موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المجلد 8

اشارة

سرشناسه:قرشی، باقرشریف، 1926 - م.

Qarashi, Baqir Sharif

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام/ مولف باقر شریف القرشی

مشخصات نشر:قم: مجمع جهانی شیعه شناسی

مشخصات ظاهری:11ج.

شابک:دوره: 978-600-6164-72-4 ؛ 90000 ریال: ج. 1: 978-600-6164-65-6 ؛ ج.2و3 978-600-94930-7-4 : ؛ ج. 4 978-622-962924-6:

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:ناشر جلد دوم و سوم و چهارم انتشارات دارالتهذیب است .

مندرجات:ج. 1. زندگانی و فضایل امام علی علیه السلام در قرآن و سنت.- ج.2 و 3. امام علی (ع) در عهد پیامبر و دوران خلافت

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:مجمع جهانی شیعه شناسی

شناسه افزوده:The World Center for Shite Studies

رده بندی کنگره:BP37/ق36م8041 1393

رده بندی دیویی:297/951

شماره کتابشناسی ملی:3726762

ص :1

اشارة

موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام

مولف باقر شریف القرشی

ص :2

مقدمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ، النحل: 125 وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ، الحجّ : 3 وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، العنكبوت: 46 إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، غافر: 56

ص:3

ص:4

تقديم

1 الاحتجاجات و المناظرات بين الأديان و المذاهب قديمة جدّا، فقد تسلّح بها أرباب الأديان و زعماء المذاهب و أتباعهم، و استخدموا في ذلك جميع الوسائل التي بأيديهم، و ذلك لإضفاء الأصالة و الشرعية على ما يدينون و يعتقدون به و لجرّ الناس إلى اعتناق آرائهم و معتقداتهم.

و هذه الظاهرة سائدة بين الناس منذ فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا... لقد اسست أندية و أمكنة لهذا الغرض في دول الغرب، و قد جرت في الولايات المتّحدة ندوة حضرها حشد كبير من الأمريكا و غيرهم، فتناظر عالم مسلم و عالم مسيحي، و استمرّت المناظرة عدّة ساعات، فانهار العالم المسيحي أمام الأدلة الحاسمة التي أدلى بها العالم المسلم، و اعترف بالعجز و زيف أدلّته أمام الحاضرين.

2 إنّ الاحتجاجات و المناظرات من أوثق الأسباب، و أكثرها عمقا، و أجدرها في فصل الخصومات، و حسم النزاعات أمام فتح باب الحرب و إراقة الدماء، و إشاعة الثكل و الحزن، و الحداد لفرض الرأي و المعتقدات، فإنّ ذلك سلاح العاجزين الذين

ص:5

يعوزهم الدليل و البرهان، و سرعان ما تفشل معتقداتهم، و تتلاشى آراؤهم كما يتلاشى الدخان في الفضاء.

3 و كان الاحتجاج هو السّمت البارز في دعوة الأنبياء إلى اللّه تعالى و إبطال مذاهب خصومهم الوثنيّين، فقد أفلجوا بالأدلة الحسّية آراء الملحدين، فهذا شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السّلام حينما حاججه أحد فراعنة عصره في اللّه تعالى أجابه إبراهيم بأروع الأدلة، و قد حكى القرآن الكريم هذه المحاججة و لننظر إليها، قال تعالى:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (1).

فوجم الذي كفر و لم يطق جوابا، و انهار أمام هذه الحجّة الدامغة.

4 أمّا سيّد الأنبياء و خاتم المرسلين فقد اعتمد في تبليغ رسالة ربّه على الحوار و المحاججة مشفوعة بالخلق الكامل، فقد أمره اللّه تعالى بذلك، قال تعالى:

اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (2).

ص:6


1- البقرة : ٢٥٨.
2- النحل : ١٢٥.

و بقي الرسول صلّى اللّه عليه و آله مستمرا في تبليغ دعوته الخلاّقة يحتجّ و يناظر و يدافع عن قيمها و مبادئها، و وقف كالطود الشامخ أمام طغيان القرشيّين و عتاتهم، حتى فتح اللّه له الفتح المبين، و اندحرت العصابات القرشية التي لا تحمل أي طابع من الفكر و الوعي.

5 و نؤكد أنّ الإسلام بصورة إيجابية و متميّزة قد تبنّى المحاورة و المناظرة في تبليغ رسالته، و لم يلجأ إلى القوّة العسكرية و لا لأي وسيلة من وسائل العنف و القهر، فقد أعلن القرآن الكريم بصراحة و وضوح أن لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (1)، و إنّما فتح باب الحرب مع خصومه و أعدائه للدفاع عن قيمه و مبادئه و أهدافه التي جهدت العصابات القرشية على محوها و حجبها عن المجتمع الإنساني.

إنّ رسالة الإسلام الخالدة قد رفعت مشاعل النور، و أسّست معالم الحضارة في المشرق العربي، و قد سعت لتأسيس أهدافها بالاحتجاج و المناظرة لا بالسيف و النطع.

6 كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقربهم إليه، فهو باب مدينة علمه، و أبو سبطيه، و من كان منه بمنزلة هارون من موسى. فقد تطبّع بأخلاقه، و التزم بحرفية منهجه، و سار على أضواء رسالته لم يخالف أي سنّة منها، فاعتمد عليه السّلام

ص:7


1- البقرة : ٢٥٦.

بصورة موضوعية على الاحتجاج و المناظرة مع خصومه، و لم يفتح معهم باب الحرب إلاّ بعد أن انسدّت معهم نوافذ السلم، و أعلنوا العصيان المسلّح عليه، و كان ذلك مكشوفا في حربه مع أهل الجمل و صفّين و النهروان، فقد بغوا عليه، و تمرّدوا على حكومته، و لم تجد معهم أي وسيلة من وسائل الصلح و حقن الدماء.

7 أمّا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فهو من أوسع الناس افقا و أكثرهم استيعابا لجميع مباحث العلوم، كما كان أخبرهم في المسائل الكلامية، فقد ناظر الخلفاء و أفحمهم، و ناظر علماء الأديان السماوية و ألحق بهم هزيمة ساحقة، فقد علم مناطق الضعف و الزيف في أناجيلهم و توراتهم فوضعها بين أيديهم، فلم يستطيعوا الدفاع عن أديانهم و وقفوا واجمين أمام منطقه الفيّاض، معترفين بعجزهم خاضعين لملكاته و قدراته العلمية.

و من المؤكد أنّه لم يملك أي أحد من الصحابة و غيرهم ما يملك الإمام من المواهب و العبقريات التي فاق بها على غيره.

8 و يحفل هذا الجزء من موسوعة حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام باحتجاجاته و مناظراته، و هي تحمل طابعا فكريا و علميا و تعدّ في طليعة البحوث الكلامية خصوصا في مناظراته مع علماء النصارى و اليهود، فقد تجلّى فيها الإبداع و الأصالة و عمق المناهج العلمية التي استدلّ بها الإمام عليه السّلام، و التي اقتبس منها بعض علماء المسلمين الذين قصدوا للردّ على علماء النصارى و اليهود و بيان فساد معتقداتهم.

ص:8

9 و قبل أن أطوي هذا التقديم، أودّ أن أعرض إلى أني لم استوعب - بصورة قاطعة - جميع احتجاجات الإمام عليه السّلام و مناظراته و إنما سجّلت ما عثرت عليه منها، فإنّه من المؤكد أنّ الباحث المتتبّع يجد أضعاف ما دوّنته منها...

إنّ هذا الإمام الملهم العظيم له من التراث الهائل الذي هو من مناجم الفكر الإسلامي و من ذخائر الأدب الإنساني، ما يفوق حدّ الوصف و الإحصاء.

إنّه وليّ التوفيق النّجف الأشرف باقر شريف القرشى 2 /جمادى الاولى/ 1420 ه

ص:9

ص:10

احتجاجات الإمام

اشارة

على الخلفاء

ص:11

ص:12

الشيء البارز في حياة الإمام السياسية احتجاجاته الصارمة على الخلفاء و مناظراته معهم، فإنّها تلقي الأضواء على ما يكنّه الإمام من أسى بالغ بسبب إبعاده عن المسرح السياسي، و حجبه عن الخلافة التي هي ظلّ اللّه في الأرض يحتمي بظلالها المظلومون و المضطهدون، و يفزع إليها البائسون و المحرومون.

و على أي حال فقد نجم عن إقصاء الإمام عن قيادة الامّة أن خسرت الإنسانية الطاقات الهائلة التي يملكها الإمام في ميادين الحكم و الإدارات و حقول التربية و السياسة، و غيرها من الوسائل التي تتطوّر بها الحياة العامّة.

و الشيء المؤكد أنّ المهاجرين في يثرب كانوا امتدادا للاسر القرشية في مكّة، و كانوا يمثّلون رغباتهم، و يحكون انطباعاتهم و ميولهم، و كانت معظم نفوس القرشيّين مترعة بالكراهية للإمام؛ لأنه أشاع في بيوتهم الثكل و الحزن و الحداد في سبيل الدعوة الإسلامية التي ناهضوها بجميع قدراتهم، و بالإضافة لذلك فإنّ نفوس القرشيّين قد طبعت على الأنانية و الحسد، و هي من عناصرهم و مقوّماتهم، و قد بدت هذه الظاهرة بصورة واضحة للبيت الهاشمي الذي لمع نجمه بسيّد الكائنات الرسول محمّد صلّى اللّه عليه و آله فقد ورمت منه انوفهم و تميّزوا غيظا منهم.

لقد ظهر حقد القرشيين على أهل بيت النبوة عليهم السّلام بصورة واضحة بعد انتقال النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى حظيرة القدس فقد رفعوا عقيرتهم بصورة محمومة بهذا الشعار المزيف:

ص:13

لا يجتمع سيفان بغمد واحد.

لا تجتمع النّبوّة و الخلافة في بيت واحد.

و حقّقوا ما أرادوه بالقوة و الحيلة و القهر، فأقصوا أهل البيت عن الخلافة، و قبضوا على الحكم بيد من حديد، و قد منيت الامّة من جراء ذلك بالأزمات الخطيرة و النكبات السود، و كان من أقسى الكوارث التي عاناها المسلمون استيلاء الأمويّين على الحكم، إمعانهم في الظلم و الاستبداد، و إرغام الناس على ما يكرهون، و من مساوئ حكمهم كارثة كربلاء التي انتهكت فيها حرمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله التي هي أولى بالرعاية و التكريم من كل شيء، فلم تمض على انتقاله إلى حظيرة القدس خمسون عاما و إذا برءوس أبنائه على الرماح يطاف بها الأقطار و الأمصار، و بنات الوحي و مخدّرات الرسالة سبايا من بلد إلى بلد يتصفّح وجوههنّ القريب و البعيد... هذا ما أرادته قريش لأهل بيت النبوة فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

و على أي حال فلنعد إلى ما نحن بصدده، و هو عرض احتجاجات الإمام عليه السّلام على الخلفاء، و هذه بعضها:

ص:14

احتجاجه على أبي بكر

اشارة

تقلّد أبو بكر الخلافة و استولى على أزمة الحكم و ذلك بجهود حزبه، و في طليعتهم مستشاره و وزيره عمر بن الخطّاب، فقد دفع الناس دفعا لمبايعته، و قد لعبت درّته في الميدان، و لولاه لما تمّت البيعة لأبي بكر، و قد تخلّف عن بيعة أبي بكر بنو هاشم، و أعلام الإسلام كعمّار بن ياسر و أبي ذرّ و الزبير و المقداد و غيرهم، كما تخلّف عن البيعة معظم أبناء الأوس و الخزرج الذين كانوا يشكّلون العمود الفقري للقوّات الإسلامية، فكانوا يرون أنّ الإمام عليه السّلام أحقّ و أولى بمركز الخلافة من غيره و ذلك لنص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليه، بالإضافة إلى مواهبه و عبقرياته و سائر ملكاته التي ترشّحه لقيادة الامّة.

و قد سارع أبو بكر إلى الإمام ليكسب رضاه، و يضفي الشرعية على حكومته قائلا:

يا أبا الحسن، و اللّه ما كان الأمر منّي و لا رغبة فيما وقعت عليه، و لا حرص عليه، و لا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامّة، و لا قوّة لي بمال، و لا كثرة بعشيرة، و لا استئثار به دون غيري، فما لك تضمر عليّ ما لم أستحقه منك، و تظهر لي الكراهة لما صرت فيه، و تنظر إليّ بعين الشنآن ؟ و استخدم أبو بكر في حديثه الأساليب السياسية، فأظهر زهده في الخلافة و عدم رغبته فيها، و انّه لم تتوفّر في شخصيّته المؤهّلات التي ترشّحه لقيادة الامّة...

ص:15

و ردّ الإمام عليه بمنطقه الفيّاض قائلا:

«فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه، و لا حرصت عليه، و لا وثقت بنفسك في القيام به...»؟ و حفل كلام الإمام بالرأي الأصيل، فإنّ أبا بكر إذا لم يكن راغبا في الخلافة و لا حريصا عليها فلما ذا تقلّدها؟

أجابه أبو بكر قائلا:

حديث سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه لا يجمع أمّتي على ضلال»، و لمّا رأيت إجماعهم اتّبعت قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و خفت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى، فأعطيتهم قود الإجابة، و لو علمت أنّ أحدا يتخلّف لامتنعت...

و معنى كلام أبي بكر أنّ الذي دعاه و حفّزه لأن يتقلّد الخلافة هو حديث النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد أجمعت الامّة على انتخابه و اختياره، فلم يجد سبيلا للتخلّف عن إجماعها.

و وجّه الإمام إليه السؤال الثاني قائلا:

«أمّا ما ذكرت من قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه لا يجمع أمّتي على ضلال، فكنت - و يعني نفسه الشريفة - من الامّة أم لم أكن ؟».

فأجاب أبو بكر: بلى.

و اندفع الإمام قائلا:

«و كذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان و عمّار و أبي ذرّ و المقداد و ابن عبادة و من معه من الأنصار...».

عرض الإمام إلى الكوكبة من صحابة النبي صلّى اللّه عليه و آله التي امتنعت من بيعة أبي بكر،

ص:16

و أنّهم من الامّة، و قد اعترف أبو بكر بذلك.

ثمّ وجّه الإمام له السؤال الثالث:

«كيف تحتجّ بحديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك ؟ و ليس للامّة فيهم طعن و لا في صحبة الرّسول لصحبته منهم تقصير...»؟ و فنّد الإمام كلام أبي بكر، و أقام الحجّة على مدّعاه.

و انبرى أبو بكر قائلا:

ما علمت بتخلّفهم إلاّ بعد إبرام الأمر، و خفت إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين، و كان ممارستهم إليّ إن أجبتهم أهون مئونة على الدين، و إبقاء له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعون كفارا، و علمت أنّك لست بدوني في الإبقاء عليهم و على أديانهم...

و التفت الإمام إلى أبي بكر قائلا:

«أجل، و لكن اخبرني عن الّذي يستحقّ هذا الأمر - يعني الخلافة - بما يستحقّه ؟».

جواب أبي بكر عمّن يستحق الخلافة: بالنصيحة، و الوفاء، و دفع المداهنة، و حسن السيرة، و إظهار العدل، و العمل بالكتاب و السنّة، و فصل الخطاب، مع الزهد في الدّنيا و قلّة الرغبة فيها، و انتصاف المظلوم من ظالمه للقريب و البعيد...

لقد أدلى أبو بكر بالصفات التي يجب أن تتوفّر فيمن يتصدّى للخلافة.

و أضاف الإمام إلى تلك الصفات صفات اخرى يجب أن يتّصف بها القائد العام للامّة قائلا:

«و السّابقة و القرابة».

ص:17

و أراد الإمام من السابقة: السبق للإسلام، و من القرابة: القرابة للرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هذان الشرطان متوفّران في الإمام دون غيره، فهو أوّل من آمن بالرسول صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّه أقرب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و أقرّه أبو بكر على ذلك.

و أخذ الإمام يدلي على أبي بكر ببعض صفاته التي لم تتوفّر عند غيره قائلا:

«أنشدك باللّه يا أبا بكر، أ في نفسك تجد هذه الخصال ؟».

أبو بكر: بل فيك يا أبا الحسن.

«فأنشدك باللّه، أنا المجيب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل ذكران المسلمين أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت...

«فأنشدك باللّه، أنا صاحب الأذان لأهل الموسم و الجمع الأعظم للامّة بسورة براءة أم أنت ؟».

عرض الإمام عليه السّلام إلى تبليغ سورة براءة لأهل مكّة التي عهد بها الرسول إلى أبي بكر، ثمّ نزل عليه الوحي بعزله، و إسناد هذه المهمّة إلى الإمام، و قد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض بحوث هذه الموسوعة.

أبو بكر: بل أنت.

«فأنشدك باللّه، أنا وقيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسي يوم الغار أم أنت ؟».

حكت هذه الكلمات ما قام به الإمام عليه السّلام في مبيته على فراش النبي صلّى اللّه عليه و آله حينما أحاطت قريش بدار النبي صلّى اللّه عليه و آله لقتله، و قد فداه الإمام بنفسه، و ليس لأحد من الاسرة النبوية أو الصحابة مثل هذه الكرامة التي اختصّ بها الإمام.

أبو بكر: بل أنت.

ص:18

«فأنشدك باللّه، ألي الولاية من اللّه مع رسوله في آية الزّكاة بالخاتم أم لك ؟».

ذكر الإمام عليه السّلام ما نزل في القرآن في حقّه حينما تصدّق بخاتمه على المسكين في صلاته و هي: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (1).

فقد حصرت الآية الولاية العامّة على المسلمين في اللّه و الرسول و الذين آمنوا و هو الإمام، و عبّرت الآية عنه بصيغة الجمع تعظيما و تكريما له.

أبو بكر: بل لك.

«فأنشدك باللّه، أبي برز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بأهلي و ولديّ في مباهلة المشركين أم بك ؟».

و ثمّة منقبة اخرى أدلى بها الإمام شاركته فيها سيّدة النساء و السبطان، و ذلك في مباهلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أهالي نجران، فإنّه لم يصحب معه للمباهلة صنو أبيه عمّه العباس، و لا المخدّرات من بني هاشم، و لا السيّدات من نسائه، و إنمّا اصطحب الإمام و زوجته و ابنيه، و قد ذكرنا تفصيل هذه الحادثة في بعض أجزاء هذه الموسوعة، و اعترف أبو بكر بذلك فقال:

بل فيكم.

«فأنشدك باللّه، ألي الوزارة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و المثل من هارون من موسى أم لك ؟».

عرض الإمام عليه السّلام لفضيلتين أضفاهما عليه النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هما:

ص:19


1- المائدة : ٥٥.

الاولى: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله اتّخذه وزيرا له، و قد صرّح بذلك في عدّة مناسبات ذكرنا مصادرها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

الثانية: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعل الإمام منه بمنزلة هارون من موسى، فقد قال له:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى...».

أبو بكر اعترف بذلك قائلا:

بل لك.

«فأنشدك باللّه، ألي و لأهلي و ولدي آية التّطهير من الرّجس أم لك و لأهل بيتك ؟».

أشار الإمام عليه السّلام إلى آية التطهير و هي: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1)، فقد نزلت فيه و في سيّدة النساء و سبطي الرحمة و إمامي الهدى عليهم السّلام، و قد ذكرنا في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة المصادر التي دلّت على ذلك.

أبو بكر: بل لك و لأهل بيتك - يعني آية التطهير -.

«فأنشدك باللّه، أنا صاحب دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهلي و ولديّ يوم الكساء: اللّهمّ هؤلاء أهلي إليك لا إلى النّار، أم أنت ؟».

عرض الإمام عليه السّلام إلى حديث الكساء الذي ضمّ الإمام و سيّدة نساء العالمين و السبطين الإمامين الحسن و الحسين عليهما السّلام، و الحديث يدلّ على عظم منزلة أهل البيت عليهم السّلام و سموّ مكانتهم عند اللّه و رسوله.

أبو بكر: بل أنت و أهلك و ولدك.

ص:20


1- الأحزاب : ٣٣.

«فأنشدك باللّه، أنا صاحب آية يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(1) أم أنت ؟».

أشار الإمام عليه السّلام إلى نذر الإمام و سيّدة النساء و جاريتها فضة حينما مرض الحسنان أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا للّه إن برئا من مرضهما، فأبلا من مرضهما فصاموا جميعا، و حين الإفطار طرق الباب مسكين يشكو الجوع فتبرّعوا بإفطارهم و لم يتناولوا شيئا سوى الماء القراح.

و في اليوم الثاني قبل الإفطار طرق الباب يتيم يشكو الجوع، فناولوه إفطارهم، و طووا ليلتهم جوعا.

و في اليوم الثالث طرق الباب أسير يستميحهم القوت، فناولوه إفطارهم، و قد ذابت أجسامهم و صاروا أشباحا، فلمّا رآهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فزع و انهارت قواه، فنزل عليه الوحي بسورة: هَلْ أَتى ... ، و فيها تقييم من اللّه تعالى لإيثارهم، و إشادة ببرّهم و إحسانهم، و قد أضفى عليهم و ساما خالدا خلود الدهر.

أبو بكر: بل أنت.

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي ردّت عليه الشّمس لوقت صلاته فصلاّها، ثمّ توارت أم أنا؟».

حديث ردّ الشمس على الإمام ذكرته الخاصّة و العامّة، و قد ذكر المحقّق الأميني رحمه اللّه كوكبة من المصادر التي ذكرت ذلك.

أبو بكر: بل أنت.

«فأنشدك باللّه، أنت الفتى الّذي نودي من السّماء: لا سيف إلاّ ذو الفقار،

ص:21


1- الإنسان : ٧.

و لا فتى إلاّ عليّ ، أم أنا؟».

نودي الإمام من السماء بهذا النداء في واقعة احد، و هو من الأوسمة الرفيعة التي تقلّدها.

أبو بكر: بل أنت.

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي حباك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برايته يوم خيبر ففتح اللّه له أم أنا؟».

قاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حملة عسكرية إلى فتح خيبر التي هي أهم حصن لليهود، و قد أسند قيادة جيشه إلى أبي بكر فرجع منهزما، ثمّ أسند القيادة إلى عمر فكان كصاحبه، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لاعطينّ غدا الرّاية رجلا يحبّه اللّه و رسوله، و يحبّ اللّه و رسوله يفتح اللّه على يديه»، فلمّا أصبح الصبح دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام عليّا، و كان يشتكي من عينيه، فسقاه بريقه فبرئ و سلّم الراية، و حمل على اليهود، ففتح اللّه على يده، و قد ذكرنا تفصيل القصة في بعض أجزاء هذه الموسوعة.

أبو بكر: بل أنت.

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي نفّست عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ودّ أم أنا؟».

عمرو بن عبد ودّ أعظم فارس في الجزيرة العربية، و قد برز في واقعة الخندق يطلب من المسلمين من يبارزه منهم، فلم يستجب له أحد و خيّم عليهم الخوف، فانبرى إليه بطل الإسلام الإمام عليه السّلام فأرداه صريعا يتخبّط بدمه، و كان لقتله الأثر الفعّال في هزيمة المشركين، و قتل هذا الجاهلي الخطير من الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام على الإسلام و المسلمين.

أبو بكر: بل أنت.

ص:22

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي طهّره اللّه من السّفاح من لدن آدم إلى أبيه بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خرجت أنا و أنت من نكاح لا من سفاح من لدن آدم إلى عبد المطّلب» أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

حكى حديث الإمام إلى ما نقله الرواة إلى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ابن عمّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام خرجوا من لدن آدم من نكاح غير سفاح (1).

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي اختارني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و زوّجني ابنته فاطمة عليها السّلام، و قال: اللّه زوّجك إيّاها في السّماء، أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

زواج الإمام من سيّدة نساء العالمين بأمر اللّه حديث متّفق عليه عند جميع الرواة.

«فأنشدك باللّه، أنا والد الحسن و الحسين سبطيه و ريحانتيه إذ يقول:

هما سيّدا شباب أهل الجنّة و أبوهما خير منهما، أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

امتاز الإمام عليه السّلام على بقيّة المسلمين بولديه السبطين ريحانتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن و الحسين عليهما السّلام.

«فأنشدك باللّه، أخوك المزيّن بالجناحين يطير في الجنّة مع الملائكة أم أخي ؟».

أبو بكر: بل أخوك.

ص:23


1- يراجع في ذلك ينابيع المودة : ١٦. كنز العمال ٦ : ١٠٠.

و من مزايا الإمام أنّ أخاه الشهيد العظيم جعفرا الطيّار الذي، استشهد في مؤتة دفاعا عن الإسلام، و وقف صامدا حتى قطعت يداه، و أصابته تسعون ضربة ما بين طعنة بالرمح و ضربة بالسيف، و قد أبدله اللّه تعالى عن يديه بجناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى مع الملائكة.

«فأنشدك باللّه، أنا ضمنت دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ناديت في المواسم بإنجاز موعده أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

أشار الإمام عليه السّلام بكلماته إلى حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه جمع الأقربين من اسرته، و قال لهم:

«من يضمن عنّي ديني و مواعدي يكن معي في الجنّة و يكن خليفتي في أهلي ؟».

فانبرى إليه الإمام و قال: «أنا يا رسول اللّه».

ذكر ذلك أحمد في مسنده، كما ذكره الثعلبي في تفسير قوله تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (1).

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي دعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الطّير عنده يريد أكله، يقول: اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليّ و إليك بعدي يأكل معي من هذا الطّير فلم يأته غيري، أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

حديث الطائر المشوي أجمع الرواة على نقله، و قد دلّ بوضوح على أنّ

ص:24


1- الشعراء : ٢١٤.

الإمام أحبّ الخلق إلى اللّه و إلى رسوله (1).

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي بشّرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال النّاكثين و القاسطين و المارقين على تأويل القرآن أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

ألمح الإمام في كلماته إلى حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حينما كان عند أمّ المؤمنين أمّ سلمة فجاء عليّ فقال لها:

«يا أمّ سلمة، هذا قاتل القاسطين و النّاكثين و المارقين من بعدي» (2).

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي دلّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعلم القضاء و فصل الخطاب بقوله: عليّ أقضاكم، أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

تظافرت الأخبار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال في أصحابه: «أقضاكم عليّ بن أبي طالب» (3).

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسّلام عليه بالإمرة في حياته أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

ألمح الإمام عليه السّلام إلى ما أمر به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يسلّموا على الإمام بإمرة المؤمنين.

«فأنشدك باللّه، أنا الّذي شهدت آخر كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وليت غسله

ص:25


1- يراجع في ذلك : اسد الغابة ٤ : ٣٠. مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٠ ، وغيرهما.
2- الرياض النضرة : ٣٢٠.
3- يراجع في ذلك : الاستيعاب ٢ : ٤٦١.

و دفنه أم أنت ؟».

أبو بكر: بل أنت.

كان الإمام عليه السّلام آخر الناس عهدا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو الذي تولّى غسله و دفنه (1).

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي سبقت له القرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

أمّا الإمام عليه السّلام فهو من ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقربهم إليه، فهو أخوه، و ابن عمّه، و ختنه على سيّدة نساء العالمين، و أبو سبطيه، و ليس لغيره هذه المنزلة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «فأنشدك باللّه، أنت الّذي حباك اللّه بالدّينار عند حاجته إليه، و باعك جبرئيل، و أضفت محمّدا فاطعمت ولده أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

ألمح الإمام عليه السّلام في كلامه إلى أنّ سيّدة نساء العالمين طلبت من الإمام عليه السّلام أن يخرج ليقترض لهم ما يسدّ رمقهم من الجوع، فخرج فلم يجد أحدا يستقرض منه إلاّ أنّه التقط دينارا فعرّف به فلم يجد له صاحبا، و عرضت عليه حبيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستقرضه، و متى جاء صاحبه أعطوه مكانه، فأخذ الإمام عليه السّلام الدينار و مضى إلى السوق فوجد رجلا يبيع الطعام فاشترى منه بدينار، إلاّ أنّ صاحب الطعام أبى أن يأخذ الدينار.

و في اليوم الثاني خرج الإمام إلى السوق ليشتري طعاما لهم فوجد الرجل

ص:26


1- يراجع في ذلك : مستدرك الحاكم ٣ : ١١١. ذخائر العقبى : ٧٢. الرياض النضرة ٢ : ٢٣٧.

الذي باعه الطعام قد عرض طعاما للبيع فاشترى منه، و ناوله الدينار فامتنع من أخذه.

و في اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فسارع الإمام عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عرض عليه الأمر فأخبره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ صاحب الطعام هو جبرئيل (1).

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي جعلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على كتفه في طرح صنم الكعبة و كسره حتّى لو شئت أن أنال افق السّماء لنلتها أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

عرض الإمام في حديثه إلى تحطيمه لأصنام قريش التي اتّخذتها آلهة يعبدونها من دون اللّه، و قد حطّمها الإمام عليه السّلام في فتح مكّة، و قضى على خرافات الجاهلية، و الحديث مستفيض ذكرته مصادر التأريخ و الحديث.

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي قال لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت صاحب لوائي في الدّنيا و الآخرة، أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

حكى الإمام عليه السّلام الحديث الوارد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، أنت صاحب لوائي في الدّنيا و الآخرة»، هذا الحديث متواتر مستفيض.

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي أمرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بفتح بابه في مسجده عند ما أمر بسدّ أبواب جميع أهل بيته و أصحابه، و أحلّ لك فيه ما أحلّ اللّه له، أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

ص:27


1- يراجع في ذلك : مناقب الخوارزمي : ٢٢٤.

عرض الإمام عليه السّلام إلى أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بسدّ جميع الأبواب التي كانت على المسجد إلاّ باب عليّ عليه السّلام فقد أبقاها، و كان ذلك تكريما للإمام عليه السّلام (1).

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي قدّمت بين يدي نجوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صدقة فناجيته إذ عاتب اللّه قوما فقال: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ...،(2) أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

من آداب الإمام عليه السّلام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه إذا أراد أن يناجيه قدّم صدقة ثمّ يناجيه، و لم يعمل مثل ذلك من الصحابة غيره (3).

«فأنشدك باللّه، أنت الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة: زوّجتك أوّل النّاس إيمانا، و أرجحهم إسلاما، في كلام له، أم أنا؟».

أبو بكر: بل أنت.

أشار عليه السّلام إلى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام حينما عرض عليها الزواج من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقال لها:

«أ ما ترضين أنّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاما، و أعلمهم علما...»(4).

«فأنشدك باللّه يا أبا بكر، أنت الّذي سلّمت عليه ملائكة سبع سماوات يوم القليب أم أنا؟».

ص:28


1- يراجع في ذلك : كنز العمال ٦ : ١٥٢. مستدرك الحاكم ٢ : ١٢٥. الرياض النضرة ٢ : ٢٥٣.
2- المجادلة : ١٣.
3- يراجع في ذلك : الرياض النضرة ٢ : ٢١٥.
4- يراجع في ذلك : كنز العمال ٦ : ١٥٣ وغيره.

أبو بكر: بل أنت.

عرض الإمام عليه السّلام إلى قيامه بسقي الماء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه في ليلة بدر، فقد طلب منهم ذلك فلم يستجب له أحد منهم سوى الإمام، فقد انبرى و معه قربة إلى بئر بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها، فأوحى اللّه إلى جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالقيام بنصرة رسوله، فهبطوا إلى الأرض، فلمّا حاذوا القليب وقفوا و سلّموا على الإمام إكراما و تبجيلا له (1).

موقف أبي بكر:

و وجم أبو بكر أمام هذه الحجج الحاسمة التي أدلى بها الإمام عليه السّلام، و التي تدلّ بوضوح على أنّ الإمام أحقّ بالأمر و أولى به من غيره، و قد سدّت على أبي بكر جميع النوافذ، فاستجاب لرأي الإمام إلاّ أنّ عمر صدّ أبا بكر عمّا عزم عليه من التخلّي عن منصبه (2).

لا أكاد أعرف مناظرة قائمة على العلم و الحقّ ، خالية عن الالتواء و الغلبة سوى هذه المناظرة المشفوعة بأوثق الحقائق، و التي وضعت النقاط على الحروف، و كان الأولى بأبي بكر أن يستجيب لها إلاّ أنّ صاحبه عمر و مستشاره صدّه عن ذلك.

ص:29


1- يراجع في ذلك : ذخائر العقبى : ٦٨ _ ٦٩. تذكرة الخواص : ٢٢٨.
2- الاحتجاج ١ : ١٥٧ _ ١٨٤.

احتجاجه على أبي بكر و حزبه

و لمّا اخذ الإمام عليه السّلام قسرا إلى الجامع النبوي ليبايع أبا بكر أحاط به حزب أبي بكر، و صاحوا به: بايع أبا بكر، فأجابهم الإمام بحجّته البالغة، و منطقه الفيّاض قائلا:

«أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا ابايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر - يعني الخلافة - من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تأخذونه منّا أهل البيت غصبا؟ أ لستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول اللّه فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الإمارة ؟ و أنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول اللّه حيّا و ميّتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، و إلاّ فبوءوا بالظّلم و أنتم تعلمون...»(1).

و سلك الإمام عليه السّلام بهذا الاحتجاج الصارم نفس الطريقة التي احتجّ بها المهاجرون على الأنصار من أنّهم أمسّ الناس رحما برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و به تغلّبوا على الأنصار و تسلّموا قيادة الحكم، و هذه الجهة قد توفرت في الإمام عليه السّلام على النحو

ص:30


1- الاحتجاج ١ : ٧٣.

الأكمل فهو ابن عم النبي و ختنه على بضعته سيدة نساء العالمين، و أبو سبطيه فهو أمسّ الناس رحما بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و أولى بمركزه و أحقّ بمقامه.

ص:31

مع عمر

و ثار ابن الخطّاب على الإمام بعد ما أدلى بحجّته، فقال له:

إنّك لست متروكا حتى تبايع....

فزجره الإمام و صاح به:

«احلب حلبا لك شطره، و اشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غدا».

و أوضح الإمام السبب في اندفاع ابن الخطاب و حماسه في بيعة أبي بكر انّه يرجو أن ترجع إليه الخلافة بعده.

ثمّ ثار الإمام في وجه عمر، و قال:

«و اللّه يا عمر لا أقبل قولك، و لا ابايعه...».

و خاف أبو بكر من تطوّر الأحداث، فأجاب الامام بناعم القول: إن لم تبايع فلا اكرهك عليه...

و خلّى أبو بكر سبيل الإمام، و لم يرغمه على البيعة له.

ص:32

احتجاج الإمام على المهاجرين

و احتجّ الإمام على المهاجرين باحتجاج صارم لأنهم وقفوا ضده، و حالوا بينه و بين حقه، فخاطبهم بأسى و لوعة قائلا:

«يا معشر المهاجرين و الأنصار، اللّه اللّه لا تخرجوا سلطان محمّد صلّى اللّه عليه و آله في العرب عن داره و قعر بيته إلى دوركم و قعر بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في النّاس و حقّه، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ النّاس به؛ لأنّا أهل البيت و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم، أ ما كان منّا القارئ لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه، المضطلع بأمر الرّعيّة، الدّافع عنهم الامور السّيّئة، القاسم بينهم بالسّويّة، و اللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا عن الحقّ بعدا...» (1).

و لو أنّ المهاجرين استجابوا لنداء الحق و آثروا الصالح العام لما عانت الامّة الأزمات الحادة، على امتداد التأريخ الإسلامي.

إنّ الحسد لآل البيت عليهم السّلام قد نخر قلوبهم و ألقاهم في شرّ عظيم، و باعد بينهم و بين دينهم.

لقد اقصوا الاسرة النبوية عن قيادة الامّة، و حالوا بينها و بين ما أراده اللّه

ص:33


1- الإمامة والسياسة ١ : ١١ _ ١٢. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ١١ _ ١٢.

و رسوله لها، فتركوهم في أرباض يثرب حتى انتهى المطاف إلى أن يتسلّم الأمويون مركز الحكم، و يستولوا على مقدرات الدولة فينفقوها على شهواتهم و ملاذهم، و يمعنوا في قتل قادة الإسلام أمثال حجر بن عدي و عمرو بن الحمق الخزاعي، و تعدّوا إلى ما هو أفظع من ذلك كلّه و هو إبادة العترة النبوية التي هي عديلة الذكر الحكيم حسبما نصّ عليه حديث الثقلين، و مجزرة كربلاء، و ما جرى على آل الرسول من الخطوب السود و النكبات القاسية ناجم عن تصرفات المهاجرين الذين هم الطلائع للاسر القرشية التي ناجزت الإسلام.

ص:34

الإمام مع أعضاء الشورى

اشارة

و أقام عمر بعد اغتياله نظام الشورى، و هو نظام هزيل لا يحمل أي طابع من الشورى الواقعية التي تمثّل جميع قطاعات الشعب، فقد حصرها في ستة أشخاص فكان معظمهم من الحاقدين على الإمام أمثال سعد بن أبي وقاص و طلحة و عثمان و عبد الرحمن بن عوف.

و حسب الدراسات العلمية التي لا تخضع للنزعات الطائفية إنّ الغرض من هذه الشورى اقصاء الإمام عن مركز الحكم، و تسليمه إلى عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية، و قد تكلّمنا عن هذه الشورى و حلّلنا أبعادها في بعض بحوث هذا الكتاب.

و على أي حال فإنا نعرض لاحتجاج الامام على أعضاء الشورى فقد قال لهم:

«لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم، و عائدة كرم. فاسمعوا قولي، وعوا منطقي؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف، و تخان فيه العهود، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة، و شيعة لأهل الجهالة»(1).

و كان الإمام عليه السّلام رائد حق و داعية هداية في احتجاجه، و لو انهم استجابوا له

ص:35


1- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ٣١.

و لم ينسابوا وراء شهوة الحكم لما واجه المسلمون الأزمات القاسية و الأحداث الرهيبة.

لقد تحقّق ما تنبّأ به الإمام، فلم تمض حفنة من السنين حتى انتضيت السيوف و تصارع القوم على الحكم، فكان بعضهم من أئمّة الضلال، و شيعة لأهل الجهالة و الضلال.

إذعان الإمام لمصلحة المسلمين:

و أعرب الإمام عليه السّلام حينما بويع عثمان عن إذعانه لمصلحة المسلمين، فقد خاطب أعضاء الشورى قائلا:

«لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها - أي الخلافة - من غيري؛ و و اللّه لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين؛ و لم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة، التماسا لأجر ذلك و فضله، و زهدا فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه»(1).

لقد كانوا على ثقة و إيمان انّ الإمام عليه السّلام أحقّ بالخلافة و أولى بالأمر من غيره، فهو حامي الإسلام، و المجاهد الأوّل، و أخو النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و صبر الإمام على سلب تراثه حفظا على كلمة الإسلام و وحدة المسلمين، و قد أدلى بذلك بقوله عليه السّلام.

«إنّ اللّه لمّا قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر و دفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافّة، فرأيت أنّ الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم، و النّاس حديثو عهد بالإسلام، و الدّين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، و يعكسه أقلّ خلق،

ص:36


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ١٦٦.

فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثمّ انتقلوا إلى دار الجزاء، و اللّه وليّ تمحيص سيّئاتهم، و العفو عن هفواتهم» (1).

و قد عزى الإمام سكوته عن أخذ حقه من الذين اغتصبوه إلى الحفاظ على كلمة المسلمين، و عدم اراقة دمائهم، خصوصا في تلك الظروف التي كان الإسلام في أوّل مراحله، و إثارة الفتنة توجب إعراض الناس عن الإسلام و اعتناق أديانهم التي كانوا يدينون بها.

كما تحدّث الإمام عمّا لحقه من ضيم و أذى من جراء ما اقترفه القوم تجاهه يقول عليه السّلام:

«فإنّه لمّا قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله قلنا: نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون النّاس، لا ينازعنا سلطانه أحد، و لا يطمع في حقّنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا، فصارت الإمرة لغيرنا، و صرنا سوقة؛ يطمع فينا الضّعيف، و يتعزّز علينا الذّليل، فبكت الأعين منّا لذلك، و خشنت الصّدور، و جزعت النّفوس، و أيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، و أن يعود الكفر و يبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه»(2).

و حكت هذه الكلمات الآلام المرهقة التي عانتها الاسرة النبوية من جرّاء اقصاء الخلافة عنهم، و تسلّم القرشيين لها الذين امعنوا في ظلمهم و اذلالهم.

ص:37


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٣٠٨.
2- المصدر السابق ١ : ٣٠٧.

احتجاج آخر للإمام

روى أبو الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا عليه السّلام يقول:

«بايع النّاس أبا بكر و أنا و اللّه أولى بالأمر منه و أحقّ به منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف، ثمّ بايع النّاس عمر و أنا و اللّه أولى بالأمر منه و أحقّ به منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذا لا أسمع و لا اطيع.

و إنّ عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في الصّلاح، و لا يعرفونه لي كلّنا فيه شرع سواء، و أيم اللّه لو أشاء أن أتكلّم ثمّ لا يستطيع عربيّهم و لا أعجميّهم و لا معاهد منهم و لا المشرك ردّ خصلة منها لفعلت» (1).

و أنت تري في هذه الكلمات مدى الصدعة و الأسى التي في نفس الإمام عليه السّلام من القوم الذين استهانوا بمكانته و عاملوه معاملة عادية، و تنكروا لجميع حقوقه، و قد امسك الإمام عن استعمال القوة في ارجاع حقه، و ذلك خوفا على ردة المسلمين، و انتكاس الدين، و ضياع الرسالة الإسلامية.

ص:38


1- فرائد السمطين ١ : ٣٢٠.

احتجاجاته

اشارة

على المتمرّدين

ص:39

ص:40

كانت بيعة الإمام عامة اشتركت فيها جميع قطاعات الشعب بما فيها القوات المسلّحة التي أطاحت بحكومة عثمان بن عفان، و قد باركتها الصحابة و باركها جميع المسلمين سوى الاسر القرشية التي ناهضت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانها أصيبت بذهول و وجوم، و تميّزت من الغيظ ، فقد خافت على مصالحها و ما كانت تتمتع به من السيطرة على جهاز الدولة و تسخير اقتصادها لمصالحهم، و هي على يقين لا يخامره شك أنّ الإمام عليه السّلام يتحرى بكل دقة مصالح الامّة، و يقيم فيها برامج السياسة الإسلامية الهادفة إلى نشر الرخاء و الأمن بين المسلمين، و ابعاد العناصر المشبوهة، و معاملتها معاملة عادية تتّسم بعدم التقدير و عدم الاستجابة لرغباتها و مصالحها.

إنّ الاسر القرشية تعرف الإمام عليه السّلام أنه لا يداهن أحدا في دينه و لا يصانع أي إنسان قريب أو بعيد، و أنه يبغي في جميع تصرفاته وجه اللّه تعالى و الدار الآخرة، فلذا أجمعت على مناجزته و وضع الحواجز و السدود أمام سياسته، و قبل أن نذكر بعض احتجاجاته معهم نعرض إلى ما يلي:

ص:41

ص:42

لوعة الإمام من القرشيّين

التاع الإمام عليه السّلام كأشد ما تكون اللوعة من القرشيين و بلغ به الحزن منهم أقصاه، فقد استبان له عداؤهم السافر له و حقدهم البالغ عليه، و قد ادلى عليه السّلام بعدة مناسبات بعميق ألمه و حزنه منهم، و لنستمع لبعضها:

1 -

قال عليه السّلام:

«اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش و من أعانهم؛ فإنّهم قد قطعوا رحمي و أكفئوا إنائي، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري، و قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، و في الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموما، أو مت متأسّفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد، و لا ذابّ و لا مساعد، إلاّ أهل بيتي؛ فضننت بهم عن المنيّة، فأغضيت على القذى، و جرعت ريقي على الشّجا، و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم، و آلم للقلب من و خز الشّفار» (1).

أ رأيتم مدى حزن الإمام و أساه من ظلم القرشيين و اعتدائهم عليه، فقد قطعوا رحمه، و نازعوه الخلافة التي هو أولى بها من غيره، و أجبروه على ما أرادوه، و لم يكن باستطاعة الإمام أن يناهضهم، فلم تكن عنده قوة و لم يكن يأوي إلى ركن شديد

ص:43


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١١ : ١٠٩.

لينتزع حقه منهم فصبر على ما في الصبر من قذى في العين، و شجى في الحلق.

2 -

قال عليه السّلام:

«اللّهمّ إنّي استعديك على قريش، فإنّهم أضمروا لرسولك صلّى اللّه عليه و آله ضروبا من الشّرّ و الغدر فعجزوا عنها و حلت بينهم و بينها، فكانت الوجبة بي و الدّائرة عليّ .

اللّهمّ احفظ حسنا و حسينا، و لا تمكّن فجرة قريش منهما ما دمت حيّا، فإذا توفّيتني فأنت الرّقيب عليهم، و أنت على كلّ شيء شهيد» (1).

حكت هذه الكلمات ما يلي:

أولا: عداء القرشيين للرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ما أضمروه له من ضروب الشر و الغدر إلاّ أنّ اللّه تعالى حال بينهم و بين ما دبروا و أضمروا للنبي صلّى اللّه عليه و آله من سوء و مكر فقد نصر نبيّه و أعزّ دينه.

ثانيا: أنّ دائرة القرشيين كانت على الإمام بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقد استوفوا منه ديونهم التي كانت لهم على النبي صلّى اللّه عليه و آله، و شفوا غيظ صدورهم منه فسلبوه حقه، و انتزعوا منه ولايته على المسلمين التي عقدها النبي له في غدير خم.

ثالثا: فإنّه أبدى مخاوفه على سبطي الرحمة و امامي الهدى الحسن و الحسين من القرشيين الذين كانوا يبغون الغوائل لذرية الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد تحقق ما كان يتخوف عليهما الإمام عليه السّلام فالسبط الأوّل الإمام ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، تجرّع أقسى الآلام من طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان فقد بالغ الطاغية في ظلم الإمام و الاعتداء عليه، و أخيرا دسّ إليه السم فقتله، و أمّا أخوه الإمام الحسين عليه السّلام

ص:44


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢٠ : ٢٩٨.

أبو الشهداء، فقد عمد يزيد بن معاوية الممثل الوحيد للأسر القرشية إلى السبط فأجهز عليه و على أهل بيته و أصحابه في أرض كربلاء، و رفع جيشه رءوسهم على أطراف الرماح و معها عقائل النبوة سبايا يطاف بهم في الأقطار و الأمصار، و قد اعلنوا فرحتهم الكبرى باستئصالهم لذرية النبي صلّى اللّه عليه و آله، و قد استوفوا بذلك ثارات بدر.

3 -

قال عليه السّلام:

«حتّى إذا قبض اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله، رجع قوم على الأعقاب، و غالتهم السّبل، و اتّكلوا على الولائج (1)، و وصلوا غير الرّحم، و هجروا السّبب (2) الّذي أمروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه. معادن كلّ خطيئة، و أبواب كلّ ضارب في غمرة. قد ماروا في الحيرة، و ذهلوا في السّكرة، على سنّة من آل فرعون: من منقطع إلى الدّنيا راكن، أو مفارق للدّين مباين»(3).

و حفل كلام الإمام عليه السّلام بما مني به المسلمون بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله من الانقلاب على الأعقاب الذي كان من مظاهره إبعاد الاسرة النبوية و إقصاؤها عن قيادة الامة، و تقليد الخلافة إلى غيرها، و قد وصفهم بالأوصاف التي ذكرها و التي هي واضحة الدلالة بيّنة المفاد، و من المؤكد أنه لم يقم بعملية الانقلاب إلاّ الاسرة القرشية الحاقدة على أهل البيت عليهم السّلام.

4 -

قال عليه السّلام:

«اللّهمّ فاجز قريشا عنّي الجوازي، فقد قطعت رحمي، و تظاهرت عليّ ،

ص:45


1- الولائج : جمع وليجة ، وهي البطانة التي يتّخذها الإنسان.
2- أراد بالسبب هم أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة الذين قرنهم الرسول بمحكم التنزيل.
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٩ : ١٣٢.

و دفعتني عن حقّي، و سلبتني سلطان ابن امّي، و سلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرّسول و سابقتي في الإسلام، إلاّ أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه، و لا أظنّ اللّه يعرفه، و الحمد للّه على كلّ حال» (1).

و يلمس في هذه الكلمات مدى لوعة الإمام عليه السّلام و أساه على ضياع حقه، و نهب تراثه الذي استأثرت به قريش.

5 -

قال عليه السّلام:

«اللّهمّ أخز قريشا فإنّها منعتني حقّي، و غصبتني أمري» (2).

6 -

قال عليه السّلام:

«فجزى قريشا عنّي الجوازي فإنّهم ظلموني حقّي و اغتصبوني سلطان ابن امّي» (3).

7 -

قال عليه السّلام:

«اللّهمّ إنّي استعديك على قريش فإنّهم ظلموني حقّي و غصبوني إرثي»(4).

و أعربت هذه الكلمات عما لاقاه الإمام عليه السّلام من الظلم و الاعتداء من القرشيين فقد اجمعوا على مناهضته و الحطّ من شأنه، و لنستمع بعد هذا إلى احتجاجاته على المتمردين على حكومته من القرشيين.

ص:46


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ١١٩.
2- نهج البلاغة : ٣٤٦.
3- المصدر السابق : ٣٣٦.
4- نهج البلاغة : ٣٤٦.

احتجاجاته على طلحة و الزبير

اشارة

بايع الزبير و طلحة الإمام عليه السّلام عن رضى لا إكراه فيه، و لمّا تمّ الأمر للإمام و أعلن منهجه في الحكم، و انه يسير على منهاج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يستأثر بشيء من أموال المسلمين، و إنما يحتاط فيها كأشد ما يكون الاحتياط ، و قد جرت بينه و بين طلحة و الزبير عدّة مناظرات كان منها ما يلي:

سارع طلحة و الزبير نحو الإمام، و هما يرفعان عقيرتهما قائلين: هل تدري علام بايعناك يا أمير المؤمنين ؟ فرمقهما الإمام بطرفه، و قال برنة المستريب منهما:

«نعم على السّمع و الطّاعة، و على ما بايعتم عليه أبا بكر و عمر و عثمان».

و كشفا عن نواياهما و أطماعهما قائلين: و لكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر...

ما ذا يعني الشيخان في الاشتراك في الأمر؟ هل يبغيان أن تسير الدولة في برامجها السياسية و الاقتصادية على ضوء الكتاب و السّنّة، و يكونا عونا للإمام على تحقيق هذه الغاية النبيلة ؟ هل الاشتراك في الأمر معناه بذل الجهود لسير البلاد قدما في تطورها

ص:47

الاقتصادي و تنمية دخل الفرد و نشر الرخاء بين المواطنين و اشاعة العلم بين الناس ؟ كل ذلك لم يفكّر فيه طلحة و الزبير، و إنّما المقصود هو الاستيلاء على مقدّرات الدولة و أجهزة الحكم، و الاستيلاء على ثروات الامّة، و اخضاعها لرغباتهما و شهواتهما.

و لم تخف على الإمام أطماعهما فردّ عليهما قائلا:

«و لكنّكما شريكان في القول و الاستقامة و العون على العجز و الأود...».

إنّ الذي يفهمه الإمام من مشاركتهما له المشاركة على الاستقامة و عدم الانحراف عن الخط الإسلامي الذي يعنى قبل كلّ شيء بإسعاد المجتمع، و نفي الحاجة و البؤس، و توزيع خيرات اللّه تعالى على الجميع.

و هذا المنطق لا يفهمه طلحة و لا يعيه الزبير، انّ الذي يعنيهما قبل كلّ شيء الاستيلاء على خيرات الامّة و مقدراتها الاقتصادية.

و لمّا استبان للشيخين ضياع أملهما، و عدم فوزهما بتحقيق آمالهما انطلقا صوب الإمام يطلبان الإذن لهما في الخروج من يثرب ليعلنا التمرّد على حكومة الإمام فقالا له: ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

«إلى أين ؟».

نريد العمرة.

فرمقهما الإمام بطرفه، و قد عرف خفايا نفوسهما، و ما انطوت عليه قلوبهما من الشر، قائلا لهما برنة المستريب:

«و اللّه ما العمرة تريدان!! بل الغدرة و نكث البيعة»! و لم يخف على الإمام ما انطوت عليه نفوسهما من الشر و الغدر و المكيدة

ص:48

و أخذا يقسمان باللّه و يحلفان بالأيمان المغلظة انهما يخرجان للعمرة و التفت إليهما الإمام و نفسه مترعة بالريبة منهما فطلب منهما إعادة البيعة له ثانيا ففعلا دون تردّد، و مضيا منهزمين إلى مكّة، و كأنه قد اتيح لهما الخلاص من السجن فلحقا بعائشة، فجعلا يحثّانها على الثورة على حكومة الإمام، و قد كانا يعلمان بكراهيتها للإمام.

مع عائشة:

و فزعت عائشة حينما علمت أنّ الإمام عليه السّلام قد تقلّد زمام الحكم، و آلت إليه زعامة الامّة، فأعلنت العصيان و التمرّد، و رفعت عقيرتها مطالبة بدم عثمان بن عفّان، و قد كانت من أقوى العناصر التي نادت بسفك دمه، فقد أفتت بكفره و مروقه من الدين ثمّ هى الآن تطالب بدمه، و هل هي وليّة دمه حتى يباح لها ذلك ؟ و هل هي وليّة أمر المسلمين حتى تطالب بدمه ؟ أسئلة لا جواب لها فيما نعلم.

و على أي حال فقد رفعت علم الثورة على حكومة الإمام و راحت تستنهض المسلمين للإطاحة بحكومته، و قد استجاب لها الغوغاء الذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت، فقد شكّلت منهم جيشا أمدّه الأمويّون بجميع المعدّات الحربية و ما يحتاجون إليه، و قد أنفقوا عليه أموالا هائلة كانت ممّا نهبوه من أموال المسلمين حينما كانوا ولاة من قبل عثمان بن عفّان، و قد عرضنا لذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب.

و قد احتلّت عائشة البصرة، و حينما علم الإمام بذلك زحف بجيوشه للقضاء على هذا التمرّد، و قبل أن تندلع نار الحرب بعث الإمام إليها عبيد اللّه بن عبّاس و زيد ابن صوحان يدعوها إلى حقن دماء المسلمين، و قال لهما قولا لها:

«إنّ اللّه أمرك أن تقرّي في بيتك و أن لا تخرجي منه، و إنّك لتعلمين ذلك، غير أنّ جماعة قد أغروك فخرجت من بيتك، فوقع النّاس

ص:49

- لاتّفاقك معهم - في البلاء و العناء، و خير لك أن تعودي إلى بيتك، و لا تحومي حول الخصام و القتال، و إن لم تعودي و لم تطفئي هذه النّائرة فإنّها سوف تعقب القتال، و يقتل فيها خلق كثير، فاتّقي اللّه يا عائشة و توبي إلى اللّه فإنّ اللّه يقبل التّوبة من عباده و يعفو، و إيّاك أن يدفعك حبّ عبد اللّه بن الزّبير و قرابة طلحة إلى أمر تعقبه النّار».

و لو أنّها وعت هذه النصيحة، و استجابت لنداء الحق لجنّبت الامّة الكثير من المآسي و الخطوب إلاّ انها جعلت ذلك دبر اذنيها، و قالت للرسولين: إني لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام لأني لا أبلغه بالحجاج (1). و لم ترد على الإمام بالكلام، و انما ردّت عليه بالسيوف و الرماح و أبت أن تذعن لنداء الحق.

مع طلحة و الزبير:

و أقام الإمام عليه السّلام الحجّة على طلحة و الزبير، فقد بعث إليهما برسالة يدعوهما إلى الوئام، و جمع كلمة المسلمين، و هذا نصها:

«أما بعد: فقد علمتما - و إن كتمتما - أنّي لم ارد النّاس حتّى أرادوني، و لم ابايعهم حتّى بايعوني، و إنّكما ممّن أرادني و بايعني، و انّ العامّة لم تبايعني لسلطان غالب، و لا لعرض حاضر، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا و توبا إلى اللّه من قريب، و إن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السّبيل باظهاركما الطّاعة و إسراركما المعصية، و لعمري ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالتّقيّة و الكتمان، و أنّ دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد

ص:50


1- حياة الإمام الحسن علیه السلام ١ : ٤٤٣ ، نقلا عن تاريخ ابن أعثم.

إقراركما به، و قد زعمتما أنّي قتلت عثمان فبيني و بينكما من تخلّف عنّي و عنكما من أهل المدينة ثمّ يلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل، فارجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما، فإنّ الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار و النّار» (1).

لقد ألقيا الفتنة بين المسلمين، و جرّا للعالم الإسلامي الويل و الدمار، و قاتل اللّه الطمع و الحسد، فقد ألقياهما في شر عظيم، و حمّلاهما المسئولية أمام اللّه تعالى.

و قد ألمحنا إلى تفصيل هذه الأحداث المروعة في بعض أجزاء هذه الموسوعة، فلا نطيل البحث عنها.

ص:51


1- نهج البلاغة ٣ : ١٢٢.

مع معاوية

اشارة

و أعلن معاوية التمرّد على حكومة الإمام، و رفض البيعة و الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فقد رأى له قوة تمكّنه من مناجزة الإمام؛ و ذلك لما له من النفوذ و المكانة في بلاد الشام فانّه لم يعمل فيها عمل وال، و إنمّا عمل فيها عمل صاحب الدولة الذي يؤسسها، فقد أمدّه عمر و عثمان بجميع مقومات البقاء و القوة، و يعترف معاوية بصراحة أنّه لو لا أبو بكر و عمر لما نازع الإمام، فقد أعلن ذلك في رسالته إلى محمّد بن أبي بكر جاء فيها:

كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه - يعني عليا - حقّه، و خالفاه على أمره، على ذلك اتّفقا و اتّسقا، ثمّ دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما و تلكأ عليهما فهمّا به الهموم، و أرادا به العظيم - يعني قتله -، ثمّ انّه بايع لهما و سلم لهما، و أقاما لا يشاركانه في أمرهما، و لا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه.

و أضاف قائلا:

فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به و نحن شركاؤه، و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب و لسلمنا له، و لكن رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا و أخذنا بمثله (1).

ص:52


1- المسعودي على هامش ابن الأثير ٦ : ٧٨ _ ٧٩.

فمن المؤكد الذي لا ريب فيه أنّه لو لا منازعة الشيخين للإمام و ابتزازهما لحقّه لما استطاع معاوية منازعته، و لقبع في زوايا الخمول هو و اسرته.

و على أي حال فان من مهازل الزمن أن ينبري معاوية إلى مناهضة عملاق الفكر الإنساني، و باب مدينة علم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يعلن العصيان المسلّح عليه.

إيفاد جرير إلى معاوية:

رأى الإمام عليه السّلام أن يقيم الحجّة على معاوية، و يدعوه إلى الطاعة و الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فبعث إليه جرير بن عبد اللّه البجلي و زوّده بهذه الرسالة:

«أمّا بعد.. فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشّام؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشّاهد أن يختار، و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشّورى للمهاجرين و الأنصار، إذا اجتمعوا على رجل، فسمّوه إماما كان ذلك للّه رضا، و إن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين و ولاّه اللّه ما تولّى، و يصليه جهنّم و ساءت مصيرا.

و إنّ طلحة و الزّبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي، فكان نقضهما كردّتهما، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ ، و ظهر أمر اللّه و هم كارهون.

فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإنّ أحبّ الامور إليّ فيك العافية، إلاّ أن تتعرّض للبلاء، فإن تعرّضت له قاتلتك و استعنت باللّه عليك.

ص:53

و قد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه النّاس، ثمّ حاكم القوم إليّ - يعني الذين قتلوا عثمان، أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه، فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصّبيّ عن اللّبن. و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان، و قد أرسلت إليك جرير بن عبد اللّه البجليّ ، و هو من أهل الإيمان و الهجرة، فبايع، و لا قوّة إلاّ باللّه»(1).

و أعرب الإمام الممتحن في رسالته عن شمول بيعته التي لم يظفر بمثلها أحد من الذين سبقوه، فقد بايعه الأنصار و المهاجرون، و بايعته الأقطار الإسلامية، و بايعه طلحة و الزبير إلاّ انهما نكثا بيعته لغير سبب إسلامي، فقد دفعتهما الأطماع و الحسد للإمام إلى ذلك.

و قد دعا الإمام عليه السّلام معاوية إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون و أن لا يخلع يد الطاعة، و يفارق الجماعة الإسلامية كما أعرب الإمام عن براءته من دم عثمان الذي اتّخذه معاوية وسيلة لإعلان التمرّد، و الخروج عن طاعة الإمام، و أعلن الإمام أنّ معاوية لا يصلح للخلافة و لا لأي منصب من مناصب الدولة لأنه من الطلقاء الذين ناجزوا الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

و لم يستجب معاوية لنداء الحق، و راح في غيه مناجزا للإمام، و معلنا للتمرّد على حكومته، فردّ جرير البجلي، و حمّله رسالة الحرب للإمام.

احتجاجه على معاوية:

من أروع ما احتجّ به الإمام عليه السّلام على معاوية هذا الاحتجاج الذي كان جوابا

ص:54


1- العقد الفريد ٢ : ٢٣٣. الإمامة والسياسة ١ : ٧١. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٣ : ٣٠٠.

لرسالة معاوية له، و لنقرأه بإمعان:

«أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله لدينه، و تأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه؛ فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا؛ إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللّه تعالى عندنا، و نعمته علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر (1)، أو داعي مسدّده إلى النّضال.

و زعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان و فلان (2)، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه، و إن نقص لم يلحقك ثلمه.

و ما أنت و الفاضل و المفضول، و السّائس و المسوس! و ما للطّلقاء و أبناء الطّلقاء، و التّمييز بين المهاجرين الأوّلين، و ترتيب درجاتهم، و تعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! أ لا تربع أيّها الإنسان على ظلعك (3)، و تعرف قصور ذرعك، و تتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب، و لا ظفر الظّافر!».

حكى هذا المقطع من كلام الإمام عليه السّلام استهانته بمعاوية و ازدراءه له و أنه لا حقّ له و لا مكانة له في التمييز بين المهاجرين من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله، فان كان لهم الفضل فهو لغيره و لا يلحقه و ان كان فيهم ثلمة و نقص فلا تلتصق به لأنه من الطلقاء الذين لا يحق لهم التدخل في شئون المسلمين...

و يستمر الإمام في رسالته الذهبية قائلا:

ص:55


1- هجر : مدينة باليمن كثيرة النخيل ، وقيل مدينة بالبحرين.
2- فلان وفلان : يعني بهما الشيخين أبا بكر وعمر.
3- أربع على ظلعك : أي قف عند حدّك ، واعرف قدرك.

«و إنّك لذهّاب في التّيه (1)، روّاغ عن القصد، أ لا ترى - غير مخبر لك».

تحدث الإمام عليه السّلام بهذه الكلمات عن نفسية معاوية، و انه لذهاب في التّيه أي الضلال، فقد كان من عناصره و مقوماته، كما كان رواغا عن القصد أي الاعتدال، فلم يستقم إلاّ على الباطل.

و أضاف الإمام قائلا:

«و لكن بنعمة اللّه احدّث - أنّ قوما استشهدوا في سبيل اللّه تعالى من المهاجرين و الأنصار، و لكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء، و خصّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه! أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل اللّه و لكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم، قيل الطّيّار في الجنّة و ذو الجناحين! و لو لا ما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين، و لا تمجّها آذان السّامعين.

فدع عنك من مالت به الرّميّة، فإنّا صنائع ربّنا، و النّاس بعد صنائع لنا (2)لم يمنعنا قديم عزّنا و لا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا؛ فنكحنا و أنكحنا، فعل الأكفاء، و لستم هناك! و أنّى يكون ذلك كذلك و منّا النّبيّ و منكم المكذّب - و هو أبو جهل.

ص:56


1- التيه : الضلال.
2- لعلّ المراد من قوله علیه السلام : « فإنّا صنائع ربّنا ، والنّاس بعد صنائع لنا » أنّ الله خصّهم بالهداية فبعث منهم رسوله العظيم ، وهو وأهل بيته مصادر الهداية والرشاد للخلق ، فهم بهذا صنائع الله لأنهم خصهم بالنبوة ، والناس صنائع لهم لأنّ هدايتهم كانت بسببهم.

و منّا أسد اللّه و منكم أسد الأحلاف - و هو أبو سفيان.

و منّا سيّدا شباب أهل الجنّة و منكم صبية النّار - و هم صبية الأمويّين.

و منّا خير نساء العالمين - و هي زهراء الرسول -، و منكم حمّالة الحطب - و هي أمّ جميل عمة معاوية -، في كثير ممّا لنا و عليكم!».

عرض الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى مآثر الاسرة النبوية، و ما خصّها اللّه بها من الفضائل التي جعلتهم في قمة الفضيلة، فقد جعل منهم قادة الأنام و عمالقة الإسلام كما جعل من خصومهم الأمويين و القرشيين أئمة الضلال و دعاة الكفر و الإلحاد.

و يستمر الإمام في رسالته:

«فإسلامنا قد سمع، و جاهليّتنا لا تدفع (1)، و كتاب اللّه يجمع لنا ما شذّ عنّا، و هو قوله سبحانه و تعالى: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ ، (2)، و قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ، (3)، فنحن مرّة أولى بالقرابة، و تارة أولى بالطّاعة.

و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم...».

ص:57


1- أراد علیه السلام أن شرف اسرته في الجاهلية لا ينكر.
2- الأنفال : ٧٥.
3- آل عمران : ٦٨.

عرض الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى سمو مكانته، و عظيم منزلته و ذلك لقربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو ابن عمه و أبو سبطيه، و ليس لغيره من قريب أو بعيد هذه المنزلة، ثمّ ذكر عليه السّلام احتجاج المهاجرين على الأنصار بأنّهم ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذه الجهة التي احتجوا بها و تغلبوا على الأنصار موجودة في أهل البيت عليهم السّلام على النحو الأكمل فلم لا يأخذ بها المهاجرون، و يرجعون الخلافة إلى مركزها الذي عينه الرسول ؟

و يأخذ الإمام في احتجاجه:

«و زعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت، و على كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك.

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و قلت: إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش(1)،حتى أبايع؛ و لعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت، و أن تفضح فافتضحت! و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه، و لا مرتابا بيقينه! و هذه حجّتى إلى غيرك قصدها، و لكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها».

عرض الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى رده على معاوية الذي اتهمه بحسده للخلفاء، و يقصد معاوية موقف الإمام عليه السّلام من بيعة أبي بكر فقد رفضها، و تخلف عنها، فاتخذ معه أبو بكر جميع الإجراءات الصارمة التي منها هجوم شرطته بقيادة عمر على دار الإمام، و حمله مقادا إلى أبي بكر، بصورة مروعة و قد عيّره معاوية بذلك فردّ عليه الإمام بانه لا غضاضة و لا منقصة عليه في أن يكون مظلوما غير شاك في دينه، و لا مرتابا بيقينه،

و يستمر الإمام الممتحن في رسالته و احتجاجه

ص:58


1- الجمل المخشوش : هو الذي يجعل في أنفه خشبة ليقاد.

على معاوية قائلا:

«ثمّ ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيّنا كان أعدى له، و أهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده و استكفّه، أم من استنصره فتراخى عنه و بثّ المنون إليه، حتّى أتى قدره عليه.

كلاّ و اللّه قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً(1).

و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا؛ فإن كان الذّنب إليه إرشادي و هدايتي له؛ فربّ ملوم لا ذنب له.

و قد يستفيد الظّنّة المتنصّح و ما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه أنيب».

عرض الإمام عليه السّلام في هذا المقطع إلى موقفه من عثمان، و ان معاوية جدير بالإجابة؛ لأنه من اسرته و إن كان ليس من أولياء دمه، و أعرب الإمام انه بريء من دم عثمان، و لا علاقة له في ذلك، و إنّما المسئول عن دمه معاوية فقد استنجد به عثمان، فلم يهب لنجدته، و كانت جيوش معاوية قريبة من يثرب فلم يسمح لها بنجدته حتى أجهز عليه، و كان الإمام عليه السّلام يأمر عثمان بالاستقامة في سياسته و سلوكه إلاّ انه استجاب لآراء مروان الذي كان مسيطرا على جميع شئونه، فأوقعه في الفخ الذي نصبه الأمويون له ليتخذوا من مصرعه ورقة إلى تنفيذ أغراضهم...

ص:59


1- الأحزاب : ١٨.

و على أي حال فقد أخذ الإمام في رسالته في الاحتجاج على معاوية قائلا:

«و ذكرت أنّه ليس لي و لأصحابي عندك إلاّ السّيف، فلقد أضحكت بعد استعبار (1)،! متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، و بالسّيف مخوّفين ؟!

فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل (2)،

فسيطلبك من تطلب، و يقرب منك ما تستبعد، و أنا مرقل (3)، نحوك في جحفل من المهاجرين و الأنصار، و التّابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم (4)،، متسربلين سرابيل الموت (5)،؛ أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم، و قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة، و سيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدّك و أهلك و ما هي من الظّالمين ببعيد» (6).

عرض الإمام في هذا المقطع الأخير من رسالته إلى تهديد معاوية للإمام بالسلاح و القوى العسكرية التي يملكها فردّ عليه الإمام ساخرا و مستهزئا، و انه و الاسرة الهاشمية لا يرهبهم الموت، و لا تخيفهم قوة العدو، و انهم على استعداد

ص:60


1- الاستعبار : البكاء.
2- لبث قليلا يلحق الهيجا حمل ، هو شطر من بيت قاله بدر بن قشير لمّا اغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها وقال : لبث قليلا يلحق الهيجا حمل لا بأس بالموت اذا الموت نزل
3- مرقل نحوك : أي مسرع.
4- القتام : الغبار.
5- متسربلين : أي لابسين.
6- صبح الأعشى ١ : ٢٢٩. نهاية الأدب ٧ : ٢٣٣. نهج البلاغة ٢ : ٢١.

كامل لمناهضته يصحبهم المهاجرون و الأنصار و التابعون لهم باحسان و انهم جميعا في شوق لملاقاة ربهم و الشهادة في سبيله.

و كانت هذه الرسالة خاتمة الرسائل التي دارت بينه و بين معاوية، و أعقبت بعد ذلك استعداد الفريقين للحرب، و قد ذكرنا عرضا لذلك في بعض أجزاء الكتاب.

ص:61

مع الخوارج

اشارة

و بعد ما أحرز الإمام عليه السّلام النصر الحاسم على خصمه الجاهلي معاوية و بات الاستيلاء عليه قاب قوسين أو أدنى، مني الإمام عليه السّلام بانقلاب عسكري، فقد رفع جيش معاوية المصاحف الكريمة على الرماح و دعوا إلى المحاكمة على ضوئها فانخدع جيش الإمام بذلك و أصروا على الاستجابة لهم، و كان بعض أفراد القيادة العامة في معسكر الإمام على اتصال بمعاوية و اتفاق معه على ذلك، و وقعت الفتنة في جيش الإمام، و رفعت الأصوات بضرورة إيقاف القتال، و إلاّ ناجزوا الإمام و قتلوه.

و كان على رأس القائلين بالتحكيم المنافق الأشعث بن قيس، و من يتصل به من عملاء معاوية، فراحوا يجوبون في معسكر الإمام و ينادون بضرورة التحكيم.

احتجاج الإمام عليهم:

و اندفع الإمام عليه السّلام لإبطال مزاعم معاوية و اتباعه قائلا لأصحابه:

«و يحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب اللّه، و أوّل من أجاب إليه، و ليس يحلّ لي و لا يسعني في ديني أن ادعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله، إنّي إنّما اقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم، و نقضوا عهده و نبذوا كتابه، و لكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، و أنّهم ليسوا

ص:62

العمل بالقرآن يريدون...»(1).

لقد أوضح الإمام لجيشه زيف ما دعوا إليه، و انه انما قاتل معاوية من أجل العمل بالقرآن، و تطبيق أحكامه، و انهم انما رفعوا المصاحف للكيد بهم و تضليلهم، و ليس لهم أية صلة بالقرآن، و لا يدينون بما فيه.

مناظرة الإمام معهم:

و بعد ما أرغم على قبول التحكيم، و على انتخاب أبي موسى الأشعري ممثلا عن العراقيين، و عزله للإمام، انحاز الخوارج و هم ينادون بشعارهم «لا حكم إلاّ للّه» فبعث الإمام إليهم عبد اللّه بن عباس فحاججهم و ابطل شبههم، فلم تغن حججه و منطقه الفياض معهم شيئا.

فانبرى إليهم الإمام عليه السّلام فقال لهم:

«هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، و من نطف فيه أو عنت فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا».

ثم قال لهم:

«من زعيمكم ؟».

فهتفوا جميعا: ابن الكواء.

فوجه إليه كلامه و شاركهم فيه قائلا:

«ما أخرجكم علينا؟».

حكومتكم يوم صفين.

«نشدتكم باللّه أ تعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبهم

ص:63


1- حياة الإمام الحسن علیه السلام ١ : ٥١١.

إلى كتاب اللّه، قلت لكم: إنّي أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن، إنّي صحبتهم، و عرفتهم أطفالا و رجالا، فكانوا شرّ رجال و شرّ أطفال، امضوا على حقّكم و صدقكم إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة و و هنا و مكيدة، فرددتم عليّ رأيي.

و قلتم: لا، بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم و معصيتكم إيّاي، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحياه القرآن و أن يميتا ما أماته القرآن، فإن حكما بحكم القرآن، فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب، و إن أبيا فنحن من حكمهما برآء»(1).

و قد دحضت هذه المحاججة أوهام الخوارج، و أظهرت زيف ما يذهبون إليه، و هم يتحملون المسئولية الكبرى فيما آلت إليه امور المسلمين، فهم الذين أرغموا الإمام على قبول التحكيم، و هم الذين فرضوا عليه أبا موسى الأشعري ممثلا عنهم في التحكيم فأي مسئولية بعد هذا تقع على الإمام عليه السّلام ؟

مناظرة اخرى للإمام معهم:

و بعد أن فشلت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام لإقناع الخوارج فقد أشاعوا الفساد و التمرّد و الرعب بين المسلمين، فلم يجد الإمام عليه السّلام طريقا لإعادة الأمن و الاستقرار إلاّ فتح باب الحرب معهم، و قد وجّه إليهم خطابا مشفوعا بالنصح و الإرشاد لهم قائلا:

«أيّتها العصابة! إنّي نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الامّة غدا، و أنتم

ص:64


1- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٢ : ٢٨٩ _ ٢٩٠.

صرعى بإزاء هذا النّهر بغير برهان و لا سنّة، أ لم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة، و أخبرتكم أنّ طلب القوم لها مكيدة، و أنبأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن، و أنّي أعرف بهم منكم، و قد عرفتهم أطفالا، و عرفتهم رجالا، فهم شرّ رجال و شرّ أطفال، و هم أهل المكر و الغدر، و أنّكم إن فارقتموني و رأيي جانبتم الخير و الحزم، فعصيتمونى و أكرهتموني حتّى حكّمت، فلمّا أن فعلت شرطت و استوثقت، و أخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، و أن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، و خالفا حكم الكتاب و السّنّة و عملا بالهوى، فنبذنا أمرهم، و نحن على أمرنا الأوّل، فما نبؤكم و من أين اتيتم...».

و حكى هذا الاحتجاج إكراه الخوارج للإمام على التحكيم، و انه رفضه و لكنهم أصرّوا عليه، و ان الإمام عليه السّلام لم يوافق عليه إلاّ بعد أن اشترط على الحكمين أن يحكما بما وافق الكتاب و السنة، و لمّا لم يحكما بذلك كان حكمهما مرفوضا إلاّ انّ الخوارج لم يعوا كلام الإمام فردوا عليه قائلين:

إنّا حيث حكّمنا الرجلين أخطأنا بذلك، و كنّا كافرين، و قد تبنا من ذلك، فإن شهدت على نفسك بالكفر و تبت كما تبنا فنحن معك و إلاّ فاعتزلنا، و إن أبيت فنحن منابذوك على سواء.

فأنكر الإمام مقالتهم و قال:

«أبعد إيماني باللّه، و هجرتي و جهادي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبوء و أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين.

و يحكم! بم استحللتم قتالنا، و الخروج من جماعتنا؟ أ أن اختار النّاس رجلين، فقالوا لهما: انظرا بالحقّ فيما يصلح العامّة

ص:65

ليعزل رجل و يوضع آخر مكانه، أحلّ لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم، تضربون بها هامات النّاس، و تسفكون دماءهم ؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين» (1).

و لم تجد معهم هذه الحجج الناصعة التي أقامها الإمام عليهم فقد أصروا على الغي و العدوان، و قد اترعت نفوسهم بالجهل و الغباء، فشهروا سيوفهم، فقاتلهم أصحاب الإمام، فقتلوا عن آخرهم و لم يفلت منهم إلاّ تسعة (2)،، و قد أوضحنا ذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب، و بهذا نطوي الحديث عن احتجاج الإمام و مناظراته مع المتمردين على حكومته.

1

ص:66


1- الإمامة والسياسة ١ : ١٥٥.
2- الملل والنحل ١ : ١٥٩.

مناظرته

اشارة

مع النّصارى

ص:67

ص:68

لمّا انتشر الإسلام في أنحاء الجزيرة، و عمّت فتوحاته الكثير من مناطق الشرق العربي خفّت جمهرة من علماء النصارى في وفود متعددة إلى يثرب للتعرف على الدين الإسلامي، و معرفة خليفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و معهم كوكبة من المسائل المعقّدة التي يشبه بعضها الألغاز أعدوها لامتحانه، فان اهتدى لحلها آمنوا بالإسلام و إلاّ بقوا على دينهم، فقد اعتقدوا أنّ أوصياء الأنبياء قد وهبهم اللّه طاقات من العلم لا تصعب عليهم أية مسألة مهما كانت معقّدة.

و قد عرضت تلك الوفود مسائلهم على الخلفاء فلم يهتدوا للجواب عنها، و فزع بعض الصحابة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و أحاطه علما بالأمر فسارع الإمام إلى الجامع و التقى بهم، و أجابهم عن مسائلهم، فآمنوا بالإسلام، و اهتدوا لاعتناقه و ايقنوا أنّ الإمام عليه السّلام خليفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ولي عهده.

و نعرض إلى طائفة من تلك المسائل التي سئل الخلفاء عنها، و عجزوا عن حلها و أجاب عنها الإمام عليه السّلام:

ص:69

ص:70

أسئلة الجاثليق

وفد إلى المدينة جماعة من النصارى يتقدمهم الجاثليق و هو من علمائهم النابهين، و كان قدومهم بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و تقلّد أبي بكر للخلافة، فقال له الجاثليق: إنّا وجدنا في الإنجيل رسولا يخرج بعد عيسى، و قد بلغنا خروج محمد بن عبد اللّه، يذكر أنه ذلك الرسول، ففزعنا إلى ملكنا، فجمع وجوه قومنا، و انفذنا - أي الملك - في التماس الحق... و قد فاتنا نبيكم محمد، و فيما قرأناه من كتبنا أنّ الأنبياء لا يخرجون إلاّ بعد إقامة أوصياء لهم يخلفونهم في أممهم يقتبس منهم الضياء فيما أشكل، فأنت أيّها الأمير وصيه لنسألك عما نحتاج إليه ؟ فانبرى عمر، فقال له: هذا - و أشار إلى أبي بكر خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله...

فاتجه صوبه.

الجاثليق: خبّرنا عن فضلكم علينا في الدين، فإنّا جئنا نسأل عن ذلك.

أبو بكر: نحن مؤمنون و أنتم كفار، و المؤمن خير من الكافر، و الإيمان خير من الكفر.

الجاثليق: هذه دعوى تحتاج إلى حجة، خبّرني أنت مؤمن عند اللّه أم عند نفسك ؟ أبو بكر: أنا مؤمن عند نفسي، و لا علم لي بما عند اللّه.

الجاثليق: فهل أنا كافر عندك على مثل ما أنت مؤمن، أم أنا كافر عند اللّه ؟ أبو بكر: أنت عندي كافر، و لا علم لي بحالك عند اللّه.

ص:71

الجاثليق: ما أراك إلاّ شاكّا في نفسك و فيّ ... خبّرني أ لك عند اللّه منزلة في الجنّة بما أنت عليه من الدين تعرفها؟ أبو بكر: لي منزلة في الجنّة أعرفها بالوعد، و لا أعلم هل أصل إليها أم لا.

الجاثليق: ترجو لي منزلة في الجنّة ؟ أبو بكر: أرجو لك.

الجاثليق: ما أراك إلاّ راجيا لي و خائفا على نفسك... أخبرني هل احتويت على جميع علم النبي إليك ؟ أبو بكر: لا، و لكن أعلم ما أفضى لي علمه.

الجاثليق: كيف صرت خليفة للنبي و أنت لا تحيط علما بما تحتاج إليه امّته من علمه ؟ و ثقل الجاثليق على عمر، فقد رأى منه تعدّيا على أبي بكر فصاح به.

و سارع سلمان إلى الإمام و أحاطه علما بالأمر، فجاء إلى الجامع و التفت إلى الجاثليق، و قال له:

«سل يا نصرانيّ فو الّذي خلق الحبّة، و برأ النّسمة لا تسألني عمّا مضى و عما يكون إلاّ أخبرتك به عن نبيّ الهدى محمّد صلّى اللّه عليه و آله».

الجاثليق: أخبرني أ مؤمن عند اللّه أم عند نفسك ؟ أنا مؤمن عند اللّه كما أنا مؤمن في عقيدتي.

الجاثليق: هذا كلام من يثق بدينه، اخبرني عن منزلتك في الجنّة ما هي ؟ منزلتي مع النّبيّ الامّي في الفردوس الأعلى، لا أرتاب في ذلك و لا أشكّ في الوعد به من ربّي.

الجاثليق: بما ذا عرفت الوعد لك بالمنزلة التي ذكرتها؟

ص:72

بالكتاب المنزل، و صدق النّبيّ المرسل.

الجاثليق: بما علمت صدق نبيّك ؟ بالآيات الباهرات، و المعجزات البيّنات.

الجاثليق: هذا طريق الحجّة لمن أراد الاحتجاج، اخبرني عن اللّه تعالى أين هو اليوم ؟ إنّ اللّه تعالى يجلّ عن الأين، و يتعالى عن المكان، كان فيما لم يزل، و لا مكان و هو اليوم على ذلك، لم يتغيّر من حال إلى حال.

الجاثليق: أحسنت أيّها العالم و أوجزت في الجواب، أخبرني عن اللّه تعالى أ مدرك بالحواس عندك، فيسلك المسترشد في طلبه استعمال الحواس ؟ أم كيف طريق المعرفة به إن لم يكن الأمر كذلك ؟ تعالى الملك الجبّار أن يوصف بمقدار أو تدركه الحواس، أو يقاس بالنّاس، و الطّريق إلى معرفته صنائعه الباهرة للعقول الدّالّة ذوي الاعتبار بما هو منها مشهود و معقول.

الجاثليق: صدقت هذا و اللّه هو الحقّ الذي ضلّ عنه التائهون في الجهالات، اخبرني عمّا قاله نبيكم في المسيح، و انه مخلوق من أين أثبت له الخلق، و نفي عنه الإلهيّة ؟ اثبت له الخلق بالتّقدير الّذي لزمه، و التّصوير و التّغيّر من حال إلى حال، و الزّيادة الّتي لم ينفكّ عنها و النّقصان، و لم أنف عنه النّبوّة، و لا أخرجته من العصمة و الكمال، و قد جاءنا عن اللّه تعالى بأنّه مثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له: كن فيكون.

و جرت بعد ذلك احتجاجات بين الجاثليق و الإمام، فبهر الجاثليق من علوم

ص:73

الإمام، و أعلن إسلامه قائلا: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّك وصي رسول اللّه، و أحقّ بمقامه، و أسلم الوفد الذي كان معه.

و انبرى عمر قال للجاثليق: الحمد للّه الذي هداك إلى الحق و هدى من معك، و اعلم أنّ علم النبوة في بيت صاحب النبوة، و الأمر بعده لمن خاطبت أوّلا برضى الامّة و اصطلاحها عليه، و تخبر صاحبك - أي الملك - بذلك و تدعوه إلى طاعة الخليفة.

فقال الجاثليق: عرفت أيّها الرجل، و أنا على يقين من أمري فيما أسررت و أعلنت (1).

و تمثّلت روعة الاستدلال و قوة الحجة في مناظرة الإمام مع الجاثليق فقد استوعبت نفسه اعجابا بمواهب الإمام و عبقرياته الأمر الذي دعاه إلى اعتناق الإسلام.

ص:74


1- أمالي الطوسي : ١٣٧. بحار الأنوار ١٠ : ٥٤ _ ٥٦. الغدير ٧ : ١٧٩ _ ١٨١ ، رويت بأسلوب آخر لا يتّفق مع ما ذكره الطوسي والمجلسي.

أسئلة راهب

وفد إلى يثرب جمع من النصارى من الروم يتقدمهم راهب لمعرفة الخليفة من بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله، فدخلوا الجامع النبوي و فيه أبو بكر و قد احتفّ به المهاجرون و الأنصار، فتقدم إليه الراهب و دار بينهما الحديث التالي بتصرف:

الراهب: أيّها الشيخ ما اسمك ؟ أبو بكر: عتيق.

الراهب: هل هناك اسم آخر؟ أبو بكر: الصدّيق.

الراهب: هل هناك اسم آخر؟ أبو بكر: لا.

الراهب: لست بصاحبي.

أبو بكر: ما حاجتك ؟ الراهب: أنا من بلاد الروم جئت منها ببختيّ موقرا ذهبا لأسأل أمين هذه الامّة عن مسألة إن أجابني عنها أسلمت، و فرقت عليكم هذا المال، و إن عجز رجعت إلى بلدي و معي المال، و لا أسلم.

أبو بكر: سل عمّا بدا لك.

ص:75

الراهب: و اللّه لا أفتح الكلام حتى تؤمني من سطوتك و سطوة أصحابك.

أبو بكر: أنت آمن، و ليس عليك بأس قل ما شئت.

الراهب: أخبرني عن شيء ليس للّه، و لا من عند اللّه، و لا يعلمه اللّه ؟ أبو بكر لم يهتد للجواب.

و وجّه الراهب سؤاله إلى الصحابة فلم يهتدوا لحلّه، فانبرى سلمان الفارسي إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و أخبره بالأمر فأسرع إلى الجامع و معه السبطان الحسن و الحسين عليهما السّلام، فقال أبو بكر للراهب: سل عليّا فإنه صاحبك، فتوجّه الراهب صوب الإمام، و عرض عليه ما يلي:

الراهب: ما اسمك يا فتى ؟ اسمي عند اليهود إليا، و عند النّصارى إيليا، و عند والدي عليّ ، و عند امّي حيدرة.

الراهب: ما محلّك من نبيّكم ؟ أخي و صهري و ابن عمّي.

الراهب: أنت صاحبي و ربّ عيسى! أخبرني عن شيء ليس للّه، و لا من عند اللّه، و لا يعلمه اللّه ؟ أمّا قولك: ما ليس للّه، فإنّ اللّه تعالى ليس له صاحبة و لا ولد.

و أمّا قولك: و لا من عند اللّه فليس من عند اللّه ظلم لأحد.

و أمّا قولك: لا يعلمه اللّه فإنّ اللّه لا يعلم له شريكا في الملك.

أعلن الراهب إسلامه، و قام فقبّل الإمام و قال له: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، و أشهد أنّك أنت الخليفة، و أمين هذه الامّة، و معدن الدين

ص:76

و الحكمة، و قدّم للإمام عليه السّلام ما معه من أموال، فلم يبرح الإمام من مكانه حتى أنفق المال بأجمعه على الفقراء، و انصرف الراهب، مع قومه و قد أعلنوا إسلامهم (1).

لقد وقف الراهب على الحقيقة، و تبيّن الواقع الرسالي، فآمن بالإمام عليه السّلام وصيا للرسول الأعظم، و خليفة له.

ص:77


1- الاحتجاج ١ : ٣٠٧ _ ٣٠٨.

مع الاسقف

وفد اسقف نجران على عمر بن الخطاب ليؤدي الجزية، فدعاه عمر إلى الإسلام، فأطرق الأسقف إلى الأرض لا يردّ جوابا، و دخل الإمام عليه السّلام على القوم فاستقبل بحفاوة بالغة، و التفت الإمام إلى الأسقف، و تبادل معه المناظرة التالية:

الأسقف: أنتم تقولون: إنّ الجنّة عرضها السماوات و الأرض، فأين تكون النار؟ إذا جاء اللّيل أين يكون النّهار؟ و بهر الأسقف من علم الإمام، و التفت إليه يطلب منه الإذن بأن يسأل عمر بن الخطاب، فأذن له الإمام فقال له:

أنبئني يا عمر عن أرض طلعت عليها الشمس ساعة و لم تطلع مرة اخرى ؟ فعجز عمر عن الجواب و طلب من الإمام أن يجيبه.

هي أرض البحر الّذي فلقه اللّه تعالى لموسى حتّى عبر هو و جنوده، فوقعت عليها الشّمس تلك السّاعة، و لم تطلع عليها قبل و لا بعد، و انطبق البحر على فرعون و جنوده.

الأسقف: صدقت، أخبرني عن شيء هو في أهل الدّنيا تأخذ الناس منه مهما أخذوا فلا ينقص بل يزداد؟

ص:78

هو القرآن و العلوم.

الأسقف: صدقت، اخبرني عن أوّل رسول أرسله اللّه تعالى لا من الجنّ و لا من الإنس ؟ ذلك الغراب الّذي بعثه اللّه تعالى لمّا قتل قابيل أخاه هابيل، فبقي متحيّرا لا يعلم ما يصنع به، فعند ذلك بعث اللّه غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه.

الأسقف: صدقت، بقيت لي مسألة واحدة أريد أن يخبرني عنها عمر و هي:

أين اللّه ؟ فغضب عمر، فقال له الإمام:

لا تغضب يا أبا حفص حتّى لا يقول إنّك قد عجزت.

و طلب عمر من الإمام أن يجيبه.

كنت يوما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ أقبل إليه ملك فسلّم عليه، فردّ عليه السّلام، فقال له النّبيّ : أين كنت ؟ قال: عند ربّي فوق سبع سماوات.

ثمّ أقبل ملك آخر فقال له: أين كنت ؟ فقال: عند ربّي في مطلع الشّمس، ثمّ جاء ملك آخر فقال له: أين كنت ؟ قال: كنت عند ربّي في مغرب الشّمس، إنّ اللّه تعالى لا يخلو منه مكان، و لا هو في شيء، و لا على شيء، و لا من شيء، وسع كرسيّه السّماوات و الأرض، ليس كمثله شيء و هو السّميع البصير، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السّماء، و لا أصغر من ذلك و لا أكبر، يعلم ما في السّماوات و ما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم، و لا خمسة إلاّ هو

ص:79

سادسهم، و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا.

لم يملك الاسقف اعجابه بمواهب الإمام، فقد علم أنه باب مدينة علم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و راح يعلن اسلامه قائلا:

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، و أنّك خليفة اللّه في أرضه، و وصي رسوله (1).

و حكت هذه المناظرة مدى سعة علوم الإمام عليه السّلام و احاطته التامة بواقع التوحيد، و انه لا يضارعه أحد في فضله وسعة علومه.

ص:80


1- بحار الأنوار ١٠ : ٥٩ _ ٦٠.

مع قيصر ملك الروم

اشارة

يقول الرواة: حدثت مشادّة بين الحارث بن سنان الأزدي و بين رجل من الأنصار، فرفع أمرهما إلى عمر، فلم ينتصف للحارث فارتدّ عن الإسلام، و لحق بقيصر، و كان الحارث قد نسي ما تعلّمه من القرآن الكريم سوى قوله تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (1) و سمع قيصر هذه الآية فقال: سأكتب إلى ملك العرب بمسائل فإن أجابني عنها أطلقت ما عندي من الأسارى، و إن لم يجبني عنها عمدت إلى الأسارى فعرضت عليهم النصرانية، فمن قبلها منهم استعبدته، و من أبى قتلته، و كتب إلى عمر بمسائل كان منها:

1 - تفسير سورة الفاتحة.

2 - الماء الذي ليس من الأرض، و لا من السماء؟ 3 - عما يتنفّس و لا روح فيه ؟ 4 - عصا موسى مم كانت، و ما اسمها، و ما طولها؟ 5 - جارية بكر لأخوين في الدنيا و في الآخرة لواحد؟ و لمّا عرضت هذه المسائل على عمر لم يهتد لحلها، ففزع إلى الإمام عليه السّلام فعرضها عليه.

ص:81


1- آل عمران : ٨٥.

جواب الإمام:

و كتب الإمام جواب هذه المسائل، و هذا نص ما كتبه بعد البسملة:

«من عليّ بن أبي طالب صهر محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و وارث علمه، و أقرب الخلق إليه، و وزيره، و من حقّت له الولاية و امر الخلق من أعدائه بالبراءة، قرّة عين رسول اللّه، و زوج ابنته، و أبي ولده إلى قيصر ملك الرّوم.

أمّا بعد: فإنّي أحمد اللّه الّذي لا إله إلاّ هو عالم الخفيّات، و منزل البركات، من يهدي اللّه فلا مضلّ له، و من يضلل اللّه فلا هادي له، ورد كتابك و أقرأنيه عمر بن الخطّاب.

فأمّا سؤالك عن اسم اللّه تعالى فإنّه اسم فيه شفاء من كلّ داء، و عون عن كلّ دواء.

و أمّا الرّحمن فهو عون لكلّ من آمن به، و هو اسم لم يسمّ به غير اللّه الرّحمن تبارك و تعالى.

و أمّا الرّحيم فرحم من عصى و تاب و آمن و عمل صالحا.

و أمّا اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فذلك ثناء على ربّنا تبارك و تعالى بما أنعم علينا.

و أمّا قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، فإنّه يملك نواصي الخلق يوم القيامة، و كلّ من كان في الدّنيا شاكّا أو جبّارا أدخله النّار، و لا يمتنع من عذاب اللّه عزّ و جلّ شاكّ و لا جبّار، و كلّ من كان في الدّنيا طائعا مديما محافظا أدخله الجنّة برحمته.

و أمّا قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ، فإنّا نستعين باللّه عزّ و جلّ من

ص:82

الشّيطان الرّجيم لا يضلّنا كما أضلّكم.

و أمّا قوله: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، فذلك الطّريق الواضح من عمل في الدّنيا عملا صالحا فإنّه يسلك على الصّراط إلى الجنّة.

و أمّا قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، فتلك النّعمة الّتي أنعمها اللّه عزّ و جلّ على من كان قبلنا من النّبيّين و الصّدّيقين فنسأل اللّه ربّنا أن ينعم علينا كما أنعم عليهم.

و أمّا قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، فاولئك اليهود بدّلوا نعمة اللّه كفرا فغضب عليهم فجعل منهم القردة و الخنازير، فنسأل ربّنا أن لا يغضب علينا كما غضب عليهم.

و أمّا قوله: وَ لاَ الضّالِّينَ ، فأنت و أمثالك يا عابد الصّليب الخبيث، ضللتم من بعد عيسى بن مريم عليه السّلام، فنسأل اللّه ربّنا أن لا يضلّنا كما ضللتم.

و أمّا سؤالك عن الماء الّذي ليس من الأرض و لا من السّماء، فذلك الّذي بعثته بلقيس إلى سليمان بن داود، و هو عرق الخيل إذا جرت في الحروب.

و أمّا سؤالك عمّا يتنفّس و لا روح له فذلك الصّبح إذا تنفّس.

و أمّا سؤالك عن عصا موسى ممّا كانت ؟ و ما طولها؟ و ما اسمها؟ و ما هي ؟ فإنّها كانت يقال لها البرنيّة الرّائدة، و كان إذا كان فيها الرّوح زادت، و إذا خرجت منها الرّوح نقصت، و كانت من عوسج، و كانت عشرة أذرع، و كانت من الجنّة أنزلها جبرئيل عليه السّلام.

و أمّا سؤالك عن جارية تكون في الدّنيا لأخوين و في الآخرة لواحد، فتلك

ص:83

النّخلة في الدّنيا هي للمؤمن مثلي و للكافر مثلك، و نحن من ولد آدم عليه السّلام، و في الآخرة للمسلم دون الكافر المشرك، و هي في الجنّة و ليس في النّار، و ذلك قوله عزّ و جلّ : فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ (1)».

ثم طوى الكتاب، و أنفذه إلى قيصر، فلما قرأه أعجب به، و عمد إلى الأسرى فأطلقهم و أسلم، و دعا أهل مملكته إلى الإسلام فثارت عليه النصارى و همّوا بقتله، فأعتذر منهم بأنه إنما أعلن إسلامه لاختبارهم فكفّوا عنه، و بقي كاتما اسلامه حتى مات (2).

و انتهت هذه المناظرة و هي قبس من جهاد الإمام عليه السّلام فقد نافح عنه في جميع المواقف بسيفه و علمه و بهذا ينتهى بنا الحديث عن بعض مناظراته مع النصارى.

ص:84


1- الرحمن : ٦٨.
2- بحار الأنوار ١٠ : ٦٠ _ ٦٢. ارشاد القلوب ٢ : ١٧٥.

مناظرته

اشارة

مع اليهود

ص:85

ص:86

ناظر بعض علماء اليهود، و أعمدتهم الروحية، الإمام عليه السّلام، فقد سألوه عن أعقد المسائل، و أكثرها غموضا، و أشبهها بالألغاز، و ذلك لامتحانه و اكتشاف الواقع الرسالي الماثل فيه، و قد أجابهم الإمام عنها جواب العالم الخبير، فلم يبق أي جانب من مسائلهم إلاّ أجاب عنه بدقة و شمول و قد بهروا بسعة علومه، و إحاطته الكاملة بأديانهم و بالكتب السماوية، و قد اعتنق بعضهم الإسلام لما رأوه من سعة علوم الإمام، و نعرض - فيما يلي - لبعض تلك المناظرات.

ص:87

ص:88

مع عالم يهوديّ

لمّا تقلّد عمر الخلافة بعد أبي بكر وفد عالم يهوديّ على عمر، و قد احتفّ به جماعة من الصحابة كان من بينهم الإمام عليه السّلام، فقال اليهوديّ لعمر: إني رجل من اليهود و أنا علاّمتهم، قد أردت أن أسألك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمت، فقال عمر: و ما هي ؟ قال ثلاث، و ثلاث، و واحدة، و ان كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني، فأشار إلى الإمام عليه السّلام، فاتجه صوبه، فقال له الإمام:

قلت: ثلاثا، و ثلاثا، و واحدة أ لا قلت: سبعا؟... (1).

اليهوديّ : أسألك عن ثلاث، فإن أصبت فيهن أسألك عن الواحدة، و إن أخطأت في الثلاث الاولى، لم أسألك عن شيء...

ما يدريك إذا سألتني فأجبتك أخطأت أم أصبت ؟ فاستخرج اليهودي كتابا عتيقا، و قال: هذا كتاب ورثته عن آبائي و أجدادي بإملاء موسى و خطّ هارون، و فيه هذه الخصال التي أريد أن أسألك عنها.

باللّه عليك إن أجبتك عنها بالصّواب تسلم ؟ اليهوديّ : لئن أجبتني منها بالصواب لاسلمنّ الساعة على يديك (2).

ص:89


1- الاحتجاج ١ : ٢٢٦.
2- الغدير ٦ : ٢٦٨.

سل.

اليهوديّ : اخبرني عن أوّل حجر وضع على وجه الأرض ؟ و أوّل عين نبعت، و أوّل شجرة نبتت.

أنتم تقولون: أوّل حجر وضع على وجه الأرض الحجر الّذي في بيت المقدس، و كذبتم، هو الحجر الأسود الّذي نزل مع آدم من الجنّة.

اليهوديّ : اخبرني عن أوّل حجر وضع على وجه الأرض ؟ و أوّل عين بنعت، و أوّل شجرة نبتت.

أنتم تقولون: أوّل حجر وضع على وجه الأرض الحجر الّذي في بيت المقدس، و كذبتم، هو الحجر الأسود الّذي نزل مع آدم من الجنّة.

اليهودىّ : صدقت و اللّه إنه بخط هارون و إملاء موسى.

أمّا العين فأنتم تقولون: إنّ أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين الّتي ببيت المقدس، كذبتم، هي عين الحياة الّتي غسل فيها النّون موسى، و هي العين الّتي شرب منها الخضر.

اليهوديّ : صدقت و اللّه إنّه بخط هارون و إملاء موسى.

اليهوديّ : و أمّا الثلاث الاخرى، كم لهذه الامّة من إمام هدى لا يضرهم من خذلهم ؟ اثنا عشر إماما.

اليهوديّ : صدقت.

اليهوديّ : صدقت.

اليهوديّ : أين يسكن نبيّكم من الجنّة ؟ يسكن أعلاها درجة، و أشرفها مكانا في جنّات عدن.

اليهوديّ : صدقت و اللّه انه بخط هارون و املاء موسى.

ص:90

اليهوديّ : فمن ينزل معه في منزله ؟ ينزل معه اثنا عشر إماما.

اليهوديّ : صدقت.

اليهوديّ : كم يعيش وصيّه - أي وصيّ النبي صلّى اللّه عليه و آله - بعده ؟ ثلاثين سنة.

اليهوديّ : يموت أو يقتل ؟ يضرب على قرنه فتخضب لحيته.

اليهودي: صدقت و اللّه انه بخط هارون و املاء موسى، ثمّ اعتنق اليهودي الإسلام (1).

و حكت هذه المناظرة تصدي الإمام عليه السّلام لنشر الإسلام، و اشاعة قيمه بين الناس، و انه ليس هناك أحد يملك ما يملكه الإمام عليه السّلام من الطاقات العلمية.

ص:91


1- الاحتجاج ١ : ٣٣٦ _ ٣٣٧.

مع اليهود

وفد جماعة من اليهود على عمر بن الخطاب في أيام خلافته، فقالوا له: أنت والي هذا الأمر بعد نبيكم ؟ و أتيناك نسألك عن أشياء إن أخبرتنا بها آمنا و صدّقناك، فقال عمر: سلوا عمّا بدا لكم.

اليهود: أخبرنا عن أقفال السموات السبع، و مفاتيحها، و أخبرنا عن قبر سار بصاحبه، و أخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن و لا من الإنس، و أخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس و لم تعد إليه، و أخبرنا عن خمسة لم يخلقوا في الأرحام، و عن واحد و عن اثنين و ثلاثة و أربعة و خمسة و ستة و سبعة و ثمانية و تسعة و عشرة و حادي عشر و ثاني عشر؟

و أطرق عمر برأسه و لم يهتد للجواب، و اعتذر انّ هذه المسائل لا يعلم بها إلاّ اللّه، و لكن يجيبكم عنها ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأرسل خلفه فلما حضر قال له عمر:

يا أبا الحسن إنّ اليهود سألوني عن أشياء لم أجبهم عنها، و قد ضمنوا إن أخبرتهم أن يؤمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله فعرض اليهود عليه مسائلهم و هي:

اليهود: ما أقفال السماوات ؟ الشّرك باللّه.

اليهود: ما مفاتيحها؟ قول لا إله إلاّ اللّه.

ص:92

اليهود: ما القبر الذي سار بصاحبه ؟ الحوت الّذي سار بيونس في بطنه البحار السّبعة.

اليهود: ما الذي أنذر قومه لا من الجن و لا من الإنس ؟ تلك نملة سليمان بن داود.

اليهود: ما الموضع الذي طلعت الشمس و لم تعد إليه ؟ ذلك البحر الّذي أنجى اللّه عزّ و جلّ فيه موسى و أغرق فرعون.

اليهود: ما الخمسة الذين لم يخلقوا في الأرحام ؟ آدم و حوّاء و عصا موسى و ناقة صالح و كبش إبراهيم.

اليهود: ما الواحد؟ اللّه الواحد القهّار.

اليهود: ما الاثنان ؟ آدم و حوّاء.

اليهود: ما الثلاثة ؟ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل.

اليهود: ما الأربعة ؟ التّوراة و الإنجيل و الزّبور و الفرقان.

اليهود: ما الخمسة ؟ خمس صلوات مفروضات على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

اليهود: ما الستة ؟

ص:93

قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ (1).

اليهود: ما السبعة ؟ قول اللّه عزّ و جلّ : وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (2).

اليهود: ما الثمانية ؟ قول اللّه عزّ و جلّ : وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (3)، .

اليهود: ما التسعة ؟ الآيات المنزّلة على موسى بن عمران.

اليهود: ما العشرة ؟ قول اللّه عزّ و جلّ : وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ (4)، .

اليهود: ما الحادي عشر؟ قول يوسف لأبيه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً (5)، ،.

اليهود: ما الاثنا عشر؟ قول اللّه عزّ و جلّ لموسى: اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. (6).

و أسلموا على يد الإمام، و جرى بينهم حديث أعرضنا عن ذكره (7).

1

ص:94


1- ق : ٣٨.
2- النبأ : ١٢.
3- الحاقّة : ١٧.
4- الأعراف : ١٤٢.
5- يوسف : ٤.
6- البقرة : ٦٠.
7- الخصال ٢ : ٦٥. بحار الأنوار ١٠ : ٧ _ ٩.

مع عالم يهودي

و وفد إلى يثرب عالم يهودي من أهل الشام كان قد قرأ التوراة و الإنجيل و الزبور و صحف الأنبياء، فالتقى بكوكبة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان من بينهم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و حبر الامّة عبد اللّه بن عباس و أبو معبد الجهني، و جرت بينه و بين الإمام عليه السّلام مناظرة متشعبة قد استوعبت وقتا كثيرا لطولها، و نحن نذكر معظمها، فقد التفت اليهودي إلى الجماعة الجالسين و قال لهم:

يا أمّة محمد ما تركتم لنبي درجة، و لا لمرسل فضيلة إلاّ أنحلتموها نبيّكم، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه ؟ فأمسك القوم عن جوابه، سوى الإمام فقد انبرى إليه قائلا:

«نعم، ما أعطى اللّه عزّ و جلّ نبيّا درجة، و لا مرسلا فضيلة، إلاّ جمعها لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و زاد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على الأنبياء أضعافا مضاعفة...» اليهوديّ : هل أنت مجيبي ؟ نعم، سأذكر لك اليوم من فضائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يقرّ اللّه به أعين المؤمنين، و يكون نفسه فيه إزالة لشكّ الشّاكّين في فضائله، إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال: و لا فخر، و أنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء، و لا منتقص لهم، و لكن شكرا للّه على ما أعطى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله مثل ما أعطاهم و ما زاده اللّه، و ما فضّله عليهم...

ص:95

اليهوديّ : إني أسألك فأعدّ له جوابا.

هات.

اليهوديّ : هذا آدم أسجد اللّه له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ لقد كان ذلك، و لئن أسجد اللّه لآدم ملائكته فإنّ سجودهم لم يكن سجود طاعة، و أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ و جلّ ، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من اللّه له، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ اللّه تعالى صلّى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبّد المؤمنون بالصّلاة عليه(1)،فهذه زيادة له.

اليهوديّ : إنّ آدم تاب اللّه عليه من بعد خطيئته.

لقد كان كذلك، و محمّد نزل عليه ما هو أكبر من هذا، قال اللّه عزّ و جلّ :

لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ(2)، ، إنّ محمّدا غير مواف في القيامة بوزر، و لا مطلوب فيها بذنب.

اليهوديّ : إنّ إدريس رفعه اللّه عزّ و جلّ مكانا عليّا، و أطعمه من تحف الجنة بعد وفاته.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ اللّه جلّ ثناؤه قال فيه: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (3)، ، فكفى بهذا من اللّه رفعة، و لئن اطعم إدريس من تحف الجنّة بعد وفاته، فإنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله اطعم في الدّنيا في حياته، بينما هو يتضوّر جوعا أتاه جبرئيل بجام من الجنّة فيه تحفة...

ص:96


1- يشير الإمام علیه السلام بذلك إلى الآية ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).
2- الفتح : ٢.
3- الشرح : ٤.

فناولها أهل بيته، فهمّ أن يتناولها بعض الصّحابة، فتناولها جبرئيل فقال له:

كلها فإنّها تحفة من الجنّة أتحفك اللّه عزّ و جلّ بها و إنّها لا تصلح إلاّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ ، فأكلنا منها، و إنّي لأجد حلاوتها ساعتي هذه.

اليهوديّ : هذا نوح صبر في ذات اللّه عزّ و جل، و أعذر قومه إذ كذّب.

لقد كان كذلك، و محمّد صبر في ذات اللّه، و أعذر قومه إذ كذّب و شرّد، و حصب بالحصى، و علاه أبو لهب بسلا ناقة و شاة فأوحى اللّه تعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شقّ الجبال، و انته إلى أمر محمّد فأتاه فقال له: إنّي قد امرت لك بالطّاعة، فإن أمرت أن اطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها... قال عليه الصّلاة و السّلام: إنّما بعثت رحمة. ربّ اهد أمّتي فإنّهم لا يعلمون... إنّ نوحا لمّا شاهد غرق قومه رقّ عليهم رقّة القرابة، و أظهر عليهم شفقة فقال:

رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي(1) فقال اللّه تبارك و تعالى اسمه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (2)، ، أراد جلّ ذكره أن يسلّيه بذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النّقمة و لم تدركه فيهم رقّة القرابة.

اليهوديّ : إنّ نوحا دعا ربه فهطلت له السماء بماء منهمر؟ لقد كان كذلك، و كانت دعوته دعوة غضب، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله هطلت له السّماء بماء منهمر رحمة، إنّه لمّا هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة، فقالوا له: يا رسول اللّه، احتبس القطر، و اصفرّ العود، و تهافت الورق، فرفع يده المباركة حتّى رئي بياض إبطيه، و ما ترى في السّماء سحابة، فما برح حتّى

ص:97


1- هود : ٤٥.
2- هود : ٤٦.

سقاهم اللّه، حتّى إنّ الشّابّ المعجب بشبابه لهمّته نفسه في الرّجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدّة السّيل، فدام اسبوعا، فأتوه في الجمعة الثّانية فقالوا: يا رسول اللّه، لقد تهدّمت الجدر، و احتبس الرّكب و السّفر، فضحك صلّى اللّه عليه و آله و قال: هذه سرعة ملالة ابن آدم، ثمّ قال: اللّهمّ حوالينا و لا علينا، اللّهمّ في اصول الشّيح و مراتع البقع، فرئي حوالي المدينة يقطر المطر قطرا، و ما يقع في المدينة قطرة لكرامته على اللّه عزّ و جلّ .

اليهودي: إنّ هودا قد انتصر اللّه له من أعدائه بالريح، فهل فعل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله شيئا من هذا؟ لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ اللّه عزّ و جلّ قد انتصر له من أعدائه بالرّيح يوم الخندق، إذ أرسل عليهم ريحا تذرو الحصى، و جنودا لم يروها فزاد اللّه تبارك و تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على هود بثمانية آلاف ملك، و فضّله على هود، بأنّ ريح عاد ريح سخط و ريح محمّد صلّى اللّه عليه و آله ريح رحمة، قال اللّه تبارك و تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها(1).

اليهودي: إنّ صالحا أخرج اللّه له ناقة جعلها عبرة لقومه.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من ذلك، إنّ ناقة صالح لم تكلّم صالحا، و لم تشهد له بالنّبوّة، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله بينما نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا، ثمّ رغا فأنطقه اللّه عزّ و جلّ فقال:

يا رسول اللّه، إنّ فلانا استعملني حتّى كبرت، و يريد نحري فأنا أستعيذ بك منه، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى صاحبه فاستوهبه منه، فوهبه له و خلاّه...

ص:98


1- الأحزاب : ٩.

اليهودي: إنّ إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة اللّه تعالى، و أحاطت دلالته بعلم الإيمان به ؟ لقد كان كذلك، و اعطي محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل من ذلك، قد تيقّظ بالاعتبار على معرفة اللّه تعالى، و أحاطت دلائله بعلم الإيمان به، و تيقّظ إبراهيم و هو ابن خمس عشرة سنة، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان ابن سبع سنين، قدم تجّار من النّصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصّفا و المروة، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته و رفعته، و خبر مبعثه و آياته فقالوا له: يا غلام، ما اسمك ؟ قال محمّد. قالوا: ما اسم أبيك ؟ قال: عبد اللّه. قالوا: ما اسم هذه - و أشاروا إلى الأرض - قال: الأرض، ثمّ قالوا فما اسم هذه ؟ و أشاروا إلى السّماء؟ قال: السّماء. قالوا: فمن ربّهما؟ قال: اللّه، ثمّ انتهرهم و قال: أ تشكّكوني في اللّه عزّ و جلّ ؟ و يحك يا يهودي! لقد تيقّظ بالاعتبار على معرفة اللّه عزّ و جلّ مع كفر قومه، إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام، و يعبدون الأوثان، و هو يقول: لا إله إلاّ اللّه.

اليهودي: إنّ إبراهيم حجب عن نمرود بحجب ثلاثة ؟ لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله حجب عمّن أراد قتله بحجب خمسة، فثلاثة بثلاثة، و اثنان فضل، قال اللّه عزّ و جلّ : وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا(1) فهذا الحجاب الأوّل، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ، فهذا الحجاب الثّاني، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ، فهذا الحجاب الثّالث، ثمّ قال: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (2)، ، فهذا الحجاب الرّابع، ثمّ قال: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ ،

ص:99


1- يس : ٩.
2- الإسراء : ٤٥.

مُقْمَحُونَ (1)، فهذه حجب خمسة.

اليهودي: إنّ إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أتاه مكذّب بالبعث بعد الموت و هو ابيّ بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثمّ قال:

يا محمّد مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ، فأنطق اللّه محمّدا بمحكم آياته، و بهته ببرهان نبوّته، فقال: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، ، فانصرف مبهوتا.

اليهوديّ : إنّ إبراهيم جذّ أصنام قومه غضبا للّه عزّ و جلّ .

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد نكس عن الكعبة ثلاث مائة و ستّين صنما، و نفاها عن جزيرة العرب، و أذلّ من عبدها بالسّيف.

اليهوديّ : إنّ إبراهيم قد اضجع ولده و تلّه للجبين.

لقد كان كذلك، و لقد اعطي إبراهيم بعد الاضطجاع الفداء، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اصيب بأفجع منه فجيعة إنّه وقف على عمّه حمزة أسد اللّه، و أسد رسوله، و ناصر دينه، و قد فرّق بين روحه و جسده، فلم يبن عليه حرقة، و لم يفض عليه عبرة، و ذلك ليرضي اللّه عزّ و جلّ بصبره، و يستسلم لأمره، في جميع الفعال.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «لو لا أن تحزن صفيّة لتركته حتّى يحشر من بطون السّباع و حواصل الطّير، و لو لا أن يكون سنّة بعدي لفعلت ذلك».

اليهودي: إنّ إبراهيم قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر، فجعل اللّه عزّ و جلّ النار عليه

ص:100


1- يس : ٨.

بردا و سلاما، فهل فعل بمحمّد شيئا من ذلك ؟

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزل بخيبر سمّته الخيبريّة فصيّر اللّه السّمّ في جوفه بردا و سلاما إلى منتهى أجله، فالسّمّ يحرق إذا استقرّ في الجوف، كما أنّ النّار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره.

اليهودي: فإنّ يعقوب أعظم إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه و مريم ابنة عمران من بناته.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعظم في الخير نصيبا منه؛ إذ جعل فاطمة سيّدة نساء العالمين من بناته و الحسن و الحسين عليهما السّلام من حفدته.

اليهودي: إنّ يعقوب قد صبر على فراق ولده حتى كاد يحرض من الحزن.

لقد كان كذلك، و كان حزن يعقوب بعده تلاق، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله قبض ولده إبراهيم قرّة عينه في حياته، و خصّه بالاختبار ليعظم له الادّخار فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«تحزن النّفس و يجزع القلب، و إنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون، و لا نقول:

ما يسخط الرّبّ »، في كلّ ذلك يؤثر رضا اللّه عزّ ذكره، و الاستسلام له في جميع الفعال.

اليهودي: إنّ يوسف قاسى مرارة الفرقة، و حبس في السجن توقيا للمعصية، فألقي في الجبّ وحيدا.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله قاسى مرارة الغربة، و فراق الأهل و الأولاد و المال، مهاجرا من حرم اللّه تعالى و أمنه، فلمّا رأى اللّه تعالى كآبته، و استشعاره الحزن أراه تبارك و تعالى اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها، و أبان للعالمين صدق تحقيقها فقال:

لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ

ص:101

اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ (1) و لئن كان يوسف عليه السّلام حبس في السّجن فلقد حبس رسول اللّه نفسه في الشّعب ثلاث سنين، و قطع منه أقاربه و ذوو الرّحم و ألجئوه له إلى أضيق المضيق، فقد كادهم اللّه عزّ ذكره كيدا مستبينا؛ إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الّذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه، و لئن كان يوسف القي في الجبّ فلقد حبس محمّد نفسه مخافة عدوّه في الغار حتّى قال لصاحبه: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا ، (2)، و مدحه اللّه بذلك في كتابه.

اليهوديّ : هذا موسى بن عمران آتاه اللّه عزّ و جلّ التوراة التي فيها حكم اللّه.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل منه، اعطي سورة البقرة و المائدة و طواسين و طه و نصف المفصّل و الحواميم بالتّوراة، و اعطي نصف المفصّل و التّسابيح بالزّبور، و اعطي سورة بني إسرائيل و براءة، بصحف إبراهيم و صحف موسى، و زاد اللّه عزّ و جلّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله السّبع الطّوال، و فاتحة الكتاب و هي السّبع المثاني و القرآن العظيم و اعطي الكتاب و الحكمة.

اليهودي: إنّ موسى ناجاه اللّه عزّ و جلّ على طور سيناء.

لقد كان كذلك، و لقد أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله عند سدرة المنتهى، فمقامه في السّماء محمود، و عند منتهى العرش مذكور.

اليهودي: ألقى اللّه على موسى محبة منه.

ص:102


1- الفتح : ٢٧
2- التوبة : ٤٠.

لقد كان كذلك، لقد أعطى اللّه محمّدا ما هو أفضل من هذا، لقد ألقى اللّه عليه محبّة منه، فمن هذا الّذي يشركه في هذا الاسم إذ تمّ من اللّه عزّ و جلّ الشّهادة، فلا تتمّ الشّهادة إلاّ أن يقال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه... فلا يرفع صوت بذكر اللّه إلاّ رفع بذكر محمّد معه.

اليهودي: لقد أوحى اللّه إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عند اللّه.

لقد كان كذلك، و لقد لطف اللّه جلّ ثناؤه لأمّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله بأن أوصل إليها اسمه حتّى قالت: شهد اللّه و العالمون أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله منتظر، و شهد الملائكة على الأنبياء أنّهم أثبتوه في الأسفار، و بلطف اللّه عزّ و جلّ ساقه إليها و أوصل إليها اسمه لفضل منزلته عنده، و رأت في المنام أنّه قيل لها: إنّ ما في بطنك سيّد فإذا ولدته فسمّيه محمّدا، فاشتقّ اللّه له اسما من أسمائه، فاللّه المحمود، و هذا محمّد.

اليهوديّ : إنّ موسى بن عمران أرسله اللّه إلى فرعون، و أراه الآية الكبرى.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أرسله إلى فراعنة شتّى، مثل أبي جهل بن هشام، و عتبة بن ربيعة، و شيبة، و أبي البختريّ ، و النّضر بن الحارث، و ابيّ بن خلف، و منبه و نبيه ابني الحجّاج و إلى الخمسة المستهزئين:

الوليد بن المغيرة المخزومي، و العاص بن وائل السّهمي، و الأسود بن عبد يغوث الزّهري، و الأسود بن المطّلب، و الحرث بن أبي الطّلالة، فأراهم الآيات في الآفاق، و في أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ .

اليهوديّ : لقد انتقم اللّه عزّ و جلّ لموسى من فرعون.

لقد كان كذلك، و لقد انتقم اللّه جلّ اسمه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله من الفراعنة. فأمّا

ص:103

المستهزءون فقد قال اللّه تعالى: إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (1) فقتل اللّه كلّ واحد بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأمّا الوليد فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه و وضعه في الطّريق فأصابته شظيّة منه فانقطع أكحله حتّى أدماه، فمات و هو يقول: قتلني ربّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا العاص بن وائل فإنّه خرج في حاجة إلى موضع فتدهده (2)، تحته حجر، فسقط فتقطّع قطعة قطعة، فمات و هو يقول: قتلني ربّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا الأسود بن عبد يغوث: فإنّه خرج يستقبل ابنه زمعة، فاستظلّ بشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشّجرة، فقال لغلامه: امنع عنّي هذا، فقال: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا إلاّ نفسك، فقتله و هو يقول: قتلني ربّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا الأسود بن المطّلب فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا عليه أن يعمي اللّه بصره، و أن يثكله بولده، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتّى صار إلى موضع فأتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه، فعمي، و بقي حتّى أثكله اللّه بولده.

و أمّا الحرث بن أبي الطّلالة فإنّه خرج من بيته في السّموم فتحوّل حبشيا فرجع إلى أهله، فقال: أنا الحرث، فغضبوا عليه فقتلوه و هو يقول: قتلني ربّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

اليهوديّ : إنّ موسى بن عمران قد أعطي العصا فكانت تتحول ثعبانا.

ص:104


1- الحجر : ٩٥.
2- تدهده : أي تدحرج.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ رجلا كان يطلب أبا جهل بن هشام دينا عن جزور كان قد اشتراه منه، فاشتغل أبو جهل بشرب الخمر و لم يدفع للرّجل دينه، فشكا حاله إلى رجل و كان من المستهزئين بالنّبيّ ، فقال له: أدلّك على رجل يستخرج حقّك ؟ قال: نعم، فدلّه على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان أبو جهل يقول: ليت لمحمّد إليّ حاجة فأسخر به و أردّه، فأتى الرّجل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له: بلغني أنّ بينك و بين عمرو بن هشام حسن صداقة، و أنا استشفع بك إليه فأجابه إلى ذلك و قام معه، فطرق بابه فخرج أبو جهل فقال له: أدّ إلى الرّجل حقّه، فقام مسرعا و أدّى إليه حقّه، فلمّا اجتمع أبو جهل بأصحابه قال له بعضهم: فعلت ذلك فرقا من محمّد صلّى اللّه عليه و آله ؟ فقال: و يحكم! اعذروني إنّه لمّا أقبل إليّ رأيت عن يمينه رجالا بأيديهم حراب تتلألأ، و عن يساره ثعبانان تلمع النّيران من أبصارهما لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب و يقضمني الثّعبانان. هذا أكبر ممّا اعطي موسى.

و لقد كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يؤذي قريشا بالدّعاء، فقام يوما فسفّه أحلامهم، و عاب دينهم، فشتم أصنامهم، و ضلّل آباءهم، فاغتمّوا من ذلك غمّا شديدا، فقال أبو جهل: و اللّه! للموت خير لنا من الحياة، فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمّدا فيقتل به ؟ فقالوا له: لا، فقال: أنا أقتله فإن شاء بنو عبد المطّلب قتلوني به و إلاّ تركوني، فقالوا له: إنّك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي خيرا لا تزال تذكر به.

قال أبو جهل: إنّه كثير السّجود حول الكعبة، فإذا جاء و سجد أخذت حجرا فشدخته به، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فطاف بالبيت سبعا ثمّ صلّى و أطال

ص:105

السّجود، فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه، فلمّا أن قرب منه أقبل فحل - أي ثعبان - من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاغرا فاه، فلمّا أن رآه أبو جهل فزع منه و ارتعدت يده و طرح الحجر فشدخ رجله فرجع مدميّا متغيّر اللّون يفيض عرقا، فقال له أصحابه: ما رأيناك كاليوم ؟ قال: و يحكم! اعذروني فإنّه أقبل من عنده فحل فاغرا فاه كاد أن يبتلعني فرميت الحجر فشدخني.

اليهوديّ : إنّ موسى قد أعطي اليد البيضاء فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟ لقد كان كذلك، فإنّ محمّدا قد اعطي ما هو أفضل من هذا. إنّ نورا كان يضيء عن يمينه حيثما جلس، و عن يساره أينما جلس، و كان النّاس يرونه.

اليهوديّ : إنّ موسى قد ضرب له في البحر طريق فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟ لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب - أي يسيل - فقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة، فقالوا: يا رسول اللّه، العدوّ من ورائنا و الوادي أمامنا كما قال أصحاب موسى: إنّا لمدركون فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: «اللّهمّ إنّك جعلت لكلّ نبيّ مرسل دلالة فأرني قدرتك» و ركب صلّى اللّه عليه و آله فعبرت الخيل لا تندى حوافرها، و الإبل لا تندى أخفافها، فرجعنا فكأن فتحنا فتحا.

اليهوديّ : إنّ موسى قد اعطي الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزل الحديبية و حاصره أهل مكّة، اعطي ما هو أفضل من ذلك، فإنّ أصحابه شكوا إليه الظّمأ، و أصابهم ذلك حتّى التقت خواصر الخيل، فذكروا له ذلك، فدعا بركوة يمانيّة ثمّ نصب يده المباركة فيها فتفجّرت من بين أصابعه عيون الماء، فصدرنا و صدرت الخيل رواء،

ص:106

و ملأنا كلّ مزادة و سقاء... الخ.

اليهوديّ : إنّ موسى قد اعطي المنّ و السلوى، فهل اعطي محمد صلّى اللّه عليه و آله نظير هذا؟ لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ اللّه عزّ و جلّ أحلّ له الغنائم و لامّته، و لم تحلّ لأحد قبله، فهذا أفضل من المنّ و السّلوى، ثمّ زاده بأن جعل النّيّة - أي نيّة عمل الخير - له و لامّته بلا عمل عملا صالحا، و لم يجعل لأحد من الامم ذلك قبله، فإذا همّ أحدهم بحسنة و لم يعملها كتبت له حسنة، و إن عملها كتبت له عشرا.

اليهوديّ : إنّ موسى قد ظلل عليه الغمام.

لقد كان كذلك، و قد فعل ذلك لموسى في التّيه، و اعطي محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل من هذا إنّ الغمامة كانت تظلّه من يوم ولد إلى يوم قبض، في حضره و أسفاره، فهذا أفضل ممّا اعطي موسى.

اليهودي: هذا داود قد ليّن اللّه له الحديد فعمل منه الدروع.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد اعطي ما هو أفضل منه، إنّه ليّن اللّه عزّ و جلّ له الصّمّ الصّخور الصّلاب، و جعلها غارا، و لقد غارت الصّخرة تحت يده ببيت المقدس ليّنة حتّى صارت كهيئة العجين و قد رأينا ذلك، و التمسناه تحت رايته.

اليهوديّ : إنّ داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّه كان إذا قام إلى الصّلاة، سمع لصدره و جوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدّة البكاء، و قد آمنه اللّه عزّ و جلّ من عقابه فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه،

ص:107

و يكون إماما لمن اقتدى به، و لقد قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه، يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك، فقال اللّه عزّ و جلّ :

طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (1) بل لتسعد به، و لقد كان يبكي حتّى يغشى عليه، فقيل له:

يا رسول اللّه، أ ليس اللّه عزّ و جلّ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ قال: بلى أ فلا أكون عبدا شكورا...

اليهوديّ : إنّ سليمان اعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل منه، إنّه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله، و هو ميكائيل، فقال له:

يا محمّد، عش ملكا منعّما، و هذه مفاتيح خزائن الأرض معك، و تسير معك جبالها ذهبا و فضّة، لا ينقص لك فيما ادّخر لك في الآخرة شيء، فأومأ إلى جبرئيل، و كان خليله من الملائكة فأشار إليه: أن تواضع، فقال:

بل أعيش عبدا آكل يوما، و لا آكل يومين، و ألحق بإخواني من الأنبياء من قبلي فزاده اللّه الكوثر و أعطاه الشّفاعة، و ذلك أعظم من ملك الدّنيا من أوّلها إلى آخرها سبعين مرّة، و وعده المقام المحمود، فإذا كان يوم القيامة أقعده اللّه تعالى على العرش، فهذا أفضل ممّا اعطي سليمان بن داود.

اليهوديّ : إنّ سليمان قد سخّرت له الرياح فسارت به في بلاده غدوّها شهر و رواحها شهر.

ص:108


1- طه : ١ _ ٢.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به في ملكوت السّماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتّى انتهى إلى ساق العرش، فدنا بالعلم فتدلّى، فدلّي له من الجنّة رفرف أخضر و غشّي النّور بصره، فرأى عظمة ربّه عزّ و جلّ بفؤاده، و لم يرها بعينه فكان كقاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، فكان فيما أوحى إليه الآية الّتي في سورة البقرة لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ(1).

اليهوديّ : هذا يحيى بن زكريا اوتي الحكم صبيا و الحلم و الفهم، و انّه كان يبكي من غير ذنب و كان يواصل الصوم.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ يحيى بن زكريّا كان في عصر لا أوثان فيه و لا جاهليّة، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اوتي الحكم و الفهم صبيّا بين عبدة الأوثان و حزب الشّيطان، و لم يرغب لهم في صنم قطّ ، و لم ينشط لأعيادهم، و لم ير منه كذب قطّ ، و كان أمينا، صدوقا، حليما، و كان يواصل صوم الأسبوع و الأقل و الأكثر، فيقال له في ذلك: فيقول: إنّي لست كأحدكم، إنّي أظلّ عند ربّي، فيطعمني، و يسقيني، و كان يبكي حتّى يبتلّ مصلاّه خشية من اللّه عزّ و جلّ من غير جرم.

اليهوديّ : إنّ عيسى بن مريم يزعمون أنه تكلّم في المهد صبيا.

ص:109


1- البقرة : ٢٨٤.

لقد كان كذلك، و محمّد سقط من بطن امّه واضعا يده اليسرى على الأرض، و رافعا يده اليمنى إلى السّماء يحرّك شفتيه بالتّوحيد، و بدا من فيه نور رأى أهل مكّة منه قصور بصرى من الشّام و ما يليها، و القصور الحمر من أرض اليمن و ما يليها، و القصور البيض من اسطخر و ما يليها... و لقد أضاءت الدّنيا ليلة ولد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله... الخ.

اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه عزّ و جلّ .

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعطي ما هو أفضل من ذلك، أبرأ ذا العاهة من عاهته، فبينما هو جالس إذ سأل عن رجل من أصحابه، فقالوا:

يا رسول اللّه، إنّه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه، فأتاه، فإذا هو كهيئة الفرخ من شدّة البلاء، فقال:

قد كنت تدعو في صحّتك دعاء؟ قال: نعم، كنت أقول: يا ربّ السّماء، أيّما عقوبة معاقبي بها في الآخرة فعجّلها لي في الدّنيا.

فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ لا قلت: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النّارِ(1)، فقالها، فكأنّما نشط من عقال، و قام صحيحا و خرج معنا...

و ذكر الإمام بوادر كثيرة ممن ابتلوا بالأرض و العاهات، و عافاهم اللّه تعالى ببركة النبي صلّى اللّه عليه و آله. و من بنود هذه المناظرة:

ص:110


1- البقرة : ٢٠١.

اليهوديّ : إنّ عيسى بن مريم يزعمون أنّه أنبأ قومه بما يأكلون و ما يدّخرون في بيوتهم.

لقد كان كذلك، و محمّد فعل ما هو أكثر من ذلك إنّ عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء حائط ، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنبأ عن مؤتة و هو عنها غائب، و وصف حربهم، و من استشهد منهم، و بينه و بينهم مسيرة شهر.

و كان يأتيه الرّجل يريد أن يسأله عن شيء فيقول صلّى اللّه عليه و آله: تقول أو أقول ؟ فيقول: بل قل يا رسول اللّه، فيقول: جئتني في كذا و كذا حتّى يفرغ من حاجته، و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله يخبر أهل مكّة بأسرارهم، حتّى لا يترك من أسرارهم شيئا، منها ما كان بين صفوان بن اميّة، و بين عمير بن وهب إذ أتاه عمير، فقال: جئت في فكاك ابني، فقال له: كذبت، بل قلت لصفوان: و قد اجتمعتم في الحطيم، و ذكرتم قتلى بدر، و اللّه للموت خير لنا من البقاء مع ما صنع محمّد صلّى اللّه عليه و آله بنا، و هل حياة بعد أهل القليب ؟ فقلت أنت: لو لا عيالي و دين عليّ لأرحتك من محمّد، فقال صفوان: عليّ أن أقضي دينك، و أن أجعل بناتي مع بناتك يصيبهنّ ما يصيبهنّ من خير أو شرّ، فقلت أنت:

فاكتمها عليّ و جهّزني حتّى أذهب فأقتله، فجئت لتقتلني، فقال: صدقت يا رسول اللّه، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه، و أشباه هذا ممّا لا يحصى.

اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه خلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه عزّ و جلّ .

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد فعل ما هو أشبه بهذا؛ إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا و تقديسا، ثمّ قال للحجر: انفلق فانفلق ثلاث فلق نسمع لكلّ فلقة منها تسبيحا لا يسمع للاخرى.

ص:111

و لقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته، و لكلّ غصن منها تسبيح و تهليل و تقديس، ثمّ قال لها: انشقى، فانشقّت نصفين، ثمّ قال لها: التزقي فالتزقت، ثمّ قال لها: اشهدي لي بالنّبوّة فشهدت، ثمّ قال لها: ارجعي إلى مكانك بالتّسبيح و التّهليل و التّقديس ففعلت، و كان موضعها بجنب الجزّارين بمكّة.

اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه كان سياحا.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله كانت سياحته في الجهاد و استنفر في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر و باد، و أفنى فئاما من العرب من منعوت بالسّيف... و ذلك لنشر كلمة التوحيد -.

اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون كان زاهدا.

لقد كان كذلك، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله أزهد الأنبياء، كان له ثلاث عشرة زوجة سوى من يطيف به من الإماء، ما رفعت له مائدة قطّ و عليها طعام، و ما أكل خبز برّ قطّ ، و لا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قطّ ، توفّي و درعه مرهونة عند يهوديّ بأربعة دراهم، ما ترك صفراء و لا بيضاء مع ما وطّئ له من البلاد، و مكّن له من غنائم العباد، و لقد كان يقسّم في اليوم الواحد ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف، و يأتيه السّائل بالعشيّ فيقول: و الّذي بعث محمّدا بالحقّ ما أمسى في آل محمّد صاع من شعير، و لا صاع من برّ، و لا درهم، و لا دينار.

و انتهت هذه المناظرة التي حفلت بتفوّق الرسول صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء و امتيازه عليهم بما منحه اللّه و آتاه من الطاقات الهائلة في ميادين الفضائل التي لا حدّ لها، و قد أسلم اليهودي، و قال:

ص:112

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، و أشهد أنّه ما أعطى اللّه نبيّا درجة، و لا مرسلا فضيلة إلاّ و قد جمعها لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و زاد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على الأنبياء صلوات اللّه عليهم أضعافا.

و بهر حبر الامّة عبد اللّه بن عباس من حديث الإمام و قال: أشهد يا أبا الحسن إنّك من الراسخين في العلم.

فقال له الإمام:

و ما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه اللّه تعالى في عظمته فقال:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (1) (2).

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مناظرات الإمام و احتجاجاته مع اليهود و قد حفلت بأروع الأدلّة، و أكثرها أصالة، مما دعا اليهود الذين سألوه و حاججوه إلى إعلان الإسلام و اعتناقه.

ص:113


1- القلم : ٤.
2- بحار الأنوار : ١٠ : ٢٨ _ ٤٨. الاحتجاج ١١١ _ ١٢٠.

ص:114

مناظرته

اشارة

مع الزّنادقة

ص:115

ص:116

كان الإمام عليه السّلام هو المتصدي الوحيد لإبطال الشّبه و الأوهام التي تحوم حول الإسلام في تشريعاته و أحكامه، و التي أثارها الحاقدون على انتصاره، و اقبال الناس أفواجا على اعتناقه، و من المؤكد انه ليس هناك أقدر و لا أولى من حماية الإسلام سوى الإمام عليه السّلام، فقد احاط بفلسفة التشريع الإسلامي، و وقف على دقائقه و محتوياته و انه ليس هناك أي تناقض أو تضاد في جميع تشريعاته التي تواكب الفطرة، و تساير الطبيعة، و تتفق مع سنن الكون، و نعرض لبعض شبهات الزنادقة و المنحرفين و المنجمين، و إبطال الإمام عليه السّلام لها.

ص:117

ص:118

مع زنديق

اشارة

وفد على الإمام عليه السّلام زنديق، و قد اترعت نفسه بالأوهام حول الإسلام، فزعم أنّ هناك تضاربا و تعارضا في آيات القرآن الكريم، فقال للإمام:

لو لا ما في القرآن من الاختلاف و التناقض لدخلت في دينكم و سارع الإمام قائلا:

«ما هو؟».

عرض الزنديق على الإمام عليه السّلام ما التبس عليه من الآيات و هي:

قوله تعالى: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ (1).

و قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا (2).

و قوله تعالى: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ، (3).

و قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ، (4).

ص:119


1- التوبة : ٦٧.
2- الأعراف : ٥١.
3- مريم : ٦٤.
4- النبأ : ٣٨.

و قوله تعالى: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (1).

و قوله تعالى: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (2).

و قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ ، (3).

و قوله تعالى: قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ، (4).

و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، (5)،.

و قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ . إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (6).

و قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ...(7).

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (8).

و قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (9).

و قوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً... (10).

ص:120


1- الأنعام : ٢٣.
2- العنكبوت : ٢٥.
3- ص : ٦٤.
4- ق : ٢٨.
5- يس : آية ٦٥.
6- القيامة : ٢٢ _ ٢٣.
7- الأنعام : ١٠٣.
8- النجم : ١٣ _ ١٤.
9- طه : ١٠٩.
10- الشورى : ٥١.

و قوله تعالى: كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (1).

و قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ... (2).

و قوله تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ، (3).

و قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ... (4)، .

و قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ، (5)،.

و قوله تعالى: وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها (6).

و قوله تعالى: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ (7).

و قوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8)..

و انبرى الإمام عليه السّلام إلى تفسير هذه الآيات بما يرفع التعارض المتوهم:

أمّا قوله: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إنّما يعني نسوا اللّه في دار الدّنيا، لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسيّين من الخير.

و كذلك تفسير قوله عزّ و جلّ : فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ

ص:121


1- المطفّفين : ١٥.
2- الأنعام : ١٥٨.
3- السجدة : ١٠.
4- التوبة : ٧٧.
5- الكهف : ١١٠.
6- الكهف : ٥١.
7- الأنبياء : ٤٧.
8- المؤمنون : ١٠٢ _ ١٠٣.

هذا، يعني بالنّسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الّذين كانوا في دار الدّنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به و برسله، و خافوه بالغيب.

و أمّا قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ، فإنّ ربّنا تبارك و تعالى علوّا كبيرا ليس بالّذي ينسى و لا يغفل بل هو الحفيظ العليم، و قد يقول العرب في باب النّسيان قد نسينا فلان فلا يذكرنا، أي أنّه لا يأمر لنا بخير و لا يذكرنا به فهل فهمت ما ذكر اللّه عزّ و جلّ ؟ قال: نعم، فرّجت عنّي فرّج عنك و حللت عنّي عقدة فعظّم اللّه أجرك. قال:

و أمّا قوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ، .

و قوله: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ ، .

و قوله: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، .

و قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ. .

و قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ . .

و قوله: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ . ، فإنّ ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الّذي كان مقداره خمسين ألف سنة.

المراد: يكفر - أهل المعاصي - بعضهم بعضا، و يلعن بعضهم بعضا، و الكفر في هذه الآية «البراءة» تقول: فتبرّأ بعضهم من بعض، و نظيرها في سورة إبراهيم، قول الشّيطان: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ . (1)، و قول إبراهيم خليل الرّحمن: كَفَرْنا بِكُمْ .

ص:122


1- إبراهيم : ٢٢.

يعني تبرّأنا منكم.

اجتماع العباد في مواطن:

و أفاد الإمام عليه السّلام أنّ العباد يجتمعون يوم القيامة في مواطن متعدّدة و هي:

- ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطقون و يبكون فيه، فلو أنّ تلك الأصوات بدت لأهل الدّنيا لأذهلت جميع الخلق عن معايشهم، و لتصدّعت قلوبهم... الخ.

- ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه، فيقولون: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ ، و هؤلاء خاصّة هم المقرّون في دار الدّنيا بالتّوحيد، فلا ينفعهم إيمانهم باللّه لمخالفتهم رسله و شكّهم فيما أتوا به عن ربّهم، و نقضهم عهودهم في أوصيائهم، و استبدالهم الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، فكذّبهم اللّه فيما انتحلوه من الإيمان بقوله: اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ (1)، ،فيختم اللّه على أفواههم، و يستنطق الأيدي و الأرجل و الجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم، فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيء.

- ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون، فيفرّ بعضهم من بعض فذلك قوله عزّ و جلّ : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ . (2)،

وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ، ، فيستنطقون فلا يتكلّمون إلاّ من...

ص:123


1- الأنعام : ٢٤.
2- عبس : ٣٤ _ ٣٦.

- ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء اللّه و أصفياؤه، فلا يتكلّم أحد إلاّ من أذن له الرّحمن و قال صوابا، فيقوم الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالة الّتي حملوها إلى اممهم، و تسأل الامم فتجحد كما قال اللّه تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (1) فيقولون: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ (2)، ، فتشهد الرّسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيشهد بصدق الرّسل، و تكذيب من جحدها من الامم، فيقول - لكلّ أمّة منهم -: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم، كذلك قال اللّه لنبيّه: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، (3)، فلا يستطيعون ردّ شهادته، خوفا من أن يختم اللّه على أفواههم، و تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، و يشهد على منافقي قومه و امّته و كفّارهم بإلحادهم و عنادهم، و نقضهم عهده، و تغييرهم سنّته، و اعتدائهم على أهل بيته، و انقلابهم على أعقابهم و ارتدادهم على أدبارهم، و احتذائهم في ذلك سنّة من تقدّمهم من الامم الظّالمة الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ ، (4).

- ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو «المقام المحمود» فيثني على اللّه بما لم يثن عليه أحد قبله، ثمّ يثني على

ص:124


1- الأعراف : ٦.
2- المائدة : ١٩.
3- النساء : ٤١.
4- المؤمنون : ١٠٦.

الملائكة كلّهم، فلا يبقى ملك إلاّ أثنى عليه محمّد، ثمّ يثني على الأنبياء، بما لم يثن عليهم أحد قبله، ثمّ يثني على كلّ مؤمن و مؤمنة يبدأ بالصّدّيقين و الشّهداء ثمّ الصّالحين، فيحمده أهل السّماوات و أهل الأرضين، فذلك قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً(1).

فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظّ و نصيب، و ويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظّ و لا نصيب.

- ثمّ يجتمعون في موطن آخر، و يزال بعضهم عن بعض، و هذا كلّه قبل الحساب، فإذا اخذ في الحساب شغل كلّ إنسان بما لديه، نسأل اللّه بركة ذلك اليوم.

لقد عرض الإمام عليه السّلام إلى تفصيل المواقف التي يقف بها العباد في يوم القيامة و ذلك قبل يوم الحساب، و لا أظن أن رواية وردت عن أئمة الهدى عليهم السّلام عرضت لذلك بصورة مفصلة.

ثمّ يأخذ الإمام عليه السّلام في تفسير الآيات التي سئل عنها و غيرها فيقول:

و أمّا قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ . إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء اللّه عزّ و جلّ بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمّى «نهر الحيوان» فيغتسلون منه، و يشربون من آخر، فتبيضّ وجوههم فيذهب عنهم كلّ أذى و قذى و وعث، ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم - أي إلى عطائه كيف يثيبهم، و منه يدخلون الجنّة فذلك قول اللّه عزّ و جلّ في تسليم الملائكة عليهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ،

ص:125


1- الإسراء : ٧٩.

طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (1)، فعند ذلك اثيبوا بدخول الجنّة، و النّظر إلى ما وعدهم اللّه عزّ و جلّ و هو قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، أي منتظرة... الخ.

و أمّا قوله تعالى: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، يعني محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق اللّه عزّ و جلّ ، و قوله في آخر الآية: ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى . لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (2)، ، رأى جبرئيل في صورته مرّتين هذه مرّة و مرّة اخرى، و ذلك أن خلق جبرئيل خلق عظيم فهو من الرّوحانيّين الّذين لا يدرك خلقهم و لا صفتهم إلاّ اللّه ربّ العالمين.

و أمّا قوله: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ... (3)، ، كذلك قال اللّه تعالى، و قد كان الرّسول يوحي إليه رسل من السّماء فتبلغ رسل السّماء إلى الأرض، و قد كان الكلام بين رسل أهل الأرض و بينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السّماء، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، هل رأيت ربّك ؟ فقال جبرئيل: إنّ ربّي لا يرى.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أين تأخذ الوحي ؟ قال: آخذه من إسرافيل.

ص:126


1- الزمر : ٧٣.
2- النجم : ١٧ _ ١٨.
3- الشورى : ٥١.

قال: و من أين يأخذه إسرافيل ؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من الرّوحانيّين.

قال: و من أين يأخذه ذلك الملك ؟ قال: يقذف في قلبه قذفا فهذا وحي، و هو كلام اللّه عزّ و جلّ ، و كلام اللّه ليس بنحو واحد:

منه ما كلّم اللّه به الرّسل.

و منه ما قذف في قلوبهم.

و منه رؤيا يراها الرّسل.

و منه وحي و تنزيل يتلى و يقرأ، فهو كلام اللّه عزّ و جلّ .

و أمّا قوله: كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (1) فإنّما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربّهم لمحجوبون.

و قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ (2)، ، يخبر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عن المشركين و المنافقين الّذين لم يستجيبوا للّه و لرسوله فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ، و حيث لم يستجيبوا للّه و لرسوله قال: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ، يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدّنيا، كما عذّب في القرون الاولى، فهذا خبر يخبر به النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنهم، ثمّ قال:

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ ،

ص:127


1- المطفّفين : ١٥.
2- الأنعام : ١٥٨.

قَبْلُ ، يعني لم تكن آمنت من قبل أن تأتي هذه الآية، و هي طلوع الشّمس من مغربها.

و قال في آية اخرى: فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (1)، ،يعني أرسل عليهم عذابا، و كذلك إتيانه بنيانهم حيث قال: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ، ، يعني أرسل عليهم العذاب.

و أمّا قوله عزّ و جلّ : بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (2)، .

و قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ ، القيامة.

و قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً. يعني: البعث، فسمّاه لقاء.

كذلك قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ (3). ، يعني: من كان يؤمن أنّه مبعوث فإنّ وعد اللّه لآت: من الثّواب و العقاب، فاللّقاء هاهنا ليس بالرؤية، و اللّقاء هو البعث.

و أمّا قوله عزّ و جلّ : وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها . يعني تيقّنوا أنّهم يدخلونها.

و كذلك قوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (4)..

و أمّا قوله عزّ و جلّ للمنافقين: وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا(5). ،، فهو ظنّ

ص:128


1- الحشر : ٢.
2- النحل : ٢٦.
3- العنكبوت : ٥.
4- الحاقّة : ٢٠.
5- الأحزاب : ١٠.

شكّ و ليس ظنّ يقين، و الظّنّ ظنّان: ظنّ شكّ ، و ظنّ يقين، فما كان من أمر المعاد من الظّنّ فهو ظنّ يقين، و ما كان من أمر الدّنيا فهو ظنّ شكّ .

و أمّا قوله عزّ و جلّ : وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، فهو ميزان العدل، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة، يدين اللّه تبارك و تعالى الخلائق بعضهم من بعض و يجزيهم بأعمالهم، و يقتصّ للمظلوم من الظّالم.

و معنى قوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، و: وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، ، فهو قلّة الحساب و كثرته، و النّاس يومئذ على طبقات و منازل:

فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا، و ينقلب إلى أهله مسرورا.

و منهم الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب لأنّهم لم يتلبّسوا من أمر الدّنيا، و إنّما الحساب هناك على من تلبّس بها هاهنا.

و منهم من يحاسب على النّقير و القطمير، و يصير إلى عذاب السّعير.

و منهم أئمّة الكفر و قادة الضّلالة، فاولئك لا يقيم لهم وزنا، و لا يعبأ بهم يوم القيامة، و هم في جهنّم خالدون و تلفح وجوههم النّار، و هم فيها كالحون.

الزنديق:

- أجد اللّه يقول: قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (1)، .

و في موضع آخر يقول: اَللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها (2)، .

ص:129


1- السجدة : ١١.
2- الزمر : ٤٢.

اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ (1) و ما أشبه ذلك، فمرّة يجعل الفعل لنفسه، و مرّة لملك الموت، و مرّة للملائكة.

- أجده يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ (2).

و يقول: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (3)، ، ففي الآية الاولى انّ الأعمال الصالحة لا تكفر.

و في الثانية أنّ الإيمان و الأعمال الصالحات لا تنفع إلاّ بعد الاهتداء.

- و أجده يقول: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا (4)، ، كيف يسأل الحيّ من الأموات قبل البعث و النشور؟ - أجده يقول: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (5)، ، فما هذه الأمانة، و من هذا الإنسان، و ليس من صفة العزيز العليم التلبيس على عباده ؟ - أجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (6). .

و بتكذيبه نوحا لمّا قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي (7). . بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (8).

ص:130


1- النحل : ٣٢.
2- الأنبياء : ٩٤.
3- طه : ٨٢.
4- الزخرف : ٤٥.
5- الأحزاب : ٧٢.
6- طه : ١٢١.
7- هود : ٤٥.
8- هود : ٤٦.

و بوصفه إبراهيم بأنّه عبد كوكبا مرّة، و مرّة قمرا، و مرّة شمسا.

و بقوله في يوسف: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ (1).

و بتهجينه موسى حيث قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي (2).

و يبعثه جبرئيل و ميكائيل على داود حيث تسوّرا المحراب، و بحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا، و أظهر خطأ الأنبياء و زللهم، و وارى اسم من اغتر و فتن خلقا و ضل و أضل، و كنى عن أسمائهم في قوله: وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ، (3)، فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟ - و أجده يقول: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ، الفجر : ٢٢..

و هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ (4)، ،.

و لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى (5). . فمرّة يجيئهم و مرّة يجيئونه.

- و أجده يقول: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (6). . فما هذا النعيم الذي يسأل العباد عنه ؟

ص:131


1- يوسف : ٢٤.
2- الأعراف : ١٤٣.
3- الفرقان : ٢٧ _ ٢٩.
4- الأنعام : ١٥٨.
5- الأنعام : ٩٤.
6- التكاثر : ٨.

- و أجده يقول: بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ (1) ما هذه البقية ؟ - و أجده يقول: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ (2).

و فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ، (3).

كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ، (4).

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ، (5)،.

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ . (6).، ما معنى الجنب و الوجه و اليمين و الشمال فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟ - و أجده يقول: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى . (7).

و يقول: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ (8).

وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ (9).

وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (10).

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (11).

1

ص:132


1- هود : ٨٦.
2- الزمر : ٥٦.
3- البقرة : ١١٥.
4- القصص : ٨٨.
5- الواقعة : ٢٧.
6- الواقعة : ٤١.
7- طه : ٥.
8- الملك : ١٦.
9- الزخرف : ٨٤.
10- الحديد : ٤.
11- ق : ١٦.

ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ (1).

- و أجده يقول: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ، (2)، و ليس يشبه القسط في اليتامى من نكاح النساء و لا كل النساء أيتام فما معنى ذلك ؟ - و أجده يقول: وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ، (3)، فكيف يظلم اللّه ؟ و من هؤلاء الظلمة ؟ - و أجده يقول: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ، (4)، ما هذه الواحدة ؟ - أجده يقول: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ، (5)، و أرى مخالفي الإسلام، معتكفين على باطلهم غير مقلعين عنه، و أرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم يلعن بعضهم بعضا، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم ؟ - أجده قد بيّن فضل نبيّه على سائر الأنبياء، ثمّ خاطبه في أضعاف ما أثنى عليه في الكتاب من الإزراء عليه، و انتقاص محله، و غير ذلك من تهجينه و تأنيبه ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء، مثل قوله:

وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (6). .

و قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (7). .

ص:133


1- المجادلة : ٧.
2- النساء : ٣.
3- الأعراف : ١٦٠.
4- سبأ : ٤٦.
5- الأنبياء : ١٠٧.
6- الأنعام : ٣٥.
7- الإسراء : ٧٤.

إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً(1).

و قوله: وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النّاسَ وَ اللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (2).

و قوله: وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ، (3).

و قال: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ، (4).

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (5)، ،، فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام و هو وصيّ النبيّ ، فالنبيّ أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها:

وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ . و هذه كلّها صفات مختلفة، و أحوال متناقضة، و امور مشكلة، فإن يكن الرسول و الكتاب حقّا فقد هلكت لشكّي في ذلك، و إن كانا باطلين فما عليّ من بأس ؟ جواب الإمام:

و انبرى الإمام عليه السّلام إلى تفنيد هذه الشبه و الأوهام، قائلا:

«سأنبّئك بتأويل ما سألت»، و فيما يلي ذلك:

أمّا قوله تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها . .

و قوله: قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ . .

تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ..

ص:134


1- الإسراء : ٧٥.
2- الأحزاب : ٣٧.
3- الأحقاف : ٩.
4- الأنعام : ٣٨.
5- الأنعام : ٣٨.

اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ (1) فهو تبارك و تعالى أجلّ و أعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه، و فعل رسله و ملائكته فعله لأنّهم بأمره يعملون، فاصطفى جلّ ذكره من الملائكة رسلا و سفرة بينه و بين خلقه، و هم الّذين قال اللّه فيهم: اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ (2)، ، فمن كان من أهل الطّاعة تولّت قبض روحه ملائكة الرّحمة، و من كان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائكة النّقمة، و لملك الموت أعوان من ملائكة الرّحمة و النّقمة يصدرون عن أمره، و فعلهم فعله، و كلّ ما يأتونه منسوب إليه، و إذا كان فعلهم فعل ملك الموت، و فعل ملك الموت فعل اللّه لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء، و يعطي و يمنع، و يثيب و يعاقب على يد من يشاء، و إنّ فعل امنائه فعله كما قال:

وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (3)، .

و أمّا قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ، .

و قوله: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ، فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلاّ مع الاهتداء، و ليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنّجاة ممّا هلك به الغواة، و لو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتّوحيد، و إقرارها باللّه، و نجا سائر المقرّين بالوحدانيّة، من إبليس فمن دونه بالكفر، و قد بيّن اللّه ذلك بقوله:

ص:135


1- النحل : ٢٨.
2- الحجّ : ٧٥.
3- الإنسان : ٣٠.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (1).

و بقوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ (2)، ،، و للإيمان حالات و منازل يطول شرحها. و من ذلك أنّ الإيمان قد يكون على وجهين:

إيمان بالقلب و إيمان باللّسان، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول اللّه لمّا قهرهم بالسّيف، و شملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم، و لم تؤمن قلوبهم، فالإيمان بالقلب هو التّسليم للرّبّ ، و من سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السّجود لآدم، و استكبر أكثر الامم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التّوحيد، كما لم ينفع إبليس ذلك السّجود الطّويل، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام، و لم يرد بها غير زخرف الدّنيا، و التّمكين من النّظرة، فلذلك لا تنفع الصّلاة و الصّدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النّجاة، و طرق الحقّ ، و قد قطع اللّه عذر عباده بتبيين آياته، و إرسال رسله، لئلا يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل، و لم يخل أرضه من عالم بما تحتاج إليه الخليقة، و متعلّم على سبيل النّجاة، اولئك هم الأقلّون عددا، و قد بيّن اللّه ذلك في امم الأنبياء و جعلهم مثلا لمن تأخّر، مثل قوله في قوم نوح:

وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (3)، .

ص:136


1- الأنعام : ٨٢.
2- المائدة : ٤١.
3- هود : ٤٠.

و قوله فيمن آمن من أمّة موسى: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (1).

و قوله في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (2)، ، يعني: بأنّهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم، و لا يستكبرون عن أمر ربّهم فما أجابه - أي عيسى - منهم إلاّ الحواريّون.

و قد جعل اللّه للعلم أهلا، و فرض على العباد طاعتهم بقوله: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (3)، .

و بقوله: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (4)، .

و بقوله: اِتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (5)، ،.

و بقوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (6). . وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (7). .، و البيوت هي بيوت العلم الّذي استودعه الأنبياء، و أبوابها أوصياؤهم، فكلّ من عمل من أعمال الخير فجرى على

ص:137


1- الأعراف : ١٥٩.
2- آل عمران : ٥٢.
3- النساء : ٥٩.
4- النساء : ٨٣.
5- التوبة : ١١٩.
6- آل عمران : ٧.
7- البقرة : ١٨٩.

غير أيدي أهل الاصطفاء و عهودهم و شرائعهم و سننهم و معالم دينهم مردود و غير مقبول، و أهله بمحلّ كفر، و إن شملتهم صفة الإيمان، أ لم تسمع إلى قوله تعالى: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ (1)؟ فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النّجاة لم يغن عنه إيمانه باللّه مع دفع حقّ أوليائه، و حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين، و كذلك قال اللّه سبحانه: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا (2).

و هذا كثير في كتاب اللّه عزّ و جلّ ، و الهداية هي: الولاية كما قال اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ، (3)، و الّذين آمنوا في هذا الموضع هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج و الأوصياء في عصر بعد عصر، و ليس كلّ من أقرّ أيضا من أهل القبلة بالشّهادتين كان مؤمنا. إنّ المنافقين كانوا يشهدون: أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و يدفعون عهد رسول اللّه بما عهد به من دين اللّه و عزائمه و براهين نبوّته إلى وصيّه، و يضمرون من الكراهة لذلك، و النّقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم، فيما قد بيّنه اللّه لنبيّه بقوله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (4)، .

ص:138


1- التوبة : ٥٤.
2- غافر : ٨٥.
3- المائدة : ٥٦.
4- النساء : ٦٥.

و بقوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (1).

و مثل قوله: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (2)، ،، أي لتسلكنّ سبيل من كان قبلكم من الامم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.

و هذا كثير في كتاب اللّه عزّ و جلّ ، و قد شقّ على النّبيّ ما يؤول إليه عاقبة أمرهم، و اطلاع اللّه إيّاه على بوارهم فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه:

فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ، ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (3)، .

أمّا قوله: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا (4)، فهذا من براهين نبيّنا الّتي آتاه اللّه إيّاها، و أوجب به الحجّة على سائر خلقه، لأنّه لمّا ختم به الأنبياء، و جعله اللّه رسولا إلى جميع الامم، و سائر الملل، خصّه اللّه بالارتقاء إلى السّماء عند المعراج، و جمع له يومئذ الأنبياء، فعلم منهم ما ارسلوا به، و حملوه من عزائم اللّه و آياته و براهينه، و أقرّوا جميعا بفضله و فضل الأوصياء و الحجج في الأرض من بعده و فضل شيعة وصيّه من المؤمنين و المؤمنات الّذين سلّموا لأهل الفضل فضلهم، و لم يستكبروا عن أمرهم، و عرف من أطاعهم و عصاهم من اممهم، و سائر من مضى و من غبر، أو من تقدّم و تأخّر.

ص:139


1- آل عمران : ١٤٤.
2- الانشقاق : ١٩.
3- فاطر : ٨.
4- المائدة : ٦٨.

و أمّا هفوات الأنبياء و ما بيّنه اللّه في كتابه، و وقوع الكناية... ممّن شهد الكتاب بظلمهم فإنّ ذلك من أدلّ الدّلائل على حكمة اللّه عزّ و جلّ الباهرة، و قدرته القاهرة، و عزّته الظّاهرة لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور اممهم، و أنّ منهم من يتّخذ بعضهم إليها، كالّذي كان من النّصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلّفهم عن الكمال الّذي تفرّد به عزّ و جلّ .

أ لم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال - فيه و في امّه -: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (1)؟ يعني أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل، و من كان له ثقل فهو بعيد ممّا ادّعته النّصارى لابن مريم، و لم يكنّ عن أسماء الأنبياء تبجّرا (2)، أو تعزّرا (3)...

إلى آخر ما أفاده الإمام في هذا الموضوع.

و أمّا قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ، .

و قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ، فذلك كلّه حقّ ، و ليست جيئته جلّ ذكره كجيئة خلقه فإنّه ربّ كلّ شيء.

و من كتاب اللّه عزّ و جلّ يكون تأويله على غير تنزيله، و لا يشبّه تأويله بكلام البشر، و لا فعل البشر، و سأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء اللّه تعالى و هو حكاية اللّه عزّ و جلّ عن إبراهيم عليه السّلام حيث قال: إِنِّي ،

ص:140


1- المائدة : ٧٥.
2- البجر : العيب.
3- التعزير : اللوم والتأديب.

ذاهِبٌ إِلى رَبِّي(1)، فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه في عبادته و اجتهاده، أ لا ترى أنّ تأويله غير تنزيله - أي غير ظاهره -؟ و قال: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (2)، ،، و قال: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (3)، ، فإنزاله ذلك خلقه إيّاه.

و كذلك قوله: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (4)، ، أي الجاحدين، و التّأويل في هذا القول باطنه مضادّ لظاهره.

و معنى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ، فإنّما خاطب نبيّنا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله هل ينتظر المنافقون و المشركون إلاّ أن تأتيهم الملائكة فيعاينوهم ؟ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ . ، يعني بذلك أمر ربّك، و الآيات هي العذاب في دار الدّنيا، كما عذّب الامم السّالفة، و القرون الخالية.

و قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها (5). ،، يعني بذلك ما يهلك من القرون فسمّاه إتيانا.

و قال: قاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ (6). .، أي لعنهم اللّه أنّي يؤفكون، فسمّى اللّعنة قتالا.

ص:141


1- الصافّات : ٩٩.
2- الزمر : ٦.
3- الحديد : ٢٥.
4- الزخرف : ٨١.
5- الرعد : ٤١.
6- المنافقون : ٤.

و كذلك قال: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (1)، أي لعن الإنسان.

و قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (2)، ،، فسمّى فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فعلا له، أ لا ترى تأويله على غير تنزيله ؟ و مثل قوله: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (3)، ، فسمّى البعث لقاء.

و كذلك قوله: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ (4)، ،، أي يوقنون أنّهم مبعوثون ليوم عظيم، و اللّقاء عند المؤمن البعث و عند الكافر المعاينة و النّظر.

و يأخذ في إيضاح هذه الجهة أنّ المراد غير التنزيل.

و أمّا معنى قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (5)، ، فذلك حجّة اللّه أقامها على خلقه، و عرّفهم أنّه لا يستحقّ مجلس النّبيّ إلاّ من يقوم مقامه، و لا يتلوه إلاّ من يكون في الطّهارة مثله، لئلاّ يتّسع لمن ماسّه حسّ الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله...

و عرض الإمام عليه السّلام بعض الامور التي ترتبط بذلك.

و أمّا الأمانة الّتي ذكرتها فهي الأمانة الّتي لا تجب و لا تجوز أن تكون إلاّ في الأنبياء و أوصيائهم؛ لأنّ اللّه تبارك و تعالى ائتمنهم على خلقه،

ص:142


1- عبس : ١٧.
2- الأنفال : ١٧.
3- السجدة : ١٠.
4- البقرة : ٤٦.
5- هود : ١٧.

و جعلهم حججا في أرضه... إلى آخر ما ذكره.

و أمّا ما كان من الخطاب بالانفراد مرّة و بالجمع مرّة، من صفات الباري جلّ ذكره، فإنّ اللّه تبارك و تعالى اسمه على ما وصف به نفسه بالانفراد و الوحدانيّة، هو النّور الأزليّ القديم الّذي ليس كمثله شيء، لا يتغيّر و يحكم ما يشاء و يختار، و لا معقّب لحكمه، و لا رادّ لقضائه، و لا ما خلق زاد في ملكه و عزّه، و لا نقص منه ما لم يخلقه، فخلق ما شاء كما شاء، و أجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من امنائه، و كان فعلهم فعله، و أمرهم أمره، كما قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (1) و جعل السّماء و الأرض وعاء لمن يشاء من خلقه ليميز الخبيث من الطّيّب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها...

و تحدّث الإمام بصورة مستوعبة عن الإمامة و ضرورتها و ما يرتبط بالموضوع.

و أمّا قوله تعالى: كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (2)، ، فالمراد كلّ شيء هالك إلاّ دينه لأنّه من المحال أن يهلك منه كلّ شيء و يبقى الوجه، هو أجلّ و أكرم و أعظم من ذلك، إنّما يهلك من ليس منه. أ لا ترى أنّه قال:

كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ . وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (3)، ،؟ و حوت المناظرة التالية على بعض البحوث التي لا يقرها العلم، و قد أعرضنا عن ذكرها لاعتقادنا أنّها من الموضوعات، و نكتفي بهذا المقدار منها(4).

1

ص:143


1- النساء : ٨٠.
2- القصص : ٨٨.
3- الرحمن : ٢٦ _ ٢٧.
4- ومن أراد الوقوف عليها فإنها في الاحتجاج للطبرسي ١ : ٣٥٨ _ ٣٨٤.

مع ابن الكوّاء

أمّا ابن الكوّاء، فهو خبيث دنس قد اترعت نفسه بالزندقة و المروق من الدين، و كان من سعة حلم الإمام عليه السّلام و عظيم أخلاقه أن فسح المجال لهذا الوضر الخبيث بالتطاول عليه، و لم يتّخذ معه الإجراءات الصارمة فيعتقله أو ينفيه، و قد آل أمر هذا الخبيث أن صار من عيون الخوارج، فكان يجابه الإمام بالكلمات القاسية فيقول له:

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1).

فيجيبه الإمام الممتحن بقوله تعالى:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (2).

و على أي حال فقد جرت بين الإمام و ابن الكوّاء عدّة مناظرات لم يكن غرض ابن الكوّاء الوقوف على الواقع و التعرّف على الحقّ ، و إنّما غرضه امتحان الإمام و ازعاجه، و من بين تلك المناظرات ما يلي:

ابن الكوّاء: أخبرني عن بصير بالليل و بصير بالنهار؟ و عن أعمى بالليل و أعمى بالنهار.

و عن أعمى بالليل بصير بالنهار.

ص:144


1- الزمر : ٦٥.
2- الروم : ٦٠.

و عن أعمى بالنهار بصير بالليل ؟ الإمام:

«سل عمّا يعنيك و لا تسأل عمّا لا يعنيك. ويلك! أمّا بصير باللّيل و بصير بالنّهار: فهو رجل آمن بالرّسل و الأوصياء الّذين مضوا و بالكتب و النّبيّين و آمن باللّه و نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أقرّ لي بالولاية، فأبصر في ليلة و نهاره.

و أمّا بصير باللّيل أعمى بالنّهار: فرجل آمن بالأنبياء و الكتب، و جحد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنكر حقّا فأبصر باللّيل و عمي بالنّهار.

و أمّا أعمى باللّيل أعمى بالنّهار: فرجل جحد الأنبياء و الأوصياء و الكتب الّتي مضت، و أدرك النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يؤمن به، و لم يقرّ بولايتي، فجحد اللّه عزّ و جلّ و نبيّه فعمي باللّيل و عمي بالنّهار.

و أمّا أعمى باللّيل و بصير بالنّهار، فرجل جحد الأنبياء الّذين مضوا و الأوصياء و الكتب، و أدرك محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فآمن باللّه و برسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و آمن بإمامتي، و قبل ولايتي، فعمي باللّيل و أبصر بالنّهار.

ويلك يا ابن الكوّاء! نحن بنو أبي طالب، بنا فتح اللّه الإسلام، و بنا يختمه» (1).

و لم يكن يبغي ابن الكوّاء في هذه المناظرة الوقوف على الواقع و الانتهال من نمير علوم الإمام، و إنّما كان يبغي التبكيت بالإمام و امتحانه.

ص:145


1- الاحتجاج ١ : ٣٢٩.

كان إمام المتّقين على المنبر يخطب الناس و يوعظهم، و يرشدهم إلى طريق الحقّ ، فانبرى إليه ابن الكوّاء فقال له:

أخبرني عن ذي القرنين أ نبيّا كان أم ملكا؟ و أخبرني عن قرنيه أمن ذهب كانا أم من فضّة ؟ فأجابه الإمام:

«لم يكن نبيّا و لا ملكا، و لم يكن قرناه من ذهب و لا فضّة، و لكنّه كان عبدا أحبّ اللّه فأحبّه اللّه، و نصح للّه فنصح اللّه له، و إنّما سمّي «ذا القرنين» لأنّه دعا قومه إلى اللّه عزّ و جلّ فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثمّ عاد إليهم، فضرب على قرنه الآخر، و فيكم مثله»(1).

يعني نفسه الشريفة، فقد ضربه عمرو بن عبد ودّ على قرنه الأوّل، و ضربه الزنيم الفاجر ابن ملجم ضربة اخرى على هامته ففلقها، و كانت بها شهادته.

روى الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند الإمام عليه السّلام فجاء ابن الكوّاء، فقال للإمام: من البيوت في قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، (2)،؟ فقال الإمام عليه السّلام:

«نحن البيوت الّتي أمر اللّه بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللّه و بيوته الّتي يؤتى منها، فمن تابعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها،

ص:146


1- المصدر السابق ١ : ٣٤١.
2- البقرة : ١٨٩.

و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها».

فقال ابن الكوّاء: وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ (1)؟ فأجابه الإمام:

«نحن أصحاب الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف يوم القيامة بين الجنّة و النّار، و لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرنا و أنكرناه، و ذلك بأنّ اللّه عزّ و جلّ لو شاء عرّف للنّاس نفسه حتّى يعرفوه وحده، و يأتوه من بابه، و لكنّه جعلنا أبوابه و صراطه و بابه الّذي يؤتى منه، فقال - فيمن عدل عن ولايتنا و فضّل علينا غيرنا فإنّهم عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (2)، ،»(3).

كان الإمام عليه السّلام على المنبر يخطب الناس، فانبرى إليه ابن الكوّاء فقال له:

يا أمير المؤمنين، ما الذاريات ذروا؟ «الرّياح».

ما الحاملات وقرا؟ «السّحاب».

ما الجاريات يسرا؟ «السّفن».

ما المقسّمات أمرا؟

ص:147


1- الأعراف : ٤٦.
2- المؤمنون : ٧٤.
3- الاحتجاج ١ : ٣٣٧ _ ٣٣٨.

«الملائكة».

وجدت كتاب اللّه ينقض بعضه بعضا.

«ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! كتاب اللّه يصدّق بعضه بعضا، و لا ينقض بعضه بعضا سل عمّا بدا لك».

سمعته يقول: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ (1).

و يقول: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (2).

و قال في آية اخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ ، (3).

«يا ابن الكوّاء! هذا المشرق و هذا المغرب».

و أومأ إلى جهة المشرق و المغرب.

«و أمّا قوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ، فإنّ مشرق الشّتاء على حدة و مشرق الصّيف على حدة، أ ما تعرف ذلك من قرب الشّمس و بعدها؟ و أمّا قوله: بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ، ، فإنّ لها - أي الشمس - ثلاثمائة و ستّين برجا، تطلع كلّ يوم من برج و تغيب في آخر، فلا تعود إليه إلاّ من قابل في ذلك اليوم».

كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك ؟ «ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! سل متعلّما و لا تسأل متعنّتا، من موضع

ص:148


1- المعارج : ٤٠.
2- الرحمن : ١٧.
3- المزمل : ٩.

قدمي إلى عرش ربّي أن يقول قائل - مخلصا -: لا إله إلاّ اللّه».

ما ثواب من قال: لا إله إلاّ اللّه ؟ «من قال: لا إله إلاّ اللّه مخلصا طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّقّ الأبيض، فإن قال ثانية: لا إله إلاّ اللّه مخلصا خرقت أبواب السّماوات و صفوف الملائكة حتّى تقول الملائكة اخشعوا لعظمة اللّه، فإذا قال ثالثة: لا إله إلاّ اللّه - مخلصا - تنتهي دون العرش، فيقول الجليل: لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه، ثمّ تلا قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ (1) ارتفع قوله و كلامه».

أخبرني عن قوس قزح ؟ «لا تقل: قوس قزح، فإنّ قزحا اسم شيطان، و لكن قل: قوس اللّه إذا بدا يبدو الخصب و الرّيف».

أخبرني عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ «عن أيّ أصحاب رسول اللّه تسألني ؟».

قال: أخبرني عن أبي ذرّ الغفاري ؟ «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ما أظلّت الخضراء، و لا أقلّت الغبراء، ذا لهجة أصدق من أبي ذرّ».

أخبرني عن سلمان الفارسي ؟ «بخ بخ سلمان منّا أهل البيت، و من لكم بمثل لقمان الحكيم ؟ علم علم الأوّل و الآخر».

ص:149


1- فاطر : ١٠.

أخبرني عن حذيفة بن اليماني ؟ «ذاك امرؤ علم أسماء المنافقين، إن تسألوه عن حدود اللّه تجدوه بها عالما».

أخبرني عن عمّار بن ياسر؟ «ذاك امرؤ حرّم اللّه لحمه و دمه على النّار أن تمسّ شيئا منها».

اخبرني عن نفسك ؟ «كنت إذا سألت اعطيت، و إذا سكتّ ابتدئت».

أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً(1)؟ «كفرة أهل الكتاب: اليهود و النّصارى، و قد كانوا على الحقّ فابتدعوا في أديانهم، و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا».

ثمّ نزل الإمام عن المنبر، و ضرب بيده على منكب ابن الكوّاء، و قال له:

«يا ابن الكوّاء! ما أهل النّهروان منك ببعيد!».

فقال ابن الكوّاء: ما اريد غيرك، و لا أسأل سواك.

و لم تمض الأيام حتّى كان ابن الكوّاء في مقدّمة المحاربين للإمام يوم النهروان، فقيل له: بالأمس تسأل أمير المؤمنين و أنت اليوم تقاتله ؟ و انبرى إليه رجل فطعنه برمحه فهلك عدوّ اللّه (2).

ص:150


1- الكهف : ١٠٣.
2- الاحتجاج ١ : ٣٨٦ _ ٣٨٨.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه:

«سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب اللّه عزّ و جلّ ، فو اللّه ما نزلت آية من كتاب اللّه في ليل و نهار إلاّ و قد أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علّمني تأويلها».

فقام إليه ابن الكوّاء فقال له: فما كان ينزل عليه و أنت غائب ؟ قال عليه السّلام:

«كان رسول اللّه ما كان ينزل عليه من القرآن و أنا غائب عنه حتّى أقدم عليه، فإذا قدمت عليه فيقرأنيه، و يقول لي: يا عليّ ، أنزل اللّه عليّ بعدك كذا و كذا، و تأويله كذا و كذا، فيعلّمني تنزيله و تأويله»(1).

ص:151


1- الاحتجاج ١ : ٣٨٦ _ ٣٨٨.

مع رجل

ارتقى الإمام عليه السّلام المنبر في الكوفة، و قال:

«سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت عنه، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب مفتر».

فقام إليه رجل، و في عنقه كتاب كالمصحف و كان رجلا آدم طوالا، جعد الشعر كأنّه من يهود العرب، فرفع صوته قائلا:

أيّها المدّعي لما لا يعلم... أنا سائلك فأجب، فوثب إليه جماعة من شيعة الإمام لمعاقبته، فنهرهم الإمام، و قال لهم:

«دعوة و لا تعجّلوه فإنّ العجل و الطّيش لا يقوم به حجج اللّه، و لا بإعجال السّائل تظهر براهين اللّه تعالى».

ثمّ التفت إلى السائل، فقال له:

«سل بكلّ لسانك و مبلغ علمك، اجبك إن شاء اللّه تعالى بعلم لا تختلج فيه الشّكوك، و لا تهيّجه دنس ريب الزّيغ، و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم».

و انبرى الرجل سائلا:

كم بين المشرق و المغرب ؟

ص:152

«مسافة الهواء».

ما مسافة الهواء؟ «دوران الفلك».

ما دوران الفلك ؟ «مسيرة يوم للشّمس».

صدقت.

متى القيامة ؟ «عند حضور المنيّة و بلوغ الأجل».

صدقت.

أين بكّة من مكّة ؟ «مكّة أكناف الحرم، و بكّة موضع البيت».

لم سمّيت مكّة ؟ «لأنّ اللّه تعالى مكّ الأرض - أي مدّ الأرض - من تحتها».

لم سمّيت بكّة ؟ «لأنّها بكّت رقاب الجبّارين، و أعناق المذنبين».

صدقت.

أين كان اللّه قبل أن يخلق عرشه ؟ «سبحان من لا تدرك كنه صفته حملة عرشه على قرب ربواتهم من كرسيّ كرامته، و لا الملائكة المقرّبون من أنوار سبحات جلاله.

ويحك! لا يقال: اللّه أين ؟ و لا فيم ؟ و لا أيّ ، و لا كيف».

ص:153

صدقت.

كم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض و السماء؟ «أ تحسن أن تحسب ؟».

نعم.

«لعلّك لا تحسن أن تحسب».

بلى، إني أحسن أن أحسب.

«أ رأيت إن صبّ خردل في الأرض حتّى يسدّ الهواء، و ما بين الأرض و السّماء، ثمّ اذن لك على ضعفك أن تنقله حبّة حبّة من مقدار المشرق إلى المغرب، و مدّ في عمرك، و اعطيت القوّة على ذلك، حتّى نقلته و أحصيته لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق اللّه الأرض و السّماء، و إنّما وصفت لك عشر عشر العشير من جزء من مائة ألف جزء، و أستغفر اللّه من التّقليل و التّحديد».

فبهر الرجل و راح يقول:

فأنت أصل العلم هادي الهدى تجلو من الشّكّ الغياهيبا

حزت أقاصي كلّ علم فما تبصر إن غولبت مغلوبا

لا تنثني عن كلّ اشكولة تبدي إذا حلّت أعاجيبا

للّه درّ العلم من صاحب يطلب إنسانا و مطلوبا (1)،

ص:154


1- بحار الأنوار ١٠ : ١٢٦ _ ١٢٨.

مع ذعلب

كان إمام المتقين عليه السّلام على المنبر، و هو يدعو الناس إلى سؤاله قائلا:

«سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي فلق الحبّة، و برأ النّسمة لو سألتموني عن آية في ليل انزلت أو في نهار، مكّيّها و مدنيّها، سفريّها و حضريّها، ناسخها و منسوخها، و محكمها و متشابهها، و تأويلها و تنزيلها لأخبرتكم...».

فانبرى إليه ذعلب، و كان ذرب اللسان بليغا، شجاعا فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لاخجّلنّه اليوم لكم في مسألتي، فرفع عقيرته قائلا:

يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك ؟ فصاح به الإمام:

«ويلك يا ذعلب لم أكن بالّذي أعبد ربّا لم أره».

كيف رأيته ؟ صفه لنا؟ و أخذ الإمام في وصفه للّه تعالى قائلا:

«ويلك، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

ويلك يا ذعلب، إنّ ربّي لا يوصف بالبعد، و لا بالحركة، و لا بالسّكون،

ص:155

و لا بقيام، قيام انتصاب، و لا بجيئة، و لا بذهاب، لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر...»(1).

إلى آخر ما تفضل به في صفة المبدع العظيم، الذي لا يخضع لأوصاف الممكنات التي يطرق عليها العدم، و يؤول أمرها إلى التراب.

لقد كان وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و باب مدينة علمه، متصدّيا لكلّ ما يرد على الإسلام من أوهام فيكشفها ببالغ حججه، و عظيم برهانه.

ص:156


1- بحار الأنوار ١٠ : ١١٨.

مناظرته

اشارة

مع المنجّمين

ص:157

ص:158

أمّا علم النجوم فإنّه من العلوم القديمة، و قد ذهب فريق من علماء هذا الفنّ القدامى إلى أنّ الكواكب حيّة مريدة مختارة، و انّ لها الاستقلال التامّ في جميع مجريات الأحداث، بمعنى أنّها العلّة التامّة المؤثّرة، أو أنّها شريكة في التأثير، و هذا المعنى قد حرّمه الإسلام و لم يجزه؛ لأنّه صريح و واضح في إنكار اللّه تعالى خالق الكون و واهب الحياة، و انّ جميع ما يجري في الكون من أحداث يستند إليه، فالاعتقاد بأنّ المؤثر هي الكواكب مروق من الدين، قد أفتى فقهاء الإمامية بكفر من يذهب إلى ذلك (1).

فقد ورد في بعض الأخبار أنّ المنجّم بمنزلة الكاهن و هو بمنزلة الساحر الذي هو بمنزلة الكافر (2).

و على أي حال، فإنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قد أنكر هذا العلم بالمعنى الذي ذكرناه، و شجب الآثار التي ذكروها له، و كان من بين ما اثر عنه في ذلك ما يلي:

ص:159


1- القواعد للشهيد. جامع المقاصد. بحار الأنوار وغيرها.
2- المكاسب وغيرها.

ص:160

مع منجّم في بعض أسفاره

لمّا عزم الإمام عليه السّلام على سفر له بادر إليه منجم، فقال له: إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم...

فأنكر عليه الإمام ذلك و قال له:

«أ تزعم أنّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء و تخوّف من السّاعة الّتي من سار فيها حاق به الضّرّ، فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن، و استغنى عن الإعانة باللّه في نيل المحبوب، و دفع المكروه».

و أضاف الإمام قائلا:

«أيّها النّاس، إيّاكم و تعلّم النّجوم إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، و المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالسّاحر، و السّاحر كالكافر، و الكافر في النّار، سيروا على اسم اللّه»(1).

لقد نهى الإمام عليه السّلام عن تعلم النجوم، فإنها تدعو إلى الضلال، و انصراف الإنسان نحوها، و اعراضه عن قدرة اللّه تعالى و مشيئته.

ص:161


1- المكاسب ٢ : ٢٩٣ _ ٢٩٤.

مع منجّم آخر

التقى الإمام عليه السّلام مع منجم آخر نهاه عن المسير، فقال له الإمام:

«أ تدري ما في بطن هذه الدّابّة أذكر أم انثى ؟».

فقال المنجم: إن حسبت علمت...

فرمقه الإمام بطرفه، و قال له:

«من صدّقك على هذا القول، فقد كذّب القرآن، قال اللّه: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(1).

ما كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله يدّعي ما ادّعيت، أ تزعم أنّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء، و السّاعة الّتي من سار فيها حاق به الضّرّ؟ من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة باللّه، و احوج إلى الرّغبة إليك في دفع المكروه عنه»(2).

و يستثنى من حرمة تعلم النجوم معرفة الأنواء الجوية التي تعرف بها الأوضاع الفلكية كالخسوف الناشئ عن حيلولة الأرض بين النيرين، و الكسوف الناشئ عن

ص:162


1- لقمان : ٣٤.
2- وسائل الشيعة ٨ : ٢٦٩ _ ٢٧٠.

حيلولة القمر بين الأرض و الشمس، فيكون القمر مانعا عن رؤية الشمس، فإنّ تعلّم النجوم من أجل هذه الغاية و ما شابهها لا بأس به و لا محذور فيه.

و بهذا انطوى الحديث عن احتجاج الإمام عليه السّلام و مناظراته، و ليست هي جميع ما اثر عنه في هذا الميدان، فقد حفلت مصادر التأريخ و الحديث بالكثير منها، و قد آثرنا الإيجاز فيها و تركنا الباب مفتوحا للمؤلفين عن الإمام عليه السّلام.

ص:163

ص:164

المحتويات

تقديم 5 احتجاجات الإمام على الخلفاء 11-38 احتجاجه على أبي بكر 15 موقف أبي بكر 29 احتجاجه على أبي بكر و حزبه 30 مع عمر 32 احتجاجه الإمام على المهاجرين 33 الإمام مع أعضاء الشورى 35 إذعان الإمام لمصلحة المسلمين 36 احتجاج آخر للإمام 38 احتجاجاته على المتمرّدين 39-66 لوعة الإمام من القرشيين 43

ص:165

احتجاجاته على طلحة و الزبير 47 مع عائشة 49 مع طلحة و الزبير 50 مع معاوية 52 إيفاد جرير إلى معاوية 53 احتجاجه على معاوية 54 مع الخوارج 62 احتجاج الإمام عليهم 62 مناظرة الإمام معهم 63 مناظرة اخرى للإمام معهم 64 مناظرته مع النّصارى 67-84 أسئلة الجاثليق 71 أسئلة راهب 75 مع الاسقف 78 مع قيصر الروم 81 جواب الإمام 82

ص:166

مناظرته مع اليهود 85-113 مع عالم يهوديّ 89 مع جماعة من اليهود 92 مع عالم يهودي 95 مناظرته مع الزّنادقة 115-156 مع زنديق 119 اجتماع العباد في مواطن 123 مع ابن الكوّاء 144 مع رجل 152 مع ذعلب 155 مناظرته مع المنجّمين 157-163 مناظراته مع المنجّمين 161 مع منجّم في بعض أسفاره 162

ص:167

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.