصلّي، و أنت قد نهيت عن قتل المصلّين. فقال صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: «من يقتل الرجل ؟». فقال عمر: أنا، فمضى إليه فوجده يصلّي، و قد وضع جبهته على الأرض، فقال عمر: أبو بكر أفضل منّي ثمّ خرج فقال له رسول اللّه: «ما فعلت ؟». فقال عمر: وجدته واضعا وجهه للّه فكرهت أن أقتله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من يقتل الرجل ؟». فقال الإمام: أنا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنت له إن أدركته»، فمضى الإمام فوجده قد خرج، فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بالأمر. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لو قتل ما اختلف من أمّتي رجلان كان أوّلهم و آخرهم سواء».

مسرعا إلى الإمام فأخبره بذلك، فخرّ الإمام ساجدا و كذلك فعل بعض أصحابه، ثمّ رفع رأسه من السجود و هو يقول: «ما كذبت و لا كذّبت، قتلتم شرّ النّاس» (1).

و حدّث الإمام أصحابه بما سمعه من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في شأن ذي الثدية قائلا:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لي:

«سيخرج قوم يتكلّمون بكلام الحقّ ، لا يجاوز حلوقهم، يخرجون من الحقّ خروج السّهم - أو مروق السّهم -، سيماهم أنّ فيهم رجلا مخدج اليد (2) في يده شعرات سود، فإن كان فيهم فقد قتلتم شرّ النّاس».

و أمر الإمام بإحضار جثّته، فاحضرت له، فكشف عن يده فإذا على منكبه ثدي كثدي المرأة، و عليها شعرات سود تمتدّ حتى تحاذي باطن يده الاخرى، فإذا تركت عادت إلى منكبه، فلمّا رأى الإمام ذلك خرّ ساجدا، ثمّ إنّ الإمام عمد إلى القتلى من الفريقين فدفنهم، و قسّم بين أصحابه سلاح الخوارج الذين سمّوا بالشراة (3) ، ثمّ ردّ الأمتعة و العبيد إلى أهليهم كما فعل مثل ذلك بأصحاب الجمل.

و انتهت بذلك حرب النهروان التي تفرّعت من رفع المصاحف، و قد أسفرت عن تشكيل حزب ثوري عنيف ظهر في الإسلام، قد أخذ على نفسه التمرّد و إعلان الثورة على الحكومات القائمة في بلاد المسلمين، ممّا أدّى إلى إراقة أنهار من الدماء

ص:208


1- حلية الأولياء 99:7، و جاء فيه عن محمّد بن قيس الهمداني، قال: كنت مع عليّ يوم النهروان فقال: «التمسوا ذا الثدية»، فجعلوا لا يجدونه، فجعل جبين عليّ يرشح عرقا و يقول: «ما كذبت و لا كذّبت فالتمسوه» فوجدوه في دالية أو جدول فأتي به إلى عليّ فخر ساجدا... الخ.
2- أي ناقص إليه، و الخداج - بكسر الخاء -: النقصان.
3- سمّي الخوارج بالشراة لقولهم: إنّا شرينا أنفسنا في طاعة اللّه، جاء ذلك في خزانة الأدب 74:8.

و إشاعة الفتنة و الخلاف بين المسلمين.

لقد كان البارز في أنظمة الخوارج الحكم بكفر من لا يدين بنظامهم من المسلمين، و استباحة دمائهم و أموالهم.1

ص:209

ص:210

افول دولة الحقّ

اشارة

ص:211

ص:212

و أعقبت حرب صفّين و النهروان أعظم المحن، و أشدّها هولا و قسوة على الإمام، و لم يمتحن بها وحده، و إنّما امتحن بها العالم الإسلامي، فقد أخرجته من الدعة و الاستقرار، و أخلدت له المحن و الويلات.

لقد أفلت دولة الحقّ و دولة المظلومين و المضطهدين، و غاب نجمها، و انتصرت الوثنية القرشية التي يمثّلها معاوية بن أبي سفيان، فقد أعلن انتصاره الحاسم على الإمام بقوله:

لقد حاربت عليّا بعد صفّين بغير جيش، و لا عناء و لا عتاد (1).

لقد لانت لابن هند الرقاب، و خضعت له الوجوه و الأعيان، و أعلن أنّه الحاكم العامّ على جميع الأقاليم الإسلامية.

أمّا الإمام فقد طويت أعلام دولته، و أصبح بمعزل تامّ عن السلطة السياسية و العسكرية، فقد مني جيشه بانقلاب مدمّر، و أصبح يدعو فلا يستجيب له أحد، و كانت القوى المعارضة له و على رأسها الخوارج تعلن معارضتها له، و تواجهه بأقسى ألوان السبّ من دون أن تخشى معاقبته،

فقد قطع الباغي الأثيم ابن الكوّاء عليه خطابه، و خاطبه بالآية الكريمة:

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2) ، فأجابه الإمام الممتحن بقوله تعالى: فَاصْبِرْ

ص:213


1- أنساب الأشراف: 200:1.
2- الزمر: 65.

إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (1).

و على أي حال فإنّا نعرض إلى بعض الأحداث القاسية، و المتارك الفظيعة التي مني بها الإمام بعد واقعة صفّين و النهروان و هي:

تفلّل جيش الإمام:

و تفلّلت جميع القوّات العسكرية في جيش الإمام و انهارت انهيارا فظيعا، و شاعت فيها الفرقة و الاختلاف، و لم تعد قوّة صلبة يأوي إليها الإمام، و يحتمي بها من جيش معاوية الذي أصبح متماسكا قويّا يتمتّع بالطاعة الكاملة لقيادته.

يقول البلاذري: إنّ معاوية أرسل عمارة بن عقبة إلى الكوفة يتجسّس له عن حالة جيش الإمام فكتب إليه، خرج على عليّ أصحابه و نسّاكهم فسار إليهم فقتلهم، فقد فسد عليه جنده و أهل مصره، و وقعت بينهم العداوة، و تفرّقوا أشدّ الفرقة.

و التفت معاوية - و قد ملأ وجهه السرور - إلى الوليد بن عقبة فقال له و هو غارق في الضحك:

أ ترضى أن يكون أخوك لنا عينا؟ فضحك الوليد، و قال لمعاوية: إنّ لك في ذلك حظّا و نفعا، و قال الوليد لأخيه عمارة:

فإن يك ظنّي بابن امّي صادقا عمارة لا يطلب بذحل و لا وتر

مقيم و اقبال ابن عفّان حوله فيمشي بها بين الخورنق و الجسر

و تمشي رخيّ البال منتشر القوى كأنّك لم تشعر بقتل ابنها عمرو (2)

ص:214


1- الروم: 60.
2- حياة الإمام الحسين 86:2، نقلا عن أنساب الأشراف.

لقد منيت القوّات العسكرية في جيش الإمام بالفتنة و الخلاف و السأم من الحرب، و لم يكن باستطاعة الإمام بما يملك من طاقات هائلة أن يرجع إليهم القوّة المعنوية، و يقضي على عناصر الشغب و التمرّد التي أصبحت الظاهرة السائدة فيهم، فقد بلغ من تمرّدهم أنّ الإمام أقام بالنخيلة ليزحف بهم إلى حرب معاوية، فجعل الجيش يتسلّلون و يدخلون الكوفة، و لم يبق معه إلاّ رجال من وجوه شيعته، فلمّا رأى أنّه لم يعد إليه أحد من جيشه الذين دخلوا الكوفة، و بقي معسكرا وحده ليس معه إلاّ فئة لا تغني شيئا قفل راجعا إلى الكوفة (1) ، و قد ذهبت نفسه الشريفة أسى و حزنا.

و شيء مهم جدّا بالغ الخطورة في تمرّد جيش الإمام هو أنّ معظم القادة العسكريّين كان لهم اتّصال سرّي وثيق بمعاوية، و كانت هباته و منحه تصلهم، و لم تكن هناك رقابة في جيش الإمام عليهم.

و كان من أبرز اولئك القادة الخائن العميل الأشعث بن قيس، فقد منّاه معاوية بالأموال و الثراء العريض، و وعده بالمناصب العليا في الجيش، فقام بعمليات التخريب في جيش الإمام، و قد استجاب له فريق كبير من القادة العسكريّين، فقاموا بدورهم بنشر الأراجيف، و إشاعة الخوف في كتائب جيش الإمام حتّى خلعوا طاعة الإمام، و أعلنوا عصيان أوامره (2).

و لم يمن جيش معاوية بشيء من الفرقة و الاختلاف، فقد سادت فيه روح الطاعة و الانقياد التامّ .

يقول الحجّاج بن خزيمة لمعاوية: إنّك تقوى بدون ما يقوى به عليّ ؛

ص:215


1- الغارات 31:1.
2- حياة الإمام الحسين عليه السّلام 87:2.

لأنّ معك قوما لا يقولون إذا أمسكت، و يسكتون إذا نطقت، و لا يسألون إذا أمرت، و مع عليّ قوم يقولون إذا قال، و يسألون إذا سكت (1).

و كان باستطاعة الإمام أن يرجع جيشه إلى الطاعة، و يقضي على تمرّدهم و ذلك بسلوكه لأمرين:

1 - إرشاء الزعماء.

2 - إعدام القادة المتمرّدين.

و ابتعد الإمام عن ذلك كأشدّ ما يكون الابتعاد، فلم يسلك في جميع فترات حياته طريقا ملتويا لا يقرّه الشرع، و يأباه ضميره الحيّ ، و قد أعلن الإمام عليه السّلام ذلك في بعض خطبه قال:

«و إنّي لعالم بما يصلحكم، و يقيم أودكم، و لكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع اللّه خدودكم، و أتعس جدودكم! لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، و لا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ !» (2).

لقد انساب جيشه وراء الباطل و أمعنوا في اقتراف الإثم، و كان باستطاعته أن يقيم أودهم، و يصلح شأنهم، و لكن ذلك بارتكاب ما حرّمه الإسلام من الرشوة و غيرها.

احتلال مصر:

و لم تقف محنة الإمام المظلوم عند حدّ، فقد أخذت تتتابع عليه الكوارث و الخطوب يتبع بعضها بعضا، فإنّه لم يكد ينتهي من قتال المارقين حتى ابتلي في أمر

ص:216


1- الأخبار الطوال: 156.
2- نهج البلاغة 118:1.

دولته، فقد قوي معاوية و استحكم سلطانه، فأخذ يحتلّ الأقاليم الخاضعة لحكم الإمام، كما أخذ يغير على بعضها ليشيع فيها الخوف و الارهاب، و يفهم المواطنين بعجز حكومة الإمام عن حمايتهم و توفير الأمن لهم.. و إنّما قدم معاوية على هذه الخطة لعلمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل و الانحلال، فلم تعد عند الإمام قوّة عسكرية يحتمي بها...

و قد أجمع رأي معاوية على احتلال مصر التي تعدّ الأمّ للبلاد الإسلامية، و قد جعلها طعمة إلى وزيره و باني دولته عمرو بن العاص.

و كانت مصر قد ولّى الإمام عليها قيس بن سعد الأنصاري و هو من ألمع الشخصيات الإسلامية في عمق تفكيره و بعد نظره و حسن سياسته، و قد ساس المصريّين سياسة عدل و حقّ و قضى على ما كان شائعا من الفتن و الاضطرابات الداخلية، و أشاع فيها المحبّة و الوئام، و قد عزله الإمام و ولّى مكانه الطيّب الفذّ محمّد بن أبي بكر، فاضطربت مصر، و شاعت فيها الدعوة العثمانية، و لم يتمكّن محمّد بن إطفاء نار الفتنة فعزله الإمام و ولّى مكانه القائد الفذّ مالكا الأشتر النخعي الذي هو من أنصح الناس للإمام و من أكثرهم ولاء له و معرفة بشأنه.

و لمّا انتهى مالك في مسيره إلى القلزم دسّ إليه معاوية سمّا جعله في عسل، فلمّا تناوله قتله، و كان معاوية و ابن العاص يتحدّثان بعد ذلك، و يقولان: إنّ للّه جنودا من عسل.

و على أي حال فقد جهّز معاوية جيشا بقيادة ابن العاص لاحتلال مصر، و كان الإمام قد أقرّ محمّد بن أبي بكر على ولاية مصر، و وعده أن يمدّه بالجيش و المال، و أخذ الإمام يحفّز أهل الكوفة على نجدة اخوانهم المصريّين فلم يستجيبوا له، ثمّ أخذ يلحّ عليهم إلحاحا شديدا، فاستجاب له بعض الجنود على كره، و ساروا لمصر كأنّهم يساقون إلى الموت، و لم يلبثوا إلاّ قليلا في مسيرهم حتى وافت الأنباء الإمام

ص:217

باحتلال مصر من قبل ابن العاص، و أنّ عامله عليها محمّد بن أبي بكر قد قتل، و احرقت جثّته فردّ جنده إلى الكوفة، و خطب خطابا مثيرا نعى فيه تخاذل جيشه و خور عزائمهم، و أبّن واليه على مصر محمّدا بتأبين أعرب فيه عن خسارته لمحمّد، و تفجّعه عليه.

و على أي حال فإنّ احتلال مصر قد قوّى شوكة معاوية و بسط سلطانه و أضعف حكومة الإمام إلى حدّ بعيد، و أشاع في جيشه التمرّد و العصيان.

الغارات على مناطق حكم الإمام:

اشارة

رأى معاوية أنّ من أهمّ الوسائل لبسط سلطانه و إضعاف حكومة الإمام بعث الغارات العسكرية على المناطق الخاضعة لحكم الإمام و ذلك لإظهار ضعفه و عدم قدرته على حماية المواطنين، و عدم استطاعته على صيانة الأمن العام، و من بين المناطق التي استهدفها معاوية هي:

1 - الحجاز و اليمن:

و بعث معاوية كتيبة من جنده تتألّف من ثلاثة آلاف جندي بقيادة الارهابي بسر بن أبي ارطاة للغارة على الحجاز و اليمن، و اتّجه جنده نحو المدينة، فلم يجد من أهلها أيّة مقاومة، فصعد بسر المنبر و رفع عقيرته يندب شيخ الأمويّين عثمان بن عفّان و يشيع الفزع و الرعب بين المدنيّين قائلا:

يا أهل المدينة، و اللّه! لو لا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلما إلاّ قتلته...

و غادر هذا الخبيث المدينة متوجّها إلى مكّة، فاحتلّها و أخذ البيعة من أهلها لمعاوية قسرا، ثمّ انعطف بعد ذلك إلى احتلال اليمن، و كان واليها عبيد اللّه بن العباس فانهزم بنفسه ناجيا من شرّه، قاصدا نحو الكوفة ليعرّف الإمام بذلك، و لمّا دخل بسر اليمن أخذ البيعة من أهلها، و فتّش عن طفلين لعبيد اللّه فلمّا ظفر بهما

ص:218

قتلهما (1) فقالت إحدى سيّدات اليمن:

إنّ سلطانا لا يقوم إلاّ بقتل الأطفال لسلطان سوء.

و هكذا اتّسم سلطان معاوية بجميع مراحله و مكوّناته بالسوء و الظلم و الجور و اقتراف كلّ ما حرّم اللّه تعالى.

و هامت أمّ الطفلين بتيارات مذهلة من الحزن و الجزع عليهما حتّى فقدت شعورها، و رثتهما بذوب روحها قائلة:

يا من أحسّ بنيّيي اللّذين هما كالدّرّتين تشظّى عنهما الصّدف!

يا من أحس بنيّيي اللّذين هما قلبي و سمعي فقلبي اليوم مختطف!

من ذلّ والهة حرّى و ثاكلة على صبيّين ضلاّ إذ غدا السّلف

خبّرت بسرا و ما صدّقت ما زعموا من إفكهم و ما القول الذي اقترفوا

انحى على ودجي ابنيّ مرهفة مشحوذة و كذاك الأمر مقترف (2)

و نشر بسر في اليمن الفزع و الخوف، و أشاع القتل بين اليمانيّين، و سبى نساءهم، و فعل القبائح و المنكرات.

و لمّا انتهى النبأ المروّع إلى الإمام بما اقترفه بسر في اليمن من المجازر و السبي و غير ذلك انهارت قواه، و مزّق الأسى قلبه الشريف، و خطب في جيشه الممزّق هذه الخطبة التي حكت لوعته و أساه قائلا:

«انبئت بسرا قد اطّلع اليمن (3) ، و إنّي و اللّه! لأظنّ أنّ هؤلاء القوم - يعنى أهل الشام - سيدالون (4) منكم باجتماعهم على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم، و بمعصيتكم

ص:219


1- تاريخ أبي الفداء 180:1.
2- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 445:1.
3- اطّلع اليمن: أي بلغها، و احتلّتها قوّاته.
4- سيدالون: أي ستكون لهم الدولة، و ذلك بسبب اجتماع كلمتهم و تفرّق كلمة جيش الإمام.

إمامكم في الحقّ ، و طاعتهم إمامهم في الباطل، و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم، و بصلاحهم في بلادهم و فسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب (1) لخشيت أن يذهب بعلاقته (2).

اللّهمّ إنّي قد مللتهم و ملّوني، و سئمتهم و سئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرّا منّي.

اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح (3) في الماء، أما و اللّه! لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم.

هنالك، لو دعوت، أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم»

ثمّ نزل عن المنبر (4) و هو غارق في الأسى و الشجون، قد استولى عليه اليأس من جيشه الذي أصبح أعصابا ميّتة خالية من الشعور و الاحساس.

2 - الغارة على العراق:

اشارة

و علم معاوية بانهيار جيش الإمام و فقده لجميع المعنويات العسكرية، و أنّه لا قدرة له على مقاومته، فشكّل أربع فرق للغارة على العراق و ذلك بعد احتلاله لمصر و غيرها من الأقاليم الإسلامية، و قد عمد إلى ذلك ليملأ قلوب العراقيّين خوفا و فزعا، و يشعرهم بعدم تمكن الإمام على حمايتهم... و هذه بعض المناطق العراقية التي غارت عليها جيوش معاوية.

1

ص:220


1- القعب - بالفتح -: القدح الكبير.
2- علاقته - بكسر العين -: ما يتعلّق به القعب من ليف و غيره، و قد اتّهم الإمام جيشه باللصوصية و السرقة.
3- ماث: أي ذاب.
4- نهج البلاغة 60:1.
1 - عين التمر:

و أرسل معاوية النعمان بن بشير الأنصاري في ألف رجل لغزو عين التمر، و إشاعة الرعب عند أهلها، و كان مالك بن كعب واليا عليها، و معه كتيبة من الجيش تبلغ ألف مقاتل، و لم يعلم بغزو أهل الشام، فأذن لجنده بإتيان أهاليهم في الكوفة، فنفروا، و بقي في مائة رجل، و لما دهمه جيش معاوية قاومهم مقاومة باسلة، و التحق به خمسون رجلا، فلمّا رآهم النعمان فزع منهم و ولّى هاربا،

و لمّا انتهت الأنباء إلى الإمام قام خطيبا في جيشه و أخذ يدعوهم إلى نجدة عامله على عين التمر، قائلا:

يا أهل الكوفة، أ كلّما أقبل منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ امرى منكم بابه، و انحجر في بيته انحجار الضّبّ ، و الضّبع ؟ الذّليل و اللّه! من نصرتموه، و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل، فقبحا لكم و ترحا، يوما اناجيكم و يوما أناديكم، فلا أحرار عند اللّقاء، و لا إخوان عند النّجاء (1).

و هكذا بلغ التخاذل مبلغا فظيعا في جيشه، فأصبحوا كالأنصاب، لا إرادة و لا اختيار لهم قد قبعوا بالذلّ و الهوان.

2 - هيت:

و وجّه معاوية للغارة على هيت (2) سفيان بن عوف، و أمدّه بستّة آلاف مقاتل، و عهد إليه أن يأتي بعد الغارة عليها إلى الأنبار و المدائن فيوقع بأهلها القتل

ص:221


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 546:2-547.
2- هيت: بكسر الهاء، قال ابن السكّيت: إنّما سمّيت هيت بهذا الاسم لأنّها في هفوة من الأرض، و قد انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، و هي بلدة من نواحي بغداد فوق الأنبار و هي ذات نخل كثير و خيرات واسعة - معجم البلدان 340:1.

و الدمار، و سار سفيان بجيشه إلى هيت فلم يجد بها أحدا، فانعطف نحو الأنبار، فوجد بها مسلحة للإمام تتكوّن من مائتي رجل، عليهم أشرس بن حسّان البكري، فقاتلهم سفيان فقتل أشرس مع ثلاثين رجلا من أصحابه، ثمّ نهبوا ما في الأنبار من أموال و قفلوا راجعين إلى سيّدهم معاوية و هم في أقصى الفرح و السرور بما أحرزوه من نصر، و ما نهبوه من أموال (1).

و وافت أنباء الأنبار الإمام المظلوم فبلغ به الحزن أقصاه، و كان مريضا لا يمكنه أن يخطب بين الناس فكتب كتابا ألقاه شخص، و كان الإمام قريبا منه، و هذا نصّه:

«أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، و هو لباس التّقوى، و درع اللّه الحصينة، و جنّته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ ، و شمله البلاء، و ديّث بالصّغار و القماءة (2) ، و ضرب على قلبه الأسداد (3) ، و أديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، و سيم الخسف (4) ، و منع النّصف.

ألا و إنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا، و سرّا و إعلانا، و قلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللّه! ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم (5) إلاّ ذلّوا.

فتواكلتم و تخاذلتم حتّى شنّت عليكم الغارات، و ملكت عليكم الأوطان. و هذا أخو غامد (6) و قد وردت خيله الأنبار، و قد قتل حسّان بن حسّان البكريّ ، و أزال خيلكم عن مسالحها، و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة،

ص:222


1- تاريخ ابن الأثير 189:3.
2- القماءة: الذلّ و الصغار.
3- الأسداد: هي الحجب التي تحول بين الإنسان و رشده.
4- الخسف: الذلّ .
5- عقر الدار: وسطها.
6- أخو غامد: هو سفيان بن عوف من بني غامد قبيلة باليمن.

و الأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها و قلبها (1) و قلائدها و رعاثها (2) ، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع و الاسترحام. ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم (3) ، و لا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا، فيا عجبا! عجبا - و اللّه! - يميت القلب و يجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم! فقبحا لكم و ترحا (4) ، حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون! فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الحرّ، قلتم: هذه حمّارة القيظ (5) أمهلنا يسبّخ (6) عنّا الحرّ، و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم: هذه صبارّة (7) القرّ، أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ (8) ؟ فإذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون فأنتم و اللّه! من السّيف أفرّ! يا أشباه الرّجال و لا رجال! حلوم الأطفال، و عقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم و لم أعرفكم، معرفة - و اللّه! - جرت ندما، و أعقبت سدما (9).

قاتلكم اللّه! لقد ملأتم قلبي قيحا، و شحنتم صدري غيظا، و جرّعتموني نغب

ص:223


1- أي قلادتها.
2- رعاثها: القرط .
3- الكلم: الجرح.
4- الترح: الحزن.
5- حمارة القيظ : شدّة الحرّ.
6- السبخ: التخفيف.
7- الصبارة: الشتاء.
8- القر: شدّة البرد.
9- السدم: الهمّ .

التّهمام (1) أنفاسا، و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان، حتّى لقد قالت قريش:

إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، و لكن لا علم له بالحرب.

للّه أبوهم! و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا (2) ، و أقدم فيها مقاما منّي ؟! لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و هأنذا قد ذرّفت (3) على السّتّين! و لكن لا رأي لمن لا يطاع!(4)و أنت ترى في هذه الخطبة صورا مروّعة من الآلام القاسية التي أحاطت بالإمام المظلوم المهتضم، فقد تجرّع الويلات و الكوارث من جيشه الذي تمرّد عليه كأشدّ و أقسى ما يكون التمرّد حتى لم يعد له فيهم أي وجود لسلطته و حكومته.

3 - واقصة:

و وجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري إلى واقصة ليغير و يروّع كلّ من كان فيها من شيعة الإمام، و ضمّ إليه ثلاثة آلاف رجل، فسار الضحّاك فنهب الأموال، و قتل كلّ من ظنّ أو احتمل أنّه من شيعة الإمام، و انتهى إلى القطقطانة فأشاع فيها القتل و الدمار، و سار إلى السماوات فاقترف فيها كلّ ما حرّمه اللّه من إثم ثمّ قفل راجعا إلى الشام.

و لمّا وافت الأنباء إلى الإمام بلغ به الحزن أقصاه، و دعا جيشه لصدّ هذا الاعتداء فلم يستجب له أحد، فقام خطيبا عرض في خطابه لمحنته الكبرى من ذلك المجتمع الذي لا عهد له بالشرف و الكرامة و من بين خطابه قوله:

ص:224


1- نغب التهمام: أي تجرّعت منكم الهمّ و الأسى.
2- المراس: المعالجة و المزاولة.
3- ذرفت: أي أشرفت أو زدت.
4- نهج البلاغة 69:1-70.

«و اللّه! لوددت أنّ لي بكلّ ثمانية منكم رجلا منهم، و يحكم! اخرجوا معي ثمّ فرّوا عنّي ما بدا لكم!! فو اللّه! ما أكره لقاء ربّي على نيّتي و بصيرتي، و في ذلك روح لي عظيم، و فرج من مناجاتكم و مقاساتكم» (1).

و سار الإمام نحو الغريّين لصدّ هذا الاعتداء الغادر فلم يلتحق به أحد و سارع ابن أخيه عبد اللّه بن جعفر فالتحق به، و لمّا رأى الناس ذلك خفّ للمسيرة معه بعض الجيش، فسرح بهم الإمام لطلب الضحّاك و مناجزته، و جعل قيادتهم بيد حجر بن عدي، و سار في طلب الضحّاك فلم يدركه.

4 - الكوفة:

و أخذت غارات معاوية تتوالى على العراق من دون أن تتعرّض لأيّة مقاومة، و قد أيقن معاوية بالنصر الحاسم، و الظفر باسقاط حكومة الإمام، و كان باستطاعته احتلال الكوفة، التي هي عاصمة الإمام لأنّه لم تكن عنده قوّة عسكرية على حمايتها، و ذلك لانحلال جيشه، و شيوع الفتن بين كتائبه.

و على أي حال فقد انتهت غارات معاوية إلى قرب الكوفة العاصمة و هي تنشر الذعر و الخوف و الارهاب، و الإمام ليس له أيّة قدرة على حماية الأمن العام لأنّ جيشه قد خلع الطاعة، و أعلن العصيان و التمرّد، و لم يعد للإمام أي نفوذ أو سلطان عليه.

عبث الخوارج:

و من بين المحن الكبرى التي امتحن بها الإمام امتحانا عسيرا هي فتنة الخوارج، فإنّ الإمام لم يقض عليهم في النهروان، و إنّما قضى على عصابة منهم،

ص:225


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 537:2.

و بقي الكثيرون منهم يعيشون معه و هم يكيدون له، و يتربّصون به الدوائر، و يحوّلون قلوب الناس عنه، فقد أمنوا من بطشه و عقوبته، و أطمعهم فيه عدله، و أغراهم لينه، و بسطه للحريات العامّة، فراحوا يجاهرونه بالانكار عليه

فقد قطع ابن الكوّاء على الإمام خطابه، و تلا قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، فردّ عليه الإمام بآية اخرى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ .

و جاءه خارجي آخر و هو الخريت بن راشد السامي في ثلاثين من أصحابه فقال له:

يا علي، و اللّه! لا اطيع أمرك، و لا اصلّي خلفك، و إنّي غدا مفارقك...

فلطف به الإمام و حاججه، و خلّى سبيله، و لم يأمر باعتقاله، و قفل الخريت راجعا إلى قومه من بني ناجية، الذين كانوا من حزب عائشة فأحاطهم علما بما جرى بينه و بين الإمام، فأجمع رأيهم على إعلان الحرب على الإمام، فأرسل الإمام إليهم جيشا لردّهم إلى الطاعة أو مناجزتهم إن أبوا ذلك، فلحق بهم جيش الإمام فكانت بينهما مناظرات لكنّها لم تجد شيئا معهم فقد أصرّوا على تمرّدهم و وقع القتال بينهما، و لم يحرز أحد الفريقين نصرا على الآخر و هرب الخريت مع أصحابه إلى البصرة، و قفل جيش الإمام راجعا إلى الكوفة.

و أرسل الإمام جيشا آخر يتعقّب الخريت و أرسل إلى ابن عباس عامله على البصرة أن يمدّ جيشه بالسلاح و العتاد، فأمدّهم ابن عباس بما أمر به، و التقى الفريقان و احتدم القتال كأشدّه بينهما، و بدت امارة الانحلال و الضعف في جيش الخريت، إلاّ أنّه انهزم مع أصحابه في غلس الليل متّجها صوب الأهواز.

فلمّا انتهى إليها أخذ يبذر الفتنة فيها، و يشيع الجريمة، و يدعو إلى الزهد في الإسلام، فمنع العرب من إعطاء الزكاة، و منع النصارى من إعطاء الجزية حتى ارتدّ الكثيرون من النصارى الذين دخلوا في الإسلام، و التفّوا حوله، كما استجاب له

ص:226

جمع من الغوغائيّين، حتى ظهر أمره و قويت شوكته، ألا إنّ جيش الإمام قد تتبعه، فقتله، و قتل عصابة من حزبه، و أسر جماعة منهم، فمن أعلن إسلامه و توبته عفا عنه، و من لم يسلم و بقي مصرّا على فكرته أخذه أسيرا معه (1).

و على أي حال فقد أخذت الفتن تتّسع و تتوالى في البلاد الخاضعة لحكم الإمام، و لم تسلم منها عاصمته، حتى أوجبت خذلان الإمام و شهادته، و خذلان ولده الإمام الزكي ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإمام الحسن عليه السّلام...

و قد ألحقت هذه الأحداث الرهيبة أضرارا بالغة في المجتمع الإسلامي كان من أقساها و أفجعها أن آلت الخلافة الإسلامية إلى معاوية بن أبي سفيان فأخذ يمعن في إذلال المسلمين، و إرغامهم على ما يكرهون.

دعاء الإمام على نفسه:

و طافت بالإمام موجات رهيبة و مفزعة من الأزمات يتبع بعضها بعضا، و كان من أقسى ما حلّ به أنّه رأى باطل معاوية قد استحكم، و سلطانه قد تمّ ، و رأى نفسه في أرباض الكوفة قد احتوشته ذئاب العرب الذين كرهوا عدله، و نقموا من سياسته الهادفة إلى تحقيق العدالة و نشر المساواة بين الناس.

و ممّا أقضّ مضجع الإمام تمزّق جيشه، و تفلّل جميع فرقه و وحداته فقد كان هوى معظم قادة الفرق مع معاوية لأنّه أغدق عليهم بالأموال فكاتبوه سرّا بالطاعة و الانقياد لأمره، و بالاضافة إلى هذا البلاء فتنة الخوارج و شيوع أفكارهم في الجيش، و هي تقضي بلزوم عزل الإمام عن الحكم.

و على أي حال فقد أصبح الإمام بمعزل تام عن جميع السلطات فكان يأمر

ص:227


1- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 550:1.

فلا يطاع، و يدعو فلا يستجاب له،

و جعل يخبرهم عمّا سيلاقونه من بعده من التنكيل و الارهاق من السلطات الظالمة التي ستحكم بلادهم، قال عليه السّلام:

«أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، و سيفا قاطعا، و أثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة. فيفرّق جماعتكم، و يبكي عيونكم و تمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني، فستعلمون حقّ ما أقول لكم، و لا يبعد اللّه إلاّ من ظلم و أثم».

و تحقّق ما تنبأ به الإمام فيهم فقد سلّط اللّه عليهم أرجاس البشرية فأخذوا يمعنون في ظلمهم و إرهاقهم، فأخذوا البريء بالسقيم و المقبل بالمدبر، و قتلوا على الظنّة و التهمة، و استيقظوا بعد أن حلّ بهم العذاب الأليم من قبل معاوية و ولاته، و سائر حكّام بني اميّة، و قد ندموا كأشدّ ما يكون الندم على ما اقترفوه من خذلان الإمام، و عصيان أوامره.

و على أي حال فقد سئم الإمام من ذلك المجتمع، و راح يتمنّى مفارقة الحياة، و كان كثيرا ما يقول:

«متى يبعث أشقاها؟».

و أخذ يدعو اللّه تعالى أن ينقله إلى جواره؛ و يريحه من ذلك المجتمع الشقي،

فقد روى البلاذري عن أبي صالح، قال: شهدت عليّا، و قد وضع المصحف على رأسه حتى سمعت تقطع الورق، و هو يقول:

«اللّهمّ إنّي سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك، اللّهمّ إنّي قد مللتهم و ملّوني، و أبغضتهم و أبغضوني، و حملوني على غير خلقي فأبدلني بهم خيرا لي منهم، و أبدلهم بي شرّا منّي، و مث قلوبهم ميث الملح في الماء» (1).

ص:228


1- أنساب الأشراف: 200:1.

و استجاب اللّه تعالى دعاء وليّه المظلوم الممتحن فنقله إلى حظيرة القدس مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و حسن اولئك رفيقا، و أراحه من ذلك المجتمع المصاب بدينه و أفكاره فانساب في دياجير قاتمة ليس فيها أي بصيص من النور.1

ص:229

ص:230

المأساة الخالدة

اشارة

ص:231

ص:232

ليس في هذا الشرق العربي و لا في غيره من مناطق العالم و امم الأرض حاكم مثل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في نزاهته و عدله، و تجرّده من جميع المحسوبيات و الأطماع، فقد كان فيما أجمع عليه المؤرّخون لم يخضع لأيّة نزعة مادية أو عاطفية، و إنّما آثر الحقّ و رضا اللّه تعالى في سلوكه و جميع تصرّفاته فلم يحاب أحدا و لم يداهن أي شخص في دينه، فقد تبنّى بصورة إيجابية العدل الخالص و الحقّ المحض، و قد جهد أن يرفع الحيف و الظلم و الغبن عن الناس، و يحطّم الفوارق التي مآلها إلى التراب بين المسلمين.

و قد احتاط هذا الإمام العظيم في أموال الدولة كأشدّ ما يكون الاحتياط فلم ينفق أي شيء منها قليلا أو كثيرا إلاّ في المواقع التي عيّنها الإسلام، لم يتاجر و لم يشتر بها العواطف و الضمائر - كما كان يفعل معاوية - و لمّا آلت دولته إلى الانحلال و التمزّق أشار عليه وزيره و مستشاره حبر الامّة عبد اللّه بن عبّاس برأي يرجع لدولته قوّتها، و يعيد لها نضارتها قائلا: يا أمير المؤمنين، فضّل العرب على العجم - أي في العطاء و المناصب - و فضّل قريشا على العرب...

كان ابن عبّاس يرى أنّ التفاضل في العطاء هو الضمان الوحيد لحماية دولة الإمام من التمزّق، و رمق الإمام بطرفه ابن عباس، و نفر من رأيه، و قال له:

«يا بن عبّاس، تريد منّي أن أطلب النّصر بالجور؟ لو كان المال لي لسوّيت بينهم بالعطاء فكيف و المال مال اللّه...».

ص:233

لقد أجهد الإمام نفسه، و حملها من أمره رهقا من أجل أن يبسط العدالة بين الناس، و يرفع عنهم الفقر و الحاجة، و يشيع بينهم الأمن و الرخاء.

يقول عبد اللّه بن رزين: دخلت على عليّ يوم الأضحى فقرب إلينا حريرة فقلت: أصلحك اللّه لو قرّبت إلينا من هذا البطّ ، فإنّ اللّه تعالى قد أكثر الخير؟ فقال عليه السّلام:

«يا بن رزين، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا يحلّ لخليفة من مال اللّه إلاّ قصعتان، قصعة يأكلها هو و أهله، و قصعة يضعها بين النّاس» (1).

لقد نقمت عليه الرأسمالية القرشية، و نقم عليه كلّ من استسلم لدوافع المادة و شهواتها، فوضعوا أمام حكومته الحواجز و السدود، و عملوا جاهدين للإطاحة بدولته، و تسليمها إلى معاوية بن أبي سفيان الذي يضمن لهم ما يريدون و يحقّق لهم ما يصبون إليه من المنافع.

و من المؤكّد أنّ الإمام عليه السّلام كان يعلم كيف يجلب طاعة المتمرّدين و لكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بأن يداهن في دينه، فيمنح الثراء العريض للوجوه و الأعيان من قريش و غيرهم من وجوه العرب.

و من الطبيعي أنّ ذلك هو الانحراف الكامل عن الحقّ ، و المتاجرة بمصالح الأمّة، و هو ممّا يأباه ضمير الإمام الذي ربّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمثله و قيمه ليكون صورة صادقة عنه.

لقد أراد الإمام أن يوزّع خيرات اللّه تعالى على الفقراء و البؤساء، و لا يجعل في المجتمع أي ظلّ للحاجة و الحرمان، و ممّا لا شبهة فيه أنّ هذه السياسة المشرقة لا تعيها النفوس التي ران عليها الباطل، و عشعش فيها إبليس أمثال الأشعث بن

ص:234


1- جواهر المطالب: 43.

قيس، و المغيرة بن شعبة، و عمرو بن العاص و أمثالهم من الذين لا يرجون للّه وقارا.

إنّ الإيمان الخالص بحقّ اللّه و حقّ الناس لم ينته إلاّ للقلّة المؤمنة من أصحاب الإمام و خاصّته و حواريه أمثال حجر بن عدي و مالك الأشتر و ميثم التمّار و عدي بن حاتم و عمّار بن ياسر و أمثالهم ممّن تغذّوا بهدي الإمام، أمّا الأكثرية الساحقة من جيش الإمام و شعبه فإنّهم لا يفقهون أي شيء من مثل الإمام و سياسته، فلذا ابتعدوا عنه، و انضمّوا إلى معاوية و حزبه حزب الشيطان.

و على أي حال فإنّ الإمام عليه السّلام قد أخضع سياسته للقيم الدينية فبسط العدل، و أشاع الحقّ ، و لم يعد أي ظلّ للظلم و الحرمان، و لذا هبّت في وجهه الاسر القرشية التي كانت تعتبر السواد بستانا لها، فأشعلت نار الحرب عليه، و رفعت شعارا لتمرّدها و هو المطالبة بدم عثمان عميد الاسرة الأموية، فأغرقت البلاد بالدماء، و نشرت الحزن و الحداد في بيوت المسلمين، و قد وقف عملاق العدالة الإسلامية ملتاعا حزينا، قد احتوشته ذئاب الأثرة و الاستغلال، فأفسدت عليه جيشه و شعبه و لم يعد باستطاعته أن يسيطر على الأوضاع الراهنة في جيشه إذ لم يكن له ركن شديد يأوي إليه.

و شيء بالغ الأهمّيّة في مآسي الإمام هو فقده للصفوة الطاهرة من أعلام أصحابه الذين قرءوا القرآن فأحكموه، و تدبّروا الفرض فأقاموه و أحيوا السنّة، و أماتوا البدعة أمثال الشهيد الخالد عمّار بن ياسر، و ابن التّيهان، و ذي الشهادتين، و نظرائهم من الذين مضوا على الحقّ ، فقد استشهدوا في ميادين صفّين و ابرد برءوسهم إلى الفسقة الفجرة معاوية و حزبه، و قد كان فقدهم قد هدّ في ركن الإمام، و أضعفه إلى حدّ بعيد.

و على أي حال فإنّا نلقي نظرة سريعة على شهادة الإمام عليه السّلام و ما رافقها من أحداث.

ص:235

مؤتمر مكّة:

نزحت عصابة من الخوارج إلى مكّة لأداء الحجّ ، فلمّا انتهى موسمه عقدوا مؤتمرا عرضوا فيه الأحداث الجسام التي مني بها العالم الإسلامي و التي أدّت إلى سفك الدماء، و اختلاف كلمة المسلمين، و عزوها إلى ثلاثة أشخاص و هم:

الإمام أمير المؤمنين.

معاوية بن أبي سفيان.

عمرو بن العاص.

و أجمع رأيهم على اغتيال هؤلاء الأشخاص، و انبرى إلى تنفيذ عملية اغتيالهم الأشخاص التالية أسماؤهم:

1 - عبد الرحمن بن ملجم، تعهّد بقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

2 - الحجّاج بن عبد اللّه الصريمي، تعهّد بقتل معاوية.

3 - عمرو بن بكر التميمي، تعهّد بقتل ابن العاص.

و عيّنوا وقتا خاصّا لاغتيالهم و هو ليلة الثامن عشر من شهر رمضان ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح، و بعد انفضاض المؤتمر أقاموا بمكّة أشهرا، ثمّ اعتمروا في شهر رجب، و افترقوا و قصد كلّ واحد منهم البلد الذي تعاهد على القيام بعملية الاغتيال فيه.

الأمويون و اغتيال الإمام:

ذكر المؤرّخون أنّ اغتيال الإمام عليه السّلام يعزى إلى الخوارج، و ليس لغيرهم أي ضلع فيه، و الذي نراه بكثير من التأمّل و الترجيح أنّ للأمويّين صلة فيه، و يدعم ذلك ما يلي:

ص:236

1 - إنّ أبا الأسود الدؤلي من خواص الإمام عليه السّلام و من تلاميذه، و كان من المتحرّجين في دينه قد ألقى تبعة قتل الإمام على بني اميّة و ذلك في مقطوعته التي رثا بها الإمام، فقد جاء فيها:

ألا أبلغ معاوية بن حرب فلا قرّت عيون الشامتينا

أ في شهر الصّيام فجعتمونا بخير الناس طرّا أجمعينا؟

قتلتم خير من ركب المطايا و رحّلها و من ركب السّفينا (1)

و معنى هذه الأبيات أنّ معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الإمام الذي هو خير الناس بعد أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و من المؤكّد أنّ أبا الأسود لم ينسب جريمة اغتيال الإمام إلى معاوية إلاّ بعد وثوقه بذلك، و من المحتمل أنّ أبا الأسود إنّما ألقى المسئولية على معاوية في اغتيال الإمام لأنّه هو السبب في نشأة الخوارج و تمرّدهم على حكم الإمام، و جميع ما صدر منهم من جرائم و آثام تستند إلى معاوية.

2 - أنّ القاضي نعمان المصري، و هو من المؤرّخين القدامى ذكر قولا هو أنّ معاوية دسّ ابن ملجم لاغتيال الإمام، و هذا نصّ كلامه:

«و قيل إنّ معاوية عامله - أي عامل ابن ملجم - على ذلك - أي على اغتيال الإمام، و دسّ إليه فيه، و جعل له مالا عليه» (2).

و هذا القول يؤكّد ما جاء في شعر أبي الأسود الدؤلي من اسناد قتل الإمام إلى معاوية.

ص:237


1- تاريخ ابن الأثير 198:3.
2- المناقب و المثالب - القاضي نعمان المصري: 98.

3 - و ممّا يدلّل على أنّ للحزب الأموي ضلعا في اغتيال الإمام أنّ الأشعث بن قيس (1) ، كان عينا لبني اميّة و عميلا لهم في العراق، و قد ساهم مساهمة إيجابية في اغتيال الإمام، فقد رافق ابن ملجم في أثناء قتله للإمام، و قد شجّعه على ذلك، و هو القائل له: النجا فقد فضحك الصبح، و لمّا سمعه حجر بن عدي صاح به، و قال له:

قتلته يا أعور؟ و صلة الأشعث ببني اميّة معروفة، و عداؤه للإمام مشهور، و قد هدّد الإمام قبل قتله بقليل.

إنّ المؤامرة باغتيال الإمام قد احيطت بكثير من السرّ و الكتمان، فما الذي أوجب اطّلاع الأشعث عليها و دعمه لها، لو لا الايعاز إليه من الأمويّين ؟ 4 - أنّ مؤتمر الخوارج قد انعقد في مكّة أيام موسم الحجّ ، و هي حافلة - من دون شكّ - بالأمويّين لأنّها الوطن المهم لهم، و كانوا يبثّون الدعايات المضلّلة ضدّ الإمام، و يشيعون في أوساط الحجّاج الأكاذيب ضدّه، و أغلب الظنّ أنّهم تعرّفوا على الخوارج الذين هم من أعدى الناس للإمام.

و ممّا يساعد على تعرّف الأمويّين لابن ملجم أنّه أقام مع بقيّة الخوارج في مكّة بعد انقضاء موسم الحجّ إلى شهر رجب، و اعتمروا بالبيت الحرام عمرة مفردة، ثمّ نزحوا بعد ذلك إلى تنفيذ مخطّطاتهم، فمن المحتمل أنّ الخوارج اتّصلوا بالأمويّين، و دفعوهم إلى اغتيال الإمام.

5 - أنّ ابن ملجم كان معلّما للقرآن (2) و كان يأخذ رزقه من بيت المال، و لم تكن عنده سعة مالية، فمن أين له الأموال التي اشترى بها سيفه بألف درهم ؟

ص:238


1- الأشعث بن قيس اسمه معدي كرب لقّب بالأشعث لأنّه كان أشعث الرأس - خزانة الأدب 424:5.
2- لسان الميزان 440:3.

و سمّه بألف درهم ؟ و من أين له الأموال البالغة ثلاثة آلاف درهم ؟ و عبد و قينة ؟ و قد أعطاها مهرا للبغية قطام ؟ كلّ ذلك ممّا يدعو إلى الظنّ أنّه تلقّى دعما ماليّا من الأمويّين ليقوم باغتيال الإمام.

6 - أنّ ابن ملجم كان على اتّصال وثيق بابن العاص، و كان معه حينما فتح مصر و أمره بالنزول بالقرب منه (1) و يروي الصفدي أنّ عمر بن الخطّاب أوصى ابن العاص برعاية ابن ملجم، و أكبر الظنّ أنّه أحاط ابن العاص علما بما اتّفق عليه مع زميليه من القيام باغتياله و اغتيال الإمام و معاوية، و لذا لم يخرج ابن العاص للصلاة في تلك الليلة و استناب خارجة، فقام التميمي باغتياله ظانّا أنّه ابن العاص فلذا لم تكن نجاته وليدة مصادفة، و إنّما كانت عن علم بذلك.

هذه بعض الملاحظات التي توجب الظنّ في اشتراك الحزب الأموي في اغتيال الإمام (2).

الإمام مع ابن ملجم:

كان الإمام عليه السّلام لا يخامره شكّ في أنّ ابن ملجم هو الذي يقوم باغتياله، و قد ذكر الرواة أنّه جاء ليبايع الإمام فردّه مرّتين أو ثلاثا، ثمّ بايعه، فأخذ الإمام منه المواثيق بأن لا يغدر، و لا ينكث بيعته، فقال له ابن ملجم:

ما رأيتك تفعل هذا بغيري ؟ فأعرض عنه الإمام، فلمّا ولّى قال الإمام لغزوان:

«احمله على الأشقر»، فحمله عليه، ثمّ تمثّل الإمام:

ص:239


1- لسان الميزان 440:3.
2- حياة الإمام الحسين 104:2-106.

«اريد حياته و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد» (1)

و التفت الإمام إلى من حضر و قال لهم: «و اللّه! ما أراه يفي بما قال»(2)، و ما كان هذا الإنسان الممسوخ يفي بما قال، فقد نكث ما عاهد عليه اللّه فاغتال إمام المتّقين و سيّد العابدين.

الوشاية بابن ملجم:

كان الإمام عليه السّلام على المنبر يخطب، و كان الخبيث الدنس ابن ملجم إلى جانب منصّة الخطابة، فقال مهدّدا و متوعّدا للإمام: و اللّه! لأريحنّهم منك، فسمعه بعض الجالسين، فألقى عليه القبض، و جاء به مخفورا إلى الإمام فأخبره بمقالته، فأمر الإمام بإطلاق سراحه، و قال: «لم يقتلني بعد» (3) ، و هكذا فتح الإمام باب الحرية على نطاق واسع لأعدائه و خصومه، فلذا كانوا لا يخشونه و لا يخافون عقابه.

ابن ملجم مع قطام:

و لمّا دخل الدنس الخبيث ابن ملجم إلى الكوفة التقى ببعض أصحابه من تيم الرباب، و كانت قطام عنده، و كان الإمام قد قتل أباها و أخاها في واقعة النهروان،

ص:240


1- يروى اريد حباءه أي عطاءه و صلته، و البيت من قصيدة لعمر بن معدي كرب منها هذه الأبيات: تمنّا من ليقتلن أبيوددت و أينما منّي ودادي فلو لاقيتني للقيت قرناو صرح شحم قلبك عن سواد إذن للقيت عمّك غير نكسو لا متعلم قتل الوحاد اريد حباءه البيت جاء ذلك في خزانة الأدب 360:6 و الأغاني 228:15.
2- المناقب 93:3.
3- علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة و خاتم الخلافة: 562.

و كانت بارعة في الجمال، فلمّا رآها ابن ملجم فتن بها، فخطبها فأجابته إلى ذلك، و شرطت عليه الباغية مهرا و هو ثلاثة آلاف درهم، و وصيفا، و خادما، و قتل الإمام عليه السّلام، و في هذا المهر المنحوس يقول الشاعر:

فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة كمهر قطام من غنيّ و معدم

ثلاثة آلاف و عبد و قينة و ضرب عليّ بالحسام المسمّم

فلا مهر أغلى من عليّ و إن غلا و لا فتك إلاّ دون فتك ابن ملجم

فاقسم بالبيت الحرام و من أتى إليه جهارا من محلّ و محرم

لقد خاب من يسعى بقتل إمامه و ويل له من حرّ نار جهنّم (1)

و انبرى الخبيث قائلا لقطام: لك جميع ما سألت، فأمّا قتل عليّ فإنّي لي ذلك ؟ قالت: تلتمس غرّته، فإن قتلته شفيت نفسي، و هنأك العيش معي، و إن قتلت فما عند اللّه خير لك.

فقال لها الزنيم الأثيم: ما أقدمني إلى هذا المصر إلاّ قتل عليّ .

فقالت له: فأنا طالبة لك من يساعدك، و بعثت إلى وردان بن مجالد من تيم الرباب فأخبرته بما عزمت عليه مع ابن ملجم، و طلبت منه أن يعين ابن ملجم فأجابها إلى ذلك، و مضى ابن ملجم إلى رجل من الخوارج من قبيلة أشجع يقال له:

شبيب بن بحيرة فقال له:

- هل لك من شرف الدنيا و الآخرة ؟ - و ما ذاك ؟

ص:241


1- بحار الأنوار 267:42.

- تساعدني على قتل عليّ .

فأجابه إلى ذلك، و مضوا إلى قطام، و كانت معتكفة في المسجد قد ضربت عليها قبّة، فقالوا لها: قد اجتمعنا على قتل الرجل (1) فشكرتهم على ذلك، و حفّزتهم على اقتراف الجريمة.

اغتيال الإمام:

أطلّ على العالم الإسلامي شهر رمضان المبارك الذي أنزل اللّه فيه القرآن هدى للناس و رحمة و كان وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام على يقين لا يخامره شكّ بانتقاله إلى حظيرة القدس في بحر هذا الشهر العظيم، و قد أجهد نفسه، و أرهقها إرهاقا شديدا على الإفطار على خبز الشعير، و جريش الملح، و كان لا يزيد في طعامه على ثلاث لقم، كما كان ينفق لياليه ساهرا في العبادة و التضرّع إلى اللّه تعالى في أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي جحد حقّه و تنكّر لقيمه، و زاد في وجيبه و شوقه إلى ملاقاة اللّه تعالى ما عاناه من العصيان و التمرّد من جيشه الذي مزّقته الأهواء و نخرته الدعايات المضلّلة.

لقد اشتاق هذا الإمام الممتحن إلى ملاقاة اللّه و ملاقاة رسوله ليعرض عليه ما عاناه من المحن و الخطوب من امّته التي جرّعته نغب التّهمام.

و يقول الرواة: إنّه لمّا حلّت ليلة التاسع عشر من رمضان أحسّ الإمام بنزول الرزء القاصم، فكان برما تساوره الهموم و الأحزان و هو يقول:

«ما كذّبت و لا كذّبت، إنّها اللّيلة الّتي وعدت فيها...».

و راودته تلك الليلة ذكريات جهاده مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما قاساه من طغاة

ص:242


1- إعلام الورى: 200.

قريش و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب من الجهد و العناء، فقد التحم معهم في ميادين الحروب التحاما رهيبا في سبيل نشر كلمة التوحيد و حماية النبيّ العظيم من كيدهم و مكرهم.

و على أي حال فلندع

الحديث إلى السيّدة الزكية أمّ كلثوم (1) تحدّثنا بما شاهدته من أبيها في تلك الليلة الخالدة في دنيا الأحزان، قالت:

لمّا كانت ليلة التاسع عشر من رمضان قدّمت إلى أبي عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير و قصعة فيها لبن، و ملح جريش، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه حرّك رأسه و بكى و قال:

«ما ظننت بنتا تسوء أباها كما أسأت إليّ ».

«ما ذاك ؟».

«تقدّمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد، أ تريدين أن يطول وقوفي بين يدي اللّه تعالى يوم القيامة ؟ أنا أريد أن أتّبع أخي و ابن عمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما قدّم له إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه اللّه تعالى.

يا بنيّة، ما من رجل طاب مطعمه و مشربه و ملبسه إلاّ طال وقوفه بين يدي اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة..

يا بنيّة، إنّ الدّنيا في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، و قد أخبرني حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ جبرئيل نزل إليه و معه مفاتيح كنوز الأرض، و قال: يا محمّد، السّلام يقرؤك السّلام، و يقول لك: إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهبا و فضّة، و خذ مفاتيح كنوز الأرض و لا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة، قال صلّى اللّه عليه و آله:

ص:243


1- السيّدة أمّ كلثوم هي في أغلب الظنّ سيّدة النساء السيّدة المعظّمة زينب سلام اللّه عليها، و هذه كنيتها.

يا جبرئيل، و ما يكون بعد ذلك ؟ قال: الموت، فقال: لا حاجة لي في الدّنيا، دعني أجوع يوما، و أشبع يوما، فاليوم الّذي أجوع فيه أتضرّع إلى ربّي، و اليوم الّذي أشبع فيه أشكر ربّي و أحمده، فقال جبرئيل: وفّقت لكلّ خير يا محمّد!».

ثمّ قال عليه السّلام: «يا بنيّة، الدّار دار غرور، و دار هوان، فمن قدّم شيئا وجده.

يا بنيّة، لا آكل شيئا حتّى ترفعي أحد الإدامين»، فلمّا رفعته أكل قرصا واحدا بالملح الجريش، ثمّ حمد اللّه تعالى و أثنى عليه، ثمّ قام إلى صلاته فصلّى، و لم يزل راكعا و ساجدا و مبتهلا و متضرّعا إلى اللّه سبحانه، و يكثر الدخول و الخروج، و هو ينظر إلى السماء و هو قلق، ثمّ قرأ سورة «يس» حتى ختمها، ثمّ رقد هنيهة، و انتبه مرعوبا، و جعل يمسح وجهه بثوبه، و نهض قائما على قدميه و هو يقول: «اللّهمّ بارك لنا في لقائك».

و يكثر من قول: لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم، ثمّ صلّى حتّى ذهب بعض الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه، ثمّ انتبه مرعوبا، و جمع أولاده فقال لهم:

«في هذا الشّهر تفقدوني، إنّي رأيت رؤيا هالتني...».

«ما رأيت ؟».

«رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منامي و هو يقول: يا أبا الحسن، إنّك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضّب شيبتك من أمّ رأسك، و أنا مشتاق إليك، و إنّك عندنا في العشر الأواخر من شهر رمضان...».

فضجّ أبناؤه بالبكاء، فأمرهم بالخلود إلى الصبر و طاعة اللّه، و لم يزل تلك الليلة قائما و قاعدا و راكعا و ساجدا، و يخرج ساعة بعد ساعة، يقلب طرفه في السماء، و ينظر في الكواكب و هو يقول:

ص:244

«ما كذّبت و لا كذّبت، إنّها اللّيلة الّتي وعدت بها».

ثمّ يعود إلى مصلاّه و هو يقول: «اللّهمّ بارك لي في الموت»، و يكثر من قول:

«لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم»، و يصلّي على النبيّ كثيرا.

قالت أمّ كلثوم: قلت له: «يا أبتاه، ما لي أراك هذه اللّيلة لا تذوق طعم الرقاد؟».

فأجابها الإمام: «يا بنيّة، إنّ أباك قتل الأبطال، و خاض الأهوال، و ما دخل الخوف جوفه، و ما دخل في قلبي رعب أكثر ممّا دخله اللّيلة...».

ثمّ قال: «إنّا للّه و إنّا إليه راجعون»، و فزعت السيّدة أمّ كلثوم، و قالت له بنبرات مشفوعة بالبكاء:

«ما لك تنعى نفسك منذ اللّيلة ؟».

«يا بنيّة، قد قرب الأجل و انقطع الأمل...».

و استولى الأسى و الحزن على أمّ كلثوم، و غرقت بالبكاء، و أخذ يهدّىء لوعتها قائلا: «يا بنيّة، إنّي لم أقل ذلك إلاّ بما عهد إليّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله» (1). هذا بعض ما حدّثت به السيّدة أمّ كلثوم من الأحداث المفزعة التي رافقت اغتيال أبيها.

و أقبل الإمام في غلس الليل البهيم على الدعاء و الابتهال إلى اللّه تعالى، ففي ظلام ذلك الليل الذي دام على البؤساء و المحرومين، قام الإمام فأسبغ الوضوء، و تهيّأ إلى الخروج إلى بيت اللّه ليؤدّي صلاة الصبح، فلمّا بلغ صحن الدار كانت فيه وزّ أهديت إلى الإمام الحسن عليه السّلام فصحن في وجهه الشريف منذرة بالخطر العظيم الذي سيعصف بالشرق العربي، و سائر الوطن الإسلامي، و يحوّله إلى ركام،

ص:245


1- بحار الأنوار 279:42-280.

و تنبّأ الإمام عليه السّلام بنزول الرزء القاصم فقال: «لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه تعالى، صوائح تتبعها نوائح» (1) ، إنّ تلك الصوائح التي انطلقت من الطيور تحوّلت إلى عويل، و صراخ اليتامى و المساكين، فقد فقدوا من كان يرعاهم و يعطف عليهم،

و راح الإمام يوصي ابنته برعاية تلك الطيور قائلا:

«يا بنيّة، بحقّي عليك إلاّ ما أطلقتها، فقد حبست ما ليس له لسان، و لا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش، فأطعميها و اسقيها و إلاّ خلّي سبيلها تأكل من حشائش الأرض» (2).

و أقبل الإمام على فتح الباب فعسر عليه فتحها لأنّها كانت من جذوع النخل، و عالجها حتى فتحها فانحلّ مئزره فشدّه و هو يقول:

«اشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا

و لا تجزع من الموت إذا حلّ بواديكا

كما أضحكك الدّهر كذاك الدّهر يبكيكا»

و فزع الإمام الحسن كأشدّ ما يكون الفزع من حالة أبيه فسارع إليه قائلا:

«ما أخرجك في هذا الوقت ؟».

«رؤيا رأيتها في هذه اللّيلة هالتني».

«خيرا رأيت، و خيرا يكون، قصّها عليّ ».

«رأيت جبرئيل قد نزل من السّماء على جبل أبي قبيس، فتناول منه حجرين، و مضى بهما إلى الكعبة، فضرب أحدهما بالآخر، فصارا كالرّميم، فما بقي بمكّة

ص:246


1- مروج الذهب 291:2.
2- بحار الأنوار 278:42.

و لا بالمدينة بيت إلاّ دخله من ذلك الرّماد شيء».

و اضطرب الإمام الحسن فسارع قائلا:

«ما تأويل هذه الرّؤيا؟».

«إن صدقت رؤياي، فإنّ أباك مقتول، و لا يبقى بمكّة و لا بالمدينة بيت إلاّ دخله الحزن من أجلي...».

و وجم الإمام الحسن و راح يقول بذوب روحه:

«متى يكون ذلك ؟».

«إنّ اللّه تعالى يقول: وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، و لكن عهد إليّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان، يقتلني عبد الرّحمن بن ملجم...».

و راح الإمام يقول بلوعة و فزع:

«إذا علمت ذلك فاقتله...».

«لا يجوز القصاص قبل الجناية، و الجناية لم تحصل منه...».

و أراد الإمام الحسن أن يصحبه إلى الجامع فأقسم عليه الإمام بالرجوع إلى فراشه، و لم يسمح له بالخروج معه،

و مضى الإمام عليه السّلام إلى بيت اللّه تعالى فجعل يوقظ الناس على عادته لعبادة اللّه الواحد القهّار، و اجتاز على قوم فقبض على كريمته و قال: «ظننت فيكم أشقاها الّذي يخضّب هذه من هذه»، و أومأ إلى لحيته (1) ، ثمّ شرع إمام المتّقين و سيّد الموحّدين في صلاته، و بينما هو ماثل بين

ص:247


1- الكامل - المبرّد 142:3.

يدي الحقّ يناجيه بقلبه و عواطفه و لسانه مشغول بذكره إذ هوى عليه بسيفه شقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم، و معه شبيب بن بحيرة الأشجعيّ (1) ، و هو يهتف بشعار المجرمين الخوارج قائلا:

«الحكم للّه لا لك».

و علا الرجس الدنس بالسيف رأس الإمام بطل الإسلام و علم المجاهدين و المتّقين فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالسجود للّه تعالى، و انتهت الضربة الغادرة إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في سعادة الناس و جمعهم على صعيد الحقّ و العدل و إزالة شبح الفقر و الحرمان عنهم.

و لمّا أحسّ الإمام بلذع السيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة الرضا بقضاء اللّه تعالى، و انطلق صوته يدوّي في رحاب المسجد:

«فزت و ربّ الكعبة».

يا أمير الحقّ ! يا رائد العدل! يا بطل الإسلام! يا وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! لقد فزت برضى اللّه تعالى، و فازت قيمك و مبادئك، و بقيت أنت وحدك رهن الخلود بما أوجدته في دنيا الإسلام من المثل و القيم الكريمة.

ص:248


1- شبيب بن بحيرة الأشجعي الخارجي علا الإمام بضربة إلاّ أنّه أخطأ فيها فوقعت على الباب و مضى الأثيم هاربا إلى منزله فدخل فيه، و كان له ابن عمّ من شيعة الإمام فرآه يحلّ الحرير من صدره، فقال له: ما هذا لعلّك قتلت أمير المؤمنين ؟ فأراد أن يقول لا، فقال: نعم، فضربه بالسيف و قتله، جاء ذلك في أعلام الورى: 200.

يا إمام المتّقين، لقد كنت من أعظم الرابحين بمرضاة الخالق العظيم، فقد رفعت منذ نعومة أظفارك كلمة اللّه، و جاهدت في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد فحطّمت الأصنام، و طهرت الأرض من أوثان الجاهلية، و بذلت روحك - بسخاء - للدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبت على فراشه و وقيته من شرك الأوغاد، و لو لا جهادك و جهاد أبيك أبي طالب لما أبقى القرشيّون ظلاّ للإسلام، و قضوا عليه منذ بزوغ نوره.

يا إمام الموحّدين، لقد فزت و انتصرت و خسر خصمك ابن هند، فأنت وحدك حديث الدهر مهما تطاولت لياليه أياما، و ها هو معاوية لا يذكر إلاّ بالخيبة و الخسران، فقد قذف في مزبلة التأريخ تلاحقه أعماله التي سوّد بها وجه التاريخ.

و على أي حال فإنّه حينما اذيع النبأ المؤلم باغتيال الإمام سارع الناس إلى الجامع، فوجدوا الإمام طريحا في محرابه، و هو يلهج بذكر اللّه تعالى قد نزف دمه، و انهارت قواه، و اصفرّ لونه، ثمّ حمل إلى داره و الناس خلفه قد عجّوا بالبكاء و النحيب، قد أخذتهم المائقة، و هم يهتفون بذوب الروح قائلين بأسى و ألم:

قتل إمام الحقّ و العدل...

قتل أبو الضعفاء و أخو الغرباء...

قتل أبو اليتامى و المساكين...

و استقبلته مخدّرات الرسالة بالصراخ و العويل، فأمرهنّ الإمام بالخلود إلى الصبر، و الرضا بقضاء اللّه تعالى...

و كان من أشدّ أبنائه لوعة الإمام الحسن الزكي ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر إليه الإمام فقال له بلطف:

«يا بنيّ ، لا تبك فإنّك تقتل بالسّمّ ، و يقتل أخوك بالسّيف».

و تحقّق ما أخبر به وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، فلم تمض الأيام

ص:249

حتى اغتال معاوية الإمام الحسن بالسمّ ، و كذلك استشهد أخوه الإمام الحسين سيّد الشهداء بصورة مروّعة في صعيد كربلاء و معه أهل بيته نجوم الأرض، و الصفوة الممجّدة من أصحابه، فقد حصدت رءوسهم البغاة من شرطة يزيد بن معاوية.

ابن ملجم يصف ضربته للإمام:

و وصف الشقي ابن ملجم ضربته الغادرة للإمام بقوله: أمّا أنا فقد أرهفت السيف، و طردت الخوف، و حثثت الأمل... و ضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ قتلتهم... (1).

و لم يعلم الأثيم أنّ ضربته التي قدّت جبهة الإمام قد شقّت جبهة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه نفسه و أخوه و باب مدينة علمه و أبو سبطيه.

تجسّس الأشعث على الإمام:

و طار الخبيث الأشعث بن قيس فرحا و سرورا بضربة الإمام، فقد تمّت بوارق آماله و أحلامه للاتّصال بمعاوية، و بعث ولده للاطّلاع على حال الإمام، فقال له:

انظر كيف أصبح الرجل، و كيف تراه ؟ و انطلق ابنه إلى منزل الإمام، فرآه مثقلا حاله، فقفل راجعا إلى أبيه فأخبره بحالته قائلا:

رأيت عينيه داخلتين في رأسه...

فصاح الأشعث، و قد غمرته موجات من السرور:

عينا دميغ و ربّ الكعبة (2).

ص:250


1- الأمالي - أبي علي القالي 255:2.
2- أنساب الأشراف 216:1.

إنّ هذا المجرم العميل هو الذي نادى بالتحكيم، و رشّح الأشعري ليكون ممثّلا عن العراقيّين، و هو الذي اشترك في اغتيال الإمام عليه السّلام، و قد تمّت بوارق آماله بقتل الإمام.

إلقاء القبض على ابن ملجم:

و القي القبض على المجرم الأثيم ابن ملجم فجيء به مكشوف الرأس، مكتوفا فأوقف بين يدي الإمام الزكي الحسن عليه السّلام، فقال له:

«يا ملعون، قتلت أمير المؤمنين، و إمام المسلمين، هذا جزاؤه حين آواك و قرّبك، حتّى تجازيه بهذا الجزاء...؟».

و التفت الإمام الحسن إلى أبيه قائلا:

«يا أبة، هذا عدوّ اللّه و عدوّك ابن ملجم قد أمكننا اللّه منه».

و فتح الإمام عينيه و قال له بصوت خافت:

«لقد جئت شيئا إدّا و أمرا عظيما، أ لم أشفق عليك و أقدّمك على غيرك في العطاء فلما ذا تجازيني بهذا الجزاء؟».

و التفت الإمام إلى ولده فجعل يوصيهم بالبرّ إلى قاتله قائلا:

«أطعموه، و اسقوه، فإن عشت فأنا وليّ دمي، إن شئت قتلت، و إن شئت عفوت، و إن متّ فاقتلوه، و لا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين» (1).

و بهر الإمام الحسن من وصيّة أبيه بالبر و الإحسان لقاتله قائلا:

«يا أبتاه، قتلك هذا اللّعين، و فجعنا بك، و أنت تأمرنا بالرّفق به».

ص:251


1- النجوم الزاهرة 119:1.

فأجابه الإمام بما انطوت عليه روحه الملائكيّة قائلا:

«يا بنيّ ، نحن أهل بيت الرّحمة و المغفرة، أطعمه ممّا تأكل، و اسقه ممّا تشرب، فإن أنا متّ فاقتصّ منه بأن تقتله، و لا تمثّل بالرّجل فإنّي سمعت جدّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور، و إن أنا عشت فأنا أعلم ما أفعل به فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفوا و كرما».

و هكذا نفسية هذا الإمام العظيم العفو و الإحسان و البرّ بمن اعتدى عليه و ظلمه.

أمّ كلثوم و ابن ملجم:

و كانت العقيلة أمّ كلثوم غارقة في الأسى و الشجون، و التفتت إلى المجرم الخبيث ابن ملجم فقالت له:

«يا عدوّ اللّه، قتلت أمير المؤمنين ؟».

فردّها الأثيم بوقاحة و صلف:

لم أقتل أمير المؤمنين و لكن قتلت أباك...

فأجابته حفيدة الرسول:

«إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس».

و سارع المجرم قائلا:

فلم تبكين إذا؟ عليّ تبكين ؟ و راح ابن ملجم يقرح عواطفها و شعورها و يعلمها عن ضربته الغادرة للإمام قائلا: و اللّه! لقد سمّمته - أي السيف - شهرا فإن أخلفني فأبعده اللّه سيفا و أسحقه (1).

ص:252


1- أنساب الأشراف 216:1.

يأس الأطباء من الإمام:

جمع الإمام الحسن عليه السّلام لجنة من الأطباء لمعالجة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و كان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السكوني (1) ، فاستدعى برئة شاة حارّة فتتبع عرقا منها فاستخرجه، ثمّ أدخله في جرح الإمام و أخرجه و إذا به مكلّل ببياض دماغ الإمام لأنّ الضربة القاسية قد وصلت إليه، فارتبك أثير، و التفت إلى الإمام و قال له بصوت خافت حزين النبرات:

يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك فإنّك ميّت... (2).

وصاياه الخالدة:

و أوصى إمام المتّقين و رائد الحكمة أولاده بكوكبة من الوصايا الذهبية قبل وفاته، و هذه بعضها:

1 -

قال عليه السّلام للحسنين و هو على فراش الموت يعاني من آلام الضربة الغادرة قال:

«أوصيكما بتقوى اللّه، و ألاّ تبغيا الدّنيا و إن بغتكما (3) ، و لا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، و قولا بالحقّ ، و اعملا للأجر، و كونا للظّالم خصما، و للمظلوم عونا.

أوصيكما، و جميع ولدي و أهلي و من بلغه كتابي، بتقوى اللّه، و نظم أمركم، و صلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّكما - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - يقول: صلاح

ص:253


1- أثير بن عمر السكوني أحد الأطباء الماهرين يعالج الجراحات الصعبة، و كان صاحب كرسي، تنسب إليه صحراء أثير.
2- الاستيعاب 62:2. معجم ما استعجم 109:1.
3- تبغيا: أي تطلبا.

ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة و الصّيام.

اللّه اللّه في الأيتام! فلا تغبّوا أفواههم (1) ، و لا يضيعوا بحضرتكم.

و اللّه اللّه في جيرانكم! فإنّهم وصيّة نبيّكم؛ ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم.

و اللّه اللّه في القرآن! لا يسبقكم بالعمل به غيركم.

و اللّه اللّه في الصّلاة! فإنّها عمود دينكم.

و اللّه اللّه في بيت ربّكم، لا تخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناظروا (2).

و اللّه اللّه في الجهاد بأموالكم و أنفسكم و ألسنتكم في سبيل اللّه! و عليكم بالتّواصل و التّباذل (3) ، و إيّاكم و التّدابر و التّقاطع لا تتركوا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم.

يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم تخوضون في دماء المسلمين خوضا، تقولون:

قتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي.

انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، و لا تمثّلوا بالرّجل، فإنّي سمعت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - يقول: «إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور»(4).

حكت هذه الوصية روحانيّة الأنبياء، و قداسة الأوصياء، و ما يحمله هذا الإمام العظيم من الشرف و سموّ الذات، فقد أوصى أبناءه بقول الحقّ ، و العمل

ص:254


1- المراد: صلوا الأيتام باتّصال.
2- لم تناظروا: أي لا ينظر إليكم.
3- التباذل: العطاء.
4- نهج البلاغة 77:3.

بمرضاة اللّه تعالى، و مساندة المظلومين، و مناجزة الظالمين، كما أوصاهم بإصلاح ذات البين، و مراعاة الأيتام و الإحسان إليهم، كما أوصاهم بالبرّ بالجيران فإنّه يؤدّي إلى ربط المجتمع و صيانته من التفرّق و الاختلاف، و أوصاهم بالصلاة التي هي أفضل العبادات.

و من هذه الوصايا أن لا يخوض أبناؤه و سائر بني هاشم في إراقة دماء المسلمين مطالبين بثأره فلا يقتلوا غير قاتله، و لا يرتكبوا مثل ما ارتكبه الأمويّون و أنصارهم من المطالبة بدم عثمان بن عفّان، فقد أراقوا أنهارا من دماء المسلمين بغير حقّ .

2 -

أدلى الإمام بهذه الوصية لعموم الناس، و لم يخصّ بها أهل بيته، و جاء فيها:

«أيّها النّاس، كلّ امرئ لاق ما يفرّ منه في فراره. و الأجل مساق النّفس (1).

و الهرب منه موافاته. كم أطردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى اللّه إلاّ إخفاءه. هيهات! علم مخزون! أمّا وصيّتي: فاللّه لا تشركوا به شيئا، و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين، و أوقدوا هذين المصباحين، و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا (2).

حمّل كلّ امرئ منكم مجهوده، و خفّف عن الجهلة ربّ رحيم و دين قويم، و إمام عليم.

أنا بالأمس صاحبكم، و أنا اليوم عبرة لكم، و غدا مفارقكم! غفر اللّه

ص:255


1- الأجل مساق: أي يسوق الإنسان إلى مقرّه الأخير.
2- تشردوا: أي تميلوا.

لي و لكم! إن تثبت الوطأة في هذه المزلّة فذاك (1) ، و إن تدحض القدم فإنّا كنّا في أفياء أغصان، و مهابّ رياح، و تحت ظلّ غمام، اضمحلّ في الجوّ متلفّقها (2) ، و عفا في الأرض مخطّها و إنّما كنت جارا جاوركم بدني أيّاما، و ستعقبون منّي جثّة خلاء (3) ساكنة بعد حراك، و صامتة بعد نطق ليعظكم هدوّي، و خفوت إطراقي، و سكون أطرافي، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع.

و داعي لكم و داع امرئ مرصد للتّلاقي! غدا ترون أيّامي، و يكشف لكم عن سرائري، و تعرفونني بعد خلوّ مكاني و قيام غيري مقامي» (4).

وضع الإمام عليه السّلام في هذه الوصية المناهج السليمة التي تضمن للإنسان المسلم سلامته في دنياه و آخرته و هي التمسّك بالعمودين كتاب اللّه تعالى و سنّة نبيّه العظيم.

و وعظ الإمام أهل بيته و سائر المسلمين بنفسه الذي كان مثلهم و عمّا قليل سيفارقهم إلى دار الحقّ ، فما أعظم هذه الموعظة التي تدعو إلى الاستقامة و التوازن في السلوك، و عدم الغرور.

3 -

و من وصيّة له عليه السّلام إلى ولده السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام عند ما حضرت الإمام الوفاة:

«أوّل وصيّتي أنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسوله و خيرته، اختاره

ص:256


1- أراد عليه السّلام إنّه إن عوفي من ضربته فذاك.
2- فتلفقها: المتلفّق المنضمّ بعضه إلى بعض.
3- خلاء: أي خالية من الروح.
4- نهج البلاغة 33:2-34.

بعلمه، و ارتضاه لخيرته، و أنّ اللّه باعث من في القبور، و سائل النّاس عن أعمالهم عالم بما في الصّدور. ثمّ إنّي اوصيك يا حسن، و كفى بك وصيّا بما أوصاني به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لا تكن الدّنيا أكبر همّك.

و اوصيك يا بنيّ ! بالصّلاة عند وقتها، و الزّكاة في أهلها عند محلّها، و الصّمت عند الشّبهة، و الاقتصاد و العدل في الرّضا و الغضب، و حسن الجوار، و إكرام الضّيف، و رحمة المجهود و أصحاب البلاء، و صلة الرّحم، و حبّ المساكين و مجالستهم، و التّواضع فإنّه من أفضل العبادة، و قصر الأمل، و اذكر الموت، و ازهد في الدّنيا فإنّك رهين موت، و غرض بلاء، و طريح سقم.

و اوصيك بخشية اللّه في سرّ أمرك و علانيّتك، و أنهاك عن التّسرّع بالقول و الفعل، و إذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به، و إذا عرض شيء من أمر الدّنيا فتأنّه حتّى تصيب رشدك فيه، و إيّاك و مواطن التّهمة و المجلس المظنون به السّوء، فإنّ قرين السّوء يغرّ جليسه.

و كن يا بنيّ ! للّه عاملا، و عن الخناز جورا، و بالمعروف آمرا، و عن المنكر ناهيا، و واخ الإخوان في اللّه، و أحبّ الصّالح لصلاحه، و دار الفاسق عن دينك، و ابغضه بقلبك، و زايله بأعمالك لئلا تكون مثله، و إيّاك و الجلوس في الطّرقات، و دع المماراة و مجاراة من لا عقل له و لا علم له.

و اقتصد يا بنيّ ! في مشيتك، و اقتصد في عبادتك، و عليك فيها بالأمر الدّائم الّذي تطيقه، و الزم الصّمت تسلم، و قدّم لنفسك تغنم، و تعلّم الخير تعلم، و كن للّه ذاكرا على كلّ حال، و ارحم من أهلك الصّغير، و وقّر منهم الكبير، و لا تأكل طعاما حتّى تتصدّق منه قبل أكله، و عليك بالصّوم فإنّه زكاة البدن، و جنّة لأهله، و جاهد نفسك، و احذر جليسك، و اجتنب عدوّك، و عليك بمجالس الذّكر،

ص:257

و أكثر من الدّعاء فإنّي لم آلك يا بنيّ نصحا، و هذا فراق بيني و بينك.

و اوصيك بأخيك محمّد خيرا فإنّه شقيقك، و ابن أبيك، و قد تعلم حبّي له، و أمّا أخوك الحسين فهو ابن امّك، و لا اريد الوصاة بذلك العظم، و اللّه الخليفة عليكم، و إيّاه أسأل أن يصلحكم، و أن يكفّ الطّغاة و البغاة عنكم، و الصّبر الصّبر حتّى ينزل اللّه الأمر و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم» (1).

و حكت هذه الوصية اصول الآداب و محاسن الصفات و معالي الأخلاق و دعت أبناء الإمام عليه السّلام إلى التحلّي بها، و تطبيقها على واقع حياتهم ليكونوا سادة الامّة، و مصدر هدايتها و سعادتها.

الوافدون لعيادة الإمام:

اشارة

و وفدت كوكبة من أصحاب الإمام عليه السّلام لعيادته، كان منهم:

1 - حبيب بن عمرو:

تشرّف حبيب بن عمرو بعيادة الإمام عليه السّلام، فقال له بلطف: يا أمير المؤمنين، ما جرحك هذا بشيء؟ و ما بك من بأس...

فنظر إليه الإمام برفق و قال له:

«يا حبيب، أنا و اللّه! مفارقكم السّاعة».

فكان ذلك كالصاعقة على حبيب فلم يملك نفسه، و إنّما أجهش بالبكاء، و كانت السيّدة أمّ كلثوم إلى جانب أبيها، فبكت بكاء مرّا فالتفت إليها الإمام قائلا:

«ما يبكيك يا بنيّة ؟».

ص:258


1- المجالس السنيّة 235:2-236. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 137:8-143.

«كيف لا أبكي و أنت تقول: إنّك تفارقنا...»؟ و هدّأ الإمام روعتها و أخبرها بما سيصير إليه من المنزلة الرفيعة عند اللّه قائلا:

«يا بنيّة، لا تبكي، فو اللّه! لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت...».

و سارع حبيب قائلا:

ما الذي ترى يا أمير المؤمنين ؟ «يا حبيب، أرى ملائكة السّماء و النّبيّين بعضهم في إثر بعض وقوفا يتلقّونني، و هذا أخي محمّد صلّى اللّه عليه و آله جالسا عندي يقول: أقدم فإنّ ما أمامك خير ممّا أنت فيه» (1).

و ساد البكاء و عمّ الحزن و انتشر العويل عند السيّدات من بنات الإمام و عياله.

2 - الأصبغ بن نباتة:

أمّا الأصبغ بن نباتة فهو من خواص أصحاب الإمام عليه السّلام و أحبّائه، و قد أذهله الخطب و مزّق الأسى قلبه باغتيال الإمام فسارع مع جماعة من أصحابه إلى دار الإمام كان منهم الحارث، و سويد بن غفلة، فجلسوا خلف الإمام فسمعوا البكاء و العويل من داخل الدار فأجهشوا في البكاء، فخرج إليهم الإمام الحسن فقال لهم:

«يقول لكم أمير المؤمنين: انصرفوا إلى منازلكم».

فانصرف القوم سوى الأصبغ بن نباتة، و اشتدّ بكاء العلويّات و أبناء الإمام من داخل الدار، حينما أيقنوا أنّ أباهم في الساعات الأخيرة من حياته، و بكى الأصبغ بكاء عاليا، فخرج إليه الإمام الحسن فقال له:

«أ لم أقل انصرفوا...»؟

ص:259


1- المجالس السنيّة 241:2.

و قام الأصبغ و هو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون قائلا بصوت حزين النبرات:

لا و اللّه! يا ابن رسول اللّه، ما تتابعني نفسي، و لا تحملني رجلاي أن انصرف حتى أرى أمير المؤمنين.

و دخل الإمام الحسن على أبيه، و أخبره بأسى الأصبغ و ذهوله، فأذن له الإمام، فدخل عليه، و وصف الأصبغ حالة الإمام بقوله:

دخلت على أمير المؤمنين، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمه، و اصفرّ لونه، فما أدري وجهه أشد صفرة أم العمامة، فأكببت عليه فقبّلته، و بكيت.

و التفت إليه الإمام يهدّى روعه قائلا:

«لا تبك يا أصبغ، فإنّها و اللّه الجنّة!».

و طفق الأصبغ و دموعه تجري على سحنات وجهه قائلا للإمام بنبرات حزينة:

إنّي و اللّه! أعلم أنّك تصير إلى الجنّة، و إنّما أبكي لفقدي إيّاك (1).

و خرج الأصبغ و هو غارق بالبكاء، قد ذابت نفسه أسى و حسرات.

3 - عمرو بن الحمق:

و سارع عمرو بن الحمق الخزاعي لعيادة الإمام و كان من أخلص الناس له و من أكثرهم ولاء و حبّا له، و لم يتمكّن أن يقلّ أقدامه من الحزن و أذن له الإمام،

و أراد عمرو أن يخفّف لوعة المصاب على الإمام قائلا:

ص:260


1- أمالي الشيخ الطوسي: 123.

يا أمير المؤمنين، ليس عليك بأس، إنّما هو خدش...

فأجابه الإمام آيسا من حياته قائلا:

«إنّي مفارقكم».

ثمّ اغمي عليه فبكت السيّدة أمّ كلثوم بكاء عاليا، فانتبه الإمام، فلمّا رآها تبكي قال لها:

«يا أمّ كلثوم، لا تؤذيني فإنّك لو ترين ما أرى، إنّ الملائكة من السّماوات السّبع بعضهم خلف بعض، و النّبيّين يقولون: انطلق فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه» (1).

إنّ ملائكة السماء - و معهم النبيّون - يستقبلون روح إمام المتّقين و سيّد العابدين الممتحن و الصابر على ما ألمّ به من الأحداث الجسام التي مزّقت قلبه أسى و حزنا، و كان من أعظمها فجيعة انتصار معاوية الباغي الأثيم، و افول دولة الحقّ .

4 - صعصعة بن صوحان:

أمّا صعصعة فكان من الأخيار الزاهدين في الدنيا، و المتحرّجين في دينه، و كان على اتّصال وثيق بالإمام عليه السّلام، و قد هرع لعيادته و قال للرجل الذي يتولّى الإذن بالدخول عليه، قل له:

يا أمير المؤمنين، يرحمك اللّه، فلقد كنت خفيف المئونة، كثير المعونة (2).

و دخل صعصعة على الإمام فرآه يجود بنفسه قد خيّم عليه الموت، فاضطرب صعصعة، و ودّ أنّ المنية قد وافته و لم يشاهد الإمام بمثل هذه الحالة.

5 - حجر بن عدي:

أمّا حجر بن عدي الشهيد الخالد في دنيا الإسلام فكان من خيار أصحاب

ص:261


1- أمالي الشيخ الطوسي: 123.
2- مقاتل الطالبيّين: 50.

الإمام، و من أكثرهم ولاء و إخلاصا له، و قد استولى عليه الحزن، فدخل على الإمام و هو يقول بذوب روحه:

فيا أسفي على المولى التّقيّ أبي الأطهار حيدرة الزّكيّ

و لمّا بصر به الإمام قال له برفق و عطف:

«كيف بك - يا حجر - إذا دعيت إلى البراءة منّي فما عساك أن تقول...؟».

و انبرى حجر بإيمان و صدق قائلا:

و اللّه! يا أمير المؤمنين لو قطّعت بالسيف إربا إربا، و اضرم لي النار، و القيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك.

فشكره الإمام على ولائه و إخلاصه، و قال له:

«وفّقت لكلّ خير يا حجر! جزاك اللّه خيرا عن أهل بيت نبيّك» (1).

و صدق حجر فيما عاهد عليه الإمام، فقد أخلص له كأعظم ما يكون الإخلاص، فقد طلب منه ابن هند معاوية البراءة من الإمام فلم يجبه، فنفّذ فيه الإعدام في مرج عذراء، و كانت شهادته من الأحداث الجسام في ذلك العصر.

6 - الإذن للناس لعيادته:

و أذن الإمام عليه السّلام للناس إذنا عامّا لعيادته ليتزوّدوا بالنظر إليه قبل رحيله إلى دار الحقّ ، و ازدحمت الجماهير على عيادة الإمام، و هم يذرفون الدموع و يندبون حظّهم التعيس على ما فرّطوا في عصيانهم للإمام، فقد خسروا القائد و المربّي الذي كان يحنو عليهم و يعطف،

و التفت إليهم و هو يعاني الآلام القاسية قائلا:

«سلوني قبل أن تفقدوني، و خفّفوا سؤالكم لمصيبة إمامكم» (2).

ص:262


1- بحار الأنوار 290:42.
2- بحار الأنوار 290:42.

و كان ذلك من حبّه العارم لإشاعة العلم و إقصاء الجهل، و أحجم الناس أن يسألوه، و ذلك لما يعانيه من آلام الضربة الغادرة.

الإمام يطلب اللبن:

و طلب الإمام عليه السّلام من أهل بيته أن يأتوه بلبن لأنّه يقاوم السمّ الذي سرى في بدنه من سيف ابن ملجم الذي سمّه بألف درهم، و اتي الإمام بقعب فيه لبن فشربه كلّه، ثمّ تذكّر الرجس الخبيث ابن ملجم، و أنّه لم يترك له من اللبن شيئا، فقال عليه السّلام:

«و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، اعلموا أنّي شربت الجميع، و لم ابق لأسيركم شيئا إلاّ أنّه آخر رزقي من الدّنيا، فباللّه! عليكم إلاّ ما سقيتموه مثل ما شربت»، فحمل إليه مثل ذا اللبن فشربه الباغي اللئيم (1).

و هكذا تمثّلت الرحمة الإلهيّة في وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، فقد رفق و أحسن حتى لقاتله.

إقامته للإمام الحسن من بعده:

و لمّا علم الإمام عليه السّلام أنّه مفارق لهذه الدنيا أقام ولده الزكي الإمام الحسن عليه السّلام خليفة من بعده، فقد ذكر ثقة الإسلام الحجّة الكليني نضّر اللّه مثواه أنّ أمير المؤمنين أوصى إلى الحسن، و أشهد على وصيّته الإمام الحسين عليه السّلام و ولده محمّدا و جميع ولده و رؤساء شيعته، و أهل بيته، و دفع إليه الكتب و السلاح و قال له:

«يا بنيّ ، أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن اوصي إليك و أن ادفع إليك كتبي و سلاحي، كما أوصى إليّ رسول اللّه و دفع إليّ كتبه و سلاحه، و أمرني أن آمرك

ص:263


1- بحار الأنوار 290:42.

إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك إلى أخيك الحسين» (1).

و هكذا أقام ولده الزكي ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علما و مرجعا و إماما للأمّة من بعده، و لكنّ الظروف السيّئة التي أحاطت بالإمام عليه السّلام هي التي ألجأته إلى الصلح و لولاه لواجهت الأمّة أزمات خطيرة، و قد عرضنا لذلك في كتابنا حياة الإمام الحسن عليه السّلام.

رواية موضوعة:

ذهب جماعة من الكتّاب كان منهم عميد الأدب العربي طه حسين (2) إلى أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لم يعهد بالخلافة إلى ولده الزكي الإمام الحسن عليه السّلام و أنّه لم يرشّحه لقيادة الامّة من بعده مستدلّين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي (3) أنّ عليّا قيل له: أ لا تستخلف ؟ فقال: إن يرد اللّه بالأمّة خيرا يجمعهم على خيرهم، و هذه الرواية من موضوعات شعيب و من مناكيره كما نصّ على ذلك ابن حجر (4).

إنّ الإمام الحسن عليه السّلام ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سيّد شباب أهل الجنة، و إمام إن قام أو قعد - على حدّ تعبير جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - بالاضافة إلى توفّر جميع صفات

ص:264


1- اصول الكافي 297:1-298.
2- إسلاميات/الفتنة الكبرى: 969.
3- شعيب بن ميمون الواسطي صاحب البزور قال أبو حاتم: مجهول، و كذا قال العجلي. و قال البخاري: فيه نظر. و قال ابن حبّان: يروي المناكير عن المشاهير على قلّته لا يحتجّ به إذا انفرد - تهذيب التهذيب 357:4.
4- تهذيب التهذيب 357:4، و جاء فيه: و من مناكيره عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال: قيل لعليّ أ لا تستخلف.. الرواية.

القيادة العامّة فيه، فكيف لا يرشّحه الإمام للإمامة من بعده (1) ؟

إلى الفردوس الأعلى:

و في ليلة الحادي و العشرين من شهر رمضان التي قيل إنّها ليلة القدر اشتدّت الآلام القاسية بالإمام عليه السّلام فقد تزايد ولوج السمّ في جسده الشريف، و قد وصف حالته ولده محمّد بن الحنفية قال:

نظرنا إلى قدميه و قد احمرّتا فكبر ذلك علينا و أيسنا منه، ثمّ عرضنا عليه المأكول و المشروب فأبى، و نظرنا إلى شفتيه و هما تختلجان بذكر اللّه تعالى، و جعل جبينه يرشح عرقا، فقال له محمّد (2):

ما لي أراك يرشح جبينك عرقا؟ فأجابه الإمام:

«يا بنيّ ، إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه و سكن أنينه».

و لمّا أحسّ بدنوّ الأجل المحتوم منه أمر بجمع أولاده ليودّعهم الوداع الأخير، فلمّا مثلوا عنده قال لهم بصوت خافت:

ص:265


1- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 567:1.
2- محمّد بن الحنفية يكنّى أبا القاسم بشّر به النبيّ قبل ولادته، فقد قال لعليّ : «سيولد لك بعدي غلام قد نحلته اسمي و كنيتي». جاء ذلك في نصرة الشعائر على المثل السائر - الصفدي: 74. و في جامع الاصول 280:1 أنّ الإمام قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أ رأيت إن ولد لي ولد بعدك اسمّيه باسمك و اكنّيه بكنيتك ؟ قال: نعم». فلذا سمّاه الإمام محمّدا.

«اللّه خليفتي عليكم، استودعكم اللّه».

و تعالت أصوات أولاده بالبكاء، و التفت إليه ولده الزكي الإمام الحسن عليه السّلام فقال له: «يا أبة، ما الذي دعاك إلى هذا؟».

«يا بنيّ ، رأيت جدّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منامي قبل هذه الكارثة بليلة، فشكوت إليه ما أنا فيه من التّذلّل و الأذى من هذه الأمّة.

فقال لي: ادع عليهم.

فقلت: اللّهمّ أبدلهم بي شرّا منّي، و أبدلني بهم خيرا منهم...

فقال لي: قد استجاب اللّه دعاءك، و سينقلك إلينا بعد ثلاث، و قد انقضت الثّلاث. يا أبا محمّد، اوصيك بأبي عبد اللّه - يعني الإمام الحسين - خيرا، فأنتما منّي، و أنا منكما».

ثمّ التفت إلى بقيّة أولاده، و أمرهم أن لا يخالفوا سيّدي شباب أهل الجنّة الإمامين الحسن و الحسين، و أن يطيعوهما، ثمّ قال لهم:

«أحسن اللّه لكم العزاء ألا و إنّي منصرف عنكم في ليلتي هذه، و لاحق بحبيبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما وعدني».

ثمّ اغمي عليه ساعة، فلمّا أفاق قال لولده:

«هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عمّي حمزة، و أخي جعفر، و أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّهم يقولون: عجّل قدومك علينا فإنّا إليك مشتاقون...».

ثمّ قال لهم برفق:

«أستودعكم اللّه جميعا، اللّه خليفتي عليكم و كفى باللّه خليفة»، ثمّ سلّم على ملائكة اللّه الكرام الذين أحاطوا به لينقلوا روحه المقدّسة إلى الفردوس الأعلى،

ص:266

و أخذ يقرأ آيات من الذّكر الحكيم، و كان آخر ما نطق به قوله تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (1) و إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (2) ، ثمّ فاضت روحه الطاهرة إلى جنّة المأوى تحفّها ملائكة اللّه و الأنبياء و الأوصياء.

لقد سمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها لتقدّم إليه ما عاناه من الجهد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، و ما لاقاه من الخطوب من طغاة القرشيّين.

لقد ارتفع إلى اللّه تعالى ذلك اللطف الإلهي الذي خلقه اللّه تعالى ليبدّد ظلمات الجهل، و يطهّر الأرض من أوثان الجاهلية و أرجاسها.

لقد مادت أركان العدالة، و انطمست معالم الدين و مات أبو الغرباء، و كهف الأيتام، و عون الضعفاء.

لقد مضى الإمام إلى جنّة المأوى، و هو مكدود، مجهود غارق في الأسى و الخطوب ممّا عاناه من أعمدة القرشيّين الذين أبوا أن تجتمع الخلافة و النبوّة في بيت واحد فأقصوه عن مركزه و قيادته للامّة بعد وفاة أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لمّا آلت الخلافة إليه ناجزوه الحرب، و لا حقوه بضربات موجعة فأفسدوا عليه جيشه، و تركوه في أرباض الكوفة يصعّد الزفرات و الآلام.

ص:267


1- الصافّات: 61.
2- النحل: 128. روت أسماء بنت عميس أن الإمام شهق شهقة ثمّ أغمي عليه، ثمّ أفاق فقال:«مرحبا مرحبا، الحمد للّه الذي صدقنا وعده و أورثنا الجنّة». قيل له: ما ترى ؟ قال: «هذا رسول اللّه و أخي جعفر و عمّي حمزة، و أبواب السماء مفتّحة، و الملائكة ينزلون يسلّمون عليّ و يبشّرون، و هذه فاطمة قد طافت بها و صائفها، و هذه منازلي في الجنّة لمثل هذا فليعمل العاملون». جاء ذلك في ربيع الأبرار 208:4.

تجهيزه و دفنه:

و قام الإمام الزكي الحسن عليه السّلام مع اخوته فغسّلوا الجسد الطاهر، و طيّبوه بالحنوط الذي جاء به جبرئيل و أدرجوه في أكفانه، و هم يذرفون أحرّ الدموع، و لمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل حملوا الجثمان المقدّس، و معهم كوكبة من خيار المؤمنين فدفنوه في النجف الأشرف حيث مقرّه الآن، و قد واروا معه العلم و التقى و الجهاد، و ببركته أصبحت النجف الأشرف أعظم جامعة دينية في العالم الإسلامي قد تخرّج منها أئمّة الفقه و البلاغة و البيان.

و رجع الإمام الحسن عليه السّلام مع بقيّة اخوانه إلى بيوتهم و هم غارقون في الأسى و الشجون.

القصاص من ابن ملجم:

و في صبيحة ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان أمر الإمام الحسن بإحضار المجرم الأثيم عبد الرحمن بن ملجم، فلمّا مثل أمامه قال له ابن ملجم:

ما الذي أمرك به أبوك ؟ أمرني أن لا أقتل غير قاتله، و أن اشبع بطنك، و أنعم وطأك، فإن عاش اقتصّ أو عفا، و إن مات ألحقتك به...».

و بهر الأثيم و راح يقول:

إن كان أبوك ليقول الحقّ ، و يقضي به في حال الغضب و الرضا ثمّ إنّ الإمام الحسن ضربه بالسيف فاتّقى الضربة بيده فبدرت، ثمّ أجهز عليه فقتله (1).

ص:268


1- تاريخ اليعقوبي 91:2. تاريخ الطبري 86:6. تاريخ ابن الأثير 170:3. مقاتل الطالبيّين: 16.

و حلّت على ابن ملجم لعنة اللّه و لعنة اللاعنين، و من ولدوا و من ماتوا و من قال اللّه لهم: كونوا فكانوا!! لعنة تجفّف النبع، و تخضم الزرع و تحرق النبت في الأرض و هو و سيم، و جعل اللّه زفير جهنّم و شهيقها في اصول تكوينه، و أهلكه ألف شيطان كبوه على وجهه في سواء الجحيم، و فيها لفح و فيها أفواه من اللهب ذات أجيج و ذات صفير (1).

التمثيل بابن ملجم:

ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ أولياء دم الإمام عليه السّلام قد مثّلوا بالخبيث الدنس ابن ملجم و هذه بعض أقوالهم:

1 - إنّ الذي مثّل به الإمام الحسين و محمّد بن الحنفية، و قد نهاهما الإمام الحسن عن ذلك فلم يذعنا له (2).

2 - الذي مثّل به عبد اللّه بن جعفر (3).

3 - الإمام الحسن هو الذي مثّل به (4).

إنّ هذا الاختلاف يزيدنا وضوحا بافتعال التمثيل، و قد جزم الدكتور طه حسين بصدور التمثيل قال: و الشيء المحقّق هو أنّ ولاة الدم لم ينفّذوا وصيّة عليّ في أمر قاتله فهو قد أمرهم أن يلحقوه به، و لا يعتدوا و لكنّهم مثّلوا به أشنع تمثيل، فلمّا مات أحرقوه بالنار (5).

ص:269


1- الإمام عليّ صوت العدالة الإسلامية 103:4.
2- الرياض النضرة 205:3.
3- تاريخ أبي الفداء 180:1.
4- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 452:5.
5- علي و بنوه: 184.

إنّ الشيء المحقّق على خلاف ما ذكره الدكتور فإنّ أولياء دم الإمام لم يخالفوا وصيّة الإمام، و إنّما نفّذوا فيه الإعدام لا غير، و هم بعيدون كلّ البعد عن اقتراف ما خالف الشريعة الإسلامية مضافا إلى اختلاف المؤرّخين في من قام بالتمثيل و هو ممّا يدلّ على وضع ذلك.

تأبين الإمام:

اشارة

و انبرى بعض أعلام الإسلام إلى تأبين الإمام و ذكر الخسارة العظمى التي مني بها العالم الإسلامي كان منهم:

1 - الإمام الحسن عليه السّلام:

و لمّا وارى الإمام الحسن عليه السّلام جثمان أبيه المقدّس أقبل إلى الجامع الأعظم في الكوفة و قد احتفّ به اخوانه و البقيّة الصالحة من المهاجرين و الأنصار، فاعتلى أعواد المنبر فابتدأ بحمد اللّه و الثناء عليه ثمّ قال:

«لقد قبض في هذه اللّيلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل و لم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقيه بنفسه و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، و ميكائيل عن شماله، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه.

لقد توفّي في هذه اللّيلة الّتي عرج فيها عيسى بن مريم، و قبض فيها يوشع بن نون وصيّ موسى عليه السّلام، و ما خلّف صفراء و لا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله، و قد أمرني أن أردّها إلى بيت المال» (1).

و تمثّلت صورة أبيه رائد العدالة الكبرى في الأرض فخنقته العبرة، و أرسل ما

ص:270


1- أنساب الأشراف 499:2.

في عينيه من دموع، و بكى لبكائه جميع من حضر المجلس، و ساد الحزن و عمّ الأسى، فقد توفّي الموجّه و المربّي و القائد الذي يحنّ و يعطف عليهم، و يتبنّى قضاياهم و مصيرهم.

لقد حفل خطاب الإمام الحسن عليه السّلام لأبيه بما يلي:

1 - أنّه أشاد بجهاد أبيه في نصرة الإسلام، و الذبّ عن مبادئه و قيمه، و أنّه وقى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمهجته و نفسه.

2 - أنّ الإمام عليه السّلام لم يسبقه الأوّلون بعمل صالح، و لا يدركه الآخرون كذلك، و تمثّلت بهذه الكلمة بلاغة الإعجاز و روعة الايجاز فقد حكت أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أسمى شخصية في الأرض لم يصل إلى ما وصل إليه من الفضائل لا الأوّلون و لا الآخرون عدا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

3 - أنّ الإمام عليه السّلام قد ارتحل إلى حظيرة القدس في أفضل ليلة، و هي الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم إلى السماء و يوشع بن نون وصيّ موسى، فما أعظمها حتى قيل إنّها من ليالي القدر.

4 - أنّ الإمام الحسن عليه السّلام أعرب عن زهد أبيه حينما تقلّد الخلافة الإسلامية، فإنّه لم يترك صفراء و لا بيضاء، و لا دارا و لا عقارا، و تحرّج كأشدّ ما يكون التحرّج في أموال الدولة فلم يصطف لنفسه، و لا لأبنائه أي شيء منها، و رفض رفضا كاملا جميع متع الحياة و ملاذها.

2 - صعصعة:

و وقف صعصعة بن صوحان على حافة قبر الإمام، و هو حيران قد أذهله الخطب، واضعا إحدى يديه على فؤاده، و الاخرى قد ملأها ترابا، و هو يضرب بها على رأسه و هو يقول:

ص:271

بأبي أنت و أمّي يا أمير المؤمنين! هنيئا لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، و قوي صبرك، و عظم جهادك، و ظفرت برأيك، و ربحت تجارتك، و قدمت على خالقك، فتلقّاك اللّه ببشارته، و حفّتك ملائكته، و استقررت في جوار المصطفى، فأكرمك اللّه بجواره، و لحقت بدرجة أخيك المصطفى، و شربت بكأسه الأوفى، فأسأل اللّه أن يمنّ علينا باقتفائنا أثرك، و العمل بسيرتك، و الموالاة لأوليائك، و المعاداة لأعدائك، و أن يحشرنا في زمرة أوليائك فقد نلت ما لم ينله أحد، و أدركت ما لم يدركه أحد، و جاهدت في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده، و قمت بدين اللّه حقّ القيام حتّى أقمت السنن، و أبرت الفتن، و استقام الإسلام، و انتظم الإيمان، فعليك منّي أفضل الصلاة و السلام، بك اشتدّ ظهر المؤمنين، و اتّضحت أعلام السبل، و اقيمت السنن، و ما جمع لأحد مناقبك و خصالك، سبقت إلى إجابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، مقدّما مؤثرا، و سارعت إلى نصرته، و وقيته بنفسك، و رميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف و الحذر، قصم اللّه بك كلّ جبّار عنيد، و ذلّ بك كلّ ذي بأس شديد و هدم بك حصون أهل الشرك و الكفر و العدوان و الردى، و قتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئا لك، كنت أقرب الناس من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قربا و أوّلهم سلما، و أكثرهم علما و فهما.

فهنيئا لك يا أبا الحسن! لقد شرّف اللّه مقامك، و كنت أقرب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسبا، و أوّلهم إسلاما، و أوفاهم يقينا، و أشدّهم قلبا، و أبذلهم لنفسه مجاهدا، و أعظمهم في الخير نصيبا، فلا حرمنا اللّه أجرك، و لا أذلّنا بعدك، فو اللّه! لقد كانت حياتك مفتاحا للخير، و مغلاقا للشرّ، و إنّ يومك هذا مفتاح كلّ شرّ، و مغلاق كلّ خير، و لو أنّ الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم، و لكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة... (1).

ص:272


1- بحار الأنوار 295:42-296.

حكى هذا التأبين معرفة صعصعة بالإمام عليه السّلام و إحاطته ببعض مآثره و فضائله، التي منها جهاده في سبيل اللّه، و نصرته لدينه حتى استقام على سوقه عبل الذراع، فما أعظم عائدته على الإسلام و المسلمين، كما حكى تأبين صعصعة للإمام الخسارة العظمى التي مني بها العالم الإسلامي بفقده للإمام رائد الحقّ و العدل في دنيا الإسلام.

3 - ابن عبّاس:

و وقف ابن عبّاس و هو خائر القوى على ضريح الإمام و هو يندبه بذوب روحه قائلا:

وا أسفاه على أبي الحسن! ملك - و اللّه! - فما غيّر و لا بدّل و لا قصّر، و لا جمع، و لا منع، و لا آثر، و لقد كانت الدنيا أهون عليه من شسع نعله، ليث في الوغى، بحر في المجالس، حكيم الحكماء، هيهات قد مضى في الدرجات العلى... (1).

أشادت هذه الكلمات الذهبية التي أدلى بها حبر الامّة عبد اللّه بن عباس بمآثر الإمام و التي منها:

أوّلا - أنّها ألقت الأضواء على المعالم المشرقة لسياسة الإمام عليه السّلام أيام حكمه، و كان البارز منها ما يلي:

1 - أنّ الإمام حينما استولى على الحكم لم يغيّر، و لم يبدّل أي حكم من كتاب اللّه تعالى و سنّة نبيّه، و إنّما سار على المنهاج الكامل الذي سنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

2 - و لم يقصّر الإمام في أي شأن من شئون الدولة، و إنّما سار فيها سيرا سجحا

ص:273


1- مقتل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - ابن أبي الدنيا: 109.

لا التواء و لا منعطفات فيه.

3 - و لم يجمع الإمام أي شيء من أموال الدولة، و لم يدّخر لنفسه و لا لبنيه لا قليلا و لا كثيرا، فقد احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط فيها.

4 - و لم يمنع الإمام عليه السّلام أي مواطن من عطائه، حتّى أعداءه الذين ناهضوه، فقد منحهم العطاء، و لم يحرمهم منه.

5 - و لم يؤثر الإمام عليه السّلام أي أحد من أبنائه و ذويه بأي شيء من أموال الدولة.

ثانيا - حكت هذه الكلمات زهد الإمام عليه السّلام، فقد كانت الدنيا لا تساوي شسع نعله.

ثالثا - أشارت هذه الكلمة إلى شجاعة الإمام، و أنّه لا يساويه أحد في هذه الظاهرة، فقد كان ليثا في الحروب التي أثارتها قريش على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد حصد رءوس أعلامهم، و ترك الحزن و الحداد في بيوتهم.

رابعا: أشار ابن عباس إلى سعة علوم الإمام و معارفه، و أنّه بحر لا يدرك قعره.

خامسا: و من محتويات هذه الكلمات القيّمة أنّ الإمام عليه السّلام حكيم الحكماء، فقد بلغ من الحكمة ما لم يبلغه أي أحد قبله و لا بعده سوى أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

4 - رجل من تميم:

و ألقى رجل من تميم على جثمان الإمام المقدّس هذه الكلمة قال:

رحمك اللّه يا أمير المؤمنين! فلئن كانت حياتك مفتاح خير و مغلاق شرّ، كنت للناس علما منيرا يعرف به الهدى من الضلالة، و الخير من الشرّ، فإنّ وفاتك

ص:274

لمفتاح شرّ، و مغلاق خير، و أنّ فقدانك لحسرة و ندامة، و لو أنّ الناس قبلوك لأكلوا من فوق رءوسهم و من تحت أرجلهم، و لكنّهم اختاروا الدنيا على الآخرة فأصبحوا بعدك حيارى في سبيل المطالب، قد غلب عليهم الشقاء، و الداء العياء، فهم ينتقضونها كما ينتقض الحبل من برمه، فتبّا لهم خلفا تقبّلوا سخفا، و باعوا كثيرا بقليل، و جزيلا بيسير، فكرّم اللّه مآبك، و ضاعف ثوابك، و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته (1).

ألمحت هذه الكلمة إلى أنّ حياة الإمام عليه السّلام كانت مفتاح خير و شرف و كرامة للامّة العربية و الإسلامية، فقد كان هذا الإمام الملهم العظيم من مصادر الرحمة و الفيض، و كان هبة من اللّه لعباده و لو أنّ المسلمين حالفهم التوفيق لثنيت له الوسادة و تسلّم قيادة الامّة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله مباشرة، و لكنّ الأضغان و الأحقاد و كراهة قريش أن تجتمع النبوّة و الخلافة في بيت واحد هي التي حرمت المسلمين من التمتّع بمواهب هذا الإمام و عدله.

5 - القعقاع:

و وقف القعقاع بن معبد بن زرارة التميمي على حافّة القبر الشريف و أخذ يصوغ من حزنه و لوعته على فقد الإمام قائلا:

رضوان اللّه عليك يا أمير المؤمنين! فو اللّه! لقد كانت حياتك مفتاح خير، و لو أنّ الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم، و لكنّهم غمطوا النعمة، و آثروا الدنيا على الآخرة (2).

إنّ حياة الإمام مصدر هداية و رحمة و خير إلى الناس أجمعين، و لو أنّ الأمور

ص:275


1- مقتل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - ابن أبي الدنيا: 109.
2- تاريخ اليعقوبي 203:2.

استقامت للإمام بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله لعمّ الخير، و سادت القيم التي جاء بها الإسلام، و ما مني المسلمون بالكوارث و الخطوب.

6 - أبو الأسود الدؤلي:

و لمّا انتهى نعي الإمام عليه السّلام إلى أبي الأسود الدؤلي، و تقلّد الإمام الحسن عليه السّلام للخلافة خطب خطبة بليغة أبّن فيها الإمام، و أشاد بولده الإمام الحسن عليه السّلام، و كان من بنود خطبته ما يلي:

إنّ رجلا من أعداء اللّه المارقة عن دينه اغتال أمير المؤمنين عليّا - كرّم اللّه وجهه و مثواه - في مسجده و هو خارج لتهجّده في ليلة يرجو فيها مصادفة ليلة القدر، فقتله فيها، للّه من قتيل! و أكرم به و بمقتله و روحه! من روح عرجت إلى اللّه تعالى بالبرّ و التقوى و الإيمان و الإحسان، لقد أطفئ منه نور اللّه في أرضه، لا يبين بعده أبدا فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و عند اللّه نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين.

ثمّ بكى حتى اختلفت أضلاعه، و قال:

ثمّ أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ابنه و سليله، و شبيهه في خلقه و هديه، و إنّي لأرجو أن يجبر اللّه به ما و هى، و يسدّ به ما انثلم، و يجمع به الشمل و يطفئ به نيران الفتنة، فبايعوه.

فبايعته الشيعة، و توقّف عن بيعته من كان يرى رأي العثمانية، و رثى أبو الأسود الإمام بهذه الأبيات:

ألا أبلغ معاوية بن حرب فلا قرّت عيون الشّامتينا

أ في شهر الصّيام فجعتمونا بخير النّاس طرّا أجمعينا؟

قتلتم خير من ركب المطايا و خيّسها (1) و من ركب السّفينا

ص:276


1- خيسها: أي راضها و ذللها.

و من لبس النّعال و من حذاها و من قرأ المثاني و المئينا (1)

لقد علمت قريش حيث حلّت بأنّك خيرها حسبا و دينا (2)

و أشاد أبو الأسود بمكانة الإمام عليه السّلام، و وسم من اغتاله بأنّه عدوّ اللّه، و أنّ قتله أعظم كارثة مدمّرة مني بها العالم الإسلامي، فيا له من قتيل لا شبيه له في مثله و تقواه!

7 - أمّ العريان:

و أبّنته السيّدة أمّ العريان التي تمثّل لوعتها و حزنها على فقيد الإسلام و هي:

ألا يا خير من ركب المطايا و ذلّلها و من ركب السّفينا

يقيم الحدّ لا يرتاب فيه و يقضي بالفرائض مستبينا

كأنّ النّاس مذ فقدوا عليّا نعام جال في بلد سنينا

فلا تشمت معاوية بن حرب فإنّ بقيّة الخلفاء فينا

و كنّا قبل مقتله بخير نرى مولى رسول اللّه فينا (3)

و حكت هذه الأبيات الحزن العميق لهذه السيّدة على فقد الإمام الذي أقام حدود اللّه من غير ارتياب أو شكّ ، و أنّ الناس لمّا فقدوه كأنّهم أنعام فقدت راعيها، كما ناشدت معاوية أن لا يشمت بقتل الإمام عليه السّلام، فإنّ بقيّة النبوّة موجودة في نجليه و هما الحسن و الحسين عليهما السّلام.

8 - أبو بكر بن حمّاد:

و أبّنه أبو بكر بن حمّاد بهذه الأبيات:

ص:277


1- المثاني: فاتحة الكتاب. المئينا: مجموع القرآن.
2- مؤلّفو الشيعة في صدر الإسلام: 23-24، نقلا عن حياة الحيوان للدميري.
3- مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: 110.

و هزّ عليّ بالعراقين لحية مصيبتها جلّت على كلّ مسلم

فقال: سيأتيها من اللّه حادث و يخضبها أشقى البريّة بالدّم

فباكره بالسّيف - شلّت يمينه لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم

فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه تبوّأ منها مقعدا في جهنّم

ففاز أمير المؤمنين بحظّه و إن طرقت فيها الخطوب بمعظم (1)

9 - قصيدة في تأبين الإمام:

و رثي الإمام عليه السّلام بهذه القصيدة، و قد اختلف الرواة في ناظمها، فقيل: إنّها للسيّدة أمّ كلثوم بنت الإمام عليه السّلام.

و قيل: إنّها لأمّ الهيثم بنت العريان الخثعمية.

و قيل: إنّها لأبي الأسود الدؤلي، و هذا نصّها:

ألا يا عين جودي و اسعدينا ألا فابكي أمير المؤمنينا

و تبكي أمّ كلثوم عليه بعبرتها و قد رأت اليقينا

ألا قل للخوارج حيث كانوا فلا قرّت عيون الحاسدينا

و أبكي خير من ركب المطايا و فارسها و من ركب السّفينا

و من لبس النّعال و من حفاها و من قرأ المثاني و المئينا

و من صام الهجير و قام ليلا و ناجى اللّه خير الخالقينا (2)

و القصيدة كلّها على هذا السمت، و هي تضارع الشعر الشعبي، و قد تليت في الجامع الأعظم في الكوفة، فاهتزّ الجامع ببكاء الكوفيّين و صراخهم، و قد أسفوا كأشدّ ما يكون الأسف على خذلانهم للإمام، و عصيانهم لأوامره.

ص:278


1- مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: 110.
2- بحار الأنوار 299:42.

10 - بكر بن حسّان:

و ممّن أبّن الإمام الشاعر بكر بن حسّان، فقد أبّنه بهذه القصيدة:

قل لابن ملجم - و الأقدار غالبة هدّمت للدّين و الإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم و أفضل النّاس إسلاما و إيمانا

و أعلم النّاس بالقرآن ثمّ بما سنّ الرّسول لنا شرعا و تبيانا

صهر النّبيّ و مولاه و ناصره أضحت مناقبه نورا و برهانا

و كان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا

ذكرت قاتله و الدّمع منحدر فقلت سبحان ربّ العرش سبحانا!

قد كان يخبرنا أن سوف يخضبها قبل المنيّة أشقاها و قد كانا

إنّي لأحسبه ما كان من بشر يخشى المعاد و لكن كان شيطانا

أشقى مراد إذا عدّت قبائلها و أخسر النّاس عند اللّه ميزانا

كعاقر النّاقة الاولى الّتي حلبت على ثمود بأرض الحجر خسرانا

فلا عفا اللّه عنه ما تحمّله و لا سقى قبر عمران بن حطّانا

لقوله في شقيّ ظلّ مجترما و نال ما ناله ظلما و عدوانا

«يا ضربة من تقيّ أراد بها إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا»

بل ضربة من غويّ أورثته لظى مخلّدا قد أتى الرّحمن غضبانا

كأنّه لم يرد قصدا بضربته إلاّ ليصلى عذاب الخلد نيرانا (1)

و حكت هذه الأبيات توجّع بكر بن حسّان و أساه على اغتيال الإمام، و أنّ ابن ملجم قد هدم الدين و الإسلام بقتله للإمام الذي هو أفضل الناس بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان منه بمنزلة هارون من موسى، و أنّ الإمام عليه السّلام قد أعلن غير مرّة أن كريمته

ص:279


1- نور الأبصار - الشبلنجي: 108.

الشريفة سوف تخضّب من دم رأسه، يخضّبها أشقى الأوّلين و الآخرين.

و شجب بكر بهذه الأبيات مدح عمران بن حطّان الرقاشي لابن ملجم الخارجي و ثناءه عليه بقوله:

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما فأحسبه أوفى البريّة عند اللّه ميزانا

إنّ العقول المتخلّفة عند الخوارج قد استباحت كلّ ما حرّم اللّه تعالى من إثم، فقد استحلّت دم الإمام عليه السّلام الذي هو نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حامي الإسلام، و المجاهد الأوّل الذي حطّم الأصنام و الأوثان.

و قد أثارت أبيات عمران بن حطّان سخط الأخيار، و المتحرّجين في دينهم و نقموا عليه، و قد ردّ عليه القاضي أبو الطيّب طاهر بن عبد اللّه الشافعي بقوله:

إنّي لأبرأ ممّا أنت قائله عن ابن ملجم الملعون بهتانا

يا ضربة من شقيّ ما أراد بها إلاّ ليهدم للإسلام أركانا

إنّي لأذكره يوما فألعنه دينا و ألعن عمرانا و حطّانا!

عليه ثمّ عليه الدّهر متّصلا لعائن اللّه إسرارا و إعلانا

فأنتما من «كلاب النّار»! جاء به نصّ الشّريعة برهانا و تبيانا

عليكما لعنة الجبّار ما طلعت شمس و ما أوقدوا في الكون نيرانا (1)

و من المؤسّف أنّ البخاري في صحيحه يروي عن هذا الأثيم عمران بن حطّان الخارجي و يتحرّج من الرواية عن أئمّة الهدى، و مصابيح الإسلام.

ص:280


1- نور الأبصار - الشبلنجي: 217.

سرور معاوية:

و لمّا سمع ابن هند بقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام طار فرحا، فقد تمّت بوارق آماله، و صفا له الملك، و استوسقت له الامور، و ظفر بما أراده من الكيد للإسلام، و استعباد المسلمين، و إرغامهم على الذلّ و العبودية لسلطانه، و قد اتّخذ يوم قتل الإمام عيدا رسميا (1) لا في دمشق فحسب و إنّما في عموم البلاد الإسلامية الخاضعة لنفوذه.

و كتب معاوية إلى ابن العاص يهنّيه بقتل الإمام عليه السّلام، و رسم في أسفل كتابه هذه الأبيات:

و قتلك و أسباب الامور كثيرة منيّة شيخ من لؤي بن غالب

فيا عمرو مهلا إنّما أنت عمّه و صاحبه دون الرجال الأقارب

نجوت و قد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب

و يضربني بالسيف آخر مثله و كانت عليه تلك ضربة لازب

و أنت تناغي كلّ يوم و ليلة بمصرك بيضا كالظباء السوارب (2)

لقد وقعت الامّة فريسة بعد مصرع الإمام بأيدي الامويّين فراحوا يسومونها سوء العذاب، و يرغمونها على الذلّ و العبودية.

و من المؤسف حقّا أنّ معاوية قد سلم من اغتيال الخوارج فقد ضربه البرك على أليته فاستدعى طبيبا فقال له:

أمّا أن أحمي لك حديدة فأكويك بها، أو أسقيك شربة ينقطع بها نسلك...

فقال له معاوية: لا طاقة لي بالحديد، و في عبد اللّه و يزيد ما يغنيني، اسقني

ص:281


1- حياة الإمام الحسين عليه السّلام 109:2.
2- نور الأبصار: 210.

الشربة، فسقاه و برأ...

و جيء له بالبرك الذي ضربه، فقال له:

البشارة قتل عليّ في هذه الساعة.

فقال معاوية: و كيف ذاك ؟ فأخبره بالمؤامرة التي استهدفت الإمام و ابن العاص، فلم يعن به، و قطع يديه و رجليه و بعد هذه الحادثة أمر معاوية باتّخاذ المقصورة، و جعل خلفه حارسا عند ما يصلّي (1) ، و كذلك نجا ابن العاص فإنّه لم يصل في تلك الليلة لأنّه قد اشتكى علّة، و أقام خارجة مقامه في الصلاة فعمد الخارجي إلى قتله ظانّا أنّه ابن العاص فقيل له:

أ ما قتلت عمروا؟ بل قتلت خارجة.

و في ذلك يقول الشاعر:

و ليتها إذ فدت عمرو الخارجة فدت عليّا بما شاءت من البشر

سرور عائشة:

و لما انتهى خبر مقتل الإمام إلى عائشة فقدت إهابها من الفرح و السرور، و راحت تقول:

فألقت عصاها و استقرّ بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثمّ استشهدت ببيت آخر:

فإن يك نائبا فلقد نعاه ناع ليس في فيه التراب (2)

ص:282


1- الكامل للمبرّد 144:3.
2- جواهر المطالب 104:2-105.

فأنكرت عليها زينب بنت أبي سلمة و قالت لها:

بمثل هذا تقولين لعليّ ؟ فندمت و قالت:

إذا نسيت فذكّروني.

و بادرت عائشة قائلة.

من قتله ؟ رجل من مراد.

فهزّت أعطافها فرحا و قالت:

ربّ قتيل للّه، بيدي رجل من مراد (1)! و بهذا - الحمد للّه - ينتهي بنا المطاف عن هذه الموسوعة التي تلقي الأضواء على حياة إمام المتقين، و بطل الإسلام، و المحامي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هي - بكلّ تأكيد - لا تلم بحياته، و لا تحيط بمآثره و فضائله، فإنّ الإحاطة الكاملة بسيرته، و سائر شئونه أمر بعيد المنال.

1

ص:283


1- الموفقيّات: 31.

ص:284

المحتويات

تقديم 5 حكومة الإمام عليه السّلام 9-46 رفض الإمام للخلافة 11 مؤتمر القوّات المسلّحة 12 قبول الإمام 14 البيعة 15 ابتهاج المسلمين 16 تأييد الصحابة 17 1 - ثابت بن قيس 17 2 - خزيمة بن ثابت 17 3 - صعصعة بن صوحان 18 4 - مالك الأشتر 18 5 - عبد الرحمن الجمحي 19 6 - عقبة بن عمرو 19 الوفود المهنّئة 20

ص:285

1 - وفد اليمن 20 2 - قبائل همدان 21 3 - وفد جهينة 21 4 - وفد بجيلة 21 الدعاء على المنابر للإمام 21 وجوم القرشيّين 22 القعّاد 24 مصادرة الأموال المنهوبة 26 عزل الولاة 28 سياسته الداخلية 28 المساواة 28 1 - المساواة في العطاء 29 2 - المساواة أمام القانون 29 3 - المساواة في الحقوق و الواجبات 29 المواساة 30 إلغاء التفاخر بالآباء 30 منع الشطرنج 30 نهيه عن الجلوس في الطريق 30 حرقه لمحلاّت الخمر 31 إحداثه للسجن 31 انشاؤه بيتا للمظالم 31 شرطة الخميس 31 مع رجل طويل الذيل 32 تقديمه لقنبر عليه 32

ص:286

أمره بكتابة الحوائج 32 مدير شرطة الإمام 33 كاتبه 33 الصراحة و الصدق 33 إلغاء المهرجانات الشعبية 35 إقامة الحدّ على النجاشي 35 سياسته المالية 36 توزيع المال 36 المساواة في العطاء 38 احتياطه في أموال الدولة 39 1 - مع عقيل 39 2 - مع الحسن و الحسين 40 3 - مع عبد اللّه بن جعفر 40 الانتاج الزراعي 40 الحرية 41 الحرية السياسية 41 1 - حرية القول 42 2 - حرية النقد 43 3 - حرية التنقّل 43 الرقابة على السوق 43 1 - مع التجّار 44 2 - مع القصّابين 44 3 - مع غالب بن صعصعة 44 مع مجنون 44

ص:287

مع أهل الكوفة 45 في سوق الإبل 45 عدم شرائه ممّن يعرفه 45 حرب الجمل 47-105 السيّدة عائشة 50 موقفها من بيعة الإمام 51 خطاب عائشة بمكّة 53 دوافع تمرّدها 54 عائشة مع أمّ سلمة 56 مؤتمر مكّة 58 مقرّرات المؤتمر 59 1 - احتلال البصرة 59 2 - المطالبة بدم عثمان 59 3 - مسئولية الإمام عن دم عثمان 59 خديعة معاوية للزبير و طلحة 59 تجهيز الجيش بالأموال 60 الزحف إلى البصرة 61 شراء عسكر 61 ماء الحوأب 62 في ربوع البصرة 64 أبو الأسود مع الزبير 65

ص:288

أبو الأسود مع طلحة 65 خطاب والي البصرة 65 عقد هدنة بين الفريقين 66 نقض العهد 66 يوم الجمل الأصغر 67 النزاع على الصلاة 68 استنجاد الإمام بالكوفة 69 خطبة حجر بن عدي 71 خطبة الإمام بذي قار 72 الصحابة الذين رافقوا الإمام 75 جيش الإمام بالبصرة 78 دعوة الإمام إلى السلم 79 1 - صعصعة بن صوحان 79 مع طلحة 79 مع الزبير 79 مع عائشة 79 2 - عبد اللّه بن عباس 80 مع طلحة 80 مع عائشة 82 مع الزبير 83 الإمام مع طلحة و الزبير 83 الإمام مع الزبير 84 الدعوة إلى كتاب اللّه 86 التهيّؤ للحرب 87

ص:289

الحرب العامّة 87 ابن الزبير و مالك الأشتر 89 مصرع الزبير 90 مصرع طلحة 93 قيادة عائشة للجيش 94 عقر الجمل 96 مع عائشة 96 ضحايا الحرب 97 الإمام مع القتلى 97 العفو العامّ 99 الإمام مع عائشة 99 تسريح عائشة 100 آراء الفقهاء في حرب الجمل 102 أبو حنيفة 103 ابن حجر 103 إمام الحرمين 103 متارك حرب الجمل 104 تمرّد معاوية 107-199 خداعه للوجوه 110 1 - الزبير و طلحة 110 2 - عبد اللّه بن عمر 110

ص:290

3 - سعد بن أبي وقّاص 112 4 - عمرو بن العاص 113 5 - كتابه لأهل المدينة 116 تضليل أهل الشام 117 الرسائل المتبادلة بين الإمام و معاوية 119 رسالة للإمام 119 جواب معاوية 119 رسالة الإمام 120 جواب معاوية 121 رسالة الإمام 121 جواب معاوية 123 ردّ الإمام على معاوية 124 رسالة من معاوية للإمام 126 ردّ الإمام 126 رسالة من الإمام لمعاوية 127 ردّ معاوية 129 جواب الإمام 129 جواب معاوية 130 ردّ الإمام 130 جواب معاوية 131 جواب الإمام 131 جواب معاوية 134 ردّ الإمام 134 رسالة معاوية للإمام 135

ص:291

جواب الإمام 137 كتاب معاوية للإمام 142 ردّ الإمام 144 الاستعداد للحرب 149 رسائل الإمام لولاته 150 كتابه لمخنف بن سليم 150 رسالة الإمام إلى امراء الأجناد 151 كتابه إلى قريش 152 زحف معاوية لصفّين 154 خروج الإمام للحرب 155 احتلال جيش الإمام للفرات 156 الإمام مع الشامي 157 رسل السلام 159 1 - عدي بن حاتم 160 جواب معاوية 160 2 - يزيد بن قيس 161 جواب معاوية 161 3 - شبث بن ربعي 162 الاستعداد للحرب 163 تعاليم الإمام 163 دعاء الإمام 163 التحام الجيشين 164 معاوية يحرّض أصحابه على اغتيال الإمام 165 استئناف الحرب 166

ص:292

الإمام يدعو معاوية للبراز 167 مبارزة الإمام لابن العاص 168 مصرع الشهيد الخالد عمّار 170 وقوع الفتنة في جيش معاوية 174 ليلة الهرير 176 خطاب الإمام 177 مهزلة رفع المصاحف 177 التحكيم 184 رسالة الإمام لابن العاص 184 وثيقة التحكيم 188 رجوع الإمام إلى الكوفة 190 اجتماع الحكمين 191 افتخار ابن العاص 196 فرح الشاميّين 197 رسالة ابن العاص لمعاوية 197 مآسي الإمام 198 تمرّد المارقين 201-209 استعداد الإمام لحرب معاوية 203 قتال الإمام للمارقين 205

ص:293

افول دولة الحقّ 211-229 تفلّل جيش الإمام 214 احتلال مصر 216 الغارات على مناطق حكم الإمام 218 1 - الحجاز و اليمن 218 2 - الغارة على العراق 220 1 - عين التمر 221 2 - هيت 221 3 - واقصة 224 4 - الكوفة 225 عبث الخوارج 225 دعاء الإمام على نفسه 227 المأساة الخالدة 231-283 مؤتمر مكّة 236 الأمويون و اغتيال الإمام 236 الإمام مع ابن ملجم 239 الوشاية بابن ملجم 240 ابن ملجم مع قطام 240

ص:294

اغتيال الإمام 242 ابن ملجم يصف ضربته للإمام 250 تجسّس الأشعث على الإمام 250 إلقاء القبض على ابن ملجم 251 أمّ كلثوم و ابن ملجم 252 يأس الأطباء من الإمام 253 وصاياه الخالدة 253 الوافدون لعيادة الإمام 258 1 - حبيب بن عمرو 258 2 - الأصبغ بن نباتة 259 3 - عمرو بن الحمق 260 4 - صعصعة بن صوحان 261 5 - حجر بن عدي 261 6 - الإذن للناس لعيادته 262 الإمام يطلب اللبن 263 إقامته للإمام الحسن من بعده 263 رواية موضوعة 264 إلى الفردوس الأعلى 265 تجهيزه و دفنه 268 القصاص من ابن ملجم 268 التمثيل بابن ملجم 269 تأبين الإمام 270 1 - الإمام الحسن عليه السّلام 270 2 - صعصعة 271

ص:295

3 - ابن عبّاس 273 4 - رجل من تميم 274 5 - القعقاع 275 6 - أبو الأسود الدؤلي 276 7 - أمّ العريان 277 8 - أبو بكر بن حمّاد 277 9 - قصيدة في تأبين الإمام 278 10 - بكر بن حسّان 279 سرور معاوية 281 سرور عائشة 282 المحتويات 285-2961

ص:296

المصادر

ص:297

ص:298

القرآن الكريم أ الآداب الشرعية و المنح المرعية/شمس الدين الحنبلي أبو طالب و بنوه/محمّد علي آل السيّد عليخان اتّجاهات الشعر العربي/محمّد مصطفى هدارة أثر التشيّع في الأدب العربي/محمّد سيّد الكيلاني أحاديث أمّ المؤمنين عائشة/مرتضى العسكري الاحتجاج/الطبرسي الأحكام السلطانية/للماوردي أحكام القرآن/الجصّاص أخبار القضاة/وكيع القاضي الأخبار الطوال/الدينوري

ص:299

أخلاق حملة القرآن/أبي بكر البغدادي الإدارة الإسلاميّة/محمّد كرد علي أدب الدنيا و الدين/الماوردي الأذكياء/ابن الجوزي الارشاد/الشيخ المفيد الارشاد في اصول الاعتقاد/الجويني إرشاد القلوب/الديلمي أسباب النزول/أبو الحسن الواحدي النيسابوري اسبوع الإمام/مجموعة من الكتّاب الاستبصار/الشيخ الطوسي الاستيعاب/ابن عبد البرّ المالكي اسد الغابة/ابن الأثير أسنى المطالب في نجاة أبي طالب/أحمد زيني دحلان الاشتقاق/الأصمعي الاصابة/ابن حجر العسقلاني الاصول العامّة/السيّد محمّد تقي الحكيم اصول الكافي/الشيخ الكليني أضواء على دعاء كميل/عزّ الدين بحر العلوم أضواء على السنّة المحمّدية/الشيخ محمود أبو رية إكمال الدين/الشيخ الصدوق الاعجاز و الايجاز/الثعالبي

ص:300

أعلام النساء/رضا عمر كحالة إعلام الورى/الطبرسي أعيان الشيعة/السيّد محسن العاملي الأغاني/أبو فرج الأصفهاني الأمالي/أبو علي القالي أمالي الصدوق/الشيخ الصدوق أمالي الطوسي/الشيخ الطوسي أمالي المرتضى/السيّد المرتضى أمالي المفيد/الشيخ المفيد الإمام الحسين عليه السّلام/العلائلي الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام/عبد الفتاح مقصود الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة/جورج جرداق الإمامة و السياسة/ابن قتيبة إمتاع الأسماع/المقريزي الامتاع و المؤانسة/أبو حيان التوحيدي الأموال/أبو عبيد قاسم بن سلام انباه الرواة/الزبيدي أنساب الأشراف/البلاذري إنسان العيون/عليّ بن إبراهيم الحلبي إيضاح الوقف و الابتداء/محمّد بن قاسم الأنباري إيمان أبي طالب/الشيخ المفيد

ص:301

ب بحار الأنوار/المجلسي البداية و النهاية/ابن كثير بستان الرازي/محمّد الرازي بصائر الدرجات/محمّد بن الحسن الصفّار البصائر و الذخائر/أبو حيّان التوحيدي بلاغات النساء/ابن طيفور البلد الأمين/إبراهيم بن عليّ الكفعمي بهجة المجالس/يوسف بن عبد البرّ البيان و التبيين/الجاحظ ت تاج العروس/الزبيدي تاريخ ابن خلدون/عبد الرحمن بن محمّد تاريخ ابن عساكر/علي بن حسن بن عساكر تاريخ ابن كثير/ابن كثير تاريخ أبي الفداء/إسماعيل بن عليّ عماد الدين تاريخ بغداد/الخطيب أحمد بن علي البغدادي

ص:302

تاريخ الخميس/الحسين بن محمّد الدياربكري تاريخ دمشق/ابن عساكر تاريخ الشعر العربي/نجيب محمّد تاريخ الطبري/محمّد بن جرير الطبري تاريخ العراق في ظلّ الحكم الأموي/عليّ حسني الخربوطلي تاريخ اليعقوبي/أحمد بن واضح اليعقوبي تبصرة الحكّام/إبراهيم بن فرحون اليعمري تحف العقول/حسن بن شعبة تحفة المحتاج/النووي تذكرة الخواص/ابن الجوزي تصنيف نهج البلاغة/لبيب بيضون تفسير ابن كثير/إسماعيل بن كثير القرشي تفسير الإمام العسكري عليه السّلام/المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام تفسير البرهان/السيّد هاشم البحراني تفسير البيضاوي/عبد اللّه بن عمر البيضاوي تفسير الجلالين/جلال الدين السيوطي تفسير الحقائق/عثمان بن علي الزيلعي تفسير روح البيان/إسماعيل حقّي البروسوي تفسير روح المعاني/الآلوسي تفسير الصافي/الفيض الكاشاني تفسير الطبري/محمّد بن جرير الطبري

ص:303

تفسير القمّي/عليّ بن إبراهيم القمّي تفسير العيّاشي/محمّد بن مسعود العيّاشي تفسير فرات/فرات بن إبراهيم الكوفي تفسير القرطبي/محمّد بن أحمد القرطبي تفسير الكبير/الفخر الرازي تفسير الكشّاف/محمود بن عمر الزمخشري تفسير النعماني/محمّد بن زينب النعماني تمام المتون/خليل بن ايبك الصفدي التمثيل و المحاضرة/الثعالبي التنبيه و الأشراف/المسعودي التوحيد/الشيخ الصدوق تهذيب الأحكام/الشيخ الطوسي تهذيب الأسماء و اللغات/النووي تهذيب تاريخ ابن عساكر/عبد القادر بدران تهذيب التهذيب/ابن حجر العسقلاني ث ثمرات الأوراق/أبو بكر بن عليّ الحموي ثواب الأعمال/الشيخ الصدوق

ص:304

ج جامع الاصول/مبارك بن محمّد بن الأثير جامع البيان/محمّد بن جرير الطبري جامع السعادات/النراقي جامع العلوم في اصطلاحات الفنون/عبد النبيّ أحمد الجامع الكبير/السيوطي جمال الاسبوع/ابن طاوس جمع الجوامع/السيوطي الجمل/محمّد بن زكريا جمهرة أشعار العرب/أبو زيد القرشي جمهرة رسائل العرب/أحمد زكي صفوت جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (خ) شمس الدين أبو البركات ح الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري/آدم متز الحضارة العربية الإسلاميّة/الدكتور الخربوطلي الحقّ المبين في أحكام قضاء أمير المؤمنين عليه السّلام/ذبيح اللّه محلاتي حقيقة الإسلام و اصول الحكم/محمّد بخيت المطيعي

ص:305

حلية الاولياء/أبو نعيم الأصفهاني الحياة الاجتماعية و الاقتصادية في الكوفة/محمّد حسين الزبيدي حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام/السيّد محمّد صادق الصدر حياة الإمام الحسن بن عليّ عليهما السّلام/للمؤلّف حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما السّلام/للمؤلّف حياة الإمام رضا عليه السّلام/للمؤلّف حياة الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام/محمّد حبيب اللّه الشنقيطي حياة الإمام محمّد المهدي عليه السّلام/للمؤلّف حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام/للمؤلّف حياة الحيوان/الدميري خ الخراج/يحيى بن آدم القرشي خزانة الأدب/الشيخ عبد القادر البغدادي الخصائص الكبرى/السيوطي الخصائص/النسائي الخصال/الشيخ الصدوق الخطابة في صدر الإسلام/محمّد طاهر درويش خطط الخلافة/ماسينيون

ص:306

د الدرجات الرفيعة/سيّد علي خان المدني الدرر اللامعة في الأحاديث الجامعة/محمّد باقر الأبطحي الدرّ المنثور/لجلال الدين السيوطي الدروس/محمّد بن جمال الدين العاملي (الشهيد الأوّل) درّة الناصحين/عثمان بن حسن الخويري دعائم الإسلام/أبو حنيفة المغربي دلائل الصدق/الشيخ المظفّر ديوان ابن معتزّ/عبد اللّه بن المعتزّ ديوان بولس سلامة/بولس سلامة ديوان الجواهري/محمّد مهدي الجواهري ديوان الحميري/إسماعيل بن محمّد الحميري ديوان العمري/عبد الباقي العمري ذ ذخائر العقبى/محبّ الدين الطبري الذريعة/العلاّمة آقا بزرگ الطهراني ذيل الأمالي/إسماعيل بن القاسم القالي

ص:307

ر ربيع الأبرار/الزمخشري رجال الكشيّ /محمّد بن عمر الكشيّ رجال النجاشي/أحمد بن عليّ بن العبّاس النجاشي رسائل الجاحظ /الجاحظ روح الإسلام/السيّد مير عليّ الهندي الروض المعطار/محمّد عبد المنعم الحميري روضات الجنّات/محمّد باقر الخوانساري روضة الكافي/الشيخ الكليني روضة الواعظين/الفتّال النيسابوري الرياض النضرة/محبّ الدين الطبري ز زهر الآداب/إبراهيم القيرواني الزينة في الكلمات الإسلاميّة العربيّة/أبو الحاتم الرازي

ص:308

س سفينة البحار/الشيخ عبّاس القمّي سموّ المعنى في سموّ الذات/العلائلي سنن ابن ماجة/ابن ماجة سنن أبي داود/أبو داود سنن البيهقي/البيهقي سنن الترمذي/الترمذي سنن النسائي/النسائي سير أعلام النبلاء/محمّد بن أحمد الذهبي السيرة الحلبية/الحلبي السيرة النبوية/ابن هشام ش شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار/أبو حنيفة التميمي المغربي شرح الأزرية/أحمد معتوق شرح خريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية/أبو البركات أحمد الدردير شرح نهج البلاغة/ابن أبي الحديد شيخ المضيرة/الشيخ محمود أبو رية

ص:309

ص صبح الأعشى/أحمد بن عليّ القلقشندي صحاح الجوهري/إسماعيل بن حمّاد الجوهري صحيح البخاري/البخاري صحيح الترمذي/الترمذي صحيح مسلم/مسلم النيسابوري الصحيفة العلوية الاولى/عبد اللّه السماهيجي الصحيفة العلوية الثانية/المحدّث النوري صفوة الصفوة/ابن الجوزي صفّين/محمّد بن زكريا الصناعتين/أبو هلال العسكري الصواعق المحرقة/ابن حجر العسقلاني ض ضحى الإسلام/أحمد أمين

ص:310

ط طبقات فحول الشعراء/ابن سلام الطبقات الكبرى/ابن سعد الطرق الحكمية في السياسة الشرعية/ابن القيم الجوزيّة ع عبقرية الإمام عليّ /العقّاد عبقرية الشريف الرضي/زكي مبارك عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه السّلام/السيّد محسن الأمين العصبية القبلية/إحسان النصّ عقد الدرر/يوسف بن يحيى السلمي العقد الفريد/ابن عبد ربّه الأندلسي العقد المفصل/أبو الحسين السيّد حيدر العقيدة و الشريعة في الإسلام/أجناس جولد تسهر علل الشرائع/محمّد بن عليّ بن بابويه العلم/أبو خيثمة النسائي عليّ بن أبي طالب بقيّة النبوّة و خاتم الخلافة/عبد الكريم الخطيب عليّ و الخلفاء/نجم الدين العسكري

ص:311

عليّ و بنوه/طه حسين عيون الأثر/ابن سيّد ناس عيون الأخبار/ابن قتيبة عيون أخبار الرضا عليه السّلام/محمّد بن عليّ بن بابويه غ الغارات/إبراهيم بن محمّد الثقفي غاية المرام/السيّد هاشم البحراني الغدير/العلاّمة الأميني الغرر و الدرر/الآمدي الغلوّ و الفرق الغالية في الحضارة الإسلامية/عبد اللّه سلوم السامرائي ف فتح الباري/ابن حجر العسقلاني الفتنة الكبرى/طه حسين فتوح البلدان/البلاذري فرائد السمطين/إبراهيم محمّد الجويني الخراساني الفروسية/ابن الجوزي فروع الكافي/الشيخ الكليني

ص:312

الفروق/أحمد بن إدريس القرافي فصل الخطاب/الميرزا حسين النوري الفصول المختارة/السيّد المرتضى الفصول المهمّة/ابن الصبّاغ المالكي الفضائل/ابن شاذان فضائل الخمسة من الصحاح الستّة/الفيروزآبادي فضائل الصحابة/ابن حنبل فوات الوفيات/محمّد بن شاكر الكتبي فيض القدير/المناوي ق القاموس الإسلامي/أحمد عطية اللّه قرب الإسناد/الحميري قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام/الشيخ التستري القواعد و الفوائد/محمّد بن جمال الدين العاملي (الشهيد الأوّل) ك الكامل/المبرد كامل الزيارات/جعفر بن محمّد بن قولويه

ص:313

الكامل في تاريخ/ابن الأثير كشف الغمّة/عليّ بن عيسى الأربلي الكشكول/البحراني الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء/الإمام شرف الدين كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب/محمّد بن يوسف القرشي الكنجي كميل بن زياد النخعي/الهاشمي الخطيب كنز العمّال/المتّقي الهندي كنوز الحقائق/المناوي الكنى و الألقاب/الشيخ عبّاس القمّي ل لسان العرب/ابن منظور لسان الميزان/ابن حجر لطائف المعارف/الثعالبي اللمعة الدمشقية/محمّد بن جمال الدين العاملي (الشهيد الأوّل) م مآثر الأناقة في معالم الخلافة/أحمد بن عبد اللّه القلقشندي مالك الأشتر/محمّد رضا الحكيم

ص:314

المتين في تاريخ أمير المؤمنين عليه السّلام/مظهر حسن هندي مجالس ثعلب/أحمد بن يحيى ثعلب المجالس السنيّة/السيّد محسن الأمين مجمع الأمثال/الميداني مجمع البحرين/الطريحي مجمع البيان/الطبرسي مجمع الزوائد/الهيثمي المحاسن/البرقي المحبّر/محمّد بن حبيب البغدادي محاكمة في القضاء/محمّد حسين الحسني المحلى/ابن حزم الأندلسي المحن/محمّد بن أحمد بن تميم المغربي المختار من كتاب عيون الأخبار/أحمد بن عبد الحليم البردوي مختصر تاريخ العرب/أمير عليّ المراجعات/الإمام شرف الدين مروج الذهب/المسعودي مستدرك الحاكم/محمّد بن عبد اللّه حاكم النيشابوري مسند أبي داود/سليمان بن داود مسند أبي عوانة/يعقوب بن إسحاق النيشابوري مسند أحمد بن حنبل/أحمد بن حنبل مسند الإمام زيد/الإمام زيد بن عليّ

ص:315

مسند الإمام عليّ عليه السّلام/الحضرمي مشكل الآثار/أحمد بن محمّد الطحاوي مصابيح السنّة/حسين بن مسعود البغوي مصادر نهج البلاغة/إبراهيم النعمة مصادر نهج البلاغة و أسانيده/السيّد عبد الزهراء الحسيني المعارف/ابن قتيبة معجم ابن الاعرابي/أحمد بن محمّد الاعرابي معجم الادباء/ياقوت الحموي معجم البلدان/ياقوت الحموي معجم رجال الحديث/السيّد الخوئي المعجم الكبير/الطبراني معجم ما استعجم/البكري الأندلسي معجم متن اللغة/أحمد إبراهيم رضا معرفة الصحابة/أحمد بن عبد اللّه الأصفهاني المغازي/محمّد بن عمر الواقدي مفتاح السعادة و مصباح السيادة/محمّد تقي النقوي المفصّل في تأريخ العرب قبل الإسلام/جواد علي مقاتل الطالبيّين/أبو الفرج الأصفهاني مقتل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام/عبد اللّه بن أبي الدنيا مقتل الحسين عليه السّلام/الخوارزمي المقنع/الشيخ الصدوق

ص:316

المكاسب المحرّمة/الشيخ الأنصاري ملحمة الفرطوسي/الفرطوسي الملل و النحل/الشهرستاني المناقب/الموفّق بن أحمد الخوارزمي مناقب أبي حنيفة/الخوارزمي مناقب أحمد/أحمد بن حنبل مناقب آل أبي طالب/ابن شهرآشوب المناقب و المثالب (خ) /أبو حنيفة المناقب و المثالب/القاضي نعمان المصري المنتقى/سليمان بن خلف الباجي منتهى الآمال/الشيخ عبّاس القمّي من لا يحضره الفقيه/الشيخ الصدوق منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة/الشيخ إبراهيم الخوئي مواهب الرحمن/السيّد السبزواري المواهب اللدنية/القسطلاني الموطأ/مالك بن أنس الموفّقيات/الزبير بن بكّار مؤلّفو الشيعة في صدر الإسلام/الإمام شرف الدين مهج الدعوات/ابن طاوس ميزان الاعتدال/الذهبي الميزان في تفسير القرآن/السيّد الطباطبائي

ص:317

ن النجوم الزاهرة/ابن تغري بردى نزهة المجالس/عبد الرحمن الصفوري نصرة الثائر على المثل السائر/صلاح الدين الصفدي النصّ و الاجتهاد/الإمام شرف الدين نظام الحكم و الإدارة في الإسلام/للمؤلّف النظم الإسلاميّة/ديمومييني موريس نفحة اليمن/الشيخ أحمد اليمني الشيرواني نور الأبصار/الشبلنجي نور القبس المختصر من المقتبس/محمّد بن عمران المرزباني نهاية الإرب في فنون الأدب/أحمد النويري نهج البلاغة/صبحي الصالح نهج البلاغة/محمّد عبده نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة/محمّد باقر المحمودي و وسائل الشيعة/الحرّ العاملي وقعة صفّين/نصر بن مزاحم المنقري

ص:318

الولاة و القضاة/محمّد بن يوسف الكندي وفيات الأعيان/ابن خلّكان ه الهاشميات/الكميت هذه هي الشيعة/للمؤلّف ي ينابيع المودّة/القندوزي

ص:319

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.