موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المجلد 7

اشارة

سرشناسه:قرشی، باقرشریف، 1926 - م.

Qarashi, Baqir Sharif

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام/ مولف باقر شریف القرشی

مشخصات نشر:قم: مجمع جهانی شیعه شناسی

مشخصات ظاهری:11ج.

شابک:دوره: 978-600-6164-72-4 ؛ 90000 ریال: ج. 1: 978-600-6164-65-6 ؛ ج.2و3 978-600-94930-7-4 : ؛ ج. 4 978-622-962924-6:

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:ناشر جلد دوم و سوم و چهارم انتشارات دارالتهذیب است .

مندرجات:ج. 1. زندگانی و فضایل امام علی علیه السلام در قرآن و سنت.- ج.2 و 3. امام علی (ع) در عهد پیامبر و دوران خلافت

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:مجمع جهانی شیعه شناسی

شناسه افزوده:The World Center for Shite Studies

رده بندی کنگره:BP37/ق36م8041 1393

رده بندی دیویی:297/951

شماره کتابشناسی ملی:3726762

ص :1

اشارة

موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام

مولف باقر شریف القرشی

ص :2

مقدمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ [1] البقرة: 247 وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً [2] الإسراء: 85 ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [3] آل عمران: 44 وَ ما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [4] آل عمران: 179 تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [5] هود: 49

ص:3

ص:4

تقديم

أمّا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فهو رائد النهضة الفكرية و العلمية في دنيا الإسلام، و العقل المفكّر في عالم الإنسانية، الذي استوعب أسرار الكون و دقائق الموجودات بذاتياتها و جنسها و فصلها و غوامض محتوياتها، كما أحاط بما يتحقّق من بعده على مسرح الحياة من أحداث و شئون أسماها العلماء بالملاحم و المغيّبات، و قد استمدّ ذلك كلّه من أخيه و ابن عمّه الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فقد غذّاه بمواهبه و عبقرياته، و أفاض عليه معارفه و علومه ليكون امتدادا لوجوده و مبلّغا لرسالته، تلك الرسالة العظمى التي غيّرت مجرى التاريخ، و أضاءت سماء الكون بما تحمله من القيم و المبادئ التي لم تعرفها الإنسانية من قبل، فكان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام هو الذي وعاها، و انطبعت في دخائل نفسه فكان هو الأمين عليها، و المبلّغ لها من بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و يعرض هذا الجزء من الموسوعة إلى فضل العلم و الحثّ على تعلّمه، و إلى بعض العلوم التي فتقها و أسّسها، كما يتعرّض إلى كوكبة من الملاحم و المغيّبات التي أخبر عنها، راجيا من اللّه تعالى أن أكون قد واكبت الحقّ و سايرت بدقّة و أمانة سيرة هذا الإمام الملهم العظيم الذي هو نسخة من التقوى و المواهب لا ثاني لها في تاريخ عظماء الإنسانية سوى الرسول محمّد صلّى اللّه عليه و آله... إنّه تعالى وليّ التوفيق النّجف الأشرف باقر شريف القرشى 15 /صفر/ 1420 ه

ص:5

ص:6

العلم و التّعليم

اشارة

ص:7

ص:8

و من أهمّ البرامج السياسية في حكومة الإمام عليه السّلام نشر التعليم، و محو الامّية، و إشاعة العلم بين الناس فقد اتّخذ جامع الكوفة مدرسة و معهدا لإلقاء محاضراته العلمية و قيمه الفكرية، و التي كان منها الدعوة إلى اللّه تعالى، و إظهار فلسفة التوحيد و إقامة الإيمان باللّه تعالى على ضوء الأدلّة العلمية الحاسمة التي لا تقبل الجدل و التشكيك، بالاضافة إلى مواعظه العملاقة التي كانت تهزّ أعماق النفوس خوفا و رهبة من اللّه تعالى.

و قد تخرّج من مدرسته جماعة من عظماء الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، و حجر بن عدي، و كميل بن زياد، و أبي الأسود الدؤلي، و ميثم التمّار، و غيرهم من الذين أقاموا صروح النهضة العلمية في الإسلام.

و على أي حال فإنّا نعرض - بإيجاز - لبعض ما اثر عن هذا الإمام الملهم العظيم من الكلمات القيّمة في تبجيل العلم، و ذمّ الجهل، و تكريم العلماء، و بعض العلوم التي أقامها، و فيما يلي ذلك:

الإشادة بالعلم:

أمّا العلم فهو من أفضل المحاسن التي يتحلّى بها الإنسان و يسمو إلى أرقى مستويات الكمال، و بالعلم تكون نهضة الامم و بلوغها إلى أهدافها، و مستحيل أن تحتلّ أمّة من الامم مركزا مهمّا تحت الشمس و هي قابعة في أسر الجهل.

و قد أشاد إمام المتّقين كثيرا بالعلم، و لنقرأ بعض أحاديثه:

ص:9

1 -

قال عليه السّلام في حديثه مع تلميذه العالم كميل بن زياد:

يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك و أنت تحرس المال.

و المال تنقصه النّفقة، و العلم يزكو على الإنفاق، و صنيع المال يزول بزواله.

يا كميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطّاعة في حياته، و جميل الأحدوثة بعد وفاته.

و العلم حاكم، و المال محكوم عليه.

يا كميل، هلك خزّان الأموال و هم أحياء، و العلماء باقون ما بقي الدّهر:

أعيانهم مفقودة، و أمثالهم في القلوب موجودة(1).

حكى هذا الكلام أهمّية العلم، و أنّه أثمن شيء في الحياة، و لا يقاس به المال الذي هو شريان الحياة.

و قد تميّز العلم على المال؛ فإنّ العلم ينمو بإنفاقه على الطلاب و السائلين، و أمّا المال فإنّه يفنى بالإنفاق، كما أنّ العلماء باقون على امتداد التاريخ و أمّا أصحاب الثروات العظيمة فإنّهم يفنون بموتهم و تتلاشى ثرواتهم من بعدهم.

2 -

قال عليه السّلام:

«العلم إحدى الحياتين»(2).

ما أروع هذه الكلمة التي أحاطت بقيمة العلم، فهو إحدى الحياتين اللتين يخلد بهما الإنسان.

ص:10


1- نهج البلاغة ٣ : ١٦٤.
2- مستدرك نهج البلاغة : ١٨٠.

3 -

قال عليه السّلام:

«العلم تحفة في المجالس، و صاحب في السّفر، و انس في الغربة...»(1).

حقّا إنّ العلم زينة المجالس، فبه تزهو و تسمو و تتميّز عن بقيّة المجالس العارية من العلم، كما أنّه صاحب و صديق مؤنس في السفر و أنس في الغربة.

أهمّية العالم:

و تحدّث الإمام عن أهمّية العالم، و سموّ مكانته الاجتماعية و إنّ موته خسارة على الناس، قال عليه السّلام:

«إذا مات المؤمن العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء إلى يوم القيامة»(2).

تكريم العالم:

و حثّ الإمام عليه السّلام على تكريم العالم و تبجيله و الاعتراف له بالفضل، قال عليه السّلام:

«من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلّم عليه خاصّة، و على القوم عامّة، و لا تجلس قدّامه، و لا تشر بيدك، و لا تغمز بعينك، و لا تقل: قال فلان خلاف قولك، و لا تأخذ بثوبه، و لا تلحّ عليه في السّؤال فإنّما هو بمنزلة النّخلة المرطبة الّتي لا يزال يسقط عليك منها شيء»(3).

و تحدّث الإمام عليه السّلام بهذه الكلمات عن حقوق العالم، و لزوم رعايته و احترامه

ص:11


1- مستدرك نهج البلاغة : ١٨٦.
2- مستدرك نهج البلاغة : ١٧٧.
3- العقد الفريد ٢ : ٢٢٤.

تكريما لعلمه و إشادة بفضله لأنّه مصدر عطاء و فيض للمجتمع توجيها و سلوكا و آدابا.

أخذ المحاسن من كلّ علم:

قال عليه السّلام: «العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كلّ شيء أحسنه»(1).

و هذه الكلمة من روائع الحكم، و من محاسنها فإنّ العلم كنز لا يحصى ما فيه، و على المرء أن يختار أبدع و أروع ما فيه، و قد نظم بعض الشعراء هذه الكلمة الحكمية للإمام عليه السّلام بقوله:

ما حوى العلم جميعا رجل لا و لو مارسه ألف سنه

أنّما العلم بعيد غوره فخذوا من كلّ شيء أحسنه(2)

تشجيعه للحركة العلمية:

كان الإمام عليه السّلام يدعو المجتمع إلى العلم و يحثّهم عليه، و قد خطب في الكوفة فقال: «من يشتري علما بدرهم ؟». فقام الحارث الأعور فاشترى صحفا بدرهم ثمّ جاء بها إلى الإمام عليه السّلام، فكتب له بها علما كثيرا(3)، و قد دلّت هذه البادرة على مدى تشجيعه للعلم، و حثّه على تدوينه و كتابته.

العمل بالعلم:

و أكّد الإمام على ضرورة العمل بالعلم في كثير من أحاديثه كان منها ما يلي:

ص:12


1- معجم الأدباء ١ : ٧٣.
2- التمثيل والمحاضرة _ الثعالبي : ١٦٥.
3- تقيد العلم : ٩٠. طبقات ابن سعد ٦ : ١١٦.

1 -

قال عليه السّلام:

«العلم مقرون بالعمل: فمن علم عمل؛ و العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه و إلاّ ارتحل عنه»(1).

و المراد من قوله عليه السّلام: فإن أجابه و إلاّ ارتحل عنه، أي أنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه، و لم يسر على ضوئه فإنّ اللّه تعالى يسلبه عنه.

2 -

قال عليه السّلام «و إنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذي لا يستفيق من جهله؛ بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم كالسّائر على غير طريق... و العامل بالعلم كالسّائر على الطّريق الواضح.

فلينظر ناظر: أ سائر هو أم راجع ؟!»(2).

أنّ الذي لا يهتدي بعلمه كالسالك في الطرق الملتوية القاتمة التي تهوي به إلى مستوى سحيق من الانحطاط ما له من قرار.

3 -

قال عليه السّلام «أوضع العلم ما وقف على اللّسان، و أرفعه ما ظهر في الجوارح و الأركان...»(3).

4 -

قال عليه السّلام «ربّ عالم قد قتله جهله، و علمه معه لا ينفعه»(4).

ص:13


1- تصنيف نهج البلاغة : ٢٣٠٢.
2- نهج البلاغة : الخطبة ١١٠.
3- المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ١٠٩.
4- المصدر السابق : ١١٠.

و كثير من هذه الكلمات الذهبية أدلى بها أمير البلاغة و البيان و هي تهيب بالعلماء أن يعملوا بما علموا و أن تتوافق أعمالهم مع أقوالهم الداعية إلى الهدى و الصلاح.

أنواع طلاب العلم:

تحدّث الإمام عليه السّلام عن أصناف طلبة العلوم فقال:

«طلبة هذا العلم على ثلاثة أصناف، ألاّ فاعرفوهم بصفاتهم:

صنف منهم يتعلّمون العلم للمراء و الجدل.

و صنف للاستطالة و الحيل.

و صنف للفقه و العمل.

فأمّا صاحب المراء و الجدل فإنّك تراه مماريا للرّجال في أندية المقال، قد تسربل بالتّخشّع، و تخلّى عن الورع، فدقّ اللّه من هذا حيزومه، و قطع منه خيشومه.

و أمّا صاحب الاستطالة و الحيل، فإنّه يستطيل على أشباهه من أشكاله، و يتواضع للأغنياء من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، و لدينه حاطم، فأعمى اللّه بصره، و محى من العلماء أثره.

و أمّا صاحب الفقه و العمل، فتراه ذا كآبة و حزن، قام اللّيل في حندسه، و انحنى في برنسه يعمل و يخشى فشدّ اللّه من هذا أركانه، و أعطاه اللّه يوم القيامة أمانه»(1).

ص:14


1- مستدرك نهج البلاغة : ١٧٧.

و ألمّ هذا الحديث الشريف بأنواع طلبة العلم و حكى أهدافهم، فبعضهم يطلبه لأغراضه الشخصية من دون أن يبتغي به رضا اللّه تعالى و الدار الآخرة، و هؤلاء هم الأخسرون عملا،

و أكّد الإمام هذا المعنى في حديث آخر له قال:

«لو أنّ حملة العلم حملوه بحقّه لأحبّهم اللّه و أهل طاعته من خلقه، و لكنّهم حملوه لطلب الدّنيا فمقتهم اللّه و هانوا على النّاس»(1).

إنّ من يطلب العلم و يتحمّل الجهد الشاقّ في سبيله إن كان هدفه رضا اللّه و الدار الآخرة فاز في دنياه و آخرته، و إن كان هدفه رغبات الدنيا و التفوّق على غيره فقد خسر خسرانا مبينا.

ذمّ أهل الرأي:

ذمّ الإمام عليه السّلام أهل الرأي الذين يفتون بآرائهم من دون علم قال عليه السّلام:

«ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعا - و إلههم واحد! و نبيّهم واحد! و كتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه! أم أنزل اللّه سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، و عليه أن يرضى ؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن

ص:15


1- بحار الأنوار ٢ : ٣٧.

تبليغه و أدائه، و اللّه سبحانه يقول: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ، و قال: و فيه تبيان لكلّ شيء، و ذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا، و أنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً .(1)

عرض الإمام عليه السّلام إلى ما يفتي به العاملون بآرائهم و أقيستهم، و أنّها على ضلال يا له من ضلال، فهي متناقضة متباينة ليس فيها بصيص من نور الإسلام و هديه.

بذل العلم:

و حثّ الإمام عليه السّلام العلماء على بذل العلم و إشاعته بين الناس، فقد جاء في كتابه:

«إنّ اللّه لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهّال؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل»(2).

لقد عنى الإمام بصورة إيجابية بإشاعة العلم و نشره بين الناس، و قد حثّ العلماء و ألزمهم بتعليم المجتمع و تثقيفه و السهر على رفع مستواه الفكري.

حثّه على جودة الخطّ :

حثّ الإمام عليه السّلام أصحابه و جهاز حكومته على جودة الخطّ ، و قال لهم:

«الخطّ الحسن يزيد الخطّ وضوحا»(3).

و من الجدير بالذكر أنّ المصحف الكريم لم يكن منقّطا، و أوّل من نقّطه

ص:16


1- المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ١٩.
2- اصول الكافي ١ : ٤١.
3- صبح الأعشى ٣ : ٢٥.

أبو الأسود الدؤلي، و ذلك بتلقين و إرشاد من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام(1).

أنواع العلوم:

اشارة

كان الإمام عليه السّلام خزانة من العلوم و المعارف لم يعهد له نظير في عظماء الدنيا و عباقرة العالم، و قد فتق أبوابا من العلوم تربو على ثلاثين علما لم يكن يعرفها العرب و غيرهم من قبل حسبما يقول العقّاد،

و قد أثر عنه القول:

«العلوم أربعة: الفقه للأديان، و الطّبّ للأبدان، و النّحو للّسان، و النّجوم لمعرفة الزّمان»(2).

و قد أعرب الإمام عليه السّلام عن أساه و حزنه لأنّه لم يجد من يبثّ إليه علومه حتى تستفيد منها العامّة و تتطوّر بها الحياة،

و قد قال عليه السّلام: «إنّ هاهنا - و أومأ إلى صدره الشريف - لعلما جمّا، لو أصبت له حملة»(3).

لقد كان صدره الشريف خزانة لعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهو باب مدينة علمه و وارث علومه و حكمه و آدابه، و على أي حال فإنّا نعرض إلى بعض العلوم التي أثرت عنه و هي:

1 - علم النحو

اشارة

و الشيء المحقّق الذي لا ريب فيه هو أنّ أوّل من وضع علم النحو و أرسى قواعده هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و نعرض إلى بعض البحوث المرتبطة به، و هي:

ص:17


1- صبح الأعشى ٣ : ١٤٩. مفتاح السعادة ١ : ٨٩ ، أنّ أوّل من نقّط المصحف الإمام عليّ
2- مفتاح السعادة ١ : ٣٠٣.
3- المصدر السابق ١ : ٤٣.
في اللغة:

النحو في اللغة الطريق و الجهة و القصد، و منه انتحاه إذا قصده، سمّي به هذا العلم، و ذلك لينحي سمت كلام العرب في تصرّفه من اعراب و غيره من ليس منهم فيضارعهم في اللحن، و قد عرض أبو الأسود ما أخذه من الإمام في هذا العلم فعرضه عليه فقال له: «ما أحسن هذا النّحو الّذي نحوت»، و لذلك سمّي هذا النحو نحوا(1) في الاصطلاح.

أسباب وضعه:

و ذكر المؤرّخون عدّة أسباب مختلفة لوضع هذا العلم الذي أصبح من أبرز العلوم العربية، و من أكثرها فائدة و هي:

1 -

روى الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: جاء أعرابي إلى عليّ عليه السّلام فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، كيف تقرأ هذه الحروف: لا يأكله إلاّ الخاطون، كلّنا و اللّه يخطو؟ فتبسّم أمير المؤمنين عليه السّلام و قال:

«يا أعرابيّ ، لا يأكله إلاّ الخاطئون».

قال: صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين ما كان اللّه ليظلم عباده،

ثمّ التفت الإمام إلى أبي الأسود الدؤلي فقال:

«إنّ الأعاجم قد دخلت في الدّين كافّة فضع للنّاس شيئا يستدلّون به على صلاح ألسنتهم» و رسم له الرفع و النصب و الخفض(2).

2 - سمع الإمام أعرابيا يقرأ الآية: أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ [1]

ص:18


1- تاج العروس ١٠ : ٣٦٠. النزهة ٣ : ١. المثل السائر : ٧. لسان العرب ١٥ : ٣١٠.
2- الزينة في الكلمات الإسلامية العربية _ أبو الحاتم أحمد الرازي : ٧٢. النزهة : ٨.

قرأ بخفض الرسول، و قال الاعرابي برئت من رسول اللّه، فأنكر عليه الإمام و أرشده إلى الصواب و هو النصب، ثمّ رسم لأبي الأسود صناعة النحو(1).

هذه بعض الأسباب التي حفّزت الإمام إلى وضعه لعلم النحو و تأسيسه له.

القواعد التي وضعها الإمام عليه السّلام:

و ذكر المؤرّخون أنّ الإمام عليه السّلام دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوبا فيها:

«الكلام كلّه: اسم، و فعل، و حرف، فالاسم من أنبأ عن المسمّى، و الفعل ما أنبئ به، و الحرف ما أفاد معنى. و اعلم أنّ الأسماء ثلاثة:

ظاهر و مضمر، و اسم لا ظاهر و لا مضمر...».

ثمّ وضع أبو الأسود بابي العطف و النعت، ثمّ بابي التعجّب و الاستفهام إلى أن وصل إلى باب إنّ و أخواتها ما خلا لكن، فلمّا عرضها على الإمام أمره بضمّ لكن إليها، و كلّما وضع بابا من أبواب النحو عرضه عليه(2).

و في رواية أنّ أبا الأسود دخل على عليّ فوجده مطرقا مفكّرا، فسأله عن سبب ما به، فذكر له أمر اللحن و ما فشا من الخطأ في ألسنة الناس، و أنّه يريد أن يضع كتابا في اصول العربية، فانصرف عنه و هو مغموم فألقى الإمام عليه رقعة كتب فيها:

«الكلام كلّه: اسم، و فعل، و حرف، فالاسم من أنبأ عن المسمّى، و الفعل ما أنبئ به، و الحرف ما أفاد معنى - أي في غيره -...».

ثمّ أمره أن ينحو نحوه و أن يزيد عليه، فجمع أبو الأسود أشياء و عرضها عليه فكان من ذلك حروف النصب كان منها: إن و أن وليت و لعلّ و كأنّ ، و لم يذكر «لكنّ »

ص:19


1- الخصائص ٢ : ٩.
2- النزهة _ ابن الأنباري : ٤. ضحى الإسلام ٢ : ٢٨٥.

فأشار عليه الإمام بإدخالها عليها(1).

و على أي حال فإنّ علم النحو واضعه و مؤسّسه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(2).

2 - علم الفقه

من العلوم التي وضع اسسها و أقام مناهجها علم الفقه الشريف.

يقول ابن أبي الحديد: «و من العلوم علم الفقه، و هو عليه السّلام أصله و أساسه، و كلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، و مستفيد من فقهه، أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمّد و غيرهما، فأخذوا عن أبي حنيفة، و أمّا الشافعي فقرأ على محمّد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة، و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّد»(3).

و قرأ جعفر على أبيه عليه السّلام، و ينتهي الأمر إلى عليّ عليه السّلام، و أمّا مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي، و قرأ ربيعة على عكرمة، و قرأ عكرمة على عبد اللّه بن عباس، و قرأ عبد اللّه بن عباس على عليّ بن أبي طالب، و إن شئت رددت إليه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

و أمّا فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، و أيضا فإنّ فقهاء الصحابة كان من بينهم

ص:20


1- أنباء الرواة ١ : ٤.
2- معجم الادباء ١٤ : ٤٢ _ ٥٠. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠.
3- أعلن أبو حنيفة أنّه تتلمذ عند الإمام الصادق واستفاد منه بقوله : « لو لا السنّتان لهلك النعمان » يعني بالسنتين اللتين تتلمذ فيهما عند الإمام يراجع في ذلك موسوعة حياة الإمام الصادق للمؤلّف.

عمر بن الخطّاب و عبد اللّه بن عباس، و كلاهما أخذ عن عليّ عليه السّلام.

أمّا ابن عباس فظاهر، و أمّا عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة، و قوله غير مرّة:

لو لا عليّ لهلك عمر.

و قوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

و قوله: لا يفتين أحد في المسجد و عليّ حاضر.

فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه...

و قد روت العامّة و الخاصّة قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أقضاكم عليّ »، و القضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم،

و روى الكلّ أيضا أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال له - و قد بعثه إلى اليمن قاضيا -: «اللّهمّ اهد قلبه، و ثبّت لسانه»، قال عليه السّلام: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين، و هو عليه السّلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستّة أشهر، و هو الذي أفتى في الحامل الزانية(1)، و الذي قال في المنبرية صار ثمنها تسعا، و هذه المسألة لو فكّر فيها الفرضي فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر لهذا الجواب فما ظنّك بمن قاله بديهة و أقضيته ارتجالا(2).

3 - علم تفسير القرآن

من العلوم التي أخذت عنه علم تفسير القرآن الكريم، فقد أخذ أكثر تفسيره منه و من تلميذه حبر الامّة عبد اللّه بن عباس، و قد قيل له: أين علمك من علم

ص:21


1- ذكرنا عرضا مفصّلا لأقضيته في كتابنا : ( قضاء الإمام ) ، وهو أحد أجزاء هذه الموسوعة.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٨ _ ١٩.

ابن عمّك ؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط (1)، و قد أفردنا جزء خاصّا من موسوعة الإمام إلى ما اثر عنه في تفسير القرآن الكريم، و من المؤكّد أنّ المصحف الذي قيل عنه إنّه مصحف الإمام عليه السّلام قد أدرج فيه أسباب النزول و معاني الكلمات و بيان ما فيه من الأحكام.

4 - علم الفلك و الحساب

اشارة

من العلوم التي أخذت عنه علم الفلك و الحساب، فقد قال عليه السّلام عن خلق السماء:

«ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، و ضياء الثّواقب، و أجرى فيها سراجا مستطيرا، و قمرا منيرا، في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم (2) مائر(3)»(4).

و قال عليه السّلام عن كيفيّة خلق السماء:

«و ناداها بعد إذ هي دخان، فالتحمت عرى أشراجها، و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها»(5).

ذهب بعض علماء الفلك في هذا العصر إلى أنّ أوّل نشوء الكون كان نتيجة انفجار كبير فشاع في الكون سكون و ظلام دامس، ثمّ بدأت الذرات تتجمّع في

ص:22


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٩.
2- الرقيم : من أسماء الفلك.
3- المائر : المتحرّك.
4- نهج البلاغة : ١٥.
5- نهج البلاغة : ٣٧.

مناطق معيّنة، مشكلة أجراما، ثمّ ما لبثت أن بدت فيها التفاعلات النووية التي جعلت هذه الأجرام نجوما مضيئة، و في قول الإمام عليه السّلام: «فالتحمت عرى أشراجها» تشبيه لنجوم المجرة بالحلقات المرتبطة ببعضها بوشاج الجاذبية، و التأثير المتبادل و بعد نشوء النجوم الملتهبة الدائرة بدأت تقذف بالحمم التي شكّلت الكواكب السيارة كالأرض و غيرها و هو ما عبّر عنه الإمام عليه السّلام بالفتق بعد الارتتاق.

ثمّ قال عليه السّلام:

«و أقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها، و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده - أي بقوّته -، و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره».

علّق عليها لبيب وجيه بيضون بقوله:

قوله عليه السّلام: «و أقام رصدا من الشّهب الثّواقب» يشير عليه السّلام بذلك إلى ما أثبته العلم الحديث من أنّ الشهب تغذّي بعض أجرام الكواكب بما نظّمه لها من التفاتق فما نقب و خرق من جرم عوض بالشهاب.

ثمّ قال عليه السّلام:

«و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده»: أي أمسك الكواكب من أن تضطرب في الهواء بقوّته.

«و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره»، أي تلتزم مراكزها لا تفارق مداراتها.

قال عليه السّلام:

«و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها، و أجراهما في مناقل مجراهما، و قدّر سيرهما في مدارج درجهما، ليميّز بين اللّيل و النّهار بهما، و ليعلم عدد السّنين و الحساب بمقاديرهما»(1).

ص:23


1- نهج البلاغة : ٣٧ ، الخطبة ٩١.

لقد عرض الإمام عليه السّلام بصورة موضوعية و دقيقة إلى علم الفلك، و بيّن مقدار ما فيه من الأنظمة الهائلة.

أمّا علم الحساب، فقد أقام مناهجه و بين غوامضه، و قد عرض لها بعض المختصّين بهذا العلم كان منها ما يلي:

مقدار قطر الشمس:

سأل شخص الإمام عليه السّلام عن مقدار قطر الشمس، فأجاب الإمام عليه السّلام مرتجلا:

«تسعمائة في تسعمائة ميل أي 810000 ميل».

و من المعلوم أنّ الميل في صدر الإسلام يساوي أربعة آلاف ذراع بذراع اليد، و هو من المرفق إلى رءوس الأصابع، فلو قسنا ذراع رجل متوسط القامة بالانجات ثمّ حوّلنا (4000) إلى انجات فياردات فأميال لوجدنا أنّ ما أخبر به الإمام عليّ عليه السّلام 810000 ميل على ما كان معروفا في صدر الإسلام تعادل 865380 ميلا على ما هو معروف اليوم من أنّ الميل 1760 ياردا و أنّ كتب الفلك تنصّ أنّ قطر الشمس يساوي (865380) ميلا فما أخبر به عليّ عليه السّلام يطابق تمام الانطباق مع ما تجده في كتب الفلك اليوم و ذلك بعد تحويل الميل في صدر الإسلام إلى الميل الانكليزي الذي يعادل (160) ياردا(1).

مسألة الجمال:

كان 17 جملا مشتركة بين ثلاثة أشخاص، فجاؤوا عليّا عليه السّلام و قالوا: إنّ نصف هذه الجمال لأحدنا و ثلثها لآخر و تسعها لثالثنا، و نريد أن نقسّمها بيننا على أن لا يبقى باق.

ص:24


1- نظرة الإسلام إلى العلم الحديث : ١٧.

فدعا عليّ عليه السّلام بجمل له و أضافه إلى الجمال، فكانت 18 جملا، فأعطى نصف الجمال - أي نصف 18 جملا - إلى من له النصف، أي أعطاه 9 جمال.

و أعطى ثلث ال 18 إلى من كان له الثلث، أي أعطاه 6 جمال.

و أعطى تسع ال 18 إلى من كان له التسع، أي أعطاه جملين، ثمّ أرجع الجمل الذي أضافه إلى بيته(1).

و بهذا ينتهي الحديث عمّا خاضه و أبدعه الإمام عليه السّلام في علم الفلك و الحساب.

5 - علم الحيوان

اشارة

من العلوم المهمّة التي خاضها الإمام عليه السّلام علم الحيوان تحدّث فيها عن خصائصها و بديع صنعها و تركيبها، انظروا إلى بعض أحاديثه عنها:

وصف الطيور:

و وصف الإمام عليه السّلام الطيور وصفا دقيقا و ملمّا بجميع أصنافها، قال عليه السّلام:

«ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان و موات، و ساكن و ذي حركات؛ و أقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته، و عظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به، و مسلّمة له، و نعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته، و ما ذرأ من مختلف صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد الأرض، و خروق فجاجها، و رواسي أعلامها، من ذات أجنحة مختلفة، و هيئات متباينة، مصرّفة في زمام التّسخير، و مرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسح، و الفضاء المنفرج.

ص:25


1- نظرة الإسلام إلى العلم الحديث : ٣٧.

كوّنها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة، و ركّبها في حقاق مفاصل محتجبة، و منع بعضها بعبالة خلقه(1) أن يسمو في الهواء خفوفا، و جعله يدفّ دفيفا و نسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، و دقيق صنعته.

فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه؛ و منها مغموس في لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبغ به»(2).

أ رأيتم هذا الوصف الدقيق الرائع للطيور المختلفة ألوانها البديعة مظاهرها التي تأخذ بأعماق النفوس ألوانها فتعالى اللّه في صنعه و خلقه و هي من آيات اللّه تعالى و من شواهد وحدانيّته.

وصف الطاوس:

و بعد ما أدلى الإمام في وصف مطلق الطيور ذكر عجيب صنع الطاوس قال عليه السّلام:

«و من أعجبها خلقا الطّاوس الّذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، و ذنب أطال مسحبه.

إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، و سما به مطلاّ على رأسه كأنّه قلع داريّ ، عنجه نوتيّه(3).

يختال بألوانه، و يميس بزيفانه(4).

ص:26


1- العبالة : الضخامة.
2- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ٧٠ ، خطبة ١٦٠.
3- القلع : شراع السفينة. عنجه : جذبه.
4- يختال : أي يعجب. يميس : يتبختر.

يفضي(1) كإفضاء الدّيكة، و يؤرّ(2) بملاقحه أرّ الفحول المغتلمة(3) للضّراب أحيلك من ذلك على معاينة(4)، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده.

و لو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه(5)، فتقف في ضفّتي جفونه، و أنّ أنثاه تطعم ذلك، ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب(6)! تخال قصبه مداري من فضّة، و ما أنبت عليها من عجيب داراته، و شموسه خالص العقيان، و فلذ الزّبرجد(7).

فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كلّ ربيع(8).

ص:27


1- يفضي : أي يسافد انثاه كما تسافد الديكة.
2- يؤر : أي يأتي انثاه بملاقحة فيفرز فيها مادة تناسله.
3- المغتلمة : من اغتلم ، أي غلبة الشهوة.
4- أي أحيلك إلى معاينة الطاوس فتجد ذلك صدقا على ما أقول.
5- تسفحها : أي ترسلها مدامعة ، وقد أبطل الإمام دعوى من يقول إنّ انثاه تلد لا من لقاح فحل.
6- المراد من كلامه 7 أنّه لو صحّ ما ذكروه في الطاوس من أنّ تلقيحه يكون بانتقال الماء في جوف الذكر إلى الانثى عند ما تترشفه لجرى ذلك في الغراب أيضا ، وذلك لشبهه للطاوس بذلك ، ومنشأ الزعم في الغراب إخفاؤه لسفاده حتى ضرب به المثل فقيل أخفى من سفاد الغراب.
7- القصب : جمع قصبة ، هي عمود الريش. المداري : جمع مدرى ، وهو آلة مصنوعة من حديد أو خشب على شكل أسنان المشط يسرّح بها الشعر. الدارات : هالة القمر. العقيان : الذهب الخالص.
8- جنى : أي جمع من كلّ زهر لونا.

و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحلل(1)، أو كمونق عصب اليمن.

و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان، قد نطّقت باللّجين المكلّل(2).

يمشي مشي المرح المختال(3)، و يتصفّح ذنبه و جناحيه، فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله(4)، و أصابيغ وشاحه(5)؛ فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا(6) بصوت يكاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجّعه، لأنّ قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة.

و قد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية(7) خفيّة، و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة.

و مخرج عنقه كالإبريق، و مغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانيّة، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال(8)، و كأنّه متلفّع بمعجر أسحم(9)، إلاّ أنّه يخيّل لكثرة مائه، و شدّة بريقه، أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به.

ص:28


1- الموشّى : المنقوش.
2- المكلّل : المزيّن بالجواهر.
3- المختال : الزاهي بحسنه.
4- سرباله : لباسه.
5- الوشاح : نظامان من لؤلؤ وجوهر.
6- زقا : صاح. معول : رافع صوته.
7- ظنوب : عظم حرف الساق. الصيصة : هي الشوكة.
8- الصقال : الجلاء.
9- المعجر : الثوب. الأسحم : الأسود.

و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان، أبيض يقق(1)، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق.

و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط ، و علاه بكثرة صقاله، و بريقه، و بصيص(2) ديباجه و رونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة، لم تربّها أمطار ربيع، و لا شموس قيظ .

و قد ينحسر(3) من ريشه، و يعرى من لباسه، فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات(4) أوراق الأغصان، ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف ألوانه، و لا يقع لون في غير مكانه! و إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة ورديّة، و تارة خضرة زبر جديّة، و أحيانا صفرة عسجديّة(5)، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن(6)، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين! و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، و الألسنة أن تصفه! فسبحان الّذي بهر العقول عن وصف خلق جلاّه للعيون»(7).

و ألمّ هذا الوصف الرائع بخلقة الطاوس و ما فيه من العجائب التي يذهل

ص:29


1- اليقيق : شديد البياض.
2- البصيص : اللمعان.
3- ينحسر : وهو من حسره أي كشفه.
4- ينحت : يسقط.
5- العسجدية : الذهب.
6- العمائق : هي العميقة أو القعر.
7- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ٧٣ _ ٧٥.

الفكر البشري من إدراكها، فسبحان المصوّر الذي خلق الطاوس بهذه الكيفيّة التي يقصر الوصف عن بيانها إلاّ أنّ باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحاط بذكر عجائب هذا الطائر الغريب في شكله و العجيب في خلقته.

الخفّاش:

وصف الإمام الخفّاش وصفا دقيقا و ملمّا بجميع خواصّه و صفاته قال عليه السّلام:

«و من لطائف صنعته، و عجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش الّتي يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شيء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حيّ ؛ و كيف عشيت أعينها(1) عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، و تتّصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها. و ردعها بتلألؤ ضيائها عن المضيّ في سبحات إشراقها(2)، و أكنّها في مكامنها عن الذّهاب فى بلج ائتلاقها(3)، فهي مسدلة الجفون بالنّهار على أحداقها، و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها؛ فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته، و لا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنّته.

فإذا ألقت الشّمس قناعها، و بدت أوضاح نهارها(4)، و دخل من إشراق نورها على الضّباب في وجارها(5)، أطبقت الأجفان على مآقيها،

ص:30


1- العشا : ضعف البصر.
2- سبحات النور : أطواره ودرجاته.
3- الاتلاق : اللمعان. البلج : وضوح الضوء وظهوره.
4- أوضاح النهار : بياض الصبح.
5- الوجار : مكمنها الذي تأوي إليه.

و تبلّغت(1) بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها.

فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا، و النّهار سكنا و قرارا! و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطّيران، كأنّها شظايا(2) الاذان غير ذوات ريش و لا قصب(3)، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما(4).

لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا، و لم يغلظا فيثقلا. تطير و ولدها لاصق بها لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه، و يحمله للنّهوض جناحه، و يعرف مذاهب عيشه، و مصالح نفسه.

فسبحان الباريء لكلّ شيء، على غير مثال خلا من غيره!»(5).

أ رأيتم هذا الوصف الدقيق للخفّاش الذي تفرّد عن بقيّة الطيور بخصائصه و مميزاته، و لم يحط علما بهذه الأوصاف إلاّ باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي غذّاه النبي بعلومه و معارفه.

الجراد:

و وصف عليه السّلام خلقة الجراد بقوله:

«و إن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها

ص:31


1- تبلّغت : اكتفت.
2- شظايا : جمع شظية ، وهي شقق الاذن.
3- القصب : جمع قصبة ، وهي عمود الريشة.
4- أعلاما : ذي رسوم ظاهرة.
5- نهج البلاغة : ٤٦.

حدقتين قمراوين - أي مضيئة كالقمر -، و جعل لها السّمع الخفيّ ، و فتح لها الفم السّويّ ، و جعل لها الحسّ القويّ ، و نابين بهما تقرض، و منجلين بهما تقبض(1). يرهبها الزّرّاع في زرعهم، و لا يستطيعون ذبّها، و لو أجلبوا بجمعهم، حتّى ترد الحرث في نزواتها، و تقضي منه شهواتها»(2).

أ رأيتم هذا الوصف الرائع الدقيق الذي أحاط بكنه هذا المخلوق و بصفاته و خواصّه.

النملة:

انظروا إلى وصف الإمام للنملة، و ما فيها من عجائب الإبداع و جمال الاسلوب قال عليه السّلام:

«و لو فكّروا في عظيم القدرة، و جسيم النّعمة، لرجعوا إلى الطّريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكن القلوب عليلة، و البصائر مدخولة! أ لا ينظرون إلى صغير ما خلق، كيف أحكم خلقه، و أتقن تركيبه، و فلق له السّمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر! انظروا إلى النّملة في صغر جثّتها، و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، و صبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها؛ و تعدّها في مستقرّها.

تجمع في حرّها لبردها، و في وردها لصدرها؛ مكفول برزقها، مرزوقة

ص:32


1- يقصد بالمنجلين : رجليها.
2- نهج البلاغة : ٨٥ ، الخطبة رقم ١٨٥.

بوفقها؛ لا يغفلها المنّان، و لا يحرمها الدّيّان، و لو في الصّفا اليابس، و الحجر الجامس - أي الجامد -! و لو فكّرت في مجاري أكلها، في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرّأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا! فتعالى الّذي أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها! لم يشركه في فطرتها فاطر، و لم يعنه على خلقها قادر.

و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدّلالة إلاّ على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّ شيء، و غامض اختلاف كلّ حيّ .

و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف، في خلقه إلاّ سواء»(1).

6 - علم الكلام

من العلوم التي وضع اصولها و قواعدها علم الكلام، و منه أخذ المتكلّمون مناهج بحوثهم.

يقول ابن أبي الحديد: «و من كلامه اقتبس، و عنه نقل، و إليه انتهى، و منه ابتدأ، فإنّ المعتزلة الذين هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر، و منه تعلّم الناس هذا الفنّ ، تلامذته و أصحابه لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفية و أبو هاشم تلميذ أبيه، و أبوه تلميذه عليه السّلام.

و أمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن عليّ بن إسماعيل أبي بشر

ص:33


1- نهج البلاغة : ٨٤ ، الخطبة ١٨٥.

الأشعري، و هو تلميذ أبي علي الجبائي، و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بآخره إلى استاذ المعتزلة و معلّمهم هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و أمّا الإمامية و الزيدية فانتمائهم إليه ظاهر»(1).

و نهج البلاغة طافح بالبحوث الكلامية خصوصا فيما يتعلّق بالتوحيد الذي هو الأساس لهذا العلم قال عليه السّلام:

«الحمد للّه الدّالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته؛ و باشتباههم على أن لا شبه له.

لا تستلمه المشاعر(2)، و لا تحجبه السّواتر، لافتراق الصّانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الرّبّ و المربوب؛ الأحد بلا تأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب(3)، و السّميع لا بأداة(4)، و البصير لا بتفريق آلة(5)، و الشّاهد لا بمماسّة، و البائن لا بتراخي مسافة(6)، و الظّاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة.

بان من الأشياء بالقهر لها، و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له، و الرّجوع إليه.

من وصفه فقد حدّه(7)، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله،

ص:34


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٧.
2- لا تستلمه المشاعر : لا تصل إليه الحواس.
3- النصب _ بالتحريك _ : التعب.
4- الأداة : الآلة.
5- تفريق الآلة : فتح الأجفان بعضها عن بعض.
6- البائن : المنفصل عن خلقه.
7- أي من كيّفه بكيفيات المحدّثين.

و من قال: «كيف» فقد استوصفه، و من قال: «أين» فقد حيّزه.

عالم إذ لا معلوم، و ربّ إذ لا مربوب، و قادر إذ لا مقدور»(1).

و هذه اللوحة من كلامه عليه السّلام صميم البحوث الكلامية التي عرضت إلى صفات اللّه تعالى الثبوتية و السلبية.

7 - علم الطبيعة - الفيزياء

من العلوم التي تستند معرفتها و برامجها إلى الإمام عليه السّلام هو علم الطبيعة الفيزياء، و هذه بعض نظرياته:

قال عليه السّلام: «و كلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان و لطيف الاجسام»(2).

إنّ كثيرا من الحيوانات لا ترى الألوان، بل ترى الصور سوداء أو بيضاء فقط ، أمّا الإنسان فإنّه يرى الألوان السبعة التي هي ألوان الطيف المرئي، و التي تنحصر أطول موجاتها بين (4 و 0) مكرون (البنفسجي) و (8 و 0) مكرون (الأحمر)، أمّا الأضواء التي تقع أطوال موجاتها خارج هذا المجال، فإنّ الإنسان لا يراها، و منها الأشعة فوق البنفسجية، و الأشعة تحت الحمراء، إذن فقدرة الإنسان البصرية محدودة.

أمّا اللّه تعالى فهو يرى كلّ جسم، و كلّ لون مهما كان نوعه أو لطافته، و قد وجد بقدرة اللّه تعالى أنّ النحلة تستطيع أن تميّز بين أنواع الزهور و هي تطير في أعلى السماء(3).

ص:35


1- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ٥٣.
2- نهج البلاغة _ محمّد عبده ١ : ١٠٨.
3- تصنيف نهج البلاغة : ٣١٢.

و قال عليه السّلام: «في التّجارب علم مستأنف»، فهو حقّا واضع الطريقة التجريبية في العلوم الطبيعية، و هو بذلك يسبق «بيكون» قرونا، الذي نسب إليه الغربيّون وضع الطريقة التجريبية(1).

8 - الكهرباء

أشار الإمام عليه السّلام إلى الكهرباء الذي هو مفتاح التقدّم و التطوّر في حياة الإنسان، فقد كان عليه السّلام جالسا على نهر الفرات و بيده قضيب، فضرب به على صفحة الماء و قال: «لو شئت لجعلت لكم من الماء نورا و نارا».

و في قوله عليه السّلام دلالة إلى ما في الماء من طاقة يمكن أن تولّد النور و هو الكهرباء و النار و هو الطاقة الحرارية... و أنّا نجد في الماء عنصرين: هما الهيدروجين و الأوكسجين.

الأوّل قابل للاحتراق و إعطاء النور، و الثاني يساعد على الاحتراق و يعطي الحرارة.

و أبعد من ذلك فإنّ وجود الماء الثقيل في الماء الطبيعي بنسبة 2 إلى 10000 يجعله أفضل مصدر طبيعي للهيدروجين الثقيل الذي نسمّيه (الدوتيريوم) و هذا النظير المشعّ هو حجر الأساس في تركيب القنبلة الهيدروجينيّة القائمة على اندماج ذرّتين من الدوتيريوم لتشكيل الهليوم، علما بأنّ الطاقة الناتجة عن هذا الاندماج و التي هي منشأ طاقة الشمس تفوق آلاف المرّات الطاقة الناتجة عن القنبلة الذرية التي تقوم على انشطار اليورانيوم...

إنّ هذه المعاني الدقيقة و الأسرار العميقة تضمّنها قول الإمام عليه السّلام الذي هو

ص:36


1- نظرة الإسلام إلى العلم الحديث : ٧٤.

باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هو القائل:

«بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة!»(1).

9 - علم الطبّ

اشارة

و أثرت عن الإمام عليه السّلام الكثير من الآراء الذهبية في علم الطب تدلّ على استيعابه لهذا العلم، و معرفته الكاملة بأسراره و هو القائل فيما يحتويه جسم الإنسان من الأجهزة و الأنظمة العجيبة:

أ تحسب أنّك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر

دواؤك فيك و ما تبصر و داؤك منك و ما تشعر

عرض المرحوم الحاجّ محسن شلاش هذين البيتين على الدكتور جاك عبود طالبا منه تحليلهما على ضوء علم الطب فأجاب بعد المقدّمة ما يلي:

«لقد ثبت في الاكتشافات الأخيرة بأنّ المناعة الموجودة في الإنسان طبيعية أو مكتسبة هي الخطّ الإمامي و الاستحكام الدفاعي الذي يصدّ هجمات العوارض الخارجية عن الإنسان، مكروبية كانت أو فيزيائية، حيث آخر ما وصلت إليه النظريات في الطب الوقائي الحديث استثمار هذه المناعة و تقويتها بالطرق الطبيعية أو الفيزيائية، فإذا دخلت أو نفذت العوارض الخارجية إلى جسم الإنسان و أصبحت داء يتطلّب العلاج، فالدواء موجود في جسم الإنسان الذي فيه إمكان تعبئة عامّة من جيوش جرّارة مكنونة في الإنسان لمحاربة هذه الآفة العرضية، و مثال ذلك إذا اصيب الجسم بمرض (أنتاني) يحدث ارتفاعا فوريا في حرارة الجسم (الحمى)

ص:37


1- نهج البلاغة _ محمّد عبده ١ : ٣٦.

التي ليست هي بمرض، و إنّما هي ظاهرة من ظواهر القوى المحاربة للدفاع، و إذا اصيب شخص بذات الرئة مثلا و لم ترتفع حرارة جسمه من الحمى بالنسبة المطلوبة يتشاءم الأطباء من عواقب المرض لقلّة الدفاع أو عدمه، و في علم المناعة الطبيعية الموجودة في الإنسان تؤيّد هذا القول تأييدا فنّيا لا مناقشة فيه، و تقتصر مهمّة الطبيب في اتّباع طرق المعالجة التي ترشده عليه الطبيعة، و عليه أن يتّبع ذلك الإرشاد، و يعزو النقص الحاصل بما توصّل إليه العلم الحديث عن بصيرة كاستعمال مواد (السلفا و البنسلين) التي تشلّ حركة المكروبات و تضعّفها عن النمو و التكاثر فيصبح حينئذ في استطاعة الجسم اكتساحها: «و داؤك منك و ما تشعر».

لقد فرضت المشيئة و قوانينها الطبيعية لصيانة الجسم من الخلل من قواه إلى حدّه المحدود، و هيّأت له أسبابا للبقاء من طرق المعيشة و الانتعاش من مواهب الطبيعة في جميع أنحاء المعمورة، و حسبما يلائم كلّ محيط منها بحكم الطبيعة التي يجب على الإنسان أن يشعر فيها و يتبعها كما أرشد فيها هذا الكلام، و أرشد إلى وجود المدارك و الحواس التي ترشد الإنسان إلى ما يتطلّبه هذا الجسم من تلك المواهب فعليه أن يتطلّع الشعور بها و يتبعها لصيانة الجسم من العلل؛ لأنّ الطبيعة تجعله يدرك في احتياجه إلى الهواء الطلق و أشعة الشمس و المواد الغذائية الرئيسية بكمياتها و أنواعها التي تؤمّن نموّ ذلك الجسم، و المحافظة على كيانه المطلوب، و يشعر بحدود ما يتحمّله الجسم من الأتعاب و ما يتطلّبه من الراحة و النوم، و ما هو المفروض من ضرورة التجنّب عن الأغذية المصطنعة من تصرفات الإنسان على خلاف مقتضيات الطبيعة أو الغريبة عن طبيعة ذلك المحيط الذي يعيش فيه، فإذا قصر عن تطبيق هذه الواجبات أو أسرف فيها جهلا أو قهرا أو اختيارا فيكون دائه منه بطبيعة الحال كما جاء في هذا الكلام:

أ تحسب أنّك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر

ص:38

لست مغاليا إذا قلت: إنّ هذا الكلام ينجرّ إلى بحوث فلسفية عالية قد يكون معظمها ليس من اختصاص الأطباء، و لكنّني أشرح منها ما أستطيع.

حقّا إذا تأمّل الإنسان في عظمة الكون، و تبصّر في انطواء هذا العالم يحسب نفسه جرما صغيرا إلاّ أنّه لو تبحّر في تركيب جسمه، و درس علم التشريح بدقائقه و علم الفلسفة الحديثة من جميع نواحيه لأخذه الهول من عظمة تكوين هذا الجسم الذي كلّ عضو من أعضائه كوّن في بابه يحتوي على ملايين من الحجيرات تقوم بأعمال ذات اختصاص مرتبطة ببعضها بغاية الدقّة و الإحكام، و حفظ التوازن و الانتظام و مع هذه العظمة في تكوينه فإنّه حقّا جرم صغير غير أنّه المكون الصانع أضاف في طبيعة هذه المنظومة لهذا الجسم كونا آخر أعظم شأنا هو (الدماغ) الذي رفع ذلك الجرم الصغير إلى الجرم الكبير، و جعل فيه انطواء هذا العالم الأكبر، ذلك الدماغ الذي لم يكتشف العلم جميع مكنوناته الدقيقة و لم يتوصّل إلى الوقوف على كيفيّة قيامه بمهمّاته التي من نتيجتها العقل و التعقّل ذلك العقل الذي جعل الإنسان متمكّنا من التغلب على عظمة هذا الكون، و ممارسة انطواء مقتضيات السيطرة على هذا العالم»(1).

و انتهى حديث الدكتور جاك عبود في تحليل كلام الإمام عليه السّلام، و كان ذلك قبل ثلاثين عامّا، و الآن قد تطوّر الطبّ إلى مرحلة هائلة في العمليات، و غرس الأعضاء و غيرها.

و قد اكتشف حديثا أنّ بعض الأعضاء إذا كان مصابا بدمّل و نحوه فإنّه يعالج بأخذ زرقة من العضو الصحيح، و تزرق فيه، و ما يدرينا لعلّ الطبّ قد يكتشف أنّ في بصاق الإنسان و غيره من فضلاته دواء لبعض الأمراض، و بذلك تكون صيدلية كامنة

ص:39


1- اسبوع الإمام : ١٩٥ _ ١٩٦.

في جسم الإنسان لعلاج بعض أمراضه.

أمّا الدماغ فهو المخلوق العجيب الذي تجسّدت فيه عظمة الخالق المبدع العظيم، فقد انطوت فيه العوالم و ذلك بما فيه من خزائن أسرار و عجائب اكتشف العلم بعضها، و جهل القسم الأكبر منها.

الوقاية من الأمراض:

و وضع الإمام منهجا خاصّا للوقاية من الأمراض و السّلامة من العلل قال عليه السّلام:

«لا تجلس على الطّعام إلاّ و أنت جائع، و لا تقم منه إلاّ و أنت تشتهيه، و جوّد المضغ، و اعرض نفسك على الخلاء إذا نمت فإذا استعملت هذه استغنيت عن الطّبّ »(1).

إنّ الإسراف في الطعام و الشراب، هما من أهمّ الأسباب التي تؤدّي إلى مرض الإنسان و انهيار صحّته، فإنّه - على الأكثر - يسبّب السمنة التي هي من موجبات مرض السكر و ارتفاع ضغط الدم و مرض القلب، و قد وضع الإسلام دستورا كاملا للصحّة العامّة قال تعالى: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا [1] .

و من المؤكّد أنّه لو امتنع الإنسان من الإفراط في تناول الطعام و غيره لما احتاج إلى الطبّ ، و قد أكّد الإمام ذلك بقوله:

«يضرّ النّاس أنفسهم في ثلاثة أشياء: الإفراط في الأكل اتّكالا على الصّحّة، و تكلّف حمل ما لا يطاق اتّكالا على القوّة، و التّفريط في العمل اتّكالا على القدرة».

ص:40


1- مستدرك نهج البلاغة : ١٢٦.
رضاع الطفل من ثدي امّه:

و أكّد الإمام عليه السّلام على ضرورة رضاع الطفل من لبن امّه، قال عليه السّلام:

«ما من لبن يرضع به الصّبيّ أعظم بركة عليه من لبن امّه»(1).

و قد أثبت الطبّ أنّ رضاع الطفل من لبن امّه يعود عليه بالنفع العميم، فإنّ اللبن من ثدي معقّم، و فيه من التراكيب ما يتناسب مع سنّ الطفل، و أمّا إطعام الطفل بغيره فإنّه يسبّب له الكثير من الأمراض.

و قد بحثنا عن ذلك بصورة مفصّلة و نافعة في كتابنا (نظام الاسرة في الإسلام)، و بهذا العرض الموجز ننهي الحديث عمّا اثر عن الإمام عليه السّلام في علم الطب.

10 - علم الجيولوجيا

من العلوم التي عرض عليه السّلام لها علم الجيولوجيا و ذلك في بعض خطبه و أحاديثه و التي منها:

1 - قال عليه السّلام:

«و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها على غير قرار، و أقامها بغير قوائم، و رفعها بغير دعائم».

الأرض كبقيّة الكواكب قائمة بقدرة اللّه تعالى و عظيم أمره في الفضاء، لا تستند إلى قائمة تعتمد عليها، و من المضحك الرواية المفتعلة أنّها قائمة على قرن ثور، فإنّها قد وضعتها اللجان التي أقامها معاوية لافتعال الحديث.

ص:41


1- مستدرك نهج البلاغة : ١٧١.

2 -

قال عليه السّلام:

«فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرّياح برحمته، و وتّد بالصّخور ميدان أرضه»(1).

إنّ الجبال التي خلقها اللّه تعالى و التي هي من عجائب مخلوقاته قد جعلها أوتادا في الأرض من أن تميد بأهلها.

3 -

قال عليه السّلام:

«و عدّل حركاتها - أي الأرض - بالرّاسيات من جلاميدها، و ذوات الشّناخيب(2) الشّمّ من صياخيدها(3)، فسكنت من الميدان(4)...»(5).

تحدّث عليه السّلام عن الجبال و أنّها هي التي تمسك الأرض أن تميد بأهلها، و بالاضافة لذلك فإنّ لها أهمّية بالغة فإنّها تحافظ على التربة، و على سطح الأرض من الزوال و الانتقال، فإنّ سطح الأرض لو كان خاليا من الجبال لكان عرضة للتغيير المستمر.

11 - علم الفلسفة

و من العلوم التي وضع اصولها و قواعدها، الفلسفة الإلهيّة، و هو أوّل من تبحّر فيها و تكلّم وفقا لطريقة الاستدلال الحرّ و البرهان المنطقي، و تعرّض لمسائل فلسفية لم يتعرّض لها فلاسفة العالم في وقته، فاهتم بهذا الشأن اهتماما بالغا، و حتى في

ص:42


1- نهج البلاغة _ محمّد عبده : ٧.
2- الشناخيب : القمم.
3- الصياخيد : وهي الصخور الشديدة.
4- الميدان : الاضطراب.
5- المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ٣٥.

أحلك ساعات الحرب؛ إذ

أنّ اعرابيا قام إليه يوم الجمل فسأله:

يا أمير المؤمنين، أ تقول إنّ اللّه واحد.

فحمل الناس عليه و قالوا: يا اعرابي، أ ما ترى ما في أمير المؤمنين من تقسم القلب.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

«دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابي هو الّذي نريده من القوم».

ثمّ قال:

«إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام:

فوجهان لا يجوزان على اللّه عزّ و جلّ ، و وجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه:

فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أ ما ترى أنّه كفر من قال: إنّه ثالث ثلاثة.

و قول القائل: هو واحد من النّاس، يريد به النّوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه و جلّ ربّنا عن ذلك و تعالى.

و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه:

فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا.

و قول القائل: إنّه عزّ و جلّ أحديّ المعنى، يعنى به أنّه لا ينقسم في وجوه و لا عقل و لا وهم، كذلك ربّنا عزّ و جلّ »(1).

ص:43


1- بحار الأنوار ٢ : ٦٥.

حرمة تعلّم السحر:

حرّم الإمام علم السحر لأنّه يؤدّي إلى شيوع الضلال بين الناس، و يدعو إلى التأخّر و الانحطاط ، فقد أثر عنه أنّ :

«السّاحر كالكافر! و الكافر في النّار».

إنّ الإسلام يدعو إلى التطوّر و التقدّم في ميادين العلوم، و السحر يقف حائلا دون تطوّر الحياة فلذا حرّمه الإمام.

حرمة تعلّم التنجيم:

أمّا علم النجوم فإن كان المراد من تعلّمه معرفة الأنواء الجوية فلا إشكال في جوازه، و إن كان المراد منه ربط الأحداث بالنجوم، و أنّها علّة مؤثّرة في تكوين الامور فهذا من الكفر،

و قد نهى الإمام عليه السّلام عنه. فقد انبرى إليه منجّم لمّا أراد السير إلى حرب الخوارج فقال له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك، فقال عليه السّلام له:

«أ تزعم أنّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء؟ و تخوّف من السّاعة الّتي من سار فيها حاق به الضّرّ؟ فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن، و استغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب و دفع المكروه».

ثمّ أقبل على الناس و قال:

«أيّها النّاس، إيّاكم و تعلّم النّجوم، إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، و المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالسّاحر، و السّاحر كالكافر! و الكافر في النّار!»(1).

ص:44


1- المكاسب المحرّمة ٢ : ٢٧٩ _ باب التنجيم.

الملاحم و المغيّبات

اشارة

الّتي اخبر عنها الإمام

ص:45

ص:46

أمّا الإخبار بالمغيّبات و الملاحم التي تحقّقت بعد ذلك على مسرح الحياة فإنّها من مختصّات الأنبياء و أوصيائهم؛ لأنّها تكون شاهد صدق على نبوّتهم، و آية واضحة على رسالتهم، و قد أخبر الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عن كثير من الامور التي ستتحقّق من بعده، و فعلا قد تحقّقت، و كان من بين ما أخبر به ما يلي:

1 - أنّه أخبر يوم الخندق بفتح الشام و فارس و اليمن، و تحقّق جميع ذلك في حياته و بعد وفاته، فقد رف لواء الإسلام على هذه المناطق، و ارتفعت فيها كلمة التوحيد، و أقبرت الأفكار الجاهلية و عاداتها.

2 - أحاط وصيّه و باب مدينة علمه الإمام عليه السّلام علما بشهادته، أنّه يقتله شبيه عاقر ناقة صالح، و لم تمض السنون حتى عمّمه المجرم الأثيم ابن ملجم بالسيف، و هو ماثل بين يدي اللّه تعالى، و ذكره سبحانه بين شفتيه.

3 - أخبر سيّدة نساء العالمين بضعته فاطمة الزهراء عليها السّلام أنّها أوّل أهل بيته لحوقا به، و لم تمض إلاّ أيام حتى التحقت به.

4 - أخبر المسلمين بشهادة ولده و ريحانته الإمام الحسين على صعيد كربلاء، و فعلا فقد استشهد أبو الأحرار في كربلاء بأيدي الطغمة الحاكمة من بني اميّة.

5 - أخبر نساءه بأن إحداهنّ تكون صاحبة الجمل الأدبب، و تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها و يسارها قتلى كثيرة، و فعلا فقد خرجت عائشة على وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخيه و نفسه، مطالبة بدم عثمان الذي أفتت بكفره و مروقه من

ص:47

الدين، و قد نبحتها كلاب الحوأب في طريقها لاحتلال البصرة، كما قتل من معسكرها و معسكر الإمام خلق كثير.

6 - أعلم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر عن شهادته على أيدي الفئة الباغية، و أنّ آخر شرابه من الدنيا ضياح من لبن، و فعلا فقد استشهد هذا العملاق بأيدي الفئة الباغية من جند معاوية، و كان آخر شرابه من الدنيا ضياح من لبن سقته إحدى السيّدات في جيش الإمام عليه السّلام.

7 - أنّه أسرّ إلى أهل بيته أنّهم المستضعفون من بعده، و قد جرى عليهم الظلم و الاعتداء من بني اميّة و بني العباس، و تجرّعوا من الغصص و النكبات ما لا نظير لها في فضاعتها و مرارتها، فكانوا حقّا من المستضعفين و من المعذّبين في الأرض.

و كثير من أمثال هذه الأحداث أخبر عنها الصادق الأمين، و قد جرت كلّها كما أخبر صلّى اللّه عليه و آله، و قد أدلى بكثير من الأحداث الجسام التي قالها إلى وصيّه و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و قبل التحدّث عن الملاحم و الأحداث التي أخبر عنها قبل وقوعها نتعرّض إلى ما أثر عنه من سعة علومه، و إحاطته الكاملة بما سيجري في الدنيا، و لنستمع إلى ذلك:

1 -

أنّه لمّا بايعه الناس بالخلافة خرج إلى الجامع النبوي معتمّا بعمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لابسا بردته، منتعلا بنعله، متقلّدا سيفه، فارتقى المنبر و شبّك بين أصابعه فوضعها في أسفل بطنه ثمّ قال:

«يا معشر النّاس، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، هذا ما زقّني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زقّا زقّا.

سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين و الآخرين.

ص:48

أما و اللّه لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم حتّى تنطق التّوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ .

و أفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق الإنجيل فيقول: صدق عليّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ .

و أفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول: صدق عليّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ ، و أنتم تتلون القرآن ليلا و نهارا، فهل فيكم أحد يعلم بما أنزل فيه ؟ و لو لا آية في كتاب اللّه عزّ و جلّ لأخبرتكم بما كان، و بما هو كائن إلى يوم القيامة، و هي قوله تعالى: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [1] .

ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي فلق الحبّة، و برأ النّسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل انزلت أو في نهار، مكّيّها و مدنيّها، سفريّها و حضريّها، ناسخها و منسوخها، و محكمها و متشابهها، و تأويلها و تنزيلها لأخبرتكم...»(1).

أ رأيتم سعة معارفه و علومه و ما يحمله من كنوز قد حوت أسرار الكون، و من المؤسف أنّ هذا العملاق العظيم يقرن بأعضاء الشورى الذين لا يفقهون بعض ما يفقهه الإمام.

2 -

روى الأصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السّلام على منبر الكوفة، فحمد

ص:49


1- بحار الأنوار ١٠ : ١١٧ _ ١١٨ ، وقريب منه في فرائد السمطين. مناقب الخوارزمي : ٩١.

اللّه و أثنى عليه ثمّ قال:

«أيّها النّاس، سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ بين جوانحي علما جمّا»(1).

3 -

قال عليه السّلام:

«فاسألوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم و بين السّاعة، و لا عن فئة تهدي مائة و تضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها و قائدها و سائقها»(2).

4 -

قال عليه السّلام و هو على منبر الكوفة:

«سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت عنه، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب»(3).

5 -

قال عليه السّلام:

«أيّها النّاس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض»(4).

و من المؤكّد أنّه لم يتفوّه أحد من الصحابة و غيرهم بمثل هذا الكلام كما يقول ابن عبد البر(5).

ص:50


1- المصدر السابق ١٠ : ١٢١.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٦. بحار الأنوار ١٠ : ١٢٦.
3- بحار الأنوار ١٠ : ١٢٨.
4- الاستيعاب ٣ : ٣٩.
5- الرياض النضرة : ١٩٨. الصواعق المحرقة : ٧٦. المناقب _ الموفّق بن أحمد الخوارزمي : ٩١. فضائل الصحابة _ ابن حنبل ٢ : ٦٤٦.

على أي حال فقد وهب اللّه هذا الإمام العظيم من العلوم و المعارف و الحكمة ما لا يحصى، كما أحاطه علما بما سيجري في الكون من أحداث، و قد أخبر عن بعضها، و تحقّقت على مسرح الحياة، و قد اصطلح العلماء على تسمية ما أخبر به من الأحداث بالملاحم، كان منها ما يلي:

ص:51

إخباره بقتل الحسن عليه السّلام

عند ما اغتال ابن ملجم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فغشى عليه ولده الحسن عليه السّلام فأخذ يبكي على أباه مهما ساعدته الجفون، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الإمام فأفاق، فلمّا رآه قال له مهدّئا روعه:

«يا بنيّ ، ما هذا البكاء؟ لا خوف و لا جزع على أبيك بعد اليوم.

يا بنيّ ، لا تبك، فأنت تقتل بالسّمّ ...»(1).

ص:52


1- حياة الإمام الحسن 7 : ٥٧٣.

إخباره بقتل الحسين عليه السّلام

استشفّ الإمام عليه السّلام من وراء الغيب بما يجري على ولده ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإمام الحسين عليه السّلام من القتل و التنكيل، فأشاع ذلك بين الناس، كما أخبر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبل، و قد أدلى الإمام عليه السّلام بذلك في كثير من المناسبات و هذه بعضها:

1 -

روى عبد اللّه بن نجي عن أبيه أنّه سافر مع الإمام عليه السّلام إلى صفّين، و كان صاحب مطهرته، فلمّا حاذى نينوى، تألّم الإمام و فزع كأشدّ ما يكون الفزع، و رفع صوته بأسى و حزن قائلا:

«صبرا أبا عبد اللّه، صبرا بشطّ الفرات»، و بهر عبد اللّه و انبرى قائلا:

من ذا أبو عبد اللّه ؟ فأجابه الإمام بنبرات تقطر حزنا قائلا:

«دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم و عيناه تفيضان، فقلت:

يا نبيّ اللّه، هل أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال: قام من عندي جبريل فأخبرني أنّ أمّتي تقتل الحسين ابني.

ثمّ قال: هل لك أن اريك من تربته ؟ قلت: نعم.

ص:53

فمدّ يده، فقبض. فلمّا رأيتها لم أملك عينيّ أن فاضتا»(1).

2 -

روى هرثمة بن سليم قال: غزونا مع عليّ بن أبي طالب غزوة صفّين، فلمّا نزلنا بكربلاء صلّى بنا صلاة، فلمّا سلّم رفع إليه من تربتها شيئا فشمّها، ثمّ قال:

«واها لك أيّتها التّربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب».

و عجب هرثمة من حديث الإمام، و لم يكن من الذاهبين إلى إمامته، فلمّا رجع من صفّين حدّث زوجته جرداء بنت سمير بما سمعه من الإمام، و كانت شيعة له فقالت له: دعنا منك أيّها الرجل فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلاّ حقّا...

و لم تمض الأيام حتى بعث المجرم ابن زياد بجيوشه إلى كربلاء لحرب ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان هرثمة من جملة الخارجين لحربه، فلمّا انتهى إلى كربلاء و رأى الحسين و أصحابه تذكّر قول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فكره حربه، و أقبل إلى الإمام الحسين عليه السّلام فأخبره بما سمعه من أبيه فقال له الإمام:

«معنا أنت أم علينا؟».

- لا معك و لا عليك، تركت أهلي و ولدي، و أخاف عليهم من ابن زياد..

فنصحه الإمام قائلا:

«ولّ هاربا حتّى لا ترى لنا مقتلا، فو الّذي نفس محمّد بيده لا يرى مقتلنا اليوم أحد و لا يغيثنا إلاّ أدخله اللّه النّار...».

و انهزم هرثمة و ولّى هاربا، و لم يشترك في حرب الإمام الحسين(2).

ص:54


1- تاريخ ابن عساكر ١٣ : ٥٧ _ ٥٨. المعجم الكبير _ الطبراني ، رواه في ترجمته الإمام الحسين ٣ : ١٠٦.
2- وقعة صفّين : ١٥٧. نهج البلاغة ٣ : ١٧٠.

3 -

روى أبو جعفة قال: جاء عروة البارقي إلى سعيد بن وهب، و أنا أسمع، فقال: حديث حدّثنيه عن عليّ بن أبي طالب، قال: نعم، بعثني مخنف بن سليم إلى عليّ فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده، و يقول: «هاهنا، هاهنا».

فبادر إليه رجل فقال له: ما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السّلام: «ثقل آل محمّد ينزل هاهنا، فويل لهم منكم، و ويل لكم منهم».

و انبرى الرجل قائلا: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ فأجابه الإمام:

«ويل لهم منكم تقتلونهم، و ويل لكم منهم يدخلكم اللّه بقتلهم النّار»(1).

4 -

روى الحسن بن كثير عن أبيه أنّ عليّا أتى كربلاء فوقف بها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذه كربلاء...

فأجابه الإمام بأذى و أسى قائلا:

«ذات كرب و بلاء...»، ثمّ أومأ بيده إلى موضع منها، فقال:

«هاهنا موضع رحالهم - أي خيمهم -»، و أشار بيده إلى مكان آخر منها فقال:

«هاهنا مهراق دمائهم»(2).

5 -

روى أبو حبرة قال: صحبت عليّا حتى أتى الكوفة فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال:

«كيف أنتم إذا نزل بذرّيّة نبيّكم البلاء بين أظهركم ؟» فأجابوه: إذا نبلى اللّه فيهم بلاء حسنا...

ص:55


1- وقعة صفّين : ١٥٨.
2- نهج البلاغة ٣ : ١٦٩. وقعة صفّين : ١٥٨.

و ردّ عليهم الإمام مفنّدا لمزاعمهم قائلا:

«و الّذي نفسي بيده لينزلنّ بين أظهركم و لتخرجنّ إليهم فلتقتلنّهم».

ثمّ قال:

«هم أوردوه بالغرور و عرّدوا أحبّوا نجاة لا نجاة و لا عذر»(1)

لقد رفع الكوفيّون آلاف الرسائل إلى سيّد الأباة و زعيم الأحرار الإمام الحسين عليه السّلام لينقذهم من عنف الأمويّين و ظلمهم فاستجاب لهم، فلمّا حلّ في ديارهم اجتمعوا عليه فقتلوه مع السادة العلويّين من أبنائه و اخوانه و أبناء عمومته، و معهم النخبة الصالحة من أشراف الدنيا من أصحابه، و مثّلوا شرّ تمثيل بأجسامهم الطاهرة، و رفعوا رءوسهم على الرماح هدية لابن مرجانة و سيّده يزيد... فكانت مأساة مروعة لم يشهد لها مثيل في تأريخ البشرية.

6 -

روى أبو هرثمة قال: كنت مع عليّ بنهر كربلاء، فمرّ بشجرة تحتها بعر غزلان فأخذ من التراب قبضة فشمّها، ثمّ قال:

«يحشر من هذا الظّهر سبعون ألفا يدخلون الجنّة بغير حساب»(2).

7 -

روى الطبراني بسنده أنّ الإمام عليّ عليه السّلام قال:

«ليقتلنّ الحسين، و إنّي لأعرف التّربة الّتي يقتل فيها بين النّهرين»(3).

8 -

روى ثابت عن سويد بن غفلة أنّ الإمام عليه السّلام خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات، فأستغفر له...؟

ص:56


1- مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠. المعجم الكبير _ الطبراني ٣ : ١١٠ ، الرقم ٢٨٢٣.
2- مجمع الزوائد ٩ : ١٩١. المعجم الكبير _ الطبراني ٣ : ١١٨ ، الرقم ٢٨٢٥.
3- مجمع الزوائد ٩ : ١٩٠. المعجم الكبير _ الطبراني ٣ : ١١٧ ، الرقم ٢٨٢٤.

فردّ عليه الإمام:

«مه إنّه لم يمت، و لا يموت حتّى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حماز...».

فقام إليه رجل و قال: يا أمير المؤمنين، أنا حبيب بن حماز، و إنّي لك شيعة! و كرّر الإمام قوله: «أنت حبيب» فيجيب: نعم، فقال عليه السّلام:

«إي و اللّه إنّك لحاملها، و لتحملنّها، و لتدخلنّ من هذا الباب»، و أشار إلى باب الفيل، و هو أحد أبواب مسجد الكوفة.

قال ثابت: و اللّه ما مات حتى رأيت ابن زياد قد بعث عمر بن سعد إلى قتال الحسين، و جعل خالد بن عرفطة على مقدّمة الجيش، و حبيب بن حماز صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل(1).

9 -

روى عبد السمين: أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يخطب:

«سلوني قبل أن تفقدوني، فو اللّه ما تسألوني عن شيء مضى، و لا شيء يكون إلاّ أنبأتكم به».

قال: فقام إليه سعد بن أبي وقّاص و قال: يا أمير المؤمنين، اخبرني كم في رأسي و لحيتي من شعرة ؟ فقال: «و اللّه لقد سألتني عن مسألة حدّثني خليلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّك ستسألني عنها و ما في رأسك و لحيتك من شعرة إلاّ و في أصلها شيطان جالس، و إنّ في بيتك لسخلا يقتل الحسين ابني...»، و عمر يومئذ يدرج بين يدي أبيه(2).

ص:57


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٦.
2- كامل الزيارات : ٧٤.

10 -

خطب الإمام عليه السّلام فكان من بنود خطابه:

«سلوني قبل أن تفقدوني، فو اللّه لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة، أو تهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها و سائقها، و لو شئت لأخبرت كلّ واحد منكم بمخرجه و مدخله و جميع شأنه».

فانبرى له الوغد الخبيث تميم بن اسامة، فقال له ساخرا: كم في رأسي طاقة شعر؟ فرمقه الإمام بطرفه و قال له:

«أما و اللّه إنّي لأعلم ذلك، و لكن أين برهانه لو أخبرتك به، و لقد أخبرتك بقيامك، و مقالك، و قيل لي: إنّ على كلّ شعرة من شعر رأسك ملكا يلعنك، و شيطانا يستفزّك، و آية ذلك أنّ في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول اللّه، و يحضّ على قتله».

قال ابن أبي الحديد: «كان الأمر بموجب ما أخبر به عليه السّلام كان ابنه حصين - و هو ابن تميم - يومئذ طفلا صغيرا يرضع اللبن، ثمّ عاش إلى أن صار على شرطة عبيد اللّه بن زياد، و أخرجه عبيد اللّه إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين عليه السّلام و يتوعّده على لسانه إن أرجأ ذلك، فبلغ ابن سعد بذلك، فقتل عليه السّلام صبيحة اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته»(1).

11 -

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام للبراء بن عازب:

«يا براء، يقتل ابني الحسين و أنت حيّ لا تنصره ؟».

فقال البراء: لا كان ذلك يا أمير المؤمنين.

ص:58


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

و لم تمض الأيام حتى استشهد سيّد شباب أهل الجنّة بتلك القتلة المروعة التي أذابت القلوب، و كان البراء حيّا، فتذكّر مقالة الإمام، و ندم كأشدّ ما يكون من الندم، و قال: أعظم بها حسرة إذ لم أشهده و اقتل دونه(1).

12 -

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

«كأنّي بالقصور قد شيّدت حول قبر الحسين، و كأنّي بالأسواق قد حفّت حول قبره، و لا تذهب الأيّام و اللّيالي حتّى يسار إليه من الآفاق، و ذلك بعد انقطاع بني مروان...»(2).

و تحقّق ما أخبر به الإمام عليه السّلام، فقد استشهد الإمام أبو الأحرار بأيدي العصابة الأموية المجرمة، و قد جهدوا على طمس قبر الإمام عليه السّلام و إخماد ذكره، و لما انقرضت دولتهم و تمزّقت أشلاؤهم ظهر مرقد سيّد الشهداء عليه السّلام كأعزّ مرقد في دنيا الإسلام، تهفو إليه القلوب، و تشدّ إليه الرحال من كلّ فجّ عميق، فالسعيد الذي يحظى بزيارته، و يلثم أعتاب مرقده و ضريحه.

لقد أصبح مرقد أبي الأحرار رمزا للكرامة الإنسانية و منارا مشرقا لكلّ تضحية تقوم على الشرف و الكرامة، سلام اللّه عليك يا أبا عبد اللّه و على أبنائك و أصحابك.

ص:59


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.
2- مسند الإمام زيد : ٤٧.

إخباره بعدد الجيش الذي جاء لنجدته

و لمّا أرسل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الكوفة ليستنفر أهلها، و يستعين بهم في حرب الجمل، قال عليه السّلام لابن عبّاس:

«سوف يأتي ولدي الحسن هذا اليوم و معه عشرة آلاف فارس و راجل، و لا ينقص واحد و لا يزيد واحد».

قال ابن عباس: فلمّا وصل الحسن بالجند لم تكن لي همّة إلاّ مسألة الكاتب عن عدد الجند فسألته عن ذلك فقال: عشرة آلاف فارس و راجل لا ينقص واحد و لا يزيد واحد، فعلمت أنّ ذلك العلم من الأبواب التي علّمه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

1

ص:60


1- بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٨.

إخباره بشهادة كوكبة من أصحابه

اشارة

و استشفّ وصي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مستودع أسراره من وراء الغيب ما يجري على خلّص أصحابه الذين غذّاهم بمواهبه و حكمته من القتل و التنكيل و الاعدام من بعده على يد الطغمة الحاكمة الأموية.

و هؤلاء بعض الشهداء من أصحابه الذين استبيحت دماؤهم لا لذنب اقترفوه و إنّما لولائهم للإمام رمز العدالة الإنسانية، و هم:

1 - عمرو بن الحمق رضى اللّه عنه:

و هو من أعلام الإسلام، و من ألمع شهداء الفضيلة، استباح الطاغية الفاجر ابن هند دمه؛ لأنّه من خلّص أصحاب الإمام، و أمر أن يطاف برأسه من العراق إلى الشام...

و قد أحاط الإمام عليه السّلام عمرا بذلك في حديثه التالي فقد قال له:

«أين نزلت يا عمرو؟».

في قومي.

«لا تنزلنّ فيهم».

و قد نهاه عن النزول و الاستيطان في قومه لأنّهم لا يحموه إن نزلت به كارثة، و قد أمره الإمام بالنزول في بني عمرو بن عامر من الأزد لأنّهم لا يسلموه عند الشدّة.

ثمّ التفت إليه بألم و حزن قائلا:

ص:61

«إنّك لمقتول بعدي، و إنّ رأسك لمنقول، و هو أوّل رأس ينقل في الإسلام، و الويل لقاتلك...

أما إنّك لا تنزل بقوم إلاّ أسلموك برمّتك إلاّ هذا الحيّ من بني عمرو بن عامر فإنّهم لن يسلموك و لن يخذلوك».

و لمّا أفلت دولة العدل و الحقّ و آل الحكم إلى ابن هند أوعز إلى شرطته و عملائه بإلقاء القبض عليه، و لمّا علم عمرو بذلك استولى عليه الذعر و الخوف، فنزل في قومه من بني خزاعة، فسلّموه إلى الشرطة، و نفّذ فيه الإعدام، و حملوا رأسه هدية إلى معاوية بالشام، و طيف به في البلدان(1).

فكان أوّل رأس طيف به في الإسلام، و هو يحمل مشعل النور و الكرامة و يهدي الناس للتي هي أقوم.

و أمر الطاغية بحمل الرأس الشريف إلى زوجته آمنة بنت الشريد، و كانت في سجونه، و ألقت الشرطة رأس زوجها في حجرها فذعرت و انهارت قواها و أخذت دموعها تتبلور على سحنات وجهها قائلة: وا حزناه لصغره في دار هوان، و ضيق من ضيمة سلطان، نفيتموه عنّي طويلا، و أهديتموه إليّ قتيلا، فأهلا و سهلا بمن كنت له غير قالية، و أنا له اليوم غير ناسية... و التفتت إلى الحرسي بشجاعة قائلة:

ارجع به أيّها الرسول إلى معاوية فقل له و لا تطوه دونه، أيتم اللّه ولدك، و أوحش منك أهلك و لا غفر لك ذنبك...، و بادر الشرطي إلى معاوية فأخبره بمقالتها فغضب و ورم أنفه، و أمر بإحضارها في بلاطه، فأحضرتها جلاوزته فبادرها قائلا:

أنت يا عدوّة اللّه صاحبة الكلام الذي بلغني ؟

ص:62


1- الاستيعاب ٢ : ٥١٧.

فأجابته بشجاعة و صلابة غير حافلة بسلطانه قائلة: نعم غير نازعة عنه، و لا معتذرة منه، و لا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء، إن نفع الاجتهاد و إن الحقّ لمن وراء العباد، و ما بلغت شيئا من جزائك، و إنّ اللّه بالنقمة لمن ورائك....

و التفت أحد خدمة السلطة إلى معاوية قائلا:

أقتل هذه يا أمير المؤمنين، فو اللّه ما كان زوجها أحقّ بالقتل منها.

فسخرت منه و قالت ببطولة نادرة:

تبّا لك، ويلك بين لحييك كجثمان الضفدع، ثمّ أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس... إن تريد إلاّ أن تكون جبّارا في الأرض، و ما تريد أن تكون من المصلحين...

و بهر معاوية و قال لها:

للّه درّك اخرجي، ثمّ لا أسمع بك في شيء من الشام.

لقد خاف من بقائها في الشام لئلا تبثّ الوعي السياسي بين الشاميّين فقد جهد معاوية على إبقائهم على غفلتهم و جهلهم.

و خرجت المرأة من الشام بعد أن أفحمت معاوية بمنطقها الفيّاض(1).

2 - ميثم التمار رضى اللّه عنه:

أمّا ميثم التمار فهو من خيار أصحاب الإمام، و قد ملئ إيمانا و صدقا و إخلاصا للإمام عليه السّلام، و قد عهد إليه الإمام بالكثير من علومه، و أطلعه على بعض الامور الغيبية، و كان ميثم يتحدّث عنها، فأنكرها قوم من الكوفيّين، و نسبوه إلى المخرقة(2).

ص:63


1- حياة الإمام الحسن ٢ : ٣٧٨ _ ٣٨٢.
2- المخرقة : وهم الذين يفتعلون الكذب.

كان ميثم عبدا لامرأة من بني أسد اشتراه الإمام منها و أعتقه، و قال له:

«ما اسمك ؟».

سالم.

و راح الإمام يخبره بما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأنه قائلا:

«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرني أنّ اسمك الّذي سمّاك به أبوك في العجم ميثم».

و بهر ميثم و قال: صدق اللّه و رسوله، و صدقت يا أمير المؤمنين فهو و اللّه اسمي!! «فارجع إلى اسمك، ودع سالما فنحن نكنّيك به».

و اتّصل ميثم بالإمام اتّصالا وثيقا، فكان من أقرب الناس إليه، و ألصقهم به، و أخبره الإمام بما يجري عليه من النكبات و الخطوب من بعده قائلا:

«يا ميثم، إنّك تؤخذ بعدي و تصلب، فإذا كان اليوم الثّاني ابتدر منخرك و فمك دما، حتّى تخضب لحيتك، فإذا كان اليوم الثّالث طعنت بحربة يقضى عليك، فانتظر ذلك.

و الموضع الّذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث إنّك لعاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة، و أقربهم من المطهرة - و هي الأرض - و لارينّك النّخلة الّتي تصلب على جذعها...».

و سار ميثم مع الإمام فأراه النخلة التي يصلب عليها، فكان ميثم يأتيها و يصلّي عندها، و يقول: بوركت من نخلة، لك خلقت ولي نبتّ .. و لم يزل يتعاهدها بعد ما أخبره الإمام، و قطعت النخلة و بقي جذعها، فلم يزل ميثم يتعاهدها، و كان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إنّي مجاورك فأحسن جواري، و لم يعلم ابن حريث ما ذا يريد ميثم، فكان يقول: أ تريد أن تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم.

ص:64

و حجّ ميثم في السنة التي استشهد فيها، فدخل على أمّ المؤمنين أمّ سلمة فقالت له:

- من أنت ؟ - عراقي، و أنا مولى للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و انبرت أمّ المؤمنين قائلة:

- أنت هيثم ؟ - بل أنا ميثم.

و عجبت أمّ المؤمنين و راحت تقول له:

- سبحان اللّه!! و اللّه لربّما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوصي بك عليّا في جوف الليل...!! و سألها ميثم عن الإمام الحسين عليه السّلام فأخبرته أنّه في بستان له فقال لها: اخبريه أنّني أحببت السلام عليه، و نحن ملتقون عند ربّ العالمين.

و كان كلامه هذا كلام مودّع آيس من الحياة، و دعت أمّ سلمة بطيب فطيّبت به لحيته، و قال لها ميثم: أمّا أنّها - أي لحيته - ستخضّب بالدم..

- من أنبأك بهذا؟! - أنبأني سيّدي...

و غرقت أمّ سلمة بالبكاء و راحت تقول:

ليس - أي الإمام - سيّدك وحدك هو سيّدي و سيّد المسلمين...

ثمّ ودّعته، و انصرف ميثم يجدّ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة، فألقت الشرطة القبض عليه و أدخلته على الطاغية ابن مرجانة، فانبرى شخص فقال لابن زياد معرّفا بميثم:

ص:65

هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب، و طفق ابن زياد قائلا:

و يحكم هذا الأعجمي ؟! - نعم.

و التفت الطاغية بغضب و سخرية إلى ميثم قائلا:

- أين ربّك ؟ - بالمرصاد.

- بلغني اختصاص أبي تراب بك ؟ - قد كان ذلك فما تريد؟ - يقال إنّه أخبرك بما ستلقاه ؟ - نعم.

- ما أخبرك أنّي صانع بك ؟ - أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة أقربهم من المطهرة.

لأخالفنّه.

ويحك كيف تخالفه ؟ إنّما أخبرني عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرائيل، و جبرائيل أخبر عن اللّه، كيف تخالف هؤلاء؟ أما و اللّه لقد عرفت الموضع الذي اصلب عليه أين هو من الكوفة، و أنّي لأوّل خلق اللّه الجم في الإسلام بلجام كما يلجم الفرس...

فأمر ابن مرجانة باعتقاله في السجن فادخل فيه، و كان معه في السجن المجاهد الكبير المختار بن عبيدة الثقفي، فأخبره ميثم بما سمعه من الإمام أمير المؤمنين قائلا له:

إنّك تفلت من السجن، و تخرج ثائرا بدم الحسين، فتقتل هذا الجبّار، و تطأ

ص:66

بقدمك هذا على جبهته و خدّيه..

و بقي ميثم مع المختار في السجن، و لم يمض مزيد من الوقت حتى تشفّع في المختار عبد اللّه بن عمر إلى يزيد في إطلاق سراحه لأنّه كان زوجا لاخت المختار، فشفّعه فيه يزيد و كتب إلى ابن زياد بإطلاق سراحه، و كان قد عزم على قتله فأخرجه من السجن، و أمره بالخروج من الكوفة، ثمّ اخرج ميثم و قال له بعنف:

لأمضين حكم أبي تراب فيك..

فأخذته الجلاوزة و جاءوا به إلى الخشبة التي عيّنها الإمام ليصلب عليها، فلمّا رآها ميثم تبسّم و خاطبها قائلا:

لي خلقت ولي غذيت..

و رفعته الجلاوزة على الخشبة، فاجتمع الناس حوله، فجعل يحدّثهم بفضائل الإمام و أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس، و يذكر مخازي و مساوئ بني اميّة، فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد، فأمر بلجمه.

فكان أوّل شخص الجم في الإسلام، فلمّا كان اليوم الثاني فاضت منخراه دما، و في اليوم الثالث طعن بحربة فاستشهد صابرا محتسبا.

لقد تحقّق جميع ما أخبر به الإمام عليه السّلام في شأنه، رحم اللّه ميثم يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيّا.

3 - رشيد الهجري رضى اللّه عنه:

أمّا رشيد الهجري فهو من أفاضل أصحاب الإمام عليه السّلام و من أكثرهم إيمانا و معرفة به، و كان الإمام يسمّيه «رشيد البلايا»، و قد أحاطه علما بما يجري عليه من بعده من صنوف التنكيل، و قد روت ابنته قنوة قالت: سمعت أبي يقول:

قال لي أمير المؤمنين:

ص:67

«يا رشيد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيّ بني اميّة، فقطع يديك و رجليك و لسانك».

فقال له أبي: يا أمير المؤمنين، آخر ذلك إلى الجنّة ؟ «يا رشيد، أنت معي في الدّنيا و الآخرة».

و أخبره الإمام مرّة اخرى بشهادته حينما خرج معه إلى بستان فاستظلاّ تحت نخلة، فقام صاحب البستان إلى النخلة فالتقط منها رطبا و قدّمه لهما، فقال رشيد:

«ما أطيب هذا الرطب ؟ - «أما إنّك ستصلب على جذعها».

فكان رشيد يتعاهدها و يتعبّد تحتها، و اجتاز عليها مرّة فرأى سعفها قد قطع فشعر بدنو أجله، و مرّ عليها مرّة اخرى فرأى نصفها قد جعل زنوقا يستسقى عليه فأيقن بدنو أجله(1). و لم يمض قليل من الوقت حتى أرسل خلفه زياد بن أبيه، فلمّا مثل عنده قال له:

- ما قال لك خليلك - يعني الإمام - إنّا فاعلون بك ؟ - تقطعون يدي و رجلي و تصلبوني.

- أما و اللّه لأكذّبن حديثه...

و أمر الطاغية بإطلاق سراحه، فلمّا خرج ندم على ذلك و أمر بإرجاعه إليه، فلمّا حضر عنده قال له:

لا نجد لك شيئا أصلح ممّا قال صاحبك، إنّك لا تزال تبغي لنا سوء إن بقيت... اقطعوا يديه و رجليه...

ص:68


1- حياة الإمام الحسن 7 ٢ : ٣٢٧.

و بادرت الجلاوزة إلى قطع يديه و رجليه و هو يتكلّم، فغاظ ذلك زيادا فأمر الجلاوزة بصلبه خنقا، فقال لهم رشيد:

بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه - أراد بذلك قطع لسانه -، فأمر زياد بقطع لسانه.

فقال لهم رشيد: نفّسوا عنّي حتى أتكلّم كلمة واحدة فأمهلوه.

فقال: و هذا تصديق خبر أمير المؤمنين عليه السّلام أخبرني بقطع لساني(1).

ففي ذمّة اللّه ما عاناه هذا العبد الصالح الذي هو من خيار المؤمنين من الظلم و الاعتداء من قبل هؤلاء الفسقة المجرمين.

4 - جويرية بن مسهر العبدي رضى اللّه عنه:

أمّا جويرية بن مسهر فهو من أفذاذ المؤمنين، و علم من أعلام الإسلام، أخلص للإمام و تولاّه، و تغذّى ببعض علومه و معارفه، دخل على الإمام فكان مضطجعا فقال له جويرية:

أيّها النائم، استيقظ فلتضربنّ على رأسك تخضب منها لحيتك، فتبسّم الإمام و أخبره بما يقاسيه من بعده من ولاة الجور قائلا:

«احدّثك يا جويرية بحديثك، أما و الّذي نفسي بيده لتعتلنّ (2) إلى العتلّ الزّنيم، و ليقطعنّ يدك و رجلك، و ليصلبنّك تحت جذع كافر(3)»(4).

ص:69


1- سفينة البحار ٢ : ٣٢٧. بحار الأنوار ٤١ : ١٢٢.
2- تعتلن : أي تجذبن.
3- الجذع الكافر : القصير.
4- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٩.

و لم تمض الأيام حتى استدعاه زياد الأخ اللاّشرعي لمعاوية فأمر بقطع يده و رجله، و صلبه على جذع قصير(1).

و قد ألّف هشام بن محمّد السائب كتابا في فاجعته و فاجعة اخوانه الشهداء رشيد الهجري و ميثم التمّار(2).

5 - مزرع رضى اللّه عنه:

أمّا مزرع فهو من خيار أصحاب الإمام عليه السّلام، و قد أخبره الإمام عن شهادته، و أنّه يقتل و يصلب بين شرفتين من شرف المسجد.

و في أيام الحكم الأسود من حكومة معاوية ألقى القبض عليه زياد بن أبيه فقتله و صلبه بين شرفتين من شرف المسجد(3).

6 - حجر بن عدي رضى اللّه عنه:

أمّا حجر بن عدي فهو علم من أعلام الإسلام، و من كبار صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان صديقا حميما للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد أخبره الإمام عن شهادته من بعده و ذلك حينما عمّمه ابن ملجم بالسيف، فقد قال له بعطف و رفق:

«كيف بك إذا دعيت إلى البراءة منّي فما عساك أن تقول ؟»، فأجابه حجر بإيمان و صدق:

و اللّه يا أمير المؤمنين لو قطّعت بالسيف إربا إربا، و اضرمت النار لي و القيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك.

فأجابه الإمام:

ص:70


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٩٤.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٩٤.
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٩٤.

«وفّقت لكلّ خير يا حجر، جزاك اللّه خيرا عن أهل بيت نبيّك»(1).

و لمّا أفلت دولة الحقّ ، و قامت دولة الباطل و الجور دولة معاوية الذي أقام حكمه على سبّ الإمام و انتقاصه و جعل ذلك فرضا واجبا على ولاته و عمّاله يشيعونه في بلاد المسلمين، و لمّا ولي المغيرة بن شعبة على الكوفة خطب الناس و تعرّض في خطابه إلى سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فانبرى إليه حجر كالأسد منكرا عليه قائلا:

كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه، و أنا أشهد أنّ من تذمّون و تعيّرون لأحق بالفضل، و من تزكّون أولى بالذمّ .

و وثب قوم من أصحاب حجر فقالوا بمثل مقالته، فالتفت المغيرة إلى حجر قائلا: يا حجر، قد رمى بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك. يا حجر، اتّق غضب السلطان، اتّق غضبه و سطوته، فإنّ غضبة السلطان ممّا تهلك أمثالك كثيرا...(2).

و لم يزل حجر متحمّسا في ولائه للإمام أمير المؤمنين غير حافل بالأزمات و الخطوب التي يعانيها من ولاة معاوية، و قد قيل للمغيرة: اعدمه، فامتنع من ذلك، و لم تزل بطانته تلحّ عليه في قتله فقال لهم:

- إنّي قد قتلته..

- كيف ذاك ؟ سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أوّل وهلة فيقتله شرّ قتلة..

و ولي من بعد المغيرة زياد بن أبيه الكوفة فجعل حجر يواصل نشاطه ضدّ

ص:71


1- بحار الأنوار ٢٤ : ٢٩٠.
2- تاريخ الطبري ٦ : ١٤٢.

السلطة، و قد خطب زياد يوم الجمعة فأطال في خطابه حتى ضاق وقت الصلاة، فانبرى إليه حجر منكرا عليه تأخير الفريضة قائلا:

- الصلاة.

- فلم يعن الطاغية به، و مضى في خطابه، فقام حجر رافعا صوته:

- الصلاة.

و لم يحفل الطاغية بكلام حجر فاسترسل في خطابه فخشي حجر فوت الصلاة فضرب يده كفّ من الحصى و رمى به صوب الطاغية، و ثار الناس معه، فلمّا رأى ذلك زياد ورم أنفه و انتفخت أوداجه، و قال:

ما أنا بشيء إن لم أمنع ساحة الكوفة من حجر و أدعه نكالا من بعده، ويل امّك يا حجر، سقط العشاء على سرحان ثمّ تمثّل:

أبلغ نصيحة إن راعى أبلها سقط العشاء به على سرحان

و أرسل زياد جماعة من وجوه الكوفة فأمرهم أن يردوا حجر عن خطته، فامتنع حجر و أبى إلاّ الإنكار على السياسة الأموية، و أخيرا أمر زياد شرطته أن يأتوه به، فانطلقت الشرطة لإلقاء القبض عليه، إلاّ أنّها لم تستطع ذلك، فقد التفّ حوله جمهور من المؤمنين فمنعوا الشرطة من القبض عليه، و كان قيس بن فهدان الكندي يلهب نار الثورة في النفوس، و يدعو إلى حماية حجر و أصحابه فكان يقول:

يا قوم حجر دافعوا و صاولوا و عن أخيكم ساعة فقاتلوا

لا يلقين منكم لحجر خاذل أ ليس فيكم رامح و نابل

و فارس مستلئم و راجل و ضارب السيف لا يزايل

و تحصّن حجر و أصحابه فلم يتمكّن منهم زياد، فجمع الزعماء و أبناء البيوت، فقال لهم:

ص:72

يا أهل الكوفة، أ تشجون بيد و تأسون باخرى، أبدانكم معي و أهواءكم مع حجر لهجاجة، الأحمق المذبوب أنتم معي، و اخوانكم و أبناؤكم و عشائركم مع حجر، هذا و اللّه من دحسكم(1) و غشّكم، و اللّه لتظهرون لي براءتكم أو لآتينّكم بقوم اقيم بهم أودكم و صعركم(2).

فانبروا بخنوع و عبودية يظهرون الطاعة لهذا الطاغية قائلين:

معاذ اللّه سبحانه أن يكون لنا فيما هاهنا رأي إلاّ طاعتك، و طاعة أمير المؤمنين - يعني معاوية - و كلّ ما ظنّنا أنّ فيه رضاك، و ما يستبين به طاعتنا و خلافنا لحجر فمرنا به.

و أنس بكلام هؤلاء العبيد فأمرهم بما يلي:

ليقيم كلّ امرئ منكم إلى هذه الجماعة حول حجر فليدع كلّ رجل منكم أخاه و ابنه و ذا قرابته و من يطيعه من عشيرته حتى تقيموا عنه كلّ من استطعتم أن تقيموه..

و قام هؤلاء العبيد بإفساد أمر حجر، و خذلان أتباعه، ثمّ أمر زياد مدير شرطته شداد بن الهيثم بإلقاء القبض على حجر و أصحابه، و ضمّ إليه الأثيم محمّد بن الأشعث الكندي، و قال له:

يا أبا الشعثاء، أما و اللّه لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلاّ قطعتها، و لا دارا إلاّ هدمتها، ثمّ لا تسلم حتى أقطّعك إربا إربا..

فقال له: امهلنى ثلاثا حتى أطلبه، فقال له: أمهلتك، فإن جئت به و إلاّ عدّ نفسك من الهلكى.

ص:73


1- الدحس : الإفساد.
2- الصعر : الميل إلى أحد الشقّين.

و قام ابن الأشعث مع مدير الشرطة فتتبّعوا حجرا و أصحابه، و بعد مصادمات عنيفة جرت بين الفريقين استطاعة جلاوزة زياد القبض عليه و على أصحابه، فجيء بهم إلى زياد فأمر بإيداعهم في السجن.

و طلب زياد من عملاء السلطة أن يشهدوا على حجر و أصحابه، فشهد جمع منهم أنّهم تولّوا عليّا، و عابوا عثمان، و نالوا من معاوية، فلم يرض زياد بهذه الشهادة، و قال: إنّها غير قاطعة، و انبرى أبو بردة بن أبي موسى الأشعري فكتب شهادة ترضى السلطة هذه نصّها:

هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري للّه ربّ العالمين شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة و فارق الجماعة، و لعن الخليفة، و دعا إلى الحرب، و جمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، و كفر باللّه كفرة صلعاء...

رضي زياد بن أبيه بهذه الشهادة التي كتبها ابن أبي الأشعري الذي لم يفقه هو و أبوه شيئا من الإسلام.

و شهد بهذه الشهادة سبعون رجلا كلّهم من المنحرفين عن الإسلام، و عملاء السلطة، و رفع زياد هذه الوثيقة إلى أخيه اللاّشرعي معاوية، فأمر بحملهم إلى الشام موثّقين بالحديد، فحملوا ليلا و وقعت النياحة في دار حجر، و صعدت ابنته - و لا عقب له غيرها - فوق سطح الدار و ألقت نظرة على القافلة التي تسير إلى الموت، و هي تبكي أمرّ البكاء و تناجي القمر و تبثّه لوعتها و أحزانها و قد صاغت من محنتها و بلواها أبياتا من الشعر قائلة:

ترفّع أيّها القمر المنير لعلّك أن ترى حجرا يسير

يسير إلى معاوية بن حرب ليقتله كذا زعم الأمير

و يصلبه على بابي دمشق و تأكل من محاسنه الطيور

تجبّرت الجبابر بعد حجر و طاب لها الخورنق و السدير

ص:74

ألا يا حجر حجر بن عديّ تلقتك السلامة و السرور

أخاف عليك ما أردي عديّا و شيخا في دمشق له زئير

ألا يا ليت حجرا مات موتا و لم ينحر كما نحر البعير

فإن تهلك فكلّ عميد قوم إلى هلك من الدنيا يصير(1)

و انتهت القافلة التي تقلّ خيرة الصحابة إلى مرج عذراء، فلمّا عرف حجر أنّه بهذه القرية رفع صوته قائلا: «و اللّه إنّي لأوّل مسلم نبحته كلابها، و أوّل مسلم كبّر بواديها»(2).

و تقدّم البريد بأخبارهم إلى الطاغية ابن هند ففرح لأنّه أخذ ثأره من أنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأرسل إليهم رجلا أعور فأمره بإعدامهم إن لم يتبرّءوا من وصي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه، فلمّا رآه بعضهم قال متشائما: إن صدق الزجر(3) فإنّه سيقتل نصفنا، و ينجو الباقون، فقيل له: و كيف ذاك ؟ فقال: أ ما ترون الرجل مصاب بإحدى عينيه.

و قدّم الجلاد الحقير فقال لحجر: إنّ أمير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال، و معدن الكفر و الطغيان، و المتولّي لأبي تراب، و قتل أصحابك إلاّ أن ترجعون عن كفركم، و تلعنوا صاحبكم و تتبرّءون منه. فانبرى إليه حجر كالأسد فقال مستهينا بالموت و ساخرا من الحياة:

إنّ الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا ممّا تدعوننا إليه، ثمّ القدوم على اللّه و على نبيّه و على وصيّه أحبّ إلينا من دخول النار (4).

ص:75


1- مروج الذهب ٢ : ٣٠٧.
2- الكامل في التاريخ ٣ : ٦٩٢.
3- الزجر : الحدس.
4- مروج الذهب ٣ : ١٣.

و حفرت لهم القبور، و طلب حجر أن يسمحوا له بالوضوء و الصلاة فسمحوا له بذلك، فتوضّأ و صلّى صلاة و أطال في سجودها فلمّا أتمّ صلاته قال للقوم:

و اللّه ما صلّيت صلاة أخفّ منها، و لو لا أن تظنّوا فيّ جزعا من الموت لاستكثرت منها...

ثمّ أخذ يناجي ربّه و يدعو على عدوّه الماكر الخبيث ابن هند قائلا:

اللّهمّ إنّا نستعيذك على امّتنا فإنّ أهل الكوفة شهدوا علينا، و أنّ أهل الشام يقتلوننا، أما و اللّه لئن قتلتموني بها فإنّي لأوّل فارس من المسلمين هلك في واديها، و أوّل رجل من المسلمين نبحته كلابها.

و انطلق الخبيث الأعور هدبة بن فياض القضاعي شاهرا سيفه، فلمّا رآه حجر ارتعدت أوصاله، و قيل له: زعمت أنّك لا تجزع من الموت فابرأ من صاحبك و ندعك.

فأجاب حجر:

ما لي لا أجزع و أرى قبرا محفورا و كفنا منشورا و سيفا مشهورا، و إنّي و اللّه إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الربّ (1).

و كان آخر ما نطق به:

لا تطلقوا عنّي حديدا، و لا تغسلوا عنّي دما، فإنّي ملاق معاوية على الجادة(2).

ثمّ نفّذ فيه حكم الإعدام، و سقط على الأرض جثة هامدة ففي ذمّة اللّه ما لاقاه هذا العملاق العظيم من التنكيل و القتل لا ذنب اقترفه، و إنّما ولائه أخي رسول

ص:76


1- الكامل في التاريخ ٣ : ٦٩٢.
2- الاستيعاب ١ : ٣٣١.

اللّه و وصيّه و باب مدينة علمه، و قد صدق حجر في ولائه و محبّته و إخلاصه لإمامه فقد آثر الموت، و استهان بالحياة في سبيله فجزاه اللّه تعالى عن الإسلام خيرا، فسلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيّا.

7 - قنبر رضى اللّه عنه:

كان قنبر غلاما للإمام عليه السّلام، و كان يحبّ الإمام حبّا كثيرا، فإذا خرج الإمام خرج على أثره بالسيف خوفا عليه، و خرج الإمام ذات ليلة فخرج في أثره، فلمّا رآه قال له: «يا قنبر، ما لك ؟».

جئت أمشي خلفك فإنّ الناس كما تراهم، فخفت عليك، فقال له الإمام بلطف: «أمن أهل السّماء تحرسني أم من أهل الأرض ؟».

- بل من أهل الأرض.

«إنّ أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئا إلاّ بإذن اللّه عزّ و جلّ من السّماء، فارجع»(1).

و بعد ما آل المآل إلى الحجّاج فألقى عليه القبض، فلمّا مثل أمامه قال له:

- ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب ؟ - كنت أوضّيه...

- ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه ؟ كان يتلو هذه الآية: فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2).

ص:77


1- التوحيد للصدوق : ٣٥٠. بحار الأنوار ٤٢ : ١٢٢.
2- الأنعام : ٤٤ _ ٤٥.

فصاح به الحجّاج: أظنّه كان يتأوّلها علينا؟ - نعم ؟ - ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك ؟(1) - إذن اسعد و تشقى(2)، و في رواية اخرى أمر بإلقاء القبض عليه، فلمّا مثل عنده قال له:

- أنت قنبر؟ - نعم.

- مولى عليّ بن أبي طالب ؟ - اللّه مولاي و أمير المؤمنين ولي نعمتي...

- ابرأ من دينه..

- إذا فعلت تدلّيني على دين أفضل من دينه.

- إنّي قاتلك فاختر أي قتلة أحبّ إليك.

- صيرت ذاك إليك.

- لم ؟ - لأنّك لا تقتلني قتلة إلاّ قتلك اللّه مثلها، و لقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ منيّتي تكون ذبحا ظلما بدون حقّ .

و أمر الطاغية الرجس بذبحه فذبح كما تذبح الشاة، و قد لاقى ربّه شهيدا محتسبا قد تلفّع بالشرف و الكرامة من أجل ولائه للإمام عليه السّلام.

ص:78


1- العلاوة : أعلى الرأس.
2- بحار الأنوار ٤٢ : ١٣٣.

8 - كميل بن زياد رضى اللّه عنه:

و من ألمع أصحاب الإمام عليه السّلام كميل بن زياد النخعي الذي احتلّ مكانة مرموقة عند الإمام، فكان خليله و حامل أسراره - كما يقول علماء الرجال - و كان لا يبارحه، و من ألزمهم له، و كثيرا ما أخبره بمغيّباته عليه السّلام.

قال كميل: خرجنا مرّة من جامع الكوفة بعد ما ذهب من الليل ثلثه فسمعنا في طريقنا رجل يتلو القرآن: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ (1) بصورة شجيّة و يبكي فاستحسنت ذلك في داخلي و إذا بالإمام قد أشاح بوجهه نحوي و قال: «لا يغرنّك الرّجل إنّه من أهل النّار، و سأنبّئك» فعجبت من معرفة الإمام ما فيّ ، و من حال الرجل مع تلك الصورة...!! و بعد مدّة عند انتهاء معركة النهروان كنت بجانب الإمام و سيفه يقطر دما و رءوس القتلى متناثرة إذ بالإمام يضع سيفه على أحد الرءوس و قال لي: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [2] !! كما أحاطه الإمام عليه السّلام علما بشهادته، و لمّا ولي المجرم السفّاك الحجّاج حرم على قوم كميل العطاء حتى يأتوه به، فقال لهم كميل: أنا شيخ كبير و لا ينبغي أن أحرمكم العطاء، و بادر فسلّم نفسه للطاغية، فقال له بعنف: قد كنت أحبّ أن أجد عليكم سبيلا، فقال له كميل: لا تصرف عنّي أنيابك فما بقي من عمري إلاّ اليسير فاقض ما أنت قاض، و لقد أخبرني أمير المؤمنين عليه السّلام أنّك قاتلي، فأمر به الخبيث الدنس بضرب عنقه، و نفّذ فيه الإعدام [1].

هؤلاء بعض عيون أصحابه الذين أخبرهم الإمام بشهادتهم على أيدي شرار الخلق و أرجاسهم.

ص:79


1- كميل بن زياد النخعي _ الهاشمي الخطيب : ٩٠. بحار الأنوار ٤٢ : ١٤٨.

إخباره عن شهادته

من المغيّبات التي أخبر الإمام عنها أنّه أخبر في كثير من المناسبات أنّه لا يموت حتف أنفه و إنّما ينال الشهادة على يد أشرّ خلق اللّه تعالى، و كان من بين ما أخبر به:

1 -

روى روح بن اميّة الدؤلي قال: مرض عليّ بن أبي طالب مرضا شديدا حتى خفنا عليه، و لمّا أبل من مرضه أسرعنا إليه فقلنا له:

هنيئا لك يا أبا الحسن، الحمد للّه الذي عافاك، لقد خفنا عليك ؟ فأجابهم الإمام غير حافل بما ألمّ به من المرض، و أنّه لا يخشاه قائلا:

«لم أخف على نفسي، أخبرني الصّادق المصدّق - يعني رسول اللّه - أنّي لا أموت حتّى اضرب على هذا - و أشار إلى مقدّم رأسه الأيسر - فتخضب هذه منه - و أومأ إلى لحيته و هامته و قال: - يقتلك أشقى هذه الامّة، كما عقر ناقة اللّه، أشقى بني فلان من ثمود»(1).

2 -

روى عبد اللّه بن سبع قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال:

«و الّذي فلق الحبّة، و برأ النّسمة لتخضبنّ هذه من هذه» - يعني لحيته من دم رأسه -.

ص:80


1- المحن : ٩٦. اسد الغابة ٤ : ٣٤.

فقال رجل: و اللّه لا يقول ذلك أحد إلاّ ابرنا عترته، فقال عليه السّلام:

«اذكر اللّه، و أنشد أن يقتل منّي إلاّ قاتلي»(1).

3 -

روى أبو الطفيل قال: لمّا دعا عليّ الناس إلى البيعة أتاه عبد الرحمن بن ملجم المرادي مرّتين أو ثلاثا، ثمّ قال: «أين أشقاها؟ أما و الّذي نفسي بيده لتخضبنّ هذه من هذه»، أي لحيته من دم رأسه(2).

4 -

عن ابن الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات، و شهدت عمر حين بويع، و علي عليه السّلام جالس ناحية إذ أقبل غلام يهودي عليه ثياب حسان و هو من ولد هارون حتى قام على رأس عمر.

فقال: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم هذه الامّة بكتابهم و أمر نبيّهم.

قال: فطأطأ عمر رأسه.

فقال له الغلام: إيّاك أعني، و أعاد عليه القول.

فقال له عمر: ما ذاك ؟ قال: إنّي جئتك مرتادا لنفسي، شاكّا في ديني.

فقال: دونك هذا الشاب.

قال: و من هذا الشاب ؟ قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو أبو الحسن و الحسين و زوج فاطمة بنت رسول اللّه، فأقبل اليهودي على عليّ بن أبي طالب فقال:

أ كذلك أنت ؟ قال: «نعم».

ص:81


1- اسد الغابة ٤ : ٣٤.
2- المحن : ٩٦.

قال: فإنّي اريد أن أسألك عن ثلاثة و ثلاثة و واحدة - إلى أن قال -: فأخبرني عن الواحدة، فأخبرني عن وصيّ محمّد كم يعيش من بعده ؟ و هل يموت أو يقتل ؟ قال: «يا هارونيّ ، يعيش بعده ثلاثين سنة لا يزيد يوما و لا ينقص يوما، ثمّ يضرب ضربة هاهنا - يعني قرنه - فتخضب هذه من هذه».

قال: فصاح الهاروني... و هو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له(1).

5 -

أعلن الإمام عن شهادته و شهادة سبطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحسن و الحسين، قال:

«أما و اللّه لاقتلنّ أنا و ابناي هذان - و أشار إلى الحسن و الحسين - و ليبعثنّ اللّه رجلا من ولدى آخر الزّمان يطالب بدمائنا، و ليغيبنّ عنهم، تميّزا لأهل الضّلالة حتّى يقول الجاهل: ما للّه في آل محمّد حاجة»(2).

6 -

يقول محمّد بن سيرين: «إن كان أحد يعلم متى أجله، فإنّ عليّ بن أبي طالب كان يعلم متى أجله، قال العباس بن ميمون: فحدّثت به ابن عائشة فقال: أنت تعلم يا ابن أخي أنّه قاتل يوم الجمل فلم يتكلّم، و يوم صفّين فلم يتكلّم، و لقد لقي ليلة الهرير ما لقي فلم يتخوّف، و لم ينطق بشيء، فلمّا رجع إلى الكوفة بعد قتله الخوارج قال:

أ لا ينبعث أشقاها، ليخضبنّ هذه من هذه»(3).

و تحقّق ما أخبر به الإمام، فقد استشهد في بيت اللّه الحرام في شهر رمضان، و ذكر اللّه بين شفتيه، فقد اغتاله عبد الرحمن بن ملجم المرادي أشقى الأوّلين

ص:82


1- فرائد السمطين ١ : ٣٥٤.
2- بحار الأنوار ٥١ : ١١٢.
3- ذيل الأمالي والنوادر ٣ : ١٧٠.

و الآخرين، و استشهد ولده الزكي ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد اغتاله بالسمّ ابن هند، و استشهد ولده الإمام الحسين عليه السّلام بصورة مروعة و جرت عليه من المآسي و الأهوال ما لا يوصف.

هذه بعض الأحاديث التي أعلن الإمام فيها بشهادته، و أثرت عنه بهذا المضمون كوكبة اخرى من الأحاديث، منها:

ص:83

ما يجري على الحجر الأسود

في خطبة له عليه السّلام قال - و هو يشير إلى السارية التي يستند إليها في مسجد الكوفة -:

«كأنّي بالحجر الأسود منصوبا هاهنا، ويحهم! إنّ فضيلته ليست في نفسه، بل في موضعه و اسسه، يمكث هاهنا برهة ثمّ هاهنا برهة - و أشار إلى البحرين - ثمّ يعود إلى مأواه و أمّ مثواه».

قال ابن أبي الحديد: و وقع الأمر بموجب ما أخبر به عليه السّلام(1).

ص:84


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

إخباره عن شهداء فخّ

أخبر الإمام عليه السّلام عن السادة العلويّين الذين استشهدوا في واقعة فخّ دفاعا عن حقّ المظلومين و المضطهدين، و كانت شهادتهم مروعة كشهادة سيّدهم أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السّلام، فقد اقترف الطاغية الدنس الهادي العباسي معهم من الجرائم ما تصدّع من هولها الجبال،

و قد قال الإمام عليه السّلام في عظيم شأنهم:

«هم خير أهل الأرض»(1).

ص:85


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ٧ : ٨٣.

إخباره عن شهادة ذي النفس الزكية

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليه السّلام أنّه أخبر عن شهادة العلوي الثائر العظيم ذي النفس الزكيّة، و أنّه يستشهد بالمدينة عند أحجار الزيت(1)، فقد استشهد هذا العلوي على يد السفّاك المنصور الدوانيقيّ (2).

ص:86


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٧ : ٢١٧.
2- عرضنا بصورة موضوعية عن كيفيّة شهادته في كتابنا : حياة الإمام موسى بن جعفر

إخباره عن شهادة إبراهيم

أخبر الإمام عليه السّلام عن شهادة العلوي المجاهد العظيم إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن الذي أراد هو و أخوه أن يقيما حكم القرآن، و ينقذا المسلمين من الطغمة العباسية.. فقد ثارا على أبي جعفر المنصور الذي أغرق البلاد بالظلم و الجور و نهب ثروات المسلمين.

قال عليه السّلام في شأنه:

«يقتل بعد أن يظهر، و يقهر بعد أن يقهر، يأتيه سهم غرب - أي لا يعرف راميه - تكون فيه منيّته، فيا بؤسا للرامي، شلّت يداه و وهن عضده»(1).

و نعرض - بإيجاز - إلى قصّة هذا العلوي المجاهد الذي ثار على أقذر حاكم عرفه التاريخ و هو الدوانيقي، لقد أعلن إبراهيم ثورته الخالدة على الدوانيقي بعد مقتل أخيه محمّد، و قد رثاه و هو على المنبر بقوله:

سابكيك بالبيض الرقاق و بالقنا فإنّ بهما ما يدرك الطالب الوترا

و إنّا اناس لا تفيض دموعنا على هالك منّا و لو قصم الظهرا

و لست كمن يبكي أخاه بعبرة يعصرها من ماء مقلته عصرا

ص:87


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٨.

و لكن أشفي فؤادي بغارة ألهب في قطري كتائبها جمرا(1)

و زحف إبراهيم بجيوشه صوب الكوفة لاحتلالها، و كانت مقرّا للسفّاك المنصور، فانهزم جيش الطاغية شرّ هزيمة و جعل يقول لوزيره الربيع متعرّضا بما أخبر به الإمام الصادق عليه السّلام من استيلاء العبّاسيّين على الحكم قائلا:

أين قول صادقهم ؟ و كيف لم ينلها أبناؤنا؟ فأين امارة الصبيان ؟ و تحقّق ما تنبأ به الإمام الصادق عليه السّلام، و ما أخبر به جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من قبل، فقد كرّت جيوش المنصور بعد هزيمتها بسبب نهر لقيها فلم تقدر على اجتيازه، فعادوا بأجمعهم، و كان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، و ثبت إبراهيم في نفر من أصحابه فقاتلهم حميد بن قحطبة، و جاء سهم غادر فأصاب حلق إبراهيم فقضى عليه، و قال لأصحابه: أنزلوني، فأنزلوه عن مركبه و هو يقول:

«و كان أمر اللّه قدرا مقدورا»، أردنا أمرا و أراد اللّه غيره(2)، ثمّ لفظ أنفاسه الأخيرة. و انطوت بذلك أروع صفحة من صفحات الجهاد الإسلامي المقدّس، فقد آلت الخلافة إلى غادر ماكر بخيل، فإنّا للّه و لا حول و لا قوّة إلاّ به.

ص:88


1- حياة الإمام موسى بن جعفر ١ : ٤٠٦.
2- حياة الإمام موسى بن جعفر١ : ٤٠٨.

تبشيره بالإمام المهدي عليه السّلام

و تواترت الأخبار عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بظهور المصلح الأعظم قائم آل محمّد صلوات اللّه عليه الذي يقيم اعوجاج الدين، و يصلح ما افسد من امور الدنيا، و يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا. و هذه الطائفة من الأخبار التي أثرت عنه في حفيده المنتظر:

1 -

قال الإمام عليه السّلام لولده سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه السّلام:

«التّاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحقّ ، المظهر للدّين، الباسط للعدل...».

و انبرى الإمام الحسين قائلا:

«إنّ ذلك لكائن يا أمير المؤمنين ؟».

«إي و الّذي بعث محمّدا بالنّبوّة، و اصطفاه على جميع البريّة، و لكن بعد غيبة و حيرة، لا يثبت فيها على دينه إلاّ المخلصون، المباشرون لروح اليقين الّذين أخذ اللّه ميثاقهم بولايتنا، و كتب في قلوبهم الإيمان و أيّدهم بروح منه...»(1).

حكى هذا الحديث حتميّة خروج المصلح الأعظم و أنّ خروجه يكون بعد

ص:89


1- بحار الأنوار ٥١ : ١١٠.

غيبة و حيرة في نفوس الناس، و لا يثبت على الإيمان به إلاّ المخلصون في دينهم.

2 -

روى أبو وائل قال: نظر عليّ عليه السّلام إلى الحسين عليه السّلام فقال:

«إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و سيخرج من صلبه رجل باسم نبيّكم يخرج على حين غفلة من النّاس، و إماتة الحقّ ، و إظهار الجور، و يفرح لخروجه أهل السّماء و سكّانها، و هو رجل أجلى الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أذيل الفخذين، بخدّه الأيمن شامة، أبلج الثّنايا، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما و جورا»(1).

حكى هذا الحديث ملامح الإمام المنتظر عليه السّلام، و امارات ظهوره و أنّه إذا ظهر يقيم الحقّ بجميع رحابه و مفاهيمه.

3 -

خطب الإمام عليه السّلام خطبة جليلة كان من بنودها التعرّض إلى قائم آل محمّد عليه السّلام كان منها:

«و ليكوننّ من يخلفني في أهل بيتي رجل يأمر بأمر اللّه، قويّ يحكم بحكم اللّه، و ذلك بعد زمان مكلح مفصح، يشتدّ فيه البلاء، و ينقطع فيه الرّجاء، و يقبل فيه الرّشاء»(2).

أشار الإمام عليه السّلام إلى وقت خروج المصلح الأعظم و أنّه في وقت يغرق الناس بالبلاء و الفتن، و إذا خرج سلام اللّه عليه فإنّه يبنى حكمه على الحقّ المحض و العدل الخالص.

4 -

روى الأصبغ بن نباتة أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

«المهديّ منّا فى آخر الزّمان، لم يكن في أمّة من الامم مهديّ

ص:90


1- بحار الأنوار ٥١ : ١١٠.
2- عقد الدرر : ١٨٢ ، الباب الثالث _ الإمام المهدي.

ينتظر غيره»(1).

إنّ قائم آل محمّد من دوحة النبوّة و الإمامة، و ليس له شبيه يماثله في جميع شعوب العالم و امم الأرض، و هو المنتظر لإقامة الحقّ ، و القضاء على المناهج الفاسدة التي لا بصيص فيها من نور العدل.

5 -

قال عليه السّلام:

«سيأتي اللّه بقوم يحبّهم اللّه و يحبّونه، و يملك من بينهم غريب و هو المهديّ ، فيملك بلاد المسلمين بأمان، و يصفو له الزّمان، و يسمع كلامه و يطيعه الشّيوخ و الفتيان، و يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا»(2).

حكى هذا الحديث عن سعة ملك الإمام عليه السّلام، و إذعان الناس لحكمه، و أنّه يشيع فيهم الأمن و الرخاء و العدل.

6 -

روى الأصبغ بن نباتة، قال: أتيت الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فوجدته مفكّرا ينكت الأرض، فقلت له:

يا أمير المؤمنين، ما لي أراك مفكّرا تنك في الأرض أرغبة فيها؟ فأجابه الإمام:

«لا و اللّه ما رغبت فيها - أي في الخلافة - و لا في الدّنيا يوما قطّ ، و لكنّي فكّرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من ولدي هو المهديّ يملأها عدلا، كما ملئت جورا و ظلما تكون له حيرة و غيبة يضلّ فيها أقوام، و يهتدي فيها آخرون».

و انبرى الأصبغ يطلب المزيد من الايضاح قائلا:

ص:91


1- حياة الإمام محمّد المهدي : ١٨٣.
2- ينابيع المودّة : ٤١٦.

يا أمير المؤمنين، إنّ هذا لكائن ؟ «نعم، إنّه مخلوق، و أنّى لك بالعلم بهذا الأمر... يا أصبغ، اولئك خيار هذه الأمّة مع أبرار هذه العترة».

سارع الأصبغ قائلا: ما يكون بعد ذلك ؟ «يفعل اللّه ما يشاء، فإنّ له إرادات و غايات و نهايات»(1).

إنّ ظهور المصلح الأعظم من الامور الحتمية التي لا يخالجها شكّ و لا ريب، فإنّ ظهوره من الألطاف التي يخصّ اللّه تعالى بها عباده لإنقاذهم من الحياة البائسة الآثمة، و يعيد لهم حكم الإسلام، و دوره المشرق في إصلاح المجتمع و تطويره.

و على أي حال فقد أثرت عن إمام المتّقين و وصيّ رسول ربّ العالمين أحاديث كثيرة تبشّر بظهور الإمام المهدي عليه السّلام، و أنّه يملأ الدنيا قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا.

ص:92


1- بحار الأنوار ٥١ : ١١٨.

مع أعشى باهلة

كان الإمام عليه السّلام على المنبر يخطب، و يذكر الملاحم التي ستجري على مسرح الحياة، فقام إليه أعشى باهلة، و كان غلاما فأنكر عليه مقالته، و قال له: ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة، فرمقه الإمام بطرفه و قال له:

«إن كنت آثما فيما قلت رماك اللّه بغلام ثقيف».

و انبرى إليه رجال فسألوه عن غلام ثقيف من هو؟ فقال عليه السّلام:

«غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك للّه حرمة إلاّ انتهكها، و يضرب عنق هذا الغلام بالسّيف...».

كم يملك يا أمير المؤمنين ؟ «عشرين عاما...».

و سألوه أنّه يقتل أو يموت حتف أنفه، فأجابهم أنّه يموت حتف أنفه، قال إسماعيل بن رجاء: فو اللّه لقد رأيت بعيني أعشى باهلة قد احضر من جملة الأسرى من جيش عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث بين يدي الحجّاج فقرّعه و وبّخه، و استنشده شعره الذي كان يحرّض فيه على حرب الحجّاج فأمر بضرب عنقه(1).

ص:93


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٨٩.

مع جندب الأزدي

شهد جندب بن عبد اللّه الأزدي مع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام حرب الجمل و صفّين، و كان على يقين لا يخامره شكّ بضلالة من حاربهم الإمام، فلمّا كانت واقعة النهروان داخله شك و قال في دخائل نفسه: قراؤنا و خيارنا نقتلهم إنّ هذا لأمر عظيم! و خرج غدوة يمشي، و معه أداوة، و قد نصب له ترسا ليستظلّ به من حرارة الشمس، فاجتاز عليه السّلام و قال له:

«يا أخا الأزد، أ معك طهور؟».

نعم.

فناوله الإداوة، و مضى الإمام بعيدا بحيث لا يراه أحد ثمّ أقبل و قد تطهّر فجلس في ظلّ الترس، و جاء فارس يريد الإمام عليه السّلام، فأمره بإحضاره، فلمّا مثل عنده قال له: يا أمير المؤمنين، قد أقبل القوم و قطعوا النهر...

فردّ الإمام عليه بلا تردّد قائلا:

«كلاّ ما عبروا...».

بلى و اللّه عبروا.

«كلاّ...».

و أقبل شخص آخر صوب الإمام، فقال له:

ص:94

يا أمير المؤمنين، قد عبر القوم...

«كلاّ ما عبروا...».

و راح الرجل يقسم باللّه على ذلك قائلا:

و اللّه ما جئتك حتى رأيت الرايات في ذلك الجانب و الأثقال.

فردّ عليه الإمام بعنف:

«و اللّه ما فعلوا، و إنّه - أي قبل النهر - لمصرعهم، و مهراق دمائهم...».

و قد كان الرجلان عينين للخوارج، أرسلا للإمام لبعض الأغراض العسكرية حتى يزحف لهم جند الإمام.

و نهض الإمام عليه السّلام و معه الأزدي، فقال في قرارة نفسه الحمد للّه الذي بصرني هذا الرجل، و عرفني أمره، فهو أحد رجلين: أمّا رجل كذّاب جريء، أو على بيّنة من ربّه، و عهد نبيّه، اللّهمّ إنّي أعطيك عهدا تسألني عنه يوم القيامة، إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أوّل من يقاتله، و أوّل من يطعن في عينه بالرمح، و إن كان القوم لم يعبروا، أن أقيم معه على المناجزة و القتال، فدفعنا إلى الصفوف، فوجدنا رايات القوم و أثقالهم كما هي:

و أقبل الإمام فأخذ بقفاي و قال يحكي ما أضمره في نفسه:

«يا أخا الأزد، أ تبيّن لك الأمر؟».

أجل يا أمير المؤمنين!! «شأنك بعدوّك...».

و انضم في سلك الجيش، و أخذ يقاتل الخوارج على بصيرة من أمره(1).

ص:95


1- بحار الأنوار ٤١ : ١٨٤ _ ١٨٥.

مع المبايعين للضبّ

روى الثقة الأمين الأصبغ بن نباتة، قال: أمرنا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بالمسير إلى المدائن، فسرنا يوم الأحد، و تخلّف عمرو بن حريث - و هو من رءوس المنافقين - و معه سبعة من أصحابه، فخرجوا للتنزّه في (الخورنق) و بينما هم يتغدّون إذ خرج عليهم ضبّ ، فصادوه، فأخذ عمرو بن حريث فنصب كفّه، و قال:

بايعوا هذا أمير المؤمنين، فبايعه السبعة و عمرو ثامنهم، ثمّ ارتحلوا فقدموا المدائن، و كان الإمام يخطب، فلمّا نظر إليهم قال:

«يا أيّها النّاس، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسرّ إليّ ألف حديث... و إنّي سمعت اللّه تعالى في كتابه يقول: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [1] ، و إنّي اقسم لكم باللّه تعالى، ليبعثنّ يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم، و هو ضبّ ، و لو شئت أن اسمّيهم لفعلت».

و ذاب ابن حريث و ارتعدت أوصاله من هذا النبأ(1).

ص:96


1- بحار الأنوار ٤١ : ٢٨٦ _ ٢٨٧.

مع ذي الثدية

ذو الثدية هو الخويصر التميمي، حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية، من رءوس المنافقين و المارقين من الإسلام، و هو الذي قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله حينما كان يقسّم المال أعدل، فغضب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال:

«ويلك من يعدل إذا لم أعدل!».

و روى أنس قال: كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجل يعجبنا تعبّده و اجتهاده، فذكرناه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باسمه فلم يعرفه، فبينما نحن نذكره إذ طلع الرجل علينا فقلنا هو هذا، فقال:

«إنّكم لتخبروني عن رجل أنّ في وجهه لسفعة من الشّيطان».

فأقبل حتى وقف عليهم و لم يسلّم، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«انشدك اللّه، هل قلت: حتّى وقفت على المجلس، ما في القوم أحد أفضل منّي أو خيرش ؟...».

اللهمّ نعم.

ثمّ مضى يصلّي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«من يقتل الرّجل ؟».

قال أبو بكر: أنا فدخل عليه فوجده يصلّي فقال: سبحان اللّه!! أ أقتل رجلا

ص:97

يصلّي، و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قتل المصلّين، و قفل راجعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال له:

«ما فعلت ؟».

قال: كرهت أن أقتله و هو يصلّي، و قد نهيت عن قتل المصلّين، فندب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه ثانيا، فانبرى عمر و قال: أنا فمضى إليه فوجده واضعا جبهته للّه فكره أن يقتله، فرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال له: «مهيم ؟»(1) قال عمر: وجدته واضعا جبهته للّه فكرهت أن أقتله، فندب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى قتله، فانبرى إليه الإمام عليه السّلام فوجده قد خرج، فأقبل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأخبره بخروجه، فقال:

«لو قتل ما اختلف من أمّتي رجلان»(2).

لقد انطوت نفس ذي الثدية على الكفر، و كان إسلامه ظاهريا، و قد تمرّد على الإمام عليه السّلام الذي هو نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسبما دلّت عليه آية المباهلة، فقد أعلن العصيان المسلّح على حكومة الإمام عليه السّلام في حرب النهروان، و هو من أعلام الخوارج، و لمّا انتهت الحرب، و سقطوا قتلى في أرض المعركة

طلب الإمام من أصحابه أن يلتمسوا له ذا الثدية، فبحثوا عنه فلم يجدوه فأخبروا الإمام بذلك، فأمرهم ثانيا بالبحث عنه قائلا:

«ما كذبت و لا كذّبت على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و إنّه لناقص اليد ليس فيها عظم، في طرفها حلمة مثل ثدي المرأة، عليها خمس شعرات أو سبع، رءوسها مقصعة».

ص:98


1- كلمة استفهام معناها ما حالك أو ما حدث لك أو ما الخبر؟
2- النص والاجتهاد : ١١٨ ، الطبعة السابعة ، نقلا عن امّهات المصادر الإسلامية.

و أمر الإمام بإحضار جثّته، فلمّا مثلت أمامه كشفوا عن يده، فإذا ليس له يد، و إنّما على منكبه ثدي كثدي المرأة، و عليه شعرات سود تمتدّ حتى تحاذي بطن يده الاخرى، فإذا تركت عادت، و لمّا رأى الإمام ذلك خرّ للّه تعالى ساجدا(1).

لقد تحقّق ما أخبر به الإمام في شأن ذي الثدية و كان ذلك ممّا عهد به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليه.

ص:99


1- مروج الذهب ٢ : ٣٨٥.

إخباره بحكومة مروان و أولاده

و استشفّ الإمام عليه السّلام من وراء الغيب أنّ مروان بن الحكم الوزغ ابن الوزغ سوف يلي الحكم مع أبنائه الأربعة و هم بنو عبد الملك: الوليد، سليمان، يزيد، و هشام، و لم يل الحكم من بني اميّة و لا من غيرهم اخوة إلاّ هؤلاء(1)، و كان إعلان الإمام عليه السّلام عن ذلك حينما القى القبض على مروان بعد انتهاء حرب الجمل، و جيء به أسيرا، و قد تشفّع به الإمامان الحسن و الحسين عليهما السّلام فقالا لأبيهما:

«يبايعك يا أمير المؤمنين».

و زهد الإمام في بيعته قائلا:

«أو لم يبايعني بعد قتل عثمان ؟ لا حاجة لي في بيعته! إنّها كفّ يهوديّة لو بايعني بكفّه لغدر بسبّته. أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه، و هو أبو الأكبش الأربعة، و ستلقى الأمّة منه و من ولده يوما أحمر!»(2).

و حكت هذه الكلمات ما يلي:

1 - إنّها ألمّت بنفسية مروان، و حكت طباعه و ميوله، و كان من أبرزها الغدر و المكر، و خبث السريرة، فقد بايع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قتل عثمان بن

ص:100


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ١٤٧.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ١٤٦.

عفّان، و لكنّه سرعان ما نكث بيعته، فقد انضمّ إلى حزب عائشة التي أعلنت التمرّد على حكومة الإمام.

إنّ مروان لم يتمتّع بأيّة نزعة كريمة، فقد انغمس في الباطل و الموبقات، و قد لعنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو في صلب أبيه، فقد

روت عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن أبا مروان و مروان فى صلبه(1) و جيء به بعد ولادته إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:

«هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون»(2).

و اجتاز الحكم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:

«ويل لامّتي ممّا في صلب هذا»(3).

لقد استشفّ النبيّ من وراء الغيب ما تعانيه الامّة الإسلامية من الأحداث الجسام من مروان و أبنائه فلعنهم و تبرّأ منهم.

2 - أنّ الإمام عليه السّلام أخبر عن قصر المدّة التي يحكم فيها مروان، و شبّهها بلعقة الكلب أنفه، و هو كناية عن قذارة حكمه، و سوء سلطانه... و كان سبب هلاكه أنّه عيّر خالد بن يزيد بن معاوية بامّه التي هي زوجته، ففزع إلى امّه يبكي، فتألّمت، و سارعت مع جواريها إلى اغتياله، و بذلك انتهت صفحة من صفحات الخزي و العار، و انطوى ملف من ملفات الخيانة و الإثم.

3 - أنّ الإمام عليه السّلام أخبر عمّا تعانيه الامّة في عهده و عهد أبنائه من الكوارث و الخطوب، و قد جرى ذلك، فقد تجرّع العالم الإسلامي ألوانا قاسية و مريرة من المحن الشاقّة، و التي كان منها أنّ عبد الملك بن مروان ولّى على الامّة أشرّ خلق اللّه، و هو الحجّاج الثقفي الذي جهد على ظلم الناس، و ارغامهم على ما يكرهون.

ص:101


1- تفسير القرطبي ١٦ : ١٩٧. تفسير الرازي ٧ : ٤٩٧. اسد الغابة ٢ : ١٣٤.
2- مستدرك الحاكم ٤ : ٤٩٧.
3- اسد الغابة ٢ : ٣٤.

إخباره عن ملك معاوية

أخبر الإمام عليه السّلام من حضر في مجلسه عن استيلاء معاوية على الحكم، و ما تعانيه الامّة في عهده من الظلم و الجور قائلا:

«أمّا إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن(1)، يأكل ما يجد، و يطلب ما لا يجد، فاقتلوه، و لن تقتلوه! ألا و إنّه سيأمركم بسبّي و البراءة منّي؛ فأمّا السّبّ فسبّوني، فإنّه لي زكاة، و لكم نجاة؛ و أمّا البراءة فلا تتبرّءوا منّي؛ فإنّي ولدت على الفطرة، و سبقت إلى الإيمان و الهجرة»(2).

و حكت هذه الكلمات الصفات القذرة الماثلة في معاوية من نهمه و جشعه على الطعام، و صفاته الجسدية التي منها اندحاق البطن و غيرها... و أنّه سيفرض على المسلمين سبّ الإمام و البراءة منه؛ لأنّه رائد العدالة الاجتماعية، و قد فضحه و فضح غيره من ملوك الظلم و الجور و ذلك بما سار عليه أيام حكومته من العدل الخالص و الحقّ المحض.

ص:102


1- مندحق البطن : أي عظيم البطن.
2- نهج البلاغة ١ : ١٠٥.

إخباره عن استيلاء الأمويّين على الحكم

أخبر الإمام عليه السّلام عن استيلاء الأمويّين على الحكم، و ما تعانيه الامّة في ظلّ حكمهم من الظلم و الجور، قال عليه السّلام:

«ألا و إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني اميّة، فإنّها فتنة عمياء مظلمة، عمّت خطّتها، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها، و أخطأ البلاء من عمي عنها.

و ايم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب الضّروس(1)، تعذم بفيها(2)، و تخبط بيدها، و تزبن برجلها(3)، و تمنع درّها، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم، أو غير ضائر بهم.

و لا يزال بلاؤهم عنكم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه، و الصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، و قطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى، و لا علم يرى(4).

ص:103


1- الناب الضروس : هى الناقة السيّئة.
2- تعذم بفيها : أي تعضّ بفيها ، أو تأكل بجفاء.
3- تزبن برجلها : أي تدفع برجلها.
4- منهاج البراعة ٧ : ٨٦. نهج البلاغة ١ : ١٨٣.

أعرب الإمام في حديثه عن استيلاء الأمويّين على الحكم، و عمّا تعانيه الامّة في عهدهم من الظلم و الجور، و لا يسلم من شرّهم إلاّ من كان عميلا لهم، و خادما لرغباتهم، أمّا من حاد عنهم فمصيره السجن و الإعدام. 1

ص:104

ظلم الأمويّين و جورهم

و أحاط الإمام عليه السّلام أصحابه علما بما تعانيه الامّة من ظلم الأمويّين و جورهم بعد تسلّمهم لقيادة الحكم قائلا:

«و اللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلّوه، و لا عقدا إلاّ حلّوه، و حتّى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلاّ دخله ظلمهم و نبا به سوء رعيهم، و حتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، و باك يبكي لدنياه، و حتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه»(1).

و عاث الأمويّون في الأرض فسادا، و ملئوا الدنيا ظلما و جورا حتى قال القائل في عهد زياد الأخ اللاّشرعي لمعاوية: أنج سعد فقد هلك سعيد، و لم يبق ظلم إلاّ صبّوه على المسلمين خصوصا على شيعة أهل البيت عليهم السّلام.

ص:105


1- نهج البلاغة ١ : ١٩٠.

مع جيشه المتخاذلين

و أخبر الإمام عليه السّلام جيشه المتخاذل ما يجري عليهم من الذلّ و الهوان من بعده قائلا:

«أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا، و سيفا قاطعا، و أثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة، فيفرّق جماعتكم، و يبكي عيونكم، و يدخل الفقر بيوتكم، و تتمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني فستعلمون حقّ ما أقول لكم، و لا يبعد اللّه إلاّ من ظلم و أثم»(1).

و تحقّق ما أنبأ به الإمام عليه السّلام جيشه الذي أعلن عليه العصيان، فقد ألبسهم اللّه ذلاّ شاملا و سلّط عليهم أرجاس البشرية من الأمويّين فجهدوا في ظلمهم و إذلالهم، و أخذوا البريء منهم بالسقيم، و المقبل بالمدبر، و قتلوا منهم على الظنّة و التهمة، و قد ندم أهل الكوفة بعد أن آل الحكم إلى معاوية كأشدّ ما يكون الندم على خذلانهم للإمام، و تمنّوا وجوده لينصروه و يحموه.

ص:106


1- نهج البلاغة : ٩٢ ، الخطبة ٥٨.

ظلم الحجّاج و جوره

و أدلى الإمام عليه السّلام في بعض خطبه ما سيحلّ بأهل الكوفة الذين جرّعوه نغب التهام، و ملئوا قلبه الشريف آلاما بعصيانهم و خذلانهم، و إنّ اللّه تعالى سيسلّط عليهم الحجّاج بن يوسف الثقفي فيسقيهم كأس مصبرة، قال عليه السّلام:

«أما و اللّه، ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذّيّال(1) الميّال؛ يأكل خضرتكم، و يذيب شحمتكم، إيه أبا وذحة!»(2).

و لم تمض الأيام حتى سلّط اللّه على أهل الكوفة الحجّاج بن يوسف الثقفي، و هو أقذر ارهابي لا يعرف الرحمة، و لا عهد له بالرأفة، و قد اقترف من الفضائع و الآثام في أهل الكوفة ما لا يوصف لمرارته و قسوته.

و قد أجمع المؤرّخون على ظلمه و جوره، و أنّه كان لا يلتذ إلاّ بسفك الدماء، و إشاعة الرعب و الفزع بين الناس، و قد مرّ على الكوفة في عهده دور قاس و رهيب لم تشاهد في مثله إلاّ في عهد الطاغية زياد بن أبيه، و ابنه عبيد اللّه لقد سجن آلاف الأبرياء من النساء و الرجال من غير ذنب اقترفوه، و إنّما كان يقتل و يسجن على الظنّة و التهمة من غير تحقيق.

ص:107


1- الذيال : الطويل القدّ المتبختر في مشيته.
2- نهج البلاغة ١ : ٢٣٠.

أمّا سبب هلاكه فتعزوه المصادر إلى أنّه رأى خنفساء تدبّ إلى مصلاّه فطردها فعادت، فطردها فعادت، فأخذها بيده فلسعته، فورمت يده، و أخذته الحمى من اللسعة، حتى هلك بأضعف مخلوقات اللّه، و هذا هو المراد من قوله عليه السّلام:

«إيه أبا وذحة!».

لقد عانى أهل الكوفة هذا البلاء العاصف من جرّاء تخاذلهم عن الإمام و عصيانهم له.

ص:108

المقتولون من أصحابه

و الناجون من الخوارج

و لمّا صمّم الإمام عليه السّلام على حرب الخوارج أخبر عن عدد المقتولين من أصحابه، و الناجين من الخوارج قال عليه السّلام:

«مصارعهم دون النّطفة(1)، و اللّه لا يفلت منهم عشرة، و لا يهلك منكم عشرة»(2).

و تحقّق ما أخبر به الإمام، فقد استشهد من أصحابه عشرة أشخاص، و بقي من الخوارج عشرة أشخاص، و هم الذين أشاعوا فكرة الخوارج بين المسلمين.

ص:109


1- قال الرضي : يعني بالنطفة ماء النهر ، وهي أفصح كناية.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٥ : ١.

مقتل زرعة

ذكر ابن أبي الحديد: أنّ عليّا عليه السّلام لمّا دخل الكوفة دخلها معه كثير من الخوارج، و تخلّف منهم بالنخيلة و غيرها خلق كثير لم يدخلوها، فدخل حرقوص بن زهير السعدي، و زرعة بن البرج الطائي - و هما من رءوس الخوارج - على عليّ عليه السّلام فقال له حرقوص: تب من خطيئتك، و اخرج بنا إلى معاوية نجاهده، فقال له عليّ عليه السّلام:

«إن كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم، ثمّ الآن تجعلونها ذنبا! أما إنّها ليست بمعصية، و لكنّها عجز من الرّأي، و ضعف في التّدبير، و قد نهيتكم عنه».

فقال زرعة: أما و اللّه لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنّك...

فقال له عليّ عليه السّلام:

«بؤسا لك ما أشقاك! كأنّي بك قتيلا تسفي عليك الرّياح!»(1).

ص:110


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢٦٨.

عدم نهاية الخوارج

و لمّا أباد الإمام عليه السّلام معظم الخوارج، قيل له: يا أمير المؤمنين، هلك القوم بأجمعهم، فقال عليه السّلام:

«كلاّ و اللّه؛ إنّهم نطف في أصلاب الرّجال، و قرارات النّساء، كلّما نجم منهم قرن قطع، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين».

و تحقّق ما أخبر به الإمام عليه السّلام فلم يهلكوا جميعا، و إنّما بقيت منهم عصابة اتّسعت و قاومت الولاة و الحكّام.

ص:111

خلافة عبد الملك

و أدلى الإمام عليه السّلام، و هو على المنبر بإمرة عبد الملك بن مروان، و ما يرافقها من سفك الدماء قائلا:

«كأنّي به قد نعق بالشّام، و فحص براياته في ضواحي كوفان، فعطف عليها عطف الضّروس، و فرش الأرض بالرّؤوس. قد فغرت فاغرته، و ثقلت في الأرض وطأته، بعيد الجولة، عظيم الصّولة»(1).

و حكى كلام الإمام عليه السّلام ظهور عبد الملك بن مروان بالشام، و ملكه للعراق، و ما يقتل من المسلمين من جراء ذلك، فقد ملئت الأرض بجثث القتلى في حربه لابن الزبير، فقد انتشر الحزن، و عمّ الحداد جميع أرجاء الوطن الإسلامي من كثرة القتلى.

ص:112


1- بحار الأنوار ٤١ : ٣٥٦.

ثورة ابن الزبير

من المغيّبات التي أخبر عنها إمام المتّقين، و سيّد الموحّدين عليه السّلام ثورة ابن الزبير، و سعيه لطلب الملك بجميع طاقاته إلاّ أنّه لم يظفر به، و قد وصفه عليه السّلام و حكى نفسيّته بما يلي:

«خبّ ، ضبّ يروم أمرا لا يدركه، ينصب حبالة الدّين لاصطياد الدّنيا، و هو بعد مصلوب قريش».

و ألمّ حديث الإمام عليه السّلام بأوصاف ابن الزبير، و بنهايته و هي كما يلي:

1 - إنّ الإمام عليه السّلام بأوصاف ابن الزبير بالخب، و هو المخادع الخبيث(1). كما وصفه بالضب، و هو البخيل، و العرب تشبّه كفّ البخيل إذا قصر عن العطاء بكفّ الضب(2).

لقد كان ابن الزبير خدّاعا، بخيلا، سيئ الخلق، حسودا، لا يتمتّع بأيّة صفة كريمة، و قد عانت الموالي في عهده الضيق و الحرمان يقول الشاعر:

إنّ الموالي أمست و هي عاتبة على الخليفة تشكوا الجوع و الضما

ما ذا علينا و ما ذا كان يرزؤنا أي الملوك على من حولنا غلبا

2 - إنّ ابن الزبير رام الخلافة و سعى إليها جاهدا باذلا جميع طاقاته إلاّ أنّه لم

ص:113


1- لسان العرب ١ : ٥٣٩.
2- لسان العرب ١ : ٥٣٩.

يظفر بها - كما قال الإمام - و ذلك لبخله، و فيه يقول الشاعر:

رأيت أبا بكر و ربّكر غالب على أمره يبغي الخلافة بالتمر(1)

و قد عانى المسلمون في حكمه القصير الأمد الجوع و الحرمان؛ لأنّه لم تكن عنده أيّة نفحة من نفحات الكرم و الجود.

3 - من أوصاف ابن الزبير أنّه كان مرائيا لا يعرف الواقع، فقد أظهر النسك و العبادة و التجرّد عن الدنيا، مع أنّه كان ذئبا، فقد اعتمد على الرياء لإغراء السذّج و البسطاء، و لم يخف أمره على العارفين به، فقد قال عبد اللّه بن عمر لزوجته حينما ألحّت عليه بمبايعته لأنّه تقي متعبّد، فردّ عليها قائلا:

أ ما رأيت بغلات معاوية التي كان يحجّ عليها الشهباء فإنّ ابن الزبير ما يريد غيرها(2).

و من المؤكّد أنّه عار من جميع أرصدة التقوى و الخوف من اللّه تعالى، و لو كان يرجو اللّه و اليوم الآخر لما حارب وصي رسول اللّه و باب مدينة علمه، و كان من أعظم الحاقدين على الاسرة النبوية، فقد كان يخطب، و لا يصلّي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خطابه، و قيل له في ذلك فقال: إنّ له أهل بيت إن ذكرته اشرأبت أعناقهم....

و بلغ من عدائه للاسرة النبوية أنّه حبسهم و هدّدهم بالحرق إن لم يبايعوه، فأنقذهم بطل الإسلام المختار بن عبيدة من شرّه و بلائه، و قد طلب الجيش من العلويّين أن ينزل العقاب الصارم من ابن الزبير عدوّهم الماكر فأبوا و تمسّكوا بأخلاقهم العلوية، و هي مكافاة المسيء بالإحسان.

ص:114


1- المعارف _ ابن قتيبة ٣ : ٢٥.
2- المختار : ٩٥.

المختار رحمه اللّه

لمّا ظهر المختار بن أبي عبيدة بالكوفة فبايعه الناس و طالب بدم الحسين عليه السّلام فجاء عبيد اللّه بن زياد من الشام بجيش جرّار فبعث إليهم ابن الأشتر فجال جيش ابن الأشتر منادين يا لثارات الحسين فناداهم الصبر الصبر، فتراجعوا، فقال لهم عبد اللّه بن يسار بن أبي عقيب الدؤلي: حدّثني خليلي - يعني أمير المؤمنين عليه السّلام - إنّا نلقى أهل الشام على نهر يقال له الخازر، فيكشفونا حتى نقول هي هي ثمّ نكرّ عليهم فنقتل أميرهم.

و فعلا فقد تحقّق ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السّلام فقد قتل في ليل ذلك اليوم الوغد الخبيث ابن مرجانة و تبدّد جيشه كما يتبدّد الظلام في النور.

و سئل الإمام زين العابدين: يا ابن رسول اللّه، إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام ذكر من أمر المختار و لم يقل متى يكون ؟ و لمن يقتل ؟ فقال عليه السّلام: «صدق أمير المؤمنين عليه السّلام».

«أولا اخبركم متى يكون ؟». قالوا: بلى.

قال عليه السّلام: «يوم كذا إلى ثلاث سنين من قولى هذا لكم، و سيؤتى برأسي عبيد اللّه ابن زياد و شمر بن ذي الجوشن عليهما اللّعنة في يوم كذا و كذا، و سنأكل و هما بين أيدينا - أي رأسيهما - ننظر إليهما»(1).

ص:115


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري : ٥٥٢.

انقراض دولة بني اميّة

أدلى الإمام عليه السّلام بحديث له عن حتمية انقراض دولة الأمويّين، قال عليه السّلام:

«فأقسم باللّه، يا بنى أميّة، عمّا قليل لتعرفنّها - أي الخلافة - في أيدي غيركم و في دار عدوّكم!»(1) لقد انقرضت الدولة الأموية على يد ألد أعدائهم و خصومهم العبّاسيّين، فأشاعوا فيهم القتل و التنكيل، و أبادوهم تحت كلّ حجر و مدر، و لم يشفع فيهم أحد سوى سليل النبوة الإمام الصادق عليه السّلام، فقد كتب إلى السفاح يطلب منه أن لا يتعرّض بسوء لمن بقي منهم، فبهر السفّاح، و قال: قتلوا آباءهم و سبوا نساءهم، و يتشفّع فيهم، و لم يعلم السفاح أنّ الإمام الصادق عليه السّلام من أهل بيت النبوّة، و معدن الرحمة، و أنّهم يفيضون بالإحسان لمن أساء إليهم.

ص:116


1- منهاج البراعة ٧ : ٢١٦.

حكومة بني العباس

أخبر الإمام عليه السّلام مستشاره عبد اللّه بن العباس بانتقال الحكم إلى أبنائه:

1 - و ذلك حينما ولد له ولد أسماه عليّا، فحمله إلى الإمام للتبرّك به فأخذه الإمام و تفل في فيه، و حنّكه بتمرة و دفعه إليه، و قال له:

«خذه إليك أبا الأملاك...»(1).

2 -

و كذلك أخبره في حديث آخر بقوله عليه السّلام:

«يا ابن عبّاس، إنّ ملك بني اميّة إذا زال فأوّل ما يملك من بني هاشم ولدك فيفعلون الأفاعيل»(2).

و تحقّق ما تنبأ به الإمام، فقد آل الحكم إلى بني العباس الذين هم من ذرية عبد اللّه، بعد أن انقرضت الدولة الأموية التي عاثت فسادا في الأرض.

ص:117


1- الكامل _ المبرد ٢ : ٢١٧.
2- الفضائل _ ابن شاذان : ١٤١.

شخص يريد الاحتيال على الإمام

قال عليه السّلام: «لو وجدت ثقة لبعثت معه بمال إلى شيعتي في المدائن»، فقال رجل في نفسه لآتينه و لأقولنّ أنا ذاهب بالمال فيثق بي، فإذا أخذته أخذت طريقي إلى الشام إلى معاوية، فقصدت الإمام، و قلت له: أعطني المال حتى أبعثه إلى شيعتك، فنهره الإمام و قال له:

«إليك عنّي، تأخذ طريقا إلى معاوية...»(1).

ص:118


1- بحار الأنوار ٤١ : ٢٩٧.

إخباره بمجيء ألف لمبايعته

كان الإمام عليه السّلام بذي قار يأخذ البيعة، فقال عليه السّلام لأصحابه:

«يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا، يبايعوني على الموت».

قال ابن عبّاس: فجزعت لذلك، و خفت أن ينقص القوم من العدد أو يزيدون عليه، فأخذت احصي القوم فاستوفيت عددهم تسعمائة رجل، و تسعة و تسعين رجلا ثمّ انقطع مجيء القوم، فداخلني الشكّ و الريب فبينما أنا افكّر إذ رأيت شخصا قد أقبل، و هو راجل عليه قباء صوف و معه سيف و ترس و أداوة، فقال للإمام عليه السّلام:

امدد يدك ابايعك..

«علام تبايعني ؟».

على السمع و الطاعة و القتال بين يديك أو يفتح اللّه على يدك..

«ما اسمك ؟».

أويس القرني.

«اللّه أكبر، أخبرني حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّي ادرك رجلا من أمّتي يقال له اويس القرنيّ يكون من حزب اللّه يموت على الشّهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة و مضر...»(1).

ص:119


1- بحار الأنوار ٤١ : ٣٠٠.

الصليب في عنق معاوية

قال عليه السّلام: «لا يموت ابن هند حتّى يعلّق الصّليب في عنقه»(1).

و قد تحقّق ذلك، فقد ذكر الرواة أنّ معاوية لمّا ألمّت به الأمراض كان له طبيب نصراني، فقال له:

إنّ آلاما قد أخذتني فهل لي من سبيل للتخلّص منها؟ فقال له: نعم، عندنا صليب ما علّقه مريض في عنقه إلاّ برئ، فجاء بالصليب إليه فعلّقه في عنقه، و توفّي معاوية و الصليب في عنقه(2).

ص:120


1- بحار الأنوار ٤١ : ٣٠٥.
2- المناقب والمثالب _ أبي حنيفة ( مخطوط ).

البشارة بمولد الإمام زين العابدين عليه السّلام

عند اقتران الإمام الحسين عليه السّلام بالسيّدة الجليلة شاه زنان بارك الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لولده قائلا:

«يا أبا عبد اللّه، ليلدنّ لك منها غلام خير أهل الأرض»(1).

و فعلا فقد تحقّق ما أخبر عنه الإمام عليه السّلام، فقد ولدت لولده الحسين عليه السّلام سيّد الساجدين و تاج البكّائين زين العابدين صاحب رسالة الحقوق، و التي هي من أذخر الرسائل الحقوقية، و الصحيفة السجّادية و هي إنجيل آل محمّد...(2).

ص:121


1- الأحاديث الغيبية ٢ : ١٧٦.
2- قد ذكرنا مفصّلا عن حياة الإمام عليّ بن الحسين في كتابنا : حياة الإمام زين العابدين في مجلّدين.

مقتل الإمام الرضا عليه السّلام

عن النعمان بن سعد قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

«سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسّمّ ظلما، اسمه اسمي، و اسم أبيه اسم ابن عمران موسى عليه السّلام، ألا فمن زاره في غربته غفر اللّه عزّ و جلّ له ذنوبه ما تقدّم منها و ما تأخّر...»(1).

لقد تحقّق ما أخبر به عليه السّلام فقد رزق الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام بالإمام الرضا، و الذي هو أثرى شخصية عرفها التأريخ بعلومه و معارفه في زمانه؛ إذ فتك به المأمون العباسي بالسمّ بعد ما غرّبه عن الأوطان فمضى عليه السّلام شهيدا محتسبا(2).

ص:122


1- عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٥٨.
2- قد ذكرنا عن حياته مفصلا في كتابنا : حياة الإمام عليّ بن موسى الرضا ، في مجلّدين.

مدينة بغداد

اجتاز الإمام عليه السّلام على أرض بغداد، فقال عليه السّلام:

«ما تدعى هذه الأرض ؟».

فقالوا له: بغداد.

قال: «نعم، تبنى هاهنا مدينة»، و ذكر أوصافها(1).

و تحقّق ذلك، فقد بنيت بغداد و ازدهرت في العصر العباسي، فكانت عاصمة الدنيا،

و ذكر الرواة أنّ الحسن بن ذكوان الفارسي التقى بالإمام، و طلب منه أن يدعو اللّه له.

فقال له الإمام: «إنّك ستعمّر، و تحمل إلى مدينة يبنيها رجل من بني عمّي العبّاس تسمّى بغداد، و لا تصل إليها، و تموت بموضع يقال له المدائن».

فكان كما قال عليه السّلام(2).

ص:123


1- مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٢٢.
2- بحار الأنوار ٤١ : ٣٠٧.

عدد ملوك بني العبّاس

و كان ممّا أخبر به الإمام عليه السّلام أنّه عدد ملوك بني العباس الذين يحكمون العالم الإسلامي، قال عليه السّلام:

«ويل هذه الامّة من رجالهم الشّجرة الملعونة الّتي ذكرها ربّكم تعالى، أوّلهم خضراء و آخرهم هزماء، ثمّ يلي بعدهم أمر أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله رجال:

أوّلهم أرأفهم، و ثانيهم أفتكهم، و خامسهم كبشهم، و سابعهم أعلمهم، و عاشرهم أكفرهم، يقتله أخصّهم به، و خامس عشرهم كثير العناء، قليل الغناء، و سادس عشرهم أقضاهم للذمم، و أوصلهم للرّحم، كأنّي أرى ثامن عشرهم تفحص رجلاه في دمه بعد أن يأخذه جنده بكظمه، من ولده ثلاث رجال: سيرتهم سيرة الضّلال، الثّاني و العشرون منهم الشّيخ الهرم، تطول أعوامه، و توافق الرّعيّة أيّامه، السّادس و العشرون منهم يشرد الملك منه شرود النّقنق(1)، و يعضده الهزرة المتفيهق، لكأنّي أراه على جسر الزّوراء قتيلا، ذلك بما قدّمت يداك، و إنّ اللّه ليس بظلاّم للعبيد»(2).

ص:124


1- النّقنق : جمعه نقانق ، ذكر النّعامة.
2- بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٢.

و أوضح المجلسي بنود هذه الخطبة قال:

«إنّ أوّلهم - أي أوّل بني العبّاس - هو السفاح كان أرأفهم(1).

و أنّ ثانيهم هو المنصور كان أفتكهم، أي أجرأهم، و أشجعهم، و أكثرهم قتلا للناس خدعة و غدرا.

و أنّ خامسهم و هو الرشيد كان كبشهم؛ إذ لم يستقرّ ملك أحد منهم كاستقرار ملكه، و أنّ سابعهم و هو المأمون كان أعلمهم، و اشتهار وفور علمه من بينهم يغني عن البيان.

و أنّ عاشرهم و هو المتوكّل أكفرهم بل أكفر الناس كلّهم أجمعين لشدّة نصبه و إيذائه لأهل البيت عليهم السّلام و شيعتهم و سائر الخلق، و أنّ من قتله كان من غلمانه الخاصّة.

و أنّ خامس عشرهم المعتمد على اللّه أحمد بن المتوكّل، و هو و إن كان زمان خلافته ثلاث و عشرين سنة لكن كان في أكثر زمانه مشتغلا بحرب صاحب الزنج و غيره، فلذا وصفه عليه السّلام بكثرة العناء.

و سادس عشرهم المعتضد باللّه رأى في النوم رجلا أتى دجلة فمدّ يده إليها، فاجتمع مائها فيها، ثمّ فتح كفّه ففاض الماء، فسأل المعتضد أ تعرفني ؟ قال: لا، قال: أنا عليّ بن أبي طالب إذا جلست على سرير الخلافة فأحسن إلى أولادي، فلمّا وصلت إليه الخلافة أحبّ العلويّين و أحسن إليهم، فلذا وصفه عليه السّلام بقضاء العهد وصلة الرحم.

و ثامن عشرهم هو جعفر الملقّب بالمقتدر باللّه، و خرج مونس الخادم من جملة عسكره، و أتى الموصل و استولى عليه، و جمع عسكرا و رجع و حارب

ص:125


1- أي أرأفهم من بين ملوك بني العباس على العلويّين.

المقتدر في بغداد، و انهزم عسكر المقتدر، و قتل هو في المعركة، و استولى على الخلافة من بعده ثلاثة من أولاده، الراضي باللّه محمّد بن المقتدر، و المتّقي باللّه إبراهيم بن المقتدر، و المطيع للّه فضل بن المقتدر.

و أمّا الثاني و العشرون منهم فهو المكتفي باللّه عبد اللّه، و ادّعى الخلافة بعد مضي إحدى و أربعين سنة من عمره - سنة ثلاثة و ثلاثين و ثلاثمائة -، و استولى أحمد ابن بويه في سنة أربع و ثلاثين و ثلاثمائة على بغداد، و أخذ المكتفي و سمل عينه و توفّي في سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمائة.

و يقال: إنّه كانت أيام خلافته سنة و أربعة أشهر.

و يحتمل أن يكون من خطأ المؤرّخين أو رواة الحديث بأن يكون في الأصل الخامس و العشرون أو السادس و العشرون، فالأوّل هو القادر باللّه أحمد بن إسحاق، و قد عمّر ستا و ثمانين سنة، و كانت مدّة خلافته إحدى و أربعين سنة، و الثاني القائم بأمر اللّه كان عمره ستّا و سبعين سنة و خلافته أربعا و أربعين سنة و ثمانية أشهر.

و يحتمل أن يكون عليه السّلام إنّما عبّر عن القائم بأمر اللّه بالثاني و العشرين لعدم اعتداده بخلافة القاهر باللّه، و الراضي باللّه و المقتدر باللّه و المكتفي باللّه لعدم استقلالهم و قلّة أيام خلافتهم.

فعلى هذا يكون السادس و العشرون الراشد باللّه، فإنّه هرب في حماية عماد الدين الزنجي، ثمّ قتله بعض الفدائيّين، فقد قتل في أصفهان.

و يحتمل أن يكون المراد بالسادس و العشرين المستعصم، فإنّه قتل كذلك و هو آخرهم، و إنّما عبّر عنه كذلك مع كونه السابع و الثلاثين منهم لكونه السادس و العشرين من عظمائهم، لعدم استقلال كثير منهم و كونهم مغلوبين للمماليك و الأتراك.

و يحتمل أيضا أن يكون المراد السادس و العشرون من العباس و أولاده، فإنّهم

ص:126

اختلفوا في أنّه هل هو الرابع و العشرون من أولاد العباس أو الخامس و العشرون منهم، و على الأخير يكون بانضمام العباس السادس و العشرون و على الأخيرين يكون مكان يعضده يقصده»(1).

ص:127


1- بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٣ _ ٣٢٤.

فتنة الزنج

من الأحداث الجسام التي أخبر عن وقوعها الإمام عليه السّلام هي فتنة صاحب الزنج، فقد زعم أنّه علي بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليه السّلام، و قد احتفّ به الزنج، و وعدهم بالتحرير و الظفر بأموال الدولة و تسخيرها لمصالحهم، فانصاعوا له، و التفّوا حوله، و قد تحدّث المؤرّخون عن تفصيل الحادثة و الفتوحات التي تمّت له، و إلى ما جرى عليه.

و على أي حال

فلنستمع إلى ما قاله الإمام عليه السّلام في وصف جيشه و إلى الدمار الذي حلّ في البلاد من جرائمهم، قال عليه السّلام:

«يا أحنف، كأنّي به - أي بصاحب الزنج - و قد سار بالجيش الّذي لا يكون له غبار و لا لجب، و لا قعقعة لجم، و لا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام».

أشار الإمام عليه السّلام إلى أوصاف جيش صاحب الزنج، و أنّهم في منتهى التدريب العسكري، لا غبار لهم، و لا قعقعة لجم، و لا حمحمة خيل، و هذه الأوصاف أروع ما توصف به الجيوش المنظّمة التي بلغت الذروة في تدريبها.

ثمّ عرض الإمام عليه السّلام إلى ما تعانيه البلاد من الدمار و الخراب من ذلك الجيش قال عليه السّلام:

«ويل لسكككم العامرة و الدّور المزخرفة الّتي لها أجنحة كأجنحة

ص:128

النّسور، و خراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم، و لا يفقد غائبهم...»(1) و قد عانت البلاد الإسلامية أقسى ألوان المحن و الخطوب من جيش صاحب الزنج، فقد تهدّمت الدور و تخرّبت المزارع و تدهور الاقتصاد العامّ ، و كان ذلك في سنة 255 ه ، و قد ذكرت مصادر التاريخ تفصيل تلك الأحداث المروعة المؤسفة.

1

ص:129


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٨ : ١٢٥.

حكومة بني بويه

أخبر الإمام عليه السّلام عن حكومة بني بويه فقال:

«و يخرج من ديلمان بنو الصّيّاد(1)، ثمّ يستشري أمرهم حتّى يملكوا الزّوراء، و يخلعوا الخلفاء...».

فقام شخص و قال: كم مدّتهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السّلام: «مائة - أي مائة عام - أو تزيد قليلا».

و استطرد الإمام عليه السّلام في ذكرهم قائلا:

«و المترف ابن الأجذم يقتله ابن عمّه على دجلة...».

أشار عليه السّلام إلى عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أبي الحسين، و كان معزّ الدولة أقطع اليد، قطعت يده لنكوصه في الحرب، و كان ابنه مترفا صاحب لهو و شرب، قتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمّه بقصر الجصّ على دجلة، و سلب ملكه، فأما خلعهم للخلفاء فإنّ معزّ الدولة خلع المستكفي، و أقام عوضه المطيع، و بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة، و خلع الطائع و رتّب مكانه القادر، و كانت مدّة ملكهم كما أخبر به الإمام عليه السّلام(2).

ص:130


1- قال ابن أبي الحديد : كان أبوهم يصيد السمك ، ويتقوّت به هو وعياله ، فأخرج من ولده ملوكا ثلاثة ، ونشر رايتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.

دولة المغاربة

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليه السّلام ظهور دولة للعلويّين بالمغرب العربي بقيادة أبي عبد اللّه المهدي، و هو أوّل ملوكهم، قال عليه السّلام:

«ثمّ يظهر صاحب القيروان الغضّ البضّ ، ذو النّسب المحض، المنتجب من سلالة ذي البداء، المسجّى بالرّداء»(1).

قال ابن أبي الحديد: «كان عبيد اللّه المهدي أبيض، مترفا، مشربا بحمرة، رخص البدن تار(2) الأطراف، و ذو البداء هو إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، و هو المسجّى بالرداء؛ لأنّ أباه سجّاه بردائه لمّا مات، و أدخل عليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته، و تزول عنهم الشبهة في أمره»(3).

و من المؤسف أنّه لم تؤمن بموت إسماعيل كوكبة من الشيعة و هم الإسماعيلية، فقد اعتقدوا بحياته، و أنّه ارتفع إلى السماء كما ارتفع السيّد المسيح.

ص:131


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.
2- التار : الممتلئ جسمه ريا.
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.

الثورة في طبرستان

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليه السّلام ظهور ثورة طبرستان يقوم بها بعض السادة كالناصر و الداعي و غيرهما، قال عليه السّلام:

«و إنّ لآل محمّد بالطّالقان لكنز سيظهره اللّه إذا شاء دعاؤه حتّى يقوم بإذن اللّه فيدعو إلى دين اللّه»(1).

و تحقّق ذلك، فقد ثار هؤلاء السادة الأعلام في طالقان رافعين شعار الإسلام، و متبنّين الدعوة إلى حكم القرآن.

ص:132


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٨.

حكومة القرامطة

و أخبرنا الإمام عن القرامطة الفئة الضالّة التي لا عهد لها بالإسلام. قال عليه السّلام فيهم:

«ينتحلون لنا الحبّ و الهوى، و يضمرون لنا البغض و القلى، و آية ذلك قتلهم ورّاثنا، و هجرهم أحداثنا»(1).

ظهرت القرامطة على مسرح الحياة الإسلامية، فأشاعت الفساد و القتل و النهب و الدمار، و قد أحلّت ما حرّم اللّه تعالى، و حرّمت ما أحلّ اللّه، و هي كالشيوعية في تعاليمها و مروقها من الدين، و قد استباحوا قتل السادة العلويّين، فقد قتلوا كوكبة من أعلامهم ذكر أسماءهم أبو الفرج الأصفهاني(2).

و قد عرفوا بالنصب و العداء لأهل البيت عليهم السّلام، فقد اجتاز أبو الطاهر سليمان بن الحسن الجنابي، و هو من أعلامهم على مدينة النجف الأشرف و على مدينة كربلاء المقدّسة، و لم يعرج على زيارة المرقدين المكرّمين(3).

ص:133


1- المصدر السابق ١٠ : ١٤.
2- مقاتل الطالبيّين : ٤٥٠.
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

التتر

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و التي تحقّقت بعد مئات من السنين هي المحنة الكبرى التي امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا، و هي افول الخلافة الإسلامية، و انطواء حكم بني العباس الذين أسرفوا في اقتراف ما حرّم اللّه، فقد كانت لياليهم الحمراء حافلة بالخمور و المجون، و لم يكن للإسلام حكم واقعي و إنّما صورة حكم.

و على كلّ حال فقد زحف التتر إلى احتلال عاصمة الإسلام بغداد، و سقطت بذلك الدولة الإسلامية العظمى، و قد أمعنوا في قتل الأبرياء و إشاعة الخوف و الارهاب بين المسلمين، و عمدوا إلى تدمير المعالم الإسلامية في المدينة، و كان من أفجعها تدمير المكتبة المستنصرية التي كانت تضمّ مئات آلاف الكتب، فالقيت في حوض دجلة، و بذلك فقد خسر العالم الإسلامي أهمّ ثرواته الفكرية و العلمية.

و لنستمع إلى ما قاله الإمام عليه السّلام في وصف التتر، و ما يلحقونه في بلاد المسلمين من الدمار الشامل قال عليه السّلام:

«كأنّي أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ المطرّقة(1)، يلبسون السّرق(2)

ص:134


1- المجان : جمع مجن _ بكسر الميم _ : الترس ، سمّي مجنا لأنّه مستتر به.
2- السرق : شقق الحرير.

و الدّيباج، و يعتقبون(1) الخيل العتاق. و يكون هناك استحرار قتل حتّى يمشي المجروح على المقتول، و يكون المفلت أقلّ من المأسور!»(2).

و انبرى بعض أصحاب الإمام قائلا له: لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب...

فتبسّم الإمام عليه السّلام و قال له:

«يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، و إنّما هو تعلّم من ذي علم - يعني أنّه مستقى و مستمدّ من أخيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله -. و إنّما علم الغيب علم السّاعة، و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ، وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً، وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ... [1] ، فيعلم اللّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخيّ أو بخيل، و شقيّ أو سعيد، و من يكون في النّار حطبا، أو في الجنان للنّبيّين مرافقا. فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه، و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه، و دعا لي بأن يعيه صدري، و تضطمّ (3) عليه جوانحي»(4).

و قد أوضح الإمام عليه السّلام العلم الذي عنده إنّما هو مستمدّ من أخيه و ابن عمّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه ليس بعلم الغيب الذي لم يطّلع عليه أحد سوى اللّه تعالى خالق الكون و واهب الحياة.

ص:135


1- يعتقبون الخيل : أي يجتنبونها لينتقلوا من غيرها إليها.
2- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ١٤.
3- تضطم : أي تجتمع عليها جوانح صدري.
4- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٨ : ٢١٥.

و على أي حال فقد تحقّق ما أخبر به الإمام عليه السّلام، فقد احتلّ الجناة التتر مدينة بغداد، و سقطت بذلك الدولة الإسلامية، و قد أمعن الغزاة في قتل الأبرياء و عاثوا فسادا في الأرض.

و من المؤكّد أنّ السبب في هذه المأساة الخالدة سوء السياسة العباسية، الذين اقترفوا كلّ ما حرّم اللّه، و لم يؤثر عن الكثيرين منهم إلاّ الفسق و الفجور و مناجزة المصلحين، و معاداة أهل البيت عليهم السّلام و الامعان في قتلهم و مطاردة شيعتهم و أنصارهم، و بذلك فقد فتحوا الطريق لهولاكو في غزو بغداد و القضاء على الدولة الإسلامية.

ص:136

الفتن بعد وفاته

و أحاط الإمام عليه السّلام أصحابه بما يحدث بعد وفاته من الفتن و الخطوب، قال عليه السّلام:

«و إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفي من الحقّ ، و لا أظهر من الباطل، و لا أكثر من الكذب على اللّه و رسوله؛ و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا أنفق(1) منه إذا حرّف عن مواضعه؛ و لا في البلاد شيء أنكر من المعروف، و لا أعرف من المنكر! فقد نبذ الكتاب حملته، و تناساه حفظته؛ فالكتاب يومئذ و أهله طريدان منفيّان، و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو.

فالكتاب و أهله - و هم أهل البيت - في ذلك الزّمان في النّاس و ليسا فيهم، و معهم و ليسا معهم! لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى، و إن اجتمعا.

فاجتمع القوم على الفرقة، و افترقوا عن الجماعة، كأنّهم أئمّة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه، و لا يعرفون إلاّ خطّه و زبره(2). و من قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة، و سمّوا

ص:137


1- أنفق : أي أروج.
2- الزبر : الكتابة.

صدقهم على اللّه فرية، و جعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة»(1).

و تحقّقت هذه الخطوب بعد وفاة الإمام عليه السّلام، فقد آل الحكم إلى معاوية، و من بعده إلى بني مروان، و لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام، و البغي و القتل لحماته، و قد جمد الكتاب، و ساد المنكر، و راج الباطل، و أقبل الناس على مآثم الحياة، و اقتراف الرذائل،

و أعرب عليه السّلام عن ذلك في حديث آخر قال عليه السّلام:

«و أخذوا - أي الناس - يمينا و شمالا ظعنا في مسالك الغيّ ، و تركا لمذاهب الرّشد. فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، و لا تستبطئوا ما يجيء به الغد. فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه.

و ما أقرب اليوم من تباشير غد!»(2).

ص:138


1- نهج البلاغة : ٦٣ ، الخطبة ١٤٧.
2- نهج البلاغة : ٦٤ ، الخطبة ١٥٠.

أحداث آخر الزمان

و تحدّث باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمّا يحدث في آخر الزمان من الفتن و البلاء، و قد أدلى بذلك في كثير من المناسبات و التي منها:

1 - قال عليه السّلام:

«يأتي على النّاس زمان لا يقرّب فيه إلاّ الماحل، و لا يظرّف فيه إلاّ الفاجر، و لا يضعّف فيه إلاّ المنصف، يعدّون الصّدقة فيه غرما، و صلة الرّحم منّا، و العبادة استطالة على النّاس! فعند ذلك يكون السّلطان بمشورة النّساء، و إمارة الصّبيان!»(1) إنّ البشرية تكون في قوس النزول، و في منتهى الانحطاط إذا سارت فيها هذه الامور التي تفضّل ببيانها الإمام.

2 -

قال عليه السّلام:

«يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلاّ رسمه، و من الإسلام إلاّ اسمه، و مساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكّانها و عمّارها شرّ أهل الأرض، منهم تخرج الفتنة، و إليهم تأوي

ص:139


1- نهج البلاغة _ قصار الحكم ٤ : ٦٤٧.

الخطيئة؛ يردّون من شذّ عنها فيها، و يسوقون من تأخّر عنها إليها. يقول اللّه تعالى: فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران، و قد فعل، و نحن نستقيل اللّه عثرة الغفلة»(1).

إنّ الإسلام العظيم الذي ارتضاه اللّه دينا لجميع البشرية أينما كانوا لا صلاح و لا سعادة و لا استقرار من دونه، و قد يأتي زمان على المسلمين فينحرفون عنه، و لا يبقى منه إلاّ اسمه، و ذلك أسوأ الأزمان و أكثرها قتاما.

3 -

قال عليه السّلام:

«يأتي على النّاس زمان عضوض(2)، يعضّ الموسر فيه على ما في يديه و لم يؤمر بذلك، قال اللّه سبحانه وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [1] . تنهد فيه الأشرار، و تستذلّ الأخيار، و يبايع المضطرّون، و قد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المضطرّين»(3).

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الملاحم و المغيّبات التي أدلى بها الإمام عليه السّلام، و قد تحقّقت على مسرح الحياة، و بها نطوي الحديث عن هذا الكتاب الذي هو جزء من موسوعة حياته.

ص:140


1- نهج البلاغة _ قصار الحكم ٤ : ١٨٣.
2- العضوض : الشديد.
3- نهج البلاغة _ قصار الحكم ٤ : ٤٦١.

المحتويات

تقديم - 5 العلم و التّعليم 7-44 الإشادة بالعلم 9 أهمّية العالم 11 تكريم العالم 11 أخذ المحاسن من كلّ علم 12 تشجيعه للحركة العلمية 12 العمل بالعلم 12 أنواع طلاب العلم 14 ذمّ أهل الرأي 15 بذل العلم 16 حثّه على جودة الخطّ 16 أنواع العلوم 17 1 - علم النحو 17 2 - علم الفقه 20 3 - علم تفسير القرآن 21 4 - علم الفلك و الحساب 22

ص:141

مقدار قطر الشمس 24 مسألة الجمال 24 5 - علم الحيوان 25 وصف الطيور 25 وصف الطاوس 26 الخفّاش 30 الجراد 31 النملة 32 6 - علم الكلام 33 7 - علم الطبيعة - الفيزياء 35 8 - الكهرباء 36 9 - علم الطبّ 37 الوقاية من الأمراض 40 رضاع الطفل من ثدي امّه 41 10 - علم الجيولوجيا 41 11 - علم الفلسفة 42 حرمة تعلّم السحر 44 حرمة تعلّم التنجيم 44 الملاحم و المغيّبات الّتي اخبر عنها الإمام 45-140 إخباره بقتل الحسن عليه السّلام 52 إخباره بقتل الحسين عليه السّلام 53 إخباره بعدد الجيش الذي جاء لنجدته 60

ص:142

إخباره بشهادة كوكبة من أصحابه 61 1 - عمرو بن الحمق رضى اللّه عنه 61 2 - ميثم التمار رضى اللّه عنه 63 3 - رشيد الهجرى رضى اللّه عنه 67 4 - جويرية بن مسهر العبدي رضى اللّه عنه 69 5 - مزرع رضى اللّه عنه 70 6 - حجر بن عدي رضى اللّه عنه 70 7 - قنبر رضى اللّه عنه 77 8 - كميل بن زياد رضى اللّه عنه 79 إخباره عن شهادته 80 ما يجري على الحجر الأسود 84 إخباره عن شهداء فخّ 85 إخباره عن شهادة ذي النفس الزكية 86 إخباره عن شهادة إبراهيم 87 تبشيره بالإمام المهدي عليه السّلام 89 مع أعشى باهلة 93 مع جندب الأزدي 94 مع المبايعين للضبّ 96 مع ذي الثدية 97 إخباره بحكومة مروان و أولاده 100 إخباره عن ملك معاوية 102 إخباره عن استيلاء الأمويّين على الحكم 103 ظلم الأمويّين و جورهم 105 مع جيشه المتخاذلين 106 ظلم الحجّاج و جوره 107

ص:143

المقتولون من أصحابه 109 و الناجون من الخوارج 109 مقتل زرعة 110 عدم نهاية الخوارج 111 خلافة عبد الملك 112 ثورة ابن الزبير 113 المختار رحمه اللّه 115 انقراض دولة بني اميّة 116 حكومة بني العباس 117 شخص يريد الاحتيال على الإمام 118 إخباره بمجيء ألف لمبايعته 119 الصليب في عنق معاوية 120 البشارة بمولد الإمام زين العابدين عليه السّلام 121 مقتل الإمام الرضا عليه السّلام 122 مدينة بغداد 123 عدد ملوك بني العبّاس 124 فتنة الزنج 128 حكومة بني بويه 130 دولة المغاربة 131 الثورة في طبرستان 132 حكومة القرامطة 133 التتر 134 الفتن بعد وفاته 137 أحداث آخر الزمان 139

ص:144

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.