موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المجلد 10

اشارة

سرشناسه:قرشی، باقرشریف، 1926 - م.

Qarashi, Baqir Sharif

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام/ مولف باقر شریف القرشی

مشخصات نشر:قم: مجمع جهانی شیعه شناسی

مشخصات ظاهری:11ج.

شابک:دوره: 978-600-6164-72-4 ؛ 90000 ریال: ج. 1: 978-600-6164-65-6 ؛ ج.2و3 978-600-94930-7-4 : ؛ ج. 4 978-622-962924-6:

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:ناشر جلد دوم و سوم و چهارم انتشارات دارالتهذیب است .

مندرجات:ج. 1. زندگانی و فضایل امام علی علیه السلام در قرآن و سنت.- ج.2 و 3. امام علی (ع) در عهد پیامبر و دوران خلافت

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:مجمع جهانی شیعه شناسی

شناسه افزوده:The World Center for Shite Studies

رده بندی کنگره:BP37/ق36م8041 1393

رده بندی دیویی:297/951

شماره کتابشناسی ملی:3726762

ص :1

اشارة

موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام

مولف باقر شریف القرشی

ص :2

الجزء العاشر

مقدمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ النساء: 58 هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً [2] الكهف: 44 وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [3] المائدة: 47 وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [4] البقرة: 179 وَ اللّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ [5] غافر: 20

ص:3

ص:4

تقديم

إنّ من أهمّ ما عنى به الإسلام في تشريعاته السياسية و أنظمته الإدارية هو العمل على تطوير البلاد في ميادين الزراعة و الصناعة، و حماية المواطنين من المرض و الفقر، و توفير الفرص المتكافئة لهم، و ضمان ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة و غيرها.

و من المؤكّد أنّ من أهمّ الوسائل الفعّالة لإقامة مجتمع متوازن في سلوكه و أمنه و رخائه، يستند أوّلا و بالذات إلى الجهاز الحاكم، فهو المسئول عن إيجاد الفعاليّات التي تؤدّي إلى تقدّم البلاد و ازدهار الحياة فيها.

و لا تقتصر مسئوليات الدولة في الإسلام على جهة خاصّة من حياة المواطنين، و إنّما تشمل جميع صور الحياة و ألوانها، و التي منها العمل على رخاء المجتمع و رفاهية عيشه، و ذلك بتوفير العمل لهم و القضاء على البطالة التي هي من مصادر الجريمة في البلاد... كما أنّ من الواجبات على الدولة مراقبة السوق بدقّة و حزم لمنع الاحتكار

ص:5

و إزالة السلع الفاسدة التي تضرّ بالصحّة العامّة.

إنّ الدولة في الإسلام يجب أن تكون عينا ساهرة تحيط بأحوال المجتمع و شئونه، و التي منها إشاعة العلم و إقصاء الجهل، فإنّ الامّة يستحيل أن تحتلّ مركزا كريما تحت أشعة الشمس و هي غارقة بالجهل.

( و شيء بالغ الأهميّة في سياسة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام رائد العدالة الاجتماعية في دنيا الإسلام أنّه تبنى بصورة إيجابية شئون الموظّفين من ولاة و عمّال و جباة، و احتاط في امورهم كأشدّ ما يكون الاحتياط فلم يولّ أي أحد منهم عملا إلاّ بعد الفحص التامّ عن عدالته و نزاهته و خبرته و إخلاصه في العمل، و قد وقف مع طلحة و الزبير موقفا اتّسم بالشدّة و الصرامة حين أظهرا له رغبتهما الملحّة في الولاية، فرفض كأشدّ ما يكون الرفض طلبهما لأنّه كان على علم أنّهما يتّخذان مال اللّه دولا و عباده خولا، و يستخدمان السلطة لتنفيذ رغباتهما.

كانت فلسفة الإمام عليه السّلام في الحكم قائمة على اتّخاذه وسيلة للاصلاح الاجتماعي، و سببا للنهضة الفكرية و الاقتصادية حتى يسلم المسلمون من ويلات الجهل و كوارث المرض و الفقر، و قد أكّد على ولاته و عمّاله بتعمير الأرض و زيادة الدخل الفردي، و أنّ لا يكون همّهم أخذ الضرائب المفروضة على المزارعين و غيرهم حتى تتوفّر في البلاد نهضة اقتصادية تزدهر فيها الحياة العامّة و يعمّ الرخاء كافّة المجتمع الإسلامي.

ص:6

( و ممّا يلفت النظر في سياسة الإمام عليه السّلام تجاه ولاته و عمّاله مراقبته الشديدة و المستمرّة لسياستهم و سلوكهم، فمن كان منهم مخلصا مؤدّيا لعمله بعيدا عن شهوة الحكم، أثنى عليه و قابله بمزيد من الحفاوة و التكريم، و من شذّ في سلوكه و انحرف عن الطريق القويم بادر إلى عزله، و إذا كان خائنا و ثبتت خيانته لبيت المال أقام عليه حدّ السرقة، و قد قطع يد عليّ بن الجهم لمّا سرق من الخزينة المركزية.

و من الجدير بالذكر أنّ هذا الشخص هو الذي قال للحجّاج: إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّا (1) ، متقرّبا بذلك إلى الحجّاج و ناقما على الإمام لأنّه جذم يده! ( و إذا أمعنا النظر في رسائل الإمام و وصاياه إلى ولاته و عمّاله لوجدناها حافلة بجميع ألوان العدل و مقوّمات الحياة و ضروب المساواة، و هي برامج مشرقة لسعة افق الإسلام، و معالجته الكاملة التي لا تخضع للمؤثّرات التقليدية لجميع شئون الحياة السياسية التي تحمي الإنسان من الاعتداء و توفّر له الحقوق الكاملة.

إنّ الإنسانية على ما جرّبت من تجارب، و قنّنت من صنوف الحكم فإنّها لم تستطع أن تنشئ نظاما يضمن للإنسان حقوقه، و يواكب متطلّبات حياته مثل ما أقامه رائد العدالة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في وصاياه و رسائله إلى عمّاله و ولاته.

ص:7


1- الاشتقاق - أبو بكر: 272.

( و لم يشرّع حكّام المسلمين و ولاة امورهم وثيقة سياسية حافلة بنظم الحكم و الإدارة، و ملمّة بحقوق الإنسان و ما يجب له و عليه في ظلّ الحكم و السلطان، مثل الوثيقة الذهبية التي أملاها الإمام عليه السّلام على الزعيم الكبير مالك الأشتر واليه على مصر، و ألزمه بتطبيق بنودها على الشعب المصري.

إنّها و سام شرف للحكم العلويّ الذي رفع منار العدالة في الشرق العربي، و أقام صروح الحقّ في دنيا الإسلام، و تبنّى القضايا المصيرية لجميع شعوب العالم و امم الأرض.

( و شيء مهمّ و رائع جدّا تفقّد الإمام و مراقبته و سهره على شئون ولاته، و التي كان منها أنّه نقل إليه أنّ واليه على البصرة عثمان بن حنيف قد دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها، فرفع له رسالة أنكر فيها ذلك كأشدّ ما يكون الانكار لأنّه أراد أن يكون الوالي في منتهى العفّة و النزاهة و التجرّد عن جميع المغريات.

و أكبر الظنّ أنّ الذين دعوا ابن حنيف إلى الوليمة ليتّخذونه سلّما إلى قضاء بعض شئونهم عنده و هذا لا يتّفق مع سيرة الإمام، لأنّها إن كانت صحيحة و مشروعة فيجب على السلطة قضاؤها، و إن كانت غير مشروعة فلا سبيل لتنفيذها. و لم يقم أي وزن للمحسوبيات و العواطف سوى ما يتّصل منها بالحقّ .

ص:8

( إنّ سياسة الإمام عليه السّلام بجميع بنودها و أنظمتها مشرقة كالشمس، و هي تفتح آفاق الوعي و التطوّر للعالم الإسلامي، و توفّر له الحياة الكريمة السليمة من الاضطراب، و النزع و الخوف و تضمن له ما يصبو إليه من العزّة و الكرامة و السلامة من المرض و الفقر و الاعواز.

لقد تبنّى الإمام عليه السّلام جميع الأهداف النبيلة التي يسعد بها المسلمون، و شرّع أروع الأحكام و أكثرها تطوّرا و إبداعا في أنظمته الإدارية الخلاّقة، و يجب أن تدرس دراسة موضوعية و شاملة ليستفيد منها المسلمون، و يتّخذون منها منهجا يفخرون و يعتزّون به في المحافل الدولية.

(10) يعرض هذا الكتاب إلى:

- البحوث التمهيدية التي ألقت الأضواء على شئون الموظّفين من ولاة و عمّال و جباة.

- و ما قنّنه الإمام عليه السّلام لهم من الواجبات و المسئوليات التي حفلت بها رسائله التي زوّدهم بها، و هي جزء لا يتجزّأ من أنظمته السياسية التي صاغها لتكون دستورا للحكم الإسلامي في جميع العصور و الأزمان.

- كما يعرض هذا الكتاب إلى شئون ولاته و عمّاله على الأقاليم الإسلامية الذين كانوا أمثلة للتقوى و النزاهة و العدالة و التحرّج في الدين.

ص:9

(11) و هذا الكتاب جزء من موسوعة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و هي على سعتها و كثرة بحوثها و تنوّع مواضيعها، إنّما تلقي الأضواء على بعض معالم حياته من دون أن تلمّ بجميع شئونها، فإنّ ذلك أمر بعيد المنال؛ لأنّ جميع ما خلق اللّه تعالى من صنوف الفضائل و ضروب الكمال و الآداب كانت من عناصره و مقوّماته. و من المؤكّد أنّه ليس في هذا القول مغالاة أو بعد عن الحقّ ، فإنّ من يتصفّح سيرته يؤمن و يذهب إلى ما أقول.

لقد ألّف العلماء من قدامى و محدثين عشرات الكتب في سيرة هذا الإمام الملهم العظيم، و هي بالتأكيد و الجزم غير ملمّة بحياته و لا ببعض منها، و إنّما كانت مؤشّرات على حياة ذلك النور و اللطف الذي منّ اللّه به على عباده.

النّجف الأشرف باقر شريف القرشي 3 /شوّال/ 1420 ه

ص:10

بحوث تمهيديّة

اشارة

ص:11

ص:12

قبل الخوض و الدخول في البحث عن شئون ولاة الإمام عليه السّلام و عمّاله و جباة الضرائب و الخراج، و ما زوّدهم به الإمام عليه السّلام من الأنظمة و النصائح في وثائقه إليهم، نعرض إلى بعض البحوث التي ترتبط ارتباطا وثيقا و موضوعيا بأجهزة الحكم و مناصب الدولة و شئون الموظّفين و العمّال و غير ذلك، و فيما يلي هذه البحوث:

أهمّية الولاة:

اشارة

أمّا الولاة على الأقطار و الأقاليم الإسلامية فهم الذين يعيّنهم الخليفة الذي تقلّد امور المسلمين ليحكموا بينهم بالحقّ و العدل، و يقيموا سنّة اللّه تعالى و أحكامه في الأرض، و يعملوا على تطوير العالم الإسلامي في إنماء ثرواته، و عمارة أرضه، و إقصاء الفقر و الحاجة عن كلّ مواطن يقيم في بلاد المسلمين، و هذا عرض لبعض مسئوليات الولاة و أهمّيتهم:

1 - خطر الامارة:

اشارة

الامارة على الأقطار و الأقاليم من المناصب الحسّاسة في جهاز الحكم الإسلامي، فإن ادّيت على الوجه الصحيح نجا صاحبها من عذاب اللّه و عقابه، و إن لم تؤد على واقعها المشروع تعرّض من تقلّدها للنقمة و العذاب، و قد أدلى بذلك

الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، قال:

«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أيّما وال ولي الأمر من بعدي اقيم على

ص:13

حدّ الصّراط ، و نشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا أنجاه اللّه بعدله، و إن كان جائرا انتفض به الصّراط حتّى تتزايل مفاصله، ثمّ يهوي إلى النّار، فيكون أوّل ما يتّقيها أنفه و حرّ وجهه (1)»(2).

أ رأيتم خطر الامارة و مدى المسئولية العظمى لمن تولاّها، فإن عدل في امارته و أقام الحقّ كان بمنجى من عذاب اللّه تعالى، و من جار في حكمه و ابتعد عن الطريق القويم كان في عذاب اللّه و نقمته...

و في حديث آخر للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لأصحابه:

«و إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة و ما هي ؟».

فانبرى إليه عوف بن مالك قائلا:

ما هي يا رسول اللّه ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«أوّلها - أي الامارة - ملامة، و ثانيها ندامة، و ثالثها عذاب يوم القيامة، إلاّ من عدل، و كيف يعدل مع قريبه»(3).

إنّ الامارة عذاب و ندامة و خسران لمن حاد عن الطريق و اقترف الظلم و الاعتداء على الناس،

و قال صلّى اللّه عليه و آله محذّرا لأصحابه من الامارة قائلا:

«ستحرصون على الإمارة ثمّ تكون حسرة و ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة و بئست الفاطمة»(4).

ص:14


1- حرّ الوجه: ما بدا من الوجنة.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 36:7-37.
3- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام: 360.
4- عيون الاخبار - ابن قتيبة 1:1.

و قد حرص الكثيرون من الصحابة و تهالكوا على الامارة و السلطان فكانت النتائج المؤسفة أنّ العالم الإسلامي غرق بالفتن و الكوارث.

و حدّث عوف بن مالك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

«إنّي أخاف على أمّتي من أعمال ثلاث...».

فسارع بعض أصحابه قائلا: ما هي يا رسول اللّه ؟ «زلّة عالم، و حكم جائر، و هوى متّبع...».

إنّ أي واحدة من هذه الامور الثلاثة توجب سخط اللّه و إطفاء نور العدل و شيوع الجور في الأرض...

و كان الأخيار و الصلحاء من الصحابة يتحرّجون من قبول الامارة لأنّها من موجبات الاغراء و التعالي على الناس،

يقول المقداد: استعملني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عمل فلمّا رجعت قال لي:

«كيف وجدت الإمارة ؟».

يا رسول اللّه، ما ظننت إلاّ أنّ الناس خول لي، و اللّه! لا ألي على عمل ما دمت حيّا...(1).

إنّ الحكم يوجب الاعتزاز بالنفس و يغري الإنسان بالعظمة و الكبرياء، و لا يفلت من ربقته إلاّ المتحرّج في دينه فإنّه لا ضير عليه في تقلّد الامارة، فقد

روى عطاء بن يسار قال:

إنّ رجلا كان عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: بئس الشيء الامارة.

فأجابه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ص:15


1- حلية الأولياء 174:1.

«نعم الشّيء الإمارة لمن أخذها بحقّها و حلّها»(1).

انتخاب الامراء و تعيينهم:

أمّا انتخاب الولاة و تعيينهم في مناصب الدولة، فإنّه من مختصّات زعيم الدولة، فهو الذي يختار و ينتخب لهذا المنصب من تتوفّر فيه النزعات الكريمة و الصفات الفاضلة من العلم و الورع و التقوى و أصالة الرأي و عمق التفكير و الدراية التامّة بشئون الحكم و الإدارة...

و هذه بعض الصفات التي ينبغي أن تتوفّر فيه:

1 - الصدق في القول.

2 - الوفاء بالعهد و الوعد.

3 - أداء الأمانة إلى أهلها.

4 - التجنّب عن الخيانة.

5 - لين الكلام و حسن الخلق مع الرعية.

6 - العطف و الرفق بالأيتام و تعهّد شئونهم.

7 - التفقّه في أحكام الإسلام.

8 - الحلم و كظم الغيظ .

9 - خفض الجناح للرعية (2).

هذه بعض الصفات التي يعتبر مثولها في الولاة، و يجب على ولي أمر المسلمين الفحص بدقّة و إمعان عن المتصدّي لهذا المنصب لئلا يتولّى امور

ص:16


1- عيون الأخبار 1:1.
2- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام: 361-362.

المسلمين من لا حريجة له في الدين.

2 - عقاب الإمام الجائر:

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

«إنّ شرّ النّاس إمام جائر ضلّ ، و ضلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيى بدعة متروكة، و إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يؤتى بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في جهنّم فيدور كما تدور الرّحى، ثمّ يرتبط في قعرها»(1).

3 - التباعد عن السلطان الجائر:

أوصى الإمام عليه السّلام بالتباعد عن السلطان الجائر فقال:

«تباعد عن السّلطان الجائر، و لا تأمن خدع الشّيطان، فتقول: أنكرت، نزعت، فإنّه هكذا هلك من كان قبلك، فإن أبت نفسك إلاّ حبّ الدّنيا و قرب السّلاطين و خالفتك عمّا فيه رشدك فاملك عليك لسانك فإنّه لا بقيّة للموت عند الغضب، و لا تسل عن أخبارهم، و لا تنطق بأسرارهم، و لا تدخل فيما بينهم»(2).

امارة السفهاء:

و حذّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من امارة السفهاء الذين لا رصيد لهم من الوعي و التقوى،

و قد روى كعب بن عجرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال له:

ص:17


1- ربيع الأبرار 224:4.
2- المصدر المتقدّم: 227.

«أعاذك اللّه يا كعب! من إمارة السّفهاء».

و بادر كعب قائلا:

ما إمارة السفهاء يا رسول اللّه ؟ «امراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي، و لا يستنّون بسنّتي، فمن صدّقهم بكذبهم، و أعانهم على ظلمهم، فاولئك ليسوا منّي و لست منهم، و لا يردون عليّ حوضي، و من لم يصدّقهم بكذبهم، و لم يعنهم على ظلمهم، فاولئك منّي و أنا منهم، و سيردون عليّ حوضي...»(1).

إنّ إمارة السفهاء ظلم و جور و اعتداء على الناس؛ لأنّهم لا يهتدون بهدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا يستنّون بسنّته.

عشّاق السلطة:

و حذّر الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من توظيف العاشقين للسلطة و المتهالكين على المنصب، فقد

روي أنّ رجلا قال: يا رسول اللّه، استعملني ؟ فردّه النبيّ و قال:

«إنّا لا نستعمل على عملنا من أراده...»(2).

و علّق أبو الوليد على هذه الرواية بقوله: السرّ في ذلك أنّ الولايات أمانات، و تصريف في أرواح الخلائق و أموالهم، و التسرّع إلى الأمانة دليل على الخيانة، و أنّه لا يخطبها إلاّ من يريد أكلها... و إذا اؤتمن خائن على موضع الأمانات كان كمن استرعى الذئب على الغنم، و من هذه الخصلة تفسد قلوب الرعايا على ملوكها؛ لأنّه إذا اهتضمت حقوقهم و اكلت أموالهم فسدت نيّاتهم، و أطلقوا ألسنتهم بالدعاء

ص:18


1- سنن البيهقي 115:4. الأموال - أبو عبيد: 57.
2- صحيح البخاري 789:2.

و التشكّي، و ذكروا سائر الملوك بالعدل و الإحسان فكانوا كالبيت السائر.

و راعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الذئاب لها رعاء

و إذا خان أهل الأمانات و فسدت قلوب أهل الولايات كان الأمر كما قال الأوّلون:

الملح يصلح ما نخشى تغيّره فكيف بالملح إن حلّت به الغير (1)

إنّ الإسلام احتاط أشدّ ما يكون الاحتياط في مناصب الدولة، فلم يسمح لوليّ أمر المسلمين أن يمنح الولاية لمن طلبها و تهالك عليها، و قد دفع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام طلحة و الزبير عن الولاية حينما أصرّا عليها؛ لأنّهما لم يكونا مدفوعين برعاية الصالح العامّ ، و إنّما رغبا في الولاية ليتّخذا منها وسيلة للثراء العريض و التحكّم في رقاب المسلمين.

واجبات الولاة:

و على الولاة في الأقاليم الإسلامية أن يقيموا العدل و يحكموا بين الناس بالحقّ ، و يتعاهدوا مصالح المسلمين و قضاياهم، و من أوّليات مسئولياتهم ما يلي:

1 - إشاعة تعليم أحكام الإسلام المستمدّة من الكتاب و السنّة.

2 - تربية المجتمع بالأخلاق الفاضلة و الآداب العالية.

3 - الرفق بالرعية و العفو عن المسيء من غير ترك للحقّ العام.

4 - القضاء على معالم الجاهلية الرعناء.

5 - الاهتمام بالشعائر الإسلامية و من أهمّها الصلاة.

ص:19


1- حقيقة الإسلام و اصول الحكم: 70.

6 - نشر الوعظ و الإرشاد لوقاية المجتمع من الانحراف.

7 - نشر العلوم النافعة التي بها تتطوّر الحياة كالطبّ و الهندسة و غيرهما (1).

و قد قال عليه السّلام:

«يجب على الوالي أن يتعهّد اموره و يتعهّد أعوانه حتّى لا يخفى عليه إحسان محسن، و لا إساءة مسيء، ثمّ لا يترك واحدا منهما بغير جزاء، فإن ترك ذلك تهاون المحسن، و اجترأ المسيء، و فسد الأمر، و ضاع العمل»(2).

هذه بعض البنود التي يلزم الولاة بتنفيذها على مسرح الحياة العامّة.

تعاليم و أحكام:

و وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مناهج و آدابا خاصّة للولاة، و أمرهم بالتحلّي بها ليكونوا هداة للناس و أمثلة للحكّام الصالحين و ذلك في عهده لمالك الأشتر، و نشير إلى بعضها:

1 -

على الولاة أن يشعروا في قلوبهم الرأفة و الرحمة للرعية من دون فرق بين المسلمين و غيرهم، يقول عليه السّلام لمالك:

و أشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة، و المحبّة لهم، و اللّطف بهم، و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان:

إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق.

و حكت هذه الكلمات المسئوليات التي ينبغي للولاة مراعاتها و هي:

ص:20


1- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام: 364.
2- صبح الأعشى 325:2.

- أن يحملوا في مشاعرهم و عواطفهم المحبّة و الرأفة لجميع المواطنين.

- أن لا يكونوا كالاسود الضارية للشعب ينهبون أرزاقهم و مواردهم الاقتصادية.

- أنّ يعاملوا المواطنين من مسلمين و غيرهم على حدّ سواء، من دون أن يكون لأحدهم فضل على أحد و لا لفئة على اخرى، فالمسلمون و غيرهم على صعيد واحد.

2 -

أن لا يتّخذوا الامرة و السلطة وسيلة للاستعلاء على الناس و التكبّر عليهم.

يقول عليه السّلام:

و لا تقولنّ : إنّي مؤمّر آمر فأطاع، فإنّ في ذلك إدغالا (1) في القلب، و منهكة للدّين، و تقرّبا من الغير.

و إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة (2) ، فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك، و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يطامن إليك من طماحك، و يكفّ عنك من غربك (3) ، و يفيء إليك بما عزب عنك من عقلك! إيّاك و مساماة (4) اللّه في عظمته، و التّشبّه به في جبروته، فإنّ اللّه يذلّ كلّ جبّار، و يهين كلّ مختال.

و قد نهى الإمام عليه السّلام و حذّر واليه على مصر من التكبّر على الرعية، فإنّ التكبّر مفسد للدين و محبط للعمل، و قد علّمه الوسيلة التي ينجو بها و يتخلّص من التكبّر،

ص:21


1- الادغال: الافساد.
2- المخيلة: الخيلاء و العجب بالنفس.
3- الغرب: الحدّة.
4- المساماة: المباراة في السموّ.

و هي أن ينظر إلى عظمة اللّه تعالى المالك القادر الذي هو فوق كلّ شيء فإنّه يكفّ عنه هذا الداء و ينجيه من هذا الشرّ.

3 -

على الولاة أن ينصفوا اللّه تعالى و ذلك بطاعته و امتثال أوامره، و أن ينصفوا الناس و ذلك بإعطاء حقوقهم، و قد حفل بذلك و غيره من صنوف العدل قوله عليه السّلام:

أنصف اللّه و أنصف النّاس من نفسك، و من خاصّة أهلك، و من لك فيه هوى (1) من رعيّتك، فإنّك إلاّ تفعل تظلم! و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، و من خاصمه اللّه أدحض حجّته (2) ، و كان للّه حربا حتّى ينزع أو يتوب.

و ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين، و هو للظّالمين بالمرصاد.

أ رأيتم هذا العدل الذي ينعش الشعوب، و يعود بالخير العميم على الجميع، و يساوي بين السلطة و الشعب، و لا يجعل لأي أحد سلطانا أو تفوّقا على غيره ؟ 4 -

قال عليه السّلام:

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ ، و أعمّها في العدل، و أجمعها لرضى الرّعيّة، فإنّ سخط العامّة يجحف برضى الخاصّة (3) ، و إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة. و ليس أحد من الرّعيّة أثقل على الوالي

ص:22


1- الهوى: الميل.
2- أدحض حجّته: أي أبطل حجّته.
3- أجحف: أي أذهب.

مؤونة في الرّخاء، و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف.

و أسأل بالإلحاف (1) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدّهر من أهل الخاصّة. و إنّما عماد الدّين، و جماع المسلمين، و العدّة للأعداء، العامّة من الأمّة؛ فليكن صغوك لهم، و ميلك معهم.

أوصى الإمام عليه السّلام بهذا المقطع عامله مالك برعاية العامّة من الشعب، و تلبية مطالبهم، و تنفيذ رغباتهم؛ لأنّ الدولة لا تقوم إلاّ بهم، فهم عمودها الفقري و مركز ثقلها.

5 -

قال عليه السّلام:

و لا يكوننّ المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة! و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه، و اعلم أنّه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم، و تخفيفه المئونات عليهم، و ترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم (2). فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظّنّ برعيّتك، فإنّ حسن الظّنّ يقطع عنك نصبا (3) طويلا.

و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده.

ص:23


1- الالحاف: الالحاح.
2- قبلهم: أي عندهم.
3- النصب: التعب.

أكّد الإمام عليه السّلام على تكريم المحسن، و الإشادة به و أنّه ليس من الانصاف في شيء أن يساوي بينه و بين المسيء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان، و تشجيعا للمسيئين.

كما أكّد الإمام عليه السّلام على الإحسان إلى الرعية و البرّ بهم و تخفيف المئونات عنهم، فإنّ ذلك ممّا يوجب ارتباط الشعب بحكومته، و هو من أنجع الوسائل و أكثرها نجاحا لاستقرار الدولة و سلامتها من الفتن الداخلية.

6 -

قال عليه السّلام:

و لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الامّة، و اجتمعت بها الالفة، و صلحت عليها الرّعيّة.

و لا تحدثنّ سنّة تضرّ بشيء من ماضي تلك السّنن، فيكون الأجر لمن سنّها، و الوزر عليك بما نقضت منها.

و أكثر مدارسة العلماء، و مناقشة (1) الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به النّاس قبلك.

حكى هذا المقطع ضرورة الابقاء على السنّة الصالحة و ما يستفيد منه الناس من القوانين الصالحة التي عمل بها المسلمون و أقرّها الإسلام، كما حذّر من سنّ القوانين التي تضرّ بالناس و تجحف حقوقهم.

و أكّد الإمام عليه السّلام على مجالسة العلماء و محادثة الحكماء، فإنّها تفتح آفاقا كريمة من الوعي و التطوّر و تهدي إلى سواء السبيل.

7 -

قال عليه السّلام:

ص:24


1- المناقشة: المحادثة.

و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك (1) من الخطوب، و يشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال اللّه تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ (2).

فالرّدّ إلى اللّه: الأخذ بمحكم كتابه.

و الرّدّ إلى الرّسول: الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة.

أمر الإمام عليه السّلام مالكا بردّ ما اشتبه عليه من الامور الإدارية و غيرها من المسائل التي يبتلى بها هو و الرعية إلى كتاب اللّه تعالى ففيه تبيان كلّ شيء و أمره بالرّد إلى السنّة النبوية الجامعة، فقد تعرّضت لكلّ ما أشكل و أبهم.

8 -

قال عليه السّلام:

ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك، ممّن لا تضيق به الأمور، و لا تمحّكه الخصوم (3) ، و لا يتمادى في الزّلّة، و لا يحصر (4) من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، و لا تشرف نفسه (5) على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه؛ و أوقفهم في الشّبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه (6) إطراء، و لا يستميله

ص:25


1- يضلعك: أي ما يشكل عليك.
2- النساء: 59.
3- تمحكه: أي لا تغضبه.
4- يحصر: أي يضيق صدره.
5- تشرف نفسه: أي لا تدنو نفسه.
6- يزدهيه: أي يستخفّه.

إغراء، و أولئك قليل.

ثمّ أكثر تعاهد قضائه، و افسح له في البذل ما يزيل علّته (1) ، و تقلّ معه حاجته إلى النّاس.

و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرّجال له عندك.

فانظر في ذلك نظرا بليغا فإنّ هذا الدّين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، و تطلب به الدّنيا.

نظر الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى القضاء و الحكّام فأولاهم المزيد من اهتمامه، و قد حفل كلامه بما يلي:

أوّلا: أن يكون القضاة الذين يعيّنهم للحكم بين الناس أفضل الرعية في علمهم و تقواهم و تحرّجهم في الدين، و أن تتوفّر فيهم الصفات التالية.

- أن لا تضيق بهم الامور بل لا بدّ أن يكون على سعة في الخلق.

- أن لا يغضبوا عند مخاصمة الناس عندهم.

- أن لا يتمادوا في الزلل، و يرجعون إلى الحقّ إذا عرفوه.

- أن لا ينقادوا إلى الأطماع، و يتّبعوا الأهواء بل يكونون في منتهى النزاهة.

- أن لا يكتفوا في النظر إلى شكاوى الناس و دعاواهم إلى أبسط النظر و إنّما عليهم أن يمعنوا كثيرا في الامور التي ترفع إليهم.

- أن يقفوا و يتأمّلوا كثيرا في الشبهات حتى يتبيّن لهم الحقّ .

- أن لا يضجروا من مراجعة الخصوم لهم، و يصبروا عند رفع الدعاوي إليهم.

ص:26


1- يزيل علّته: أي يرفع حاجته.

- أن يتّصفوا بالشدّة و الصرامة عند اتّضاح الحقّ لهم. و لا يميلوا مع الجانب الآخر الذي تذرّع بالباطل.

- أن لا يزدهيهم و يخدعهم إطراء و ثناء، فلا يحفلوا بذلك.

ثانيا: على الولاة أن يكثروا من تعاهد القضاة و يطّلعوا على قضائهم لئلاّ يكون مجافيا للواقع.

ثالثا: أن يزيد في عطاء و رواتب القضاة حتى تقلّ حاجتهم إلى الناس و يحكموا بما أنزل اللّه تعالى.

رابعا: أن يشيد الولاة بالقضاة و يرفعوا منزلتهم حتى يشعروا بالكرامة و المنزلة الرفيعة ليخلصوا بذلك في عملهم.

9 -

قال عليه السّلام:

ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهما جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخّ منهم أهل التّجربة و الحياء، من أهل البيوتات الصّالحة، و القدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا، و أصحّ أعراضا، و أقلّ في المطامع إشراقا، و أبلغ في عواقب الأمور نظرا.

ثمّ أسبغ عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا (1) أمانتك.

ثمّ تفقّد أعمالهم، و ابعث العيون من أهل الصّدق و الوفاء عليهم، فإنّ

ص:27


1- ثلموا: نقضوا.

تعاهدك في السّرّ لأمورهم حدوة لهم (1) على استعمال الأمانة، و الرّفق بالرّعيّة.

و تحفّظ من الأعوان؛ فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التّهمة.

حكى هذا المقطع بعض الامور التي تتعلّق في عمّال الدولة و هي:

أوّلا: أن لا يولّي أي موظّف عملا إلاّ بعد الفحص و الاختبار التامّ عن حاله و أمانته.

ثانيا: لا يجوز أن يسند أي عمل لأحد محاباة أو اثرة فإنّه خيانة للامّة، و فساد لجهاز الحكم.

ثالثا: أن يولّى العمل إلى أهل التجربة و الدراية على شئون العمل الذي يسند إليهم.

رابعا: أن يختار للعمل من يتّصف بالحياء، و عدم الصلف، و أن يكون من ذوي البيوتات الشريفة حتى يقوم بخدمة المواطنين، و لا يجحف في حقّهم.

خامسا: أن يسبغ على العمّال الرواتب التي تسدّ حاجاتهم، و لا يضيق عليهم معيشتهم ليكونوا بمأمن عن تناول ما في أيدي الناس، و يبتعدوا عن الرشوة.

سادسا: مراقبة العمّال مراقبة دقيقة، و بثّ العيون عليهم للنظر في تصرّفاتهم، فإن كانت شاذة عن شريعة اللّه تعالى بادر إلى عزلهم و إقصائهم عن وظائفهم و شهّر بهم ليكونوا عبرة لغيرهم.

ص:28


1- الحدوة: الحثّ على الشيء.

10 -

قال عليه السّلام:

ثمّ انظر في حال كتّابك، فولّ على أمورك خيرهم، و اخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممّن لا تبطره الكرامة (1) ، فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملإ، و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّالك عليك، و إصدار جواباتها على الصّواب عنك، فيما يأخذ لك و يعطي منك، و لا يضعف عقدا اعتقده لك، و لا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، و لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك و استنامتك و حسن الظّنّ منك، فإنّ الرّجال يتعرّضون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النّصيحة و الأمانة شيء، و لكن اختبرهم بما ولّوا للصّالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامّة أثرا، و أعرفهم بالأمانة وجها، فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن ولّيت أمره.

و اجعل لرأس كلّ أمر من أمورك رأسا منهم، لا يقهره كبيرها، و لا يتشتّت عليه كثيرها، و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.

عرض الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى كتاب الولاة، و اعتبر أنّه لا بدّ أن تتوفّر فيهم الصفات التالية:

أوّلا: أن يكونوا من خيرة الرجال في وثاقتهم و إيمانهم و معرفتهم بشئون الإدارة و قضايا الحكم.

ص:29


1- تبطره: أي تفسده.

ثانيا: أن يحتفظوا بالرسائل و الوثائق التي تخصّ الدولة فيحافظوا على أسرارها، و لا يبيحوا محتوياتها لأحد.

ثالثا: أن يكون الكتّاب على جانب وثيق من سموّ الأخلاق و الآداب الذين لا يجرءون على مخالفة الوالي، و عدم امتثال أوامره.

رابعا: أن لا يغفلوا عمّا يرد إليهم من الوثائق من العمّال و سائر الموظّفين في سلك الدولة، و عليهم أن يعرضوها على الوالي ليطّلع عليها.

خامسا: أن يجيب الكتّاب عمّا يرد إليهم من الموظّفين من الرسائل، و أن لا يهملوا أجوبتها على الوجه الصحيح و عليهم تسجيل ما يأخذون و يعطون.

سادسا: أن يكون اختيار الوالي للكتّاب قائما على الفحص و الاختبار، و لا يكون خاضعا للفراسة.

سابعا: أنّ اختبار العمّال و الكتّاب يكون على الفحص بسيرتهم في عملهم قبل أن يتولّى الوالي وظيفته، فإن كانت سيرتهم حسنة عند الولاة قبله عهد إليهم بالوظائف، و قلّدهم المناصب.

11 -

قال عليه السّلام:

و اجعل لذوي الحاجات منك قسما (1) تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك، و تقعد عنهم (2) جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - يقول في غير موطن:

ص:30


1- قسما: أي وقتا خاصّا.
2- تقعد عنهم: أي تبعد عنهم.

«لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع (1)».

ثمّ احتمل الخرق (2) منهم و العيّ (3) ، و نحّ عنك الضّيق و الأنف يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته.

و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع في إجمال و اعذار! ثمّ أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها منها:

إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات النّاس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. و أمض لكلّ يوم عمله، فإنّ لكلّ يوم ما فيه. و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه أفضل تلك المواقيت، و أجزل تلك الأقسام، و إن كانت كلّها للّه إذا صلحت فيها النّيّة، و سلمت منها الرّعيّة.

و حفل هذا المقطع بالآداب العالية، و الحكم النافعة، و التعاليم الرفيعة التي منها ما يلي:

- أن يجعل الوالي وقتا خاصّا للمواطنين يلتقي بهم ليعرف حوائجهم و يطّلع على متطلّباتهم.

- أن يجلس الوالي مجلسا متواضعا غير محفوف بالعظمة و الكبرياء، و أن يكون تواضعه للّه تعالى خالق الكون و واهب الحياة.

- أن ينحّي عن المواطنين الجنود و الأعوان حتى يتكلّموا بحرية و أمان.

ص:31


1- التتعتع: هو العجز عن الكلام لخوف من السلطة.
2- الخرق: العنف.
3- العيّ : العجز عن النطق.

- أن يتحمّل الوالي ما يظهر من بعض المواطنين من العنف و الشدّة.

- أن ينحّي الوالي عن نفسه ضيق الصدر و التكبّر ليستقبل المواطنين برحابة وسعة في القول.

- إذا أعطى الوالي لبعض المواطنين شيئا من الرزق فعليه أن يعطيه بلطف لا بمنّة، كما أنّه إذا أراد أن يمنع رزقا عن أحد فعليه أن يمنعه بإعذار و إجمال.

- إجابة العمّال في طلباتهم إذا عجز عن تلبيتها الكتّاب.

- عدم تأخير متطلّبات الناس و حاجاتهم و أن تقضى فورا من غير تأخير، و أن يمضي الوالي في كلّ يوم عمله.

12 -

قال عليه السّلام:

و ليكن في خاصّة ما تخلص به للّه دينك: إقامة فرائضه الّتي هي له خاصّة، فأعط اللّه من بدنك في ليلك و نهارك، و وفّ ما تقرّبت به إلى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم و لا منقوص، بالغا من بدنك ما بلغ.

و إذا قمت في صلاتك للنّاس، فلا تكوننّ منفّرا و لا مضيّعا (1) ، فإنّ في النّاس من به العلّة و له الحاجة.

و قد سألت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - حين وجّهني إلى اليمن كيف أصلّي بهم ؟ فقال: «صلّ بهم كصلاة أضعفهم، و كن بالمؤمنين رحيما».

عرض الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى بعض النصائح الرفيعة و هي:

- أن يقيم الوالي بإخلاص فرائض اللّه تعالى من الصلاة و الصيام.

ص:32


1- التنفير: تطويل الصلاة. التضييع: نقص الصلاة، و المراد التوسّط في أدائها.

- أن يؤدّي الفرائض كاملة غير ناقصة.

- أن يصلّي بالناس صلاة تتّسم بعدم الإطالة، و أن يراعي حال الضعفة من المصلّين الذين لا طاقة لهم على إطالة الصلاة.

13 -

قال عليه السّلام:

و أمّا بعد، فلا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرّعيّة شعبة من الضّيق، و قلّة علم بالأمور؛ و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، و يعظم الصّغير، و يقبح الحسن، و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل.

و إنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه النّاس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات (1) تعرف بها ضروب الصّدق من الكذب، و إنّما أنت أحد رجلين:

إمّا امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحقّ ، ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كفّ النّاس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك! مع أنّ أكثر حاجات النّاس إليك ممّا لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة...

عرض إمام العدل في هذا المقطع إلى إلزام و إليه الزعيم مالك على مصر بعدم احتجابه عن الرعية؛ لأنّ في الاحتجاب مضاعفات سيّئة و التي منها:

- أنّ الاحتجاب يحول عن الرعية علم ما احتجبوا دونه، و يسبّب ذلك أن يصغر عندهم الكبير من الامور، و يعظم عندهم الصغير، و يحسن عندهم القبيح،

ص:33


1- السمات: جمع سمة، و هي العلامة.

و يقبح الحسن.

- أنّ احتجاب الوالي عن الرعية موجب لأن يتوارى عنه ما ألمّ بالناس من الأحداث التي يعود حجبها بضرر بالغ على الوالي و على المواطنين.

- أنّ الناس إذا يئسوا من ملاقاة الوالي فإنّهم يكفّون عن مسألته، و يحتجبون عنه.

- أنّ شكاوى الناس التي ترفع إلى الوالي هي إمّا من مظلمة أو طلب انصاف في معاملة لهم، و من الطبيعي أنّه ليس على الوالي بذلك ضرر.

14 -

قال عليه السّلام:

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة.

أوصى الإمام عليه السّلام واليه على اتّباع الحقّ و تطبيقه على القريب و البعيد، مهما ثقل ذلك عليه فإنّ فيه سعة.

15 -

قال عليه السّلام:

و إن ظنّت الرّعيّة بك حيفا (1) فأصحر لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك، و رفقا برعيّتك، و إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ .

عهد الإمام عليه السّلام لمالك أنّ الرعية إذا ظنّت به الظلم فعليه أن يقدّم لها اعتذاره، و يبيّن لها الأسباب التي دعته إلى الإقدام على ما سنّه و عمله.

ص:34


1- الحيف: الظلم.

16 -

قال عليه السّلام:

إيّاك و الدّماء و سفكها بغير حلّها، فإنّه ليس شيء أدنى لنقمة، و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة، و انقطاع مدّة، من سفك الدّماء بغير حقّها.

و اللّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدّماء يوم القيامة؛ فلا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه، بل يزيله و ينقله.

و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد لأنّ فيه قود البدن (1).

و إن ابتليت بخطإ و أفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة؛ فإنّ في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّي إلى أولياء المقتول حقّهم.

و احتاط الإمام كأشدّ ما يكون الاحتياط في سفك الدماء بغير حقّ ، فإنّه من موجبات النقمة و زوال النعمة، و عذاب اللّه تعالى، و قد ألزم الإمام واليه على مصر مالكا الأشتر أن لا يقيم سلطانه بسفك الدماء المحرّمة فإنّ ذلك ممّا يوهنه و يزيله و لا عذر له مطلقا عند اللّه تعالى، و قد عرض الإمام عليه السّلام إلى القتل العمدي، فإنّ ديته القود، و إن رضي وليّ الدم بالدية، فهي الدية الثقيلة المشدّدة، و قد ذكرها الفقهاء، و أمّا قتل الخطأ فإنّ فيه الدية دون القود و تؤدّى إلى أولياء الدم.

17 -

قال عليه السّلام:

و إيّاك و الإعجاب بنفسك، و الثّقة بما يعجبك منها و حبّ الإطراء،

ص:35


1- القود: القصاص.

فإنّ ذلك من أوثق فرص الشّيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.

و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التّزيّد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التّزيّد يذهب بنور الحقّ ، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و النّاس. قال اللّه تعالى:

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ .

حفل هذا المقطع بمعالي التربية الأخلاقية التي يتزيّن بها الولاة و هي:

- النهي عن الاعجاب بالنفس الذي يقود إلى التكبّر و يلقي الشخص في شرّ عظيم.

- الحذر من حبّ المدح و الاطراء و الثناء، فإنّه ممّا يؤدّي إلى استيلاء الشيطان و تمكّنه من إغراء الشخص حتى يفسد عليه عمله.

- أنّ لا يمنّ الوالي على رعيّته بما يسديه عليها من خدمات كتأسيس المشاريع الزراعية و المعامل و غير ذلك ممّا تتقدّم به البلاد، فإنّ ذلك واجب على الولاة و المسئولين، و ليس في أدائه منّ على الرعية.

- أن لا يخلف الوالي ما يعد به الرعية، فإنّ ذلك ممّا يوجب سقوط هيبته و عدم الوثوق بقوله.

18 -

قال عليه السّلام:

و إيّاك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التّسقّط فيها (1) عند إمكانها، أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت (2) ، أو الوهن عنها إذا استوضحت.

ص:36


1- التسقط : التهاون.
2- تنكّرت: أي لم يعرف وجه الصواب فيها.

فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ عمل موقعه.

و إيّاك و الاستئثار بما النّاس فيه أسوة (1) ، و التّغابي عمّا تعنى به ممّا قد وضح للعيون، فإنّه مأخوذ منك لغيرك. و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، و ينتصف منك للمظلوم. املك حميّة أنفك (2) ، و سورة حدّك (3) ، و سطوة يدك، و غرب لسانك، و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة، و تأخير السّطوة، حتّى يسكن غضبك فتملك الاختيار؛ و لن تحكم ذلك من نفسك حتّى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربّك.

و وضع الإمام عليه السّلام بعض المناهج التربوية لسلوك و إليه و هي:

- انّه نهى عن العجلة في الامور التي ليس وراءها إلاّ الفشل و الخيبة، و أوصى بالتروي فإنّه مفتاح النجاح، و إذا اتّضحت الامور و ظهرت فعليه المبادرة للفعل أو الكفّ . و اللازم أن يضع كلّ أمر موضعه و في محلّه.

- و نهى الإمام عليه السّلام و إليه من الاستئثار بما الناس فيه اسوة، فليس له من سبيل أن يستأثر بشيء يعود لجميع المواطنين، فإنّ ذلك ينمّ عن الشره و الطمع، و ذلك ممّا لا يليق بالوالي النزيه... هذه بعض النقاط التي حفل بها هذا المقطع.

بطانة الولاة:

عرض الإمام عليه السّلام في عهده لمالك إلى بطانة الولاة الذين يتّخذوهم الولاة مستشارين لهم، و قد حذّره من الاتّصال بالأصناف التالية:

1 - من يذكرون عيوب الناس تقرّبا إلى السلطة، و ذلك بإظهار الاخلاص لها،

ص:37


1- اسوة: المراد أن لا يستأثر بشيء من أموال الدولة بما يكون الناس فيه اسوة.
2- حمية أنفك: المراد به الإباء.
3- سورة حدّك: السورة الحدّة.

قال عليه السّلام:

و ليكن أبعد رعيّتك منك، و أشنأهم عندك، أطلبهم لمعايب النّاس؛ فإنّ في النّاس عيوبا، الوالي أحقّ من سترها، فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، و اللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحبّ ستره من رعيّتك.

2 - إبعاد السعاة الذين لا يألون جهدا في ظلم الناس و البغي عليهم. يقول عليه السّلام:

و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإنّ السّاعي غاش، و إن تشبّه بالنّاصحين.

3 - إبعاد البخلاء لأنّهم يعدلون بالوالي عن الفضل و الإحسان و يعدونه الفقر و الحرمان.

4 - إقصاء الجبناء لأنّهم يضعّفونه و يخذلونه عن أداء الواجبات.

5 - اجتناب الحريصين فإنّهم يزيّنون له الشرّ بالجور.

6 - الابتعاد عن الوزراء و أعوانهم الذين كانوا لأئمّة الظلم وزراء و أعوانا، فإنّهم لا يألون جهدا في ظلم الناس و إرهاقهم.

هذه بعض الأصناف التي يجب على الولاة الابتعاد عنها؛ لأنّها بطانة السوء و الجور، و أداة للحكم الفاسد.

ولاية المظالم:

و أوّل من أسّس ولاية المظالم في الإسلام هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد اتّخذ في الكوفة بيتا سمّاه بيت المظالم، و أمر المظلومين أن يسجّلوا فيه ظلامتهم، و قد تطوّرت هذه الولاية في العصر العباسي، و فاقت منصب القضاء، و قد عهد إليها بالامور التالية:

ص:38

1 - النظر في الشكاوى التي يرفعها المواطنون ضدّ الولاة و الحكّام إذا انحرفوا عن طريق الحقّ و جاروا على الرعية.

2 - النظر في جور العمّال إذا شذّوا في جباية الأموال.

3 - النظر في كتّاب الدواوين لأنّهم الامناء على بيوت الأموال فيما يستوفونه و يوفّونه.

4 - النظر في مظالم المرتزقة و سائر الموظفين إذا تأخّر دفع رواتبهم إليهم.

5 - ردّ ما غصبه الظالمون إلى المظلومين و المستضعفين.

6 - الإشراف على الأوقاف العامّة و الخاصّة لتجري على ما اوقفت عليه.

7 - تنفيذ ما وقف و لم ينفّذ من الأحكام الصادرة من القضاة و المحتسبين؛ لأنّ والي المظالم أقوى يدا و أنفذ أمرا من غيرهم.

8 - مراعاة إقامة الشعائر الدينية و العبادات كصلاة الجمع و الأعياد و الحجّ و الجهاد.

9 - إنزال عقوبة التأديب بالعمّال و غيرهم من كبار الموظّفين إذا شذّوا في سلوكهم، و لم يؤدّوا واجباتهم (1).

هذه أهمّ الامور التي يعهد بها إلى والي المظالم، و قد اهملت هذه الولاية التي هي من أهمّ المناصب و أخطرها، فقد انيط بها تطبيق العدل و صيانة الحقوق و إقصاء الظلم عن الناس.

عمّال الخراج و الصدقات:

أمّا عمّال الخراج فهم الذين يستوفون الأموال التي فرضت على الأراضي التي

ص:39


1- النظم الإسلامية: 325.

فتحها المسلمون عنوة، و أمّا عمّال الصدقات فهم الذين يجلبون الأموال التي فرضت على الأعيان التي تجب فيها الزكاة كالغلاّت الأربعة، و الأنعام الثلاثة، و النقدين، و يشترط في هؤلاء العمّال أن يكونوا امناء فيما يجبونه من الناس و فيما ينفقونه على المرافق العامّة، و قد وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لهم منهجا خاصّا حافلا بالآداب، و رعاية الصالح العامّ ، و الرفق الكامل بالمواطنين، و نسوق نصّ كلامه من دون أن نتعرّض لتحليله لأنّه وافي القصد، واضح المعالم، سهل البيان،

قال عليه السّلام لبعض عمّاله:

انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، و لا تروّعنّ مسلما، و لا تجتازنّ عليه كارها، و لا تأخذنّ منه أكثر من حقّ اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثمّ امض إليهم بالسّكينة و الوقار؛ حتّى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج (1) بالتّحيّة لهم، ثمّ تقول: عباد اللّه، أرسلني إليكم وليّ اللّه و خليفته، لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه ؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، و إن أنعم لك منعم (2) فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه، أو ترهقه.

فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به.

و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزعنّها، و لا تسوأنّ صاحبها فيها، و اصدع المال

ص:40


1- لا تخدج: أي لا تبخل.
2- يقصد ب «المنعم» دافع الزكاة، و هذا من روائع الأدب العلوي.

صدعين (1) ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. ثمّ اصدع الباقي صدعين، ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله؛ فاقبض حقّ اللّه منه.

فإن استقالك فأقله (2) ، ثمّ اخلطهما ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت أوّلا حتّى تأخذ حقّ اللّه في ماله.

و لا تأخذنّ عودا (3) ، و لا هرمة، و لا مكسورة، و لا مهلوسة، و لا ذات عوار، و لا تأمننّ عليها إلاّ من تثق بدينه، رافقا بمال المسلمين حتّى يوصّله إلى وليّهم فيقسمه بينهم، و لا توكّل بها إلاّ ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا، غير معنف و لا مجحف (4) ، و لا ملغب (5) و لا متعب. ثمّ احدر (6) إلينا ما اجتمع عندك نصيّره حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألاّ يحول بين ناقة و بين فصيلها، و لا يمصر (7) لبنها فيضرّ ذلك بولدها؛ و لا يجهدنّها ركوبا، و ليعدل بين صواحباتها في ذلك و بينها، و ليرفّه على اللاّغب (8) ، و ليستأن بالنّقب (9) و الظّالع، و ليوردها

ص:41


1- صدعين: أي قسمين؛ ليختار صاحب المال أيّهما شاء.
2- فإن استقالك فأقله: أي إن طلب الإعفاء من هذه القسمة فأعفه منها.
3- العود: المسنّة من الإبل.
4- المجحف: الذي يشتدّ في سوق الأنعام حتى تهزل.
5- اللغب: التعب.
6- احدر: أي اسرع.
7- يمصر اللبن: تقليله بالحلب.
8- اللاغب: الذي أعياه التعب.
9- النقب: الخرق.

ما تمرّ به من الغدر (1) ، و لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق، و ليروّحها في السّاعات، و ليمهلها عند النّطاف (2) و الأعشاب، حتّى تأتينا بإذن اللّه بدّنا منقيات غير متعبات، و لا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه و سنّة نبيّه - صلّى اللّه عليه و آله - فإنّ ذلك أعظم لأجرك، و أقرب لرشدك، إن شاء اللّه» (3).

و حفل هذا العهد باصول الفضائل و الآداب، و احتوى على جميع صنوف العدل و رعاية حقوق من وجبت عليهم الزكاة، كما تضمّن الرفق الكامل بالحيوان، و عدم إجهاده و الاضرار به كما نصّ العهد على الاحتياط بأموال الدولة، و الاهتمام بها إلى غير ذلك من الأنظمة الرائعة التي لم تقنّن مثلها في الأنظمة الحديثة.

محاسبة الولاة:

على وليّ أمر المسلمين أن يقف بيقظة و حزم أمام ولاته على الأقطار و الأقاليم فيراقب تصرّفاتهم، و يحاسبهم على ما جبوه و أنفقوه من بيت المال، و ينظر إلى ما عندهم من ثراء، فإن كان قد اصطفوه من بيت المال بغير وجه مشروع فالواجب مصادرته، و عزلهم و ذلك لخيانتهم،

و قد سنّ ذلك، و وضع منهاجه الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فكان يحاسب عمّاله على ما في أيديهم و على ما أنفقوه، و قد استعمل رجلا من الأزد على الصدقات فلمّا رجع حاسبه فقال الرجل:

- هذا لكم، و هذا اهدي لي.

فأنكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك و قال:

ص:42


1- الغدر: هو ما غادره السيل من الماء.
2- النطاف: المياه القليلة.
3- نهج البلاغة - محمّد عبده 23:3-26.

«ما بال الرّجل نستعمله على العمل ممّا ولاّنا اللّه، فيقول: هذا لكم، و هذا اهدي لي ؟ أ فلا قعد في بيت امّه و أبيه فنظر أ يهدى له أم لا؟ و الّذي نفسي بيده! لا نستعمل رجلا على العمل ممّا ولاّنا اللّه فيغلّ منه شيئا إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، و إن كانت بقرة لها خوار، و إن كانت شاة تمغر».

ثمّ رفع يديه إلى السماء و قال: «اللّهمّ بلّغت» قالها مرّتين أو ثلاثا (1).

و سار الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام على هذا المنهج في دور حكومته فكان يراقب الولاة و العمّال، و يمعن في محاسبتهم، فإذا بدرت من أحدهم خيانة بادر إلى عزله، و مصادرة ما اختلسه من الأموال، و قد بلغه عن بعض عمّاله أنّه استأثر ببعض أموال المسلمين فكتب إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك، و عصيت إمامك...، بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، و أكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، و اعلم أنّ حساب اللّه أعظم من حساب النّاس(2).

و كتب إلى زياد بن أبيه، و هو وال من قبل عامله على البصرة عبد اللّه بن عباس، يحذّره من الخيانة، و قد جاء فيما كتبه إليه:

و إنّي أقسم باللّه قسما صادقا، لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا، لأشدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظّهر، ضئيل الأمر (3).

ص:43


1- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 248.
2- نهج البلاغة - محمّد عبده 22:3.
3- المصدر السابق 22:3.

ما أحوج المسلمين إلى هذا العدل الصارم الذي لا تطغى فيه النزعات و الأهواء، و لا ميل فيه إلاّ للعدل و الحقّ ، و لا مكسب فيه إلاّ خدمة الامّة و رعاية مصالحها (1).

و روى المؤرّخون أنّ عمر بن الخطّاب كان يحاسب عمّاله و يشاطرهم ما عندهم من أموال، فقد شاطر أموال سعد بن أبي وقّاص و عمرو بن العاص و الحجّاج ابن عتيك الثقفي و غيرهم، و يقول المعنيّون بهذه البحوث إنّ الواجب كان يقضي بمصادرة جميع أموالهم إن كانوا قد اختلسوها، و إن لم يكونوا قد اختلسوها فلا وجه لمصادرة نصفها (2).

الإقالة و العزل:

لا يجوز فصل الولاة و إقالتهم إذا كانوا قائمين بواجباتهم و ملتزمين بما عهد إليهم، أمّا إذا اقترفوا الظلم و شذّوا عن الطريق القويم فإنّهم يفصلون، و يقدّمون إلى القضاء،

و قد عزل الإمام عليه السّلام أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية أنّه قد جار في حكمه، فبكى الإمام و قال في حرارة:

اللّهمّ أنت الشّاهد عليّ و عليهم، إنّي لم آمرهم بظلم خلقك، و لا بترك حقّك.

ثمّ عزله في الوقت (3) ، إنّ سعادة الامّة منوطة باستقامة حكّامها، و عدل موظّفيها، فإذا مالوا عن الحقّ ، و ابتعدوا عن العدل وجب عزلهم لئلا تتعرّض البلاد إلى الأزمات و النكسات.

ص:44


1- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام: 373.
2- المصدر السابق: 374.
3- العقد الفريد 211:1.

و من مظاهر عدل الإمام عليه السّلام عزله للمنذر بن الجارود حينما بلغه أنّه جافى سيرة أبيه الجارود الحافلة بالتقوى و الصلاح، فقد كتب إليه الإمام عليه السّلام ما نصّه:

أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك ما غرّني منك، و ظننت أنّك تتّبع هديه، و تسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقّي إليّ عنك لا تدع لهواك انقيادا، و لا تبقي لآخرتك عتادا. تعمر دنياك بخراب آخرتك، و تصل عشيرتك بقطيعة دينك. و لئن كان ما بلغني عنك حقّا، لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك، و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه(1).

لقد صبّ الإمام عليه السّلام جام غضبه على المنذر حينما بلغه أنّه خان المسلمين، فقد عنّفه بهذا اللون من العنف الذي هو أشدّ من ضرب السيوف، ثمّ عزله عن منصبه من أجل صيانة العدل، و الحفاظ على حقوق المسلمين و مصالحهم، و ليس من العدل في شيء إبقاء من خان المسلمين في منصبه بل لا بدّ من عزله و إقصائه.

الجيش:

أمّا الجيش فهو السياج الواقي للامّة، و الحامي لها من الاعتداء و الغزو، و هو أفضل جهاز في الدولة،

و لننظر إلى ما قاله الإمام عليه السّلام من المدح و الاطراء:

فالجنود، بإذن اللّه، حصون الرّعيّة، و زين الولاة، و عزّ الدّين، و سبل الأمن، و ليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم.

أ رأيتم هذا التمجيد؟

ص:45


1- نهج البلاغة 145:3.

أ رأيتم هذا الثناء؟ إنّ الجند حصون الرعية، و زين الولاة، و سبل الأمن العامّ في البلاد، و ليس فوق هذا الثناء من ثناء.

و أضاف الإمام عليه السّلام يقول:

فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما ممّن يبطئ عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضّعفاء، و ينبو على الأقوياء، و ممّن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضّعف.

عرض الإمام إلى من يولّيه و يرشّحه مالك لبعض المراتب المهمّة في الجيش و اشترط أن تتوفّر فيهم الصفات التالية:

1 - أن يتّصف المرشّح لقيادة الجيش بالنصيحة للّه و رسوله و لوالي الامّة.

2 - أن يكون بعيدا عن أكل المال الحرام.

3 - أن يكون من أفضل الناس، و يبطئ عن الغضب الذي هو مصدر كلّ رذيلة.

4 - أن يتّصف بالرأفة و الرحمة على الضعفاء و الفقراء.

5 - أن يكون ذا بأس و قوّة على الأقوياء.

6 - أن يكون قوي الشخصية، فلا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف.

و أكّد الإمام في عهده لمالك على العناية بقادة الجيش، قال عليه السّلام:

و ليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، و أفضل عليهم من جدته بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدوّ؛ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.

ص:46

و ألمّت هذه الكلمات بأرقى الوسائل التي توجب تلاحم الجيش مع قادته بولاة الأمر، و أنّهم يكونون جميعا يدا واحدة على عدوّهم.

الشرطة:

أمّا الشرطة فهي من أجهزة الدولة الحسّاسة، و أوّل من أسّسها في الإسلام هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد انتخب جماعة من خيار جنوده، و أطلق عليهم «شرطة الخميس» و كانوا يمثّلون النزاهة و التقوى حتى كانت شهادة أحدهم في المحاكم تعدل شهادة رجلين، و كان منهم الشهيد الخالد حبيب بن مظاهر و الثقة الأمين عبد اللّه بن يحيى الحضرمي، و قد قال له الإمام عليه السّلام:

«ابشر يا عبد اللّه، فإنّك و أباك من شرطة الخميس، حقّا لقد أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باسمك و اسم أبيك في شرطة الخميس» (1).

و انيطت بالشرطة كثير من الواجبات و المسئوليات كان من بينها:

1 - القبض على المجرمين.

2 - اتّخاذ التدابير الوقائية لمنع وقوع الجرائم.

3 - المحافظة على النظام و الأمن العام.

4 - المحافظة على أموال الناس و أعراضهم.

و قد حدّد الإسلام صلاحيّات الشرطة فليس لها أن تعتقل أي شخص إلاّ إذا ثبتت في حقّه تهمة يعاقب عليها القانون الإسلامي، و إذا ارتكب بعض الشرطة المخالفات فإنّهم يقدّمون للقضاء، و تجري عليهم العقوبات المقرّرة في الإسلام (2).

و من الجدير بالذكر أنّ الشرطة في الأندلس قد انقسمت إلى شرطة كبرى،

ص:47


1- حياة الإمام الحسن عليه السّلام 377:2.
2- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام: 441.

و شرطة صغرى، فالكبرى هي التي تضرب على أيدي الزعماء، و من يتّصل بهم، و الصغرى تحكم في الغوغاء و عامّة الناس... و كانت ولاية الشرطة للزعماء و الأكابر من رجال الدولة (1).

حق الوالي على الرعية و حقّها عليه:

عرض الإمام عليه السّلام في حديثه التالي إلى حقّ الوالي على الرعية، و حقّها عليه، قال:

حقّ الوالي على الرّعيّة، و حقّ الرّعيّة على الوالي، فريضة فرضها اللّه سبحانه لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم، و عزّا لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة، و لا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه، و أدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقّ بينهم، و قامت مناهج الدّين، و اعتدلت معالم العدل، و جرت على أذلالها السّنن، فصلح بذلك الزّمان، و طمع في بقاء الدّولة، و يئست مطامع الأعداء.

و إذا غلبت الرّعيّة واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنا لك الكلمة، و ظهرت معالم الجور، و كثر الإدغال في الدّين، و تركت محاجّ السّنن، فعمل بالهوى، و عطّلت الأحكام، و كثرت علل النّفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، و لا لعظيم باطل فعل! فهنالك تذلّ الأبرار، و تعزّ الأشرار (2).

1

ص:48


1- النظم الإسلامية: 334.
2- ربيع الأبرار 241:4-242.

ولاته على مصر

اشارة

ص:49

ص:50

عرضنا في البحوث السابقة إلى أهميّة الولاة و واجباتهم، و ما يرتبط بهم من الأعمال في ميادين الاصلاح الاجتماعي...

و بعد هذا نعرض إلى ولاة الإمام و عمّاله على الأقطار و الأقاليم الإسلامية.

إنّ الإمام عليه السّلام حينما تسلّم السلطة بعد مقتل عثمان بن عفّان بادر إلى عزل جميع ولاته و عمّاله؛ لأنّهم كانوا مصدر فتنة و اضطراب في البلاد الإسلامية، و بعضهم قد استأثر بفيء المسلمين، و استحلّ الخراج، و من المؤكّد أنّ منحهم الوظائف المهمّة في الدولة لم تكن عن كفاءة و اختيار، و إنّما كانت محاباة و اثرة.

و على أي حال فإنّا نعرض إلى ولاة مصر التي هي أمّ البلاد الإسلامية، و مركز الثقل فيها، و قد ولّى الإمام عليه السّلام عليها خيرة الرجال كفاءة و وعيا و إحاطة بما تحتاج إليه الامّة في شئونها الإدارية و الاجتماعية و السياسية... و كان أوّل من تقلّد منصب الامارة فيها هو:

ص:51

ص:52

قيس بن سعد

اشارة

أمّا قيس بن سعد فهو من أفذاذ القادة الإسلاميّين، و علم من أعلام الجهاد في الإسلام، و من ذخائر الرجال الذين أنجبتهم مدرسة الإسلام... و نعرض - بصورة موجزة - إلى بعض شئونه:

ملامحه و صفاته:

اوتي قيس بسطة في الجسم، فهو أطول إنسان في عصره، و كان إذا ركب الحمار تخطّ رجلاه في الأرض، و قد بعث قيصر إلى معاوية أن ابعث لي سراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس: ما أظنّ إلاّ قد احتجنا إلى سراويلك، فقام و تنحّى و خلع سراويله، و جاء بها إليه، فقال له معاوية: ألاّ ذهبت إلى منزلك ثمّ بعثت بها، فقال قيس:

أردت بها أن يعلم النّاس أنّها سراويل قيس و الوفود شهود

و ألاّ يقولوا غاب قيس و هذه سراويل عاد خاطها لثمود

و أنّي من الحيّ اليماني لسيّد و ما النّاس إلاّ سيّد و مسود

فكدهم بمثلي إنّ مثلي عليهم شديد و خلقي في الرّجال مديد (1)

و أمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه فوقفت بالأرض.

ص:53


1- النجوم الزاهرة 96:1.

و تميّز قيس بوفور العقل و حسن التدبير، و روي عنه أنّه قال: لو لا أنّي

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «المكر و الخديعة في النّار» لكنت من أمكر هذه الامّة (1).

و كان قيس ندي الكفّ جوادا لا يبارى، فكان يستدين و يطعم الفقراء، و قال أبو بكر و عمر: إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه، فمشيا في الناس يمنعونهم من سؤاله، و سار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما، فقام سعد بن عبادة خلفه، و قال: من يعذرني من ابن أبي قحافة و ابن الخطّاب يبخلان على ابني (2).

ولايته على مصر:

قلّده الإمام عليه السّلام ولاية مصر في سنة (37 ه ) و قال له الإمام عليه السّلام:

«اخرج إلى رحلك، و اجمع إليك ثقاتك و من أحببت أن يصحبك حتّى تأتيها و معك جندك، فإنّ ذلك أرعب لعدوّك، و أعزّ لوليّك، و أحسن إلى المحسن، و اشتدّ على المريب، و ارفق بالعامّة و الخاصّة، فإنّ الرّفق يمن».

فقال له قيس: اخرج إليها بجند، فو اللّه! لئن لم أدخلها إلاّ بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا، فأنا ادع ذلك الجند فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريبا، و إن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة لك.

و خرج قيس في سبعة من أصحابه، حتى انتهى إلى مصر، و فور انتهائه صعد المنبر، و أمر بقراءة كتاب الإمام عليه السّلام الذي فيه ولايته، ثمّ خطب الناس قائلا:

الحمد للّه الذي جاء بالحقّ ، و أمات الباطل، و كبت الظالمين.

ص:54


1- النجوم الزاهرة 95:1.
2- المصدر السابق 96:1.

أيّها الناس، إنّا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله فقوموا أيّها الناس فبايعوه على كتاب اللّه و سنّة رسوله، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا.

و انبرت الجماهير فبايعت الإمام عليه السّلام (1).

مكائد معاوية:

و ورم أنف معاوية، و انتفخ سحره حينما علم بتقلّد قيس ولاية مصر فراح يدبّر المؤامرات لجلبه إليه، و قد كتب إليه الرسالة التالية:

من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد بن عبادة، سلام عليك أمّا بعد: فإنّكم إن كنتم نقمتم على عثمان في امور رأيتموها أو ضربة سوط ضربها، أو شتمة شتمها، أو في سير سيّره، أو في استعماله الفيء، فقد علمتم أنّ دمه لم يكن حلالا لكم فقد ركبتم عظيما من الأمر و جئتم شيئا ادّا، فتب إلى اللّه يا قيس بن سعد، فإنّك ممّن أعان على قتل عثمان، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئا، و أمّا صاحبك - يعني الإمام أمير المؤمنين - فقد تيقّنا أنّه الذي أغرى به، و حملهم على قتله حتى قتلوه، و أنّه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل، فإن بايعتنا على هذا الأمر فلك سلطان العراقين، و لمن شئت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، و سلني غير هذا ممّا تحبّ فإنّك لا تسألني شيئا إلاّ اوتيته، و اكتب إليّ برأيك فيما كتبت به إليك و السلام.

و حفلت هذه الرسالة بالخداع و الأكاذيب، فليس قيس و لا الإمام لهما ضلع في إراقة دم عثمان و إنّما أجهز عليه عمله و سوء سياسته، و قد بسطنا الكلام فيها.

ص:55


1- تاريخ ابن الأثير 137:3.

جواب قيس:

و أجابه قيس بهذه الرسالة:

أمّا بعد: فقد بلغني كتابك، و فهمت ما ذكرت فيه.

فأمّا ما ذكرت من أمر عثمان فذلك أمر لم أقاربه، و لم انتطف فيه (1).

و أمّا قولك: إنّ صاحبي أغرى الناس بعثمان، فهذا أمر لم أطّلع عليه.

و ذكرت انّ معظم عشيرتي لم يسلموا من دم عثمان، فأوّل الناس فيه قياما عشيرتي، و لهم اسوة غيرهم.

و أمّا ما ذكرت من مبايعتي إيّاك و ما عرضت عليّ ، فلي فيه نظر و فكرة، و ليس هذا ممّا يسارع إليه، و أنا كاف عنك، و لن يبدو لك من قبلي شيء ممّا تكره، و السلام (2).

و لمّا قرأها معاوية لم يجد فيها ثغرة يسلك فيها لإفساد قيس، فكتب إليه:

رسالة اخرى من معاوية:

أمّا بعد: فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما، و لم أرك مباعدا فأعدك حربا، و ليس مثلي من يخدع، و بيده أعنّة الخيل، و معه أعداد الرجال، و السلام.

جواب قيس:

و رأى قيس أنّ معاوية لا يقبل المماطلة فأظهر له ما في نفسه و كتب له:

أمّا بعد: فالعجب من اغترارك بي يا معاوية! و طمعك فيّ تسومني الخروج

ص:56


1- لم انتطف فيه: أي لم أتلطّخ به.
2- النجوم الزاهرة 99:1.

عن طاعة أولى الناس بالامرة، و أقربهم بالخلافة، و أقولهم بالحقّ ، و أهداهم سبيلا، و أقربهم إلى رسوله وسيلة، و أوفرهم فضيلة، و تأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، و أقولهم بالزور، و أضلّهم سبيلا، و أبعدهم من اللّه و رسوله وسيلة، و لا ضالّين و لا مضلّين طاغوت من طواغيت إبليس، و أمّا قولك معك أعنّة الخيل و أعداد الرجال لتشتغلنّ بنفسك حتى العدم (1).

و قطعت هذه الرسالة كلّ أمل في معاوية، فراح يفتّش عن مكيدة اخرى لإقصاء قيس عن مصر، فأذاع بين الشاميّين أنّ قيسا قد بايعه، و اختلق في ذلك كتابا ينعى فيه عثمان بن عفّان، و أنّه لا يسعه مسالمة المتّهمين بقتله...

و شاع بين أهل الشام أنّ قيسا قد بايع معاوية و أخلص له، و بلغ ذلك الإمام عليه السّلام فشقّ عليه ذلك، و أشار عليه عبد اللّه بن جعفر بعزل قيس، فامتنع الإمام، و تكرّرت الأحداث و إشاعة معاوية أنّ قيسا قد بايع معاوية فاضطرّ الإمام إلى عزله، و ولّى الزعيم مالك الأشتر مكانه، و قيل محمّد بن أبي بكر.

ص:57


1- النجوم الزاهرة 100:1.

ولاية مالك الأشتر

اشارة

أمّا مالك فهو سيف من سيوف اللّه تعالى، و علم من أعلام الجهاد في الإسلام، قد وهب حياته للّه تعالى، و أخلص لدينه كأعظم ما يكون الإخلاص...

و قد وقف بحزم و إخلاص إلى جانب إمام المتّقين و سيّد الموحّدين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام يحميه، و يذبّ عنه في أحلك الظروف، و أشدّها محنة و بلاء، و قد

أدلى الإمام عليه السّلام بعظيم منزلته و جهاده تجاهه قائلا:

«لقد كان لي كما كنت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

و قد انتخبه الإمام لولاية مصر بعد عزل قيس عنها، و ذلك لسموّ شخصيّته، و حزمه الجبّار، و قدرته الفائقة، و إحاطته التامّة بالشؤون السياسية و الإدارية، و قد زوّده برسالتين مع العهد الذهبي الذي لم ينشأ مثله في الإسلام و غيره، أمّا الرسالتان فهما:

الاولى: تضمّنت الإشادة بمكانة مالك، و حكت كريم صفاته و قد جاء فيها:

من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين، إلى القوم الّذين غضبوا للّه حين عصي في أرضه، و ذهب بحقّه، فضرب الجور سرادقه على البرّ و الفاجر، و المقيم و الظّاعن، فلا معروف يستراح إليه، و لا منكر يتناهى عنه.

أشاد الإمام عليه السّلام بهذه الكلمات بالجهود الجبّارة التي بذلها الجيش المصري

ص:58

لحماية الإسلام في أيام محنته حينما توالت عليه الأحداث الرهيبة أيام حكومة عثمان، فهبّ الجيش المصري للاطاحة بحكومته، و قد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض بحوث هذا الكتاب...

ثمّ أخذ الإمام في الثناء على مالك:

أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه، لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل عن الأعداء ساعات الرّوع، أشدّ على الفجّار من حريق النّار، و هو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ ، فإنّه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظّبة (1) ، و لا نابى الضّريبة (2):

فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنّه لا يقدم و لا يحجم، و لا يؤخّر و لا يقدّم إلاّ عن أمري؛ و قد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم، و شدّة شكيمته على عدوّكم(3).

و هذه الكلمات و سام شرف لمالك، فقد حكت بعض قيمه و مثله و التي منها:

1 - ألمّت بشجاعة مالك، و قوّة بأسه، و صلابة عزيمته، و أنّه لا ينام أيام الخوف، و لا ينكل عند الروع.

2 - إنّ مالك أشدّ من النار على المارقين و المنحرفين عن الحقّ ، الذين لا يرجون للّه وقارا.

3 - إنّ مالك من سيوف اللّه الواقعيّين الذين لم يلوّثوا بجريمة و لا باقتراف منكر.

4 - أمر الإمام - بهذه الرسالة - الشعب المصري بإطاعة مالك و الانصياع

ص:59


1- الظّبة: حدّ السيف. الكليل: الذي لا يقطع.
2- الضريبة: المضروب بالسيف.
3- نهج البلاغة - محمّد عبده 63:3.

لأوامره، فإنّه لا يقدم على شيء، و لا يعمل عملا إلاّ بعد أخذ رأي الإمام عليه السّلام.

الثانية: عرضت إلى الأحداث المؤسفة التي عاناها الإمام عليه السّلام بعد وفاة أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله:

قال:

أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - نذيرا للعالمين، و مهيمنا (1) على المرسلين.

فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده. فو اللّه ما كان يلقى في روعي (2) ، و لا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - عن أهل بيته، و لا أنّهم منحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلان (3) يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب؛ فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق، و اطمأنّ الدّين و تنهنه.

عرض الإمام في هذا المقطع إلى الخلافة التي هي من حقّه و هو أولى بها من غيره، و ما كان يدور في خلده أنّها تنصرف عنه إلى غيره، و لم يدخل مع القوم الذين

ص:60


1- المهيمن: الشاهد.
2- روعي: أي في خاطري.
3- يعني بفلان: أبا بكر.

انتزعوه تراثه و حقّه في ميدان الصراع المسلّح، و ذلك خشية على الإسلام من أن تشيع فيه الردّة، و ينقلب المسلمون على أعقابهم فصبر على ضياع حقّه و في العين قذى و في الحلق شجى - كما يقول في خطبته الشقشقية -،

و من بنود هذه الرسالة قوله:

إنّي و اللّه! لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها ما باليت و لا استوحشت، و إنّي من ضلالهم الّذي هم فيه و الهدى الّذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي. و إنّي إلى لقاء اللّه لمشتاق، و حسن ثوابه لمنتظر راج؛ و لكنّني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا، و عباده خولا، و الصّالحين حربا، و الفاسقين حزبا، فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام (1) ، و جلد حدّا في الإسلام، و إنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرّضائخ (2).

فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم (3) ، و تأنيبكم، و جمعكم، و تحريضكم، و لتركتكم إذ أبيتم و ونيتم.

أ لا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت، و إلى أمصاركم قد افتتحت، و إلى ممالككم تزوى، و إلى بلادكم تغزى! انفروا - رحمكم اللّه - إلى قتال عدوّكم، و لا تثّاقلوا إلى الأرض فتقرّوا

ص:61


1- الحرام: و هو الخمر، و قد شربها علنا عتبة بن أبي سفيان، و حدّ خالد بن عبد اللّه في الطائف.
2- الرضائخ: العطايا، و يشير بذلك إلى عمرو بن العاص فإنّه لم يسلم حتى أعطاه النبيّ .
3- التأليب: التحريض.

بالخسف، و تبوءوا بالذّلّ ، و يكون نصيبكم الأخسّ ، و إنّ أخا الحرب الأرق (1) ، و من نام لم ينم عنه، و السّلام(2).

حكت هذه الكلمات عن يقين الإمام عليه السّلام بأنّه على ثقة و بصيرة من أمره، و أنّه على اتّصال وثيق باللّه تعالى لا يستوحش من الذين فارقوه و حاربوه و نابذوه، فإنّهم على ضلال يا له من ضلال، كما أعرب عليه السّلام عن زهده في السلطة، و أنّه لو لا يخاف من أن يحكم المسلمين من لا دين له فيتّخذ مال اللّه دولا و عباده خولا لما تصدّى إلى الحكم، و لم يقم له أي وزن لأنّ السلطة عنده ليست مغنما و إنّما هي من سبل الاصلاح الاجتماعي، فليس فيها إلاّ التعب و الجهد و العناء.

ثمّ دعا الإمام الشعب المصري إلى جهاد المارقين عن الإسلام، و هم الحزب الأموي، و على رأسهم معاوية بن أبي سفيان الذي أفنى حياته في محاربة اللّه و رسوله.

العهد الذهبي:

و هو أروع عهد حافل بحقوق الإنسان، و قضاياه المصيرية لم يقنّن مثله، و لم يوضع في جميع المحافل الدولية نظيره، قد صاغه رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد عرضنا إلى معظم بنوده في البحوث التمهيدية التي صدّرنا بها هذا الكتاب،

و قد ختم الإمام عليه السّلام هذا العهد الشريف بهذه الكلمات القيّمة بقوله:

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبيّنا - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - أو فريضة في كتاب

ص:62


1- الأرق: السهر.
2- نهج البلاغة - محمّد عبده 118:3-121.

اللّه، فتقتدي بما شاهدته ممّا عملنا به فيها، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها.

و أنا أسأل اللّه بسعة رحمته، و عظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة، أن يوفّقني و إيّاك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه و إلى خلقه، مع حسن الثّناء في العباد، و جميل الأثر في البلاد، و تمام النّعمة، و تضعيف الكرامة، و أن يختم لي و لك بالسّعادة و الشّهادة، «و إنّا إلى اللّه راغبون».

و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطّيّبين الطّاهرين، و سلّم تسليما كثيرا، و السّلام.

أ رأيتم هذه الآداب العلوية الحافلة بجميع مقوّمات السموّ و الكرامة، و ما تعتزّ به الإنسانية في جميع أدوارها.

الشهادة:

و خرج الأشتر ميمّما وجهه صوب مصر، و سارت قافلته تطوي البيداء، لا تلوي على شيء، فلمّا انتهت إلى «أبلّة» (1) فالتقى به نافع مولى عثمان بن عفّان، و قد أرسله معاوية لاغتياله، و كان لبقا، فأخذ مالك يسأله:

- ممّن أنت ؟ - من أهل المدينة.

- من أيّهم ؟

ص:63


1- أبلّة: مدينة تقع على شاطئ دجلة في الطريق إلى البصرة.

فأخفى وضعه، و قال:

- مولى عمر بن الخطّاب.

- أين تريد؟ - مصر.

- ما حاجتك بها؟ - أشبع من الخبز فإنّا في المدينة لا نشبع منه.

- فرقّ له - الزمني فإنّي سأصيبك من الخبز.

و مضى مالك في سفره، و عميل معاوية ملازم له، حتى انتهى إلى القلزم (1) ، فنزل ضيفا على امرأة من جهينة فرحّبت به، و قابلته بمزيد من التكريم، و سألته أي الطعام أحبّ إليه في العراق حتى تصنعه له، فقال لها: الحيتان الطرية، فقدّمت له ما اشتهى فلمّا أكل أصابه عطش شديد فأخذ يكثر من شرب الماء، فقال له نافع مولى عثمان: إنّ الطعام لا يقتل سمّه إلاّ العسل، فدعا الأشتر بإحضاره من ثقله، فلم يكن فيه، فبادر نافع قائلا: هو عندي، فقال الأشتر: عليّ به، فأحضره فتناول منه، و كان قد دسّ فيه سمّا قاتلا، و لمّا انتهى إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه، و أخذ الموت يدنو منه سريعا، و طلب الأشتر إحضار نافع فوجده منهزما، فلم يعثر عليه، و سرى السمّ في جميع أوصاله، و قد طوت حياته شربة العسل التي كان يردّدها معاوية «إنّ للّه جنودا من عسل» (2).

لقد انتهت حياة هذا العملاق العظيم الذي جاهد أعداء اللّه كأعظم ما يكون

ص:64


1- القلزم: مدينة تقع على شفير البحر ليس بها زرع و لا ماء، يحمل إليها الماء من آبار بعيدة، و تقع ما بين الحجاز و مصر على ثلاثة أيام منها - معجم البلدان.
2- مالك الأشتر - محمّد رضا الحكيم: 174-175.

الجهاد، و قد كانت شهادته على يد أقذر اموي عرفه تاريخ البشرية، و هو ابن هند الذي حارب الإسلام هو و أبوه و امّه و قبيلته بجميع ما يملكون من طاقات.

تأبين الإمام لمالك:

و لمّا انتهى النبأ الفجيع بوفاة القائد العظيم إلى الإمام عليه السّلام ذابت نفسه أسى و حزنا، و أخذ يذرف عليه أحرّ الدموع قائلا:

«إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و الحمد للّه ربّ العالمين.

اللّهمّ إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدّهر...».

ثمّ قال:

«رحم اللّه مالكا فقد و فى بعهده، و قضى نحبه، و لقي ربّه، مع أنّا قد وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنّها من أعظم المصائب» (1).

و أخذ الإمام يتلهّف و هو يقول بحزن بالغ:

«للّه درّ مالك، و ما مالك ؟ لو كان من جبل لكان فندا (2) ، و لو كان من حجر لكان صلدا، أما و اللّه! ليهدنّ موتك عالما، و ليفرحنّ عالما، على مثل مالك فلتبك البواكي، و هل موجود كمالك ؟» (3).

لقد كانت شهادة مالك من الأحداث الجسام التي مني بها العالم الإسلامي، و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من أفجع المصابين به.

ص:65


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 29:2.
2- الفند: القطعة العظيمة من الجبل.
3- الغدير 40:9.

سرور معاوية:

و طار معاوية سرورا و بهجة بشهادة مالك، و خطب الناس، و قال:

أمّا بعد: فإنّه كانت لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفّين، و هو عمّار بن ياسر، و قطعت الاخرى اليوم، و هو مالك الأشتر (1).

لقد انتهت حياة عمار و مالك، و سمت روحهما إلى اللّه تعالى كأسمى روحين صعدتا إلى السماء، فقد لفعا بدم الشهادة في أقدس قضية نصرا فيها الإسلام، فقد وقفا إلى جانب وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يذبّان عنه، و يحميانه من الردّة الجاهلية المتمثّلة في كسرى العرب.

رثاء مالك:

و رثي جماعة من الشعراء الزعيم مالك كان منهم المثنّى، يقول:

ألا ما لضوء الصبح أسود حالك و ما للرواسي زعزعتها الدكادك

و ما لهموم النفس شتّى شئونها تظلّ تناجيها النجوم الشوابك

على مالك فليبك ذو الليث معولا إذا ذكرت في الفيلقين المعارك

إذا ابتدر الخطي و انتدب الملا و كان غياث القوم نصر مواشك

إذا ابتدرت يوما قبائل مذحج و نودي بها أين المظفّر مالك

فلهفي عليه حين تختلف القنا و يرعش للموت الرجال الصعالك

و لهفي عليه يوم دبّ له الردى وديف له سمّ من الموت حانك

فلو بارزوه يوم يبغون هلكه لكانوا بإذن اللّه ميت و هالك

و لو مارسوه مارسوا ليث غابة له كالتي لا ترقد الليل فاتك

ص:66


1- تاريخ الطبري 255:6. تاريخ ابن الأثير 153:3.

فقل لابن هند لو منيت بمالك و في كفّه ماضي الضريبة باتك

لألفيت هندا تشتكي على الردى تنوح و تخبوها النساء العواتك (1)

ورثته السيّدة الفاضلة سلمى أمّ الأسود بهذه الأبيات:

نبا بي مضجعي و نبا وسادى و عيني ما تهمّ إلى رقادي

كأنّ الليل اوثق جانباه و أوسطه بأمراس شداد

أبعد الأشتر النخعي نرجو مكاثرة و نقطع بطن واد

اكر إذا الفوارس محجمات و اضرب حين تختلف الهوادى (2)

رحم اللّه مالكا، و أجزل له المزيد من الأجر لنصرته أخا رسول اللّه و ابن عمّه، و حشره مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و حسن اولئك رفيقا.

1

ص:67


1- الولاة و القضاة - الكندي: 25-26.
2- المصدر السابق: 25.

محمّد بن أبي بكر

اشارة

و بعد ما نكب الإمام عليه السّلام بشهادة أخيه و عضده مالك الأشتر قلّد محمّد بن أبي بكر ولاية مصر و هو من ألمع الرجال في فضله و تقواه، و من أكثرهم حبّا و ولاء للإمام عليه السّلام، فكان ابنا بارّا للإمام، و ولدا مخلصا له، و شفيقا عليه.

عهد الإمام لمحمّد:

و زوّد الإمام محمّد بن أبي بكر بالرسالة التالية حينما قلّده ولاية مصر، و هذا نصّها:

فاخفض لهم جناحك، و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك، و آس (1) بينهم في اللّحظة و النّظرة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، و لا ييأس الضّعفاء من عدلك عليهم، فإنّ اللّه تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصّغيرة من أعمالكم و الكبيرة، و الظّاهرة و المستورة، فإن يعذّب فأنتم أظلم، و إن يعف فهو أكرم.

و مثّلت هذه الكلمات روعة العدل الذي لم يقنّن مثله في جميع ما شرّع من الشؤون السياسية، فقد أمر الإمام عليه السّلام محمّد بالمواد التالية:

ص:68


1- آس: أي ساو بينهم.

1 - أن يخفض للرعية جناحه، فلا يتكبّر، و لا يعلو عليهم، بل يكون كأحدهم.

2 - أن يلين للناس جانبيه فلا يظهر عليهم العظمة و الكبرياء.

3 - أن يبسط للجميع وجهه، فلا يخصّ قوما ببسماته و يقبض وجهه مع قوم آخرين.

4 - أن يساوي بين الناس حتى في اللحظة و النظرة، و هذا هو منتهى العدل...

و يستأنف الإمام في رسالته قائلا:

و اعلموا عباد اللّه! أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا و آجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، و لم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم؛ سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدّنيا بما حظي به المترفون، و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون؛ ثمّ انقلبوا عنها بالزّاد المبلّغ؛ و المتجر الرّابح. أصابوا لذّة زهد الدّنيا في دنياهم، و تيقّنوا أنّهم جيران اللّه غدا في آخرتهم. لا تردّ لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من لذّة.

فاحذروا عباد اللّه الموت و قربه، و أعدّوا له عدّته، فإنّه يأتي بأمر عظيم، و خطب جليل، بخير لا يكون معه شرّ أبدا، أو شرّ لا يكون معه خير أبدا.

فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها! و من أقرب إلى النّار من عاملها! و أنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

ص:69

و هو ألزم لكم من ظلّكم. الموت معقود بنواصيكم؛ و الدّنيا تطوى من خلفكم.

فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد.

دار ليس فيها رحمة، و لا تسمع فيها دعوة، و لا تفرّج فيها كربة.

و إن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من اللّه، و أن يحسن ظنّكم به، فاجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه، و إنّ أحسن النّاس ظنّا باللّه أشدّهم خوفا للّه.

و حكت هذه الكلمات النصائح الرفيعة، و المواعظ الكاملة التي يجب أن يعتبر بها الناس ليكونوا بمأمن من عذاب اللّه تعالى، و يفوزوا بمغفرته و رضوانه...

ثمّ يستمر الإمام في عهده قائلا:

و اعلم - يا محمّد بن أبي بكر - أنّي قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي، أهل مصر، فأنت محقوق (1) أن تخالف على نفسك، و أن تنافح عن دينك، و لو لم يكن لك إلاّ ساعة من الدّهر، و لا تسخط اللّه برضى أحد من خلقه، فإنّ في اللّه خلفا من غيره، و ليس من اللّه خلف في غيره.

صلّ الصّلاة لوقتها المؤقّت لها، و لا تعجّل وقتها لفراغ، و لا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال.

و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك.

و حفلت هذه الكلمات بدعوة محمّد بن أبي بكر بمخالفة هوى نفسه و المنافحة عن دينه، و أن لا يسخط اللّه تعالى في أي عمل من أعماله، فإنّه ليس للّه تعالى خلف

ص:70


1- محقوق: أي مطالب بمخالفتك شهوة نفسك.

في جميع الكائنات.

ثمّ أوصى الإمام عليه السّلام محمّدا بأداء الصلاة في وقتها فإنّها من أفضل العبادات، و من أعظمها عند اللّه تعالى... و يأخذ الإمام في عهده قائلا:

فإنّه لا سواء، إمام الهدى و إمام الرّدى، و وليّ النّبيّ ، و عدوّ النّبيّ .

و لقد قال لي رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -: «إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمنا و لا مشركا:

أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بإيمانه.

و أمّا المشرك فيقمعه اللّه بشركه.

و لكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان، عالم اللّسان، يقول ما تعرفون، و يفعل ما تنكرون (1).

و تمثّلت روعة الإسلام و ما ينشده من تقوى و هدى و استقامة في سلوك الإنسان بهذا العهد المبارك الذي زوّد به الإمام عليه السّلام واليه على مصر لينشر في ربوعه العدل و الحقّ و المساواة بين المصريّين.

صورة اخرى من عهد الإمام لمحمّد:

و هذه صورة اخرى من عهد الإمام عليه السّلام لمحمّد رواها الطبري، و هذا نصّه بعد البسملة:

هذا ما عهد عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولاّه مصر:

ص:71


1- نهج البلاغة 516:3-518.

أمره بتقوى اللّه في السّرّ و العلانية، و خوف اللّه عزّ و جلّ في المغيب و المشهد، و أمره باللّين على المسلم، و الغلظة على الفاجر، و بالعدل على أهل الذّمّة، و بإنصاف المظلوم، و بالشّدّة على الظّالم، و بالعفو عن النّاس، و بالإحسان ما استطاع، و اللّه يجزي المحسنين، و يعذّب المجرمين.

و أمره أن يدعو من قبله إلى الطّاعة و الجماعة، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة، و عظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره و لا يعرفون كنهه.

و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل، لا ينتقص منه و لا يبتدع فيه، ثمّ يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل.

و أن يلين لهم جناحه، و أن يواسي بينهم في مجلسه و وجهه، و ليكن القريب و البعيد في الحقّ سواء.

و أمره أن يحكم بين النّاس بالحقّ ، و أن يقوم بالقسط ، و لا يتّبع الهوى، و لا يخف في اللّه عزّ و جلّ لومة لائم، فإنّ اللّه جلّ ثناؤه مع من اتّقاه، و آثر طاعته، و أمره على ما سواه.

و كتب هذا العهد عبد اللّه بن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لغرّة رمضان سنة (36 ه ) (1).

و حفل هذا العهد بجميع ألوان التقوى، و التمسّك بطاعة اللّه تعالى التي هي الدرع الحصين لمن ألتجئ إليها.

ص:72


1- تاريخ الطبري 231:5. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 25:2.

رسالة محمّد إلى معاوية:

و لمّا استقرّ محمّد في مصر كتب رسالة إلى معاوية يدعوه فيها إلى الجماعة و الطاعة، و يذكر فيها فضائل الإمام عليه السّلام و هذا نصّها:

من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر:

سلام على أهل طاعة اللّه ممّن هو سلم لأهل ولاية اللّه، أمّا بعد:

فإنّ اللّه بجلاله و عظمته، و سلطانه و قدرته خلق خلقا بلا عبث منه، و لا ضعف في قوّته، و لا حاجة به إلى خلقهم؛ و لكنّه خلقهم عبيدا، و جعل منهم غويا و رشيدا و شقيّا و سعيدا.

ثمّ اختارهم على علمه، فاصطفى و انتخب منهم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، فاختصّه برسالته، و اختاره لوحيه، و ائتمنه على أثره، و بعثه رسولا، و مبشرا و نذيرا، مصدّقا لما بين يديه من الكتب، و دليلا على الشرائع، فدعا إلى سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة.

فكان أوّل من أجاب و أناب، و آمن و صدّق، و أسلم و سلّم، أخوه و ابن عمّه، صدّقه بالغيب المكتوم، و آثره على كلّ حميم، و وقاه بنفسه كلّ هول، و واساه بنفسه في كلّ خوف و حارب حربه، و سالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل (1) و مقامات الرّوع، حتى برّز سابقا لا نظير له في جهاده و لا مقارب له في فعله.

و قد رأيتك تساميه، و أنت أنت، و هو هو السابق المبرّز في كلّ خير أوّل النّاس إسلاما، و أصدق الناس نيّة، و أطيب الناس ذرّيّة، و خير الناس زوجة، و خير الناس ابن عمّ ، أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة، و عمّه سيّد الشهداء يوم احد، و أبوه الذابّ

ص:73


1- الأزل: الضيق و الشدّة.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن حوزته.

و أنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لدين اللّه الغوائل، و تجهدان في إطفاء نور اللّه، و تجمعان على ذلك الجموع، و تبذلان فيه المال، و تؤلّبان عليه القبائل، على هذا مات أبوك، و على ذلك خلفته، و الشاهد عليك بذلك من يأوي، و يلجأ إليك، من بقيّة الأحزاب، و رءوس النفاق و الشقاق لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و الشاهد لعليّ مع فضله المبين و سابقته القديمة أنصاره الذين معه الذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن ففضّلهم و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار، فهم معه كتائب و عصائب، يجالدون حوله بأسيافهم، و يهريقون دماءهم دونه، يرون الحقّ في اتّباعه و الشّقاق و العصيان في خلافه، فكيف - يا لك الويل - تعدل نفسك بعليّ ، و هو وارث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و وصيّه و أبو ولده، و أوّل النّاس له اتّباعا، و أقربهم به عهدا، يخبره بسرّه، و يطلعه على أمره، و أنت عدوّه و ابن عدوّه.

فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك، و ليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، و كيدك قد وهى، و سوف يستبين لك لمن تكون العاقبة العليا، و اعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده، و أيست من روحه، و هو لك بالمرصاد و أنت منه في غرور و السلام على من اتّبع الهدى... (1).

و هذه الرسالة ناطقة بالحقّ ، ملمّة بالواقع، ليس فيها دجل و لا افتراء، فقد حكت جهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و عظيم مكانته عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما حكت زيغ معاوية و ضلاله، و تطاوله على أخي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و منازعته له بغير حقّ ، و على أي حال فهذه الرسالة من غرر الرسائل الحافلة بالواقع و الحقّ .

ص:74


1- مروج الذهب 59:2. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 188:3-190.

جواب معاوية:

و أجاب معاوية عن رسالة محمّد، بهذه الرسالة جاء فيها:

من معاوية بن صخر إلى الزّاري (1) على أبيه محمّد بن أبي بكر.

سلام على أهل طاعة اللّه.

أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما اللّه أهله في عظمته و قدرته و سلطانه، و ما أصفى (2) به نبيّه مع كلام كثير ألفته و وضعته لرأيك فيه تضعيف، و لأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه حقّ ابن أبي طالب، و قديم سوابقته و قرابته من نبيّ اللّه، و نصرته له، و مواساته إيّاه، في كلّ هول و خوف، فكان احتجاجك عليّ ، و فخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك، و جعله لغيرك، فقد كنّا و أبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازما لنا، و فضله مبرزا علينا.

فلمّا اختار اللّه لنبيّه ما عنده، و أتمّ له ما وعده، و أظهر دعوته، و أفلج حجّته (3) ، قبضه اللّه إليه فكان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزّه حقّه (4) ، و خالفه على أمره، على ذلك اتّفقا و اتّسقا، ثمّ انّهما دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما، فهمّا به الهموم، و أرادا به العظيم - أي القتل -.

ثمّ إنّه بايعهما و سلّم لهما، و أقاما لا يشركانه في أمرهما، و لا يطلعانه على سرّهما حتى قبضا و انقضى أمرهما ثمّ أقاما بعدهما عثمان يهتدي بهديهما، و يسير بسيرتهما، فعبته أنت و صاحبك، حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي،

ص:75


1- الزاري: العائب.
2- أصفى: أي آثره.
3- أفلج حجّته: أي أظهرها.
4- ابتزّه حقّه: أي سلبه حقّه.

و بطنتما و ظهرتما، و كشفتما له عداوتكما و غلّكما، حتى بلغتما منه مناكما.

فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، و قس شبرك بفترك، تقصر عن أن توازي أو تساوي من بزن الجبال حلمه، و لا تلين على قسر (1) قناته، و لا يدرك ذو مدى أناته، أبوك مهّد له مهاده، و بنى ملكه و شادّه، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوّله، و إن يك جورا فأبوك اسّه، و نحن شركاؤه، فبهداه أخذنا، و بفعله اقتدينا، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، و لسلّمنا إليه، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا، فاحتذينا مثاله، و اقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك، أو دع، و السلام على من أناب و رجع من غوايته و تاب و ناب (2).

و شيء بالغ الأهمّية في رسالة معاوية و هو أنّه عزى مخالفته للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أبي بكر و عمر فهما اللذان مهّدا الطريق، و فتحا الباب لمنازعة الإمام و مناجزته، و قد سلك معاوية ما رسمه الشيخان له، و هذا الرأي وثيق للغاية فإنّه لو لا منازعة الشيخين للإمام، و قسرهما له لما استطاع معاوية سبيلا إلى مناجزة الإمام عليه السّلام.

شهادة محمّد:

و لمّا تسلّم محمّد قيادة ولاية مصر قامت قيامة معاوية فأرسل جيشا بقيادة ابن العاص لاحتلال مصر، و التحم الجيشان، فانهزم أهل الشام، فاستنجد ابن العاص بمعاوية فأمدّه بجيش جرّار بقيادة معاوية بن خديج، و دارت بين الجيشين معركة رهيبة استشهد فيها القائد العامّ لجيش محمّد، و على أثره فقد انهزم الجيش و فرّ محمّد، و لم يجد ركنا شديدا يأوي إليه، فالتجأ إلى خربة فأقام فيها، و خرج

ص:76


1- القسر: الاكراه.
2- مروج الذهب 60:2. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 284:1.

و فرّ محمّد، و لم يجد ركنا شديدا يأوي إليه، فالتجأ إلى خربة فأقام فيها، و خرج ابن حديج في طلبه، فأخبره بعض علوج المصريّين أنّه في الخربة فهجم عليه، و ألقى عليه القبض، و قد بلغ منه العطش مبلغا عظيما، فطلب الماء فردّ عليه السفّاك الأثيم ابن خديج قائلا:

لا سقاني اللّه إن سقيتك قطرة، إنّكم منعتم عثمان الماء، ثمّ قتلتموه و كان صائما، و اللّه! لأقتلنّك يا ابن أبي بكر فيسقيك اللّه الجحيم...

و تمثّلت الروح الأموية القذرة التي تحمل طبيعة و خسّة الأشرار بهذا الإنسان الممسوخ الذي منع الماء عن أسير عنده، و التفت إليه البطل قائلا:

يا ابن اليهودية النسّاجة!... أما و اللّه! لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا.

و التفت ابن خديج إلى محمّد قائلا:

أ تدري ما أصنع بك، ادخلك في جوف حمار ثمّ أحرقه عليك بالنار.

و أجابه البطل المؤمن:

إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتموه بأولياء اللّه.

و طال الجدل بينهما فانبرى ابن خديج فانفذ فيه حكم الاعدام و ألقى جسده الطاهر في جيفة حمار ميّت و أحرقه بالنار بعد أن احتزّ رأسه الشريف، و أرسله هدية إلى ابن آكلة الأكباد سيّده معاوية، و هو أوّل رأس طيف به في الإسلام (1).

و انتهت بذلك حياة هذا المجاهد الكبير الذي وهب حياته للّه تعالى، و قد خسر المسلمون بوفاته علما من أعلام العقيدة و الجهاد.

و لمّا انتهى الخبر المؤلم بشهادة محمّد إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بلغ به

ص:77


1- النجوم الزاهرة 110:1.

الحزن أقصاه، و راح يصوغ من أساه هذه الكلمات:

«لقد كان لي حبيبا و كان لي ربيبا» (1).

و قال بمرارة و حزن عميق:

و محمّد بن أبي بكر - رحمه اللّه - قد استشهد، فعند اللّه نحتسبه ولدا ناصحا، و عاملا كادحا، و سيفا قاطعا، و ركنا دافعا(2).

رحم اللّه محمّدا، و أجزل له المزيد من الأجر، فقد كان من عمالقة المجاهدين العارفين للحقّ ، و المستشهدين من أجل رفع كلمة اللّه في الأرض و حسم مادة الشرك.

ص:78


1- نهج البلاغة 117:1.
2- نهج البلاغة 60:3.

ولاته على

اشارة

مكّة - المدينة - اليمن - البحرين

ص:79

ص:80

و أقام الإمام عليه السّلام ولاته و عمّاله على بعض المناطق و الأقاليم الإسلامية، و قد عهد إليهم بتقوى اللّه و طاعته، و السهر على خدمة المواطنين، مسلمين و غير مسلمين، و أن يشيعوا بينهم روح المودّة و الالفة، و الأمن و الرخاء، ليكونوا أمثلة مشرقة للحكم الصالح الذي يسعد المجتمع في ظلاله... و فيما يلي بعض ولاته:

واليه على مكّة قثم

اشارة

استعمل الإمام عليه السّلام على مكّة ابن عمّه قثم بن العباس، و امّه لبابة بنت الحارث الهلالية، روي أنّها أوّل امرأة أسلمت بعد أمّ المؤمنين خديجة، و كان أثيرا عند الإمام عليه السّلام و ذلك لورعه و تقواه، و قد سأله عبد الرحمن بن خالد فقال له:

ما شأن عليّ ، هل كانت له منزلة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم تكن للعباس ؟ فأجابه إنّه كان أوّلنا لحوقا، و أشدّنا لزوقا (1) ، و قد استعمله على مكّة و بقي فيها حتى استشهد الإمام عليه السّلام.

رسالة الإمام إلى قثم:

كتب الإمام عليه السّلام إلى قثم هذه الرسالة حينما علم أنّ معاوية دسّ إلى مكّة بعض عملائه يخذّلون الناس عن نصرة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و يشيعون بينهم أنّ الإمام

ص:81


1- اسد الغابة 373:3.

إمّا قاتل لعثمان، أو خاذل له، و هو لا يصلح للإمامة، و أنّ الصالح للإمامة معاوية بن أبي سفيان (1) ، فكتب إليه الإمام يحذّره من معاوية و أذنابه:

أمّا بعد، فإنّ عيني - بالمغرب (2) - كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه على الموسم اناس من أهل الشّام العمي القلوب، الصمّ الأسماع، الكمه الأبصار (3) ، الّذين يلتمسون الحق بالباطل، و يطيعون المخلوق في معصية الخالق، و يحتلبون الدّنيا درّها بالدّين، و يشترون عاجلها بآجل الأبرار و المتّقين؛ و لن يفوز بالخير إلاّ عامله، و لا يجزى جزاء الشّرّ إلاّ فاعله.

فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصّليب، و النّاصح اللّبيب، و التّابع لسلطانه، المطيع لإمامه.

و إيّاك و ما يعتذر منه، و لا تكن عند النّعماء بطرا (4) ، و لا عند البأساء فشلا، و السّلام (5).

و حكت هذه الرسالة الصفات البارزة لأذناب معاوية و عملائه، و هي:

1 - أنّهم عمي القلوب.

2 - صمّ الأسماع.

3 - كمه الأبصار.

4 - يلتمسون الباطل باسم الحقّ .

5 - يطيعون المخلوق بمعصية الخالق.

ص:82


1- شرح ابن أبي الحديد. شرح ابن ميثم على الرسالة التالية.
2- أراد ب «المغرب»: الشام، و سمّي مغربا لأنّه من الأقاليم الغربية.
3- الكمه: جمع أكمه، و هو من ولد أعمى.
4- البطر: شدّة الفرح.
5- مصادر نهج البلاغة و أسانيده - قسم الرسائل و العهود 318:3.

هذه بعض الصفات السيّئة الماثلة فيهم، و هي - من دون شكّ - تخرجهم عن اطار المؤمنين.

رسالة اخرى إلى قثم:

أمّا بعد، فأقم للنّاس الحجّ ، و ذكّرهم بأيّام اللّه، و اجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، و علّم الجاهل، و ذاكر العالم. و لا يكن لك إلى النّاس سفير إلاّ لسانك، و لا حاجب إلاّ وجهك. و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت (1) عن أبوابك في أوّل وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها.

و انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال و المجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة و الخلاّت و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا.

و مر أهل مكّة ألاّ يأخذوا من ساكن أجرا، فإنّ اللّه سبحانه يقول:

سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ فالعاكف: المقيم به، و البادي: الّذي يحجّ إليه من غير أهله.

وفّقنا اللّه و إيّاكم لمحابّه و السّلام» (2).

و حفلت هذه الرسالة بجميع مقوّمات الإنسانية، فقد حفلت بما يلي:

1 - أن يجلس للناس مجلسا عامّا يعظهم، و يرشدهم للتي هي أقوم، يجلس لهم صباحا و مساء، و يقوم في مجلسه بإفتاء المستفتي، و تعليم الجاهل

ص:83


1- ذيدت: أي منعت.
2- مصادر نهج البلاغة و أسانيده - قسم الرسائل و العهود: 307.

و مذاكرة العالم.

2 - أن لا يكون بينه و بين الناس سفير و لا حاجب و لا شرطي و لا بوّاب و أن يقوم بدوره بقضاء حوائج المحتاجين.

3 - أن ينفق ما عنده من أموال على مكافحة الفقر، و إزالة البؤس و ما فضل من ذلك فيحمله إلى الإمام عليه السّلام ليتولّى صرفه في مواضعه.

4 - أن يشيع بين أهل مكّة أن لا يأخذوا أجرا على ساكن لأنّ اللّه تعالى يقول:

سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ .1

ص:84

واليه على المدينة سهل بن حنيف

و لمّا نزح الإمام عليه السّلام إلى حرب الجمل أقام على يثرب واليا، سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي، و كان من أعلام الصحابة و خيارهم، و من السابقين لاعتناق الإسلام، شهد بدرا، و ثبت يوم احد حين انكشف الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بايع النبيّ على الموت، و كان ينفح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالنبل فيقول: نبلوا سهلا فإنّه سهل.

كما شهد الخندق و المشاهد كلّها، و قد ولاّه الإمام بعد ذلك على البصرة.

يقال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله آخى بينه و بين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام (1).

و حينما كان واليا على المدينة بلغ الإمام عليه السّلام أنّ عصابة من أهل المدينة التحقوا بمعاوية، فكتب إليه الإمام عليه السّلام هذه الرسالة:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ رجالا ممّن قبلك يتسلّلون إلى معاوية، فلا تأسّف على ما يفوتك من عددهم، و يذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيّا، و لك منهم شافيا، فرارهم من الهدى و الحقّ ، و إيضاعهم (2) إلى العمى و الجهل؛ و إنّما هم أهل دنيا مقبلون عليها، و مهطعون

ص:85


1- الاصابة 86:2.
2- الايضاع: الاسراع.

إليها (1) ، و قد عرفوا العدل و رأوه، و سمعوه و وعوه، و علموا أنّ النّاس عندنا في الحقّ أسوة، فهربوا إلى الأثرة فبعدا لهم و سحقا!!(2)و حفلت هذه الرسالة بعدم الحزن و التأثّر على من ولّى إلى معاوية فإنّهم إنّما فرّوا من العدل إلى الجور و الظلم، و قد آثروا العمى على الهدى و الباطل على الحقّ فبعدا لهم و سحقا.

و على أي حال فإنّ سهل بن حنيف من خيرة الأنصار، و من طلائع المجاهدين في نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان أثيرا عند الإمام عليه السّلام، توفّي سنة (38 ه )، و ذلك بعد رجوع الإمام من صفّين، فوجد عليه و قال: «لو أحبّني جبل لتهافت».

ص:86


1- مهطعون: أي مسرعون.
2- نهج البلاغة 192:2.

واليه على اليمن عبيد اللّه بن العباس

و استعمل الإمام عليه السّلام على اليمن عبيد اللّه بن العبّاس، و كان الوالي عليها من قبل عثمان يعلى بن منبّه، و نهب جميع ما جمع من الجبابة، و خرج به إلى مكّة (1) ، و قد جهّز بالأموال جيش عائشة، و أمدّه بما يحتاج إليه من النفقات، و كان أعظم عون قدّمه للمتمرّدين على حكومة الإمام عليه السّلام.

و بقي عبيد اللّه بن العباس واليا على اليمن، فجهّز معاوية جيشا بقيادة المجرم الأثيم بسر بن أبي أرطاة لاحتلال اليمن، و حينما علم عبيد اللّه بذلك هرب من اليمن إلى الكوفة، و استخلف على اليمن عبد اللّه بن عبد الحارثي، فألقى عليه القبض بسر، و قتله و عمد إلى طفلين لعبيد اللّه و هما عبد الرحمن و قثم فقتلهما، و قد انبرى إليه رجل من كنانة فقال له:

لم تقتل هذين و لا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما، فقتله ثمّ قتلهما.

و بادرت إليه نسوة من بني كنانة فقالت له إحداهن:

يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين، و اللّه! ما كانوا يقتلون في الجاهلية و الإسلام، و اللّه! يا ابن أبي ارطاة إنّ سلطانا لا يقوم إلاّ بقتل الصبي الصغير و الشيخ

ص:87


1- الكامل لابن الأثير 103:3.

الكبير، و نزع الرحمة و عقوق الأرحام لسلطان سوء (1).

إنّ سلطان معاوية «كسرى العرب» قام على قتل الأطفال و الشيوخ و إشاعة الرعب و الخوف بين الناس، و هو سلطان شرّ.

و كانت أمّ الطفلين و هي عائشة بنت عبد اللّه المدان قد هامت على وجهها لا تعقل و كانت تنشد في المواسم هذه الأبيات التي مثّلت أساها، و هي:

يا من أحسّ بنيّ اللّذين هما كالدّرّتين تشظّى عنهما الصّدف

يا من أحسّ بنيّ اللّذين هما مخّ العظام فمخّي اليوم مزدهف

يا من أحسّ بنيّ اللّذين هما قلبي و سمعي، فقلبي اليوم مختطف

من ذلّ والهة حيرى مدلّهة على صبيّين ذلاّ إذ غدا السّلف ؟

نبّئت بسرا و ما صدّقت ما زعموا من إفكهم و من القول الذي اقترفوا

أحنى على ودجي ابنيّ مرهفة من الشّفار كذاك الإثم يقترف

و لمّا سمع الإمام عليه السّلام بقتل الصبيّين جزع جزعا شديدا و دعا على بسر، فقال:

«اسلبه دينه و عقله»، و استجاب اللّه دعاء الإمام فقد فقد عقله، فكان يهذي و يطلب السيف فيؤتى بسيف من خشب، و يجعل بين يديه زقّ منفوخ فلا يزال يضربه حتى مات (2).

لقد واجه المسلمون في عهد معاوية ألوانا من الجور و الارهاب لم ير المسلمون له نظيرا، فقد أمعن في الظلم و ارغام الناس على ما يكرهون.

ص:88


1- تاريخ ابن الأثير 192:3.
2- المصدر السابق: 193، و غيره.

ولاته على البحرين

اشارة

و استعمل الإمام على البحرين كوكبة من الولاة، و هم كما يلي:

عمر بن أبي سلمة

و استعمل الإمام عليه السّلام على البحرين عمر بن أبي سلمة المخزومي ربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، امّه أمّ المؤمنين السيّدة أمّ سلمة، يكنّى أبا جعفر، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، و كان على جانب كبير من الإخلاص و الولاء للإمام عليه السّلام، و قد أرسلته امّه لمساعدة الإمام عليه السّلام في حرب الجمل، و قد بعثت معه رسالة إلى الإمام عليه السّلام جاء فيها:

لو لا أنّ الجهاد موضوع عن النساء لجئت فجاهدت بين يديك، هذا ابني عديل النفس فاستوص به خيرا يا أمير المؤمنين! و شهد معه حرب الجمل، توفّي بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان سنة (83 ه ) (1).

و قد عزله الإمام عليه السّلام عن ولاية البحرين، و كتب إليه هذه الرسالة:

أمّا بعد، فإنّي قد ولّيت نعمان بن عجلان الزّرقيّ على البحرين، و نزعت

ص:89


1- اسد الغابة - باب العين 169:2-170.

يدك بلا ذمّ لك، و لا تثريب عليك (1) ؛ فلقد أحسنت الولاية، و أدّيت الأمانة، فأقبل غير ظنين (2) ، و لا ملوم، و لا متّهم، و لا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشّام، و أحببت أن تشهد معي، فإنّك ممّن أستظهر به على جهاد العدوّ، و إقامة عمود الدّين، إن شاء اللّه (3).

و حكت هذه الرسالة توثيق الإمام لعمر، و قيامه بإدارة البلاد بأحسن ما يرام، و أنّه إنّما عزله ليستعين بآرائه في محاربة معاوية.

ص:90


1- التثريب: الاستقصاء في اللوم.
2- ظنين: أي غير متّهم.
3- تاريخ ابن واضح 190:2.

النعمان بن عجلان

النعمان بن عجلان من سادات الأنصار، و كان لسانهم و شاعرهم، و هو القائل يوم السقيفة في تمجيد الأنصار، و ذكر الخلافة بعد النبي:

فقل لقريش نحن أصحاب مكّة و يوم حنين و الفوارس في بدر

و أصحاب احد و النّضير و خيبر و نحن رجعنا من قريظة بالذّكر

و يوم بأرض الشّام إذ قتل جعفر و زيد و عبد اللّه في علق نجري

و في كلّ يوم ينكر الكلب أهله نطاعن فيه بالمثقّفة السّمر

نصرنا و آوينا النّبيّ و لم نخف صروف اللّيالي و العظيم من الأمر

و قلنا لقوم هاجروا قبل: مرحبا و أهلا و سهلا قد أمنتم من الفقر

نقاسمكم أموالنا و بيوتنا كقسمة أيسار الجزور على الشّطر

و نكفيكم الأمر الّذي تكرهونه و كنّا اناسا نذهب العسر باليسر

و قلتم: حرام نصب سعد و نصبكم عتيق بن عثمان حلال أبا بكر؟!

و كان هوانا في عليّ و إنّه لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري

وصيّ النّبيّ المصطفى و ابن عمّه و قاتل فرسان الضّلالة و الكفر (1)

و حكت هذه اللوحة كثيرا من الأحداث التاريخية، و التي منها جهاد الأنصار

ص:91


1- مصادر نهج البلاغة - قسم الرسائل 345:3-346.

و مساهمتهم في بناء الإسلام، و قيامهم بإعانة الفقراء من المهاجرين، فقد شاطروهم بأموالهم و منازلهم، و هذا من عظيم المواساة، كما حكت هذه الأبيات ما قاله المهاجرون في سعد بن عبادة زعيم الأنصار أنّه لا يصلح للخلافة، و أنّها حرام عليه، و استعملوا أبا بكر، و صرفوا الأمر عن وصيّ النبيّ و ابن عمّه و المجاهد الأوّل في الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و على أي حال فقد استعمل الإمام على البحرين النعمان، فجعل يهب الأموال الكثيرة إلى اسرته، و فيه يقول أبو الأسود الدؤلي:

أرى فتنة قد ألهت النّاس عنكم فندلا زريق المال ندل الثّعالب (1)

فإنّ ابن عجلان الّذي قد علمتم يبدّد مال اللّه فعل المناهب (2)

و لمّا علم الإمام عليه السّلام ذلك عزله، و ولّى منهزما إلى معاوية (3).

ص:92


1- زريق: قبيلة. الندل: أن تجذبه جذبا. الثعالب: يريد سرعة الثعالب.
2- الإصابة 532:3.
3- تاريخ اليعقوبي 201:2.

ولاته على

اشارة

اصبهان - اردشيرخرّه

هيت - اذربيجان

ص:93

ص:94

استعمل الإمام عليه السّلام ولاة على بعض مناطق ايران و غيرها، و زوّدهم بنصائحه القيّمة، و وصاياه الجليلة، كما طلب من بعضهم الالتحاق به لجهاد عدوّه الباغي معاوية بن أبي سفيان... و هذا عرض لبعضهم:

مخنف بن سليم واليه على اصبهان

مخنف بن سليم الأزدي الغامدي له صحبة، و كان من أصحاب الإمام عليه السّلام، استعمله على اصبهان، و شهد معه صفّين، و قد زوّده بهذه الرسالة:

أمره بتقوى اللّه في سرائر أمره و خفيّات عمله، حيث لا شاهد غيره، و لا وكيل دونه.

و أمره ألاّ يعمل بشيء من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ، و من لم يختلف سرّه و علانيته، و فعله و مقالته، فقد أدّى الأمانة، و أخلص العبادة.

و أمره ألاّ يجبههم و لا يعضههم، و لا يرغب عنهم تفضّلا بالإمارة عليهم، فإنّهم الإخوان في الدّين، و الأعوان على استخراج الحقوق.

و إنّ لك في هذه الصّدقة نصيبا مفروضا، و حقّا معلوما، و شركاء أهل مسكنة، و ضعفاء ذوي فاقة، و إنّا موفّوك حقّك، فوفّهم حقوقهم،

ص:95

و إلاّ تفعل فإنّك من أكثر النّاس خصوما يوم القيامة، و بؤسى لمن خصمه - عند اللّه - الفقراء و المساكين و السّائلون و المدفوعون، و الغارمون و ابن السّبيل! و من استهان بالأمانة، و رتع في الخيانة، و لم ينزّه نفسه و دينه عنها، فقد أحلّ بنفسه الذّلّ و الخزي في الدّنيا، و هو في الآخرة أذلّ و أخزى.

و إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، و أفظع الغشّ غشّ الأئمّة، و السّلام (1).

و أنت ترى أنّ هذه الرسالة قد حوت جميع مقوّمات الأمانة و الإخلاص للرعية، و العطف على البؤساء و المحرومين و مراعاة حقوقهم، و لم يرع هذه القيم إلاّ رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام إمام المتّقين و سيّد الموحّدين.

و لمّا عزم الإمام عليه السّلام على حرب معاوية أرسل إلى مخنف بن سليم الرسالة التالية يطلب منه أن يكون معه لمناجزة طاغية الأمويّين و هذا نصّها:

سلام عليك، فإنّي أحمد اللّه إليك الّذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد فإنّ جهاد من صدف عن الحقّ رغبة عنه، و هبّ في نعاس العمى و الضّلال اختيارا له، فريضة على العارفين.

إنّ اللّه يرضى عمّن أرضاه، و يسخط على من عصاه، و إنّا قد هممنا بالسّير إلى هؤلاء القوم الّذين عملوا في عباد اللّه بغير ما أنزل اللّه و استأثروا بالفيء، و عطّلوا الحدود، و أماتوا الحقّ و أظهروا في الأرض الفساد، و اتّخذوا الفاسقين وليجة (2) من دون المؤمنين، فإذا وليّ اللّه أعظم

ص:96


1- نصّ على ذلك السيّد عبد الزهرة الحسيني، نقلا عن دعائم الإسلام 252:1.
2- الوليجة: البطانة.

أحداثهم أبغضوه و أقصوه و حرموه، و إذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبّوه و أدنوه و برّوه، فقد أصرّوا على الظّلم و أجمعوا على الخلاف، و قديما ما صدّوا عن الحقّ و تعاونوا على الإثم و كانوا ظالمين.

فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك، و أقبل إلينا لعلّك تلقى معنا هذا العدوّ المحلّ (1) ، فتأمر بالمعروف، و تنهى عن المنكر، و تجامع المحقّ و تباين المبطل، فإنّه لا غنى بنا و لا بك عن أجر الجهاد، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل.

و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

كتب هذه الرسالة عبيد اللّه بن رافع في سنة (37 ه )، و نفر مخنف للجهاد، و استعمل على اصبهان الحارث بن أبي الحارث و معه سعيد بن وهب، و أقبل يجدّ في السير حتى شهد مع الإمام صفّين (2).

و حكت هذه الرسالة الخطر الذي داهم المسلمين من معاوية و بطانته الذين جهدوا على محق دين اللّه تعالى، و نهب ثروات المسلمين و إذلالهم، و إرغامهم على ما يكرهون.

ص:97


1- المحلّ : الذي أحلّ ما حرّم اللّه تعالى.
2- كتاب صفّين: 104.

كتابه إلى واليه على أردشيرخرّة

اشارة

أردشيرخرّة من أجلّ كور فارس و منها مدينة شيراز (1) ، و قد استعمل عليها مصقلة بن هبيرة الشيباني، و قد بلغه أنّه يهب أموال المسلمين و يفرّقها بين الشعراء و عشيرته، و من يقصده من السائلين، فكتب الإمام عليه السّلام هذه الرسالة:

أمّا بعد، فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدّقه، بلغني أنّك تقسم في المسلمين في قومك و من اعتراك (2) من السّألة و الأحزاب، و أهل الكذب من الشّعراء، كما تقسّم الجوز.

فو الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة! لأفتّشنّ عن ذلك تفتيشا شافيا، فإن وجدته حقّا لتجدنّ بنفسك عليّ هوانا، فلا تكوننّ من الخاسرين أعمالا، الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا، و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

حكت هذه الرسالة مدى احتياط الإمام عليه السّلام على أموال الدولة و سهره على الفحص عن سيرة عمّاله و ولاته خوفا من أن يكونوا قد فرّطوا في أموال المسلمين التي يجب أن تنفق على تطوير حياتهم، و إنقاذهم من غائلة الفقر و الجوع.

ص:98


1- معجم البلدان 184:1.
2- اعتراك: أي قصدك.

و لمّا انتهت الرسالة إلى مصقلة أجاب الإمام عليه السّلام بما يلي:

أمّا بعد... فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين فليسأل إن كان حقّا فليعجّل عزلي بعد نكال، فكلّ مملوك لي حرّ.

و عليّ آثام ربيعة و مضر إن كنت رزأت (1) من عملي دينارا و لا درهما منذ ولّيته إلى أن ورد عليّ كتاب أمير المؤمنين، و لتعلمنّ أنّ العزل أهون عليّ من التهمة.

و لمّا انتهى الكتاب إلى الإمام عليه السّلام و قرأه قال:

«ما أظنّ أبا الفضل إلاّ صادقا» (2).

هرب مصقلة لمعاوية:

من المؤسف أنّ مصقلة قد هرب إلى معاوية.

و قد روى المؤرّخون قصّة هربه، فقد حدّثوا أنّ الخريت بن راشد الناجي، و هو من أعلام الخوارج المفسدين في الأرض، قد نقم على الإمام قصّة التحكيم، و خرج يفسد الناس، و قد انضمّ إليه جماعة من قومه، و كانوا نصارى، فأخلّوا بشروط الذمّة، كما ارتدّ بنو ناجية عن الإسلام، و أخذوا يشيعون الرعب و الفساد بين الناس.

فبعث إليهم الإمام عليه السّلام فرقة من جيشه لقتال الخريت و عصابته فأدركتهم في سيف البحر بفارس، فقتل الخريت و قتل معه جمهرة من أتباعه، و سبوا من أدرك في رحالهم من النساء و الصبيان، و كانوا خمسمائة أسير، فارتفعت أصواتهم بالبكاء و استغاثوا بمصقلة فرقّ ، فاشتراهم من معقل قائد جيش الإمام بخمسمائة ألف درهم ثمّ أعتقهم، و أدّى ثلث ثمنهم، و أشهد على نفسه بالباقي، ثمّ امتنع عن أدائه،

ص:99


1- رزأت: أي أخذت.
2- الكامل في التاريخ 420:3.

و لما ثقلت عليه المطالبة هرب تحت جنح الظلام إلى معاوية (1).

و لمّا انتهى خبره إلى الإمام عليه السّلام قال:

قبّح اللّه مصقلة، فعل فعل السّادة، و فرّ فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتّى أسكته، و لا صدّق واصفه حتّى بكّته، و لو أقام لأخذنا ميسوره، و انتظرنا بماله وفوره(2).

و أسف مصقلة كأشدّ ما يكون الأسف، و قد أعرب عن أساه بأبيات من الشعر كان منها:

تركت نساء الحيّ بكر بن وائل و أعتقت سبيا من لؤيّ بن غالب

و فارقت خير النّاس بعد محمّد لمال قليل لا محالة ذاهب

ص:100


1- تاريخ الطبري 65:6-77.
2- شرح نهج البلاغة 264:1-271.

عامله كميل على هيت

من ألمع ولاة الإمام عليه السّلام كميل بن زياد النخعي العالم الجليل الذي احتلّ مكانة مرموقة عند الإمام، فكان حامل أسراره - كما يقول علماء الرجال - و قالوا فيه: إنّه كان شريفا مطاعا في قومه، و إنّه من أجلّ علماء وقته، و عقلاء زمانه، و نسّاك عصره (1).

و هو الذي روى دعاء الإمام المشهور الذي هو من أسمى أدعية الإمام، و قد نسب إلى كميل باعتبار أنّه راويه، و قد غذّاه الإمام بمكارم الآداب و محاسن الأخلاق، و سنذكر وصيّته له، و ما عهد به إليه عند عرض الأنظمة التربوية عند الإمام.

و على أيّ حال، فقد ولاّه على هيت، و هي بلدة تقع على الفرات، من نواحي بغداد، و تتّصل ببادية الشام، و تشكّل حدودا بين العراق و سوريا (2).

و قد وجّه معاوية سفيان بن عوف في ستّة آلاف، و أمره أن يقطع هيت و يغير على الأنبار و المدائن فيوقع بأهلها، و غار سفيان على هيت فلم يجد بها أحدا، فتوجّه صوب الأنبار، و كانت فيه مسلحة للإمام تتكوّن من خمسمائة رجل، و قد تفرّقوا فلم يبق منهم إلاّ مائتان، و كان عليهم كميل بن زياد، فبلغه أن قوما

ص:101


1- أضواء على دعاء كميل: 85.
2- معجم البلدان 483:5.

بقرقيسيا يريدون الغارة على هيت، فسار إليهم بغير مشورة الإمام عليه السّلام، فأتى أصحاب سفيان الأنبار فرأوا قلّة الجيش الذي فيها فطمعوا فيهم فحملوا عليهم، فقتل قائد جيش الإمام مع ثلاثين رجلا، و نهبوا ما في الأنبار من أموال أهلها، و رجعوا ظافرين إلى معاوية،

و لمّا انتهى الخبر إلى الإمام عليه السّلام تأثّر من كميل، و أنكر عليه فعله بها، و كتب إليه:

أمّا بعد، فإنّ تضييع المرء ما ولّي، و تكلّفه ما كفي، لعجز حاضر، و رأي متبّر (1).

و إنّ تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا، و تعطيلك مسالحك الّتي ولّيناك - ليس بها من يمنعها، و لا يردّ الجيش عنها - لرأي شعاع (2). فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك، غير شديد المنكب، و لا مهيب الجانب، و لا سادّ ثغرة، و لا كاسر لعدوّ شوكة، و لا مغن عن أهل مصره، و لا مجز عن أميره (3).

و قد عرض بصورة موضوعيّة لدراسة حياته المرحوم الخطيب السيّد علي الهاشمي في كتابه (كميل بن زياد).

ص:102


1- متبّر: أي رأي فاسد.
2- رأي شعاع: أي غير ملتئم.
3- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 320:5.

عامله الأشعث على آذربيجان

اشارة

أمّا الأشعث بن قيس فهو من أخبث المنافقين، و كان عاملا لعثمان بن عفّان على آذربيجان، و قد كانت ابنته زوجة لعمرو بن عثمان، و لمّا قتل عثمان بقي واليا عليها، فكتب إليه الإمام الرسالة التالية:

أمّا بعد، فلولا هناة كنّ فيك كنت المقدّم في هذا الأمر قبل النّاس، و لعلّ أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتّقيت اللّه.

ثمّ إنّه كان من بيعة النّاس إيّاي ما قد بلغك، و كان طلحة و الزّبير ممّن بايعاني ثمّ نقضا بيعتي على غير حدث، و أخرجا أمّ المؤمنين و سارا إلى البصرة، فسرت إليهما فالتقينا، فدعوتهم إلى أن يرجعوا فيما خرجوا منه فأبوا، فأبلغت في الدّعاء، و أحسنت في البقيّة.

و إنّ عملك ليس لك بطعمة و لكنّه أمانة، و في يديك مال من مال اللّه، و أنت من خزّان اللّه عليه حتّى تسلّمه إليّ ، و لعلّي ألاّ أكون شرّ ولاتك لك إن استقمت و لا قوّة إلاّ باللّه (1).

و حفلت هذه الرسالة بإخبار الأشعث عن تمرّد طلحة و الزبير على حكومة الإمام عليه السّلام و مناجزته لهما حتى أطفأ نار التمرّد، كما أعرب الإمام عليه السّلام عن أموال

ص:103


1- الإمامة و السياسة 91:1. كتاب صفّين: 20.

الدولة فإنّها ليست للأشعث و لا لغيره و إنّما هي للمسلمين فليس له أن يستأثر بأي شيء منها.

عزل الأشعث:

كتب الإمام عليه السّلام رسالة اخرى إلى الأشعث جاء فيها:

أمّا بعد، فإنّما غرّك من نفسك و جرّأك على الآخرين إملاء اللّه لك؛ إذ ما زلت قديما تأكل رزقه و تلحد في آياته و تستمتع بخلاقك و تذهب بحسناتك إلى يومك هذا، فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا فأقبل و احمل ما قبلك من مال المسلمين إن شاء اللّه (1).

1

ص:104


1- تاريخ اليعقوبي 176:2.

ولاته على البصرة

اشارة

ص:105

ص:106

أمّا البصرة فكان السائد فيها الولاء المطلق لعثمان بن عفّان، و قد اتّخذها المتمرّدون على حكومة الإمام عليه السّلام معقلا لهم فزحفوا إليها و احتلّوها، و وجدوا فيها ميولا فكرية لهم، و تجاذبا عاطفيا نحوهم...

و قد استعمل الإمام عليه السّلام عليها عدّة ولاة كان منهم ما يلي:

عثمان بن حنيف

اشارة

كان عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي من أعلام الصحابة، شهد احدا و المشاهد بعدها مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان له رأي ثاقب، و معرفة كاملة بالامور (1) ، و قد استعمله الإمام عليه السّلام واليا على البصرة، و قد دعاه قوم منها إلى وليمة فأجابهم، و لمّا علم الإمام ذلك أنكره، و بعث له الرسالة التالية:

رسالة الإمام لعثمان:

رفع الإمام رسالة لعثمان بن حنيف هذه الرسالة التي تقطع دابر الرشوة عند الولاة، و تحملهم على خدمة الامّة بإخلاص و إيمان، و هذا نصّها:

أمّا بعد، يا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى

ص:107


1- الاستيعاب 90:3.

مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، و تنقل إليك الجفان (1).

و ما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم (2) مجفوّ (3) ، و غنيّهم مدعوّ.

فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم (4) ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه (5) ، و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما، يقتدي به و يستضيء بنور علمه؛ ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (6) ، و من طعمه بقرصيه.

ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفّة و سداد.

فو اللّه! ما كنزت من دنياكم تبرا (7) ، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا (8) ، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة، و لهي في عيني أوهى و أهون من عفصة (9)

ص:108


1- الجفان: جمع جفنة، و هي القصعة.
2- العائل: الفقير المحتاج.
3- المجفو: المعرض عنه.
4- المقضم: المأكول.
5- الفظه: أي اطرحه.
6- الطمر: الثوب الخلق.
7- التبر: فتات الذهب و الفضّة قبل صياغتها.
8- الوفر: المال.
9- العفصة: هو السائل الذي يكون على شجرة البلوط ، و هو مرّ.

مقرة (1) بلى! كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قوم (2) ، و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم اللّه.

و ما أصنع بفدك و غير فدك، و النّفس مظانّها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها، و تغيب أخبارها، و حفرة (3) لو زيد في فسحتها، و أوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر و المدر، و سدّ فرجها التّراب المتراكم؛ و إنّما هي نفسي اروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، و تثبت على جوانب المزلق (4). و لو شئت لاهتديت الطّريق، إلى مصفّى هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القزّ (5).

و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة - و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشّبع - أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ (6)

أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره

ص:109


1- مقرة: الشيء المرّ.
2- أشار بذلك إلى تأميم فدك من قبل أبو بكر.
3- الحفرة: أراد بها القبر.
4- المزلق: هو الصراط .
5- القزّ: ما يصنع منه الحرير.
6- القدّ: جلد الشاة غير المدبوغ.

الدّهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش (1)! فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها (2) ، تكترش من أعلافها، و تلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة (3)! و كأنّي بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران و منازلة الشّجعان».

ألا و إنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا، و الرّوائع الخضرة أرقّ جلودا، و النّابتات البدويّة أقوى وقودا، و أبطأ خمودا.

و أنا من رسول اللّه كالصّنو من الصّنو (4) ، و الذّراع من العضد.

و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، و لو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. و سأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس، و الجسم المركوس (5) حتّى تخرج المدرة (6) من بين حبّ الحصيد.

و من هذا الكتاب، و هو آخره:

ص:110


1- جشوبة العيش: غلظته و خشونته.
2- تقممها: المراد بها القمامة، أي الكناسة.
3- المتاهة: الحيرة و الهلكة.
4- الصنو من الصنو: المراد به شدّة اتّصاله بالنبيّ كالنخلتين اللتين يجمعهما أصل واحد.
5- الجسم المركوس: أراد به معاوية بن هند.
6- المدرة: القطعة من الطين اليابس.

إليك عنّي يا دنيا! فحبلك على غاربك (1) ، قد انسللت من مخالبك (2) و أفلتّ من حبائلك، و اجتنبت الذّهاب في مداحضك.

أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك! أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك! فها هم رهائن القبور، و مضامين اللّحود.

و اللّه! لو كنت شخصا مرئيّا، و قالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأماني، و أمم ألقيتهم في المهاوي، و ملوك أسلمتهم إلى التّلف، و أوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد و لا صدر (3)! هيهات! من وطئ دحضك زلق، و من ركب لججك غرق، و من ازورّ (4) عن حبائلك وفّق، و السّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، و الدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه (5).

اعزبي عنّي! فو اللّه! لا أذلّ لك فتستذلّيني، و لا أسلس (6) لك فتقوديني.

و ايم اللّه! يمينا أستثني فيها بمشيئة اللّه لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، و تقنع بالملح مأدوما؛ و لأدعنّ

ص:111


1- الغارب: الكاهل و ما بين السنام و العنق.
2- جمع مخلب: و هو أظفار السبع.
3- الورد: ورود الماء. الصدر: الانتهاء من شرب الماء.
4- ازورّ: مال.
5- الانسلاخ: الزوال.
6- أسلس: أي انقاد.

مقلتي كعين ماء، نضب معينها (1) ، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك ؟ و تشبع الرّبيضة (2) من عشبها فتربض ؟ و يأكل عليّ من زاده فيهجع (3)! قرّت إذا عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة (4) ، و السّائمة المرعيّة! طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها، و عركت بجنبها بؤسها، و هجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى (5) عليها افترشت أرضها، و توسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم، و همهمت بذكر ربّهم شفاههم، و تقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أُولئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

فاتّق اللّه يا ابن حنيف، و لتكفف أقراصك، ليكون من النّار خلاصك (6).

في هذه الرسالة الغرّاء دعوة إلى الولاة أن لا يجيبوا الوجهاء الذين يدعونهم إلى الولائم التي تستطاب فيها الألوان، و لا نصيب فيها للفقراء و المحرومين، و إنّما يدعى لها ذو الثراء العريض، و إنّما يقيمونها تقرّبا للسلطة، و استخدامها لقضاء مآربهم و شئونهم الخاصّة، و قد نهى الإمام عليه السّلام الولاة من الاستجابة لها حسما للمؤثّرات الخارجية، و استقلالا للسلطة، حتى تخلص للحقّ ، و لا تتّبع الهوى...

كما حفلت هذه الرسالة بامور بالغة الأهمّية و التي منها:

ص:112


1- نضب: غار. المعين: الماء الجاري.
2- الربيضة: الغنم التي مع رعاتها.
3- يهجع: أي يسكن.
4- الهاملة: الغنم التي ترعى بلا راع.
5- الكرى: النوم.
6- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 32:4-41، نقلا عن بحار الأنوار 318:40.

1 - أنّ الإمام عليه السّلام أمر عثمان بالاقتداء به، و السير على منهجه، و هو عليه السّلام قد تجرّد تجرّدا كاملا عن جميع متع الحياة الدنيا، و عاش عيشة البؤساء و المحرومين، فلم يدّخر من غنائم الدنيا وفرا، و لم يحز من أرضها شبرا، و قد صعدت روحه العظيمة إلى اللّه، و لم يخلف من حطام الدنيا سوى سبعمائة درهم جمعها من رواتبه ليشتري بها خادما يستعين به على قضاء حوائجه.

2 - أنّ الإمام عليه السّلام أعرب أنّ أهل البيت لم يملكوا من الدنيا سوى فدك التي منحها النبيّ لبضعته الزهراء، فأمّمها أبو بكر و استولت عليها السلطة، و قد سخت نفسه الشريفة، و لم يقم لها أي وزن.

3 - أنّه عليه السّلام قد روّض نفسه على التقوى و حمّلها رهقا، حتى تأتي آمنة مطمئنّة يوم الفزع الأكبر.

4 - أنّه لمّا تقلّد الخلافة أعرض عن جميع رغائب الحياة و بات في جميع أوقاته جائعا، و ذلك مواساة لمن لا عهد له بالقرص، سواء كان في عاصمته أم في غيرها.

5 - أنّه أجاب من يسأل أنّه كيف استطاع أن ينازل الأقران، و يجندل الأبطال، و يخوض أعنف المعارك مع بساطة عيشه، و قلّة طعامه، فأجاب عليه السّلام أنّ الشجرة البرّية أصلب عودا، و أقوى وقودا، و أبطأ خمودا، و أنّه من تلك الشجرة، و أنّه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كالصنو من الصنو، و الذراع من العضد.

6 - أنّه أخبر عن شجاعته النادرة، فإنّ العرب جميعا لو اجتمعوا على قتاله لما انهزم عنهم، و قابلهم ببسالة و شجاعة، و سيجهد نفسه على تطهير الأرض من معاوية و حزبه الذين لا يألون جهدا في محاربة اللّه تعالى و رسوله.

7 - أنّه أعلن عن محاربته للدنيا، و أنّها لو كانت جسما مرئيّا لأقام عليها حدود اللّه تعالى... ثمّ أعرض إعراضا كاملا عن الدنيا، و أنّه روّض نفسه الشريفة على

ص:113

البؤس و الفقر حتى جعلها تحنّ إلى القرص من الخبز.

هذه بعض محتويات هذه الرسالة الخالدة التي ألقت الأضواء على زهد الإمام عليه السّلام و تقواه.

رسالة اخرى من الإمام لعثمان:

بعث الإمام عليه السّلام رسالة إلى عثمان حينما بلغه زحف الجيش الذي تقوده عائشة و الزبير و طلحة لاحتلال البصرة و قد جاء فيها:

من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف.

أمّا بعد، فإنّ البغاة عاهدوا اللّه ثمّ نكثوا و توجّهوا إلى مصرك، و ساقهم الشّيطان لطلب ما لا يرضى اللّه به، و اللّه أشدّ بأسا و أشدّ تنكيلا.

فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطّاعة و الرّجوع إلى الوفاء بالعهد و الميثاق الّذي فارقونا عليه.

فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، و إن أبوا إلاّ التّمسّك بحبل النّكث و الخلاف فناجزهم القتال حتّى يحكم اللّه بينك و بينهم و هو خير الحاكمين.

و كتبت كتابي هذا إليك من الرّبذة، و أنا معجّل المسير إليك إن شاء اللّه (1).

عرضت هذه الرسالة إلى قيام طلحة و الزبير و عائشة بالتمرّد على حكومة الإمام عليه السّلام، و نكث بيعته، و التصدّي لهم فإن استقاموا و رجعوا إلى الحقّ قابلهم

ص:114


1- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 312:9.

عثمان واليه بمزيد من الحفاوة و التكريم، و إن أصرّوا على الغيّ و العدوان ناجزهم حتى يحكم اللّه بينهم و بينه، و قد عرضنا إلى تفصيل هذه الأحداث المؤسفة في بعض فصول هذا الكتاب.

ص:115

ولاية عبد اللّه بن عبّاس

اشارة

لعلّ من المفيد جدّا أن نعرض - بإيجاز - لسيرة عبد اللّه بن عبّاس و سلوكه، و ولايته عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لمدينة البصرة، و ما اتّهم به من الخيانة لبيت مال المسلمين، و غير ذلك ممّا يتعلّق بهذا الموضوع.

شخصية ابن عباس:

أمّا عبد اللّه بن العباس فهو ألمع شخصية إسلامية في الاسرة العباسية، فقد تتلمذ عند الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و أخذ منه علومه، التي منها علم الفقه و تفسير القرآن الكريم، و قد برز في هذين العلمين، فإنّك لا تقرأ في مصادر بحوثهما إلاّ و تجد له الرأي الأصيل فيهما، و كما كان عالما في طليعة علماء عصره فقد كان يتمتّع بالفطنة و الذكاء و وفور العقل و عمق النظر في مجريات الأحداث، حتى اتّخذه الإمام عليه السّلام مستشارا و وزيرا له، فكان يستشيره في شئونه السياسية و الاجتماعية، و قد ألمح المؤرّخون إلى كثير من ذلك، و بالاضافة إلى ذلك كان الإمام عليه السّلام يبعثه للمناظرة و المحاججة مع المتمرّدين من أصحابه و غيرهم، فقد بعثه إلى الخوارج فحاججهم و ناظرهم، و لم يستطيعوا المناقشة و الرّد عليه، و ظلّوا واجمين.

و كانت له المكانة المرموقة و المتميّزة عند عمر بن الخطّاب، فكان يجلّه و يحترمه كثيرا، و جرت بينهما عدّة مناظرات دلّت على سعة افق ابن عباس و وفرة فضله، و من بين تلك المناظرات:

ص:116

1 - أنّ ابن عبّاس كان مع عمر في بعض سكك المدينة، و يده في يده، فقال لابن عباس:

يا ابن عباس، ما أظنّ صاحبك - يعني الإمام - إلاّ مظلوما.

فردّ عليه ابن عباس بمنطقه الفيّاض:

يا أمير المؤمنين، فاردد عليه ظلامته.

فلذعه كلام ابن عباس، و سحب يده من يده، و وقف و جعل يهمهم ساعة ثمّ وقف فلحقه ابن عباس، و انبرى عمر قائلا له:

ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلاّ أنّهم استصغروه.

فأجابه ابن عباس:

و اللّه! ما استصغره اللّه حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (1).

و وجم عمر و لم يستطع أن يقول شيئا أمام هذه الحجّة الدامغة.

2 - و التقى ابن عباس مع عمر فبادر عمر قائلا:

يا ابن عباس، أ تدري ما منع قومكم منكم - أي من الخلافة - بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال ابن عباس: فكرهت أن اجيبه، و قلت له:

إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري.

و سارع عمر قائلا:

كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة و الخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفّقت.

و انبرى ابن عباس يفنّد هذه المقالة بلسانه الذرب و حجّته الواضحة قائلا:

ص:117


1- شرح نهج البلاغة 18:2.

يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام و تمطّ عني الغضب تكلّمت.

تكلّم.

أمّا قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش فأصابت و وفّقت، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حين اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود و لا محسود...

و أمّا قولك: إنّهم أبوا أن تكون لنا النبوّة و الخلافة فإنّ اللّه عزّ و جلّ وصف قوما بالكراهة فقال: «ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللّه فأحبط أعمالهم».

و من الغريب جدّا أن يكون موضوع الخلافة، و انتخاب الخليفة بيد قريش، و هي التي حاربت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم تأل جهدا في مناجزته حتى فرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منهم في جنح الليل البهيم، و ترك أخاه و ابن عمّه في فراشه، ثمّ لاحقوا النبيّ في المدينة فجهّزوا الجيوش للقضاء عليه و استئصال دعوته فكانت واقعة بدر و احد و غيرهما، و قد قاوموا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بجميع طاقاتهم، و لمّا أعزّ اللّه تعالى رسوله، و نصره النصر المبين فاحتلّ مكّة، و عفا عنهم بلطفه و فضله، و كان الأجدر بهم أن تضرب أعناقهم و تسبى نساؤهم كبقيّة المشركين... إلاّ أنّ للنبوّة فيضا شاملا للأعداء و غيرهم و على أي حال فلا علاقة لقريش في الإسلام مطلقا، و إنّما أمر الخلافة بيد الاسرة النبوية و الأنصار الذين نصروا الإسلام في أيام غربته و محنته.

و مهما يكن الأمر فإنّ عمر قد ثقل عليه كلام ابن عباس فقال له:

هيهات و اللّه يا ابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.

و بادر ابن عبّاس قائلا:

ما هي يا أمير المؤمنين ؟ فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، و إن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

ص:118

قال عمر: إنّك تقول: إنّما صرفوها - أي الخلافة - عنكم حسدا و بغيا و ظلما.

و أجابه ابن عباس بأروع الحجّة قائلا:

أمّا قولك يا أمير المؤمنين! ظلما، فقد تبيّن للجاهل و الحليم، و أمّا قولك:

حسدا، فإنّ آدم حسد، و نحن ولده المحسودون.

و التفت إليه عمر بغيظ قائلا:

هيهات، هيهات، أبت و اللّه! قلوبكم يا بني هاشم! إلاّ حسدا لا يزول.

و أجابه ابن عباس قائلا:

مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا بالحسد و الغش... فإنّ قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قلوب بني هاشم.

و لذع هذا الكلام مشاعر عمر، و صاح بابن عباس:

إليك عنّي يا ابن عباس.

افعل.

و انحاز ابن عباس عنه، فلمّا أراد الانصراف استحيا عمر فقال له:

يا ابن عباس، مكانك، فو اللّه! إنّي لراع لحقّك، محبّ لما سرّك.

و سارع ابن عباس قائلا:

يا أمير المؤمنين، إنّ لي عليك حقّا، و على كلّ مسلم، فمن حفظه فحظّه أصاب، و من أضاعه فحظّه أخطأ.

ثمّ انصرف ابن عباس عنه (1).

ص:119


1- الكامل في التاريخ 63:3-64. تاريخ الطبري 31:5. شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 107:3.

هذه بعض المناظرات التي جرت بين عمر و ابن عباس، و قد دلّت على قدراته العلمية وسعة معارفه و فضله.

ولايته على البصرة:

و منيت البصرة بعد حادثة الجمل بالفتن و الخطوب السود، فقد شاع فيها الثكل و الحزن و الحداد لكثرة من قتل فيها من أنصار عائشة، و الطالبين بدم عثمان، فكان أبناؤهم و اخوانهم و أصدقاؤهم يحقدون على الإمام أشدّ ألوان الحقد و البغض.

و قد عهد الإمام عليه السّلام بولاية هذا القطر الذي شاعت فيه الفتن و الأهواء إلى حبر الامّة ليبلور الموقف، و يحسم الفتن و يفنّد أباطيل أعدائه، و يوضّح لهم القصد، و يهديهم إلى سواء السبيل.

رسائل الإمام لابن عبّاس:

و قد زوّده الإمام عليه السّلام ببعض الرسائل الحافلة بالوعظ و الإرشاد و نكران الذات و التي منها:

1 -

كتب الإمام عليه السّلام إلى ابن عبّاس هذه الرسالة الموجزة:

أمّا بعد فلا يكن حظّك في ولايتك ما لا تستفيده، و لا غيظا تشفيه، و لكن إماتة باطل و إحياء حقّ (1).

و حدّدت هذه الرسالة مسئولية ابن عباس في ولايته على البصرة أن يقيم الحقّ و يميت الباطل، و أن لا يكون هدفه الحصول على المال أو التشفّي من خصومه و أعدائه، و هو تصوّر بارع للسياسة الإسلامية التي بنيت على الحقّ المحض و العدل الخالص.

ص:120


1- مناقب آل أبي طالب 327:1.

2 -

و كتب الإمام عليه السّلام إلى ابن عبّاس هذه الرسالة الحافلة بالنصح و الوعظ :

أمّا بعد، فإنّك لست بسابق أجلك، و لا مرزوق ما ليس لك؛ و اعلم بأنّ الدّهر يومان: يوم لك و يوم عليك، و أنّ الدّنيا دار دول (1) ، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك (2).

و هذه الرسالة دعوة إلى الاستقامة و عدم الغرور بمباهج هذه الحياة التي لا يدوم سرورها و نعيمها على أحد.

3 -

و لمّا أراد الإمام عليه السّلام الشخوص إلى حرب معاوية كتب إليه:

أمّا بعد، فأشخص إليّ من قبلك من المسلمين و المؤمنين، و ذكّرهم بلائي عندهم و عفوي عنهم، و استبقائي لهم، و رغّبهم في الجهاد و أعلمهم الّذي في ذلك من الفضل.

و أقام الإمام في النخيلة لم يبرح عنها حتى قدم عليه ابن عباس مع أهل البصرة (3).

اتّهامه بالخيانة:

و اتّهم حبر الامّة بخيانة بيت مال البصرة و اختلاس ما فيه من أموال، و قد أعلن ذلك بعض المؤرّخين مستندين إلى كوكبة من الرسائل بعثها الإمام إليه، و هي صريحة في جرحه و اتّهامه بالخيانة، و ما يدرينا لعلّ تلك الكتب مفتعلة للحطّ من شأنه، و التقليل من أهمّيته، فقد خلط التاريخ بكثير من الموضوعات افتعلها من

ص:121


1- دار دول: أي لا تدوم لأحد، فتارة تكون بيد شخص، و اخرى بيد غيره.
2- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 249:5.
3- كتاب متين 116:2. بحار الأنوار 471:8.

لا حريجة له في الدين لدعم بعض السياسيّين في تلك العصور.

و على أي حال فإنّا نذكر بعض تلك الرسائل التي بعثها الإمام عليه السّلام لابن عباس:

1 -

كتب الإمام عليه السّلام هذه الرسالة لابن عباس، و جاء فيها:

أمّا بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك، و عصيت إمامك، و أخزيت أمانتك.

بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، و أكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، و اعلم أنّ حساب اللّه أعظم من حساب النّاس، و السّلام.

و قد أجابه ابن عباس نافيا عنه هذه التهمة بما يلي:

أمّا بعد فإنّ كلّ الذي بلغك باطل، و أنا لما تحت يدي ضابط ، و عليه حافظ ، فلا تصدّق الضنين (1).

و جواب ابن عباس صريح في براءته من تهمة الخيانة، و أنّه قد اتّهمه بذلك بعض حسّاده و أعدائه.

2 -

و كتب الإمام عليه السّلام إليه رسالة اخرى يسأله فيها ما أخذه من الجزية و جاء فيها:

أمّا بعد، فإنّه لا يسعني تركك حتّى تعلمني ما أخذت من الجزية من أين أخذته، و ما وضعت منها فيم وضعته، فاتّق اللّه فيما ائتمنتك عليه، و استرعيتك إيّاه، فإنّ المتاع بما أنست رازمه (2) قليل، و تباعته وبيلة

ص:122


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة - المحقّق الكبير المحمودي، نقلا عن تاريخ الطبري 108:4.
2- رازمه: أي جامعه.

لا تبيد (1) و السّلام (2).

و في هذه الرسالة المطالبة بضرائب الجزية، و تقديم حساب ما صرفه منها في الوجوه المخصّصة لها، و اشتملت وعظه و إرشاده إلى الطريق القويم.

3 -

من الرسائل التي حملت طابع الشدّة و الصرامة على ابن عبّاس هذه الرسالة، التي رواها عبد اللّه بن عبيد عن أبي الكنود، قال: كنت من أعوان عبد اللّه بن عباس بالبصرة، فلمّا كان من ما كان أتيت عليّا فأخبرته، فتلا قوله تعالى: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (3). ثمّ كتب معه هذه الرسالة إلى ابن عباس:

أمّا بعد، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي و لم يكن من أهل بيتي رجل أوثق عندي منك بمواساتي و موازرتي بأداء الأمانة، فلمّا رأيت الزّمان قد كلب على ابن عمّك (4) ، و العدوّ - يعني معاوية - قد حرد (5) ، و أمانة النّاس قد خربت، و هذه الأمّة قد فتنت، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ (6) ، ففارقته مع القوم المفارقين، و خذلته أسوأ خذلان، و خنته مع من خان فلا ابن عمّك آسيت، و لا الأمانة أدّيت، كأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك و إنّما كدت أمّة محمّد عن دنياهم و غدرتهم عن فيئهم، فلمّا أمكنتك الفرصة في خيانة الأمّة، أسرعت الغدرة، و عاجلت الوثبة، فاختطفت

ص:123


1- لا تبيد: أي لا تفنى.
2- العقد الفريد 242:2.
3- الأعراف: 175.
4- قد كلب: أي قد اشتدّ.
5- حرد: أي غضب.
6- قلبت له ظهر المجنّ : أي قمت على خلافه كمن يترك قائده في الحرب و يتّصل بعدوّه.

ما قدرت من أموالهم، و انقلبت بها إلى الحجاز كأنّك إنّما حزت على أهلك ميراثك من أبيك و أمّك.

فسبحان اللّه أ ما تؤمن بالمعاد؟ أ ما تخاف الحساب ؟ أ ما تعلم أنّك تأكل حراما؟ و تشرب حراما؟ و تشتري الإماء و تنكحهم بأموال اليتامى و الأرامل و المجاهدين في سبيل اللّه الّتي أفاء اللّه عليهم.

فاتّق اللّه و أدّ إلى القوم أموالهم، فإنّك و اللّه! لئن لم تفعل و أمكنني اللّه منك لأعذرنّ إلى اللّه فيك، فو اللّه! لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، و لما تركتهما حتّى آخذ الحقّ منهما، و السّلام (1).

و أنت ترى في هذه الرسالة من اللوم و التقريع و الاستهانة بابن عباس ما يدعو إلى التأمّل في هذه الرسائل، فإنّ ابن عباس أجلّ و أسمى من ذلك.

ردّ ما أخذه ابن عباس:

و أعلنت بعض المصادر أنّ ابن عباس ردّ ما أخذه من بيت المال، فقد كتب أبو الأسود الدؤلي إلى الإمام أنّ ابن عباس أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب الإمام إليه يتهدّده بردّها، فردّها ابن عباس أو أكثرها، فلمّا علم الإمام كتب إليه بعد البسملة:

ص:124


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 228:5-230، نقلا عن كوكبة من المصادر.

أمّا بعد، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها، و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا، و ليكن همّك فيما بعد الموت، و السّلام.

و لمّا انتهت هذه الرسالة الحافلة بالوعظ و الإرشاد علّق عليها ابن عباس قائلا:

ما اتّعظت بكلام قطّ اتعاظي بكلام أمير المؤمنين عليه السّلام (1).

و على أي حال فإنّ الذي أراه بمزيد من التأمّل أنّ اتّهام ابن عباس بالخيانة بعيد كلّ البعد عن سيرة هذا العملاق الذي تربّى في مدرسة الإمام عليه السّلام، و أخلص للإمام كأعظم ما يكون الإخلاص.

فقد تولّى بصلابة مقاومة أعدائه، و الردّ عليهم بمنطقه الفيّاض و حججه الدامغة في حياة الإمام و بعد وفاته، و هو أوّل من دعا له على المنابر (2) ، و قد حزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن، و بكاه أمرّ البكاء حتى فقد بصره (3) ، و كان يتوسّل إلى اللّه تعالى به، و يجعله واسطة في قضاء مهمّاته، فكيف ينحرف عنه، و يخون بيت المال!

و بالاضافة إلى ذلك فإنّ الإمام كان يكبر ابن عباس و يبجّله و قال فيه:

«للّه درّ ابن عباس، إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق» (4).

و من الجدير بالذكر أنّ هذه الشبهة تصدّى إلى إبطالها عمرو بن عبيد في

ص:125


1- تاريخ اليعقوبي 194:2، أدب الدنيا و الدين - الماوردي: 64.
2- مآثر الأناقة 231:2.
3- الدرجات الرفيعة في ترجمة ابن عباس: 118.
4- العقد الفريد 363:2.

حديث له مع سليمان بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس فقد أنكر قول الإمام في ابن عباس: «يفتينا في القملة و القميلة، و طار بأموالنا في ليلة»... كيف يقول هذا و ابن عباس رحمه اللّه، لم يفارق عليّا حتى قتل، و شهد صلح الحسن، و أي مال يجتمع في بيت المال بالبصرة مع حاجة عليّ عليه السّلام إلى الأموال، و هو يفرغ بيت مال الكوفة في كلّ خميس، و يرشّه ؟ قالوا: إنّه كان يقيل فيه فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة ؟ و هذا باطل (1)... و بهذا نطوي الحديث عن ولاية ابن عباس.

1

ص:126


1- أمالي المرتضى 177:1.

ولاية أبي الأسود

أمّا أبو الأسود الدؤلي فهو من وجوه شيعة الإمام عليه السّلام و استعمله واليا على البصرة بعد ابن عباس (1).

و قد جعله الإمام عينا له - فيما يقول المؤرّخون - و كتب له الإمام ما يلي:

أمّا بعد، فمثلك نصح الإمام و الامّة، و أدّى الأمانة، و دلّ على الحقّ ، و قد كتبت إلى صاحبك - يعني ابن عباس - فيما كتبت إليّ فيه من أمره، و لم اعلمه أنّك كتبت إليّ ، فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك ممّا النّظر فيه للأمّة صلاح، فإنّك بذلك جدير، و هو حقّ واجب عليك، و السّلام (2).

و حكت هذه الرسالة مدى سهر الإمام على سيرة عمّاله و ولاته و سلوكهم، و احتياطه التامّ في معرفة شئونهم خوفا من أن يكونوا قد شذّوا عن الطريق القويم، و خالفوا قواعد الدين الحنيف.

و كانت لأبي الأسود مكانة متميّزة عند ابن عباس، و قد استخلفه على القضاء، و ممّا يجدر الإشارة إليه أنّه قضى على رجل في أمر فشكاه، فبلغ ذلك أبا الأسود فقال:

ص:127


1- خزانة الأدب 281:1.
2- تاريخ الطبري 108:4.

إذا كنت مظلوما فلا تلف راضيا عن القوم حتّى تأخذ النّصف و اغضب

و إن كنت أنت الطّالب القوم فاطرح مقالتهم و اشعب بهم كلّ مشعب

و قارب بذي عقل و باعد بجاهل جلوب عليك الشّرّ من كلّ مجلب

و لا ترتض بالجور و اصبر على الّتي بها كنت أقضي للبعيد على الأب

فإنّي امرؤ أخشى إلهي و أتّقي عقابي و قد جرّبت ما لم تجرّب (1)

و قد لاقى جهدا و عناء بعد ما آلت الخلافة إلى معاوية بن هند، فقد ولي ابن عامر على البصرة فجفاه و أبعده و ذلك لولائه للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال فيه أبو الأسود:

ذكرت ابن عبّاس بباب ابن عامر و ما مرّ من عيشي ذكرت و ما فضل

أميرين كانا صاحبيّ كلاهما فكلاّ جزاه اللّه عنّي بما فعل

فإن كان شرّا كان شرّا جزاؤه و إن كان خيرا كان خيرا إذا عدل (2)

رحم اللّه أبا الأسود فقد كان من عمالقة العلماء و من أفذاذ المصلحين، و قد عانى الكثير من المصاعب في أيام الحكم الأسود حكم معاوية ابن هند.

ص:128


1- أخبار القضاة 289:1.
2- خزانة الأدب 285:1.

ولاية زياد

اشارة

و ولي زياد بن عبيد الرومي ولاية البصرة من قبل عبد اللّه بن عباس، و يتساءل الكثيرون من قدامى و محدثين أنّه كيف أقرّ الإمام ولايته و لم يبادر إلى عزله مع أنّه ليس له أب شرعي يعرف به حتى قيل فيه زياد بن أبيه، و قد ألحقه بنسبه معاوية بن أبي سفيان استنادا إلى شهادة أبي مريم الخمّار الذي هو من عهّار الجاهلية، و قد شهد له بشهادة تندى لها الجبين، و قد بنى عليها معاوية، و اعتبره أخا له، لكن لا شرعي.

و التحقيق الذي يقتضيه النظر حسب القواعد الشرعية أنّ زيادا هو ابن عبيد الرومي، فقد كانت امّه سميّة زوجة لعبيد، و قد زنا بها أبو سفيان حسب شهادة أبي مريم، و الولد يلحق بأبيه عملا بالحديث النبوي: «الولد للفراش و للعاهر الحجر» و عليه فلا مجال لتلك الشبهة، فهو ابن عبيد، و ليس ابنا لأبي سفيان.

رسائل الإمام إلى زياد:

اشارة

و كتب الإمام عليه السّلام مجموعة من الرسائل إلى زياد كان منها ما يلي:

الرسالة الاولى:

حدثت في البصرة فتنة أحدثها معاوية بعد شهادة البطل الخالد محمّد بن أبي بكر، فقد أوعز إلى عبد اللّه الحضرمي أن يسير إلى البصرة، و يطلب من أهلها التمرّد على حكومة الإمام؛ لأنّ الكثيرين منهم يرون أنّ عثمان قد قتل مظلوما، و قد هلك

ص:129

جمهور غفير منهم في ذلك، و سار عبد اللّه يطوي البيداء حتى انتهى إلى البصرة و عرض على أهلها ما طلب منهم معاوية من التمرّد على الإمام عليه السّلام، فأجابه جمهور غفير منهم، فخاف زياد منهم، و كتب إلى ابن عباس يخبره بذلك، و بادر ابن عباس فأحاط الإمام علما بأنّ جلّ أهل البصرة قد خلعوا يد الطاعة و فارقوا الجماعة،

فندب الإمام أهل الكوفة لمناجزة ابن الحضرمي فتكاسلوا عن إجابته، فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقال له: أنا أكفيك هذا الخطب، فأمره بالشخوص إلى البصرة، و زوّده بهذه الرسالة إلى زياد:

من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد، سلام عليك.

أمّا بعد، فإنّي بعثت أعين بن ضبيعة ليفرّق قومه عن ابن الحضرميّ ، فارقب ما يكون منه، فإن فعل و بلغ من ذلك ما يظنّ به و كان في ذلك تفريق تلك الأوباش، فهو ما نحبّ و إن ترامت الأمور بالقوم إلى الشّقاق و العصيان فانبذ من أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت عليك، و إلاّ فطاولهم و ماطلهم فكأنّ كتائب المسلمين قد أطلّت عليك، فقتل اللّه المفسدين الظّالمين، و نصر المؤمنين المحقّين، و السّلام.

و انتهى أعين إلى البصرة، و عرض رسالة الإمام على زياد، فلمّا قرأها قال: إنّي لأرجو أن يكفيني هذا الأمر، و بادر أعين إلى قومه فحذّرهم و خوّفهم، فاستجابوا له، فنهض بهم إلى ابن الحضرمي، و جرت بينهما مناوشات و مجادلات كلامية، و أراد زياد مناجزته إلاّ أنّه عدل عن ذلك، و رفع إلى الإمام رسالة جاء فيها:

أمّا بعد يا أمير المؤمنين! فإنّ أعين قدم علينا بجدّ و مناصحة و صدق يقين، فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثّهم على الطاعة، و حذّرهم الخلاف، ثمّ نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه، فوافقهم عامّة النهار، فهال أهل الخلاف تقدّمه،

ص:130

و تصدّع عن ابن الحضرمي كثير ممّن كان يريد نصرته، فكان كذلك حتى أمسى فأتى رحله، فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة فاصيب رحمه اللّه تعالى فأردت أن اناهض ابن الحضرمي فحدث أمر قد أمرت رسولي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين، و قد رأيت أنّ رأي أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة، فإنّه نافذ البصيرة و مطاع في العشيرة، شديد على عدوّ أمير المؤمنين، فإن يقدم يفرق بينهم بإذن اللّه، و السلام على أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته».

و لمّا وردت الرسالة إلى الإمام دعا جارية بن قدامة، و عرض عليه الأمر فاستجاب له، و مضى يجدّ السير حتى انتهى إلى البصرة، فقام بما عهد إليه، فاستجاب له خلق من الأزد، و ثابوا إلى الطاعة و نبذ الخلاف.

رسالة الإمام إلى أهل البصرة:

و زوّد الإمام عليه السّلام جارية بن قدامة بالرسالة التالية فقرأها على أهل البصرة و هي:

من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين و المسلمين، سلام عليكم.

أمّا بعد، فإنّ اللّه حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البيّنة، و لا يأخذ المذنب عند أوّل وهلة، و لكنّه يقبل التّوبة، و يستديم الأناة، و يرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجّة، و أبلغ في المعذرة.

و قد كان من شقاق جلّكم - أيّها النّاس - ما استحققتم أن تعاقبوا عليه، فعفوت عن مجرمكم و رفعت السّيف عن مدبركم، و قبلت من مقبلكم، و أخذت بيعتكم، فإن تفوا ببيعتي و تقبلوا نصيحتي، و تستقيموا على طاعتي أعمل فيكم بالكتاب و السّنّة و قصد الحقّ ، و اقم فيكم سبيل الهدى.

ص:131

فو اللّه! ما أعلم أنّ واليا بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم بذلك منّي، و لا أعمل.

أقول قولي هذا صادقا غير ذامّ لمن مضى، و لا منتقصا لأعمالهم.

فإن خطت بكم الأهواء المردية، و سفه الرّأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي، فها أنا ذا قد قرّبت جيادي، و رحّلت ركابي (1).

و أيم اللّه لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة لاعق، و إنّي لظانّ ألاّ تجعلوا إن شاء اللّه على أنفسكم سبيلا.

و قد قدّمت هذا الكتاب إليكم حجّة عليكم، و لن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي، و نابذتم رسولي حتّى أكون أنا الشّاخص نحوكم إن شاء اللّه تعالى، و السّلام (2).

و حوت هذه الرسالة دعوة الإمام عليه السّلام أهل البصرة إلى السلم و الطاعة، و نبذ التمرّد، و ذكّرتهم بما أسداه عليهم من الإحسان بعد واقعة الجمل فقد غمرهم بلطفه فعفى عن مجرمهم و مسيئهم و أشاع الأمن في ديارهم و لم يقابلهم بالمثل، و أنّهم إن أطاعوه فيعمل فيهم بكتاب اللّه تعالى و سنّة نبيّه، و يحكم فيهم بالحقّ المحض و العدل الخالص، كما هدّدهم أنّهم إذا ما استجابوا لنصيحته فسوف يقابلهم بالشدّة و الصرامة، و لا يدع أي ظلّ للخائنين و المجرمين...

هذا بعض ما حوته رسالة الإمام عليه السّلام إلى أهل البصرة.

ص:132


1- الجياد: الفرس السريع. الركاب: الإبل التي تحمل جيشه.
2- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 50:4. الكامل لابن الأثير 182:3.

كتابه إلى زياد:

كتب الإمام عليه السّلام هذه الرسالة إلى زياد بعد ما بلغه أنّه يتكبّر على الناس، و يكثر من الألوان المختلفة في طعامه... و هذه رسالته:

أمّا بعد، فإنّ سعدا ذكر أنّك شتمته ظلما، و هدّدته و جبهته (1) تجبّرا و تكبّرا، فما دعاك إلى التّكبّر، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«الكبر رداء اللّه، فمن نازع اللّه رداءه قصمه».

و قد أخبرني أنّك تكثر من الألوان المختلفة في الطّعام في اليوم الواحد، و تدّهن كلّ يوم، فما عليك لو صمت للّه أيّاما، و تصدّقت ببعض ما عندك محتسبا، و أكلت طعامك قفارا (2) ، فإنّ ذلك شعار الصّالحين.

أ فتطمع و أنت متمرّغ في النّعيم تستأثر به على الجار و المسكين و الضّعيف و الفقير و الأرملة و اليتيم أن يحسب لك أجر المتصدّقين.

و أخبرني أنّك تتكلّم بكلام الأبرار، و تعمل عمل الخاطئين، فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، و عملك أحبطت، فتب إلى ربّك يصلح لك عملك، و اقتصد في أمرك و قدّم إلى ربّك الفضل ليوم حاجتك، و ادّهن غبّا، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ادّهنوا غبّا و لا تدّهنوا رفها» (3).

حكت هذه الرسالة التنديد بزياد لتكبّره و تجبّره على الناس، و اختياره

ص:133


1- جبهته: أي رددته.
2- قفارا: أي خال من الإدام.
3- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد 196:16.

للألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد، و أنّه بذلك قد استأثر على الفقراء و المساكين و الأرامل و اليتامى، فأخذ ما أعدّه اللّه لهم في بيت مال المسلمين... هذا بعض ما حوته هذه الرسالة من القيم و الآداب.

تحذير الإمام لزياد من أباطيل معاوية:

قام زياد بدور إيجابي في بعض أعمال فارس فضبطها ضبطا صالحا و جبا خراجها و حماها، و عرف ذلك معاوية فورم أنفه، فقام لخداعه و جلبه إليه، و كتب إليه:

أمّا بعد، فإنّه غرّتك قلاع تأوي إليها ليلا كما تأوي الطير إلى وكرها، و أيم اللّه لو لا انتظاري بك ما اللّه أعلم به لكان ذلك منّي ما قاله العبد الصالح: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (1).

و كتب في أسفل الكتاب شعرا كان منه هذا البيت:

تنسى أباك و قد شالت نعامته إذ تخطب النّاس و الوالي عمر

و لمّا ورد الكتاب على زياد قام خطيبا، و قال: العجب من ابن آكلة الأكباد و رأس النفاق يهدّدني و بيني و بينه ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و زوج سيّدة نساء العالمين، و أبو السبطين، و صاحب الولاية و الاخاء في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان، أما و اللّه! لو تخطّى هؤلاء أجمعين إليّ لوجدني فحشا (2) ضرّابا بالسيف.

و كتب إلى الإمام عليه السّلام يخبره بما جرى و أرسل معه كتاب معاوية إليه، فبعث الإمام عليه السّلام هذه الرسالة:

ص:134


1- النمل: 37.
2- المفحش: الجريء.

أمّا بعد، فإنّي قد ولّيتك ما ولّيتك و أنا أراك لذلك أهلا، و إنّه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيّام عمر من أمانيّ التّيه و كذب النّفس، لم تستوجب بها نسبا، و إنّ معاوية كالشّيطان الرّجيم يأتي المرء من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله، فاحذره ثمّ احذره ثمّ احذره، و السّلام (1).

و حذّر الإمام عليه السّلام في هذه الرسالة زيادا من أضاليل معاوية و خداعه، فقد حاول أن يلحق زيادا بنسبه، و ذلك شبهة لزنا أبيه بسميّة أمّ زياد، و القصّة ممّا يندى له جبين الإنسانية ففيها فضيحة لأبي سفيان و سميّة، و لكن معاوية لم يحفل بالعار في سبيل تدعيم أغراضه السياسية، و بناء سلطانه، و أخيرا فقد استجاب زياد لمعاوية، و صار من أقوى أعوانه و أخذ يتتبّع شيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان بهم عالما، فجعل يسمل أعينهم و يقطع ألسنتهم، و يقتلهم على الظنّة و التّهمة.

و بهذا نطوي الحديث عن ولاية زياد للبصرة.

ص:135


1- تهذيب تاريخ ابن عساكر 410:5. الغدير 219:10.

ص:136

ولاته على

اشارة

المدائن - كسكر - الجبل

ص:137

ص:138

ألمحنا في البحوث السابقة إلى ولاة الإمام عليه السّلام على الأقطار و الأقاليم و المدن الإسلامية، و أنّه لم يستعمل أي وال محاباة أو اثرة، و إنّما كان يبغي الحقّ و المصلحة العامّة للامّة، و كان يضع العيون و الرقباء على تصرّفاتهم، فمن شذّ في سلوكه و سيرته عن منهج الحقّ بادر إلى عزله كما سنبيّن ذلك في البحوث الآتية:

و على أيّ حال، فإنّا نعرض - فيما يلي - إلى ولاة الإمام عليه السّلام على المدائن و كسكر:

ولاته على المدائن

اشارة

و عهد الإمام عليه السّلام بولاية المدائن إلى الأشخاص التالية أسماؤهم، و هم:

حذيفة اليماني

اشارة

نصّ الباحث الكبير السيّد صدر الدين السيّد علي خان على أنّ الإمام عليه السّلام أقام الصحابي الجليل حذيفة اليماني واليا على المدائن، و هو من أبرز الصحابة في فضله و تقواه، و كان يسمّى صاحب السرّ؛ لأنّه كان يعرف المنافقين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد اتّصل اتّصالا وثيقا بالإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان يذيع فضائله، و ينشر مناقبه، و هو القائل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيّد المرسلين، و إمام المتّقين،

ص:139

و رسول ربّ العالمين، ليس له شبيه و لا نظير، و عليّ عليه السّلام أخوه، و إلى هذا المعنى أشار الصفيّ الحلّي بمدحه للإمام:

أنت سرّ النّبيّ و الصّنو و ابن العمّ و الصّهر و الأخ السّجّاد

لو رأى مثلك النّبيّ لآخاه و إلاّ فأخطأ الانتقاد

عهد الإمام لحذيفة:

و عهد الإمام عليه السّلام بولاية المدائن إلى حذيفة، و كتب إليه هذه الرسالة، و قد جاء فيها بعد البسملة:

من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان سلام عليك.

أمّا بعد، فإنّي قد ولّيتك ما كنت عليه لمن كان قبلي من حرف المدائن، و قد جعلت إليك أعمال الخراج و الرّستاق و جباية أهل الذّمّة، فاجمع إليك ثقاتك و من أحببت ممّن ترضى دينه و أمانته، و استعن بهم على أعمالك فإنّ ذلك أعزّ إليك و لوليّك، و أكبت لعدوّك و إنّي آمرك بتقوى اللّه و طاعته في السّرّ و العلانيّة، و أحذّرك عقابه في الغيب و المشهد، و أتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن، و الشّدّة على المعاند، و آمرك بالرّفق في أمورك، و الدّين (1) و العدل في رعيّتك، فإنّك مسائل عن ذلك، و إنصاف المظلوم، و العفو عن النّاس، و حسن السّيرة ما استطعت، فإنّ اللّه يجزي المحسنين.

و آمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحقّ و النّصفة، و لا تجاوز

ص:140


1- كذا جاء في النسخة.

ما تقدّمت به إليك، و لا تدع منه شيئا، و لا تبدع فيه أمرا.

ثمّ اقسم بين أهله بالسّويّة و العدل، و اخفض لرعيّتك جناحك، و واس بينهم في مجلسك، و ليكن القريب و البعيد عندك في الحقّ سواء، و احكم بين النّاس بالحقّ ، و أقسم فيهم بالقسط ، و لا تتّبع الهوى، و لا تخف في اللّه لومة لائم، فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون.

و قد وجّهت إليك كتابا لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم و في جميع المسلمين، فأحضرهم و اقرأ عليهم، و خذ البيعة لنا على الصّغير و الكبير منهم إن شاء اللّه تعالى.

و حوت هذه الرسالة جميع صنوف العدل و ما تبنّاه الإمام عليه السّلام في سياسته المشرقة من إسعاد الشعوب و نشر القيم الكريمة بينهم.

رسالته لأهل المدائن:

و أرسل الإمام عليه السّلام إلى أهل المدائن هذه الرسالة و أمر عامله حذيفة بقراءتها عليهم، و هذا نصّها بعد البسملة:

من عبد اللّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين.

سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو و أسأله أن يصلّي على محمّد و آله.

أمّا بعد، فإنّ اللّه تعالى اختار الإسلام دينا لنفسه و ملائكته و رسله، إحكاما لصنعه و حسن تدبيره، و نظرا منه لعباده، و خصّ به من أحبّه من خلقه، فبعث إليهم محمّدا فعلّمهم الكتاب و الحكمة، إكراما و تفضّلا

ص:141

لهذه الأمّة، و أدّبهم لكي يهتدوا، و جمعهم لئلاّ يتفرّقوا، و وقفهم (1) لئلاّ يجوروا، فلمّا قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة اللّه حميدا محمودا.

ثمّ إنّ بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهديهما و سيرتهما، فأقاما ما شاء اللّه ثمّ توفّاهما اللّه عزّ و جلّ ، ثمّ ولّوا بعدهما الثّالث فأحدث أحداثا، و وجدت الأمّة عليه فعالا فاتّفقوا عليه، ثمّ نقموا منه فغيّروا، ثمّ جاءوني كتتابع الخيل فبايعوني، و إنّي أستهدي اللّه بهداه، و أستعينه على التّقوى.

ألا و إنّ لكم علينا العمل بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و القيام عليكم بحقّه، و إحياء سنّته، و النّصح لكم بالمغيب و المشهد، و باللّه نستعين على ذلك، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

و قد ولّيت أموركم حذيفة بن اليمان، و هو ممّن أرضى بهداه و أرجو صلاحه، و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم و الشّدّة على مريبكم، و الرّفق بجمعكم.

أسأل اللّه لنا و لكم حسن الخيرة و الإسلام و رحمته الواسعة في الدّنيا و الآخرة، و رحمة اللّه و بركاته (2).

و حكت هذه الرسالة نعمة اللّه على عباده بأن أرسل لهم رسوله العظيم، فجاءهم بالإسلام الذي هو الدين القيّم الذي ارتضاه اللّه تعالى لعباده، و جعله مشعلا

ص:142


1- أي وقّف الامة على ما أعدّه تعالى من الجنّة للمطيعين و النار للعاصين.
2- الدرجات الرفيعة: 288. نهج السعادة 19:4-24.

للهداية و السلامة من مآثم الحياة، كما عرضت هذه الرسالة إلى الأحداث المؤسفة التي رافقت وفاة المنقذ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و ما آلت إليه الامّة بعد أن تقلّد الخلافة من الفتن التي أثارتها قريش ضدّه، و قد قطع الإمام عليه السّلام على نفسه عهدا أن يسير بين المسلمين بسنّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و يطبق على الحياة العامّة منهج القرآن الكريم، هذا بعض ما حوته هذه الرسالة.

ص:143

سعد بن مسعود

كان سعد من خيار أصحاب الإمام عليه السّلام و هو عمّ البطل الخالد المختار، الذي استأصل شأفة المجرمين من قتلة سيّد الشهداء عليه السّلام.

عهد الإمام عليه السّلام بولاية المدائن إلى سعد، و ذلك بعد وفاة حذيفة بن اليمان، و قد كتب إليه الرسالة التالية:

أمّا بعد، فإنّك قد أدّيت خراجك، و أطعت ربّك، و أرضيت إمامك، فعل البرّ التّقيّ النّجيب، فغفر اللّه ذنبك، و تقبّل سعيك، و حسّن مآبك (1).

و حوت هذه الرسالة أجمل الثناء و أطيب الذكر إلى سعد الذي أطاع و أرضى إمامه.

و لمّا أراد الإمام عليه السّلام الشخوص لمحاربة معاوية كتب إلى سعد هذه الرسالة:

أمّا بعد، فإنّي قد بعثت إليك زياد بن حصفة، فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة، و عجّل ذلك إن شاء اللّه، و لا قوّة إلاّ باللّه (2).

و لو لا أنّه ركن وثيق، و بطل من أبطال الإسلام لما استعان به الإمام لمحاربة خصمه العنيد.

ص:144


1- تاريخ اليعقوبي 176:2.
2- تاريخ الطبري 59:4.

عامله على كسكر

و كان عامله على كسكر (1) عجلان بن قدامة، و قد كتب إليه هذه الرسالة:

أمّا بعد، فاحمل ما قبلك من مال اللّه فإنّه فيء للمسلمين، لست بأوفر حظّا فيه من رجل فيهم، و لا تحسبنّ يا ابن قدامة أنّ مال كسكر مباح لك كمال ورثته عن أبيك و امّك، فتعجّل حمله و أعجل في الإقبال إلينا إن شاء اللّه (2).

لقد احتاط الإمام عليه السّلام كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة و شدّد على ولاته فيها فأقام عليهم العيون، و راقب جميع تصرّفاتهم و امورهم.

ص:145


1- كسكر: مدينة تقع بين الكوفة و البصرة، و قصبتها واسط ، و فيها يقول عبيد اللّه بن الحرّ: أنا الّذي أجليتكم عن كسكرثمّ هزمت جمعكم بتستر ثمّ انقضضت بالخيول الضّمّرحتّى حللت بين وادي حمير جاء ذلك في معجم البلدان - باب الكاف.
2- نهج السعادة 350:5، نقلا عن أنساب الأشراف: 338.

عامله على الجبل

و أقام الإمام واليا على الجبل سليمان بن صرد الخزاعي، و هو من أفذاذ شيعته، و أحد المطالبين بدم سيّد الشهداء عليه السّلام، و كان زعيم التوّابين، و قد كتب إليه الإمام عليه السّلام الرسالة التالية:

ذكرت ما صار في يديك من حقوق المسلمين، و إنّ من قبلك و قبلنا في الحقّ سواء، فأعلمني ما اجتمع عندك من ذلك، و أعط كلّ ذي حقّ حقّه، و ابعث إلينا بما سوى ذلك لنقسمه فيمن قبلنا إن شاء اللّه (1).

و ترى في هذه الرسالة مدى اهتمام الإمام البالغ في أموال الدولة و صرفها على تطوّر حياة المسلمين، و إنقاذهم من كارثة الفقر و الحرمان.

1

ص:146


1- نهج السعادة 351:5، نقلا عن أنساب الأشراف: 233.

عمّال الخراج و الصّدقات

اشارة

ص:147

ص:148

أمّا الخراج فهو الضريبة المالية التي فرضها الإسلام على غلّة الأرض (1) ، و هو شريان الاقتصاد الإسلامي، فإنّ معظم واردات الدولة تستند إليه، كما أنّ نفقاتها كانت عيالا عليه فرواتب الجيش، و رواتب سائر الموظّفين في جهاز الدولة معظمها من هذه الضريبة، و قد اعتنى الإمام بها عناية بالغة.

أهمّية الخراج:

اشارة

و هذا حديث عن أهمّية الخراج في عهده لمالك الأشتر قال عليه السّلام:

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج و أهله.

و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة؛ و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، و أهلك العباد، و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

فإن شكوا ثقلا أو علّة، أو انقطاع شرب أو بالّة (2) ، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح

ص:149


1- مجمع البحرين - مادة خرج، و جاء فيه: أنّه قيل: يقع اسمه على الضريبة و الجزية و الغلّة.
2- البلّة: ما يبل به الأرض من الماء.

به أمرهم؛ و لا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المئونة عنهم، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، و تزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، و تبجّحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوّتهم، بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، و الثّقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم و رفقك بهم، فربّما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد ما احتملوه طيّبة أنفسهم به؛ فإنّ العمران محتمل ما حمّلته، و إنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، و إنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع (1) ، و سوء ظنّهم بالبقاء، و قلّة انتفاعهم بالعبر (2).

و حوى هذا المقطع جميع صنوف العدل و الشرف، و ما ينشده الإسلام من عمران الأرض، و إشاعة الرخاء بين الناس، و قد حفل بامور بالغة الأهمّية كان منها:

1 - تفقّد الخراج:

أمّا الخراج فهو من أهمّ واردات الدولة الإسلامية في تلك العصور، و أمّا كيفيّة شرائطه و شئونه فقد تعرّضت لها كتب الفقه الإسلامي، و قد عرض الإمام عليه السّلام في كلامه إلى أنّ صلاح الخراج صلاح لأهله، و صلاح لجميع المواطنين لأنّهم جميعا عيال عليه.

2 - عمارة الأرض:

و أكّد الإمام عليه السّلام على ضرورة إعمار الأرض، و ذلك بشقّ الأنهر و ما يحتاجه المزارعون في شئون زراعتهم و تنميتها، فإنّ زيادة الخراج لا يكون إلاّ بعمارة الأرض.

ص:150


1- الجمع: يراد به جمع المسئولين للمال.
2- نهج البلاغة: 436-437.

3 - إهمال الأرض:

أمّا إهمال الأرض و عدم الاهتمام بها فإنّه يعود بالأضرار الفادحة على المزارعين و المواطنين، و يشيع البؤس و الفقر بين الناس.

4 - الاستجابة لطلبات المزارعين:

و حثّ الإمام عليه السّلام السلطة على الاستجابة الكاملة للمزارعين فيما يطلبونه من إصلاح لأرضهم، و ما يعود على زرعهم بالنماء فإنّ إهمال طلباتهم يوجب خراب الأرض، و موت الزرع.

كما أنّ الاستجابة لطلباتهم فيه زين للمسؤولين، و تبجحّ لهم بإشاعة العدل، و من الطبيعي أنّ ذلك يوجب ربط المواطنين بالدولة و إخلاصهم لها.

5 - سبب خراب الأرض:

أمّا السبب في خراب الأرض فإنّه ناجم عن فقر المزارعين و عدم تمكّنهم من إصلاح زرعهم، و من المؤكّد أنّ ذلك ناشئ عن جشع المسئولين، و اهتمامهم بجلب الخراج، و لا يعيرون أي اهتمام لإصلاح الأرض، و سنتحدّث في بعض بحوث هذا الكتاب عمّا عاناه المزارعون من الظلم و الدمار من الجباة أيام الحكم الأموي و العباسي.

التعاليم السامية لعمّال الخراج:

و وضع الإمام عليه السّلام المناهج الرفيعة لعمّال الخراج، و أوصاهم بتطبيقها و الأخذ بها في ميدان عملهم، و هذه وصيّته بعد البسملة:

من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى امراء الخراج:

أمّا بعد، فإنّه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدّم لنفسه و لم يحرزها،

ص:151

و من اتّبع هواه و انقاد له على ما يعرف نفع عاقبته عمّا قليل ليصبحنّ من النّادمين.

ألا و إنّ أسعد النّاس في الدّنيا من عدل عمّا يعرف ضرّه، و إن أشقاهم من اتّبع هواه، فاعتبروا و اعلموا أنّ لكم ما قدّمتم من خير، و ما سوى ذلك وددتم لو أنّ بينكم و بينه أمدا بعيدا، و يحذّركم اللّه نفسه و اللّه رءوف و رحيم بالعباد، و أنّ عليكم ما فرّطتم فيه، و أنّ الّذي طلبتم ليسير و أنّ ثوابه لكثير، و لو لم يكن فيما نهي عنه من الظّلم و العدوان عقاب يخاف، كان في ثوابه ما لا عذر لأحد بترك طلبته، فارحموا ترحموا و لا تعذّبوا خلق اللّه، و لا تكلّفوهم فوق طاقتهم و أنصفوا النّاس من أنفسكم و اصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرّعيّة، لا تتّخذنّ حجّابا و لا تحجبنّ أحدا عن حاجته حتّى ينهيها (1) إليكم، و لا تأخذوا أحدا بأحد إلاّ كفيلا عمّن كفل عنه، و اصبروا أنفسكم على ما فيه الاغتباط ، و إيّاكم و تأخير العمل و دفع الخير، فإنّ في ذلك النّدم، و السّلام (2).

و حفل هذا الكلام بامور بالغة الأهمّية، و هي:

1 - أنّ الإمام عليه السّلام أوصى عمّال الخراج بتقوى اللّه تعالى و طاعته، و الاجتناب عن معاصيه، و ممّا لا ريب فيه أنّ من يتّقي اللّه تعالى فإنّه لا يعتدي، و لا يظلم، و لا يقترف إثما، و يسعد المجتمع في حكمه إذا كان حاكما.

2 - أنّه أمر العمّال بأن لا يكلّفوا الناس فيما يجبونه فوق طاقتهم و عليهم أن يسيروا بين الناس بالمعروف.

ص:152


1- ينهيها: أي يتركها.
2- كتاب صفّين: 108، و قريب منه في نهج البلاغة 80:3-81.

3 - و عهد عليه السّلام لعمّاله بانصاف الناس، و الصبر على قضاء حوائجهم، فإنّهم خدم الرعية و خزّان أموالها.

4 - أنّه أمرهم أن لا يتّخذوا حجّابا يمنعون الناس من الوصول إليهم، فإنّ ذلك ممّا يوجب شيوع البغضاء بين المواطنين و الحكومة.

5 - أنّه أوصاهم أن لا يأخذوا أحدا من الناس بجرم غيره إلاّ أن يكون كفيلا عنه.

6 - أنّه عليه السّلام نهى عن تأخير أعمال المواطنين، و الواجب أن يقوموا بقضائها بالوقت دون تأخير.

من وصاياه لعمّاله:

و أوصى الإمام عليه السّلام عمّال الخراج بهذه الوصيّة القيّمة، و قد جاء فيها:

و لا تبيعنّ للنّاس في الخراج كسوة شتاء، و لا صيف، و لا دابّة يعملون عليها، و لا عبدا، و لا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم، و لا تمسّنّ مال أحد من النّاس، مصلّ و لا معاهد، إلاّ أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام، فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام، فيكون شوكة عليه. و لا تدّخروا أنفسكم نصيحة، و لا الجند حسن سيرة، و لا الرّعيّة معونة، و لا دين اللّه قوّة، و أبلوا في سبيل اللّه ما استوجب عليكم، فإنّ اللّه سبحانه قد اصطنع عندنا و عندكم أن نشكره بجهدنا، و أن ننصره بما بلغت قوّتنا، و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم (1).

ص:153


1- مصادر نهج البلاغة - قسم الرسائل و الوصايا: 235-236.

و حوت هذه الكلمات جميع صور العدل، و ما ينشده الإسلام من الرحمة و الرأفة للناس جميعا على اختلاف قوميّاتهم و لغاتهم و أديانهم.

مع عمّال الصدقات:

اشارة

وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام البرامج الرفيعة و الآداب الإسلامية للعمّال الذين يجلبون الزكاة من المواطنين، انظروا بعمق إلى هذه التعاليم العلوية.

قال عليه السّلام لبعض عمّاله:

أمره بتقوى اللّه في سرائر أمره و خفيّات عمله، حيث لا شهيد غيره، و لا وكيل دونه.

و أمره ألاّ يعمل بشيء من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ، و من لم يختلف سرّه و علانيته، و فعله و مقالته، فقد أدّى الأمانة، و أخلص العبادة.

و أمره ألاّ يجبههم و لا يعضههم، و لا يرغب عنهم تفضّلا بالإمارة عليهم، فإنّهم الإخوان في الدّين، و الأعوان على استخراج الحقوق.

و إنّ لك في هذه الصّدقة نصيبا مفروضا، و حقّا معلوما، و شركاء أهل مسكنة، و ضعفاء ذوي فاقة، و إنّا موفّوك حقّك، فوفّهم حقوقهم، و إلاّ تفعل فإنّك من أكثر النّاس خصوما يوم القيامة، و بؤسى لمن - خصمه عند اللّه - الفقراء و المساكين و السّائلون و المدفوعون، و الغارمون و ابن السّبيل! و من استهان بالأمانة، و رتع في الخيانة، و لم ينزّه نفسه و دينه عنها، فقد أحلّ بنفسه في الدّنيا الذّلّ و الخزي، و هو في الآخرة أذلّ و أخزى.

ص:154

و إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، و أفظع الغشّ غشّ الأئمّة، و السّلام (1).

من وصاياه الخالدة لعمّال الصدقة:

من وصايا الإمام الخالدة التي حوت الفضائل و الآداب الرفيعة هذه الوصية التي عهد بها إلى عمّال الصدقة، قال عليه السّلام:

انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له، و لا تروّعنّ مسلما، و لا تجتازنّ عليه كارها، و لا تأخذنّ منه أكثر من حقّ اللّه في ماله، فإذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثمّ امض إليهم بالسّكينة و الوقار؛ حتّى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتّحيّة لهم (2) ، ثمّ تقول: عباد اللّه، أرسلني إليكم وليّ اللّه و خليفته، لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه ؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، و إن أنعم (3) لك منعم (4) فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به.

و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزعنّها، و لا تسوأنّ صاحبها فيها، و اصدع المال (5) صدعين ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. ثمّ اصدع

ص:155


1- نهج البلاغة 26:3.
2- تخدج: أي تبخل.
3- أنعم: أي قال لك نعم.
4- المنعم: هو الذي يدفع الزكاة، و هذا من روائع الأدب العلوي.
5- أصدع المال: أي قسّمه نصفين.

الباقي صدعين، ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله؛ فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله، ثمّ اخلطهما ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت أوّلا حتّى تأخذ حقّ اللّه في ماله.

و لا تأخذنّ عودا (1) ، و لا هرمة، و لا مكسورة، و لا مهلوسة (2) ، و لا ذات عوار، و لا تأمننّ عليها إلاّ من تثق بدينه، رافقا بمال المسلمين حتّى يوصّله إلى وليّهم فيقسمه بينهم، و لا توكّل بها إلاّ ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا، غير معنف و لا مجحف (3) ، و لا ملغب (4) و لا متعب.

ثمّ احدر (5) إلينا ما اجتمع عندك نصيّره حيث أمر اللّه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألاّ يحول بين ناقة و بين فصيلها، و لا يمصر (6) لبنها فيضرّ ذلك بولدها؛ و لا يجهدنّها ركوبا، و ليعدل بين صواحباتها في ذلك و بينها، و ليرفّه على اللاّغب (7) ، و ليستأن بالنّقب و الظّالع، و ليوردها ما تمرّ به من الغدر (8) ، و لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق، و ليروّحها في السّاعات، و ليمهلها عند النّطاف (9) و الأعشاب،

ص:156


1- العود: المسنّة من الإبل.
2- المهلوسة: الضعيفة.
3- المجحف: الذي يشتدّ في سوق الأنعام حتى تهزل.
4- الملغب: الذي أعياه التعب.
5- احدر: أي اسرع.
6- يمصر: أي يأخذ لبنها.
7- الملغب: الذي أعياه التعب.
8- الغدر: هو ما يغادره السيل.
9- النطاف: المياه القليلة.

حتّى تأتينا بإذن اللّه بدّنا منقيات، غير متعبات و لا مجهودات، لنقسمها على كتاب اللّه و سنّة نبيّه - صلّى اللّه عليه و آله - فإنّ ذلك أعظم لأجرك، و أقرب لرشدك، إن شاء اللّه (1).

و تمثّلت جميع صور الكرامة و الشرف في هذه الوصية التي عهد الإمام بها إلى عمّال الزكاة، و كان من بنودها ما يلي:

1 - أنّه أوصى الجباة في أخذهم الحقّ الشرعي من المواطنين أن لا يروّعوهم و لا يجتازوا عليهم بالكره و القوّة و الاجبار.

2 - أن ينزل الجباة بأمكنة بعيدة عن بيوت المزارعين لئلا يخافوا.

3 - أن يقابل الجباة المزارعين باللطف، و التواضع، و لا يبخلوا عليهم بالتحية و السلام، و يقولون لهم بأدب: إنّ خليفة اللّه أرسلنا لكم فإن كان عندكم حقّ من حقوق اللّه فسلّموه لنا، فإن أجابوا بالايجاب استلموه منهم، و إن قالوا ليس في أموالنا حقّ فلا يراجعوهم و ينصرفوا عنهم من غير إرهاق و عسف معهم.

4 - أنّ الإمام عليه السّلام عرض إجمالا إلى ما تجب فيه الزكاة، و هي الذهب و الفضّة، و الأنعام الثلاثة، و الحنطة و الشعير.

5 - و ذكر الإمام عليه السّلام حكم الزكاة في الماشية و الإبل فإذا كان فيها حقّ ، فعلى الجباة أن لا يدخلوا عليها دخول متسلّط و لا عنيف، و أن يقسّموها إلى قسمين فيما إذا كانت كثيرة و يجعلوا الخيار لصاحب المال فيها، ثمّ يقسّموها إلى قسمين آخرين و يجعلوا لصاحبها الخيار، و هكذا يستمرّ التقسيم حتى يأخذ الجباة حقّ اللّه منها، و أوصاهم أن لا يختاروا المسنّة و الهرمة و المكسورة و لا ذات العوار.

6 - و أوصى الإمام العمّال بمراعاة الحيوان و الرفق به، و أن تصل إليه سالمة

ص:157


1- نهج البلاغة 23:3-26.

غير مجهدة... هذا بعض ما في هذا العهد من تعاليم و آداب.

ظلم العمّال أيام الأمويّين و العباسيّين:

اشارة

بعد ما عرضنا إلى وصايا الإمام الخالدة لعمّال الخراج و الصدقة، و ما تنشده من إشاعة العدل، و نشر العزّة و الكرامة و الرأفة و الرحمة إلى المواطنين، و حمايتهم من كلّ جور و ظلم و اعتداء من العمال و الولاة، نعرض - إجمالا - إلى ما عاناه المسلمون أيام الحكم الأموي و العباسي من المآسي المروعة، فقد صبّ عليهم الجباة أفحش ألوان الظلم، و أقسى صور الجور، و فيما يلي ذلك:

أيام الحكم الأموي:

و بعد ما تسلّم معاوية الحكم بالارهاب و المكر و الخداع عهد بأخذ الضرائب إلى أقسى العمّال من ذوي الضمائر الميّتة فأمعنوا في ظلم الناس و استصفاء أموالهم.

يقول عقيبة بن هبيرة الأسدي مخاطبا معاوية:

معاوي إنّنا بشر فاسجح فلسنا بالجبال و لا الحديد

أكلتم أرضنا فجردتموها فهل من قائم أو من حصيد؟

فهبنا أمّة ذهبت ضياعا يزيد أميرها و أبو يزيد

أ تطمع في الخلود إذا هلكنا؟ و ليس لنا و لا لك من خلود

ذروا خون الخلافة و استقيموا و تأمير الأراذل و العبيد (1)

و صوّرت هذه الأبيات ما عاناه قوم عقيبة من الاضطهاد و الظلم من عمّال معاوية...

و أعلن الشاعر الرّاعي النمري في أبيات له جور عمّال عبد الملك بن مروان

ص:158


1- خزانة الأدب 225:2-226.

على قومه حتى افتقروا و هربوا في البيداء، و ليس عندهم إلاّ إبل مهزولة يقول:

أ خليفة الرّحمن! إنّا معشر حنفاء نسجد بكرة و أصيلا

إنّ السّعاة عصوك يوم أمرتهم و أتوا دواهي لو علمت و غولا

أخذوا العريف فشقّقوا حيزومه بالأصبحيّة قائما مغلولا (1)

حتّى إذا لم يتركوا لعظامه لحما و لا لفؤاده معقولا (2)

جاءوا بصكّهم و أحدب أسأرت منه السّياط يراعة إجفيلا (3)

أخذوا حمولته فأصبح قاعدا لا يستطيع عن الدّيار حويلا

يدعو أمير المؤمنين و دونه خرق تجرّ به الرّياح ذيولا (4)

كهداهد كسر الرّماة جناحه يدعو بقارعة الشّريف هديلا

أ خليفة الرّحمن! إنّ عشيرتي أسبى سوامهم عزين فلو لا (5)

قوم على الإسلام لمّا يتركوا ما عونهم و يضيّعوا التّهليلا (6)

قطعوا اليمامة يطردون كأنّهم قوم أصابوا ظالمين قتيلا

شهري ربيع ما تذوق لبونهم إلاّ حموضا و خمة و ذبيلا (7)

و أتاهم يحيى فشدّ عليهم عقدا يراه المسلمون ثقيلا (8)

1

ص:159


1- الحيزوم: وسط الظهر. الأصبحيّة: السياط .
2- المعقول: الادراك.
3- أشأرت: أي بقيت في الإناء بقيّة. الأجفيل: الخائف.
4- الخرق: الصحراء الواسعة.
5- عزين: الجماعات.
6- الماعون: أراد به الزكاة.
7- الحموض: المرّ المالح من النبات.
8- يحيى: هو أحد السعاة الظالمين.

كتبا تركن غنيّهم ذا عيلة بعد الغنى و فقيرهم مهزولا

فتركت قومي يقسمون امورهم إليك أم يتربّصون قليلا (1)

أ رأيتم هذا الشعر الطافح بالأسى و الألم على ما أصاب الراعي و قومه من صنوف العذاب و الفقر الذي صبّه الولاة و العمّال عليهم فإنّهم لم يتركوا لهم لعظامهم لحما إلاّ نهشوه و لا عظما إلاّ هشّموه.

و قد استمرّ جور العمّال حتى في عهد عمر بن عبد العزيز الذي هو أشرف ملك في بني اميّة فإنّ عمّاله لم يألوا جهدا في النهب و السلب، و قد خاطبه كعب الأشعري بهذه الأبيات:

إن كنت تحفظ ما يليك فإنّما عمّال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للّذي تدعو له حتّى تجلّد بالسّيوف رقاب

بأكفّ منصلتين أهل بصائر في وقعهنّ مزاجر و عقاب (2)

و كان عمر على المنبر يخطب فانبرى إليه رجل فقطع خطابه و قال له:

إنّ الّذين بعثت في أقطارها نبذوا كتابك، و استحلّ المحرم

طلس الثّياب على منابر أرضنا كلّ يجور و كلّهم يتظلّم

و أردت أن يلي الأمانة منهم عدل و هيهات الأمين المسلم (3)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا و ارهقوا إرهاقا شديدا من الجباة الذين لا يرجون للّه وقارا، فنهبوا و استحلّوا أموال المسلمين بغير حقّ .

ص:160


1- طبقات فحول الشعراء: 439. جمهرة أشعار العرب: 43.
2- البيان و التبيان 308:3.
3- المصدر السابق 359:3.

أيام الحكم العبّاسي:

و أسندت الحكومة العبّاسية وظيفة جمع الخراج إلى جماعة من القساة و الأشرار، فكانوا يجبون الضرائب التي لم يشرّعها الإسلام، و يأخذونها بقسوة و عنف، و قد صوّر ذلك ابن المعتزّ في ارجوزته، يقول:

فكم و كم من رجل نبيل! ذي هيبة و مركب جليل

رأيته يعتلّ بالأعوان إلى الحبوس و إلى الدّيوان

و جعلوا في يده حبالا من قنّب يقطّع الأوصالا

و علّقوه في عرى الجدار كأنّه برّادة في الدّار

و صفّقوا قفاه صفق الطّبل نصبا بعين شامت و خلّ

و صبّ سجّان عليه الزّيتا فصار بعد بزّة (1) كميتا

لقد وصفت هذه الأبيات الحالة القاسية التي عاناها الناس في أخذ الخراج، فقد قوبلوا بمنتهى الشدّة و القسوة، و يستمر ابن المعتزّ في وصف تلك الأحوال الرهيبة فيقول:

حتّى إذا ملّ الحياة و ضجر و قال: ليت المال جمعا في سقر

أعطاهم ما طلبوا فأطلقا يستعمل المشي و يمشي العنقا (2)

و يصف ابن المعتزّ ما يتعرّض له السجين من الضرب و اللكم و الصفع بقوله:

و أسرفوا في لكمه و دفعه و انطلقت أكفّهم في صفعه

ص:161


1- البزّة: الثوب الهيئة.
2- العنقا: السريع المشي.

و لم يزل في أضيق الحبوس حتّى رمى إليهم بالكيس (1)

و هكذا يستمرّ الظلم بجميع رحابه و ألوانه على المزارعين و غيرهم في معظم أيام الحكم الأموي و العباسي، فقد فقد الناس رحمة الإسلام و ما ينشده من الرفاهية و العزّة و الكرامة.

ص:162


1- ديوان ابن المعتزّ: 481.

تأنيب الولاة و عزلهم

اشارة

ص:163

ص:164

كان الإمام عليه السّلام يراقب ولاته و عمّاله مراقبة شديدة، فجعل عليهم الرقباء و العيون يتتبّعون تصرّفاتهم، و يسجّلون خدماتهم و تصرّفاتهم و سائر شئونهم، و يرفعونها له، فإذا اشتكى أحد المواطنين واليا من ولاته لسوء خلقه أو لتجبّره و تكبّره و اعتزازه بوظيفته أنّبه الإمام و وبّخه، و أرشده إلى مكارم الأخلاق، و إذا كان الوالي خائنا، و سارقا بادر إلى عزله و محاسبته، و فيما يلي تسجيل لذلك:

تأنيب العمّال:

أنّب الإمام عليه السّلام كوكبة من ولاته لأنّ المواطنين شكوا سوء أخلاقهم للإمام، و هذا عرض لبعضهم:

1 -

أنّ جماعة من الدهّاقين الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، و بقوا على دينهم شكوا إلى الإمام عليه السّلام غلظة عاملهم، فكتب الإمام إليه هذه الرسالة:

أمّا بعد، فإنّ دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة و قسوة، و احتقارا و جفوة، و نظرت في أمرهم فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، و لا أن يقصوا و يجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللّين تشوبه بطرف من الشّدّة، و داول لهم بين القسوة و الرّأفة، و امزج لهم بين التّقريب و الإدناء، و الإبعاد و الإقصاء. إن شاء اللّه (1).

ص:165


1- نهج البلاغة: 376.

و قد أمر الإمام عليه السّلام عامله أن يتجنّب الغلظة و القسوة و الاحتقار و يسير بين الذمّيّين سيرة معتدلة قوامها العدل الخالص و الحقّ المحض.

2 -

رفع بعض العيون الذي أقامهم الإمام على واليه بالبحرين النعمان بن عجلان أنّه ذهب بمال البحرين، فكتب إليه الإمام هذه الرسالة:

أمّا بعد، فإنّه من استهان بالأمانة، و رغب في الخيانة، و لم ينزّه نفسه و دينه، أخلّ بنفسه في الدّنيا، و ما يشفي عليه بعد أمرّ و أبقى و أشقى و أطول.

فخف اللّه إنّك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظّنّ بك، و راجع إن كان حقّا ما بلغني عنك، و لا تقلبنّ رأيي فيك، و استنظف خراجك ثمّ اكتب إليّ ليأتيك رأيي و أمري إن شاء اللّه (1).

لقد ساق الإمام عليه السّلام اللوم و التقريع على تهمة الخيانة لبيت المال، و هي تهمة لم يتأكّد الإمام منها، و إنّما وشى بها إليه، و لو كان على بيّنة منها لبادر إلى عزله.

3 -

وافت الأنباء إلى الإمام عليه السّلام أنّ عامله على اصطخر المنذر بن جارود العبدي قد شذّ في سلوكه، فكتب إليه هذه الرسالة يؤنّبه و ينقم عليه، و هذا نصّها:

أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك ما غرّني منك، و ظننت أنّك تتّبع هديه، و تسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقّي إليّ عنك لا تدع لهواك انقيادا، و لا تبقي لآخرتك عتادا. تعمر دنياك بخراب آخرتك، و تصل عشيرتك بقطيعة دينك.

و لئن كان ما بلغني عنك حقّا، لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك،

ص:166


1- تاريخ اليعقوبي 177:2.

و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه (1).

و في هذه الرسالة التقريع و التوبيخ و اللوم على ما صدر من المنذر العبدي من المخالفات التي لا يقرّها الشرع.

عزل الولاة:

اشارة

و عزل الإمام عليه السّلام بعض الولاة لمّا انحرفوا عن الطريق القويم، و سلكوا منهجا غير ما أمر اللّه به، و هؤلاء بعضهم:

1 - الأشعث بن قيس:

كان الأشعث بن قيس واليا على آذربيجان فبلغ الإمام عليه السّلام أنّه خان بيت المال فعزله و كتب إليه الرسالة التالية:

أمّا بعد، فإنّما غرّك من نفسك و جرّأك على آخرك إملاء اللّه لك؛ إذ ما زلت قديما تأكل رزقه، و تلحد في آياته، و تستمع بخلاقك، و تذهب بحسناتك إلى يومك هذا.

فإذا أتاك رسولي بكتابي هذا فأقبل و احمل ما قبلك من مال المسلمين إن شاء اللّه (2).

و بادر الإمام إلى عزل هذا الخائن اللئيم الذي استحلّ نهب أموال المسلمين.

ص:167


1- نهج السعادة 23:5.
2- تاريخ اليعقوبي 176:2.

2 - عزله لوال شكت عليه سوادة:

رفعت سوادة بنت عمارة الهمدانية إلى الإمام أمير المؤمنين شكوى في شأن وال جار عليهم فبكى الإمام عليه السّلام، و قال:

اللّهمّ أنت الشّاهد عليّ و عليهم، إنّي لم آمرهم بظلم خلقك، و لا بترك حقّك.

و كتب إليه الرسالة التالية بعد البسملة:

قد جاءتكم بيّنة من ربّكم فأوفوا الكيل و الميزان بالقسط ، و لا تبخسوا النّاس أشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين، بقيّة اللّه خير لكم إن كنتم مؤمنين، و ما أنا عليكم بحفيظ .

إذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى يأتي من يقبضه منك و السّلام (1).

إنّ هذا هو العدل الذي تنتعش به الشعوب و تسود فيه القيم القويمة، و يعمّ فيه الأمن و الرخاء.

3 - عزل الأشعري:

كان أبو موسى الأشعري واليا على الكوفة من قبل عثمان بن عفّان، و كان منحرفا عن الإمام، و قد جعل يثبّط عزائم الناس من الالتحاق بجيش الإمام الذي ندبه للقضاء على تمرّد طلحة و الزبير، فعزله الإمام و كتب إليه هذه الرسالة:

اعتزل عملنا يا ابن الحائك! مذموما مدحورا، فما هذا أوّل يومنا منك،

ص:168


1- العقد الفريد 212:1.

و إنّ لك فينا لهنات و هنات (1).

و بهذا ينتهى بنا الحديث عن عزل الإمام عليه السّلام لبعض ولاته الذين ظهرت منهم بوادر الخيانة، و به ينتهي المطاف عن ولاته و عمّاله.

1

ص:169


1- مروج الذهب 368:2.

ص:170

المحتويات

تقديم 5 بحوث تمهيديّة 11-48 أهمّية الولاة 13 1 - خطر الامارة 13 انتخاب الامراء و تعيينهم 16 2 - عقاب الإمام الجائر 17 3 - التباعد عن السلطان الجائر 17 امارة السفهاء 17 عشّاق السلطة 18 واجبات الولاة 19 تعاليم و أحكام 20 بطانة الولاة 37 ولاية المظالم 38 عمّال الخراج و الصدقات 39 محاسبة الولاة 42

ص:171

الإقالة و العزل 44 الجيش 45 الشرطة 47 حق الوالي على الرعية و حقّها عليه 48 ولاته على مصر 49-78 قيس بن سعد 53 ملامحه و صفاته 53 ولايته على مصر 54 مكائد معاوية 55 جواب قيس 56 رسالة اخرى من معاوية 56 جواب قيس 56 ولاية مالك الأشتر 58 العهد الذهبي 62 الشهادة 63 تأبين الإمام لمالك 65 سرور معاوية 66 رثاء مالك 66 محمّد بن أبي بكر 68 عهد الإمام لمحمّد 68 صورة اخرى من عهد الإمام لمحمّد 71

ص:172

رسالة محمّد إلى معاوية 73 جواب معاوية 75 شهادة محمّد 76 ولاته على مكّة - المدينة - اليمن - البحرين 79-92 واليه على مكّة قثم 81 رسالة الإمام إلى قثم 81 رسالة اخرى إلى قثم 83 واليه على المدينة سهل بن حنيف 85 واليه على اليمن عبيد اللّه بن العباس 87 ولاته على البحرين 89 عمر بن أبي سلمة 89 النعمان بن عجلان 91 ولاته على اصبهان - اردشيرخرّه هيت - اذربيجان 93-104 مخنف بن سليم واليه على اصبهان 95

ص:173

كتابه إلى واليه على أردشيرخرّه 98 هرب مصقلة لمعاوية 99 عامله كميل على هيت 101 عامله الأشعث على آذربيجان 103 عزل الأشعث 104 ولاته على البصرة 105-135 عثمان بن حنيف 107 رسالة الإمام لعثمان 107 رسالة اخرى من الإمام لعثمان 114 ولاية عبد اللّه بن عبّاس 116 شخصية ابن عباس 116 ولايته على البصرة 120 رسائل الإمام لابن عبّاس 120 اتّهامه بالخيانة 121 ردّ ما أخذه ابن عباس 124 ولاية أبي الأسود 127 ولاية زياد 129 رسائل الإمام إلى زياد 129 الرسالة الاولى 129 رسالة الإمام إلى أهل البصرة 131 كتابه إلى زياد 133

ص:174

تحذير الإمام لزياد من أباطيل معاوية 134 ولاته على المدائن - كسكر - الجبل 137-146 ولاته على المدائن 139 حذيفة اليماني 139 عهد الإمام لحذيفة 140 رسالته لأهل المدائن 141 سعد بن مسعود 144 عامله على كسكر 145 عامله على الجبل 146 عمّال الخراج و الصّدقات 147-162 أهمّية الخراج 149 1 - تفقّد الخراج 150 2 - عمارة الأرض 150 3 - إهمال الأرض 151 4 - الاستجابة لطلبات المزارعين 151

ص:175

5 - سبب خراب الأرض 151 التعاليم السامية لعمّال الخراج 151 من وصاياه لعمّاله 153 مع عمّال الصدقات 154 من وصاياه الخالدة لعمّال الصدقة 155 ظلم العمّال أيام الأمويّين و العباسيّين 158 أيام الحكم الأموي 158 أيام الحكم العبّاسي 161 تأنيب الولاة و عزلهم 163-169 تأنيب العمّال 165 عزل الولاة 167 1 - الأشعث بن قيس 167 2 - عزله لوال شكت عليه سوادة 168 3 - عزل الأشعري 168 المحتويات 171-176

ص:176

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.